جمع لتغاير الالفاظ. وقيل: يصح حكاه الحناطي، والصحيح المنع. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة، قال الشيخ أبو علي: اتفق الاصحاب أنه يجمع بينهما، ويصحان ولا يقع إلا ما بقي بعد الاستثناءين وهو طلقة، وحكى ابن كج فيه وجهين، ثانيهما: يقع ثلاث، ويجعل قوله: وواحدة عطفا على قوله: ثلاثا كأنه قال: اثنتين وواحدة. قلت: هذا الوجه خطأ ظاهر، وتعليله أفسد منه. والله أعلم. المسألة الثالثة: سبق في الاقرار أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الاثبات نفي، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، إلا اثنتين إلا واحدة، وقع طلقتان، وعن الحناطي، احتمال أنه كقوله: إلا ثنتين وواحدة، والصواب الاول. ولو قال: ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة، فهل يقع واحدة، أم اثنتان، أم ثلاث ؟ فيه أوجه، أصحها: الاول، ولو قال: ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين، ففيه الاوجه، لكن الاصح هنا: يقع طلقتان. ولو قال: ثلاثا إلا اثنتين، إلا اثنتين وقعت واحدة قطعا، ولغا الاستثناء الثاني. ولو قال: ثلاثا إلا واحدة إلا واحدة، فهل يقع اثنتان أم ثلاث ؟ وجهان حكاهما الحناطي، ولو قال: اثنتين إلا واحدة إلا واحدة، فقيل: اثنتان، وقيل: واحدة. ولو قال: ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، فقيل اثنتان. وقيل: واحدة، قال الحناطي: ويحتمل وقوع الثلاث. المسألة الرابعة: إذا زاد على العدد الشرعي، فهل ينصرف الاستثناء إلى الملفوظ به، أم إلى المملوك وهو الثلاث ؟ وجهان. أصحهما: إلى الملفوظ به، وبه قال ابن الحداد، وابن القاص، وقال أبو علي بن أبي هريرة والطبري: إلى المملوك. فإذا قال: أنت طالق خمسا إلا ثلاثا، وقع طلقتان على الاول، وثلاث على الثاني. ولو قال: خمسا إلا اثنتين، وقع ثلاث على الاول، وواحدة على الثاني. ولو(6/86)
قال: أربعا إلا اثنتين، وقع اثنتان على الاول، وواحدة على الثاني، ولو قال: أربعا إلا واحدة، وقع ثلاث على الاول، واثنتان على الثاني، ولو قال: أربعا إلا ثلاث، وقع على الاول واحدة، وعلى الثاني ثلاث، ولو قال: ستا أو سبعا أو أكثر من ذلك إلا ثلاثا، وقع الثلاث على الوجهين، ولو قال: ستا إلا أربعا، فعلى الاول: يقع طلقتان، وعلى الثاني: ثلاث. ولو قال: أربعا إلا ثلاثا إلا اثنتين، فعلى الاول: يقع ثلاث، وعلى الثاني: هو كقوله: ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين. ولو قال: خمسا إلا اثنتين إلا واحدة، فعلى الاول يقع ثلاث، وعلى الثاني طلقتان كقوله: ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، ولو قال: ثلاثا وثلاثا إلا أربعا، فإن جمعنا بين الجمل المعطوفة واعتبرنا الملفوظ، فكقوله: ستا إلا أربعا، وإلا طلقت ثلاثا. فرع قال: أنت بائن إلا بائنا ونوى بقوله: أنت بائن الثلاث، قال اسماعيل البوشنجي: يبنى على أنه لو قال: أنت واحدة ونوى الثلاث، هل يقع الثلاث اعتبارا بالنية أم واحدة اعتبارا باللفظ ؟ فإن غلبنا اللفظ، بطل الاستثناء كما لو قال: أنت طالق واحدة إلا واحدة. وإن غلبنا النية، صح الاستثناء ووقع طلقتان، وهذا هو الذي رجحه ونصره. قلت: الاول غلط ظاهر، فإنه لا خلاف أنه إذا قال: أنت بائن ونوى الثلاث، وقع الثلاث، فكيف يبنى على الخلاف في قوله: أنت واحدة ؟ !. والله أعلم. وفي معنى هذه الصورة قوله: أنت بائن إلا طالقا ونوى بقوله: بائن الثلاث. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طالقا، صح الاستثناء كقوله: ثلاثا إلا طلقة، وكذا لو قال: طالق وطالق وطالق إلا طالقا ونوى التكرار فيه احتمال. المسألة الخامسة: لو قدم الاستثناء على المستثنى منه، فقال: أنت إلا واحدة طالق ثلاثا، حكى صاحب المهذب عن بعض الاصحاب، أنه لا يصح الاستثناء ويقع الثلاثة، قال: وعندي أنه يصح فيقع طلقتان.(6/87)
المسألة السادسة: قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصف طلقة، وقع الثلاث على الصحيح، وقيل: طلقتان. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقة ونصفا، فعلى الصحيح طلقتان، وعلى الثاني طلقة. ولو قال: إلا نصفا وقع طلقة قطعا، ولو قال: ثلاثة إلا طلقتين ونصفا، فإن قلنا بالثاني، فهو كقوله: ثلاث إلا اثنتين وواحدة، وإن قلنا بالصحيح، فهل يقع ثلاث أم واحدة، فيه احتمالان للامام. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين إلا نصف طلقة، وقع طلقتان. ولو قال: واحدة ونصفا إلا واحدة، نقل الحناطي وقوع طلقة. قال: ويحتمل وقوع طلقتين. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصفا، قال البوشنجي: يراجع، فإن قال: أردت: إلا نصفها، وقع طلقتان. وإن قال: أردت إلا نصف طلقة، طلقت ثلاثا، ويجئ فيه الوجه الضعيف، وإن لم تكن نية فطلقتان. الضرب الثاني، التعليق بالمشيئة: فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، نظر إن سبقت الكلمة إلى لسانه لتعوده لها كما هو الادب، أو قصد التبرك بذكر الله تعالى، أو الاشارة إلى أن الامور كلها بمشيئة الله تعالى ولم يقصد تعليقا محققا، لم يؤثر ذلك ووقع الطلاق. وإن قصد التعليق حقيقة، لم تطلق على المذهب، ومنهم من حكى قولا آخر، والتفريع على المذهب. وكذا يمنع الاستثناء انعقاد التعليق، كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار، إن شاء الله، أو إذا شاء الله، ويمنع أيضا العتق في قوله: أنت حر إن شاء الله، ويمنع انعقاد النذر واليمين، وصحة العفو عن القصاص، والبيع وسائر التصرفات. وسواء قال: أنت طالق إن شاء الله، أو إن شاء الله أنت طالق، أو متى شاء الله، أو إذا شاء الله، قال ابن الصباغ: وكذا قوله: إن شاء الله أنت طالق، وفي هذه الصيغة وجه حكاه الحناطي. ولو قال: أنت طالق إذا شاء الله [ أو ان شاء الله ] بفتح الهمزة، وقع الطلاق في الحال، وكذا لو قال: إذا(6/88)
شاء زيد، أو أن شاء زيد، ونقل الحناطي وجها، في أن شاء الله، أنه لا يقع، وثالثها أنه يفرق بين عارف النحو وغيره. واختار الروياني هذا. ولو قال: أنت طالق ما شاء الله، قال المتولي وغيره: وقعت طلقة لانها اليقين. ولو قال: أنت طالق ثلاثا وثلاثا إن شاء الله، أو ثلاثا وواحدة إن شاء الله، أو واحدة وثلاثا إن شاء الله، قال ابن الصباغ والمتولي: الذي يقتضيه المذهب: أنه لا يقع شئ، والوجه بناؤه على الخلاف السابق، أن الاستثناء بعد الجملتين ينصرف إليهما، أم إلى الاخيرة فقط ؟ وكذا ذكره الامام، وقد ذكرنا أن الاصح عوده إلى الاخيرة، ويوافق هذا البناء ما ذكره البغوي أنه لو قال: حفصة وعمرة طالقتان إن شاء الله، فهل يرجع الاستثناء إلى عمرة فقط أم إليهما ؟ وجهان، أصحهما: الاول. ولو قال: أنت(6/89)
طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، قال الامام: هو على الوجهين، إن جمعنا المفرق، لم يقع شئ. ولو قال: أنت طالق واحدة ثلاثا إن شاء الله، أو أنت طالق ثلاثا ثلاثا إن شاء الله، لم تطلق، وفي معناه: أنت طالق أنت طالق إن شاء الله، وقصد التأكيد. فرع قال: يا طالق إن شاء الله، يقع الطلاق على الاصح، ولو قال: يا طالق، أنت طالق ثلاثا إن شاء الله، وقعت طلقة بقوله: يا طالق فقط، ولو قال: أنت طالق ثلاثا يا طالق إن شاء الله، فهل يقع طلقة بقوله: يا طالق، أم ثلاث أم لا يقع شئ ؟ فيه أوجه، وبالاول قطع المتولي، ويشبه أن يكون هو الاظهر. وحكى الامام عن القاضي والاصحاب الثالث، ويؤيد الاول، أن البغوي وغيره: ذكروا أنه لو قال: أنت طالق ثلاثا يا زانية إن شاء الله، رجع الاستثناء إلى الطلاق، ووجب حد القذف. قلت: هذا الذي ذكره من ترجيح الاول هو الاصح، وقد قطع به جماعة غير المتولي. والله أعلم. فرع إذا قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، أو إذا لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله، لم تطلق على الصحيح باتفاق الجمهور، وقال صاحب التلخيص: تطلق، ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فوجهان. أحدهما: لا تطلق، والثاني: تطلق، وبالثاني قال العراقيون، وهو محكي عن ابن سريج، ورجحه البغوي، والاول هو الاصح، صححه الامام وغيره، واختاره القفال، ونقله عن نص الشافعي رحمه الله. فرع إذا قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، أو إن لم يدخل الدار، أو إن لم يفعل كذا، نظر، إن وجد منه المشيئة أو غيرها مما علق عليه في حياته، لم يقع الطلاق، وإن لم توجد حتى مات، وقع الطلاق قبيل الموت إن لم يحصل قبل ذلك مانع، فإن حصل مانع تتعذر معه المشيئة، كجنون ونحوه، تبينا وقوع الطلاق قبيل(6/90)
حدوث المانع، وإن مات وشككنا في أنه هل وجد منه الصفة المعلق عليها، ففي وقوع الطلاق وجهان، سواء كانت الصيغة: أنت طالق إن لم يدخل زيد، أو إلا أن يدخل، والوقوع في الثانية أظهر منه في الاولى. ولو قال: أنت طالق اليوم إلا أن يشاء زيد، أو إلا أن تدخل الدار، فاليوم هنا كالعمر. واعلم أن الاكثرين قالوا بالوقوع فيما إذا شككنا في الفعل المعلق عليه، واختار الامام عدم الوقوع في الصورتين، وهو أوجه وأقوى. قلت: الاصح عدم الوقوع، للشك في الصفة الموجبة للطلاق. والله أعلم. فرع: قوله: أنت طالق إلا أن يشاء الله، أو إلا أن يشاء زيد، معناه: إلا أن يشاء وقوع الطلاق. كما أن قوله: أنت طالق إن شاء الله، معناه: إن شاء وقوع الطلاق، فالطلاق معلق بعدم مشيئة الطلاق، لا بمشيئة عدم الطلاق، وعدم مشيئة الطلاق تحصل بأن يشاء عدم الطلاق، أو بأن لا يشاء شيئا أصلا، فعلى التقديرين يقع، وإنما لا يقع إذا شاء زيد أن يقع، وقال بعضهم: معناه: أنت طالق إلا أن يشاء زيد أن لا تطلقي، وعلى هذا، إن شاء أن تطلق، طلقت، وكذا ذكره البغوي، والصحيح الاول.(6/91)
الباب الخامس : في الشك في الطلاق إذا شك، هل طلق ؟ لم يحكم بوقوعه، وكذا لو علق الطلاق على صفة وشك في حصولها، كقوله: إن كان هذا الطائر غرابا، فأنت طالق، وشك في كونه غرابا، أو قال: إن كان غرابا فزينب طالق، وإن كان حمامة، فعمرة طالق، وشك هل كان غرابا أم حمامة أم غيرهما فلا يحكم بالطلاق. ولو تيقن أصل الطلاق، وشك في عدده، أخذ بالاقل، ويستحب الاخذ بالاحتياط، فإن شك في أصل الطلاق، راجعها ليتيقن الحل، وإن زهد فيها، طلقها لتحل لغيره يقينا، وإن شك في أنه طلق ثلاثا أم اثنتين ؟ لم ينكحها حتى تنكح زوجا غيره، وإن شك هل طلق ثلاثا أم لم يطلق شيئا ؟ طلقها ثلاثا. فصل: تحته زينب وعمرة، فقال: إن كان هذا الطائر غرابا، فزينب طالق، وإلا فعمرة طالق، وأشكل حاله، طلقت إحداهما، وعليه اعتزالهما جميعا حتى يتبين الحال، وعليه البحث والبيان. ولو قال: إن كان غرابا فامرأتي طالق، فقال رجل آخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق، لم يحكم بوقوع الطلاق على واحد منهما. فرع قال: إن كان هذا الطائر غرابا، فعبدي حر، وقال آخر: إن لم يكن(6/92)
غرابا، فعبدي حر، وأشكل، فلكل واحد منهما التصرف في عبده، فإن ملك أحدهما عبد الآخر بشراء أو غيره، واجتمع عنده العبدان، منع التصرف فيهما ويؤمر بتعيين العتق في أحدهما، كما لو كانا في ملكه وعلق التعليقين، وعليه البحث عن طريق البيان، وفي وجه: إنما يمتنع التصرف في الذي اشتراه، فلا يتصرف فيه حتى يحصل البيان، ولا يمتنع التصرف في الاول. قلت: هذان الوجهان نقلهما الامام وآخرون، ورجحوا الاول، وبه قطع المتولي، لكن قطع الشيخ أبو حامد وسائر العراقيين، أو جماهيرهم، بأن العتق يتعين في العبد المشترى، ويحكم بعتقه إذا تم تملكه ظاهرا، ولكن الاول أفقه. والله أعلم. ولو باع أحدهما عبده، ثم اشترى عبد صاحبه، قال في البسيط: لم أره مسطورا، والقياس أن ينفذ تصرفه فيه، لان بيع الاول لواقعة انقضت، وتصرفه في الثاني واقعة أخرى، كما لو صلى إلى جهتين باجتهادين. قلت: أما على طريقة العراقيين التي نقلتها، فيعتق عليه الثاني بلا شك، وأما على الطريقة الاخرى، فيحتمل ما قاله في البسيط، ويحتمل بقاء الحجر في الثاني حتى يتبين الحال، وهو قريب من الخلاف فيما إذا اشتبه إناءان فانصب أحدهما، هل يجتهد في الثاني، أم يأخذ بطهارته، أم يعرض عنه، والاقيس بقاء الحجر احتياطا للعتق، ولان الاموال وغراماتها أشد من القبلة وسائر العبادات، ولهذا لا يعذر الناسي والجاهل في الغرامات، ويعذر في كثير من العبادات، ويؤيد ما ذكرته أن إقدامه على بيع عبده كالمصرح بأنه لم يعتق، وأن الذي عتق هو عبد الآخر، وقد سبق أنه لو صرح بذلك، عتق عليه عبد صاحبه إذا ملكه قطعا، وقد ذكر الغزالي في الوسيط: احتمالين، أحدهما: ما ذكره في البسيط. والثاني: خلافه وهو يؤيد ما قلته. والله أعلم. هذا كله إذا لم يصدر منه غير التعليق السابق، فإن قال للآخر: حنثت في يمينك، فقال: لم أحنث، ثم ملك عبده، حكم عليه بعتقه قطعا لاقراره بحريته، ولا رجوع له بالثمن إن كان اشتراه. ولو صدر هذان التعليقان من شريكين في عبد، فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى في كتاب العتق.(6/93)
فرع قال: أنت طالق بعدد كل شعرة على جسد إبليس، قال إسمعيل البوشنجي: قياس مذهبنا: أنه لا يقع طلاق أصلا، لانا لا ندري أعليه شعر أم لا ؟ والاصل العدم، وعن بعض أصحاب أبي حنيفة وقوع طلقة. قلت: القياس وقوع طلقة، وليس هذا تعليقا على صفة، فيقال: شككنا فيها بل هو تنجيز طلاق، وربط لعدده بشئ شككنا فيه، فنوقع أصل الطلاق، ونلغي العدد، فإن الواحدة ليست بعدد، لان أقل العدد اثنان، فالمختار وقوع طلقة. والله أعلم. فصل طلق إحدى امرأتيه بعينها ثم نسيها، حرم عليه الاستمتاع بكل منهما حتى يتذكر، فإن صدقناه في النسيان، فلا مطالبة بالبيان، وإن كذبناه وبادرت واحدة وقالت: أنا المطلقة، لم يقنع منه في الجواب بقوله: نسيت، أو لا أدري، وإن كان قوله محتملا، بل يطالب بيمين جازمة أنه لم يطلقها، فإن نكل، حلفت وقضي باليمين المرودة. فصل قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق، وقال: نويت الاجنبية، قبل قوله بيمينه على الصحيح المنصوص في الاملاء، وبه قطع الجمهور، وقيل: تطلق زوجته، قال البغوي في الفتاوى: لو قال: لم أنو بقلبي واحدة، طلقت امرأته، وإنما ينصرف عنها بالنية، ولو حضرتا، فقالت زوجته: طلقني، فقال:(6/94)
طلقتك، ثم قال: أردت الاجنبية، لم يقبل، ذكره البغوي، وأمته مع زوجته، كالاجنبية مع الزوجة. ولو كان معها رجل أو دابة، فقال: أردت الرجل، أو الدابة، لم يقبل. ولو كان اسم زوجته زينب، فقال: زينب طالق، ثم قال: أردت جارتي زينب، فثلاثة أوجه، الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا يقبل، فتطلق زوجته ظاهرا ويدين، وقيل: يصدق بيمينه كالصورة السابقة، وهذا اختيار القاضي أبي الطيب الطبري وغيره، والثالث، قاله إسمعيل البوشنجي: إن قال: زينب طالق، ثم قال: أردت الاجنبية، قبل، وإن قال: طلقت زينب، لم يقبل، وهذا ضعيف. ولو نكح امرأة نكاحا صحيحا، وأخرى نكاحا فاسدا، فقال لهما: إحداكما طالق، وقال: أردت فاسدة النكاح، فيمكن أن يقال: إن قبلنا التفسير بالاجنبية، فهذه أولى، وإلا فوجهان. فصل قال لزوجته: إحداكما طالق، فإن قصد واحدة بعينها، فهي المطلقة، فعليه بيانها. وإن أرسل اللفظ ولم يقصد معينة، طلقت إحداهما مبهما ويعينها الزوج، وهذان القسمان يشتركان في أحكام، ويفترقان في أحكام، ثم تارة يفصل حكمهما في الحياة، وتارة بعد الموت. الحالة الاولى: حالة الحياة، وفيها مسائل: الاولى: يلزم الزوج بالتبيين إذا نوى واحدة بعينها، وبالتعيين إذا لم ينو، ويمنع من قربانهما حتى يبين، أو يعين، وذلك بالحيلولة بينه وبينهما، ويلزمه التبيين والتعيين على الفور، فإن أخر، عصى، فإن امتنع، حبس وعزر، ولا يقنع بقوله: نسيت المعينة، وإذا بين في الصورة الاولى، فللاخرى أن تدعي عليه أنك نويتني وتحلفه، فإن نكل حلفت وطلقتا، وإذا عين في الصورة الثانية، فلا دعوى لها، لانه اختيار ينشئه، هذا كله في الطلاق البائن، فلو أبهم طلقة رجعية بينهما، فهل يلزمه أن يبين أو يعين في الحال ؟ وجهان حكاهما الامام، أحدهما: نعم، لحصول التحريم، وأصحهما: لا، لان الرجعية زوجة. المسألة الثانية: يلزمه نفقتهما إلى البيان والتعيين، وإذا بين أو عين، لا يسترد المصروف إلى المطلقة، لانها محبوسة عنده حبس الزوجة.(6/95)
الثالثة: وقوع الطلاق فيما إذا نوى معينة يحصل بقوله: إحداكما طالق، ويحتسب عدة من ببين الطلاق فيها من حين اللفظ على المذهب المنصوص. وحكي قول مخرج: أنها من وقت البيان، قال الامام: وهذا غير سديد. أما إذا لم ينو معينة، ثم عين، فهل يقع الطلاق من حين قال: إحداكما طالق، أم من حين التعيين ؟ وجهان، رجحت طائفة الثاني، منهم الشيخ أبو علي، ورجح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والروياني وآخرون الاول. قالوا: ولولا وقوع الطلاق، لما منع منهما، وهذا أقرب. قلت: هذا الذي قاله أبو حامد وموافقوه، هو الصواب. والله أعلم. فإن قلنا: يقع الطلاق بالتعيين، فمنه العدة، وإن قلنا: باللفظ، فهل العدة منه، أم من التعيين ؟ فيه الخلاف السابق، فيما إذا نوى معينة. والاكثرون على أن الراجح، احتساب العدة من التعيين كيف قدر البناء، هذا كله في حياة الزوجين، وسنذكر إن شاء الله أنهما إذا ماتتا أو إحداهما تبقى المطالبة بالتعيين لبيان حكم الميراث، وحينئذ فإن أوقعنا الطلاق باللفظ، فذاك، وإن أوقعناه بالتعيين، فلا سبيل إلى إيقاع طلاق بعد الموت، ولا بد من إسناده للضرورة، وإلى ما يسند ؟ وجهان، أصحهما عند الامام: إلى وقت اللفظ فيرتفع الخلاف، وأرجحهما عند الغزالي: إلى قبيل الموت. المسألة الرابعة: لو وطئ إحداهما، نظر، إن كان نوى معينة، فهي المطلقة، ولا يكون الوطئ بيانا، بل تبقى المطالبة بالبيان، فإن بين الطلاق في الموطوءة، فعليه الحد إن كان الطلاق بائنا، ويلزمه المهر لجهلها كونها المطلقة، وإن بين في غير الموطوءة، قبل، فإن ادعت الموطوءة أنه أرادها، حلف، فإن نكل وحلفت، طلقتا وعليه المهر، ولا حد للشبهة. وإن لم يكن نوى معينة، فهل يكون الوطئ تعيينا ؟ وجهان، ويقال: قولان، أحدهما: نعم، وبه قال المزني وأبو إسحق وأبو الحسن الماسرجسي، ورجحه ابن(6/96)
كج، والثاني: لا، وبه قال ابن أبي هريرة، ورجحه صاحبا الشامل والتتمة. قلت: هذا الثاني، هو الاصح عند الرافعي في المحرر، وهو المختار. قال في الشامل: وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله، فإنه قال: إذا قال: إحداكما طالق، منع منهما، ومن يقول: الوطئ تعيين، لا يمنعه وطئ أيهما شاء. والله أعلم. فإن جعلنا الوطئ تعيينا للطلاق، ففي كون سائر الاستمتاعات تعيينا وجهان بناء على الخلاف في تحريم الربيبة بذلك، وإذا جعلنا الوطئ تعيينا للطلاق في الاخرى، فلا مهر للموطوءة ولا مطالبة، وإلا فتطالب بالتعيين، فإن عين الطلاق في الموطوءة، فلها المهر إن قلنا: يقع الطلاق باللفظ، وإن قلنا بالتعيين، فحكى الفوراني أنه لا مهر، وذكر فيه احتمالا، وذكر ابن الصباغ وغيره تفريعا على أن الوطئ تعيين: أن الزوج لا يمنع من وطئ أيهما شاء، وإنما يمنع منهما إذا لم يجعل الوطئ تعيينا، ولما أطلق الجمهور المنع منهما جميعا، أشعر ذلك بأن الاصح عندهم، أنه ليس بتعيين. الخامسة: في ألفاظ البيان والتعيين، فإن نوى معينة، حصل البيان بأن يقول مشيرا إلى واحدة: المطلقة هذه، ولو قال: الزوجة هذه، بان الطلاق في الاخرى، وكذا لو قال: لم أطلق هذه. ولو قال: أردت هذه بل هذه، أو قال: هذه وهذه، أو هذه هذه، وأشار إليهما، أو هذه مع هذه، طلقتا، قال الامام: وهذا فيما يتعلق بظاهر الحكم، فأما في الباطن، فالمطلقة هي المنوية فقط، حتى لو قال: إحداكما طالق ونواهما، فالوجه عندنا أنهما لا تطلقان، ولا يجئ فيه الخلاف في قوله: أنت طالق واحدة، ونوى ثلاثا، لان حمل إحدى المرأتين عليهما لا وجه له، وهناك يتطرق إلى الكلام تأويل. ولو قال: أردت هذه ثم هذه، أو هذه فهذه، قال القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي: تطلق الاولى دون الثانية لاقتضاء الحرفين الترتيب. وحكى الامام(6/97)
هذا عن القاضي، واعترض بأنه اعترف بطلاق الثانية أيضا، فليكن كقوله: هذه وهذه، والحق هو الاعتراض. قلت: قول القاضي أظهر. والله أعلم. ولو قال: أردت هذه بعد هذه، فقياس الاول أن تطلق المشار إليها بائنا وحدها. ولو قال: هذه قبل هذه، أو بعدها هذه، فقياس الاول أن تطلق المشار إليها أولا وحدها، وقياس الاعتراض، الحكم بطلاقهما في الصورة، ولو قال: أردت هذه أو هذه، استمر الابهام والمطالبة بالبيان. ولو كان تحته أربع، فقال: إحداكن طالق، ونوى واحدة بعينها، ثم قال: أردت هذه بل هذه بل هذه، طلقن جميعا، وكذا لو عطف (بالواو فلو عطف) بالفاء أو بثم، عاد قول القاضي والاعتراض. ولو قال وهن ثلاث: أردت أو طلقت هذه، بل هذه أو هذه، طلقت الاولى وإحدى الاخريين، ويؤمر بالبيان. وإن قال: هذه أو، هذه بل هذه، أو هذه، طلقت الاخيرة وإحدى الاوليين، ويؤمر بالبيان. ولو قال: هذه وهذه أو هذه، نظر إن فصل الثالثة عن الاوليين بوقفة أو بنغمة، أو أداء، فالطلاق مردد بين الاوليين وبين الثالثة وحدها، وعليه البيان، فإن بين في الثالثة، طلقت وحدها، وإن بين في الاوليين أو إحداهما، طلقتا، لانه جمع بينهما بالواو العاطفة، فلا يفترقان. وإن فصل الثانية عن الاولى، تردد الطلاق بين الاولى وإحدى الاخريين، فإن بين في الاولى، طلقت وحدها. وإن بين في الاخريين أو إحداهما، طلقتا جميعا، وإن سرد الكلام ولم يفصل، احتمل كون الثالثة مفصولة عنهما، واحتمل كونها مضمومة إلى الثانية مفصولة عن الاولى، فيسأل ويعمل بما أظهر إرادته. ولو(6/98)
قال: هذه أو هذه وهذه، فإن فصل الثالثة عن الاوليين، تردد الطلاق بين إحدى الاوليين، والاخرى مطلقة وحدها. وإن فصل الاخريين عن الاولى، فالتردد بين الاولى وحدها، وبين الاخريين معا، وإن سرد الكلام ولم يفصل، فهما محتملان ولو قال وهن أربع وقد طلق واحدة: أردت هذه أو هذه (لا)، بل هذه وهذه، طلقت الاخريان وإحدى الاوليين. ولو قال: هذه وهذه، بل هذه أو هذه، طلقت الاوليان وإحدى الاخريين. ولو قال: هذه وهذه وهذه أو هذه، فإن فصل الاخيرة عن الثلاث، تردد الطلاق بين الثلاث والرابعة. وإن فصل الثالثة عما قبلها، طلقت الاوليان وإحدى الاخريين، وإن فصل الثانية عن الاولى، فينبغي أن يقال: تطلق الاولى، ويتردد الطلاق بين الثانية والثالثة معا، وبين الرابعة وحدها، فعليه البيان. وإن سرد الكلام، قال البغوي: تطلق الثلاث أو الرابعة، ويؤمر بالبيان. فإن بين في الثلاث أو بعضهن، طلقن جميعا، وإن بين في الرابعة، طلقت وحدها. والوجه أن يقال: صورة السرد تحتمل احتمالات الثلاث، فيراجع ويعمل بمقتضى قوله كما سبق. ولو قال: هذه وهذه، أو هذه وهذه، فقد يفصل الاولى عن الثلاث الاخيرة، ويضم بعضهن إلى بعض، فتطلق الاولى ويتردد بين الثانية وحدها، وبين الاخريين معا. وقد يفرض الفصل بين الاوليين والاخريين، والضم فيهما، فتطلق الاوليان والاخريان. وقد يفرض فصل الرابعة عما قبلها فتطلق الرابعة، ويتردد الطلاق بين الثالثة وحدها وبين الاوليين معا. ومتى قال: هذه المطلقة، ثم قال: لا أدري أهي(6/99)
هذه أم غيرها ؟ فتلك طالق بكل حال وتوقف الباقيات، فإن قال بعد ذلك: تحققت أن المطلقة الاولى، قبل منه، ولم تطلق غيرها. وإن عين أخرى، حكم بطلاقها، ولم يقبل رجوعه عن الاولى. والوقفة التي جعلناها فاصلة بين اللفظين مع إعمال اللفظين، هي الوقفة اليسيرة، فأما إذا طالت، فقطعت نظم الكلام بأن قال: أردت هذه ثم قال بعد طول المدة: أو هذه وهذه، فهذا الكلام الثاني لغو إذ لا يستقل بالافادة، هذا كله إذا نوى عند اللفظ المبهم واحدة معينة. أما إذا لم ينو فطولب بالتعيين، فقال مشيرا إلى واحدة: هذه المطلقة، تعينت ولغا ذكر غيرها، سواء عطف غيرها بالفاء وثم، أو بالواو أو ببل، لان التعيين هنا ليس إخبارا عن سابق، بل هو إنشاء اختيار، وليس له إلا اختيار واحدة، وسواء قلنا: يقع الطلاق بالتعيين أو باللفظ. المسألة السادسة: لو ادعت التي علق طلاقها بكون الطائر غرابا أنها مطلقة، لزمه أن يحلف جزما على نفي الطلاق، كما لو ادعى نسيان المطلقة. ولو ادعت أنه كان غرابا وأنها طلقت، لزمه أن يحلف على الجزم أنه لم يكن غرابا، ولا يكتفى بقوله: لا أعلم أنه كان غرابا أو نسيت الحال، كذا ذكره الامام، وفرق بينه وبين ما إذا علق طلاقها بدخول الدار ونحوه وأنكر حصوله، فإنه يحلف على نفي العلم بالدخول، لان الحلف هناك على نفي فعل الغير. وأما نفي الغرابية، فهو نفي صفة في الغير، ونفي الصفة كثبوتها في إمكان الاطلاع عليها. قال الغزالي في البسيط: في القلب من هذا الفرق شئ، فليتأمل، ويشبه أن يقال: إنما يلزمه الحلف على نفي الغرابية إذا تعرض لها في الجواب. أما إذا اقتصر على قوله: لست بمطلقة، فينبغي أن يكتفى منه بذلك كنظائره. الحالة الثانية: إذا طرأ الموت قبل البيان أو التعيين، ففيه صورتان. إحداهما: أن تموت الزوجتان أو إحداهما، ويبقى الزوج، فتبقى المطالبة بالبيان أو التعيين. وقيل: إذا ماتتا، سقط التعيين، وإن ماتت إحداهما، تعين الطلاق في الاخرى، ونسب هذا إلى الشيخ أبي محمد وهو بعيد، والصواب: الاول، ويوقف له من تركة كل واحدة ميراث زوج، حتى يبين أو يعين، فإذا بين أو عين، لم يرث من المطلقة إن كان الطلاق بائنا، سواء قلنا: يقع الطلاق عند اللفظ أو عند التعيين، ويرث من الاخرى، ثم إن نوى معينة، فبين، وقال ورثة الاخرى: هي التي(6/100)
أردتها، فلهم تحليفه، فإن حلف فذاك، وإن نكل، ومنع ميراثها أيضا. وإن لم ينو معينة، وعين، لم يتوجه لورثة الاخرى دعوى، لان التعيين إلى اختياره. وقال الشيخ أبو محمد تفريعا على ما اختاره: يرث من كل واحدة ميراث زوج وهو ضعيف. قال ابن كج: وإذا حلفه ورثة الاخرى التي عينها للنكاح، أخذوا جميع المهر إن كان بعد الدخول، وإلا أخذوا نصفه وفي النصف الثاني، وجهان، أحدهما: يأخذونه أيضا عملا بتصديقه، والثاني: لا، لانها مطلقة قبل الدخول بزعمهم، ولو كذبه ورثة التي عينها للطلاق وغرضهم استقرار جميع المهر إذا كان قبل الدخول، فلهم تحليفه وهم مقرون له بإرث لا يدعيه. الصورة الثانية: أن يموت الزوج قبل البيان أو التعيين، ففي قيام الوارث مقامه في البيان والتعيين قولان، وقيل: يقوم في البيان قطعا، والقولان في التعيين، وقيل: لا يقوم في التعيين والقولان في البيان، لانه إخبار يمكن الاطلاع عليه، بخلاف التعيين، فإنه اختيار شهوة، فلا يحلفه الوارث، كما لو أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات، وقال القفال: إن مات والزوجتان حيتان، لم يقم الوارث قطعا لا في البيان ولا في التعيين، إذ لا غرض له في ذلك، فإن الارث لا يختلف بزوجة وزوجتين، وإن ماتت إحداهما، ثم الزوج، ثم الاخرى، وعين الوارث الاولى للطلاق، قبل قوله قطعا، لانه يضر نفسه، وإن عين الاولى للنكاح، أو مات الزوج وقد ماتتا، ففيه القولان، ثم يعود الترتيب المذكور في البيان والتعيين، والاظهر حيث ثبت قولان: أنه يقوم، وحيث اختلف في إثبات القولين، المنع. فإذا قلنا: لا يقوم، أو قلنا: يقوم فقال: لا أعلم، فإن مات الزوج قبلهما، وقف ميراث زوجة بينهما حتى يصطلحا، أو يصطلح ورثتهما بعد موتهما، وإن ماتتا قبل موت الزوج، وقف من تركتهما ميراث زوج، وإن توسط موته بينهم، وقف من تركة الاولى ميراث زوج، ومن تركة الزوج ميراث زوجة، حتى يحصل الاصطلاح.(6/101)
وإن قلنا: لا يقوم، أو قلنا: يقوم الوارث مقامه، فإن مات الزوج قبلهما، فتعين الوارث كتعينه وإن مات بعدهما، فإذا بين الوارث واحدة، فلورثة الاخرى تحليفه أنه لا يعلم أن الزوج طلق مورثتهم، وإن توسط موته بينهما، فبين الوارث الطلاق في الاولى قبلناه، ولم نحلفه لانه ضر نفسه، وإن بين في المتأخرة، فلورثة الاولى تحليفه أنه لا يعلم أن مورثه طلقها، ولورثة الثانية تحليفه على البت أنه طلقها. فرع شهد اثنان من ورثة الزوج، أن المطلقة فلانة، فيقبل شهادتهما إن مات الزوج قبل الزوجتين لعدم التهمة، ولا يقبل إن ماتتا قبله، وإن توسط موته، نظر إن شهدا بالطلاق للاولى قبل وإلا فلا. فصل قال: إن كان هذا الطائر غرابا، فعبدي حر، وإن لم يكن، فزوجتي طالق، أو دخل جماعة، فقال: إن كان أول من دخل زيد، فعبدي حر، وإلا فزوجتي طالق، وأشكل الحال، ففي وجه حكاه ابن القطان: يقرع بين العبد والزوجة، كما إذا مات الحالف، فإن خرجت قرعة العبد، ثم قال: تبينت أن الحنث كان في الزوجة، لم ينقض العتق، وحكم بالطلاق أيضا، والصحيح الذي قطع به الجمهور، أنه لا يقرع ما دام الحلف حيا لتوقع البيان، لكن يمنع من الاستمتاع بالزوجة، واستخدام العبد، والتصرف فيه، وعليه نفقة الزوجة إلى البيان، وكذا نفقة العبد على الاصح. وقيل: يؤجره الحاكم، وينفق عليه من أجرته. فإن فضل شئ، حفظه حتى يبين الحال. وإذا قال الزوج: حنثت في الطلاق، طلقت. فإن صدقه العبد، فذاك ولا يمين عليه على الصحيح، وحكى الحناطي وجها، أنه يحلف لما فيه من حق الله تعالى، وإن كذبه وادعى العتق، صدق السيد بيمينه، فإن نكل، حلف العبد، وحكم بعتقه، وإن قال: حنثت في العتق، عتق العبد، ثم إن صدقته المرأة، فلا يمين، وفيه الوجه المذكور، وإن كذبته، حلف، فإن نكل، حلفت وحكم بطلاقها. وقوله: لم أحنث في يمين العبد، في جواب دعواه، وفي غير الجواب كقوله: حنثت في يمين العبد، ولو قال: لا أعلم في أيهما حنثت، ففي الشامل وغيره، أنهما إن صدقاه، بقي الامر موقوفا، وإن كذباه، حلف على نفي العلم، فإن حلف، فالامر موقوف، وإن نكل، حلف المدعي منهما وقضى بما ادعاه.(6/102)
وإن ادعى أحدهما أنه حنث في يمينه، فقال في جوابه: لا أدري، لم يكن إقرارا بالحنث في الآخر، فإن عرضت عليه اليمين فحلف على نفي ما يدعيه، كان مقرا بالحنث في الآخر. وإن كان التعليق لطلاق نسوة، وادعين الحنث ونكل عن اليمين، فحلف بعضهن دون بعض، حكم بطلاق من حلف دون من لم يحلف. ولو ادعت واحدة، ونكل عن اليمين، فحلفت، حكم بطلاقها، وله أن يحلف إذا ادعت أخرى، ولا يجعل نكوله في واحدة نكولا في غيرها. وأعلم أن ما سبق من الامر بالبيان أو التعيين، والحبس والتعزير عند الامتناع، قد أشاروا إلى مثله هنا، لكن إذا قلنا: إنه إذا قال: لا أدري، يحلف عليه ويقنع منه بذلك، يكون التضييق إلى أن يبين أو يقول: لا أدري، ويحلف عليه، وهكذا ينبغي أن يكون الحكم في إبهام الطلاق بين الزوجتين. فرع إذا مات الزوج قبل البيان، ففي قيام الوارث مقامه طريقان، أحدهما: على الخلاف السابق في الطلاق المبهم بين الزوجتين، والثاني: القطع بأنه لا يقوم، للتهمة في إخباره بالحنث في الطلاق ليرق العبد ويسقط إرث الزوجة، ولان للقرعة مدخلا في العتق، وسواء ثبت الخلاف أم لا، فالمذهب أنه لا يقوم. قال السرخسي في الامالي: هذا الخلاف إذا قال الوارث: حنثت في الزوجة، فإن عكس، قبل قطعا لاضراره بنفسه وهذا حسن. قلت: قد قاله أيضا غير السرخسي، وهو متعين. والله أعلم. فإن لم يعتبر قول الوارث، أو قال: لا أعلم، أقرعنا بين العبد والمرأة، فإن خرجت على العبد، عتق ويكون عتقه من الثلث إن كان التعليق في مرض الموت، وترث المرأة إلا إذا كانت قد ادعت الحنث في يمينها وكان الطلاق بائنا. وإن خرجت القرعة على المرأة، لم تطلق، لكن الورع أن تترك الميراث، وهل يرق العبد ؟ وجهان: أحدهما: نعم، فيتصرف فيه الوارث كيف شاء. وأصحهما: لا، لان القرعة لم تؤثر فيما خرجت عليه، فغيره كذلك، وعلى هذا، يبقى الابهام كما كان. وقال ابن أبي هريرة: لا نزال نعيد القرعة حتى تخرج على العبد، قال الامام: هذا القول غلط يجب إخراج قائله من أحزاب الفقهاء، وينبغي لقائله أن يقطع بعتق العبد، ويترك تضييع الزمان بالقرعة. فالصواب بقاء الابهام، وإن اعتبرنا(6/103)
قول الوارث فقال: الحنث في العبد، عتق وورثت الزوجة، وإن عكس، فللمرأة تحليفه على البت، وللعبد أن يدعي العتق، ويحلفه أنه لا يعلم حنث مورثه فيه. ونقل الحناطي وجها عن ابن سريج، أنه إذا لم يبين الورثة وقف حتى يموتوا، ويخلفهم آخرون، وهكذا إلى أن يحصل بيان، ووجها، أن الوارث إذا لم يبين حكم عليه بالعتق والطلاق، وهذان ضعيفان، والصواب الذي عليه الاصحاب، ما تقدم وهو الاقراع إذا لم يبين، وبالله التوفيق. فصل: ذكر الامام الرافعي رحمه الله هنا مسائل منثورة تتعلق بكتاب الطلاق، نقلتها إلى موضعها اللائقة بها، ومما لم أنقله مسائل، منها عن أبي العباس الروياني: لو كان له امرأتان، فقال مشيرا إلى إحداهما: امرأتي طالق، وقال: أردت الاخرى، فهل تطلق الاخرى، وتبطل الاشارة، أم تطلقان معا ؟ وجهان. قلت: الارجح الاول. والله أعلم. وذكر إسمعيل البوشنجي، أنه لو قال لاحدى نسائه: أنت طالق، وفلانة أو فلانة، فإن أراد ضم الثانية إلى الاولى، فهما حزب، والثالثة حزب، والطلاق تردد بين الاوليين والثالثة، فإن عين الثالثة، طلقت وحدها، وإن عين الاوليين أو إحداهما، طلقتا، وإن ضم الثانية إلى الثالثة وجعلهما حزبا والاولى حزبا، طلقت الاولى وإحدى الاخريين، والتعيين إليه، وهذا الضم والتحزيب يعرف من قرينة الوقفة، والنغمة كما ذكرناه قريبا في صيغ التعيين، فإن لم تكن قرينة، قال: فالذي أراه أنه إن كان عارفا بالعربية، فمقتضى الواو الجمع بين الاولى والثانية في الحكم، فيجعلان حزبا، والثالثة حزبا، وإن كان جاهلا بها، طلقت الاولى بيقين، ويخير بين الاخريين. وأنه لو جلست نسوته الاربع صفا، فقال: الوسطى منكن طالق، فوجهان، أحدهما: لا يقع شئ إذ لا وسطى، والثاني: يقع على الوسطيين، لان الاتحاد ليس بشرط في وقوع اسم الوسطى.(6/104)
قلت: كلا الوجهين ضعيف، والمختار ثالث، وهو أن يطلق واحدة من الوسطيين، يعينها الزوج، لان موضوع الوسطى لواحدة. فلا يزاد. والله أعلم. وأنه لو قال لامرأتيه المدخول بهما: أنتما طالقان، ثم قال قبل المراجعة: إحداكما طالق ثلاثا ولم ينو معينة، ثم انقضت عدة إحداهما، فإن عين في الباقية، فذاك، وإن عين في الثانية، بني على أن التعيين بيان للواقع، أم إيقاع ؟ إن قلنا بالاول صح، وإلا فلا. قال: والاول أشبه بالمذهب. ولو انقضت عدتها، لم يجز له التزوج بواحدة منهما قبل التعيين، وإلا إذا نكحت زوجا آخر، وبالله التوفيق.
الباب السادس : في تعليق الطلاق وهو جائز قياسا على العتق، وقد ورد الشرع بتعليقه في التدبير. وإن علقه، لم يجز له الرجوع فيه، وسواء علقه بشرط معلوم الحصول، أو محتمله، لا يقع الطلاق إلا بوجود الشرط في النوعين. ولا يحرم الوطئ قبل وجود الشرط ووقوع الطلاق. وإذا علق بصفة، ثم قال: عجلت تلك الطلقة المعلقة، لم تتعجل على الصحيح. وحكى الشيخ أبو علي وغيره وجها، أنها تعجل. فإذا قلنا بالصحيح فأطلق وقال: عجلت لك الطلاق، سألناه، فإن قال: أردت تلك الطلقة، صدقناه بيمينه ولم يتعجل شئ، وإن أراد طلاقا مبتدءا، وقع طلقة في الحال. قلت: وإن لم يكن له نية، لم يقع في الحال شئ. والله أعلم. ولو عقب لفظ الطلاق بحرف شرط، فقال: أنت طالق إن، فمنعه غيره من الكلام بأن وضع يده على فيه، ثم قال: أردت أن أعلق على شرط كذا، صدق بيمينه، وإنما حلفناه لاحتمال أنه أراد التعليق على شئ حاصل، كقوله: إن كنت فعلت كذا وقد فعله. ولو قطع الكلام مختارا حكم بوقوع الطلاق. ولو ذكر حرف الجزاء، ولم يذكر شرطا، بأن قال: فأنت طالق، ثم قال: أردت ذكر صفة فسبق لساني إلى الجزاء، قال القاضي حسين: لا يقبل في الظاهر،(6/105)
لانه متهم، وقد خاطبها بصريح الطلاق، وحرف الفاء، قد يحتمل غير الشرط، ربما كان قصده أن يقول: أما بعد، فأنت طالق. ولو قال: إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء، فقد أطلق البغوي وغيره، أنه تعليق، وقال البوشنجي: يسأل، فإن قال: أردت التنجيز، حكم به، وإن قال: أردت التعليق، أو تعذرت المراجعة، حمل على التعليق. ولو قال: إن دخلت الدار. وأنت طالق بالواو، قال البغوي: إن قال: أردت التعليق، قبل، أو التنجيز، وقع، وإن قال: أردت جعل الدخول، وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق، قبل قال البوشنجي: فإن لم يقصد شيئا طلقت في الحال، وألغيت الواو، كما لو قال ابتداءا: وأنت طالق. قلت: هذا الذي قاله البوشنجي فاسد حكما ودليلا، وليس كالمقيس عليه، والمختار، أنه عند الاطلاق تعليق بدخول الدار، إن كان قائله لا يعرف العربية، وإن عرفها، فلا يكون تعليقا ولا غيره إلا بنية، لانه غير مقيد عنده، وأما العامي، فيطلقه للتعليق، ويفهم منه التعليق. والله أعلم. ولو قال: أنت طالق وإن دخلت الدار، طلقت في الحال، وكذا لو قال: وإن دخلت الدار أنت طالق، ولم يذكر الواو في أنت. فرع إذا علق الطلاق بشرط، ثم قال: أردت الايقاع في الحال، فسبق لساني إلى الشرط، وقع في الحال لانه غلط على نفسه. فصل أعلم أن هذا الباب واسع جدا ويتلخص لمقصوده في أطراف.
الأول : في التعليق بالاوقات، وفيه مسائل. الاولى: قال: أنت طالق في شهر كذا، أو غرة شهر كذا، أو أوله، أو رأس الشهر، أو ابتداءه، أو دخوله، أو استقباله، أو إذا جاء شهر كذا، طلقت عند أول جزء منه، فلو رأوا الهلال قبل غروب الشمس، لم تطلق حتى تغرب. ولو قال: في نهار شهر كذا أو في أول يوم منه، طلقت عند طلوع الفجر من اليوم الاول. ولو قال: أنت طالق في يوم كذا، طلقت عند طلوع الفجر من ذلك اليوم، وحكى الحناطي قولا، أنها تطلق عند غروب الشمس من ذلك اليوم، وطرده(6/106)
في الشهر أيضا، وهو شاذ ضعيف جدا. وعلى قياس هذا ما لو قال: في وقت الظهر أو العصر، ولو قال: أردت بقولي: في شهر كذا أو في يوم كذا وسطه أو آخره، لم يقبل ظاهرا على الصحيح، وحكى ابن كج وغيره في قبوله وجها، ويدين قطعا. ولو قال: أردت بقولي: في غرته اليوم الثاني أو الثالث، فكذلك، لان الثلاثة الاولى تسمى غررا، فلو قال: أردت به المنتصف، لم يدين، لانه لا يطلق على غير الثلاثة الاولى، وكذا لو قال: في رأس الشهر، ثم قال: أردت السادس عشر. الثانية: قال في رمضان: أنت طالق في رمضان، طلقت في الحال، ولو قال: في أول رمضان، وإذا جاء رمضان، وقع في أول رمضان القابل. الثالثة: قال: أنت طالق في آخر رمضان، فهل يقع في جزء من الشهر، أم أول جزء من ليلة السادس عشر، أم أول اليوم الاخير منه ؟ فيه أوجه، أصحها الاول، ولو قال: أنت طالق في آخر السنة، فعلى الاول يقع في آخر جزء من السنة، وعلى الثاني في أول الشهر السابع. ولو قال: في آخر طهرك، فعلى الاول يقع في آخر جزء من الطهر، وعلى الثاني، في أول النصف الثاني من الطهر. ولو قال: أنت طالق في أول آخر الشهر، قال الجمهور: يقع في أول اليوم الاخير. وقال ابن سريج: في أول النصف الاخير، وقال الصيرفي أو غيره: في أول اليوم السادس عشر. ولو قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، قال الجمهور: يقع عند غروب الشمس في اليوم الاول. وعن ابن سريج، يقع في آخر جزء من الخامس عشر. وقيل: عند طلوع الفجر في اليوم الاول، وبهذا قطع المتولي بدلا عن الاول. فقال: لو قال: أنت طالق أخر أول آخر الشهر، فمن جعل آخر الشهر اليوم الاخير، قال: تطلق بغروب الشمس في اليوم الاخير، لان ذلك اليوم هو آخر الشهر، وأوله طلوع الفجر، وآخر أوله غروب الشمس، ومن جعل الآخر على النصف الثاني، فأوله ليلة السادس عشر، فتطلق عند انقضاء الشهر على الوجهين.(6/107)
الرابعة: قال: أنت طالق في سلخ الشهر، فأوجه. أحدها: وبه قطع الشيخ أبو حامد ورجحه الغزالي: يقع في آخر جزء من الشهر. والثاني: وبه قطع المتولي والبغوي: يقع في أول اليوم الاخير. والثالث: في أول جزء من الشهر، فإن الانسلاخ يأخذ من حينئذ. وقال الامام: اسم السلخ يقع على الثلاثة الاخيرة من الشهر، فتحتمل أن يقع في أول جزء من الثلاثة. قلت: الصواب الاول، وما سواه ضعيف. والله أعلم. الخامسة: قال أنت طالق عند انتصاف الشهر، يقع عند غروب الشمس في اليوم الخامس عشر، وإن كان الشهر ناقصا، لانه المفهوم من مطلقه، ذكره المتولي. ولو قال: نصف النصف الاول من الشهر، طلقت عند طلوع الفجر يوم الثامن. ولو قال: نصف يوم كذا، طلقت عند الزوال لانه المفهوم منه. وإن كان اليوم يحسب من طلوع الفجر شرعا، ويكون نصفه الاول أطول. السادسة: إذا قال: إذا مضى يوم فأنت طالق، نظر إن قاله بالليل، طلقت عند غروب الشمس من الغد، وإن قاله بالنهار، طلقت إذا جاء مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني، هكذا أطلقوه. ولو فرض انطباق التعليق على أول نهار، طلقت عند غروب شمس يومه. ولو قال: أنت طالق إذا مضى اليوم، نظر، إن قاله نهارا، طلقت عند غروب شمسه، وإن كان الباقي منه يسيرا، وإن قاله ليلا، كان لغوا، إذ لا نهار، ولا يمكن الحمل على الجنس. ولو قال: أنت طالق اليوم، طلقت في الحال نهارا كان أو ليلا، قاله المتولي، ويلغو قوله: اليوم لانه لم يعلق، وإنما أوقع وسمى الوقت بغير اسمه. ولو قال: أنت طالق الشهر، أو السنة، وقع في الحال. السابعة: قال: إذا مضى شهر فأنت طالق، لم تطلق حتى يمضي شهر كامل. فإن اتفق قوله في ابتداء الهلال، طلقت بمضيه تاما أو ناقصا، وإلا فإن قاله(6/108)
ليلا، طلقت إذا مضى ثلاثون يوما، ومن ليلة الحادي والثلاثين تقدر ما كان سبق من ليلة التعليق، وإن قاله: نهارا كمل من اليوم الحادي والثلاثين بعد التعليق. ولو قال: إذا مضى الشهر، طلقت إذا انقضى الشهر الهلالي، وكذا لو قال: إذا مضت السنة، طلقت بمضي بقية السنة العربية، وإن كانت قليلة، وإن قال: إذا مضت سنة بالتنكير، لم تطلق حتى يمضي اثنا عشر شهرا، ثم إن لم ينكسر الشهر الاول، طلقت بمضي اثني عشر شهرا بالاهلة، وإن انكسر به الاول، حسب أحد عشر شهرا بعده بالاهلة، وكملت بقية الاول ثلاثين يوما من الثالث عشر. وفي وجه: أنه إذا انكسر شهر، انكسر جميع الشهور، واعتبرت سنة بالعدد، وقد سبق مثله في السلم وهو ضعيف. ولو شك فيما كان مضى من شهر التعليق، لم يقع الطلاق إلا باليقين، وذكر الحناطي في حل الوطئ في حال التردد وجهين. قلت: أصحهما الحل. والله أعلم. ولو قال: أردت بالسنة، السنة الفارسية أو الرومية، دين ولم يقبل ظاهرا على الصحيح. ولو قال: أردت بقولي: السنة سنة كاملة، دين ولم يقبل ظاهرا. ولو قال: أردت بقولي سنة بقية السنة، فقد غلط على نفسه. الثامنة: إذا علق الطلاق بصفة مستحيلة عرفا، كقوله: إن طرت أو صعدت السماء، أو إن حملت الجبل، فأنت طالق، أو عقلا كقوله: إن أحييت ميتا، أو إن اجتمع السواد والبياض، فهل يقع الطلاق أم لا، أم يقع في العقلي دون العرفي ؟ فيه أوجه، أصحها: لا يقع، أما في العرفي، فباتفاق الاصحاب وهو المنصوص، وأما في العقلي، فعند الامام وجماعة خلافا للمتولي، والمستحيل شرعا كالمستحيل عقلا، كقوله: إن نسخ صوم رمضان. أما إذا قال: أنت طالق أمس أو الشهر الماضي، أو في الشهر الماضي، فله أحوال. أحدها: أن يقول: أردت، أن يقع في الحال طلاق، يستند إلى أمس أو إلى(6/109)
الشهر الماضي، فلا شك أنه لا يستند، لكن يقع في الحال على الصحيح. وقيل: لا يقع أصلا. الحال الثاني: أن يقول: لم أوقع في الحال، بل أردت إيقاعه في الماضي، فالمذهب والمنصوص، وقوع الطلاق في الحال وبه قطع الاكثرون، وقيل: قولان ثانيهما: لا يقع. الحال الثالث: أن يقول: لم أرد إيقاعه في الحال ولا في الماضي، بل أردت أني طلقتها في الشهر الماضي في هذا النكاح وهي في عدة الرجعية أو بائن الآن، فيصدق بيمينه، وتكون عدتها من الوقت الذي ذكره إن صدقته، ويبقى النظر في أنه كان يخالطها أم لا ؟ وإن كذبته، فالعدة من وقت الاقرار. وعن القاضي حسين: أنها إن صدقته، قبل، وإلا فالقول قولها في أنه أنشأ الطلاق، وحينئذ يحكم عليه بطلاقين، والصحيح الاول. الحال الرابع: قال: أردت أني طلقتها في الشهر الماضي وبانت، ثم جددت نكاحها، أو أن زوجا آخر طلقها في نكاح سابق، قال الاصحاب: ينظر، إن عرف نكاح سابق، فطلاق فيه، أو أقام بذلك بينة وصدقته المرأة في إرادته، فذاك،(6/110)
وإن كذبته وقالت: إنما أردت إنشاء طلاق الآن، حلف. وإن لم يعرف نكاح سابق، وطلاق في ذلك النكاح، وكان محتملا، فينبغي أن يقبل التفسير به وإن لم يقم بينة، وإلا يقع الطلاق وإن كان كاذبا، ولهذا لو قال ابتداءا: طلقك في الشهر الماضي زوج غيري، لا يحكم بالطلاق عليه وإن كذب. الحال الخامس: أن يقول: لم أرد شيئا أو مات ولم يفسر، أو جن، أو خرس وهو عاجز عن التفهيم بالاشارة، فالصحيح وقوع الطلاق، ولو قال: أنت طالق للشهر الماضي، ففي المجرد للقاضي أبي الطيب: أنه يقع الطلاق في الحال بلا خلاف، كما لو قال: لرضى فلان، لكن الكلام في مثل ذلك يستعمل للتاريخ، واللفظ محتمل للمعاني المذكورة في قوله. المسألة التاسعة: قال: إذا مات أو إذا قدم فلان، فأنت طالق قبله بشهر، أو قال: أنت طالق قبل أن أضربك بشهر، نظر إن مات فلان أو قدم، أو ضربها قبل مضي شهر من وقت التعليق، لم يقع الطلاق. وقيل: يقع عند الضرب، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، وتنحل اليمين. حتى لو ضربها بعد ذلك وقد مضى شهرا أو أكثر، لم تطلق، وللامام احتمال أنه لا تنحل لكون الضرب الاول ليس هو المحلوف عليه. وإن مات أو قدم أو ضرب بعد مضي شهر من وقت التعليق، تبينا وقوع الطلاق قبله بشهر، وتحسب العدة من يومئذ. ولو ماتت وبينها وبين القدوم (دون) شهر. لا يرثها الزوج، ولو خالعها قبل القدوم أو الموت، فإن كان بين الخلع وقدوم فلان أكثر من شهر، وقع الخلع صحيحا، ولم يقع الطلاق المعلق. وإن كان بينهما دون شهر والطلاق المعلق ثلاث، فالخلع فاسد والمال مردود. ولو علق عتق عبده كذلك ثم باعه، وبين البيع وموت فلان، أو قدومه أكثر من شهر، صح البيع، ولم يحصل العتق.(6/111)
المسألة العاشرة: قال: أنت طالق غد أمس، أو أمس غد على الاضافة، وقع الطلاق في اليوم لانه غد أمس وأمس غد. ولو قال: أمس غدا، أو غدا أمس لا بالاضافة، طلقت إذا طلع الفجر من الغد، ويلغو ذكر الامس. هكذا أطلقه البغوي، ونقل الامام مثله في قوله: أنت طالق أمس غدا، وأبدى فيه توقفا، لانه يشبه: أنت طالق الشهر الماضي. ولو قال: أنت طالق اليوم غدا، وقع في الحال طلقة، ولا يقع في الغد شئ. ولو قال: أردت اليوم طلقة وغدا أخرى، طلقت كذلك إلا أن يبين. وإن قال: أردت إيقاع نصف طلقة اليوم ونصف طلقة غدا، فكذلك تطلق طلقتين. ولو قال: أردت نصف طلقة اليوم ونصفها الآخر غدا، فوجهان، أحدهما: يقع طلقتان أيضا، وأصحهما: لا يقع إلا واحدة، لان النصف الذي أخره تعجل، وبهذا قطع المتولي. ولو قال: أنت طالق غد اليوم، فوجهان، أحدهما: يقع في الحال طلقة، ولا يقع في غد شئ، كما سبق في قوله: اليوم غدا، والثاني وهو الصحيح، وبه قال القاضي أبو حامد وصححه أبو عاصم: لا يقع في الحال شئ، ويقع في غد طلقة، لان الطلاق تعلق بالغد، وقوله: بعده اليوم، كتعجيل الطلاق المعلق، فلا يتعجل. ولو قال: أنت طالق اليوم وغدا، وبعد غد، يقع في الحال طلقة، ولا يقع في الغد ولا بعده شئ آخر، لان المطلقة في وقت مطلقة فيما بعده، كذا ذكره المتولي. ولو قال: أنت طالق اليوم، وإذا جاء الغد، قال إسمعيل البوشنجي: يسأل. فإن قال: أردت طلقة اليوم وتبقى بها مطلقة غدا، أو لم يكن له نية، لم يقع إلا طلقة، وإن قال: أردت طلقة اليوم وطلقة غدا، أوقعناه كذلك إن كانت مدخولا بها. ولو قال: أنت طالق اليوم ورأس الشهر، فهو كقوله: اليوم وغدا. ولو قال: أنت طالق اليوم وفي الغد، وفيما بعد غد، قال المتولي: يقع في كل يوم طلقة. قال: وكذلك لو قال: في الليل وفي النهار، لان المظروف يتعدد بتعدد الظرف، وليس هذا الدليل بواضح فقد يتحد المظروف، ويختلف الظرف.(6/112)
ولو قال: أنت طالق بالليل والنهار، لم تطلق إلا واحدة. ولو قال: أنت طالق اليوم أو غدا، فوجهان، الصحيح: لا يقع إلا في الغد لانه اليقين. والثاني: يقع في الحال تغليبا للايقاع، ولو قال: أنت طالق غدا أو بعد غد، أو إذا جاء الغد أو بعد غد، قال البوشنجي: لا تطلق في الغد، قال: وعلى هذا استقر رأي أبي بكر الشاشي وابن عقيل ببغداد، وهذا يوافق الصحيح من هذين الوجهين السابقين. ولو قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد، فوجهان. أحدهما عن ابن سريج وصاحب التقريب: لا تطلق أصلا، لانه علقه بمجئ الغد، فلا يقع قبله، وإذا جاء الغد، فقد مضى اليوم الذي جعله محلا للايقاع. والثاني: إذا جاء الغد، وقع الطلاق مستندا إلى اليوم، ويكون كقوله: إذا قدم زيد، فأنت طالق اليوم. قلت: الاصح لا تطلق، وبه قطع صاحب التنبيه وهو الاشبه بالتعليق بمحال. والله أعلم. ولو قال: أنت طالق الساعة إذا دخلت الدار، قال البوشنجي: هو كقوله: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد. المسألة الحادية عشرة: إذا قال لمدخول بها: أنت طالق ثلاثا، في كل سنة طلقة، وقع في الحال طلقة، ثم إن أراد السنين العربية، وقعت أخرى في أول المحرم المستقبل، وأخرى في أول المحرم الذي بعده. وإن أراد أن بين كل طلقتين سنة، وقعت الثانية عند انقضاءه سنة كاملة من وقت التعليق، والثالثة بعد انقضاء سنة كاملة بعد ذلك، وهذا مفروض فيما إذا امتدت العدة أو راجعها فلو بانت وجدد نكاحها وهذه المدة باقية، ففي وقوع الطلاق قولا عود الحنث فإن قلنا: يعود وكان التجديد في خلال السنة، تطلق في الحال، وإن أطلق السنين، فهل ينزل على العربية أم على الاحتمال الثاني ؟ فيه وجهان. أصحهما: الثاني، وإن قال: أنت طالق ثلاثا في ثلاثة أيام، أو في كل يوم طلقة، فإن قالها بالنهار، وقع في الحال طلقة، وبطلوع الفجر في اليوم الثاني أخرى، وبطلوعه في الثالث أخرى. فلو قال: أردت أن يكون بين كل طلقتين يوم دين، وفي قبوله ظاهرا وجهان، أقيسهما: القبول، وإن قاله بالليل، وقع ثلاث طلقات بطلوع الفجر في الايام الثلاثة التالية للتعليق.(6/113)
الثانية عشرة: قال: أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم، فمضى اليوم ولم يطلقها، فوجهان. قال ابن سريج وغيره: لا طلاق، وقال الشيخ أبو حامد: تقع في آخر لحظة من اليوم، وهو إذا بقي من اليوم زمن لا يسع التطليق. قلت: هذا الثاني: أفقه، وهو المختار. والله أعلم. الثالثة عشرة: قال: أنت طالق في أفضل الاوقات، طلقت ليلة القدر، ولو قال: أفضل الايام، طلقت يوم عرفة، وفي وجه: يوم الجمعة عند غروب الشمس، ذكره القفال في الفتاوى. قلت: تخصيصه ب عند غروب الشمس ضعيف أو غلط، لان اليوم يتحقق بطلوع الفجر، فإن تخيل متخيل أن ساعة الاجابة، قد قيل: إنها آخر النهار، فهو وهم ظاهر لوجهين، أحدهما: أن الصواب أن ساعة الاجابة، من حين يجلس الامام عند المنبر، إلى أن تقضي الصلاة، كذا صرح به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: والثاني: أنه لم يعلق بأفضل أوقات اليوم، بل اليوم الافضل، واسم اليوم الافضل يحصل بطلوع الفجر. والله أعلم. الرابعة عشرة: في فتاوى القفال. لو قال: أنت طالق بين الليل والنهار، لا تطلق ما لم تغرب الشمس. قلت: هذا إذا كان نهارا، فإن علق ليلا، طلقت بطلوع الفجر. والله أعلم. الخامسة عشرة: في فتاوى القفال. لو قال: أنت طالق قبل موتي، طلقت في الحال، وإن قال: قبيل بضم القاف وفتح الياء أو قبيل بزيادة ياء، لا تطلق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته. ولو قال: بعد قبل موتي، طلقت في الحال، لانه بعد قبل موته، ويحتمل أن لا يقع، لان جميع عمره قبل الموت. ولو قال: أنت(6/114)
طالق قبل أن تدخلي الدار، أو قبل أن أضربك ونحو ذلك مما لا يقع بوجوده، قال إسمعيل البوشنجي: يحتمل وجهين، أحدهما: وقوع الطلاق في الحال، كقوله: قبل موتي أو موت فلان. وأصحهما: لا يقع حتى يوجد ذلك الفعل، فحينئذ يقع الطلاق مستندا إلى حال اللفظ، لان الصيغة تقتضي وجود ذلك الفعل، وربما لا يوجد، ولو قال: أنت طالق تطليقة قبلها يوم الاضحى، سألناه، فإن أراد الاضحى الذي بين يديه، لم تطلق حتى يجئ ذلك الاضحى وينقرض، ليكون قبل التطليقة، وإن أراد الاضحى الماضي طلقت في الحال كما لو قال: يوم السبت أنت طالق طلقة قبلها يوم الجمعة. قلت: فإن لم يكن له نية، لم يقع حتى ينقضي الاضحى الذي بين يديه. والله أعلم. ولو قال: أنت طالق قبل موت فلان وفلان بشهر، فمات أحدهما قبل شهر، لم تطلق، وإن مات أحدهما بعد مضي شهر، فوجهان، أحدهما: تطلق قبل موته بشهر، لانه وإن تأخر موت الآخر، فيصدق عليه أنه وقع قبل موتهما بشهر، والثاني: لا تطلق أصلا، لانه في العرف لا يقال: طلقت قبل موته بشهر، إلا إذا لم يزد ولم ينقص، وهذا الثاني خرجه البوشنجي، ونظير المسألة، قوله: أنت طالق قبل عيدي الفطر والاضحى بشهر، فعلى الاول تطلق أول رمضان، وعلى الثاني، لا تطلق. قلت: الصواب الاول، والثاني غلط، ولا أطلق عليه اسم الضعيف، وعجب ممن يخرج مثل هذا أو يحكيه ويسكت عليه. والله أعلم. فرع في فتاوى القاضي حسين: أنه لو قال: أنت طالق قبل ما بعده رمضان، وأراد الشهر، طلقت في آخر جزء من رجب، وإن أراد اليوم بليلته، ففي آخر جزء من التاسع والعشرين من شعبان، وإن أراد مجرد اليوم، فقبيل فجر يوم الثلاثين من شعبان، وإن قال: بعد ما قبله رمضان وأراد الشهر، طلقت عند استهلال ذي القعدة، وإن أراد الايام، ففي اليوم الثاني من شوال. السادسة عشرة: قال: أنت طالق كل يوم، فوجهان حكاهما أبو العباس(6/115)
الروياني، أحدهما: تطلق كل يوم طلقة، حتى يكمل الثلاث، وهو مذهب أبي حنيفة، والثاني: لا يقع إلا واحدة، والمعنى: أنت طالق أبدا. قلت: الاول أصح، لانه السابق إلى الفهم. والله أعلم. ولو قال: أنت طالق يوما ويوما لا، ولم ينو شيئا، وقع واحدة، وقال البوشنجي: المفهوم منه وقوع ثلاث طلقات آخرهن في اليوم الخامس. وإن قال: أردت طلقة، يثبت حكمها في يوم دون يوم، أو تقع في يوم دون يوم، وقعت طلقة. السابعة عشرة: قال: أنت طالق إلى شهر، قال المتولي وغيره: يقع الطلاق بعد مضي شهر، ويتأبد إلا أن يريد تنجيز الطلاق وتوقيته، فيقع في الحال مؤبدا، قال البوشنجي: ويحتمل أن يقع في الحال عند الاطلاق. قلت: هذا الاحتمال ضعيف. والله أعلم. الثامنة عشرة: قال: أنت طالق غدا، أو عبدي حر بعد غد، قال البوشنجي: يؤمر بالتعيين، فإذا عين الطلاق أو العتق، يعين في اليوم الذي ذكره. قال: ولو قال: أنت طالق أمس وقد تزوجها اليوم، كان الحكم كما لو تزوجها قبل الامس. قال: ولو قال: أنت طالق طلقة، لا تقع عليك إلا غدا، طلقت بمجئ الغد، كما لو قال: طلقة تقع عليك غدا. قال: ولو قال: أنت طالق اليوم، وإن جاء رأس الشهر، طلقت في الحال، كقوله: أنت طالق اليوم وإن دخلت الدار.
الطرف الثاني : في التعليق بالتطليق، ونفيه ونحوهما. قال الاصحاب: الالفاظ التي يعلق بها الطلاق بالشرط والصفات من وإن وإذا ومتى، ومتى ما، ومهما، وكلما، وأي.(6/116)
كقوله: من دخلت منكن، أو إن دخلت، أو إذا دخلت، أو متى، أو متى ما، أو مهما، أو كلما، أو أي وقت، أي زمان دخلت، فأنت طالق. ثم إن كان التعليق بإثبات فعل، لم يقتض شئ منها الفور، ولم يشترط وجود المعلق عليه في المجلس، إلا إذا كان التعليق بتحصيل مال، بأن يقول: إن ضمنت لي، أو إن أعطيتني ألفا، فإنه يشترط الفور في الضمان والاعطاء في بعض الصيغ المذكورة، كما سبق في كتاب الخلع، وإلا إذا علق الطلاق على مشيئتها فإنه تعتبر مشيئتها على الفور كما سبق، وسيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يقتضي شئ من هذه الصيغ تعدد الطلاق بتكرر الفعل، بل إذا وجد الفعل المعلق عليه مرة، انحلت اليمين ولم يؤثر وجوده ثانيا إلا كلما فإنها تقتضي التكرار بالوضع والاستعمال، وحكى الحناطي وجها، أن متى، ومتى ما يقتضيان التكرار، ووجها أن متى ما تقتضيه دون متى، وهما شاذان ضعيفان. فصل إذا قال: إن طلقتك، أو إذا طلقتك، أو متى طلقتك فأنت طالق، ثم طلقها، نظر إن كان مدخولا بها، وقع طلقتان، إحداهما: المنجزة، والاخرى المعلقة سواء طلق بصريح أو كناية مع النية، ولو طلقها طلقتين وقع ثلاث، الثالثة بالتعليق، ولو قال: لم أرد التعليق، إنما أردت أني إذا طلقتها تكون مطلقة بتلك الطلقة، دين ولم يقبل ظاهرا. ولو وكل فطلقها وكيله، وقعت المنجزة فقط، لانه لم يطلقها هو، وأما إذا لم يكن مدخولا بها، فيقع ما نجزه وتحصل البينونة، فلا يقع شئ آخر، وتنحل اليمين، فلو نكحها بعد ذلك وطلقها، لم يجئ الخلاف في عود الحنث. ولو خالعها وهي مدخول بها، أو غيرها، لم يقع الطلاق المعلق لحصول البينونة بالخلع، ثم إن جعلنا الخلع طلاقا، انحلت اليمين، وإن جعلناه فسخا، لم تنحل، وحكى الحناطي وجها، أنه يقع في غير المدخول بها وفي الخلع طلقتان وهو غريب ضعيف.(6/117)
فرع الطلقة المعلقة بصفة، هل تقع مع الصفة مقترنة بها، أم تقع مترتبة على الصفة ؟ وجهان، أصحهما والمرضي عند الامام وقول المحققين: أنها معها، لان الشرط علة وضعية، والطلاق معلولها فيتقاربان في الوجود، كالعلة الحقيقية مع معلولها. فمن قال بالترتيب قال: إنما لم يقع على غير المدخول بها الطلقة الثانية في السمألة السابقة، لكونها بانت بالمنجزة. ومن قال بالاصح وهو المقارنة، قال: إنما لم تقع في الثانية، لان قوله: إن طلقتك، فأنت طالق، معناه: إن صرت مطلقة، وبمجرد مصيرها مطلقة، بانت. فرع كما أن تنجيز الطلاق تطليق يقع به الطلقة المعلقة بالتطليق في المدخول بها، فكذا تعليق الطلاق مع وجود الصفة تطليق. فإذا قال: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت، وقع طلقتان، وكما أن التعليق بالصفة مع الصفة تطليق، فالتعليق مع الصفة إيقاع للطلاق. فإذا قال: إذا أوقعت عليك الطلاق، فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت، وقع طلقتان. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقع إلا طلقة، وحكاه صاحبا المهذب والتهذيب، وزعم قائله أن لفظ الايقاع يقتضي طلاقا يباشره بخلاف التطليق، والصحيح الاول. وأما مجرد الصفة، فليس بتطليق ولا إيقاع، لكنه وقوع، فإذا قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: إن طلقتك، أو إذا أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم دخلت الدار، لا يقع المعلق بالتطليق أو الايقاع، بل يقع طلقة بالدخول. ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: إن وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم دخلت الدار، وقع طلقتان، وتطليق الوكيل وقوع على الصحيح. وأما مجرد التعليق، فليس بتطليق ولا إيقاع ولا وقوع. وإذا قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم طلقها، وقع ثلاث طلقات، فيقع بوقوع الاولى ثانية، وبوقوع الثانية ثالثة. ولو قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم طلقها، وقع طلقتان على الصحيح(6/118)
والمشهور، وحكى ابن كج عن القاضي أبي حامد وغيره وقوع ثلاث، وجعله الحناطي قولا منسوبا إلى كتاب البويطي. فإذا قلنا بالصحيح: لا تنحل اليمين لاقتضاء اللفظ التكرار. قال البغوي: لكن لا تظهر فائدة هنا، لانه إذا طلقها أخرى، كان بالمنجزة مستوفيا للثلاث، ولا تعود اليمين بعد استيفاء الثلاث على المذهب، ولو قال: كلما طلقتك، فأنت طالق، ثم قال: إذا أوقعت عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم طلقها، طلقت ثلاثا. فرع قال لها: إذا أعتقت عبدي، فأنت طالق، ثم قال للعبد: إن دخلت الدار، فأنت حر، ثم دخل، عتق وطلقت، لان التعليق مع الدخول اعتاق كما أنه تطليق، ولو قدم تعليق، العتق فقال: إن دخلت الدار، فأنت حر، ثم قال لامرأته: إن أعتقت عبدي، فأنت طالق، ثم دخل العبد، عتق ولم تطلق المرأة، فلو قال: إن دخلت الدار، فأنت حر، ثم قال لها: إذا عتق أو وقع عليه العتق، فأنت طالق، ثم دخل، عتق وطلقت. فرع تحته حفصة وعمرة، فقال لحفصة: إذ اطلقت عمرة، فأنت طالق، ثم قال لعمرة: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت، طلقتا جميعا. ولو قال لعمرة: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال لحفصة: إن طلقت عمرة، فأنت طالق، ثم دخلت عمرة، طلقت ولم تطلق حفصة. ولو قال لحفصة: متى وقع طلاقي على عمرة، فأنت طالق، وعلق طلاق عمرة بدخول الدار قبل تعليق حفصة أو بعده، ثم دخلت عمرة، طلقتا. ولو قال لحفصة: إن طلقت عمرة، فأنت طالق، ثم قال لعمرة: إن طلقت حفصة، فأنت طالق، ثم طلق حفصة، طلقت حفصة طلقتين، وعمرة طلقة. ولو طلق عمرة بدل حفصة، طلقتا طلقة طلقة فقط. ولو كان تعليق الطلاقين بصيغة إذا أو متى أو مهما أو كلما فكذلك الجواب، لان التطليق لم يتكرر، ولا مزية لكلما. ولو قال لحفصة: إن وقع طلاقي على عمرة، فأنت طالق، ثم قال لعمرة: إن وقع طلاقي على حفصة، فأنت طالق، ثم طلق إحداهما، طلقت طلقة منجزة وتقع(6/119)
على صاحبتها طلقة بالصفة، ثم يعود إلى المنجز طلاقها طلقة أخرى بالوقوع على صاحبتها، ولو علق هكذا بصيغة كلما، ثم طلق إحداهما، طلقتا ثلاثا ثلاثا. ولو قال لحفصة: إذا طلقتك، فعمرة طالق، ثم قال لعمرة: إذا طلقتك، فحفصة طالق، فقد بطلاق المخاطبة طلاق صاحبتها بخلاف الصورة السابقة وحكم هذه، أنه إن طلق بعد ذلك حفة، طلقت طلقة فقط، وطلقت عمرة بالصفة، ولم تعد إلى حفصة طلقة أخرى، لان طلاقههها معلق بتطليق عمرة، ولم يطلق عمرة بعد ما علق طلاق حفصة تنجزا، ولا أحدث تعليقا. ولو طلق عمرة أولا، طلقت طلقة منجزة، وطلقت حفصة طلقة بالصفة، وعاد بطلاقها إلى عمرة طلقة أخرى. فرع تحته أربع، فقالت: كلما طلقت واحدة منكن، فالاخريات طوالق، ثم طلق واحدة، طلقن طلقة طلقة، فإن طلق أخرى، فإن طلق ثالثة، طلقن ثلاثا ثلاثا، ولو قال: كلما طلقت واحدة منكن، فأنتن طوالق، ثم طلق إحداهن، طلقت هي طلقتين، والباقيات طلقة طلقة، فإن طلق ثانية، تم لها وللاولى ثلاث ثلاث، وللثالثة والربعة، طلقتان طلقتان، فإن طلق إحداهما، تم لهما أيضا الثلاث. فرع له نسوة نكحهن مرتبا، فقال: إن طلقت الاولى، فالثانية طالق، وإن طلقت الثانية، فالثالثة، طلق، وإن طلقت الثالثة فالاولى طالق، فان طلق الاولى طلق هي والثانية، دون الثالثة، وإن طلق الثانية، طلقت هي والثالثة، دون الاولى، وإن طلقت هي والاولى والثانية، وإن طلق واحدة لا بعينها ومات فبل البيان، فإن كان الطلاق قاطعا للارث، لكونه ثلاثا، أو قبل الدخول، فليس للثانية المخاصمة للميراث لانها مطلقة على كل تقدير والاولى والثالثة المخاصمة، لان احتمال عدم الطلاق قائم في حق كل منهما، فيوقف الامر إلى الاصطلاح. فصل له أربع نسوة وعبيد، فقال: إن طلقت واحدة من نسائي، فعبد من عبيدي حر، وإن طلقت ثنتين، فعبدان حران، وإن طلقت ثلاثا، فثلاثة أعبد(6/120)
أحرار، وإن طلقت أربعا، فأربعة أعبد أحرار، ثم طلقهن معا، أو على الترتيب، عتق عشرة أعبد، وهكذا الحكم إذا علق بصيغة إذا أو متى أو مهما، وما لا يقتضي شئ، أما إذا علق هذه التعليقات بلفظ كلما ثم طلقهن معا، أو على الترتيب، فيعتق خمسة عشر عبدا، وقيل: عشرة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: عشرون، وقيل: ثلاثة عشر، حكاه القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد، والصحيح الاول، واتفق الاصحاب على تضعيف ما سواه، والرجوع في تعيين العبيد إليه. فصل في التعليق بنفي التطليق وفي معناه التعليق بنفي دخول الدار والضرب، وسائر الافعال، فإذا قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، لم يقع الطلاق حتى يحصل اليأس من التطليق. ولو قال: إذا لم أطلقك، فأنت طالق، فإذا مضى زمن يمكنه أن يطلق فيه، فلم يطلق، طلقت، هذا هو المنصوص في الصورتين، وهو المذهب، وقيل: قولان فيهما بالنقل والتخريج، ولو قال: متى لم أطلقك، أو مهما، أو أي حين، أو كلما لم أفعل، أو تفعلي كذا، فأنت طالق، فمضى زمن يسع الفعل ولم يفعل، طلقت على المذهب، كلفظ إذا، وأشار الحناطي إلى خلاف، وضبط الاصحاب هذا تفريعا على المذهب، بأن أدوات التعليق كلها تقتضي الفور في طرف النفي، إلا لفظة إن، فإنها للتراخي، وفي تسمية هذا فورا وتراخيا، نوع توسع، ولكن المعنى مفهوم، ولو علق النفي بلفظة إن، وقيد بزمان، فقال: إن لم أطلقك اليوم، فأنت طالق، وقلنا بالمذهب، فإذا مضى اليوم ولم يطلق، حكم بوقوع الطلاق قبيل غروب الشمس لحصول اليأس حينئذ، ولو قال: إن تركت طلاقك، فأنت طالق، فإذا مضى زمن زمن يمكنه أن يطلق فيه فلم يطلق، طلقت، بخلاف طرف النفي، ولو طلقها في الحال واحدة ثم سكت، لم يقع أخرى لانه لم يترك طلاقها. قال البغوي: ولو قال: إن سكت، عن طلاقك، فأنت طالق فلم يطلقها في الحال، وقع طلقة، وإن طلقها في الحال ثم سكت، وقعت أخرى بالسكوت، ولا تطلق بعد ذلك لانحلال اليمين.(6/121)
فرع قال: كلما سكت عن طلاقك، أو كلما لم أطلقك، فأنت طالق، ومضت ثلاثة أوقات تسع ثلاث طلقات بلا تطليق، طلقت ثلاثا، وهذه الصور في المدخول بها، فلو قال لغير المدخول بها: كلما لم أطلقك فأنت طالق، ومضت لحظة لم يطلقها، بانت ولا تلحقها الثانية، فلو جدد نكاحها وقلنا: يعود الحنث، فمضت لحظة، وقعت طلقة أخرى، ولو قال للمدخول بها عقب هذا التعليق بكلما: أنت طالق على ألف، فقبلت، بانت ولم تقع الثانية، فإن جدد نكاحها، عاد قولا عود الحنث. فرع إذا قلنا بالمذهب وهو الفرق بين إن وإذا فقال: أردت بإذا معنى إن، دين، ويقبل أيضا ظاهرا على الاصح، وحيث قلنا: في إن أو إذا إنه إذا مضى زمن يسع التطليق فلم يطلق يقع، فأمسك رجل فمه، أو أكرهه على الامتناع من التطليق، قال الحناطي: يخرج على الخلاف في حنث الناسي والمكره، وحيث قلنا: لا يقع الطلاق حتى يتحقق اليأس من التطليق. ولليأس طرق، أحدها: أن يموت أحد الزوجين قبل التطليق، فيحكم بوقوع الطلاق قبيل الموت. والثاني: إذا جن الزوج، لا يحصل اليأس لاحتمال الافاقة، فإن اتصل بالموت، تبينا حصول اليأس من وقت الجنون، فيحكم بوقوع الطلاق قبيل الجنون. الثالث: إذا فسخ النكاح بسبب، لم يحصل اليأس، لاحتمال التجديد، لان البر والحنث لا يختص بحال النكاح، ولذلك تنحل اليمين بوجود الصفة في(6/122)
البينونة، فإن مات أحدهما قبل التجديد والتطليق، حكم بوقوع الطلاق قبيل الانفساخ، هكذا قاله الامام، وتابعه الغزالي وغيره. قالوا: وإنما يتصور ذلك في الطلاق الرجعي، ليمكن اجتماعه هو والانفساخ، فلو كان الطلاق بائنا لكونه ثلاثا، أو قبل الدخول، لم يمكن إيقاعه قبل الانفساخ، لما فيه من الدور، فإنه لو وقع لما حصل الانفساخ، ولو لم يحصل الانفساخ لم يحصل اليأس، وإذا لم يحصل اليأس، لم يقع الطلاق، فيلزم من وقوعه عدم وقوعه، وهذا من قبيل الدور الحكمي، وأما إذا جدد نكاحها بعد الانفساخ، فإن طلقها في النكاح الثاني، لم يفت التطليق، بل قد حصل، وإن لم يطلقها حتى مات أحدهما، بني على قولي عود الحنث، إن قلنا: يعود، طلقت في النكاح الثاني قبل الموت، وبنينا النكاح على النكاح، وإن قلنا: لا يعود الحنث، لم يمكن إيقاع الطلاق قبيل الموت، فيحكم بوقوع الطلاق قبيل الانفساخ كما سبق. وأعلم أن هذه الطرق الثلاثة، هي فيما إذا كان التعليق بنفي التطليق، أما إذا علق بنفي الضرب وسائر الافعال، فالجنون لا يوجب اليأس، وإن اتصل به الموت، قال الغزالي: لان ضرب المجنون في تحقيق الصفة ونفيها، كضرب العاقل على الصحيح، ولو أبانها ودامت البينونة إلى الموت، ولم يتفق الضرب، لم يقع الطلاق ولا يحكم بوقوعه قبيل البينونة، بخلاف قوله: إن لم أطلقك، لان الضرب بعد البينونة ممكن، والطلاق بعد البينونة غير ممكن، وإذا كان التعليق بنفي الضرب ونحوه من الافعال، فعروض الطلاق كعروض الفسخ والانفساخ، لكن ينبغي أن يبقى من الطلاق عدد يمكن فرضه، مستندا إلى قبيل الطلاق، فأما في التعليق بنفي التطليق، فإنما تفرض البينونة بالانفساخ، لانه لو طلقها بطلت الصفة المعلق عليها، ويمكن أن تفرض في طلاق الوكيل، فإنه لا تفوت الصفة. فصل إن الشرطية هي بكسر الهمزة، فإن فتحت، صارت للتعليل، فإذا قال: أنت طالق أن لم أطلقك بفتح الهمزة، طلقت في الحال، ثم الذي قاله الشيخ أبو حامد، والامام، والغزالي، والبغوي، إن هذا في حق من يعرف اللغة،(6/123)
ويفرق بين أن وإن، فإن لم يعرف، فهو للتعليق. وقال القاضي أبو الطيب: يحكم بوقوع الطلاق في الحال، إلا أن يكون الرجل ممن لا يعرف اللغة ولا يميز، وقال: قصدت التعليق، فيصدق، وهذا أشبه، وإلى ترجيحه ذهب ابن الصباغ، وبه قطع المتولي. قلت: الاول أصح، وبه قطع الاكثرون. والله أعلم. وعلى هذا القياس طرق الاثبات، فإذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار، وإن دخلت الدار فأنت طالق، طلقت في الحال وإن لم تكن دخلت الدار، ولو قال: أنت طالق إن طلقتك، حكم بوقوع طلقتين، واحدة بإقراره، وأخرى بإيقاعه في الحال، لان المعنى: أنت طالق لاني طلقتك، ولو قال: أنت طالق إذ دخلت الدار، طلقت في الحال، لان إذ للتعليل أيضا. فإن كان القائل لا يميز بين إذ وإذا، فيمكن أن يكون الحكم كما لو لم يميز بين إن وأن. فرع قال: أنت طالق طالقا، قال الشيخ أبو عاصم: لا يقع في الحال شئ، لكن إذا طلقها وقع طلقتان، والتقدير: إذا صرت مطلقة فأنت طالق، وهذا في المدخول بها، ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقا، فإن طلقها قبل الدخول، فدخلت الدار طالقا، وقعت المعلقة إذا لم تحصل البينونة بذلك الطلاق، وإن دخلت غير طالق، لم تقع تلك المعلقة، ولو قال: أنت طالق فطالق إن دخلت الدار طالقا، فهذا تعليق طلقتين بدخولها الدار طالقا، فإن دخلت طالقا، وقع طلقتان بالتعليق، ولو قال: أنت إن دخلت الدار طالقا، واقتصر عليه، قال البغوي: إن قال: نصبت على الحال، ولم أتم الكلام، قبل منه، ولم يقع شئ، وإن أراد ما يراد عند الرفع، ولحن، وقع الطلاق إذا دخلت الدار. فرع قال إسمعيل البوشنجي: لو قال: أنت طالق حين لا أطلقك، أو حيث لا أطلقك، ولم يطلقها عقبه، طلقت في الحال على قياس مذهبنا، وكذا لو(6/124)
قال: حين لم أطلقك، أو حيث لم أطلق، أو ما لم أطلقك، ولو قال: أنت طالق إن لم أضربك، أو إن لم أضربك فأنت طالق، وقال: أردت وقتا، دين، سواء عين الساعة أو وقتا قريبا أو بعيدا، وهكذا يكون الحكم في التعليق بنفي الطلاق وسائر الافعال، وبالله التوفيق.
الطرف الثالث : في التعليق بالحمل والولادة، وفيه مسائل: الاولى: إذا قال: إن كنت حاملا فأنت طالق، فإن كان الحمل بها ظاهرا، طلقت في الحال، وإلا فلا يحكم بوقوع الطلاق مع الشك، ثم ينظر، إن ولدت قبل ستة أشهر من حين التعليق، تبينا وقوع الطلاق وكونها كانت حاملا حينئذ، وإن ولدت لاكثر من أربع سنين، تحققنا أنها كانت حائلا يومئذ، فلا طلاق، وإن ولدت لستة أشهر فأكثر، ولاربع سنين فأقل، نظر، إن كان الزوج يطؤها، وكان بين الوضع والوطئ ستة أشهر فأكثر، لم يقع الطلاق، وإن لم يطأها بعد التعليق أو وطئها وكان بين الوطئ والوضع دون ستة أشهر، فقولان أو وجهان. أظهرهما: وقوع الطلاق لتبين الحمل ظاهرا، ولهذا حكمنا بثبوت النسب. والثاني: لا يقع، لان الاصل بقاء النكاح، والاحتمال قائم، ثم إذا لم يكن الحمل ظاهرا عند التعليق، فينبغي أن يفرق بين الزوجين إلى أن يستبرئها، وليمتنع الزوج من وطئها، وهل التفريق واجب والاستمتاع حرام أم لا ؟ وجهان. أحدهما: نعم، تغليبا للتحريم في موضع التردد، وبهذا قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وجماعة. وأصحهما: لا، ولكنهما مستحبان، لان الاصل عدم الحمل وبقاء النكاح، وكما لو قال: إن كان الطائر غرابا، وهذا هو نصه في الاملاء وبه قال أبو إسحق وغيره، وقطع به الحناطي. وبماذا يستبرئها ؟ فيه أوجه، أصحهما: بحيضة، والثاني: بطهر، والثالث: بثلاثة أطهار، وتفصيله يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الاستبراء. ولو جرى هذا التعليق في مراهقة لم تحض بعد، وأمكن كونها حاملا، فيشبه أن يقال: إن قلنا: الاستبراء بثلاثة أقراء، ففي حقها بثلاثة أشهر، وإن قلنا: بقرء، فهل يكفي في حقها شهر، أم يشترط ثلاثة أشهر، فيه خلاف كاستبراء الامة، والاصح هناك الاكتفاء بشهر، والذي ذكره البغوي هنا عن القفال ثلاثة أشهر حرة كانت أو أمة، لان الحمل لا يظهر في أقل من هذه المدة. وأما الآيسة، فهل يعتبر فيها مضي مدة كالعدة، أم يكتفي بدلالة اليأس ؟(6/125)
وجهان، أصحهما: الثاني، لان المقصود ظهور الحال. ولو كان قد استبرأ زوجته قبل التعليق، فوجهان. أحدهما: لا يكتفى به كما لا يكتفى بمدة العدة واستبراء الرقيقة قبل الطلاق والملك، وأصحهما: يكتفى به، لان المقصود معرفة حالها في الحمل، فلا فرق بين التقدم والتأخر، بخلاف العدة واستبراء المملوكة، ثم إذا جرى الاستبراء، لا يمنع من الوطئ بعده، فلو ولدت بعد الوطئ واقتضى الحال وقوع الطلاق، أوقعناه، وكان ذلك الوطئ وطئ شبهة، يجب به المهر دون الحد. فرع: قال: إن أحبلتك فأنت طالق وكانت حاملا لم تطلق، بل يقتضي ذلك حملا حادثا منه، فإن وضعت، أو كانت حائلا لم يمنع من الوطئ، فإذا وطئها مرة، منع حتى تحيض. فرع نص في الاملاء أنه لو قال لامرأته: إن كنت حاملا فأنت طالق على مائة دينار وهي حامل في غالب الظن، طلقت إذا أعطته مائة دينار، وله عليها مهر المثل لفساد المسى. ووجه فساط المسمى، بأن الحمل مجهول لا يمكن التوصل إليه في الحال، فأشبه إذا جعله عوضا. المسألة الثانية: قال: إن كنت حائلا فأنت طالق، وإن لم تكوني حائلا، فينظر، إن علم أنها حائل بأن كانت في سن لا يحتمل الحمل، طلقت في الحال، وإلا فلا يحكم في الحال بالطلاق، بل ينظر، إن ولدت قبل ستة أشهر من التعليق، لم تطلق، وإن ولدت لاكثر من أربع سنين، حكمنا بوقوع الطلاق عند التعليق وإن ولدت لستة أشهر، فأكثر، ولاربع سنين، فأقل، فإن وطئها الزوج وكان بين الوطئ والولادة ستة أشهر فأكثر، طلقت على الاصح، وإن كان بينهما دون ستة أو لم يطأ، لم تطلق، لانها كانت حاملا عند التعليق، ويحرم وطؤها قبل الاستبراء على الاصح. وقال القفال: لا يحرم، لكن يستحب أن لا يطأ والقول فيما يجب به الاستبراء وفي الاكتفاء بالاستبراء السابق، على ذكرنا في المسألة الاولى، وقيل الاستبراء هنا بثلاثة أطهار قطعا والمذهب الاول: وإذا استبراء حكمنا بوقوع الطلاق الظاهر الحال، فإن كان الاستبراء بثلاثة أطهار، فقد انقضت العدة، وان كان بقرء تممت العدة، فإن ظهر بعد الاستبراء حمل ووضع، فحكمه ما سبق. وأبدى الامام وشيخه احتمالا، أنها لا تطلق بالاستبراء لانه لا يفيد إلا الظن، والصفات المعلق(6/126)
بها، يعتبر فيها اليقين. ولو قال: استنقنت براءة رحمك، فأنت طالق، لم تطلق بمضي مدة الاستبراء، فكذا هنا. المسألة الثالثة: قال: إن كنت حاملا بذكر، أو إن كان في بطنك ذكر فأنت طالق طلقة، وإن كنت حاملا بأنثى، أو كان في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت أحدهما، وقع ما علقه، وإن ولدت خنثى، وقعت طلقة، ونوقف الاخرى، حتى يبين حاله، وإن ولدت ذكرا وأنثى، طلقت ثلاثا لوجود الصفتين، وتنقضي العدة في جميع هذه الصور بالولادة، ويكون الوقوع عند اللفظ. وإن قال: إن كان حملك، أو إن كان ما في بطنك ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فطلقتين، فإن ولدت ذكرا فقط أو أنثى فقط، وقع ما علق، وإن ولدت ذكرا وأنثى، لم يقع شئ، وإن ولدت ذكرين أو انثيين، فوجهان. أصحهما: يقع، وبه قال الحناطي والقاضي حسين، لان معناه: ما في البطن من هذا الجنس. والثاني: لا يقع، وبه قال الشيخ أبو محمد، وإليه ميل الامام، لان مقتضى التنكير التوحيد، هذا عند اطلاق اللفظ، فلو قال: أردت الحصر في الجنس، قبل وحكم بالطلاق قطعا، ولو ولدت ذكرا وخنثى، أو أنثى وخنثى، فعلى الوجه الثاني: لا طلاق، وعلى الاول: إن بان الخنثى المولود مع الذكر ذكرا، وقع طلقة، وإن بان أنثى، لا يقع شئ، وإن بان الخنثى المولود مع الانثى ذكرا، لم يقع شئ، وإن بان أنثى، وقع طلقتان. المسألة الرابعة: قال: إذا ولدت أو إن ولدت فأنت طالق، فولدت حيا أو ميتا، ذكرا أو أنثى، طلقت إذا انفصل الولد بكماله. قال ابن كج: ولو أسقطت ما بان فيه خلق آدمي، طلقت، وإن لم يبن فيه خلق الآدمي بتمامه لم تطلق. ولو قال: إن ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت ولدين متعاقبين، طلقت بالاول. ثم إن كانا في بطن واحد، بأن كان بينهما دون ستة أشهر، انقضت عدتها بالثاني، ولا يتكرر الطلاق، وإن كانا من بطنين، فانقضاء العدة بالثاني يبنى على لحوقه بالزوج، وهو لاحق إن ولدته لاقل من أربع سنين، وهل تحسب هذه المدة من وقت الطلاق، أم من وقت انقضاء العدة ؟ قولان مذكوران في العدة فإن ألحق انقضت به العدة،(6/127)
وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق، فهذا يقتضي التكرار، فإن ولدت أولادا في بطن واحد، نظر، إن كانوا أربعة وانفصلوا متعاقبين، طلقت ثلاثا بولادة ثلاثة، وانقضت عدتها بولادة الرابع، وإن كانوا ثلاثة، طلقت بالاوليين طلقتين، وانقضت عدتها بالثالث، ولا تطلق بولادته طلقة ثالثة، هذا هو المنصوص في الام وعامة كتب الشافعي رحمه الله، وقال في الاملاء: يقع بالثالث طلقة ثالثة، وتعتد بعد ذلك بالاقراء، والمذهب عند الاصحاب هو الاول، لان المرأة في عدة الطلقتين، ووقت انفصال الثالث هو وقت انقضاء العدة، وبراءة الرحم. ولو وقع الطلاق لوقع في تلك الحال، لما سبق أن الطلاق المعلق بالولادة يقع عند الانفصال، ولا يجوز أن يقع الطلاق في حال انقضاء العدة والبينونة، ولهذا لو قال: أنت طالق مع موتي، لم يقع الطلاق إذا مات، لانه وقت انتهاء النكاح. ولو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فطلقها، لم يقع أخرى لمصادفتها البينونة، وأما نصه في الاملاء، ففيه طريقان، أحدهما: تسليمه قولا واحدا، ووجهوه بشيئين، أحدهما: أن هذا الطلاق لا يتأخر عن العدة، بل يقارن آخرها، وإذا تقارن الوقوع وانقضاء العدة كفى، وحكم بالوقوع تغليبا للطلاق ولقوته، وهؤلاء قالوا: لو قال للرجعية: أنت طالق مع انقضاء عدتك، ففي الوقوع القولان، بخلاف ما لو قال: بعد انقضاء عدتك. وعن الخضري وغيره تخريج قول فيما إذا قال: مع موتي: أنها تطلق في آخر جزء من حياته. الشئ الثاني عن الخضري والقفال، بناء القولين على القولين، في أن الرجعية إذا طلقت، هل تستأنف العدة ؟ إن قلنا: لا، لم تطلق هنا ولم تلزم العدة، وإن قلنا نعم، فبوقوع الطلاق ارتفعت العدة، ولزمت عدة أخرى هناك، فكذا هنا. وعلى هذا حكى الامام عن القفال، أنه لا يحكم بوقوع الطلاق، وهي في بقية من العدة الماضية، ولا بوقوعه في مفتتح العدة المستقبلة، لكن يقع على منفصل الانقطاع والاستقبال، وهو كقوله: أنت طالق بين الليل والنهار، يقع لا في جزء من الليل، ولا من النهار. قال الامام: ولا معنى للمنفصل، وليس بين انقضاء العدة الاولى وافتتاح الثانية لو قدرناها زمان، والحكم(6/128)
بوقوع الطلاق في غير زمان محال. قال: وقوله: بين الليل والنهار يقع الطلاق في آخر جزء من النهار، لتكون متصفة بالطلاق في منقطع النهار، ومبتدأ الليل. والطريق الثاني: وهو الصحيح عند المعتبرين: القطع بما نص عليه في كتبه المشهورة، والامتناع من إثبات نص الاملاء قولا، وأولوه من وجهين، أحدهما: حمله على ما إذا ولدتهم دفعة في مشيمة، وفي هذه الحالة يقع بكل واحد طلقة، وتعتد بالاقراء لانها ليست حاملا وقت وقوع الطلاق، والثاني: حمله على ما إذا كان الحمل من زنا، ووطئها الزوج، يقع بكل واحد طلقة، ولا تنقضي العدة بولادتهم. أما إذا أتت بولدين متعاقبين في بطن، والتعليق بصيغة كلما فهل تنقضي عدتها بالثاني ولا يقع به طلقة أخرى، أم تقع أخرى ؟ فيه هذا الخلاف السابق. المسألة الخامسة: قال: إن ولدت ولدا، فأنت طالق طلقة، وإن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقتين، فولدت ذكرا، طلقت ثلاثا لوجود الصفتين، وإن قال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت ذكرا، طلقت طلقة وشرعت في العدة بالاقراء، وإن ولدت أنثى طلقت طلقتين واعتدت بالاقراء، وإن ولدت ذكرا وأنثى، نظر، إن ولدتهما معا، طلقت ثلاثا لوجود الصفتين معا وهي زوجة، وتعتد بالاقراء، وإن ولدت الذكر ثم الانثى، طلقت طلقة بالذكر، ولا يقع بالانثى شئ على المذهب، وتنقضي بها العدة. وعلى نصه في الاملاء، تطلق بالانثى طلقتين أخريين، وتعتد بالاقراء، وإن ولدت الانثى أولا طلقت بها طلقتين، وهل يقع بالذكر شئ ؟ فيه الخلاف فإن أشكل الحال، فلم يدر كيف ولدتهما، أو علم الترتيب ولم يعلم المتقدم، فعلى المذهب: يؤخذ باليقين وهو وقوع طلقة، والورع تركها عند احتمال المعية حتى تنكح زجا غيره. وعلى نصه في الاملاء: تطلق ثلاثا كيف كان، وتعتد بالاقراء. ولو ولدت ذكرين وأنثى، نظر، إن ولدتهم معا، طلقت ثلاثا، وإن ولدت الذكرين معا أو متعاقبين، ثم ولدت الانثى، طلقت بالولدين أو بأولهما طلقة، وتنقضي العدة بولادة الانثى على المذهب، ولا يقع بها شئ آخر. وإن ولدت الانثى ثم الذكرين متعاقبين، طلقت بالانثى طلقتين، وبالذكر الاول طلقة أخرى، وتنقضي العدة بولادة الثاني، وإن ولدتها ثم ولدتهما معا، طلقت بها طلقتين، وتنقضي العدة بالذكرين، ولا يقع شئ آخر على المذهب.(6/129)
ولو ولدت ذكرا، ثم أنثى، ثم ذكرا، طلقت طلقة ثم طلقتين، وانقضت عدتها بالذكر الاخير. فرع قال: إن كنت حاملا بذكر، فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا، تبين وقوع طلقة عند اللفظ، وانقضت العدة بالولادة، وإن ولدت أنثى، وقع بالولادة طلقتان، وتعتد بالاقراء، وإن ولدت ذكرا وأنثى، نظر، إن ولدت الانثى أولا، وقع بولادتها طلقتان، وبولادته نتبين وقوع طلقة أولا لكونها كانت حاملا بذكر، وتنقضي عدتها عن الثلاث بولادة الذكر، وإن ولدت الذكر أولا، تبين وقوع طلقة، وتنقضي العدة بولادة الانثى، ولا يقع شئ آخر على المذهب، وإن ولدتهما معا، فكذلك يتبين وقوع طلقة، ولا يقع بالولادة شئ على المذهب. المسألة السادسة: قال لاربع نسوة حوامل: كلما ولدت واحدة منكن، فصاحباتها طوالق، فولدن جميعا. فلهن أحوال، إحداها: أن يلدن معا، فتطلق كل واحدة ثلاثا وعدة جميعهن بالاقراء. الحالة الثانية: أن يلدن مرتبا، فوجهان، أصحهما وبه قال ابن الحداد: أنه إذا ولدت الاولى، طلقت كل واحدة من الباقيات طلقة، فإذا ولدت الثانية، انقضت عدتها وبانت، وتقع على الاولى بولادة هذه طلقة، وعلى كل واحدة من الاخريين طلقة أخرى إن بقيت عدتهما، فإذا ولدت الثالثة انقضت عدتها عن طلقتين، ووقع على الاولى طلقة ثانية إن بقيت في العدة، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، فإذا ولدت الرابعة، انقضت عدتها عن ثلاث طلقات، ووقعت ثالثة على الاولى، وعدة الاولى بالاقراء، وفي استئنافها العدة للطلقة الثانية والثالثة، الخلاف في طلاق الرجعية، والوجه الثاني وبه قال ابن القاص، واختاره القاضي أبو الطيب، أن الاولى لا تطلق أصلا، وتطلق كل واحدة من الاخريات طلقة واحدة، وتنقضي عددهن بولادتهن، لان الثلاث في وقت ولادة الاولى صواحبها، لان الجميع زوجاته، فيطلقن طلقة طلقة، فإذا طلقن، خرجن عن كونهن صواحب للاولى، وكون الاولى صاحبة لهن، فلا تؤثر بعد ذلك ولادتهن في حقها، ولا في حق بعضهن، ومن قال بالاول، قال: ما دمن في العدة فهن زوجات وصواحب، ولهذا لو حلف بطلاق زوجاته،(6/130)
دخلت الرجعية فيه. الحالة الثالثة: أن تلد ثنتان معا (ثم ثنتان معا). فعلى قول ابن الحداد: تطلق كل واحدة من الاوليين بولادة الاخرى طلقة، وكل واحدة من الاخريين بولادة الاوليين طلقتين، فإذا ولدت الاخريان، طلقت كل واحدة من الاوليين طلقتين أخريين، ولا يقع على الاخريين شئ آخر، وتنقضي عدتهما بولادتهما على المذهب، وعلى نصه في الاملاء: يقع على كل واحدة منهما طلقة ثالثة وتعتدان بالاقراء، وعلى قول ابن القاص: تطلق كل واحدة من الاوليين طلقة، وكل واحدة من الاخريين طلقتين فقط، وتنقضي عدة الاخريين بالولادة، وتعتد الاوليان بالاقرار على الوجهين. الحالة الرابعة: أن تلد ثلاثا منهن معا، ثم الرابعة، فيقع على الرابعة ثلاث طلقات بلا خلاف، وتطلق كل واحدة من الاوليات على قول ابن الحداد ثلاثا، منها طلقتان بولادة اللتين ولدتا معها، وثالثة بولادة الرابعة إن بقين في العدة، وعلى قول ابن القاص: لا تطلق كل واحدة من الثلاث إلا طلقتين، ولو كان الامر بالعكس، ولدت واحدة، ثم ولدت الثلاث معا، فعلى قول ابن الحداد: تطلق كل واحدة من الثلاث طلقة بولادة الاولى، ثم تنقضي عدتهن بولادتهن، فلا يقع عليهن شئ آخر على المذهب، وعلى نصه في الاملاء: يقع على كل واحدة طلقتان أخريان، ويعتددن بالاقراء، والاولى تطلق بولادتهن ثلاثا. وعلى قول ابن القاص: لا يقع على الاولى شئ، ويقع على كل واحدة من الباقيات طلقة فقط. الحالة الخامسة: أن تلد ثنتان على الترتيب، ثم ثنتان معا فيقع على الاولى ثلاث بولادتهن، وعلى كل واحدة من الباقيات طلقة بولادة الاولى. فإذا ولدت الثانية، انقضت عدتها، ووقعت على كل واحدة من الاخريين طلقة أخرى، فإذا ولدت الاخريان، انقضت عدتهما بولادتهما، ولا يقع على واحدة منهما شئ بولادة صاحبتها على المذهب، هذا قياس ابن الحداد، وعلى قول ابن القاص: لا يقع على الاولى شئ، ولا على كل واحدة من الباقيات إلا طلقة، ولو ولدت ثنتان معا، ثم ثنتان مرتبا، فعلى قياس ابن الحداد: تطلق كل واحدة من الاوليين بولادتهما طلقة، وكل واحدة من الاخريين طلقتين. فإذا ولدت الثالثة انقضت عدتها، وطلقت(6/131)
كل واحدة من الاوليين طلقة أخرى إن بقيتا في العدة، وطلقت الرابعة طلقة ثالثة، فإذا ولدت، انقضت عدتها، وطلقت كل واحدة من الاوليين طلقة ثالثة إن بقيتا في العدة، وعلى قياس ابن القاص: لا تطلق كل واحدة من الاوليين إلا طلقة، ولا كل واحدة من الاخريين إلا طلقتين. فرع قال ابن الحداد: ولو قال للاربع: كلما ولدت كل واحدة منكن فصواحبها طوالق، ثم طلق كل واحدة منهن طلقة منجزة، ثم ولدن على الترتيب، فالاولى مطلقة بالتنجيز، وتنقضي عدتها بولادتها، ويقع على الثانية بولادة الاولى طلقة، وهي مطلقة بالتنجيز، وتنقضي عدتها عن طلقتين بولادتها، وتطلق كل واحدة من الثالثة والرابعة ثلاثا، واحدة بالتنجيز، واثنتان بولادة الاوليين، وعلى قياس ابن القاضي: لا يقع على الجميع إلا المنجزة. فرع قال للاربع: كلما ولدت واحدة منكن فأنتن طوالق، فقد علق بولادة كل منهن طلاق الوالدة وغيرها، فإن ولدن معا طلقن ثلاثا ثلاثا، وإن ولدن مرتبا، طلقت الاولى ثلاثا، طلقة بولادة نفسها، وثانية بولادة الثانية، وثالثة بولادة الثالثة إن بقيت في العدة، وتعتد بالاقراء وتطلق الثانية بولادة الاولى، ولا تطلق بولادة نفسها على المذهب، وتنقضي عدتها، وعلى نصه في الاملاء: تطلق أخرى وتعتد بالاقراء، وتطلق الثالثة بولادة الاوليين، وهل تطلق بولادة نفسها ثالثة ؟ فيه الخلاف، والرابعة تطلق بولادة الاوليات ثلاثا، وتنقضي عدتها بولادتها، ولا يقع بولادتها شئ على الاوليات لبينونتهن. فرع: قال للاربع: كلما ولدت ثنتان منكن، فالاخريان طالقان، فولدن مرتبا، لم تطلق واحدة بولادة الاولى، لانه علق بولادة ثنتين، فإذا ولدت الثانية، طلقت الثالثة والرابعة طلقة طلقة، ولا يقع على الاوليين شئ، لان المعلق به طلاق ثنتين بولادة أخريين. وإذا ولدت الثالثة، فوجهان، أصحهما: لا تضم الثالثة إلى الثانية، ولا يقع بولادتها طلاق حتى تلد الرابعة، فإذا ولدت، فعلى قياس ابن الحداد: تطلق الاوليان طلقة طلقة، ويعتدان بالاقراء، وتنقضي عدة الاخريين بولادتهما، وعلى قياس ابن القاص: لا تطلق الاوليان بولادة الاخريين،(6/132)
والوجه الثاني، أن الثالثة تضم إلى الثانية، وتطلق بولادتهما الاولى طلقة، والرابعة طلقة ثانية، ثم إذا ولدت الرابعة، طلقت الثانية، وطلقت الاولى طلقة ثانية. فرع تحته امرأتان فقال: كلما ولدت واحدة منكما فأنتما طالقان، فولدتا مرتبا، وقع بولادة الاولى عليها طلقة، وعلى الاخرى طلقة، فإذا ولدت الثانية، وقع على الاولى طلقة أخرى إن بقيت في العدة، وتنقضي عدة الثانية، ولا يقع عليها طلاق آخر على المذهب، ولو ولدت منهما زينب يوم الخميس، وعمرة يوم الجمعة، ثم زينب يوم السبت، وعمرة يوم الاحد، وقع بولادة يومي الخميس والجمعة على كل واحدة طلقتان، وتنقضي عدة زينب بولادتها يوم السبت، ولا يقع عليها شئ آخر على المذهب، ويقع على عمرة طلقة ثالثة، وتنقضي عدتها بولادتها يوم الاحد، ولو قال: كلما ولدتما فأنتما طالقان، فولدت إحداهما ثلاثة أولاد في بطن، ثم الثانية كذلك، لم تطلق واحدة منهما بولادة الاولى، لان التعليق بولادتهما جميعا، فإذا ولدت الثانية ولدا، طلقت كل واحدة طلقة، فإذا ولدت الثاني، طلقت كل واحدة طلقة ثانية، فإذا ولدت الثالث، طلقت الاولى طلقة ثالثة، ولا تطلق الثانية، وتنقضي عدتها عن طلقتين على المذهب، وفيه نصه في الاملاء. ولو ولدت أحدهما ولدا، ثم الاخرى ولدا ثم الاولى ولدا، وهكذا إلى أن ولدت كل واحدة ثلاثة في بطن، فبولادة الثانية ولدها الاول، يقع على كل واحدة طلقة، وبولادتها الثاني، يقع على كل واحدة طلقة ثانية، ثم إذا ولدت الاولى الولد الثالث، انقضت عدتها، وإذا ولدت الثانية الولد الثالث، هل يقع عليها طلقة ثالثة، أم لا وتنقضي عدتها ؟ فيه خلاف المذهب والاملاء، ولو ولدت إحداهما ولدا، ثم الثانية ثلاثة على الترتيب، ثم الاولى ولدين، فبولادة الثانية الولد الاول، يقع على كل واحدة طلقة، ولا يقع بولادتها الولد الثاني والثالث شئ، وتنقضي بالثالث عدتها، فإذا ولدت الاولى الولد الثاني، انضمت ولادتها إلى ولادة الثانية الولد الثاني، فيقع على الاولى طلقة ثانية، فإذا ولدت الثالث انقضت عدتها، ولم يقع عليها شئ آخر على المذهب. وعلى نصه في الاملاء: يقع ثالثة بضم هذه الولادة إلى ولادة الثانية الولد الثالث. المسألة السابعة: قد سبق أن الطلاق المعلق بالولادة، إنما يقع إذا انفصل الولد بتمامه، فلو خرج بعضه ومات الزوج أو المرأة، لم يقع الطلاق، وورث الباقي(6/133)
منهما الميت، ولو قال: إن ولدت، فعبدي حر، فخرج بعض الولد، وباع العبد حينئذ وتخايرا، ثم ولدت، لم يعتق العبد، ولو انفصل الولد قبل انقضاء الخيار، عتق العبد، لانه له العتق في زمن الخيار. الثامنة: في فتاوى القفال: أنه إذا قال: إن كنت حاملا، فأنت طالق، فقالت: أنا حامل، فإن صدقها الزوج، حكم بوقوع الطلاق في الحال، وإن كذبها، لم تطلق حتى تلد، فإن لمسها النساء، فقال أربع منهن فصاعدا: إنها حامل، لم تطلق، لان الطلاق لا يقع بقول النسوة. ولو علق الطلاق بالولادة، فشهد بها أربع نسوة، لم يقع الطلاق وإن ثبت النسب والميراث، لانهما من توابع الولادة وضروراتها، بخلاف الطلاق. التاسعة: قال: إن كان أول ولد تلدينه من هذا الحمل ذكرا فأنت طالق، فولدت ذكرا ولم يكن غيره، قال الشيخ أبو علي: اتفق أصحابنا على أنه يقع الطلاق، وليس من شرط كونه أولا أن تلد بعده آخر، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه غيره، وفي التتمة: وجه ضعيف: أنه لا يقع شئ، والاول يقتضي آخر، كما يقتضي الآخر أولا. قلت: الصواب ما نقله الشيخ أبو علي. قال الله تعالى: * (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الاول) *. وهؤلاء المذكورون كانوا يقولون: ليس لهم إلا موتة. وقال الامام أبو إسحق الزجاج: معنى الاولى في اللغة: ابتداء الشئ، قال: ثم يجوز أن يكون له ثان، ويجوز أن لا يكون، وقد بسطت أنا الكلام في إيضاح، هذا بدلائله في تهذيب اللغات. والله أعلم. ولو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا، فأنت طالق واحدة، وإن كان أنثى(6/134)
فطالق ثلاثا، فولدت ذكرا وأنثى، نظر، إن ولدت الذكر أولا، طلقت واحدة وانقضت عدتها بولادة الانثى، وإن ولدت الانثى أولا، طلقت ثلاثا وانقضت عدتها بالذكر، وإن ولدتهما معا، لم يقع شئ، لانه لا يوصف واحد منهما بالاولية، ولهذا لو أخرج رجل دينارا بين المتسابقين، وقال: من جاء منكما أولا، فهو له، فجاءا معا، لم يستحقا شيئا. قال الشيخ أبو علي: ويحتمل أن تطلق ثلاثا، لان كلا منهما يوصف بأنه أول ولد إذا لم تلد قبله غيره، ولانه لو قال: أول من رد آبقي، فله دينار، (فرده اثنان) استحقا الدينار. قال: وعرضته على الشيخ يعني القفال، فلم يستبعده، ولو لم يعلم، أولدتهما معا، أو مرتبا، لم تطلق لاحتمال المعية، ولو علم الترتيب ولم يعلم السابق، وقعت طلقة لانه اليقين، ولو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، وإن كانت أنثى فضرتك طالق، فولدتهما مرتبا، ولم يعلم السابق، فقد طلقت إحداهما، فيوقف عنهما، ويؤخذ بنفقتهما حتى تبين المطلقة منهما. ولو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، وإن كان أنثى، فعبدي حر، فولدتهما مرتبا، ولم يعلم السابق، قال الشيخ أبو علي: يقرع بين المرأة والعبد، فإذا خرجت القرعة على العبد، عتق، وإن خرجت على المرأة، لم تطلق. فرع: قال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فطلقتين، فولدت ميتا ودفن ولم يعرف حاله، فهل ينبش ليعرف ؟ يحتمل وجهين، قاله أبو العباس الروياني. قلت: الراجح النبش. والله أعلم.
الطرف الرابع : في التعليق بالحيض. قال: إذا حضت حيضة فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، وحينئذ يقع سنيا. ولو قال: إن حضت فأنت طالق، ولم يبين ولم يزد عليه، لم يعتبر تمام الحيضة، ومتى يحكم بالطلاق ؟ فيه طريقان، المذهب وبه قطع الجمهور: يقع برؤية الدم، فإن انقطع قبل يوم وليلة ولم يعد إلى خمسة عشر، تبينا أنه لم يقع. والطريق الثاني، على وجهين. أحدهما: هذا، والثاني، وهو الراجح عند الامام(6/135)
والغزالي: لا يحكم بوقوع الطلاق حتى يمضي يوم وليلة، فحينئذ تبين وقوعه من حين رأت الدم. قال الامام: وعلى هذا هل يحرم الاستمتاع بها ناجزا ؟ حكمه كما لو قال: إن كنت حاملا فأنت طالق وقد سبق. ولو قال: إن طهرت، أو إذا طهرت فأنت طالق، طلقت في أول الطهر. ولو قال: إذا طهرت طهرا واحدا، فأنت طالق، قال الحناطي: تطلق إذا انقضى الطهر ودخلت في الدم، وحكى وجها: أنها تطلق إذا مضى جزء من الطهر، والصحيح الاول، ثم قوله: إن حضت، أو إذا حضت، يقتضي حيضا مستقبلا، فلو كانت في الحال حائضا، لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض. ولو قال والثمار مدركة: إذا أدركت الثمار، فأنت طالق، فهو تعليق بالادراك المستأنف في العام المستقبل، وعلى هذا قياس سائر الاوصاف، إلا أنه سيأتي في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى. إن استدامة الركوب واللبس لبس وركوب، فليكن الحكم كذلك في الطلاق. وفي الشامل والتتمة وجه: أنه إذا استمر الحيض بعد التعليق بساعة، طلقت، ويكون دوام الحيض حيضا، والصحيح ما سبق. فرع قال: كلما حضت فأنت طالق، طلقت ثلاثا في أول ثلاث حيض مستقبلة، ويكون الطلاق بدعيا. ولو قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق، طلقت ثلاثا في انتهاء ثلاث حيض مستقبلة، ويكون طلاق سنة. فرع قال: إن حضت حيضة، فأنت طالق، وإن حضت حيضتان، فأنت طالق، فإذا حاضت حيضة، وقع طلقة، فإذا حاضت أخرى، طلقت ثانية، ولو قال: إن حضت حيضة فأنت طالق، ثم إن حضت حيضتين، فأنت طالق، فإنما تقع الثانية إذا حاضت بعد الاولى حيضتين، ولو قال: كلما حضت حيضة، فأنت طالق، وكلما حضت حيضتين، فأنت طالق، فحاضت مرة، طلقت طلقة، وإذا حاضت أخرى، طلقت ثانية وثالثة. فرع قال لامرأتيه: إن حضتما حيضة فأنتما طالقان، فثلاثة أوجه: أصحها: يلغى قوله: حيضة، فإذا ابتدأ بهما الدم، طلقتا. والثاني: إذا تمت الحيضتان، طلقتا، وهذا احتمال راه الامام. والثالث: أنه لغو ولا تطلقان وإن حاضتا، ويجري الخلاف في قوله: إن ولدتما ولدا، فعن ابن القاص: أنه لغو،(6/136)
وعن غيره، أنه كقوله: إذا ولدتما. قال الحناطي: فإن قال: إن ولدتما ولدا واحدا، فأنتما طالقان، فإنه محال، ولا يقع الطلاق، وعلى الوجه الذي يقول: يقع بالتعليق على محال، يقع هنا في الحال وإن لم تلدا. فصل علق طلاقها على حيضها، فقالت: حضت، فأنكر الزوج، صدقت بيمينها، وكذلك الحكم في كل ما لا يعرف إلا منها، كقوله: إن أضمرت بغضي فأنت طالق، فقالت: أضمرته، تصدق بيمينها، ويحكم بوقوع الطلاق. ولو علق بزناها، فوجهان، أحدهما: تصدق فيه، لانه خفي تندر معرفته، فأشبه الحيض، وأصحهما عند الامام وآخرين: لا تصدق كالتعليق ونحوه، لان معرفته ممكنة، والاصل النكاح، وطرد الخلاف في الافعال الخفية التي لا يكاد يطلع عليهما. ولو علق بالولادة، فادعتها، فأنكر وقال: هذا الولد مستعار، لم يصدق على الاصح، وتطالبه بالبينة كسائر الصفات. ولو علق طلاق غيرها بحيضها، لم يقبل قولها فيه إلا بتصديق الزوج. ولو قال: إذا حضت، فأنت وضرتك طالقان، فقالت: حضت وكذبها فحلفت، طلقت ولم تطلق الضرة على الصحيح. وعن صاحب التقريب: طلاق الضرة أيضا. ولو قال لهما: إن حضتما فأنتما طالقان، فهو تعليق لطلاقهما على حيضهما جميعا، فإن حاضتا معا أو مرتبا، طلقتا، فإن كذبهما، صدق بيمينه، ولم تطلقا، وإن صدق إحداهما فقط، طلقت المكذبة بيمينها على حيضها، ولا تطلق المصدقة. وعلى قول صاحب التقريب: تطلقان. ولو قال لحفصة: إن حضت فعمرة طالق، وقال لعمرة: إن حضت فحفصة طالق، فقالتا: حضنا، فإن صدقهما، طلقتا، وإن كذبهما، لم تطلقا، وإن كذب إحداهما، طلقت المكذبة دون المصدقة. فرع: تحته ثلاث نسوة، فقال: إذا حضتن فأنتن طوالق، فقلن: حضنا، وصدقهن، طلقن، وإن كذبهن أو كذب ثنتين، لم تطلق واحدة منهن، وإن كذب واحدة فقط، طلقت فقط. فرع: قال لاربع نسوة: إن حضتن، فأنتن طوالق، فقلن: حضنا، وصدقهن، طلقن، وإن كذبهن، أو كذب ثنتين أو ثلاثا وحلف، لم تطلق واحدة(6/137)
منهن، وإن كذب واحدة فقط، طلقت فقط، وعلى قياس صاحب التقريب: تطلقن، وكذا في صورة الثلاث. فرع قال لاربع: كلما حاضت واحدة منكن فأنتن طوالق، فإذا حاض ثلاث منهن، طلقن كلهن ثلاثا (ثلاثا) وإن قلن: حضنا، فكذبهن وحلف، طلقت كل واحدة طلقة، لان يمينه تكفي في حيضها. ولو صدق واحدة فقط، طلقت طلقة، وطلقت المكذبات طلقتين طلقتين. ولو صدق ثنتين، طلقتا طلقتين طلقتين، وطلقت المكذبتان ثلاثا ثلاثا، ولو صدق ثلاثا، طلق الجميع ثلاثا ثلاثا. فرع: قال: كلما حاضت واحدة منكن فصواحبها طوالق، فقلن: حضنا، وصدقهن، طلقن ثلاثا ثلاثا، وإن كذبهن، لم يقع شئ، وإن صدق واحدة، لم يقع عليها شئ، وطلقت الباقيات طلقة طلقة، وإن صدق ثنتين، طلقتا طلقة طلقة، وطلقت المكذبات طلقتين طلقتين، وإن صدق ثلاثا، طلقن طلقتين طلقتين، وطلقت المكذبة ثلاثا. فرع: قال: إذا رأيت الدم، فأنت طالق، فعن أبي العباس الروياني، وجهان، أصحهما: حمله على دم الحيض، لانه المعتاد. والثاني: على كل دم، فعلى الاولى: لا تعتبر رؤيتها حقيقة، بل المعتبر العلم كرؤية الهلال. فرع: ذكر إسمعيل البوشنجي، أنه لو قال: أنت طالق ثلاثا، في كل حيض طلقة، وهي حائض في الحال، فالذي يقتضيه اللفظ، وقوع طلقة في الحال، وثانية في أول الحيض الثاني، وثالثة في أول الثالث. وأنه لو قال: إذا حضت نصف حيضة، فأنت طالق، وعادتها ستة أيام مثلا، فإذا مضت ثلاثة أيام، حكم بالطلاق. فرع: ذكر الامام إشكالا على وقوع الطلاق، بتصديق الزوج لها، وقال: بم يعرف الزوج صدقها ؟ وكيف يقع الطلاق بقوله: صدقت وليس هو إقرارا، فيؤاخذ به ؟ وغايته أن يظن صدقها بقرائن، ومعلوم أنه لو قال: سمعتها تقول: حضت وأنا أجوز كذبها وأظن صدقها، لا يحكم بوقوع الطلاق، فليكن كذلك إذا أطلق التصديق، إذ لا سند له إلا هذا. قال: وسمعت بعض أكابر العراق يحكي عن القاضي أبي الطيب، عن الشيخ أبي حامد، ترددا في وقوع الطلاق، ولهذا(6/138)
الاشكال قال: وسبيل الجواب عما أطبق عليه الاصحاب، أن الاقرار حجة شرعية كاليمين، واليمين يستند إلى قرائن يفيد الظن القوي، كما تحلف المرأة على نية الزوج في الكنايات، فلا يبعد أن يستند الاقرار إليها، فليحكم به. فرع: إذا صدقناها في الولادة، فإنما يقبل قولها في حقها دون غيرها كما قلنا في الحيض. فلو قال: إن ولدت فأنت طالق وعبدي حر، فقالت: ولدت وحلفت، طلقت على هذا الوجه، ولم يعتق العبد قطعا، ولو قال لامته: إذا ولدت فأنت حرة وامرأتي طالق، فقالت: ولدت، عتقت ولم تطلق الزوجة. ولو قال: إذا ولدت فامرأتي طالق وولدك حر، وكانت حاملا بمملوك له، لم تطلق الزوجة ولم يعتق الولد بقولها: ولدت، لانه ليس في حقها. فرع: ذكر القفال تفريعا على أنه لا يقبل قولها: زنيت، إذا علق الطلاق بزناها، وبه أجاب أنه ليس لها تحليفه على أنه لا يعلم أنها زنت، ولكن إن ادعت وقوع الفرقة، حلف أنه لم تقع فرقة، وكذا في التعليق بالدخول وسائر الافعال.
الطرف الخامس : في التعليق بالمشيئة. أما تعليقه بمشيئة الله تعالى، فسبق بيانه، وأما التعليق بمشيئة غيره، فينظر، إن علق بمشيئة الزوجة مخاطبة، فقال: أنت طالق إن شئت، اشترط مشيئتها في مجلس التواجب، كما سبق في كتاب الخلع، فإن أخرت، لم تقع، وفيه قول شاذ ذكرناه في كتاب الخلع. ولو قال لاجنبي: إن شئت فزوجتي طالق، فالاصح أنه لا يشترط مشيئته على الفور، وقيل: كالزوجة، ورجحه المتولي. ولو علق بمشيئتها لا مخاطبة، فقال: زوجتي طالق إن شاءت، لم تشترط المشيئة على الفور على الاصح، وقيل: يشترط قولها: شئت في الحال إن كانت حاضرة، وإن كانت غائبة، فتبادر بها إذا بلغها الخبر. ولو قال: امرأتي طالق إذا شاء زيد، لم يشترط الفور بالاتفاق. ولو قال: إن شئت وشاء فلان، فأنت طالق، اشترط مشيئتها على الفور وفي مشيئة فلان الوجهان، أصحهما: لا يشترط الفور. فصل علق بمشيئتها أو مشيئة غيرها، فقال المعلق بمشيئة الزوج: شئت إن شئت، أو إن شاء فلان، فقال الزوج أو فلان: شئت، أو قال: شئت غدا، لم يقع الطلاق، لانه علق على مشيئة مجزوم بها، ولم تحصل. وحكى الحناطي(6/139)
وجها: أنه يصح تعليق المشيئة، ويقع الطلاق إذا قال الزوج: شئت، وهذا غريب ضعيف. ولو شاء المعلق بمشيئته بلسانه وهو كاره بقلبه، طلقت في الظاهر، وفي الباطن وجهان، قال أبو يعقوب الابيوردي: لا يقع، كما لو أخبرت بالحيض كاذبة، وإلى هذا مال القاضي حسين، وقال القفال: يقع، قال البغوي: وهو الاصح، لان التعليق في الحقيقة بلفظ المشيئة. قلت: قال الرافعي في المحرر: الاصح الوقوع باطنا. والله أعلم. ولو وجدت الارادة دون اللفظ، لم تطلق على قول القفال، وعلى قول الابيوردي وجهان. فرع علق بمشيئتها وهي صبية، أو بمشيئة صبي، فقالت: شئت، أو قال: شئت، لم تطلق على الاصح، وقيل: تطلق إن شاءت وهي مميزة، كما لو قال لها: أنت طالق إن قلت: شئت، أما لو علق بمشيئتها وهي مجنونة أو صغيرة لا تميز، أو بمشيئة غيرها، وهو بهذه الصفة، فقالت: شئت، فلا تقع بلا خلاف. ولو قال المعلق بمشيئته: شئت وهو سكران، خرج على الخلاف في أنه كالصاحي أو المجنون، ولو علق بمشيئة أخرس، فقال بالاشارة: شئت، طلقت، وإن علق بمشيئة ناطق، فخرس، وأشار بالمشيئة، طلقت على الاصح. فرع قال: أنت طالق إذا شئت، فهو كقوله: إن شئت، وإن قال: متى شئت، طلقت متى شاءت، وإن فارقت المجلس. فرع إذا علق بمشيئتها، فإن أراد أن يرجع قبل مشيئتها، لم يكن له كسائر التعليقات. فرع قال: أنت طالق إن شاءت الملائكة، لم تطلق، لان لهم مشيئة، وحصولها غير معلوم، ولو قال: إن شاء الحمار، فكقوله: إن صعدت السماء، ولو قال: إن شئت أنا، فمتى شاء وقع. فرع قال لامرأتيه: إن شئتما فأنتما طالقان، فشاءت كل واحدة طلاق نفسها دون ضرتها، قال اسماعيل البوشنجي: القياس وقوع الطلاق، لان المفهوم(6/140)
منه تعليق كل واحدة بمشيئتها، وفي التتمة ما يقتضي تعليق طلاق كل واحدة بالمشيئتين. فرع ذكر البغوي، أنه لو قال: أنت طالق كيف شئت، قال أبو زيد والقفال: تطلق شاءت أم لم تشأ، وقال الشيخ أبو علي: لا تطلق حتى توجد مشيئة في المجلس، إما مشيئة أن تطلق، وإما مشيئة أن لا تطلق، قال البغوي: وكذا الحكم في قوله: أنت طالق على أي وجه شئت. ولو قال: أنت طالق إن شئت أو أبيت، فمقتضى اللفظ وقوع الطلاق بأحد الامرين: المشيئة أو الاباء، كما لو قال: أنت طالق إن قمت أو قعدت، ولو قال: أنت طالق، شئت أو أبيت، طلقت في الحال، إذ لا تعليق في هذا. فصل قال: أنت طالق ثلاثا، إلا أن يشاء أبوك أو فلان واحدة، فشاء واحدة، فثلاثة أوجه، أصحها: لا يقع شئ، كما لو قال: أنت طالق إلا أن يدخل أبوك الدار، فدخل. وعلى هذا لو شاء اثنتين أو ثلاثا، لم يقع شئ أيضا، لانه شاء واحدة وزاد، والثاني: أنه إذا شاء واحدة وقعت، والثالث، يقع طلقتان، وتقديره: أنت طالق ثلاثا إلا أن يشاء أبوك أن لا يقع واحدة منها، فلا يقع، فإذا قلنا بالاول، فقال: أردت المراد بالثاني، قبل، وإن قلنا: بالثاني، فقال: أردت معنى الاول، قبل أيضا على الاصح فلا يقع شئ، ولو قال: أنت طالق واحدة إلا أن يشاء أبوك، أو إلا أن تشائي ثلاثا، فإن شاء أو شاءت ثلاثا، لم يقع شئ تفريعا على الاصح. وإن لم يشأ شيئا، أو شاءت واحدة أو ثنتين، وقعت واحدة. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت: شئت واحدة أو ثنتين، لم يقع شئ، ولو قال: أنت طالق واحدة إن شئت، فقالت: شئت ثنتين أو ثلاثا، وقعت الواحدة. فرع قال: أنت طالق لولا أبوك، لم تطلق على الصحيح. وفيه وجه ضعيف حكاه المتولي. ولو قال: أنت طالق لولا أبواك لطلقتك. قال الاصحاب: لا تطلق، لانه أخبر أنه لولا حرمة أبيها لطلقها، وأكد هذا الخبر بالحلف بطلاقها، كقوله: والله لولا أبوك لطلقتك. قال المتولي: إنما لا تطلق إذا كان صادقا في خبره، فإن كان كاذبا، طلقت في الباطن، وإن أقر أنه كان كاذبا، طلقت في الظاهر أيضا.(6/141)
فرع قال: أنت طالق إلا أن يشاء أو يبدو لي، قال البغوي: يقع في الحال. فرع قال البغوي: لو قال لها: أحبي الطلاق، أو اهوي، أو أريدي، أو ارضي، وأراد تمليكها الطلاق، فهو كقوله: شائي أو اختاري، فإذا رضيت أو أحبت، أو أرادت، وقع الطلاق، هذا لفظه. وقال البوشنجي: إذا قال: شائي الطلاق، ونوى وقوع الطلاق بمشيئتها فقالت: شئت، لا تطلق، وكذا لو قال: أحبي أو أريدي، لانه استدعى منها المشيئة ولم يطلقها، ولا علق طلاقها، ولا فوضه إليها، ولو قدر أنه تفويض، فقولها: شئت ليس بتطليق، وهذا أقوى. ولو قال: إذا رضيت أو أحببت أو أردت الطلاق، فأنت طالق، فقالت: رضيت أو أحببت أو أردت، طلقت. ولو قالت: شئت، قال البوشنجي: ينبغي أن لا يقع، وكذا لو قال: إن شئت، فقالت: أحببت أو هويت، لان كلا من لفظي المشيئة والمحبة يقتضي ما لا يقتضيه الآخر. ولهذا يقال: الانسان يشاء دخول الدار، ولا يقال: يحبه، ويحب ولده، ولا يسوغ لفظ المشيئة فيه. فرع قال: أنت طالق إلا أن يرى فلان غير ذلك، أو إلا إن يشاء أو يريد غير ذلك، أو إلا أن يبدو لفلان غير ذلك، فلا يقع الطلاق في الحال، بل يقف الامر على ما يبدو من فلان، ولا يختص ما يبدو منه بالمجلس. ولو مات فلان وفات ما جعله مانعا من الوقوع، تبين وقوع الطلاق قبيل موته. فرع ذكر البوشنجي. أنه لو قال: أنت طالق إن لم يشأ فلان، فقال فلان: لم أشأ، وقع الطلاق. وكذا لو قال: إن لم يشأ فلان طلاقك اليوم، فقال فلان في اليوم: لا أشاء، وقع الطلاق، وقياس التعليق ينفي الدخول وسائر الصفات أن يقال: إنه وإن لم يشأ في الحال، فقد يشاء بعد، فلا يقع الطلاق إلا إذا حصل اليأس، وفاتت المشيئة. وفي صورة التقييد باليوم، لا يقع إلا إذا مضى اليوم خاليا عن المشيئة، ويجوز أن يوجه ما ذكره البوشنجي بأن كلام المعلق محمول على تلفظه بعدم المشيئة، فإذا قال: لم أشأ، فقد تحقق الوصف.(6/142)
الطرف السادس : في مسائل الدور فإذا قال لها: إذا طلقتك، أو إن طلقتك، أو متى طلقتك، أو مهما طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم طلقها، فثلاثة أوجه أحدها: لا يقع عليها طلاق أصلا، عملا بالدور وتصحيحا له، لانه لو وقع المنجز لوقع قبله ثلاث، وحينئذ فلا يقع المنجز للبينونة، وحينئذ لا يقع الثلاث، لعدم شرطه وهو التطليق. والوجه الثاني: يقع المنجز فقط. والثالث: يقع ثلاث تطليقات، المنجزة، وطلقتان من المعلق. وقيل على هذا: يقع المعلقات دون المنجزة، قال الامام: وهو بعيد، ثم الوجهان الاولان يجريان في المدخول بها وغيرها، وأما الثالث، فمختص بالمدخول(6/143)
بها، فإن غيرها لا يتعاقب عليها طلاقان. ولو قال لرقيق: إن أعتقك، فأنت حر قبله، ثم أعتقه، عتق على الوجه الثاني دون الاول، ولو قال: إذا طلقتك، فأنت طالق ثلاثا قبله بيوم، وأمهل يوما ثم طلقها، ففيه الخلاف، ولو طلق قبل تمام يوم من وقت التعليق، وقع المنجز بلا خلاف، ولا يقع شئ من المعلق، لان الوقوع لا يسبق اللفظ. ولو قال: متى طلقتك، فأنت طالق قبله بشهرين أو بسنة، فإن طلقها قبل مضي تلك المدة، وقع المنجز فقط بلا خلاف، وإن مضت تلك المدة، فعلى الوجه الاول، وإن كانت غير مدخول بها، لم يقع شئ، وإن كانت مدخولا بها، فإن كانت عدتها منقضية في تلك المدة لو أوقعنا طلقة من الوقت الذي ذكره، لم يقع شئ أيضا، وإن لم تكن منقضية، وقع عليها طلقتان، وعلى الوجه الثاني: إن لم يكن مدخولا بها، وقع ما نجزه، وإن كانت مدخولا بها، وكانت عدتها منقضية في تلك المدة، فكذلك، وإن كانت غير منقضية، وقع طلقتان. ولو قال: أنت طالق اليوم ثلاثا إن طلقتك غدا واحدة، ثم طلقها غدا واحدة، ففيه الاوجه، وإذا كان التعليق بالتطليق كما صورناه في هذه المسائل، فلو كان قد علق طلاقها بدخول الدار ونحوه قبل التعليق بالتطليق، ثم دخلت الدار، يقع المعلق بالدخول بلا خلاف، لانه ليس بتطليق، وكذا لو وكل وكيلا بتطليقها، لانه لم يطلقها الزوج، إنما وقع عليها طلاقه. أما إذا قال: إن وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثا، فسواء طلق بنفسه أو بوكيله، هكذا ذكره الامام والمتولي، ولو علق طلاقها بدخول الدار، ثم قال: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، أو قال: إن حنثت في يميني فأنت طالق قبله ثلاثا ثم دخل الدار، فهل يقع المعلق بالدخول إذا فرعنا على الوجه الاول ؟ وجهان. أحدهما: نعم لانها يمين منعقدة قبل الدور، فلا يملك إبطالها، وأصحهما: لا، وبه قال القاضيان، أبو الطيب والروياني للدور، ويتصور حل اليمين، ولهذا لو قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا، كان له إسقاطه، بأن يقول: أنت طالق قبل انقضاء الشهر بيوم، وعلى هذا الوجه، هذا الطريق أسهل في دفع الطلقات الثلاث من الخلع وإيقاع الصفة في حال البينونة. ولو قال: أنت طالق(6/144)
ثلاثا قبل أن أطلقك واحدة، ثم طلقها واحدة، فعلى الوجه الاول: لا يقع شئ، وكذا لو طلق ثلاثا أو اثنتين لاشتمال العدد على واحدة، وإذا مات أحدهما، يحكم بوقوع الطلاق قبل الموت، كما لو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، قاله المتولي، وعلى الوجه الثاني: يقع المنجز. ولو قال: إذا طلقتك ثلاثا، فأنت طالق قبلها طلقة، فطلقها ثلاثا، فعلى الوجه الاول: لا يقع شئ، وعلى الثاني: يقع الثلاث. ولو طلقها واحدة أو ثنتين، وقع المنجز بلا خلاف، ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق قبله طلقتين، وهي غير مدخول بها، فطلقها، لم يقع على الاول شئ، وعلى الثاني: يقع المنجز، وإن كانت مدخولا بها، وقع طلقتان على الوجهين. فرع قال: إن آليت منك، أو ظاهرت منك، فأنت طالق قبله ثلاثا، فإذا آلى أو ظاهر منها، لم تقع الثلاث قبله، وفي صحة الظهار والايلاء الوجهان، إن صححنا الدور، لم يصحا، وإن أوقعنا الطلاق المنجز صحا، واختاره الغزالي في كتابه غاية الغور في دراية الدور القطع بالصحة، وكذا الحكم لو قال: إن لاعنتك، أو حلفت بطلاقك، فأنت طالق قبله ثلاثا، أو قال للرجعية: إن راجعتك فأنت طالق قبله طلقتين أو ثلاثا، أو قال: إن فسخت النكاح بعيبك فأنت طالق قبله ثلاثا، وإذا وجد منه التصرف المعلق عليه، ففي نفوذه الوجهان. قاله الشيخ أبو علي والقاضي حسين والاصحاب، ولو قال: إن فسخت النكاح بعيبي أو بعيبك، فأنت طالق قبله ثلاثا، أو قال: إن استحققت الفسخ بذلك أو بالاعسار، أو إن استقر مهرك بالوطئ، أو إن استحققت النفقة، أو القسم، أو طلب الطلاق في الايلاء فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم فسخت، أو وجدت الاسباب المثبتة لهذه الاستحقاقات، نفذ الفسخ وتبين الاستحقاق، ولا نقول بابطالها للدور، وإن ألغينا الطلاق المنجز، والفرق أن هذه فسوخ وحقوق، ثبتت عليه قهرا، ولا تتعلق بمباشرته واختياره، فلا يصلح تصرفه دافعا لها ومبطلا لحق غيره، بخلاف الطلاق، ولو قال: إن انفسخ نكاحك، فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم ارتد أو اشتراها، انفسخ النكاح قطعا، ولا يقع الطلاق.(6/145)
فرع قال: إن وطئت وطأ مباحا، فأنت طالق قبله، ثم وطئها، لم تطلق قبله، إذ لو طلقت لم يكن الوطئ مباحا، وسواء ذكر الثلاث في هذه الصورة أم لا. قال الامام وغيره: ولا خلاف في هذه الصورة، بل موضع الخلاف إذا انحسم بتصحيح اليمين الدائرة باب الطلاق أو غيره من التصرفات الشرعية، وهنا لا تنحسم ولو قال: إن طلقتك طلقة رجعية، فأنت طالق قبلها ثلاثا أو طلقتين، فطلقها، ففيه الخلاف. ولو طلقها ثلاثا أو خالعها، أو كانت غير مدخول بها، فطلقها واحدة، أو ثنتين، وقع المنجز، لانه إنما علق الثلاث بالطلقة الرجعية. وفي هذه الصور ما نجزه ليس برجعي. ولو قال: إن طلقتك طلقة رجعية، فأنت طالق قبله واحدة وهي مدخول بها، فلا دور، فإذا طلقها، طلقت طلقتين. ولو قال للمدخول بها: متى طلقتك طلاقا رجعيا، فأنت طالق ثلاثا، ولم يقل: قبله، ثم طلقها، وقع الثلاث ولا دور. وحكي عن ابن سريج: أنه لا يقع شئ، قال الشيخ أبو علي: هذا غلط من ناقل أو ناسخ، وابن سريج أجل من أن يقول هذا، قال الامام: والمحكي عن ابن سريج، متجه عندي. ولو قال: إذا طلقتك طلقة رجعية، فأنت طالق معها ثلاثا، فإذا طلقها، فوجهان بناء على الوجهين في قوله لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة، هل يقع طلقتان أم طلقة ؟ إن قلنا: طلقتان معا، فهنا لا يقع شئ، بناء على تصحيح الدور، وإن قلنا هناك: لا يقع إلا واحدة، وقع هنا الثلاث كما لو لم يقل: معها. فرع: اختلف الاصحاب في الراجح من الاوجه الثلاثة في الدور، فالمعروف عن ابن سريج الوجه الاول، وهو أنه لا يقع الطلاق، وبه اشتهرت المسألة بالسريجية وبه قال ابن الحداد والقفالان، والشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، واختاره الشيخ أبو علي وصاحب المهذب، والغزالي، وعن المزني أنه قال في كتاب المنثور، ورأيت في بعض التعاليق، أن صاحب الافصاح حكاه عن نص الشافعي رضي الله عنه، أنه مذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه، واختاره الامام أبو بكر الاسماعيلي، وأبو عبد الله الحسين. الوجه الثالث، وهو وقوع الثلاث إذا نجز واحدة، وذهب إلى وقوع المنجزة فقط: ابن القاص، وأبو زيد، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره ابن الصباغ والمتولي، والشريف ناصر العمري، وللغزالي تصنيفان في المسألة، مطول في تصحيح الدور، سماه غاية الغور في دراية(6/146)
الدور، ومختصر في إبطاله سماه الغور في الدور، رجع فيه عن تصحيحه، واعتذر فيه عما سبق منه، ويشبه أن تكون الفتوى به أولى. وذكر الروياني بعد اختياره تصحيح الدور، أنه لا وجه لتعليم العوام المسألة لفساد الزمان. قلت: قد جزم الرافعي في المجرد بترجيح وقوع المنجزة فقط، كما أشار هنا إلى اختياره. والله أعلم. فصل: إذا صححنا الدور، فقال: متى وقع طلاقي على حفصة، فعمرة طالق قبله ثلاثا، ومتى وقع طلاقي على عمرة، فحفصة طالق قبله ثلاثا، ثم طلق إحداهما، لم تطلق هي ولا صاحبتها، فلو ماتت عمرة ثم طلقت حفصة، طلقت، لانه لا يلزم والحالة هذه من إثبات الطلاق نفيه، ولو قال زيد لعمرو: متى وقع طلاقك على زوجتك، فزوجتي طالق قبله ثلاثا، وقال عمرو ليد مثل ذلك، لم يقع طلاق واحد منهما على زوجته، ما دامت زوجة الآخر في نكاحه، ولو قال لزوجته: متى دخلت الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر قبله، وقال لعبده: متى دخلت الدار وأنت عبدي، فامرأتي طالق قبله ثلاثا، ثم دخلا الدار معا، لم يعتق العبد، ولا تطلق هي، قال الامام: ولا يخالف أبو زيد في هذه الصورة، لانه ليس فيها سد باب التصرف، فلو دخلت المرأة أولا، ثم العبد، عتق ولم تطلق هي لانه حين دخلت لم يكن عبدا له، فلم تحصل صفة طلاقها. ولو دخل العبد أولا ثم دخلت، طلقت ولم يعتق. ولو قال لها: متى دخلت الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر. وقال له: متى دخلت الدار وأنت عبدي، فزوجتي طالق، ولم يقل في الطرفين: قبله، فدخلا معا، عتق وطلقت، لان كلا منهما عند الدخول بالصفة المشروطة. ولو دخل ثم دخلت أو عكسه، فالحكم كما في الصورة السابقة بلا فرق. فرع قال لها: متى أعتقت أمتي هذه وأنت زوجتي، فهي حرة، ثم قال: متى أعتقتها، فأنت طالق قبل إعتاقك إياها بثلاثة أيام، ثم أعتقتها المرأة قبل ثلاثة أيام، عتقت الامة لانها أعتقتها وهي زوجة، ولا تطلق المرأة، لانها لو طلقت، لطلقت قبل الاعتاق بثلاثة أيام، وحينئذ يكون الطلاق متقدما على اللفظ، وذلك ممتنع. فلو أمهلت ثلاثة أيام ثم أعتقها، لم تعتق، لانه إنما أذن لها في الاعتاق بشرط أن تكون زوجة له، ولا تطلق أيضا لانه معلق بالعتق، وبالله التوفيق.(6/147)
الطرف السابع : في أنواع من التعليق ونحوه: فمن ذلك التعليق بالحلف، قال ابن سريج وتابعه جمهور الاصحاب: الحلف ما تعلق به منع من الفعل، أو حث عليه، أو تحقيق خير وجلب تصديق، فإذا قال: إذا حلفت، أو إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس، أو إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالق، لم يقع الطلاق المعلق بالحلف بالطلاق، لانه ليس في هذا التعليق منع، ولا حث، ولا غرض تحقيق، وكذا لو قال: إذا ح ضت، أو إذا طهرت، أو إذا شئت فأنت طالق، فكذلك حكمه، وحكى الفوراني وجها أن هذا كله يسمى حلفا، وهذا شاذ، والصواب الاول. ولو قال بعد التعليق بالحلف: إن ضربتك، أو إن كلمت فلانا، أو إن خرجت من الدار، أو إن لم تخرجي، أو إن لم أفعل كذا، أو إن لم يكن هذا كما قلت فأنت طالق، وقع في الحال الطلاق المعلق بالحلف، لان هذا حلف، ثم إذا وجد الضرب أو غيره مما علق عليه، وقعت طلقة أخرى إن بقيت في العدة، ولو قال: إن قدم فلان فأنت طالق، وقصد منعه وهو ممن يمتنع تخلفه، فهو كقوله: إن دخلت الدار. وكذا لو قال الزوج: طلعت الشمس، فكذبته، فقال: إن لم تطلع فأنت طالق، فهو حلف، لان غرضه التحقيق، وحملها على التصديق، وإن قصد بقوله: إن قدم فلان، التوقيت، أو كان فلان ممن لا يمتنع تخلفه كالسلطان، أو قال: إذا قدم الحجيج فأنت طالق، فليس هذا حلفا، وما جعلنا التعليق به حلفا، فلا فرق بين(6/148)
أن يعلقه بصيغة إن أو صيغة إذا، أعتبارا بأنه موضع منع وحث وتصديق وقيل: إن كان بصيغة إذا فهو توقيت وليس بحلف، والصحيح الاول، وما لم يجعل التعليق به حلفا كطلوع الشمس وقدوم الحجيج، فلا فرق فيه بين صيغة إن وإذا. وقيل: إن علقه بصيغة إن كان حلفا لانه صرفه عن التوقيت بالعدول عن كلمة التوقيت، وهي إذا، فإنها ظرف زمان، والصحيح الاول. فرع: قال: إن أقسمت بطلاقك، أو عقدت يميني بطلاقك، [ فأنت طالق ] فهو كقوله: إن حلفت بطلاقك. ولو قال: إن لم أحلف بطلاقك، أو إذا لم أحلف بطلاقك، فأنت طالق، فحكمه كما سبق في طرف الاثبات، والمذهب أن لفظة إن لا تقتضي الفور والبدار إلى الحلف، ولفظه إذا تقتضيه. فإذا قال: إذا لم أحلف بطلاقك فأنت طالق، ثم أعاد ذلك مرة ثانية وثالثة، نظر، إن فصل بين المرات بقدر ما يمكن فيه الحلف بطلاقها وسكت فيه، ولم يحلف عقيب المرة الثالثة، وقع الطلقات الثلاث، وإن وصل الكلمات، لم يقع بالاولى ولا بالثانية شئ، ويقع بالثالثة طلقة، إذا لم يحلف بطلاقها. ولو قال: كلما لم أحلف بطلاقك فأنت طالق، ومضى زمان يمكنه أن يحلف فيه فلم يحلف، طلقت طلقة،. فإذا مضى مثل ذلك ولم يحلف، وقعت ثانية، وكذلك الثالثة. ولو قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم أعاد هذا القول مرة ثانية وثالثة ورابعة، فإن كانت المرأة مدخولا بها، وقع بالمرة الثانية طلقة، وتنحل اليمين الاولى، ثم يقع بالثالثة طلقة بحكم اليمين الثانية وتنحل، ويقع بالرابعة طلقة ثالثة بحكم اليمين الثالثة وتنحل الثالثة، وتكون الرابعة يمينا منعقدة، حتى يقع بها الطلاق إذا حلف بطلاقها في نكاح آخر، إن قلنا: يعود الحنث بعد الطلقات الثلاث وإن لم يكن مدخولا بها، وقع طلقة بالمرة الثانية، وبانت بها، تنحل اليمين الاولى، وتبقى الثانية منعقدة، وفي ظهور أثرها في النكاح المجدد، الخلاف في عود الحنث، والثالثة والرابعة واقعتان في حال البينونة، فلا تنعقدان، ولا ينحل بهما شئ. ولو قال لغير المدخول بها: إذا كلمتك فأنت طالق، وأعاد ذلك مرارا، وقع بالمرة الثانية طلقة، وهي يمين منعقدة، وتنحل بالثالثة، لان التعليق هنا بالكلام، والكلام قد يكون في(6/149)
البينونة، وهناك التعليق بالحلف بالطلاق، وذلك لا يكون في حال البينونة وقال سهل الصعلوكي: لا تنعقد اليمين الثانية في مسألة الكلام، لانها تبين بقوله: إن كلمتك، فيقع قوله: فأنت طالق في حال البينونة، وتلغو الثالثة والرابعة، والصحيح الاول، لان قوله: إن كلمتك فأنت طالق، كلام واحد. فرع: قال لامرأتيه: إذا حلفت بطلاقكما، فأنتما طالقان، وأعاد هذا القول مرارا، فإن كان دخل بهما، طلقتا ثلاثا ثلاثا، وإن لم يدخل بواحدة منهما، طلقتا طلقة، وبانتا، وفي عود الحنث باليمين الثانية الخلاف، وإن دخل بإحداهما، طلقتا جميعا بالمرة الثانية، وبانت غير المدخول بها، وبالمرة الثالثة لا تطلق واحدة منهما، لان شرط الطلاق الحلف بهما، ولا يصح الحلف بالبائن. فإن نكح التي بانت، وحلف بطلاقها وحدها، طلقت المدخول بها إن راجعها، أو كانت بعد في العدة، لانه حصل الشرط وهو الحلف بطلاقها. وفي طلاق هذه المجددة الخلاف في عود الحنث. فرع قال لامرأتيه: إن حلفت بطلاقكما، فعمرة منكما طالق، وأعاد هذا مرارا، لم تطلق عمرة، لان طلاقها معلق بالحلف بطلاقهما معا، وهذا حلف بطلاقها وحدها، وكذا لو قال بعد التعليق الاول: إذا دخلتما الدار فعمرة طالق، وإنما تطلق عمرة إذا حلف بطلاقهما جميعا، إما في يمين أو يمينين. ولو قال: إن حلفت بطلاقكما، فإحداكما طالق، وأعاد ذلك مرارا، لم تطلق واحدة منهما. فلو قال بعد ذلك: إن حلفت بطلاقها فأنتما طالقان، طلقت إحداهما بالتعليق الاول، وعليه البيان، ولو قال: إن حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، وأعاد مرة ثانية، طلقتا جميعا. فرع قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها منكما، فصاحبتها طالق. قال صاحب التلخيص: إذا سكت ساعة يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما، طلقتا. قال الشيخ أبو علي: عرضت قوله على القفال وشارحي التلخيص فصوبوه والقياس أن هذه الصيغة لا تقتضي الفور، ولا يقع الطلاق على واحدة منهما بالسكوت، إلى أن يتحقق اليأس عن الحلف بموته أو موتها، إذ ليس في عبارته تعرض للوقت، بخلاف قوله: متى لم أحلف. وتابعه الامام وغيره على قوله،(6/150)
واستبعدوا كلام صاحب التلخيص. فصل:: قال: إن أكلت رمانة فأنت طالق، وإن أكلت نصف رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت طلقتين. ولو كان التعليق بصيغة كلما طلقت ثلاثا، لانها أكلت رمانة، ونصف رمانة مرتين. فصل: تحته أربع نسوة، فقال: من بشرتني منكن بكذا، فهي طالق، فبشرته واحدة بعد أخرى، طلقت الاولى فقط، لان البشارة الخبر الاول. ولو شاهد هو الحال قبل أن تخبره، فاتت البشارة، ولو بشره أجنبي ثم ذكرته له إحداهن، لم تطلق. وحكى الفوراني وجها، أن البشارة لا تختص بالخبر الاول، بل هي كقوله: من أخبرتني بكذا، وسنذكره إن شاء الله تعالى، والصحيح الاول، ولو بشرته امرأتان معا، فالمنقول أنهما تطلقان، وفيه نظر، فإنه لو قال: من أكل منكما هذا الرغيف، فهي طالق فأكلتاه، لم تطلقا. قلت: الصواب، أنهما تطلقان، وليس كمسألة الرغيف، لانه لم تأكله واحدة منهما، وأما البشارة، فلفظ من ألفاظ العموم، لا ينحصر في واحدة، فإذا بشرتاه معا، صدق اسم البشارة من كل واحدة، فطلقتا. والله أعلم. ويشترط في البشارة الصدق، فلو قالت واحدة: كان كذا، وهي كاذبة، ثم ذكرته الثانية وهي صادقة، طلقت الثانية دون الاولى، وتحصل البشارة بالمكاتبة، كما تحصل باللفظ، ولو أرسلت رسولا، لم تطلق، لان المبشر هو الرسول، ذكره البغوي.(6/151)
فرع قال: من أخبرتني منكما بكذا، فهي طالق، فلفظ الخبر يقع على الكذب والصدق، ولا يختص بالخبر الاول، فإذا أخبرتاه صادقتين أو كاذبتين معا، أو على الترتيب، طلقتا جميعا، وسواء قال: من أخبرتني منكما بقدوم زيد، أو من أخبرتني أن زيدا قدم، أو بأن زيدا قدم، وحكي وجه، فيما إذا قال: من أخبرني بقدوم زيد، أنه لا يقع إذا أخبرته كاذبة، لان الباء للالصاق، فصار في معنى شرط القدوم في الاخبار، وبهذا قال الفوراني، والصحيح الاول. فصل تحته حفصة وعمرة، فقال: يا عمرة، فأجابته حفصة، فقال: أنت طالق، فإن قال: ظننت المجيبة عمرة، تطلق عمرة، لم تطلق عمرة، لانه لم يخاطبها بالطلاق، بل ظن ذلك، وظن الخطاب بالطلاق لا يقتضي وقوعه. ولهذا لو قال لزوجته: أنت طالق وهو يظنها زوجته الاخرى، طلقت المخاطبة دون المظنونة، ولو قال لاجنبية: أنت طالق وهو يظنها زوجته، لم يقع الطلاق على زوجته، وأما حفصة المخاطبة، فيقع عليها الطلاق على الاصح. وأشار بعضهم إلى أن الخلاف في الوقوع باطنا، وأنها تطلق ظاهرا بلا خلاف، هذا ترتيب الاصحاب. وقال الامام: لو قيل: تطلق حفصة ظاهرا قطعا، وفي عمرة وجهان، لكان محتملا، ولو قال: علمت أن التي أجابتني حفصة، سئل، فإن قال: قصدت طلاق حفصة، طلقت حفصة دون عمرة، لان قوله محتمل، وإن قال: قصدت طلاق عمرة دون حفصة المجيبة، طلقت عمرة ظاهرا وباطنا، ويدين في حفصة، ويقع طلاقها ظاهرا على الصحيح، ولو كان النداء والجواب كما سبق، لكن قال بعد جواب حفصة: زينب طالق لامرأة له ثالثة، طلقت زينب دون حفصة وعمرة. ولو قال: أنت وزينب طالقان، طلقت زينب، ثم يسأل ؟ فإن قال: ظننت المجيبة عمرة، لم تطلق عمرة، وتطلق حفصة على الاصح. وإن قال: علمت أن المجيبة حفصة، وقصدت طلاقها، طلقت دون عمرة، وإن قال: قصدت طلاق عمرة، طلقت عمرة ظاهرا وباطنا، وطلقت حفصة ظاهرا على الصحيح، وهذه المسألة ليست من التعليق في شئ، لكن التزام ترتيب الكتاب اقتضى جعلها هنا. فصل قال العبد لزوجته: إذا مات سيدي، فأنت طالق طلقتين، وقال السيد للعبد: إذا مت فأنت حر، فمات، نظر إن لم يحتمل الثلث جميع العبد رق ما زاد على الثلث، ومن بعضه رقيق كالقن في عدد الطلاق، فتقع الطلقتان، وليس(6/152)
له رجعتها ولا نكاحها إلا بمحلل، وإن احتمله الثلث عتق، وفي تحريمها عليه وجهان، أحدهما: لا تحل إلا بمحلل، وأصحهما وبه قال ابن الحداد: لا تحرم، فله رجعتها، وله تجديد نكاحها بلا محلل، لان العتق والطلاق وقعا معا، فلم يكن رقيقا حال الطلاق حتى يفتقر إلى محلل، ولا تختص المسألة بموت السيد، بل يجري الخلاف في كل صورة تعلق عتق العبد، ووقوع طلقتين على زوجته بصفة واحدة، كما لو قال العبد: إذا جاء الغد، فأنت طالق طلقتين، وقال السيد: إذا جاء الغد فأنت حر، ولو قال العبد، إذا عتقت فأنت طالق طلقتين، وقال السيد: إذا جاء الغد فأنت حر، قال الشيخ أبو علي: إذا جاء الغد، عتق وطلقت طلقتين، ولا تحرم عليه بلا خلاف، لان العتق سبق وقوع الطلاق، ولو علق السيد عتقه بموته، وعلق العبد الطلقتين بآخر جزء من حياة السيد، انقطعت الرجعة، واشترط المحلل بلا خلاف، لان الطلاق صادف الرق. فرع من له نكاح الامة، نكح أمة مورثه، ثم قال لها: إذا مات سيدك ؟ فأنت طالق، فمات السيد وورثه الزوج، انفسخ النكاح، ولم يقع الطلاق على الاصح، وقيل: يقع سواء كان على السيد دين مستغرق أم لا، وقيل: إن كان دين مستغرق، نفذ الطلاق تفريعا على أن الدين يمنع انتقال الملك إلى الوارث، فعلى هذا، إذا قضي الدين، بان انتقال الملك إليه، وصار الدين كالمعدوم، والصحيح الاول. ولو علق الزوج طلاقها كما ذكرنا، وقال السيد: إذا مت، فأنت حرة، فإن خرجت من الثلث، عتقت وطلقت، وإلا عاد الخلاف في نفوذ الطلاق، فلو أجاز الزوج عتقها وكان حائزا للارث، أو أجاز معه باقي الورثة، فإن قلنا: الاجازة تنفيذ، طلقت، لانها لم تدخل في ملك الوارث، وإن قلنا: عطية من الوارث، فقد دخلت في ملكه، ويكون وقوع الطلاق على الخلاف، ولو كاتبها السيد ومات، قال الشيخ أبو علي: في وقوع الطلاق الخلاف، لان المكاتب يورث، ولهذا لو مات وبنته تحت مكاتبه، انفسخ النكاح، لانها ورثت بعض زوجها، وإذا لم يكن الزوج وارثا لسبب، وقع الطلاق والانفساخ قطعا. فرع قال الحر لزوجته الامة: إن اشتريتك، فأنت طالق، وقال سيدها: إن بعتك، فأنت حرة، فباعها لزوجها، عتقت في الحال، لانا إن قلنا: الملك في زمن الخيار للبائع أو موقوف، فالجارية ملكه، وقد وجدت الصفة، وإن قلنا:(6/153)
الملك للمشتري، فللبائع الفسخ، وإعتاقه فسخ، فتعود الجارية بالاعتاق إلى ملكه، وأما الطلاق، فقد أطلق ابن الحداد: أنه يقع، قال الاصحاب: هذا تفريع على أن الملك في زمن الخيار للبائع، فإن النكاح على هذا القول باق، وقد وجد شرط الطلاق، فيقع، وكذا الحكم على قولنا: موقوف، لانه لم يتم البيع، وأما إذا قلنا: الملك للمشتري، فلا يقع الطلاق على الاصح، كالمسألة السابقة في الفرع السابق، ولو قال: إن ملكتك بدل اشتريتك، لم يجئ فيه إلا هذا الخلاف الاخير، ولو اشترى زوجته الامة وطلقها في زمن الخيار، فإن قلنا: الملك للبائع، نفذ الطلاق، وإن قلنا: للمشتري، فلا، وإن قلنا: موقوف، فإن لم يتم البيع، طلقت، وإلا فلا، قال الشيخ أبو علي: ومتى وقع الطلاق ثم تم البيع، فإن كان الطلاق رجعيا، فله الوطئ بملك اليمين، ولا يلزم الصبر إلى انقضاء العدة، لانها عدته، كما له نكاح مختلعته في العدة، وإن كان الطلاق بالثلاث، فليس له وطؤها بملك اليمين قبل محلل على الاصح. فصل قال: أنت طالق يوم يقدم زيد، فقدم نهارا، طلقت، وهل يقع الطلاق عقب القدوم، أم نتبين وقوعه من طلوع الفجر ؟ وجهان. أصحهما الثاني، وبه قال ابن الحداد، لان الطلاق مضاف إلى يوم القدوم، فأشبه قوله: يوم الجمعة، فلو ماتت، ثم قدم زيد ذلك اليوم، فعلى الوجه الثاني، ماتت مطلقة، فلا يرثها الزوج إن كان الطلاق بائنا، وكذلك لو مات الزوج بعد الفجر، فقدم زيد في يومه، لم ترث هي منه، وعلى الوجه الاول ثبت الارث، ولو خالعها في أول النهار ثم قدم، فعلى الوجه الاول الخلع صحيح، ولا تطلق بالقدوم، وعلى الثاني، الخلع باطل إن كان الطلاق المعلق بائنا، وإن كان رجعيا، فعلى الخلاف في خلع الرجعية، ولو كانت طاهرا في أول النهار فحاضت، ثم قدم، فعلى الوجه الثاني، تحسب بقية ذلك الطهر قرءا، وعلى الاول بخلافه، ويجري الخلاف فيما لو قال: عبدي حر يوم يقدم زيد، فباعه، ثم قدم زيد في يوم البيع، هل يصح البيع أم لا ؟ ولو قدم زيد ليلا، لم تطلق على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان، لان اليوم قد يستعمل في مطلق الوقت.(6/154)
فصل قال: أنت طالق هكذا، وأشار بإصبع، طلقت طلقة، وإن أشار بإصبعين، فطلقتين، أو بثلاث فثلاثا، قال الامام: هذا إذا أشار إشارة مفهمة للطلقتين أو الثلاث، وإذا حصلت الاشارة المعتبرة، فقال: أردت الاشارة بالاصبعين المقبوضتين، صدق بيمينه للاحتمال، وإن قال: أردت واحدة، لم يقبل على الاصح. وقال صاحب التقريب: يقبل، وإن قال: أنت طالق، وأشار بالاصابع ولم يقل: هكذا، لم يحكم بوقوع العدد إلا بالنية، ولو قال: أنت هكذا، وأشار بأصبعه الثلاث، ففي فتاوى القفال: أنه إن نوى الطلاق، طلقت ثلاثا، وإلا فلا، كما لو قال: أنت ثلاثا ولم ينو بقلبه. وقال غيره: ينبغي أن لا تطلق وإن نوى، لان اللفظ لا يشعر بطلاق. قلت: هذا الثاني أصح، ويوافقه ما قطع به صاحب المهذب فقال: لو قال: أنت، وأشار بأصابعه الثلاث، ونوى الطلاق، لا يقع، لانه ليس فيه لفظ طلاق، والنية لا يقع بها طلاق من غير لفظ. والله أعلم. فرع قال: إن دخلت الدار، أو كلمت زيدا، فأنت طالق، أو أنت طالق إن دخلت الدار، أو كلمت زيدا، طلقت بأيهما وجد، وتنحل اليمين، فلا يقع بالصفة الاخرى شئ، ولو قال: إن دخلت الدار، وإن كلمت زيدا، فأنت طالق، أو أنت طالق إن دخلت الدار، وإن كلمت زيدا، أو قال: إن دخلت هذه الدار، وإن دخلت الاخرى، فأنت طالق، أو قال: إن دخلت هذه الدار، فأنت طالق، وإن دخلت الاخرى، وقع بالصفتين طلقتان، وبإحداهما طلقة. ولو قال: إن دخلت وكلمت زيدا، فأنت طالق، فلا بد من وجودهما، وتقع طلقة واحدة، وسواء تقدم الكلام على الدخول أو تأخر، وأشار في التتمة، إلى وجه في اشتراط تقدم الدخول، تفريعا على أن الواو تقتضي الترتيب. ولو قال: إن دخلت الدار، فكلمت زيدا، أو ثم كلمت زيدا، فلا بد منهما، ويشترط تقدم الدخول، ولو قال: إن دخلت الدار، إن كلمت زيدا، فأنت(6/155)
طالق، أو قال: أنت طالق إن دخلت، إن كلمت، فلا بد منهما، ويشترط تقدم المذكور آخرا على المذكور أولا، ويسمى هذا: اعتراض الشرط على الشرط، لانه جعل الكلام شرطا لتعليق الطلاق بالدخول، والتعليق يقبل التعليق، كما أن التنجيز يقبله، ولهذا يصح أن يقول لعبده: إن دخلت الدار فأنت مدبر، ومن هذا الباب قوله تعالى: * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) *. وفي فتاوى القفال: أنه يشترط تقدم المذكور أولا، فإن قدمت الثاني، لم تطلق، وهذا غريب ضعيف. ومال إمام الحرمين إلى أنه لا يشترط بالترتيب، ويتعلق الطلاق بحصولهما كيف كان، والصحيح الذي عليه الجماهير، هو الاول، قالوا: فإذا كلمته في المثال المذكور ثم دخلت، طلقت، وإن دخلت ثم كلمته، لم تطلق. قال المتولي: وتنحل اليمين، فلو كلمته بعد ذلك ثم دخلت، لم تطلق، لان اليمين تنعقد على المرة الاولى، وسواء كانت صيغة الشرط في الصفتين إن أو غيرها، وسواء اتحدت الصيغة أم لا، حتى لو قال: أنت طالق إذا دخلت، إذا كلمت، أو قال: إن دخلت إن كلمت، أو بالعكس، أو قال: متى كلمت، فالحكم كما سبق، ولو قال: إن أعطيتك، إن وعدتك، إن سألتني فانت طالق، اشترط وجود السؤال، ثم الوعد، ثم العطية، والمعنى: إن سألتني فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق، (وذكر صاحب المهذب أنه لو قال: إن سألتني إن أعطيتك إن وعدتك فأنت طالق) اشترط السؤال، ثم الوعد، ثم العطية، لكن مقتضى ما تمهل أنه يشترط وجود الوعد، ثم العطية، ثم السؤال، والمعنى: إن سألتني وأعطيتك إن وعدتك، فأنت طالق، وكأنه صور رجوع الكل إلى مطلوب واحد، ولم ير للوعد معنى بعد العطية، ولا للسؤال معنى بعد الوعد والعطية، فحمله على ما ذكرناه. فرع قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن كلمت زيدا، فقد يريد إذا دخلت الدار تعلق طلاقها بالكلام، وقد يريد إذا كلمته تعلق طلاقها بالدخول، فيراجع، ويعمل بتفسيره. فرع قال: إن كلمت زيدا وعمرا، أو بكرا مع عمرو، فأنت طالق، فإنما(6/156)
تطلق إذا كلمت زيدا وعمرا، والاصح اشتراط كون بكر مع عمرو وقت تكليمه، كما لو قال: إن كلمت فلانا وهو راكب. فرع قال المتولي: عادة البغداديين إذا أراد أحدهم تعليقا بالدخول يقول: أنت طالق لا دخلت، كما يقول الحالف، والله لا أدخل، والمعنى: إن دخلت فأنت طالق، وعلى هذه العادة قال ابن الصباغ: لو قال: أنت طالق لا كلمت زيدا وعمرا وبكرا، فكلمتهم، طلقت وإن كلمت بعضهم، لم تطلق. ولو قال: لا كلمت زيدا وعمرا ولا بكرا، فأيهم كلمته طلقت. فرع ذكر ابن سريج، أنه لو قال: أنت طالق إن كلمت زيدا حتى يدخل عمرو الدار، أو إلى أن يدخل، فالغاية تتعلق بالشرط، لا بنفس الطلاق، والمعنى: أنت طالق إن كلمت زيدا قبل دخول عمرو الدار. فصل قال لنسوته الاربع: أربعكن طوالق إلا فلانة، أو إلا واحدة، قال القاضي حسين والمتولي: لا يصح هذا الاستثناء، ويطلقن جميعا، لان الاربع ليست صيغة عموم، وإنما هي اسم خاص لعدد معلوم خاص، فقوله: إلا فلانة، رفع للطلاق عنها بعد التنصيص عليها، فهو كقوله: طالق طلاقا لا يقع. ومقتضى هذا التعليل، أنه لا يصح الاستثناء من الاعداد في الاقراء، ومعلوم أنه ليس كذلك. ومنهم من وجهه، بأن الاستثناء في المعين غير معتاد، وهذا يضعف بأن الامام حكى عن القاضي، أنه قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، صح الاستثناء، وادعى أن هذا معهود دون ذلك، وهذا كلام كما تراه. وقد حكينا في الاقرار أن الاستثناء صحيح من المعينات على الصحيح، ويستوي في الوجهين الاقرار والطلاق. فصل قيل له على وجه الاستخبار: أطلقت امرأتك، أو فارقتها، أو زوجتك طالق ؟ فقال: نعم، فهذا إقرار بالطلاق، فإن كان كاذبا فهي زوجته في الباطن. فلو قال: أردت الاقرار بطلاق سابق وقد راجعتها، صدق. وإن قال: أبنتها وجددت النكاح، فعلى ما ذكرناه فيما إذا قال: أنت طالق في الشهر الماضي، وفسر بذلك. ولو قيل له ذلك على وجه التماس الانشاء، فإن قال في الجواب: نعم، طلقت، ولا إشكال، وإن اقتصر على قوله: نعم، فهل هو صريح أم كناية ؟ قولان. قال ابن الصباغ والروياني وغيرهما: أظهرهما: أنه صريح، وقطع به(6/157)
بعضهم، وهو اختيار المزني، وفي كلام بعضهم إطلاق الخلاف بلا فرق بين الالتماس والاستخبار والانشاء. والصحيح التفصيل الذي ذكرناه. ولو قيل له: طلقت زوجتك، فقال: طلقت، فقد قيل: هو كقوله: نعم. وقيل: ليس بصريح قطعا، لان نعم متعين للجواب، وقوله: طلقت، مستقل بنفسه، فكأنه قال ابتداء: طلقت واقتصر عليه، وقد سبق أنه لو اقتصر عليه فلا طلاق. فرع قيل له: ألك زوجة ؟ فقال: لا، فقد نص في الاملاء أنه لا يقع به طلاق وإن نوى، لانه كذب محض، وبهذا قطع كثير من الاصحاب، ولم يجعلوه إنشاء، ولا بأس لو فرق بين كون السائل مستخبرا أو ملتمسا الانشاء، كما قد سبق في الفصل قبله، لانا ذكرنا في كنايات الطلاق، أنه لو قال مبتدئا: لست بزوجة لي، كان كناية على الاصح، وذكروا وجهين، في أنه صريح في الاقرار، أم كناية ؟ قال القاضي حسين: هو صريح، والاصح أنه كناية، لاحتمال أنه يريد نفي فائدة الزوجات، وبهذا قطع البغوي، ولها تحليفه أنه لم يرد طلاقها. ولو قال قائل: هذه زوجتك مشيرا إليها ؟ فقال: لا، فهذا أظهر في كونه إقرارا بالطلاق. فرع قيل: أطلقت زوجتك ؟ فقال: قد كان بعض ذلك، لم يكن إقرارا بالطلاق، لاحتمال التعليق، أو الوعد بالطلاق،، أو خصومة تؤول إليه، ولو فسر بشئ من ذلك، قبل. وإن كان السؤال عن ثلاث، ففسر بواحدة قبل، وإن لم يفسر بشئ، قال المتولي: إن كان السؤال عن ثلاث، لزمه الطلاق، وإن كان عن واحدة، فلا، لانها لا تتبعض والاصل أن لا طلاق، وفي كل واحد من الطرفين نظر. قلت: الصواب أنه لا يقع شئ، إلا أن يعرف به، سواء سئل عن ثلاث أو مطلقا، للاحتمالات المذكورة مع الاصل. والله أعلم. فصل أكل الزوجان تمرا، وخلطا النوى، فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت عن نواي فأنت طالق، أو اختلطت دراهمها بدراهمه ونحو ذلك، فقال الاصحاب: تخلص من الحنث بأن يفرقها، بحيث لا يلتقي منها نواتان، فإن أراد التمييز الذي(6/158)
يحصل به التعيين، لم يتخلص بذلك. وفي صورة الاطلاق، احتمال للامام، ولو قال: إن لم تعدي الجوز الذي في هذا البيت اليوم، فأنت طالق، فقال الامام: في طريق البر، وجهان. أحدهما: تأخذ من عدد تستيقنه، وتزيد واحدا حتى تستيقن أنه لا يزيد عليه، كما لو قال: إن لم تخبريني بعدده، والثاني: يلزم أن تبتدئ من الواحد، وتزيد حتى تنتهي إلى الاستيقان، قال الامام: واكتفوا على الوجهين بذكر اللسان، ولم يعتبروا تولي العد فعلا، قال: ولست أرى الامر كذلك. فرع في فمها تمرة، فقال: إن ابتلعتها، فأنت طالق، وإن قذفتها، فأنت طالق، وإن أمسكتها، فأنت طالق، فتخلص من الحنث أن تأكل بعضها، وتقذف بعضها، هذا إذا وقع التعليق بالامساك، آخرا كما ذكرنا، ثم اتصل أكل البعض بآخر التعليق، فلو وجد مكث، فقد حصل الامساك، ولو علق بالامساك أولا، وأكلت البعض بعد تمام الايمان، كان حانثا في يمين الامساك، ولو قال: إن أكلتها، فأنت طالق، وإن لم تأكليها (فأنت طالق) فلا خلاص بأكل البعض، فإن فعلته، حنث في يمين عدم الاكل، ولو علق على الاكل، فابتلعت، لم يحنث على الاصح، لانه يقال: ابتلع، ولم يأكل، ذكره المتولي. فرع كانت تصعد سلما، فقال: إن نزلت، فأنت طالق، وإن صعدت، فأنت طالق، وإن مكثت، فأنت طالق، فيحصل الخلاص بالطفرة إن أمكنتها، وبأن تحمل فيصعد بها أو تنزل، وينبغي أن يكون الحمل بغير أمرها، وتتخلص أيضا بأن تضجع السلم على الارض وهي عليه، وتقوم من موضعها، وبأن يكون بجنبه سلم آخر فينتقل إليه، فإن مضى في نصب سلم آخر زمان، حنث في يمين الوقوف. فرع قال: إن أكلت هذه الرمانة، أو إن أكلت رمانة، فأنت طالق، فأكلتها إلا حبة، لم يحنث، لانه وإن كان يقال في العرف: أكل رمانة، فيقال أيضا: لم يأكل كل الرمانة، ولو علق بأكل رغيف، فأكلته إلا فتاتا، قال القاضي حسين: لا يحنث كحبة الرمان. وقال الامام: إن بقي قطعة تحس، ويجعل لها موقع، لم يحنث، وربما ضبط ذلك بأن يسمى قطعة خبز، وإن دق مدركه، لم يظهر له أثر في بر ولا حنث، قال: وهذا مقطوع به عندي في حكم العرف، والوجه: تنزيل إطلاق القاضي على هذا التفصيل.(6/159)
فرع قال: إن لم تخبريني بعدد حبات هذه الرمانة قبل كسرها، فأنت طالق، أو إن لم تخبريني بعدد ما في هذا البيت من الجوز اليوم، أو إن لم تذكري لي ذلك، فأنت طالق، قال الاصحاب: يتخلص بأن تبتدئ من عدد تستيقن أن الحبات أو الجوز لا تنقص عنه، وتذكر الاعداد بعد متوالية بأن تقول: مائة، مائة وواحد، مائة واثنان، وهكذا (إلى أن) تنتهي إلى عدد تستيقن أنه لا يزيد عليه، فتكون مخبرة عن ذلك العدد وذاكرة له، وهذا إذا لم تقصد التعيين والتعريف، وإلا فلا يحصل كما سبق. وفي معنى هذه الصورة، ما إذا أكل تمرا، وقال: إن لم تخبريني بعدد ما أكلت، فأنت طالق. وما إذا اتهمها بسرقة، وقال: إن لم تصدقيني أسرقت أم لا، فأنت طالق، فتقول: سرقت وما سرقت. فرع وقع حجر من سطح، فقال: إن لم تخبريني الساعة من رماه، فأنت طالق، ففي فتاوى القاضي حسين: أنها إن قالت: رماه مخلوق، لم تطلق، وإن قالت: رماه آدمي، طلقت الجواز أن يكون رماه كلب أو الريح، لانه وجد سبب الحنث، وشككنا في المانع، وشبهه بما إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد اليوم، فمضى اليوم ولم يعرف مشيئته، فإنه يقع الطلاق على خلاف فيه سبق. فرع قال لثلاث نسوة: من لم تخبرني منكن بعدد ركعات الصلاة المفروضة، فهي طالق، فقالت واحدة: سبع عشرة، وقالت أخرى: خمس عشرة، وثالثة: إحدى عشرة، لم تطلق واحدة منهن، فالاول معروف، والثاني يوم الجمعة، والثالث في السفر، قاله القاضي والمتولي.(6/160)
فرع قال: كل كلمة كلمتيني بها إن لم أقل مثلها، فأنت طالق، فقالت المرأة: أنت طالق ثلاثا، فطريقه أن يقول: أنت تقولين: أنت طالق ثلاثا، أو تقول: أنت طالق ثلاثا من وثاق، أو أنت طالق إن شاء الله، ولو قالت له: إذا قلت لك: طلقني ما تقول ؟ فقال: أقول: طلقتك، لا يقع الطلاق، لانه إخبار عما يفعل في المستقبل. فرع في يدها كوز ماء، فقال: إن قلبت هذا الماء، فأنت طالق، وإن تركتيه، فأنت طالق، وإن شربتيه أنت أو غيرك، فأنت طالق، فخلاصها بأن تضع فيه خرقة فتبلها به. فرع قال لها وهي في ماء جار: إن خرجت منه فأنت طالق، وإن مكثت فيه فأنت طالق. قال الاصحاب: لا تطلق خرجت أم مكثت، لان ذلك الماء فارقها بجريانه، وفيه وفي نظائره احتمال للامام بسبب العرف، وإن كان الماء راكدا، فالطريق أن يحملها إنسان في الحال. فرع لا بد من النظر في مثل هذه التعليقات إلى وضع اللسان، وإلى ما يسبق إلى الفهم في العرف الغالب، فإن تطابق العرف والوضع، فذاك، وإن اختلفا، فكلام الاصحاب يميل إلى اعتبار الوضع، والامام والغزالي يريان اتباع العرف، وقد سبق في هذه الفروع أمثلة هذا. فصل في مسائل تجري في مخاصمة الزوجين ومشاتمتهما وأغلب ما تقع إذا واجهت زوجها بمكروه، فيقول على سبيل المكافأة: إن كنت كذلك فأنت طالق، يريد أن يغيظها بالطلاق كما غاظته بالشتم، فكأنه يقول: تزعمين أني كذا فأنت طالق، فإذا قالت له: يا خسيس فقال: إن كنت كذلك فأنت طالق، نظر، إن أراد المكافأة كما ذكرنا، طلقت، سواء كان خسيسا أو لم يكن، وإن قصد التعليق، لم تطلق إلا بوجود الخسة، قال أبو الحسن العبادي: الخسيس: من باع دينه بدنياه، وأخس الاخساء، من باع آخرته بدنيا غيره، ويشبه أن يقال: الخسيس: من يتعاطى في العرف ما لا يليق بحاله لشدة بخله، فإن شك في وجود الصفة - ويتصور ذلك كثيرا في مسائل الشتم والايذاء - فالاصل أن لا طلاق، وإن أطلق اللفظ ولم يقصد المكافأة، ولا حقيقة اللفظ، فهو للتعليق. فإن عم العرف بالمكافأة،(6/161)
كان على الخلاف السابق في أنه يراعي الوضع أو العرف، والاصح وبه قطع المتولي مراعاة اللفظ، فإن العرف لا يكاد ينضبط في مثل هذا، وأجاب القاضي حسين بمقتضى الوجه الآخر، ولو قالت: يا سفيه فقال: إن كنت كذلك، فأنت طالق، فإن قصد المكافأة، طلقت في الحال، وإن قصد التعليق، طلقت إن كان سفيها، وإن أطلق، فعلى الخلاف، ويمكن أن يحمل السفه على ما يوجب الحجر، وعلى هذا نظائر ما يقع به الشتم والايذاء. وتكلموا في كلمات يدخل بعضها في حد الافحاش، ففي التتمة أن القواد: من يحمل الرجال إلى أهله ويخلي بينهم وبين الاهل، ويشبه أن لا يختص بالاهل، بل هو الذي يجمع بين الرجال والنساء بالحرام، وأن القرطبان الذي يعرف من يزني بزوجته ويسكت عليه، وأن قليل الحمية: من لا يغار على أهله ومحارمه، وأن القلاش: الذواق، وهو من يوهم أنه يشتري الطعام ليذوقه وهو لا يريد الشراء، وأن الديوث: من لا يمنع الناس الدخول على زوجته. وفي الرقم للعبادي: أنه الذي يشتري جارية تغني للناس، وأن البخيل: من لا يؤدي الزكاة، ولا يقري الضيف فيما قيل، وأنه لو قيل له: يا زوج القحبة، فقال: إن كانت زوجتي بهذه الصفة فهي طالق، فإن قصد التخلص من عارها، وقع الطلاق، كما لو قصد المكافأة، وإلا فهو تعليق، فينظر: هل هي بالصفة المذكورة أم لا ؟ قلت: القحبة: هي البغي، وهي كلمة مولدة ليست عربية. والله أعلم. وأنه لو قال لها في الخصومة: إيش تكونين أنت، فقالت: وإيش تكون أنت، فقال: إن لم أكن منك بسبيل فأنت طالق، قال القاضي حسين: إن قصد(6/162)
التعليق لم تطلق، لانها زوجته فهو منها بسبيل، وإن قصد المغايظة والمكافأة، طلقت. والمقصود إيقاع الفرقة وقطع ما بينهما، وأنها لو قالت لزوجها: أنت من أهل النار، فقال: إن كنت من أهل النار فأنت طالق، لم يحكم بوقوع الطلاق إن كان الزوج مسلما، لانه من أهل الجنة ظاهرا، وإن كان كافرا طلقت فإن أسلم بعد ذلك، تبينا أنها لم تطلق. ولو قالت: يا سفلة، فقال: إن كنت كذلك فأنت طالق، قال اسماعيل البوشنجي: الاولى أنه الذي يتعاطى الافعال الدنيئة ويعتادها، ولا يقع ذلك على من يتفق منه نادرا، كاسم الكريم، والسيد في نقيضه. ولا يخفى أن النظر في تحقيق هذه الاوصاف، إنما يحتاج إليه عند حمل اللفظ على التعليق، فأما إذا حمل على المكافأة، فيقع الطلاق في الحال. فرع الكوسج: من قل شعر وجهه مع انحسار الشعر عن عارضيه، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه الذي عدد أسنانه ثمانية وعشرون. فرع قال أبو العباس الروياني: الغوغاء: من يخالط المفسدين والمنحرفين، ويخاصم الناس بلا حاجة. قال: والاحمق: من نقصت مرتبة أموره وأحواله عن مراتب أمثاله نقصا بينا بلا مرض ولا سبب. قلت: قال صاحب المهذب والتهذيب في باب كفارة الظهار: الاحمق: من يفعل الشئ في غير موضعه مع علمه بقبحه. وفي التتمة والبيان أنه من يعمل ما يضره مع علمه بقبحه. وفي الحاوي: أنه من يضع كلامه في غير موضعه، فيأتي بالحسن في موضع القبيح، وعكسه. قال أبو العباس ثعلب: الاحمق: من لا ينتفع بعقله. والله أعلم. فرع قالت: يا جهودروي فقال: إن كنت كذلك فأنت طالق، وقصد التعليق، قال الامام: وقعت المسألة في الفتاوى، وأكثروا في التعبير عن هذه الصفة، فقيل: هي صفرة الوجه، وقيل: الذلة والخساسة، وكان جوابنا فيه أن المسلم لا يكون بهذه الصفة، فلا يقع الطلاق. قال في الوسيط: وفيه نظر. فرع لو تخاصم الزوجان، فقال أبوها للزوج: لم تحرك لحيتك فقد رأيت مثلها كثيرا، فقال: إن كنت رأيت مثل هذه اللحية كثيرا، فابنتك طالق، فهذه كناية عن(6/163)
الرجولية والفتوة ونحوهما فإن حمل اللفظ على المكافأة، طلقت، وإلا فلا لكثرة الامثال. فرع قال المتولي: لو نسب إلى فعل سئ كالزنا واللواط، فقال: من فعل مثل هذا فامرأته طالق، وكان ذلك فعله، لم يقع طلاقه، لانه لم يوقع طلاقا، وإنما غرضه ذم من يفعله، ولو قال لزوجته: سرقت أو زنيت، فقالت: لم أفعل، فقال: إن كنت سرقت أو زنيت فأنت طالق، حكم بوقوع الطلاق في الحال بإقراره السابق. فصل قال: إن خالفت أمري، فأنت طالق، ثم قال: لا تكلمي زيدا، فكلمته، قالوا: لا تطلق لانها خالفت النهي دون الامر، ولو قال: إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم قال: قومي، فقعدت، وقع لان الامر بالشئ نهي (عن) أضداده وهذا فاسد، إذ ليس الامر بالشئ نهيا عن ضده فيما يختاره. وإن كان، فاليمين لا ينبني عليه، بل على اللغة أو العرف، لكن في المسألة الاولى نظر بسبب العرف.(6/164)
فصل قال: أنت طالق إلى حين أو زمان، أو بعد حين، طلقت بمضي لحظة ؟ ولو قال: إذا مضى حقب أو عصر فأنت طالق، قال الاصحاب: يقع بمضي لحظة، وهو بعيد لا وجه له. فصل لو علق الطلاق بالضرب، طلقت إذا حصل الضرب بالسوط أو الوكز أو اللكز، ولا يشترط أن لا يكون حائل، ويشترط الايلام على الاصح، وقيل: لا يشترط، بل تكفي الصدمة، وإلى هذا مال الامام، وقال: الايلام وحده لا يكفي، فإنه لو وضع عليه حجرا ثقيلا، فانصدم تحته، لم يكن ضربا وإن آلم. قال: والصدم وحده لا يكفي، فإنه لو ضربه بأنملة، لا يقال: ضربه، وكان المعتبر في إطلاق اسم الضرب الصدم بما يؤلم، أو يتوقع منه إيلام. واتفق الاصحاب، على أنه لا يقع الطلاق إذا كان المضروب ميتا، وشذ الروياني فحكى فيه خلافا، والعض وقطع الشعر لا يسمى ضربا، فلا يقع به الطلاق، وتوقف المزني في العض. فصل علق بالمس، طلقت بمس شئ من بدنه حيا أو ميتا بلا حائل، ولا يقع(6/165)
بمس الظفر والشعر. قال الامام: الوجه القطع بهذا وإن أثبتنا خلافا في نقض الوضوء به، والاشبه مجئ الخلاف. فصل علق بقدوم زيد، طلقت إذا قدم راكبا أو ماشيا، وإن قدم به ميتا لم تطلق، وإن حمل وقدم به حيا، إن كان باختياره، طلقت، وإلا فلا على المذهب. فصل علق بقذف زيد، طلقت بقذفه حيا أو ميتا، فلو قال: إن قذفت فلانا في المسجد فأنت طالق، فالمعتبر كون القاذف في المسجد. ولو قال: إن قتلته في المسجد، اشترط كون المقتول في المسجد، والفرق أن قرينة الحال تشعر بأن المقصود الامتناع مما يهتك (حرمة) المسجد، وهتك الحرمة إنما تحصل إذا كان القاذف والمقتول فيه دون عكسه، فإن قال: أردت العكس، قبل منه في الظاهر على الاصح. ولو قال: إن قذفت أو قتلت فلانا في الدار، سئل عما أراد. فصل قال: إن رأيت زيدا فأنت طالق، فرأته حيا أو ميتا أو نائما، طلقت وإن كان الرائي أو المرئي مجنونا أو سكران، ثم يكفي رؤية شئ من بدنه وإن قل، وقيل: يعتبر الوجه. ولو كان كله مستورا بثوب، أو رأته في المنام لم تطلق، ولو رأته وهو في ماء صاف لا يمنع الرؤية أو من وراء زجاج شفاف، طلقت على الصحيح. ولو نظرت في المرآة أو في الماء فرأت صورته، لم تطلق، وفيه احتمال ضعيف للامام. ولو قال للعمياء: إن رأيت زيدا فأنت طالق، قال الامام: الصحيح أن الطلاق معلق بمستحيل، فلا يقع، وفي وجه: يحمل على اجتماعهما في مجلس، لان الاعمى يقول: رأيت اليوم زيدا، ويريد الحضور عنده. فرع علق برؤيته أو رؤيتها الهلال، فهو محمول على العلم، فرؤية غير المعلق برؤيته (كرؤيته) وتمام العدد كرؤيته، فيقع الطلاق به وإن لم ير الهلال. ولو قال: أردت بالرؤية المعاينة، دين ويقبل أيضا ظاهرا على الاصح. ولو(6/166)
كان المعلق برؤيته أعمى، لم يقبل التفسير بالمعاينة في الظاهر على الاصح. وحكى الحناطي فيما إذا أطلق ولم ينو شيئا قولين في وقوع الطلاق برؤية الغير، هذا كله فيمن علق برؤية الهلال باللغة العربية، فلو علق بالعجمية، فعن القفال: أنه يحمل على المعاينة، سواء فيه البصير والاعمى، وادعى أن العرف الشرعي في حمل الرؤية على العلم، لم يثبت إلا في العربية، ومنع الامام الفرق بين اللغتين. وفي التهذيب وجه: أنه يحمل في حق الاعمى على العلم. وإذا أطلق التعليق برؤية الهلال، حمل على أول شهر يستقبله، حتى لو لم ير في الشهر الاول، انحلت اليمين، قاله البغوي، وهو محمول على ما إذا صرح بالمعاينة أو فسر بها وقبلناه. قال البغوي: والرؤية في الليلة الثانية والثالثة، كهي في الاولى، ولا أثر لها بعد الثلاث، لانه لا يسمى هلالا بعد ثلاث. وفي المهذب: أنه لو لم يره حتى صار قمرا، لم تطلق، وحكى خلافا فيما يصير به قمرا، هل هو باستدارته، أم بأن يبهر ضوؤه ؟ قلت: هذا المنقول عن المهذب، مذكور في الحاوي، وفيما تفرع عنه، والمختار ما ذكره البغوي. والله أعلم. والمعتبر الرؤية بعد غروب الشمس، ولا أثر للرؤية قبله. فصل قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته وهو سكران أو مجنون طلقت، قال ابن الصباغ: يشترط أن يكون السكران بحيث يسمع ويكلم، وإن كلمته وهو نائم أو مغمى عليه، أو هذت بكلامه في نومها وإغمائها لم تطلق. ولو كلمته وهي مجنونة، قال ابن الصباغ: لا تطلق. وعن القاضي حسين، أنها تطلق. والظاهر تخريجه على حنث الناسي وأما كلامها في سكرها، فتطلق به على الاصح، إلا إذا انتهت إلى السكران الطافح. ولو خفضت صوتها بحيث لا يسمع وهو الهمس، لم تطلق وإن وقع في سمعه شئ وفهم المقصود اتفاقا، لانه لا يقال: كلمته، ولو نادته من مسافة بعيدة لا يسمع منها الصوت، لم تطلق، ولو حملت الريح كلامها ووقع في سمعه، فقد أشار الامام إلى تردد فيه، والمذهب أنها لا تطلق. وإن كانت المسافة بحيث يسمع فيها الصوت، فلم يسمع لذهول أو شغل طلقت، فإن لم يسمع لعارض لغط أو ريح، أو لصمم به، فوجهان، أحدهما: تطلق، وبه أجاب(6/167)
الروياني، وكذا الامام والغزالي في صورة اللغط، وأصحهما عند البغوي: لا طلاق حتى يرتفع الصوت بقدر ما يسمع في مثل تلك المسافة مع ذلك العارض، فحينئذ يقع وإن لم يسمع، ورأى الامام القطع بالوقوع إذا كان اللغط بحيث لو فرض معه الاصغاء لامكن السماع، وكذا في تكليم الاصم إذا كان وجهه إليه وعلم أنه يكلمه، وقطع الحناطي بعدم الوقوع إذا كان الصم بحيث يمنع السماع، وحكي قولين فيما إذا قال: إن كلمت نائما أو غائبا عن البلد، هل يقع الطلاق في الحال بناء على الخلاف في التعليق بالمستحيل. ويحتمل أن يقال: لا تطلق حتى تخاطبه مخاطبة المكلمين، وبنحو منه أجاب القاضي أبو الطيب فيما إذا قال: إن كلمت ميتا أو حمارا. فصل إذا علق الطلاق بفعل شئ، ففعله وهو مكره، أو ناس للتعليق، أو جاهل به، ففي وقوع الطلاق قولان، وذكر صاحب المهذب والروياني وغيرهما، أن الاظهر في الايمان، أنه لا يحنث الناسي والمكره، ويشبه أن يكون الطلاق مثله. وقطع القفال بأنه يقع الطلاق. ولا يخرج على القولين في الايمان، لان التعويل في الايمان على تعظيم اسم الله تعالى، والحنث هتك حرمة، والناسي والمكروه غير منتهك، والطلاق تعليق بصفة، وقد وجدت، والمذهب الاول، وعليه الجمهور. قلت: قد رجح الرافعي في كتابه المحرر أيضا، عدم الحنث في الطلاق واليمين جميعا، وهو المختار للحديث الحسن رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، والمختار، أنه عام فيعمل بعمومه، إلا فيما دل دليل على تخصيصه، كغرامة المتلفات. والله أعلم. ولو علق بفعل الزوجة، أو أجنبي، فإن لم يكن للمعلق بفعله شعور بالتعليق، ولم يقصد الزوج إعلامه، أو كان ممن لا يبالي بتعليقه، بأن علق بقدوم الحجيج أو السلطان، طلقت بفعله في حالتي النسيان والاكراه على المذهب،(6/168)
وقيل: إن فعلة مكرها، ففيه القولان، فكأنه لا فعل له، وإن كان المعلق بفعله عالما بالتعليق، وهو ممن يبالي بتعليقه، وقصد المعلق بالتعليق منعه، ففعله ناسيا أو مكرها أو جاهلا، ففيه القولان. ولو قصد منعها من المخالفة فنسيت، قال الغزالي: لا تطلق قطعا لعدم المخالفة، ويشبه أن يراعى معنى التعليق ويطرد الخلاف. قلت: الصحيح قول الغزالي، ويقرب منه عكسه، وهو أنه لو حلف لا يدخل عمدا ولا ناسيا، فدخل ناسيا، فنقل القاضي حسين: أنه يحنث بلا خلاف. والله أعلم. ولو علق بدخول طفل أو بهيمة أو سنور، فدخل، طلقت، قال الحناطي: ويحتمل المنع، وإن حصل دخولهم كرها، لم تطلق، قال: ويحتمل الوقوع، إذ لا قصد لهم، فلا أثر لاكراههم. قلت: ذكر الامام الرافعي رحمه الله هنا مسائل منثورة كثيرة جدا، متعلقة بتعليق الطلاق وغيره، فقدمت منها جملا وفرقتها على مواضع تليق بها مما سبق،(6/169)
وأذكر هنا باقيها إن شاء الله تعالى. والله أعلم. قال لاربع نسوة: إن لم أطأ واحدة منكن اليوم، فصواحبها طوالق، فإن وطئ واحدة منهن ذلك اليوم، انحلت اليمين، وإن لم يطأ واحدة، طلقت كل واحدة طلقة. وإن قال: أيتكن لم أطأها اليوم، فإن الاخريات طوالق، فمضى اليوم، ولم يطأ واحدة، طلقن ثلاثا ثلاثا، وإن وطئ واحدة فقط، طلقت هي ثلاثا، لان لها ثلاث صواحب لم يطأهن، وطلقت الباقيات طلقتين طلقتين، لان لها صاحبتين لم يطأهما، ولو وطئ امرأتين، طلقتا طلقتين، وطلقت الاخريان طلقة طلقة. ولو وطئ ثلاثا طلقن طلقة طلقة، ولم تطلق الرابعة، لانه ليس لها صاحبة غير موطوءة. ولو قال: أيتكن لم أطأها فالاخريات طوالق، ولم يقيد بوقت، فجميع العمر وقت له، فإن مات أو متن قبل الوطئ، طلقت كل واحدة ثلاثا قبيل الموت، وإن ماتت واحدة والزوج حي، لم يحكم بطلاق الميتة، لانه قد يطأ الباقيات ويطلق الباقيات طلقة طلقة. فلو ماتت ثانية قبل الوطئ، تبينا وقوع طلقة على الاولى قبيل موتها، وطلقت كل واحدة من الباقيتين طلقة أخرى إن بقيتا في العدة. فإن ماتت الثالثة قبل الوطئ، تبينا وقوع طلقتين على الاوليين قبيل موتهما، وطلقت الباقية طلقة ثالثة، فإن ماتت الرابعة قبل الوطئ، تبينا وقوع الثلاث على الجميع. فصل قال: إن سرقت مني شيئا فأنت طالق، فدفع إليها كيسا، فأخذت منه شيئا، لا تطلق، لنه خيانة لا سرقة. فرع قال: إن كلمتك فأنت طالق، ثم أعاد مرة أخرى، طلقت. وإن قال: إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي، طلقت بقوله: فاعلمي وقيل: إن وصله بالكلام الاول، لم تطلق، لانه تتمته. وإن قال: إن كلمتك فانت طالق، إن دخل الدار فأنت طالق، فالتعليق الثاني تكليم، فتطلق. ولو قال: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك بالكلام فعبدي حر، ثم كلمها، ثم كلمته، فلا طلاق، ولا عتق. ولو قال لرجل: إن بدأتك بالسلام فعبدي حر، فقال الآخر: إن بدأتك بالسلام فعبدي حر، فسلم كل منهما على الآخر دفعة واحدة، لم يعتق عبد واحد منهما لعدم ابتداء كل واحدة منهما على الآخر، وتنحل اليمين، فإذا سلم أحدهما(6/170)
على الآخر بعد ذلك، لم يعتق واحدة من عبديهما، ذكره الامام. فرع قال المدين لصاحب الدين: إن أخذت مالك علي، فامرأتي طالق، فأخذه مختارا، طلقت امرأة المدين، سواء كان مختارا في الاعطاء أو مكرها، وسواء أعطى بنفسه أو بوكيله، أو استلبه صاحب الدين قال البغوي: وكذا لو أخذه السلطان ودفعه إليه. وفي كتب العراقيين أنه لا يقع الطلاق إذا أخذه السلطان ودفعه إليه، لانه إذا أخذه السلطان برئت ذمة المدين، وصار المأخوذ حقا لصاحب الدين، ولا يبقى له حق عليه، فلا يصير بأخذه من السلطان آخذا حقه من المدين، ولو قضى عنه أجنبي. قال الداركي: لا تطلق، لانه بدل حقه لاحقه بنفسه. ولو قال: إن أخذت حقك مني، لم تطلق بإعطاء وكيله، ولا بإعطاء السلطان من ماله. فإن أكرهه السلطان حتى أعطى بنفسه، فعلى القولين في المكره. ولو قال: إن أعطيتك حقك، فأعطاه باختياره، طلقت، سواء كان الآخذ مختارا في الاخذ أم لا، ولا تطلق بإعطاء الوكيل والسلطان. فرع قال: أنت طالق مريضة، بالنصب، لم تطلق إلا في حال المرض. ولو قال: أنت طالق مريضة، بالرفع، فقيل: تطلق في الحال. وقوله: مريضة، صفة، واختيار ابن الصباغ الحمل على اشتراط المرض حملا على الحال، وإن كان لحنا في الاعراب.(6/171)
فرع قال لامرأتيه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فدخلت كل واحدة إحدى الدارين، فهل تطلقان، أم لا تطلقان ؟ وجهان (وإن قال): إن أكلتما هذين الرغيفين، وأكلت كل واحدة منهما رغيفا، تطلقان، لانهما أكلتاهما، ولا يمكن أكل واحدة من الرغيفين، بخلاف دخول الدارين. قلت: الاصح في مسألة الدارين عدم الطلاق، صححه صاحب المهذب وغيره، والمذهب في الرغيفين الوقوع، وطرد صاحب المهذب فيه الوجهين. والله أعلم. فرع لو قالت لزوجها: أنت تملك أكثر من مائة، فقال: إن كنت أملك أكثر من مائة فأنت طالق، وكان يملك خمسين، فإن قال: أردت: لا أملك زيادة على مائة، لم تطلق، وإن قال: أردت أني أملك مائة بلا زيادة، طلقت، وإن أطلق، فعلى أيهما يحمل ؟ وجهان. قلت: الصحيح لا تطلق. والله أعلم. وإن قال: إن كنت أملك إلا مائة، وكان يملك خمسين، فقد قيل: تطلق(6/172)
على الوجهين. فرع قال: إن خرجت إلا باذني، فأنت طالق، فالمسألة تأتي بفروعها في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى. فإن قال: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق، فخرجت إلى الحمام، ثم قضت حاجة أخرى، لم تطلق، وإن خرجت لحاجة أخرى، ثم عدلت إلى الحمام، طلقت، وإن خرجت إلى الحمام وغيره، ففي وقوع الطلاق وجهان. قلت: الاصح الوقوع، وممن صححه الشاشي. والله أعلم. فرع خرجت إلى دار أبيها، فقال: إن رددتها إلى داري أو ردها أحد فهي طالق، فاكترت بهيمة وعادت إلى داره مع المكاري، لم تطلق، لان المكاري لم يردها، بل صحبها. ولو عادت ثم خرجت فردها الزوج، لم تطلق، إذ ليس في اللفظ ما يقتضي التكرار. فصل في فتاوى القفال أنه لو قال: المرأة التي تدخل الدار من نسائي طالق، لم يقع طلاق قبل الدخول. فلو أشار إلى واحدة وقال: هذه التي تدخل الدار طالق، طلقت في الحال وإن لم تدخل، وأنه لو ادعت عليه أنه نكحها فأنكر، فالاصح أنه ليس لها أن تنكح غيره، ولا يجعل إنكاره طلاقا، بخلاف ما لو قال: نكحتها وأنا أجد طول حرة، يجعل ذلك فرقة بطلقة، لان هناك أقر بالنكاح وادعى مفسدا.(6/173)
وقيل: يتلطف به الحاكم حتى يقول: إن كنت نكحتها فقد طلقتها، وأنه لو قال: حلال الله علي حرام لا أدخل هذه الدار، كان ذلك تعليقا وإن لم يكن فيه أداة تعليق. وأنه لو قال: حلفت بطلاقك أن لا تخرجي، ثم قال: ما حلفت، بل قصدت تفريعها، لا تقبل ظاهرا ويدين، وأنها لو قالت: اجعل أمر طلاقي بيدي، فقال: إن خرجت من هذه القرية أجعل أمر طلاقك إليك، فقالت: أخرج. فقال: جعلت أمرك بيدك، فقالت: طلقت نفسي، فإن ادعى أنه أراد بعد خروجها من القرية، صدق، وإلا طلقت في الحال، وأنه لو قال: إن أبرأتني من دينك فأنت طالق، فأبرأته، وقع الطلاق بائنا. ولو قال: إن أبرأت فلانا فأبرأته، وقع رجعيا. وأنه لو قال لام امرأته: بنتك طالق، ثم قال: أردت البنت التي ليست زوجتي، صدق. وأنه لو قال: إن فعلت ما ليس لله تعالى فيه رضى فأنت طالق، فتركت صوما أو صلاة، ينبغي أن لا تطلق، لانه ترك وليس بفعل، فلو سرقت أو زنت، طلقت. فصل عن الشيخ أبي عاصم العبادي أنه لو قال: أنت طالق، يا طالق، لا طلقتك، وقع طلقتان. وأنه لو قال: إن وطئت أمتي بغير إذنك فأنت طالق، فاستأذنها، فقالت: طأها في عينها، لا يكون إذنا. وأنه لو كان له أمة وزوجة حرة، فدعا الامة إلى فراشه، فحضرت الحرة، فوطئها، فقال: إن لم تكوني أحلى من الحرة فهي طالق وهو يظنها الامة، فقال أبو حامد المروزي: تطلق، لانها هي الحرة، فلا تكون أحلى من الحرة، وحكى أبو العباس الروياني وجها أنها لا تطلق لان عنده أنه يخاطب غيرها، وهذا أصح، وبه أفتى الحناطي. فصل سئل القاضي حسين عمن حلف بالطلاق ليقرأن عشرا من أول سورة البقرة(6/174)
بلا زيادة، ويقف، وللقراء اختلاف في رأس العشر، فقال: ما أدى إليه اجتهاد المفتي أخذ به المستفتي. وعن امرأة صعدت بالمفتاح السطح، فقال: إن لم تلقي المفتاح فأنت طالق، فلم تلقه ونزلت، قال: لا يقع الطلاق، ويحمل قوله: إن لم تلقه على التأبيد، كما قال أصحابنا فيمن دخل عليه صديقه فقال: تغد معي، فامتنع فقال: إن لم تتغد معي فامرأتي طالق، فلم يفعل، لا يقع الطلاق ولو تغدى بعد ذلك معه، وإن طال الزمان، انحلت اليمين. فإن نوى أن يتغدى معه في الحال، فامتنع، وقع الطلاق، ورأى البغوي حمل المطلق على الحال للعادة. وأنه لو قال: إن لم تبيعي هذه الدجاجات فأنت طالق، فقتلت واحدة منهن، طلقت لتعذر البيع، وإن جرحتها ثم باعتها، فإن كانت بحيث لو ذبحت لم تحل، لم يصح البيع، ووقع الطلاق، وإلا فتنحل اليمين. وأنه لو قال: إن قرأت سورة البقرة في صلاة الصبح فأنت طالق، فقرأها، ثم فسدت صلاته في الركعة الثانية، لم تطلق على الصحيح، لان الصلاة عبادة واحدة يفسد أولها بفساد آخرها. وأنه لو قال: مهما قبلتك فضرتك طالق، فقبلها بعد موتها، لم تطلق الضرة، ولو قال لوالدته: متى قبلتك فامرأتي طالق، فقبلها بعد موتها، طلقت امرأته. والفرق أن قبلة المرأة قبلة بشهوة، ولا شهوة بعد الموت، وقبلة الام قبلة كرامة، فيستوي فيها الحياة والموت. وأنه لو قال: إن غسلت ثوبي فأنت طالق، فغسلته أجنبية، ثم غمسته المحلوف بطلاقها في الماء تنظيفا له، لم تطلق لان العرف في مثل هذا يغلب. والمراد في العرف، الغسل بالصابون والاشنان ونحوهما، وإزالة الوسخ. وقال غير القاضي: إن أراد الغسل من الوسخ، لم تطلق، وإن أراد التنظيف، فلا، فإن أطلق قال: لا أجيب فيه.(6/175)
بفصل في فتاوى البغوي أنه لو طلقها ثلاثا ثم قال: كنت حرمتها على نفسي قبل الطلاق، لم يقبل قوله. وأنه لو قال: إن ابتلعت شيئا فأنت طالق، فابتلعت ريقها، طلقت. فإن قال: أردت غير الريق، صدق في الحكم، وإن قال: إن ابتلعت الريق، طلقت بابتلاع ريقها وبريق غيرها. فإن قال: أردت ريقك خاصة، قبل في الحكم. وإن قال: أردت ريق غيرك، دين ولم يقبل في الحكم. وأنه لو قال: إن ضربتك فأنت طالق، فقصد بالضرب غيرها، فأصابها، طلقت، ولم يقبل قوله، لان الضرب يقين ويحتمل. وأنه لو نادى أمه فقال: إن لم تجبني أمي فامرأتي طالق، فإن رفعت الام صوتها في الجواب (بحيث) يسمع في تلك المسافة، لم تطلق، وإلا فتطلق، وأنه لو قال: إن دخلت على فلان داره، فامرأتي طالق، فجاء فلان وأخذ بيده وأدخله الدار، فإن دخلا معا، لم تطلق. وإن دخلت فلان أولا، طلقت. وأنه لو حلف أنه لا يخرج من البلد حتى يقضي دين فلان بالعمل، فعمل له ببعض دينه وقضى الباقي من موضع آخر ثم خرج، طلقت. فإن قال: أردت أني لا أخرج حتى أخرج إليه من دينه وأقضي حقه، قبل قوله في الحكم. فصل عن أبي العباس الروياني أنه إذا طلق امرأته، فقيل له: طلقت امرأتك ؟ فقال: طلقة واحدة، يقبل قوله، لان قوله: طلقتها، صالح للابتداء، غير متعين للجواب. وأنه لو قال: إن سرقت ذهبا فأنت طالق، فسرقت ذهبا مغشوشا، طلقت على الصحيح. وأنه لو قال: إن أجبتني عن خطابي فأنت طالق، ثم خاطبها،(6/176)
فقرأت آية تتضمن جوابه، فإن قالت قصدت بقراءتها جوابه، طلقت. وإن قالت: قصدت القراءة أو لم تبين قصدها، فلا طلاق. وأنه لو قال: إن لم تستوفي حقك من تركة أبيك تاما فأنت طالق، وكان إخوتها قد أتلفوا بعض التركة، فلا بد من استيفاء حصتها من الباقي وضمان التالف، ولا يكفي الابراء، لان الطلاق معلق بالاستيفاء، إلا أن الطلاق إنما يقع عند اليأس من الاستيفاء. وأنه لو أشار إلى ذهب وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان، وشهد عدلان أنه ليس ذلك الذهب، طلقت على الصحيح، لانها وإن كانت شهادة على النفي، إلا أنه نفي يحيط العلم به. وأنه لو حلف بالطلاق أنه لا يفعل كذا، فشهد عدلان عنده أنه فعله، وظن صدقهما، لزمه الاخذ بالطلاق، وأنه لو كان له نسوة ففتحت إحداهن بابا، فقال: من فتحته منكن فهي طالق. فقالت كل واحدة: أنا فتحته، لم يقبل قولهن لامكان البينة. فإن اعترف الزوج أنه لا يعرف الفاتحة، لم يكن له التعيين، وإنما يرجع إلى تعيينه إذا كان الطلاق مبهما. وأنه لو حلف بالطلاق أنه بعث فلانا إلى بيت فلان، وعلم أن المبعوث لم يمض، فقيل: يقع الطلاق لانه لا يقتضي حصوله(6/177)
هناك، والصحيح أنه لا طلاق لانه يصدق أن يقال: بعثته، فلم يمتثل، وأنه لو قال: إن لم تطيعيني فأنت طالق، فقالت: لا أطيعك. فقيل: تطلق في الحال، والصحيح أنها لا تطلق حتى يأمرها بشئ فتمتنع، أو ينهاها عنه فتفعله، وأنه لو قال: امرأتي طالق إن دخلت دارها (ولا دار لها) وقت الحلف، ثم ملكت دارا، فدخلها، طلقت. وأنه لو قال: إن لم تكوني الليلة في داري فأنت طالق، ولا دار له، ففي وقوع الطلاق وجهان، بناء على التعليق بالمحال. وأنه لو قال: امرأتي هذه محرمة علي، لا تحل لي أبدا، فلا طلاق، لانه قد يظن تحريمها باليمين على ترك الجماع، وليس اللفظ صريحا في الطلاق. وقيل: يحكم بالبينونة بهذا اللفظ، والاول أصح. وأنه لو قيل لمن يسمى زيدا: يا زيد، فقال: امرأة زيد طالق، طلقت امرأته. وقيل: لا تطلق إلا أن يريد نفسه. وأنه لو قال: إن أجبت كلامي فأنت طالق، ثم خاطب الزوج غيرها، فأجابته، فالصحيح أنها لا تطلق. وأنه لو قال: إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق، فأخرجها هو، هل يكون إذنا ؟ وجهان، القياس المنع. وأنه لو عزل عن القضاء، فقال: امرأة القاضي طالق، ففي وقوع طلاقه وجهان. وأنه لو قيل: طلقت امرأتك، فقال: اعلم أن الامر على ما تقوله، لم يكن إقرارا بالطلاق على الاصح. وأنه جلس مع جماعة فقام ولبس خف غيره، فقالت له: استبدلت بخفك ولبست خف غيرك، فحلف بالطلاق أنه لم يفعل ذلك، فإن كان خرج بعد خروج الجماعة، ولم يبق هناك إلا ما لبسه، لم تطلق، لانه لم يستبدل، بل استبدل الخارجون قبله، وإن بقي غيره، طلقت. قلت: هذا الكلام ضعيف في الطرفين جميعا، بل صواب المسألة أنه إن خرج بعد خروج الجميع، نظر، إن قصد أني لم أجد بدله، كان كاذبا، فإن كان عالما بأنه أخذ بدله، طلقت، وإن كان ساهيا، فعلى قولي طلاق الناسي، وإن لم يكن قصد، خرج على الخلاف السابق، في أن اللفظ الذي تختلف دلالته بالوضع والعرف، على أيهما يحمل لان هذا يسمى استبدالا في العرف. وأما إن خرج وقد بقي بعض الجماعة، فإن علم أن خفه مع الخارجين قبله، فحكمه ما ذكرنا، وإن(6/178)
علم أنه كان باقيا، أو شك، ففيه الخلاف في تعارض الوضع والعرف. والله أعلم. وأنه لو رأى امرأته تنحت خشبة، فقال: إن عدت إلى مثل هذا الفعل فأنت طالق، فنختت خشبة من شجرة أخرى، ففي وقوع الطلاق (وجهان) لان النحت كالنحت، لكن المنحوت غيره. قلت: الاصح الوقوع. والله أعلم. وأنه لو قال: إن لم تخرجي الليلة من داري فأنت طالق، فخلعها مع أجنبي في الليل وجدد نكاحها ولم تخرج، لم تطلق. وأنه لو حلف لا يخرج من البلد إلا معها، فخرجا، وتقدم معها بخطوات، فوجهان. أحدهما: لا يحنث للعرف. والثاني: يحنث، ولا يحصل البر إلا بخروجهما معا بلا تقدم، وأنه لو حلف أن لا يضربها إلا بالواجب، فشتمته، فضربها بالخشب، طلقت لان الشتم لا يوجب الضرب بالخشب، وإنما تستحق به التعزير، وقيل خلافه. قلت: الاصح، لا تطلق هنا، ولا مسألة التقدم بخطوات يسيرة. والله أعلم. وأنه لو قال لزوجته: إن علمت من أختي شيئا فلم تقوليه لي فأنت طالق، انصرف ذلك إلى ما يوجب ريبة ويوهم فاحشة، دون ما لا يقصد العلم به، كالاكل والشرب، ثم لا يخفى أنه لا يشترط أن تقوله على الفور، وأنها لو سرقت منه دينارا فحلف بالطلاق لتردينه عليه، وكانت قد أنفقته، لا تطلق حتى يحصل اليأس من رده بالموت، فإن تلف الدينار وهما حيان، فوقوع الطلاق على الخلاف في الحنث بفعل المكره. قلت: إن تلف بعد التمكن من الرد، طلقت على المذهب. والله أعلم. وأنه لو سمع لفظ رجل بالطلاق، وتحقق أنه سبق لسانه إليه، لم يكن له أن يشهد عليه بمطلق الطلاق. وأنه لو قال: إن رأيت الدم فأنت طالق، فالظاهر حمله على دم الحيض. وقيل: يتناول كل دم. وأنه لو قال: إن دخلت هذه الدار، فأنت(6/179)
طالق، وأشار إلى موضع من الدار، فدخلت غير ذلك الموضع من الدار، ففي وقوع الطلاق وجهان. قلت: أصحهما الوقوع ظاهرا، لكنه إن أراد ذلك الموضع، دين. والله أعلم. وأنه لو قال: إن كانت امرأتي في المأتم، فأمتي حرة، وإن كانت أمتي في الحمام، فامرأتي طالق، وكانتا عند التعليقين كما ذكر، عتقت الامة، ولم تطلق الزوجة، لان الامة عتقت عند تمام التعليق الاول، وخرجت عن كونها أمته، فلا يحصل شرط الطلاق. ولو قدم ذكر الامة فقال: إن كانت أمتي في المأتم فامرأتي طالق، وإن كانت امرأتي في الحمام، فأمتي حرة، فكانتا كما ذكر، طلقت الزوجة. ثم إن كانت رجعية، عتقت الامة أيضا، وإلا فلا. ولو قال: إن كانت هذه في المأتم، وهذه في الحمام، فهذه حرة، وهذه طالق، وكانتا، حصل العتق والطلاق. وأنه لو قال: إن كان هذا ملكي فأنت طالق، ثم وكل من يبيعه، هل يكون إقرارا (بأنه ملكه ؟) وجهان، وكذا لو تقدم التوكيل على التعليق. قلت: إذا تقدم التوكيل، يبعد، وقوع الطلاق، إذ لم يوجد حال التعليق ولا بعده ما يقتضي الاقرار، والمختار في الحالتين أنه لا طلاق، إذ يحتمل أن يكون وكيلا في التوكيل ببيعه، أو كان لغيره وله عليه دين، وقد تعذر استيفاؤه، فيبيعه ليتملك ثمنه، أو باعه غصبا، أو باعه بولاية كالوالد والوصي والناظر. والله أعلم. وأنه لو كان بين يديه تفاحتان، فقال لزوجته: إن لم تأكلي هذه التفاحة اليوم فأنت طالق، وقال لامته: إن لم تأكلي الاخرى اليوم فأنت حرة، واشتبهت التفاحتان، فوجهان. أحدهما: أن الطريق أن تأكل كل واحدة تفاحة، فلا يقع عتق ولا طلاق للشك، والثاني: تأكل كل واحدة ما ظنت هي والزوج أنها تفاحتها. ولو خالع الزوج وباع الامة في يومه، ثم جدد النكاح والشراء، تخلص من الحنث. وقيل: يبيع الامة للمرأة في يومه، وتأكل المرأة التفاحتين، وأنه لو قال لامرأتيه: كلما كلمت رجلا فأنتما طالقان، ثم قال لرجلين: اخرجا، طلقتا.(6/180)
ولو قال: كلما كلمت رجلا فأنت طالق، فكلم رجلين بكلمة، طلقت طلقتين على الصحيح، وقيل: طلقة. وأنه لو قال: أنت طالق إن تزوجت النساء، أو اشتريت العبيد، لم تطلق إلا إذا تزوج ثلاث نسوة، أو اشترى ثلاثة أعبد. وأنه لو حلف لا يخرج من الدار، فتعلق بغصن شجرة في الدار، والغصن خارج، حنث على الاصح. وأنه لو قال: إن لم تصومي غدا فأنت طالق، فحاضت، فوقوع الطلاق على الخلاف في المكره. وأن لو قال لنسوته الاربع: من حمل منكن هذه الخشبة فهي طالق، فحملها ثلاث منهن، فإن كانت خشبة ثقيلة لا تستقل بحملها واحدة، طلقن. وإن استقلت، لم تطلق واحدة منهن. وقيل: يطلقن. وأنه لو قال: أنت طالق إن لم أطأك الليلة، فوجدها حائضا أو محرمة، فعن المزني أنه حكى عن الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة أنه لا طلاق، فاعترض وقال: يقع، لان المعصية لا تعلق لها باليمين، ولهذا لو حلف أن يعصي الله تعالى، فلم يعص، حنث. وقيل ما قاله المزني هو المذهب، واختيار القفال. وقيل: على القولين، كفوات البر بالاكراه. وأنه لو قال: إن لم أشبعك من الجماع الليلة فأنت طالق، فقيل: يحصل البر إذا جامعها وأقرت أنها أنزلت. وقيل: يعتبر مع ذلك أن تقول: لا أريد الجماع ثانيا، فإن كانت لا تنزل، فيجامعها إلى أن تسكن لذاتها، وإن لم تشته الجماع فيحتمل أن يبنى على الخلاف في التعليق بالمحال. وأن الوكيل بالطلاق إذا طلق لا يحتاج إلى نية إيقاع الطلاق عن موكله في الاصح. وأنه إن قال: إن بت عندك(6/181)
الليلة فأنت طالق، فبات في مسكنها وهي غائبة، لم تطلق. وأنه لو قال: إن لم أصطد ذلك الطائر اليوم فأنت طالق، فاصطاد طائرا، وادعى أنه ذلك الطائر، قبل، للاحتمال، والاصل النكاح. فإن قال الحالف: لا أعرف الحال واحتمل الامرين، فيحتمل وقوع الطلاق وعدمه. قلت: الاصح عدمه كما سبق في آخر الباب الرابع في المسألة: أنت طالق إن لم يدخل زيد اليوم الدار وجهل دخوله. والله أعلم. ولو قال: أنت طالق الطلقة الرابعة، فهل تطلق ؟ وجهان يقربان من الخلاف في التعليق بالمحال. فصل ذكر اسماعيل البوشنجي أنه لو حلف بالطلاق لا تساكنه شهر رمضان، تعلق الحنث بمساكنة جميع الشهر، ولا يحنث ببعضه، وبهذا قال إمام العراقيين، يعني أبا بكر الشاشي، وعن محمد بن يحيى: يحنث بمساكنة ساعة منه، كما لو حلف لا يكلمه شهر رمضان، يحنث بتكليمه مرة. وأنه لو قال: امرأتي طالق إن أفطرت بالكوفة، وكان يوم الفطر بالكوفة، فلم يأكل ولم يشرب، فمقتضى المذهب أنه لا تطلق، لان الافطار محمول على تناول مأكول أو مشروب، وأنه لو حلف أنه لا يعيد بالكوفة، فأقام معها يوم العيد، ولم يخرج إلى العيد، حنث ويحتمل المنع. ولو قال: إن أكلت اليوم إلا رغيفا فأنت طالق، فأكلت رغيفا ثم فاكهة، طلقت. ولو قال: إن أكلت أكثر من رغيف، فأكلت خبزا بإدام، طلقت أيضا. وأنه لو قال: إن أدركت الظهر مع الامام فأنت طالق، فأدركته فيما بعد الركعة الاولى، لم تطلق على قياس مذهبنا، لان الظهر عبارة عن الركعات الاربع، ولم يدركها. قلت: هذا فيه نظر، فإنه يقال: أدرك الجماعة، وأدرك صلاة الامام، ولكن الظاهر أنه لا يقع، لان حقيقته إدراك الجميع، ومنه الحديث ما أدركتم فصلوا،(6/182)
وما فاتكم فاقضوا. والله أعلم. وأنه لو طلق نسوته طلاقا رجعيا، ثم قال: كل واحدة أراجعها فهي طالق كلما كلمت فلانا، فراجع امرأة، ثم كلم فلانا، ثم راجع أخرى، طلقت الاولى دون الثانية، لان شرط الحنث المراجعة قبل الكلام، فإن كلمه مرة أخرى، طلقت الثانية أيضا. وأنه لو قال: آخر امرأة أراجعها فهي طالق، فراجع نسوة، ومات، يقع الطلاق على آخرهن مراجعة باليقين. حتى لو انقضت عدتها من ذلك الوقت، لم ترثه. وإن كان وطئها، فعليه مهر مثلها. وأنه إذا علق الطلاق على النكاح، فهو محمول على العقد دون الوطئ، إلا إذا نوى. وأنه لو تخاصم الزوجان في المراودة، فقال: إن لم تجيئي إلى الفراش الساعة فأنت طالق، ثم طالت الخصومة حتى مضت الساعة، ثم جاءت إلى الفراش، فالقياس أنها طلقت. وأنه لو قال: إن كلمت بني آدم فأنت طالق، فالقياس أنها لا تطلق بكلام واحد ولا اثنين، إلا إذا أعطيناهما حكم الجمع. وأنه لو قال: إن دخلت الدار فعبدي حر، أو كلمت فلانا فامرأتي طالق، سألناه لنتبين أي اليمينين أراد منهما، فما أراد تقرر. وأنه لو قال: أنت طالق في الدار، فمطلق هذا يقتضي وقوع الطلاق إذا دخلت هي الدار. وأنه لو قال: إن ملكتما عبدا فأنت طالق، فشرط الحنث على ما يقتضيه القياس، أن يملكاه معا، حتى لو ملك أحدهما عبدا ثم باعه لصاحبه، لا يحنث. ولو قال: إن لبست قميصين فأنت طالق، فلبستهما متواليين، طلقت على قياس المذهب. وأنه لو قال: إن اغتسلت في هذه الليلة فأنت طالق، فاغتسل فيها من غير جنابة، وقال: قصدت بيميني غسل الجنابة، فالقياس أنه يدين ولا يقبل ظاهرا،(6/183)
وأنه لو حلف في جنح الليل أنه لا يكلم فلانا يوما، ولا نية له، فعليه أن يمتنع من كلامه في اليوم الذي يليه، ولا بأس بأن يكلمه في بقية الليل، وأنه لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار ثنتين أو ثلاثا أو عشرا، فهو مجمل، فإن قال: أردت أنها تطلق واحدة إن دخلت الدار مرتين، أو ثلاثا، صدق، فإن اتهم، حلف، وإن أراد وقوع الطلاق بالعدد المذكور، وقع الثلاث، ولغت الزيادة، وأنه لو قال: إن خرجت من الدار فأنت طالق، وللدار بستان بابه مفتوح إليها، فخرجت إلى البستان، فالذي يقتضيه المذهب أنه إن كان بحيث يعد من جملة الدار ومرافقها لا تطلق، وإلا فتطلق. وأنه لو قال لابويه: إن تزوجت ما دمتما حيين، فامرأتي هذه طالق، فمات أحدهما، فتزوج، ينبغي أن لا يقع طلاقه. وأنه لو حلف لا يطعنه بنصل هذا الرمح أو السهم، فنزع النصل، وجعله في رمح آخر وطعنه به، حنث. وأنه لو قال: إن شتمتني ولعنتني فأنت طالق، فلعنته، لم تطلق، لانه علق على الامرين. وأنها لو خرجت إلى قرية للضيافة، فقال: إن مكثت هناك أكثر من ثلاثة أيام فأنت طالق، فخرجت من تلك القرية بعد الثلاثة أو قبل، ثم رجعت إليها، فينبغي أن لا تطلق. وأنه لو قال نصف الليل، إن بت مع فلان، فأنت طالق، فبات معه بقية الليل، طلقت على مقتضى القياس، ولا يشترط أن يبيت جميع الليل ولا أكثره. قلت: المختار، أن المبيت يحمل مطلقه على أكثر الليل إذا لم يكن قرينة كما سبق في المبيت بمنى، لكن الظاهر الحنث هنا لوجود القرينة. والله أعلم. ولو حلف أنه ما يعرف فلانا، وقد عرفه بوجهه، وطالت صحبته له، إلا أنه لا يعرف اسمه، حنث على قياس المذهب، وبه قال سعد الاسترابادي. وأنه لو قال: آخر امرأة أراجعها فهي طالق، فراجع حفصة ثم عمرة، ثم طلق حفصة ثم راجعها، فالذي أراه أن حفصة تطلق لانها صارت اخرا بعدما كانت أولا. وأنه لو قال: إن نمت على ثوب لك فأنت طالق، فوضع رأسه على مرفقة لها، لا تطلق، كما لو وضع عليها يديه أو رجليه. وأنه لو حلف لا يأكل من مال فلان، فنثر مأكولا فالتقطه وأكله، حنث، وكذا لو تناهدا فأكل من طعامه. قلت: الصورتان مشكلتان، والمختار في مسألة النثار، بناؤه على الخلاف،(6/184)
في أنه يملكه الآخذ أم لا ؟ فإن قلنا بالاصح: إنه يملكه، لم يحنث، وإلا فيخرج على الخلاف السابق في الضيف ونحوه، أنه هل يملك الطعام المقدم إليه ومتى يملكه ؟ وأما مسألة المناهدة وهي خلط المسافرين نفقتهم واشتراكهم في الاكل من المختلط، ففيها نظر، لانها في معنى المعاوضة، وإلا فيخرج على مسألة الضيف. والله أعلم. وأنه لو قال: إن دخلت دار فلان ما دام فيها فأنت طالق، فتحول فلان منها ثم عاد إليها، فدخلتها، لا تطلق، وأنه لو قال: إن قتلته يوم الجمعة فأنت طالق، فضربه يوم الخميس ومات يوم الجمعة بسبب ذلك الضرب، لم تطلق، لان القتل هو الفعل المفوت للروح، ولم يوجد ذلك يوم الجمعة. وأنه لو قال: إن أغضبتك فأنت طالق، فضرب ابنها، طلقت وإن كان ضرب تأديب. وأنه لو حلف ليصومن (زمانا، أنه يحنث بصوم بعض يوم إن قلنا: إن من حلف ليصومن، أنه يحنث بالشروع فيه، وأنه لو حلف ليصومن) أزمنة، بر بصوم يوم لاشتماله على أزمنة. ولو حلف ليصومن الايام، فيحمل على أيام العمر، أو على ثلاثة أيام، وهو الاولى. وأنه لو قال: إن كان الله سبحانه وتعالى يعذب الموجودين، فأنت طالق، طلقت. قلت: هذا إذا قصد إن كان يعذب أحدا منهم، فإن قصد إن كان يعذبهم كلهم، أو لم يقصد شيئا، لم تطلق لان التعذيب مختص ببعضهم. والله أعلم. وأنه لو اتهمته امرأته بالغلمان، فحلف بالطلاق لا يأتي حراما، ثم قبل غلاما، أو لمسه، يحنث لعموم اللفظ. وأنه لو قال: أنت طالق إن خرجت من الدار، ثم قال: لا تخرجين من الصفة أيضا، فخرجت من الصفة، لم تطلق، لان قوله: ولا تخرجين كلام مبتدأ ليس فيه صيغة تعليق ولا عطف. فصل عن البويطي أنه لو قال: أنت طالق بمكة، أو في مكة، أو في البحر، طلقت في الحال، إلا أن يريد إذا حصلت هناك. وكذا لو قال: في الظل وهما(6/185)
في الشمس، بخلاف ما إذا كان الشئ منتظرا غير حاصل، كقوله: في الشتاء وهما في الصيف، لا يقع حتى يجئ الشتاء. فصل في الزيادات لابي عاصم العبادي أنه لو قال: إن أكلت من الذي طبخته هي فهي طالق، فوضعت القدر على الكانون، وأوقدت غيرها، لم تطلق، وكذا لو سجر التنور غيرها ووضعت القدر فيه. وأنه لو قال: إن كان في بيتي نار فأنت طالق، وفيه سراج، طلقت وأنه لو حلف لا يأكل من طعامه، ودفع إليه دقيقا ليخبزه له فخبزه بخميرة من عنده، لم يحنث لانه مستهلك. وأنها لو قالت: لا طاقة لي بالجوع معك، فقال: إن جعت يوما في بيتي فأنت طالق، ولم ينو المجازاة، تعتبر حقيقة الصفة، ولا تطلق بالجوع في أيام الصوم، وأنه لو قال: إن دخلت دارك فأنت طالق، فباعتها ودخلها، لم تطلق على الاصح. فصل قال: إن لم تكوني أحسن من القمر، أو إن لم يكن وجهك أحسن من القمر فأنت طالق، قال القاضي أبو علي الزجاجي والقفال وغيرهما: لا تطلق، واستدلوا بقول الله تعالى: * (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم) *. قلت: هذا الحكم والاستشهاد، متفق عليه، وقد نص عليه الشافعي رحمه الله، وقد ذكرت النص في ترجمة الشافعي من كتاب الطبقات. قال الشيخ إبرهيم المروذي: لو قال: إن لم أكن أحسن من القمر فأنت طالق، لا تطلق، وإن كان زنجيا أسود. والله أعلم. فصل في فتاوى الحناطي أنه لو قال: إن قصدتك بالجماع فأنت طالق، فقصدته المرأة، فجامعها، لم تطلق، وإن قال: إن قصدت جماعك، طلقت في هذه الصورة. فصل حكى أبو العباس الروياني، أن امرأة قالت لزوجها: اصنع لي ثوبا ليكن لك فيه أجر، فقال: إن كان لي فيه أجر فأنت طالق، فقالت: استفتيت فيه إبرهيم بن يوسف العالم، فقال: إن كان إبرهيم بن يوسف عالما فأنت طالق،(6/186)
فاستفتى إبرهيم بن يوسف فقال: لا يحنث في اليمين الاولى، لانه مباح، والمباح لا أجر له فيه، ويحنث في الثانية، لان الناس يسمونني عالما. وقيل: يحنث في الاولى أيضا، لان الانسان يؤجر في ذلك إذا قصد البر، وحكى الوجهين القاضي الروياني في كتابه التجزئة وقال: الصحيح الثاني. قلت: لا معنى للخلاف في مثل هذا، لانه إن قصد الطاعة كان فيه أجر ويحنث، وإلا فلا، ومقتضى الصورة المذكورة، أن لا يحنث، لانه لم يقع فعل نية الطاعة. والله أعلم. فصل قال شافعي: إن لم يكن الشافعي أفضل من أبي حنيفة، فامرأتي طالق، وقال حنفي: إن لم يكن أبو حنيفة أفضل من الشافعي، فامرأتي طالق، لا يحكم بالطلاق على أحدهما، وشبهوه بمسألة الغراب. وعن القفال: لا يفتى في هذه المسألة وفي تعليق الشيخ إبرهيم المروذي في هذه المسألة، أنه لو قال السني: إن لم يكن الخير والشر من الله تعالى فامرأتي طالق، وقال المعتزلي: إن كانا من الله تعالى فامرأتي طالق، أو قال السني: إن لم يكن أبو بكر أفضل من علي رضي الله عنهما فامرأتي طالق، فقال الرافضي: إن لم يكن علي أفضل من أبي بكر، وقع طلاق المعتزلي والرافضي، وأنه لو قال لها: أفرغي البيت من قماشك، فإن دخلت ووجدت فيه شيئا من قماشك ولم أكسره على رأسك فأنت طالق، فدخل فوجد في البيت هاونا لها، فوجهان. أحدهما: لا تطلق، للاستحالة، والثاني: تطلق عند اليأس قبيل موتها أو موته. وأنه لو تخاصم الزوجان فخرجت مكشوفة الوجه، فعدا خلفها وقال: كل امرأة لي خرجت من الدار مكشوفة ليقع نظر الاجانب عليها فهي طالق، فسمعت قوله فرجعت ولم يبصرها أجنبي، طلقت، ولو قال: كل امرأة لي خرجت مكشوفة ويقع نظر الاجانب عليها فهي طالق، فخرجت ولم يبصرها أجنبي، لم تطلق. والفرق أن الطلاق في الصورة الثانية معلق على صفتين، ولم يوجد إلا(6/187)
إحداهما، وفي الاولى على صفة فقط وقد وجدت. قلت: هكذا صواب صورة هذه المسألة، وكذا حقيقتها من كتاب إبرهيم المروذي، ووقعت في نسخ من كتاب الرافعي مغيرة. والله أعلم.(6/188)
كتاب الرجعة
هي بفتح الراء وكسرها، والفتح فيه أفصح، وفيه بابان.(6/189)
الأول : في أركانها، وهي أربعة.
الأول : سببها، والمطلقات قسمان. الاول: من لم يستوف زوجها عدد طلاقها، وهي نوعان، بائن ورجعية، فالبائن هي المطلقة قبل الدخول أو بعوض، فلا يحل له إلا بنكاح جديد، والرجعية، هي المطلقة بعد الدخول بلا عوض. القسم الثاني: مطلقة استوفى عدد طلاقها، فلا تحل له برجعة ولا بنكاح إلا بعد محلل، وإن شئت اختصرت، فقلت: الرجعية مطلقة بعد الدخول (بلا عوض) ولا استيفاء عدد. فرع سواء في ثبوت الرجعة طلق بصريح أو كناية، ولو طلق ثم قال: أسقطت حق الرجعة، أو طلق بشرط أن لا رجعة، لم يسقط ولا مدخل للرجعة في الفسوخ.
الركن الثاني : الزوج المرتجع، ويشترط فيه أهلية النكاح، والاستحلال، والبلوغ، والعقل، فلا رجعة لمرتد، ولو طلق رجل فجن، فينبغي أن يجوز لوليه(6/190)
المراجعة حيث يجوز ابتداء النكاح، هذا إذا جوزنا التوكيل في الرجعة وهو الصحيح، وللعبد المراجعة بغير إذن سيده على الصحيح.
الركن الثالث : الصيغة، فتحصل الرجعة بقوله: رجعتك أو راجعتك أو ارتجعتك، وهذه الثلاثة صريحة، ويستحب أن يضيف إلى النكاح أو الزوجية، أو نفسه، فيقول: رجعتك إلى نكاحي أو زوجيتي أو إلي، ولا يشترط ذلك، ولا بد من إضافة هذه الالفاظ إلى مظهر أو مضمر، كقوله: راجعت فلانة أو راجعتك، فأما مجرد راجعت وارتجعت، فلا ينفع. ولو قال: راجعتك للمحبة أو للاهانة أو للاذى، وقال: أردت لمحبتي إياك، أو لاهينك، أو أوذيك، قبل وحصلت الرجعة، وإن قال: أردت أني كنت أحبها أو أهينها قبل النكاح، فردتها إلى ذلك، قبل ولم تحصل الرجعة، وإن تعذر سؤاله بموته، أو أطلق، حصلت الرجعة، لان اللفظ صريح وظاهره إرادة المعنى الاول، وأشير فيه إلى احتمال، ولو قال: رددتها، فالاصح أنه صريح، فعلى هذا، في اشتراطه قوله: إلي أو إلى نكاحي، وجهان. أصحهما: يشترط، ولو قال: أمسكتك، فهل هو كناية أم صريح أم لغو ؟ فيه أوجه، أصحها عند الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب والروياني وغيرهم: كناية، وصحح البغوي كونه صريحا، وهو قول ابن سلمة والاصطخري، وابن القاص. قلت: صحح الرافعي في المحرر أنه صريح. والله أعلم. فإن قلنا: صريح، فيشبه أن يجئ في اشتراط الاضافة وجهان، كالرد. وجزم البغوي بعدم الاشتراط، وأنه مستحب. ولو قال: تزوجتك أو نكحتك، فهل هو كناية أم صريح، أم لغو ؟ أوجه. أصحها: الاول، وبه قال القاضي ويجري(6/191)
الخلاف فيما لو جرى العقد على صور الايجاب والقبول، قال الروياني: الاصح هنا الصحة، لانه آكد في الاباحة. قلت: ولو قال: اخترت رجعتك ونوى الرجعة، ففي حصولها وجهان حكاهما الشاشي، الاصح الحصول. والله أعلم. فرع تصح الرجعة بالعجمية، سواء أحسن العربية أم لا، وقيل: لا، وقيل: بالفرق، والصحيح الاول. فرع هل صرائح الرجعة منحصرة، أم كل لفظ يؤدي معنى الصريح صريح، كقوله: رفعت تحريمك وأعدت حلك ونحوهما ؟ فيه وجهان، أصحهما: الانحصار، لان الطلاق صرائحه محصورة، فالرجعة التي هي تحصيل إباحة أولى. فرع لا يشترط الاشهاد على الرجعة على الاظهر، فعلى هذا، تصح بالكتابة مع القدرة على النطق، وإلا فلا. فرع لا تقبل الرجعة التعليق، فلو قال: راجعتك إن شئت، فقالت: شئت، لم يصح، ولو قال: إذ شئت، أو أن شئت بفتح الهمزة، صح. ولو طلق إحدى زوجتيه مبهما، ثم قال: راجعت المطلقة، لم يصح على الاصح. ولو قال لرجعية: متى راجعتك فأنت طالق، أو قال لمن في صلب النكاح: متى طلقتك وراجعتك فأنت طالق، فراجعها فهل تصح الرجعة وتطلق، أم لا تصح أصلا، أم تصح ولا تطلق ويلغو الشرط ؟ فيه أوجه، الصحيح الاول. فرع لا تحصل الرجعة بالوطئ والتقبيل وشبههما.
الركن الرابع : المحل، وهي الزوجة، ولا يشترط رضاها، ولا رضا سيد(6/192)
الامة، ويستحب إعلامه، ويشترط فيها بقاؤها في العدة، وكونها قابلة للحل، فلو ارتد الزوجان أو أحدهما في العدة، فراجعها في حال الردة، لم يصح، وإذا أسلما قبل انقضاء العدة، فلا بد من استئناف الرجعة، نص عليه، وبه قال الاصحاب. وقال المزني: الرجعة موقوفة. فإذا أسلما في العدة، تبينا صحتها. قال الامام: وهذا له وجه، ولكن لم أر من الاصحاب من جعله قولا مخرجا، فعلى النص، لو ارتد الزوجان أو أحدهما بعد الدخول، ثم طلقها في العدة، أو راجعها، فالطلاق موقوف، إن جمعهما الاسلام في العدة، تبينا نفوذه، والرجعة باطلة، ولو كا نا ذميين فأسلمت فراجعها وتخلف، لم يصح، ولو أسلم في العدة، احتاج إلى الاستئناف. فرع إذا أثبتنا العدة بالوطئ في الدبر، أو بالخلوة، ثبتت الرجعة على الاصح. قلت: مما يتعلق بالركن، قال إبرهيم المروذي: لو كان تحته حرة وأمة، فطلق الامة رجعية، فله رجعتها. والله أعلم.
فصل العدة تكون بالحمل أو الاقراء أو الاشهر، فلو ادعت المعتدة بالاشهر انقضاءها، وأنكر الزوج، صدق بيمينه، لانه اختلاف في وقت طلاقه. ولو قال: طلقتك في رمضان. فقالت: بل في شوال، فقد غلطت على نفسها فتؤاخذ بقولها. وأما عدة الحامل، فتنقضي بوضع الحمل التام المدة، حيا كان أو ميتا أو ناقص الاعضاء، وبإسقاط ما ظهر فيه صورة الآدمي، فإن لم يظهر، فقولان مشروحان في كتاب العدة. ومتى ادعت وضع حمل أو سقط أو مضغة، إذا اكتفينا بها، صدقت بيمينها. وقيل: لا تصدق مطلقا، ولا بد من بينة، وقيل: لا تصدق في الولد الميت إذا لم يظهر. وقيل: ولا في الولد الكامل. وقيل: ولا في السقط، والمذهب الاول، قال الائمة: وإنما يصدقها فيما يرجع في العدة بشرطين. أحدهما: أن تكون ممن تحيض. فلو كانت صغيرة أو آيسة، لم تصدق. والثاني: أن تدعي الوضع لمدة الامكان، ويختلف الامكان بحسب دعواها. فإن ادعت ولادة ولد تام، فأقل مدة تصدق فيها ستة أشهر ولحظتان من حين إمكان اجتماع الزوجين بعد النكاح لحظة لامكان الوطئ، ولحظة للولادة، فإن ادعت لاقل من ذلك، لم تصدق، وكان للزوج رجعتها. وإن ادعت إسقاط سقط ظهرت فيه(6/193)
الصورة، فأقل مدة إمكانه أربعة أشهر ولحظتان من يوم إمكان الاجتماع، وإن ادعت إلقاء مضغة لا صورة فيها، فأقل مدة إمكانها ثمانون يوما، ولحظتان من يوم إمكان الاجتماع. وأما المعتدة بالاقراء، فإن طلقت في الطهر حسب بقية الطهر قرءا، وإن طلقت في الحيض، اشترط مضي ثلاثة أطهار كاملة، كما سيأتي في العدد إن شاء الله تعالى. فأقل مدة تمكن انقضاء العدة فيها إذا طلقت في الطهر اثنان وثلاثون يوما ولحظتان، وذلك بأن تطلق وقد بقي من الطهر لحظة، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة، وتطهر خمسة عشر، ثم تطعن في الحيض، هذا هو المذهب. ولنا وجه أنه لا تعتبر اللحظة الاولى تفريعا على أن القرء هو الانتقال من الطهر إلى الحيض، فإذا صادف الطلاق آخر جزء من الطهر، حسب ذلك قرءا، ويظهر تصوير ذلك فيما إذا علق الطلاق بآخر. وفي قول: لا يحكم بانقضاء العدة بمجرد الطعن في الدم آخرا، بل يشترط مضي يوم وليلة، ثم هل اليوم والليلة على هذا، أو اللحظة على المذهب من نفس العدة، أم ليس منها وإنما هو لاستيقان انقضاء الاقراء ؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني، وتظهر فائدتهما في ثبوت الرجعة في ذلك الوقت، هذا كله تفريع على المذهب أن أقل الحيض يوم وليلة، فإن جعلناه أقل من ذلك، نقص زمن الامكان عن المدة المذكورة، هذا كله في طهر غير المبتدأة، أما إذا طلقت المرأة قبل أن تحيض، ثم حاضت، فيبنى أمرها على أن القرء طهر محتوش بدمين، أم لا يشترط فيه الاحتواش ؟ فإن لم يشترط، فحكمها في مدة الامكان حكم غيرها، وإن شرطناه، فأقل مدة إمكانها ثمانية وأربعون يوما ولحظة، هذا كله إذا طلقت في طهر. أما المطلقة في حيض، فأقل مدة إمكانها سبعة وأربعون يوما ولحظة، بأن تطلق في اخر جزء من الحيض، ويظهر تصويره فيما إذا علق طلاقها بآخر جزء من حيضها، ثم تطهر خمسة عشر يوما، ثم تحيض يوما(6/194)
وليلة، وتطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة، وتطهر خمسة عشر، وتطعن في الحيض، وفي لحظة الطعن ما ذكرناه في المطلقة في الطهر، ولا تحتاج هنا إلى تقدير لحظة في الاول، لان اللحظة هناك تحسب قرءا، هذا حكم الحرة، وأما الامة، فإن طلقت في طهر، فأقل مدة إمكانها ستة عشر يوما ولحظتان، وإن طلقت ولم تحض قط، ثم ظهر الدم وشرطنا في القرء الاحتواش، فأقل مدة الامكان اثنان وثلاثون يوما ولحظة، وإن طلقت في الحيض، فالاقل أحد وثلاثون يوما ولحظة. إذا عرف هذا، فإن لم يكن للمطلقة عادة في الحيض والطهر مستقيمة، بأن لم تكن حاضت ثم طرأ حيضها، وكان لها عادات مضطربة، أو كانت لها عادة مستقيمة دائرة على الاقل حيضا وطهرا، صدقت بيمينها إذا ادعت انقضاء الاقراء لمدة الامكان، فإن نكلت عن اليمين، حلف الزوج وكان له الرجعة، فإن كان لها عادة مستقيمة دائرة على ما فوق الاقل، صدقت في دعوى انقضائها على وفق العادة، وهل تصدق فيما دونها مع الامكان ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: تصدق بيمينها، لان العادة قد تغير، والثاني: لا للتهمة، قال الشيخ أبو محمد: هذا هو المذهب. قال الروياني: هو الاختيار في هذا الزمان. قال: وإذا قالت لنا امرأة انقضت عدتي، وجب أن نسألها عن حالها، كيف الطهر والحيض ؟ ونحلفها عند التهمة لكثرة الفساد، هذا لفظه. فرع ادعت انقضاء العدة لدون الامكان، ورددنا قولها، فجاء زمن الامكان، فإن كذبت نفسها، أو قالت: غلطت وابتدأت الآن دعوى الانقضاء، صدقت بيمينها، وإن أصرت على الدعوى الاولى، صدقناها الآن أيضا على الاصح، لان إصرارها يتضمن دعوى الانقضاء الآن. فرع قال: إن ولدت فأنت طالق، وطلقت بالولادة، فأقل زمن يمكن انقضاء أقرائها فيه، مبني على أن الدم تراه في الستين، هل يجعل حيضا، فيه خلاف سبق. فإن جعلناه حيضا وهو الاصح، فأقل زمن تصدق فيه سبعة وأربعون يوما ولحظة، كما لو طلقت في الحيض، فتقدر أنها ولدت ولم تر دما، ويعتبر مضي ثلاثة أطهار وثلاث حيض، والطعن في الحيضة الرابعة، وإن لم نجعله حيضا لم(6/195)
تصدق فيما دون اثنين وتسعين يوما ولحظة، منها ستون للنفاس، ويحسب ذلك قرءا، وبعدها مدة حيضتين وطهرين، واللحظة للطعن في الحيضة الثالثة، هكذا ذكره البغوي، ولم يعتد المتولي بالنفاس قرءا، واعتبر مضي مائة وسبعة أيام ولحظة، وهي مدة النفاس، ومدة ثلاثة أطهار وحيضتين، واللحظة للطعن.
فصل الرجعة مختصة بعدة الطلاق، فلو وطئ الزوج الرجعية في العدة، فعليها أن تستأنف ثلاثة أقراء من وقت الوطئ، ويدخل فيها ما بقي من عدة الطلاق، ولا تثبت الرجعة إلا فيما بقي من عدة الطلاق، وله تجديد النكاح فيما زاد بسبب الوطئ، ولا يجوز ذلك لغيره. ولو أحبلها بالوطئ، اعتد ت بالوضع عن الوطئ. وفي دخول ما بقي من عدة الطلاق في عدة الوطئ وجهان. أصحهما: يدخل، فعلى هذا، له الرجعة في عدة الحمل على الاصح، وحكى البغوي وجها، أن الرجعة تنقطع على هذا بالحمل. فإن قلنا: لا تدخل، فإذا وضعت، رجعت إلى بقية الاقراء، وللزوج الرجعة في البقية التي تعود إليها بعد الوضع، وله الرجعة أيضا قبل الوضع على الاصح.
الباب الثاني : في أحكام الرجعية والرجعة وفيه مسائل. إحداها: يحرم وطئ الرجعية ولمسها، والنظر إليها، وسائر الاستمتاعات. فإن وطئ، فلا حد وإن كان عالما بالتحريم لاختلاف العلماء في إباحته، وفي العالم وجه ضعيف، ولا تعزير أيضا إن كان جاهلا أو يعتقد الاباحة، وإلا فيجب. وإذا وطئ ولم يراجع، لزمه مهر المثل، وإن راجعها، فالنص وجوب المهر أيضا، ونص فيما لو ارتدت فوطئها الزوج في العدة ثم أسلمت فيها، فلا مهر. وكذا لو أسلم أحد المجوسيين أو الوثنيين ووطئها، ثم أسلم المتخلف في العدة، فقال(6/196)
الاصطخري: في الجميع قولان، وحكى ابن كج عن ابن القطان، أنه وجدهما منصوصين، والمذهب تقرير النصين الاولين، لان أثر الطلاق لا يرتفع بالرجعة، بل يبقى نقصان العدة فيكون ما بعد الرجعة وما قبل الطلاق كعقدين، وأما أثر الردة وتبديل الدين، فيرتفع بالاسلام، فيكون الوطئ مصادفا للعقد الاول. الثانية: يصح خلع الرجعية على الاظهر، ويصح الايلاء والظهار عنها، واللعان، ويلحقها الطلاق. وإذا مات أحدهما في العدة، ورثه الآخر، ويجب نفقتها، وهذه الاحكام مذكورة في أبوابها، ولو قال: نسائي أو زوجاتي طوالق، دخلت الرجعية فيهن على الاصح المنصوص. الثالثة: طلق زوجته الرقيقة رجعية، ثم اشتراها، وجب استبراؤها، لانها كانت محرمة بالطلاق. فإن بقيت في العدة حيضة كاملة، كفت، وإن بقيت بقية الطهر، فقيل: يكفي، وقيل: يشترط حيضة كاملة على القياس، هذا إذا قلنا: الاستبراء بالحيض وهو المذهب، فإن قلنا: بالطهر، قلنا: بقية الطهر كافية للاستبراء، حصل الغرض بها. فرع لما نظر الاصحاب في الاحكام المذكورة في هذه المسائل، استنبطوا منها أقوالا في أن الطلاق الرجعي يقطع النكاح ويزيل الملك، أم لا ؟ أحدها: نعم، بدليل تحريم الوطئ ووجوب المهر ومنع الخلع على قول. والثاني: لا، لوقوع الطلاق وعدم الحد، وصحة الايلاء والظهار واللعان، وثبوت الارث وصحة الخلع، وعدم الاشهاد على الاظهر فيهما. واشتهر عن لفظ الشافعي رضي الله عنه، أن الرجعية زوجة في خمس آيات من كتاب الله تعالى، وأراد الآيات المشتملة على هذه الاحكام. والثالث: أنه موقوف، فإن لم يراجعها حتى انقضت العدة، تبينا زوال(6/197)
الملك بالطلاق. وإن راجع، تبينا أنه لم يزل، ورجح الغزالي القول الاول، والامام الثاني. والتحقيق أنه لا يطلق ترجيح واحد منهما لما ذكرناه من اختلاف الترجيح في الصور المذكورة. قلت: المختار ما اختاره الرافعي، أنه لا يطلق ترجيح، ونظيره القولان في أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع، أم جائزة، وأن الابراء إسقاط أم تمليك ؟ ويختلف الراجح بحسب المسائل، لظهور دليل الطرفين في بعضها، وعكسه في بعض. والله أعلم.
فصل في الاختلاف فإذا ادعى أنه راجع في العدة، وأنكرت، فإما أن يختلفا قبل أن تنكح زوجا، وإما بعده. القسم الاول: قبله، فإما إن تكون العدة منقضية، وإما باقية. الضرب الاول: منقضية وادعى سبق الرجعة، وادعت سبق انقضاء العدة، فلهذا الاختلاف صور. إحداها: أن يتفقا على وقت انقضاء العدة، كيوم الجمعة. وقال: راجعت يوم الخميس، وقالت: بل يوم السبت، فثلاثة أوجه. الصحيح الذي عليه الجمهور القول قولها بيمينها أنها لا تعلمه راجع يوم الخميس. والثاني: القول قوله بيمينه. والثالث: قالت: أولا انقضت يوم الجمعة فصدقها، وقال: راجعت يوم الخميس،(6/198)
فهي المصدقة. وإن قال هو أولا: راجعتك يوم الخميس فهو مصدق لاستقلاله بالرجعة، والرجعة تقطع العدة. فإن اقترن دعواهما، سقط هذا الوجه، وبقي الوجه الآخر، وبقي الاولان. الصورة الثانية: أن يتفقا على الرجعة يوم الجمعة، وقالت: انقضت يوم الخميس، وقال: بل يوم السبت، فهل يصدق بيمينه أم هي، أم السابق بالدعوى ؟ أوجه، الصحيح الاول. الثالثة: أن لا يتفقا، بل يقتصر على تقدم الرجعة، وهي على تأخرها، ففيه طرق ذكرناها في اخر نكاح المشرك، وهنا خلاف اخر حاصله أوجه. أصحها: تصديق من سبق بالدعوى، فلو وقع كلامهما معا، فالقول قولها، والثاني: تصديقها مطلقا، والثالث: تصديقه، والرابع: يقرع ويقدم قول من خرجت قرعته، حكاه القاضي أبو الطيب، والخامس: يسأل الزوج عن وقت الرجعة، فإذا تبين وصدقته، وإلا ثبت بيمينه، وتسأل عن وقت انقضاء العدة، فإن صدقها وإلا ثبت بيمينها، ثم ينظر فيما ثبت من وقتيهما، ويحكم للسابق منهما، ولو قال: لا نعلم حصول الامرين مرتبا، ولا نعلم السابق، فالاصل بقاء العدة وولاية الرجعة. الضرب الثاني: أن تكون العدة باقية، واختلفا في الرجعة، فالقول قوله على الصحيح. وقيل: قولها، لان الاصل عدم الرجعة، فإن أرادها، فلينشئها. فإذا قلنا بالصحيح، فقد أطلق جماعة، منهم البغوي، أن إقراره ودعواه، يكون إنشاء، وحكى ذلك عن القفال، قال الشيخ أبو محمد: ومن قال به، يجعل الاقرار بالطلاق إنشاء أيضا، قال الامام: هذا لا وجه له، فإن الاقرار والانشاء يتنافيان، فذلك إخبار عن ماض، وهذا إحداث في الحال، وذلك يدخله الصدق والكذب، وهذا بخلافه. فرع قال: راجعتك اليوم، فقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك، صدقت هي، نص عليه، قال الاصحاب: المراد إذا اتصل كلامها بكلامه، قالوا: وقوله راجعت، إنشاء، وقولها: انقضت عدتي إخبار، فيكون الانقضاء سابقا على قولها.(6/199)
القسم الثاني: إذا نكحت زوجا بعد العدة، فجاء الاول وادعى الرجعة في العدة، فإن أقام بينة، فهي زوجته، سواء دخل بها الثاني أم لا، فإن دخل، فلها عليه مهر المثل، وإن لم تكن بينة، وأراد تحليفها، سمعت دعواه على الصحيح، فلو ادعى على الزوج، ففي سماع دعواه وجهان، أصحهما عند الامام: لا، لان الزوجة ليست في يده. والثاني: نعم، لانها في حبالته وفراشه، وبهذا قطع المحاملي وغيره من العراقيين. فإذا ادعى عليها، فإن أقرت بالرجعة، لم يقبل إقرارها على الثاني، بخلاف ما لو ادعى على امرأة في حبال رجل أنها زوجته، فقالت: كنت زوجتك فطلقتني، فإنه يكون إقرارا له، وتجعل زوجة له، والقول قوله في أنه لم يطلقها، لان هناك لم يحصل الاتفاق على الطلاق، وهنا حصل، والاصل عدم الرجعة، وتغرم المرأة للاول مهر مثلها، لانها فوتت البضع عليه بالنكاح الثاني. وقال أبو إسحق: لا غرم عليها، كما لو قتلت نفسها أو ارتدت، وإن أنكرت، فهل تحلف ؟ فيه خلاف مبني على أنها لو أقرت هل تغرم ؟ إن قلنا: لا، فإقرارها بالرجعة غير مقبول ولا مؤثر في الغرم، فلا تحلف، والاصح التحليف، فإن حلفت، سقطت دعواه، وإن نكلت، حلف وغرمها مهر المثل، ولا يحكم ببطلان نكاح الثاني وإن جعلنا اليمين المردودة كالبينة على قول، لانها لا تكون كالبينة في حق المتداعيين. وحكى الامام وجها أنه يحكم ببطلان نكاح الثاني إذا قلنا: كالبينة، وإذا قبلنا الدعوى على الزوج الثاني، نظر، إن بدأ بالدعوى على الزوجة، فالحكم كما سبق، لكن إذا انقضت خصومتهما، بقيت دعواه على الثاني، وإن بدأ بالدعوى على الثاني، فإن أنكر، صدق بيمينه، وإن نكل، ردت اليمين على المدعي، فإن حلف، حكم بارتفاع نكاح الثاني، ولا تصير المرأة(6/200)
للاول بيمينه، ثم إن قلنا: اليمين المردودة كالبينة، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح، ولا شئ لها عليه، إلا أن يكون دخل بها، فعليه مهر المثل، وإن قلنا: كالاقرار، فإقراره عليها غير مقبول، فلها عليه كمال المسمى إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبله. قال البغوي: والصحيح عندي، أنها وإن جعلت كالبينة لا تؤثر في سقوط حقها من المسمى، بل يختص أثر اليمين المردودة بالمتداعيين، فإذا انقضت الخصومة بينهما، فله الدعوى على المرأة، ثم ينظر، فإن بقي النكاح الثاني، بأن حلف، فالحكم كما ذكرنا فيما إذا بدأ بها، وإن لم يبق، بأن أقر الثاني للاول بالرجعة، أو نكل وحلف الاول، فإن أقرت المرأة سلمت إليه، وإلا فهي المصدقة باليمين، فإن نكلت فحلف الاول، سلمت إليه، ولها على الثاني مهر المثل إن جرى دخول، وإلا فلا شئ عليه، كما لو أقرت بالرجعة، وكل موضع قلنا: لا تسلم إلى الاول، لحق الثاني، وذلك عند إقرارها، أو نكولها، ويمين الاول، فإذا زال حق الثاني بموت وغيره، سلمت إلى الاول، كما لو أقر بحرية عبد في يد غيره، ثم اشتراه، حكم عليه بحريته. فرع إذا أنكرت الرجعة، واقتضى الحال تصديقها، ثم رجعت، صدقت في الرجوع، وقبل إقرارها نص عليه، بخلاف ما لو أقرت أنها بنت زيد من النسب، أو الرضاع، ثم رجعت وكذبت نفسها، لا يقبل رجوعها، ولو زوجت وهي ممن يعتبر رضاها، فقالت: لم أرض بعقد النكاح، ثم رجعت فقالت: رضيت وكنت نسيته، فهل يقبل رجوعها أم لا ولا تحل إلا بعقد جديد ؟ وجهان: المنصوص الثاني، نقله القاضي أبو الطيب، ورجح الغزالي الاول.(6/201)
فرع طلقها طلقة أو طلقتين، وقال: طلقتها بعد الدخول، فلي الرجعة، فأنكرت الدخول، فالقول قولها بيمينها. فإذا حلفت، فلا رجعة، ولا سكنى، ولا نفقة، ولا عدة، ولها أن تتزوج في الحال، وليس له أن ينكح أختها، ولا أربعا سواها، حتى يمضي زمن عدتها، ثم هو مقر لها بكمال المهر، وهي لا تدعي إلا نصفه، فإن كانت قبضت الجميع، فليس له مطالبتها بشئ، وإن لم تقبضه، فليس لها إلا أخذ النصف، فإذا أخذته ثم عادت واعترفت بالدخول، فهل لها أخذ النصف الآخر، أم لا بد من إقرار مستأنف من الزوج ؟ فيه وجهان حكاهما إبرهيم المروذي. وفي شرح المفتاح لابي منصور البغدادي: أنه لو كانت قبضت المهر وهو عين، وامتنع الزوج من قبول النصف، فيقال له: إما أن تقبل النصف، وإما أن تبرئها منه. ولو كانت العين المصدقة في يده، وامتنعت من أخذ الجميع، أخذه الحاكم، وإن كان دينا في ذمته، قال لها: إما أن تبرئيه، وإما أن تقبليه. فرع ادعت الدخول، فأنكر، فالقول قوله، فإذا حلف، فلا رجعة ولا نفقة، ولا سكنى، وعليها العدة، فإن كذبت نفسها، لم تسقط العدة، وسواء اختلفا في الدخول قبل الخلوة أم بعدها على المشهور، وحكينا في آخر فصل التعيين قولا أن الخلوة ترجح جانب مدعي الدخول، فيكون القول قوله بيمينه. فرع نص في الام أنه لو قال: أخبرتني بانقضاء العدة، ثم راجعها مكذبا، لها ثم قالت: ما كانت عدتي انقضت وكذبت نفسها، فالرجعة صحيحة، لانه لم يقر بانقضاء العدة بل حكى عنها. فرع قال المتولي: لو طلق زوجته الامة، واختلفا في الرجعة، فحيث قلنا: القول قوله إذا كانت حرة، فكذا هنا، وحيث قلنا: قول الزوجة، فهنا القول قول السيد، وقال البغوي: القول قولها، ولا أثر لقول السيد. قلت: واختار الشاشي ما ذكره المتولي، وهو قوي. والله أعلم.(6/202)
كتاب الايلاء
فيه بابان.
الأول : في أركانه، وهي أربعة.(6/203)
الأول : الحالف وله شروط. الاول: كونه زوجا، فلو قال لاجنبية: والله لا أطؤك تمحض يمينا فلو وطئها قبل النكاح أو بعده، لزمه كفارة يمين، ولا ينعقد الايلاء، حتى لو نكحها لا تضرب المدة. وفي التتمة وجه أنه إذا نكحها، صار مؤليا، لان اليمين باقية، والضرر حاصل، والصحيح الاول. ولو قال: إن تزوجتك فوالله لا وطئتك، فهو كتعليق الطلاق بالملك، ويصح الايلاء من الرجعية، ولا تحسب المدة عن الايلاء، فإذا رجع، ضربت المدة. الشرط الثاني: تصور الجماع، فمن جب ذكره، لا يصح إيلاؤه على المذهب. ومن آلى ثم جب، لا يبطل إيلاؤه على المذهب. ولو شل ذكره، أو قطع بعضه، وبقي دون قدر الحشفة، فهو كجب جميعه، والايلاء في الرتقاء، والقرناء، كإيلاء المجبوب. قال ابن الصباغ: لكن إذا صححناه، لا تضرب مدة الايلاء، لان الامتناع تسبب من جهتها، كما لو آلى من صغيرة، لا تضرب المدة حتى تدرك، وحكي قول قديم: أنه لا يصح الايلاء من الصغيرة والمريضة المضناة. الشرط الثالث: البلوغ والعقل. فرع سواء في صحة الايلاء، العبد والامة، والكافر وأضدادهم، ولا ينحل الايلاء بإسلام الكافر، وإذا ترافع إلينا ذميان وقد آلى، فإن أوجبنا الحكم بينهم، حكم بشرعنا، وإن لم نوجبه، لم يجبر الحاكم الزوج على الفيئة، ولا الطلاق، ولم تطلق عليه، بل لا بد من رضاه، لان الحكم على هذا القول إنما يجوز برضاهما، فإذا لم يرضيا، رددناهما إلى حاكمهم. فرع يصح إيلاء المريض والخصي، ومن بقي من ذكره قدر الحشفة،(6/205)
والعربي بالعجمية، وعكسه، إذا عرف معنى اللفظ.
الركن الثاني : المحلوف به الامتناع من الوطئ بلا يمين، لا يثبت حكم الايلاء، وسواء كان هناك عذر أم لا، وإذا حلف لا يطؤها أكثر من أربعة أشهر، ثم طالبته بالوطئ بعد أربعة أشهر، فوطئ، لزمه كفارة اليمين على المذهب وهو الجديد وأحد قولي القديم. والثاني: لا كفارة، لقول الله تعالى: * (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم) *. فإن وطئها قبل مضي المدة، فقيل: تجب الكفارة قطعا، لانه حنث باختياره من غير إلزام. وقيل: بطرد الخلاف، لانه بادر إلى ما يطالب به. ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر فما دونها، ثم وطئ، لزمه الكفارة قطعا، لانه ليس بمؤل، وقيل: بطرد الخلاف، وهو بعيد. فصل هل يختص الايلاء باليمين بالله تعالى وصفاته ؟ فيه قولان. القديم: نعم. والجديد الاظهر: لا، بل إذا قال: إن وطئتك، فعلي صوم أو صلاة أو حج، أو فعبدي حر، أو فأنت طالق، أو فضرتك طالق، أو نحو ذلك، كان مؤليا، وشرط انعقاده بهذه الالتزامات أن يلزمه شئ لو وطئ بعد أربعة أشهر، فلو كانت اليمين تنحل قبل مجاوزة أربعة أشهر، لم تنعقد. فلو قال: إن وطئتك، فعلي أن أصلي هذا الشهر أو اصومه أو أصوم الشهر الفلاني، وهو ينقضي قبل مجاوزة أربعة أشهر من حين اليمين، لم ينعقد الايلاء، فلو قال: إن وطئتك، فعلي صوم شهر، أو الشهر الفلاني، وهو يتأخر عن أربعة أشهر، فهو مؤل، وكذا لو قال: إن وطئتك، فعلي صوم الشهر الذي أطأ فيه، ويلزمه صوم بقية ذلك الشهر إن أوجبنا في نذر اللجاج الوفاء بالملتزم. وفي قضاء اليوم الذي وطئ فيه، وجهان مأخوذان من الخلاف، فيمن نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه زيد. ولو قال: فعلي صوم هذه السنة، فهو مؤل إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، وإلا فلا. ولو قال: إن وطئتك، فكل عبد يدخل في ملكي حر، فهو لغو، لان تعليق العتق بالملك لغو، وكذا لو قال: فعلي أن أطلقك، لانه لا يلزمه بالوطئ شئ. ولو قال: إن وطئتك، فأنت طالق إن دخلت الدار، أو فعبدي حر بعد سنة، فقال القاضي حسين والبغوي: هو مؤل، وقال الشيخ أبو محمد والامام: هو على الخلاف فيما(6/206)
إذا قال: إن أصبتك، فوالله لا أصبتك، فيكون الراجح أنه لا يكون مؤليا في الحال، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهذا أوجه. فرع في مسائل تتفرع على الجديد إحداها: قال: إن وطئتك، فعبدي حر، فمات العبد أو أعتقه، انحل الايلاء، فإن زال ملكه ببيع أو هبة ونحوهما، فكذلك، فإن ملكه بعد ذلك، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، ولو دبره أو كاتبه، لم ينحل الايلاء، لانه يعتق لو وطئها، وكذا لو علق بالوطئ عتق جارية ثم استولدها. الثانية: قال: إن وطئتك، فعبدي حر قبله بشهر، فإنما يصير مؤليا إذا مضى شهر من وقت تلفظه، لانه لو وطئها قبل تمام شهر، لم يعتق، وينحل الايلاء بذلك الوطئ، فإذا مضى شهر ولم يطأ، ضربت مدة الايلاء، ويطالب في الشهر الخامس، هكذا قالوه، ويجئ فيه وجه: أنه لو وطئ قبل الشهر، عتق كما سبق في نطيره من الطلاق، فعلى هذا يصير مؤليا في الحال. فإذا قلنا بالصحيح، فوطئ في مدة الايلاء أو بعد توجه المطالبة بالفيأة أو الطلاق، حكم بعتق العبد قبله بشهر، وإن طلقها حين طولب، ثم راجعها، ضربت المدة مرة أخرى. وإن جدد نكاحها بعد العدة، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، وإذا وطئها، حكم بعتق العبد قبله بشهر بلا خلاف، وإن وقع الوطئ على صورة الزنا، ولو باع العبد في الشهر الرابع، فإن وطئ قبل تمام شهر من وقت البيع، تبينا حصول العتق قبل البيع، وإن تم من وقت البيع شهر ولم يطأ، ارتفع الايلاء، لانه لو وطئ بعد ذلك، لم يحصل العتق قبله بشهر لتقدم البيع على شهر، هكذا ذكره الجمهور. وحكى الفوراني والمتولي وجها أنه يطالب بعد تمام أربعة أشهر من وقت اللفظ، لانه ربما يطلقها، والطلاق لا يستند. الثالثة: قال: إو وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، فإن كان قد ظاهر، صار مؤليا، لانه وإن لزمته كفارة الظهار، فعتق ذلك العبد بعينه، وتعجيل الاعتاق عن الظهار زيادة التزمها بالوطئ، ثم إذا وطئ في مدة الايلاء أو بعدها، فهل يعتق العبد عن الظهار ؟ وجهان. أصحهما: نعم، وطرد الخلاف في سائر التعليقات، كقوله: إن دخلت الدار، فأنت حر عن ظهاري، وأما إذا لم يكن ظاهر، فلا إيلاء(6/207)
ولا ظهار فيما بينه وبين الله تعالى، ولكنه مقر على نفسه بالظهار، فيحكم في الظاهر بأنه مظاهر ومؤل، ولا يقبل قوله: إن لم يكن مظاهرا، وإذا وطئ عاد في وقوع العتق عن الظهار في الظاهر الوجهان. ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت، لم يكن مؤليا في الحال، فإن ظاهر، صار مؤليا، لان العتق يحصل حينئذ لو وطئ. وقيل: في كونه مؤليا في الحال قولان، لقربه من الحنث، كما لو قال لنسوة: والله لا جامعتكن، والمذهب الاول. قال المتولي: ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر إن ظاهرت، ولم يقل: عن ظهاري، كان مؤليا في الحال، فإذا قلنا بالمذهب، وهو أنه لا يصير مؤليا إلا إذا ظاهر، فوطئ في مدة الايلاء أو بعدها، حصل العتق لوجود الظهار، والوطئ متأخر عنه، ولا يقع هذا العتق عن الظهار باتفاق الاصحاب، ولم لا يقع ؟ قال أبو إسحق: لان تعليق العتق سبق الظهار، والعتق لا يقع عن الظهار إلا بلفظ يوجد بعده. وقال ابن أبي هريرة: لانه لا يقع خالصا عن الظهار، لتأدي حق الحنث به، فأشبه عتق القريب بنية الكفارة، والاول أصح عند الاصحاب، وبنوا على التعليلين ما لو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت، وكان ظاهر ونسي، فيكون مؤليا في الحال، وإذا وطئ، عتق العبد عن الظهار على التعليل الاول دون الثاني. فرع قال: إن وطئتك، فلله علي أن أعتق عبدي هذا عن ظهاري، وكان ظاهر منها أو من غيرها ووجد العود، فهل يكون مؤليا ؟ يبنى على أن من في ذمته إعتاق رقبة فنذر على وجه التبرر أن يعتق العبد الفلاني عما هو عليه، هل يتعين ذلك العبد أم لا ؟ النص وقول الجمهور: يتعين، واختار المزني: أنه لا يتعين، وخرجه على أصل الشافعي رحمه الله، وعد الامام هذا قولا في المذهب وقال: تخريجه أولى من تخريج غيره. ونقل الامام أن القاضي حسينا قال: لو نذر صرف زكاته(6/208)
إلى معينين من الاصناف، تعينوا، وأن الاكثرين قالوا: لا يتعينون، وفرقوا بقوة العتق، فإن قلنا: يتعين العبد المعين للاعتاق، صار مؤليا في الحال، وإلا فلا يكون مؤليا، فإن صححنا الايلاء، فطلق بعد المطالبة خرج عن موجب الايلاء، وكفارة الظهار في ذمته، فيعتق عنها ذلك العبد أو غيره. وإن وطئ في مدة الايلاء أو بعدها، لزمه ما يلزم في نذر اللجاج، فإن قلنا: كفارة يمين، نظر، إن أطعم أو كسا، فعليه الاعتاق عن الظهار، وإن أعتقه أو عبدا اخر عن اليمين، فعليه أيضا الاعتاق عن الظهار. وإن قلنا: عليه الوفاء بما سمى، أو خيرناه فاختار الوفاء وأعتق ذلك العبد عن ظهاره، خرج عن عهدة اليمين. وفي إجزائه عن الظهار وجهان. أصحهما: الاجزاء. المسألة الرابعة: قال: إن وطئتك، فأنت طالق أو فأنت ثلاثا، فيطالب بعد مضي المدة. وفيما يطالب به ؟ وجهان، أحدهما وبه قال ابن خيران: يطالب بالطلاق على التعيين، ويمنع الوطئ، والثاني وهو الصحيح المنصوص: يطالب بالفيئة، أو الطلاق، ولا يمنع من الوطئ بتعليق الطلاق، ويقال له: عليك النزع بمجرد تغييب الحشفة، فإن وطئ قبل المدة أو بعدها، ونزع بمجرد تغيب الحشفة، فذاك، وإن مكث، فلا حد على الصحيح، لان أول الوطئ مباح. وحكى ابن القطان وغيره وجها، أنه يجب الحد إذا علم تحريمه، ولا يجب المهر على المذهب، وفيه خلاف سبق في كتاب الصوم. وإن نزع ثم أولج، فلا حد إن كانت رجعية، وحكم المهر كما سبق في الرجعية. وإن كان علق به الطلاق الثلاث، فإن كانا جاهلين بالتحريم، بأن اعتقد أن الطلاق لا يقع إلا باستيعاب(6/209)
الوطئ في المجلس، فلا حد للشبهة، ويجب المهر، ويثبت النسب والعدة. وإن كانا عالمين بالتحريم، فوجهان. أصحهما: يجب الحد، ولا مهر ولا نسب ولا عدة. والثاني: عكسه. وإن علم التحريم، وجهلته، فلا حد عليها ولها المهر، وكذا لو علمت ولم تقدر على دفع الزوج، وفي وجوب الحد عليه الوجهان، وإن جهل هو التحريم وعلمته وقدرت على الدفع، فالاصح أنه يلزمها الحد ولا مهر لها. فرع قال لغير المدخول بها: إن وطئتك، فأنت طالق، وقع بالوطئ طلقة رجعية، سواء قلنا: الطلاق المعلق بالصفة يقع بعدها أم معها. المسألة الخامسة: قال: إن وطئتك، فضرتك طالق، فهو مؤل عن المخاطب، ومعلق طلاق الضرة، فإن وطئ المخاطبة قبل مضي المدة أو بعدها، طلقت الضرة، وانحل الايلاء، وإن طلقها بعد المطالبة ولم يطأها، سقطت المطالبة ولم يطأها، وخرج عن موجب الايلاء، فإن راجعها بعد ذلك عاد حكم الايلاء، وهذا حكم كل إيلاء كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإن بانت فجدد نكاحها، ففي عود الايلاء أقوال عود الحنث، وهذا يشمل كل إيلاء، فإن قلنا: يعود، استؤنفت المدة من يوم النكاح، نص عليه القاضي أبو الطيب وغيره. وسواء قلنا: يعود الايلاء أم لا، فطلاق الضرة يبقى معلقا بوطئ المخاطبة، حتى لو وطئ المخاطبة بعد الرجعة أو التجديد، وقع بلا خلاف. وكذا لو وطئها وهي بائن زانيا، ولا يعود الايلاء لو نكحها بعد ذلك لانحلال اليمين بوطئ الزنا. ولو ماتت الضرة، انحل الايلاء، ولو طلقها، لم يرتفع الايلاء ولا المطالبة ما دامت في عدة الرجعية، لانه لو وطئ المخاطبة لطلقت، فإذا انقضت أو أبان الضرة، ابتدأ بخلع أو استيفاء عدد أو طلاق قبل الدخول، ارتفع الايلاء وسقطت المطالبة وإن كان ذلك بعد مضي مدة الايلاء، لانه لو وطئها بعد ذلك، لم يقع عليه طلاق. ثم إن وطئ المخاطبة، انحلت اليمين، ولا يعود إيلاؤها لو نكح الضرة، وإن نكح الضرة قبل أن يطأها، فعلى الخلاف في عود الحنث، فإن قلنا: لا يعود، لم يعد الايلاء، وإلا فيعود، وإذا أعدناه، فهل يستأنف المدة، أم يبني ؟ وجهان،(6/210)
اختار الامام والغزالي البناء، وقطع البغوي وغيره بالاستئناف، وهو أصح. المسألة السادسة: قال لامرأتيه: إن وطئت إحداكما، فالاخرى طالق، فإما أن يعين بقلبه واحدة، وإما لا، فإن عين، فهو مؤل منها وحدها، لكن الامر في الظاهر مبهم، فيقال له بعد المدة: بين التي أردتها، فإن بين، فلها مطالبته بالفيأة أو الطلاق، والقول قوله بيمينه، أنه لم يرد الاخرى، وإن لم يبين وطالبتاه جميعا، قال له القاضي: فئ إلى التي آليت منها، أو طلقها، فإن امتنع، طلق القاضي إحداهما على الابهام، تفريعا على أن القاضي يطلق على المؤلي إذا امتنع، هكذا قاله ابن الحداد، واعترض عليه القفال، قال: لا يطلق القاضي إحداهما مبهمة، لانهما معترفتان بالاشكال، فدعواهما غير مسموعة، كما لو حضر رجلان عند القاضي، وقال: لاحدنا على هذا ألف درهم، وزاد المتولي فقال: هذا إذا جاءتا معا وادعتا كذلك، فلو انفردت كل واحدة، وقالت: آلى مني، فإن أقر بما قالتا، أخذ بموجب إقراره، وإن كذب الاولى، تعين الايلاء في الثانية. وقال كثير من الاصحاب: قول ابن الحداد صحيح، لحصول الضرر، فلا سبيل إلى إهمال الواقعة، ولا إلى طلاق معينة، فعلى هذا، إذا طلق القاضي، فقال الزوج: راجعت التي وقع عليها الطلاق، ففي صحة الرجعة وجهان سبقا في الرجعة، وبالصحة أجاب ابن الحداد، فعلى هذا تضرب المدة مرة أخرى، ويطلق القاضي(6/211)
مرة أخرى على الابهام، وهكذا إلى أن يستوفي الثلاث، والاصح أن الرجعة لا تصح على الابهام، بل تبين المطلقة، ثم يراجعها إن شاء. فلو وطئ إحداهما قبل البيان، قال الشيخ أبو علي: لا يحكم بطلاق الاخرى، لانا لا ندري أن التي نواها هي الموطوءة أم الاخرى، ويبقى الامر بالبيان كما كان. فإن قال: أردت الاخرى، لم تطلق واحدة منهما، وتطالبه الاخرى بالفيأة أو الطلاق. فإن وطئها، طلقت الموطوءة الاولى، وإن قال: أردت الايلاء من الموطوءة، طلقت الاخرى، وخرج عن موجب الايلاء، هذا إذا عين بقلبه إحداهما، فإن لم ينو معينة، فالذي ذكره الشيخ أبو علي والبغوي، أنه يكون مؤليا منهما جميعا، لان أية واحدة وطئها طلقت الاخرى، ولحقه الضرر. ويشبه أن يقال: تكون مؤليا من واحدة، ويؤمر بالتعيين. كما في الطلاق، وسيأتي مثله إن شاء الله تعالى فيما لو قال لنسوة: لا جامعت واحدة منكن، ولم ينو، ثم ذكر الشيخ أبو علي بناء على جوابه، أنه إذا طولب بالفيأة أو الطلاق، فوطئ إحداهما، طلقت الاخرى وتخلص من الايلائين، ولو طلق إحداهما، لم يسقط حكم الايلاء في الثانية، لان بالوطئ تنحل اليمين، ولا تنحل بالطلاق. حتى لو وطئ التي لم يطلقها، وقعت طلقة أخرى على التي طلقها إذا كانت في عدة الرجعة. ولو قال: كلما وطئت إحداكما، فالاخرى طالق، ووطئ(6/212)
بعد المطالبة إحداهما، طلقت الاخرى وتخلص عن الايلاء في حق الموطوءة، ولا يتخلص بالكلية في حق الاخرى وإن سقطت المطالبة في الحال بوقوع الطلاق، لان اللفظ يقتضي التكرار، فإذا راجعها، عاد فيها الايلاء. وحكى ابن الصباغ كلام ابن الحداد ثم قال: ومن الاصحاب من قال: يكون مؤليا منهما جميعا، قال: وهذا أصح. ولم يفرق بين ما إذا عين واحدة بقلبه، وما إذا لم يعين، ولا وجه لكونه مؤليا منهما مع تعيين واحدة بقلبه بحال. المسألة السابعة: سبق أن المؤلي من علق بالوطئ مانعا منه، من حنث في يمين، أو عتق أو طلاق ونحوها، فلو لم يتعلق الحنث بالوطئ، بل كان مقربا منه، فقولان، المشهور وهو الجديد، وأخرى قولي القديم: لا يكون مؤليا. والثاني من قولي القديم: يكون مؤليا، فإذا قال لاربع نسوة: والله لا أجامعكن، لم يحنث إلا بجماعهن كلهن، وإذا وطئهن، لزمه كفارة واحدة، لان اليمين واحدة. ولو مات بعضهن قبل الوطئ، انحلت اليمين، لانه تحقق امتناع الحنث، ولا نظر إلى تصور الايلاج بعد الموت، فإن اسم الوطئ يقع مطلقة على ما في الحياة. وقيل: إن البر والحنث، يتعلقان بوطئ الميتة. وأشار بعضهم إلى وجه فارق بين ما قبل الدفن وبعده، ولا أثر لموت بعضهن بعد الوطئ، قال الامام: والذي أراه أن الوطئ في الدبر كهو في القبل في حصول الحنث. قلت: هذا الذي قاله الامام متفق عليه، صرح به جماعات من أصحابنا، وقد نقله صاحب الحاوي والبيان عن الاصحاب في القاعدة التي قدمتها، أن الاصحاب قالوا: الوطئ في الدبر كهو في القبل، إلا في سبعة أحكام أو خمسة، ليست اليمين منها. والله أعلم.(6/213)
ولو طلقهن أو بعضهن قبل الوطئ، لم تنحل اليمين، بل تجب الكفارة بالوطئ بعد البينونة وإن كان زنا، هذا حكم اليمين، وأما الايلاء، ففيه طرق، المذهب منها: لا يكون مؤليا في الحال، فإن وطئ ثلاثا منهن، صار مؤليا من الرابعة. وفي قول: يكون مؤليا من الجميع في الحال. فعلى المذهب: لو مات بعضهن قبل الوطئ، ارتفع حكم الايلاء على الصحيح، لحصول اليأس من الحنث. ولو مات بعضهن بعد الوطئ، لم يرتفع، ولو طلق بعضهن قبل الوطئ أو بعده، فكذلك، حتى لو أبان ثلاثا منهن ووطئهن في البينونة زانيا، صار مؤليا من الباقية. ولو أبان واحدة قبل الوطئ، ووطئ الثلاث في النكاح، ثم نكح المطلقة، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، وحكم اليمين باق قطعا، حتى لو وطئها، لزمه الكفارة. وإذا قلنا بالضعيف: إنه مؤل في الحال، ضربنا المدة، ولجميعهن المطالبة بعد المدة. فإن وطئهن أو طلقهن، تخلص من الايلاء، وإن وطئ بعضهن، ارتفع الايلاء في حق من وطئها، ولا يرتفع في حق المطلقة، بل إذا راجعها ضربت المدة ثانيا. فرع قال للنسوة الاربع: والله لا أجامع كل واحدة منكن، قال الاصحاب: يكون مؤليا من كل واحدة، ويتعلق بوطئ كل واحدة الحنث ولزوم الكفارة، قالوا: تضرب المدة في الحال، فإذا مضت، فلكل واحدة المطالبة بالفيئة أو الطلاق، فإن طلقهن، سقطت المطالبة، فإن راجعهن، ضربت المدة ثانيا، وإن طلق بعضهن، فالباقيات على مطالبتهن. وإن وطئ إحداهن، انحلت اليمين في حق الباقيات، وارتفع الايلاء فيهن على الاصح عند الاكثرين. وقيل: لا تنحل ولا ترتفع، وجعلوا على هذا الخلاف ما لو قال: والله لا كلمت واحدا من(6/214)
هذين الرجلين ونظائره، هذا كلام الاصحاب، ولك أن تقول: إن أراد بقوله: لا أجامع كل واحدة تخصيص كل واحدة بالايلاء على وجه لا يتعلق بصواحبها، فالوجه بقاء الايلاء في الباقيات، وإلا فينبغي أن يكون حكم هذه الصورة حكم قوله: والله لا أجامعكن على ما سبق. فرع قال: والله لا أجامع واحدة منكن، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يريد الامتناع عن كل واحدة، فيكون مؤليا منهن كلهن، ولهن المطالبة بعد المدة، فإن طلق بعضهن، بقي الايلاء في حق الباقيات، وإن وطئ بعضهن، حصل الحنث، لانه خالف قوله: لا أطأ واحدة منكن، وتنحل اليمين، ويرتفع الايلاء في حق الباقيات. الحال الثاني: أن يقول: أردت الامتناع عن واحدة منهن لا غير، فيقبل قوله، لاحتمال اللفظ. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقبل، للتهمة، والصحيح الاول، ثم قد يريد معينة، وقد يريد مبهمة، فإن أراد معينة، فهو مؤل منها، ويؤمر بالبيان كما في الطلاق، فإذا بين، وصدقه الباقيات، فذاك، فإن ادعت غير المعينة أنه أرادها، وأنكر، صدق بيمينه، فإن نكل، حلفت المدعية، وحكم بأنه مؤل منها أيضا، فلو أقر في جواب الثانية أنه نواها، وأخذناه بموجب الاقرارين، وطالبناه بالفيئة أو الطلاق، ولا يقبل رجوعه عن الاولى، وإذا وطئهما في صورة إقراره، تعددت الكفارة، وإن وطئهما في صورة نكوله ويمين المدعية لم تتعدد الكفارة، لان يمينها لا تصلح لالزامه الكفارة. ولو ادعت واحدة أولا، أنك أردتني، فقال: ما أردتك أو ما آليت منك، وأجاب بمثله الثانية والثالثة، تعينت الرابعة للايلاء، وإن أراد واحدة مبهمة، أمر بالتعيين. وقال السرخسي: ويكون مؤليا من إحداهن لا على التعيين، فإذا عين واحدة، لم يكن لغيرها المنازعة، ويكون ابتداء المدة من وقت اليمين، أم من وقت التعيين ؟ وجهان بناء على الخلاف في الطلاق المبهم إذا عينه، هل يقع من اللفظ أم من التعيين ؟ وإن لم يعين، ومضت أربعة أشهر فقالوا: تطالب إذا طلبن بالفيئة أو الطلاق، وإنما يعتبر طلبهن كلهن ليكون طلب المؤلي منها حاصلا، فإن امتنع،(6/215)
طلق القاضي واحدة على الابهام، ومنع منهن إلى أن يعين المطلقة، وإن فاء إلى واحدة أو ثنتين، أو ثلاث، أو طلق، لم يخرج عن موجب الايلاء. وإن قال: طلقت التي آليت منها، خرج عن موجب الايلاء، لكن المطلقة مبهمة، فعليه التعيين، هذا هو المذهب في الحال الذي نحن فيه، ووراءه شيئان. أحدهما: قال المتولي: إذا قال: أردت مبهمة، قال عامة الاصحاب: تضرب المدة في حق الجميع، فإذا مضت، ضيق الامر عليه في حق من طالب منهن، لانه ما من امرأة إلا ويجوز أن يعين الايلاء فيها، وظاهر هذا أنه مؤل من جميعهن، وهو بعيد. الثاني: حكى الغزالي وجها، أنه لا يكون مؤليا من واحدة منهن، حتى يبين إن أراد معينة، أو يعين إن أراد مبهمة، لان قصد الاضرار حينئذ يتحقق. وحكى الامام هذا الوجه عن الشيخ أبي علي على غير هذه الصورة، فقال: روى وجها: أنه إذا قال: أردت واحدة، لا يؤمر بالبيان، ولا بالتعيين، بخلاف إبهام الطلاق، لان المطلقة خارجة عن النكاح، فإمساكها منكر، بخلاف الايلاء. الحال الثالث: أن يطلق اللفظ، فلا ينوي تعميما ولا تخصيصا، فهل يحمل على التعميم، أم على التخصيص بواحدة ؟ وجهان. أصحهما: الاول، وبه قطع البغوي وغيره. المسألة الثامنة: قال: والله لا أجامعك سنة إلا مرة، فقولان، أظهرهما وهو الجديد، وأحد قولي القديم: لا يكون مؤليا في الحال، لانه لا يلزمه بالوطئ الاول شئ، فإن وطئها، نظر، إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، فهو مؤل من يومئذ، وإن بقي أربعة فأقل، فهو حالف وليس بمؤل، والقول الثاني: يكون مؤليا في الحال، فيطالب به بعد مضي المدة. فإن وطئ، فلا شئ عليه، لان الوطأة الاولى مستثناة، وتضرب المدة ثانيا إن بقي من السنة مدة الايلاء، وعلى هذا القياس لو قال: لا أجامعك إلا عشر مرات، أو عددا آخر، فعلى الاظهر: لا يكون مؤليا في الحال، وإنما يكون مؤليا إذا وطئ ذلك العدد وبقي من السنة مدة الايلاء، وعلى الضعيف: يكون مؤليا في الحال، ولو قال: إن أصبتك، فوالله لا أصبتك، فقيل: بإجراء القولين في كونه مؤليا في الحال، والمذهب: القطع بالمنع. والفرق أن هناك عقد اليمين في الحال، واستثنى وطأة، وهنا اليمين غير(6/216)
منعقد في الحال، وإنما ينعقد إذا أصابها، وإثبات الايلاء قبل اليمين ممتنع، ويجري الخلاف فيما لو قال: إن وطئتك، فوالله لا دخلت الدار. ولو قال: والله لا أجامعك سنة إلا يوما، فهو كقوله: إلا مرة. ولو قال: لا أجامعك في السنة إلا مرة، فتعريف السنة بالالف واللام يقتضي السنة العربية التي هو فيها، فإن بقي منها مدة الايلاء، ففيه القولان، كما لو قال: سنة، وإلا فلا إيلاء قطعا. فرع قال: لا أجامعك سنة إلا مرة، فمضت سنة ولم يطأ، فهل تلزمه كفارة لاقتضاء اللفظ الوطئ، أم لا، لان المقصود منع الزيادة ؟ وجهان حكاهما ابن كج. قلت: أصحهما: لا كفارة. والله أعلم. فلو وطئ في هذه الصورة، ونزع، ثم أولج ثانيا، لزمه كفارة بالايلاج الثاني، لانه وطئ جديد، هذا هو الصحيح، وفي وجه: لا كفارة، لانه وطئ واحد عند أهل العرف. فصل قال: والله لا جامعتك، ثم قال لضرتها: أشركتك معها، أو أنت شريكتها أو مثلها، ونوى الايلاء، لم يصر مؤليا من الثانية، لان اليمين إنما تكون باسم الله تعالى أو صفته، حتى لو قال به: لافعلن كذا، وقال: أردت بالله تعالى، لم ينعقد يمينه، ولو ظاهر منها ثم قال للضرة: أشركتك معها، صار مظاهرا من الثانية أيضا على الاصح. وإن آلى منها بالتزام طلاق أو عتاق، وقال للضرة: أشركتك معها، سألناه، فإن قال: أردت أن الاولى لا تطلق إلا إذا أصبت الثانية مع إصابة الاولى وجعلتها شريكتها في كون إصابتها شرطا لطلاق الاولى، لم يقبل. وإذا وطئ الاولى، طلقت، وإن قال: أردت أني إذا أصبت الاولى طلقت الثانية أيضا، قبل، لان الطلاق يقع بالكناية، فإذا وطئ الاولى، طلقتا، وفي الحالتين لا يكون(6/217)
مؤليا من الثانية. وإن قال: أردت تعليق طلاق الثانية بوطئها بنفسها، كما علقت طلاق الاولى بوطئها، ففي صحة هذا التشريك وجهان. أصحهما: الصحة، وبه قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب وغيرهما، فعلى هذا، يكون مؤليا من الثانية، إذا قلنا: ينعقد الايلاء بغير اسم الله تعالى، ويجري هذا التفصيل، فيما لو علق طلاق امرأة بدخول الدار وسائر الصفات، ثم قال لاخرى: أشركتك معها، ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى، فإن قصد أن يطلق الثانية إذا دخلت الاولى الدار، طلقتا جميعا بدخول الاولى، سواء قصد ضم الثانية إلى الاولى، أو قصد طلاق الثانية عند دخول الاولى. وإن قال: أردت تعليق طلاق الثانية بدخول نفسها، ففي قبوله وجهان، كما ذكرنا في لفظ الاشراك في اليمين. واختار القفال منهما: أنه لا يقبل، ويحمل على تعليق طلاقها بدخول الاولى، حتى إذا دخلت، طلقتا جميعا. قال: ولو علق طلاق واحدة بدخول الدار، وقال لاخرى: أشركتك معها، وقلنا: لا يصح التشريك، لم تطلق بدخول الدار. فرع قال رجل لآخر: يميني في يمينك، قال البغوي وغيره: إن أراد أنه إذا حلف الآخر صرت حالفا، لم يصر حالفا بحلف الآخر، سواء حلف بالله تعالى أم بالطلاق. وإن كان الآخر قد طلق زوجته، أو حنث في يمين الطلاق، فقال: أردت أن امرأتي طالق كامرأته، طلقت: وإن أراد متى طلق امرأته طلقت امرأتي، فإذا طلق الآخر، طلقت هذه. فصل ذكرنا في كتاب الطلاق، أنه إذا قال: أنت علي حرام، ونوى الطلاق، أو الظهار، وقع ما نوى، وأنه لو نوى تحريم عينها، لزمه كفارة يمين. وأن الصحيح وجوب تلك الكفارة في الحال. وفي وجه: إنما يجب إذا وطئها، وأنه على هذا الوجه يكون مؤليا، وأنه لو قال: أردت به الامتناع من الوطئ، ففي قبوله وجهان. أحدهما: يكون مؤليا في الحال، وأصحهما: لا يكون مؤليا، لان اليمين بالله تعالى لا تنعقد إلا باسم معظم، فعلى هذا يلزمه الكفارة في الحال إذا قلنا: إن مطلق هذه اللفظة يوجبها. ولو قال: أردت بقولي: أنت علي حرام إن وطئتك، فأنت علي حرام، لم يقبل منه على المذهب، وبه قطع الجمهور، لانه يريد تأخير الكفارة، وهذا اللفظ يقتضي وجوبها في الحال. وفي التتمة أنه مبني على أن(6/218)
للامام أن يأمره بإخراج الكفارة، فأما إن قلنا: ليس له الامر بإخراج الكفارة، فلا يتعرض له. ورأى صاحب الشامل والتتمة، أن يؤاخذ بموجب الايلاء لاقراره بأنه مؤل. فرع قال: إن جامعتك، فأنت علي حرام، فإن أراد الطلاق أو الظهار، كان مؤليا إذا فرعنا على الجديد، وإن أراد تحريم عينها، أو طلق وقلنا: مطلقه يوجب الكفارة، فمؤل، وإن قلنا: لا يوجبها، فلا. فصل الايلاء يقبل التعليق، فإذا قال: إن دخلت الدار، فوالله لا أجامعك، صار مؤليا عند دخول الدار. ولو قال: والله لا أجامعك إن شئت، وأراد تعليق الايلاء بمشيئتها، اشترط في كونه مؤليا مشيئتها، وتعتبر مشيئتها على الفور على الاصح، كما يعتبر في الطلاق على الفور على المذهب، وإنما اختلف الترجيح، لان الطلاق في معنى التمليك، فتأكد اشتراط الفور كالبيع، ولو علق لا على سبيل خطابها، بأن قال: والله لا أجامع زوجتي إن شاءت، أو قال لاجنبي: والله لا أجامع زوجتي إن شئت، لم يعتبر الفور على الاصح. ولو قال: إن شاء فلان، أو قال لها: متى شئت، لم يعتبر الفور قطعا، وكل هذا كما سبق في الطلاق. فأما إذا أراد تعليق فعل الوطئ بمشيئتها، كأنه قال: لا أجامعك إن شئت أن لا أجامعك، فلا يكون مؤليا، كما لو قال: لا أجامعك إلا برضاك، لانها متى رغبت فوطئها لا يلزمه شئ. قال الامام: ولو قال: لا أجامعك متى شئت، وأراد أني أجامعك إذا أردت أنا، لم يكن مؤليا، لانه تصريح بمقتضى الشرع، قال: فإن أطلق، ففي تنزيله على تعليق الايلاء وجهان. ولو قال: لا أجامعك إلا أن تشائي، أو ما لم تشائي، وأراد الاستثناء عن اليمين، أو تعليقها، ففي التهذيب وغيره، أنه يكون مؤليا، لانه حلف وعلق رفع اليمين بالمشيئة. فإن شاءت أن يجامعها على الفور، ارتفع الايلاء، وإن لم تشأ أو شاءت بعد وقت المشيئة، فالايلاء بحاله، وكذا الحكم لو قال: لا أجامعك حتى يشاء زيد، فإن شاء أن يجامعها قبل مدة الايلاء أو بعدها، ارتفعت اليمين، وإن لم يشأ المجامعة حتى مضت مدة الايلاء، سواء شاء أن لا يجامعها، أم لم يشأ شيئا، فهل يكون مؤليا لحصول الاضرار في المدة ؟ فيه وجهان(6/219)
سيأتيان إن شاء الله تعالى في نظائرها. وإن مات زيد قبل المشيئة، صار مؤليا، ثم إن قلنا: في حال حياته إذا مضت المدة بلا مشيئة يجعل مؤليا، فهنا تحسب المدة من وقت اللفظ، فإن مات زيد بعد تمامها، توجهت المطالبة في الحلال. وإن قلنا هناك: لا يجعل مؤليا، ضربت المدة من وقت الموت. ولو قال: لا أجامعك إن شئت أن أجامعك، فإنما يصير مؤليا إذا شاءت أن يجامعها. وفي اعتبار الفور، ما سبق، وإذا أطلق قوله: إن شئت، حملناه على عدم مشيئته المجامعة، كما سبق، لانه السابق إلى الفهم. فصل سواء في الايلاء حالة الرضى والغضب. فصل قال: إن وطئتك فأنا زان، أو فأنت زانية، لم يكن مؤليا، ولا يصير بوطئها قاذفا. قال السرخسي: ويلزمه التعزير، كما لو قال: المسلمون كلهم زناة، ولزوم التعزير لا يجعله مؤليا، لانه يتعلق بنفس اللفظ.
الركن الثالث : المدة، فإن حلف على الامتناع أبدا، أو أطلق، فهو مؤل، وإن قيد بزمان، فهو قسمان. أحدهما: أن يقدر الزمان، فإن كان أربعة أشهر فما دونها، فليس بمؤل، والذي جرى منه يمين أو تعليق كما يجري في سائر الافعال، وإن كان أكثر من أربعة أشهر، كان مؤليا. قال الامام: ويكفي في كونه مؤليا أن يزيد على أربعة أشهر أقل قليل، ولا يعتبر أن تكون الزيادة بحيث تتأتى بالمطالبة في مثلها. فإذا كانت الزيادة لحظة لطيفة، لم تتأت المطالبة لانها إذا مضت تنحل اليمين، ولا مطالبة بعد انحلال اليمين. وفائدة كونه مؤليا في هذه الصورة، أنه يأثم لايذائها، وقطع طمعها في الوطئ في المدة المذكورة. ولو حلف لا يجامعها أربعة أشهر، ثم أعاد اليمين بعد مضي تلك المدة، وهكذا مرات، فلا يكون مؤليا قطعا. ولو وصل اليمين فقال: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا أجامعك أربعة أشهر، وهكذا مرارا، فليس بمؤل على الاصح. قال الامام: وهل يأثم الموالي بين هذه الايمان كما ذكرنا، فيما إذا زادت اليمين على أربعة أشهر بلحظة لطيفة، يحتمل أن لا يأثم لعدم الايلاء، ويحتمل أن يأثم إثم الايذاء والاضرار، لا إثم المؤلين. قلت: الراجح تأثيمه. والله أعلم.(6/220)
فرع قال: والله لا أجامعك خمسة أشهر، فإذا مضت، فوالله لا أجامعك سنة، فلها المطالبة بعد مضي أربعة أشهر بموجب اليمين الاولى، فإن أخرت المطالبة حتى يمضي الشهر الخامس، فلا مطالبة بموجب تلك اليمين، لانحلالها، وإن طالبته في الخامس، ففاء إليها، خرج عن موجب الايلاء الاول، فإذا مضى الخامس، استحقت مدة الايلاء الثاني. وإن طلق، سقطت عنه المطالبة في الحال، فإن راجعها في الشهر الخامس، لم تضرب المدة في الحال، لان الباقي من مدة اليمين الاولى قليل، فإذا انقضى الخامس، ضربت المدة للايلاء الثاني. ولو وطئها بعد الرجعة في باقي الشهر، انحلت اليمين وتلزمه الكفارة على المذهب، وإن قلنا: إن المؤلي إذا فاء لا كفارة عليه. وإن راجعها بعد الشهر الخامس، نظر، إن راجع بعد سنة من مضي الخامس، فلا إيلاء، لانقضاء المدتين وانحلال اليمين، وإن راجع قبل تمام السنة، فإن بقي أربعة أشهر فأقل، فلا إيلاء، وإن بقي أكثر، عاد الايلاء، وضربت المدة في الحال. ولو جدد نكاحها بعد البينونة، ففي عود الايلاء حنث يعود لو راجعها، خلاف عود الحنث، وتبقى اليمين ما بقي شئ من المدة، وإن لم يعد الايلاء، حتى لو راجع، وقد بقي من السنة أقل من أربعة أشهر، فوطئها في تلك البقية، لزمه الكفارة، ولو عقد اليمين على مدتين تدخل إحداهما في الاخرى بأن قال: والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم قال: والله لا أجامعك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر، فلها المطالبة، فإن فاء انحلت اليمينان، وإذا أوجبنا الكفارة، فالواجب كفارة، أم كفارتان ؟ فيه خلاف يجري في كل يمينين يحنث الحالف فيهما بفعل واحد، بأن حلف لا يأكل خبزا، وحلف لا يأكل طعام زيد، فأكل خبزه، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وإن طلقها ثم راجعها، أو جدد نكاحها، فإن بقي من السنة أربعة أشهر أو أقل، لم يعد الايلاء، وتبقى اليمين. وإن بقي أكثر من أربعة أشهر، عاد الايلاء في الرجعية، وفي التجديد خلاف عود الحنث، هذا هو الصحيح المعروف في المذهب. وفي التتمة أن السنة تحسب بعد انقضاء الاشهر الخمسة، فيكون كالصورة السابقة، ولو قال: إذا مضت خمسة أشهر، فوالله لا أجامعك، كان مؤليا بعد مضي الخمسة. القسم الثاني: أن ييد الامتناع عن الوطئ بمستقبل لا يتعين وقته، فينظر، إن كان المعلق به مستحيلا، كقوله: حتى تصعدي السماء، أو تطيري، أو كان أمرا(6/221)
يستبعد في الاعتقادات حصوله في أربعة أشهر، وإن كان محتملا كقوله: حتى ينزل عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -. أو حتى يخرج الدجال، أو يأجوج ومأجوج، أو تطلع الشمس من مغربها، أو بأمر يعلم تأخره عن أربعة أشهر، كقوله: حتى يقدم فلان، أو أدخل مكة والمسافة بعيدة لا تقطع، في أربعة أشهر، فهو مؤل. فلو قال في مسألة القدوم: ظننت المسافة قريبة، فهل يصدق بيمينه ؟ ذكر فيه الامام احتمالين، والاقرب تصديقه. وفي شرح مختصر الجويني للموفق بن طاهر، أن في التعليق بنزول عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، وما في معناه، لا يقطع بكونه مؤليا في الحال، ولكن ينتظر، فإذا مضت أربعة أشهر، ولم يوجد المعلق به تبينا أنه كان مؤليا ومكناها من المطالبة، والصحيح المعروف الاول، وإن كان المعلق به مما يتحقق وجوده قبل أربعة أشهر، كذبول البقل وجفاف الثوب، وتمام الشهر، أو يظن، كمجئ المطر في وقت غلبة الامطار، ومجئ زيد من القرية، وعادته المجئ للجمعة، أو مجئ القافلة وعادتها غالبا المجئ كل شهر، فليس بإيلاء، وإنما هو عقد يمين، فإن كان المعلق به مما لا يستبعد حصوله في أربعة أشهر، ولا يظن، كقوله: حتى يدخل زيد الدار، أو أمرض، أو يمرض فلان، أو يقدم وهو على مسافة قريبة، وقد تقدم، وقد لا يحكم بكونه مؤليا في الحال، فإن مضت أربعة أشهر، ولم يوجد المعلق به، فوجهان، أحدهما: ثبت الايلاء، وتطالبه، لحصول الضرر، وتبين طول المدة، وأصحهما: لا، لانه لم يتحقق قصد المضارة أولا، وأحكام الايلاء منوطة به لا بمجرد الضرر بالامتناع من الوطئ، ولهذا لو امتنع بلا يمين، لم يكن مؤليا. ولو وطئ قبل وجود المعلق به، وجبت الكفارة بلا خلاف، ولو وجد المعلق به قبل الوطئ، ارتفعت اليمين بلا خلاف. فرع قال: لا أجامعك حتى أموت، أو تموتي، أو قال: عمري أو عمرك، فهو مؤل لحصول اليأس مدة العمر. ولو قال: حتى يموت فلان، فمؤل(6/222)
على الاصح عند الاكثرين. فرع قال: لا أجامعك حتى تفطمي ولدك، نقل المزني أن الشافعي رحمه الله قال: يكون مؤليا، قال: وقال في موضع آخر: لا يكون مؤليا، واختاره، فأوهم أن في المسألة قولين، وبه قال ابن القطان. وقال الجمهور: لا خلاف في المسألة، ولكن ينظر إن أراد وقت الفطام، فإن بقي أكثر من أربعة أشهر إلى تمام الحولين، فمؤل، وإلا فلا، وإن أراد فعل الفطام، فإن كان الصبي لا يحتمله إلا بعد أربعة أشهر لصغر أو ضعف بنية، فمؤل، وإن كان يحتمله لاربعة أشهر فما دونها، فهو كالتعليق بدخول الدار ونحوه، والنصان محمولان على الحالين. فرع قال: لا أجامعك حتى تحبلي، فإن كانت صغيرة أو آيسة، فهو مؤل، وإلا فكالتعليق بالقدوم من مسافة قريبة ودخول الدار. فرع إذا علق بالقدوم أو الفطام، ولم يحكم بكونه مؤليا، فمات المعلق بقدومه قبل القدوم، أو الصبي قبل الفطام، فهو كقوله: حتى يشاء فلان فمات قبل المشيئة، وقد ذكرناه. فرع قال: والله لا أجامعك، ثم قال: أرد ت شهرا، دين، ولم يقبل ظاهرا.
الركن الرابع : المحلوف عليه، وهو ترك الجماع، فالحلف بالامتناع عن سائر الاستمتاعات، ليس بإيلاء، والالفاظ المستعملة في الجماع ضربان، صريح، وكناية، فمن الصريح لفظ النيك، وقوله: لا أغيب في فرجك ذكري، أو حشفتي، أو لا أدخل، أو أولج ذكري في فرجك، أو أجامعك بذكري، وللبكر: لا أفتضك بذكري. فلو قال في شئ من هذا أردت غير الجماع، لم(6/223)
يدين، لانه لا يحتمل غيره، ولفظ الجماع والوطئ أيضا صريحان، لكن لو قال: أردت بالجماع الاجتماع، وبالوطئ الوطئ بالقدم، دين، وقيل: إنهما كنايتان، وهو شاذ مردود. ولو قال للبكر: لا أفتضك ولم يقل: بذكري، فهو صريح، فإن قال: لم أرد الجماع، لم يقبل ظاهرا وهل يدين ؟ وجهان. الاصح: نعم. قال الامام: ولو قال: أردت به الضم والالتزام، لم يدين على الاصح والمباشرة، والمضاجعة، والملامسة، والمس، والافضاء، والمباعلة، والافتراش، والدخول بها، والمضي إليها، كنايات على الجديد، وصرائح في القديم، والغشيان، والقربان، والاتيان عند الجمهور على القولين. وقيل: كنايات قطعا. والاصابة صريح عند الجمهور. وقيل: على القولين. وقوله: لا يجمع رأسي ورأسك وساد، أو لا يجتمعان تحت سقف كناية قطعا. وقوله: لابعدن عنك، كناية، ويشترط فيه نية الجماع والمدة جميعا، ومثله قوله: لاسوءنك، ولاغيظنك، أو لتطولن غيبتي عنك، فهو كناية في الجماع والمدة. ولو قال: ليطولن تركي لجماعك، أو لاسوءنك في الجماع، فهو صريح في الجماع كناية في المدة. ولو قال: لا أغتسل عنك، سألناه ؟ فإن قال: أردت لا أجامعها، فمؤل، وإن قال: أردت الامتناع من الغسل، أو أردت أني لا أمكث حتى أنزل، واعتقد أن الجماع بلا إنزال لا يوجب الغسل. أو أني أقدم على وطئها وطئ غيرها فيكون الغسل عن الاولى لحصول الجنابة بها، قبلناه، ولم يكن مؤليا. ولو قال: لا أجامعك في الحيض أو النفاس، أو الدبر، فليس بمؤل، بل هو محسن. ولو قال: لا أجامعك إلا في الدبر، فمؤل، ولو قال: لا أجامعك إلا في الحيض أو النفاس، قال السرخسي: لا يكون مؤليا، لانه لو جامع فيه حصلت الفتنة. وقال البغوي في الفتاوي: هو مؤل، وكذا لو قال: إلا في نهار رمضان، أو إلا في المسجد. ولو(6/224)
قال: لا جامعتك جماع سوء، فليس بمؤل، كما لو قال: لا جامعتك في هذا البيت، أو لا جامعتك من القبل. ولو قال: لا أجامعك إلا جماع سوء، فإن أراد: لا أجامعها إلا في الدبر، أو فيما دون الفرج، أو لا أغيب جميع الحشفة، فمؤل، وإن أراد الجماع الضعيف، فليس بمؤل، ولو حلف لا يجامع بعضها، فكما سيأتي في الظهار إن شاء الله تعالى.
الباب الثاني : في أحكام الايلاء وفيه أربعة اطراف.
الأول : في ضرب المدة، فالايلاء يقتضي ضرب المدة وهي أربعة أشهر بنص القرآن الكريم، وهي حق للزوج، كالاجل حق للمدين، وتحسب من وقت الايلاء، ولا يحتاج إلى ضرب القاضي، وسواء كان الزوجان حرين، أو رقيقين، أو حرا ورقيقا. فصل فيما يمنع احتساب المدة ابتداء أو دواما قد سبق أنه إذا آلى من رجعية، صح، وتحسب المدة من وقت الرجعة، لا من وقت اليمين، ولو آلى من زوجته ثم طلقها رجعيا، انقضت المدة لجريانها إلى البينونة، فلو راجعها استؤنفت المدة، لان الاضرار إنما يحصل بالامتناع المتوالي في نكاح سليم، وحكى المتولي وجها أنه يبنى عليها تخريجا مما إذا راجع المطلقة ثم طلقها قبل وطئ، فإنها تبنى على قول. ولو ارتد أحدهما بعد الدخول في المدة، انقطعت المدة، ولا يحتسب زمان الردة منها، لانها تؤثر في قطع النكاح كالطلاق، فإذا أسلم المرتد منهما، استؤنفت المدة، هذا هو المذهب، وبه قطع الجماهير. وفي ردة الزوج وجه أنه إذا أسلم، يبني، وفي وجه حكاه السرخسي، أن ردته لا تمنع الاحتساب، كمرضه وسائر الاعذار. ولو وجد النكاح بعد أن بانت الرجعية، أو كان الطلاق بائنا، أو بعد البينونة بالردة والاضرار، أو بردة قبل الدخول، وقلنا: يعود الايلاء، استؤنفت المدة. ولو طلقها بعد مدة الايلاء طلقة رجعية بمطالبتها، أو ابتداء ثم راجعها، عاد الايلاء، وتستأنف المدة إن كانت اليمين على التأبيد، أو كانت مؤقتة وقد بقي من(6/225)
وقت اليمين مدة الايلاء. ولو ارتد أحد الزوجين بعد مضي المدة، ثم أسلم قبل انقضاء العدة، عاد الايلاء، وتستأنف المدة أيضا، وألحق البغوي العدة عن وطئ الشبهة بالطلاق(6/226)
بالرجعي، وبالردة في منع الاحتساب ووجوب الاستئناف عند انقضائها. فرع ما يمنع الوطئ من غيره، أن يحل بملك النكاح، إن وجد في الزوج، لم يمنع احتساب المدة، بل تضرب المدة مع اقتران المانع بالايلاء. ولو طرأ في المدة، لم يقطعها، بل تطالب بالفيأة بعد أربعة أشهر إذا كان العذر إيلاء يوم المطالبة، وسواء في ذلك المانع الشرعي، كالصوم، والاعتكاف، والاحرام، والحسي، كالمرض، والحبس، والجنون، وإن كان المانع فيها، فقد يكون حسيا وشرعيا، فالحسي، كالنشوز والصغر الذي لا يحتمل معه الوطئ، والمرض المضني المانع من الوطئ، فإن قارن ابتداء الايلاء، لم تبتدئ المدة حتى تزول، وإن طرأ في المدة، قطعها، هذا هو المذهب في الطرفين، وحكى المزني قولا في حبسه: أنه يمنع احتساب المدة، فغلطه جمهور الاصحاب في النقل، وصدقه بعضهم، وحمله على ما إذا حبسته هي. وقيل: هو محمول على ما إذا حبس ظلما، وحق هذا القائل، أن يطرده في المرض، وما لا يتعلق باختياره من الموانع، وقد مال الامام إلى هذا فقال: كان يحتمل أن يصدق المزني في النقل، ويقال فيه وفي نص المرض: إنهما على قولين بالنقل والتخريج. وعن صاحب التقريب أن البويطي حكى قولا أن الموانع الطارئة فيها لا تمنع الاحتساب لحصول قصد المضارة ابتداء. فإذا قلنا بالمذهب، فطرأ فيها مانع في المدة، ثم زال، استأنفت المدة على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور. وقيل: تبني. ولو طرأت هذه الموانع بعد تمام المدة، وقبل المطالبة، وزالت بعد، فلها المطالبة، ولا تفتقر إلى(6/227)
استئناف المدة، لانه وجدت المضارة في المدة على التوالي، وقيل: تستأنف وهو غلط، نسبه الامام إلى بعض الضعفة، وجنونها يمنع احتساب المدة إن كانت تمنع التمكين، وإلا فلا. أما المانع الشرعي فيها، فإن كان صوما أو اعتكافا مفروضين، يمنع الاحتساب، ويجب الاستئناف إذا زال، وإن كانا تطوعين، لم يمنعا الاحتساب، لانه متمكن من وطئها، هذا هو الصحيح الذي قطع به الاصحاب في الطرق، وعن الشيخ أبي محمد، أن العذر الشرعي لا يمنع الاحتساب، ولا يقطع المدة، وهو ضعيف، والحيض لا يمنع الاحتساب قطعا، وكذا النفاس على الاصح.
الطرف الثاني : في كيفية المطالبة، فلها المطالبة بأن يفئ أو يطلق، وما لم تطلب، لا يؤمر الزوج بشئ، ولا يسقط حقها بالتأخير. ولو تركت حقها ورضيت، ثم بدا لها، فلها العود إلى المطالبة ما لم تنقض مدة اليمين، لان الضرر متجدد وتختص المطالبة بالزوجة، فليس لولي المراهقة والمجنونة المطالبة، وحسن أن يقول الحاكم للزوج: اتق الله بالفيأة أو الطلاق، وإنما يضيق عليه إذا بلغت أو أفاقت وطلبت، وليس لسيد الامة أيضا مطالبة، لان الاستمتاع حقها. فرع إذا وجد مانع من الجماع بعد مضي المدة المحسوبة، نظر أهو فيها، أم في الزوج ؟ فإن كان فيها، بأن كانت مريضة لا يمكن وطؤها، أو محبوسة لا يمكنه الوصول إليها، أو حائضا أو نفساء، أو محرمة، أو صائمة، أو معتكفة عن فرض، لم يثبت لها المطالبة بالفيأة لا فعلا ولا قولا، لانه معذور. وإن كان المانع فيه، فهو طبعي وشرعي، فالطبعي، بأن يكون مريضا لا يقدر على الوطئ، أو يخاف منه زيادة العلة، أو بطء البرء، فيطالب بالفيأة باللسان، أو بالطلاق إن لم يفئ، والفيأة باللسان أن يقول: إذا قدرت فئت. واعتبر الشيخ أبو حامد أن يقول مع ذلك: ندمت على ما فعلت، وإذا استمهل الفيأة باللسان، لم يمهله بحال، فإن الوعد هين متيسر، ثم إذا زال المانع، يطالب (بالفيأة) بالوطئ أو بالطلاق، تحقيقا لفيئة اللسان، ولا يحتاج هذا الطلب إلى استئناف مدة، وإن كان محبوسا ظلما، فكالمريض، وإن حبس في دين يقدر على أدائه، أمر بالاداء أو الفيئة بالوطئ، أو الطلاق، وأما الشرعي، فكالصوم والاحرام والظهار قبل التكفير، ففيه طريقان.(6/228)
المذهب منهما، أنه مبني على أن الزوج لو أراد وطأها وهناك مانع شرعي، هل بلزمها التمكين ؟ وفيه تفصيل حاصله (أنه) إن كان المانع يتعلق بهما كالطلاق الرجعي، أو يختص بها كالحيض والصوم والاحرام، لم يلزمها، بل يحرم عليها التمكين، وإن اختص به كصومه وإحرامه، فوجهان. أحدهما: يلزمها التمكين، لانه لا مانع فيها، وليس لها منع ما عليها من الحق. وأصحهما: المنع، لانه موافقة على الحرام وإعانة عليه. وإن كان التحريم بسبب الظهار، فهل هو كالطلاق الرجعي، أم كصومه ؟ وجهان. فإذا قلنا: يجوز التمكين، فلها المطالبة بالوطئ أو الطلاق. فإن أراد الوطئ فامتنعت، سقط حقها من الطلب، وإن قلنا: بالمنع، فوجهان، أحدهما: يقنع منه بفيأة اللسان، وأصحهما وبه قطع ابن الصباغ: يطالب بالطلاق إزالة للضرر عنها، بخلاف المانع الطبعي، لان الوطئ هناك متعذر، وهنا ممكن، وهو المضيق على نفسه. والطريق الثاني: أن يقال له: ورطت نفسك بالايلاء، فإن وطئت عصيت وفسدت عبادتك، وإن لم تطأ، ولم تطلق، طلقناها عليك، كمن غصب دجاجة ولؤلؤة فابتلعتها، يقال له: إن ذبحتها غرمتها، وإلا غرمت اللؤلؤة. ولو قال في صورة الظهار: أمهلوني حتى أكفر، نظر إن كان يكفر بالصوم، لم يمهل، وإن كان بالعتق والطعام، فعن أبي إسحق: يمهل ثلاثة أيام. وفي التهذيب: يوما أو نصف يوم، ويمكن أن يكون بحسب تيسر المقصود، وهذا إذا لم تطل مدة الامهال. فإن طالت لفقد الرقبة أو مصرف الطعام، لم يمهل، كذا قاله المتولي. وعلى كل حال، لو وطئ مع التحريم، خرج عن موجب الايلاء، واندفعت المطالبة.
الطرف الثالث : ما به المطالبة. قد تكرر أن المؤلي بعد المدة، يطالب بالفيئة أو الطلاق، والمقصود الفيأة، لكنه يطالب بالطلاق إن لم يفئ. قال الامام: وليس لها أن توجه الطلب نحو الفيأة وحدها، بل يجب أن تكون المطالبة مترددة، فإن لم يفئ وأبى أن يطلق، فقولان، أظهرهما وهو الجديد وأحد قولي القديم واختيار المزني: أنه يطلقها القاضي طلقة. والثاني، لا يطلق عليه، بل يحبسه ويعزره حتى يفئ أو يطلق. ولو لم يصرح بالامتناع، بل استمهل ليفئ، أمهل بلا خلاف قدر ما يتهيأ لذلك الشغل، فإن كان صائما، أمهل حتى يفطر، أو جائعا، فحتى يشبع، أو ثقيلا من الشبع، فحتى يخف، أو غلبه النعاس، فحتى يزول. ويحصل(6/229)
التهيؤ والاستعداد في مثل هذه الاحوال بقدر يوم فما دونه. وهل يمهل ثلاثة أيام ؟ قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما عند الجمهور: لا. وإذا أمهل، فطلق القاضي عليه في مدة الامهال، لم يقع طلاقه إن وجدت الفيأة في مدة المهلة، وإن مضت المدة بلا فيأة، لم يقع أيضا على الصحيح. فرع ذكر ابن كج، أنه لو طلق القاضي عليه، فبان أنه وطئ أو طلق قبل تطليق القاضي، لم ينفذ طلاق القاضي. ولو وقع طلاق الزوج والقاضي معا، نفذ الطلاقان، لان كل واحد فعل ماله فعله. وقيل: لا يقع تطليق القاضي. فرع آلى ثم غاب، أو آلى وهو غائب، تحسب المدة، ولها أن توكل من يطالبه. فإذا مضت المدة، رفعه وكيلها إلى قاضي البلد الذي فيه الزوج وطالبه ويأمره القاضي بالفيأة باللسان في الحال، لان المانع حسي وبالمسير، أو يحملها إليه، أو الطلاق إن لم يفعل ذلك، فإن لم يفئ باللسان، أو فاء به ولم يرجع إليها، ولا حملها إليه حتى مضت مدة الامكان، ثم قال: أرجع الآن، لم يمكن، ويطلق عليه القاضي إذا طلب وكيلها على الاظهر، وعلى القول القديم: يحبسه ليطلق، ويعذر في التأخير لتهيئة أهبة السفر، ولخوف الطريق إلى أن يزول الخوف. ولو غاب عنها بعد مطالبته بالفيأة أو الطلاق، لم يرض منه بفيأة اللسان، ولا يمهل. ذكره أبو الفرج السرخسي. فرع لو طولب فادعى التعيين والعجز عن الفيأة، نظر، إن لم يدخل بها في ذلك النكاح، سواء كانت ثيبا أو بكرا، أو ادعى العجز عن الافتضاض، فوجهان. أحدهما وهو ظاهر النص، وبه قطع في الوجيز: إذا صدقته أو كذبته فحلف على العجز، لا يطالب بالوطئ، بل يطالب بفيأة اللسان، فإن فاء، ضربت مدة التعنين إن طلبتها. فإن وطئ في المدة، فذاك، وإلا أمضى حكم التعنين. والثاني: يتعين عليه الطلاق، لانه متهم في تأخير حقها وضررها، وإن كان دخل بها في ذلك النكاح، لم تسقط المطالبة، لان التعنين بعد الوطئ لا يعتبر، فتظهر تهمته.
الطرف الرابع : فيما تحصل به الفيأة، وهو تغيب الحشفة في القبل خاصة،(6/230)
فلو استدخلت ذكره، لم تنحل يمينه. فلو وطئ بعده، لزمته الكفارة. وهل تحصل به الفيأة ويرتفع حكم الايلاء ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قطع كثيرون، ولو وطئها مكرها، ففي وجوب الكفارة القولان فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا أو مكرها. فإن أوجبناها، انحلت اليمين وارتفع الايلاء، وإلا ففي انحلال اليمين وجهان يجريان في كل يمين وجد المحلوف عليه بإكراه أو نسيان، أصحهما: عدم الانحلال، وهو الاوفق لكلام الائمة، وبه قطع الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، لاختلال الفعل. فإن حكمنا بالانحلال، حصلت الفيأة وارتفع الايلاء، وإلا فوجهان، أصحهما: كذلك، وبه أجاب البغوي وغيره. والمسألة مفرعة على أنه يتصور إكراهه على الوطئ وهو الراجح. فرع لو وطئها المؤلي في المدة أو بعدها وهو مجنون، فطريقان. قطع العراقيون بأنه لا يحنث، ولا تنحل اليمين، ولا كفارة، والثاني، وبه قطع المتولي والبغوي: أن في وجوب الكفارة قولين كالناسي، لان المجنون ملحق بالمخطئ في كفارة القتل، فكذا كفارة اليمين، فعلى هذا إن أوجبنا الكفارة، انحلت اليمين، وإلا فعلى الوجهين في المكره، فكيف كان، فالمذهب أنه لا يحنث، ولا تجب الكفارة، ولا تنحل اليمن، وهل يسقط حقها من الفيأة بالوطئ في الجنون ؟ وجهان. أحدهما: لا، بل تطالبه بعد الافاقة من غير استئناف مدة، وقيل: لا بد من استئنافها بعد الافاقة، وأصحهما: نعم، لانها وصلت إلى حقها، كما لو رد المجنون الوديعة إلى صاحبها، ولان وطئ المجنون كوطئ العاقل في تقرير المهر والتحليل، وتحريم الربيبة وسائر الاحكام. فرع لو آلى من إحدى امرأتيه بعينها، ووطئها وهو يظنها الاخرى، قال البغوي: يخرج عن الايلاء، وفي الكفارة القولان في الناسي. فصل سبق في فصل التعنين، أن الزوجين إذا اختلفا في الوطئ، فالقول قول النافي إلا في مواضع. أحدها: إذا ادعى العنين الوطئ بعد المدة أو فيها. الثاني: إذا ادعى مثل ذلك في الايلاء، فالقول قوله في الموضعين، فإذا حلف ثم طلقها وقال: هذا طلاق رجعي (فلي الرجعة) وهي على إنكار الوطئ والعدة، قال ابن(6/231)
الحداد والجمهور: القول قولها، ولا يمكن من الرجعة عملا بقياس الخصومات، وإنما قبلنا قوله في الوطئ للضرورة، وتعذر البينة. وقيل: له الرجعة. الموضع الثالث: طلق زوجته وولدت ولدا يلحقه ظاهرا، وقالت: وطئتني فلي كل المهر، فقال: لم أطأ، فلك نصفه، فالمذهب والمنصوص في رواية المزني وغيره، أن القول قولها بيمينها. ونقل الربيع قولا آخر، أن القول قوله بيمينه، فقيل:(6/232)
قولان، وقيل: بالاول قطعا، ورواية الربيع من كيسه، وقيل: إن اختلفا قبل ظهور الولد وحكمنا بالنصف، لم يعتبر الحكم بالولد، وإن اختلفا بعد ظهوره وما الزوج، أوجبنا جميع المهر ولا يقبل قول الورثة. فرع اختلفا في أصل الايلاء وفي انقضاء مدته، فهو المصدق بيمينه، ولو اعترفت بالوطئ بعد المدة وأنكر، فلا مطالبة لها، فلو رجعت وقالت: لم يطأني، لم يسمع قولها، لانها أقرت بوصول حقها إليها، فلا يقبل رجوعها، ذكره المتولي. فصل قال: والله لا أجامعك، ثم أعاد ذلك مرتين فأكثر، نظر، إن أطلق في المرتين، أو قيد بمدة واحدة كسنة وسنة، فإن قال: أردت بالثاني تأكيد الاول، قبل، وكانت اليمن واحدة، سواء اتحد المجلس أم تعدد، طال الفصل أم لا، وفي وجه ضعيف: إذا طال الفصل، لا يقبل، ويكون يمينا أخرى، ويجري هذا الخلاف فيما لو كرر تعليق الطلاق بصفة، والصحيح قبول التأكيد أيضا. وإن قال: أردت الاستئناف، فهما يمينان، وإن أطلق، فهل يحمل على التأكيد، أم الاستئناف ؟ قولان. قال المتولي: إن اتحد المجلس، فالاظهر يحمل على التأكيد، وإن تعدد، فعلى الاستئناف لبعد التأكيد مع اختلاف المجلس. وإن اختلفت المدة المقيد بها، كقوله: والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم قال: والله لا أجامعك سنة، فالاصح أنه كاتحادها. وقيل: يمينان بكل حال، فإذا لم نحكم(6/233)
بالتعدد، لم يجب الوطئ إلا كفارة، وإذا حكمنا بالتعدد، تخلص بالطلاق عن الايمان كلها، وتنحل اليمين بوطأة واحدة، وفي تعدد الكفارة قولان. أظهرهما عند الجمهور: لا يجب إلا كفارة واحدة، والثاني، تتعدد بتعدد الايمان، وقيل: تتحد قطعا، وقيل: تتعدد قطعا. فصل آلى من زوجته الرقيقة، ثم ملكها، ثم باعها أو أعتقها، ثم نكحها، ففي عود الايلاء الخلاف في عود الحنث، وكذا لو آلى عبد من زوجته ثم ملكته وأعتقته ونكحته، فعلى الخلاف. وهل الخلاف العائد كالبينونة بالثلاث أم بما دونها ؟ وجهان. فصل في فتاوى البغوي، أن القاضي إذا طالب المؤلي بالفيأة أو الطلاق فامتنع منهما، وطلبت المرأة من القاضي أن يطلق عليه، لم يشترط حضوره في تطليق القاضي. ولو شهد عدلان أن زيدا آلى، ومضت المدة وهو ممتنع من الفيأة أو الطلاق، لم يطلق عليه، بل لا بد من الامتناع بين يديه، كما في العضل، فلو تعذر إحضاره بتمرد أو توار أو غيبة، حكم عليه بالعضل بشهادة الشهود، وبالله التوفيق.(6/234)
كتاب الظهار
صورته الاصلية: أنت علي كظهر أمي. قال الاصحاب: الظهار حرام،(6/235)
قالوا: وقوله: أنت علي حرام، ليس بحرام، بل هو مكروه، لان الظهار علق به الكفارة العظمى، وإنما علق بقوله: أنت علي حرام كفارة اليمين، واليمين والحنث ليسا بمحرمين، ولان التحريم مع الزوجية قد يجتمعان في التحريم، كتحريم الام مع الزوجية لا يجتمعان. فصل هذا الكتاب مشتمل على بابين.
أحدهما في أركانه، وهي ثلاثة:
أحدها : الزوجان، فيصح الظهار من كل زوج مكلف، حرا كان أو عبدا، مسلما أو ذميا، خصيا أو مجبوبا أو سليما. وظهار الصبي والمجنون باطل، وظهار السكران كطلاقه. ومن لحقها الطلاق، صح الظهار منها، سواء فيه الحرة والامة، والصغيرة(6/236)
والمجنونة، والذمية والرتقاء، والحائض والنفساء، والمعتدة عن شبهة، والمطلقة الرجعية وغيرهن. ولو قال لاجنبية: إذا نكحتك، فأنت علي كظهر أمي، لم يصح، ويجئ فيه القول الشاذ في مثله في الطلاق، ولا يصح الظهار من الامة وأم الولد. فرع يتصور من الذمي الاعتاق عن الكفارة، بأن يرث عبدا مسلما، أو يكون له عبد كافر فيسلم، أو يقول لمسلم: أعتق عبدك المسلم عن كفارتي، فيجيبه، أو يشتري عبدا مسلما إن جوزناهما، فإن لم نجوز الشراء وتعذر تحصيله، فما دام موسرا لا يباح له الوطئ. ويقال له: إن أردت الوطئ، فأسلم وأعتق، لان الرقبة موجودة والتعذر منه، وكذا لو كان معسرا وهو قادر على الصوم، لا يجوز له العدول إلى الاطعام، لانه يمكنه أن يسلم ويصوم، فإن عجز عنه لمرض أو هرم، فحينئذ يطعم في كفره، هكذا ذكره صاحبا التهذيب والتتمة، وحكاه الامام عن القاضي، وتردد فيه، من حيث إن الذمي مقر على دينه، فحمله على الاسلام بعيد، وجوابه، أنا لا نحمله على الاسلام، بل نقول: لا نمكنك من الوطئ إلا هكذا، فإما أن تتركه، وإما أن تسلك طريق الحل.
الركن الثاني : الصيغة، فصريح الظهار: أنت علي كظهر أمي، وفي معناه سائر الصلات، كقوله: أنت معي أو عندي، أو مني أو لي كظهر أمي. وكذا لو ترك الصلة فقال: أنت كظهر أمي، وعن الداركي: أنه إذا ترك الصلة، كان كناية، لاحتمال أنه يريد: أنت محرمة على غيري، والصحيح الاول، كما أن قوله: أنت طالق، صريح وإن لم يقل: مني، ومتى أتى بصريح الظهار، وقال: أردت غيره، لم يقبل على الصحيح، كما لو أتى بصريح الطلاق وادعى غيره، وقيل: يقبل لانه حق الله تعالى. فرع قوله: جملتك، أو نفسك، أو ذاتك، أو جسمك، أو بدنك علي كظهر أمي، كقوله: أنت علي كظهر أمي، وكذا قوله: أنت علي كبدن أمي أو(6/237)
جسمها، أو ذاتها، لدخول الظهر فيها. فرع إذا شبهها ببعض أجزاء الام غير الظهر نظر، إن كان ذلك مما لا يذكر في معرض الكرامة والاعزاز، كاليد والرجل، والصدر والبطن، والفرج والشعر، فقولان. أظهرهما وهو الجديد وأحد قولي القديم: أنه ظهار. وقيل: ظهار قطعا، وقيل: التشبيه بالفرج ظهار قطعا، والباقي على القولين. وإن كان مما يذكر في معرض الاعزاز والاكرام، كقوله: أنت علي كعين أمي، فإن أراد الكرامة، فليس بظهار، وإن أراد الظهار، فظهار (قطعا) تفريعا على الجديد في قوله: كصدر أمي، وإن أطلق، فعلى أيهما يحمل ؟ وجهان. اختار القفال الاكرام، والقاضي حسين، أنه ظهار، وأشار البغوي إلى ترجيحه، والاول أرجح. ولو قال: كروح أمي، فكقوله: كعين أمي، قاله جماعة، وعن ابن أبي هريرة، أنه ليس بظهار ولا كناية، والتشبيه برأس الام كهو باليد والرجل، وكذا قطع به العراقيون، وقيل: كالعين، وبه أجاب السرخسي، وهو أقرب. ولو قال: أنت(6/238)
علي كأمي، أو مثل أمي، فإن أراد الظهار، فظهار، وإن أراد الكرامة، فلا، وإن أطلق، فليس بظهار على الاصح، وبه قطع كثيرون. فرع لو شبه بعض الزوجة فقال: رأسك أو يدك، أو ظهرك، أو فرجك، أو جلدك، أو شعرك علي كظهر أمي، أو نصفك، أم ربعك علي كظهر أمي، فهو ظهار، ويجئ فيه القول القديم، ولو شبه بعضها ببعضها فقال: رأسك علي كيد أمي، فهو ظهار، ويجئ فيه القديم. فرع قال الاصحاب: ما يقبل التعليق من التصرفات، يصح إضافته إلى بعض محل ذلك التصرف، كالطلاق، والعتاق، وما لا يقبله، لا تصح إضافته إلى بعض المحل، كالنكاح والرجعة. وأما الايلاء، فإن أضافه إلى الفرج فقال: لا أجامع فرجك، كان مؤليا، وإن أضاف إلى اليد والرجل وسائر الاعضاء غير الفرج، لم يكن مؤليا، وإن قال: لا أجامع بعضك، لم يكن مؤليا، إلا أن يريد بالبعض الفرج، وإن قال: لا أجامع نصفك، فقد أطلق الشيخ أبو علي، أنه ليس بمؤل قال الامام: إن أراد أنه ليس بصريح، فظاهر، أما إذا نوى، ففيه احتمال، لان من ضرورة ترك الجماع في النصف، تركه في الجميع، ويجوز أن يجاب عنه. قلت: ولو قال: لا أجامع نصفك الاسفل، فهو صريح في الايلاء، ذكره في الوسيط. والمراد بالفرج المذكور، القبل. والله أعلم.(6/239)
الركن الثالث : المشبه به أصل الظهار، تشبيه الزوجة بظهر الام، ولو شبهها بجدة من جهة الاب أو الام، فهو ظهار قطعا، هكذا قطع به الجمهور. وقيل: فيه خلاف كالتشبيه بالبنت. وأما غير الام والجدة من المحارم، فقسمان. أحدهما: محرمات بالنسب، كالبنات، والاخوات، والعمات، والخالات، وبنات الاخت. فإذا شبه زوجته بظهر واحدة منهن، فقولان، الجديد وأحد قولي القديم: أنه ظهار، والثاني: لا، للعدول عن المعهود. القسم الثاني: المحرمات بالسبب، وهن ضربان، محرمات بالرضاع، ومحرمات بالمصاهرة، وفيهن خلاف مشتمل على أقوال، وطرق، وأوجه، والمذهب منها عند الاصحاب: أن التشبيه بمن لم تزل منهن محرمة عليه ظهار، وبما كانت حلالا له ثم حرمت، ليس بظهار، وإذا اختصرت الخلاف في الجميع، جاء سبعة أقوال وأوجه. أحدها: اقتصار الظهار على التشبيه بالام. والثاني: إلحاق الجدات بها فقط. والثالث: إلحاق محارم النسب. والرابع: إلحاق محارم الرضاع أيضا إذا لم يعهدن محللات. الخامس: إلحاقهن بحذف هذا الشرط. والسادس: إلحاق محارم المصاهرة بالشرط المذكور. السابع: إلحاقهن بحذف الشرط. والمذهب: إلحاق كل من لم تزل محرمة من الجميع فقط. ولو شبه بمن لا تحرم مؤبدا كأجنبية، ومطلقة، ومعتدة، ومجوسية، ومرتدة، وأخت امرأته، فليس بظهار قطعا، سواء طرأ ما يؤيد التحريم، بأن نكح بنت الاجنبية، أو وطئ أمها وطءا محرما، أم لم يطرأ. ولو شبه بملاعنته، فليس بظهار، لان تحريمها ليس للمحرمية والوصلة، ولو شبهها بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قالت: أنت علي كظهر ابني، أو أبي، أو غلامي، فليس بظهار. فرع قالت لزوجها: أنت علي كظهر أمي، أو أنا عليك كظهر أمك، فلا يلزم به شئ، بل يختص بالرجال (كالطلاق).(6/240)
فصل تعليق الظهار صحيح، فإذا قال: إن دخلت الدار، وإذا جاء رأس الشهر، فأنت علي كظهر أمي، فوجدت الصفة، صار مظاهرا منها. ولو قال: إن ظاهرت من حفصة، فعمرة علي كظهر أمي وهما في نكاحه، ثم ظاهر من حفصة صار مظاهرا منهما جميعا. ولو قال: إن ظاهرت من إحداكما، أو أيكما ظاهرت منها، فالاخرى علي كظهر أمي، ثم ظاهر من إحداهما، صار مظاهرا من الاخرى أيضا. ولو قال: إن ظاهرت من فلانة، فأنت علي كظهر أمي، وكانت فلانة أجنبية، فخاطبها بلفظ الظهار، لم يصر مظاهرا من زوجته، لان الظهار من الاجنبية لا ينعقد، إلا أن يريد التلفظ بلفظ الظهار، فيصير بالتلفظ مظاهرا من زوجته. ولو نكح فلانة ثم ظاهر منها، صار مظاهرا من زوجته الاولى. ولو قال: إن ظاهرت من فلانة الاجنبية، فأنت علي كظهر أمي، فإن خاطبها بلفظ الظهار قبل أن ينكحها، فحكمه ما سبق. فإن نكحها ثم ظاهر منها، فهل يصير مظاهرا من الزوجة الاولى ؟ وجهان. أصحهما: نعم، ويكون لفظ الاجنبية تعريفا لا شرطا، كما لو قال: لا أدخل دار زيد هذه، فباعها، ثم دخلها، حنث، ولو قال: إن ظاهرت من فلانة أجنبية، أو وهي أجنبية، فأنت علي كظهر أمي، فسواء خاطبها بلفظ الظهار قبل أن ينكحها، أو نكحها، وظاهر منها، لا يصير مظاهرا من المعلق ظهارها، لانه شرط المظاهرة منها وهي أجنبية، ولم يوجد الشرط، وهو كقوله: إن بعت الخمر، فأنت طالق، أو كظهر أمي، فأتى بلفظ البيع، لا يقع الطلاق ولا الظهار، تنزيلا للفظ العقود على الصحة. وعند المزني، ينزل في مثل هذا على صورة العقد، ومن الاصحاب من وافقه، فصحح الظهار هنا. فرع قال: إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، فدخلت الدار وهو مجنون، أو ناس، فعن ابن القطان: أن في حصول العود ولزوم الكفارة قولين. قال ابن كج: وعندي أنها تلزم بلا خلاف، كما لو علق طلاقها بالدخول، فدخلت وهو مجنون، وإنما يؤثر النسيان والاكراه، في فعل المحلوف على فعله، وهذا هو الصواب.(6/241)
فصل سبق أن كل واحد من لفظي الطلاق والظهار، لا يجوز أن يجعل كناية عن الآخر، وأن قوله لزوجته: أنت علي حرام، يصح كناية عن الطلاق والظهار. فإذا قال: أنت طالق كظهر أمي، فله أحوال. أحدها: أن لا ينوي شيئا، فتطلق، ولا يصح الظهار. الثاني: أن يقصد بكل كلامه الطلاق وحده وأكده بلفظ الظهار، فيقع الطلاق ولا ظهار. الثالث: أن يقصد بالجمع الظهار، فتطلق، ولا ظهار على الصحيح، لان لفظ الطلاق ليس بظهار، والباقي ليس بصريح في الظهار، لعدم استقلاله، ولم ينو به الظهار، وإنما نواه بالمجموع. الرابع: أن يقصد الطلاق والظهار، فينظر، إن قصدهما بمجموع كلامه، حصل الطلاق ولا يحصل الظهار على الصحيح. وقيل: يحصل لاقراره به، وإن قصد الطلاق بقوله: أنت طالق، والظهار بقوله: كظهر أمي، طلقت، فإن كانت تبين بالطلاق، لم يصح الظهار، وإلا فيصح الظهار مع الطلاق، وقيل: لا يصح، وهو ضعيف. وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق الظهار، وبقولي: كظهر أمي الطلاق، وقع الطلاق وحده. وإن قال: أنت علي كظهر أمي طالق، قال ابن كج: إن أراد الظهار والطلاق، حصلا، ولا يكون عائدا، لانه عقب الظهار بالطلاق، فإن راجع، كان عائدا، وإن لم يرد شيئا، صح الظهار. وفي وقوع الطلاق وجهان. فرع قال: أنت علي حرام كظهر أمي، فإن نوى بكلامه الطلاق فقط، فهو طلاق على الاظهر الاشهر، وفي قول: ظهار، وقيل: طلاق قطعا، وقيل: طلاق وظهار، حكاه ابن كج. وإن نوى بكلامه الظهار، فظهار، وإن نوى الطلاق والظهار جميعا، نظر، إن أرادهما بمجموع الكلام، أو بقوله: أنت علي حرام، لم يثبتا معا، وأيهما يثبت ؟ فيه أوجه. أحدها: الطلاق، والثاني: الظهار،(6/242)
والثالث وبه قال ابن الحداد والجمهور: يخير فيثبت ما اختاره منهما، وإن أراد بقوله: أنت علي حرام الطلاق، وبقوله: كظهر أمي الظهار، وقع الطلاق وحصل الظهار إن كان الطلاق رجعيا على الصحيح، وإن كان بائنا، فلا. وإن أراد بقوله: أنت علي حرام الظهار، وبقوله: كظهر أمي الطلاق، حصل الظهار قطعا، ولا يقع الطلاق على الصحيح، وإن قال: أردت بقولي: أنت علي حرام تحريم ذاتها الذي مقتضاه كفارة يمين، قبل منه على الاصح، وقيل: لا يقبل ويكون مظاهرا، لانه وصف التحريم بما يقتضي الكفارة العظمى، فلا يقبل رده إلى الصغرى، فعلى الاول، إن لم ينو بقوله: كظهر أمي الظهار، لم يلزمه شئ سوى كفارة اليمين، ويكون قوله: كظهر أمي تأكيدا للتحريم، وإن نوى الظهار، لزمه كفارة اليمين، وكان مظاهرا. وأما إذا أطلق ولم ينو شيئا يحتمله كلامه، فلا طلاق لعدم الصريح والنية، وفي كونه ظهارا وجهان. المنصوص في الام أنه ظهار. فرع قال: أنت علي كظهر أمي حرام، كان مظاهرا، قاله المتولي: فإن لم ينو بقوله: حرام شيئا، كان تأكيدا، وإن نوى تحريم عينها، فكذلك، ويدخل مقتضى التحريم وهو الكفارة الصغرى، في مقتضى الظهار وهو الكفارة العظمى، وإن نوى به الطلاق، فقد عقب الظهار بالطلاق، فلا عود. فرع قال: أنت مثل أمي ونوى الطلاق، كان طلاقا، وكذا قوله: كروح أمي وعينها، وبالله التوفيق.
الباب الثاني : في حكم الظهار له حكمان.(6/243)
أحدهما : تحريم الوطئ إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر، فلو وطئ قبل التكفير، عصى، ويحرم عليه الوطئ ثانيا، سواء كفر بالاطعام وغيره. وفي تحريم القبلة واللمس بشهوة، وسائر الاستمتاعات، قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما عند الجمهور: الجواز، وهو منسوب إلى الجديد، وحكى ابن كج طريقا قاطعا به، وقال: وهو الاصح. وقول الله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * محمول على الجماع كقوله تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) *. فرع عد الامام الصور التي تحرم فيها القبلة وسائر الاستمتاعات مع الوطئ، والتي تختص بالتحريم بالوطئ، فقال: ما حرم الوطئ لتاثيره في الملك، كالطلاق الرجعي وغيره، والردة أو لحلها لغيره كالامة المزوجة، أو حرمها لاستبراء الرحم عن غيره، كزوجته المعتدة عن وطئ شبهة في صلب النكاح، وكالمستبرأة بملك اليمين بشراء ونحوه، فكل هذا يحرم فيه الاستمتاعات كلها، وما حرم الوطئ بسبب الاذى، لا يحرم الاستمتاع. وأما العبادات المحرمة للوطئ، فالاحرام يحرم كل استمتاع تعبدا، والصوم والاعتكاف يحرمان كل ما يخشى منه الانزال لتأثرهما بالانزال. وإذا قلنا في الظهار: لا تحرم القبلة واللمس، ففيما بين السرة والركبة احتمالان، لانه يحوم حول الحمى، هذا كلام الامام، وحكى البغوي وجها، أنه يجوز الاستمتاع بزوجته المعتدة عن شبهة وغيره ويشبه أن يجئ في الاستمتاع بالمرهونة خلاف.(6/244)
قلت: الوجه الجزم بجوازه في مرهونته، وقد جزم به الرافعي في باب الاستبراء. قال الامام: وإذا لم يحرم الاستمتاع، فلا بأس بالتلذذ وإن أفضى إلى الانزال، وقول الامام: الاحرام يحرم كل استمتاع، الصواب، حمله على المباشرة بشهوة، فأما اللمس ونحوه بغير شهوة، فليس بحرام كما سبق في الحج. والامة الوثنية والمجوسية والمرتدة، يحرم فيها كل استمتاع، وكذا المشركة والمكاتبة ومن بعضها حر. والله أعلم.
الحكم الثاني : وجوب الكفارة بالعود، والعود هو أن يمسكها في النكاح زمنا يمكنه مفارقتها فيه. وحكى الشيخ أبو حاتم القزويني عن القديم قولا: أن العود هو الوطئ، والمشهور الاول. واتفق الاصحاب على أن الكفارة تجب إذا ظاهر وعاد، لكن هل سبب الوجوب العود فقط، أم الظهار والعود معا، أم الظهار فقط والعود شرط ؟ فيه أوجه. ولو مات أحد الزوجين عقيب الظهار، أو فسخ أحدهما النكاح بسبب يقتضيه، أو جن الزوج، أو طلقها بائنا أو رجعيا ولم يراجع، فلا عود ولا كفارة، فلو كانت أمة فاشتراها متصلا بالظهار، فليس بعائد على الاصح، لانه قطع النكاح. ولو اشتغل بأسباب الشراء كالمساومة وتقرير الثمن، كان عائدا على الاصح، وبه قال ابن الحداد، ورجحه المتولي وغيره. قال الامام: وهذا الخلاف إذا كان الشراء متيسرا، فإن كان متعذرا، فالاشتغال بتسهيله لا ينافي العود عندي. فرع لاعنها عقب الظهار، نص الشافعي رضي الله عنه أنه ليس عائدا، واختلفوا في النص على ثلاثة أوجه. أحدها: وبه قال ابن الحداد: والمراد به ما إذا سبق القذف والمرافعة إلى الحاكم، أو أتى بما قبل الخامسة من كلمات اللعان، ثم ظاهر وعقبه بالكلمة الخامسة، وإلا فعائد، وأصحها، وبه قال أبو إسحق، وابن أبي هريرة، وابن الوكيل: يشترط سبق القذف والمرافعة، ولا يشترط تقدم شئ من كلمات اللعان،(6/245)
بل إذا وصلها بالظهار، لم يكن عائدا. والثالث، وبه قال ابن سلمة، وحكي عن المزني في الجامع الكبير: لا يشترط سبق القذف أيضا، فلو ظاهر وقذف متصلا، واشتغل بالمرافعة وأسباب اللعان، لم يكن عائدا وإن بقي أياما فيه، وشبه ذلك بما لو قال عقب الظهار: أنت طالق على ألف درهم، فلم تقبل، فقال عقبه: أنت طالق بلا عوض، لا يكون عائدا لاشتغاله بسبب الفراق. فرع قال: أنت كظهر أمي، يا زانية أنت طالق، فوجهان، قال ابن الحداد: هو عائد، لانه أمسكها حالة القذف. قال الشيخ أبو علي: هذا صحيح إن لم يلاعن بعده، أو لاعن وشرطنا سبق القذف، فإن لم نشرطه، فليس بعائد. والثاني، لا يكون عائدا، ويكون قوله: يا زانية أنت طالق كقوله: يا زنيت أنت طالق في منع العود، وتردد الامام، في أن ابن الحداد يسلم في هذه الصورة. قلت: تردد الامام ثم قال: والاصح التسليم. والله أعلم. فرع لو علق طلاقها عقب الظهار. كان عائدا. ولو علق بدخوله الدار، ثم ظاهر وبادر بالدخول عقب الظهار، فلا عود.
فصل إذا ظاهر ثم طلقها رجعيا عقبه، ثم راجعها، فلا خلاف أنه يعود الظهار وأحكامه. ولو طلقها بائنا أو رجعيا وتركها حتى بانت، ثم نكحها، ففي عود الظهار الخلاف في عود الحنث، ويجري الخلاف فيما لو كانت رقيقة فاشتراها عقب الظهار، ثم أعتقها أو باعها، ثم نكحها. وهل عود النكاح بعد الانفساخ(6/246)
بالملك كعوده بعد البينونة بالثلاث، أم كالبينونة بدون الثلاثة ؟ وجهان سبق نظيرهما. ولو ارتد عقب الظهار، ثم أسلم في العدة، عاد الظهار بلا خلاف، ثم هل تكون الرجعة وتجديد النكاح والاسلام بمجردها عودا، أم لا يكون إلا أن يمسكها بعد هذه الامور زمنا يمكنه فيه الفرقة ؟ فيه طرق. المذهب: أن الرجعة عود، بخلاف التجديد والاسلام، ويجري الخلاف فيما لو ظاهر من رجعية ثم راجعها، ولا يكون عائدا قبل الرجعة بحال، ولو ارتد أحدهما عقب الظهار قبل الدخول، فلا عود، وكذا لو كان بعد الدخول، وأصر المرتد حتى انقضت العدة. ولو ظاهر كافر من كافرة، فأسلما معا في الحال، أو أسلم وهي كتابية، فالنكاح دائم، وهو عائد، وإن أسلم وهي وثنية، أو أسلمت وتخلف، فإن كان قبل الدخول، فلا عود لارتفاع النكاح، وإن كان بعده، فلا عود في الحال، ولا إذا أصر، فإن جدد النكاح بعد البينونة، ففي عود الظهار خلاف عود الحنث. وإن أسلم المتخلف في العدة، فإن كان هو، فهل يكون نفس الاسلام عودا، أم لا بد من الامساك بعده ؟ فيه الخلاف السابق، وإن كانت هي، فنفس إسلامها ليس بعود في حقه، وإنما يصير عائدا إذا أمسكها بعد علمه بإسلامها زمنا يمكنه مفارقتها. فرع لو جن عقب الظهار ثم أفاق، قال الشيخ أبو علي: جعل بعضهم كون الافاقة عودا على الخلاف في الرجعة، وهذا غلط ظاهر. قلت: نقل الامام عن الاصحاب، أنهم قالوا: لو جن عقب الظهار، فليس بعائد، لانه لم يمسكها مختارا، وقال صاحب الحاوي: لو تعقب الظهار جنون أو إغماء، صار عائدا، لان الجنون لا يحرمها، بخلاف الردة، والقصد في العود ليس بشرط، وهذا الذي قاله، وإن كان قويا، فالصحيح ما نقله الامام. والله أعلم.
فصل سبق أن تعليق الظهار صحيح، فلو علقه ووجد المعلق عليه وأمسكها جاهلا، نظر، إن علق على فعل غيره، فليس بعائد حتى يمسكها بعد علمه، وإن علق على فعل نفسه ونسي، فالمعروف في المذهب: أنه عائد، ورأى البغوي وغيره تخريج المسألة في الطرفين على حنث الناسي والجاهل، وهذا أحسن، وبه قال المتولي.(6/247)
قلت: هذا الذي قال المتولي، أنه إن علق بفعل نفسه، ففي مصيره عائدا الخلاف في حنث الناسي، وإن علق بفعل غيره، لم يصر عائدا على المذهب. وقيل: يخرج على الناسي، قال: والفرق أنه يشتبه عليه فعل غيره، وقلما يشتبه عليه حال نفسه، ثم إذا علق على فعل نفسه أو غيره وفعل، صار عند علمه بالفعل، كأنه الآن تلفظ بالظهار، فإن أمسكها بعده، فعائد، وإلا فلا. والله أعلم. فصل متى عاد، ووجبت الكفارة، ثم طلقها بائنا أو رجعيا، أو مات أحدهما، أو فسخ النكاح، لم تسقط الكفارة. وإذا جدد النكاح، استمر التحريم إلى أن يكفر، سواء حكمنا بعود الحنث، أم لا، لان التحريم حصل في النكاح الاول، وقد قال الله تعالى: * (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) * ولو كانت رقيقة وحصل العود ثم اشتراها، فهل تحل بملك اليمين قبل التكفير ؟ وجهان. أصحهما: لا.
فصل إذا وقّت الظهار، فقال: أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو إلى شهر، أو إلى سنة، فثلاثة أقوال، أظهرها: صحته مؤقتا عملا بلفظه، وتغليبا لشبه اليمين، والثاني: يصح مؤبدا، تغليبا لشبه الطلاق. والثالث: أنه لغو، فإن صححناه مؤبدا، فالعود فيه كالعود في الظهار المطلق. وإن صححناه مؤقتا، فوجهان، أحدهما: العود فيه كالعود في المطلق، وبه قال المزني، وأصحهما وهو ظاهر النص: أنه لا يكون بالامساك عائدا، ولا يحصل العود إلا بالوطئ في المدة. فعلى هذا لو قال: أنت علي كظهر أمي خمسة أشهر، فهو مؤل على الاصح، وقال الشيخ أبو محمد: لا، لانه ليس حالفا. وإذا وطئ فمتى يصير عائدا ؟ وجهان، أصحهما: عند الوطئ، فعلى هذا لا يحرم الوطئ، لكن إذا غابت الحشفة، لزمه النزع كما سبق في قوله: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثا، وذكرنا هناك وجها أنه يحرم الوطئ. قال الامام: ولا شك في جريانه هنا. والثاني، قاله الصيدلاني(6/248)
وغيره: نتبين بالوطئ كونه عائدا بالامساك عقب الظهار، فعلى هذا يحرم ابتداء الوطئ، كما لو قال: إن وطئتك، فأنت طالق قبله، يحرم عليه الوطئ. وعلى الوجهين يحرم عليه الوطئ بعد ذلك الوطئ حتى يكفر أو تمضي مدة الظهار، فإذا مضت، حل الوطئ لارتفاع الظهار، وبقيت الكفارة في ذمته، ولو لم يطأ حتى مضت المدة، فلا شئ عليه، وتردد الامام في أنه لو ظاهر ظهارا مطلقا وعاد، هل يحصل التحريم بالظهار فقط، أم به وبالعود ؟ قال: والظاهر الثاني، لان الكفارة مرتبة عليهما، والتحريم مرتب على وجوب الكفارة، وتظهر فائدة التردد في لمسه وقبلته بغرض عقب الظهار إلى أن يتم زمن لفظ الطلاق، وإذا حصل العود في الظهار المؤقت على اختلاف الوجهين، فالواجب كفارة الظهار على الصحيح، وعليه تتفرع الاحكام المذكورة، وفي وجه: الواجب كفارة يمين، وينزل لفظ الظهار منزلة لفظ التحريم. وذكر ابن كج تفريعا عليه أنه يجوز الوطئ قبل التكفير. فرع قال: أنت علي حرام شهرا أو سنة ونوى تحريم عينها، أو أطلق، وقلنا: مطلقه يوجب كفارة اليمين، فهل يصح ويوجب كفارة اليمين، أم يلغو ؟ وجهان حكاهما الامام، كالظهار المؤقت، أصحهما الاول. فصل قال لاربع نسوة: أنتن علي كظهر أمي، صار مظاهرا منهن، فإن طلقهن، فلا كفارة، وإن أمسكهن، فالجديد: وجوب أربع كفارات، والقديم: كفارة فقط، فعلى الجديد: لو امتنع العود في بعضهن بموت أو طلاق، وجبت(6/249)
الكفارة بعدد من عاد فيهن، وعلى القديم: تجب الكفارة لو عاد في بعضهن. وفي التتمة، أنها لا تجب في بعضهن، كما لو حلف لا يكلم جماعة، فكلم بعضهم. ولو ظاهر منهن بأربع كلمات، فإن لم يوالها، لم يخف حكمه، وإن والاها، صار بظهار الثانية عائدا في الاولى، وبظهار الثالثة عائدا في الثانية، وبظهار الرابعة عائدا في الثالثة، فإن فارق الرابعة عقب ظهارها، فعليه ثلاث كفارات، وإلا فأربع. فرع قال لاربع نسوة: أنتن علي حرام ونوى تحريم أعيانهن، فالقول في تعدد الكفارة واتحادها كما في الظهار، ذكره الامام. فرع كرر لفظ الظهار في امرأة واحدة، فإن أتى بالالفاظ متوالية، نظر، إن أراد بالمرة الثانية وما بعدها التأكيد، فالجميع ظهار واحد، فإن أمسكها بعد المرات، فعليه كفارة، وإن فارقها، فوجهان. أحدهما: تلزمه الكفارة لتمكنه من الفراق بدلا من التأكيد، وأصحهما: لا كفارة، لان الكلمات المؤكد بها كالكلمة الواحدة، وإن أراد بالمرة الثانية ظهارا آخر، تعذرت الكفارة على الجديد، واتحدت على القديم. وقيل: تتعدد قطعا، فإن عددنا، ففارق عقب المرة الاخيرة، فهل يلزمه كفارة الظهار الاول ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لانه كلام آخر، بخلاف التأكيد، وإن أطلق ولم ينو شيئا، فهل تتحد، أم تتعدد ؟ قولان، أظهرهما: الاتحاد، وقطع به صاحبا الشامل والتتمة. وأما إذا تفاصلت المرات، وقصد بكل مرة، ظهارا، أو أطلق، فكل مرة ظهار مستقل له كفارة، وفي قول ضعيف: لا يكون الثاني ظهارا ما لم يكفر عن الاول، وإن قال: أردت بالمرة الثانية إعادة الظهار الاول، فعن القفال: اختلاف جواب في قبوله. قال الامام: هو مبني على أن المغلب في الظهار شبه اليمين، أم الطلاق ؟ إن غلبنا الطلاق، لم يقبل، وإلا فالظاهر قبوله كما ذكرنا في الايلاء، والاصح تغليب شبه الطلاق فيكون الاصح أنه لا يقبل إرادته التأكيد، وكذا ذكره البغوي وغيره.(6/250)
قلت: نقل صاحب البيان عن البغداديين، يعني بهم العراقيين، القطع بأنه لا يقبل، وجزم صاحب الحاوي بالقبول، والصحيح المنع. والله أعلم. فرع قال: إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، وكرر هذا اللفظ ثلاثا، فإذا دخلت الدار، صار مظاهرا، فإن قصد التأكيد، لم يجب إلا كفارة وإن قالها في مجالس، وإن قصد الاستئناف، تعددت الكفارة، ويجب الجميع بعود واحد بعد الدخول، فإن طلقها عقب الدخول، لم يجب شئ، وإن أطلق فهل يحمل على التأكيد، أم الاستئناف ؟ قولان. فصل قال: إن لم أتزوج عليك، فأنت علي كظهر أمي، فإن تزوج، أو لم يتمكن منه بأن مات، أو ماتت عقب الظهار، فلا عود ولا ظهار، وإنما يصير مظاهرا إذ فات التزويج عليها مع إمكانه، وحصل اليأس منه بموت أحدهما، وحينئذ يحكم بكونه كان مظاهرا قبيل الموت، وفي لزوم الكفارة وحصول العود وجهان، قال ابن الحداد: يلزم، وقال الجمهور: لا يلزم ولا ضرورة إلى تقدير حصول العود عقب الظهار، وهذا هو الصحيح. ولو لم يتزوج عليها مع الامكان حتى جن، فإن أفاق ثم مات قبل التزويج، فحكمه ما سبق، وإن اتصل الموت بالجنون، تبينا مصيره ظاهرا قبيل الجنون. وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه لا يحكم بمصيره مظاهرا إلا قبيل الموت، ويجئ مثله في تعليق الطلاق. قال الشيخ: ولا تظهر فائدة هذا الخلاف في الظهار إذا قلنا بالصحيح وقول الجمهور: إنه لا كفارة، وعلى قول ابن الحداد تظهر فائدته إن اختلف حاله في اليسار والاعسار. ولو قال: إذا لم أتزوج عليك، فأنت علي كظهر أمي، فإذا مضى عقب التعليق زمان إمكان التزوج ولم يتزوج، صار مظاهرا، والفرق بين إن وإذا سبق بيانه في كتاب الطلاق، وذكرنا هناك أن من الاصحاب من خرج من كل واحدة إلى الاخرى، وهو جار هنا.(6/251)
فصل قال: إن دخلت فأنت علي كظهر أمي، ثم أعتق عن كفارة الظهار، ثم دخلت، فهل يجزئه إعتاقه عن الكفارة ؟ وجهان، قال ابن الحداد: نعم، كتقديم الزكاة وكفارة اليمين، وقال الجمهور: لا، لانه تقديم على السببين جميعا، فلم يصح كتقديم الزكاة على الحول والنصاب، وكفارة اليمين على اليمين، ويجري الخلاف، لو أطعم عن الظهار وهو من أهل الاطعام قبل دخول الدار، ولا يجري في الصوم على المذهب، والوجهان جاريان في تعليق الايلاء. فإذا قال: إن دخلت الدار فوالله لا أطؤك، ثم أعتق عن كفارة اليمين قبل دخول الدار، جوزه ابن الحداد، وخالفه الجمهور. ولو قال: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، وقال: متى دخلت، فعبدي فلان حر عن ظهاري، فدخلت، فعلى رأي ابن الحداد يصير مظاهرا، ويعتق العبد عن الظهار، وعلى الصحيح وقول الجمهور: لا يصح تعليق إعتاقه عن الظهار، وأما إذا أعتق عن الظهار بعد الظهار وقبل العود، فيجزئه قطعا، وسنوضحه في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى. ولو قال: أنت علي كظهر أمي، أعتقت هذا عن كفارتي، أو أنت علي كظهر أمي، وسالم حر عن ظهاري، فهذا إعتاق مع العود، ويجزئه عن الكفارة التأخر عن الظهار. فرع ظاهر من زوجته الامة، وعاد ثم قال لمالكها: أعتقتها عن ظهاري، ففعل، وقع عتقها عن كفارته، وانفسخ النكاح. وكذا لو أعتقها عنه باستدعائه عن كفارة أخرى، ولو ملكها بعدما ظاهر، وعاد فانفسخ النكاح، ثم أعتقها عن ظهاره منها، أجزأه. ولو آلى من زوجته الامة، ووطئها ولزمته الكفارة فقال لسيدها: أعتقها عن كفارة يميني، ففعل، أجزأه وانفسخ النكاح، ولو آلى من زوجته الذمية، ثم وطئها، أو ظاهر منها وعاد، ثم نقضت العهد، فاسترقت، فملكها الزوج فأسلمت، فأعتقها عن كفارة ظهاره، أجزأه، وبالله التوفيق.(6/252)
كتاب الكفارات
هي قسمان.
أحدهما : لا يدخله الاعتاق، كالواجبات في محظورات الاحرام، وسبق بيانها في الحج.
والثاني : يدخله الاعتاق، وهو نوعان. أحدهما: تترتب فيه خصال الكفارة، وهو الظهار والجماع في نهار شهر رمضان، والقتل. والثاني: للتخيير، وهي كفارة اليمين، ومعظم المقصود هنا كفارة الظهار، ويدخل فيها أشياء من غيرها، والباقي موضحة في أبوابها. فصل تشترط النية في الكفارات، ويكفيه نية الكفارة، ولا يشترط التقييد بالوجوب، لان الكفارة لا تكون إلا واجبة، كذا ذكره صاحب الشامل وغيره،(6/253)
ولا تكفيه نية العتق الواجب من غير تعرض للكفارة، لان العتق قد يجب بالنذر فإن نوى العتق الواجب بالظهار، أو القتل مثلا، كفى، ويشترط أن تكون النية مقارنة للاعتاق والاطعام، وأما الصوم، فينوي من الليل كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقيل: يجوز تقديمها على الاعتاق والاطعام، كما ذكرنا في الزكاة، والصحيح الاول. وإذا علق العتق عن الكفارة على شرط، لم يجز تأخر النية عن التعليق، بل يشترط المقارنة للتعليق إن شرطناها في التنجيز، وعلى الوجه الآخر: يجوز تقديمها عليه، ذكره البغوي. فرع لا يجب في النية تعيين الكفارة، فلو كان عليه كفارتا ظهار وقتل، فأعتق عبدين بنية الكفارة، أجزاه عنهما. ولو اجتمع عليه كفارات، فأعتق رقبة بنية(6/254)
الكفارة، وقعت عن واحدة منها، سواء اتفق جنسها أو اختلف، وكذا الصوم والاطعام، ولو كان عليه كفارة ونسي سببها فأعتق ونوى عليه، أجزأه، ولو كان عليه ثلاث كفارات، فأعتق رقبة عن واحدة، ثم أعسر وصام شهرين عن واحدة، ثم عجز فأطعم عن الثالثة، ولم يعين شيئا، أجزأه، ولو كانت عليه كفارة ظهار، فنوى كفارة القتل عمدا أو خطأ، لم يجزه عن الظهار. ولو كان عليه كفارتان، فأعتق عبدا بنية الكفارة المطلقة، ثم صرفه إلى واحدة معينة، تعين العتق لها، ولم يتمكن بعده من صرفه إلى الاخرى، كما لو عين في الابتداء. فرع إذا ظاهر الذمي وعاد، يكفر بالاعتاق أو الاطعام دون الصيام، ولو ارتد من لزمته كفارة، لم يصح تكفيره بالصوم. وهل يكفر بالاعتاق أو بالاطعام إذا عجز عن الاعتاق والصوم ؟ فيه طريقان. منهم من جزم بالاجزاء، ومنهم من خرجه على زوال ملكه، والمذهب: أنه يكفر، لانه مستحق قبل الردة، فكان كالديون. وعن الاصطخري: أن الدين لا يقضى أيضا إن قلنا بزوال الملك، ولكن المذهب الذي عليه الجمهور: القطع بأنه يقضى، ويشترط أن ينوي الكفارة بالاعتاق والاطعام نية التمييز دون نية التقرب، وإذا أخرج الكفارة من مالة في الردة، لم يتعين في الكفارة المخيرة أدنى الدرجات على الصحيح، وإذا كفر فيها ثم أسلم، حل له الوطئ.
فصل خصال الكفارة ثلاث. الاولى: العتق. ويشترط في الرقبة لتجزئ عن الكفارة، أربعة شروط: الاسلام، والسلامة، وكمال الرق، والخلو عن العوض. الاول: الاسلام، فلا تجزئ كافرة في شئ من الكفارات، ويجزئ إعتاق الصغير إذا كان أحد أبويه مسلما أصليا، أو أسلم قبل انعقاده، ولا يجزئ إذا كان(6/255)
أبواه كافرين، لانه محكوم بكفره، ولو أسلم الصغير بنفسه، فقد سبق فيه في كتاب اللقيط ثلاثة أوجه، أصحهما: لا يصح، وقال الاصطخري: يصح إسلام المميز، وقال غيره: موقوف، إن بلغ وثبت عليه، تبينا صحة إسلامه، وإلا فلا، فعلى قول الاصطخري، يجزئ إعتاقه عن الكفارة، وعلى الوقف: إن بلغ وثبت ففي إجزائه وجهان. ولو أسلم أحد أبويه وهو صغير أو جنين، أجزأه عن الكفارة إن مات في صغره، أو بعد بلوغه قبل تمكنه من اللفظ بالاسلام. ولو صرح بالكفر بعد البلوغ، فقد ذكرنا في اللقيط، أن الاظهر أنه مرتد، والثاني: أنه كافر أصلي، وبينا هناك حكم الكفارة على القولين، وبهذا يقاس من أسلم بتبعية السابي، على ما بيناه في اللقيط. وفي التهذيب أنه لو سبا الصغير ساب، وسبا أحد أبويه آخر، فإن كانا في عسكر واحد، لم يحكم بإسلامه، بل هو تبع لابويه، وإن كانا في عسكرين، كانا تبعا للسابي، وأن حكم المجنون في تبعية الوالدين والدار حكم الصبي، وإذا أفاق وصرح بالكفر، فهل هو مرتد، أم كافر أصلي ؟ فيه الخلاف المذكور في الصبي إذا بلغ وصرح بالكفر، وأنه هل يجب التلفظ بكلمة الاسلام بعد البلوغ والافاقة ؟ إن قلنا: لو صرح بالكفر كان مرتدا، لم يجب، لانه محكوم بإسلامه، وإن قلنا: لا يجعل مرتدا، وجب، حتى لو مات قبل التلفظ، مات كافرا. فرع يصح إسلام الكافر بجميع اللغات، ذكره صاحب الشامل وغيره، ويشترط أن يعرف معنى الكلمة. فلو لقن العجمي الشهادة بالعربية، فتلفظ بها وهو لا يعرف معناها، لم يحكم بإسلامه، وإذا تلفظ العبد بالاسلام بلغته، وسيده لا يعرف لغته، فلا بد ممن يعرفه بلغته ليعتقه عن الكفارة. قلت: إسلامه بالعجمية صحيح، إن لم يحسن العربية قطعا، وكذا إن أحسنها على الصحيح. والوجه بالمنع مشهور في صفة الصلاة من التتمة وغيره، ويكفي السيد في معرفة لغة العبد قول ثقة، لانه خبر، كما يكفي في معرفة قول(6/256)
المفتي والمستفتي. والله أعلم. فرع يصح إسلام الاخرس بالاشارة المفهمة. وقيل: لا يحكم بإسلامه إلا إذا صلى بعد الاشارة، وهو ظاهر نصه في الام والصحيح المعروف الاول، وحمل النص على ما إذا لم تكن الاشارة مفهمة. فرع ذكر الشافعي رضي الله عنه في المختصر في هذا الباب أن الاسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويبرأ من كل دين خالف الاسلام، واقتصر في مواضع على الشهادتين، ولم يشترط البراءة، فقال الجمهور: ليس فيه خلاف، بل إن كان الكافر ممن يعترف بأصل رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كقوم من اليهود يقولون: مرسل إلى العرب فقط، فلا بد من البراءة، وإن كان ينكر أصل الرسالة كالوثني، كفى في إسلامه الشهادتان. قال الشيخ أبو حامد: وقد رأيت هذا التفصيل منصوصا عليه في كتاب قتال المشركين، ونقل الامام خلافا للاصحاب، وفي اشتراط البراءة قال: والاصح عدم الاشتراط. قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، حكاها صاحب الحاوي. والصحيح التفصيل المذكور، والثاني: أن التبرؤ شرط مطلقا، والثالث: أنه يستحب مطلقا. والله أعلم. والمذهب الذي قطع به الجمهور، أن كلمتي الشهادتين لا بد منهما، ولا(6/257)
يحصل الاسلام إلا بهما، وحكى الامام مع ذلك طريقة أخرى منسوبة إلى المحققين، أن من أتى من الشهادتين بكلمة تخالف معتقده، حكم بإسلامه، وإن أتى منهما بما يوافقه، لم يحكم، فإذا وحد الثنوي، أو قال المعطل: لا إله إلا الله، جعل مسلما، وعرض عليه شهادة الرسالة، فإن أنكر، صار مرتدا. واليهودي إذا قال: محمد رسول الله، حكم بإسلامه، وحكى عن هذه الطريقة خلافا في أن اليهودي أو النصراني إذا اعترف بصلاة توافق ملتنا، أو حكم يختص بشريعتنا، هل يكون ذلك إسلاما ؟ وقال: ميل معظم المحققين إلى كونه إسلاما، وعن القاضي حسين في ضبطه، أنه قال: كلما كفر المسلم بجحده، صار الكافر المخالف له مسلما بعقده. ثم إن كذب غير ما صدق به، كان مرتدا، والمذهب المعروف ما قدمناه. فرع استحب الشافعي رضي الله عنه أن يمتحن الكافر عند إسلامه بإقراره بالبعث بعد الموت. الشرط الثاني: السلامة من كل عيب يضر بالعمل إضرارا بينا، فلا يجزئ الزمن، ولا من يجن أكثر الاوقات، فإن كانت إفاقته أكثر، أجزأ، وكذا إن استويا على الاصح. قلت: هذا الذي ذكره فيمن يجن ويفيق، هو المذهب. وفي المستظهري وجه أنه لا يجزئ وإن كانت إفاقته أكثر، وهو غلط مخالف نص الشافعي والاصحاب والدليل.(6/258)
واختار صاحب الحاوي طريقة حسنة فقال: إن كان زمن الجنون أكثر، لم يجزئه، وإن كانت الافاقة أكثر، فإن كان يقدر على العمل في الحال، أجزأ، وإن كان لا يقدر على العمل إلا بعد حين، لم يجزئ. قال: ويجزئ المغمى عليه، لان زواله مرجو. والله أعلم. ولا يجزئ مريض لا يرجى زوال مرضه، كصاحب السل، فإن رجي، أجزأ، فلو أعتق من لا يرجى، فزال مرضه، أو من يرجى فمات ولم يزل، أجزأه على الاصح فيهما، ولو أعتق من وجب عليه قتل، قال القفال: إن أعتقه قبل أن يقدم للقتل، أجزأه، وإلا فلا، كمريض لا يرجى، ولا يجزئ مقطوع إحدى الرجلين، ولا مقطوع أنملة من إبهام اليد، ويجزئ مقطوع أنملة من غيرها، حتى لو قطع أنامله العليا من أصابعه الاربع، أجزأه، ولا يجزئ مقطوع أنملتين من السبابة، أو الوسطى، ويجزئ مقطوع جميع الخنصر من يد، والبنصر من اليد الاخرى، ولا يجزئ مقطوعهما من يد واحدة، ويجزئ مقطوع جميع أصابع الرجلين على الصحيح. وقال ابن أبي هريرة: هو كقطع أصابع اليدين، والاشل كالاقطع. قلت: الذي قاله الرافعي في أصابع الرجلين، هو المعروف في طريقة الخراسانيين، وخالفهم صاحب الحاوي، فجزم بأنه إذا قطع أصبعان من رجل واحدة، أو الابهام وحدها من رجل، لم يجزئ، وإلا فيجزئ. والله أعلم. فرع يجزئ نضو الخلق الذي يقدر على العمل، والاحمق، وهو من يضع الشئ في غير موضعه مع علمه بقبحه، ويجزئ الشيخ الكبير، إلا أن يعجز عن العمل والكسب. وفي التجربة للروياني، أن الاصحاب قالوا: يجزئ الشيخ الكبير، ومنعه القفال إذا عجز عن العمل، وهو الاصح، وفي هذا إثبات خلاف في الشيخ العاجز، ويجزئ الاعرج، إلا أن يكون العرج شديدا يمنع متابعة(6/259)
المشي، ويجزئ الاعور دون الاعمى. قلت: المراد أعور لم يضعف نظر عينه السليمة. قال الشافعي رحمه الله في الام: فإن ضعف بصرها، فأضر بالعمل إضرارا بينا، لم يجزئه، قال صاحب الحاوي: إن كان ضعف البصر يمنع معرفة الخط وإثبات الوجوه القريبة منع، وإلا فلا. والله أعلم. ويجزئ الاصم، وحكي فيه قول، ومنهم من لم يثبته، وحمل ما نقل على ما إذا كان لا يسمع مع المبالغة في رفع الصوت، ويجزئ الاخرس الذي يفهم الاشارة. وعن القديم منعه، فقيل: قولان، والصحيح أنهما على حالين، فالاجزاء فيمن يفهم الاشارة، والمنع فيمن لا يفهمها. وقيل: الاجزاء إذا لم ينضم إلى الخرس صمم، والمنع إذا انضم، وحكى ابن كج عن ابن الوكيل، القطع بالمنع إذا انضم، وقولين إذا تجرد الخرس. ويجزئ الاقرع، ومقطوع الاذنين، والاخشم، ومقطوع الانف، والابرص، والمجذوم، والخصي، والمجبوب، والامة، والرتقاء، والقرناء، ومفقود الاسنان، وولد الزنا، وضعيف البطش، والصغير، ولا يجزئ الجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من حين الاعتاق، وقيل: إن انفصل لذلك، تبينا الاجزاء، ولا يحكم في الحال بالاجزاء، والصحيح الاول.(6/260)
قلت: قال صاحب الحاوي: يجزئ عتق من لا يحسن صنعة، قال الامام: ولا يؤثر ضعيف الرأي والخرق، والكوع والوكع، ويجزئ الفاسق. قال صاحب الحاوي: وأما شجاج الرأس والبدن، فإن كانت مندملة مع سلامة الاعضاء، لم تضر وإن شانته، وإن كانت غير مندملة، أجزأ منها ما كان دون مأمومة الرأس وجائفة البدن، لانها غير مخوفة، ولا يجزئان لانهما مخوفتان. والله أعلم. الشرط الثالث: كمال الرق. وفيه مسائل: إحداها: لا يجزئ إعتاق المستولدة ولا المكاتب، سواء أدى شيئا من النجوم، أم لا، فإن كانت الكتابة فاسدة، أجزأ إعتاقه عن الكفارة على المذهب، ولو قال للمكاتب: إذا عجزت عن النجوم فأنت حر عن كفارتي، فعجز، عتق، ولم يجزئ عن الكفارة، لانه حين علق لم يكن بصفة الاجزاء. كذا ولو قال لعبده الكافر: إذا أسلمت، فأنت حر عن كفارتي، فأسلم، أو قال: إن خرج الجنين سليما، فهو حر عن كفارتي، فخرج سليما. ولو علق العتق عن الكفارة بدخول الدار، ثم كاتب العبد، ثم دخل، فهل يجزئ عن الكفارة اعتبارا بوقت التعليق، أم لا، لانه مستحق العتق عن الكتابة وقت الحصول ؟ فيه وجهان. قلت: قال الامام وغيره: إذا قلنا بالقديم في جواز بيع أم الولد، أجزأ إعتاقها عن الكفارة، وإذا قلنا بالمشهور: إنه لا يجوز بيعها فأعتقها عن الكفارة، لا يجزئه، ويقع العتق تطوعا، ولا يريد عتقها، وكذا المكاتب إذا أعتقه عن الكفارة، عتق ولا يجزئه عنها، سواء جوزنا بيعه أم لا، بخلاف أم الولد على القول الشاذ، لان أمية الولد ينقطع أثرها بالبيع، بخلاف الكتابة، فإنه إذا أدى النجوم إلى المشتري(6/261)
عتق، ثم إذا عتق المكاتب، تبعه أولاده وأكسابه وأم الولد لا تستتبع ذلك، لانهم إنما يتبعونها في العتق بموت السيد، ولم يحصل، وأولاد المكاتب يتبعونه إذا عتق بأداء النجوم أو البراءة منها، وهذا في معنى الابراء. والله أعلم. المسألة الثانية: إذا اشترى من يعتق عليه، ونوى كون العتق عن الكفارة، فعن الاودني أنه يجزئه، والصحيح أنه لا يجزئه، وكذا لو وهب له، فقبله، أو أوصى له به، فقبل وقلنا: تملك الوصية بالقبول، ونوى العتق عن الكفارة، وكذا لو ورثه أو ملك المكاتب من يعتق على سيده، ثم عجزه السيد، ونوى عتق قريبه عن الكفارة لان العتق مستحق بجهة القرابة في كل هذه الصور. الثالثة: لو اشترى عبدا بشرط العتق، فقد سبق في كتاب البيع أن المذهب أنه لا يجزئ إعتاقه عن الكفارة. الرابعة: إذا أعتق عن الكفارة مرهونا، بني على الخلاف في نفوذ عتقه، إن نفذناه، أجزأ عن الكفارة إذا نواها، وكذا إن لم ننفذه في الحال ونفذناه بعد الانفكاك باللفظ السابق، ويكون كما لو علق عتق عبده عن الكفارة بشرط. وإعتاق الجاني عن الكفارة يبنى على نفوذ إعتاقه، وقد ذكرناه في البيع. وقيل: لا يجزئ المرهون والجاني عن الكفارة وإن قلنا بنفوذ العتق، لتعلق حق الغير بهما، ونقصان التصرفات، والمذهب الاول، لان الاعتاق إذا نفذناه رفع حق تعلق الغير، ورجع إلى الفداء، والموصى بمنفعته لا يجزئ على الاصح، وقد ذكرناه في الوصية، والمستأجر إن قلنا: يرجع على السيد بأجرة منافعه، أجزأه، وإلا فلا، لنقصان منافعه.(6/262)
قلت: ولو أعتق عن الكفارة من تحتم قتله في المحاربة، أجزأه، ذكره القاضي حسين في تعليقه. والله أعلم. الخامسة: يجزئ المدبر والمعلق عتقه بصفة، ولو أراد بعد التعليق أن يجعل العتق المعلق عند حصوله عن الكفارة، لم يجزئه. مثاله: قال: إن دخلت الدار، فأنت حر، ثم قال: إن دخلتها فأنت حر عن كفارتي، فيعتق بالدخول ولا يجزئه عن الكفارة، لانه مستحق بالتعليق الاول. السادسة: أعتق عن الكفارة حاملا، أجزأه، وعتق الحمل تبعا، ولو استثنى الحمل، عتقا، وبطل الاستثناء، وأجزأه عتقها عن الكفارة على المشهور، وحكى المتولي قولا أنه لا يجزئه، لان العتق عن الكفارة غير مبني على التغليب، فبطل الاستثناء كما يبطل به البيع، بخلاف مطلق العتق. السابعة: ملك نصف عبد، فأعتقه عن كفارة وهو معسر، ثم ملك باقيه فأعتقه عن تلك الكفارة، أجزاه كما لو أطعم في أوقات، فلو لم ينو الكفارة عند إعتاق باقيه، لم يجزئه عن الكفارة على الصحيح. وقيل: يجزئه كما لو فرق وضوءه، وجوزناه، فإنه لا يجب تجديد النية على الاصح، حكاه الفوراني. ولو ملك نصفا من عبد، ونصفا من آخر، فأعتق النصفين عن الكفارة وهو معسر، فثلاثة أوجه. أحدها: لا يجزئه، قاله ابن سريج وابن خيران، لانه لا يسمى عتق رقبة، وكما لا يجزئ شقصان في الاضحية. والثاني: يجزئه، وأصحهما: يجزئه إن كان باقيهما حرا، وإلا فلا.(6/263)
وتجري الاوجه في ثلث أحدهما، وثلثي الآخر ونظائرهما. ولو كان عليه كفارتان عن ظهارين، أو ظهار وقتل، فأعتق عبدين عن كل واحدة، نصفا من هذا، ونصفا من هذا، أجزأه على المنصوص وهو المذهب. وقيل: فيه خلاف، فعلى المذهب، اختلف في كيفيته، فعن أبي إسحق أنه يعتق نصف كل عبد عن كفارة كما أوقعه، وعن ابن سريج وابن خيران: يقع عبد عن هذه الكفارة، وعبد عن هذه، ويلغو تعرضه للتنصيف. ويجري الخلاف فيما لو أعتق عبدا عن كفارتين، ففيه وجه: يعتد به وعليه إتمام كل واحدة، قال الامام: ولا حاجة إلى هذا التقدير. فرع إذا أعتق موسر نصيبه من عبد مشترك، سرى إلى نصيب صاحبه، وهل تحصل السراية بنفس اللفظ، أم عند أداء القيمة، أم موقوف ؟ فإذا أدى تبينا حصول العتق باللفظ فيه ثلاثة أقوال. ولو أعتق جميع العبد المشترك، فمتى يعتق نصيب الشريك ؟ فيه الاقوال، فإن قلنا: يعتق باللفظ، فهل نقول: عتق الجميع دفعة، أم يعتق نصيبه ثم يسري ؟ وجهان. وكل هذا يأتي إن شاء الله تعالى (في كتاب العتق) مبسوطا. وغرضنا هنا أن إعتاق المشرك عن الكفارة جائز، سواء وجه العتق إلى جملته، أم إلى نصيبه فقط لحصول العتق بالسراية في الحالين. وقال القفال: لا يجزئ عن جميع الكفارة إذا وجه العتق إلى نصيبه فقط، لان نصيب الشريك عتق بالشرع، لا بإعتاقه، والصحيح الاول، ثم ينظر، فإن أعتق نصيبه ونوى عتق الجميع عن الكفارة، أجزاه عنها إن قلنا: يسري عند اللفظ، أو موقوف. وإن قلنا: يسري عند أداء القيمة، فهل تكفيه هذه النية لنصيب الشريك، أم يحتاج إلى تجديد النية عند الاداء ؟ وجهان. أصحهما: تكفي لاقترانها بالعتق، إلا أنه وقع مرتبا.(6/264)
ولو نوى في الحال صرف العتق في نصيبه إلى الكفارة، ونوى عند أداء ا لقيمة، صرف العتق في نصيب الشريك إليها، أجزأه على الصحيح. وقيل: يشترط أن ينوي الجميع في الابتداء، لان سبب عتق الجميع لفظه، كما لو علق العتق بدخول الدار، يشترط في الاجزاء عن الكفارة نيتها عند التعليق، ولا يكفي اقترانها بالدخول، فحصل أن الراجح أنه مخير في نصيب الشريك بين تقديم النية عند اللفظ وتأخيرها إلى الاداء، هذا كله إذا نوى عتق الجميع عن الكفارة ووجه العتق إلى نصيبه. أما إذا وجه العتق إلى (نصيبه بنية الكفارة، ولم ينو الباقي، فلا ينصرف الباقي إليها وإن حكمنا بعتقه في الحال، ويجئ في وقوع نصيبه عن الكفارة الخلاف السابق في إعتاق بعض رقبة، وحكى صاحب الشامل وغيره وجها أن الباقي ينصرف إلى الكفارة (تبعا لنصيبه كما تبعه في صل العتق، ولو أعتق الجميع بنية الكفارة وقلنا: يسري عند اللفظ أو موقوف، أجزأه، وإن قلنا بحصوله عند أداء القيمة، ففي التهذيب القطع بالاجزاء، وأنه لا يحتاج إلى تجديد النية عند الاداء، ويشبه أن يعود فيه الوجهان السابقان فيما إذا وجه العتق إلى نصيبه. المسألة الثامنة: العبد الغائب، إن علم حياته، أجزأه عن الكفارة، وإن انقطع خبره، لم يجزئه على المنصوص، وهو المذهب، فلو أعتقه عنها، ثم تواصلت أخبار حياته، تبينا إجزاءه عن الكفارة لحصول العتق في ملك تام بنية الكفارة. والآبق والمغصوب يجزئان إذا علم حياتهما على الصحيح لكمال الرق. قلت: الصواب ما قطع به الماوردي والفوراني وغيرهما، أن الآبق يجزئ قطعا لاستقلاله بمنافعه كالغائب. وأما المغصوب، فأكثر العراقيين، على أنه لا يجزئ قطعا، لعدم استقلاله كالزمن، وجمهور الخراسانيين على الاجزاء لتمام الملك والمنفعة، وفيه وجه ثالث قاله صاحب الحاوي: إن قدر العبد على الخلاص من غاصبه بهرب إلى سيده، أجزأه عن الكفارة لقدرته على منافع نفسه، وإن لم يقدر على الخلاص، فالاجزاء موقوف، وإن لم يكن عتقه موقوفا كالغائب إذا علمت حياته بعد موته، وهذا الذي قاله قوي جدا، وحيث صححنا عتق الغائب، والآبق، والمغصوب، أجزأه عن(6/265)
الكفارة، سواء علم العبد بالعتق أم لا، لان علمه ليس بشرط في نفوذ العتق، فكذا في الاجزاء، ذكره صاحب الحاوي. والله أعلم. الشرط الرابع: خلو الاعتاق عن شوب العوض، فلو أعتق عن كفارة على أن يرد عليه دينارا مثلا، لم يجزئه عن الكفارة على الصحيح، وحكى ابن القطان وجها أنه يجزئه لان العتق حاصل، ويسقط العوض، كما لو قال: أصل الظهر لنفسك ولك دينار، فصلى، أجزأته صلاته ولو شرط عوضا على غير العبد، فلو قال الانسان: أعتقت عبدي هذا عن كفارتي بألف عليك، فقبل، أو قال له إنسان: أعتقه عن كفارتك، وعلي كذا، ففعل، لم يجزئه عن الكفارة، وسواء قدم في الجواب ذكر الكفارة، فقال: أعتقته عن كفارتي بألف عليك، أو عكس، فقال: أعتقته على أن لي عليك ألفا عن كفارتي. وعن أبي إسحق وجه أنه إذا قدم ذكر الكفارة، أجزأه وسقط العوض، والصحيح الاول، وسواء قال في الجواب: أعتقته عن كفارتي، على أن لي عليك كذا، أو اقتصر على قوله: أعتقته عن كفارتي، فإنه يبنى على الخطاب والالتماس، وفي استحقاقه العوض على الملتمس وجهان سنذكرهما إن شاء الله تعالى، ولا يختصان بما إذا قال: أعتقته عن كفارتك، بل يجزئان فيما إذا التمس منه أن يعتق عبده عن نفسه مطلقا بعوض، فإن قلنا: لا يستحق عوضا وقع العتق، وله الولاء، وإن قلنا: يستحق عوضا، فعمن يقع العتق ؟ وجهان، أحدهما: عن باذل العوض، وبه قال العراقيون، والشيخ أبو محمد. وأصحهما: عن المعتق، وبه قطع صاحبا المهذب والتتمة، لانه لم يعتقه عن الباذل، ولا هو استدعاه لنفسه. ولو قال المعتق: أرد العوض ليكون العتق مجزئا عن كفارتي، لم ينقلب مجزئا، فلو قال في الابتداء عقب الالتماس: أعتقته عن كفارتي لا على الالف، كان ردا لكلامه، وأجزأه عن الكفارة.
فصل العتق على مال كالطلاق على مال، فهو من جانب المالك معاوضة(6/266)
فيها شبه التعليق، ومن جانب المستدعي معاوضة فيها شبه الجعالة، كما سبق في الخلع. فإذا قال: أعتق مستولدتك على ألف، فأعتقها، نفذ العتق، وثبت الالف، وكان ذلك افتداء من المستدعي، كاختلاع الاجنبي. ولو قال: أعتقتها عني على ألف، أو وعلي ألف، فقال: أعتقتها عنك، نفذ العتق، ولغا قوله: عني، وقول المعتق: عنك، لان المستولدة لا تنتقل من شخص إلى شخص، ثم الصحيح أنه لا يستحق عوضا، لانه التزم العوض على أن يحصل العتق عنه، ولم يحصل. وقيل: يستحق ويلغى قوله: عني، ويجعل باقي الكلام افتداء. ولو قال: طلق زوجتك عني على ألف، فطلق، قال الامام: الوجه إثبات العوض. ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك ولك علي كذا، أو وعلي كذا، ففعل، فهل يستحق العوض عليه ؟ وجهان. أصحهما: نعم كالمستولدة ومسألة الطلاق. والثاني وهو اختيار الخضري، لا لامكان تملكه بالشراء، بخلافهما، ولو قال: أعتقه عني، ففعل، نظر، إن قال: مجانا، فلا شئ على المستدعي، وإن ذكر عوضا، لزمه العوض، وإن أطلق، فهل يستحق عليه قيمة العبد ؟ وجهان بناء على الخلاف في قوله: اقض ديني ولم يشترط الرجوع، وخص الامام والسرخسي هذا البناء بما إذا قال: أعتقه عن كفارتي، فإن العتق حق ثابت عليه كالدين، فأما إذا قال: أعتقه عني ولا عتق عليه، أو لم يقصد وقوعه عنه، فقد أطلق السرخسي أنه لا شئ عليه، ورأى الامام تخريجه على أن الهبة هل تقتضي الثواب ؟ ثم سواء نفى(6/267)
العوض أم أثبته، يقع العتق على المستدعي. وقال المزني: إذا قال: أعتقه عني مجانا، ففعل، لا يقع على المستدعي، واحتج الاصحاب بأنه أعتقه عنه، فصار كذكر العوض. وقالوا: العتق بعوض صار كالمبيع المقبوض حتى استقر عوضه، فكذلك يجعل عند عدم العوض، كالموهوب المقبوض، ويجعل القبض مندرجا تحت العتق لقوته، وذكروا بناء على هذا، أن إعتاق الموهوب قبل القبض بإذن الواهب جائز. ولو قال: أعتقه عن كفارتي، أو عني، ونوى الكفارة، فأجابه، أجزأه عن كفارته، ولو قال: أعتق عبدك ولك علي كذا، ولم يقل: عن نفسك، ولا عني، فهل هو كقوله: عني لقرينته العوض، أم كقوله: عنك ؟ وجهان: أصحهما: الثاني، وهو المذكور في التهذيب. ولو قال: أعتق عبدك عني ولك ألف بشرط أن يكون الولاء لك، ففعل، قال المتولي في باب الخلع: المشهور من المذهب، أن هذا الشرط يفسد، ويقع العتق عن المستدعي، وعليه القيمة. وفيه وجه أنه يعتق عن المالك، وله الولاء. وعن القفال أنه لو قال: أعتق عبدك عني على ألف، والعبد مستأجر أو مغصوب، فأعتقه، جاز، ولا يضر كونه مغصوبا. وإن كان المعتق عنه لا يقدر على انتزاعه، ولا يخرج في المستأجر وليس على الخلاف في بيعه، لان البيع يحصل في ضمن الاعتاق، ولا يعتبر في الضمنيات ما يعتبر في المقاصد، وأنه لو قال: أعتق عبدك عن ابني الصغير، ففعل، جاز، وكان اكتساب ولاء له بغير ضرر يلحقه، وليس كما لو كان له رقيق فأراد الاب إعتاقه. وأنه لو وهب عبدا له لانسان، فقبله الموهوب له، ثم قال للواهب: أعتقه عن ابني وهو صغير، فأعتقه عنه، جاز وكأنه أمره بتسليمه إلى ابنه، وناب عنه في الاعتاق للابن. واعلم أن الاعتاق في صور الاستدعاء، إنما يقع على المستدعي، والعوض إنما يجب إذا اتصل الجواب بالخطاب، فإن طال الفصل وقع العتق عن المالك، ولا شئ على المستدعي. فرع قال: إذا جاء الغد، فأعتق عبدك عني بألف، فصبر حتى جاء الغد، فأعتقه عنه، حكى صاحب التقريب عن الاصحاب أنه ينفذ العتق عنه،(6/268)
ويثبت المسمى عليه، وأنه لو قال المالك لغيره: عبدي عنك حر بألف إذا جاء الغد، فقال المخاطب: قبلت، فهو كتعليق الخلع في قوله: طلقتك على ألف إذا جاء الغد، فقالت: قبلت، وقد سبق ذكر وجهين في وقوع الطلاق عند مجئ الغد، أصحهما: الوقوع، ووجهين إذا وقع، أن الواجب مهر المثل أم المسمى ؟ أصحهما: الثاني، فكذا يجئ هنا الخلاف في وقوع العتق عن المخاطب، وإذا وقع، ففي صحة المسمى وفساده، وفرقوا بين الصورتين بأنه لم يوجد في الاولى تعليق العتق، ويحتمل مجئ وجه في الاولى أنه يستحق قيمة المثل لا المسمى، وأشار إليه صاحب التقريب، واستصوبه الامام وغيره. فرع قال: أعتق عبدك عني على خمر، أو مغصوب، ففعل، نفذ العتق عن المستدعي، ولزمه قيمة العبد، كما في الخلع. فرع لا خلاف أن العبد المعتق عن المستدعي يدخل في ملكه إذ لا عتق في غير ملك، ومتى يدخل ؟ فيه أوجه. أحدها يملكه بالاستدعاء، ويعتق عليه إذا تلفظ المالك بالاعتاق، والثاني: يملك بالشروع في لفظ الاعتاق، ويعتق إذا تم اللفظ. والثالث: يحصل الملك والعتق معا عند تمام اللفظ. وأصحها: أن العتق يترتب على الملك في لحظة لطيفة، وأن حصول الملك لا يتقدم على آخر لفظ الاعتاق. ثم قال الشيخ أبو حامد: وأكثر الذين اختاروا هذا الوجه: إن الملك يحصل عقب الفراغ من لفظ الاعتاق على الاتصال، وعن الشيخ أبي محمد أن الملك يحصل مع آخر جزء من أجزاء اللفظ. وجعل الامام اختلاف عبارة الشيخين راجعا إلى اختلاف الاصحاب، في أن حكم الطلاق والعتاق، وسائر الالفاظ، يثبت مع آخر جزء من اللفظ، أم بعد تمام أجزائه على الاتصال ؟ فعبارة الشيخ أبي محمد(6/269)
على الوجه الاول، وأبي حامد، على الثاني، وليس في هذا الوجه الرابع إشكال سوى تأخر العتق عن الاعتاق بقدر توسط الملك. قال الامام: وسبب تأخره، أنه إعتاق عن الغير، ومعنى الاعتاق عن الغير، انتقال الملك إليه، وإيقاع العتق بعده، وقد يتأخر العتق عن الاعتاق بأسباب، ألا ترى أنه لو قال: أعتقت عبدي عنك بكذا، لا يعتق حتى يوجد القبول. فرع قال: أعتق عبدك عني على كذا، ففعل، ثم ظهر بالعبد عيب، لم يبطل العتق، بل يرجع المستدعي بأرش العيب، ثم إن كان عيبا يمنع الاجزاء عن الكفارة، لم تسقط به الكفارة. فرع في فتاوى البغوي أنه لو قال: أعتق عبدك عني على ألف، فقال: أعتقته عنك مجانا، عتق عن المعتق دون المستدعي. الخصلة الثانية: الصيام كفارة الظهار مرتبة، كما قال الله تعالى: * (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * الآية. فإن كان في ملكه عبد فاضل عن حاجته، فواجبه الاعتاق، فإن احتاج إلى خدمته، لزمانته، أو مرضه، أو كبره، أو ضخامته المانعة من خدمته نفسه، فهو كالمعدوم، وكذا لو كان من أهل المروءات ومنصبه يأبى أن يخدم نفسه وأن يباشر الاعمال التي يستخدم فيها المماليك، لم يكلف صرفه إلى الكفارة. وإن كان من أوساط الناس، لزمه الاعتاق على الاصح، ولو لم يكن في ملكه عبد ووجد ثمنه، لزمه تحصيله والاعتاق، بشرط كونه فاضلا عن حاجته، لنفقته وكسوته، ونفقة عياله وكسوتهم، وعن المسكن وما(6/270)
لا بد منه من الاثاث، ولم يقدر الاصحاب للنفقة والكسوة مدة، ويجوز أن تعتبر كفاية العمر، ويجوز أن تعتبر سنة، لان المؤنات تتكرر فيها، ويؤيده أن البغوي قال: يترك له ثوب الشتاء، وثوب الصيف. قلت: هذا الثاني، هو الصواب. والله أعلم. ولو ملك دارا واسعة يفضل بعضها عن حاجته، وأمكن بيع الفاضل، لزمه بيعه وتحصيل رقبة. ولو كانت دارا نفيسة يجد بثمنها مسكنا يكفيه ويفضل ثمن رقبة، أو كان له عبد نفيس يجد بثمنه عبدا يخدمه، وآخر يعتقه، لزمه البيع والاعتاق إن لم يكونا مألوفين، وإلا أجزأه الصوم على الاصح، ولو كان له ثوب نفيس يجد بثمنه ثوبا يليق به، وعبدا يعتقه، لزمه الاعتاق على المذهب، وقيل بطرد الخلاف. قلت: قطع العراقيون أو جمهورهم، بأنه يلزمه الاعتاق في العبد النفيس، ونقله صاحب الشامل عن الاصحاب، وصححه المتولي. والله أعلم. فرع لو كان له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه، وكان يحصل منهما كفايته بلا مزيد، ولو باعهما لتحصيل رقبة لصار في حد المساكين، لم يكلف بيعهما على المذهب، وبه قطع الجمهور. قلت: ولو كان له ماشية تحلب، فهي كالضيعة إن كان لا تزيد غلتها على كفايته، لم يكلف بيعها، وإن زادت، لزمه بيع الزائد، ذكره صاحب الحاوي قال: فلو كان له كسب بصناعة، فإن كان قدر الكفاية، فله الصوم، وإن كان أكثر،(6/271)
نظر، فإن قلت: الزيادة بحيث لا تجتمع فتبلغ قيمة الرقبة إلا في زمان طويل ينسب فيه إلى تأخير التكفير، لم يلزمه جمعها للعتق، فجاز له الصوم. وإن كانت إذا جمعت في زمن قليل، لا ينسب فيه إلى تأخير التكفير، بلغت قيمة الرقبة كثلاثة أيام وما قاربها، ففي وجوب جمعها للتكفير بالعتق، وجهان. أشبههما: لا يلزمه، بل له التكفير بالصوم، فعلى هذا، لو لم يدخل في الصوم حتى اجتمع منها قيمة الرقبة، فهل يلزمه العتق اعتبارا بحال الاداء، أم له الصوم اعتبارا بالوجوب ؟ فيه القولان. والله أعلم. فرع كان ماله غائبا أو حاضرا، لكن لم يجد الرقبة، فلا يجوز له العدول إلى الصوم في كفارة القتل واليمين والجماع في نهار رمضان، بل يصبر حتى يجد الرقبة، أو يصل المال، لان الكفارة على التراخي، وبتقدير أن يموت، لا يفوت، بل تؤدى من تركته، بخلاف العاجز عن ثمن الماء، فإنه يتيمم، لانه لا يمكن قضاء الصلاة لو مات. وفي كفارة الظهار وجهان لتضرره بفوات الاستمتاع، وأشار الغزالي والمتولي إلى ترجيح وجوب الصبر. فرع لو كانت الرقبة لا تحصل إلا بثمن غال، لم يلزمه شراؤها. وقال البغوي: يلزمه إذا وجد الثمن الغالي.(6/272)
قلت: إنما قال البغوي هذا اختيارا لنفسه، فقال حكاية للمذهب: لا يلزمه، ورأيت أن يلزمه، وقطع الجمهور بأنه لا يلزمه، وهو الصواب. والله أعلم. فرع لو بيعت نسيئة وماله غائب، فعلى ما ذكرناه في شراء الماء في التيمم. ولو وهب له عبدا وثمنه، لم يلزمه قبوله، لكن يستحب. فرع ذكر ابن كج بعد أن ذكر حكم المسكن والعبد المحتاج إليهما في الكفارة والحج وجهين في أنه هل يجوز لمن يملكهما نكاح الامة، أم بيعهما لطول الحرة، ووجهين في أنهما يباعان عليه، كما إذا أعتق شركاء له في عبد، وإن ابن القطان قال: لا يلزم العريان بيعهما ؟ قال: وعندي يلزمه، والذي قاله غلط.
فصل الموسر المتمكن من الاعتاق، يعتق، ومن تعسر عليه الاعتاق، كفر بالصوم، وهل الاعتبار في اليسار والاعسار بوقت الاداء، أم بوقت الوجوب، أم بأغلظ الحالين ؟ فيه أقوال. أظهرها الاول، فعلى هذا قال الامام: في العبارة عن الواجب قبل الاداء غموض، ولا يتجه إلا أن يقال: الواجب أصل الكفارة، ولا يعين خصلة، أويقال: يجب ما يقتضيه حالة الوجوب، ثم إذا تبدل الحال، تبدل الواجب، كما يلزم القادر صلاة القادرين، ثم إذا عجز، تبدلت صفة الصلاة، وعلى القول الثالث وجهان، قال الاكثرون: يعتبر أغلظ أحواله من وقت الوجوب، إلى وقت الاداء في حال ما، لزمه الاعتاق. والثاني: يعتبر الاغلظ من حالتي الوجوب والاداء دون ما بينهما، صرح به الامام، وأشار إلى دعوى اتفاق الاصحاب(6/273)
عليه. فإذا قلنا: الاعتبار بحال الوجوب، فكان موسرا وقت الوجوب، ففرضه الاعتاق وإن أعسر بعده. واستحب الشافعي رحمه الله إذا أعسر قبل التكفير، أن يصوم ليكون آتيا ببعض أنواع الكفارة إن مات. وإن كان معسرا يومئذ، ففرضه الصيام، ولا يلزمه الاعتاق وإن أيسر بعده، لكن يجزئه على الصحيح، لانه أعلى من الصوم، وقيل: لا يجزئه لتعين الصوم في ذمته. وإذا قلنا: الاعتبار بحال الاداء، فكان موسرا يومئذ، ففرضه الاعتاق، وإن كان معسرا، فالصوم. ولو تكلف المعسر الاعتاق باستقراض وغيره، أجزأه على الصحيح. ولو وجبت الكفارة على عبد، فعتق، وأيسر قبل التكفير، فإن قلنا: الاعتبار بحال الوجوب، ففرضه الصوم، ويجزئه الاعتاق على الاصح أو الاظهر، لانه أعلى. وقيل: لا، لعدم أهليته بناء على أن العبد لا يملك، وإن قلنا: الاعتبار بحال الاداء، لزمه الاعتاق على الاصح أو الاظهر. فرع لو شرع المعسر في الصوم ثم أيسر، كان له المضي في الصوم، ولا يلزمه الاعتاق. فإن أعتق، كان أفضل، ووقع ما مضى من صومه تطوعا، وحكى الشيخ أبو محمد وجها، أنه يلزمه الاعتاق، وهو مذهب المزني، والصحيح الذي عليه الجماهير، الاول، وكذا لو كان فرضه الاطعام فأطعم بعض المساكين ثم قدر على الصوم، لا يلزمه العدول إليه. ولو أيسر بعد ما فرغ من الصوم، لم يلزمه الرجوع إلى الاعتاق قطعا. ولو كان وقت الوجوب عاجزا عن الاعتاق والصوم، فأيسر قبل التكفير، فإن اعتبرنا حالة الوجوب، ففرضه الاطعام، وإلا فالاعتاق.(6/274)
فصل العبد لا يملك بغير تمليك سيده قطعا، ولا بتمليكه على الجديد الاظهر، فعلى هذا لا يتصور منه التكفير بالاعتاق والاطعام. وإن قلنا: يملك، فملكه طعاما ليكفر كفارة اليمين، جاز، وعليه التكفير بما ملكه، وإن ملكه عبدا ليعتقه عنها، لم يصح، لانه يستعقب الولاء، وليس العبد من أهل إثبات الولاء. وعن صاحب التقريب أنه يصح إعتاقه، ويثبت له الولاء. وعن القفال تخريج قول: أنه يصح إعتاقه عن الكفارة، والولاء موقوف، إن عتق، فهو له، وإن دام رقه، فلسيده، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور. وأما تكفيره بالصوم، فإن جرى ما يتعلق به الكفارة بغير إذن سيده، بأن حلف وحنث بغير إذنه، لم يصم إلا بإذنه، لان حق السيد على الفور، والكفارة على التراخي، بخلاف صوم رمضان، فإن شرع فيه بغير إذنه، كان له تحليله، وإن جرى بإذنه بأن حلف بإذنه وحنث بإذنه، صام ولا حاجة إلى إذنه. وإن حلف بإذنه وحنث بغير إذنه، لم يستقل بالصوم على الاصح. وفي عكسه يستقل على المذهب، وحيث قلنا: يستقل، فسواء طويل النهار وقصيره، والحر الشديد وغيره، وحيث قلنا: يحتاج إلى الاذن، فذلك في صوم يوجب ضعفا لشدة حر وطول نهار. فإن لم يكن كذلك، ففيه خلاف نذكره في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى، والاصح، أنه ليس للسيد المنع، هذا حكم كفارة اليمين. قال في الوسيط: ومنعه من صوم كفارة الظهار غير ممكن، لانه يضر بالعبد بدوام التحريم. قلت: وحيث قلنا: لا يصوم بغير إذنه فخالف وصام، أثم وأجزأه. ولو أراد العبد صوم تطوع في وقت يضر بالسيد، فله منعه، وفي غيره، ليس(6/275)
له المنع، حكاه المحاملي عن أبي إسحق المروزي، بخلاف الزوجة، فإن للزوج منعها من صوم التطوع، لانه يمنعه الوطئ، وحكى في البيان، أنه ليس للسيد منعه من صلاة النفل في غير وقت الخدمة، إذ لا ضرر. والله أعلم. فرع من بعضه حر، كالحر في التكفير بالمال على المذهب، وفيه كلام آخر، وتفصيل نذكره في كفارة اليمين إن شاء الله تعالى.
فصل في بيان حكم صوم الكفارة المرتبة فيه مسائل: إحداها: يجب أن ينوي صوم الكفارة في الليل لكل يوم، ولا يجب تعيين جهة الكفارة، ولا يجب نية التتابع على الاصح، وقيل: تجب في أول ليلة فقط، ولو نوى الصوم بالليل قبل طلب الرقبة، ثم طلب فلم يجدها، لم يجزئه صومه إلا أن يجدد النية في الليل بعد الفقد، لان تلك النية تقدمت على وقت جواز الصوم، ذكره الروياني في التجربة. المسألة الثانية: لو مات وعليه صوم كفارة، فهل يصوم عنه وليه ؟ فيه قولان، سبقا في كتاب الصيام. الثالثة: إن ابتدأ بالصوم لاول شهر هلالي، صام شهرين بالاهلة، ولا يضر نقصهما، وإن ابتدأ في خلال شهر، صام بقيته، ثم صام الذي يليه بالهلال، ولا يضر نقصه، ثم يتم الاول من الثالث ثلاثين يوما، وفي وجه شاذ، إذا ابتدأ في خلال شهر، لزمه ستون يوما. الرابعة: التتابع في الصوم واجب بنص القرآن، فلو وطئ المظاهر بالليل قبل تمام الشهرين، عصى بتقديم التكفير، ولكن لا يقطع التتابع.(6/276)
ولو أفسد صوم اليوم الآخر أو غيره، لزمه استئناف الشهرين. وهل يحكم بفساد ما مضى، أم ينقلب نفلا ؟ فيه قولان فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال ونظائره. والحيض لا يقطع التتابع في صوم كفارة القتل والوقاع في رمضان إن لزمتها كفارة، فتبني إذا طهرت، والنفاس لا يقطع التتابع على الصحيح، كالحيض. وقيل: يقطعه لندرته، حكاه أبو الفرج السرخسي. والفطر بعذر المرض، يقطع التتابع على الاظهر، وهو الجديد، لانه لا ينافي الصوم، وإنما قطعه بفعله، بخلاف الحيض والجنون، كالحيض على المذهب. وقيل: كالمرض، والاغماء كالجنون. وقيل: كالمرض. وأما الفطر بالسفر، وفطر الحامل والمرضع خوفا على الولد، فقيل: كالمرض. وقيل: يقطع قطعا، لانه باختياره. قلت: أطلق الجمهور أن الحيض لا يقطع التتابع، وذكر المتولي، أنها لو كانت لها عادة في الطهر تمتد شهرين، فشرعت في الصوم في وقت يتخلله الحيض، انقطع، ولو أفطرت الحامل والمرضع خوفا في نفسيهما، فقال المحاملي في المجموع، وصاحبا الحاوي والشامل والاكثرون: هو كالمرض. وفي تجريد المحاملي: أنه لا ينقطع قطعا، ولو غلبه الجوع فأفطر، بطل التتابع. وقيل: كالمرض، ذكره البغوي. والله أعلم. فرع نسيان النية في بعض الليالي، يقطع التتابع كتركها عمدا، ولا يجعل النسيان عذرا في ترك المأمور به. قلت: لو صام أياما من الشهرين، ثم شك بعد فراغه من صوم يوم، هل نوى فيه، أم لا ؟ لم يلزمه الاستئناف على الصحيح، ولا أثر للشك بعد الفراغ من اليوم، ذكره الروياني في كتاب الحيض في مسائل المتحيرة. والله أعلم. ولو أكره على الاكل فأكل، وقلنا: يبطل صومه، انقطع تتابعه، لانه سبب(6/277)
نادر، هذا هو المذهب في الصورتين، وبه قطع الجمهور، وجعلهما ابن كج كالمرض، قال: ولو استنشق، فوصل الماء إلى دماغه، وقلنا: يفطر، ففي انقطاع التتابع الخلاف. قلت: لو أوجر الطعام مكرها، لم يفطر، ولم ينقطع تتابعه، هكذا قطع به الاصحاب في كل الطرق، وشذ المحاملي فحكى في التجريد وجها أنه يفطر وينقطع تتابعه، وهذا غلط. والله أعلم. فرع لو ابتدأ بالصوم في وقت يدخل عليه رمضان قبل تمام الشهرين، أو يدخل يوم النحر، لم يجزئه عن الكفارة. قال الامام: ويعود القولان في أنه يبطل أم يقع نفلا. فرع لو صام رمضان بنية الكفارة، لم يجزئه عن واحد منهما، ولو نواهما، لم يجزئه عن واحد منهما أيضا. وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي عبيد بن حربويه، أنه يجزئه عنهما جميعا، وغلطه فيه. وفي كتاب ابن كج، أن الاسير إذا صام عن الكفارة بالاجتهاد، فغلط فجاء رمضان أو يوم النحر قبل تمام الشهرين، ففي انقطاع التتابع الخلاف في انقطاعه بإفطار المريض. فرع إذا أوجبنا التتابع في كفارة اليمين، فحاضت في خلال الايام الثلاثة، فقيل: فيه قولان، كالفطر بالمرض في الشهرين، ويشبه أن يكون فيه طريق جازم، بانقطاع التتابع. قلت: صرح بالطريقة الجازمة، الدارمي وصاحب التتمة فقالا: المذهب انقطاعه، ذكره الدارمي في كتاب الصيام، وفيه طريق ثالث، أنه لا ينقطع قطعا، لان وجوب التتابع في كفارة اليمين هو القول القديم، والمرض لا يقطع على(6/278)
القديم، ذكر ذلك صاحبا الابانة والعدة وغيرهما. قال صاحب التتمة: هذا غلط، لانه يمكنها الاحتراز بالثلاثة عن الحيض دون المرض. والله أعلم. المسألة الخامسة: لو شرع في صوم الشهرين، ثم أراد أن يقطع ويستأنف بعد ذلك، فقد ذكروا في جوازه احتمالين. أحدهما: يجوز كما يجوز تأخير الابتداء، لانه ليس فيه إبطال عبادة، فكل يوم عبادة مستقلة. والثاني: لا يجوز، لانه يبطل صفة الفرضية، ويجري الاحتمالان في الحائض وغيرها، فيمن شرع في الشهرين، ثم عرض فطر لا يقطع التتابع، ثم زال فأراد الفطر بلا عذر، ثم يستأنف، ثم الاحتمال الاول أرجح عند الغزالي. وقال الروياني: الذي يقتضيه قياس المذهب، أنه لا يجوز، لان الشهرين عبادة واحدة، كصوم يوم، فيكون قطعه كقطع فريضة شرع فيها، وذلك لا يجوز، وهذا حسن. قال الامام: والمسألة فيما إذا لم ينو صوم الغد، وقال: الافطار في اليوم الذي شرع فيه لبعد التسليط عليه وبالله التوفيق. الخصلة الثالثة: الاطعام، فيها مسائل. إحداها: في قدر الطعام، وهو في كفارة الظهار والجماع في رمضان، والقتل إن أوجبناه، فيها ستون مدا لستين مسكينا، والمد: رطل وثلث بالبغدادي، وهو مد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أن في قدر الفطرة والكفارة ونحوهما ونوع إشكال، لان الصيدلاني وغيره ذكروا أن المعتبر فيه الكيل دون الوزن، لاختلاف جنس المكيل في الخفة والثقل، فالبر أثقل من الشعير، وأنواع البر تختلف، فالواجب ما حواه المكيال بالغا وزنه ما بلغ. وقال بعضهم: التقدير المذكور في وزن المد، اعتبر فيه البر أو التمر، ومقتضى هذا، أن يجزئ من الشعير مل ء الصاع والمد، وإن نقص وزنه، لكن اشتهر عن أبي عبيد القاسم بن سلام، ثم عن ابن سريج، أن درهم الشريعة خمسون حبة وخمسا حبة، ويسمى ذلك: درهم الكيل، لان الرطل الشرعي منه يركب، ويركب من الرطل المد والصاع. وذكر الفقيه أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر بن عطية، أن الحبة التي يتركب منها الدرهم، هي حبة الشعير المتوسطة التي لم تقشر وقطع من طرفيها ما امتد. ومقتضى هذا، أن يحوي الصاع هذا القدر من الشعير، وحينئذ إن اعتبرنا الوزن لم يملا البر بهذا الوزن الصاع، وإن اعتبرنا الكيل، كان المجزئ من البر أكثر من الشعير وزنا.(6/279)
قلت: هذا الاشكال وجوابه، قد أوضحته في باب زكاة المعشرات. والله أعلم. المسألة الثانية: يجب الصرف إلى ستين مسكينا، فلو صرف إلى واحد ستين مدا في ستين يوما، لم يجزئه، ولو جمع ستين، ووضع بين أيديهم ستين مدا، وقال: ملكتكم هذا وأطلق، أو قال: بالسوية فقبلوه، أجزأه على الصحيح. وقال الاصطخري: لا يجزئه، ولو قال: خذوا ونوى الكفارة، فأخذوا بالسوية، أجزأه، وإن تفاوتوا، لم يجزئه إلا واحد، لانا نتيقن أن أحدهم أخذ مدا، فإن تيقنا أن عشرة أو عشرين أو غيرهم أخذ كل واحد منهم مدا فأكثر، أجزأه ذلك العدد، ولزمه الباقي، ولو صرف الستين إلى ثلاثين مسكينا، أجزأه ثلاثون مدا، ويصرف إلى ثلاثين غيرهم ثلاثين مدا، ويسترد الامداد الزائدة من الاولين إن شرط كونها كفارة، وإلا فلا يسترد. ولو صرف ستين مدا إلى مائة وعشرين مسكينا، أجزأه من ذلك ثلاثون مدا، ويصرف ثلاثين مدا إلى ستين منهم، والاسترداد من الباقين على التفصيل المذكور. ويجوز صرف الكفارة إلى الفقراء، ولا يجوز صرفها إلى كافر، ولا إلى هاشمي ومطلبي، ولا إلى من يلزمه نفقته كزوجة وقريب، ولا إلى عبد، ولا إلى مكاتب. ولو صرف إلى عبد بإذن سيده، والسيد بصفة الاستحقاق، جاز، لانه صرف إلى السيد. ولو صرف إليه بغير إذنه، بني على قبوله الوصية بغير إذنه، ويجوز أن يصرف للمجنون والصغير إلى وليهما. وقيل: إن كان الصغير رضيعا، لم يصح الصرف له، لان طعامه اللبن، والصحيح الاول. وحكى ابن كج فيما لو دفعه إلى الصغير فبلغه الصغير وليه. فرع يجوز أن يصرف إلى مسكين واحد مدين عن كفارتين، ولو دفع مدا إلى مسكين، ثم اشتراه منه ودفعه إلى آخر، ولم يزل يفعل به هكذا حتى استوعب(6/280)
ستين مسكينا، أجزأه، لكنه مكروه. فرع لو وطئ المظاهر منها في خلال الاطعام، لم يجب الاستئناف، كما لو وطئ في خلال الصوم بالليل. فرع أطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصوم، لا يلزمه العود إليه. فرع ذكر الروياني في التجربة، أنه لو دفع الطعام إلى الامام، فتلف في يده قبل تفرقته على المساكين، لا يجزئه على ظاهر المذهب، بخلاف الزكاة، لان الامام لا يد له على الكفارة. المسألة الثالثة: جنس طعام الكفارة، كالفطرة، وقيل: لا يجزئ الارز، وقيل: لا يجزئ إذا نحيت عنه القشرة العليا، لان ادخاره فيها، والصحيح الاجزاء، ثم إن كان في القشرة العليا، أخرج قدرا يعلم اشتماله على مد من الحب، ولم يجر هذا الخلاف في الفطرة. وجرى ذكر قول في العدس والحمص، ويشبه أن يجئ في كل باب ما نقل في الآخر، وفي الاقط الخلاف المذكور هناك. فإن قلنا بالاجزاء، فيخص أهل البادية، أم يعم الحاضر والبادي ؟ حكى ابن كج فيه وجهين. وفي اللحم واللبن خلاف مرتب على الاقط، وأولى بالمنع، ثم الاعتبار بغالب قوت البلد من الاقوات المجزئة، أم بغالب قوته، أم يتخير ؟ فيه أوجه، الصحيح: الاول: فإن كان الغالب مما لا يجزئ كاللحم، اعتبر الغالب من قوت أقرب البلاد، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق، ولا الخبز على الصحيح في الثلاثة، ولا تجزئ القيمة قطعا.(6/281)
المسألة الرابعة: يشترط تمليك المستحقين وتسليطهم التام، فلا تكفي التغذية والتعشية بالتمر ونحوه. المسألة الخامسة: في بيان ما يجوز العدول إلى الاطعام، فمن عجز عن الصوم بهرم أو مرض، أو لحقه من الصوم مشقة شديدة، أو خاف زيادة في المرض، فله العدول إلى الاطعام، ثم قال الامام والغزالي: لو كان المرض يدوم شهرين في غالب الظن المستفاد من العادة في مثله، أو من قول الاطباء، فله العدول إلى الاطعام، ولا ينتظر زواله ليصوم، بخلاف ما لو كان ماله غائبا، فإنه ينتظره للعتق، لانه لا يقال فيه: لم يجد رقبة، ويقال للعاجز بالمرض الناجز لا يستطيع الصوم، ومقتضى كلام الاكثرين أنه لا يجوز العدول إلى الاطعام بهذا المرض، بل يعتبر أن يكون بحيث لا يرجى زواله، وصرح المتولي (بأن المرض) المرجو الزوال، كالمال الغالب، فلا يعدل بسببه إلى الاطعام في غير كفارة الظهار، وفيها الخلاف السابق، فإن جوزنا الاطعام مع رجاء الزوال، فأطعم ثم زال، لم يلزمه العود إلى الصيام. وإن اعتبرنا كونه غير مرجو الزوال، فكان كذلك، ثم أتفق زواله نادرا، فيشبه أن يلتحق بما إذا أعتق عبدا لا يرجى زوال مرضه فزال. قلت: صرح كثيرون باشتراط كون المرض لا يرجى زواله، والاصح ما قاله الامام، وقد وافقه عليه آخرون. وقال صاحب الحاوي: إن كان عجزه بهرم ونحوه، فهو متأبد، فله الاطعام، والاولى تقديمه، وإن كان يرجى زواله كالعجز بالمرض، فهو بالخيار بين تعجيل الاطعام وبين انتظار البر للتكفير بالصيام، وسواء كان عجزه بحيث لا يقدر على الصيام أو يلحقه مشقة غالبة مع قدرته عليه، فله في الحالين الاطعام، وكذا الفطر في رمضان، قال: ولو قدر على صوم شهر فقط، أو على صوم شهرين بلا تتابع، فله العدول إلى الاطعام. قال إمام الحرمين في باب زكاة الفطر: لو(6/282)
عجز عن العتق والصوم ولم يملك من الطعام إلا ثلاثين مدا، أو مدا واحدا، لزمه إخراجه بلا خلاف، إذ لا بد له، وإن وجد بعض مد، ففيه احتمال، هذا كلامه، وينبغي أن يجزم بوجوب بعض المد للعلة المذكورة في المد. قال الدارمي في كتاب الصيام: إذا قدر على بعض الاطعام، وقلنا: يسقط عن العاجز، ففي سقوطها عن هذا وجهان، فإن قلنا: لا تسقط، أخرج الموجود، وفي ثبوت الباقي في ذمته وجهان. والله أعلم. فرع السفر الذي يجوز الفطر في رمضان، لا يجوز العدول إلى الاطعام على الصحيح، وعن القاضي حسين وغيره جوازه. فرع في جواز العدول إلى الاطعام بعذر الشبق وغلبة الشهوة وجهان. أصحهما عند الامام والغزالي: المنع، ومال الاكثرون إلى التجويز، وبه قال أبو إسحق، ولم يذكر القاضي حسين غيره، بخلاف صوم رمضان، فإنه لا يجوز تركه بهذا، لانه لا بدل له. قلت: ولان في صوم رمضان يمكن الجماع ليلا، بخلاف كفارة الظهار، ولو كان يغلبه الجوع ويعجز عن الصوم، قال القفال والقاضي حسين والبغوي: لا يجوز له ترك الشروع في الصوم، بل يشرع، فإذا عجز، أفطر، بخلاف الشبق، فإن له ترك الشروع على الاصح، لان الخروج من الصوم يباح بفرط الجوع دون فرط الشبق. والله أعلم.
فصل لو عجز عن جميع خصال الكفارة، استقرت في ذمته على الاظهر، وفي قول: لا شئ عليه أصلا، وقد سبق في كتاب الصيام، وقد بني الخلاف على أن الاعتبار بحال الوجوب، أم الاداء ؟ إن اعتبرنا حال الوجوب، لم يستقر عليه شئ، وكان للمظاهر أن يطأ، ويستحب أن يأتي بما يقدر عليه من الخصال،(6/283)
وإن اعتبرنا الاداء، لزمه أن يأتي بالمقدور عليه، ولا يطأ المظاهر حتى يكفر، ومن وجد بعض رقبة فقط، فكعادمها، فيصوم، فإن عجز - والحالة هذه - عن الصيام والاطعام، فعن ابن القطان تخريج أوجه. أحدها: يخرج المقدور عليه، ولا شئ عليه غيره. والثاني: يخرجه وباقي الكفارة في ذمته. والثالث: لا يخرجه أيضا.
فصل لا يجوز تبعيض كفارة، بأن يعتق نصف رقبة، ويصوم شهرا، أو يصوم شهرا، ويطعم ثلاثين، وبالله التوفيق.(6/284)
كتاب اللعان والقذف
فيه أبواب.(6/285)
الأول : في ألفاظ القذف وأحكامه العامة، وفيه طرفان.
الأول : في ألفاظه وهي، صريح، وكناية، وتعريض. الاول: الصريح، وفيه مسائل. إحداها: لفظ الزنا صريح كقوله: زنيت، أو يا زان، أو يقول للمرأة: زنيت، أو يا زانية. والنيك وإيلاج الحشفة أو الذكر صريحان مع الوصف بالحرام، لان مطلقهما يقع على الحلال والحرام. والخلاف المذكور في باب الايلاء في الجماع وسائر الالفاظ، هل هي صريحة يعود هنا ؟ فما كان صريحا وانضم إليه الوصف بالتحريم، كان قذفا. ولو قال: علوت على رجل حتى دخل ذكره في فرجك، فهو قذف. الثانية: إذا رمى بالاصابة في الدبر، كقوله: لطت أو لاط بك فلان، فهو قذف، سواء خوطب به رجل أو إمرأة. ولو قال: يا لوطي، فهو كناية. قلت: قد غلب استعماله في العرف، لارادة الوطئ في الدبر، بل لا يفهم منه إلا هذا، فينبغي أن يقطع بأنه صريح، وإلا فيخرج على الخلاف، فيما إذا شاع لفظ في العرف، كقوله: الحلال علي حرام وشبهه، هل هو صريح، أم كناية ؟(6/286)
وأما احتمال كونه أراد على دين قوم لوط - صلى الله عليه وسلم -، فلا يفهمه العوام أصلا، ولا يسبق إلى فهم غيرهم، فالصواب الجزم بأنه صريح، وبه جزم صاحب التنبيه، ولو كان المعروف في المذهب أنه كناية. والله أعلم. الثالثة: قال: أتيت بهيمة، وقلنا: يوجب الحد، فهو قذف. أما الكناية، فكقوله للقرشي: يا نبطي، وللرجل: يا فاجر، يا فاسق، يا خبيث، وللمرأة: يا خبيثة، يا شبقة، وأنت تحبين الخلوة، وفلانة لا ترد يد لامس وشبهها، فإن أراد النسبة إلى الزنا، فقذف، وإلا فلا، وإذا أنكر الارادة، صدق بيمينه، وإذا عرضت عليه اليمين، فليس له الحلف كاذبا دفعا للحد، أو تحرزا عن تمام الايذاء. ولو خلى ولم يحلف، فالمحكي عن الاصحاب، أنه يلزمه الاظهار ليستوفى منه الحد، وتبرأ ذمته، كمن قتل رجلا في خفية، يجب عليه إظهاره ليقتص منه، أو يعفى عنه. وعلى هذا يجب عليه الحد فيما بينه وبين الله تعالى، وفيه احتمال للامام، ومال إليه الغزالي أنه لا يجب الاظهار، لانه إيذاء، فيبعد إيجابه، وعلى هذا لا يحكم بوجوب الحد ما لم يوجد الايذاء التام، والاول أصح. ولو قال لزوجته: لم أجدك عذراء، أو وجدت معك رجلا، فليس بصريح على المشهور. وحكي عن القديم أنه صريح، ولو قاله لاجنبية، فليس بصريح قطعا، لانه قد يريد زوجها. ولو قال: زنيت مع فلان، فصريح في حقها دونه. وأما التعريض، فكقوله: يا ابن الحلال، وأما أنا فلست بزان، وأمي ليست بزانية، وما أحسن إسمك في الجيران وشبهها، فهذا كله ليس بقذف وإن نواه، لان النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي، ولا دلالة له هنا في اللفظ، ولا احتمال،(6/287)
وما يفهم منه مستنده قرائن الاحوال، هذا هو الاصح. وقيل: هو كناية لحصول الفهم والايذاء، وبه قال الشيخ أبو حامد، وجماعة، وسواء عندنا حالة الغضب وغيرها. فرع النسبة إلى سائر الكبائر، غير الزنى والايذاء، وبسائر الوجوه لا يتعلق به حد، ويجب فيه التعزير. وكذا لو قرطبه أو ديثه، أو قال لها: زنيت بفلانة، أو زنت بك، أو أصابتك فلانة، ونسبها إلى إتيان المرأة المرأة. فصل قال لزوجته، أو أجنبية: زنيت بك، فهو مقر على نفسه بالزنا، وقاذف لها، فعليه حد الزنا والقذف، ويقدم حد القذف، فإن رجع، سقط حد الزنا دون القذف. ولو قالت إمرأة لزوجها، أو أجنبي: زنيت بك، فكذلك عليها حد الزنا، وحد قذفه، هذا هو المعروف في المذهب. ورأى الامام أن لا يجعل هذا صريحا، لاحتمال كون المخاطب مكرها، وهذا أقوى ويؤيده أنه لو قال لها: زنيت مع فلان، كان قذفا لها دون فلان. فرع قال لزوجته: زنيت، فقالت: زنيت بك، أو بك زنيت، فهو قاذف لها وهي ليست مصرحة بقذف، فإن أرادت حقيقة الزنا، وأنهما زنيا قبل النكاح، فهي مقرة بالزنا وقاذفة له، ويسقط حق القذف عنه لاقرارها، ولكن يعزر، كذا حكاه الصيدلاني عن القفال، وإن أرادت أنها هي التي زنت وهو لم يزن، كأنها قالت: زنيت به قبل النكاح وهو مجنون أو نائم، أو وطئني بشبهة وأنا عالمة، سقط عنه حد القذف، وثبت عليها حد الزنا لاقرارها، ولا تكون قاذفة له، فإن كذبها وقال: بل(6/288)
أردت قذفي، صدقت بيمينها، فإن نكلت فحلفت، فله حد القذف، فإن قالت: أردت أني لم أزن لانه لم يجامعني غيره، ولا جامعني هو إلا في النكاح، فإن كان ذلك زنا، فهو زان أيضا، أو قالت: أردت أني لم أزن، كما لم يزن هو، فليست قاذفة فتصدق بيمينها، فإذا حلفت، فلا حد عليها، وعليه حد القذف، وإن نكلت، حلف واستحق حد القذف، ولو قالت لزوجها: يا زاني، فقال: زنيت بك، ففي جوابه مثل هذا التفصيل، ولو قال لاجنبية: يا زانية، أو أنت زانية، فقالت: زنيت بك، فقد أطلق البغوي أن ذلك إقرار منها بالزنا، وقذف له. ومقتضى ما ذكرناه من إرادة نفي الزنا عنه وعنها، أن تكون الاجنبية كالزوجة. فرع قال: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني، لم تكن قاذفة له، إلا أن تريد القذف، فلو قالت: زنيت وأنت أزنى مني، أو قالت ابتداء: أنا زانية، وأنت أزنى مني، فهي قاذفة له ومقرة بالزنا، ويسقط حد القذف عن الرجل. ولو قالت ابتداء: أنت أزنى مني، ففي كونها قاذفة وجهان حكاهما ابن كج. فرع قال له: أنت أزنى مني، أو أزنى من الناس، أو يا أزنى الناس، فليس بقذف إلا أن يريده.(6/289)
قلت: هكذا نص عليه الشافعي والاصحاب، وخالفهم صاحب الحاوي فقال بعد حكايته نص الشافعي والاصحاب: الصحيح عندي أنه قذف صريح، ثم استدل له. وأما الجمهور فقالوا: هذا ظاهره نسبة الناس كلهم إلى الزنا،، وأنه أكثر زنا منهم، وهذا متيقن بطلانه، قالوا: ولو فسر وقال: أردت أن الناس كلهم زناة، وهو أزنى منهم، فليس بقذف لتحقق كذبه. ولو قال: أردت أنه أزنى من زناتهم، فهو قذف له. والله أعلم. ولو قال: أنت أزنى من فلان، فالصحيح أنه ليس بقذف إلا أن يريده. وعن الداركي أنه قذف لهما جميعا. ولو قال: زنا فلان وأنت أزنى منه، فهو صريح في قذفهما. وعن ابن سلمة وابن القطان، أنه ليس بقذف للمخاطب، والصحيح الاول. وكذا لو قال: في الناس زناة وأنت أزنى منهم، أو أنت أزنى زناة الناس. ولو قال: الناس كلهم زناة وأنت أزنى منهم، قال الائمة: لا يكون قاذفا له لعلمنا بكذبه. قالوا: وكذا لو قال: أنت أزنى من أهل بغداد إلا أن يريد، أنت أزنى من زناة أهل بغداد. ولو قال: أنت أزنى من فلان، ولم يصرح في لفظه بزنا فلان، لكنه كان ثبت زناه بالبينة أو الاقرار، فإن كان القائل جاهلا به، فليس بقاذف، ويصدق بيمينه في كونه جاهلا، ويجئ فيه وجه الداركي. وإن كان عالما به، فهو قاذف لهما جميعا، فيحد للمخاطب، ويعزر لفلان، ويجئ في قذف المخاطب وجه ابن سلمة وابن القطان. فرع قال لزوجته: يا زانية، فقالت: بل أنت زان، فكل واحد قاذف لصاحبه، ويسقط حد القذف عنه باللعان، ولا يسقط عنها إلا بإقراره أو ببينة.(6/290)
وإذا تقاذف شخصان، حد كل واحد منهما لصاحبه، ولا يتقاصان، لان التقاص إنما يكون إذا اتحدت الصفات، وألم الضربات يختلف. فرع قال لرجل: زنيت بكسر التاء، أو للمرأة: زنيت بفتحها، فهو قذف. ولو قال له: يا زانية، أو لها: يا زان، أو يا زاني، فهو قذف على المشهور، وحكي قول قديم. فرع قال: زنأت في الجبل بالهمز، فليس بقذف إلا أن يريده، لان معناه الصعود، ويصدق بيمينه في أنه لم يرد القذف، فإن نكل، حلف المدعي، واستحق حد القذف. ولو قال: زنأت في البيت، فالصحيح أنه قذف، لانه لا يستعمل بمعنى الصعود في البيت ونحوه. قلت: هذه عبارة البغوي. وقال غيره: إن لم يكن للبيت درج يصعد إليه فيها، فقذف قطعا، وإن كان، فوجهان. والله أعلم. ولو قال: زنأت، أو يا زانئ بالهمز، واقتصر عليه، ففيه أوجه. أصحها: ليس بقذف إلا أن يريده، وبه قال القفال والقاضي أبو الطيب. والثاني: أنه قذف. وعن الداركي أن أبا أحمد الجرجاني نسبة إلى نصه في الجامع الكبير. والثالث: إن أحسن العربية، فليس بقذف بلا نية، وإلا فقذف. ولو قال: زنيت في الجبل وصرح بالياء، فالاصح أنه قذف. وقيل: لا، وقيل: قذف من عارف اللغة دون غيره. قلت: ولو قال لها: يا زانية في الجبل بالياء، فقد نص الشافعي رحمه الله في كتاب اللعان من الام، أنه كناية، وبهذا جزم ابن القاص في التلخيص ونقل الفوراني أن الشافعي رضي الله عنه نص أنه قذف، وتابعه عليه الغزالي في الوسيط وصاحب العدة، ولم أر هذا النقل لغير الفوراني ومتابعيه، ولم ينقله إمام الحرمين، فليعتمد ما رأيته في الام، فإن ثبت هذا، كان قولا آخر، ونقل صاحب الحاوي، أن قوله: زنأت في الجبل، صريح من جاهل العربية، والصحيح أنه كناية منه ومن غيره كما سبق. والله أعلم.(6/291)
فصل من صرائح القذف أن يقول: زنا فرجك، أو ذكرك، أو قبلك، أو دبرك. ولو قال لها: زنيت في قبلك، فقذف. وإن قاله لرجل، فكناية، لان زناه بقبله لا فيه، ذكره البغوي. ولو قال: زنى يدك، أو رجلك، أو عينك، أو يداك، أو عيناك، فكناية على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ثانيهما: أنه صريح. وقيل: إن قال: يداك أو عيناك، فكناية قطعا لمطابقة لفظ الحديث، وإلا فوجهان. ولو قال: زنا بدنك، فصريح على الاصح، كقوله: زنيت. قلت: قال في البيان: لو قال للخنثى: زنا ذكرك وفرجك، فصريح، وإن ذكر أحدهما، فالذي يقتضي المذهب أنه كإضافته إلى اليد. ولو قال لامرأة: وطئك رجلان في حالة واحدة، قال صاحب الحاوي: يعزر، ولا حد لاستحالته وخروجه من القذف إلى الكذب الصريح، فيعزر للاذى ولا يلاعن. والله أعلم. فصل قال لابنه اللاحق به ظاهرا: لست ابني، أو لست مني، فالنص أنه ليس قاذفا لامه، إلا أن يريد القذف. ولو قال لاجنبي: لست ابن فلان، فالنص أنه قاذف لامه، وفيه طرق، المذهب تقرير النصين، لان الاب يحتاج إلى تأديبه، وهذا ضرب منه، بخلاف الاجنبي. والثاني: فيهما قولان. أحدهما: صريح فيهما. والثاني وأقيسهما: كناية. والثالث قاله أبو إسحق: ليس بصريح فيهما قطعا، وتأويل النص على ما إذا نواه. والرابع قاله ابن الوكيل: صريح فيهما قطعا، وتأول ما ذكره في حق الولد، فعلى المذهب، إذ قال: لست ابني، نستفسره، فإن قال: أردت أنه من زنا، فقاذف، وإن قال: لا يشبهني خلقا وخلقا، صدق بيمينه إن طلبتها، فإن نكل، حلفت واستحقت حد القذف، وله أن يلاعن لاسقاطه على الصحيح.(6/292)
وقيل: لا يلاعن لانكاره القذف. وإن قال: أردت أنه من وطئ شبهة، فلا قذف، فإن ادعت إرادته القذف، حلف على ما سبق، والولد لاحق به إن لم يعين الوطئ بالشبهة، أو عينه ولم تصدقه ولم يقبل الولد، وإن صدق وادعى الولد، عرض على القائف، فإن ألحقه به لحقه، وإلا لحق بالزوج. وإن قال: أردت أنه من زوج كان قبلي، فليس بقاذف، سواء عرف لها زوج أم لا، كذا قاله السرخسي. وأما الولد، فإن لم يعرف لها زوج قبله، لم يقبل قوله، بل يلحقه، وإن عرف، فسنذكر إن شاء الله تعالى في كتاب العدة، أن الولد بمن يلحق ؟ فإذا لحقه، فإنما ينفى عنه باللعان، وإذا لم يعرف وقت نكاح الاول والثاني، لم يلحق به، لان الولادة على فراشه، والامكان لم يتحقق، إلا أن يقيم بنية أنها ولدته في نكاحه لزمان الامكان، وتقبل فيه شهادة النساء المتمحضات، فإن لم تكن بنية، فلها تحليفه، فإن نكل، فعلى ما سنذكره في الصورة الاخرى إن شاء الله تعالى. وإن قال: أردت أنها لم تلده، بل هو لقيط أو مستعار، فلا قذف، والقول قوله في نفي الولادة، وعليها البينة، فإن لم يكن بينة، فهل يعرض معها على القائف ؟ وجهان مذكوران في موضعهما، فإن قلنا: نعم، فألحقه القائف بها، لحق بالزوج واحتاج في النفي إلى اللعان. وإن قلنا: لا يعرض، أو لم يلحقه بها، أو لم يكن قائف، أو أشكل عليه، حلف الزوج أنه لا يعلم أنها ولدته. فإن حلف، انتفى، وفي لحوقه بها الوجهان المذكوران في كتاب اللقيط، في أن ذات(6/293)
الزوج، هل يلحقها الولد بالاستلحاق ؟ وإن نكل الزوج، فالنص أنه ترد اليمين عليها، ونص فيما إذا أتت بولد لاكثر من أربع سنين، وادعت أن الزوج كان راجعها أو وطئها بالشبهة، وأن الولد منه وأنكر ونكل عن اليمين، أنه لا ترد اليمين على المرأة، فمن الاصحاب من جعلهما على قولين، ومنهم من قرر النصين، وفرق بأن الفراش قائم في الصورة الاولى، فيقوى به جانبها، والمذهب هنا، ثبوت الرد، فإذا قلنا به فحلفت، لحقه الولد، وإن نكلت، فهل توقف اليمين حتى يبلغ الصبي ويحلف ؟ وجهان. فإن قلنا: توقف فحلف بعد بلوغه، لحق به، وإن نكل أو قلنا: لا توقف، انتفى عنه، وفي لحوقه بها الخلاف السابق. فرع قال لمنفي باللعان: لست ابن فلان، يعني الملاعن، فليس بصريح في قذف أمه، لانه محتمل، فيسأل، فإن قال: أردت تصديق الملاعن في أن أمه زانية، فهو قاذف، وإن أراد أن الملاعن نفاه، أو أنه منفي شرعا، أو لا يشبهه خلقا وخلقا، صدق بيمينه، فإذا حلف، قال القفال: يعزر للايذاء، وإن نكل، حلفت الام أنه أراد قذفها، واستحقت الحد عليه. قلت: قد قاله أيضا جماعة غير القفال. والله أعلم. ولو استلحقه النافي، ثم قال له رجل: لست ابن فلان، فهو كما لو قاله لغير المنفي، والمذهب أنه قذف صريح كما سبق. وقد يقال: إذا كان أحد التفاسير المقبولة أن الملاعن نفاه، فالاستلحاق بعد النفي لا ينافي كونه نفاه، فلا يبعد أن لا يجعل صريحا، ويقبل التفسير به. قلت: هذا الذي أورده الرافعي، حسن من وجه، ضعيف من وجه، فحسنه(6/294)
في قبول التفسير، وضعفه في قوله: ليس بصريح، والراجح فيه ما قاله صاحب الحاوي فقال: هو قذف عند الاطلاق، فنحده من غير أن نسأله ما أراد. فإن ادعى احتمالا ممكنا، كقوله: لم يكن ابنه حين نفاه، قبل قوله بيمينه، ولا حد. قال: والفرق بين هذا وبين ما قبل الاستلحاق، فإنا لا نحده هناك حتى نسأله، لان لفظه كناية، فلا يتعلق به حد إلا بالنية، وهنا ظاهر لفظه القذف، فحد بالظاهر إلا أن يذكر محتملا. والله أعلم. فرع قال لقرشي: لست من قريش، أو يا نبطي، أو قال لتركي: يا هندي، أو بالعكس، وقال: أردت أنه لا يشبه من ينتسب إليه في الاخلاق، أو أنه تركي الدار واللسان، صدق بيمينه، فإن ادعت أم المقول له أنه أراد قذفها، ونكل القاذف، وحلفت هي، وجب لها الحد أو التعزير، وإن أراد القذف، فمطلقه محمول على أم المقول له. فإن قال: أردت أن واحدة من جداته زنت، نظر، إن عينها، فعليه الحد أو التعزير، وإن قال: أردت جدة لا بعينها في الجاهلية أو الاسلام، فلا حد عليه، كما لو قال: أحد أبويك زان، أو في السكة زان ولم يعين، ولكن يعزر للاذى، فإن كذبته أم المقول له، فلها تحليفه، هكذا أطلقه الغزالي والبغوي والائمة، وفي التجربة للروياني، أنه لو قال لعلوي: لست ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: أردت لست من صلبه، بل بينك وبينه آباء، لم يصدق، بل القول قول من يتعلق به القذف، أنك أردت قذفي، فإن نكل، حلف القائل ويعزر. ومقتضى هذا، أن لا يصدق القائل: أردت جدة من جدات المقول له، مهما نازعته أمه، بل تصدق هي، لان المطلق محمول عليها، والسابق إلى الفهم قذفها، فإن نكلت، حلف القائل وبرئ. قلت: وإذا قال: لم أرد شيئا، فلا حد، فإن اتهمه الخصم، حلفه كما سبق. والله أعلم.
الطرف الثاني : في أحكام القذف. فإن كان المقذوف محصنا، فعلى القاذف الحد، وإلا فالتعزير. وشروط(6/295)
الاحصان: العقل، والبلوغ، والحرية، والاسلام، والعفة عن الزنا. فلو قذف مجنونا أو صبيا أو عبدا أو كافرا، لم يحد لكن يعزر للايذاء. وتبطل العفة بكل وطئ يوجب الحد، ومنه ما إذا وطئ جارية زوجته، أو جارية أحد أبويه، أو نكح محرما له، أو وطئ المرتهن المرهونة عالما بالتحريم، وكذا لو أولج في دبر، ثم نقل البغوي، أنه تبطل حصانة الفاعل دون المفعول به، لان الاحصان لا يحصل بالتمكين في الدبر، فكذا لا تبطل به الحصانة، ورأى هو أن تبطل حصانتهما جميعا، لوجوب الحد عليهما. قلت: إبطال حصانتهما، هو الراجح، وأي عفة وحرمة لمن مكن من دبره مختارا عالما بالتحريم. والله أعلم. وأما الوطئ الذي لا حد فيه، فللاصحاب في ترتيب صوره وضبطه طرق أشهرها: أنه ينظر، أجرى ذلك في ملك نكاح، أو يمين، أم في غير ملك ؟ القسم الاول: المملوك، وهو ضربان. أحدهما: محرم حرمة مؤبدة، كمن وطئ مملوكته التي هي أخته، أو عمته برضاع أو نسب عالما بالتحريم. فإن قلنا: يوجب الحد، بطلت حصانته، وإلا فتبطل أيضا على الاصح، لدلالته على عدم عفته، بل هذا أفحش من الزنا بأجنبية، ولو وطئ زوجته في دبرها، بطلت حصانته على الاصح. الضرب الثاني: ما يحرم غير مؤبد، وهو نوعان. أحدهما: ما له حظ من الدوام، كوطئ زوجته المعتدة عن شبهة غيره وأمته المعتدة أو المزوجة، أو المرتدة، أو المجوسية، وأمته في مدة الاستبراء، فلا تبطل حصانتها على الاصح، لقيام الملك وعدم تأبد الحرمة، وعدم دلالته الظاهرة على قلة المبالاة بالزنا. النوع الثاني: ما حرم لعارض سريع الزوال، كوطئ زوجته وأمته في الحيض، أو النفاس، أو الاحرام، أو الاعتكاف، أو المظاهر منها قبل التكفير، فلا تبطل الحصانة على المذهب. وقيل: على الوجهين. القسم الثاني: الوطئ الجاري في غير ملك، كوطئ الشبهة، وجارية الابن.(6/296)
وفي النكاح الفاسد، كالنكاح بلا ولي ولا شهود. وفي الاحرام ونكاح المتعة والشغار ووطئ المكاتبة والرجعية في العدة، ففي بطلان حصانته وجهان. قال الشيخ أبو حامد: أصحهما لا تبطل، واختار أبو إسحق البطلان. قال الروياني: هو أقرب. وأما وطئ المشتركة، فقال الداركي: هو على الوجهين، وأشار صاحب الشامل وجماعة إلى القطع بأنه كوطئ الزوجة في الحيض، هذا أحد الطرق. والطريق الثاني: أن في سقوط الحصانة بوطئ المملوكة المحرمة برضاع أو نسب وجهين. وفي المشتركة وجارية الابن وجهان، وأولى ببقاء الحصانة. وفي المنكوحة بلا ولي وجهان، وأولى بالبقاء للاختلاف في إباحته، وفي الوطئ بالشبهة وجهان، وأولى بالبقاء، لانه ليس بحرام، ووجه إسقاطها، إشعاره بترك التحفظ. وفي الوطئ الجاري في الجنون والصبي على صورة الزنا وجهان، وأولى بالبقاء لعدم التكليف، وهو الاصح. والطريق الثالث: لا تبطل الحصانة بالوطئ في ملك أو مع عذر كالشبهة، وتبطل بما خلا عن المعنيين، كوطئ جارية الابن وأحد الشريكين. والرابع: تبطل الحصانة بكل وطئ حرام، كالحائض، دون ما لا يحرم، كالوطئ بشبهة، فإنه لا يوصف بالحرمة. والخامس: كل وطئ تعلق به حد مع العلم بحاله يسقط الحصانة، وما لا حد فيه مع العلم لا يسقطها، كوطئ جارية الابن والمشتركة.(6/297)
قلت: قد جمع إمام الحرمين هذا الخلاف المنتشر مختصرا فقال: ينتظم منه ستة أوجه. أحدها: لا تسقط الحصانة إلا ما يوجب الحد. والثاني: يسقطها هذا، ووطئ ذوات المحارم بالملك، وهذا هو الاصح عند الرافعي في المحرر، وهو المختار. والثالث: يسقطها هذا، ووطئ الاب والشريك. والرابع: هذا، والوطئ في نكاح فاسد. والخامس: هذا، ووطئ الشبهة من مكلف. والسادس: هذا، ووطئ الصبي والمجنون، ويجئ فيه سابع، وهو هذا، والوطئ المحرم في الحيض وغيره، ولا فرق في النكاح الفاسد بين العالم بتحريمه والجاهل، قاله البغوي، وينبغي أن يكون الجاهل كالواطئ بشبهة. والله أعلم. فرع قال البغوي: الكافر إذا كان قريب عهد بالاسلام، فغصب إمرأة ووطئها ظانا حلها، لا تبطل حصانته، ويشبه أن يجئ فيه الخلاف في وطئ الشبهة.(6/298)
قلت: لا بد من مجئ الخلاف. والله أعلم. فرع مقدمات الزنا كالقبلة واللمس وغيرهما لا تؤثر في الحصانة بحال، وللشيخ أبي محمد فيها احتمال. قلت: ومما يتعلق بهذا، لو اشترى جارية فوطئها فخرجت مستحقة، ففي بطلان حصانته وجهان في الابانة والمهذب، وهو من أقسام الشبهة، فيكون الراجح بقاء الحصانة. ولو نكح مجوسي أمة ووطئها ثم أسلم، قال البغوي: لا تبطل حصانته، وقال الفوراني: تبطل، والاول أفقه، لانه لا يعتقد تحريمه. ولو أكره على الوطئ، ففي بطلان حصانته وجهان حكاهما الفوراني، والمختار أنها لا تبطل، لانه لا يعد تاركا للاحتياط. والله أعلم. فرع قذف عفيفا في الظاهر، فزنا المقذوف قبل أن يحد القاذف، سقط الحد عن القاذف على المشهور، وفيه قول قديم، وهو مذهب المزني، ولو ارتد المقذوف قبل الحد، لم يسقط على الصحيح، فعلى المشهور، لو قذف زوجته ثم زنت، سقط الحد عنه واللعان، فإن كان هناك ولد وأراد نفيه، فله اللعان، ولو سرق المقذوف أو قتل قبل استيفائه الحد، لم يسقط على المذهب، وعن ابن القطان حكاية وجهين فيه. فرع من زنا مرة وهو عبد أو كافر، أو عدل عفيف، أو غيرهم من المكلفين، ثم أعتق العبد، وأسلم الكافر، وتاب الآخر، وحسنت أحوالهم، لم(6/299)
تعد حصانتهم، ولم يحد قاذفهم، سواء قذفهم بذلك الزنا أو بزنا بعده، وفيما بعده. احتمال. ولو جرت صورة الزنا من صبي أو مجنون، لم تسقط حصانته، فمن قذفه بعد الكمال، حد، لان فعلهما ليس زنا لعدم التكليف. فرع قذف زوجته أو غيرها وعجز عن إقامة البينة على زنا المقذوف، فهل له تحليفه أنه لم يزن ؟ فيه قولان، ويقال: وجهان. الموافق لجواب الاكثرين: له تحليفه، قالوا: ولا تسمع الدعوى بالزنا والتحليف على نفيه إلا في هذه المسألة. قلت: العجز عن البينة ليس بشرط، بل متى طلب يمينه، جاء الخلاف، قال البغوي: ولو قذف ميتا، وطلب وارثه الحد، وطلب القاذف يمينه: انه لا يعلم مورثه زنى، نص الشافعي رحمه الله أنه يحلفه، قال: وفيه الخلاف المذكور. والله أعلم. فرع هل على الحاكم البحث عن إحصان المقذوف ليقيم الحد على القاذف، كما عليه البحث عن عدالة الشهود ليحكم بشهادتهم ؟ وجهان. قال أبو إسحاق: نعم، وأصحهما عند الاصحاب: لا، لان القاذف عاص فغلظ عليه بإقامة الحد بظاهر الاحصان، والمشهود عليه لم يوجد منه ما يقتضي التغليظ.(6/300)
فصل حد القذف وتعزيره حق آدمي، يورث عنه، ويسقط بعفوه. ولو قال لغيره: اقذفني، فقذفه، فوجهان. قال الاكثرون: لا يجب، كما لو قال: اقطع يدي فقطعه، لا شئ عليه. والثاني: يجب، لان القطع مباح في الجملة، فقد يكون مستحق القطع. وأما القذف، فلا يباح وإن كان المقذوف زانيا. وفيمن يرث حد القذف ؟ أوجه. أصحها: جميع الورثة، كالمال والقصاص. والثاني: جميعهم غير الزوجين. والثالث: رجال العصبات فقط، لانه لدفع العار كولاية التزويج. والرابع: رجال العصبة سوى البنين كالتزويج. فإن قلنا: يرث الزوجان، فأنشأ قذف ميت، ففي إرثهما وجهان، لانقطاع الوصلة حالة القذف، و إذا ورثنا الابن، قدم على سائر العصبات، ولو لم يكن للمقذوف وارث خاص، فهل يقيم السلطان الحد ؟ قولان كما في القصاص، وكما لو قذف ميتا لا وارث له، أظهرهما: يقيمه. فرع لو عفا بعض مستحقي حد القذف الموروث عن حقه وهو من أهل العفو، فثلاثة أوجه. أصحها: يجوز لمن بقي استيفاء جميع الحد، لان الحد يثبت لهم ولكل واحد منهم، كولاية التزويج وحق الشفعة. والثاني: يسقط جميع الحد كالقصاص، وهو ضعيف، إذ لا بدل هنا، بخلاف القصاص، والثالث: يسقط نصيب العافي ويستوفي الباقي، لانه متوزع، بخلاف القصاص فعلى هذا،(6/301)
يسقط السوط الذي يقع فيه شركة. فرع قذف رجل مورثه، ومات المقذوف، سقط عنه الحد إن كان حائز الارث، لان القذف لا يمنع الارث، بخلاف القتل. ولو قذف أباه، فمات الاب وترك القاذف وإبنا آخر. فإن قلنا: إذا عفا بعض المستحقين كان للآخر استيفاء الجميع، فللابن الآخر استيفاء الحد بتمامه، وإن قلنا: يسقط الجميع، فكذا هنا، وإن قلنا: يسقط نصيب العافي، فللابن الآخر استيفاء نصف الحد. فرع لو جن المقذوف بعد ثبوت حقه، لم يكن لوليه استيفاء الحد، بل يصبر حتى يفيق، فيستوفي، أو يموت فيورث. وكذا لو قذف المجنون أو الصغير، ووجب التعزير، لم يكن لوليهما التعزير، بل يجب الصبر. فرع إذا قذف العبد ووجب التعزير، فالطلب والعفو له لا للسيد، لان عرضه له لا للسيد، حتى لو قذف السيد عبده، كان له رفعه إلى الحاكم ليعزره، هذا هو الصحيح. وقيل: ليس له طلب التعزير من سيده، بل يقال له: لا تعد، فإن عاد، عزر كما يعزر لو كلفه مرة بعد مرة من الخدمة ما لا يحتمله حاله. فلو مات العبد وقد استحق تعزيرا على غير سيده، فأوجه. أصحها: يستوفيه سيده، لانها عقوبة وجبت بالقذف، فلم تسقط بالموت كالحد. قال الاصحاب: وليس ذلك على سبيل الارث، ولكنه أخص الناس به، فما ثبت له في حياته، يكون لسيده بعد موته بحق الملك كمال المكاتب. والثاني: يستوفيه أقاربه، لان العار إنما يعود عليهم. والثالث: يستوفيه السلطان كحر لا وارث له. والرابع: يسقط التعزير، وبالله التوفيق.(6/302)
الباب الثاني : في قذف الزوجة خاصة الزوج كالاجنبي في صريح القذف وكنايته، وفي أنه يلزمه بقذفها الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، إلا أن الزوج يختص بأنه قد يباح له القذف، وقد يجب عليه، وبأن الاجنبي لا يتخلص من العقوبة إلا ببينة على زنا المقذوف، أو بإقرار المقذوف. وللزوج طريق ثالث إلى الخلاص، وهو اللعان. وكما تندفع عنه عقوبة القذف باللعان، يجب عليها به حد الزنا، ولها دفعه بلعانها. فصل متى تيقن الزوج أنها زنت، بأن رآها تزني، جاز له قذفها، وكذا إن ظن زناها ظنا مؤكدا، بأن أقرت به ووقع في قلبه صدقها، أو سمعه ممن يثق به. قال ابن كج والامام: سواء كان القائل من أهل الشهادة، أم لا، واستفاض بين الناس أن فلانا يزني بها ولم يخبره أحد عن عيان، لكن انضمت إلى الاستفاضة قرينة الفاحشة، بأن رآه معها في خلوة، أو رآه يخرج من عندها، فيجوز له القذف، وإنما يجوز في صورة الاستفاضة. إذا انضمت إليها القرنية. وعن الداركي: أنه يجوز بمجرد الاستفاضة. وعن ابن أبي هريرة: يجوز بمجرد القرينة، والصحيح الاول، لكن قال الامام: الذي أراه، أنه لو رآها معه مرات كثيرة في محل الريبة،(6/303)
كان ذلك كالاستفاضة مع الرؤية مرة، وكذا لو رآها معه تحت شعار على هيئة منكرة، وتابعه على هذا الغزالي وغيره. ثم ما لم يكن هناك ولد، لا يجب على الزوج القذف، بل يجوز أن يستر عليها ويفارقها بغير اللعان إن شاء، ولو أمسكها لم يحرم. قلت: قال أصحابنا: إذا لم يكن ولد، فالاولى أن لا يلاعن، بل يطلقها إن كرهها. والله أعلم. وإن كان هناك ولد يتيقن أنه ليس منه، وجب عليه نفيه باللعان، هكذا قطع به الاصحاب، وفيه وجه حكاه الروياني عن جماعة أنه لا يجب النفي، والصحيح الاول. قال البغوي وغيره: فإن تيقن مع ذلك أنها زنت، قذفها ولاعن، وإلا فلا يقذفها، لجواز أن يكون الولد من زوج قبله، أو من وطئ شبهة. قال الائمة: وإنما يحصل اليقين إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت بولد لاكثر من أربع سنين من وقت الوطئ، أو لاقل من ستة أشهر. ولو وطئها وأتت بولد لاكثر من ستة أشهر، ولدون أربع سنين، فإن لم يستبرئها بحيضة، أو استبرأها فأتت بولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء، لم يحل له النفي، ولا اعتبار بريبة يجدها في نفسه، أو شبهة تخيل له فسادا، وإن استبرأها وأتت به لاكثر من ستة أشهر من الاستبراء، فثلاثة أوجه. أحدها: يجوز النفي، لان الاستبراء أمارة ظاهرة على أنه ليس منه، والمستحب أن لا ينفيه، لان الحامل قد ترى الدم. والثاني: إن رأى بعد الاستبراء القرينة المبيحة للقذف، جاز النفي، بل لزمه، وإن لم ير شيئا، لم يجز. والثالث: يجوز النفي، سواء وجدت قرينة وأمارة، أم لا، ولا يجب بحال للاحتمال. وأصح هذه الاوجه الثاني، صححه الغزالي، وبه قطع العراقيون، وبالاول قطع البغوي. قلت: جعل الرافعي الاوجه فيما إذا أتت بالولد لاكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء، وكذا فعل القاضي حسين، والامام، والبغوي، والمتولي. والصحيح ما قاله المحاملي وصاحبا المهذب والعدة وآخرون أن الاعتبار في ستة الاشهر(6/304)
من حين زنى الزاني بها، لان مستند اللعان زناه، فإذا ولدت لدون ستة أشهر من زنا، ولاكثر من سنة من الاستبراء، تيقنا أنه ليس من ذلك الزنا، فيصير وجوده كعدمه، ولا يجوز النفي، وهذا أوضح. والله أعلم. ولو كان الزوج يطأ ويعزل، فالصحيح الذي قطع به صاحبا المهذب والتهذيب وغيرهما أنه لا يجوز النفي بذلك، فقد سبق الماء، وجعله الغزالي مجوزا للنفي. ولو جامع في الدبر أو فيما دون الفرج، فله النفي على الاصح. فرع لو أتت بولد لا يشبهه، نظر، إن خالفه في نقص وكمال خلقة، أو حسن وقبح ونحوها، حرم النفي، وإن ولدت أسود وهما أبيضان أو عكسه، فإن لم ينضم إليه قرينة الزنا، حرم النفي، وإن انضمت أو كان يتهمها برجل، فأتت بولد على لون ذلك الرجل، جاز النفي على الاصح عند البندنيجي والروياني وغيرهما. وصحح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب المنع. قلت: المنع أصح، وممن صححه غير المذكورين، صاحبا الحاوي والعدة. والله أعلم. قال الامام: ولا يؤثر الاختلاف في الالوان المتقاربة، كالادمة والسمرة والشقرة، والقرينة من البياض. فرع متى نفى الولد ولاعن، حكم بنفوذه في الظاهر، ولا يكلف بيان السبب الذي بنى النفي عليه، لكن يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى رعاية الاسباب المذكورة، وبناء النفي على ما يجوز البناء عليه، كما سبق.(6/305)
فصل لا يلحق الولد بالزوج إذا لم يتحقق إمكان الوطئ، فإذا نكح وطلقها في المجلس، أو غاب عنها غيبة بعيدة لا يحتمل وصول أحدهما إلى الآخر، وأتت بولد لاكثر من أربع سنين من وقت الغيبة، أو جرى العقد والزوجان متباعدان، أحدهما بالمشرق، والآخر بالمغرب، وأتت بولد لستة أشهر من حين العقد، ففي كل هذه الصور ينتفي الولد بغير لعان. فرع إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه، لكنه رآها تزني واحتمل كونه من الزنا، فليس له نفيه. وهل له القذف واللعان ؟ حكى الامام عن العراقيين والقاضي، أنه ليس له ذلك قال: والقياس جوازه لجواز القذف إذا تيقن الزنا ولا ولد، انتقاما منها، فحصل وجهان، الصحيح: المنع، لان اللعان حجة ضرورية، إنما يصار إليها لدفع النسب، أو قطع النكاح حيث لا ولد، خوفا من أن يحدث ولد على الفراش الملطخ، وقد حصل الولد هنا، فلم يبق فائدة، ولان في إثبات زناها تعيير الولد، وإطلاق الالسنة فيه، ولا يحتمل ذلك لغرض الانتقام مع إمكان الفراق بالطلاق. قلت: هذا النقل عن العراقيين مطلقا غير مقبول على الاطلاق، فقد قال صاحب المهذب: إن غلب على ظنه أنه ليس منه، بأن علم أنه كان يعزل عنها، أو رأى فيه شبه الزاني، لزمه نفيه باللعان، يعني بعد قذفها، وإن لم يغلب على ظنه، لم ينفه. وقال صاحب الحاوي: إذا وطئها ولم يستبرئها ورآها تزني، فهو بالخيار بين اللعان بعد القذف، أو بالامساك. فأما نفي الولد، فإن غلب على ظنه أنه ليس منه، نفاه، وإن غلب على ظنه أنه منه، لم يجز نفيه، وإن لم يظن أحد الامرين، جاز أن يغلب حكم الشبه، وهذا هو القياس الجاري على قاعدة الباب. والله أعلم.(6/306)
الباب الثالث : في ثمرة اللعان وشروطه وصفته وأحكامه، فيه أطراف.
الأول : في ثمرات اللعان، وهي نفي النسب وقطع النكاح، وتحريمها مؤبدا، ودفع المحذور الذي يلحقه بالقذف، وإثبات حد الزنا عليها. قلت: ومن الثمرات: سقوط حد قذف الزاني بها عن الزوج إن سماه في لعانه، وكذا إن لم يسمه على خلاف فيه. ومنها: سقوط حصانتها في حق الزوج إن لم تلاعن هي كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: تشطير الصداق قبل الدخول. ومنها: استباحة نكاح أختها وأربع سواها في عدتها. والله أعلم. ولا يشترط لجواز اللعان، تعلق جميع ثمراته به، بل منها ما يستقل بإفادة حق جوازه، ومنها خلافه، فنفي النسب، هو المقصود الاصلي، فيجوز اللعان له وحده. وإن كان لا ينقطع به نكاح، ولا يسقط به عقوبة، بأن كان أبانها، أو عفت عن العقوبة، أو أقام بينة بزناها. وأما دفع عقوبة القذف، فيجوز اللعان لمجرد دفع الحد، وإن لم يكن نكاح ولا نسب، فإن كان الواجب التعزير، فالتعزير المشروع عند القذف نوعان. تعزير تكذيب، وهو المشروع في حق القاذف الكاذب ظاهرا، بأن قذف زوجته الذمية أو الرقيقة، أو الصغيرة التي يوطأ مثلها، وتعزير تأديب، وهو أن يكون كذبه معلوما، أو صدقه ظاهرا، فيعزر لا تكذيبا له، بل تأديبا لئلا يعود إلى السب والايذاء، بأن قذف زوجته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، أو قذف الكبيرة بزنا ثبت بالبينة، أو بإقرارها، فلا يحد لسقوط حصانتها، ويعزر تأديبا للايذاء بتحديد ذكر الفاحشة. فأما النوع الاول، فيستوفى بطلبها، وله إسقاطه باللعان على الصحيح. وأما النوع الثاني، فلا يلاعن لدفع تعزير التي لا يوطأ مثلها وإن كبرت وطالبت، لانه لا يعزر للقذف. فإنه أتى بمحال لا يلحقها به عار، وإنما يعزر منعا له من الايذاء، والخوض في الباطل. وفيه وجه سيعود إن شاء الله تعالى. وإن قذف الكبيرة بزنا ثبت ببينة أو إقرارها، قال الشافعي رضي الله عنه في رواية المزني: عزر(6/307)
إن طلبت ذلك، ولم يلتعن، وفي رواية الربيع: يعزر إن طلبت ذلك إن لم يلتعن. وللاصحاب طرق، أشهرها قولان. أظهرهما: لا يلاعن، والطريق الثاني وهو الاصح، وبه قال أبو إسحق والقاضي أبو حامد: لا يلاعن قطعا، ورد رواية الربيع. والثالث: يلاعن قطعا، وتأول رواية المزني. والرابع: إن قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الزوجية وأثبته ببينة ثم قذفها به، لم يلاعن، وإن قذفها بزنا في الزوجية، وأثبته ببينة، ثم قذفها به، لاعن، وحمل النصين عليهما، ثم ظاهر نصه في الروايتين أنه لا يعزر إلا بطلبها. وحكى الامام وجها: أنه يعزره السلطان سياسة وإن لم تطلب، كما يعزر من يقول: الناس زناة، والصحيح الاول. قال الامام: وليس هذا موضع الخلاف، إنما موضعه ما إذا أضاف الزنى إلى حالة لا تحتمل الوطئ، بأن قال: زنيت وأنت بنت شهر، لان المحال لا يتأدى منه. قلت: وفي المسألة طريق خامس اختاره صاحب الحاوي، وحكاه الشاشي: إن كان ثم ولد، لاعن، وإلا فلا، وحمل النصين عليهما. والله أعلم. فرع قد سبق أن حد القذف يستوفى بطلب المقذوف، وفي التعزير هذا التفصيل السابق قبل الفرع، ثم ما كان من حد أو تعزير معلقا بطلب شخص، سقط بعفوه إذا كان أهلا للعفو. فلو قذف زوجته، فعفت عن الحد ولا ولد، فليس له اللعان على الصحيح، لعدم الضرورة، ويجري الخلاف فيما لو ثبت زناها ببينة، أو صدقته ولا ولد، فلو سكت فلم تطلب الحد ولم تعف، فليس له اللعان على الاصح عند الجمهور لما ذكرنا. ولو قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة، فقيل: له اللعان في الحال ليسقط التعزير، والاصح انتظار بلوغها وعقلها وطلبها التعزير. ولو(6/308)
قذفها عاقلة فجنت، أو في جنونها بزنا أضافه إلى حالة الافاقة، فعليه الحد. وهل له اللعان في الحال، أم ينتظر الافاقة ؟ فيه الوجهان. وفي كل هذه الصور لو كان هناك ولد، وأراد نفيه باللعان، كان له ذلك قطعا. قلت: وكل موضع لاعن لنفي النسب أو غيره وهي مجنونة، فقد حقق زناها ولزمها الحد، لكن لا تحد في جنونها، فإذا أفاقت حدت إن لم تلاعن، ذكره المحاملي في المجموع. والله أعلم. فرع زنا بك ممسوح، أو صبي ابن شهر، أو قال لرتقاء أو قرناء: زنيت، فلا حد ويعزر للايذاء، ولا يلاعن على الصحيح، وكذا لو قال لممسوح: زنيت، أو لبالغ: زنيت وأنت رضيع في المهد، فلا حد ويعزر.
الطرف الثاني : في صفة الملاعن، وله شرطان. الاول: أهلية اليمين، لان المعروف عند أصحابنا أن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة. وقيل: هو يمين فيها شوب الشهادة، فلا يصح لعان الصبي ولا المجنون، ولا يقتضي قذفهما لعانا(6/309)
بعد كمالهما، ولا عقوبة، لكن يعزر المميز على القذف. فإن لم يتفق تعزيره حتى بلغ، قال القفال: يسقط لانه كان للزجر عن سوء الادب، وقد حدث زاجر أقوى منه وهو التكليف، ويصح لعان الذمي، والرقيق، والمحدود في القذف، ويصح اللعان عن الذمية، والرقيقة، والمحدودة في القذف. فرع قذف زوجته الذمية، وترافعا إلينا، ولاعن الزوج، نص الشافعي رحمه الله، أنها لا تجبر على اللعان، ولا تحد إن امتنعت منه حتى ترضى بحكمنا. فإن رضيت، حكمنا في حقها بما نحكم به في حق المسلمة. وللاصحاب طريقان، الصحيح منهما أن المسألة على القولين في الذميين إذا ترافعا إلينا، هل يجب الحكم بينهما ؟ وقد سبقا في نكاح المشرك، إن أوجبنا الحكم، حددناها إن لم تلاعن، ولا يعتبر رضاها، وإن لم نوجبه، لم نحدها حتى ترضى بحكمنا، وعلى هذا الطريق، سواء كان الزوج مسلما أو ذميا، والطريق الثاني: لا يجري عليها الحكم حتى ترضى قطعا. ولو قذفها زوجها الذمي، وترافعا، ولم يرض الزوج بحكمنا، وطلبته المرأة، فهل يجبر الزوج على اللعان ويعزر إن لم يلاعن، أم يتوقف ذلك على رضاه ؟ فيه القولان في وجوب الحكم بينهم، ولا يجئ الطريق الثاني. ولو قذفها زوجها المسلم، ولاعن، فذاك، وإن امتنع، وطلبت التعزير، استوفاه الحاكم. ثم الواجب على الذمي في قذف الذمية، التعزير إن كان مثلها، كما أن الواجب بقذف الرقيقة، التعزير وإن قذفها رقيق. الشرط الثاني: الزوجية، فلا لعان لاجنبي، فلو طلقها رجعية بعد أن قذفها، أو قذفها في عدة الرجعة، فله أن يلاعنها كما يطلقها، ويظاهر ويؤلي. ويصح لعانه في الحال، وتترتب أحكامه.(6/310)
ولو ارتد بعد الدخول ثم قذفها وأسلم في العدة، فله اللعان، ولو لاعن في الردة، ثم أسلم في العدة، وقع اللعان في النكاح، فيصح ويقع موقعه، لان الكافر يصح لعانه، وإن أصر حتى مضت العدة، تبينا وقوعه في حال البينونة، فإن كان ولد ونفاه باللعان، نفذ، وإلا تبينا فساده، ولا يندفع حد القذف عنه على الاصح، وبه أجاب ابن الحداد. فرع وطئ إمرأة في نكاح فاسد أو شبهة، بأن ظنها زوجته أو أمته، ثم قذفها وأراد اللعان، فإن كان هناك ولد منفصل، فله اللعان، فينتفي به النسب بلا خلاف، ويسقط به حد القذف على الصحيح تبعا، وقيل: لا يسقط لعدم الزوجية وانتفاء الضرورة، إذ كان يمكنه أن يقول: ليس الولد مني، ولا يقذفها، وتتأبد الحرمة بهذا اللعان على الاصح. قلت: فإذا قلنا بالضعيف: إنه لا تتأبد الحرمة، فهل يستبيحها بلا محلل، أم يفتقر إلى محلل كالطلاق الثلاث ؟ وجهان، في الحاوي الصحيح: لا يفتقر. والله أعلم. ولا يلزمها حد الزنا، ولا يلاعن معارضة للعانه على الاصح. وقيل: يلزمها وتلاعن لاسقاطه، وإن كان هناك حمل، فهل هو كالمنفصل في اللعان ؟ فيه خلاف نذكره قريبا إن شاء الله تعالى فيما إذا أبان زوجته ثم قذفها، وإن لم يكن ولد ولا حمل، فلا لعان كالاجنبي. ولو قذف في نكاح يعتقد صحته، ولاعن على ذلك الاعتقاد، ثم بان فساده، ولا ولد، لم يسقط عنه الحد على الاصح، فعلى هذا: لا يثبت شئ من أحكام اللعان. فرع قذف زوجته ثم أبانها، فله أن يلاعن لنفي الولد، ولاسقاط عقوبة القذف، وإن لم يكن ولد إذا طلبتها، لان القذف وجد في الزوجية، فإن عفت،(6/311)
فلا لعان، وكذا إن لم تطلب على الاصح، وإذا لاعن، لزمها الحد، ولها إسقاطه باللعان. وفي تأبد الحرمة بلعانه الوجهان كالنكاح الفاسد، لوقوعه خارج النكاح. فرع أبانها بخلع أو بالطلاق الثلاث، أو بفسخ، أو كانت رجعية فبانت بانقضاء العدة، ثم قذفها بزنا مطلق، أو مضاف إلى حال النكاح، فإن كان ولد يلحقه بحكم النكاح السابق، فله اللعان، ويسقط به عنه الحد. قال البغوي: ويلزمها حد الزنا إن أضاف الزنا إلى حالة النكاح، ولها إسقاطه باللعان، فإن لم يضف، لم يلزمها. وفي تأبد الحرمة ومعارضتها باللعان الخلاف السابق، والخلاف في المعارضة جار في كل لعان بمجرد نفي الولد، كما لو أقام بينة بزناها أو أقرت. وإن كان حمل، فهل له اللعان قبل انفصاله ؟ فيه نصان رواهما المزني في المختصرو الجامع فقال أبو إسحق: لا يلاعن قطعا، إذ قد لا يكون ولد، وتأول النص الآخر. والصحيح أن المسألة على قولين. أحدهما: هذا، وأظهرهما عند الاكثرين: يلاعن، كما لو كان في صلب النكاح. فعلى هذا لو لاعن فبان أن لا حمل، تبينا فساد اللعان، وإن لم يكن ولد ولا حمل لم يلاعن على الصحيح، وقيل: له اللعان إن أضاف الزنا إلى حالة النكاح. فرع قذف زوجته بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح، فإن لم يكن ولد، لم يلاعن، وإن كان، فوجهان. أحدهما: لا يلاعن، لانه مقصر بالتاريخ، وكان حقه أن يطلق القذف. فعلى هذا، له أن ينشئ قذفا ويلاعن لنفي النسب، فإن لم يفعل، حد، وبهذا قال أبو إسحق، وصححه الشيخ أبو حامد وجماعة. والثاني، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة والطبري، وصححه القاضي أبو الطيب، والامام، والروياني وغيرهم: له اللعان، فعلى هذا، يسقط الحد بلعانه، وهل عليها حد الزنا بلعانه ؟ وجهان. وهل لها معارضته باللعان ؟ فيه الوجهان السابقان. قلت: صحح في المحرر قول أبي إسحق، وهو أقوى. والله أعلم. فصل قذفها ولاعنها، ثم قذفت، فلها حالان. أحدهما: أن لا يلاعن(6/312)
معارضة للعانه، وحدت حد الزنا، فالقذف الثاني، إن كان من الزوج، نظر، إن قذفها بذلك الزنا أو أطلق، لم يلزمه إلا التعزير، لانا صدقناه في ذلك الزنا، وإنما يعزر للايذاء. وإن قذفها بزنا آخر، فوجهان. أحدهما: يحد كما لم يلاعن. وأصحهما: يعزر فقط، لان لعانه في حقه كالبينة، وليس له أن يلاعن لدفع التعزير، لانه قذف بعد البينونة، وإن قذفها أجنبي بذلك الزنا، حد على الاصح. وقيل: يعزر، وإن قذفها بغيره، حد على المذهب. وقيل: فيه الوجهان. الحال الثاني: أن يلاعن، فإن قذفها الزوج بذلك الزنا، أو أطلق، عزر فقط، وإن قذفها بزنا آخر، فالمذهب أنه يحد، وقيل: يعزر على قول قديم، وقيل: هو وجه، وهذا الخلاف جار سواء قذفها بزنا آخر بعد اللعان أو قبله، وسواء قلنا: يحد أو يعزر، فليس له اللعان، لانها بائن ولا ولد. وإن قذفها أجنبي، حد سواء قذفها بذاك الزنا أو غيره. وقيل: إن قذفها بذاك الزنا، عزر، والصحيح الاول. وسواء في الزوج والاجنبي، كان ولد فنفاه باللعان وبقي أو مات أو لم يكن، هذا كله إذا قذفها ولاعن ثم قذف، أما إذا قذفها ولم يلاعن، فحد للقذف، ثم قذفها بذلك الزنا، فلا يحد لانه ظهر كذبه بالحد الاول، ويعزر تأديبا للايذاء. وقد سبق أنه لا يلاعن، لاسقاط مثل هذا التعزير على الصحيح. وإن قذفها بزنا آخر، فوجهان. قال البغوي: أصحهما: يعزر. وقال أبو الفرج الزاز: أصحهما: يحد لان كذبه في الاول لا يوجب كذبه في الثاني، فوجب الحد لدفع العار. وهل يلاعن(6/313)
لاسقاط الحد أو التعزير ؟ وجهان. أصحهما: لا، لظهور كذبه بالحد. وإن قذفها أجنبي بذلك الزنا أو غيره، حد. فرع قذف زوجته أو غيرها مرتين فصاعدا، فإن أراد زنا واحدا، فعليه حد واحد، لانه لم يقذف إلا بفاحشة واحدة، فإن حد مرة، فأعاد، عزر للايذاء، ولا يحد لظهور كذبه. وإن قذف بزنا آخر، كقوله: زنيت بفلان، ثم قال: زنيت بآخر، فقولان. الجديد وأحد قولي القديم: يجب حد واحد. والقديم الآخر: يتعدد الحد. ورأى ابن كج القطع بحد واحد، فإذا قلنا: حد واحد، فقذف فحد، ثم قذف ثانيا، فهل يحد ثانيا أم يعزر لظهور كذبه بالحد الاول ؟ وجهان أو قولان. قال ابن كج: الصحيح منهما التعزير. ولو قذف زوجته مرتين فصاعدا بزنيتين، ففي التعداد والاتحاد هذا الخلاف، فإن قلنا بالاتحاد، كفى لعان واحد، وإن قلنا بالتعدد، فوجهان. أحدهما: يتعدد اللعان بحسب تعدد الحد، وأصحهما: يكفي لعان واحد، لانه يمين، وإذا كان الحقان لواحد، كفى يمين، إلا أنه يقول في اللعان: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنيتين. وإن سمى الزانيين، ذكرهما في اللعان، فلو وقع أحد القذفين في الزوجية، والآخر خارجها، فله صورتان. إحداهما: أن يقذف أجنبية، ثم يتزوجها قبل أن يحد، ثم يقذفها. فينظر إن قذفها بالزنا الاول، لم يجب إلا حد، وليس له إسقاطه باللعان، وإن قذفها بزنا آخر، ففي تعدد الحد واتحاده طريقان. أحدهما: على القولين فيما إذا قذف زوجته أو أجنبيا بزنيتين. والثاني: القطع بالتعدد، لاختلاف موجبهما، لان الثاني يسقط باللعان، بخلاف الاول فصارا كحدين مختلفين، ولا تداخل مع الاختلاف، وهذا الطريق أرجح عند القاضي أبي الطيب، وبه قطع الشيخ أبو حامد ومتابعوه. ورجح آخرون طريقة القولين، قالوا: وموجب القذفين الحد، ولا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في طريق الخلاص منه، فإن قلنا بالاتحاد، فإن لم يلاعن، حد لهما حدا واحدا، وإن لاعن الثاني حد للاول، وإن حد للاول قبل أن يلاعن، سقط اللعان للثاني، إلا أن يكون هناك ولد فيلاعن لنفيه، فإن لم يكن، فعلى الخلاف في أنه هل يجوز اللعان لمجرد غرض قطع النكاح وإلصاق العار بها، وقد سبق أن قلنا بالتعدد، فإن طالبت(6/314)
أولا للقذف الاول، فأقام بينة بزناها، سقط الحدان، لانه ثبت أنها غير محصنة، وإن لم يقم حد. ثم إذا طالبت للثاني، فأقام بينة أو لاعن، سقط عنه الحد الثاني، وإلا حد ثانيا، وإن طالبت أولا بالثاني، فأقام بينة، سقط الحدان، وإلا فإن لاعن، سقط الحد الثاني دون الاول، وإن لم يلاعن، حد للثاني، ثم يجد للاول. وإن طالبت بهما جميعا، حد للاول لسبق وجوبه، ثم للثاني إن لم يلاعن. وإن حد في القذف الاول، ثم قذفها في النكاح ولم يلاعن، حد ثانيا على الصحيح، وقال ابن الحداد: لا يحد للثاني. قال الشيخ أبو علي: لم يرض هذا أحد من أصحابنا، وقالوا: يحد ثانيا إذا لم يلتعن تفريعا على قول التعدد، قالوا: ولا فرق بين أن يقذف في النكاح بعد أن يحد للاول أو قبله، في أنه يحد الثاني إذا لم يلتعن، لكن إذا كان قبله، حد لكل واحد منهما. فرع قذف زوجته ثم أبانها بلا لعان، ثم قذفها بزنا آخر، فإن حد للاول، ثم نكحها، ففي حده للثاني قولان، كما لو قذف أجنبية فحد، ثم قذفها ثانيا، وإن لم تطلب حد القذف الاول حتى أبانها، فإن لاعن للاول، فقيل: يحد للاول. وقيل: قولان، وإن لم يلاعن، فقيل: يحد حدين، وبه قال ابن الحداد. وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: حد واحد. فرع قذف زوجته البكر فلم تطالبه حتى فارقها، ونكحت غيره ووطئها وصارت محصنة، وقذفها الثاني، ثم طالبتهما، فلاعن كل واحد منهما، وامتنعت هي من اللعان، فقد ثبت عليها بلعان الاول زنا بكر، وبلعان الثاني زنا محصنة، وفيما عليها ؟ وجهان. أحدهما: الرجم فقط، لان شأن الحدود التداخل. وأصحهما وبه قال ابن الحداد: يلزمها الجلد ثم الرجم. قال الشيخ أبو علي: هذا ظاهر المذهب، لان التداخل إنما يكون عند الاتفاق، وقال: وعلى هذا، لو زنا العبد، ثم عتق، فزنى قبل الاحصان، فقيل: عليه خمسون جلدة لزناه في الرق،(6/315)
ومائة لزناه في الحرية، لاختلاف الحدين، والاصح أنه يجلد مائة فقط، ويدخل الاقل في الاكثر لاتحاد الجنس، وعلى هذا لو زنا وهو حر بكر، فجلد خمسين، وترك لعذر، فزنا مرة أخرى، جلد مائة، وتدخل الخمسون الباقية فيها. ولو قذف شخصين محصنا وغيره بكلمة، وقلنا باتحاد الحد، دخل التعزير في الحد. وفي هذا نظر، لاختلاف جنس الحد والتعزير. ولو كانت في المسألة الاولى بكر في لعان الزوجين، فالصحيح أن عليها حدا واحدا، كما لو ثبت زنيان، أحدهما: ببينة، والآخر بإقرار أو كلاهما بالبينة. قال ابن الحداد: عليها حدان، لان لعان كل واحد حجة في حقه، فصارا كجنسين. فصل إذا لحقه نسب بملك يمين في مستولدة، أو أمة موطوءة، لم ينتف عنه باللعان على الاظهر، وقيل: لا ينتفي قطعا لامكان نفيه بدعوى الاستبراء، وسيأتي في آخر الاستبراء بيانه مع بيان أن الامة متى تصير فراشا لسيدها، حتى يلحقه ولدها إن شاء الله تعالى. ولو اشترى زوجته، فانفسخ النكاح، ثم ولدت، فإن كان لدون ستة أشهر من يوم الشراء، فهو لاحق به بحكم النكاح، وله نفيه باللعان ويكون اللعان بعد الانفساخ كهو بعد البينونة بالطلاق، وإن ولدته لستة أشهر فصاعدا من يوم الشراء، فإن لم يطأها بعد الشراء، أو وطئها وولدته لدون ستة أشهر من يوم الوطئ، نظر، إن كان لاربع سنين فأقل من وقت الشراء، فالحكم كذلك، وإن كان لاكثر من أربع سنين، فهو منفي عنه بغير لعان. فإن وطئها بعد الشراء وأتت به لستة أشهر فصاعدا من وقت الوطئ، ولدون أربع سنين من وقت الشراء، فإن لم يدع الاستبراء بعد الوطئ، لحقه الولد بملك اليمين، وهل له نفيه باللعان، فيه الطريقان. وإن ادعى الاستبراء بعده، فإن أتت به لاقل من ستة أشهر من وقت الاستبراء، فالحكم كذلك وتلغو دعوى الاستبراء، وإن كان لستة أشهر فأكثر من وقت الاستبراء، لم يلحقه الولد بحكم الملك على الاصح، وسنعيده في آخر باب الاستبراء إن شاء الله(6/316)
تعالى، ولا يلحقه أيضا بملك النكاح لانقطاع فراش النكاح بفراش الملك، وقيل: يلحقه بملك النكاح، ولا ينتفي إلا بلعان لوجود الامكان، وامتناع الالحاق بالملك، وهذا شاذ، وقد يعبر عن هذه الاحوال، فيقال: إن احتمل كونه من النكاح فقط، لحق به النكاح، وإن احتمل بالملك فقط، لحق به، وكذا إن احتملها على الصحيح. وإن لم يحتمل واحد منهما، فلا إلحاق، ومتى وقع اللعان بعد الشراء، فهل يؤيد التحريم ؟ وجهان كما لو وقع بعد البينونة. وإن قلنا: لا يؤبده، فهي حلال له بملك اليمين، وإن قلنا: يؤبده، ففي حلها (له) بملك اليمين خلاف مبني على أنه لو لاعن زوجته الامة، ثم اشتراها، هل له وطؤها بملك اليمين ؟ فيه طريقان أحدهما: على وجهين كالمطلقة ثلاثا إذا اشتراها. والثاني: لا تحل قطعا لغلظ تحريمه.
الطرف الثالث : في سبب اللعان وهو القذف أو نفي الولد، فمتى نسبها إلى وطئ حرام من جانبها، أو جانب الزاني، فقد قذفها. وإن نسبها إلى زنا هي عليه مكرهة، أو جاهلة، أو نائمة، فلا حد لها، ويجب لها التعزير على الاصح لان فيه عارا وإيذاء، فإن كان ولد لاعن لنفيه، وإلا فيلاعن أيضا على المذهب. ولو عين الزاني فقال: زنا بك فلان وأنت مكرهة، أو قال: قهرك فلان فزنا بك، لزمه الحد لقذفه، وله إسقاطه باللعان، بخلاف ما لو قذف زوجته، وأجنبية بكلمة، فإنه لا يتمكن من إسقاط حد الاجنبية باللعان، لان فعلها ينفك عن فعل الاجنبية، ولا ينفك عن فعل الزاني بها. ولو قال لزوجته: وطئت بشبهة، ففي وجوب التعزير عليه لها الوجهان فيما لو نسبها إلى الزنا مكرهة، وإن لم يكن ولد، فله اللعان لنفي التعزير إن أوجبناه، وإلا فلا، وإن كان ولد، فطريقان. أحدهما: في جواز اللعان وجهان. أصحها: الجواز، إلا أنه إذا لم يلاعن، لحقه الولد ولم يلاعن للقذف. والطريق الثاني: وهو المذهب، وبه قال الاكثرون: أنه إن لم يعين الواطئ بالشبهة، أو عين فلم يصدقه، لحق الولد بالنكاح، وله نفيه باللعان، وإن صدقه(6/317)
وادعى الولد، عرض على القافة. فإن ألحقه بذلك المعين، لحقه ولا لعان، وإلا فيلحق الزوج، وليس له نفيه باللعان، لانه كان له طريق آخر ينتفي به، وهو أن يلحقه القافة بذلك المعين، وإنما ينفى باللعان من لا يمكن نفيه بطريق آخر، فإن لم يكن قائف، ترك حتى يبلغ الصبي فينتسب إلى أحدهما، فإن انتسب إلى ذلك المعين، انقطع نسبه عن الزوج بلا لعان، وإن انتسب إلى الزوج، فله نفيه باللعان، لانه لا يمكن نفيه بغير اللعان، هكذا ذكره البغوي وغيره. ولو قال: زنيت بفلان وهو غير زان، بل ظنك زوجته، فهو قاذف لها، فله إسقاط الحد باللعان، والولد المنسوب إلى ذلك الواطئ منسوب إلى وطئ شبهة، فإن صدقه فلان، عرض على القائف كما ذكرناه، ولو اقتصر على قوله: ليس هذا الولد مني، فعن صاحب التقريب حكاية تردد في جواز اللعان، وقطع الجمهور بأنه لا يلتفت إلى ذلك، ويلحق الولد بالفراش، إلا أن يسند النفي إلى سبب معين ويلاعن. فرع لا يشترط لجواز اللعان أن يقول عن القذف: رأيتها تزني، بل لو قال: زنيت أو يا زانية، أو قال وهي غائبة: فلانة زانية، جاز اللعان، ولا يشترط أيضا أن يدعي استبراءها بعد الوطئ. قال الاصحاب: ولو أقر بوطئها في الطهر الذي قذفها بالزنا فيه، جاز له أن يلاعن وينفي النسب، قال في البسيط: ولعل هذا في الحكم الظاهر، فأما بينه وبين الله تعالى، فلا يحل له النفي مع تعارض الاحتمال، ويجوز أن يعول الزوج فيه على أمر يختص بمعرفته كعزل أو قرينة حال.
فصل إذا قذف زوجته برجل معين، فسيأتي الكلام في أنه يلزمه حد أم حدان إن شاء الله تعالى، فإن ذكر الرجل في لعانه، بأن قال: أشهد بالله اني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا بفلان، سقط حقه، كما سقط حقها، سواء أوجبنا حدا أم حدين، حتى لو قذفها بجماعة وذكرهم، سقط حق الجميع، وإن لم يذكر الرجل في لعانه، لم يسقط حقه على الاظهر، فعلى هذا إن أراد إسقاطه، فطريقه أن يعيد اللعان ويذكره، ولو امتنع الزوج من اللعان ولا بينة، فحد بطلبها ثم جاء الرجل يطلب الحد، فإن قلنا: الواجب حد واحد، فقد استوفى، وإن قلنا: حدان استوفي منه حد آخر، وله إسقاطه باللعان، ولو ابتدأ رجل بطلب حقه، فهل له أن يلاعن ؟ له وجهان وقد يبنيان على خلاف في أن حقه يثبت أصلا، أم تابعا لحقها ؟(6/318)
وإن عفا الرجل عن حقه، أو عفت هي، فللآخر منهما المطالبة، سواء قلنا: الواجب حد أم حدان، وله إسقاطه باللعان. وعن ابن القطان: إذا قلنا: حقه تابع، فلا حد ولا لعان، والصحيح الاول، وبمثله أجاب ابن الصباغ، فيما لو لم يذكر الرجل في لعانها، وقلنا: لا يسقط حقه فطالب بحقه، وامتنع الزوج عن إعادة اللعان، فلا يجد سواء قلنا: يجب لهما حد أم حدان، لان الحد لا يتبعض، ولا يجب باللعان حد الزنا على الرجل المرمي به بحال. وإذا لاعن لاسقاط حد المرمي به، قال البغوي: قيل: يتأبد التحريم، ويحتمل خلافه. فرع قذف إمرأته عند الحاكم بزيد، أو قذف أجنبي أجنبيا والمقذوف غائب ففيه ثلاث طرق. أحدها: يستحب للحاكم أن يبعث إلى المقذوف فيخبره بالحال، ليطالب بحقه إن شاء، وبهذا قال الشيخ أبو حامد. والطريق الثاني وبه قال الاكثرون: يجب ذلك على الحاكم. والثالث: نقل أبو الفرج السرخسي، أن الشافعي رحمه الله نص على أنه يجب ذلك على الحاكم، ونص أنه لو أقر عنده رجل بدين لزيد، لا يجب عليه إعلامه. وأن للاصحاب في النصين: ثلاث طرق. أحدها: تنزيل النصين على حالين إن كان من له الحق حاضرا عالما بالحال، فلا حاجة إلى إخباره في النوعين، وإن كان غائبا أو غافلا عما جرى، وجب إعلامه لئلا يضيع حقه. والثاني: تقرير النصين على ظاهرهما، لان الامام يتعلق به استيفاء الحد بخلاف المال. والثالث: جعلهما على قولين بالنفل والتخريج، وكيفما كان، فالمذهب وجوب إخبار المقذوف. وأما قوله في مختصر المزني: وليس للامام إذا رمي رجل بزنى أن يبعث إليه يسأله عن ذلك، فمتأول. قيل: المراد: لا يسأله، هل زنيت ؟ وقيل: المراد: إذا لم يكن الرامي أو المرمي معينا، بأن قال رجل عند الحاكم: الناس يقولون: زنا فلان، أو قال: زنا في هذه المحلة رجل، أو رمى بحجر، فقال: من رماني به فهو زان، وهو لا يدري من رماه به. قال ابن سلمة: المراد: إذا رماه تعريضا لا تصريحا، وعن ابن سريج، المراد: إذا قذف زوجته بمعين ولاعن، فلا حاجة إلى إعلامه سواء ذكره في اللعان، أم لا، وقلنا: يسقط حده له، أو لا(6/319)
يسقط، وقال أبو إسحق: لا يخبره وإن لم يلاعن، لان الزوجة ستطالب، ومطالبتها تكفي عن مطالبته، بخلاف ما لو قذف أجنبيا.
فصل إذا قذف جماعة، فهم ضربان. أحدهما: أن يتمحضوا أجانب أو زوجات، والثاني: أن يكونوا من الصيفين، الاول: المتمحضون، فإما أن يقذفهم بكلمات، وإما بكلمة، فهما حالان. الاول: أن يقذف كل واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حد، وإن كن زوجات، أفرد كل واحد بلعان، ويكون اللعان على ترتيب قذفهن، فلو لاعن عنهن لعانا واحدا، لم يكف عن الجميع، لكن، إن سماهن، حسب عن التي سماها أولا، وإن أشار إليهن فقط، لم يعتد به عن واحدة منهن. الحال الثاني: أن يقذفهم بكلمة، كقوله: زنيتم، أو أنتم زناة، فقولان. الجديد: أن لكل واحد حدا، والقديم: لا يجب إلا حد واحد، فعلى هذا، إن حضر واحد وطلب الحد، حد له، وسقط حق الباقين. ولو قال: يا ابن الزانيين، فهو قذف لابوي المخاطب بكلمة، ففيه القولان، وإن قال لنسوته الاربع: زنيتن، فالحد على القولين، فإن أراد اللعان، فإن قلنا: يتعدد الحد، تعدد اللعان، وإن قلنا: يتحد الحد، ففي اللعان وجهان، أصحهما: يتعدد، لان اللعان يمين، والايمان المتعلقة بحقوق جماعة لا تتداخل. والثاني: يكفي لعان يجمعهن فيه، بالاسم أو بالاشارة إن اكتفينا بها، وإذا قلنا بالتعدد، فرضين بلعان واحد، لم ينفع كما لو رضي المدعون بيمين واحدة، ثم يلاعن عنهن على الترتيب الذي يتفقن عليه، فإن تنازعن في الابتداء، أقرع بينهن، فإن قدم الحاكم واحدة، قال الشافعي رضي الله عنه: رجوت أن لا يأثم. ونقل القاضي أبو الطيب أن ذلك فيما إذا لم يقصد تفضيل بعضهن ويجنب الميل، وإن قلنا بالاتحاد، فذلك إذا توافقن على الطلب، أو لم نشترط طلبهن، أما إذا شرطناه وانفرد بعضهن بالطلب، فلاعن، ثم طلب الباقيات، احتاج إلى اللعان، وحصل التعدد. وإذا لاعن عنهن، لزمهن الحد، فمن لاعنت، سقط عنها الحد، ومن(6/320)
امتنعت حدت، وإذا امتنع من اللعان، كفاه حد واحد على قولنا بالاتحاد، وجميع ما ذكرناه هو فيمن قذف جماعة بكلمة ولم يقيد بزنا واحد. فإن قيد، بأن قال لزوجته أو أجنبية: زنيت بفلان، فطريقان. أصحهما: طرد القولين في تعدد الحد واتحاده. والثاني: القطع بالاتحاد لانه رماهما بفاحشة واحدة. الضرب الثاني: أن يكونوا من الصنفين، بأن قذف زوجته وأجنبية، نظر إن كان بكلمتين، فعليه حدان، فإن لاعن عن زوجته، سقط حدها، وبقي حد الاجنبية. ولو قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية، أو زنيت وزنت أمك، فعليه حدان لهما، فإن حضرتا معا وطلبتا الحدين، فثلاثة أوجه. أصحهما وهو المنصوص: يبدأ بحد الام، لان حقها أقوى، فإنه لا يسقط باللعان. والثاني: يبدأ بالبنت لسبقها. والثالث: يقرع. ولو قال لاجنبية: يا زانية بنت الزانية، قدمت البنت على الاصح. وقيل: يقرع. ولو قال لام زوجته: يا زانية أم الزانية، قدمت الام على الاصح. وقيل: يقرع. ولو قذف زوجته وأجنبية بكلمة، كقوله: زنيتما، أو أنتما زانيتان، ولم يلاعن للزوجة، ففي تعدد الحد واتحاده طريقان. أصحهما: فيه القولان السابقان. والثاني: القطع بالتعدد لاختلافهما في الحكم، فإن حد الزوجة يسقط باللعان دون الآخر، فإن قلنا بالاتحاد، فجاءت الاجنبية مطالبة، فحد لها، سقط الحد واللعان في الزوجة، إلا أن يكون ولد يريد نفيه. وإن لاعن للزوجة، حد للاجنبية، وإن عفت إحداهما، حد للاخرى إذا طلبت بلا خلاف، ذكره البغوي وغيره. وحكي وجه شاذ، أن قوله: يا زانية بنت الزانية، كقوله: أنتما زانيتان، ومتى وجد حدان لواحد أو جماعة وأقيم أحدهما، أمهل إلى أن يبرأ جلده، ثم يقام الثاني.
فصل ادعت أن زوجها قذفها، فله في الجواب أحوال. أحدها: أن تسكت فيقيم عليه بينة، فله أن يلاعن ويقول في لعانه: أشهد(6/321)
بالله إني لمن الصادقين فيما أثبتت علي من رميي إياها بالزنا. الحال الثاني: أن يقول في الجواب: لا يلزمني الحد، فيقيم عليه بالبينة، فله اللعان أيضا. الثالث: أن ينكر القذف، فيقيم عليه بينة، ثم يريد اللعان، فإن أول إنكاره، وقال: أردت أن ما رميتها به ليس بقذف باطل، بل هو صدق، أو أنشأ في الحال قذفا آخر، فله اللعان، لان من كرر القذف كفاه لعان واحد. وإن لم يذكر تأويلا ولا أنشأ، فله اللعان أيضا على الصحيح، وبه قال الاكثرون وهو ظاهر النص لاحتمال التأويل المذكور. الرابع: أن يقول: ما قذفتك وما زنيت، فإذا قامت بينة، حد ولا لعان، لانه شهد بعفتها، فكيف يحقق زناها بلعانه ؟ ! وليس له إقامة البينة على زناها والحالة هذه، لانه يكذب الشهود بقوله: وما زنيت. ولو أنشأ والحالة هذه قذفا، فعن القاضي حسين إطلاق القول بجواز اللعان. قال الامام والغزالي: هذا محمول على ما إذا مضى بعد الدعوى والجواب زمن يمكن تقدير الزنا فيه، وإلا فيؤاخذ بإقراره ببراءتها، ولا يمكن من اللعان. وإذا لاعن، ففي سقوط حد القذف الذي قامت به البينة وجهان، ومقتضى كلام الغزالي في الوجيز: القطع بسقوطه. فرع لو امتنع الزوج من اللعان فعرض الحد، أو استوفى منه بعض الجلدات، ثم بدا له أن يلاعن، مكن، وإذا لاعن، سقط عنه ما بقي من الحد كما لو بدا له أن يقيم فيه البينة، وكذا المرأة إذا امتنعت من اللعان ثم عادت إليه، مكنت منه، وسقط عنها ما بقي من الحد. ولو أقيم عليه الحد بتمامه ثم أراد اللعان، فالمذهب أنه إن كان ولد منه، لاعن لنفيه، وإلا فلا.(6/322)
فصل قال لزوجته: زنيت وأنت صغيرة، فقد أطلق الغزالي والبغوي، أن عليه التعزير، وله إسقاطه باللعان على الصحيح، وفصل الجمهور، فقالوا: يؤمر ببيان الصغر، فإن ذكر سنا لا يحتمل الوطئ كثلاث سنين أو أربع، فليس بقذف ويعزر للسب والايذاء، ولا لعان، كما سبق أن مثل هذا لا لعان فيه. وإن ذكر سنا يحتمله، كعشر سنين، فهو قذف، وعليه التعزير، وله إسقاطه باللعان. ولو قال: زنيت وأنت مجنونة، أو مشركة، أو أمة، فإن عرفت لها هذه الاحوال، أو ثبتت ببينة أو إقرار، فلا حد، وعليه التعزير، وله إسقاطه باللعان، وإن عرف ولادتها على الاسلام والحرية وسلامة عقلها، وجب الحد على الصحيح وقيل: التعزير، لانها إذا لم يكن لها تلك الحالة، كان قوله كذبا ومحالا، كقوله: زنيت وأنت رتقاء، وإن لم يعلن حالها واختلفا، فأيهما يصدق بيمينه، قولان. أظهرهما: هي، فإن نكلت، حلف، ووجب التعزير. والثاني: هو، فإن نكل، حلفت وحد، ويجئ القولان فيما لو قال الزوج: أنت أمة في الحال، فقالت: بل حرة، ولا يجيئان فيما لو قال: أنت كافرة في الحال، فقالت: بل مسلمة، لانها إذا قالت: أنا مسلمة حكم بإسلامها. ولو قالت: أردت بقولك لي: زنيت وأنت صغيرة قذفي في الحال، ووصفي بالصغر في الحال، ولم ترد القذف بزنا في الصغر، أو قال: زنيت وأنت مجنونة أو كافرة، فأقرت بتلك الحال، وقالت: أردت القذف في الحال، فعن الشيخ أبي حامد، أن القول قولها، واستبعده ابن الصباغ وغيره. ولو أطلق النسبة إلى الزنا، ثم قال: أردت في الصغر أو الجنون، أو الكفر، أو الرق، لم يقبل منه على المذهب، وبه قطع الجمهور، سواء عهد لها ذلك الحال أم لا. فإن(6/323)
قال: هي تعلم أني أردت هذا، حلفت على نفي العلم، وحد لها. وقال السرخسي: إن عهد تلك الحال، قبل وعزر، وإلا فقولان.
الطرف الرابع : في كيفية اللعان وفيه فصول.
الأول : في كلمات اللعان وهي خمس: أن يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي من الزنا، ويسميها ويرفع في نسبها بحيث تتميز إن كانت غائبة عن المجلس. وفي تعليق الشيخ أبي حامد، أنه يرفع في نسبها بحيث تتميز عن سائر زوجاته إن كان في نكاحه غيرها، فقد يشعر هذا بالاستغناء بقوله: فيما رميت به زوجتي عن الاسم والنسب، إذا لم يكن تحته غيرها. فإن كانت المرأة حاضرة عنده أشار إليها، وهل يحتاج مع الاشارة إلى التسمية ؟ وجهان. أصحهما: لا، كسائر العقود والفسوخ. والثاني: نعم، لان اللعان مبني على الاحتياط والتغليظ، وقد يقال في هذا التوجيه: لا يكتفي في الحاضرة بالتسمية، ورفع النسب حتى تضم إليهما الاشارة، ثم يقول في الخامسة: إن علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، ويعرفها في الغيبة والحضور كما في الكلمات الاربع، وإن كان ولد ينفيه ذكره في الكلمات الخمس، فيقول: وإن الولد الذي ولدته، أو هذا الولد من الزنا وليس هو مني. وإن قال: هو من زنا واقتصر عليه، كفى على الاصح، ولو اقتصر على قوله: ليس مني، لم يكف على الصحيح لاحتمال إرادة عدم الشبه، ولو أغفل ذكر الولد في بعض الكلمات، احتاج إلى إعادة اللعان لنفيه، ولا تحتاج المرأة إلى إعادة لعانها على لعانها على المذهب. وحكى السرخسي تخريج قول فيه.(6/324)
وصفة لعان المرأة أن تقول أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتقول في الخامسة: علي غضب الله إن كان من الصادقين فيما رماني به، والقول في تعريفه غائبا وحاضرا، كما ذكرنا في جانبها، ولا تحتاج هي إلى ذكر الولد، لان لعانها لا يؤثر فيه. ولو تعرضت له، لم يضر، وفي جمع الجوامع للقاضي الروياني أن القفال حكى وجها ضعيفا أنها تذكره، فتقول: هذا الولد ولده ليستوي اللعانان. فرع لا يثبت شئ من أحكام اللعان إلا إذا تمت الكلمات الخمس، ولو حكم حاكم بالفرقة بأكثر كلمات اللعان، لم ينفذ حكمه، لان حكمه غير جائز بالاجماع، فلا ينفذ كسائر الاحكام الباطلة. فرع لو قال بدل كلمة الشهادة: أحلف بالله، أو أقسم، أو أؤلي بالله إني لمن الصادقين، أو قال: بالله إني لمن الصادقين من غير زيادة، أو أبدل لفظ اللعن بالابعاد، أو لفظ الغضب بالسخط، أو الغضب باللعن أو عكسه، لم يصح على الاصح في جميع ذلك. وقيل: لا يصح قطعا في إبدال الغضب باللعن، ولا في الاقتصار على: بالله إني لمن الصادقين. ويشترط تأخير لفظتي اللعن والغضب عن الكلمات الاربع على الاصح، ويشترط الموالاة بين الكلمات الخمس على الاصح، فيؤثر الفصل الطويل. فرع يشترط في لعان الرجل والمرأة أن يأمر الحاكم به، فيقول للملاعن: قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين... إلى آخرها. فرع يشترط كون لعانها بعد لعان الرجل. فرع إن لم يكن للاخرس إشارة مفهومة، ولا كتابة، لم يصح قذفه ولا لعانه، ولا سائر تصرفاته. وإن كان له إشارة مفهومة، أو كتابة، صح قذفه ولعانه،(6/325)
كالبيع والنكاح والطلاق وغيرها، ثم المفهوم من كلام الاكثرين، وفي الشامل وغيره، التصريح به أنه يصح لعانه بالاشارة وحدها، وبالكناية وحدها، وذكر المتولي، أنه إذا لاعن بالاشارة، أشار بكلمة الشهادة أربع مرات، ثم بكلمة اللعن، وإن لاعن بالكتابة، كتب كلمة الشهادة وكلمة اللعن، ويشير إلى كلمة الشهادة أربع مرات، ولا يكلف أن يكتب أربع مرات، وهذا الطريق الآخر جمع بين الاشارة والكتابة، وهو جائز، ولكن مقتضى التصحيح بالكتابة المجردة تكرير كتابة كلمة الشهادة. وأما قول الغزالي في الوجيز: عليه أن يكتب مع الاشارة أو يورد اللفظ عليه ناطق فيشير بالاجابة، فلم يقله أحد من الاصحاب، وإنما قال الامام: لو قال به قائل، لكان قريبا، وحكاه في البسيط عن بعض الاصحاب، ولا يعرف عن غيره. ولو لاعن الاخرس بالاشارة، ثم عاد نطقه وقال: لم أرد اللعان بإشارتي، قبل قوله فيما عليه، فيلحقه النسب والحد، ولا يقبل فيما له، فلا ترتفع الفرقة والتحريم المؤبد، وله أن يلاعن في الحال لاسقاط الحد، وله اللعان لنفي الولد إن لم يفت زمن النفي. ولو قال: لم أرد القذف أصلا، لم يقبل قوله، ولو قذف ناطق، ثم عجز عن الكلام لمرض أو غيره، فإن لم يرج زوال ما به، فهو كالاخرس، وإن رجي، فثلاثة أوجه. أحدها: لا ينتظر، بل يلاعن بالاشارة لحصول العجز، وربما مات فلحقه نسب باطل. والثاني: ينتظر وإن طالت مدته. وأصحهما: ينتظر ثلاثة أيام فقط. ونقل الامام أن الائمة صححوه. وعلى هذا، فالوجه أن يقال: إن كان يرجى زواله إلى ثلاثة أيام ينتظر، وإلا فلا ينتظر أصلا.(6/326)
فرع من لا يحسن العربية، يلاعن بلسانه، ويراعي ترجمة الشهادة واللعن والغضب، فإن أحسن العربية، فهل يتعين اللعان بها، أم له أن يلاعن بأي لسان شاء ؟ فيه وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا لاعن بغير العربية، فإن كان القاضي يحسن تلك اللغة، فلا حاجة إلى مترجم، ويستحب أن يحضره أربعة ممن يحسنها، وإن لم يحسنها، فلا بد من مترجمين، ويكفيان في جانب المرأة، فإنها تلاعن لنفي الزنا لا لاثباته. وفي جانب الرجل طريقان. أصحهما: القطع بالاكتفاء باثنين، وبه قال أبو إسحق وابن سلمة. والثاني: على قولين بناء على الاقرار بالزنا يثبت بشاهدين، أم يشترط أربعة ؟ والاظهر ثبوته بشاهدين.
الفصل الثاني : في التغليظات. فمنها: التغليظ بالزمان، بأن يكون بعد صلاة العصر، فإن لم يكن طلب أكيد، فليؤخر إلى عصر يوم الجمعة، ذكره القفال وغيره. ومنها: التغليظ بالمكان، بأن يلاعن في أشرف مواضع البلد، فإن كان بمكة فبين الركن الاسود والمقام. وقد يقال: بين البيت والمقام، وهما متقاربان، وقال القفال: في الحجر. وفي المدينة عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر. وقيل: لا يعتبر كونه عند المنبر، ويلاعن بين أهل الذمة في الموضع الذي يعظمونه، وهو الكنيسة لليهود، والبيعة للنصارى،(6/327)
وهل يأتي الحاكم بيت النار في لعان المجوس ؟ وجهان. أصحهما: نعم. وقال القفال: لا، بل يلاعن بينهما في المسجد، أو مجلس الحكم، ولا يأتي بيت الاصنام في لعان الوثنيين، لانه لا أصل له في الحرمة، واعتقادهم غير معتبر، بخلاف المجوس، بل يلاعن بينهم في مجلس الحكم. وصورته أن يدخلوا دارنا بأمان أو هدنة، وإذا كان الزوج مسلما وهي ذمية، لاعن هو في المسجد، وهي في الموضع الذي تعظمه. فإن قالت: ألاعن في المسجد، ورضي به الزوج، جاز، وكذا يجوز أن يتلاعن الذميان في المسجد إلا المسجد الحرام. ومنها التغليظ بحضور جماعة من أعيان البلد وصلحائه، فإن ذلك أعظم، وأقلهم أربعة. ومنها التغليظ باللفظ، وسيأتي بيانه في الدعوى والبينات إن شاء الله تعالى. ثم في وجوب التغليظ في هذه الامور واستحبابه، طرق، والمذهب الاستحباب في الجميع. فرع من لا ينتحل دينا، كالدهري، والزنديق، هل يغلظ عليه بهذه الامور ؟ وجهان. أصحهما: لا، وبه قال الاكثرون، وهو المنصوص، ويلاعن في مجلس الحكم، لانه لا يعظم بقعة ولا زمانا، فلا ينزجر. ويستحسن أن يقال له في التحليف: قل بالله الذي خلقك ورزقك، لانه وإن غلا في كفره، فيجد نفسه مذعنة لخالق ومدبر. فرع الحائض تلاعن بباب المسجد، ويخرج الحاكم إليها أو يبعث نائبا. والمشرك والمشركة يمكنان من اللعان في المسجد مع الحيض والجنابة على(6/328)
الاصح. فرع اللعان يحتاج فيه إلى حضور الحاكم، فلو حكم الزوجان فيه رجلا، فإن قلنا: لا يجوز التحكيم في المال، لم يجز في اللعان، وإلا فوجهان. وقطع المتولي بأنه لا يصح التحكيم إذا كان هناك ولد، إلا أن يكون بالغا ويرضى بحكمه. قال: ولو قذف العبد زوجته، وطلبت الحد، ففي تولي السيد اللعان خلاف بناء على إقامته الحد على عبده وسماع البينة إن جوزناها تولى اللعان، وزوج الامة إذا قذفها ولاعن، هل يتولى سيدها لعانها ؟ فيه هذا الخلاف.(6/329)
الفصل الثالث : في السنن. منها: أن يخوفهما القاضي بالله تعالى، ويعظهما ويقول: عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، ويقرأ عليهما: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية. ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب ؟. وإذا فرغ من الكلمات الاربع، بالغ في تخويفه وتحذيره، وأمر رجلا أن يضع يده على فيه لعله ينزجر، وتضع إمرأة يدها على فم المرأة إذا بلغت كلمة الغضب، فإن أبيا إلا المضي، لقنهما الخامسة. ومنها: أن يتلاعنا من قيام، ومنها: إذا كان بالمدينة، فقد ذكرنا أنه يلاعن عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا لفظ الشافعي في المختصر وقال في موضع: يلاعن على المنبر، وللاصحاب في صعود الملاعن المنبر أوجه. أصحها: يصعد، والثاني: لا، والثالث: إن كثر القوم، صعده ليروه، وإلا فعنده. وطرد المتولي الخلاف في صعود المنبر في غير المدينة.
الطرف الخامس : في أحكام اللعان. قد سبق أكثرها في ضمن ما تقدم. واعلم أن الزوج لا يجبر على اللعان بعد القذف، بل له الامتناع، وعليه حد القذف كالاجنبي، وكذا المرأة لا تجبر على اللعان بعد لعانه، ويتعلق بلعان الزوج خمسة أحكام. أحدها: حصول الفرقة ظاهرا وباطنا، سواء صدقت أم صدق. وقيل: إن صدقت لم تحصل باطنا، والصحيح الاول، وهي فرقة فسخ. الثاني: تأبد التحريم. الثالث: سقوط حد القذف عنه. الرابع: وجوب الزنا عليها. الخامس: انتفاء النسب إذا نفاه باللعان. قلت: وقد سبقت أحكام أخر في أول الباب. والله أعلم. ثم هذه الاحكام تتعلق بمجرد لعان الزوج، ولا يتوقف شئ منها على لعانها، ولا قضاء القاضي، ولا يتعلق من هذه الاحكام بإقامة البينة على زناها إلا دفع حد(6/330)
القذف عنه، وثبوت حد الزنا عليها، ولا يتعلق بلعان المرأة إلا سقوط حد الزنا عنها. ولو أقام بينة بزناها، لم تلاعن لدفع الحد، لان اللعان حجة ضعيفة، فلا تقاوم البينة.
فصل في نفي الولد فيه مسائل. إحداها: إنما تحتاج إلى نفي الولد إذا لحقه، وذلك عند الامكان، فإن لم يمكن كونه منه، انتفى بلا لعان، ولعدم الامكان صور. منها: أن تلد لستة أشهر أو أقل من وقت العقد. ومنها: أن تطول المسافة كالمشرقي مع المغربية، وقد سبق بيانه مع صور أخرى، ووراءها صورتان. إحداها: أول زمان إمكان إحبال الصبي، هل هو نصف السنة التاسعة، أم كمالها، أم نصف العاشرة، أم كمالها ؟ فيه أربعة أوجه. أصحها: الثاني. فإذا ولدت زوجته لستة أشهر وساعة تسع الوطئ بعد زمن الامكان، لحقه الولد، وإلا فينتفي بلا لعان، وإذا حكمنا بثبوت النسب بالامكان، لم نحكم بالبلوغ بذلك، لان النسب ثبت بالاحتمال، بخلاف البلوغ، لكن لو قال: أنا بالغ بالاحتلام، فله اللعان. ولو قال: أنا صبي، لم يصح. فإن قال بعد ذلك: أنا بالغ، قبل قوله، ويمكن من اللعان. وفي وجه: لا يقبل قوله: أنا بالغ بعد قوله: أنا صبي، للتهمة. الصورة الثانية: من لم يسلم ذكره وأنثياه، له أحوال. أحدها: أن يكون ممسوحا فاقد الذكر والانثيين، فينتفي عنه الولد بلا لعان، لانه لا ينزل، وفي قول: يلحقه. وحكي هذا عن الاصطخري، والقاضي حسين، والصيدلاني. والصحيح المشهور الاول. الثاني: أن يكون باقي الانثيين دون الذكر، فيلحقه قطعا. الثالث: عكسه، فيلحقه أيضا على الاصح. وقيل: لا، وقيل: إن قال أهل الخبرة: لا يولد له، لم يلحقه، وإلا فيلحقه. ومتى بقي قدر الحشفة من الذكر، فهو كالذكر السليم. المسألة الثانية: ذكرنا فيما لو أبان زوجته ثم قذفها وهناك حمل وأراد اللعان(6/331)
لنفيه، أنه يجوز على الاظهر، وأنه قيل: لا يجوز قطعا. فلو لاعن لنفي الحمل في صلب النكاح، جاز على المذهب. وقيل: على القولين، ولو استلحق الحمل، لحقه ولم يكن له نفيه بعد ذلك. الثالثة: ولدت زوجته توأمين، فنفى أحدهما، أو نفاهما، ثم استلحق أحدهما، لحقه الولدان. ولو أتت بولد، فنفاه بعد الولادة باللعان، ثم ولدت آخر، فقد يكون بينهما دون ستة أشهر، وقد يكون ستة فأكثر. فإن كان دونها، فهما حمل واحد، فإن نفى الثاني بلعان آخر، انتفى أيضا، والاصح أنه لا يحتاج في اللعان الثاني إلى ذكر الولد الاول، وأن المرأة لا تحتاج إلى إعادة لعانها، وإن لم تنف الثاني، بل استلحقه أو سكت عن نفيه مع إمكانه، لحقاه جميعا. فإن استلحقه، لزمه لها حد القذف، كما لو كذب نفسه. وإن سكت فلحقه، لم يلزمه الحد، لانه لم يناقض قوله الاول، واللحوق حكم الشرع. ولو قذفها ثم لاعن في البينونة، وأتت بولد آخر قبل ستة أشهر، فسواء استلحق الثاني صريحا أو سكت عن نفيه فلحقاه، لزمه الحد. والفرق أن اللعان بعد البينونة لا يكون إلا لنفي النسب. فإذا لحق النسب، لم يبق للعان حكم فحد. وفي صلب النكاح له أحكام. فإذا لحق النسب، لا يرتفع فلم يحد. فأما إذا كان بينهما ستة أشهر فصاعدا، فالثاني حمل آخر. فإن نفاه باللعان، انتفى أيضا. وإن استلحقه، أو سكت عن نفيه، لحقه، ولا يمنع من ذلك كونها بانت باللعان، لاحتمال أنه وطئها بعد وضع الاول فعلقت قبل اللعان، فتكون حاملا حال البينونة، فتصير كالمطلقة ثلاثا. إذا ولد ت لدون أربع سنين من وقت الطلاق، ثبت نسبه للمطلق، لاحتمال كونها حاملا وقت الطلاق، ولا يلزم من لحوق الثاني لحوق الاول، لانهما حملان، فلا يلحقه الاول، وهذا الذي ذكرناه من لحوق الثاني إذا لم ينفه، هو الصواب، وبه قطع الاصحاب. وقال في المهذب: ينتفي الثاني بلا لعان لحدوثه بعد الفراش، وهذا ليس وجها، بل الظاهر أنه سهو وتوجيهه ممنوع. وجميع ما ذكرناه إذا لاعن عن الولد المنفصل ثم أتت بآخر، فلو لاعن عن حمل في نكاح أو بعد البينونة إذا جوزناه، فولدت ولدا، ثم ولدت آخر، فإن لم يكن بينهما(6/332)
ستة أشهر، فالثاني منفي أيضا، لانه لاعن عن الحمل، والحمل إسم لجميع ما في البطن. وإن كان بينهما ستة أشهر فصاعدا، فالاول منفي باللعان، وينتفي الثاني بلا لعان، لان النكاح ارتفع باللعان، وانقضت العدة بوضع الاول، وتحققنا براءة الرحم قطعا. قال الشيخ أبو حامد: وكذا الحكم لو طلقها أو مات عنها فانقضت عدتها بوضع الحمل، ثم ولدت لستة أشهر من وقت الوضع، لا يلحقه الولد الثاني. قال ابن الصباغ: ولا ينظر إلى احتمال حدوثه من وطئه بشبهة، لان ذلك لا يكفي للحوق، لانه بعد البينونة كسائر الاجانب، فلا بد من اعترافه بوطئ الشبهة وادعائه الولد. وعن القفال، أنه إذا لم يلاعن لنفي الولد الثاني يلحقه كما قلنا في الولد المنفصل. قال الروياني: هذا غلط لم يذكره غيره. المسألة الرابعة: كما يجوز نفي الولد في حياته يجوز بعد موته، سواء خلف الولد ولدا، بأن كان الزوج غائبا فكبر المولود وتزوج وولد له أو لم يخلفه. ولو مات أحد التوأمين قبل اللعان، فله أن يلاعن وينفي الحي والميت جميعا. ولو نفى ولدا باللعان، ثم مات الولد فاستلحقه بعد موته، لحقه وورث ماله وديته إن قتل، سواء خلف ولدا أم لا احتياطا للنسب. ولو نفاه بعد الموت ثم استلحقه، لحقه على الاصح احتياطا للنسب، وثبت الارث، فإن قسمت تركته، نقصت القسمة. الخامسة: إذا أتت زوجته بولد، فأقر بنسبه، لم يكن له نفيه بعد ذلك، وإن لم يقر بنسبه وأراد نفيه، فهل يكون نفيه على الفور، أم يتمادى ثلاثة أيام، أم أبدا، ولا يسقط إلا بالاسقاط ؟ فيه ثلاثة أقوال. أظهرها: الاول وهو الجديد، وقال الشافعي رحمه الله في بعض كتبه: له نفيه بعد يوم أو يومين فعن ابن سلمة، أن التقدير بيومين قول آخر، ولم يجعله سائر الاصحاب قولا آخر، بل قالوا: المراد: أو ثلاثا، فإن قلنا بالفور فأخر بلا عذر، لحقه وسقط حقه من النفي، وإن كان معذورا بأن لم يجد القاضي لغيبة، أو تعذر الوصول إليه، أو بلغه الخبر في الليل فأخر حتى يصبح، أو حضرته الصلاة فقدمها، أو كان جائعا، أو عاريا فأكل أو(6/333)
لبس أولا، أو كان محبوسا، أو مريضا، أو ممرضا، لم يبطل حقه، لكن إن أمكنه الاشهاد فلم يشهد أنه على النفي، بطل حقه، وذكر ابن الصباغ وغيره، أن المريض إذا قدر أن يبعث إلى الحاكم ليرسل إليه نائبا يلاعن عنده فلم يفعل، بطل حقه، وإن لم يقدر، فيشهد حينئذ، وليطرد هذا في المحبوس ومن يطول عذره. قال الشيخ أبو حامد وجماعة: المريض والممرض ومن يلازمه غريمه لخوف ضياع ماله، يبعث إلى الحاكم ويعلمه أنه على النفي، فإن لم يقدر، أشهد، ويمكن أن يجمع بينهما فيقال: يبعث إلى القاضي، ويطلعه على ما هو عليه ليبعث إليه نائبا، أو ليكون عالما بالحال إن أخر بعث النائب، وأما الغائب، فإن كان في موضعه قاض، ونفى الولد عنده، فكذلك، وإن أراد تأخيره حتى يرجع، ففي أمالي السرخسي المنع منه. وفي التهذيب والتتمة جوازه. فعلى هذا، إن لم يمكنه السير في الحال لخوف الطريق أو غيره فليشهد. وإن أمكنه، فليسر وليشهد، فإن أخر السير، بطل حقه أشهد أم لا، وإن أخذ في السير ولم يشهد، بطل حقه أيضا على الاصح. وإن لم يكن هناك قاض، فالحكم كما لو كان وأراد التأخير إلى بلده وجوزناه. فرع إذا قلنا: النفي على الفور، فله تأخير نفي الحمل إلى الوضع لاحتمال كونه ريحا، فإن أخر ووضعت وقال: أخرت لاتحقق الحمل، فله النفي، وإن قال: علمته ولدا ولكن رجوت أن يموت، فأكفى اللعان، بطل حقه على الاصح المنصوص في المختصر لتفريطه مع علمه. فرع أخر النفي وقال: لم أعلم الولادة، فإن كان غائبا، صدق بيمينه. قال في الشامل: إلا أن يستفيض وينتشر، وإن كان حاضرا، صدق في المدة(6/334)
التي يحتمل جهله به، ولا يقبل في التي يحتمل، ويختلف ذلك بكونهما في محلة أو محلتين، أو دار أو دارين، أو بيت أو بيتين. ولو قال: أخبرت بالولادة ولم أصدق المخبر، نظر، إن أخبره صبي أو فاسق، صدق بيمينه، وإن أخبره عدلان، فلا. وكذا إن أخبره عدل أو إمرأة أو رقيق على الاصح، لان روايته مقبولة، ولو قال: علمت الولادة، ولم أعلم أن لي النفي، فإن كان فقيها، لم يقبل قوله، وإن كان حديث عهد بالاسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، قبل، وإن كان من العوام الناشئين في بلاد الاسلام، فوجهان كنظيره في خيار المعتقة. فرع إذا هنئ بالولد، فقيل له: متعك الله بولدك، أو جعله له ولدا صالحا ونحوه، فأجاب بما يتضمن الاقرار والاستلحاق، كقوله: آمين، أو نعم، أو استجاب الله منك، فليس له النفي بعده، وإن أجاب بما لا يتضمن الاقرار، كقوله: جزاك الله خيرا، أو بارك الله عليك، أو أسمعك خيرا أو زودك مثله، لم يبطل حقه من النفي. فصل في مسائل منثورة من اللعان إحداها: قال الزوج: قذفتك بعد النكاح، فلي اللعان، فقالت: قبله، فلا لعان، فهو المصدق بيمينه، ولو اختلفا بعد حصول الفرقة، فقال: قذفتك في زمن النكاح، وقالت: بعده، فهو المصدق أيضا، ولو قال: قذفتك وأنت زوجتي، فقالت: ما تزوجتك قط فهي المصدقة بيمينها. الثانية: قال لزوجته أو أجنبية: قذفتك وأنت أمة أو مشركة أو مجنونة فقالت: بل وأنا حرة مسلمة عاقلة. فإن علم لها حال رق أو كفر أو جنون، صدق بيمينه،(6/335)
وليس عليه إلا التعزير. وإن لم يعلم ذلك، فأيهما يصدق ؟ قولان. أظهرهما: المرأة. ولو قال: وأنت صغيرة، فهو المصدق بيمينه. ولو قال لمن قذفه من زوجته أو أجنبي: قذفتك وأنا مجنون، فهل يصدق القاذف بيمينه، أم المقذوف، أم يفرق ؟ فإن عهد له جنون، صدق القاذف، وإلا، فالمقذوف فيه ثلاثة أقوال. أظهرها: الفرق. ولو قال: قذفتك وأنا صبي، فهو كالمجنون المعهود، ولو قال: جرى القذف على لساني وأنا نائم، لم يقبل لبعده. ولو أقام القاذف بينة أن القذف كان في الصغر أو الجنون، وأقام المقذوف بينة أنه كان في حال الكمال، فإن كانت البينتان مطلقتين، أو مختلفي التاريخ، أو إحداهما مطلقة، والاخرى مؤرخة، فهما قذفان، وعليه الحد لما وقع في حالة الكمال. وإن اتحد تاريخهما، تعارضتا. وفي التعارض أقوال معروفة. قال الامام: ولا يجئ هنا القسمة ولا الوقف، وحكي عن القاضي حسين قول القرعة، واستبعده وقال: الوجه القطع بالتهاتر، فيكون كما لو تكن بينة، وبهذا قطع البغوي. وحيث صدقنا القاذف بيمينه، فلو نكل وحلف المقذوف، وجب الحد على القاذف، ويجوز اللعان في الزوجة. الثالثة: إذا صدقته في القذف، واعترفت بالزنا بعد لعان الزوج، تأكد لعانه، فإن كانت لاعنت، فعليها حد الزنا لاعترافها، إلا أن يرجع عن الاقرار، وإن صدقته قبل لعانه، أو في أثنائه، سقط عنه الحد، ووجب عليها حد الزنا، والصحيح أنه لا يلاعن بعد ذلك، ولا تتم اللعان إن صدقته في أثنائه إلا أن يكون ولد فينفيه. الرابعة: إذا مات أحد الزوجين قبل أن يتم لعان الزوج، ورثه الآخر، ثم إن كان الميت الزوج، استقر نسب الولد، وليس للوارث نفيه، وإن ماتت هي، جاز له إتمام اللعان إن كان هناك ولد، فإن لم يكن، نظر، إن لم يكن لها وارث غير الزوج، بأن كان ابن عمها أو معتقها، ورث الحد وسقط، وكذا لو لم يرثها إلا الزوج وأولاده منها، لان الولد لا يجوز أن يستوفي حد القذف من أبيه، وإذا سقط الحد ولم يكن هناك ولد، فقد سبق أنه لا يجوز اللعان لسائر الاغراض، فلو كان يرثها غير الزوج وأولاده، فما ورثه الزوج وأولاده يسقط، ويجئ الخلاف فيما إذا سقط بعض الحد بعفو بعض الورثة، إن قلنا: يسقط الجميع، فكذلك يسقط الكل هنا،(6/336)
ويمتنع اللعان. وإن قلنا: للباقين المطالبة بجميع الحد أو بقسطهم وطلبوا، فله اللعان للدفع، وفي جواز اللعان قبل المطالبة الخلاف السابق. الخامسة: عبد قذف زوجته، ثم عتق وطالبته، فله اللعان. فإن نكل حد حد العبيد، لانه وجب في الرق، وكذا لو زنا في الرق ثم عتق، حد حد العبيد. ولو قذف الذمي أو زنا، ثم نقض العهد فسبي واسترق، حد حد الاحرار، ولو كانت الزوجة أمة فنكل عن اللعان، فعليه التعزير. وإن لاعن حدت حد الاماء وإن عتقت بعد القذف. وإن قذف مسلم زوجته الذمية أو الصغيرة أو المجنونة، ثم طلبت الذمية، أو طلبتا بعد البلوغ والافاقة، فإن نكل، فعليه التعزير، وإن لاعن ونكلت الذمية، فعليها حد الزنا، وإن نكل الاخريان، فلا شئ عليهما. السادسة: في التتمة أن الملاعن لو قبل من نفاه، وقلنا: يلزمه القصاص فاستلحقه، حكم بثبوت النسب وسقوط القصاص. وأن الذمي لو نفى ولدا ثم أسلم، لم يتبعه المنفي في الاسلام. ولو مات وقسم ميراثه بين أقاربه الكفار، ثم استلحقه الذمي الذي أسلم، ثبت نسبه وإسلامه، واسترد المال وصرف إليه، وأن المنفي باللعان إذا كان قد ولد على فراش صحيح، لو استلحقه غيره، لم يصح، كما لو استلحقه قبل أن ينفيه صاحب الفراش، لانه وإن نفاه، فحق الاستلحاق باق له، فلا يجوز تفويته، ولو كان يلحقه نسبه بشبهة أو نكاح فاسد، فنفاه فاستلحقه غيره، لحقه، لانه لو نازعه فيه قبل النفي، سمعت دعواه. السابعة: فيما جمع من فتاوى القفال وغيره، أن سقوط حد القذف عن القاذف وعدم حد الزنا على المقذوف لا يجتمعان إلا في مسألتين. إحداهما: إذا أقام القاذف بينة على زنا المقذوفة، وأقامت بينة على أنها عذراء. الثانية: إذا أقام شاهدين على إقرار المقذوف بالزنا، وقلنا الاقرار: بالزنا لا يثبت بشاهدين، فإنه يسقط حد القذف على الاصح. ومراده ما سوى صورة(6/337)
التلاعن، فإن الزوجين إذا تلاعنا، اندفع الحدان. وهنا صورة رابعة يسقط فيها الحدان، وهي إذا أقام القاذف بينة بإقرار المقذوف بالزنا، ثم رجع المقذوف عن الاقرار، سقط عنه حد الزنا، ولا يقبل رجوعه في حق القاذف، فلا يلزمه حد القذف.(6/338)
قلت: مراد القفال: لا يسقط حد القذف مع أنه لا يحكم بوجوب حد الزنا (ولا يقبل رجوعه) إلا في المسألتين الاوليين، فلا يرد عليه الاخريان، لانه وجب فيهما حد الزنا، ثم سقط بلعانها أو بالرجوع. ولهذا قال: وعدم حد الزنا عن المقذوف، ولم يقل: وسقوط حد الزنا، كما قال: سقوط حد القذف. فالحاصل أنه لا يسقط حد القذف ويمتنع وجوب حد الزنا، إلا في المسألتين الاوليين، ولا يسقط حد القذف وحد الزنا إلا في أربع مسائل. والمراد: السقوط بحكم الشرع، لا بعفو ونحوه. والله أعلم.(6/339)
كتاب العدد
فيه أبواب.
الأول : في عدة الطلاق وسائر أنواع الفرقة الواقعة في الحياة. والثاني: في تداخل العدتين وعدمه. والثالث: في عدة الوفاة. والرابع: في السكنى. والخامس: في الاستبراء.
الأول : في عدة الطلاق وما في معناه من اللعان، وسائر الفسوخ، ووطئ الشبهة، وإنما تجب هذه العدة إذا فارقها بعد الدخول، فإن فارق قبله، فلا عدة. واستدخال المرأة مني الرجل، يقام مقام الوطئ في وجوب العدة، وثبوت النسب، وكذا استدخال ماء من تظنه زوجها يقوم مقام وطئ الشبهة، ولا اعتبار(6/340)
بقول الاطباء أن المني إذ ضربه الهواء، لم ينعقد منه الولد، لانه قول بالظن، لا ينافي الامكان. وفي التتمة وجه أن استدخال المني لا يوجب عدة، لعدم صورة الوطئ، وهو شاذ ضعيف، ولا تقام الخلوة مقام الوطئ على الجديد، كما سبق في كتاب الصداق ولو وطئ الخصي زوجته ثم طلق، وجبت العدة والخصي: من قطعت أنثياه وبقي ذكره. وأما من قطع ذكره وبقي أنثياه، فلا عدة على زوجته بالطلاق إن كانت حائلا، فإن ظهر بهما حمل، فقد ذكرنا في اللعان، أنه يلحقه الولد فعليها العدة بوضع الحمل. وأما الممسوح الذي لم يبق له شئ أصلا، فلا يتصور منه دخول. ولو ولدت زوجته، لم يلحقه على المذهب، ولا تجب عدة الطلاق ووطئ الصبي، وإن كان في سن لا يولد له، يوجب عدة الطلاق، لان الوطئ شاغل في الجملة. ولذلك لو علق الطلاق على براءة الرحم يقينا وحصلت الصفة، طلقت ووجبت العدة إذا كانت مدخولا بها.
فصل عدة الطلاق ونحوه ثلاثة أنواع: الاقراء، والاشهر، والحمل، ولا مدخل للاقراء في عدة الوفاة، ويدخل النوعان الاخريان. النوع الاول: الاقراء، وواحدها قرء بفتح القاف، ويقال بضمها، وزعم بعضهم، أنه بالفتح الطهر، وبالضم الحيض. والصحيح أنهما يقعان على الحيض والطهر لغة، ثم فيه وجهان للاصحاب. أحدهما: أنه حقيقة في الطهر، مجاز في الحيض. وأصحهما: أنه حقيقة فيهما، هذا أصله في اللغة، والمراد بالاقراء في العدة: الاطهار. وفي المراد بالطهر هنا، قولان. أحدهما: الانتقال إلى الحيض دون عكسه. وأظهرهما: أنه الطهر المحتوش بدمين، لا مجرد الانتقال إلى الحيض، ممن نص على ترجيح هذا القول، البغوي والروياني وغيرهما، وفيه مخالفة لما سبق في الطلاق، أن الاكثرين أوقعوا الطلاق في الحال وإذا قال للتي لم تحض: أنت طالق في كل قرء، ويجوز أن يجعل ترجيحهم لوقوع الطلاق لمعنى(6/341)
يختص بتلك الصورة، لا لرجحان القول، بأن الطهر الانتقال، ثم إذا طلقها وقد بقي من الطهر بقية، حسبت تلك البقية قرءا، سواء كان جامعها في تلك البقية أم لا، فإذا طلقها وهي طاهر فحاضت، ثم طهرت، ثم حاضت، ثم طهرت، ثم شرعت في الحيض، انقضت عدتها، وإن طلقها في الحيض، فإذا شرعت في الحيضة الرابعة، انقضت عدتها. وهل تنقضي العدة برؤية الدم للحيضة الثالثة أو الرابعة، أم يعتبر مضي يوم وليلة بعد رؤية الدم ليعلم أنه حيض ؟ فيه قولان. أظهرهما: الاول، لان الظاهر أنه دم حيض، ولئلا تزيد العدة على ثلاثة أقراء. وقيل: إن رأت الدم لعادتها، انقضت برؤيته، وإن رأته على خلافها، اعتبر يوم وليلة. وإذا حكمنا بانقضائها بالرؤية، فانقطع الدم لدون يوم وليلة، ولم يعد حتى مضت خمسة عشر يوما، تبينا أن العدة لم تنقض ثم لحظة رؤية الدم أو اليوم والليلة، إذا اعتبرناهما، هل هما من نفس العدة، أم يتبين بهما انقضاؤها وليسا منها ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. قلت: قال أصحابنا: إن جعلناه من العدة، صحت فيه الرجعة، ولا يصح نكاحها لاجنبي فيه، وإلا فينعكس. وقد سبق هذا، ولكن لا يليق إخلاء هذا الموضع منه. والله أعلم. فرع قال: أنت طالق في آخر طهرك، أو في آخر جزء من أجزاء طهرك. فإن قلنا: القرء الانتقال، اعتد بذلك الجزء، وإلا فلا. ولو طلق من لم تحض أصلا، إن قلنا: الطهر الانتقال، حسب طهرها، قرءا، وإلا فلا.(6/342)
واعلم أن قولهم: القرء هو الطهر المحتوش، أو الانتقال، ليس مرادهم الطهر بتمامه، لانه لا خلاف أن بقية الطهر تحسب قرءا، وإنما مرادهم أنه هل يعتبر من الطهر المحتوش شئ، أم يكفي الانتقال ؟ والمكتفون بالانتقال قالوا: الانتقال وحده قرء، فإن وجد قبله شئ من الطهر، أدخلوه في إسم القرء. ولهذا قالوا: لو قال للتي لم تحض: أنت طالق في كل قرء طلقة، طلقت في الحال تفريعا على هذا القول، ولم يؤخروا الوقوع إلى الحيض للانتقال.
فصل الحرة التي تحيض عدة طلاقها ثلاثة أقراء، والامة قرآن، والمكاتبة، والمدبرة، وأم الولد، ومن بعضها رقيق، كالقنة في العدة. ولو وطئت أمة بنكاح فاسد، أو بشبهة نكاح، اعتدت بقرءين كتطليقها، وإن وطئت بشبهة ملك اليمين، استبرأت بقرء واحد. فرع لو عتقت الامة المطلقة في العدة، فهل يتم عدة حرة، أم أمة، أم يفرق، فإن كانت بائنة، فعدة الامة، وإلا فعدة حرة ؟ فيه أقوال. أظهرها: الثالث، وهو الجديد. ولو طلق العبد الامة رجعيا فعتقت في العدة، ثم فسخت في الحال، فهل تبني أم تستأنف العدة ؟ فيه خلاف كما لو طلق الرجعية طلقة أخرى، وعن أبي إسحق وغيره القطع بالبناء. ولو أخرت الفسخ حتى راجعها ثم فسخت قبل الوطئ، ففيه الطريقان. والمذهب الاستئناف، لانها فسخت وهي زوجة، والفسخ يوجب العدة. وحيث قلنا: تستأنف، فتستأنف عدة حرة. وحيث قلنا: تبني، فهل تبني على عدة حرة، أم أمة ؟ فيه الخلاف فيما إذا عتقت المعتدة بلا فسخ. فرع وطئ أمة أجنبي يظنها أمته، لم يلزمها إلا قرء. ولو ظنها زوجته المملوكة، فهل يلزمها قرء أم قرآن اعتبارا باعتقاده [ فيه ] وجهان. أصحهما: قرآن، وإن ظنها زوجته الحرة، فهل يلزمها قرء أم قرآن أم ثلاثة ؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث.(6/343)
ولو وطئ حرة يظنها أمته، فقطع جماعة بثلاثة أقراء، لان الظن يؤثر في الاحتياط دون المساهلة، وأجرى المتولي الوجهين، إن اعتبرنا حالها، فثلاثة أقراء، أو ظنه فقرء. ولو ظنها زوجته المملوكة، فطرد فيه الوجهين، هل يجب قرآن لظنه، أم ثلاثة ؟ والاشبه النظر إلى ظنه لان العدة لحقه.
فصل المعتدات أصناف
الاول: من لها حيض وطهر صحيحان، فتعتد بالاقراء وإن تباعد حيضها وطال طهرها. الصنف الثاني: المستحاضة، فإن كان لها مرد، اعتدت بالاقراء المردود إليها من تمييز أو عادة، أو الاقل، أو الغالب إن كانت مبتدأة كما سبق في الحيض، والاظهر: رد المبتدأة إلى الاقل. وعلى القولين: إذا مضت ثلاثة أشهر، انقضت عدتها، لاشتمال كل شهر على حيض وطهر غالبا، وشهرها ثلاثون يوما، والحساب من أول رؤية الدم، هكذا أطلق، ويمكن أن يعتبر بالاهلة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الناسية، وقد أشار إليه مشيرون، فإن لم يكن لها مرد وهي المتحيرة، فقد سبق في كتاب الحيض أنها على قول ترد إلى مرد المبتدأة، وأن المذهب أن عليها الاحتياط. فإن قلنا: كالمبتدأة، انقضت عدتها بثلاثة أشهر، وإن قلنا بالاحتياط، فالاصح أنها كالمبتدأة أيضا لعظم المشقة في الانتظار. والثاني: يلزمها الاحتياط كمن تباعد حيضها، فتؤمر بالتربص إلى سن اليأس، أو أربع سنين، أو(6/344)
تسعة أشهر، على الخلاف الآتي، ولا نقول: تمتد الرجعة وحق السكنى جميع هذه المدة، لان الزوج يتضرر به، بل لا يزيد ذلك على ثلاثة أشهر، ويختص الاحتياط بما يتعلق بها، وهو تحريم النكاح. وإذا قلنا: تنقضي عدتها بثلاثة أشهر في الحال، فالاعتبار بالاهلة، فإن انطبق الطلاق على أول الهلال، فذا ك، وإن وقع في أثناء الشهر الهلالي، فإن كان الباقي أكثر من خمسة عشر يوما، حسب قرءا، وتعتد بعده بهلالين. وإن كان خمسة عشر فما دونها، فهل يحسب قرءا ؟ وجهان. أصحهما: لا. وعلى هذا، فقد ذكر أكثرهم أن ذلك الباقي لا اعتبار به، وأنها تدخل في العدة لاستقبال الهلال. والمفهوم مما قالوا تصريحا وتلويحا أن الاشهر ليست متأصلة في حق الناسية، ولكن يحسب كل شهر قرءا لاشتماله على حيض وطهر غالبا. وأشار بعضهم إلى أن الاشهر أصل في حقها، كما في حق الصغيرة والمجنونة، ومقتضى هذا أن تدخل في العدة من وقت الطلاق، ويكون كما لو طلق ذات الاشهر في أثناء الشهر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولو كانت المتحيرة المنقطعة الدم، ترى يوما دما، ويوما نقاء، لم تنقض عدتها إلا بثلاثة أشهر(6/345)
سواء قلنا بالتلفيق أم بالسحب. والاطهار الناقصة المتخللة لا تنقضي بها العدة بحال. الصنف الثالث: من لم تر دما ليأس، وصغر، أو بلغت سن الحيض أو جاوزته ولم تحض، فعدتها ثلاثة أشهر بنص القرآن، ولو ولدت ولم تر حيضا قط ولا نفاسا، فهل تعتد بالاشهر، أم هي كمن انقطع حيضها بلا سبب ؟ وجهان. وبالاول قال الشيخ أبو حامد. قلت: الصحيح الاعتداد بالاشهر، لدخولها في قول الله تعالى: (واللائي لم يحضن) * وذكر الرافعي في آخر العدد عن فتاوى البغوي: أن التي لم تحض قط، إذا ولدت ونفست، تعتد بثلاثة أشهر، ولا يجعلها النفاس من ذوات الاقراء فجزم البغوي بهذا، ولم يذكر الرافعي هناك خلافا. والله أعلم. ثم إن الاشهر معتبرة بالهلال، وعليه المواقيت الشرعية، وإن انطبق الطلاق على أول الهلال، فذاك، وإن انكسر، اعتبر شهران بالهلال، ويكمل المنكسر ثلاثين من الشهر الرابع. فقال ابن بنت الشافعي: إذا انكسر شهر، انكسر الجميع، والصحيح الاول. وإذا وقع الطلاق في أثناء الليل أو النهار، ابتدئ حساب الشهر من حينئذ. وإذا اعتدت صغيرة بالاشهر ثم حاضت بعد فراغها، فقد انقضت العدة، ولا يلزمها الاقراء، ولو حاضت في أثناء الاشهر، انتقلت إلى(6/346)
الاقراء وهل يحسب ما مضى قرءا ؟ وجهان. أقربهما إلى ظاهر النص المنع. فإن كانت الآيسة، والتي لم تحض أمة، فهل عدتها ثلاثة أشهر، أم شهران، أم شهر ونصف ؟ فيه أقوال. قال المحاملي: أظهرها: الاول، واختاره الروياني، قال: ولكن القياس، وظاهر المذهب، شهر ونصف، وعليه جمهور أصحابنا الخراسانيين. الصنف الرابع: من انقطع دمها، ينظر، إن انقطع لعارض يعرف، لرضاع، أو نفاس، أو مرض، أو داء باطن، صبرت حتى تحيض، فتعتد بالاقراء، أو تبلغ سن اليأس، فتعتد بالاشهر، ولا تبالي بطول مدة الانتظار، وإن انقطع لا لعلة تعرف، فالقول الجديد: أنه كالانقطاع لعارض، والقديم: أنها تتربص تسعة أشهر. وفي قول أربع سنين، وفي قول مخرج ستة أشهر، ثم بعد التربص، تعتد بثلاثة أشهر. فإذا قلنا بالقديم فحاضت بعد التربص والعدة وبعدما تزوجت، استمر النكاح للثاني على الصحيح، وقيل: يتبين بطلانه، لتبيننا أنها ليست من ذوات الاشهر، وإن حاضت قبل تمام التربص، بطل التربص وانتقلت إلى الاقراء، ويحسب ما مضى قرءا بلا خلاف، فإن لم يعاودها الدم، ولم تتم الاقراء، استأنفت التربص لتعتد بعده بالاشهر، لان التربص الاول بطل بظهور الدم. قال المتولي: لا نأمرها باستئناف التربص، لانا على هذا القول، لا نعتبر اليأس، وإنما نعتبر ظهور براءة الرحم وقد ظهرت البراءة، ورؤية الدم تؤكد البراءة. والصحيح المعروف، هو الاول، وإن حاضت بعد التربص، وفي مدة العدة انتقلت إلى الاقراء، فإن لم يعاودها الدم، عاد الصحيح، وقول المتولي. وإذا تربصت، فتبني الاشهر على ما مضى من الاشهر الثلاثة، أم تستأنف الاشهر ؟ وجهان. أحدهما: تستأنف كما تستأنف التربص، وأصحهما: تبني، لان ما مضى من الاشهر كان من صلب(6/347)
العدة، فلا معنى لابطاله، بخلاف التربص، فعلى هذا في كيفية البناء وجهان. أحدهما: تعد ما مضى قرءا، ويبقى عليها قرآن، فتعتد بدلهما بشهرين. وعلى هذا، لو حاضت مرتين، بقي عليها قرء، فتعتد بدله بشهر. وأصحهما: يحسب ما مضى من الايام، وتتمة ثلاثة أشهر، ولا تضم بعض الاشهر إلى بعض الاقراء، لئلا يجمع بين البدل والمبدل، هكذا أطلقوا ذكر عدم المعاودة في الصورتين، ولم يقولوا: إذا لم تعد إلى مدة كذا. ويشبه أن يضبط بعادتها القديمة، أو بغالب عادات النساء. وإن حاضت بعد التربص والاشهر، وقبل النكاح، فأوجه. أصحها وينسب إلى النص: تنتقل إلى الاقراء. والثاني: لا، بل انقضت العدة. والثالث: عن أبي هريرة: إن اعتدت بالاشهر بحكم قاض، لم ينقض حكمه، ولم تنتقل إلى الاقراء، وإن اعتدت بها بمجرد فتوى، انتقلت، وسواء في هذه الصور والاحكام، جعلنا التربص ستة أشهر أو تسعة، أو أربع سنين، هذا كله تفريع القديم. أما إذا قلنا بالجديد وهو انتظار سن اليأس، ففي النسوة المعتبرات قولان. أظهرهما وإليه ميل الاكثرين: يعتبر أقصى يأس نساء العالم. قال الامام: ولا يمكن طوف العالم، وإنما المراد ما يبلغ خبره ويعرف. وعلى هذا، فالاشهر أن سن اليأس، اثنان وستون سنة، وقيل: ستون، وقيل: خمسون، حكاهما أبو الحسن بن خيران في كتابه اللطيف، وحكاهما غيره. وقال السرخسي: تسعون سنة. وحكي أن إمرأة حاضت لتسعين سنة، وعن أبي علي الطبري تخريج وجه أنه يعتبر سن اليأس غالبا، ولا يعتبر الاقصى. والقول الثاني، أنه يعتبر يأس عشيرتها من الابوين، نص عليه في الام. وقيل: يعتبر نساء العصبات، وقيل: نساء البلد. فإذا رأت الدم بعد سن اليأس، نظر، إن رأته في أثناء الاشهر، انتقلت إلى الاقراء، وحسب ما مضى قرءا بلا خلاف، فتضم إليه قرءين. واعلم أنا إذا اعتبرنا أقصى اليأس في العالم، فبلغته، ثم رأت الدم، صار(6/348)
أقصى اليأس ما رأته، ويعتبر بعد ذلك غيرها بها، ثم إن لم يعاودها الدم، رجعت إلى الاشهر. وهل تؤمر بالتربص قبلها تسعة أشهر، أو أربع سنين ؟ وجهان. أحدهما: نعم، استظهارا، وأصحهما: لا، لانها بلغت اليأس. ثم في التتمة، أنها تعتد بشهرين، بدلا عن قرءين، والذي صححه الائمة وحكوه عن القفال وغيره، أنها تعتد بثلاثة أشهر تستأنفها. ولا يجئ في البناء الخلاف السابق في تفريع القديم، لانه في القديم تكفي غلبة الظن، وهنا يطلب اليقين أو القرب منه. فإذا رأت الدم، بطل ما ظنناه يأسا، وبطل ما ترتب عليه من العدة، فوجب الاستئناف. وأما إذا رأت الدم بعد تمام الاشهر، فثلاثة أقوال. أحدها: لا يلزمها العود إلى الاقراء، بل انقضت عدتها، كما لو حاضت الصغيرة بعد الاشهر. والثاني: يلزمها، لانه بان أنها ليست آيسة، بخلاف الصغيرة، فإنها برؤية الحيض لا تخرج عن كونها وقت الاعتداد من اللائي لم يحضن، وهذا أصح عند البغوي. والثالث وهو الاظهر فيما يدل عليه كلام الاكثرين: إن كانت نكحت بعد الاشهر، فقد تمت العدة، والنكاح صحيح، وإلا لزمها الاقراء، وقطع صاحبا التتمة والشامل بصحة النكاح. النوع الثالث: الحمل. قد سبق أن عدة الطلاق ثلاثة أنواع: الاقراء، والاشهر، وقد مضيا، والتف أحدهما بالآخر، والثالث: هو الحمل، ويشترط في انقضاء العدة به شرطان، أحدهما: كونه منسوبا إلى من العدة منه. إما ظاهرا، وإما احتمالا، كالمنفي باللعان. فإذا لاعن حاملا ونفى الحمل، انقضت عدتها بوضعه لامكان كونها منه، والقول قولها في العدة إذا تحقق الامكان.(6/349)
أما إذا لم يمكن أن يكون منه، بأن مات صبي لا ينزل وامرأته حامل، فلا تنقضي عدتها بوضع الحمل، بل تعتد بالاشهر. ولو مات من قطع ذكره وأنثياه، وامرأته حامل، لم تنقض عدتها بوضعه على المذهب، بناء على أنه لا يلحقه الولد. وعن الاصطخري والصيرفي والقفال: أنه يلحقه. وحكي هذا قول للشافعي، وقد سبق في اللعان. فعلى هذا، تنقضي عدتها بوضعه. ومن سل خصياه وبقي ذكره، كالفحل في لحوق الولد على المذهب، فتنقضي العدة منه بوضعه، سواء فيه عدة الوفاة والطلاق. وفي وجه: لا يلحقه فلا تنقضي به العدة، وحكى القاضي أبو الطيب وجها أنه إن كان مسلول الخصية اليمنى لم يلحقه وإن بقيت اليسرى، لانه يقال: إن الماء من الخصية اليمنى، والشعر من اليسرى. ونقل الروياني في جمع الجوامع، أن أبا بكر بن الحداد، كان فقيد الخصية اليمنى، فكان لا ينزل، وكانت لحيته طويلة، وهذا شئ يعتمده الجمهور. وأما مجبوب الذكر باقي الانثيين، فيلحقه الولد، فتعتد إمرأته عن الوفاة بوضع الحمل، ولا يلزمها عدة الطلاق لعدم الدخول. فرع من مات عن زوجته، أو طلقها وهي حامل بولد، لا يمكن أن يكون(6/350)
منه، بأن وضعته لدون ستة أشهر من حين العقد، أو لاكثر، ولكن كان بين الزوجين مسافة لا تقطع في تلك المدة، لم تنقض به عدته، هذا هو المذهب، وبه قطع الاصحاب. وحكى الغزالي في الوجيز وجهين آخرين. أحدهما: تنقضي، لاحتمال أنه وطئها بشبهة قبل النكاح، ويكفي الاحتمال، كالولد المنفي باللعان. والثاني: إن ادعت وطئ شبهة، حكم بانقضاء العدة، لان القول في العدة قولها مع الامكان، ولم يذكر هذه الاوجه في الوسيط والبسيط في هذه الصورة، بل ذكرها فيمن قال: إن ولدت فأنت طالق، فولدت وشرعت في العدة، ثم ولدت بعد ستة أشهر ولدا آخر. والثالث: الفرق بين أن تدعي وطءا محترما من الزوج بعد الولادة الاولى فتنقضي العدة، أو لا فلا. فإذا قلنا بالمذهب، فإن كان المولود لاحقا بغيره بوطئ شبهة، أو في عقد فاسد، انقضت عدة الوطئ بوضعه، ثم تعتد عن الزوج بعده، وإن كان من زنا، اعتدت عدة الوفاة من يوم الموت، أو عدة الطلاق من يوم الطلاق، وتنقضي العدة مع الحمل في عدة الوفاة. وفي عدة الطلاق، إذا كانت من ذوات الاشهر، أو كانت من ذوات الاقراء، ولم تر دما أو رأته، وقلنا: إن الحامل لا تحيض وإن رأته، وقلنا: إنه حيض، ففي انقضاء العدة بأطهارها وهي حامل وجهان. أصحهما: الانقضاء، لان حمل الزنا كالمعدوم. فعلى هذا، لو زنت في عدة الوفاة أو الطلاق، وحبلت من الزنا، لم يمنع ذلك انقضاء العدة، ولو كان الحمل مجهول الحال، حمل على أنه من زنا، قاله الروياني في جمع الجوامع. فرع لو نكح حاملا من الزنا، صح نكاحه بلا خلاف. وهل له وطؤها قبل(6/351)
الوضع ؟ وجهان. أصحهما: نعم، إذ لا حرمة له، ومنعه ابن الحداد. الشرط الثاني: أن تضع الحمل بتمامه، فلو كانت حاملا بتوأمين، لم تنقض العدة حتى تضعهما، حتى لو كانت رجعية، ووضعت أحدهما، فله الرجعة قبل أن تضع الثاني، وإنما يكونان توأمين إذا وضعتهما معا، أو كان بينهما دون ستة أشهر، فإن كان بينهما ستة أشهر فصاعدا، فالثاني حمل آخر. فرع لا تنقضي العدة بخروج بعض الولد، ولو خرج بعضه منفصلا أو غير منفصل ولم يخرج الباقي، بقيت الرجعة. ولو طلقها، وقع الطلاق. ولو مات أحدهما ورثه الآخر، وكذا تبقى سائر أحكام الجنين في الذي خرج بعضه دون بعض، كمنع توريثه، وكسراية عتق الام إليه، وعدم إجزائه عن الكفارة، ووجوب الغرة عند الجناية على الام، وتبعية الام في البيع والهبة وغيرهما. وفي وجه ضعيف: إذا خرج كان حكمه حكم المنفصل كله في جميع ما ذكرنا، إلا في العدة، فإنها لا تنقضي إلا بفراغ الرحم، وينسب إلى القفال وهو منقاس، ولكنه بعيد في المذهب. فرع تنقضي العدة بانفصال الولد حيا، أو ميتا، ولا تنقضي بإسقاط العلقة والدم. ولو أسقطت مضغة، فلها أحوال. أحدها: أن يظهر فيها شئ من صورة الآدمي، كيد، أو أصبع، أو ظفر وغيرها، فتنقضي بها العدة. والثاني: أن لا يظهر شئ من صورة الآدمي لكل أحد، لكن قال أهل الخبرة من النساء: فيه صورة خفية، وهي بينة لنا وإن خفيت على غيرها، فتقبل شهادتهن، ويحكم بانقضاء العدة وسائر الاحكام. الثالث: أن لا يكون صورة ظاهرة ولا خفية يعرفها القوابل، لكنهن قلن: إنه أصل آدمي، ولو بقي لتصور ولتخلق، فالنص أن العدة تنقضي به. ونص أنه لا(6/352)
يجب فيه الغرة، وأشعر نصه أنه لا يثبت به الاستيلاد، فقيل في الجميع قولان.. وقيل: بتقرير النصوص، لان المراد بالعدة براءة الرحم وقد حصلت. والاصل براءة الذمة في الغرة. وأمومة الولد إنما تثبت تبعا للولد. وقيل: تثبت هذه الاحكام قطعا، وحمل نص المنع على ما إذا يعلمن أنه مبتدأ خلق. وقيل: لا تثبت قطعا، وحمل نص العدة على ما إذا كانت صورة خفية، والمذهب على الجملة انقضاء العدة ومنع الآخرين. ولو شك القوابل في أنه لحم آدمي، أم لا، لم يثبت شئ من هذه الاحكام، بلا خلاف. ولو اختلف الزوجان، فقالت: كان السقط الذي وضعته مما تنقضي به العدة، وأنكر الزوج، وضاع السقط، فالقول قولها بيمينها، لانها مأمونة في العدة. فصل إذا كانت تعتد بالاقراء أو بالاشهر، فظهر بها حمل من الزوج، اعتدت بوضعه، ولا اعتبار بما مضى من الاقراء والاشهر، فإن لم يظهر الحمل بأمارة، ولكنها ارتابت لثقل وحركة تجدها، نظر، إن ارتابت قبل تمام الاشهر، أو الاقراء، فليس لها أن تتزوج بعد تمامها حتى تزول الريبة. فإن تزوجت، فالنكاح باطل. وإن ارتابت بعد أن انقضت الاقراء أو الاشهر وتزوجت، لم يحكم ببطلان النكاح، لكن لو تحققنا كونها حاملا وقت النكاح، بأن ولدت لدون ستة أشهر من وقت النكاح، تبينا بطلان النكاح، وإن ولدت لستة أشهر فصاعدا، فالولد للثاني، ونكاحه مستمر على صحته. وإن ارتابت بعد الاقراء والاشهر، وقبل أن تتزوج، فالاولى أن تصبر إلى زوال الريبة، فإن لم تفعل وتزوجت، فالمذهب القطع بأن النكاح لا يبطل في الحال، بل هو كما لو تزوجت، وهو نصه في المختصر والام، وبه قال ابن خيران، وأبو إسحق، والاصطخري، لانا حكمنا بانقضاء(6/353)
العدة، فلا نبطله بالشك، وقيل: يحكم ببطلانه، حكي عن ابن سريج. وقيل: قولان. فصل أكثر مدة الحمل أربع سنين، فلو أبانها بخلع أو بالثلاث، أو بفسخ، أو لعان ولم ينف الحمل، فولدت لاربع سنين فأقل من وقت الفراق، لحق الولد بالزوج، هكذا أطلقوه. وقال أبو منصور التميمي: ينبغي أن يقال: لاربع سنين من وقت إمكان العلوق، وقبيل الطلاق، وهذا قويم، وفي إطلاقهم تساهل، وسواء أقرت بانقضاء عدتها ثم ولدت، أم لم تقر، لان النسب حق الولد، فلا ينقطع بإقرارها. وقال ابن سريج: إذا أقرت بانقضائها ثم ولدت، لم يلحقه إلا أن تأتي به لدون ستة أشهر من الاقراء، كما إذا صارت الامة فراشا لسيدها بالوطئ ثم استبرأها فأتت بولد بعد الاستبراء لستة أشهر فصاعدا، لا يلحقه، نص عليه. فمن الاصحاب من جعل المسألتين على قولين، وقطع الجمهور بتقرير النصين، وفرقوا بأن فراش النكاح أقوى وأسرع ثبوتا، فإنه يثبت بمجرد الامكان. أما إذا ولدت لاكثر من أربع سنين، فالولد منفي عنه بلا لعان. ولو طلقها رجعيا ثم ولدت، فالحكم على التفصيل المذكور، إلا أن السنين الاربع، هل تحسب من وقت الطلاق، أم من وقت انصرام العدة ؟ قولان. أظهرهما: الاول، لانها كالبائن في تحريم الوطئ، فلا يؤثر كونها زوجة في معظم الاحكام. فإن قلنا: من وقت الانصرام، فقد أطلق الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وغيرهما حكاية وجهين. أحدهما: أنه يلحقه متى أتت به من غير تقدير، لان الفراش على هذا القول، إنما يزول بانقضاء العدة. والثاني:(6/354)
أنه إذا مضت العدة بالاقراء أو الاشهر، ثم ولدت لاكثر من أربع سنين من انقضائها، لم يلحقه، لانا تحققنا أنه لم يكن موجودا في الاقراء والاشهر، فتبين بانقضائها، وتصير كما لو بانت بالطلاق، ثم ولدت لاكثر من أربع سنين. وهذا الثاني هو الاصح عند الاكثرين، وحكوه عن نص الشافعي رحمه الله. ولك أن تقول هذا، وإن استمر في الاقراء، لا يستمر في الاشهر، فإن التي لا تحمل، لا تعتد بالاشهر، فإذا حبلت، بان أن عدتها لم تنقض بالاشهر، وسيأتي نظير هذا إن شاء الله تعالى، ثم هذا الخلاف، على ما ذكره الروياني وغيره، فيما إذا أقرت بانقضاء العدة، فإن لم تقر، فالولد الذي تأتي به، يلحقه وإن طال الزمان، لان العدة قد تمتد لطول الطهر. وحكى القفال فيما إذا لم تقر وجها ضعيفا، أنه إذا مضت ثلاثة أشهر ثم ولدت لاكثر من أربع سنين، لم يلحقه، لان الغالب انقضاء العدة في ثلاثة أشهر، ومتى حكمنا بثبوت النسب، كانت المرأة معتدة إلى الوضع، فيثبت للزوج الرجعة 1 إن كانت رجعية، ولها السكنى والنفقة. فرع ولدت لاكثر من أربع سنين، وادعت في الطلاق الرجعي أن الزوج راجعها، أو أنه جدد نكاحها، أو وطئها بشبهة، وأنها ولدته على الفراش المجدد، نظر، إن صدقها الزوج، لزمه مقتضى إقراره، فعليه المهر في صورة التجديد، والنفقة والسكنى في الرجعة، والتجديد جميعا، ويلحقه الولد للفراش، وإن أنكر إحداث فراش، فهو المصدق بيمينه، وعليها البينة، فإن نكل، حلفت، وثبت النسب، إلا أن ينفيه باللعان. وحكى أبو الفرج الزاز قولا، أنه إذا نكل، لا ترد اليمين عليها، لانها إذا حلفت، ثبت نسب الولد، ويبعد أن يحلف الشخص لفائدة غيره، والمشهور الاول، فإن لم يحلفها، أو نكلت، ففي حلف الولد إذا بلغ خلاف سبق في نظائره. وإن اعترف بفراش جديد، وأنكر ولادتها، وادعى أنها(6/355)
التقطته واستعارته، صدق بيمينه، وعليها البينة على الولادة. فإن نكل، حلفت وثبتت الولادة والنسب بالفراش، إلا أن ينفيه باللعان، ويعود في تحليفها الخلاف السابق. ثم قال الائمة: العدة تنقضي بوضعه وإن حلف الرجل على النفي ولم يثبت ما ادعته، لانها تزعم أنه منه، فكان كما لو نفي حملها باللعان، فإنه وإن انتفى الولد تنقضي العدة بوضعه لزعمها أنه منه. ولو ادعت على الوارث بعد موت الزوج أن الزوج كان راجعها، أو جدد نكاحها، فإن كان الوارث ممن لا يحجب، نظر، إن كان إبنا واحدا، فالحكم كما لو ادعت على الزوج، إلا أن الوارث يحلف على نفي العلم، وإلا أنه إذا ثبت النسب، لا يمكنه نفيه باللعان. وإن كان له ابنان، وادعت عليهما، فكذباها وحلفا، أو نكلا أو صدقها أحدهما وكذب الآخر وحلفت، ثبت المهر والنفقة بحصة المصدق، ولا يثبت النسب، لان جميع الورثة لم يتفقوا. وفي ثبوت ميراث الزوجة في حصة المصدق خلاف مذكور في موضعه. وإن كان الوارث ممن يحجب كالاخ، فإن صدقها فذاك، ولا يرث الولد وإن ثبت نسبه، وإن كذبها، فعلى ما ذكرنا. فرع علق طلاقها بالولادة، فولدت ولدين، فإن كان بينهما دون ستة أشهر، لحقاه، وطلقت بالاول، وانقضت عدتها بالثاني، وإن كان بينهما ستة أشهر فأكثر، طلقت بولادة الاول، ثم إن كان الطلاق بائنا، لم يلحقه الثاني، لان العلوق به لم يكن في نكاح، وإن كان رجعيا، بني على أن السنين الاربع تعتبر من وقت الطلاق، أم من انصرام العدة ؟ إن قلنا بالاول، لم يلحقه. وإن قلنا بالثاني، لحقه إذا أتت به لدون أربع سنين من ولادة الاول، وتنقضي العدة بوضعه، سواء لحقه أم(6/356)
لا، لاحتمال وطئ الشبهة بعد البينونة، كذا قاله ابن الصباغ. ولو ولدت ثلاثة أولاد، فإن كانوا حملا واحدا، بأن كان بين الاول والثالث دون ستة أشهر، طلقت بالاول، وانقضت عدتها بالثالث، ولحقه الجميع. وإن كان بين الاولين أقل من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث أكثر منها، لحقه الاولان وانقضت عدتها بالثاني، ولا يلحقه الثالث. وإن كان بين الاول والثاني أكثر من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث، دون الستة، طلقت بالاول ولم يلحقه الآخران إن كان الطلاق بائنا، وإن كان رجعيا، ففيه الخلاف. وإن زاد ما بين الاولين على ستة أشهر، وكذا ما بين الثاني والثالث، فالثالث غير لاحق به، وكذا الثاني إن كان الطلاق بائنا. وإن كان رجعيا، فعلى الخلاف، ولو كان ما بين الاولين دون الستة، وكذا ما بين الثاني والثالث، وكان بين الثالث والاول أكثر من الستة، فالاولان لاحقان دون الثالث. فرع هذا الكلام السابق، إذا لم تصر بعد الطلاق فراشا لغيره حتى ولدت، فلو صارت بأن نكحت بعد العدة، ثم ولدت، نظر، أن ولدت لدون ستة أشهر من النكاح الثاني، فكأنها لم تنكح، والحكم على ما سبق، وإن أتت به لستة(6/357)
أشهر فأكثر، فالولد للثاني وإن أمكن كونه من الاول، لان الفراش للثاني ناجز، فهو أقوى، ولان النكاح الثاني قد صح ظاهرا. فلو ألحقنا الولد بالاول، لبطل النكاح لوقوعه في العدة، ولا سبيل إلى إبطال ما صح بالاحتمال، ولو نكحت نكاحا فاسدا، بأن نكحت في العدة، لم يقطع العقد العدة، لكن تسقط نفقتها وسكناها لنشوزها. ثم إن وطئها الزوج عالما بالتحريم، فهو زان لا يؤثر وطؤه في العدة، وإن جهل التحريم لظنه انقضاء العدة، أو أن المعتدة لا يحرم نكاحها، انقطعت به العدة لمصيرها فراشا للثاني. قال الروياني: ودعوى الجهل بتحريم المعتدة، لا يقبل إلا من قريب عهد بالاسلام، ودعوى الجهل بكونها معتدة يقبل من كل أحد، ثم إذا فرق بينهما، تكمل عدة الاول، ثم تعتد للثاني، فلو ولدت لزمان الامكان من الاول دون الثاني، لحق بالاول وانقضت عدته بوضعه، ثم تعتد للثاني، وإن أتت به لزمان الامكان من الثاني دون الاول، بأن أتت به لاكثر من أربع سنين من طلاق الاول، فإن كان الطلاق بائنا، فهو ملحق بالثاني، وإن كان رجعيا، فهل يلحق بالثاني، أم يقال: فراش الاول باق فيعرض الولد على القائف ؟ فيه قولان، وإن ولدته لزمن الامكان منهما، عرض على القائف، فإن ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، أو أشكل عليه، أو لم يكن قائف، انتظر بلوغه وانتسابه بنفسه، وإذا وضعته ومضت ثلاثة أقراء، حلت للزواج، وإن ولدته لزمان لا يمكن أن يكون من واحد منهما، بأن كان لدون ستة أشهر من نكاح الثاني، ولاكثر من أربع سنين من طلاق الاول، لم يلحق واحد منهما إن كان الطلاق بائنا، فإن كان رجعيا عاد الخلاف في أنها هل هي فراش. وإذا نفيناه عنهما، فعن الشيخ أبي حامد: أنه لا تنقضي العدة بوضعه عن واحد منهما، بل بعد الوضع تكمل العدة عن الاول، ثم تعتد عن الثاني. قال ابن الصباغ:(6/358)
وقياس ما ذكرنا، فيما إذا علق طلاقها بالولادة فولدت ولدين بينهما ستة أشهر، أن الثاني لا يلحقه، وتنقضي العدة بوضعه أن نقول هنا: تنقضي العدة عن أحدهما. ثم مدة الامكان من الزوج الثاني، هل تحسب من وقت النكاح الفاسد، أم من وقت الوطئ ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وبالاول قال القفال الشاشي. ويقرب من هذا الخلاف الخلاف في أن العدة في نكاح الفاسد، هل تحسب من آخر وطئ فيه، أم من وقت التفريق ؟ والاصح من التفريق، لان الفراش حينئذ يزول، والتفريق بأن يفرق القاضي بينهما. وفي معناه: ما إذا اتفق الزوجان على المفارقة، وما إذا مات الزوج عنها أو طلقها وهو يظن الصحة، ولو غاب عنها على عزم أن يعود إليها، لم تحسب مدة الغيبة من العدة، ولو عزم أن لا يعود، حسبت. وخرج على الخلاف المذكور، أن لحوق الولد في النكاح الفاسد، هل يتوقف على إقراره بالوطئ كما في ملك اليمين، أم يكفي فيه مجرد العقد كالنكاح الصحيح ؟ وأما إذا أحوجناه إلى الاقرار بالوطئ، فهل ينتفي الولد بدعوى الاستبراء كملك اليمين، أم لا ينتفي باللعان ؟ والاصح الثاني. ولو وطئت بالشبهة في العدة(6/359)
فولدت للامكان من الزواج والواطئ، عرض الولد على القائف، كما ذكرنا في النكاح الفاسد. ولو وطئت بعد انقضاء العدة، فهل هو كالنكاح الثاني في قطع فراش الاول ؟ وجهان. أحدهما: لا، بل يعرض الولد على القائف، وأصحهما: (نعم لانقطاع النكاح الاول والعدة عنه في الظاهر، فعلى هذا، لو ولدت للامكان منهما، لحق بالواطئ كما يلحق بالزوج الثاني. فرع ولدت وطلقها، ثم اختلفا، فقال: طلقتك بعد الولادة فلي الرجعة، وقالت: بل قبلها وانقضت عدتي بالوضع، فإن اتفقا على وقت الولادة، كيوم الجمعة وقال: طلقتك يوم السبت، وقالت: يوم الخميس، فهو المصدق بيمينه، لان الطلاق بيده، فصدق فيه كأصله. وإن اتفقا على (وقت) الطلاق كيوم الجمعة، وقال: ولدت يوم الخميس، وقالت: يوم السبت، صدقت بيمينها. وإن لم يتفقا على وقت، وادعى تقدم الولادة، وهي تقدم الطلاق، فهو المصدق. ولو ادعت تقدم الطلاق، فقال: لا أدري، لم يقنع منه، بل إما أن يحلف يمينا جازمة أن الطلاق لم يتقدم، وإما أن ينكل فتحلف هي، ويجعل بقوله: لا أدري منكرا، فتعرض اليمين عليه، فإن أعاد كلامه الاول، جعل ناكلا فتحلف هي ولا عدة عليها ولا رجعة له، وإن نكلت، فعليها العدة. قال الاصحاب: وليس هذا قضاء بالنكول، بل الاصل بقاء النكاح وآثاره، فيعمل بهذا الاصل ما لم يظهر دافع. ولو جزم الزوج بتقدم الولادة، وقالت هي: لا أدري، فله الرجعة، والورع أن لا يراجع، وكذا الحكم لو قال: لا ندري السابق منهما، وليس لها النكاح حتى تمضي ثلاثة أقراء.
الباب الثاني : في اجتماع عدتين قد يجتمعان عليها لشخص، وقد يكونان لشخصين. القسم الاول: إذا كانتا لشخص، فينظر، إن كانتا من جنس، بأن طلقها وشرعت في العدة بالاقراء أو الاشهر، ثم وطئها في العدة جاهلا إن كان الطلاق بائنا وجاهلا، أو عالما إن كان رجعيا، تداخلت العدتان، ومعنى التداخل، أنها تعتد(6/360)
بثلاثة أقراء، أو ثلاثة أشهر من وقت الوطئ، ويندرج فيها بقية عدة الطلاق. وقدر تلك البقية، يكون مشتركا واقعا عن الجهتين، وله الرجعة في قدر البقية إن كان الطلاق رجعيا، ولا رجعة بعدها، ويجوز تجديد النكاح في تلك البقية وبعدها إذا لم يكن عدد الطلاق مستوفى، هذا هو الصحيح. وحكى أبو الحسن العبادي عن الحليمي، أن عدة الطلاق تنقطع بالوطئ، ويسقط باقيها، وتتمحض العدة الواجبة عن الوطئ. قال: وقياسه أن لا تثبت الرجعة في البقية، ولكن منعنا منه بالاجماع. وقد ينقطع أثر النكاح في حكم دون حكم. وفي وجه ثالث: أن ما بقي من عدة الطلاق يقع متمحضا عن الطلاق، ولا يوجب الوطئ إلا ما وراء ذلك إلى تمام ثلاثة أقراء، وهذا ضعيف. وإن كانت العدتان من جنسين، بأن كانت إحداهما بالحمل، والاخرى بالاقراء سواء طلقها حاملا، ثم وطئها، أو حائلا ثم أحبلها، ففي دخول الاخرى في الحمل وجهان، أصحهما: الدخول كالجنس. فعلى هذا، تنقضيان بالوضع، وله الرجعة في الطلاق الرجعي إلى أن تضع إن كانت عدة الطلاق بالحمل، وكذا إن كانت بالاقراء على الاصح. وقيل: لا رجعة بناء على أن عدة الطلاق سقطت، وهي الآن معتدة للوطئ. وإن قلنا: لا يتداخلان، فإن كان الحمل لعدة الطلاق، اعتدت بعد وضعه بثلاثة أقراء، ولا رجعة إلا في مدة الحمل، وإن كان الحمل لعدة الوطئ، أتمت بعد وضعه بقية عدة الطلاق، وله الرجعة في تلك البقية، وله الرجعة قبل الوضع أيضا على الاصح، وله تجديد نكاحها قبل الوضع وبعده إذا لم يكن الطلاق رجعيا. فإن لم يعلم هذا الحمل من عدة الطلاق، أم حدث بالوطئ، قال المتولي: يلزمها الاعتداد بثلاثة أقراء كاملة بعد الوضع، لجواز أن تكون عدة الطلاق بالوضع. وحيث أثبتنا الرجعة، فلو مات أحدهما، ورثه الآخر، ولو طلقها، لحقها الطلاق، ويصح الظهار والايلاء منها. ولو مات الزوج، انتقلت إلى عدة الوفاة. وحيث قلنا: لا تثبت الرجعة، لا يثبت شئ من هذه الاحكام.(6/361)
فرع جميع ما ذكرناه، فيما إذا كانت لا ترى الدم على الحمل، أو تراه وقلنا: ليس هو بحيض. فأما إن جعلناه حيضا، فهل تنقضي مع الحمل العدة الاخرى بالاقراء ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال الشيخ أبو حامد، والقاضي حسين. فعلى هذا، لو كان الحمل حادثا من الوطئ، فمضت الاقراء قبل الوضع، فقد انقضت عدة الطلاق، وليس للزوج الرجعة بعد ذلك، وإن وضعت الحمل قبل تمام الاقراء، فقد انقضت عدة الوطئ، وعليها بقية عدة الطلاق، وللزوج الرجعة قبل الوضع وبعده إلى تمام الاقراء بلا خلاف 2 (232). وإن كان الحمل لعدة الطلاق، فله الرجعة إلى الوضع. فإذا وضعت، أكملت لعدة الوطئ ما بقي من الاقراء. القسم الثاني: إذا كانت العدتان لشخصين، بأن كانت معتدة لزيد عن طلاق أو وفاة أو شبهة، أو نكحها جاهلا ووطئها، أو كانت المنكوحة معتدة عن وطئ شبهة، فطلقها زوجها، فلا تداخل، بل تعتد عن كل واحد عدة كاملة، ثم قد لا يكون هناك حمل، وقد يكون. الحال الاول: أن لا يكون، فإن سبق الطلاق وطئ الشبهة، أتمت عدة الطلاق، لتقدمها وقوتها. فإذا أتمتها، استأنفت عدة الشبهة، ثم إن لم يكن من الثاني إلا وطئ شبهة، ابتدأت عدته عقب عدة الطلاق، فإن نكح الثاني ووطئ، فزمن كونها فراشا له لا يحسب عن واحدة من العدتين. وبماذا تنقطع عدة الطلاق ؟ فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. ومتى تعود إليها ؟ وجهان، أحدهما: من آخر(6/362)
وطئ وقع في النكاح الثاني، حكي عن القفال الشاشي. والثاني وهو الصحيح: من حين التفريق بينهما، وللزوج الرجعة في عدته، فإذا راجعها، شرعت في عدة وطئ الشبهة، وليس للزوج الاستمتاع بها إلى أن تنقضي. وهل له تجديد نكاحها إن كان الطلاق بائنا ؟ وجهان، أصحهما عند الاكثرين: نعم. ولو وطئت منكوحة بشبهة، ثم طلقت وهي في عدة الشبهة، فوجهان. أحدهما: تتم عدة الشبهة، ثم تبتدئ عدة الطلاق مراعاة للسابق، وأصحهما عند الاكثرين: تقدم عدة الطلاق، لقوتها. فإن قدمنا عدة الشبهة، فله الرجعة إذا اشتغلت بعد الطلاق. وهل له الرجعة قبل ذلك ؟ وجهان، ولا يجوز تجديد نكاحها في عدة الشبهة إذا كان الطلاق بائنا، لانها في عدة الغير. وإذا قلنا: تقدم عدة الطلاق، شرعت فيها بنفس الطلاق، فإذا تمت، عادت إلى بقية عدة الشبهة، وللزوج الرجعة إن كان الطلاق رجعيا. وهل له تجديد النكاح إن كان بائنا ؟ فيه الوجهان السابقان. ولو طرأ وطئ شبهة في عدة وطئ شبهة، أتمت عدة الواطئ الاول بلا خلاف. ولو نكح إمرأة نكاحا فاسدا، ووطئها غيره بشبهة، ثم فرق بينهما لظهور فساد النكاح، قال البغوي: تقدم عدة الواطئ بشبهة بلا خلاف، لان عدته من وقت الوطئ، وعدة الناكح من التفريق، ومعناه: أن عدة الواطئ سبق وجوبها، وليس للفاسد قوة الصحيح ليترجح بها، وقد تكون إحدى العدتين بالاقراء، والاخرى بالاشهر، بأن طلقها فمضى قرآن، ثم نكحت فاسدا ودام فراشه حتى أيست، ثم فرق بينهما، فتكمل عدة الاول بشهر، بدلا عن القرء الباقي، ثم تعتد للفاسد بثلاثة أشهر. الحال الثاني: أن يكون هناك حمل، فيقدم عدة من الحمل منه سابقا كان أو متأخرا، فإن كان الحمل للمطلق، ثم وطئت بشبهة، فإذا وضعت انقضت عدة الطلاق، ثم تعتد بالاقراء للشبهة بعد طهرها من النفاس، وللزوج رجعتها قبل(6/363)
الوضع. قال الروياني: لكن لا يراجعها في مدة اجتماع الواطئ بها، لانها حينئذ خارجة عن عدة الاول، وفراش لغيره، فلا تصح الرجعة في تلك الحالة. وهل له تجديد نكاحها قبل الوضع إن كان الطلاق بائنا ؟ فيه الوجهان السابقان، ويجريان فيما لو وطئ إمرأة بشبهة وأحبلها، ثم وطئها آخر، هل للاول أن ينكحها قبل الوضع، وليس له أن ينكحها في عدة الثاني بحال، وللثاني أن ينكحها في عدة نفسه ؟. وإن كان الحمل من وطئ الشبهة، فإذا وضعت، انقضت عدة الوطئ وعادت إلى بقية عدة الطلاق، وللزوج الرجعة في تلك البقية، إن كان طلاقه رجعيا، سواء في ذلك مدة النفاس وغيرها، لانها من جملة العدة، كالحيض الذي يقع فيه الطلاق. وقيل: لا رجعة في مدة النفاس، والصحيح الاول. وإذا ثبتت الرجعة، فلو طلق، لحقها الطلاق، ولو مات أحدهما، ورثه الآخر وانتقلت إلى عدة الوفاة بوفاة الزوج، وهل له الرجعة قبل الوضع إن كان الطلاق رجعيا، أو تجديد النكاح إن كان بائنا ؟ وجهان. أصحهما عند الشيخ أبي حامد: نعم، لانه لم تنقض عدته، وكما في العدتين المختلفتين من شخص. وأصحهما عند الماوردي والبغوي: لا، لانها في عدة غيره. ثم قال البغوي: لو طلقها قبل الوضع، لحقها الطلاق ولو مات أحدهما، ورثه الآخر، فإن مات الزوج، انتقلت إلى عدة الوفاة، حتى إذا وضعت، تعتد عن الزوج عدة الوفاة وإن كان لا تصح رجعته، لانا نجعل زمان الرجعة كزمان صلب النكاح، هذا لفظه، وإذا راجعها وهي حامل من الاجنبي، وجوزناه، فليس له الوطئ حتى تضع، كما إذا وطئت منكوحة بشبهة، فاشتغلت بالعدة، وإن كانت حاملا منه، وفي ذمتها عدة الشبهة، فراجعها، انقضت عدته في الحال، وبقيت عدة الشبهة مؤخرة حتى تضع وتعود إلى أقرائها. وهل له وطؤها في الحال ؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم، لانها زوجة ليست في عدة. والثاني: لا، لانها متعرضة للعدة، ومال المتولي إلى ترجيح هذا، ورجح بعضهم الاول.(6/364)
قلت: الراجح الجواز. والله أعلم. ويجري الوجهان فيما لو وطئت المنكوحة في صلب النكاح بشبهة وهي حامل من الزوج. ولو كانت ترى الدم على الحمل، وجعلناه حيضا، فعن القاضي حسين: أن العدة الاخرى تنقضي بالاقراء، كالعدتين من شخص، وهذا ضعيف، وضعفه الامام والغزالي، لان فيه مصيرا إلى تداخل عدتي شخصين. وجميع ما ذكرنا، فيما إذا علم أن الولد من هذا أو ذاك، لانحصار الامكان فيه، فلو لم يمكن كونه من واحد منهما، بأن ولدته لاكثر من أربع سنين من طلاق الاول وهو بائن أو رجعي على قول، ولدون ستة أشهر من وطئ الثاني، فالولد منفي عنهما، ولا تنقضي بوضعه عدة واحد منهما على الاصح، بل إذا وضعته تممت عدة الاول، ثم استأنفت عدة الثاني. وقيل: تعتد بوضعه من أحدهما لا بعينه، لامكان كونه من أحدهما بوطئ شبهة، ثم تعتد عن الآخر بثلاثة أقراء. فرع ويتفرع على الوجهين فرعان. أحدهما: لو كانت ترى الدم والحالة هذه وجعلناه حيضا، قال الروياني: إن قلنا: تنقضي عدة أحدهما بالوضع، لم تعتد بأقرائها، لئلا تتداخل عدة شخصين، وإلا ففي الاحتساب بأقرائها وجهان: أصحهما: الاحتساب، لانها إذا لم تعتد بالحمل، كانت كالحائل، وبهذا قطع صاحب الشامل. الثاني: إن قلنا تنقضي بالوضع عدة أحدهما، لم تصح رجعة الزوج في مدة الحمل ولا في الاقراء بعد الوضع، للشك في أن عدته هذه أم هذه ؟ فلو راجع مرة في الحمل، ومرة في الاقراء، ففي صحة الرجعة وجهان سيأتي نظيرهما إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: لا تنقضي، أتمت بعد الوضع عدة الاول وهو الزوج، وله الرجعة فيه. وهل له الرجعة قبله في مدة الحمل ؟ فيه الوجهان السابقان.(6/365)
فرع إذا احتمل كون الولد من الزوج، ومن الواطئ بالشبهة، عرض بعد الوضع على القائف، فإن ألحقه بالزوج أو بالواطئ، فحكمه ما ذكرنا فيما إذا اختص الاحتمال به، فإن لم يكن قائف أو أشكل عليه، أو ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، أو مات الولد وتعذر عرضه، انقضت عدة أحدهما بوضعه، لانه من أحدهما، ثم تعتد بعد الوضع للآخر بثلاثة أقراء. قال الروياني: وقول الشافعي رحمه الله تعالى: فإن لم يكن قائف، ليس المراد به إن لا يوجد في الدنيا، بل المراد أن لا يوجد في موضع الولد وما يقرب منه، وهو المسافة التي تقطع في أقل من يوم وليلة. وسواء في وجوب العرض على القائف، ادعياه جميعا، أو ادعاه أحدهما فقط. وقيل: إذا ادعاه أحدهما فقط، اختص به، كالاموال، والصحيح الاول، لحق الولد وحق الشرع في النسب. قال المتولي: إن كان الطلاق بائنا، عرض على القائف كما ذكرنا. وإن كان رجعيا، بني على أن الرجعة هل هي فراش، أم لا ؟ إن قلنا: لا، عرض أيضا، وإن قلنا: فراش، وأن السنين الاربع في حقها تعتبر من انقضاء العدة، فالولد ملحق (بالزوج) ولا يعرض على القائف. ثم في هذا الفرع مسألتان. إحداهما: إذا رجع الزوج في مدة الحمل، بني على ما إذا تأخرت عدة الزوج لاحبال الواطئ، هل له الرجعة في مدة الحمل ؟ إن قلنا: نعم، صحت رجعته، وهو الاصح، وإلا فلا. فلو بان بعد الوضع أن الحمل منه بإلحاق القائف، فهل يحكم الآن بأن الرجعة وقعت صحيحة ؟ وجهان. أصحهما: نعم. ولو راجع بعد الوضع، لم يحكم بصحة الرجعة أيضا، لاحتمال كون الحمل منه، وأن عدته انقضت بوضعه. فلو بان بإلحاق القائف أن الحمل من وطئ الشبهة، ففي الحكم الآن بصحة الرجعة الوجهان، هذا إذا راجع في القدر المتيقن بعد الوضع أنه من الاقراء دون ما أوجبناه احتياطا. بيانه: وطئها الاجنبي بعد مضي قرء من وقت الطلاق، فالقدر الذي يتيقن لزومه بعد الوضع قرآن، وإنما نوجب القرء الثالث احتياطا، لاحتمال كون الحمل من الزوج. ولو راجع مرتين، مرة قبل الوضع، ومرة بعده في القرءين، ففي صحة(6/366)
رجعته وجهان. أصحهما: الصحة، وبه قال القفال، لوجود رجعة في عدته يقينا، والثاني: المنع، للتردد. ولو جدد النكاح، إذا كان الطلاق بائنا، نظر، إن نكحها مرة واحدة قبل الوضع أو بعده، لم يحكم بصحته، لاحتمال كونه في عدة الشبهة. فإن بان بعد ذلك كون العدة كانت منه بإلحاق القائف، قال المتولي: فهو على الخلاف في الرجعة. قال: وليس هو من وقف العقود، وإنما هو وقف على ظهور أمر كان عند العقد. وإن نكحها مرتين قبل الوضع وبعده، ففي صحته وجهان، كالرجعة. قال الامام: الاصح هنا المنع، لان الرجعة تحتمل ما لا يحتمله النكاح، ولهذا تصح في الاحرام، والوجهان مفرعان على صحة تجديد الزوج في عدته، مع أن في ذمتها عدة شبهة، وإلا فلا يصح قطعا، لاحتمال تأخر عدة الشبهة، فلا تصح المرة الاولى للعدة التي في ذمتها، ولا الثانية، لكونها في عدة شبهة. فلو نكحها الواطئ بشبهة قبل الوضع أو بعده في القرءين، لم يصح، لاحتمال كونها في عدة الزوج. ولو نكحها بعد الوضع في القرءين، ثم بان بالقائف أن الحمل من الزوج، ففي تبين الصحة الخلاف السابق. ولو نكحها في القرء الثالث، صح قطعا، لانها في عدته إن كان الحمل من الزوج، وإلا فغير معتدة. المسألة الثانية: سنذكر إن شاء الله تعالى أن الرجعية تستحق النفقة في العدة، وأن البائن لا تستحقها إلا إذا كانت حاملا، ونذكر قولين في أن تلك النفقة للحمل، أم للحامل ؟ وقولين في أن تلك النفقة تصرف إليها يوما بيوم، أم يصرف الجميع إليها عند الوضع ؟ وأن المعتدة عن وطئ شبهة لا نفقة لها على الواطئ إذا قلنا: النفقة للحامل. إذا عرفت هذه الجمل، فإن قلنا: النفقة للحامل وهو الاظهر، لم تطالب المرأة الزوج، ولا الواطئ بالنفقة مدة الحمل المحتمل. فإذا وضعت، نظر، إن ألحقه القائف بالزوج، طالبته بنفقة مدة الحمل الماضية، وهذا إذا لم تصر فراشا للثاني، بأن لم يوجد إلا وطئ شبهة، وينبغي أن يستثنى زمن اجتماعها بالثاني، فإن صارت فراشا له، بأن نكحها جاهلا وبقيت في فراشه حتى وضعت، فلا نفقة لها على الزوج، لكونها ناشزة بالنكاح، فإن فرق الحاكم بينهما قبل الوضع، طالبته(6/367)
بالنفقة من يوم التفريق إلى الوضع، ثم لا نفقة لها على الواطئ في عدتها عنه بالاقراء. وإن ألحقه القائف بالواطئ، لم يلزم واحدا منهما نفقة مدة الحمل، ويلزم الزوج نفقة مدة القرءين بعد الوضع إذا كان الطلاق رجعيا، ويلزمه أيضا نفقة مدة النفاس على الاصح، كما أن له الرجعة فيها، ولا يمنع ذلك كونه لا يحسب من العدة كمدة الحيض، وإن لم نلحقه بواحد منهما، أو لم يكن قائف، فلا نفقة على الواطئ، ولا على الزوج وإن كان الطلاق بائنا، لانا لا نعلم حال الحمل، ولا نفقة إذا لم يكن حمل. وإن كان رجعيا، فلا نفقة لمدة كونها فراشا، ولها عليه الاقل من نفقتها من يوم التفريق إلى الوضع، ونفقتها في القدر الذي تكمل به عدة الطلاق بعد الوضع وهو قرآن في المثال السابق. هذا إذا قلنا: النفقة للحامل، فإن قلنا: إنها للحمل، فعلى أحدهما نفقة مدة الحمل بيقين، فإذا أشكل الحال، أنفقا عليه بالسوية، فإن قلنا: نصرف الجميع إليها بعد الوضع، أخذت من كل واحد منهما نصف نفقتهما، هكذا رتب ابن الصباغ والروياني في جمع الجوامع، وهو المذهب. ومنهم من أطلق أنها لا تطالب واحدا منهما في مدة الحمل، ولم يفرق هؤلاء بين قولنا: النفقة للحمل أو للحامل، فعلى هذا، إذا وضعت فألحقه القائف بالواطئ، قال الامام والغزالي: لا تطالب بالنفقة الماضية، بناء على أن نفقة القريب تسقط بمضي الزمان، والذي ذكره البغوي وجماعة، أنه يطالب بتلك النفقة، وقالوا: هذه النفقة تصير دينا في الذمة وليست كنفقة الاقارب. قال الامام: ولم يقل أحد من الاصحاب، أنه إذا ألحقه القائف بالزوج، لا يطالب بالنفقة الماضية، تفريعا على أنها للحمل، وأنها تسقط بمضي الزمان، قال: والقياس يقتضي المصير إليه. أما نفقة الولد بعد الوضع وحضانته، فعلى ما ألحقه القائف به منهما، فإن لم يكن قائف، أو أشكل عليه، فهي عليهما مناصفة إلى أن يوجد القائف، أو يبلغ الصبي، فينتسب إلى أحدهما. وقيل: لا يطالبان بالنفقة في مدة الاشكال، وهو ضعيف. ثم إذا أنفقا (عليه)، ثم لحق الولد بأحدهما بإلحاق(6/368)
القائف، أو بانتسابه، رجع الآخر عليه بما أنفق بشرطين، أحدهما: أن يكون الانفاق بإذن الحاكم، وإلا فهو متبرع. والثاني: أن لا يكون مدعيا للولد، فإن كان يدعيه، فلا رجوع لانه أنفق على ولده بزعمه. ولو مات الولد في زمن الاشكال، فكفنه عليهما، وللام ثلث ماله، ويوقف الباقي بين الزوج والواطئ حتى يصطلحا. فإن كان لها ولدان آخران، أو كان لكل واحد من الزوج والواطئ ولدان، فلها السدس. فإن كان لاحدهما ولدان دون الآخر، فهل لها الثلث للشك في كونهما أخوين للميت، أم السدس لانه اليقين ؟ وجهان. قلت: الاصح أو الصحيح أنه السدس. والله أعلم. ولو أوصى إنسان لهذا الحمل بشئ، فانفصل حيا، ثم مات، فإن مات بعد قبول الزوج والواطئ الوصية، فالوصية مستقرة، لان أحدهما أبوه، والمال لورثته كما ذكرنا، وإن مات قبل أن يقبلا، فحق القبول للورثة. ولو سمى الموصي أحدهما، فقال: أوصيت لحمل فلان هذا، فإن ألحقه القائف بغير المسمى، بطلت الوصية، وإن ألحقه به، صحت، وإن نفاه باللعان، ففي بطلانها وجهان. فرع ما ذكرناه من كون العدتين من شخصين، لا يتداخلان إذا كان في شخصين محترمين. فأما إذا طلق حربي زوجته، فوطئها في عدته حربي آخر بشبهة، أو نكحها ووطئها، ثم أسلمت مع الثاني، أو دخلا بأمان، وترافعا إلينا، فحكي عن النص أنه لا يجمع عليها عدتان، بل يكفيها واحدة من يوم وطئها الثاني). وللاصحاب طرق. أحدها: الاكتفاء بعده عملا بهذا النص، لان حقوقهم ضعيفة، وماؤهم غير محترم، فيراعى أصل العدة، ويجعل جميعهم كشخص. والثاني: القطع بأنه لا بد من عدتين كالمسلمين، ورد هذا النص. والثالث: على قولين.(6/369)
ونقل السرخسي والروياني، أن بعضهم خرج من هذا النص، فيما إذا كانت العدتان لمسلمين، وجعل الصورتين على قولين نقلا وتخريجا، وهذا غريب ضعيف جدا. فإذا قلنا في الكافرين: يكفي عدة، فهل نقول: هي للوطئ الثاني فقط وتسقط بقية عدة الاول لضعف حقوق الحربي وبطلانها بالاستيلاء عليه، أو على زوجته، أم نقول: تدخل بقية العدة الاولى في الثانية ؟ وجهان. قلت: أرجحهما الاول. والله أعلم. قال المتولي: ولو أسلمت المرأة، ولم يسلم الثاني، وجب أن تكمل العدة الاولى، ثم تعتد عن الثاني قطعا، لان العدة الثانية ليست هنا أقوى حتى تسقط بقية الاولى أو تدخل فيها. قال: ولو كان الاول طلقها رجعية، وأسلمت مع الثاني، ثم أسلم الاول، فله الرجعة في بقية عدته، إن قلنا بدخولها في العدة الثانية. وإن قلنا بسقوطها، فلا. قال: ولو أراد الثاني أن ينكحها، فله ذلك إن قلنا: بسقوط بقية العدة الاولى، لانها في عدته فقط، وإن قلنا بدخولها في الثانية، فلا حتى تنقضي تلك البقية، قال: ولو كانت حاملا من الاول، لم تكفها عدة واحدة، بل تستأنف بعد الوضع عدة الثاني. وإن أحبلها الثاني، فإن قلنا: تسقط بقية الاولى، فكذا هنا، ويكفيها وضع الحمل. وإن قلنا بالتداخل، عادت بعد الوضع إلى بقية العدة الاولى، لان الحمل ليس من الاول، فلا تنقضي به عدته. ولو طلق حربي(6/370)
زوجته، فوطئها في العدة حربي بنكاح وطلقها حربي، فيها الخلاف، وفيه صور الامام المسألة. فصل طلق زوجته وهجرها، أو غاب عنها، انقضت عدتها بمضي الاقراء أو الاشهر. فلو لم يهجرها، بل كان يطؤها، فإن كان الطلاق بائنا، لم يمنع ذلك انقضاء العدة، لانه وطئ زنا لا حرمة له، وإن كان رجعيا، قال المتولي: لا تشرع في العدة ما دام يطؤها، لان العدة لبراءة الرحم وهي مشغولة. وإن كان لا يطؤها، ولكن يخالطها ويعاشرها معاشرة الازواج، فثلاثة أوجه. أحدها: لا تحسب تلك المدة من العدة، لانها شبيهة بالزوجات دون المطلقات المهجورات. والثاني: تحسب، لان هذه المخالطة لا توجب عدة، فلا تمنعها، حكاه الغزالي عن المحققين. والثالث وهو الاصح، وبه أخذ الائمة، منهم القفال والقاضي حسين، والبغوي في التهذيب والفتاوى، والروياني في الحلية: إن كان الطلاق بائنا، حسبت مدة المعاشرة من العدة. وإن كان رجعيا، فلا، لان مخالطة البائن محرمة بلا شبهة، فأشبهت الزنا بها. وفي الرجعية الشبهة قائمة، وهو بالمخالطة مستفرش لها، فلا يحسب زمن الاستفراش من العدة، كما لو نكحت في العدة زوجا جاهلا بالحال، لا يحسب زمن استفراشه. ثم يتعلق بالمسألة فرعان. أحدهما: قال البغوي في الفتاوى: الذي عندي، أنه لا رجعة للزوج بعد انقضاء الاقراء، وإن لم تنقض العدة عملا بالاحتياط في الجانبين. وفي فتاوى القفال ما يوافق هذا، وأما لحوق الطلقة الثانية والثالثة، فيستمر إلى(6/371)
انقضاء العدة عملا بالاحتياط أيضا، وقد صرح به الروياني في الحلية. الثاني: قال في البسيط: يكفي في الحكم بالمعاشرة الخلوة، ولا يكفي دخول دار هي فيها، ولا يشترط تواصل الخلوة، بل يكفي أن يخلو بها الليالي، ويفارقها الايام كما هو المعتاد بين الزوجين. فلو طالبت المفارقة، ثم جرت خلوة، ففي البناء على ما مضى احتمالان. أشبههما: البناء، وأجرى الخلاف المذكور في الاصل فيما لو(6/372)
طلق زوجته الامة فعاشرها السيد، هل تمنع من الاحتساب بالعدة ؟ قال البغوي في الفتاوى: ولو طلق زوجته ثلاثا ونكحها في العدة على ظن أن عدتها انقضت وحلت، فينبغي أن يقال: زمن استفراشها لا يحسب من العدة كالرجعية، وأما إذا خالط المعتدة أجنبي عالما، فلا يؤثر، كما لا يؤثر وطؤه. وإن خالط بشبهة، فيجوز أن يمنع من الاحتساب، كما سبق أنها في زمن الوطئ بالشبهة خارجة عن العدة. وجميع ما ذكرناه، فيما إذا كانت حائلا، فأما المعتدة بالحمل، فلا شك أن معاشرتها لا تمنع انقضاء العدة بالوضع. فرع سبق أنه إذا نكح معتدة على ظن الصحة، ووطئها، لم يحسب زمن استفراشه إياها عن عدة الطلاق. ومن أي وقت يحكم بانقضاء العدة ؟ فيه أربعة أوجه. أصحها: من وقت الوطئ، لان النكاح الفاسد لا حرمة له. والثاني: من حين يخلو بها ويعاشرها، وإن لم يطأ. والثالث: من وقت العقد إن اتصل به زفاف، وإلا فلا. والرابع: من وقت العقد وإن لم يتصل به زفاف، وبه قال القفال الشاشي، لانها بالعقد معرضة عن العدة. فرع من نكح معتدة من غيره جاهلا ووطئها، لم تحرم عليه على التأبيد، هذا هو المذهب ونصه في الجديد. وعن القديم: أنها تحرم أبدا، ومنهم من أنكر القديم. وذكر الذين أثبتوه وجهين في أن التحريم المؤبد يشترط فيه تفريط الحاكم كاللعان، أم لا، كالارضاع ؟ ونقل الروياني إجراء القديم في كل وطئ يفسد النسب، كوطئ زوجة الغير، أو أمته بالشبهة. فصل طلق رجعيا ثم راجعها، انقضت العدة، فإن طلقها بعده، فلها حالان. أحدهما: أن تكون حائلا، فإن وطئها بعد الرجعة، لزمها استئناف العدة، وإلا لزمها الاستئناف أيضا على الجديد الاظهر. وفي القديم: تبني على العدة(6/373)
السابقة. فعلى هذا، لو راجعها في خلال الطهر، فهل يحسب ما مضى من الطهر قرءا ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لان بعض القرء كالقرء. فعلى هذا إذا كانت الرجعة في خلال الطهر الثالث، ثم طلقها، فلا شئ عليها على قول البناء، لتمام الاقراء بما مضى، وأصحهما: لا، بل عليها في هذه الصورة قرء ثالث، وإنما يجعل بعض الطهر من آخره قرءا لاتصاله بالحيض، ودلالته على البراءة، بخلاف بعض الاول. الحال الثاني: أن تكون حاملا، فإن طلقها ثانية قبل الولادة، انقضت عدتها بالولادة، وطئها أم لا. وإن ولدت ثم طلقها، فإن وطئها قبل الولادة أو بعدها، لزمها استئناف العدة بالاقراء، وإن لم يطأ، استأنفت أيضا على المذهب. وقيل: وجهان، أصحهما: هذا، والثاني: لا عدة عليها، وتنقضي عدتها بالوضع، هذا كله إذا طلقها ثم راجعها ثم طلقها. فلو طلقها ولم يراجعها، ثم طلقها أخرى، فالمذهب أنها تبني على العدة الاولى، لانهما طلاقان لم يتخللهما وطئ ولا رجعة، فصار كما لو طلقها طلقتين معا. وقال ابن خيران والاصطخري والقفال: في وجوب الاستئناف قولان، كما في الحال الاول. ولو راجعها ثم خالعها، فإن جعلنا الخلع طلاقا، فهو كما لو طلقها بعد الرجعة، وإن جعلناه فسخا، فطريقان. أحدهما: أن وجوب الاستئناف على القولين. والثاني: القطع بالاستئناف، لان الفسخ ليس من جنس الطلاق، فلا تبنى عدة أحدهما على الآخر، وهذا الطريق أظهر عند الروياني، ويجري الطريقان في سائر الفسوخ، مثل أن ينكح عبد أمة ثم يطلقها رجعيا، ثم تعتق هي ويفسخ النكاح.(6/374)
فرع إذا طلق المدخول بها على عوض، أو خالعها، فله أن ينكحها في العدة، ونقل في المهذب عن المزني: أنه لا يجوز، كما لا يجوز لغيره، وهذا غريب. فإذا نكحها، فعن ابن سريج: أنه لا تنقطع عدتها ما لم يطأها، كما لو تزوجها أجنبي في العدة جاهلا، والصحيح: أنها تنقطع بنفس النكاح، لان نكاحه صحيح، وزوجته المباحة لا يجوز أن تكون معتدة منه، فعلى هذا لو طلقها بعد التجديد، نظر إن كانت حاملا، انقضت عدتها بوضع الحمل، وإن كانت حائلا ولم يدخل بها، بنت على العدة السابقة، ولم يلزمه إلا نصف المهر، لان هذا النكاح جديد طلقها فيه قبل المسيس، فلا يتعلق به العدة، ولا كمال المهر، بخلاف ما سبق في الرجعية، فإنها تعود بالرجعة إلى ذلك النكاح. وإن دخل بها، لزمها استئناف العدة، وتدخل في العدة المستأنفة بقية العدة السابقة، ولو مات عنها بعد التجديد، فالمذهب وبه قطع البغوي وغيره: أنه يكفيها عدة الوفاة، وتسقط بقية العدة السابقة، كما لو مات عن رجعية. وذكر الغزالي في اندراج تلك البقية في عدة الوفاة وجهين لاختلاف الجنس. فصل في مسائل تتعلق بالباب إحداها: نكح معتدة عن وفاة، ووطئها جاهلا، فأتت بولد يمكن كونه من كل منهما، ولا قائف، انقضت بوضعه عدة أحدهما، وعليها بعده أكثر الامرين من بقية عدة الوفاة بالاشهر، وثلاثة أقراء. الثانية: وطئ الشريكان المشتركة، لزمها استبراءان على الصحيح، كما لا تتداخل العدتان، وقيل: يكفي استبراء.(6/375)
الثالثة: أحبل إمرأة بشبهة ثم نكحها ومات قبل ولادتها، فهل تنقضي عدتها بوضع الحمل، أم بأكثر الاجلين من وضع الحمل ومدة عدة الوفاة ؟ وجهان. ولو طلقها بعد الدخول، ففي انقضاء العدتين بالوضع الوجهان، وبالله التوفيق.
الباب الثالث : في عدة الوفاة والمفقود إذا مات زوجها، لزمها عدة الوفاة بالنصوص والاجماع، فإن كانت حائلا، فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها، ويستوي فيها الصغيرة والكبيرة، وذات الاقراء وغيرها، والمدخول بها وغيرها، وزوجة الصبي والممسوح وغيرهما، وتعتبر الاشهر بالاهلة ما أمكن. فإن مات في خلال شهر، وكان الباقي منه أكثر من عشرة أيام، عدت ما بقي، وحسبت بعدة ثلاثة أشهر بالاهلة، وتكمل ما بقي من شهر الوفاة ثلاثين من الشهر الواقع بعد الثلاثة، وتضم إليه عشرة أيام، وإن كان الباقي من شهر الوفاة أقل من عشرة أيام، حسبت بعد أربعة أشهر بالاهلة، ثم تكمل بقية العشرة من الشهر السادس. وإن كان الباقي عشرة أيام بلا زيادة ولا نقص، اعتدت بها وبأربعة أهلة بعدها. ولنا وجه شاذ: أنه إن انكسر شهر، انكسر الجميع واعتبرت كلها بالعدد، والصواب الاول. وإن انطبق الموت على أول الهلال، حسبت أربعة أشهر بالاهلة، وضمت إليها عشرة أيام من الشهر الخامس. ولو كانت محبوسة لا تعرف الاستهلال، اعتدت بمائة وثلاثين يوما، والامة تعتد بنصف عدة الحرة وهو شهران وخمسة أيام. وسواء رأت في المدة دم حيض أم لم تره، ولو مات الزوج والمرأة في عدة طلاقه، فإن كانت رجعية، سقطت عنها عدة الطلاق، وانتقلت إلى عدة الوفاة، حتى يلزمها الاحداد ولا تستحق النفقة، وإن كانت بائنا أكملت عدة الطلاق، ولها النفقة إذا كانت حاملا، ولا تنتقل إلى عدة الوفاة حاملا كانت أو حائلا.(6/376)
أما إذا كانت المتوفى عنها حاملا، فعدتها بوضع الحمل بشرطه السابق في عدة الطلاق، وسواء تعجل الوضع أو تأخر. فرع عدة الوفاة تختص بالنكاح الصحيح، فلو نكح فاسدا ومات قبل الدخول، فلا عدة، وإن دخل ثم مات أو فرق بينهما، اعتدت للدخول كما تعتد عن الشبهة. فرع طلق إحدى امرأتيه، ومات قبل أن تبين التي أرادها، أو تعين إحداهما إن أبهم، نظر، إن لم تكونا ممسوستين، أو كانتا من ذوات الاشهر، فعلى كل منهما عدة الوفاة، وإن كانتا حاملتين، فعدتهما بالحمل، وإن كانتا من ذوات الاقراء، نظر، إن أراد واحدة معينة، لزم كل واحدة الاعتداد بأقصى الاجلين من عدة الوفاة، وثلاثة أقراء، وتحسب عدة الوفاة من حين الموت، وتحسب الاقراء من وقت الطلاق على الصحيح، وقيل: من حين الموت، هذا في الطلاق البائن، فإن كان رجعيا، فالرجعة تنتقل إلى عدة الوفاة، فعلى كل واحدة عدة الوفاة. وإن أبهم الطلاق، بني على أنه لو عين، هل يقع الطلاق من حين اللفظ، أم من وقت التعيين. إن قلنا: من اللفظ، فهو كما لو أراد معينة، وإن قلنا: من التعيين، فوجهان. أصحهما: أن عليهما الاعتداد بأقصى الاجلين أيضا، لكن الاقراء هنا تحسب من يوم الموت. والثاني: أن كل واحدة تعتد بعدة الوفاة، لانه كمن لم يطلق، ولو اختلف حال المرأتين، فكانت إحداهما ممسوسة أو حاملا أو ذات أقراء، والاخرى بخلافها، عملت كل واحدة بمقتضى الاحتياط في حقها كما سبق.
فصل الغائب عن زوجته، إن لم ينقطع خبره، فنكاحه مستمر، وينفق عليها الحاكم من ماله إن كان في بلد الزوجة مال، فإن لم يكن كتب إلى حاكم بلده ليطالبه بحقها، وإن انقطع خبره ولم يوقف على حاله حتى يتوهم موته، فقولان. الجديد الاظهر: أنه لا يجوز لها أن تنكح غيره حتى يتحقق موته أو طلاقه، ثم(6/377)
تعتد. والقديم: أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، ثم تنكح، ومما احتجوا به للجديد: أن أم ولده لا تعتق، ولا يقسم ماله، والاصل الحياة والنكاح، وأنكر بعضهم القديم. وسواء فيما ذكرناه المفقود في جوف البلد أو في السفر وفي القتال، ومن انكسرت سفينته ولم يعلم حاله. وإن أمكن حمل انقطاع الخبر على شدة البعد والايغال في الاسفار، فقد حكى الامام في إجراء القول القديم تردد، والاصح إجراؤه. ويتفرع على القولين صور. إحداها: إذا قلنا بالقديم، تربصت أربع سنين، ثم يحكم الحاكم بالوفاة وحصول الفرقة، فتعتد عدة الوفاة، ثم تنكح، وهل تفتقر مدة التربص إلى ضرب القاضي، أم لا ويحسب من وقت انقطاع الخبر ؟ فيه وجهان، ويقال: قولان، أصحهما عند كثير من الائمة: يفتقر، ولا تحسب ما مضى قبله، فإذا ضرب القاضي المدة فمضت، فهل يكون حكما بوفاته، أم لا بد من استئناف حكم ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا حكم الحاكم بالفرقة، فهل ينفذ ظاهرا وباطنا، أم ظاهرا فقط ؟ وجهان أو قولان. قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم. الثانية: إذا حكم القاضي بمقتضى القديم، فهل ينقض حكمه تفريعا على(6/378)
الجديد ؟ وجهان. أصحهما: نعم. الثالثة: إذا نكحت على مقتضى القديم، ثم بان الزوج ميتا وقت الحكم بالفرقة، ففي صحة النكاح على الجديد وجهان، بناء على بيع مال أبيه مع ظن الحياة إذا بان ميتا. الرابعة: طلقها المفقود، أو آلى منها، أو ظاهر، أو قذفها، فإن كان قبل الحكم بالفرقة، فلهذه التصرفات أحكامها من الزوج قطعا، وإن كان بعده، فقال الاصحاب: على الجديد: تلزم أحكامها، وليكن هذا تفريعا على أنه ينقض على الجديد حكم من حكم بالقديم. وأما إذا قلنا بالقديم، فإن قلنا: ينفذ الحكم ظاهرا فقط، ثبت أحكام هذه التصرفات، وإن قلنا: ينفذ ظاهرا وباطنا، فهو كالاجنبي يباشرها. الخامسة: نفقتها واجبة على المفقود، لانها مسلمة نفسها، فإن رفعت الامر إلى القاضي، وطلبت الفرقة، فنفقة مدة التربص عليه، لانها محبوسة عليه بعد، فإن انقضت وحكم القاضي بالفرقة والاعتداد. فإن قلنا بالقديم، فلا نفقة لها في مدة العدة، لانها عدة الوفاة. وفي السكنى قولان، وإن قلنا بالجديد، فالنفقة على المفقود، لانها زوجته، ويستمر ذلك حتى تنكح. فحينئذ تسقط لانها ناشزة بالنكاح وإن كان فاسدا. وعن القاضي أبي الطيب القطع بالنفقة في مدة العدة على القولين، كمدة التربص، والمذهب الاول، وإذا فرق بينهما وقد عاد المفقود وسلمت إليه، عادت نفقتها عليه، فإن كان الثاني دخل بها، لم يلزم المفقود نفقة زمان العدة، وإن لم بعد المفقود وعادت هي بعد التفريق إلى بيته، ففي عود النفقة قولان. وقيل: إن نكحت بنفسها بغير حكم حاكم، عادت النفقة، وإلا فلا. قال الروياني: الاظهر أنها لا تعود، وينبغي أن يقطع به إذا لم يعلم الزوج عودها إلى الطاعة. قال: وهو الذي ذكره القفال، وأما النفقة على الزوج الثاني،(6/379)
فلا يخفى حكمها على القديم، وأما على الجديد، فلا نفقة لزمن الاستفراش، إذ لا زوجية، فإن أنفق، لم يرجع عليها لانه متطوع إلا أن يلزمه الحاكم، فيرجع عليها على الصحيح، وقيل: على الزوج الاول. وإذا شرعت في عدة الثاني، فلا نفقة إلا أن تكون حاملا، فقولان بناء على أن النفقة للحمل، أم للحامل. السادسة: إذا ظهر المفقود، فإن قلنا بالجديد، فهي زوجته بكل حال، فإن نكحت، لم يطأها المفقود حتى تنقضي عدة الناكح، وإن قلنا بالقديم، ففيه طرق. أحدها: عن أبوي علي: ابن أبي هريرة، والطبري، أن الحكم كذلك، لانا تيقنا الخطأ في الحكم بموته، فصار كمن حكم بالاجتهاد، ثم وجد النص بخلافه، وهذا أصحهما عند الروياني. والثاني: إن قلنا ينفذ الحكم بالفرقة ظاهرا فقط، فالحكم كما ذكرنا. وإن قلنا: ينفذ ظاهرا وباطنا، فقد ارتفع نكاح الاول كالفسخ بالاعسار. فإن نكحت، فهي زوجة الثاني. قاله أبو إسحق. والثالث عن أبي إسحق أيضا: إن ظهر وقد نكحت، لم ترد إلى المفقود، وإن لم تنكح، ردت إليه وإن حكم الحاكم بالفرقة. والرابع: لا ترد إلى الاول قطعا. والخامس عن الكرابيسي، عن الشافعي رحمهما الله تعالى: أن المفقود بالخيار بين أن ينزعها من الثاني، وبين أن يتركها ويأخذ منه مهر المثل. ومستنده، أن عمر رضي الله عنه قضى به. وعن القاضي حسين زيادة فيه، وهي أنه إن فسخ غرم الثاني مهر مثلها. والسادس: أن نكاح الاول كان ارتفع بلا خلاف، لكن إذا ظهر المفقود، هل يحكم ببطلان نكاح الثاني ؟ وجهان. أصحهما: لا، لكن للمفقود الخيار كما ذكرنا. وإذا قلنا: نكاح الثاني باطل، فهل نقول: وقع صحيحا ثم إذا ظهر المفقود بطل ؟ أم نقول: نتبين بظهور المفقود أنه وقع باطلا ؟ وجهان. فعلى الثاني: يجب مهر المثل إن جرى دخول، وإلا فلا شئ، وعلى الاول: الواجب المسمى أو نصفه، ولو ظهر المفقود وقد نكحت وماتت، فهل يرثها الاول أم الثاني ؟ يخرج على هذه الطرق. السابعة: إذا نكحت على مقتضى القديم وأتت بولد يمكن كونه من الثاني،(6/380)
وجاء المفقود ولم يدع الولد، فهو للثاني، لان بمضي أربع سنين يتحقق براءة الرحم من المفقود، وإن ادعاه فوجهان. أصحهما: يسأل عن جهة ادعائه، فإن قال: هو ولدي ولدته زوجتي على فراشي، قلنا له: هذه دعوى باطلة، لان الولد لا يبقى في الرحم هذه المدة، وإن قال: قدمت عليها في أثناء هذه المدة فوطئتها وكان قوله محتملا، عرض الولد على القائف، والوجه الثاني: يعرض على القائف من غير بحت واستقصاء. وذكر الروياني أن الوجهين أخذا من وجهين نقلا في أن هذه المرأة لو أتت بولد من غير أن تتزوج، هل يلحق المفقود ؟ إن قلنا: نعم، فلا حاجة إلى السؤال وإن قلنا: لا وهو الاصح، فلا بد منه، وحيث قلنا: الولد للثاني، وحكمنا ببقاء النكاح الاول، فله منعها من إرضاع الولد إلا اللبأ الذي لا يعيش إلا به، وكذا إذا لم يوجد مرضعة غيرها، ثم إن لم تخرج من بيت الزوج وأرضعته فيه ولم يقع خلل في التمكين، فعلى الزوج نفقتها، سواء وجب الارضاع، أم لا، وإن خرجت للارضاع بغير إذنه، سقطت نفقتها، وإن خرجت له بإذنه، فوجهان بناء على ما لو سافرت بإذنه لحاجتها، وإن كان الارضاع واجبا، فعليه أن يأذن. الثامنة: نكحت على مقتضى القديم، ووطئها الثاني، ثم علم أن الاول كان حيا وقت نكاحه، وأنه مات بعد ذلك، فإن قلنا: تقع الفرقة ظاهرا وباطنا، فهي زوجة الثاني، ولا يلزمها بموت الاول عدة، وإن قلنا: لا فرقة باطنا، فعليها عدة الوفاة عن الاول، لكن لا تشرع فيها حتى يموت الثاني، أو يفرق بينها وبينه، وحينئذ تعتد للاول عدة الوفاة، ثم للثاني بثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر. وإن مات الثاني أولا، أو فرق بينهما، شرعت في الاقراء. فإن تمت الاقراء، ثم مات الاول، اعتدت عن الاول عدة الوفاة، وإن مات الاول قبل تمام الاقراء، فوجهان. أصحهما: تنقطع الاقراء، فتعتد عن الاول للوفاة، ثم تعود إلى بقية الاقراء. والثاني: تقدم ما شرعت فيه، وإن ماتا معا أو لم يعلم السابق منهما، اعتدت بأربعة أشهر، وعشرة أيام، وبعدها بثلاثة أقراء لتبرأ من العدتين بيقين. ولو لم يعلم موتهما حتى مضت أربعة أشهر وعشرة أيام وثلاثة أقراء بعدها، فقد انقضت العدتان، ولو كانت حاملا من الثاني، اعتدت منه بالوضع، ثم تعتد عن الاول عدة الوفاة، والاصح: أنه يحسب منها زمن النفاس، لانه ليس من عدة الثاني، وقيل: لا يحسب لتعلقه بالحمل.(6/381)
فرع زوجة الغائب إذا أخبرها عدل بوفاة زوجها، جاز لها فيما بينها وبين الله تعالى، أن تتزوج، لان ذلك خبر لا شهادة، ذكره القفال.
فصل يجب على المعتدة الاحداد في عدة الوفاة، ولا يجب في عدة الرجعية، لكن روى أبو ثور عن الشافعي رحمهما الله تعالى، أنه يستحب لها الاحداد، ومن الاصحاب من قال: الاولى أن تتزين بما يدعو الزوج إلى رجعتها. وفي عدة البائن بخلع أو استيفاء الطلقات قولان، القديم: وجوب الاحداد، والجديد: الاظهر: لا يجب، بل يستحب. والمفسوخ نكاحها لعيب ونحوه، على القولين. وقيل: لا يجب قطعا، والمعتدة عن وطئ شبهة أو نكاح فاسد، وأم الولد، لا إحداد عليهن قطعا لعدم الزوجية. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قد يحتج به على تحريم الاحداد على أم الولد، والمعتدة عن شبهة. فرع الذمية، والصبية، والمجنونة، والرقيقة، كغيرهن في الاحداد، وولي الصبية والمجنونة، يمنعهما مما تمتنع منه الكبيرة العاقلة. فرع في كيفية الاحداد وهو ترك التزين بالثياب، والحلي والطيب. النوع الاول: الثياب، ولا يحرم جنس القطن والصوف، والوبر والشعر، والكتان والقصب والدبيقي، بل يجوز لبس المنسوج منها على أنواع اختلاف ألوانها الخلقية وإن كانت نفيسة ناعمة، لان نفاستها من أصل الخلقة، لا من زينة دخلت(6/382)
عليها. وأما الابريسم، فقال الجمهور: هو كالكتان فلا يحرم ما لم تحدث فيه زينة. وقال القفال: يحرم، واختاره الامام والغزالي والمتولي، فعلى هذا، لا تلبس العتابي الذي غلب فيه الابريسم، ولها لبس الخز قطعا. ولو صبغ ما لا يحرم في جنسه، نظر في صبغه، إن كان مما يقصد منه الزينة غالبا، كالاحمر والاصفر، حرم لبسه إن كان لينا، وكذا إن كان خشنا على المشهور، وهو نصه في الام ويدخل في هذا القسم، الديباج المنقش، والحرير الملون، فيحرمان. والمصبوغ غزله قبل النسج كالبرود حرام على الاصح، كالمصبوغ بعد النسج، وإن كان الصبغ مما لا يقصد به الزينة، بل يعمل للمصيبة، واحتمال الوسخ كالاسود والكحلي، فلها لبسه وهو أبلغ في الحداد، بل في الحاوي وجه أنه يلزمها السواد في الحداد. وإن كان الصبغ مترددا بين الزينة وغيرها، كالاخضر والازرق، فإن كان براقا صافي اللون فحرام، وإن كان كدرا أو مشبعا، أو أكهب وهو الذي يضرب إلى الغبرة، جاز، وأما الطراز على الثوب، فإن كان كبيرا فحرام، وإلا فثلاثة أوجه، ثالثها: إن نسج مع الثوب، جاز، وإن ركب عليه، حرم، لانه محض زينة. النوع الثاني: الحلي، فيحرم عليها لبسه، سواء فيه الخلخال والسوار والخاتم وغيرها، والذهب والفضة، وقال الامام: يجوز لها التختم بخاتم الفضة كالرجل، وبالاول قطع الجمهور. وفي اللآلي تردد للامام، وبالتحريم قطع الغزالي وهو الاصح. قال الروياني قال بعض الاصحاب: لو كانت تلبس الحلي ليلا وتنزعه نهارا، جاز، لكنه يكره لغير حاجة، فلو فعلته لاحراز المال، لم يكره. قال: ولو تحلت بنحاس أو رصاص، فإن كان مموها بذهب أو فضة أو مشابها لهما، بحيث لا يعرف إلا بتأمل، أو لم يكن كذلك، ولكنها من قوم يتزينون بذلك، فحرام، وإلا فحلال. النوع الثالث: الطيب فيحرم عليها الطيب في بدنها وثيابها، وتفصيل الطيب(6/383)
سبق في كتاب الحج، ويحرم دهن رأسها بكل دهن. ولو كان لها لحية، حرم دهنها وإن لم يكن في الدهن طيب، لانه زينة، ويجوز لها دهن البدن بما لا طيب فيه، كالزيت والشيرج والسمن، ولا بما فيه طيب كدهن البان والبنفسج، ويحرم عليها أكل طعام فيه طيب، ويحرم أن تكتحل بما فيه طيب. وأما ما لا طيب فيه، فإن كان أسود وهو الاثمد، فحرام على البيضاء قطعا، وكذا على السوداء على المشهور والصحيح، لاطلاق الاحاديث فيه، فإن احتاجت إلى الاكتحال به لرمد وغيره، اكتحلت به ليلا ومسحته نهارا، فإن دعت ضرورة إلى الاستعمال نهارا أيضا جاز، ويجوز استعماله في غير العين، إلا الحاجب، فإنه تتزين به فيه. وأما الكحل الاصفر وهو الصبر، فحرام على السوداء، وكذا على البيضاء على الاصح، لانه يحسن العين. ويحرم أيضا أن تطلي به وجهها، لانه يصفر الوجه، فهو كالخضاب. وأما الكحل الابيض كالتوتياء ونحوه، فلا يحرم، إذ لا زينة فيه. وقيل: يحرم على البيضاء حيث تتزين به، والصحيح الاول، ويحرم الدمام، وهو ما يطلى به الوجه للتحسين. وقيل: هو الكلكون الذي يحمر الوجه، ويحرم الاسفيداج، ويحرم أن تخضب بحناء ونحوه فيما ظهر من البدن كالوجه واليدين والرجلين، ولا يحرم فيما تحت الثياب، ذكره الروياني. والغالية وإن ذهبت(6/384)
ريحها كالخضاب. قال الامام: وتجعيد الاصداغ، وتصفيف الطرة، لا نقل فيه، ولا يمنع أن يكون كالحلي. فرع يجوز للمحدة التزيين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت، لان الحداد في البدن، لا في الفرش، ويجوز التنظيف بغسل الرأس، والامتشاط، ودخول الحمام، وقلم الاظفار، والاستحداد وإزالة الاوساخ، فإنها ليست من الزينة. فرع إذا لم نوجب الاحداد على المبتوتة، ففي تحريم التطيب وجهان، لانه يحرك الشهوة. فرع يجوز لها الاحداد على غير الزوج ثلاثة أيام فما دونها، صرح به المتولي، والغزالي في البسيط للحديث الصحيح الذي ذكرناه. فرع لو تركت الاحداد الواجب عليها في كل المدة أو بعضها، عصت وانقضت عدتها. وكذا لو تركت ملازمة المسكن وخرجت من غير حاجة، عصت وانقضت عدتها بمضي المدة، كما لو بلغها وفاة الزوج بعد مضي أربعة أشهر وعشر، كانت العدة منقضية وبالله التوفيق.
الباب الرابع : في السكنى
المعتدة عن طلاق رجعي أو بائن بخلع، أو باستيفاء الطلقات، تستحق السكنى حاملا كانت أو حائلا، وكذا المعتدة عن وفاة على الاظهر. وأما المعتدة عن النكاح بفرقة غير الطلاق في الحياة، كالفسخ بردة أو إسلام أو رضاع أو عيب ونحوه، ففيها خمسة طرق. أحدها: على قولين كالمعتدة عن وفاة. والثاني: إن كان لها مدخل في ارتفاع النكاح، بأن فسخت بخيار العتق، أو(6/385)
بعيب الزوج، أو فسخ بعيبها، فلا سكنى قطعا، وإن لم يكن، بأن انفسخ بإسلامه أو ردته، أو إرضاع أجنبي، ففي استحقاقها السكنى القولان. والثالث: إن كان لها مدخل، فلا سكنى، وإلا فلها السكنى قطعا. والرابع: ذكره البغوي: إن كانت الفرقة بعيب أو غرور، فلا سكنى، وإن كانت برضاع أو مصاهرة أو خيار عتق، فلها السكنى على الاصح، لان السبب لم يكن موجودا يوم العقد، ولا استند إليه. قال: والملاعنة تستحق قطعا كالمطلقة ثلاثا. والخامس: القطع بأنها تستحق السكنى، لانها معتدة عن نكاح بفرقة في الحياة كالمطلقة. قال المتولي: هذا هو المذهب. وأما المعتدة عن وطئ شبهة أو نكاح فاسد، وأم الولد إذا أعتقها سيدها، فلا سكنى لهن، هذا بيان السكنى، وأما النفقة والكسوة، فمؤخرتان إلى كتاب النفقات. فرع الصغيرة التي لا تحتمل الجماع، هل تستحق النفقة ؟ فيه خلاف يأتي في النفقات إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: تستحقها، استحقت السكنى في العدة، وإلا فلا، والامة المزوجة ذكرنا أنه ليس على السيد أن يسلمها ليلا ونهارا، بل له استخدامها نهارا، وكذا الحكم في زمن العدة، فإن سلمها ليلا ونهارا، أو رفع اليد عنها، استحقت السكنى. وإن كان يستخدمها نهارا، فقد ذكرنا خلافا في استحقاقها، النفقة في صلب النكاح. فإن استحقتها، استحقت السكنى في العدة، وإلا فلا، لكن للزوج أن يسكنها حالة فراغها من خدمة السيد لتحصينها. فرع إذا طلقها وهي ناشزة، فلا سكنى لها في العدة، لانها لا تستحق النفقة والسكنى في صلب النكاح، فبعد البينونة أولى، كذا قاله القاضي حسين(6/386)
والمتولي، وزاد المتولي فقال: وكذا لو نشزت في العدة، سقطت سكناها. فلو عادت إلى الطاعة، عاد حق السكنى. قال الامام: إذا طلقت في مسكن النكاح، فعليها ملازمته لحق الشرع، فإن أطاعت، استحقت السكنى، وعبر بعضهم عن كلام الامام، بأنها إن نشزت على الزوج في بيته، فلها السكنى في العدة، وإن خرجت من بيته واستعصت عليه، فلا سكنى.
فصل من استحقت السكنى من المعتدات، تسكن في المسكن الذي كانت فيه عند الفراق، إلا أن يمنع منه مانع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فليس للزوج ولا لاهله إخراجها منه، ولا يجوز لها الخروج. فلو اتفق الزوجان على أن تنتقل إلى مسكن آخر من غير حاجة، لم يجز، وكان على الحاكم المنع منه. ولو انتقلت في صلب النكاح من مسكن إلى آخر بغير إذن الزوج، ثم طلقها أو مات، لزمها أن (تعود إلى الاول وتعتد فيه، ولو أذن لها بعد الانتقال أن) تقيم فيه، كان كما لو انتقلت بإذنه. وإذا انتقلت بالاذن، ثم طلق أو مات، اعتدت في المنتقل إليه، لانه المسكن عند الفراق، وإن خرجت فطلقها قبل وصولها إلى الثاني المأذون فيه، فهل تعتد في الثاني أم في الاول، أم في أقربهما إليها، أم تتخير فيهما ؟ فيه أوجه، أصحها: أولها، وهو نصه في الام لانها مأمورة بالمقام فيه، ممنوعة من الاول، والاعتبار بالانتقال ببدنها، لا بالامتعة والخدم والزوج، ولو أذن في الانتقال إلى الثاني، فانتقلت ثم عادت إلى الاول لنقل متاع وغيره فطلقها، فالمسكن هو الثاني، فتعتد فيه، كما لو خرجت لحاجة فطلقها وهي خارجة. ولو أذن لها في الانتقال إلى بلد آخر، ثم طلقها، أو مات، فحكمه كما ذكرنا فيما لو أذن في الانتقال من مسكن إلى مسكن، فإن وجد سبب الفراق بعد الانتقال إلى البلد الثاني، اعتدت فيه، وإن وجد قبل مفارقة عمران الاول، لم تخرج، بل تعود إلى(6/387)
المسكن وتعتد فيه، وإن كان في الطريق، فعلى الاوجه. وإن أذن في السفر لغير النقلة، نظر، إن تعلق بغرض مهم، كتجارة وحج وعمرة واستحلال عن مظلمة ونحوها، ثم حدث سبب الفرقة، نظر، إن كان حدث قبل خروجها من المسكن، لم تخرج بلا خلاف. وإن خرجت منه على قصد السفر ولم تفارق عمران البلد، فالاصح عند الجمهور أنه يلزمها العود إلى المسكن، لانها لم تشرع في السفر. والثاني: تتخير بين العود والمضي في السفر، لان عليها ضررا في إبطال سفرها، وفوات غرضها. والثالث: إن كان سفر حج، تخيرت، وإلا فيلزم العود، وإن حدث سبب الفرقة في الطريق، تخيرت بين العود والمضي. وقيل: إن حدث بعد مسيرة يوم وليلة تخيرت، وإن حدث قبله، تعين العود، وليس بشئ، وإذا خيرناها، فاختارت العود إلى المسكن والاعتداد، فذاك، وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه الافضل، وإن اختارت المضي إلى المقصد، فلها أن تقيم فيه إلى انقضاء حاجتها، فلو انقضت قبل تمام مدة إقامة المسافرين، فالمذكور في التهذيب والوسيط وغيرهما، أن لها أن تقيم تمام مدة المسافرين، وحكى الروياني هذا(6/388)
عن بعضهم، ثم غلط قائله وقال: نهاية سفرها قضاء الحاجة لا غير. قلت: الاصح أنه لا يجوز أن تقيم بعد قضاء الحاجة، وبه قطع صاحب المهذب والجرجاني، والرافعي في المحرر وآخرون. والله أعلم. وإن كان أذن لها في سفر نزهة فبلغت المقصد، ثم حدث ما يوجب العدة، فإن لم يقدر الزوج مدة، لم تقم أكثر من مدة المسافرين، وإن قدر، فهل الحكم كذلك، أم لها استيفاء المدة المقدرة ؟ قولان. أظهرهما: الثاني، ويجريان فيما لو قدر في الحاجة مدة تزيد على قدر الحاجة، لان الزائد كالنزهة. ففي قول: يجب الانصراف إذا انقضت الحاجة. وفي قول: تقيم المأذون فيه، ويجريان فيما لو أذن في الانتقال إلى مسكن آخر في البلد مدة قدرها ثم طلقها، أو مات، كذا حكاه الروياني عن نصه في الام وفي الوسيط أن الطلاق يبطل تلك المدة، ويجريان فيما لو أذن لها في الاعتكاف مدة ولزمتها العدة قبل مضي المدة، هل لها إدامة الاعتكاف إلى تمام المدة، أم يلزمها الخروج لتعتد في المسكن ؟ فإن لم يلزمها الخروج فخرجت، بطل اعتكافها ولم يكن لها البناء عليه إذا كان منذورا، وإن ألزمناها، فهل يبطل بالخروج، أم يجوز البناء ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. وإن حدث سبب العدة في سفر النزهة قبل بلوغها المقصد، فحيث قلنا في سفر الحاجة: يجب الانصراف، فهنا أولى. وحيث قلنا: لا يجب، فهنا وجهان. وقطع صاحب الشامل، بأنه كسفر الحاجة. وأما سفر الزيارة، فكسفر النزهة على ظاهر النص، وقيل: كسفر الحاجة، ثم إذا انتهت مدة جواز الاقامة في هذه الاحوال، فعليها الانصراف في الحال إن لم تكن انقضت مدة العدة بتمامها لتعتد بقية العدة في المسكن. فإن كان الطريق مخوفا، أو لم تجد رفقة، عذرت في التأخير. فلو علمت أن البقية تنقضي في الطريق، ففي لزوم العود وجهان. أصحهما: يلزمها، وهو نصه في الام ليكون أقرب إلى موضع العدة، ولان تلك الاقامة غير(6/389)
مأذون فيها، والعود مأذون فيه، هذا كله إذا أذن لها في السفر. فأما إذا خرجت مع الزوج ثم طلقها، أو مات، فعليها الانصراف، ولا تقيم أكثر من مدة المسافرين، إلا إذا كان الطريق مخوفا، أو لم تجد رفقة. وهذا إذا كان سفره لغرضه واستصحبها ليستمتع بها. فأما إذا كان السفر لغرضها وخرج بها، فليكن الحكم كما لو أذن لها فخرجت. وفي لفظ المختصر ما يشعر بهذا. فرع أذن لها في الاحرام بحج وعمرة، ثم طلقها قبل الاحرام، فلا تحرم، ولا تنشئ السفر بعد لزوم العدة، فلو أحرمت، فهو كما لو أحرمت بعد الطلاق بغير إذن، وحكمه أن لا يجوز لها الخروج في الحال وإن كان الحج فرضا، بل يلزمها أن تقيم وتعتد، لان لزوم العدة سبق الاحرام، فإذا انقضت العدة، أتمت عمرتها إن كانت معتمرة، وكذا الحج إن بقي وقته، فإن فات، تحللت بأفعال العمرة، ولزمها القضاء ودم الفوات. ولو أحرمت أولا بإذن الزوج، أو بغير إذنه ثم طلقها، فإن كانت تخشى فوات الحج لضيق الوقت، خرجت إلى الحج معتدة، لان الاحرام سبق العدة، مع أنه في خروجها يحصل الحج والعدة، وإن كانت لا تخشى فوات الحج أو أقامت للعدة، أو كان الاحرام بعمرة، فوجهان. أحدهما وهو مذكور في المهذب: يلزمها أن تقيم للعدة، ثم تخرج جمعا بين الحقين. وأصحهما وبه قطع الشيخ أبو حامد والاكثرون: تتخير بين أن تقيم وبين أن تخرج في الحال، لان مصابرة الاحرام مشقة. فرع منزل البدوية وبيتها من صوف ووبر وشعر، كمنزل الحضرية من طين وحجر، فإذا لزمتها العدة فيه، لزمها ملازمته، فإن كان أهلها نازلين على ما لا ينتقلون عنه، ولا يظعنون إلا لحاجة، فهي كالحضرية من كل وجه. وإن كانوا من(6/390)
قوم ينتقلون شتاء أو صيفا، فإن ارتحلوا جميعا ارتحلت معهم للضرورة، وإن ارتحل بعضهم، نظر، إن كان أهلها ممن لم يرتحل وفي المقيمين قوة وعدد، فليس لها الارتحال. وإن ارتحل أهلها وفي الباقين قوة وعدد، فوجهان، أحدهما: ليس لها الارتحال، بل تعتد هناك لتيسره، وأصحهما: تتخير بين أن تقيم وبين أن ترتحل، لان مفارقة الاهل عسرة موحشة. ولو هرب أهلها خوفا من عدو ولم ينتقلوا، ولم تخف هي، لم يجز لها الارتحال، لان المرتحلين يعودون إذا أمنوا، ولو ارتحلت حيث يجوز الارتحال، ثم أرادت الاقامة في قرية في الطريق والاعتداد فيها، جاز، لانه أليق بحال المعتدة من السير. فرع طلقها أو ماتت وهي في سفينة، فإن ركبتها مسافرة، فحكم السفر ما سبق، وإن كان الزوج ملاحا ولا منزل له سوى السفينة، فإن كانت سفينة كبيرة فيها بيوت متميزة المرافق، اعتدت في بيت منها معتزلة عن الزوج، وسكن الزوج بيتا آخر، وإن كانت صغيرة، نظر، إن كان معها محرم لها يمكن أن يعالج السفينة، خرج الزوج، واعتدت هي فيها، وإلا فتخرج هي وتعتد في أقرب المواضع إلى الشط، وإذا تعذر خروجه وخروجها، فعليها أن تستتر وتبعد منه بقدر الامكان، هكذا ذكره صاحب الشامل والتهذيب وغيرهما، وفيه إشعار بأنه لا يجوز لها الخروج من السفينة إذا أمكن الاعتداد فيها، وقد صرح به آخرون، ونقل الروياني في كتبه، أنها تتخير بين أن تعتد في السفينة، وبين أن تخرج فتعتد خارجها. فإن اختارت السفينة، نظرنا حينئذ، هل هي صغيرة أم كبيرة ؟ وراعينا التفصيل المذكور، وذكر فيما إذا اختارت الخروج، وجهين أصحهما وبه قال الماسرجسي: تعتد في أقرب القرى إلى الشط. والثاني وبه قال أبو إسحق: تعتد حيث شاءت. فرع إذا خرجت الزوجة إلى غير الدار المألوفة، أو غير البلد المألوف، ثم طلقها واختلفا، فقالت: أذنت لي في الانتقال فاعتد في المنزل الثاني، وقال: إنما(6/391)
أذنت لك في النزهة أو في غرض كذا فعودي إلى المنزل الاول فاعتدي فيه، في من يصدق منهما اختلاف نص وطرق منتشرة انتشارا كثيرا، وحاصلها: أن المذهب تصديق الزوج وإذا اختلف الزوجان، وتصديقها إذا اختلفت هي ووارث الزوج. وقيل: قولان. أحدهما: تصديق الزوج والوارث. والثاني: تصديقها لان الظاهر معها. وقيل: إن اتفقا على إذن في الخروج مطلقا، وقال الزوج: أردت النزهة، أو قال ذلك وارثه، وقالت: بل أردت النقلة، فالقول قولها، وإن قال: قلت: اخرجي للنزهة، أو قال ذلك وارثه. وقالت: بل قلت: اخرجي للنقلة، فالقول قول الزوج ووارثه. وقيل: إن تحول الزوج معها إلى المنزل الثاني فهي المصدقة عليه وعلى وارثه. وإن انفردت بالتحول، صدقا عليها. أما إذا اتفقا على جريان لفظ الانتقال، أو الاقامة، بأن قال: انتقلي إلى موضع كذا، أو اخرجي إليه وأقيمي به، قال الزوج: ضممت إليه: للنزهة، أو شهرا، أو نحوهما، وأنكرت الزوجة هذه الضميمة، أو قال ذلك وارثه، فالقول قولها، لان الاصل عدم هذه الضميمة.
فصل يجب على المعتدة ملازمة مسكن العدة، فلا تخرج إلا لضرورة أو عذر، فإن خرجت، أثمت، وللزوج منعها، وكذا لوارثه عند موته، وتعذر في الخروج في مواضع. منها: إذا خافت على نفسها أو مالها من هدم أو حريق، أو غرق، فلها الخروج، سواء فيه عدة الوفاة والطلاق، وكذا لو لم تكن الدار حصينة وخافت لصوصا، أو كانت بين فسقة تخاف على نفسها، أو تتأذى من الجيران أو الاحماء تأذيا شديدا، أو تبذو أو تستطيل بلسانها عليهم، يجوز إخراجها من المسكن، ثم في التهذيب أنها إذا بذت على أحمائها، سقطت سكناها، وعليها أن تعتد في(6/392)
بيت أهلها، والذي ذكره العراقيون والروياني والجمهور: أنه ينقلها الزوج إلى مسكن آخر، ويتحرى القرب من مسكن العدة. ثم موضع النقل بالبذاء ما إذا كانت الاحماء معها في دار تسع جميعهم، وإن كانت ضيقة لا تسع جميعهم، نقل الزوج الاحماء وترك الدار لها، وإن كان الاحماء في دار أخرى، لم ينقل المعتدة بالبذاء عن دارها، ونقل المتولي أنها تنقل لايذاء الجيران كما تنقل لايذاء الاحماء. فعلى هذا، إذا كانت في دار والاحماء في القرى، فإنها لا تنتقل بالبذاء إذا لم تكن الداران متجاورتين، ولو كان البذاء من الاحماء دونها، نقلوا دونها، ولو كانت في دار أبويها لكون الزوج كان يسكن دارهما، فبذت على الابوين، أو بذا الابوان عليها، لم ينقل واحد منهم، لان الشر والوحشة لا تطول بينهم، فلو كان أحماؤها في دار أبويها أيضا، وبذت عليهم، نقلوا دونها، لانها أحق بدار أبويها. ومنها: إذا احتاجت إلى شراء طعام، أو قطن، أو بيع غزل ونحو ذلك، نظر، إن كانت رجعية، فهي زوجته، فعليه القيام بكفايتها، فلا تخرج إلا بإذنه. قال المتولي: وكذا الحكم في الجارية المشتراة، والمسيبة في مدة الاستبراء. وأما سائر المعتدات: فيجوز المعتدة عن وفاة الخروج لهذه الحاجات نهارا، وكذا لها أن تخرج بالليل إلى دار بعض الجيران للغزل والحديث، لكن لا تبيت عندهم، بل تعود إلى مسكنها للنوم. وحكم العدة عن شبهة أو نكاح فاسد حكم عدة الوفاة. قال المتولي: إلا أن تكون حاملا. وقلنا: إنها تستحق النفقة، فلا يباح لها الخروج. وفي البائن بطلاق أو فسخ، قولان. القديم: ليس لها الخروج، والجديد: جوازه كالمتوفى عنها، قال المتولي: هذا في الحائل، أما الحامل: إذا قلنا: تعجل نفقتها، فهي مكفية فلا تخرج إلا لضرورة.(6/393)
ومنها: لو لزمها عدة وهي في دار الحرب، لزمها أن تهاجر إلى دار الاسلام. قال المتولي: إلا أن تكون في موضع لا تخاف على نفسها، ولا على دينها، فلا تخرج حتى تعتد. ومنها: إذا لزمها حق، واحتيج إلى استيفائه، فإن أمكن استيفاؤه في مسكنها، كالدين والوديعة، فعل، وإن لم يمكن، واحتيج فيه إلى الحاكم، بأن توجه عليها حد أو يمين في دعوى، فإن كانت برزة خرجت وحدت، أو حلفت، ثم تعود إلى المسكن، وإن كانت مخدرة، بعث الحاكم إليها نائبا، أو أحضرها بنفسه. ومنها: إذا كان المسكن مستعارا، أو مستأجرا، فرجع المعير، أو مضت المدة، أو طلبه المالك، فلا بد من الخروج. ومنها: البدوية تفارق المنزل وترتحل مع القوم إذا ارتحلوا. فرع لا تعذر في الخروج لاغراض تعد من الزيادات دون المهمات، كالزيارة والعمارة واستنماء المال بالتجارة، وتعجيل حجة الاسلام وأشباهها. فرع زنت المعتدة عن وفاة في عدتها وهي بكر، فعلى السلطان تغريبها، ولا يؤخره إلى انقضاء عدتها، وقيل: لا تغريب، والصحيح الاول.
فصل على الزوج أن يسكن مستحقة السكنى من المعتدات مسكنا يصلح لمثلها، فإن كان مسكن النكاح كذلك، فلا معدل عنه. وحيث قلنا: تجب ملازمة مسكن النكاح، فهذا مرادنا به، فإن أسكنها في النكاح دارا فوق سكنى مثلها، فطلقها وهي فيها، فله أن لا يرضى الآن، وينقلها إلى دار بصفة استحقاقها، ولو رضيت بدار خسيسة، فطلقها وهي فيها، فلها أن تطلب النقل إلى ما يليق بها، ويلزمه الابدال. وفي الصورتين احتمال ذكره في البسيط، والمعروف للاصحاب(6/394)
ما سبق، وينبغي أن ينقلها إلى مسكن قريب من موضعها الاول، ولا تنقل إلى الابعد مع وجود الاقرب. وظاهر كلام الاصحاب أن رعاية هذا القريب واجبة، واستبعد الغزالي الوجوب، وتردد في الاستحباب.
فصل يحرم على الزوج مساكنة المعتدة في الدار التي تعتد فيها ومداخلتها، لانه يؤدي إلى الخلوة بها، وخلوته بها كخلوته بالاجنبية، ويستثنى من ذلك موضعان. أحدهما: أن يكون في الدار محرم لها من الرجال، أو محرم له من النساء، أو من في معنى المحرم، كزوجة أخرى وجارية، ولا بد في المحرم ومن في معناه من التمييز، فلا عبرة بالمجنون، والصغير الذي لا يميز، واشترط الشافعي رضي الله عنه البلوغ، قال القاضي أبو الطيب: لان من لم يبلغ، لا تكليف عليه، فلا ينكر الفاحشة. وقال الشيخ أبو حامد: يكفي عندي حضور المراهق، والنسوة الثقات كالمحرم على الصحيح، ويكفي حضور المرأة الواحدة الثقة على الاصح، وبه قطع صاحب الشامل وغيره، والحكاية عن الاصحاب، أنه لا يجوز أن يخلو رجلان بامرأة واحدة، ويجوز أن يخلو الرجل بامرأتين ثقتين، لان استحياء المرأة من المرأة أكثر من استحياء الرجل من الرجل، ثم لا يخفى أن مساكنة الزوج والمحرم ومن في معناه، إنما يفرض فيما إذا كان في الدار زيادة على(6/395)
سكنى مثلها، فإن لم يكن كذلك، فعلى الزوج تخليتها للمعتدة، والانتقال عنها ثم المساكنة، وإن جازت بسبب المحرم، فالكراهة باقية، لانه لا يؤمن النظر. الموضع الثاني: إذا كان في الدار حجرة، فأراد أن يسكن أحدهما ويسكنها الاخرى، فإن كانت مرافق الحجرة كالمطبخ والمستراح، والبئر، والمصعد إلى السطح في الدار، لم يجز إلا بشرط المحرم، وإن كانت المرافق في الحجرة، جاز، كالحجرتين والدارين المتجاورتين وحكم السفلي والعلوي، حكم الدار والحجرة، ثم ذكر البغوي والمتولي وغيرهما، أنه يشترط أن لا يكون ممر إحداهما على الاخرى، ويغلق الباب بينهما أو يسد، وهذا حسن. ويؤيده ما ذكره الائمة أنه لو كانت الدار واسعة ولم يكن فيها إلا بيت والباقي صفف، لم يجز أن يساكنها و إن كان معها محرم، لانها لا تتميز من المسكن بموضع، فإن قال: أنا أبني بيني وبينها حائلا، وكان الذي يبقى لها سكنى مثلها، فله ذلك، ثم إن جعل باب ما يسكنه خارجا عن مسكنها، فلا حاجة إلى محرم، وإن جعله في مسكنها، لم يجز أن يسكنه إلا بشرط المحرم أو من في معناه، وقيل: لا يشترط اختلاف الممر، بل يكفي أن يغلق على الحجرة باب. ولو كانا في بيتين من دار كبيرة، وانفرد كل بباب يغلق، جاز على الاصح كبيتين من خان.
فصل إذا كانت معتدة بالاقراء أو الحمل، لم يصح بيع المسكن الذي يستحق فيه السكنى، سواء كان لها عادة مستقيمة في الاقراء والحمل، أم لا. وإن كانت تعتد بالاشهر، ففي صحة بيعه قولان، كالدار المستأجرة، وقيل: لا يصح قطعا، ويجري الطريقان سواء كانت تتوقع مجئ الحيض في أثناء الشهر، بأن كانت بنت تسع سنين فصاعدا ولم تحض، أو لا تتوقعه كالآيسة، وبنت سبع سنين. وقيل: لا يصح البيع في الصورة الاولى قطعا، فإن جوزنا البيع، فحاضت وانتقلت إلى الاقراء، خرج ذلك على اختلاط الثمار المبيعة بالحادثة بعد البيع فيما لا(6/396)
يغلب فيه التلاحق، وفيه قولان سبقا. أظهرهما: لا ينفسخ البيع، بل يثبت الخيار للمشتري. فرع لو كان المنزل مستعارا، لازمته ما لم يرجع المعير، وليس للزوج نقلها، وقيل: له نقلها في البلد الذي لا يعتاد فيه إعادة المنزل، كيلا يلحقه منة، والصحيح الاول. وإذا رجع، قال المتولي وغيره: على الزوج أن يطلبه منه بأجرة، فإن امتنع أو طلب أكثر من أجرة المثل، نقلها، وإن نقلها ثم بذل المنزل الاول مالكه، قال الروياني: إن بذله بإعارة، لم يلزم ردها إليه، وإن بذل بأجرة، فإن كان المنقول إليه مستعارا، وجب ردها إلى الاول، وإن كان بأجرة، فوجهان. فرع كان المنزل الذي تعتد فيه مستأجرا، فانقضت مدة الاجارة ولم يجدد المالك إجارة، فلا بد من نقلها، وإذا وجب النقل في هذه الصور، فالقول في تحري أقرب المواضع على ما سبق. فرع إذا كانت تسكن منزل نفسها، ففي المهذب والتهذيب أنه يلزمها أن تعتد فيه، ولها طلب الاجرة، والاصح ما ذكره صاحب الشامل وغيره أنها إن رضيت بالاقامة فيه بإعارة أو إجارة، جاز وهو الاولى، وإن طلبت نقلها، فلها ذلك، إذ ليس عليها بذل منزلها بإعارة ولا إجارة. فرع لو طلقها وهي في منزل مملوك للزوج، ثم أفلس وحجر عليه، بقي لها حق السكنى، وتقدم به على الغرماء، وكذا لو مات وعليه ديون، تقدم به على حق الغرماء والورثة، وهل للحاكم بيع رقبة المسكن ؟ فيه الطريقان السابقان، ولو أفلس وحجر عليه، ثم طلقها، ضاربت الغرماء بالسكنى، وليس ذلك كدين(6/397)
حادث، لان حقها مستند إلى سبب متقدم على الحجر وهو النكاح والوطئ فيه، ولو طلقها وليست في منزل له، ضاربتهم بالاجرة، سواء تقدم الطلاق أو تأخر، لان حقها هنا مرسل غير متعلق بعين. ومتى ضاربت، فإن كانت عدتها بالاشهر، ضاربت بأجرة المثل للاشهر، وإن كانت بالاقراء أو الحمل، نظر، إن لم تكن لها عادة فيهما، فوجهان. أصحهما: تضارب بأقل مدة يمكن انقضاء الاقراء فيها، والحامل بأجرة ما بقي من أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر من حين العلوق، لان استحقاق الزيادة مشكوك فيه. والثاني: تؤخذ بالعادة الغالبة، فتضارب ذات الاقراء بأجرة ثلاثة أشهر، والحامل بما بقي من تسعة أشهر، وهذا اختيار صاحب الحاوي. وإن كانت لها عادة مستقيمة فيهما، ضاربت بأجرة مدة العادة على الصحيح، وقيل بالاقل، وإن كان لها عادات مختلفة، وراعينا العادة، فالمعتبر أقل عاداتها. وإذا ضاربت بأجرة مدة، وانقضت العدة على وفق تلك المضاربة، فهل ترجع على المفلس بالباقي من الاجرة عند يساره ؟ حكى الشيخ أبو علي فيه طريقين، أحدهما: على وجهين بناء على أن الزوجة إذا لم تطالب بالسكنى في النكاح أو في العدة مدة، هل تصير سكنى المدة الماضية دينا لها عليه، وتطالبه بها ؟ وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. وأصحهما: القطع بالرجوع، كما في الباقي من ديون الغرماء، بخلاف مسألة الوجهين، لانها هنا طلبت الجميع، ولكن زحمة الغرماء منعتها، ولو انقضت العدة قبل تمام المدة التي ضاربت لها، ردت الفضل على الغرماء، وفي رجوعها على المفلس بما تقتضيه المحاصة للمدة المنقضية الطريقان. ولو امتدت العدة وزادت على مدة المضاربة، ففي رجوعها بحصة المدة الزائدة على الغرماء ثلاثة أوجه. أصحها: الرجوع، لانا تبينا استحقاقها، كما لو ظهر غريم، ولها أن ترجع على المفلس إذا أيسر، والثاني: لا ترجع على الغرماء، لئلا تغير ما حكمنا به، وينسب هذا إلى النص، وصححه الروياني في التجربة، والثالث: ترجع الحامل لانه حسي دون ذات الاقراء، فإنها متهمة بتأخيرها، وإذا قلنا: لا ترجع على الغرماء، رجعت على الزوج على الاصح إذا أيسر، قال(6/398)
الامام: والخلاف في رجوعها على الغرماء، إذا لم يصدقوها، فإن صدقوها رجعت عليهم بلا خلاف، قال: وفي غير صورة الافلاس إذا مضى زمن العادة، فادعت مزيدا، وتغيرا في العادة، فالذي يدل عليه كلام الاصحاب، أنها تصدق بلا خلاف، وعلى الزوج الاسكان، قال: وفيه احتمال، لانا إذا صدقناها ربما تمادت في دعواها إلى سن اليأس. فرع إذا ضاربت في صورة الافلاس بالاجرة، استؤجر بحصتها المنزل الذي وجبت فيه العدة، فإن تعذر، فأقرب الممكن كما سبق. قال ابن الصباغ: فإذا جاوزت مدة ما أخذت أجرته، سكنت حيث شاءت. فرع لو كانت المطلقة رجعية، أو حاملا، استحقت مع السكنى النفقة، وتضارب الغرماء عند إفلاس الزوج بالنفقة والسكنى، والقول في كيفية المضاربة والرجوع كما سبق، ولكن إذا قلنا: إن نفقة الحامل لا تعجل، لم يدفع إليها حصة النفقة في الحال.
فصل إذا طلقها وهو غائب، وهي في دار له بملك أو إجارة، اعتدت فيها، وإن لم يكن له مسكن وله مال، اكترى الحاكم من ماله مسكنا تعتد فيه إن لم يجد متطوعا به، فإن لم يكن له مال، اقترض عليه، واكترى، فإذا رجع، قضاه، فإن أذن لها أن تعترض عليه، أو تكتري المسكن من مالها، ففعلت، جاز، وترجع، ولو اكترت من مالها، أو اقترضت بقصد الرجوع، ولم تستأذن الحاكم، نظر، إن قدرت على الاستئذان أو لم تقدر ولم تشهد، لم ترجع، وإن لم تقدر أو أشهدت، رجعت على الاصح، وكل هذا على ما سبق في مسألة هروب الجمال ونظائرها. فرع إذا مضت مدة العدة، أو بعضها، ولم تطلب حق السكنى، سقط، ولم يصر دينا في الذمة، نص عليه، ونص أن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، بل تصير دينا في الذمة، فقيل: قولان فيهما لترددهما بين الديون ونفقة القريب، والمذهب تقرير النصين، والفرق بأن النفقة بالتمكين، وقد وجد، والسكنى لصيانة مائه على موجب نظره، ولم يتحقق، وحكم السكنى في صلب النكاح كما ذكرنا في العدة.(6/399)
فصل إذا مات الزوج في خلال العدة، لم يسقط ما استحقته المبتوتة من السكنى، وإذا استحقت السكنى، أو مات عنها وهي زوجة وقلنا: تستحق السكنى، فإن كانت في مسكن مملوك للزوج، لم يقسمه الورثة حتى تنقضي العدة، ولو أرادوا التمييز بخطوط ترسم من غير نقض وبناء، جاز إن قلنا: القسمة إفراز، وإن قلنا: بيع، فحكم بيع مسكن العدة كما سبق، وقيل: إن قلنا: إفراز، فلهم القسمة كيف شاؤوا، والصحيح الاول. وإن كان في مسكن مستأجرا أو مستعارا، واحتيج إلى نقلها، فعلى الوارث أن يستأجر لها من التركة، فإن لم يكن تركة، فليس على الوارث إسكانها. فلو تبرع به، لزمها الاجابة، وإذا لم يتبرع، ففي التهذيب أنه يستحب للسلطان أن يسكنها من بيت المال، لا سيما إن كانت تتهم بريبة، ولفظ الروياني في البحر أن السلطان لا يلزمه أن يكتري لها، إلا عند الريبة فيلزمه. وإذا قلنا: لا تجب السكنى في عدة الوفاة، فالمذهب أن للورثة إسكانها حيث أرادوا، وبهذا قطع الاصحاب. وحكى الغزالي وجهين، أصحهما هذا، والثاني: أنه إنما تلزمها الاجابة، وإذا توقع شغل الرحم بالماء، فإن لم يتبرع الوارث بإسكانها، فللسلطان أن يحصنها بالاسكان. وفي الوسيط والبسيط، أنه ليس للسلطان تعيين المسكن، بخلاف الوارث، والاول هو المذهب والمنصوص، وبه قطع الجماهير، وإذا لم يسكنها الوارث والسلطان، سكنت حيث شاءت، فلو أسكنها أجنبي متبرع، قال الروياني: إن لم يكن المتبرع ذا ريبة، فهو كالوارث، فعليها أن تسكن حيث يسكنها. قلت: وفي هذا نظر. والله أعلم.(6/400)
فرع للواطئ بشبهة أو في نكاح فاسد إسكان المعتدة.
فصل في مسائل تتعلق بالعدد إحداها: إذا طلق الغائب، أو مات، فالعدة من حين الطلاق أو الموت، لا من بلوغ الخبر. الثانية: لو نكحت المعتدة بعد مضي قرء، ووطئها الزوج الثاني، ثم جاء الاول ووطئها بشبهة، ثم فرق بينهما وبين الثاني، فتشتغل بالباقي من عدة الطلاق وهو قرءان، ويدخل فيه قرءان من عدة وطئ الشبهة، ثم تعتد عن الثاني بثلاثة أقراء، ثم تعتد عن الاول بقرء لما بقي من عدة الشبهة، ذكره القفال في الفتاوى. الثالثة: مات زوج المعتدة، فقالت: انقضت عدتي قبل موته، لا يقبل قولها في ترك العدة، ولا ترث لاقرارها. الرابعة: في فتاوى القفال: أن المعتدة لو أسقطت مؤنة السكنى عن الزوج، لم يصح الاسقاط، لان السكنى تجب يوما فيوما، ولا يصح إسقاط ما لم يجب. الخامسة: في فتاوى القفال: أن المنكوحة لو وطئت بشبهة، وصارت في العدة، فوطئها الزوج، لم يقطع وطؤه عدة الشبهة، لان وطئ الزوج لا يوجب عدة، فلا يقطعها كما لو زنت المعتدة.
الباب الخامس : في الاستبراء
فيه ثلاثة أطراف.
الأول : فيما يتعلق بنفس الاستبراء، فإن كانت المستبرأة من ذوات الاقراء،(6/401)
استبرأت بقرء، وهو حيض على الجديد الاظهر، وفي قول: هو طهر. وفي وجه: أن استبراء أم الولد لموت السيد أو إعتاقه بطهر، والامة التي يحدث ملكها بحيض، فإن قلنا: القرء هو الطهر، فصادف وجوب الاستبراء آخر الحيض، كان الطهر الكامل بعده استبراء. وهل يكفي ظهور الدم بعده، أم يعتبر يوم وليلة ؟ فيه الخلاف السابق في العدة. وفي وجه: لا بد من مضي حيضة كاملة بعد ذلك الطهر، وهو ضعيف عند الغزالي وغيره، وصححه الروياني، وإن وجد سبب الاستبراء وهي طاهر، فهل يكفي بقية الطهر ؟ وجهان. أحدهما: يكفي كما في العدة، وهذا هو الراجح في البسيط، وحكاه الماوردي عن البغداديين. والثاني: لا يكفي، ولا ينقضي الاستبراء حتى تحيض بعده ثم تطهر، وبه قطع البغوي، وحكاه الماوردي عن البصريين. وإذا قلنا: القرء الحيض، لم يكف بقية الحيض، بل يعتبر حيضة كاملة. فلو كانت حائضا عند وجوب الاستبراء، لم ينقض الاستبراء حتى تطهر، ثم تحيض حيضة، ثم تطهر، وإذا تباعد حيض ذا ت الاقراء، فحكمها في التربص إلى سن اليأس حكم المعتدة. فإن كانت المستبرأة من ذوات الاشهر، فهل تستبرئ بشهر، أم بثلاثة ؟ قولان. أظهرهما عند الجمهور: بشهر، لانه بدل قرء، ورجح صاحب المهذب وجماعة، الثلاثة، وإن كانت حاملا، نظر، إن زال فراشه عن مستولدته، أو أمته الحامل، فاستبراؤها بوضع الحمل. فإن ملك أمة، فقد أطلق المتولي، أن الحكم كذلك إن كان الحمل ثابت النسب من زوج، أو وطئ بشبهة، والاصح التفصيل. فإن ملكها بسبي حصل الاستبراء بالوضع، وإن ملك بالشراء، فإن كانت حاملا من زوج وهي في نكاحه أو عدته، أو من وطئ شبهة وهي معتدة من ذلك الوطئ، فسيأتي إن شاء الله تعالى أنه لا استبراء في الحال على المذهب. وفي وجوبه بعد العدة خلاف، وإذا كان كذلك، فليس الاستبراء بالوضع، لانه إما غير واجب، وإما مؤخر عن الوضع. وذكر البغوي في حصول(6/402)
الاستبراء في الوضع قولين. ولو كان الحمل من زنا، ففي حصول الاستبراء بوضعه حيث يحصل في ثابت النسب، وجهان. أصحهما: الحصول، لاطلاق الحديث، ولحصول البراءة بخلاف العدة، فإنها مخصوصة بالتأكيد، ولهذا اشترط فيها التكرار. فإن قلنا: لا يحصل، ورأت دما على الحمل، وقلنا: هو حيض، حصل الاستبراء بحيضة على الحمل على الاصح. وإن قلنا: ليس بحيض، أو لم تر دما، فاستبراؤها بحيضة بعد الوضع. ولو ارتابت المستبرأة بالحمل في مدة الاستبراء أو بعدها، فعلى ما ذكرناه في العدة.
الطرف الثاني : في سبب الاستبراء، وهو سببان. السبب الاول: حصول الملك، فمن ملك جارية بإرث أو هبة، أو شراء أو وصية، أو سبي، أو عاد ملكه فيها بالرد بالعيب، أو التحالف، أو الاقالة، أو خيار الرؤية، أو الرجوع في الهبة، لزمه استبراؤها، سواء في الاقالة ونحوها، ما قبل القبض وبعده، وسواء كان الانتقال إليه ممن يتصور اشتغال الرحم بمائه أو ممن لا يتصور، كإمرأة وصبي ونحوهما، وسواء كانت الامة صغيرة، أو آيسة، أو غيرهما، بكرا، أو ثيبا، وسواء استبرأها البائع قبل البيع، أم لا. وعن ابن سريج تخريج في البكر: أنه لا يجب. وعن المزني: أنه إنما يجب استبراء الحامل والموطوءة. قال الروياني: وأنا أميل إلى هذا، واحتج الشافعي رحمه الله بإطلاق الاحاديث في(6/403)
سبايا أوطاس، مع العلم بأن فيهن الصغار، والابكار، والآيسات. ولا يجب على بائع الامة استبراؤها قبل البيع، سواء وطئها أم لا، لكنه يستحب إن كان وطئها ليكون على بصيرة منها. ولو أقرض جارية لمن لا تحل له، ثم استردها قبل تصرف المقترض فيها، لزم المقرض استبراؤها إن قلنا: إن القرض يملك بالقبض، وإن قلنا: بالتصرف، لم يلزمه. فرع كاتب جاريته، ثم فسخت الكتابة، أو عجزها السيد، لزمها الاستبراء. فرع لو حرمت على السيد بصلاة أو صوم، أو اعتكاف أو رهن، أو حيض أو نفاس، ثم زالت هذه الاشياء، حلت بغير استبراء. فرع ارتدت أمته ثم أسلمت، لزمه استبراؤها على الاصح، لانه زال ملك الاستمتاع ثم عاد. قال البغوي: الوجهان مبنيان على الوجهين فيما لو اشترى مرتدة ثم أسلمت، هل يحسب حيضها في زمن الردة من الاستبراء ؟ فإن قلنا: يحسب، لم يجب الاستبراء، وإلا وجب. ولو ارتد السيد ثم أسلم، فإن قلنا: يزول ملكه بالردة، لزمه الاستبراء قطعا، وإلا فعلى الاصح كردة الامة. فرع أحرمت ثم تحللت، فالمذهب وبه قطع الجمهور: أنه لا استبراء كما لو صامت ثم أفطرت. وقيل: وجهان كالردة. فرع زوج أمته، فطلقت قبل الدخول، فهل على السيد استبراؤها ؟ قولان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى. فرع باعها بشرط الخيار، فعادت إليه بالفسخ في مدة الخيار، ففي وجوب الاستبراء خلاف، المذهب منه أنه يجب إن قلنا: يزول ملك البائع بنفس العقد، وإلا فلا.(6/404)
فرع اشترى زوجته، فوجهان. الاصح المنصوص، أنه يدوم حل وطئها، ولا يجب الاستبراء، لكن يستحب، أما أنه لا يجب، فلانه لم يتجدد حل، ولانه لا يؤدي إلى اختلاط ماء، وأما استحبابه، فلتمييز ولد النكاح عن ولد ملك اليمين، فإنه في النكاح ينعقد مملوكا، ثم يعتق ولا تصير به أم ولد. وفي ملك اليمين ينعقد حرا وتصير أم ولد. والثاني: يجب الاستبراء لتجدد الملك. ولو اشتراها بشرط الخيار، فهل له وطؤها في مدة الخيار لانها منكوحة أو مملوكة، أم لا للتردد في حالها ؟ وجهان، قال البغوي: المنصوص أنه لا يحل. ولو طلقها ثم اشتراها في العدة، وجب الاستبراء قطعا، لانه ملكها وهي محرمة عليه. ولو اشترى زوجته ثم أراد تزويجها لغيره، لم يجز إن كان دخل بها قبل الشراء إلا بعد قرءين، لانه إذا انفسخ النكاح وجب أن تعتد منه، فلا تنكح غيره حتى تنقضي عدتها بقرءين. فلو مات عقب الشراء، لم يلزمها عدة الوفاة، بل تكمل عدة الانفساخ، كذا ذكره ابن الحداد، وحكى عن نصه في الاملاء. فرع اشترى مزوجة أو معتدة عن زوج، أو وطئ شبهة، والمشتري عالم بالحال أو جاهل، وأجاز البيع، فلا استبراء في الحال، لانها مشغولة بحق غيره. فإن طلقت قبل الدخول أو بعده، وانقضت عدة الشبهة، فهل يلزم للمشتري الاستبراء ؟ قولان. أظهرهما: نعم. وقد يقال: يجب الاستبراء، ويرد الخلاف إلى أنه هل تدخل في العدة ؟ واستنبط القاضي حسين من القولين عبارتين يتخرج عليهما مسائل. إحداهما: أن الموجب للاستبراء حدو ث ملك الرقبة مع فراغ محل الاستمتاع. والثانية: أن الموجب حدوث حل الاستمتاع في المملوكة بملك اليمين،(6/405)
فعلى العبارة الاولى: لا يجب الاستبراء عند انقضاء العدة، لانه لم يحدث حينئذ ملك، وعند حدوثه لم يكن محل الاستمتاع فارغا، وعلى الثانية: يجب. وخرج بعضهم عليهما الخلاف فيما لو اشترى مجوسية فحاضت ثم أسلمت، هل يلزم الاستبراء بعد الاسلام، أم يكفي ما سبق ؟ وكذا الخلاف فيما لو زوج وطلقت قبل الدخول، هل على السيد استبراء ؟ فعلى الاولى، لا. وعلى الثانية، نعم. ويجري الخلاف فيما لو زوجها وطلقت بعد الدخول وانقضت عدتها، أو وطئت بشبهة وانقضت عدتها. وإذا قلنا: فيما إذا اشترى مزوجة وطلقت، لا يجب الاستبراء، فلمن يريد تعجيل الاستمتاع أن يتخذ ذلك حيلة في اندفاع الاستبراء، فيسأل البائع أن يزوجها ثم يشتريها، ثم يسأل الزوج أن يطلقها، فتحل في الحال، لكن لا يجوز تزويج الموطوءة إلا بعد الاستبراء، فإنما يحصل الغرض إذا لم تكن موطوءة، أو كان البائع قد استبرأها. وإذا كانت الجارية كذلك، فلو أعتقها المشتري في الحال، وأراد أن يزوجها البائع أو غيره، أو يتزوجها بنفسه، جاز على الاصح، ذكره البغوي وغيره. فعلى هذا، من يريد تعجيل الاستمتاع يمكنه أن يعتقها في الحال ويتزوجها، ولا يحتاج إلى سؤال البائع أن يزوجها أولا إذا كان يسمح بفوات ماليتها. فرع إذا تم ملكه على جميع جارية كانت مشتركة بينه وبين غيره، لزمه الاستبراء، ولو أسلم في جارية وقبضها، فوجدها بغير الصفة المشروطة فردها، لزم المسلم إليه الاستبراء. فرع إذا كانت الجارية المشتراة محرما للمشتري، أو اشترتها إمرأة أو رجلان، فلا معنى للاستبراء إلا فيما يرجع إلى التزويج. فرع ظهر بالمشتراة حمل فقال البائع: هو مني، نظر، إن صدقه المشتري، فالبيع باطل باتفاقهما، والجارية مستولدة للبائع. وإن كذبه، نظر، إن لم يقر البائع بوطئها عند البيع ولا قبله، لم يقبل قوله، كما لو قال بعد البيع: كنت أعتقته، لكن يحلف المشتري، أنه لا يعلم كون الحمل منه. وفي ثبوت نسبه من(6/406)
البائع خلاف، لانه يقطع إرث المشتري بالولاء، وإن كان أقر بوطئها، نظر، إن كان استبرأها ثم باعها، ثم ولدت لدون ستة أشهر من وقت استبراء المشتري، فالولد لاحق بالبائع، والجارية مستولدة له، والبيع باطل، وإن ولدت لستة أشهر فأكثر، لم يقبل قوله، ولم يلحقه الولد، لانه لو كان ملكه، لم يلحقه، ثم ينظر، إن لم يطأها المشتري، أو وطئها وولدت لدون ستة أشهر من وقت وطئه، فالولد مملوكه. وإن ولدته لستة أشهر فأكثر من وطئه، فالولد لاحق بالمشتري، والجارية مستولدة له. وإن لم يستبرئها البائع قبل البيع، نظر، إن ولدت لاقل من ستة أشهر من وقت استبراء المشتري، أو لاكثر ولم يطأها المشتري، فالولد للبائع، والبيع باطل. وإن وطئها المشتري وأمكن أن يكون من هذا، وأن يكون من ذاك، عرض على القائف. فرع لا يجب في شراء الامة التي كان البائع يطؤها إلا استبراء واحد، لحصول البراءة، فلو اشتراها من شريكين وطئاها في طهر واحد، فهل يكفي استبراء لحصول البراءة، أم يجب استبرءان كالعدتين من شخصين ؟ وجهان. ويجريان فيما لو وطئاها وأرادا تزويجها، فهل يكفي استبراء، أم يجب استبراءان. ولو وطئ أجنبيان أمة كل يظنها أمته، قال المتولي: وطئ كل واحد يقتضي استبراء بقرء. وفي تداخلهما وجهان. أصحهما: المنع. فصل من ملك أمة، لم يجز له وطؤها حتى ينقضي الاستبراء. وأما الاستمتاع بالقبلة واللمس والنظر بشهوة ونحوها، فحرام إن ملكها بغير السبي، وإن ملكها بالسبي، فحلال على الاصح. وإذا طهرت من الحيض وتم الاستبراء، بقي تحريم الوطئ حتى تغتسل، ويحل الاستمتاع قبل الغسل على الصحيح.(6/407)
فصل وجب الاستبراء لا يمنع المالك من إثبات اليد على الجارية، بل هو مؤتمن فيه شرعا، لان سبايا أوطاس لم ينزعن من أيدي أصحابهن، وسواء كانت حسناء أم قبيحة. فصل لو مضى زمن الاستبراء بعد الملك وقبل القبض، هل يعتد به ؟ نظر، إن ملك بالارث، اعتد به، وإن ملك بالهبة، فلا. وإن ملك بالشراء، اعتد به على الاصح، وفي الوصية، لا يعتد بما قبل القبول، ويعتد بما بعده على المذهب. ولو وقع الحمل أو الحيض في زمن خيار الشرط في الشراء، فإن قلنا: الملك للبائع، لم يحصل الاستبراء. وإن قلنا: للمشتري، لم يحصل أيضا على الاصح، لضعف الملك. وقيل: يحصل، وقيل: يحصل في صورة الحمل دون الحيض، لقوة الحمل. فرع لو اشترى مجوسية أو مرتدة، فمضت عليها حيضة، أو ولدت ثم أسلمت، فهل تعتد بالاستبراء في الكفر لوجود الملك، أم يجب بعد الاسلام ليستعقب حل الاستمتاع ؟ وجهان، أصحهما الثاني. فرع إذا اشترى العبد المأذون له جارية، فللسيد وطؤها إن لم يكن على العبد دين، فإن كان، لم يجز، لئلا يحبلها. فإن انفكت عن الديون بقضاء أو إبراء، وقد جرى قبل الانفكاك ما يحصل به الاستبراء، فهل يعتد به، أم يشترط وقوع الاستبراء بعد الانفكاك ؟ وجهان كالمجوسية، أصحهما الثاني، وبه قطع العراقيون.(6/408)
ولو رهنها قبل الاستبراء، ثم انفك الرهن، قال في الشامل: يجب استبراؤها، ولا يعتد بما جرى، وهي مرهونة، وغلطه الروياني. فرع لو وطئها قبل الاستبراء، أو استمتع بها، وقلنا بتحريمه، أثم، ولا ينقطع الاستبراء، لان الملك لا يمنع الاحتساب، فكذا المعاشرة بخلاف العدة. فلو أحبلها بالوطئ في الحيض، فإن انقطع الدم، حلت له لتمام الحيضة، وإن كانت طاهرا عند الاحبال، لم ينقض الاستبراء حتى تضع الحمل، هذا لفظه في الوسيط وبالله التوفيق. السبب الثاني: زوال الفراش عن موطوءة بملك يمين، فإذا أعتق أمته التي وطئها، أو مستولدته، أو مات عنها، وليست في زوجية ولا عدة نكاح، لزمها الاستبراء، لانه زال عنها الفراش، فأشبهت الحرة، ويكون استبراؤها بقرء، كالممتلكة. ولو مضت مدة الاستبراء على أم الولد، ثم أعتقها سيدها، أو مات عنها، فهل يكفي ذلك، أم يلزمها الاستبراء بعد العتق ؟ وجهان، وقيل: قولان. أصحهما: الثاني، كما لا تعتد المنكوحة بما تقدم من الاقراء على ارتفاع النكاح، والخلاف مبني على أن أم الولد، هل تخرج عن كونها فراشا بالاستبراء أو الولادة، وهل تعود فراشا للسيد إذا مات زوجها أو طلقها وانقضت عدتها، أم لا تعود ولا تحل له إلا بالاستبراء ؟ ولو استبرأ الامة الموطوءة، ثم أعتقها، قال الاصحاب: لا استبراء عليها، ولها أن تتزوج في الحال، ولم يطردوا فيها الخلاف الذي في المستولدة، لان المستولدة يشبه فراشها فراش النكاح، ولو لم تكن الامة موطوءة، لم تكن فراشا، ولم يجب الاستبراء بإعتاقها.(6/409)
فرع لا يجوز تزويج الامة الموطوءة قبل الاستبراء، بخلاف بيعها، لان مقصود النكاح الوطئ، فينبغي أن يستعقب الحل. وفي جواز تزويج أم الولد خلاف مذكور في باب أمهات الاولاد الاصح الصحة. فعلى هذا، لا تزوج حتى تستبرأ. ولو استبرأها، ثم أعتقها، فهل يجوز تزويجها في الحال، أم تحتاج إلى استبراء جديد ؟ وجهان. قلت: أصحهما. والله أعلم. ولو اشترى أمة وأراد تزويجها قبل الاستبراء، فإن كان البائع وطئها، لم يجز إلا أن يزوجها به. وإن لم يكن وطئها البائع، أو وطئها واستبرأها قبل البيع، أو كان الانتقال من إمرأة أو صبي، جاز تزويجها في الحال على الاصح، كما كان للبائع تزويجها بعد الاستبراء. فرع إذا أعتق مستولدته، أو مات عنها وهي في نكاح أو عدة زوج، فلا استبراء عليها، لانها ليست فراشا للسيد. وخرج ابن سريج قولا أنه يلزمها الاستبراء بعد فراغ عدة الزوج. وحكى السرخسي هذا قولا قديما، وحكي أيضا عن الاصطخري، والمذهب الاول، وهو المنصوص، وبه قطع الجمهور. وقال الشيخ أبو علي: فعلى المذهب متى انقضت عدة الزوج، وكان السيد حيا، عادت فراشا له، وعلى التخريج لا تعود فراشا حتى يستبرئها. ولو أعتقها، أو مات عقب انقضاء عدة الزوج، فقيل: لا استبراء عليها، والصحيح المنصوص وجوبه. لكن هل يشترط لوجوبه أن يقع إعتاق السيد أو موته بعد انقضاء العدة بلحظة لتعود فيها فراشا للسيد، أم لا لكون مصيرها فراشا أمرا حكميا لا يحتاج إلى زمن حسي ؟ وجهان. أرجحهما الثاني. ولو انقضت عدتها ولم يمت السيد ولم يعتقها، فالمذهب والمنصوص في(6/410)
الجديد: أنها تعود فراشا للسيد، وتحل له بلا استبراء. وحكي قول قديم: أنها لا تحل له بلا استبراء، فعلى المذهب، لو مات السيد بعد ذلك، لزمها الاستبراء، وعلى القديم: لا استبراء. والخلاف في حل أم الولد إذا زال حق الزوج، كالخلاف فيما إذا زال حق الزوج عن الامة المزوجة، هل يحتاج السيد إلى استبرائها ؟ لكن الراجح في الامة الاحتياج. ونقله البندنيجي عن النص، لان فراش أم الولد أشبه بالنكاح، ولهذا ولد أم الولد يلحقه إذا ولدته بعد ستة أشهر من حين استبرائها، وولد الامة لا يلحقه، كذا قاله الروياني. ولو أعتق مستولدته، أو مات عنها وهي في عدة وطئ شبهة، فهل يلزمها الاستبراء تفريعا على المنصوص فيما إذا كانت في عدة زوج ؟ وجهان. أصحهما الوجوب. فرع أعتق مستولدته، وأراد أن يتزوجها قبل تمام الاستبراء، جاز على الاصح، كما يتزوج المعتدة منه بنكاح أو وطئ شبهة. فرع المستولدة المزوجة، إذا مات عنها سيدها وزوجها جميعا، فلها أحوال. أحدها: أن يموت السيد أولا، فقد مات وهي مزوجة، وقد ذكرنا أنه لا استبراء عليها على المذهب، فإذا مات الزوج بعده، اعتدت عدة حرة، وكذا لو طلقها. الحال الثاني: أن يموت الزوج أولا، فتعتد عدة أمة شهرين وخمسة أيام، فإن مات السيد وهي في عدة الزوج، فقد عتقت في أثناء العدة، وقد سبق في أول كتاب العدد الخلاف، في أنها هل تكمل عدة حرة أم عدة أمة ؟ والمذهب أنه لا استبراء عليها كما ذكرناه قريبا. وإن أوجبناه، فإن كانت ذوات الاشهر، استبرأت بشهر بعد العدة، وإن كانت من ذوات الاقراء، استبرأت بحيضة بعد العدة إن لم تحض في العدة، فإن حاضت في العدة بعد ما عتقت، كفاها ذلك. وإن مات السيد بعد خروجها من العدة، لزمه الاستبراء على الاصح تفريعا على عودها فراشا.(6/411)
الحال الثالث: أن يموت السيد والزوج معا، فلا استبراء، لانها لم تعد إلى فراشه. ويجئ فيه الخلاف المذكور، فيما إذا عتقت وهي معتدة، وهل تعتد عدة أمة، أم عدة حرة ؟ وجهان. أصحهما عند الغزالي: عدة أمة، وقطع البغوي بعدة حرة احتياطا. الحال الرابع: أن يتقدم أحدهما ويشكل السابق، فله صور. إحداها: أن يعلم أنه لم يتخلل بين موتهما شهران وخمسة أيام، فعليها أربعة أشهر وعشر من موت آخرهما موتا، لاحتمال أن السيد مات أولا، ثم مات الزوج وهي حرة، ولا استبراء عليها على الصحيح، لانها عند موت السيد زوجة أو معتدة. وإن أوجبنا الاستبراء، فحكمه كما نذكره إن شاء الله تعالى في الصورة الثانية. ولو تخلل شهران وخمسة أيام بلا مزيد، فهل هو كما لو كان المتخلل أقل من هذه المدة، أم كما لو كان أكثر منها ؟ فيه الوجهان السابقان. الصورة الثانية: أن يعلم أنه تخلل بين الموتين أكثر من شهرين وخمسة أيام، فعليها الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام من موت آخرهما موتا، ثم إن لم تحض في هذه المدة، فعليها أن تتربص بعدها بحيضة لاحتمال أن الزوج مات أولا، وانقضت عدتها، وعادت فراشا للسيد، وإن حاضت في هذه المدة، فلا شئ عليها، وسواء كان الحيض في أول المدة أو آخرها. وقيل: يشترط كونه بعد شهرين وخمسة أيام من هذه المدة لئلا يقع الاستبراء وعدة الوفاة في وقت واحد. قال الاصحاب: هذا غلط، لان الاستبراء إنما يجب على تقدير تأخر موت السيد، وحينئذ تكون عدة الوفاة منقضية بالمدة المتخللة، ولا يتصور الاجتماع سواء كان الحيض في أول هذه المدة أو آخرها. ولو كانت المستولدة ممن لا تحيض، كفاها أربعة أشهر وعشرة أيام.(6/412)
الصورة الثالثة: أن لا يعلم كم المدة المتخللة، فعليها التربص كما ذكرناه في الصورة الثانية، أخذا بالاحوط، ولا نورثها من الزوج إذا شككنا في أسبقهما موتا، فإن ادعت علم الورثة أنها كانت حرة يوم موت الزوج، فعليهم الحلف على نفي العلم. فصل متى قالت المستبرأة: حضت، صدقت بلا يمين. ولو امتنعت على السيد فقال: قد أخبرتني بانقضاء الاستبراء، صدق السيد على الاصح، لان الاستبراء مفوض إلى أمانة السيد، ولهذا لا يحال بينه وبينها، بخلاف المعتدة من وطئ بشبهة، فإنه يحال بين الزوج وبينها. وهل لها تحليف السيد ؟ وجهان. حقيقتهما: أنه هل للامة المخاصمة ؟ ويقرب منه ما إذا ورث جارية فادعت أن مورثها وطئها، وأنها حرمت عليه بوطئه، فلا يلزمه تصديقها. وطريق الورع لا يخفى. وهل لها تحليفه ؟ فيه هذان الوجهان. قلت: الاصح أن لها التحليف في الصورتين، وعليها الامتناع من التمكين إذا تحققت بقاء شئ من زمن الاستبراء وإن أبحناها له في الظاهر. والله أعلم. فصل وطئ السيد أمته في عدتها عن وفاة زوج، ثم مات السيد، فعليها إكمال عدة الوفاة، ثم تتربص بحيضة لموت السيد. فلو مرت بها حيضة في بقية عدة الوفاة، لم يعتد بها، لانهما واجبان لشخصين، فلا يتداخلان. ولو لم يمت السيد، لكن أراد تزويجها، فكذلك تكمل عدة الوفاة، ثم تتربص بحيضة، ثم يتزوجها، ولو أراد أن يطأها بعد عدة الوفاة، فالصحيح جوازه، ولا حاجة إلى الاستبراء، ولو كانت في عدة طلاق، فوطئها السيد، ثم مات، أكملت عدة الطلاق، ثم تربصت بحيضة لموت السيد، ولا تحسب المدة من وقت وطئ السيد إلى موته إن كان يستفرشها، كما لو نكحت في العدة وكان الزوج الثاني يستفرشها جاهلا، هذا كله إذا وطئها ولم يظهر بها حمل. أما إذا وطئها السيد في عدة الوفاة ومات، فظهر بها حمل وولدت لزمن يمكن أن يكون من الزوج، وأن يكون من السيد، عرض على القائف، فإن ألحقه بالزوج، انقضت عدتها بالوضع، وعليها حيضة بعد طهرها من النفاس، وإن ألحقه بالسيد، حصل الاستبراء بوضعه، وعليها بعد إتمام عدة الوفاة. فإن لم يكن قائف، فعليها إتمام بقية العدة بعد الوضع على(6/413)
تقدير كون الولد من السيد، وعلى تقدير كونه من الزوج، فعليها التربص بحيضة بعد الوضع، فيلزمها أطول المدتين، فإن وقعت الحيضة في بقية عدة الوفاة، كفاها ذلك. ولو ظهر بها حمل والصورة في عدة الطلاق، فولدت لزمان يحتملها، فإن ألحق بالزوج، فعليها بعد الوضع حيضة، وإن ألحق بالسيد، فعليها بعده بقية العدة، وإن أشكل، فعليها بقية العدة، أو حيضة فتأخذ بأكثرهما. فرع اشترى مزوجة، فوطئها قبل العلم بأنها مزوجة، وظهر بها حمل، ومات الزوج، فإن ولدت لزمن يحتمل كونه منهما، بأن ولدت لستة أشهر فصاعدا من وطئ السيد، ولا ربع سنين فأقل من وطئ الزوج، عرض على القائف. فإن ألحقه بالزوج، انقضت العدة بالوضع، وإن ألحقه بالسيد، لم تنقض بالوضع، وكذا لو لم يكن قائف، أو أشكل عليه، لم تنقض العدة بالوضع، لاحتمال كونه من السيد، وعليها إتمام عدة الوفاة شهرين وخمسة أيام، ولا تحسب مدة افتراش السيد من العدة. وإن احتمل أن يكون الولد من السيد دون الزوج، فكذا الحكم، وإن احتمل كونه من الزوج دون السيد، انقضت العدة بوضعه، وهل على السيد الاستبراء بعد العدة ؟ فيه الخلاف السابق، ولو لم يظهر بها حمل والتصوير كما ذكرنا، فإما أن يموت الزوج عقب الوطئ، وإما بعده بمدة، فإن مات عقبه، اعتدت عدة الوفاة. وهل تحل بعدها للسيد، أم تحتاج إلى استبراء ؟ فيه الخلاف. ولا يجوز تزويجها إلا بعد الاستبراء بلا خلاف. وإن عاش بعد الوطئ مدة، لزمه اعتزالها إذا علم الحال حتى تنقضي مدة الاستبراء، كالمنكوحة توطأ بالشبهة. وإذا مات بعد انقضائها، فليس عليها إلا عدة الوفاة، وتحل للسيد بعدها، وله تزويجها بلا استبراء جديد. ولو استفرشها الزوج بعد وطئ السيد جاهلا ثم مات، فإذا قضت عدته، فهل تحل للسيد بغير استبراء ؟ فيه الخلاف السابق. ولا يجوز تزويجها إلا بعد الاستبراء. فرع رجل له زوجة وأمة مزوجة، حنث في طلاق الزوجة، أو عتق الامة ومات قبل البيان، ثم مات زوج الامة، لزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشرة أيام من يوم مات الزوج، لاحتمال أن السيد حنث في عتقها، ويلزم إمرأته الاكثر من أربعة أشهر(6/414)
وعشر، وثلاثة أقراء. فلو كان لزوج الامة أمة أيضا، وحنث أيضا هو في عتقها، أو طلاق زوجته الامة وماتا قبل البيان، فعلى كل واحدة الاكثر من أربعة أشهر وعشر، وثلاثة أقراء. الطرف الثالث : فيما تصير به الأمة فراشا، فيه مسائل. الاولى: لا تصير الامة فراشا بمجرد الملك، فلو كانت تحل له وخلا بها، فولدت ولدا يمكن كونه منه، لم يلحقه، بخلاف الزوجة، لان مقصود النكاح الاستمتاع والولد، وإنما تصير الامة فراشا إذا وطئها، فإذا أتت بعد الوطئ بولد لزمان يمكن أن يكون منه، لحقه ويعرف الوطئ بإقراره أو بالبينة. فلو نفى الولد مع الاعتراف بالوطئ، فإن ادعى الاستبراء بحيضة بعد الوطئ، نظر، إن ولدته لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء، فالاستبراء لغو فيلحقه الولد. فلو أراد نفيه باللعان، فقد سبق في كتاب اللعان، أن الصحيح جواز اللعان في هذه الصورة، وإن ولدته لستة أشهر إلى أربع سنين، فالمذهب والمنصوص أنه لا يلحقه، وقد سبق فيه خلاف وتخريج. فلو أنكرت الاستبراء، فهل يحلف السيد، أم يصدق بغير يمين ؟ وجهان. الصحيح الذي عليه الجمهور، أنه يحلف. فعلى هذا، هل يكفي الحلف على الاستبراء، أم يضم إليه أن الولد ليس منه، أم يكفي الحلف أن الولد ليس منه من غير تعرض للاستبراء كما في نفي ولد الزوجة ؟ فيه أوجه. أصحها الثالث، ويفهم منه، أنه لو علم أن الولد من غيره ولم يستبرئها، جاز له نفيه والحلف عليه، لا على سبيل اللعان. وإذا حلف على الاستبراء، فهل يقول: استبرأتها قبل ستة أشهر من(6/415)
ولادتها هذا الولد، أم يقول: ولدته بعد ستة أشهر بعد استبرائي ؟ فيه وجهان. ولو نكل، فوجهان. أحدهما: يلحقه بنكوله. والثاني: تحلف الامة، فإن نكلت توقفنا إلى بلوغ الصبي، فإن حلف بعد البلوغ، لحق به. المسألة الثانية: ادعت الوطئ وأمية الولد، وأنكر السيد أصل الوطئ، فالصحيح أنه لا يحلف، وإنما حلف في الصورة السابقة، لانه سبق منه الاقرار بما يقتضي ثبوت النسب، وقيل: يحلف، لانه لو اعترف به ثبت النسب. وإذا لم يكن ولد، لم يحلف بلا خلاف. الثالثة: أقر بالوطئ فأتت بولد لاكثر من أربع سنين من وقت الوطئ، لم يلحقه على الصحيح، وقيل: يلحقه كولد الزوجة، وهذا تفريع على أنه يلحقه بعد الاستبراء، ويقرب منه الخلاف فيما لو أتت بولد يلحق السيد، ثم ولدت آخر لستة أشهر فصاعدا، هل يلحقه الثاني، لانها صارت فراشه فيلحقه أولادها كالزوجة، أم لا يلحقه ؟ إلا أن يقر بوطئ جديد، لان هذا الفراش يبطل بالاستبراء، فبالولادة أولى. أما لو أتت بالولد الثاني لدون ستة أشهر، فهما حمل واحد، فإذا لحقه الاول، لحقه الثاني بلا خلاف. وأصل الخلاف أن أم الولد، هل تعود فراشا للسيد إذا انقطعت علقة الزوج عنها نكاحا وعدة ؟ وفيه قولان. أحدهما: تعود حتى لو مات السيد، أو أعتقها بعد ذلك لزمها الاستبراء. ولو أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من انقطاع علقة الزوج، لحق السيد. والثاني: لا تعود فراشا ما لم يطأها، فلو ولدت لدون أربع سنين من الطلاق، لحق بالزوج. لكن الاظهر، أن أم الولد تعود فراشا، والاصح أنه لا يلحقه الولد الثاني إلا أن يقر بوطئ جديد، لان الولادة أقوى من الاستبراء. الرابعة: قال: كنت أطأ وأعزل، لحقه الولد على الاصح، لان الماء قد يسبق، ولان أحكام الوطئ لا يشترط فيها الانزال. وقيل: ينتفي عنه كدعوى الاستبراء، ولو قال: كنت أطأ في الدبر، لم يلحقه الولد على الصحيح، ولو(6/416)
قال: كنت أصيبها فيما دون الفرج، لم يلحقه على الاصح. فصل لو اشترى زوجته، فولدت بعد الشراء، فقد سبق في كتاب اللعان بيان أنه متى يلحقه هذا الولد بالنكاح، ومتى يلحقه بملك اليمين، ومتى لا يلحقه ؟ ولا يحكم بكونها أم ولد إذا احتمل كونه من النكاح فلم يقر بالوطئ بعد الشراء. وقيل: يلحق إذا أمكن كونه من وطئ ملك اليمين وهو ضعيف، ولو أقر بالوطئ بعد الشراء، ولحق الولد بملك اليمين، ولكن احتمل كونه من النكاح، ثبتت أمومة الولد على الاصح، وأجري الوجهان فيما لو زوج أمته وطلقت قبل الدخول، وأقر السيد بوطئها فولدت لزمن يحتمل كونه منهما، وبالله التوفيق.(6/417)
كتاب الرضاع
الرضاع يؤثر في تحريم النكاح، وثبوت المحرمية المفيدة لجواز النظر والخلوة(6/418)
دون سائر أحكام النسب، كالميراث، والنفقة، والعتق بالملك، وسقوط القصاص، ورد الشهادة وغيرها، وهذا كله متفق عليه. ثم في كتاب الرضاع أربعة أبواب:
الأول : في أركانه وشروطه، أما الاركان فثلاثة :
الأول : المرضع، وله ثلاثة شروط، الاول: كونه إمرأة، فلبن البهيمة لا يتعلق به تحريم، فلو شربه صغيران لم يثبت بينهما أخوة، ولا يحرم لبن الرجل أيضا على الصحيح، وقال الكرابيسي: يحرم، ولبن الخنثى لا يقتضي أنوثته على المذهب، فلو ارتضعه صغير، توقف في التحريم، فإن بان أنثى، حرم، وإلا، فلا. الشرط الثاني: كونها حية، فلو ارتضع ميتة، أو حلب لبنها، وهي ميتة، لم يتعلق به تحريم، كما لا تثبت حرمة المصاهرة بوطئ الميتة. ولو حلب لبن حية، وأوجر الصبي بعد موتها، حرم على الصحيح المنصوص. الشرط الثالث: كونها محتملة للولادة، فلو ظهر لصغيرة دون تسع سنين لبن،(6/419)
لم يحرم، وإن كانت بنت تسع وإن لم يحكم ببلوغها، لان احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنسب فكفى فيه الاحتمال. فرع سواء كانت المرضعة مزوجة، أم بكرا، أم بخلافهما، وقيل: لا يحرم لبن البكر، والصحيح الاول، ونص عليه في البويطي. فرع نص في البويطي أنه إذا نزل لرجل لبن، فارتضعته صبية، كره له نكاحها.
الركن الثاني : اللبن، ولا يشترط لثبوت التحريم بقاء اللبن على هيئته حالة انفصاله عن الثدي، فلو تغير بحموضة، أو انعقاد، أو إغلاء أو صار جبنا، أو أقطا، أو زبدا، أو مخيضا، وأطعم الصبي، حرم لوصول اللبن إلى الجوف، وحصول التغذية. ولو ثرد فيه طعام ثبت التحريم. ولو عجن به دقيق، وخبز، تعلقت به الحرمة على الصحيح. ولو خلط بمائع إما دواء، وإما غيره، حلال كالماء ولبن الشاة، أو حرام كالخمر، نظر إن كان اللبن غالبا تعلقت الحرمة بالمخلوط، فلو شرب الصبي منه خمس مرات ثبت التحريم، وإن كان اللبن مغلوبا فقولان، أحدهما: لا يتعلق به تحريم كالنجاسة المستهلكة في الماء الكثير لا أثر لها، وكالخمر المستهلكة في غيرها لا يتعلق بها حد، وكالمحرم يأكل طعاما استهلك فيه طيب، لا فدية عليه. وأظهرهما: يتعلق به التحريم لوصول عين اللبن في الجوف، وذلك هو المعتبر، ولهذا يؤثر كثير اللبن وقليله، وليس كالنجاسة، فإنها تجنيب للاستقذار، وهو مندفع بالكثرة، ولا كالخمر، فإن الحد منوط بالشدة المزيلة للعقل، ولا كالمحرم، فإنه ممنوع من التطيب، وليس هذا بتطيب، فعلى هذا إن شرب جميع المخلوط، تعلق به التحريم، وإن شرب بعضه فوجهان، أحدهما: يثبت التحريم أيضا إن شربه خمس دفعات، أو شرب منه دفعة بعد أن شرب اللبن(6/420)
الصرف أربعا، وهذا اختيار الصيمري، والقاضي أبي الطيب، وأصحهما، وبه قال ابن سريج وأبو إسحق والماوردي -: لا يتعلق به تحريم، لانا لم نتحقق وصول اللبن، وهذا الخلاف فيما إذا لم يتحقق وصول اللبن مثل أن وقعت قطرة في جب ماء وشرب بعضه، فإن تحققنا انتشاره في الخليط، وحصول بعضه في المشروب، أو كان الباقي من المخلوط أقل من قدر اللبن، ثبت التحريم قطعا، ذكره الامام وغيره. وهل يشترط أن يكون اللبن قدرا يمكن أن يسقى منه خمس دفعات لو انفرد عن الخليط ؟ وجهان حكاهما السرخسي وقال: أصحهما الاشتراط، هذا هو المذهب في بيان حكم اختلاط اللبن بالمائعات، وسواء فيه اختلاط اللبن بالماء وبغيره، وحكى الامام طريقا آخر أنه إن كان الخليط غير الماء، فعلى ما ذكرناه، وإن كان ماء واللبن مغلوب، فإن امتزج بما دون القلتين، وشرب الصبي كله، ففي ثبوت التحريم قولان، وإن شرب بعضه، فقولان مرتبان وأولى بأن لا يثبت. وإن امتزج بقلتين، فصاعدا، فإن لم يثبت التحريم بدون القلتين فهنا أولى، وإن أثبتنا، وتناول بعضه، لم يؤثر، وإن شربه كله، فقولان مرتبان، وأولى بأن لا يؤثر. وهذه الطريقة ضعيفة، وفي المراد بمصير اللبن مغلوبا وجهان، أحدهما: خروجه عن كونه مغذيا، والصحيح الذي قطع به الاكثرون أن الاعتبار بصفات اللبن الطعم واللون والرائحة، فإن ظهر منها شئ في المخلوط، فاللبن غالب، وإلا فمغلوب. ونقل أبو الحسن العبادي في الرقم تفريعا على هذا عن الحليمي ما يفهم منه أنه لو زايلته الاوصاف الثلاثة، اعتبر قدر اللبن بما له لون قوي يستولي على الخليط، فإن كان ذلك القدر منه يظهر في الخليط ثبت التحريم، وإلا فلا، قال الحليمي: وهذا شئ استنبطته أنا وكان في قلبي منه شئ، فعرضته على القفال الشاشي وابنه القاسم، فارتضياه، فسكنت، ثم وجدته لابن سريج، فسكن قلبي إليه كل السكون، وقد سبق نظير هذا في اختلاط المائع بالماء. فرع لو وقعت قطرة في فمه، واختلطت بريقه، ثم وصل جوفه، فطريقان، أحدهما: يعتبر كونه غالبا أو مغلوبا على ما ذكرناه. والثاني: القطع بالتحريم.(6/421)
إذا اختلط لبن إمرأة بلبن أخرى، وغلب أحدهما، فإن علقنا التحريم بالمغلوب، ثبتت الحرمة منهما، وإلا فيختص بغالبة اللبن.
الركن الثالث : المحل وهو معدة الصبي الحي، أو ما في معنى المعدة، فهذه ثلاثة قيود: الاول: المعدة، فالوصول إليها يثبت التحريم، سواء ارتضع الصبي، أو حلب اللبن، وأوجر في حلقه حتى وصلها، ولو حقن باللبن، أو قطر في إحليله، فوصل مثانته، أو كان على بطنه جراحة، فصب اللبن فيها حتى وصل الجوف لم يثبت التحريم على الاظهر. ولو صب في أنفه فوصل دماغه ثبت التحريم على المذهب، وقيل: فيه القولان، قال البغوي: ولو صب في جراحة في بطنه فوصل المعدة لخرق الامعاء، أو وصل الدماغ بالصب في مأمومة ثبت التحريم بلا خلاف. ولو صب في أذنه، ففي البحر أنه يثبت التحريم، وفي التهذيب لا يثبت، إذ لا منفذ منها إلى الدماغ، ويشبه أن يكون كالحقنة. وأما الصب في العين، فلا يؤثر بحال، ولو ارتضع، وتقيأ في الحال، حصل التحريم على الصحيح. وقيل: لا يحصل. وقيل: إن تقيأ وقد تغير اللبن، ثبت التحريم وإلا فلا. القيد الثاني: الصبي والمراد به من لم يبلغ حولين، فمن بلغ سنتين، فلا أثر لارتضاعه ويعتبر الحولان بالاهلة، فإن انكسر الشهر الاول، اعتبر ثلاثة وعشرون شهرا بعده بالاهلة ويكمل المنكسر ثلاثين من الشهر الخامس والعشرين، ويحسب ابتداء الحولين من وقت انفصال الولد بتمامه، وقال الروياني: لو خرج نصف(6/422)
الولد، ثم بعد مدة، خرج باقيه، فابتداء الحولين في الرضاع عند ابتداء خروجه. وحكى ابن كج فيه وجهين، وحكى وجهين فيما لو ارتضع قبل انفصال جميعه هل يتعلق به تحريم ؟ القيد الثالث: الحي فلا أثر للوصول إلى معدة الميت. فصل في شرط الرضاع لا تثبت حرمته إلا بخمس رضعات هذا هو الصحيح المنصوص. وقيل: تثبت برضعة واحدة، وقيل: بثلاث رضعات، وبه قال ابن المنذر، واختاره جماعة. فعلى المنصوص لو حكم حاكم بالتحريم برضعة، لم ينقض حكمه على الصحيح، وقال الاصطخري: ينقض. والرجوع في الرضعة والرضعات إلى العرف، وما تنزل عليه الايمان في ذلك، ومتى تخلل فصل طويل تعدد. ولو ارتضع، ثم قطع إعراضا، واشتغل بشئ آخر، ثم عاد وارتضع، فهما رضعتان، ولو قطعت المرضعة، ثم عادت إلى الارضاع، فهما رضعتان على الاصح، كما لو قطع الصبي، ولا يحصل التعدد بأن يلفظ الثدي، ثم يعود إلى التقامه في الحال، ولا بأن يتحول من ثدي إلى ثدي، أو تحوله لنفاذ ما في الاول، ولا بأن يلهو عن الامتصاص والثدي في فمه، ولا بأن يقطع التنفس، ولا بأن يتخلل النومة الخفيفة، ولا بأن تقوم وتشتغل بشغل خفيف، ثم تعود إلى الارضاع، فكل ذلك رضعة واحدة. قلت: قال ابراهيم المروذي: إن نام الصبي في حجرها وهو يرتضع نومة خفيفة، ثم انتبه ورضع ثانيا، فالجميع رضعة، وإن نام طويلا، ثم انتبه وامتص،(6/423)
فإن كان الثدي في فمه فهي رضعة، وإلا فرضعتان. والله أعلم. قال الاصحاب: يعتبر ما نحن فيه بمرات الاكل، فإذا حلف لا يأكل في اليوم إلا مرة واحدة فأكل لقمة، ثم أعرض واشتغل بشغل طويل، ثم عاد وأكل، حنث، ولو أطال الاكل على المائدة وكان ينتقل من لون إلى لون ويتحدث في خلال الاكل، ويقوم، ويأتي بالخبز عند نفاذه، لم يحنث، لان ذلك كله يعد في العرف أكلة واحدة، ولو ارتضع من ثدي إمرأة ثم انتقل في الحال إلى ثدي آخر، ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى في الفصل الذي يليه. فرع لا يشترط وصول اللبن في المرات على صفة واحدة، بل لو ارتضع في بعضها، وأوجر في بعضها، وأسعط في بعضها حتى تم العدد، ثبت التحريم، وكذا الصب في الجراحة والحقنة إذا جعلناهما مؤثرين. فرع لو حلب لبن إمرأة دفعة، وأوجره الصبي في خمس دفعات، فهل يحسب رضعة أم خمسا ؟ قولان، أظهرهما: رضعة، وقيل: رضعة قطعا. ولو حلب خمس دفعات، وأوجره دفعة، فالمذهب أنه رضعة، وقيل: على الطريقين. ولو حلب خمس دفعات، وأوجر في خمس دفعات من غير خلط، فهو خمس رضعات قطعا. وإن حلب خمس دفعات، وخلط، ثم فرق، وأوجر في خمس دفعات، فالمذهب أنه خمس رضعات، وبه قطع الجمهور، وقيل على قولين، لانه بالخلط صار كالمحلوب دفعة. ولو حلب خمس نسوة في إناء، وأوجره الصبي دفعة واحدة حسب من كل واحدة رضعة، وإن أوجره في خمس دفعات، حسب من كل واحدة رضعة، وإن أوجره في خمس دفعات، حسب من كل واحدة رضعة على الاصح، وقيل: خمس رضعات. فرع لو شك هل أرضعته خمس رضعات، أم أقل، أو هل وصل اللبن جوفه أم لا ؟ فلا تحريم ولا يخفى الورع. ولو شك هل أرضعته الخمس في الحولين، أم بعضها، أو كلها بعد الحولين، فلا تحريم على الاظهر أو الاصح، والتحريم محكي عن الصيمري، لان الاصل بقاء المدة.(6/424)
فصل إذا كان لبن المرأة لرجل، فسيأتي إن شاء الله تعالى أن المرتضع يصير إبنا للرجل كما يصير إبنا للمرأة، واختار ابن بنت الشافعي أنه لا يصير، والصواب الاول. فإذا كان للرجل خمس مستولدات، أو أربع زوجات ومستولدة، فأرضعت كل واحدة طفلا رضعة لم يصرن أمهاته، وهل يصير الرجل أباه ؟ وجهان، قال الانماطي وابن سريج وابن الحداد: لا، وأصحهما - وبه قال أبو إسحق وابن القاص -: نعم، لانه لبنه، وهن كالظروف له، فعلى هذا تحرم المرضعات على الطفل لا بالرضاع، بل لانهن موطوءات أبيه، ولو كان تحته صغيرة وله خمس مستولدات، فأرضعتها كل واحدة رضعة بلبنه لم ينفسخ نكاح الصغيرة على الوجه الاول، وينفسخ على الثاني، وهو الاصح، ولا غرم عليهن، لانه لا يثبت له دين على مملوكه، ولو أرضع نسوته الثلاث ومستولدتاه زوجته الصغيرة فانفساخ نكاح الصغيرة على الوجهين، وأما غرامة مهرها، فإن أرضعن مرتبا، فالانفساخ يتعلق بإرضاع الاخيرة فإن كانت مستولدة، فلا شئ عليها، وإن كانت زوجة، فعليها الغرم، وإن أرضعته معا بأن أخذت كل واحدة لبنها في مسعط، وأوجرته معا، فلا شئ على المستولدتين وعلى النسوة ثلاثة أخماس الغرم، ولا ينفسخ نكاح النسوة لانهن لم يصرن أمهات الصغيرة. ولو كان له أربع، فأرضعت إحداهن طفلا رضعتين، وأرضعته الباقيات رضعة رضعة، أو كان له ثلاث مستولدات، فأرضعت إحداهن الطفل بلبنه ثلاث رضعات، والباقيتان رضعة رضعة، جرى الخلاف في مصيره أبا ولا يصرن أمهات، وعلى هذا قياس سائر نظائرها. ولو كان لرجل أو إمرأة خمس بنات أو أخوات، فأرضعت كل واحدة طفلا رضعة، لم يصرن أمهاته، ولا أزواجهن آباءه، وكذا لا تثبت الحرمة بين الرضيع والرجل على المذهب، وقيل: بطرد الوجهين، فإن أثبتنا الحرمة، قال البغوي: تحرم المرضعات على الرضيع لا لكونهن أمهات، بل لكون البنات أخواته وكون الاخوات عماته، ولك أن تقول إنما يصح كون البنات أخواته والاخوات عماته لو كان الرجل أبا، والحرمة هنا إذا ثبتت إنما هي لكونه جدا لام أو خالا، وفيه وضع بعضهم الخلاف، فقال: في مصيره جدا لام أو خالا وجهان، فينبغي أن يقال: يحرمن لكونهن كالخالات، وذلك لان بنت الجد للام إذا لم تكن أما، كانت خالة، وكذلك أخت الخال. ولو كان لرجل أم وبنت وأخت وبنت أخ لاب، وبنت أخت لاب، فارتضع طفل من كل واحدة(6/425)
رضعة، فإن قلنا: لا يثبت التحريم في الصورة الثانية، فهنا أولى، وإلا فالاصح أيضا أن لا تحريم لان هناك يمكن نسبة الرضيع إليه بكونه ابن ابن، ونسبته إلى الرضيع بكونه جدا، وهنا لا يمكن لاختلاف الجهات، ولا يجوز أن يكون بعضه أخا وبعضه ولد بنت، وعن ابن القاص: إثبات الحرمة، فعلى هذا تحرم المرضعات على الرضيع لا بالامومة بل بجهات، فأم الرجل كأنها زوجة أبيه، لان لبنها من أبي الرجل، والرضيع كولده، وبنت الرجل بنت ابن أبيه، فتكون بنت أخيه، وأخت الرجل بنت أبيه، فتكون أخته، وبنت أخي الرجل بنت ابن أبيه، فتكون بنت أخيه، وبنت أخت الرجل بنت أخته أيضا. ولو كان بدل إحدى هؤلاء المرضعات زوجة أو جدة كان الحكم كما ذكرنا. ولو أرضعت كل واحدة من هؤلاء زوجة الرجل رضعة، فانفساخ نكاحه على الوجهين، فإن قلنا: ينفسخ، فإن أرضعن مرتبا، غرمت الاخيرة للزوج، وإن أرضعن معا، اشتركن فيه، فإن اختلف عدد الرضعات بأن كن ثلاثا فأرضعت واحدة رضعتين، وأخرى كذلك، والثالثة رضعة، فهل يغرمن أثلاثا على عدد الرؤوس، أم أخماسا على عدد الرضعات ؟ وجهان، وجميع ما ذكرناه هو فيما إذا أرضعت النسوة الخمس في أوقات متفاصلة، فإن أرضعن متواليا، وحكمنا بالحرمة في المتفاصل فهنا وجهان، قال ابن القاص: لا يثبت، لانهن كالمرأة الواحدة بالنسبة إلى الرجل وإرضاع المرأة إنما يحرم إذا تفرقت أوقاته، وأصحهما: التحريم لتعدد المرضعات، فعلى الاول لو أرضعن متواليا، ثم أرضعته إحداهن أربع رضعات، صارت أما له على الاصح، لانه ارتضع منها خمسا متفاصلة، وقيل: لا، لان تلك الرضعة لم تكن تامة، ويجري هذا الخلاف في انتقال الرضيع من ثدي إمرأة إلى ثدي أخرى، فعلى وجه لا يحسب لواحدة منهما رضعة، وعلى الاصح: يحسب لكل واحدة رضعة، لان الاشتغال بالارتضاع من الاخرى قطع الارتضاع من الاولى، فصار كالاشتغال بشئ آخر، ويقرب منه خلاف فيما لو ارتضع في الحولين أربع رضعات، وتم الحولان في خلال الرضعة الخامسة، ففي وجه لا يثبت التحريم، لانها لم تتم في الحولين، والاصح: ثبوته لان ما يصل إلى الجوف في كل رضعة(6/426)
غير مقدر، وذكر ابن كج أنه لو كان يرتضع الرضعة الخامسة، فمات: أو ماتت المرضعة قبل أن يتمها، وجهين في ثبوت التحريم كالوجهين فيما لو قطعت المرضعة. فرع لزيد ابن وابن ابن وأب وجد وأخ ارتضعت صغيرة من زوجة كل واحد منهم رضعة، فلا تحرم على زيد على الاصح، وحرمها ابن القاص على زيد، فعلى هذا تحرم على أبيه دون الابن وابن الابن، لانها بارتضاع لبن أخي زيد تكون بنت عم لابن، وبنت العم لا تحرم، ومتى كان في الخمسة من لا يقتضي لبنه تحريما، فلا تحريم. خمسة إخوة ارتضعت صغيرة من لبن زوجة كل واحد رضعة، ففي تحريم الصغيرة على الاخوة الوجهان، الاصح: المنع. إمرأة لها بنت ابن، وبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن، أرضعت العليا طفلا ثلاث رضعات، والاخريان رضعة رضعة، ففي مصير المرأة جدة للرضيع الوجهان، فإن قلنا: نعم، ففي تحريم المرضعات على الطفل وجهان، أحدهما: لا لعدم العدد، والثاني: أن الرضعات من الجهات تجمع، إن كانت كل واحدة منها بحيث لو تم العدد منها ثبت التحريم، فعلى هذا ينظر إن كانت الوسطى بنت أخي العليا، والسفلى بنت أخي الوسطى، حرمت العليا عليه، لان إرضاعها لو تم لكان الطفل إبنها، وإرضاع الوسطى لو تم، لكان الرضيع ابن بنت أخي العليا، وإرضاع السفلى لو تم لكان للعليا ابن بنت ابن أخ. وهذه الجهات محرمة فتجمع ما فيها من عدد الرضعات. وإن كانت الوسطى بنت ابن عم العليا، والسفلى بنت ابن ابن عمها، لم تحرم العليا، لان إرضاع الوسطى لو تم، لكان الرضيع للعليا ابن بنت ابن عم، وإرضاع السفلى لو تم، لكان لها ابن بنت ابن ابن العم، وذلك لا يقتضي التحريم، وأما الوسطى والسفلى، فلا تحرمان عليه بحال، لان إرضاع العليا لو تم، لكان للوسطى ابن العمة، وللسفلى ابن عمة الاب. ولو أرضعته إحداهن خمس رضعات، حرمت هي عليه، وحرمت التي فوقها إذا كانت المرضعة بنت أخي التي فوقها، لانها تكون عمة أمه. فرع له زوجتان حلبت كل واحدة من لبنها دفعة، ثم خلطا، وشربه طفل دفعة، ثبت لكل واحدة رضعة، ولو شربه مرتين، فهل يحسب لكل واحدة رضعتان(6/427)
اعتبارا بوصول اللبن، أم رضعة اعتبارا بالحلب ؟ وجهان، وهو كما سبق فيما لو حلب لبن نسوة، وخلط، وشربه الطفل دفعة أو دفعات. وأما بين الرضيع والزوج، فإن لم نجمع في حق الزوج رضعات زوجاته، ثبت له رضعة واحدة، وإن جمعنا ونظرنا إلى الحلب، ثبت له رضعتان، وإن نظرنا إلى وصول اللبن ثبت أربع رضعات. فرع كان له أربع نسوة وأمة موطوءات، أرضعت كل واحدة طفلة بلبن غيره رضعة، قال ابن القاص تفريعا على ثبوت الابوة: لو أرضعته بلبنه تحرم الطفلة عليه، لانها ربيبته، وإن كان فيهن من لم يدخل بها، لم تحرم عليه، لما سبق أنه متى كان فيهن من لو انفردت بالرضعات الخمس، لم تثبت الحرمة، لا يثبت التحريم. الباب الثاني : فيمن يحرم بالرضاع تحريم الرضاع يتعلق بالمرضعة، والفحل الذي له اللبن، والطفل الرضيع، فهم الاصول في الباب، ثم تنتشر الحرمة منهم إلى غيرهم. أما المرضعة فتنتشر الحرمة منها إلى آبائها من النسب والرضاع، فهم أجداد الرضيع، فإن كان الرضيع أنثى، حرم عليهم نكاحها. وإلى أمهاتها من النسب والرضاع، فهن جدات للرضيع، فيحرم عليه نكاحهن إن كان ذكرا، وإلى أولادها من النسب والرضاع، فهم إخوته وأخواته، وإلى إخوتها وأخواتها من النسب والرضاع، فهم أخواله وخالاته، ويكون أولاد أولادها أولاد إخوة وأولاد أخوات للرضيع، ولا تثبت الحرمة بين الرضيع، وأولاد إخوة المرضعة، وأولاد أخواتها، لانهم أولاد أخواله وخالاته. وأما الفحل، فكذلك تنتشر الحرمة منه إلى آبائه وأمهاته، فهم أجداد الرضيع وجداته، وإلى أولاده، فهم إخوة الرضيع وأخواته، وإلى إخوته وأخواته، فهم أعمام الرضيع وعماته. وأما المرتضع فتنتشر الحرمة منه إلى أولاده من الرضاع، أو النسب، فهم أحفاد المرضعة أو الفحل، ولا تنتشر إلى آبائه وأمهاته وإخوته وأخواته، فيجوز لابيه وأخيه أن ينكحا المرضعة وبناتها وقد سبق في النكاح أن أربع نسوة يحرمن من النسب(6/428)
ومثلهن قد لا يحرمن من الرضاع، وجعلت تلك الصور مستثناة من قولنا: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وقد يقال: الحرمة في تلك الصور من جهة المصاهرة، لا من جهة النسب. فرع إنما تثبت الحرمة بين الرضيع والفحل إذا كان منسوبا إلى الفحل بأن ينتسب إليه الولد الذي نزل عليه اللبن، أما اللبن النازل على ولد الزنا، فلا حرمة له، فلا يحرم على الزاني أن ينكح الصغيرة المرتضعة من ذلك اللبن، لكنه يكره وقد حكينا في النكاح وجها أنه لا يجوز له نكاح بنت زناه التي تعلم أنها من مائه، فيشبه أن يجئ ذلك الوجه هنا، ولو نفى الزوج ولدا باللعان، وارتضعت صغيرة بلبنه، لم تثبت الحرمة. ولو أرضعت به ثم لاعن، انتفى الرضيع عنه، كما ينتفي الولد. فلو استلحق الولد بعد ذلك، لحق الرضيع، ولم يذكروا هنا الوجهين المذكورين في نكاحه التي نفاها باللعان، ولا يبعد أن يسوى بينهما. ولو كان الولد من وطئ شبهة، فاللبن النازل عليه ينسب إلى الواطئ، كما ينسب إليه الولد، هذا هو المشهور، وفي قول: لا تثبت الحرمة من جهة الفحل بلبن وطئ الشبهة لانه لا ضرورة إلى إثبات حرمة الرضاع بخلاف النسب. فرع إذا وطئت منكوحة بشبهة، أو وطئ رجلان إمرأة بشبهة، أو نكح رجل إمرأة في العدة جاهلا، وأتت بولد، وأرضعت باللبن النازل عليه طفلا، فهو تبع للولد، فإن لحق الولد أحدهما لانحصار الامكان فيه، فالرضيع ولده من(6/429)
الرضاع، وإن لم يلحق واحدا منهما لامتناع الامكان، فالرضيع مقطوع عنهما، وإن تحقق الامكان فيهما، عرض الولد على القائف، فبأيهما ألحقه، تبعه الرضيع، فإن لم يكن قائف، أو نفاه عنهما، أو أشكل، توقفنا حتى يبلغ المولود، فينتسب إلى أحدهما، فإن بلغ مجنونا، صبرنا حتى يفيق، فإذا انتسب، تبعه الرضيع، فإن مات قبل الانتساب وكان له ولد قام مقامه في الانتساب، فإن كان له أولاد فانتسب بعضهم إلى هذا، وبعضهم إلى هذا، استمر الاشكال، فإن لم يكن له ولد، وبقي الاشتباه، ففي الرضيع قولان، أحدهما: أنه ابنهما جميعا، ويجوز أن يكون لواحد آباء من الرضاع بخلاف النسب، وأظهرهما: لا يكون ابنهما، لانه تابع للولد فعلى الاول هل يكفي خمس رضعات، أم يحتاج إلى عشر ؟ وجهان خرجهما الداركي، وذكر في البسيط أن معنى هذا القول على ضعفه إثبات أبوتهما ظاهرا دون الباطن، وهذا خلاف ما قاله الاصحاب، وإن كان القول ضعيفا بالاتفاق. وإذا قلنا بالاظهر، فهل للرضيع أن ينتسب بنفسه ؟ قولان نص عليهما في الام أحدهما: لا كما لا يعرض على القائف، وأظهرهما: نعم كما للمولود. والرضاع يؤثر في الاخلاق بخلاف العرض على القائف، فإن معظم اعتماده على الاشباه الظاهرة دون الاخلاق مع أن ابن كج نقل عن ابن القطان والقاضي أبي حامد وجهين في العرض على القائف وهو غريب، فإن قلنا: له الانتساب، فهل يجبر عليه كما يجبر المولود ؟ وجهان، وقيل: قولان، أصحهما: لا، والفرق أن النسب تتعلق به حقوق له وعليه، كالميراث والعتق والشهادة وغيرها، فلا بد من رفع الاشكال، والذي يتعلق بالرضاع حرمة النكاح والامتناع منه سهل. وإذا انتسب إلى أحدهما، كان ابنه، وانقطع عن الآخر، فله نكاح بنته، ولا يخفى الورع، وإن لم ينتسب، أو قلنا: ليس له الانتساب، فليس له أن ينكح بنتيهما جميعا، لان إحداهما أخته، وفي الحاوي وجه أنه يجوز، ويحكم بانقطاع الابوة عنهما، وهذا غلط. وهل له أن ينكح بنت أحدهما ؟ وجهان، أصحهما: لا لان إحداهما أخته، فأشبه ما إذا(6/430)
اختلطت أخته بأجنبية. والثاني: يجوز وهو ظاهر ما نقله المزني، لان الاصل الحل في كل واحدة، فصار كما لو اشتبه ماء طاهر بنجس بخلاف الاخت والاجنبية، فإن الاصل في الاخت التحريم، فصار كاشتباه الماء بالبول، فإنه يعرض عنهما، فإن جوزنا نكاح إحداهما فالصحيح الذي قطع به الجمهور أنه لا يحتاج إلى اجتهاد بخلاف الاواني المشتبهة، فإن فيها علامات ظاهرة، وذكر الفوراني أنه يجتهد في الرجلين أيهما الاب، ثم ينكح بنت من لا يراه أبا، وإذا نكح واحدة، ثم فارقها، فهل له نكاح الاخرى ؟ وجهان، قال أبو إسحق: نعم، لان التحريم غير متعين، فصار كمن صلى بالاجتهاد إلى جهة يجوز أن يصلي إلى جهة أخرى باجتهاد آخر. وقال ابن أبي هريرة: لا يجوز، واختاره القاضي أبو الطيب كالاواني. فصل طلق زوجته، أو مات عنها، ولها لبن منه، فأرضعت به طفلا قبل أن تنكح، فالرضيع ابن المطلق والميت، ولا تنقطع نسبة اللبن بموته وطلاقه، سواء ارتضع في العدة أو بعدها، وسواء قصرت المدة أم طالت كعشر سنين وأكثر، وسواء انقطع اللبن ثم عاد، أم لم ينقطع لانه لم يحدث ما يحال اللبن عليه، فهو على استمراره منسوب إليه، وقيل: إن انقطع وعاد بعد مضي أربع سنين من وقت الطلاق لم يكن منسوبا إليه كما لو أتت بولد بعد هذه المدة لا يلحقه، هكذا خصص البغوي هذا الوجه بما إذا انقطع وعاد، ومنهم من يشعر كلامه بطرده في صورة استمرار اللبن، وكيف كان، فالصحيح ما سبق. فلو نكحت بعد العدة زوجا، وولدت منه، فاللبن بعد الولادة للثاني، سواء انقطع وعاد، أم لم ينقطع لان اللبن تبع للولد، والولد للثاني. وأما قبل الولادة من الزوج الثاني، فإن لم يصبها أو أصابها ولم تحبل، أو حبلت ولم يدخل وقت حدوث اللبن لهذا الحمل، فاللبن للاول، سواء زاد على ما كان أم لا، وسواء انقطع، ثم عاد أم لا، ويقال: أقل مدة يحدث فيها اللبن للحمل أربعون يوما. وإن دخل وقت حدوث اللبن للحمل، فإما أن(6/431)
ينقطع اللبن مدة طويلة، وإما أن لا يكون كذلك بأن لم ينقطع، أو انقطع مدة يسيرة، ففي الحالة الاولى ثلاثة أقوال، أظهرها: أنه لبن الاول، والثاني: أنه للثاني، والثالث: لهما. وفي الحالة الثانية ثلاثة أقوال أيضا، المشهور أنه للاول، والثاني لهما، والثالث إن زاد اللبن فلهما، وإلا فللاول. ولو نزل للبكر لبن، فنكحت، ولها لبن ثم حبلت من الزوج، فحيث قلنا فيما سبق: إن اللبن للثاني أو لهما، فهنا يكون للزوج، وحيث قلنا: هو للاول، فهو هنا للمرأة وحدها ولا أب للرضيع. ولو حبلت إمرأة من الزنا وهي ذات لبن من زوج، فحيث قلنا هناك: اللبن للاول، أولهما فهو للزوج. وحيث قلنا: هو للثاني، فلا أب للرضيع. ولو نكحت إمرأة لا لبن لها، فحبلت ونزل لها لبن، قال المتولي في ثبوت الحرمة بين الرضيع والزوج وجهان بناء على الخلاف، إن جعلنا اللبن للاول لم يجعل الحمل مؤثرا ولا تثبت الحرمة حتى ينفصل الولد، وإن جعلناه للثاني أولهما، ثبتت.
الباب الثالث : في الرضاع القاطع للنكاح وحكم الغرم فيه طرفان :
الأول : في الغرم عند انقطاع النكاح.
الرضاع الطارئ قد يقطع النكاح وإن لم يقتض حرمة مؤبدة، وستأتي أمثلته إن شاء الله تعالى، وقد يقطعه لاقتضائه حرمة مؤبدة، فكل إمرأة يحرم عليه أن ينكح بنتها إذا أرضعت تلك المرأة زوجته الصغيرة خمس رضعات، ثبتت الحرمة المؤبدة، وانقطع النكاح. فإذا كان تحته صغيرة، فأرضعتها أمه من النسب أو الرضاع، أو جدته أو بنته أو حافدته منهما، أو زوجة أبيه، أو ابنه، أو أخيه بلبانهم خمس رضعات، انفسخ النكاح. فإن كان اللبن من غير الاب والابن والاخ لم يؤثر، لان غايته أن تصير ربيبة أبيه أو ابنه أو أخيه، وليست بحرام. ولو أرضعتها زوجة أخرى له بلبنه، انفسخ النكاح، وثبتت الحرمة المؤبدة، لانها بنته، وإن كان اللبن لغيره فسنذكره إن شاء الله تعالى، ثم الصغيرة التي ينفسخ نكاحها بالرضاع تستحق نصف المسمى إن كان صحيحا، أو نصف مهر المثل إن كان فاسدا إلا أن يكون الانفساخ من جهتها بأن دبت، فرضعت من نائمة،(6/432)
فإنه لا شئ لها على المذهب، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ويجب على المرضعة الغرم للزوج، سواء قصدت بالارضاع فسخ النكاح أم لا، وسواء وجب عليها الارضاع بأن لا يكون هناك مرضعة غيرها أم لا، لان غرامة الاتلاف لا تختلف بهذه الاسباب، وفيما إذا لزمها الارضاع احتمال للشيخ أبي حامد، ثم نص هنا أن على المرضعة نصف مهر المثل، ونص أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا يلزمهم جميع مهر المثل، فقيل: فيهما قولان نقلا وتخريجا، وقيل: بتقرير النصين، لان فرقة الرضاع حقيقية، فلا توجب إلا النصف. وفي الشهادة النكاح باق في الحقيقة بزعم الزوج والشهود، لكنهما حالا بينه وبين البضع، فغرما قيمته، كالغاصب الحائل بين المالك والمغصوب. فإن قلنا بالقولين، فهل هما في كل المسمى ونصفه، أم في مهر المثل ونصفه ؟ قولان، فحصل في الرضاع أربعة أقوال، أظهرها عند الجمهور: نصف مهر المثل. والثاني: جميعه، والثالث: نصف المسمى، والرابع جميعه. فرع نكح العبد صغيرة، فأرضعتها إسحق، وانفسخ النكاح، فللصغيرة نصف المسمى في كسبه، ولسيده الرجوع على أم العبد بالغرم، لانه بدل البضع، فكان للسيد كعوض الخلع. فرع صغيرة مفوضة أرضعتها أم الزوج، فلها على الزوج المتعة، قال ابن الحداد: ويرجع الزوج على المرضعة بالمتعة، قال الاصحاب: هذا تفريع على القول الذاهب لانه يرجع بنصف المسمى والاظهر: أنه يرجع بنصف مهر المثل هناك وكذا هنا، والصورة إذا كانت الصغيرة أمة، فزوجها السيد بلا مهر، لان الصغيرة الحرة لا يتصور في حقها التفويض. فرع حلب أجنبي لبن أم الزوج، أو كان محلوبا، فأخذه، وأوجره الصغيرة فالغرم على الاجنبي، وفي قدره الاقوال الاربعة. ولو أوجرها خمسة أنفس، فعلى كل واحد خمس الغرم، ولو أوجرها واحد مرة، وآخران مرتين مرتين، فهل يوزع عليهم أثلاثا أم على عدد الرضعات ؟ وجهان، أصحهما(6/433)
الثاني. فرع أكرهت على الارضاع، فهل الغرم عليها، أم على المكره ؟ وجهان، أصحهما: عليها، قاله الروياني. فرع تحته صغيرة وكبيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة انفسخ نكاح الصغيرة قطعا والكبيرة أيضا على الاظهر. ولو أرضعتها جدة الكبيرة أو أختها أو بنت أختها فكذلك. ويجوز في الصور أن ينكح واحدة منهما بعد ذلك ولا يجمعهما. ولو أرضعتها بنت الكبيرة، فحكم الانفساخ كما ذكرنا، وتحرم الكبيرة على التأبيد وكذا الصغيرة إن كانت الكبيرة مدخولا بها لكونها ربيبته، وحكم مهر الصغيرة على الزوج، والغرم على المرضعة كما سبق، وكذا القول في الكبيرة إذا قلنا بانفساخ نكاحها ولم تكن ممسوسة، فإن كانت، فعلى الزوج مهرها المسمى، وهل تغرم المرضعة له ؟ قولان، أحدهما: لا، لان البضع بعد الدخول لا يتقوم للزوج، ولهذا لو انفسخ النكاح بردتها بعد المسيس لا غرم عليها، وأظهرهما: تغرم له مهر المثل، كما لو شهدوا بالطلاق بعد الدخول، ثم رجعوا يغرمون مهر المثل. وكما لو ادعى الزوج أنه راجعها قبل انقضاء العدة، فأنكرت، وصدقناها بيمينها، فنكحت ثم أقرت بالرجعة للاول لا يقبل إقرارها على الثاني، وتغرم للاول مهر مثلها، لانها أتلفت بضعها عليه. فرع إنما يجب الغرم في الصور السابقة على أم الزوج ومن في معناها إذا أرضعت أو مكنت الصغيرة من الارتضاع، ولا يؤثر مع إرضاعها ارتضاع الصغيرة، فلا يحال الانفساخ عليه، فلو كانت ذات اللبن نائمة، فدبت إليها الصغيرة،(6/434)
فارتضعت، وانفسخ النكاح، أحلنا الانفساخ على فعل الصغيرة، فلا غرم على صاحبة اللبن، لانها لا فعل لها. وقال الداركي: عليها الغرم، والصحيح الاول، ولا مهر للصغيرة على الاصح، وقيل: لها نصف المسمى ولا أثر لفعلها، فعلى الاصح يرجع الزوج في مالها حيث ينفسخ نكاح الكبيرة، بنسبة ما يغرم لها من مهر مثلها، لانها أتلفت عليه بضع الكبيرة، ولا فرق في غرامة المتلفات بين الكبيرة والصغيرة. ولو وصلت قطرة بتطيير الريح إلى جوف الصغيرة، فلها نصف المهر ولا غرم على صاحبة اللبن، ويجئ فيه وجه الداركي، ولو ارتضعت منها وهي مستيقظة ساكتة، فهل يحال الرضاع على الكبيرة لرضاها به أم لا لعدم فعلها كالنائمة ؟ وجهان حكاهما ابن كج. قلت: الاصح: الثاني. والله أعلم. ولو ارتضعت الصغيرة من أم الزوج رضعتين وهي نائمة، ثم أرضعتها الام ثلاث رضعات ففيه الوجهان السابقان في أن الغرم يوزع على المرضعات، أو على الرضعات، إن قلنا بالاول، سقط من نصف المسمى نصفه، ويجب على الزوج نصفه وهو الربع، وإن قلنا بالثاني، سقط من نصف المسمى خمساه، ويلزم الزوج ثلاثة أخماسه، هكذا قاله صاحبا المهذب والتهذيب وهذا تفريع على الاظهر من الاقوال السابقة في أن الرجوع بنصف مهر المثل ولو أرضعتها الام أربع رضعات، ثم ارتضعت الصغيرة منها وهي نائمة المرة الخامسة، قال المتولي: في نظيره لاصحابنا وجهان، وهو إذا طلقها ثلاثا متعاقبات هل يتعلق التحريم بالثالثة وحدها، أم بالثلاث ؟ إن علقنا بالثالثة يحال التحريم على الرضعة الاخيرة، وتكون كما لو ارتضعت الخمس وصاحبة اللبن نائمة، ولا غرم على الكبيرة، ويسقط مهر الصغيرة. وإن علقنا بالثلاث، تعلق التحريم هنا بالرضعات، وعلى هذا فقياس التوزيع على الرضعات أن يسقط من نصف المهر خمسه، ويجب على الزوج أربعة أخماسه، ويرجع على المرضعة بأربعة أخماس مهر المثل تفريعا على الاظهر.(6/435)
الطرف الثاني : في المصاهرة المتعلقة بالرضاع، فمن نكح صغيرة، أو كبيرة، حرمت عليه مرضعتها، لانها أم زوجته من الرضاع. ولو نكح صغيرة ثم طلقها، فأرضعتها إمرأة، حرمت المرضعة على المطلق، لانها صارت أم من كانت زوجته ولا نظر إلى التاريخ في ذلك. ولو كانت تحته كبيرة فطلقها، فنكحت صغيرا وأرضعته بلبن المطلق، حرمت على المطلق أبدا كما تحرم على الصغير، لانها زوجة أبيه. ولو نكحت صغيرا ففسخت نكاحه بغيبة، ثم نكحت آخر، فأرضعت الاول بلبن الثاني، انفسخ نكاحها، وحرمت عليهما أبدا، لان الاول صار ابنا للثاني، فهي زوجة ابن الثاني، وزوجة أبي الاول. ولو جاءت زوجة أخرى للثاني، وأرضعت الاول بلبن الثاني، انفسخ نكاح التي كانت زوجة الصغير. ولو زوج مستولدته بعبده الصغير، فأرضعته بلبن السيد، حرمت على السيد والصغير معا أبدا، وحكى ابن الحداد أن المزني نقل عن الشافعي أنها لا تحرم على السيد، وأن المزني أنكره على الشافعي، وعلى ذلك جرى ابن الحداد والاصحاب فجعلوا نقل المزني غلطا، قال الشيخ أبو علي: لكن يمكن تخريج ما نقل على قول في العبد الصغير أنه لا يجوز إجباره على النكاح، أو على قول في أن أم الولد لا يجوز تزويجها بحال، أو على وجه ذكر أنه لا يجوز للسيد تزويج أمته بعبده بحال، فإنا إذا لم نصحح النكاح على أحد هذه الآراء لم تكن زوجة الابن، فلا تحرم على السيد. ولو أرضعته بلبن غير السيد، انفسخ نكاحه، لانها أمة، ولا تحرم على السيد، لانه لم يصر ابنا له، وكذا لو أرضعت المطلقة الصغير الذي نكحته بغير لبن الزوج، انفسخ النكاح، ولا تحرم هي على المطلق. ولو كان تحته صغيرة، فأرضعتها أمة له قد وطئها بلبن غيره، بطل نكاح الصغيرة، وحرمتا أبدا. ولو كان تحت زيد كبيرة، وتحت عمرو صغيرة، فطلق كل واحد زوجته ونكح زوجة الآخر، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة واللبن لغيرهما، حرمت الكبيرة عليهما أبدا، لانها أم زوجتهما، فإن كانا دخلا بالكبيرة، حرمت الصغيرة عليهما أبدا وإلا، فلا تحرم عليهما، ولا ينفسخ نكاحها، وكذا لو لم يدخل زيد بها حين كانت في نكاحه لا تحرم عليه الصغيرة، ولا ينفسخ نكاحها، وإذا انفسخ نكاحها، فعلى زوجها نصف المسمى، ويرجع بالغرم على الكبيرة، ولا(6/436)
يجب للكبيرة شئ على زوجها إن لم يدخل بها، لان الانفساخ منها. ولو كان تحت زيد كبيرة وصغيرة، فطلقهما، فنكحهما عمرو، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة فحكم تحريمهما عليهما على ما فصلنا، وينفسخ نكاحهما وإن لم يدخل عمرو بالكبيرة لاجتماع الام والبنت في نكاحه. فصل تحته صغيرة وكبيرة أرضعتها الكبيرة، انفسخ نكاحهما، وحرمت الكبيرة مؤبدا، وكذا الصغيرة إن كانت الكبيرة أرضعتها بلبنه، أو كانت مدخولا بها وإلا فلا، لانها ربيبة لم يدخل بأمها، وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى، وفيما يرجع به على الكبيرة الاقوال الاربعة، ولا مهر للكبيرة إن لم يكن مدخولا بها، فإن كانت فلها المهر، قال الاصحاب: ولا نقول: يرجع عليها بمهرها، لكونها أتلفت عليه بضعها، لانه يؤدي إلى إخلاء نكاحها عن المهر. فلو كانت الكبيرة نائمة، فارتضعت منها الصغيرة، فلا مهر للصغيرة، وللكبيرة نصف المسمى إن لم يدخل بها، وجميعه إن دخل، ويرجع بالغرم في مال الصغيرة كما سبق. ولو أرضعتها الكبيرة أربع رضعات، ثم ارتضعت الصغيرة منها الخامسة وهي نائمة قال المتولي: إن قلنا التحريم يتعلق بالرضعات ولم نحله على الرضعة الخامسة، سقط خمس مهر الصغيرة بفعلها، ونصفه بالفرقة قبل الدخول، ويجب على الزوج خمس ونصف، ويرجع على الكبيرة بثلاثة أعشار مهر المثل على الاظهر، وفي قول بأربعة أخماسه، وأما الكبيرة، فيسقط أربعة أخماس مهرها بفعلها، والباقي بالفرقة قبل الدخول، لان مقتضاها سقوط النصف والباقي دون النصف فيسقط، وقياس ما قدمناه عن المهذب والتهذيب أن يقال: يسقط الخمس من نصف مهر الصغيرة، ويجب أربعة أخماسه وهما خمسا الجملة، ويسقط أربعة أخماس نصف مهر الكبيرة ويجب خمسه. ولو كانت الكبيرة أمة نكحها، تعلق الغرم برقبتها، وإن أرضعت الصغيرة أمته، أو أم ولده، فلا غرم عليها للزوج، لان السيد لا يستحق على مملوكه مالا. ولو كانت أمته، أو أم ولده، فأرضعت الصغيرة، فعليها الغرم له، فإن عجزها سقطت المطالبة بالغرم. ولو كانت(6/437)
مستولداته الخمس فأرضعن زوجته الصغيرة رضعة رضعة، صارت بنتا له على الاصح، فينفسخ النكاح، ويرجع عليهن بالغرم إن أرضعن، وإلا فجميع الغرم على الخامسة، ويمكن أن يجئ فيه خلاف في حوالة التحريم على الرضعات، فتكون كما لو أرضعن معا. فرع تحته كبيرة وثلاث صغائر، فأرضعتهن بلبنه أو بغيره، وهي مدخول بها، حرم الاربع مؤبدا، سواء أرضعتهن معا أو متعاقبا، وعليه المسمى للكبيرة، ونصف المسمى لكل صغيرة، وعلى الكبيرة الغرم. فإن لم يكن مدخولا بها، وليس اللبن له، نظر إن أرضعتهن معا الرضعة الخامسة من لبنها المحلوب، أو ألقمت ثنتين ثديها، وأوجرت الثالثة من لبنها المحلوب انفسخ نكاح جميعهن، وحرمت الكبيرة مؤبدا، ولا تحرم الصغائر مؤبدا، بل له تجديد نكاح إحداهن، ولا يجمع ثنتين، لانهن أخوات. وإن أرضعتهن مرتبا، حرمت الكبيرة مؤبدا ولا تحرم الصغائر مؤبدا، ثم للترتيب أحوال، أحدها: أن ترضع ثنتين معا، ثم الثالثة، فينفسخ نكاح الاوليين، ولا ينفسخ نكاح الثالثة لانفرادها ووقوع إرضاعها بعد اندفاع نكاح أمها وأختها. الحال الثاني: أن ترضع واحدة أولا، ثم ثنتين، فينفسخ نكاح الاربع، أما الاولى والكبيرة فلاجتماع الام والبنت، وأما الاخريان، فلانهما صارتا أختين. الثالث: أن ترضعهن متعاقبا، فينفسخ نكاح الاولى مع الكبيرة لما ذكرنا، ولا تنفسخ الثانية بمجرد ارتضاعها، لانها ليست محرمة، ولم تجتمع هي وأم ولا أخت، فإذا ارتضعت الثالثة، انفسخ نكاحها، لانها صارت أختا للثانية التي هي في نكاحه، وهل ينفسخ معها نكاح الثانية، أم يختص الانفساخ بالثالثة ؟ قولان، وينسب الثاني إلى الجديد، ورجحه الشيخ أبو حامد، والاول إلى القديم، وهو الاظهر عند أكثر الاصحاب وبه قال أبو حنيفة وأحمد، واختاره المزني، فعلى هذا المسألة من المسائل التي رجح فيها القديم. ولو كان تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة، فقيل: ينفسخ نكاحهما قطعا، والاصح انفساخ الصغيرة، وأن الكبيرة على القولين، وبه قال القاضي أبو الطيب. ولو كانت تحته صغيرتان أرضعتهما أجنبية، نظر إن أرضعتهما معا انفسخ نكاحهما، لانهما صارتا أختين معا، وحرمت الاجنبية مؤبدا، لانها أم زوجتيه، وله نكاح إحدى الصغيرتين. وإن(6/438)
أرضعتهما متعاقبا، لم تنفسخ الاولى بإرضاعها، فإذا أرضعت الثانية، انفسخت قطعا، وفي انفساخ الاولى القولان، الاظهر الانفساخ. فرع تحته صغيرة وثلاث كبائر، أرضعتها كل كبيرة خمسا، انفسخ نكاح الجميع، لان الكبائر أمهات زوجته، والصغيرة بنت زوجاته، وحرمت الكبائر مؤبدا، وكذا الصغيرة إن كان دخل بكبيرة، وإلا فله نكاحها. فرع تحته أربع صغائر أرضعتهن أجنبية واحدة بعد واحدة، فلا أثر لرضاع الاولى في نكاح واحدة منهن، فإذا ارتضعت الثانية أختا للاولى، فينفسخ نكاح الثانية، وفي الاولى القولان، فإن فسخناها، فإذا أرضعت الثالثة، لم ينفسخ نكاحها، فإذا أرضعت الرابعة انفسخ نكاحهما، وإن قلنا: لا ينفسخ نكاح الاولى، فإذا أرضعت الثالثة، انفسخ نكاحها، لانها صارت أختا للاولى وكذا الرابعة. ولو أرضعتهن معا، أو أرضعت ثنتين معا، ثم ثنتين معا، انفسخ الجميع. فرع تحته صغيرتان وكبيرتان أرضعت كل واحدة من الكبيرتين واحدة من الصغيرتين، حرمن كلهن مؤبدا إن دخل بالكبيرتين، أو لم يدخل بهما، حرمت الكبيرتان مؤبدا، وانفسخ نكاح الصغيرتين في الحال، وله تجديد نكاحهما، والجمع بينهما لعدم الاخوة. ولو أرضعتهما إحدى الكبيرتين مرتبا، انفسخ نكاح الاولى والمرضعة، لاجتماع الام والبنت، ولم تنفسخ الصغيرة الثانية، فإذا أرضعتهما الكبيرة الثانية بعد إرضاع الاولى على ترتيب الثانية الاولى، انفسخ نكاحها بإرضاع الصغيرة الاولى، ولم ينفسخ نكاح الصغيرة الثانية لانه لم يحصل في حقها اجتماع أم وبنت في النكاح. وإن أرضعتهما على عكس ترتيب المرضعة الاولى انفسخ نكاح الجميع، وله تجديد نكاح كل صغيرة إن لم يدخل بالكبيرتين، ولا يجوز الجمع بينهما. فرع تحته كبيرتان وصغيرة، فأرضعتاها دفعة بأن أوجرتاها لبنهما المحلوب المخلوط، انفسخ نكاح الثلاث، وحرمت الكبيرتان مؤبدا، وكذا الصغيرة إن دخل بكبيرة وإلا فلا تحرم مؤبدا، وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى، ويرجع على الكبيرتين بالغرم. وأما الكبيرتان، فإن كان دخل بهما، فعليه لكل واحدة منهما جميع المسمى، ويرجع على كل واحدة منهما بنصف مهر مثل صاحبتها تفريعا على(6/439)
الاظهر، وهو إثبات الرجوع في غرم مهر الكبيرة الممسوسة، وذلك لان انفساخ نكاح كل واحدة حصل بفعلها وفعل صاحبتها، فسقط النصف لفعلها، ووجب النصف على صاحبتها. وإن لم يدخل بواحدة منهما، فلكل واحدة منهما ربع المسمى، لان الانفساخ حصل بفعلهما، فسقط بفعل كل واحدة نصف الشطر الواجب قبل الدخول، ووجب النصف الآخر، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بربع مهر مثل الاخرى تفريعا على الاظهر، وهو أن التغريم في حق غير الممسوسة يكون بنصف مهر المثل. وإن كانت إحداهما مدخولا بها دون الاخرى، فللمدخول بها تمام المسمى وللاخرى ربع مسماها، ويرجع الزوج على التي لم يدخل بها بنصف مهر مثل المدخول بها وعلى المدخول بها بربع مهر مثل التي لم يدخل بها. ولو كانت المسألة بحالها لكن أوجرتها اللبن المخلوط في المرة الخامسة إحدى الكبيرتين وحدها فحكم التحريم كما سبق، ويرجع الزوج بمهر الصغيرة على المرضعة في الخامسة وحدها، وفيما يرجع به الاقوال. وأما الكبيرتان فالتي لم توجر، إن كانت مدخولا بها، فلها على الزوج تمام المسمى، ويرجع الزوج بمهر مثلها على المؤجرة على الاظهر، وإن لم يكن مدخولا بها، فلها على الزوج نصف المسمى، ويرجع بالغرم على المؤجرة كما في الصغيرة، وأما المؤجرة، فإن كانت مدخولا بها، فلها جميع المهر، وإلا فلا شئ لها، لانها سبب الفرقة، هذا كله إذا كان من غير الزوج، فإن كان لبنه - والتصوير كما سبق - صارت الصغيرة بنته، وحرمت مؤبدا، ولو تم التحريم في حق الزوج دون الكبيرتين بأن أرضعت هذه بعض الخمس وهذه بعضها، حصل التحريم في حقه على الاصح كما سبق وحرمت الصغيرة مؤبدا، لانها بنته، ولا ينفسخ نكاح الكبيرتين، لانه لم تصر واحدة منهن أما، ثم إن حصلت الرضعات متفرقات بأن أرضعت هذه ثلاثا، وتلك مرتين، فالغرم على التي أرضعت الخامسة كذا ذكره الشيخ أبو علي، وقد سبق ما يقتضي خلافا فيه. وإن اشتركتا في الخامسة بأن أرضعت كل واحدة رضعتين، ثم أوجرتاها لبنهما المخلوط دفعة، فالغرم عليهما بالسوية. ولو حلبت إحداهما لبنها ثلاث دفعات في ثلاثة أوعية، والاخرى دفعتين في إنائين، ثم جمع الجميع، وأوجرته الصغيرة، فإن أوجرتها إحداهما، فالغرم عليها، وإن أوجرتاها، فهل تغرمان بالسوية، أم أخماسا ؟(6/440)
وجهان، أصحهما بالسوية. ولو حلبت إحداهما أربعا في أربعة أوعية، والاخرى ثلاثا في ثلاثة، ثم خلط، وأوجرتاها معا، فتغرمان بالسوية أم أسباعا ؟ فيه الوجهان. فرع تحته ثلاثة صغائر، فجاءت ثلاث خالات للزوج من الابوين وأرضعت كل واحدة صغيرة، لم يؤثر ذلك في نكاحهن، لانه يجوز الجمع بين بنات الخالات. فلو جاءت أم أم الزوج بعد ذلك، وأرضعت زوجة صغيرة رابعة للزوج، حرمت الرابعة مؤبدا، لانها صارت خالته وخالة الصغائر الثلاث، واجتمعت هي وهن في النكاح، وفي انفساخ نكاح الثلاث القولان السابقان. وكذا الحكم لو أرضعت الرابعة إمرأة أبي أم الزوج بلبنه. ولو كانت الخالات متفرقات، وأرضعن الثلاث، ثم أرضعت الرابعة أم أم الزوج، انفسخ نكاحها، ولا ينفسخ نكاح الصغيرة التي أرضعتها الخالة للاب، وفي الاخريين القولان. ولو كن متفرقات وأرضعت الرابعة إمرأة أبي الزوج، انفسخ نكاح الرابعة، ولا ينفسخ نكاح التي أرضعتها الخالة للام، وفي الاخريين القولان. ولو أرضعت الصغائر ثلاث عمات للزوج من الابوين، أو من الاب، ثم أرضعت الرابعة أم أبيه أو إمرأة أبي أبيه بلبنه، فالحكم كما ذكرنا في الخالات. فرع تحته كبيرة وثلاث صغائر وللكبيرة ثلاث بنات، فأرضعت كل واحد منهن صغيرة، فإن كانت الكبيرة مدخولا بها حرمن مؤبدا، سواء أرضعهن معا أو مرتبا، وعلى الزوج مهر الكبيرة بتمامه، ويرجع بغرمه على الاظهر عليهن إن أرضعن معا، وعلى الاولى إن أرضعن مرتبا، ولكل صغيرة على الزوج نصف المسمى، ويرجع بالغرم لكل صغيرة على مرضعتها. وإن لم تكن الكبيرة مدخولا بها، فإن أرضعن معا المرة الخامسة، انفسخ نكاحهن، لاجتماع الجدة والحفدة، وتحرم الكبيرة مؤبدا دون الصغائر، وعلى الزوج نصف المسمى للكبيرة ولكل صغيرة، ويرجع بغرم كل صغيرة على مرضعتها، وبنصف مهر مثل الكبيرة، وعلى الثلاث على كل واحدة سدس، وإن أرضعن مرتبا، فبإرضاع الاولى تنفسخ الكبيرة وتلك(6/441)
الصغيرة، ولكل واحدة منهما نصف المسمى على الزوج، ويرجع بالغرم، ولا ينفسخ نكاح الاخريين، سواء أرضعتا معا أو مرتبا، لانهما لم تصيرا أختين، ولا اجتمعت الجدة وهما. ولو أرضعت اثنتان صغيرتين معا، ثم أرضعت الثالثة، لم ينفسخ نكاح الثالثة وانفسخ نكاح الكبيرة والصغيرتين الاوليين وعلى الزوج نصف المسمى لكل واحدة منهن ويرجع بغرم كل صغيرة على مرضعتها وبغرم الكبيرة على المرضعتين جميعا. فرع نكح صغير صغيرة هي بنت عمه، فأرضعت جدتهما أم أبي كل واحد منهما أحدهما، ثبتت الحرمة بينهما، وانفسخ النكاح، وكذا الحكم لو كانت أم أبي الصغير غير أم أبي الصغيرة بأن كان أبواهما أخوين لاب، فأرضعت إحدى الجدتين أحد الصغيرين بلبن جدهما، انفسخ النكاح. ولو نكح صغير بنت عمته الصغيرة، فجاءت الجدة التي هي أم أبي الصغير، وأم أم الصغيرة، فأرضعت أحدهما، انفسخ النكاح، وكذا لو كانت أم أبي الصغير غير أم أم الصغيرة، وأرضعت جدتهما أم أم كل واحد منهما أحدهما، انفسخ. ولو نكح صغير بنت خاله، فأرضعت جدتهما أم أم الصغير وأم أبي الصغيرة أحدهما، انفسخ، وتنزيلاتها ظاهرة، وبالله التوفيق.
الباب الرابع : في الاختلاف فيه ثلاثة أطراف: الاول في دعوى الرضاع وحكمها: فإذا قال: فلانة أختي أو بنتي من الرضاع، أو قال: فلان أخي أو إبني من الرضاع، واتفقا على ذلك، لم يحل النكاح بينهما بشرط الامكان، فإن لم يمكن(6/442)
بأن قال: فلانة بنتي وهي أكبر سنا منه، فهو لغو. وإذا صح الاقرار، ثم رجعا، أو رجع المقر، لم يقبل رجوعه، ولا يصح النكاح. ولو اتفق الزوجان على أن بينهما رضاعا محرما، فرق بينهما، وسقط المسمى، ويجب مهر المثل إن دخل بها، وإلا فلا شئ. وإن اختلف الزوجان في الرضاع ولا بينة، فإن ادعاه الزوج وأنكرته، قبل في حقه فقط، فيحكم ببطلان النكاح، ويفرق بينهما، ويجب لها نصف المسمى إن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده، وله تحليفها قبل الدخول وكذا بعده إن كان مهر المثل أقل من المسمى، فإن نكلت، حلف الزوج، ولا شئ لها قبل الدخول، ولا يجب أكثر من مهر المثل بعد الدخول. وإن ادعت الرضاع وأنكر، فقد سبق في كتاب النكاح أنه إن جرى التزويج برضاها، لم يقبل قولها، بل يصدق الزوج بيمينه. وإن جرى بغير رضاها فأيهما المصدق بيمينه ؟ وجهان، ظاهر كلام الشافعي وبه أجاب العراقيون، وصححه الغزالي أنه المصدق، وذكرنا هناك أن الاصح عند الشيخ أبي علي وجماعة أنها المصدقة، وبه أجاب المتولي والبغوي، ونقله القفال عن النص. وإذا مكنت الزوج وقد زوجت بغير رضاها، فتمكينها كرضاها، والورع للزوج إذا ادعت الرضاع أن يدع نكاحها بتطليقة لتحل لغيره إن كانت كاذبة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، وليس لها المطالبة بالمسمى إذا ادعت الرضاع، لانها لا تستحقه بزعمها، ولها المطالبة بمهر المثل إن جرى دخول، فإن كان ذلك بعد دفع الزوج الصداق، لم يتمكن من الاسترداد لزعمه، ويشبه أن يكون فيما يفعل بذلك المال الخلاف المذكور فيما إذا أقر لغيره بمال فأنكره المقر له. فرع أقرت أمة بأخوة الرضاع لغير سيدها، يقبل، فإذا اشتراها ذلك الغير، لم يحل له وطؤها، وإن أقرت لسيدها، لم يقبل بعد التمكين، وقبله وجهان.
الطرف الثاني : في كيفية الحلف في الرضاع.
من الأصول الممهدة أن الحالف على فعل غيره يحلف على البت إن كان(6/443)
إثباتا، وعلى نفي العلم إن كان نفيا، والغرض هنا أن منكر الرضاع يحلف على نفي العلم، ومدعيه يحلف على البت يستوي فيه الرجل والمرأة، فلو نكلت عن اليمين، ورددناها على الزوج، أو نقل الزوج ورددناها عليها، فاليمين المردودة تكون على البت، لانها مثبتة، وقال القفال على نفي العلم، وقيل: إن غير المنكر منهما على البت، وقيل: يمينه إذا أنكر على البت، ويمينها على نفي العلم، والمذهب الاول. ولو ادعت الرضاع فشك الزوج، فلم يقع في نفسه صدقها ولا كذبها، فإن قلنا: الحلف على نفي العلم، فله أن يحلف، وإن قلنا: على البت، فلا. الطرف الثالث : في الشهادة على الرضاع فيه مسائل: إحداها: يثبت الرضاع بشهادة رجلين، وبرجل وإمرأتين، وبأربع نسوة كالولادة، ولا يثبت بدون أربع نسوة، ولا يثبت الاقرار بالرضاع إلا برجلين، وفي التتمة أنه لو كان النزاع في شرب اللبن من ظرف، لم تقبل فيه شهادة النسوة المتمحضات، لانه لا يختص باطلاع النساء، وإنما تقبل شهادتهن إذا كان النزاع في الارتضاع من الثدي، وأنه تقبل شهادتهن على أن اللبن الحاصل في الظرف لبن فلانة، لان الرجال لا يطلعون على الحلب غالبا. الثانية: لو كان فيمن يشهد بالرضاع، أم المرأة، أو بنتها على حرمة الرضاع بينها وبين الزوج فإن كان الزوج مدعيا، والمرأة منكرة، قبلت شهادتها، وإن انعكس، فلا، قال الاصحاب: ولا يتصور أن تشهد على أمها أنها ارتضعت من أم الزوج، لان الشهادة على الرضاع تعتبر فيها المشاهدة، لكن(6/444)
يتصور أن تشهد أنها أرضعت الزوج أو أرضعته أمها أو أختها، ولو شهدت الام أو البنت من غير تقدم دعوى على سبيل الحسبة، قبلت وإن احتمل كون الزوجة مدعية، لان الرضاع تقبل فيه شهادة الحسبة، وهذا كما لو شهد أبو الزوجة وابنها أو ابناها ابتداء أن زوجها طلقها، قبلت. ولو ادعت الطلاق، فشهدا، لم تقبل. الثالثة: لا تقبل شهادة المرضعة وحدها، وهل تقبل شهادتها فيمن يشهد إن ادعت أجرة الرضاع، لم تقبل، وفي وجه حكاه الماوردي عن أبي إسحق: تقبل في ثبوت الحرمة دون الاجرة، والصحيح المنع فيهما، وإن لم تدع أجرة، نظر إن لم تتعرض لفعلها بأن شهدت بأخوة الرضاع بينهما، أو على أنهما ارتضعا منها، قبلت شهادتها، ولا نظر إلى ما يتعلق به من ثبوت المحرمية، وجواز الخلوة والمسافرة، فإن الشهادة لا ترد بمثل هذه الاغراض. ولهذا لو شهد رجلان أن زيدا طلق زوجته، أو أعتق أمته، قبل بلا خلاف، وإن استفادا حل مناكحتها. وإن شهدت على فعل نفسها، فقالت: أرضعتهما، فوجهان، أحدهما: لا تقبل، كما لا تقبل شهادتها على ولادتها، ولا شهادة الحاكم على حكم نفسه بعد العزل، ولا القسام على القسمة. وأصحهما: تقبل، وبه قطع الاكثرون، لانها لا تجر بها نفعا ولا تدفع ضررا بخلاف الولادة، فإنه يتعلق بها حق النفقة والارث، وسقوط القصاص وغيرها، وتخالف شهادة الحاكم والقسام، فإن فعلهما مقصود، وفعل المرضعة غير مقصود، وإنما المعتبر وصول اللبن إلى الجوف، ولان الشهادة بالحكم والقسمة تتضمن تزكية النفس.(6/445)
فرع إذا لم يتم نصاب الشهادة بأن شهدت المرضعة وحدها، أو إمرأة أجنبية، أو إمرأتان، أو ثلاث، فالورع أن يترك نكاحها، وأن يطلقها إن كان ذلك بعد النكاح. فرع لو شهد اثنان بالرضاع، وقالا: تعمدنا النظر إلى الثدي لا لتحمل الشهادة، لم تقبل شهادتهما لانهما فاسقان بقولهما، وفي النظر إلى الثدي لتحمل الشهادة خلاف سبق في أول النكاح الاصح الجواز. قلت: مجرد النظر معصية صغيرة لا ترد به الشهادة ما لم يصر عليه فاعله، ويشترط أيضا أن لا تكون ظهرت توبته بعد ذلك. والله أعلم. المسألة الرابعة: أطلق جماعة منهم الامام أن الشهادة المطلقة أن بينهما رضاعا محرما، أو حرمة الرضاع، أو أخوته، أو بنوته مقبولة، وقال الاكثرون: لا تقبل مطلقة، بل يشترط التفصيل والتعريض للشرائط، وهو ظاهر النص، قال البغوي: وهو الصحيح لاختلاف المذاهب في شروط الرضاع، فاشترط التفصيل ليعمل القاضي باجتهاده، ويحسن أن يتوسط فيقال: إن أطلق فقيه يوثق بمعرفته قبل وإلا فلا، وينزل الكلامان عليه، أو يخص الخلاف بغير الفقيه، وقد سبق مثله في الاخبار بنجاسة الماء. والمانعون من قبول المطلقة ذكروا وجهين في قبول الشهادة المطلقة على الاقرار بالرضاع. ولو قال: هي أختي من الرضاع، ففي البحر وغيره أنه لا يفتقر إلى ذكر الشروط إن كان فقيها، وإلا فوجهان، وفرقوا بين الشهادة والاقرار بأن المقر يحتاط لنفسه، فلا يقر إلا عن تحقيق. الخامسة: إذا شهد الشاهد على فعل الرضاع والارتضاع، لم يكف، وكذلك في الاقرار، بل لا بد من التعرض للوقت والعدد بأن يشهد أنها أرضعته، أو ارتضع(6/446)
منها في الحولين خمس رضعات متفرقات، وفي اشتراط ذكر وصول اللبن إلى الجوف وجهان، أصحهما: نعم وبه قطع المتولي وغيره، كما يشترط ذكر الايلاج في شهادة الزنى. والثاني: لا، لانه لا يشاهد قال في البسيط: ولا شك أن للقاضي أن يستفصله، ولو مات الشاهد قبل الاستفصال، هل للقاضي التوقف ؟ وجهان. فرع الشاهد قد يستيقن وصول اللبن إلى الجوف بأن يعاين الحلب، وإيجار الصغير المحلوب وازدراده، وحينئذ يشهد به، ولا إشكال. وقد يشاهد القرائن الدالة عليه وهي التقام الثدي وامتصاصه، وحركة الحلق بالتجرع والازدراد بعد العلم بأنها ذات لبن، وهذا يسلطه على الشهادة، ولا يجوز أن يشهد على الرضاع بأن يراها أخذت الطفل تحت ثيابها، وأدته منها كهيئة المرضعة، لانها قد توجره لبن غيرها في شئ كهيئة الثدي، ولا بأن يسمع صوت الامتصاص فقد يمتص أصبعه أو أصبعها. ولو شاهد التقام الثدي والامتصاص وهيئة الازدراد، ولم يعلم كونها ذات لبن، فهل له الشهادة لظاهر الحال أم لا، لان الاصل عدم اللبن ؟ وجهان، أصحهما الثاني، ولا يكفي في أداء الشهادة حكاية القرائن بأن يشهد برؤية(6/447)
الالتقام والامتصاص والتجرع من غير تعرض لوصول اللبن إلى الجوف ولا للرضاع المحرم، وإن كان مستند علمه تلك القرائن، لان معاينتها تطلع على ما لا تطلع عليه الحكاية، فإن اطلعته على وصول اللبن، فليجزم به على قاعدة الشهادات، وبالله التوفيق.(6/448)
كتاب النفقات
لوجوب النفقة ثلاثة أسباب : ملك النكاح، وملك اليمين، وقرابة البعضية فالاولان يوجبان النفقة للمملوك على المالك ولا عكس، والثالث يوجبها لكل واحد من القريبين على الآخر لشمول البعضية والشفقة، ويشتمل الكتاب على ستة أبواب، أما نفقة الزوجة، فواجبة بالنصوص، والاجماع، وفيها ثلاثة أبواب :
الأول : في قدر الواجب وكيفيته وفيه طرفان:
الأول : فيما يجب وهو ستة(6/449)
أنواع: الاول الطعام، أما قدره، فيختلف باختلاف حال الزوج باليسار والاعسار، ولا تعتبر فيه الكفاية، ولا ينظر إلى حال المرأة في الزهادة والرغبة، ولا إلى منصبها وشرفها، وتستوي فيه المسلمة والذمية، الحرة والامة، فعلى الموسر مدان، والمعسر مد والمتوسط مد ونصف، والاعتبار بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مائة وثلاثة وسبعون درهما وثلث درهم. قلت: هذا تفريع منه على أن رطل بغداد مائة وثلاثون درهما، والمختار أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، كما ذكرته في باب زكاة النبات. والله أعلم. وحكى الشيخ أبو محمد قولا أن نفقة الزوجة يعتبر فيها الكفاية كنفقة القريب، وحكى صاحب التقريب قولا أن المعتبر ما يفرضه القاضي، وعليه أن يجتهد ويقدر، وهذان القولان شاذان. وحكى ابن كج عن ابن خيران وغيره أن المعتبر عرف الناس في البلد. والمذهب: التقدير كما سبق. وفيما يضبط به اليسار والاعسار والتوسط أوجه، أحدها: العادة وتختلف باختلاف الاحوال والبلاد، وبه قطع المتولي وغيره. والثاني: أن الموسر من يزيد دخله على خرجه، والمعسر عكسه، والمتوسط من تساوى خرجه ودخله، وبه قال القاضي حسين وحكاه البغوي. والثالث عن الماوردي أن الاعتبار بالكسب فمن قدر على نفقة الموسرين في حق نفسه ومن في نفقته من كسبه لا من أصل ماله، فهو موسر، ومن لا يقدر على أن ينفق من كسبه، فمعسر، ومن قدر أن ينفق من كسبه(6/450)
نفقة المتوسطين فمتوسط. والرابع وهو أحسنها وهو الذي ذكره الامام والغزالي: أن من لا يملك شيئا يخرجه عن استحقاق سهم المساكين فهو معسر، ومن يملكه ولا يتأثر بتكليف المدين موسر، ومن يملكه ويتأثر بتكليف المدين، ويرجع إلى حد المسكنة متوسط، ولا بد في ذلك من النظر الرخص والغلاء. فرع القدرة على الكسب الواسع لا تخرجه عن الاعسار في النفقة، وإن كانت تخرجه عن استحقاق سهم المساكين. فرع يعتبر في اليسار والاعسار طلوع الفجر، فإن كان موسرا حينئذ، فعليه نفقة الموسرين، وإن أعسر في أثناء النهار، وإن كان معسرا، لم تلزمه إلا نفقة المعسرين، وإن أيسر في أثناء النهار. فرع ليس على العبد إلا نفقة المعسر، وكذا المكاتب وإن أكثر ماله لضعف ملكه، وفيمن بعضه حر وجهان، الاصح: معسر وإن كثر ماله لنقص حاله. والثاني: أن عليه ببعضه الحر نفقة الموسر إذا كثر ماله، فعلى هذا إن كان نصفه حرا ونصفه رقيقا فعليه مد ونصف. فصل وأما جنس الطعام فغالب قوت البلد من الحنطة أو الشعير أو الارز أو التمر أو غيرها، حتى يجب الاقط في حق أهل البادية الذين يقتاتونه. وعن ابن(6/451)
سريج أن المعتبر ما يليق بحال الزوج إلحاقا للجنس بالقدر، والصحيح: الاول: فإن اختلف قوت البلد، ولم يكن غالبا وجب ما يليق بحال الزوج. الواجب الثاني: الادم وجنسه غالب أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن والتمر والخل والجبن وغيرها، ويختلف باختلاف الفصول، وقد تغلب الفواكه في أوقاتها فتجب، ويعود الوجه السابق في الطعام أن الاعتبار بما يليق بالزوج، وأما قدره، فقال الاصحاب: لا يتقدر بل هو إلى اجتهاد القاضي، فينظر في جنس الادم، ويقدر باجتهاده ما يحتاج إليه المد، فيفرضه على المعسر، وعلى الموسر مثليه، والمتوسط بينهما، ويجب عليه أن يطعمها اللحم وفي كلام الشافعي رحمه الله أنه يطعمها في كل أسبوع رطل لحم، وهو محمول على المعسر، وعلى الموسر رطلان والمتوسط رطل ونصف، واستحب أن يكون يوم الاعطاء يوم الجمعة، فإنه أولى بالتوسيع فيه. ثم قال الاكثرون: إنما قال الشافعي رحمه الله هذا على عادة أهل مصر لعزة اللحم عندهم يومئذ، وأما حيث يكثر اللحم، فيزاد بحسب عادة البلد: وقال البغوي: يجب في وقت الرخص على الموسر في كل يوم رطل، وعلى المتوسط في كل يومين أو ثلاثة، وعلى المعسر في كل أسبوع، وفي وقت الغلاء يجب في أيام مرة على ما يراه الحاكم. وقال آخرون منهم القفال: لا مزيد على ما ذكره الشافعي في جميع البلاد لان فيه كفاية لمن قنع، ويشبه أن يقال: لا يجب الادم في اليوم الذي يعطيها اللحم ولم يتعرضوا له، ويحتمل أن يقال: إذا أوجبنا على الموسر اللحم كل يوم يلزمه الادم أيضا ليكون أحدهما غداء، والآخر عشاء على العادة. فرع لو تبرمت بالجنس الواحد من الادم فوجهان، أحدهما: يلزم الزوج(6/452)
إبداله، إذ لا مشقة عليه، وأصحهما: لا يلزمه وتبدل هي إن شاءت. فرع في أمالي السرخسي أنها لو صرفت شيئا من الادم إلى القوت أو بالعكس، أو أبدلت الجنس الذي قبضته من الادم بجنس آخر، جاز، ولا اعتراض للزوج، وقيل: له المنع من إبدال الاشرف بالاخس. فرع لو كانت تقنع بالخبز، ولا تأكل الادم، لم يسقط حقها منه، كما لا يسقط حقها من الطعام بأن لا تأكل بعضه، وعلى الوجه المجوز للزوج منعها من إبدال الاشرف له منعها من ترك التأدم. فرع لها على الزوج آلات الطبخ والاكل والشرب، كالكوز والجرة والقدر والمغرفة والقصعة ونحوها، ويكفي كونها من خشب، أو حجر، أو خزف. قال الامام وغيره: يحتمل أن لا يزاد في الجنس على ذلك، ويقال: الزيادة من رعونات الانفس، ويجب أن يجب للشريفة الظروف النحاسية للعادة. الواجب الثالث: الخادم. النساء صنفان، صنف لا يخدمهن أنفسهن في عادة البلد، بل لهن من يخدمن، فمن كانت منهن، فعلى الزوج إخدامها على المذهب وبه قطع الجمهور. وقيل في وجوب الخادم قولان، وسواء في وجوب الاخدام كان الزوج معسرا أو موسرا أو مكاتبا أو عبدا، والاعتبار بالمرأة في بيت أبيها. فلو ارتفعت بالانتقال إلى الزوج الخادم، لم يجب، صرح به في تعليق الشيخ أبي حامد. والواجب خادم واحد وإن ارتفعت مرتبتها، ولا يلزمه تمليكها جارية، بل الواجب إخدامها بحرة أو أمة مستأجرة أو مملوكة، أو بالاتفاق على من صحبتها من(6/453)
حرة أو أمة، ويشترط كون الخادم إمرأة أو صبيا، أو محرما لها، وفي مملوكها والشيخ الهم اختلاف، وفي الذمية وجهان، لان النفس تعاف استخدامها، ثم إن أخدمها بمستأجرة، فليس عليه إلا الاجرة، وإن أخدمها مملوكته، فعليه نفقتها بالملك، وإن أخدمها بكفاية من صحبتها من حرة أو أمة فهذا موضع نفقة الخادم. والقول في جنس طعامها كهو في جنس طعام المخدومة، وأما قدره، فقيل: لا يختلف باختلاف حال الزوج، بل يجب مد مطلقا. والصحيح أنه يختلف، فعلى المعسر مد، والموسر مد وثلث، والمتوسط مد على الصحيح، وقيل: مد وثلث، وقيل: مد وسدس. وفي استحقاق الخادم الادم وجهان، أحدهما: لا ويكتفى بفضل المخدومة. والصحيح: نعم. فعلى هذا جنسه جنس أدم المخدومة، وفي نوعه وجهان، أحدهما كالمخدومة، وأصحهما وهو نصه دون نوع أدم المخدومة، وطرد الوجهان في نوع الطعام، وفي استحقاق الخادم اللحم وجهان، ثم قدر أدمها بحسب الطعام. فرع قالت: أنا أخدم نفسي، وطلبت الاجرة، أو نفقة الخادم، لا يلزمه، وأشار الغزالي إلى خلاف فيه، فعلى المذهب، لو اتفقا على ذلك، قال المتولي: هو على الخلاف في الاعتياض عن النفقة، ولو قال الزوج: أنا أخدمها لتسقط مؤنة الخادم، فليس له ذلك على الاصح، لانها تستحي منه، وتعير به، وقيل: له ذلك، وبه قال أبو إسحق، واختاره الشيخ أبو حامد، وقال القفال وغيره: له ذلك فيما لا يستحى منه كغسل الثوب، واستقاء الماء، وكنس البيت والطبخ، دون ما يرجع إلى خدمة نفسها كصب الماء على يدها، وحمله إلى المستحم ونحوهما وفي هذا تصريح بأن هذين النوعين من وظيفة الخادم. وعلى هذا إذا تولى بنفسه ما لا يستحى منه، فقد تولى عمل الخادم، فهل تستحق تمام النفقة، أم شطرها، أم(6/454)
توزع على الافعال ؟ فيه أوجه، وهذا فيه كلامان، أحدهما: ذكر أبو الفرج الزاز أن الذي يجب على الزوج كفايته في حق المخدومة الشريفة الطبخ والغسل ونحوهما دون حمل الماء إليها للشرب وحمله إلى المستحم، لان الترفع عن ذلك رعونة لا عبرة بها. الثاني: قال البغوي يعني بالخدمة ما هو حاجتها، كحمل الماء إلى المستحم، وصبه على يدها، وغسل خرق الحيض ونحوها، فأما الطبخ والكنس والغسل، فلا يجب شئ منها على المرأة، ولا على خادمها، بل هو على الزوج إن شاء، فعله بنفسه، وإن شاء بغيره، فالكلامان متفقان على أنه لا يتوظف النوعان على خادم المرأة، والاعتماد من الكلام على ما ذكره البغوي. قلت: الذي أثبته الزاز من الطبخ والغسل ونحوهما هو فيما يختص بالمخدومة، والذي نفاه البغوي منهما هو فيما يختص بالزوج كغسل ثيابه، والطبخ لاكله ونحوه، والطرفان متفق عليهما، فلا خلاف بين الجميع في ذلك. والله أعلم. فرع تنازعا في تعيين الخادم التي تخدمها من جواريه أو من يستأجرها فهل المتبع اختيار المخدومة لان الخدمة لها، وقد تكون التي عينتها أرفق بها وأسرع موافقة، أم المتبع اختيار الزوج لان الواجب كفايتها ؟ فيه وجهان، الصحيح الثاني هذا في الابتداء، أما إذا أخدمها خادما وألفتها، أو كانت حملت معها خادما، فأراد إبدالها، فلا يجوز، لانها تتضرر بقطع المألوف إلا إذا ظهرت ريبة أو خيانة، فله الابدال. فرع لو أرادت استخدام ثانية وثالثة من مالها، فللزوج منعهن دخول داره، وكذا لو حملت معها أكثر من واحدة، فله أن يخرج من داره من زاد على واحدة، وله أن يمنع أبويها من الدخول عليها، وله أن يخرج ولدها من غيره إذا استصحبته. فرع إذا كانت المنكوحة رقيقة، لكنها جميلة تخدم في العادة، لم يجب إخدامها على المذهب، وبه قطع الاكثرون لنقصها، وقيل: وجهان، ثانيهما يجب(6/455)
للعادة. فرع المبتوتة الحامل هل تستحق نفقة الخادم ؟ وجهان بناهما ابن المرزبان على أن نفقتها للحمل أم للحامل، إن قلنا: للحامل، وجبت وإلا فلا. الصنف الثاني من تخدم نفسها في العادة فينظر إن احتاجت إلى الخدمة لزمانة أو مرض، لزم الزوج إقامة من يخدمها ويمرضها، وإذا لم تحصل الكفاية بواحدة، لزمه الزيادة بحسب الحاجة، وسواء هنا كانت الزوجة حرة أو أمة، هذا ما أطلقه الشافعي وجمهور الاصحاب رحمهم الله في المرض، ومنهم من فصل فقال: إن كان المرض دائما، وجب الاخدام، وإلا فلا، وعلى هذا جرى الآخذون عن الامام، وإن لم يكن عذر محوج إلى الخدمة، فليس عليه الاخدام، ولو أرادت أن تتخذ خادما من مالها فله منعه من دخول داره، قال المتولي: وعلى الزوج أن يكفيها حمل الطعام إليها، والماء إلى المنزل، وشبه ذلك. الواجب الرابع: الكسوة، فتجب كسوتها على قدر الكفاية، وتختلف بطول المرأة وقصرها وهزالها وسمنها، وباختلاف البلاد في الحر والبرد، ولا يختلف عدد الكسوة بيسار الزوج وإعساره، ولكنهما يؤثران في الجودة والرداءة، وفي كلام ا لسرخسي وإبرهيم المروذي أنه يعتبر في الكسوة حال الزوجين جميعا، فيجب عليه ما يلبس مثله مثلها. وأما عدد الكسوة، فيجب في الصيف قميص وسراويل وخمار وما تلبسه في الرجل من مكعب أو نعل، وفي الشتاء تزاد جبة محشوة، وقد يقام الازار مقام السراويل، والفرو مقام الجبة إذا كانت العادة لبسهما، كذا قاله المتولي، وعن(6/456)
المنهاج للجويني أن السراويل لا تجب في الصيف، وإنما تجب في الشتاء، وفي الحاوي أن نساء أهل القرى إذا جرت عادتهن أن لا يلبسن في أرجلهن شيئا في البيوت، لم يجب لارجلهن شئ. وأما جنس الكسوة، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: يكسوها الموسر جميع ذلك من لين البصرة أو الكوفة، أو وسط بغداد، والمعسر من غليظها، والمتوسط ما بينهما، وأراد المتخذ من القطن، فإن جرت عادة البلد بالكتان أو الخز أو الحرير فوجهان، أحدهما عن الشيخ أبي محمد لا يلزم ذلك، وأصحهما اللزوم، وتفاوت بين الموسر والمعسر في مراتب ذلك الجنس، قال الاصحاب: وإنما ذكر الشافعي ما ذكر على عادة ذلك الوقت، لكن لو كان عادة البلد لبس الثياب الرقيقة كالقصب الذي لا يصلح ساترا، ولا تصح فيها الصلاة، لم يعطها منه، لكن من الصفيق الذي يقرب منه في الجودة كالديبقي والكتان المرتفع، قال السرخسي: وإذا لم تستغن في البلاد الباردة بالثياب عن الوقود يجب من الحطب أو الفحم بقدر الحاجة. فرع هذا المذكور حكم لباس البدن، وأما الفرش، فعلى الزوج أن يعطيها ما تفرشه للقعود عليه، ويختلف ذلك باختلاف حال الزوج، قال المتولي: فعلى الموسر طنفسة في الشتاء، ونطع في الصيف، وعلى المتوسط زلية، وعلى الفقير حصير في الصيف ولبد في الشتاء، وتشبه أن تكون الطنفسة والنطع بعد بسط زلية أو حصير فإن الطنفسة والنطع لا يبسطان وحدهما، وهل عليه فراش تنام(6/457)
عليه ؟ وجهان، أحدهما: لا وتنام على ما يفرشه نهارا، وأصحهما: نعم للعادة، فعلى هذا يلزمه مضربة وثيرة أو قطيفة، ويجب لها مخدة ولحاف أو كساء في الشتاء، وفي البلاد الباردة بلا خلاف، ويكون كل ذلك لامرأة الموسر من المرتفع، ولامرأة المعسر من النازل، والمتوسط، وذكر الغزالي يجب أيضا شعار، ولم يتعرض له الجمهور، والحكم في جميع ذلك مبني على العادة نوعا وكيفية حتى قال الروياني في البحر: لو كانوا لا يعتادون في الصيف لنومهم غطاء غير لباسهم، لم يلزم شئ آخر. فرع تجب للخادم الكسوة كالنفقة، فلا بد من قميص، وفي السراويل وجهان، أصحهما عند البغوي والروياني تجب، وكلام الجمهور يميل إلى عدم الوجوب، وأما المقنعة، فأطلق جماعة وجوبها، وقال المتولي: تجب في الشتاء وكذا في الصيف إن كانت حرة، فإن كانت أمة، لم تجب إن كانت عادة إماء البلد كشف الرأس. قلت: الصحيح القطع بالوجوب مطلقا. والله أعلم. ويجب للخادم في الشتاء جبة أو فرو، ويجب الخف للخادم دون المخدومة، ويجب لها ما تلتحف به عند الخروج، وأما ما يفرش وتنام فيه، فقد قال المتولي: لا بد من شئ تجلس عليه كبارية في الصيف، وقطعة لبد في(6/458)
الشتاء، ولا بد من مخدة وشئ تتغطى به في الليل من كساء ونحوه، قال في البحر: ولا يجب لها الفراش، بل يكتفى بالوسادة والكساء، وما وجب يجب مما يليق بالخادم جنسا ونوعا، ويكون دون كسوة المخدومة. فرع قياس مسائل الباب أنه يجب زيادة على الجبة الواحدة حيث يشتد البرد ولا تكفي الواحدة. الواجب الخامس: آلات التنظف، فعلى الزوج للزوجة ما تتنظف به، وتزيل الاوساخ التي تؤذيها وتؤذي بها كالمشط والدهن، وما تغسل به الرأس من سدر أو خطمي أو طين على عادة البقعة، والرجوع في قدرها إلى العادة، ويجب من الدهن ما يعتاد استعماله غالبا كالزيت والشيرج وغيرهما، وإذا اعتادوا التطيب بالورد، أو البنفسج، وجب المطيب، وأبدى الامام وغيره احتمالا في الدهن إذا قال الزوج: هو للتجمل وأنا لا أريده. والذي عليه الاصحاب القطع بالوجوب، وأما ما يقصد للتلذذ والاستمتاع كالكحل والخضاب، فلا يلزم الزوج، بل ذلك إلى اختياره، فإن شاء هيأه لها، وإذا هيأ لها أسباب الخضاب، لزمها الاختضاب، ومن هذا القبيل الطيب، ولا يجب إلا ما يقصد به قطع السهوكة ويجب المرتك، أو ما(6/459)
في معناه لدفع الصنان إذا لم ينقطع بالماء والتراب وفيه وجه ضعيف. فرع للزوج منعها من تعاطي الثوم، وما له رائحة مؤذية على الاظهر، وقد ذكرناه في كتاب النكاح، وله منعها من تناول السموم بلا خلاف، ولكل أحد المنع، وهل له منعها من أكل ما يخاف منه حدوث مرض ؟ وجهان، أصحهما: نعم. فرع لا تستحق الزوجة الدواء للمرض، ولا أجرة الطبيب والفصاد والحجام والختان، لان هذه الامور لحفظ الاصل، فكانت عليها كما يكون على المكري ما يحفظ العين المكراة، ويلزم الزوج الطعام والادم في أيام المرض، ولها صرف ما تأخذه إلى الدواء ونحوه. فرع هل على الزوج أجرة الحمام لها ؟ وجهان، أحدهما: لا تجب إلا إذا اشتد البرد، وعسر الغسل إلا في الحمام، واختاره الغزالي، وأصحهما - وبه قطع البغوي والروياني وغيرهما - الوجوب إلا إذا كانت من قوم لا يعتادون دخوله، فإن أوجبناها، قال الماوردي: إنما تجب في كل شهر مرة. فرع إذا احتاجت إلى شراء الماء للغسل إن كانت تغتسل من الاحتلام، لم يلزم الزوج قطعا وكذا إن اغتسلت عن الحيض على الاصح، وإن اغتسلت عن الجماع والنفاس، لزمه على الاصح، لانه بسببه، وينظر على هذا القياس في ماء الوضوء إلى أن السبب منه كاللمس أم لا ؟ فرع لا يلزمه أن يضحي عن زوجته، نذرت التضحية أم لا. فرع لا يجب للخادمة آلات التنظف، لانها لا تتنظف له بخلاف المخدومة، بل اللائق بالخادمة أن تكون شعثة لئلا تمتد إليها العين، لكن لو كثر(6/460)
الوسخ، وتأذت بالهوام، لزمه أن يعطيها ما تترفه به، كذا استدركه القفال واستحسنوه، وأطلق صاحب العدة وجهين في أنه هل يعطي الخادمة الدهن والمشط. فرع في وجوب تجهيز الزوجة الميتة وجهان سبقا في الجنائز، ويجريان في تجهيز الخادمة، ورأى المتولي ترتيبهما على الزوجة، لان علقة النكاح تبقى في الغسل والارث، وكذا في التجهيز. الواجب السادس: الاسكان، فيجب لها مسكن يليق بها في العادة، وقال المتولي: يليق بالزوجين جميعا، وله إسكانها في المملوك والمستأجر والمستعار بلا خلاف.
الطرف الثاني : في كيفية الإنفاق، في هذه الواجبات هي ضربان: الاول: ما ينتفع به باستهلاكه كالطعام وفيه مسائل: إحداها: يجب التمليك في الطعام والادم، وما يستهلك من آلة التنظف كالدهن والطين، وإذا أخذت نفقتها فلها التصرف فيها بالابدال والبيع والهبة وغيرها، لكن لو قترت على نفسها بما يضرها فله منعها. ونفقة الخادم يجب فيها التمليك أيضا، قاله الاصحاب، وقد سبق أن موضع وجوب نفقة الخادم إذا أخدمها بمملوكتها أو بحرة غير مستأجرة، فإن كانت مملوكتها، فيملكها نفقتها كما يملكها نفقة نفسها، وإن كانت حرة فيجوز أن يقال: يملكها نفقتها كما يملك الزوجة، وتستحق المرأة المطالبة بذلك لتوفر حق الخدمة، ويجوز أن يقال: يملك الزوجة لتدفعها إلى الخادمة وعلى هذا لها أن تتصرف في المأخوذ، وتكفي مؤنة الخادمة من مالها. المسألة الثانية: لو قبضت الزوجة النفقة، فتلفت أو سرقت، لا يلزمه إبدالها.(6/461)
الثالثة: الذي يجب تمليكه من الطعام الحب كما في الكفارة لا الخبز والدقيق، فلو طلبت غير الحب، لم يلزمه، ولو بذل غيره، لم يلزمها قبوله، وهل عليه مع الحب مؤنة طحنه وخبزه ؟ أوجه، أحدها: لا كالكفارة، وبه قطع ابن كج. والثاني: إن كانت من أهل القرى الذين عادتهم الطحن والخبز بأنفسهم، فلا، وإلا فنعم، وبه قال الماوردي، وأصحها: الوجوب مطلقا، لانها في حبسه بخلاف الكفارة، وعلى هذا تجب مؤنة طبخ اللحم وما يطبخ به. ولو باعت الحب، أو أكلته حبا، ففي استحقاقها مؤنة إصلاحه احتمالان للامام. الرابعة: ليس له تكليفها الاكل معه لا مع التمليك ولا دونه. الخامسة: لو كانت تأكل معه على العادة، ففي سقوط نفقتها وجهان، أقيسهما وهو الذي ذكره الروياني في البحر: لا تسقط وإن جريا على ذلك سنين، لانه لم يؤد الواجب وتطوع بغيره. والثاني: تسقط فإنه اللائق بالباب. قال الغزالي: وهذا أحسنهما لجريان الناس عليه في الاعصار، واكتفاء الزوجات به، ولانها لو طلبت النفقة للزمن الماضي والحالة هذه لاستنكر، وبنى بعضهم هذا على المعاطاة، إن جعلناها بيعا برئت ذمته عن النفقة، وإلا فلا، وعليها غرامة ما أكلت، ثم الوجهان في الزوجة البالغة، أو صغيرة أكلت معه بإذن القيم، فأما إذا لم يأذن القيم، فالزوج متطوع، ولا تسقط نفقتها بلا خلاف.(6/462)
قلت: الصحيح من الوجهين سقوط نفقتها إذا أكلت معه برضاها وهو الذي رجحه الرافعي في المحرر وعليه جرى الناس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده من غير نزاع ولا إنكار ولا خلاف ولم ينقل أن امرأة طالبت بنفقة بعده، ولو كانت لا تسقط مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإطباقهم عليه لاعلمهم بذلك، واقتصه من تركة من مات ولم يوفه وهذا مما لا شك فيه. والله أعلم. السادسة: لو تراضيا باعتياضها عن النفقة دراهم أو دنانير أو ثيابا ونحوها، جاز على الاصح. ولو اعتاضت خبزا أو دقيقا أو سويقا فالمذهب أنه لا يجوز، وهو الذي رجحه العراقيون والروياني وغيره لانه ربا، وقطع البغوي بالجواز لانها تستحق الحب وإصلاحه وقد فعله، ولا يجوز الاعتيا ض عن نفقة زمن مستقبل، ولا بيع نفقة حالة لغير الزوج قبل قبضها قطعا. السابعة: النفقة تستحق يوما فيوما ولها المطالبة بها إذا طلع الفجر كل يوم كذا قاله الجمهور وفي المهذب إذا طلعت الشمس. ولو قبضت نفقة يوم، ثم ماتت، أو أبانها في أثناء النهار لم يكن له الاسترداد، بل المدفوع لورثتها لوجوبه بأول النهار. ولو ماتت أو أبانها في أثناء النهار ولم تكن قبضت نفقة يومها كانت دينا(6/463)
عليه. وفي كتاب ابن كج له الاسترداد، والصحيح الاول وبه قطع الجمهور. ولو نشزت في النهار، فله الاسترداد قطعا، ولو قبضت نفقة أيام أو شهر فهل تملك الزيادة على نفقة اليوم ؟ وجهان، أحدهما: لا للشك في استمرار الاستحقاق. وأصحهما: نعم كالاجرة والزكاة المعجلة، فعلى هذا لو نشزت، استرد نفقة المدة الباقية، وإن ماتت، أو أبانها، استرد أيضا على الاصح كالزكاة المعجلة، وقيل: لا، لانها صلة مقبوضة. وإذا قلنا: لا تملك إلا نفقة يوم، فكلما دخل يوم ملكت نفقته. الثامنة: نفقة الخادم في وقت وجوب التسليم، وفي استرداد المدفوع إليها كنفقة المخدومة بلا فرق. الضرب الثاني: ما تنتفع به مع بقاء عينه كالكسوة وفيها وجهان، أحدهما: لا يجب تمليكها، وبه قال ابن الحداد، واختاره القفال، بل يكون إمتاعا كالمسكن والخادم. وأصحهما وينسب إلى النص: يجب تمليكها كالنفقة والادم وكسوة الكفارة، ويجري الخلاف في كسوة الخادم وطرده البغوي في كل ما ينتفع به مع بقاء عينه كالفرش وظروف الطعام والشراب والمشط، وألحق الغزالي في البسيط الفرش والظروف بالمسكن. واعلم أن الكسوة تدفع إليها في كل ستة أشهر، ثم تجدد كسوة الصيف للصيف، والشتاء للشتاء، وأما ما يبقى سنة أو أكثر كالفرش والبسط والمشط، فإنما تجدد في وقت تجديده، وكذلك جبة الخز والابريسم لا يجدد في كل شتوة، وعليه تطريتها على العادة، ويتفرع على الوجهين في وجوب تمليك الكسوة صور.(6/464)
منها: لو سلم إليها كسوة الصيف، فتلفت في يدها قبل مضي الصيف فلا تقصير، لزمه الابدال إن قلنا: الكسوة إمتاع، وإلا فلا على الصحيح. ولو أتلفتها، أو تمزقت قبل أوان التمزق لكثرة ترددها فيها، وتحاملها عليها، فإن قلنا: الكسوة تمليك، لم يلزم الابدال، وإن قلنا: إمتاع، لزمها قيمة ما أتلفت، ولزمه الابدال. ومنها: لو سلم إليها كسوة الصيف، فماتت في أثنائه، أو مات الزوج، أو أبانها، فله استردادها إن قلنا: إمتاع، وإلا فلا على الصحيح. ومنها: إذا لم يكسها مدة، صارت الكسوة دينا عليه إن قلنا بالتمليك، وإلا، فلا. ومنها: إن قلنا: إمتاع، لم يجز الاعتياض عنها، كما لا يجوز للقريب أن يعتاض عن نفقته، وإن قلنا: تمليك، ففي الاعتياض الخلاف السابق في الاعتياض عن النفقة. ومنها: لو أعطاها كسوة الصيف فمضى الصيف، وهي باقية لرفقها بها، فعليه كسوة الشتاء، إن قلنا بالتمليك، وعلى الامتاع لا يلزمه إلا ما يزاد للشتاء حتى يبلى ما عندها.(6/465)
ومنها: له أن يأخذ المدفوع منها، ويعطيها غيره إن قلنا بالامتاع، وإلا فلا إلا برضاها. ومنها: لو ألبسها ثيابا مستعارة، أو مستأجرة، لم يجز على قولنا تمليك، ويجوز على الامتاع، فإن تلف المستعار، فالضمان على الزوج. ومنها: ليس بيع المقبوض إن قلنا إمتاع، ويجوز على التمليك كالقوت، فعلى هذا وجهان، أحدهما: ليس لها أن تلبس دون المقبوض كما في النفقة، وأصحهما: المنع، لان للزوج غرضا في تجملها. فرع ليس للزوج أن يدفع إليها ثمن الكسوة، بل يجب تسليم الثياب، وعليه مؤنة الخياطة.
الباب الثاني : في مسقطات النفقة
للباب مقدمة وأصل، أما المقدمة، فلا خلاف أن وقت وجوب تسليم النفقة صبيحة كل يوم، والكسوة أول كل صيف وشتاء كما سبق، وذلك بعد حصول التمكين، وأما وقت ثبوتها في الذمة، فللنفقة تعلق بالعقد والتمكين، فإنها لا تجب قبل العقد، ولكن تسقط بالنشوز، وفيما تجب به قولان، القديم: تجب بالعقد كالمهر، ولا تتوقف على التمكين بدليل وجوبها للمريضة والرتقاء، لكن لو نشزت سقطت فالعقد موجب، والنشوز مسقط، وإذا حصل التمكين، استقر الواجب يوما فيوما كالاجرة المعجلة، إلا أن الاجرة يجب تسليمها بالعقد جملة للعلم بها، والنفقة غير معلومة الجملة، والجديد الاظهر: أنها لا تجب بالعقد، بل بالتمكين يوما فيوما، فلو اختلفا، فقالت: مكنت من وقت كذا. وأنكر الزوج ولا بينة، فإن(6/466)
قلنا بالجديد، فالقول قول الزوج، وإلا فقولها، لان الاصل بقاء ما وجب بالعقد، وقيل: القول قوله قطعا. ولو اتفقا على التمكين، وقال: أديت نفقة المدة الماضية، وأنكرت، فالقول قولها، سواء كان الزوج حاضرا عندها أم غائبا، ولو لم يطالبها الزوج بالزفاف، ولم تمتنع هي منه، ولا عرضت نفسها عليه، ومضت على ذلك مدة، فإن قلنا بالقديم، وجبت نفقة تلك المدة، وإن قلنا بالجديد، فلا. ولو توافقا على التمكين، وادعى أنها بعده نشزت، وأنكرت، فالصحيح أن القول قولها، لان الاصل البراءة، قال الاصحاب: إذا سلمت نفسها إلى الزوج، فعليه النفقة من وقت التسليم. ولو بعثت إليه: إني مسلمة نفسي، فعليه النفقة من حين بلغه الخبر، فإن كان غائبا، رفعت الامر إلى الحاكم، وأظهرت له التسليم والطاعة، ليكتب إلى حاكم بلد الزوج، فيحضره، ويعلمه الحال، فإن سار إليها عند إعلامه، أو بعث إليها وكيله فتسلمها، وجبت النفقة من حين التسليم، وإن لم يفعل ومضى زمن الوصول إليها، فرض القاضي نفقتها في ماله، وجعل كالمتسلم، لان الامتناع منه. قال المتولي: فإن لم يعرف موضعه، كتب الحاكم إلى حكام البلاد التي تردها القوافل من تلك البلدة في العادة ليطلب وينادى باسمه، فإن لم يظهر، فرض القاضي نفقتها في ماله الحاضر، وأخذ منها كفيلا بما يصرف(6/467)
إليها لاحتمال وفاته وطلاقه، ومن الاصحاب من لم يتعرض للرفع إلى القاضي ولا لكتابه، وقال: تجب النفقة من حين تصله، ويمضي زمن إمكان القدوم عليها، وكذا ذكره البغوي. أما إذا لم تعرض نفسها على الزوج الحاضر، أو الغائب، ولا بعثت إليه، فلا نفقة لها وإن طالت المدة تفريعا على الجديد، ولا تؤثر غيبة الزوج بعد التسليم ما دامت مقيمة على الطاعة. وإن طالت المدة، هذا كله إذا كانت عاقلة بالغة، فأما المراهقة والمجنونة، فلا اعتبار بعرضهما، وبذلهما الطاعة، وإنما الاعتبار فيهما بعرض الولي. ولو سلمت المراهقة نفسها، فتسلمها الزوج، ونقلها إلى داره، وجبت النفقة، وكذا لو سلمت الزوجة نفسها إلى الزوج المراهق بغير إذن الولي، وجبت النفقة بخلاف تسليم المبيع إلى المراهق، لان المقصود هناك أن تصير اليد للمشتري، واليد في عقد المراهق للولي لا له. فصل وأما الاصل فبيان موانع النفقة وهي أربعة:
الأول : النشوز، فلا نفقة لناشزة، وإن قدر الزوج على ردها إلى الطاعة قهرا، فلو نشزت بعض النهار فوجهان، أحدهما: لا شئ لها. والثاني: لها بقسط زمن الطاعة إلا أن تسلم ليلا وتنشز نهارا، أو بالعكس، فلها نصف النفقة، ولا ينظر إلى طول الليل وقصره، وبالوجه الثاني قطع السرخسي، ومنهم من رجح الاول وهو أوفق لما سبق فيما إذا سلم السيد الامة المزوجة ليلا فقط، ونشوز المراهقة والمجنونة كالبالغة العاقلة. فرع امتناعها عن الوطئ والاستمتاع والزفاف بغير عذر نشوز، فلو قالت: سلم المهر لاسلم نفسي، فإن جرى دخول، أو كان المهر مؤجلا، فهي ناشزة، إذ ليس لها الامتناع والحالة هذه، وإذا لم يجر دخول والمهر حال، فلها النفقة من حينئذ، هذا هو المذهب، وفيه خلاف سبق في كتاب الصداق. ولو حل المؤجل، فهل هو كالمؤجل أم كالحال ؟ وجهان وبالاول قطع البغوي، لان العقد لم يثبت هذا الامتناع. ولو كانت مريضة، أو كان بها قرح يضرها الوطئ، فهي معذورة في(6/468)
الامتناع عن الوطئ، وعليه النفقة إذا كانت عنده. وكذا لو كان الرجل عبلا، وهو كبير الذكر بحيث لا تحتمله، فإن أنكر القرح المانع من الوطئ، فلها إثباته بقول النسوة، وهل يشترط أربع نسوة، لانه شهادة يسقط بها حق الزوج، أم تكفي إمرأة ويجعل إخبارا ؟ وجهان، أصحهما الاول، وبالثاني قال أبو إسحق، وكذا لو أنكر الضرر بسبب العبالة يرجع فيه إلى النسوة ولا بأس بنظرهن إليه عند اجتماعهما ليشهدن، وليس لها الامتناع من الزفاف بعذر عبالته كما سبق في أول كتاب الصداق، ولها الامتناع بعذر المرض، لانه متوقع الزوال. فرع لو قالت: لا أمكن إلا في بيتي، أو في موضع كذا، أو بلد كذا، فهي ناشزة. فرع هربها وخروجها من بيت الزوج وسفرها بغير إذنه نشوز، ويستثنى عن الخروج ما إذا أشرف المنزل على الانهدام، أو كان المنزل لغير الزوج، فأخرجت، فإن سافرت بإذنه، فإن كان معه أو وحدها في حاجته، وجبت نفقتها، فإن كانت وحدها لحاجتها، فلا نفقة على الاظهر، وقيل: لا نفقة قطعا، وعن ابن الوكيل طرد القولين فيما إذا كانت معه لحاجة نفسها، وقطع الجمهور في هذه الصورة بالوجوب. فرع تجب النفقة للمريضة والرتقاء والمضناة التي لا تحتمل الجماع، سواء حدثت هذه الاحوال بعد التسليم، أم قارنته، لانها أعذار دائمة، وقد سلمت التسليم الممكن، وتمكن من الاستمتاع بها من بعض الوجوه، وكذا حكم أيام الحيض والنفاس، قال البغوي: ولو غصبت، فلا نفقة، وإن كانت معذورة(6/469)
لخروجها عن قبضته وفوات الاستمتاع بخلاف المريضة. قلت: ولو حبست ظلما أو بحق، فلا نفقة كما لو وطئت بشبهة، فاعتدت. والله أعلم. فرع نشزت، فغاب الزوج، فعادت إلى الطاعة، فهل يعود استحقاق النفقة ؟ وجهان، وفي التتمة قولان، أصحهما: لا، فعلى هذا يرفع الامر إلى القاضي، ليقضي بطاعتها ويخبر الزوج بذلك، فإذا عاد إليها، أو بعث وكيله، فاستأنف تسلمها، عادت النفقة، وإن مضى زمن إمكان العود ولم يعد، ولا بعث وكيله، عادت النفقة أيضا. فرع خرجت في غيبة الزوج إلى بيت أبيها لزيارة أو عيادة، لا على وجه النشوز، لا تسقط نفقتها ذكره البغوي.(6/470)
المانع الثاني : الصغر، فإذا كانت صغيرة وهو كبير أو صغير، فلا نفقة لها على الاظهر، وإن كانت كبيرة وهو صغير، وجبت النفقة على الاظهر، وقيل: قطعا، وقيل: إن علمت صغره، فقولان، وإلا فتجب قطعا. ثم موضع الخلاف ما إذا سلمت إلى الزوج، أو عرضت عليه، فإن لم يوجد تسليم ولا عرض، فالحكم كما سبق في الكبيرة، وفي الوسيط ما يقتضي خلافه، والمذهب الاول، وإذا كان الزوج صغيرا، كان العرض على وليه لا عليه، والمراد بالصغيرة والصغير من لا يتأتى جماعه، وبالكبير من يتأتى منه الجماع، ويدخل فيه المراهق.
المانع الثالث : العبادات، وفيه مسائل إحداها: إذا أحرمت بحج أو عمرة، فلها حالان، أحدهما: أن تحرم بإذنه، فإذا خرجت، فقد سافرت في غرض نفسها، فإن كان الزوج معها لم تسقط على المذهب كما سبق، وإلا فتسقط على الاظهر، وسواء خرجت بإذنه أم بغيرها، ولا أثر لنهيه عن الخروج لوجود الاذن في الاحرام، وعن القفال: أنه إذا نهاها عن الخروج فلا نفقة قطعا، أما قبل الخروج، فوجهان، أحدهما: لا نفقة لفوات الاستمتاع، وأصحهما: وجوبها، لانها في قبضته، وتفويت الاستمتاع بسبب إذن فيه. الحال الثاني: أن تحرم بغير إذنه فقد سبق في الحج أن له أن يحللها من حج التطوع، وكذا من الفرض على الاظهر، فإن جوزنا له التحليل، فلم يحلل، فلها النفقة ما لم تخرج، لانها في قبضته وهو قادر على تحليلها والاستمتاع، وقيل: لا نفقة، لانها ناشزة بالاحرام، والناشزة لا تستحق نفقة وإن قدر الزوج على ردها إلى الطاعة قهرا، والصحيح الاول. فإذا خرجت بغير إذنه، فلا نفقة، فإن خرج معها، فعلى ما سبق، وإن أذن في الخروج، فعلى القولين في السفر بإذنه، وإن قلنا: ليس له التحليل، فهي ناشزة من وقت الاحرام، وقيل: لها النفقة ما دامت مقيمة،(6/471)
والصحيح الاول، وحكي وجه شاذ أن الاحرام لا يسقط النفقة مطلقا، لانها تسقط به فرضا عليها. المسألة الثانية في الصوم، أما صوم رمضان، فلا تمنع منه، ولا تسقط النفقة بحال، وأما قضاء رمضان، فإن تعجل لتعديها بالافطار لم تمنع منه، ولم تسقط به النفقة على الاصح، وإن فات الاداء بعذر، وضاق وقت القضاء، بأن لم يبق من شعبان إلا قدر القضاء، فهو كأداء رمضان، وإن كان الوقت واسعا، فقطع الاكثرون بأن له منعها من المبادرة إليه كصوم التطوع، وقيل في جواز منعها وجهان، وفي جواز إلزامها الافطار إذا شرعت فيه وجهان مخرجان من القولين في التحليل من الحج، فإن قلنا: لا يجوز، ففي سقوط النفقة وجهان، أحدها: تسقط كالحج، والثاني: لا لقصر الزمان، وقدرته على الاستمتاع ليلا. قلت: الاصح السقوط. والله أعلم. وأما صوم التطوع، فلا تشرع فيه بغير إذن الزوج، فإن أذن، لم تسقط به نفقتها، وإن شرعت فيه بلا إذن، فله منعها وقطعه، فإن أفطرت، فلها النفقة، وإن أبت، فلا نفقة على الاصح، وقيل: تجب، لانها في داره وقبضته، وحاصل هذا الوجه أن صوم التطوع لا يؤثر في النفقة، وقيل: إن دعاها إلى الاكل، فأبت، لم تسقط نفقتها، وإن دعاها إلى الوطئ، فأبت سقطت لمنعها حقه، وإذا قلنا بسقوط النفقة بامتناعها فعن الحاوي أن ذلك فيما إذا أمرها بالافطار في صدر النهار، فلو اتفق في آخره لم تسقط لفوت الزمان، واستحسنه الروياني، ولم يتعرض الجمهور(6/472)
لهذا التفصيل. ولو نكحها وهي صائمة قال إبرهيم المروذي: لا يجبرها على الافطار، وفي النفقة وجهان. وأما صوم النذر، فإن كان نذرا مطلقا، فللزوج منعها منه على الصحيح، لانه موسع، وإن كانت أياما معينة، نظر إن نذر بها قبل النكاح، أو بعده بإذنه، فليس له منعها، وإلا فله ذلك، وحيث قلنا: له المنع، فشرعت فيه، وأبت أن تفطر، فعلى ما ذكرنا في صوم التطوع. وأما صوم الكفارة، فهو على التراخي، فللزوج منعها منه، وعن الماوردي أنه إذا لم يمنعها حتى شرعت فيه، فهل له إجبارها على الخروج منه ؟ وجهان، وحيث قلنا: تسقط النفقة بالصوم، فهل تسقط جميعها، أم نصفها للتمكن من الاستمتاع ليلا ؟ وجهان في التهذيب. قلت: أرجحهما سقوط الجميع وقد سبق قريبا نظيره فيمن سلمت ليلا فقط، أو عكسه. والله أعلم. المسألة الثالثة: فرائض الصلوات الخمس لا منع منها، ولا تؤثر في النفقة بحال، وهل له منعها من المبادرة بها في أول الوقت ؟ وجهان، الاصح المنصوص ليس له، لان زمنها لا يمتد بخلاف الحج، والتطوعات المطلقة كصوم التطوع، وفي السنن الراتبة وجهان، أصحهما: ليس له منعها لتأكدها، وله منعها من تطويلها، وصوم يوم عرفة وعاشوراء كرواتب الصلاة، وصوم الاثنين والخميس كالتطوع المطلق، فله منعها قطعا، وله منعها من الخروج لصلاة العيدين والكسوفين، وليس له المنع من فعلها في المنزل، وقضاء الصلاة وفعل المنذورة كمثلهما في الصوم.(6/473)
المسألة الرابعة: الاعتكاف، إن خرجت له إلى المسجد بإذنه وهو معها لم تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها، فعلى الخلاف في الخروج للحج، وقيل: إن لم تزد على يوم لم يؤثر قطعا، فإن كان بغير إذنه، نظر إن كان تطوعا، أو نذرا مطلقا أو معينا نذرته بعد النكاح، سقطت نفقتها، وإن كان معينا نذرته قبل النكاح، فلا منع منه، ولا تسقط به النفقة. فصل أجرت نفسها قبل النكاح إجارة عين، قال المتولي: ليس للزوج منعها من العمل، ولا نفقة عليه، وعن الحاوي أن له الخيار إن كان جاهلا بالحال لفوات الاستمتاع عليه بالنهار، وأنه لا يسقط خياره بأن يرضى المستأجر بالاستمتاع نهارا، لانه تبرع قد يرجع فيه.
المانع الرابع : العدة، المعتدة الرجعية تستحق النفقة والكسوة وسائر المؤن إلا آلة التنظف، سواء كانت أمة أو حرة، حاملا أو حائلا، ولا تسقط نفقتها إلا بما تسقط به نفقة الزوجة، وتستمر إلى انقضاء العدة بوضع الحمل أو غيره. ولو ظهر بها أمارات الحمل بعد الطلاق، لزم الزوج الانفاق عليها، فإذا أنفق، ثم بان أنه لم يكن حمل، فله استرداد المدفوع إليها بعد انقضاء العدة، وتسأل عن قدر الاقراء، فإن عينت قدرها، صدقناها باليمين إن كذبها الزوج، ولا يمين إن صدقها، وإن قالت: لا أعلم متى انقضت عدتي، سألناها عن عادة حيضها وطهرها، فإن ذكرت عادة مضبوطة، عملنا على قولها، وإن قالت: عادتي مختلفة، أخذنا بأقل عاداتها، ورجع الزوج فيما زاد، لانه المستيقن، وهي لا تدعي زيادة عليه، وإن قالت: نسيت عادتي، فعن نص الشافعي رحمه الله أنه يرجع في نفقة ما زاد على ثلاثة أشهر أخذا بغالب العادات، وقال الشيخ أبو حامد: يرجع فيما زاد على أقل ما يمكن انقضاء العدة فيه، وبهذا قطع أبو الفرج، وإن انقطع الولد الذي أتت به عن الزوج بأن ولدته لاكثر من أربع سنين، إما من وقت الطلاق، وإما من وقت انقضاء العدة على الخلاف السابق، سئلت عن حال الولد، فإن قالت: هو من زوج(6/474)
نكحته، أو وطئ شبهة حصل بعد ثلاثة أقراء، فعليها رد المأخوذ بعد الثلاثة. وإن قالت: حصل ذلك في أثناء الاقراء، فقد انقطعت عدتها بوطئ الثاني وإحباله فتعود بعد الوضع إلى ما بقي منها، وعليه النفقة في البقية، وأما في مدة الحمل، فتبنى على أنه هل للزوج الرجعة فيها ؟ وفيه وجهان سبقا في الرجعة والعدة، إن قلنا: لا رجعة فلا نفقة، وإلا فوجهان، وقيل: إن قلنا له الرجعة، فلها النفقة، وإلا فوجهان. وكيف كان، فالمذهب أنه لا نفقة في مدة الحمل وبه قطع الاكثرون، فيسترجع ما أخذت لها. ولو قالت: وطئني الزوج، وأنكر، فهو المصدق بيمينه، وتسأل عن وقت وطئه، فإن قالت: بعد انقضاء الاقراء، ردت ما زاد، وإن قالت، عقب الطلاق، فقد بان أنها لم تقض عدته، فترد ما أخذت وتعتد بعد الوضع ثلاثة أقراء، ولها النفقة فيها، هكذا ذكره ابن الصباغ وغيره، وإنما يستمر ذلك على قولنا: إن العدتين المختلفتي الجنس من شخص لا تتداخلان. فرع ادعت الرجعية تباعد الحيض، وامتداد الطهر، فالصحيح أنها تصدق في استمرار النفقة إلى أن تقر بمضي العدة، كما تصدق في ثبوت الرجعة، وقيل: لا تصدق في النفقة، فإنها حقها بخلاف الرجعة. فرع وضعت حملا، وطلقها، فقال: طلقتك قبل وضعه، وانقضت عدتك، فلا نفقة الآن، وقالت: بل طلقتني بعد الوضع، فلي النفقة، فعليها العدة، ولها النفقة، لان الاصل بقاء النكاح ولا رجعة له، لانها بائن بزعمه، ولو وطئها قبل الوضع في الزمن الذي يزعم هو أنها مطلقة فيه لم يلزمه مهر المثل، لانها تزعم أن الوطئ في النكاح. ولو اختلفا بالعكس، فقال: طلقتك بعد الولادة، فلي الرجعة، وقالت: بل قبلها، وقد انقضت عدتي، فالقول قوله في بقاء العدة، وثبوت الرجعة، ولا نفقة لها لزعمها. فصل البائن بخلع، أو طلاق الثلاث لا نفقة لها ولا كسوة إن كانت(6/475)
حائلا، وإن كانت حاملا، فعلى الزوج نفقتها وكسوتها، وهل هي للحمل أم للحامل ؟ قولان، أظهرهما للحامل بسبب الحمل، ويتفرع على القولين مسائل، إحداها: المعتدة عن فرقة فسخ، في استحقاقها النفقة إذا كانت حاملا طرق، أحدها: إن حصلت الفرقة بما لا مدخل لها فيه كردة الزوج، استحقت النفقة كالمطلقة، وإن كان لها مدخل كفسخها بالعتق، أو بعيبه، أو فسخه بعيبها، فقولان. والثاني: في المعتدات عن جميع الفسوخ قولان، والثالث وهو الاصح وبه قال الجمهور: إن كان الفرقة بسبب عارض، كالرضاع والردة، فلها النفقة كالطلاق وإن استند إلى سبب قارن العقد كالعيب والغرور فقولان. والرابع وبه قطع المتولي: تستحق النفقة حيث تستحق السكنى وإلا فقولان، وقد سبق بيان السكنى. وأما المفارقة باللعان إذا كانت حاملا ولم ينف حملها، ففيه الطرق، ولا يخفى على الطريق الثالث أن اللعان سبب عارض، وأما على الاول فقيل: هو مما لها فيه مدخل، لانها أحوجته إليه، والاصح أنه كالطلاق، وإن نفى حملها لم تجب النفقة، سواء قلنا: هي للحمل أم للحامل، وتستحق السكنى على الاصح في هذه الحالة. ولو أبان زوجته بالطلاق، ثم ظهر بها حمل، وقلنا: له أن يلاعن لنفيه، فلاعن، سقطت النفقة، قال القاضي أبو الطيب: فإن أثبتنا للملاعنة السكنى، فهذه أولى، لانها معتدة عن طلاق، وإلا فتحمل وجهين، وإذا لاعن وهي حامل ونفاه ثم أكذب نفسه، واستلحق الولد، طولب بنفقة ما مضى، نص عليه فقيل: هو تفريع على أن النفقة للحامل. أما إذا قلنا: للحمل: فلا مطالبة، لان نفقة القريب تسقط بمضي المدة، وقال الجمهور: تثبت المطالبة على القولين، وهو المذهب، لانها وإن كانت للحمل، فهي مصروفة إلى الحامل وهي صاحبة حق فيها فتصير دينا كنفقة الزوجة. ولو أكذب نفسه بعدما أرضعت الولد، رجعت عليه بأجرة الرضاع على الصحيح المنصوص في الام ولو أنفقت على الولد مدة، ثم رجع، رجعت عليه بما أنفقت على الصحيح المنصوص، لانها أنفقت على ظن وجوبه عليها، فإذا بان خلافه، ثبت الرجوع، كما لو ظن أن عليه دينا فقضاه، فبان خلافه يرجع، وكما لو أنفق على أبيه على ظن إعساره، فبان موسرا، يرجع عليه بخلاف المتبرع.(6/476)
المسألة الثانية في وجوب نفقة الحامل المعتدة عن نكاح فاسد، أو وطئ شبهة، وجهان، إن قلنا: للحمل وجبت، وإلا فلا. هذا إذا كانت الموطوءة بشبهة غير منكوحة، فإن كانت منكوحة وأوجبنا نفقتها على الواطئ، سقطت عن الزوج قطعا، وإلا فعلى الاصح واستحسن في الوسيط أنها إن وطئت نائمة أو مكرهة، فلها النفقة، وإن مكنت على ظن أنه زوجها، فلا نفقة، لان الظن لا يؤثر في الغرامات. المسألة الثالثة: المعتدة عن الوفاة لا نفقة لها، وإن كانت حاملا، سواء قلنا للحامل أو للحمل، لان نفقة القريب تسقط بالموت. الرابعة: هل تتقدر النفقة الواجبة كنفقة صلب النكاح، أم تعتبر كفايتها، سواء زادت أم نقصت ؟ فيه طريقان، المذهب، وبه قطع الجمهور أنها مقدرة، وشذ الامام ومتابعوه فحكوا خلافا. الخامسة: إذا مات زوج البائن الحامل قبل الوضع، إن قلنا: النفقة للحمل، سقطت، لان نفقة القريب تسقط بالموت، وإن قلنا: للحامل فوجهان، أصحهما عند الامام وبه قال ابن الحداد: تسقط أيضا لانها كالحاضنة للولد، ولا تجب نفقة الحاضنة بعد الموت، وقال الشيخ أبو علي: لا تسقط، لانها لا تنتقل إلى عدة الوفاة، بل تتم عدة الطلاق، والطلاق موجب.(6/477)
قلت: قال المتولي: وكما تستحق البائن الحامل النفقة، تستحق الادم والكسوة سواء قلنا النفقة للحامل أو للحمل. والله أعلم. فرع لا يجب تسليم النفقة قبل ظهور الحمل، سواء قلنا: هي للحمل أم للحامل، فإذا ظهر هل يجب تسليمها يوما بيوم، أم تؤخر إلى أن تضع، فتسلم الجميع دفعة واحدة ؟ قولان، أظهرهما الاول لقول الله تعالى: * (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) * فإن قلنا: تؤخر، فقالت: وضعت، فكذبها، فعليها البينة. وإن قلنا بالتعجيل، فادعت ظهور الحمل، وأنكر فكذلك وتقبل فيهما شهادة النساء، وقيل: لا يعتمد قولهن إلا بعد مضي ستة أشهر، والصحيح الذي عليه الجمهور أن ذلك ليس بشرط. ولو كان ينفق على ظن الحمل، فبان أن لا حمل، فإن أوجبنا التعجيل، أو أمره به الحاكم، رجع عليها، وإلا فإن لم يذكر أن المدفوع نفقة معجلة لم يرجع، ويكون متطوعا، وإن ذكره وشرط الرجوع رجع، وإلا فوجهان، أصحهما: يرجع، وخرج القفال من هذه المسألة أن الدلال إذا باع متاعا لانسان، فأعطاه المشتري شيئا وقال: وهبته لك، أو قال له الدلال: وهبته لي، فقال: نعم، فإن علم المشتري أنه ليس عليه أن يعطيه شيئا، فله قبوله، وإن ظن أنه يلزمه أن يعطيه، فلا، وللمشتري الرجوع فيه وأجرة الدلال على البائع الذي أمره بالبيع. فرع لو لم ينفق عليها حتى وضعت، أو لم ينفق في بعض المدة، فالمذهب أنه لا تسقط نفقة المدة الماضية، بل يلزمه دفعها إليها، وبهذا قطع الجمهور، وقيل: في سقوطها خلاف مبني على أنها للحمل أم للحامل.(6/478)
فرع لو كان زوج البائن الحامل رقيقا، إن قلنا: النفقة للحامل لزمته، وإلا فلا، لانه لا يلزمه نفقة القريب. ولو كان الحمل رقيقا ففي وجوب النفقة على الزوج حرا كان أو عبدا قولان، إن قلنا: للحمل لم تجب، بل هي على المالك وإلا فتجب. فرع ذكر ابن كج أنه لو كان الحمل موسرا، وقلنا: النفقة للحمل وأنها تؤخر إلى أن تضع، فإذا وضعت سلمت النفقة من مال الولد إلى الام، كما تنفق عليه في المستقبل من ماله، قال: ويحتمل عندي أن يكون ذلك على الاب، وإن قلنا: يجب التعجيل، لم تؤخذ من مال الحمل، بل ينفق الاب عليها، فإذا وضعت، ففي رجوعه في مال الولد وجهان. فرع اختلفا فقالت: وضعت اليوم، وطالبت بنفقة شهر قبله، وقال: بل وضعت من شهر قبله، فالقول قولها، لان الاصل عدم الوضع وبقاء النفقة. ولو وقع هذا الاختلاف والزوجة رقيقة، فإن قلنا النفقة للحمل، فلا معنى لهذا الاختلاف، ولا شئ عليه قبل الوضع ولا بعده، وإن قلنا: للحامل، فهي كالحرة. ولو وقع هذا الاختلاف بين موطوءة بشبهة، أو نكاح فاسد، وبين الواطئ، فإن أوجبنا نفقتها بناء على أن النفقة للحمل، فالقول قولها بيمينها، وإن لم نوجبها، فلا معنى للاختلاف، لكن لو اختلفا على العكس لنفقة الولد، فقالت: ولدت من شهر، فعليك نفقة الولد لشهر، وقال: بل ولدت أمس، بني على أن الام إذا أنفقت على الولد أو استدانت للنفقة عليه، هل ترجع على الاب ؟ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فرع أبرأت الزوج من النفقة، قال المتولي: إن قلنا النفقة للحامل، سقطت، وإن قلنا: للحمل، فلا، ولها المطالبة بعد الابراء، ولك أن تقول: إن كان الابراء عن نفقة الزمن المستقبل، فقد سبق حكمه، وإن كان عما مضى، فالنفقة مصروفة إليها على القولين، وقد سبق أن الراجح أنها تصير دينا لها حتى تصرف إليها بعد الوضع، فينبغي أن يصح إبراؤها على القولين.(6/479)
فرع ذكر المتولي أنه لو أعتق أم ولده وهي حامل منه، لزمه نفقتها إن قلنا: النفقة للحمل، وإن قلنا: للحامل فلا، وأنه لو مات، وترك أباه وامرأته حبلى، لها مطالبة الجد بالنفقة إن قلنا: النفقة للحمل، وإن قلنا: للحامل فلا، وقطع البغوي بأنها لا تطالب الجد، ويقرب منه كلام الشيخ أبي علي. فرع نشزت الزوجة وهي حامل، حكى ابن كج تخريج سقوط النفقة على أنها للحمل أو للحامل، والمذهب القطع بسقوطها، وإنما الخلاف في البائن لا في الزوجة. فرع لو أنفق على من نكحها نكاحا فاسدا مدة، ثم بان فساد النكاح وفرق بينهما، قال الاصحاب: لا يسترد ما أنفق عليها، بل يجعل ذلك في مقابلة استمتاعه، وسواء كانت حاملا أو حائلا. وبالله التوفيق. الباب الثالث : في الاعسار بنفقة الزوجة فيه أربعة أطراف :
الأول : في ثبوت الفسخ به، فإذا عجز الزوج عن القيام بمؤن الزوجة الموظفة عليه، فالذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتبه قديما وجديدا أنها بالخيار إن شاءت صبرت، وأنفقت من مالها، أو اقترضت، وأنفقت على نفسها، ونفقتها في ذمته إلى أن يوسر، وإن شاءت طلبت فسخ النكاح، وقال في بعض كتبه بعد ذكر هذا: وقد قيل: لا خيار لها. وللاصحاب طريقان، أحدهما: القطع بأن لها حق الفسخ، وهذا أرجح عند ابن كج والروياني، وأصحهما: إثبات قولين المشهور منهما أن لها الفسخ، والثاني: لا. فالمذهب ثبوت الفسخ، فأما إذا امتنع من دفع النفقة مع قدرته فوجهان، أحدهما: لها الفسخ لتضررها، وأصحهما: لا فسخ لتمكنها من تحصيل حقها بالسلطان، وكذا لو قدرت على شئ من ماله، أو غاب وهو موسر في غيبته، ولا يوفيها حقها، ففيه الوجهان، أصحهما: لا فسخ وكان المؤثر تغيبه لخراب ذمته، ولكن يبعث الحاكم إلى حاكم بلده، ليطالبه إن كان(6/480)
موضعه معلوما، وعلى الوجه الآخر: يجوز الفسخ إذا تعذر تحصيلها، وهو اختيار القاضي الطبري وإليه مال ابن الصباغ، وذكر الروياني وابن أخته صاحب العدة أن المصلحة الفتوى به، وإذا لم نجوز الفسخ، والغائب موسر، فجهلنا يساره وإعساره، فكذلك الحكم، لان السبب لم يتحقق، ومتى ثبت إعسار الغائب عند حاكم بلدها، فهل يجوز الفسخ، أم لا يفسخ حتى يبعث إليه فإن لم يحضر، ولم يبعث النفقة، فحينئذ يفسخ ؟ فيه وجهان، أصحهما الاول، وبه قطع المتولي. ولو كان الرجل حاضرا، وماله غائب، فإن كان على دون مسافة القصر، فلا فسخ، ويؤمر بتعجيل الاحضار، وإن كان على مسافة القصر، فلها الفسخ ولا يلزمها الصبر. ولو كان له دين مؤجل، فلها الفسخ إلا أن يكون الاجل قريبا، وينبغي أن يضبط القرب بمدة إحضار المال الغائب فيما دون مسافة القصر. وإن كان الدين حالا وهو على معسر، فلها الخيار، وإن كان على موسر حاضر، فلا خيار، وإن كان غائبا فوجهان. ولو كان له دين على زوجته، فأمرها بالانفاق منه، فإن كانت موسرة، فلا خيار لها، وإن كانت معسرة، فلها الفسخ، لانها لا تصل إلى حقها، والمعسر منظر، وعلى قياس هذه الصور لو كان له عقار ونحوه لا يرغب في شرائه ينبغي أن يكون لها الخيار، ومن عليه ديون تستغرق ماله لا خيار لزوجته حتى يصرف ماله إلى الديون. لو تبرع رجل بأداء النفقة عن المعسر، لم يلزمها القبول، ولها الفسخ كما لو كان له دين على إنسان فتبرع غيره بقضائه، لا يلزمه القبول، لان فيه منة للمتبرع، وحكى ابن كج وجها أنه لا خيار لها، لعدم تضررها بفوات النفقة، والصحيح الاول. قال المتولي: ولو كان بالنفقة ضامن، ولم نصحح ضمان النفقة فالضامن كالمتبرع، وإن صححناه، فإن ضمن بإذن الزوج، فلا خيار، وبغير إذنه وجهان. فرع لو لم يعطها الموسر إلا نفقة المعسر، فلا فسخ، ويصير الباقي دينا(6/481)
فصل القدرة بالكسب كالقدرة بالمال، فلو كان يكسب كل يوم قدر النفقة فلا خيار، ولو كان يكسب في يوم ما يكفي لثلاثة أيام، ثم لا يكسب يومين أو ثلاثة، ثم يكسب في يوم ما يكفي للايام الماضية فلا خيار، لانه غير معسر، ولا تشق الاستدانة لما يقع من التأخير اليسير. وكذا الحكم في النساج الذي ينسج في الاسبوع ثوبا تفي أجرته بنفقة الاسبوع، كذا قاله أبو إسحق والماوردي وصاحبا المهذب والتهذيب وقد ذكرنا في المال الغائب على مسافة القصر أن لها الخيار، وقد يمكن إحضاره فيما دون أسبوع، والوجه التسوية. قلت: المختار هنا أنه لا خيار كما ذكره هؤلاء الائمة. والله أعلم. وإذا عجز العامل عن العمل لمرض، فلا فسخ إن رجي زواله في نحو ثلاثة أيام، وإن كان يطول، فلها الفسخ، قال المتولي: ولو كان يكسب في بعض الاسبوع نفقة جميعه، فتعذر العمل في أسبوع لعارض فلها الخيار على الاصح، وإذا لم يستعمل البناء والنجار، وتعذرت النفقة كذلك، قال الماوردي: لا خيار إن كان ذلك نادرا، وإن كان يقع غالبا، فلها الخيار. فرع القادر على الكسب إذا امتنع كالموسر الممتنع إن أوجبنا الاكتساب لنفقة الزوجة، وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى. فصل إنما يثبت الفسخ بالعجز عن نفقة المعسر، فلو عجز عن نفقة المتوسط، فلا خيار. ولو قدر كل يوم على دون نصف مد، أو يوما مدا، ويوما لا يجد شيئا، فلها الخيار على الصحيح. ولو وجد بالغداة ما يغديها، وبالعشي ما(6/482)
يعشيها، فلا خيار على الاصح. فصل لو أعسر بالادم، فلا خيار على الاصح عند الاكثرين، وقال الداركي: يثبت. وقال الماوردي: إن كان القوت مما ينساغ دائما للفقراء بلا أدم فلا خيار، وإلا فيثبت. فصل يثبت الخيار بالاعسار بالكسوة على المذهب، وبالمسكن على الاصح، ولا يثبت بالاعسار بنفقة الخادم على الصحيح المنصوص، لانه ليس ضروريا. فصل الاعسار بالمهر فيه طرق منتشرة، المذهب منها عند الجمهور يثبت الفسخ إن كان قبل الدخول، ولا يثبت بعده، وقيل: يثبت فيهما قطعا ورجحه البغوي وغيره، وقيل بالمنع قطعا، وقيل قولان، وقيل: يثبت قبله وفي بعده قولان، وقيل: لا يثبت بعده، وفي قبله قولان، ولا خيار للمفوضة لانها لا تستحق المهر بالعقد على الاظهر، لكن لها المطالبة بالفرض، فإذا فرض صار كالمسمى. فصل إذا لم ينفق على زوجته مدة، وعجز عن أدائها لم يكن لها الفسخ بسبب ما مضى حتى لو لم يفسخ في يوم جواز الفسخ، فوجد نفقة بعده، فلا فسخ لها بنفقة الامس، وما قبله كسائر ديونها، وقيل: هو كالاعسار بالمهر بعد الدخول، وليس بشئ، ثم نفقة الماضي لا تسقط، بل تبقى دينا في ذمته، سواء ترك الانفاق بعذر أم لا، وسواء فرض القاضي نفقتها، أم لا، ويثبت الادم في الذمة كالنفقة، وكذا نفقة الخادم على المشهور، وتثبت الكسوة إن قلنا: يجب فيها التمليك. وإن قلنا: إمتاع فلا، ولا تثبت مؤنة السكنى على المذهب.
الطرف الثاني : في حقيقة هذه الفرقة، فإذا ثبت حق التفريق بسبب الاعسار، فلا بد من الرفع إلى القاضي، لانه مجتهد فيه، وحكى المتولي وغيره وجها أن(6/483)
للمرأة أن تتولى الفسخ بنفسها من غير رفع إلى القاضي، كفسخ البيع بالعيب، والصحيح المنصوص الاول، وبه قطع الجمهور، وعلى هذا يتولى القاضي الفسخ بنفسه، أو يأذن لها فيه، وهو مخير فيهما. وقيل: إنما يستقل بالفسخ بعد ثبوت الاعسار عنده، والصحيح الاول. وتكون هذه الفرقة فسخا على الصحيح المنصوص، وفي قول مخرج هي طلاق، فعلى هذا يأمره الحاكم بالتحمل في الانفاق، فإن أبى، فهل يطلق الحاكم بنفسه، أم يحبسه ليطلق ؟ فيه القولان في المولى، فإن طلق، طلق طلقة رجعية، فإن راجع، طلق ثانية وثالثة، أما إذا لم ترفع إلى القاضي، بل فسخت بنفسها لعلمها بعجزه، فلا ينفذ ظاهرا، وهل ينفذ باطنا حتى إذا ثبت إعساره متقدما على الفسخ إما باعتراف الزوج، وإما ببينة يكتفى به وتحسب العدة منه ؟ فيه وجهان، قال في البسيط: ولعل هذا فيما إذا قدرت على الرفع إلى القاضي، فإن لم يكن في الناحية قاض ولا محكم، فالوجه إثبات الاستقلال بالفسخ.
الطرف الثالث : في وقت الفسخ قد سبق أنها تستحق تسلم النفقة كل يوم بطلوع الفجر، فإذا عجز، فهل ينجز الفسخ، أم يمهل ثلاثة أيام ؟ قولان، أظهرهما: الامهال، وقطع به جماعة وادعى ابن كج أنه طريقة الجمهور، فإن قلنا: لا يمهل ثلاثا فوجهان، أحدهما: لها المبادرة إلى الفسخ في أول النهار، وأقربهما ليس لها المبادرة، فعلى هذا هل يؤخر الفسخ إلى نصف النهار، أم إلى آخره، أم إلى آخر الليلة بعده ؟ فيه احتمالات، أرجحها عند الغزالي الثالث، ثم هذا إذا لم يتخذ ذلك عادة، فأما إن اعتاد إحضار الطعام ليلا، فلها الفسخ، ويقرب من هذا ما ذكره صاحب العدة أنه لو لم يجد النفقة في أول النهار، وكان يجدها في آخره، فلها الفسخ على الاصح. فإذا قلنا: لا فسخ في أول النهار، فلو قال صبيحة اليوم: أنا عاجز لا أتوقع شيئا، فهل لها الفسخ في الحال لتصريحه بالعجز، أم يلزم التأخير، فقد يرزق من حيث لا يحتسب ؟ فيه احتمالان، أرجحهما: الثاني. أما المذهب وهو الامهال ثلاثة أيام، فيتفرع عليه مسألتان، إحداهما: إذا مضت الثلاثة فلها الفسخ صبيحة الرابع إن لم يسلم نفقته، وإن سلمها، لم يجز الفسخ لما(6/484)
مضى، وليس لها أن تقول: آخذ هذا عن نفقة بعض الايام الثلاثة، وأفسخ بتعذر نفقة اليوم، لان الاعتبار في الاداء بقصد المؤدي، فلو توافقا على جعلها عما مضى، فيحتمل أن يقال: لها الفسخ، ويحتمل أن تجعل القدرة عليها مبطلة للمهلة، ولو مضى يومان بلا نفقة، ووجد نفقة الثالث، وعجز في الرابع، فهل تستأنف المدة، أم يبنى فتصير يوما آخر فقط ؟ وجهان، أصحهما البناء، ولو لم يجد نفقة يوم ووجد نفقة الثاني، وعجز في الثالث، وقدر في الرابع، لفقت أيام العجز فإذا تمت مدة المهلة، فلها الفسخ، ولو مضت ثلاثة أيام في العجز، ووجد نفقة الرابع، وعجز في الخامس، فالاصح وبه قال الداركي: أن لها الفسخ، ويكفي الامهال السابق، قال الروياني: وقيل: يمهل مرة أخرى إن لم تتكرر. المسألة الثانية: يجوز لها الخروج في مدة الامهال لتحصيل النفقة بكسب أو تجارة أو سؤال، وليس له منعها من الخروج، وقيل: له منعها، وقيل: إن قدرت على الانفاق بمالها، أو كسب في بيتها كالخياطة والغزل، فله منعها، وإلا فلا، والصحيح المنصوص أنه ليس له منعها مطلقا، لانه إذا لم يوف ما عليه لا يملك الحجر. قال الروياني: وعليها أن تعود إلى منزله بالليل. ولو أراد الاستمتاع بها قال الروياني: ليس لها المنع، وقال البغوي: لها المنع وهو أقرب، ولا شك أنها إذا منعت نفسها منه لا تستحق نفقة مدة الامتناع، فلا تثبت دينا عليه. فرع إذا قلنا بالامهال، فمضت المدة، فرضيت بإعساره والمقام معه، أو لم نقل بالامهال، فرضيت ثم أرادت الفسخ، فلها الفسخ، لان الضرر متجدد ولا أثر لقولها: رضيت بإعساره أبدا، لانه وعد لا يلزم الوفاء به، ولو نكحته عالمة بإعساره، فلها الفسخ أيضا، وإذا عادت إلى طلب الفسخ بعد الرضى، جدد(6/485)
الامهال على قولنا: يمهل، ولا يعتد بالماضي، وفيه احتمال للامام والروياني وهو ضعيف، وإذا اختارت المقام معه، لم يلزمها التمكين من الاستمتاع، ولها الخروج من المنزل ذكره البغوي وغيره، فإن لم تمنع نفسها منه، ثبت في ذمته ما يجب على المعسر من الطعام والادم وغيرهما، وخروجها بالنهار للاكتساب لا يوجب نقصان ما يثبت في ذمته. فرع إذا أعسر بالمهر، ومكنها الحاكم من الفسخ، فرضيت بالمقام معه، ثم أرادت الفسخ، فليس لها، لان الضرر لا يتجدد هكذا أطلقه الجمهور، وهو المذهب، وقال الماوردي: إن كانت المحاكمتان معا قبل الدخول، أو بعده، فكذلك، وإن كانت المحاكمة الاولى قبل الدخول، والاخرى بعده، فوجهان. وجه تجويز الفسخ أن بالدخول استقر ما لم يكن مستقرا، فالاعسار به يجدد خيارا، ولو نكحته عالمة بإعساره بالصداق، فليس لها الفسخ على الاصح، كما لو رضيت به في النكاح، ثم بدا لها، بخلاف النفقة، وليس لها الامتناع بعد الدخول إذا مكناها من الفسخ، واختارت المقام، ولا بد في الاعسار بالمهر من حكم القاضي كالنفقة، والخيار فيه بعد المرافعة على الفور، فلو أخرت الفسخ، سقط، ولو علمت إعساره، وأمسكت عن المحاكمة، فإن كان كذلك بعد طلبها المهر، كان رضى بالاعسار، وسقط خيارها، وإن كان قبل المطالبة، لم يسقط، فقد تؤخر المطالبة لتوقع اليسار ذكره الروياني.
الطرف الرابع : فيمن له حق الفسخ، وهو للزوجة إن شاءت، فسخت، وإن شاءت صبرت، ولا اعتراض للولي عليها، وليس له الفسخ بغير توكيلها، وليس لولي الصغيرة والمجنونة الفسخ، وإن كان فيه مصلحتهما، وينفق عليهما من مالهما، فإن لم يكن لهما مال فنفقتهما على من عليه نفقتهما لو كانتا خليتين، وتصير(6/486)
نفقة الزوجة دينا عليه يطالب به إذا أيسر، وكذا لا يفسخ الولي بإعسار الزوج بالمهر إن جعلناه مثبتا للخيار، ولو أعسر زوج الامة بالنفقة فلها الفسخ كما تفسخ بجبه، ولانها صاحبة حق في تناول النفقة، فإن أرادت الفسخ، لم يكن للسيد منعها، فإن ضمن النفقة، فهو كالاجنبي يضمنها، ولو رضيت بالمقام، أو كانت صغيرة أو مجنونة، فهل للسيد الفسخ ؟ فيه أوجه، الاصح: ليس له، وبه قطع ابن الحداد والبغوي وجماعة، وعلى هذا لا يلزم السيد نفقة الكبيرة العاقلة، بل يقول: افسخي أو اصبري على الجوع، والثاني: له، والثالث: له في الصغيرة والمجنونة. وأما إذا أعسر زوجها بالمهر، وقلنا: يثبت به الفسخ، فالفسخ للسيد، لانه محض حقه لا تعلق للامة به، ولا ضرر عليها في فواته، وقيل: ليس له الفسخ، وهو غلط. فرع قال الامام والغزالي: تتعلق نفقة الامة المزوجة بالامة وبالسيد، أما السيد، فلانها تدخل في ملكه، لان الامة لا تملك، لكنها بحكم النكاح مأذون لها في القبض، وبالعرف في تناول المقبوض. وأما الامة فلها مطالبة الزوج، كما كانت تطالب السيد، وإذا أخذتها، فلها أن تتعلق بالمأخوذ ولا تسلم إلى السيد حتى تأخذ بدله، وله الابدال لحق الملك. والحاصل أن له حق الملك ولها حق التوثق، ولا يجوز للسيد الابراء من نفقتها، ولا بيع المأخوذ قبل تسليم البدل إليها، وفي التتمة ما يخالف بعض هذه الجملة، فإنه قال: حق الاستيفاء للسيد، فلو سلمها الزوج إليها بغير إذن السيد لم يبرأ، ولهذا لو قبض النفقة، وأنفق عليها من ماله، جاز، والاول أصح، وذكر البغوي أنها لو أبرأت الزوج عن نفقة اليوم، جاز، وليس لها الابراء عما صار دينا في ذمته، كما في الصداق، وقد تنازع قياس الملك في الابراء من نفقة اليوم، لكن نفقة اليوم للحاجة الناجزة، وكانا لا يثبت الملك للسيد إلا بعد الاخذ، وأما قبله فتمحض الحق لها، ولو اختلفت الامة وزوجها في تسليم نفقة اليوم، أو أيام مستقبلة، فالقول قولها بيمينها، ولا أثر لتصديق السيد الزوج، ولو اختلفا في النفقة الماضية، وصدق(6/487)
السيد الزوج، فوجهان، أحدهما: كان السيد شاهدا له، ولا يثبت المدعى بتصديقه، وأصحهما: يثبت، وتكون الخصومة في النفقة الماضية للسيد، لا لها كالمهر، وبهذا قطع المتولي، كما لو أقر السيد بأن العبد جنى خطأ، وأنكر العبد، لا يلتفت إلى إنكاره. ولو أقرت الامة بالقبض، وأنكر السيد، فالصحيح المنصوص: أن القول قولها، لان القبض إليها بحكم النكاح، أو صريح الاذن، وقيل: قول السيد، لانه المالك. فصل جميع ما ذكرناه تفريع على المذهب، وهو ثبوت الفسخ بالاعسار بالنفقة، فإذا قلنا: لا يثبت، فلها الخروج من المسكن لطلب النفقة إن احتاجت إليه لتحصيلها، وكذا لو أمكنها أن تنفق من مالها في المسكن، أو أن تكسب بغزل ونحوه في المسكن على الاصح، ولها منعه من الوطئ على الاصح، وشرط الغزالي فيه كونها لم تمكن من قبل، ولم يشترطه الاكثرون. فصل إذا مضت مدة لم ينفق فيها على الزوجة، فاختلفا، فقالت: كنت موسرا في تلك المدة، وقال: كنت معسرا، فإن عرف له مال، فالقول قولها، وإلا فقوله. فصل قد سبق أن نفقة زوجة العبد من أين تكون ؟ وإذا لم يكن العبد مأذونا له في التجارة، ولا كسوبا فقد حكينا قولا قديما أن المهر على سيده، ويكون بالاذن في النكاح ضامنا. قال الخضري وغيره: وذلك القول يجئ في النفقة بطريق الاولى، لان الحاجة إليها أمس. فلو كان العبد ينفق من كسبه، فعجز بزمانة وغيرها، فعلى القديم للزوجة مطالبة السيد، وعلى الاظهر لها أن تفسخ، أو تصير نفقتها دينا في ذمة العبد. فصل إذا عجز عن نفقة أم ولده، فعن الشيخ أبي زيد أنه يجبر على عتقها، أو تزويجها إن وجد راغب فيها، وقال غيره: لا يجبر عليه بل يخليها(6/488)
لتكسب وتنفق على نفسها. قلت: هذا الثاني أصح، فإن تعذرت نفقتها بالكسب، فهي في بيت المال. والله أعلم. فصل قد سبق في كتاب الضمان، ضمان النفقة، وبالله التوفيق.
الباب الرابع : في نفقة الاقارب سبق أن أحد أسباب وجوب النفقة والمؤن: القرابة، وفيه طرفان: الأول : في مناط هذه النفقة، وشرائط وجوبها وكيفيتها، وفيه مسائل: إحداها: إنما تجب النفقة بقرابة البعضية، فتجب للولد على الوالد وبالعكس، وسواء فيه الاب والام والاجداد والجدات وإن علوا، والبنون والبنات والاحفاد وإن نزلوا، الذكر والانثى والوارث وغيره والمسلم والكافر من الطرفين، وفي وجه: لا تجب على المسلم نفقة كافر، وفي وجه: لا تجب على الام نفقة بحال، حكاهما ابن كج، وهما شاذان ضعيفان، ولا يلحق بالاصول والفروع سائر الاقارب كالاخ والاخت، والعم والخال، والعمة والخالة وغيرهم. الثانية: لا تجب نفقة القريب إلا على موسر، وهو من فضل عن قوته وقوت عياله في يوم وليلة ما يصرفه إلى القريب، فإن لم يفضل شئ، فلا شئ عليه،(6/489)
وفي التهذيب وغيره وجه: أنه لا يشترط يسار الوالد في نفقة الولد الصغير، فعلى هذا يستقرض عليه، ويؤمر بقضائه إذا أيسر، والصحيح: الاول. ويباع في نفقة القريب ما يباع في الدين من العقار وغيره، لانها حق مالي لا بدل له، فأشبه الدين، وفي كيفية بيع العقار وجهان، حكاهما ابن كج، أحدهما: يباع كل يوم جزء بقدر الحاجة. والثاني: أن ذلك يسبق، فيقترض عليه إلى أن يجمع ما يسهل بيع العقار له. الثالثة: إذا لم يكن مال، لكنه كان ذا كسب يمكنه أن يكسب ما يفضل عنه، فهل يكلف الكسب لنفقة القريب ؟ فيه أوجه، أحدهما: لا كما لا يكلف الكسب لقضاء الديون. والثاني وهو الصحيح وبه قطع الاكثرون، لانه يلزمه إحياء نفسه بالكسب فكذا أصله وفرعه، ويخالف الدين، فإنه لا ينضبط والنفقة يسيرة. والثالث: يكلف للولد دون الوالد. فرع يجب الاكتساب لنفقة الزوجة على المذهب، ونقل الامام وغيره فيه وجهين لالتحاقها بالديون. الرابعة: من له مال يكفيه لنفقته، أو هو مكتسب لا تجب نفقته على القريب، سواء كان مجنونا صغيرا زمنا أو بخلافه، ومن لا مال له ولا هو مكتسب، ينظر، إن كان به نقص في الحكم كالصغير والمجنون، أو في الخلقة كالزمن والمريض والاعمى، لزم القريب نفقته، فإذا بلغ الصغير والمجنون حدا يمكن أن يعلم حرفة، أو يحمل على الكسب، فللولي أن يحمله عليه، وينفق عليه من كسبه، لكن لو هرب عن الحرفة، أو ترك الاكتساب في بعض الايام، فعلى القريب نفقته، وكذا لو كان لا تليق به الحرفة، وإن لم يكن به نقص في الحكم ولا في(6/490)
الخلقة، لكنه كان لا يكتسب مع القدرة على الكسب، فإن كان من الفروع لم تجب نفقته على المذهب، سواء فيه الابن والبنت، وإن كان من الاصول وجبت على الاظهر، لان الله تعالى أمر بمصاحبتهم بالمعروف، وليس من المعروف تكليفهم الكسب مع كبر السن، وكما يجب الاعفاف، ويمتنع القصاص، ولحرمة الوالدين. هذه طريقة الجمهور، ولم يفرقوا بين اكتساب واكتساب، ومنهم من جعل الخلاف أولا في اشتراط العجز عن كسب يليق به، ثم قالوا: إن شرط ذلك ففي اشتراط العجز عن كل كسب يليق به بالزمانة، وجهان، ورأوا الاعدل الاقرب الاكتفاء بعجزه عما يليق به من الاكساب، وأوجبوا النفقة مع القدرة على الكنس وحمل القاذورات، وسائر ما لا يليق به، وهذا حسن. الخامسة: نفقة القريب لا تتقدر، بل هي قدر الكفاية، وعن ابن خيران أنها تتقدر بقدر نفقة الزوجة، والصحيح الاول، لانها تجب لتزجية الوقت ودفع حاجته الناجزة، فتعتبر الحاجة وقدرها، حتى لو استغنى في بعض الايام بضيافة وغيرها، لم تجب، وتعتبر حاله في سنه وزهادته ورغبته، فالرضيع تكفي حاجته بمؤنة الارضاع في الحولين، والفطيم والشيخ ما يليق بهما، ولا يشترط انتهاء المتفق عليه إلى حد الضرورة، ولا يكفي ما يسد الرمق، بل يعطيه ما يستقل به، ويتمكن معه من التردد والتصرف، ويجب الادم كما يجب القوت، وفي التهذيب نزاع في الادم، وتجب الكسوة والسكنى على ما يليق بالحال، وإذا احتاج إلى الخدمة، وجبت مؤنة الخادم. السادسة: تسقط نفقة القريب بمضي الزمان، ولا يصير دينا في الذمة، سواء(6/491)
تعدى بالامتناع من الانفاق أم لا، وفي الصغير وجه، أنها تصير دينا تبعا لنفقة الزوجة، والصحيح الاول، لانها مواساة، ولهذا قال الاصحاب: لا يجب فيها التمليك، وإنما يجب الامتناع، ولو سلم النفقة إلى القريب، فتلفت في يده أو أتلفها، وجب الابدال، لكن إذا أتلفها، لزمه ضمانها إذا أيسر، ويستثنى ما إذا أقرضها القاضي، أو أذن في الاقتراض لغيبة أو امتناع، فيصير ذلك دينا في الذمة. السابعة: قد سبق في النكاح أن الابن يلزمه إعفاف أبيه على المشهور، وأنه إذا أعفه بزوجة، أو ملكه جارية، لزمه نفقتها ومؤنتها حيث تلزمه نفقة الاب، فلو كان للاب أم ولد لزم الولد أيضا نفقتها، ولو كان تحته زوجتان فأكثر، لم يلزمه إلا نفقة واحدة، ويدفع تلك النفقة إلى الاب وهو يوزعها عليهما، ولكل واحدة الفسخ لفوات بعض حقها، فإن فسخت واحدة تمت النفقة للاخرى، وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه إذا كان تحت الاب زوجتان فأكثر، لم يلزم الولد لهما شيئا، لان المستحقة لا تتعين، وهو شاذ ضعيف. ولو كان للاب أولاد فوجهان، قال المتولي: يلزم الابن الانفاق عليهم، لان نفقتهم على الاب، فيتحملها الابن عنه كنفقة(6/492)
الزوجة، والصحيح: أنه لا يجب، وبه قطع الشيخ أبو علي، ويخالف الزوجة، فإنها إن لم ينفق فسخت، فيتضرر الاب، ولان نفقتها تجب على الاب وإن كان معسرا. فرع إذا كان الابن في نفقة أبيه، وله زوجة، فوجهان، حكاهما القاضي أبو حامد وغيره، أحدهما: يلزم الاب نفقتها ونفقة كل قريب وجبت نفقته، لانه من تمام الكفاية، وبهذا قطع صاحب المهذب وأصحهما: لا تلزمه لانه لا يلزم الاب إعفاف الابن. فرع كما تجب على الابن نفقة زوجة الاب، تجب عليه كسوتها، قال البغوي: ولا يلزم الادم، ولا نفقة الخادم لان فقدهما لا يثبت الخيار، لكن قياس ما ذكرنا أن الابن يتحمل ما لزم الاب وجوبهما لانهما واجبان على الاب مع إعساره. الثامنة: إذا امتنع الاب من الانفاق على الولد الصغير، أو كان غائبا، أذن القاضي لامه في الاخذ من ماله، أو الاستقراض عليه، والانفاق على الصغير بشرط أهليتها لذلك، وهل تستقل بالاخذ من ماله ؟ وجهان، أصحهما: نعم لقصة هند. والثاني: المنع، لانها لا تتصرف في ماله، وتحمل قصة هند على أنه كان قضاء، أو إذنا لها لا إفتاء وحكما عاما، وفي استقلالها بالاقتراض عليه إذا لم تجد له مالا، وجهان مرتبان وأولى بالمنع لخروجه عن صورة الحديث، ومخالفته(6/493)
القياس، وعن القفال تجويزه، فإن أثبتنا استقلالها، أو لم يكن في البلد قاض، وأشهدت، لزمه قضاء ما اقترضته، وإن لم تشهد، فوجهان، ولو أنفقت على الطفل الموسر من مال نفسه بغير إذن الاب والقاضي، فوجهان، وأولى بالجواز، لانها لا تتعدى مصلحة الطفل، ولا تتصرف في غير ماله. ولو أنفقت عليه من مالها بقصد الرجوع وأشهدت، رجعت، وإلا فوجهان. التاسعة: إذا امتنع القريب من نفقة قريبه، فللمستحق أخذ الواجب من ماله إن وجد جنسه، وفي غير الجنس خلاف يأتي في الدعاوى إن شاء الله تعالى، وإن كان غائبا ولا مال له هناك، راجع القاضي ليقترض عليه، فإن لم يكن هناك قاض واقترض، نظر هل أشهد أم لا ؟ على ما ذكرناه في اقتراض الام للطفل. العاشرة: إذا كان الاب الذي عليه الانفاق غائبا، والجد حاضر، فإن تبرع بالانفاق فذاك، وإلا فبقرض القاضي، أو يأذن للجد في الانفاق، ليرجع على الاب، وفي البحر وجه ضعيف، أنه لا يرجع. ولو استقل الجد بالاقتراض، فإن أمكنه مراجعة القاضي فليس على الاب قضاؤه على الصحيح، وإلا فينظر في الاشهاد وعدمه. الحادية عشرة: إذا وجبت نفقة الاب أو الجد على الصغير أو المجنون، أخذاها من ماله بحكم الولاية، ولهما أن يؤاجراه لما يطيقه من الاعمال، ويأخذا من أجرته نفقة أنفسهما، والام لا تأخذ إلا بإذن الحاكم، وكذا الابن إذا وجبت نفقته على الاب المجنون، فلو كان يصلح لصنعة، فللحاكم أن يولي ابنه إجارته، وأخذ نفقة نفسه من أجرته. فصل يجب على الام أن ترضع ولدها اللبأ، ولها أن تأخذ عليه الاجرة(6/494)
إن كان لمثله أجرة، وفي وجه ذكره الماوردي: لا أجرة لها، لانه متعين عليها، والصحيح الاول، كما يلزم بذل الطعام للمضطر ببدله، ثم إن لم يوجد بعد سقي اللبأ مرضعة غيرها، لزمها الارضاع، وكذا لو لم يوجد إلا أجنبية، لزمها الارضاع، وإن وجد غيرها وامتنعت الام من الارضاع، لم تجبر، سواء كانت في نكاح الاب أم بائنة، وسواء كانت ممن يرضع مثلها الولد في العادة أم لا. وإن رغبت الام في الارضاع، فلها حالان. أحدهما: أن تكون في نكاح أبي الرضيع، فهل له منعها من إرضاعه ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان فيه إضرارا بالولد، وأصحهما: نعم، لانه يستحق الاستمتاع بها في أوقات الارضاع لكن يكره له المنع. قلت: الاول أصح، وممن صححه البغوي والروياني في الحلية وقطع به الدارمي والقاضي أبو الطيب في المجرد ولمحاملي والفوراني وصاحب التنبيه والجرجاني. والله أعلم. فإن قلنا: ليس له المنع، أو توافقا على الارضاع، فإن كانت متبرعة فذاك، وهل تزاد نفقتها للارضاع ؟ وجهان، أحدهما قاله أبو إسحق والاصطخري: نعم، ويجتهد الحاكم في قدر الزيادة، لانها تحتاج في الارضاع إلى زيادة الغذاء. وأصحهما: لا، لان قدر النفقة لا يختلف بحال المرأة وحاجتها، وإن طلبت أجرة، بني على أن الزوج هل له استئجار زوجته لارضاع ولده ؟ فيه وجهان ذكرناهما في الاجارة، قال العراقيون: لا يجوز، وأصحهما: الجواز، فعلى هذا حكمها إذا طلبت الاجرة حكم البائن إذا طلبت الارضاع بأجرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وإذا أرضعت بالاجرة، فإن كان الارضاع لا يمنع من الاستمتاع ولا ينقصه، فلها مع الاجرة النفقة، وإن كان يمنع، أو ينقص، فلا نفقة لها، كذا ذكره البغوي وغيره،(6/495)
ويشبه أن يجئ فيه الخلاف فيما لو سافرت لحاجتها بإذنه، وإن قلنا: لا يجوز الاستئجار، وأرضعت على طمع الاجرة، ففي استحقاقها أجرة المثل وجهان، قال ابن خيران: تستحق، لانها لم تبذل منفعتها مجانا، وقال الجمهور: لا تستحق. الحال الثاني: أن تكون مفارقة، فإن تبرعت بالارضاع، لم يكن للاب المنع، وإن طلبت أجرة، نظر، إن طلبت أكثر من أجرة المثل، لم يلزمه الاجابة، وكان له استرضاع أجنبية بأجرة المثل، وإن طلبت أجرة المثل، فهي أولى من الاجنبية بأجرة المثل، فإن وجد أجنبية تتبرع، أو ترضى بدون أجرة المثل، فهل للاب انتزاع الولد منها ؟ فيه طريقان، أشهرهما على قولين، أظهرهما: له الانتزاع. والطريق الثاني: له الانتزاع قطعا، وبه قال ابن سريج، وأبو إسحق، وابن أبي هريرة، والاصطخري، فعلى المذهب لو اختلفا، فقال الاب: أجد متبرعة، وأنكرت، فهو المصدق بيمينه، لانها تدعي عليه أجرة، الاصل عدمها، ولانه تشق عليه البينة، وحيث أوجبنا الاجرة فهي في مال الطفل، فإن لم يكن له مال، فعلى الأب كالنفقة.
الطرف الثاني : في اجتماع أقارب المحتاج والأقارب المحتاجين، وفيه أربعة فصول: الاول: في اجتماع الفروع الذين تلزمهم النفقة للاصل المحتاج، فإذا اجتمع اثنان من الاولاد، نظر إن استويا في القرب والوراثة أو عدمها، والذكورة والانوثة، فالنفقة عليهما بالسوية، سواء استويا في اليسار، أم تفاوتا، وسواء أيسرا بالمال، أو الكسب، أو أحدهما بمال، والآخر بكسب، فإن كان أحدهما غائبا، أخذ قسطه من ماله، فإن لم يكن له مال، اقترض عليه. وإن اختلفا في شئ من ذلك،(6/496)
ففيه طريقان، أحدهما: النظر إلى القرب، فإن كان أحدهما أقرب، فالنفقة عليه سواء كان وارثا أو غيره، ذكرا أو أنثى، فإن استويا في القرب، ففي التقديم بالارث وجهان، فإن قدمنا بالارث، فكانا وارثين، فهل يستويان في قدر النفقة، أم تتوزع بحسب الارث ؟ وجهان، الطريق الثاني: النظر إلى الارث، فإن كان أحدهما وارثا دون الآخر، فالنفقة على الوارث، وإن كان الآخر أقرب، فإن تساويا في الارث، قدم الاقرب، فإن تساويا في القرب، فالنفقة عليهما، ثم هل تستوي أم توزع بحسب الارث ؟ فيه الوجهان. وإذا استويا في المنظور إليه على اختلاف الطريقين، فهل يختص الذكر بالوجوب، أم يستويان ؟ وجهان، وأصح الطريقين عند الامام والغزالي والبغوي وغيرهم: الاول، دون اعتبار الارث والذكورة، واختيار العراقيين يخالفهم في بعض الصور كما نذكره في الامثلة إن شاء الله تعالى. أمثلة: ابن وبنت، النفقة عليهما سواء، إن اعتبرنا القرب، أو أصل الارث، وإن اعتبرنا الذكورة، فعلى الابن فقط، وهو اختيار العراقيين. بنت وابن ابن، هي على البنت إن اعتبرنا القرب، وعليهما بالسوية إن اعتبرنا الارث، وعلى ابن الابن إن اعتبرنا الذكورة، وهذا اختيار العراقيين. بنت وبنت ابن، هي على البنت إن اعتبرنا القرب، وعليهما إن اعتبرنا الارث.(6/497)
بنت وابن بنت، هي على البنت إن اعتبرنا القرب، أو الارث، وعلى ابن البنت إن اعتبرنا الذكورة. ابن ابن وابن بنت، عليهما إن اكتفينا بالقرب، وعلى الاول إن رجحنا الارث. بنت ابن وابن بنت، هي على بنت الابن، إن اعتبرنا الارث، وعلى ابن البنت إن اعتبرنا الذكورة، وعليهما إن اكتفينا بالاستواء في الدرجة. بنت بنت وبنت ابن ابن، هي على الاولى إن اعتبرنا القرب، وعلى الثانية إن اعتبرنا الارث. بنت بنت وبنت ابن، عليهما إن اكتفينا بالاستواء في الدرجة، وعلى الثانية إن اعتبرنا الارث. ابن وولد خنثى، إن قلنا في اجتماع الابن والبنت، تكون عليهما، فكذا هنا، وإن قلنا: تكون على الابن، فهنا وجهان، أحدهما: على الابن نصفها، لانه المستيقن، والنصف الآخر يقترضه الحاكم، فإن بان ذكرا، فالرجوع عليه، وإلا فعلى الابن، وأصحهما: يؤخذ الجميع من الابن، فإن بان الخنثى ذكرا، رجع عليه بالنصف. بنت وولد خنثى، إن قلنا في اجتماع الابن والبنت: النفقة عليهما، فكذا هنا، وإن قلنا: على الابن، فوجهان، أحدهما: هي على الخنثى، فإن بانت أنوثته، رجعت على أختها بالنصف. والثاني: لا يؤخذ منه إلا النصف، لانه اليقين، ويؤخذ النصف الآخر من البنت، فإن بانت ذكورته، رجعت عليه. قلت: كان ينبغي أن يجئ وجه الاقتراض، ولا يؤخذ من البنت شئ. والله أعلم. الفصل الثاني: إذا اجتمع للمحتاج قريبان من أصوله، نظر، إن اجتمع أبوه(6/498)
وأمه، فإن كان الولد صغيرا، فالنفقة على الاب قطعا، وإن كان كبيرا، فأوجه، الصحيح: أنها على الاب، والثاني: عليهما أثلاثا كالارث، والثالث: عليهما نصفين. وإن اجتمعت الام وواحد من آباء الاب، فأوجه، الصحيح: أنها على الجد، والثاني: على الام، والثالث: عليهما أثلاثا، والرابع: عليهما نصفين. وإن اجتمع اثنان من الاجداد والجدات، نظر، إن كان أحدهما يدلي بالآخر، فالنفقة على القريب، وإلا ففيه خمسة أوجه أرجحها: اعتبار القرب، والثاني: الارث، والثالث وهو اختيار المسعودي: الاعتبار بولاية المال، فإن لم تكن لواحد منهما ولاية، وأحدهما يدلي بالولي، أو هو أقرب إدلاء بالولي، فالنفقة عليه، فإن استويا في الادلاء به وجودا وعدما، اعتبر فيه القرب، والمراد بالولاية على هذا الوجه: الجهة التي تفيدها، لا نفس الولاية التي قد يمنع منها مانع مع وجود الجهة. والرابع: الاعتبار بالذكورة، فالنفقة على الذكر، وإلا فعلى المدلي بذكر، فإن استويا، اعتبر القرب. والخامس: يعتبر الارث والذكورة معا، فإن اختص بهما أحدهما، فالنفقة عليه، وإن وجدا فيهما، أو لم يوجدا، أو وجد أحدهما في أحدهما، والآخر في الآخر، اعتبر القرب، وعلى هذا الوجه، يجبر فقد كل واحد من المعنيين بالآخر. الامثلة: أبو الأب، وأبوالام، إن اكتفينا بالقرب، سوينا بينهما، وإن اعتبرنا الارث، أو الولاية، فالنفقة على أبي الاب. أم أب وأم أم، إن اعتبرنا القرب أو الارث، سوينا بينهما، وإن اعتبرنا الادلاء بالولي أو بذكر، فهي على أم الاب. أبو الأم، وأم الاب، إن اعتبرنا القرب، سوينا، وإن اعتبرنا الارث، أو الادلاء بالولي فهي على أم الاب، وعلى الوجه الخامس: يجبر فقدان الارث فيه بالذكورة، وفقدان الذكورة فيها بالوراثة، فيستويان.(6/499)
الفصل الثالث: إذا اجتمع للمحتاج واحد من أصوله، وآخر من فروعه، ففيه الاوجه الخمسة، فيقدم الاقرب في وجه، والوارث في وجه، والولي في وجه، والذكر في وجه، ويستوي الذكر والانثى في وجه، وإذا وجبت النفقة على وارثين، جاء الخلاف في أن التوزيع بالسوية، أم بحسب الارث ؟ فلو كان له أب وابن، فهل النفقة على الابن أم الاب أم عليهما ؟ فيه أوجه، أصحها: الاول لان عصوبته أقوى، ولانه أولى بالقيام بشأن الوالد، وتجري هذه الاوجه في أب وبنت، وفي جد وابن ابن، وتجري أيضا في أم وبنت على المذهب، وقيل: يقطع بأنها على البنت، قاله القاضي أبو حامد وغيره. وفي أم وابن طريقان، أحدهما: طرد الاوجه الثلاثة، والثاني: القطع بتقديم الابن، لضعف الاناث عن تحمل المؤن، ويجري الطريقان في جد وابن، وفي أب وابن ابن، وقال البغوي: الاصح أنه لا نفقة على الاصول ما دام يوجد واحد من الفروع، قريبا كان أو بعيدا، ذكرا أو أنثى. الفصل الرابع: في ازدحام الآخذين، فإذا اجتمع على الشخص الواحد محتاجون ممن تلزمه نفقتهم، نظر، إن وفى ماله أو كسبه بنفقتهم، فعليه نفقة الجميع، قريبهم وبعيدهم، وإن لم يفضل عن كفاية نفسه إلا نفقة واحد، قدم نفقة الزوجة على نفقة الاقارب، هذا أطبق عليه الاصحاب لان نفقتها آكد، فإنها لا تسقط بمضي الزمان، ولا بالاعسار، ولانها وجبت عوضا، واعترض الامام بأن نفقتها إذا كانت كذلك، كانت كالديون، ونفقة القريب في مال المفلس تقدم على الديون، وخرج لذلك احتمالا في تقديم القريب، وأيده بالحديث أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: معي دينار ؟ فقال: أنفقه على نفسك فقال: معي آخر ؟ فقال: أنفقه على ولدك، فقال: معي آخر ؟ فقال: أنفقه على أهلك. فقدم نفقة الولد على الاهل، وفي التتمة وجه أن نفقة الولد الطفل تقدم على نفقة الزوجة، وأما الذين ينفق عليهم بالقرابة، فتعود فيهم الاوجه في أنه يصرف الفاضل إلى الاقرب، أو الوارث، أو الولي، وعلى الوجه الرابع القائل هناك أنها على الذكر، يصرف الفاضل هنا إلى الانثى لعجزها، ويسوى في الوجه الخامس بين(6/500)
الذكر والانثى، وإذا صرف إلى وارثين، فهل يوزع بالسوية، أم بحسب الارث ؟ وجهان، قال الاكثرون بالسوية، ونوضح ذلك بصور: ابنان أو بنتان، يصرف الموجود إليهما، فإن اختص أحدهما بمزيد عجز، بأن كان مريضا، أو رضيعا، قدم، ذكره الروياني. ابن وبنت، الصحيح أنها كالابنين، وقيل: تقدم البنت لضعفها. ابن بنت، وبنت ابن، ذكر الروياني أن بنت الابن تقدم لضعفها، ويشبه أن يجعلا كالابن والبنت. أب وجد، أو ابن وابن ابن، قيل: هما سواء، والاصح: تقديم الاب والابن، فإن كان الابعد زمنا، ففي التهذيب أنه يقدم، وذكر أنه لو اجتمع جدان في درجة، وأحدهما عصبة، كأبي الاب مع أبي الام، فالعصبة أولى، وأنه لو اختلفت الدرجة، واستويا في العصوبة أو عدمها، فالاقرب مقدم، وإن كان الابعد عصبة، تعارض القرب والعصوبة، فيستويان. أب وابن، إن كان الابن صغيرا، قدم، وإلا فهل يقدم الابن أم الاب، أم يستويان ؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: اختيار القفال، وتجري الاوجه في الابن والام، وفي الاب والبنت، وفي الجد وابن الابن. وابن الابن. أب وأم، تقدم الام على الاصح، وقيل: الاب، وقيل: يستويان. جد وابن، قيل بطرد الاوجه، وقيل: يقدم الابن قطعا، وعن - القاضي أبي حامد إذا اجتمع جدتان لاحداهما ولادتان، وللاخرى ولادة، فإن كانتا في درجة، فذات الولادتين أولى، وإن كانت أبعد، فالاخرى أولى، وأنه لو اجتمعت بنت بنت بنت أبوها ابن ابن بنته وبنت بنت بنت ليس أبوها من أولاده، فإن كانتا في درجة،(6/501)
فصاحبة القرابتين أولى، وإن كانت هي أبعد، فالاخرى أولى. فرع متى استوى اثنان، وزع الموجود عليهما، فلو كثروا بحيث لو وزع، لم يسد قسط كل واحد مسدا، أقرع بينهم. فرع إذا أوجبنا النفقة على أقرب القريبين، فمات أو أعسر، وجبت على الابعد، فإن أيسر الاقرب بعد ذلك، لم يرجع الابعد عليه بما أنفق. ذكر الروياني أنه لو كان له ولدان، ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما، وله أب موسر، لزم الاب نفقة الآخر، فإن اتفقا على الانفاق بالشركة، أو على أن يختص كل واحد بواحد، فذاك، وإن اختلفا، عمل بقول من يدعو إلى الاشتراك. وأنه لو كان للابوين المحتاجين ابن لا يقدر إلا على نفقة أحدهما، وللابن ابن موسر، فعلى ابن الابن باقي نفقتهما، فإن اتفقا على أن ينفقا عليهما بالشركة، أو يخص كل واحد بواحد، فذاك، وإن اختلفا، رجعنا إلى اختيار الابوين إن استوت نفقتهما، وإن اختلفت، اختص أكثرهما نفقة بمن هو أكثر يسارا، وهذان الجوابان في الصورتين مختلفان، والقياس أن يسوى بينهما، بل ينبغي في الصورة الثانية أن يقال: تختص الام بالابن تفريعا على الاصح، وهو تقديم الام على الاب، وإذا اختصت به، تعين الاب لانفاق ابن الابن. فصل لا تلزم العبد نفقة ولده، بل إن كانت الام حرة، فالولد حر وعليها نفقته، وإن كانت رقيقة، فهو رقيق نفقته على مالكه، وإن كان الولد حرا، وأبواه رقيقان، فنفقته في بيت المال، إلا أن يكون في فروعه من تلزمه نفقته، ولا يلزم المكاتب نفقة ولده من زوجته، سواء كانت حرة أو أمة أو مكاتبة، بل لا يجوز له أن ينفق عليه صيانة لحق السيد، فإن كانت زوجته الامة لسيده أيضا، جاز أن ينفق على ولده منها، وإن لم يجب، لانه ملك السيد، وكذا لو كانت زوجته مكاتبة السيد، إن جعلنا الولد ملكا للسيد، وإن قلنا: إنه يتكاتب عليها، لم يجز له أن ينفق عليه، لجواز أن تعتق المكاتبة والولد، ويعجز المكاتب، فيكون قد فوت مال سيده، هكذا أطلقوه، ولا يصح إطلاق بتجويز الانفاق على ملكه بغير إذنه، ولو استولد المكاتب(6/502)
جارية نفسه، أو كنا لا نجوز له ذلك، فيتكاتب الولد عليه، وينفق المكاتب عليه من أكسابه، لانه إن عتق، فقد أنفق ماله على ولده، وإن رق، رق الولد أيضا، فيكون قد أنفق مال السيد على عبده. فرع هل تجب نفقة المكاتب على ولده الحر ؟ عن الحاوي أنه يحتمل وجهين، أحدهما: لا، لبقاء أحكام الرق. والثاني: نعم، لانقطاع النفقة عن سيده. قلت: الاول أصح، لان المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فينفق من كسبه، فإن تعذر، عجز نفسه، والنفقة على سيده. والله أعلم. من نصفه حر، ونصفه رقيق، قال في البسيط: الظاهر أنه تلزمه نفقة القريب، لانها كالغرامات، وهل تلزمه نفقة تامة أم نصفها ؟ وجهان، حكاهما ابن كج. قلت: الاصح نفقة كاملة، لانه كالحر كما في الكفارة. والله أعلم. ولو كان من نصفه حر ونصفه رقيق محتاجا، هل يلزمه قريبه الحر نفقته بقدر ما فيه من الحرية ؟ وجهان حكاهما ابن كج. قلت: الراجح الوجوب، ويمكن بناؤهما على أنه هل يورث ؟ والاظهر أنه يورث كالاحرار. والله أعلم.(6/503)
الباب الخامس : في الحضانة
هي القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره، وتربيته بما يصلحه، ووقايته عما يؤذيه، وهي نوع من ولاية وسلطنة، لكنها بالاناث أليق، لانهن أشفق، وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للاطفال. ومؤنة الحضانة على الاب، لانها من أسباب الكفاية، كالنفقة، وحكى السرخسي وجها أنه ليس للام طلب الاجرة بعد الفطام، والصحيح: الاول، وأما أجرة الرضاع فقد سبق بيانها، وفي الباب طرفان :
الأول : في صفات الحاضن والمجنون، فإن كان أبو الطفل على النكاح، فالطفل معهما يقومان بكفايته، الاب بالانفاق، والام بالحضانة والتربية، وإن تفرقا بفسخ أو طلاق، فالحضانة للام إن رغبت فيها، لكن لاستحقاقها شروط: أحدها: كونها مسلمة، إن كان الطفل مسلما بإسلام أبيه، فلا حضانة لكافرة على مسلم، وقال الاصطخري: لها الحضانة، وقيل: الام الذمية أحق بالحضانة من الاب المسلم إلى أن يبلغ الولد سبع سنين، ثم الاب بعد ذلك. قال الاصحاب: والصحيح الاول، فعلى هذا حضانته لاقاربه المسلمين على ما يقتضيه الترتيب، فإن لم يوجد أحد منهم، فحضانته على المسلمين، والمؤنة في ماله، فإن لم يكن له مال، فعلى أمه إن كانت موسرة، وإلا فهو من محاويج المسلمين،(6/504)
وولد الذميين في الحضانة كولد المسلمين، فالام أحق بها، ولو وصف صبي منهم الاسلام، نزع من أهل الذمة، سواء صححنا إسلامه أم لا، ولا يمكنون من كفالته، والطفل الكافر والمجنون تثبت لقريبه المسلم حضانته وكفالته على الصحيح، لان فيه مصلحة له. الشرط الثاني: كونها عاقلة، فلا حضانة لمجنونة، سواء كان جنونها مطبقا، أو منقطعا، إلا إذا كان لا يقع إلا نادرا، ولا تطول مدته، كيوم في سنين، فلا يبطل الحق به، كمرض يطرأ ويزول، والمرض الذي لا يرجى زواله، كالسل والفالج إن كان بحيث يؤلم أو يشغل الالم عن كفالته وتدبير أمره، سقط حق الحضان، وإن كان تأثيره يعسر الحركة والتصرف، سقطت الحضانة في حق من يباشرها بنفسه دون من يشير بالامور ويباشرها غيره. الشرط الثالث: كونها حرة، فلا حضانة لرقيقة وإن أذن السيد، ثم إن كان الولد حرا، فحضانته لمن له الحضانة بعد الام من الاب وغيره، وإن كان رقيقا،(6/505)
فحضانته على السيد، وهل له نزعه من الاب وتسليمه إلى غيره ؟ وجهان بناء على القولين في جواز التفريق، ولو كانت الام حرة والولد رقيق، بأن سبي طفل ثم أسلمت أمه، أو قبلت الذمة، فحضانته للسيد، وفي الانتزاع منها الوجهان، والمدبرة، والمكاتبة، والمعتق بعضها، لا حضانة لهن، لكن ولد المكاتبة، إذا قلنا: إنه لها تستعين به في الكتابة، سلم إليها، لا لان لها حضانة، بل لان الحق لها. وولد أم الولد من زوج أو زنى له حكمها، يعتق بموت السيد وحضانته لسيده مدة حياته، وهل لها حق الحضانة في ولدها من السيد ؟ وجهان، الصحيح: لا حضانة لها لنقصها، وقال الشيخ أبو حامد: لها الحضانة إلى سبع سنين، ثم السيد أولى بالولد بعد السبع، ولو كان ولد نصفه حر، ونصفه رقيق، فنصف حضانته لسيده، ونصفها لمن يلي حضانته من أقاربه الاحرار، فإن اتفقا على المهايأة، أو على استئجار حاضنة، أو رضي أحدهما بالآخر، فذاك، وإن تمانعا، استأجر الحاكم حاضنة، وأوجب المؤنة على السيد وعلى من يقتضي الحال الايجاب عليه. الشرط الرابع: كونها أمينة، فلا حضانة لفاسقة. الشرط الخامس: كونها فارغة خلية، فلو نكحت أجنبيا، سقطت حضانتها لاشتغالها بحقوق الزوج، فلو رضي الزوج، لم يؤثر، كما لا يؤثر رضى السيد بحضانة الامة، فقد يرجعان فيتضرر الولد، فلو نكحت عم الطفل، فوجهان، أصحهما: لا تبطل حضانتها لان العم صاحب حق الحضانة، وشفقته تحمله على رعاية الطفل، فيتعاونان على كفالته بخلاف الاجنبي، وبهذا قطع القفال والغزالي والمتولي، ويقال: إن صاحب التلخيص خرجه من نص الشافعي رحمه الله، أن الجدة إذا نكحت جد الطفل لا يبطل حقها من الحضانة، وكذا لو كانت في(6/506)
نكاحه، ثبت لها حق الحضانة بخلاف ما لو كانت في نكاح أجنبي، والثاني: يبطل حق الام، وليس العم كالجد لان الجد ولي تام الشفقة قائم مقام الاب، وهذان الوجهان في نكاح الام العم، يطردان في كل من لها حضانته، نكحت قريبا للطفل له حق في الحضانة، بأن نكحت أمه ابن عم الطفل، أو عم أبيه، أو نكحت خالته التي لها حضانة عم الطفل، أو نكحت عمته خاله، هكذا ذكره الشيخ أبو علي وغيره، ثم إنما يبقى الحق إذا نكحت الجدة جد الطفل، أو الام عمه على الاصح إذا رضي الذي نكحته بحضانتها، فإن أبى، فله المنع، وعليها الامتناع. فرع إذا اجتمعت هذه الشروط فإنما تثبت لها الحضانة إذا كان الابوان مقيمين في بلد، فإن سافر أحدهما، فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، وهل يشرط استحقاقها أن ترضع الولد إن كان رضيعا ؟ وجهان، أحدهما: لا، بل لها الحضانة وإن لم يكن لها لبن، أو امتنعت من الارضاع، وعلى الاب أن يستأجر مرضعة ترضعه عند الامام، وهذا أصح عند البغوي، والثاني وهو الصحيح وبه قطع الاكثرون: يشترط لعسر استئجار مرضعة تخلي بيتها، وتنتقل إلى مسكن الام، وعلى هذا لا تمنع الام من زيارته. فرع لو أسلمت الكافرة، أو أفاقت المجنونة، أو عتقت الامة، أو رشدت(6/507)
الفاسقة، أو طلقت التي سقط حقها بالنكاح، تثبت لها الحضانة لزوال المانع، وسواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، هذا هو نص المذهب، وخرج ابن سريج قولا أنه لا حضانة للرجعية حتى تنقضي العدة، وبه قال المزني لان الرجعية زوجة، فعلى المذهب: إن اعتدت في بيت الزوج فإنما تثبت لها الحضانة إذا رضي الزوج بأن يدخل الولد بيته، فإن لم يرض، لم يكن لها أن تدخله بيته، وكذا في البائن، وإذا رضي، ثبت حقها بخلاف رضاه في صلب النكاح، لان المنع هناك لاستحقاقه الاستمتاع، واستهلاك منافعها فيه، وهنا للمسكن، فإذا أذن صار معيرا. فرع إذا امتنعت الام من الحضانة، أو غابت، فثلاثة أوجه، الصحيح: أنها تنتقل إلى الجدة، كما لو ماتت، أو جنت، والثاني: تنتقل إلى الاب، والثالث: إلى السلطان لبقاء أهلية الام كما لو غاب الولي في النكاح، أو عضل، يزوج السلطان لا الابعد، فعلى الصحيح متى امتنع الاقرب من الحضانة، كانت لمن يليه، لا للسلطان، لانها للحفظ والقريب الابعد أشفق من السلطان. فصل أما المجنون، فهو من لا يستقل بمراعاة نفسه، ولا يهتدي إلى مصالحه لصغر أو جنون، أو خبل وقلة تمييز، ومتى بلغ الغلام رشيدا، ولي أمر نفسه ولا يجبر على كونه عند الابوين أو أحدهما، ولكن الاولى أن لا يفارقهما ليخدمهما ويصلهما بره، وإن بلغ عاقلا غير رشيد، فقد أطلق جماعة أنه كالصبي، لا يفارق الابوين، وتدام حضانته، وقال ابن كج: إن لم يحسن تدبير نفسه، فالحكم كذلك، وأما إن كان اختلال الرشيد لعدم الصلاح في الدين، فالصحيح أنه يسكن حيث يشاء، ولا يجبر أن يكون عند الابوين، أو أحدهما، وقيل: تدام حضانته إلى ارتفاع الحجر عنه، وهذا التفصيل حسن. وأما الانثى إذا بلغت، فإن كانت مزوجة، فهي عند زوجها، وإلا، فإن كانت بكرا، فعند أبويها أو أحدهما إن افترقا، وتختار من شاءت منهما، وهل تجبر على ذلك ؟ وجهان، أحدهما: نعم، وليس لها الاستقلال، والثاني: لا، بل لها السكنى حيث شاءت، لكن يكره لها مفارقتهما، وبهذا قطع العراقيون، وصحح ابن كج والامام والغزالي الاول، ثم(6/508)
صرح الغزالي باختصاص هذه الولاية بالاب والجد، كولاية الاجبار في النكاح، وذكر البغوي في ثبوتها أيضا للاخ والعم وجهين. قلت: أرجحهما ثبوتها. والله أعلم. وإن كانت ثيبا، فالاولى أن تكون عند الابوين، أو أحدهما، ولا تجبر على ذلك باتفاق الاصحاب، لانها صاحبة اختيار وممارسة، وبعيدة عن الخديعة، وهذا إذا لم تكن تهمة، ولم تذكر بريبة، فإن كان شئ من ذلك، فللاب والجد ومن يلي تزويجها من العصبات منعها من الانفراد، ثم المحرم منهم يضمها إلى نفسه إن رأى ذلك، وغير المحرم يسكنها موضعا يليق بها، ويلاحظها دفعا للعار عن النسب، كما يمنعونها نكاح غير الكف ء، وأثبت البغوي للام ضمها إليها عند الريبة، كما أثبتها للعصبة، ولو فرضت التهمة في حق البكر، فهي أولى بالاحتياط، فتمنع من الانفراد بلا خلاف، ونقل في العدة عن الاصحاب أن الامرد إذا خيف من انفراده فتنة، وانقدحت تهمة، منع من مفارقة الابوين. قلت: الجد كالابوين في حق الامرد، وكذا ينبغي أن يكون الاخ والعم ونحوهما لاشتراك الجميع في المعنى. والله أعلم. فرع إذا ادعى الولي ريبة، وأنكرت، فقد ذكر احتمالان، أحدهما: لا يقبل قوله لان الحكم على الحرة العاقلة بمجرد الدعوى بعيد، وأصحهما: يقبل ويحتاط بلا بينة، لان إسكانها في موضع البراءة أهون من الفضيحة لو أقام بينة. فصل إنما يحكم بأن الام أحق بالحضانة من الاب في حق من لا تمييز له أصلا، وهو الصغير في أول أمره، والمجنون، فأما إذا صار الصغير مميزا، فيخير بين الابوين إذا افترقا، ويكون عند من اختار منهما، وسواء في التخيير الابن والبنت، وسن التمييز غالبا سبع سنين، أو ثمان تقريبا، قال الاصحاب: وقد يتقدم التمييز عن السبع وقد يتأخر عن الثمان، ومدار الحكم على نفس التمييز، لا على سنه، وإنما يخير بين الابوين إذا اجتمع فيهما شروط الحضانة، بأن يكونا مسلمين حرين عاقلين عدلين مقيمين في وطن واحد على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأن(6/509)
تكون الام خلية، فإن اختل في أحدهما بعض الشروط، فلا تخيير، والحضانة للآخر، فإن زال الخلل، أنشئ التخيير، ولو وجدت الشروط فيهما، واختص أحدهما بزيادة في الدين أو المال أو محبة الولد، فهل يختص به أم يجري التخيير ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ويجري التخيير بين الام والجد عند عدم الاب، ويجري أيضا بينها وبين من على حاشية النسب، كالاخ والعم، على الاصح، وقيل: تختص به الام، وفي ابن العم مع الام هذان الوجهان، إن كان الولد ذكرا، فإن كان أنثى، فالام أحق قطعا، ويجري الخلاف أيضا بين الاب والاخت والخالة إذا قدمناها عليه قبل التمييز كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإذا اختار أحد الابوين، ثم اختار الآخر، حولناه إليه، فإن عاد واختار الاول، أعدناه إلى الاول، فإن أكثر التنقل بحيث يظن أن سببه نقصانه وقلة تمييزه، جعل عند الام كما قبل التمييز، وكذا لو بلغ على نقصانه وخبله. فرع إذا اختار الاب وسلم إليه، فإن كان ذكرا، لم يمنعه الاب من زيارة أمه ولا يحوجها إلى الخروج لزيارته، وإن زارته، لم يمنعها من الدخول عليه، وله منع الانثى من زيارة الام، فإن شاءت الام، خرجت إليها للزيارة، لانها أولى بالخروج لسنها وخبرتها، ثم الزيارة تكون في الايام على العادة، لا في كل يوم، وإذا دخلت، لا تطيل المكث، ولو مرض الولد ذكرا كان أو أنثى، فالام أولى بتمريضه، فإنها أشفق وأهدى إليه، فإن رضي بأن تمرض في بيته، فذاك، وإلا فينقل الولد إلى بيت الام، ويجب الاحتراز عن الخلوة إذا كانت تمرضه في بيت الاب، وكذا إذا زارت الولد، فإن لم يكن هناك ثالث، خرج حتى تدخل، وإذا مات، لم تمنع من حضور غسله وتجهيزه إلى أن يدفن، وإن مرضت الام، لم يكن للاب منع الولد من عيادتها، ذكرا كان أو أنثى، ولا يمرضها، قال الروياني: إلا إذا(6/510)
أحسنت الانثى التمريض. فرع إذا اختار الام، فإن كان ابنا، أوى إليها ليلا، وكان عند الاب نهارا يؤدبه ويعلمه أمور الدين والمعاش والحرفة، وإن كانت بنتا، كانت عند الام ليلا ونهارا، ويزورها الاب على العادة، ولا يطلب إحضارها عنده، وهكذا الحكم إذا كان الولد عند الام قبل سن التخيير. فرع: إذا اختار الام، فليس للاب إهماله بمجرد ذلك، بل يلزمه القيام بتأديبه وتعليمه، إما بنفسه وإما بغيره ويتحمل مؤنته، وكذا المجنون الذي لا تستقل الام بضبطه يلزم الاب رعايته، وإنما تقدم الام فيما يتأتى منها وما هو شأنها. قلت: تأديبه وتعليمه واجب على وليه أبا كان أو جدا أو وصيا أو قيما، وتكون أجرة ذلك في مال الصبي، فإن لم يكن له مال، فعلى من تلزمه نفقته، وقيل: إن أجرة مالا يلزمه تعلمه بعد البلوغ تكون في مال الولي مع يسار الولد، والاول أصح، وقد سبق بعض هذا في أول كتاب الصلاة. والله أعلم. فرع لو خيرناه فاختارهما، أقرع بينهما، وإن لم يختر واحدا منهما، فوجهان، أحدهما: يقرع وبه قطع البغوي، وأصحهما: الام أحق، لانه لم يختر غيرها، وكانت الحضانة لها فيستصحب، وبه قطع في البسيط. قال الروياني: لو ترك أحد الابوين في وقت التخيير كفالته للآخر، كان الآخر أحق به، ولا اعتراض للولد، فإن عاد وطلب الكفالة، عدنا إلى التخيير، قال: ولو تدافع الابوان كفالته، وامتنعا منها، فإن كان بعدهما من يستحق الحضانة، كالجد والجدة، خير بينهما، وإلا فوجهان، أحدهما: يخير الولد، ويجبر من اختاره على كفالته، فعلى هذا لو امتنعا من الحضانة قبل سن التمييز، يقرع بينهما، ويجبر من(6/511)
خرجت قرعته على حضانته، والثاني: يجبر عليها من تلزمه نفقته. قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم. فصل ما سبق من أن الام أولى من الاب قبل التمييز، وأنه يخير بينهما بعد تمييزه، هو فيما إذا كان الابوان مقيمين في بلد واحد، فأما إذا أراد أحدهما سفرا، أو أرادا سفرا يختلف فيه بلدهما، فينظر، إن كان سفر حاجة، كحج وغزو وتجارة، لم يسافر بالولد، لما في السفر من الخطر والمشقة، بل يكون مع المقيم إلى أن يعود المسافر، سواء طالت مدة السفر أم قصرت، وعن الشيخ أبي محمد وجه أن للاب أن يسافر به إذا طال سفره، وإن كان سفر نقلة، نظر، إن كان ينتقل إلى مسافة القصر، فللاب أن ينتزعه من الام ويستصحبه معه، سواء كان المنتقل الاب أو الام، أو أحدهما إلى بلد والآخر إلى آخر، احتياطا للنسب، فإن النسب يتحفظ بالآباء، ولمصلحة التأديب والتعليم، وسهولة القيام بنفقته ومؤنته، وسواء نكحها في بلدها أو في الغربة، فلو رافقته الام في طريقه، دام حقها، وكذا في المقصد، ولو عاد من سفر النقلة إلى بلدها، عاد حقها، ولو كان الطريق الذي يسلكه مخوفا، أو البلد الذي يقصده غير مأمون لغارة ونحوها، لم يكن له انتزاع الولد، وإن كان الانتقال إلى دون مسافة القصر، فوجهان، أحدهما: لا يؤثر، ويكونان كالمقيمين في محلتين من بلد، وأصحهما: أنه كمسافة القصر، ولو اختلفا، فقال: أريد الانتقال، فقالت: بل التجارة، فهو المصدق بيمينه، وقال القفال: يصدق بلا يمين، والاول أصح، فإن نكل، حلفت، وأمسكت الولد، وسائر العصبات من المحارم، كالجد والاخ والعم، بمنزلة الاب في انتزاع الولد ونقله إذا أرادوا الانتقال، احتياطا للنسب، وكذا غير المحارم، كابن العم، إن كان الولد ذكرا، وإن كان أنثى، لم تسلم إليه، قال المتولي: إلا إذا لم تبلغ حدا يشتهى مثلها، وفي الشامل أنه لو كان له بنت ترافقه، سلمت إلى بنته، وأما المحرم الذي لا(6/512)
عصوبة له، كالخال والعم للام، فليس له نقل الولد إذا انتقل، لانه لاحق له في النسب. فرع إنما يثبت حق النقل للاب وغيره، إذا استجمع الصفات المعتبرة في الحضانة، قال المتولي: ولو كان للولد جد مقيم، وأراد الاب الانتقال، كان له أن ينقل الولد، ولم تمنع منه إقامة الجد، وكذا حكم الجد عند عدم الاب، ولا تمنعه إقامة الاخ أو العم، لكن لو لم يكن أب ولا جد، وأراد الاخ الانتقال، وهناك ابن أخ أو عم يقيمان، فليس للاخ انتزاعه من الام لنقله، بخلاف الاب والجد، لكمال عنايتهما وتقارب عناية غيرهما من العصبات. فرع لو كان كل واحد من الابوين يسافر لحاجة، واختلف طريقهما ومقصدهما، فيشبه أن يدام حق الام، ويحتمل أن يكون مع الذي مقصده أقرب، أو مدة سفره أقصر. قلت: المختار أنه يدام مع الام، وهو مقتضى كلام الاصحاب. والله أعلم.
الطرف الثاني : في ترتيب المستحقين للحضانة، فمتى اجتمع اثنان فصاعدا من مستحقي الحضانة، نظر، إن تراضوا بواحد، فذاك، وإن تدافعوا، وجبت على من عليه النفقة، وقيل: يقرع، وتجب على من خرجت قرعته، والصحيح الاول، وإن الضرب الاول: محض الاناث، طلبها كل واحدة ممن فيه شروطها، فهم ثلاثة أضرب: الضرب الاول: محض الاناث، فأولاهن الام، ثم أمهاتها المدليات بالاناث، تقدم أقربهن، وتقدم البعدى منهن على القربى من أمهات الاب، ثم بعد أمهات الام، قولان، الجديد: تقدم أم الاب، ثم أمهاتها المدليات بالاناث، ثم أم أبي الاب، ثم أمهاتها المدليات بالاناث، ثم أم أبي الجد، ثم أمهاتها كذلك،(6/513)
وتقدم الاقرب منهن فالاقرب، ويتأخر عنهن الاخوات والخالات، ودليل هذا القول، أنهن جدات وارثات فقدمن على الاخوات والخالات، وعلى أن الخالات يقدمن على بنات الاخوات، وبنات الاخوة، والعمات، لانهن يشاركنهن في المحرمية والدرجة وعدم الارث، ويتميزون بالادلاء بقرابة الام، وعن ابن سريج تقديم الخالة على الاخت للاب، وهو شاذ ضعيف، ثم الحضانة بعد الخالات لبنات الاخوات، وبنات الاخوة يقدمن على العمات، هكذا رتب الامام والغزالي والبغوي، وحكى الروياني هذا وجها، وادعى أن الاصح تقديم العمات على بنات الاخوة وبنات الاخوات، ثم حكى وجهين فيمن يقدم بعد العمات، أحدهما: بنات الاخوات والاخوة، ثم بنات سائر العصبات بعد الاخوة، ثم بنات الخالات، ثم بنات العمات، ثم خالات الام، ثم خالات الاب، ثم عماته. والثاني: تقدم بعد العمات خالات الام، ثم خالات الاب، ثم عماته، ولا حضانة لعمات الام لادلائهن بذكر غير وارث، ثم خالات الجد، ثم عماته، وهكذا، فإن فقدن جميعا، فالحضانة لبنات الاخوات والاخوة، وفي أي رتبة وقعن، تقدم بنات الاخوات على بنات الاخوة، كما تقدم الاخت على الاخ. فرع الاخت من الابوين، تقدم على الاخت من الاب، وعلى الاخت من الام، وأما الاخت من الاب، والاخت من الام، فأيهما تقدم على صاحبتها ؟ وجهان، الصحيح المنصوص في الجديد والقديم: تقديم الاخت من الاب، وقال المزني وابن سريج: تقدم الاخت من الام، وأما الخالة من الاب مع الخالة من الام والعمة، فإن قدمنا الاخت للام على الاخت للاب، فكذا هنا، وإن قدمنا الاخت للاب، فوجهان، أحدهما: تقدم الخالة للام والعمة للام، وأصحهما: يقدم التي هي لاب، وفي الخالة لاب وجه، أنها لا تستحق حضانة أصلا، لانها تدلي بأبي أم. فرع المنصوص أنه لا حضانة لكل جدة تسقط في الميراث، وهي من تدلي بذكر بين أنثيين، وقيل: لهن الحضانة، لكن يتأخرن عن جميع المذكورات(6/514)
أولا، وقيل: يتقدمن على الاخوات والخالات، لانهن أصول، ويتأخرن عن الجدات الوارثات، وفي معنى الجدة الساقطة، كل محرم يدلي بذكر لا يرث، كبنت ابن البنت وبنت العم للام. الانثى التي ليست بمحرم، كبني الخالة والعمة، وبنتي الخال والعم، لهن الحضانة على الاصح، فإن كان الولد ذكرا، استمرت حضانتهن حتى يبلغ حدا يشتهى مثله، وتقدم بنات الخالات على بنات الاخوات، وبنات العمات على بنات الاعمام، وتقدم بنات الخؤولة على بنات العمومة. فرع لبنت المجنون حضانته إذا لم يكن له أبوان، ذكره ابن كج، قال الروياني: ولو كان للمحضون زوجة كبيرة، وكان له بها استمتاع، أو لها به استمتاع، فهي أولى بكفالته من جميع الاقارب، وإن لم يكن استمتاع، فالاقارب أولى، وكذا لو كان للمحضونة زوج كبير، وهناك استمتاع، فهو أولى، وإلا فالاقارب، فإن كان لها قرابة أيضا، فهل يرجح بالزوجية ؟ وجهان. الضرب الثاني: محض الذكور، وهم أربعة أصناف، الاول: محرم وارث، كالاب والجد والاخ وابن الاخ والعم، فلهم الحضانة، وحكى البغوي وغيره وجها، أنه لا حضانة لغير الاب والجد من الرجال، وقيل: لا حضانة للاخ من الام خاصة لعدم العصوبة والولاية، والصحيح الاول، فيقدم الاب، ثم الجد وإن علا، يقدم(6/515)
منهم الاقرب فالاقرب، ثم الاخ للابوين، ثم الاخ للاب، ثم الاخ للام، ثم بنو الاخوة على هذا الترتيب، ثم العم للابوين، ثم العم للاب، ثم عم الاب، ثم عم الجد، هذا هو المذهب، وفي وجه، يقدم الاخ للام على الاخ للاب، وفي وجه، يتقدم العم على الاخ للام لعصوبته، وفي وجه، يتقدم الاعمام على بني الاخوة من الام. الصنف الثاني: وارث غير محرم، كابن العم وابنه، وابن عم الاب والجد، فلهم الحضانة على الصحيح، وفيهم الوجه الذي حكاه البغوي، ثم إن كان الولد ذكرا أو أنثى لا تشتهى، سلمت إليه، وإن بلغت حدا تشتهى، لم تسلم إليه، لكن له أن يطلب تسليمها إلى امرأة ثقة، وتعطى أجرتها، فإن كانت له بنت، سلمت إليه، وفي ثبوت الحضانة للمعتق، وجهان، أحدهما: نعم، كالارث، وولاية النكاح، وتحمل الدية، وأصحهما: لا، لعدم القرابة التي هي مظنة الشفقة، فعلى هذا لو كانت له قرابة وهناك من هو أقرب منه، فهل يرجح لانضمام عصوبة القرابة إلى عصوبة الولاء ؟ وجهان، حكاهما الروياني، مثاله: عم وعم أب معتق. قلت: الاصح لا يرجح. والله أعلم.(6/516)
الصنف الثالث: محرم غير وارث، كأبي الام، والخال، والعم للام، وابن الاخت، وابن الاخ للام، فلا حضانة لهم على الاصح، لضعف قرابتهم، فإن قلنا: لهم حضانة، تأخروا عن المحارم الوارثين، وعن الوارثين الذين لا محرمية لهم. الصنف الرابع: من ليس بمحرم ولا وارث من الاقارب، كابن الخال والخالة والعمة، فلا حضانة لهم على المذهب، وقيل: وجهان، وإذا أثبتنا الحضانة لجميع المذكورين من الاصناف الاربعة، تفريعا على المذهب في بعضهم، وعلى الضعيف في بعضهم، وتركنا التقسيم، قلنا: يقدم الاب، ثم أب الاب وإن علا، ثم الاخوة، ثم بنوهم، ثم الاعمام، ثم بنوهم، ثم أعمام الاب، ثم بنوهم، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم، ثم الجد أبو الأم، وكل جد يدلي بذكر بين أنثيين، يقدم الاقرب منهم فالاقرب، ثم الخال، ثم العم للام، ثم ابن الخال، ثم ابن العم للام، ثم المعتق، ثم عصباته، ومنهم من يقتضي كلامه تأخر بني العم عن أعمام الاب والجد، لان لهم محرمية مع الارث. الضرب الثالث: في اجتماع الذكور والاناث، فتقدم الام على جميعهم، حتى على الاب، ثم أم الام وإن علت، تقدم على الاب وغيره، فلو نكحت الام ورضي أبو الولد وزوجها بكونه عندها، سقط حق الجدة على الاصح، وإذا اجتمع الاب والجدات من جهته، قدم عليهن على الصحيح المنصوص، لانهن يدلين به، وقيل: يتقد منه، لولادتهن وصلاحيتهن، وطرد هذا الخلاف في الاخت للاب مع الاب وإن كانت فرعا له، لصلاحيتها، وأما الاخت من الابوين، أو من الام والخالة، فإن قلنا بالقديم وقدمناهن على أمهات الاب، قدمناهن على(6/517)
الاب، وإن قدمنا أمهات الاب على الاخت والخالة، يقدم الاب هنا على الاصح المنصوص، وقيل: يتقدمان عليه لانوثتهما وإدلائهما بالام، فعلى هذا لو كانت مع الاب أو الاخت للاب، والخالة أم الاب، فوجهان، قال الاصطخري: الحضانة للاب، لان الاخت تسقط بأم الاب، وهي تسقط بالاب، وقال الاكثرون: الحضانة للاخت، لانها مقدمة على الاب على الوجه الذي تفرع عليه، وتسقط أم الاب بالاب. ولو اجتمع الاب والاخت للاب والاخت للام، وقلنا بالصحيح: إن الاخت للام مقدمة على الاخت للاب، فهل الحضانة للاب، أم للاخت للام ؟ فيه هذان الوجهان، فإذا قلنا بالصحيح في تقديم الاب على أمهاته، وبالاصح في تقديمه على الاخت للام والخالة، فالمقدم بعد أمهات الام الاب، ثم أمهاته المدليات بالاناث، ثم الجد أبو الأب، وفيه مع أمهاته ما في الاب، ثم أبو الجد وأمهاته كذلك، ويتقدمون جميعا على الاقارب الواقعين على حواشي النسب، وأما الجدات الساقطات، فقد سبق الكلام في استحقاقهن، وفي زينتهن، وإذا لم يوجد مستحق للحضانة من الاجداد والجدات، فثلاثة أوجه، أحدها: نساء القرابة وإن بعدن أولى من الذكور، وإن كانوا عصبات، لصلاحيتهن، فعلى هذا تقدم الاخوات والعمات والخالات وبناتهن على الاخوة والاعمام وبنيهم، والثاني: العصبات أولى، لقوة نسبهم وقيامهم بالتأديب، والثالث - وهو الاصح: لا يرجح واحد من الفريقين على الآخر، بل يقدم منهم الاقرب، فالاقرب، فإن استوى اثنان، قدم بالانوثة، فعلى هذا تقدم بعد الآباء والامهات، الاخوة والاخوات، وتقدم الاخوات على الاخوة، ثم بعد الاخوة بنات الاخوات، ثم بنو الاخوة، وتقدم بنت الاخ على ابن الاخت اعتبارا من يحضن لا بمن يدلي به، فإن فقدوا كلهم، فالحضانة للخؤولة، ثم العمومة، وتقدم الخالات على الاخوال، والعمات على الاعمام، فإن فقدوا، فالحضانة لاولادهم على ما ذكرنا في أصولهم ثم لخؤولة الابوين ثم لعمومتهما، على هذا الترتيب، وإذا استوى اثنان، كأخوين أو خالتين، وتنازعا، أقرعنا، وإذا لم يوجد أحد من نساء القرابة ولا من العصبات، وهناك رجال من ذوي الارحام، فحكمهم ما ذكرنا في الصنف الرابع.(6/518)
فرع الاخت مع الجد كهي مع الاب. فرع لو كان في أهل الحضانة خنثى، هل يتقدم على الذكر في موضع لو كان أنثى لتقدم لاحتمال الانوثة، أم لا لعدم الحكم بها ؟ وجهان. قلت: الاصح: الثاني. والله أعلم. وإذا أخبر عن ذكورته أو أنوثته، عمل بقوله في سقوط الحضانة، وهل يعمل بها في استحقاقها، أم لا يعمل للتهمة ؟ وجهان، حكاهما الروياني. قلت: أصحهما: يعمل وهو الجاري على قواعد المذهب في نظائره. والله أعلم.
الباب السادس : في نفقة المملوك
تجب على السيد نفقة رقيقه، قوتا وأدما، وكسوته، وسائر مؤوناته، قنا كان أو(6/519)
مدبرا، أو أم ولد، سواء الصغير والكبير، والزمن والاعمى والسليم، والمرهون والمستأجر وغيرهم، فإن كان كسوبا، فكسبه لسيده، فإن شاء أخذه وأنفق عليه من سائر أمواله، وإن شاء، أنفق عليه من كسبه، فإن لم يف بها، فالباقي على السيد، وإن زاد، فالزيادة للسيد، ولو اشترك جماعة في رقيق، فالنفقة عليهم بحسب أنصبائهم، ولا تجب نفقة المكاتب على سيده. قلت: وهل يلزم السيد شراء الماء لطهارة رقيقه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، كفطرته، والثاني: لا، لان له بدلا وهو التيمم، كما لا يلزمه دم بتمتعه بل يصوم. والله أعلم.
فصل لا تتقدر نفقة الرقيق، بل تعتبر الكفاية، وفيما تعتبر به الكفاية ؟ أوجه، أصحها: تعتبر كفايته في نفسه، وتراعى رغبته وزهادته، وإن زاد ذلك على كفاية مثله غالبا، والثاني: يعتبر ما يكفي مثله في الغالب، ولا يعتبر نفسه، وعن صاحب الحاوي إن كان يؤثر فقد الزيادة في قوته وبدنه، لزمت السيد، وإلا فلا، وينبغي أن تجئ هذه الاوجه في نفقة القريب.
فصل وأما جنس نفقة الرقيق، فغالب القوت الذي يطعم منه المماليك في البلد، من الحنطة والشعير وغيرهما، وكذا الادم الغالب، والكسوة من القطن والكتان والصوف وغيرها، وتراعى حال السيد في اليسار والاعسار، فيجب ما يليق بحاله من رفيع الجنس الغالب وخسيسه، ولا يجوز الاقتصار في الكسوة على ستر العورة، وإن كان لا يتأذى بحر ولا برد، ولو تنعم السيد في الطعام والادم والكسوة، استحب أن يدفع إليه مثله، ولا يلزمه، بل له الاقتصار على الغالب، ولو كان السيد يأكل ويلبس دون المعتاد غالبا، إما بخلا وإما رياضة، لزمه رعاية الغالب للرقيق على الصحيح، وقيل: له الاقتصار على ما اقتصر عليه لنفسه.
فصل إذا كان له عبيد، يستحب أن يسوي بينهم في الطعام والكسوة،(6/520)
ويفضل النفيس على الخسيس، والصحيح: الاول، وفي الجواري وجهان، أحدهما: يسوي بينهن كالعبيد، وأصحهما: يفضل ذوات الجمال والفراهة للعادة، وهذا هو المنصوص، وسواء فيه السرية وغيرها، والمراد بالتسوية أنه يكره التفضيل، وبالتفضيل أنه مستحب لا واجب.
فصل إذا ولي رقيقه معالجة طعامه، فجاءه به، فينبغي أن يجلسه معه ليتناول منه، فإن لم يفعل السيد، أو امتنع الرقيق توقيرا للسيد، فينبغي أن يروغ له السيد لقمة أو لقمتين، ثم يناوله، والترويغ: أن يرويها دسما، وأشار الشافعي رضي الله عنه في ذلك إلى ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يجب الترويغ والمناولة، فإن أجلسه معه، فهو أفضل، والثاني: يجب أحدهما لا بعينه، وأظهرهما: لا يجب واحد منهما، والامر بهما على الاستحباب ندبا إلى التواضع ومكارم الاخلاق، ومنهم من قطع بنفي الوجوب، وذكر قولين في أن الاجلاس أفضل، أم هما متساويان، والمذهب الاول، وأصل هذا الاستحباب في مناولة الطعام اللذيذ، يشمل من عالجه وغيره، لكنه فيمن عالجه آكد، ورعايته في حق الحاضرين أهم، والخلاف في الوجوب مختص بمن عالجه، وليكن ما يناوله لقمة كبيرة تسد مسدا، لا صغيرة تهيج الشهوة، ولا تقضي النهمة.
فصل نفقة الرقيق لا تصير دينا، بل تسقط بمضي الزمان، ولو دفع إليه طعاما، ثم أراد إبداله، قال الروياني: ليس له ذلك عند الاكل، ويجوز قبله، وعن الماوردي: أنه إن تضمن الابدال تأخر الاكل، لم يجز. فصل إذا ولدت أمته، أو أم ولده منه، فله أن يجبرها على إرضاعه، لان(6/521)
لبنها ومنافعها له، ولو أراد تسليم الولد إلى غيرها، وأرادت هي إرضاعه، فوجهان، أحدهما: له ذلك لانها ملكه، وقد يريد الاستمتاع بها واستخدامها، وأصحهما: ليس له، وبه قطع في الوجيز لان فيه تفريقا بين الوالدة وولدها، لكن له أن يضمه في أوقات الاستمتاع إلى غيرها، وليس له أن يكلفها إرضاع غير ولدها معه بأجرة ولا بغيرها، إلا أن يفضل لبنها عن ري ولدها، لقلة شربه، أو لكثرة اللبن، أو لاجتزائه بغير اللبن في أكثر الاوقات، ولو مات ولدها، أو استغنى عن اللبن، فله ذلك، وله إجبارها على فطامه قبل الحولين إذا اجتزأ الولد بغير اللبن، وعلى الارضاع بعد الحولين، وإن كان يجتزئ بغير اللبن، إلا إذا تضررت به، وليس لها الاستقلال بالفطام قبل تمام الحولين، وعلى الاب الاجرة إذا امتنعت الام من الفطام، إما لها وإما لغيرها، وذكر فيه احتمال إذا لم يتضرر به الولد، وإن اتفقا عليه، جاز، إذا لم يتضرر الولد، وأما بعد الحولين فيجوز لكل واحد منهما الفطام إذا اجتزأ بالطعام، ويجوز أن يزاد في الارضاع على الحولين إذا اتفقا. فرع لو لم يكن ولد الامة من السيد، بل مملوك له من زوج أو زنى، فحضانته على السيد، وحكم الارضاع على ما ذكرنا، وإن كان الولد حرا، فله طلب الاجرة على الارضاع، ولا يلزمه التبرع به كما لا يلزم الحرة التبرع، ولو رضي بأن ترضعه مجانا، لم يكن لها الامتناع.
فصل تجوز المخارجة وهي ضرب خراج معلوم على الرقيق يؤديه كل يوم أو أسبوع مما يكتسبه، وليس للسيد إجبار العبد عليها، ولا للعبد إجبار السيد، كالكتابة، وحكي قول مخرج أن للسيد إجباره كما ينقل منافعه قهرا إلى غيره، وليس بشئ، وإذا تراضينا على خراج، فليكن له كسب دائم يفي بذلك الخراج، فاضلا عن نفقته وكسوته، إن جعلهما في كسبه، وإذا وفى وزاد كسبه، فالزيادة بر من السيد لعبده، وتوسيع للنفقة عليه، وإذا ضرب عليه خراجا أكثر مما يليق، وألزمه(6/522)
تأديته، منعه السلطان، ويجبر النقص في بعض الايام بالزيادة في بعضها، والمخارجة غير لازمة. فصل لا يجوز للسيد أن يكلف رقيقه من العمل إلا ما يطيق الدوام عليه، فلا يجوز أن يكلفه عملا يقدر عليه يوما ويومين، ثم يعجز عنه، وإذا استعمله نهارا، أراحه ليلا، وكذا بالعكس، ويريحه في الصيف في وقت القيلولة، ويستعمله في الشتاء، النهار مع طرفي الليل، ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة، وعلى العبد بذل المجهود، وترك الكسل. فصل إذا امتنع من النفقة على مملوكه، باع الحاكم ماله في نفقته، وهل يبيع شيئا فشيئا، أم يستدين عليه، فإذا اجتمع عليه شئ صالح، باع ؟ فيه وجهان. قلت: الثاني أصح. والله أعلم. فإن لم يجد له مالا، أمره بأن يبيعه، أو يؤجره، أو يعتقه، فإن لم يفعل، باعه الحاكم أو أجره، فإن لم يشتره أحد، أنفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن فيه مال، فهو من محاويج المسلمين، فعليهم القيام بكفايته. فصل من ملك دابة، لزمه علفها، وسقيها، ويقوم مقام العلف والسقي تخليتها لترعى، وترد الماء إن كانت مما يرعى ويكتفى به لخصب الارض ونحوه، ولم يكن مانع ثلج وغيره، فإن أجدبت الارض ولم يكفها الرعي، لزمه أن يضيف إليه من العلف ما يكفيها، ويطرد هذا في كل حيوان محترم، وإذا امتنع المالك من ذلك،(6/523)
أجبره السلطان في المأكولة على بيعها أو صيانتها عن الهلاك بالعلف أو التخلية للرعي أو ذبحها، وفي غير المأكولة على البيع أو الصيانة، فإن لم يفعل، ناب الحاكم عنه في ذلك على ما يراه ويقتضيه الحال، وعن ابن القطان أنه لا يخليها لخوف الذئب وغيره، فإن لم يكن له مال، باع الحاكم الدابة، أو جزءا منها، أو اكراها، فإن لم يرغب فيها لعمى أو زمانة، أنفق عليها بيت المال كالرقيق. فرع يجوز غصب العلف للدابة إذا لم يجد غيره، ولم يبعه صاحبه، وكذا غصب الخيط لجراحتها، وفيهما وجه ضعيف. فرع يحرم تكليف الدابة ما لا تطيقه، من تثقيل الحمل، وإدامة السير وغيرهما. قلت: يحرم تحميلها ما لا تطيق الدوام عليه، وإن كانت تطيقه يوما ونحوه، كما سبق في الرقيق. والله أعلم. فرع لا يجوز نزف لبن الدابة بحيث يضر ولدها، وإنما يحلب ما فضل عن ري ولدها، قال الروياني: ويعني بالري: ما يقيمه حتى لا يموت، وقد يتوقف في الاكتفاء بهذا، قال المتولي: ولا يجوز الحلب إذا كان يضر البهيمة لقلة العلف، قال: ويكره ترك الحلب إذا لم يكن فيه إضرار بها، لانه تضييع للمال، قال: والمستحب أن لا يستقصي في الحلب، ويدع في الضرع شيئا، وأن يقص الحالب أظفاره لئلا يؤذيها. فرع يبقى للنحل شيئا من العسل في الكوارة، فإن كان أخذه العسل في الشتاء، وزمن تعذر خروج النحل، كان المتبقي أكثر، وإن أقام شيئا مقام العسل لغذائها، لم يتعين إبقاء العسل. كما سبق في الرقيق. والله أعلم. فرع لا يجوز نزف لبن الدابة بحيث يضر ولدها، وإنما يحلب ما فضل عن ري ولدها، قال الروياني: ويعني بالري: ما يقيمه حتى لا يموت، وقد يتوقف في الاكتفاء بهذا، قال المتولي: ولا يجوز الحلب إذا كان يضر البهيمة لقلة العلف، قال: ويكره ترك الحلب إذا لم يكن فيه إضرار بها، لانه تضييع للمال، قال: والمستحب أن لا يستقصي في الحلب، ويدع في الضرع شيئا، وأن يقص الحالب أظفاره لئلا يؤذيها. فرع يبقى للنحل شيئا من العسل في الكوارة، فإن كان أخذه العسل في الشتاء، وزمن تعذر خروج النحل، كان المتبقي أكثر، وإن أقام شيئا مقام العسل لغذائها، لم يتعين إبقاء العسل. فرع دود القز يعيش بورق التوت، فعلى مالكه تخليته لاكله، فإن عز الورق، ولم يعتن المالك به، بيع ماله في تحصيل الورق لئلا يهلك من غير فائدة، فإذا جاء الوقت، جاز تجفيفه بالشمس، وإن كان يهلك لتحصل فائدته.(6/524)
فرع ما لا روح فيه كالعقار والقنى والزرع والثمار، لا يجب القيام بعمارتها، ولا يكره ترك زراعة الارض، لكن يكره ترك سقي الزرع والاشجار عند الامكان لما فيه من إضاعة المال، قال المتولي: ويكره أيضا ترك عمارة الدار إلى أن تخرب، ولا يكره عمارات الدور وسائر العقار للحاجة، والاولى ترك الزيادة، وربما قيل: تكره الزيادة وبالله التوفيق. تم الجزء السادس ويليه الجزء السابع وأوله: " كتاب الجنايات "(6/525)
روضة الطالبين
محيى الدين النووي ج 7(7/)
روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي و منتقي الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبدالموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء السابع دار الكتب العلمية بيروت لبنان(7/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان يطلب من دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ص ب: 9424 / 11 تلكس: 41245 Le naser هاتف: 366135 - 815573(7/2)
كتاب الجنايات
وهي القتل والقطع والجرح الذي لا يزهق ولا يبين، وقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر. قلت: قال البغوي: هو أكبر الكبائر بعد الكفر، وكذا نص عليه الشافعي في كتاب الشهادات من المختصر وتقبل التوبة منه. ولو قتل مسلم، ثم مات قبل التوبة، لا يتحتم دخوله النار، بل هو في خطر المشيئة كسائر أصحاب الكبائر، فإن(7/3)
دخلها، لم يخلد فيها خلافا للمعتزلة والخوارج. والله أعلم. ويتعلق بالقتل الذي هو ليس مباحا سوى عذاب الآخرة مؤاخذات في الدنيا: القصاص والدية والكفارة، لكن لا يجتمع القصاص والدية، لا وجوبا ولا استيفاء، وأما الكفارة فأعم منهما، فتجب مع كل واحد منهما، وقد تنفرد عنهما. قلت: ويتعلق به أيضا التعزير في صور منها: إذا قتل من نساء أهل الحرب أو صبيانهم. والله أعلم. ثم القصاص لا يختص بالنفس، بل يجري في غير النفس من الاطراف وغيرها، والكلام فيه قسمان، أحدهما: في موجب القصاص، والثاني: في حكمه، استيفاء وعفوا، والاول نوعان، قصاص نفس وقصاص طرف وجراحات، فنذكر موجب القصاص وواجبه في النفس ثم في الطرف، أما موجب القصاص في النفس فله ثلاثة أركان: القتل والقتيل والقاتل. الركن الاول: القتل وهو كل فعل عمد محض مزهق للروح عدوان من حيث كونه مزهقا، فهذا هو القتل الذي يتعلق به القصاص، وقولنا: كل فعل، ليشمل الجرح وغيره، وقولنا: عدوان، احتراز من القتل الجائز، وقولنا: من حيث كونه مزهقا، احتراز عما إذا استحق حز رقبته قصاصا فقده نصفين، فإنه لا يتعلق به قصاص، وإن كان عدوانا، لانه ليس بعدوان من حيث كونه مزهقا، وإنما هو عدوان من حيث إنه عدل عن الطريق المستحق(7/4)
فيحتاج إلى بيان العمدية والمزهق، وتعلق القصاص بالمباشرة والسبب، وحكم اجتماع السبب والمباشرة، وبيان حكم اجتماع المباشرتين، وبيان اجتماع السببين، فأما اجتماع السببين، فمؤخر إلى كتاب الديات، وأما الاربعة الباقية، فنعقد فيها أطرافا:
الطرف الأول : في بيان العمدية، وتمييز العمد من الخطأ وشبه العمد، فإذا صدر منه فعل قتل غيره، نظر، إن لم يقصد أصل الفعل بأن زلق، فسقط على غيره، فمات به، أو تولد الهلاك من اضطراب يد المرتعش، أو لم يقصد الشخص وإن قصد الفعل، بأن رمى صيدا، فأصاب رجلا، أو قصد رجلا، فأصاب غيره، فهذا خطأ محض لا يتعلق به قصاص، وإن قصد الفعل والشخص معا، فهذا قد يكون عمدا محضا، وقد يكون شبه عمد، وفي التمييز بينهما عبارات للاصحاب يجمعها أربعة أوجه، أحدها: أنه إذا وجد القصدان وعلمنا حصول الموت بفعله، فهو عمد محض، سواء قصد الاهلاك، أم لا، وسواء كان الفعل مهلكا غالبا، أم نادرا، كقطع الانملة، وإن شككنا في حصول الموت به، فهو شبه عمد، والثاني: إن ضربه بجارح، فالحكم على ما ذكرنا، وإن ضربه بمثقل، اعتبر مع ذلك في كونه عمدا أن يكون مهلكا غالبا، فإن لم يكن مهلكا غالبا، فهو شبه عمد، واعترض الغزالي على الاول، بأنه لو ضرب كوعه بعصا، فتورم الموضع، ودام الالم حتى مات، فقد علمنا حصول الموت به ولا قصاص فيه، بل تجب الدية، وعلى الثاني بأن العمدية أمر حسي لا يختلف بالجارح والمثقل، وكما يؤثر الجارح في الظاهر بالشق يؤثر المثقل في الباطن بالترضيض، وفي كلام الامام نحو هذا، والوجه الثالث واختاره الغزالي: أن لافضاء الفعل إلى الهلاك ثلاث مراتب: غالب وكثير ونادر، والكثير: هو المتوسط بين الغالب والنادر، ومثاله، الصحة والمرض والجذام، فالصحة هي الغالبة في الناس، والمرض كثير ليس بغالب، والجذام نادر، فإن ضربه بما يقتل غالبا، جارحا كان أو مثقلا، فعمد، وإن كان يقتل كثيرا فهو عمد إن كان جارحا كالسكين الصغير، وإن كان مثقلا، كالسوط والعصا، فشبه عمد، وإن كان يقتل نادرا، فلا قصاص، مثقلا كان أو جارحا، كغرز إبرة لا يعقبه ألم ولا ورم، والفرق بين الجارح والمثقل على هذا الوجه أن الجراحة لها أثر في الباطن قد يخفى، ولان الجرح وهو طريق الاهلاك غالبا بخلاف المثقل، والوجه الرابع وهو(7/5)
الذي اقتصر عليه الجمهور، أنه إن ضربه بما يقتل غالبا، فعمد محض، وإن لم يقتل غالبا، فشبه عمد، فهذه عبارات الاصحاب في التمييز، والقصاص مختص بالعمد المحض دون الخطأ وشبه العمد. فرع جرحه بمحدد من حديد أو خشب أو حجر أو قصب أو زجاج أو نحاس أو غيرها، فمات في الحال أو بعد مدة بسراية تلك الجراحة وجب القصاص. والطعن بالسنان، وغرز المسلة كالضرب بالسيف، وهذا في الجراحات التي لها تأثير، فأما إبانة فلقة من اللحم خفيفة فهو كغرز الابرة كذا ذكره الامام، وإذا غرز إبرة فمات، نظر، إن غرزها في مقتل، كالدماغ والعين وأصل الاذن والحلق وثغرة النحر والاخدع، وهو عرق العنق، والخاصرة والاحليل والانثيين والمثانة والعجان، وهو ما بين الخصية والدبر، وجب القصاص، وإن غرزها في غير مقتل، نظر، إن ظهر أثر الغرز بأن تورم الموضع، للامعان في الغرز، والتوغل في اللحم، وبقي متألما إلى أن مات، وجب القصاص على المذهب، وحكى ابن كج وابن الصباغ فيه(7/6)
وجهين وإن لم يظهر أثر، ومات في الحال، فثلاثة أوجه، أصحها: لا يجب القصاص، ولكنه شبه عمد، فيجب الدية، والثاني: يجب القصاص، والثالث: لا يجب قصاص ولا دية، وفي الرقم للعبادي أن الغرز في بدن الصغير والشيخ الهم ونضو الخلق، يوجب القصاص بكل حال، ولو غرز إبرة في جلدة العقب ونحوها، ولم يتألم به، فمات، فلا قصاص ولا دية، لعلمنا بأنه لم يمت به، والموت عقبه موافقة قدر، فهو كما لو ضربه بقلم، أو ألقى عليه خرقة، فمات في الحال. في فرع لو ضربه بمثقل كبير يقتل غالبا كحجر، أو دبوس كبيرين، أو أحرقه، أو صلبه، أو هدم عليه حائطا، أو سقفا، أو أوطأه دابة، أو دفنه حيا، أو عصر خصيته عصرا شديدا، فمات، وجب القصاص، وإن ضربه بسوط، أو عصا خفيفة، أو رماه بحجر صغير، نظر، إن والى به الضرب حتى مات، أو اشتد الالم، وبقي متألما حتى مات، وجب القصاص، وإن لم يوال واقتصر على سوط أو سوطين، فإن كان في مقتل، أو في شدة الحر أو البرد المعينين على الهلاك، أو كان المضروب صغيرا أو ضعيفا بأصل الخلقة أو بعارض، وجب القصاص، لانه مهلك غالبا، وإن لم يكن شئ من ذلك، فهو شبه عمد، وإن خنقه، أو وضع على فمه يده، أو مخدة ونحوها حتى مات بانقطاع النفس، وجب القصاص، وإن خلاه وهو حي، وجب القصاص أيضا إن انتهى إلى حركة المذبوح، أو ضعف وبقي متألما حتى مات، وإن زال الضعف والالم، ثم مات، فقد انقطع أثر ذلك الفعل،(7/7)
فإن كانت مدة الامساك على الفم قصيرة لا يموت مثله في مثلها غالبا، فهو شبه عمد. فرع لو ضربه اليوم ضربة، وغدا ضربة، وهكذا فرق الضربات حتى مات، فوجهان حكاهما ابن كج، لان الغالب السلامة عند تفريق الضربات، وقال المسعودي: لو ضربه ضربة وقصد أن لا يزيد، فشتمه، فضربه ثانية، ثم شتمه، فضربه ثالثة حتى قتله، فلا قصاص لعدم الموالاة، وينبغي أن لا ينظر إلى صورة الموالاة ولا تقدر مدة التفريق، بل يعتبر أثر الضربة السابقة والآلام الحاصلة بها، فإن بقيت ثم ضربه أخرى، فهو كما لو والى. فرع الضرب بجمع الكف، كالضرب بالعصا الخفيفة. فرع لو سقاه دواء أو سما لا يقتل غالبا، لكنه يقتل كثيرا، فهو كغرز الابرة في غير مقتل، لان في الباطن أغشية رقيقة تنقطع به، وفي إلحاقه بالمثقل احتمال. فرع حبسه في بيت فمات جوعا، أو عطشا، نظر، إن كان عنده طعام وشراب فلم يتناوله خوفا أو حزنا، أو أمكنه طلبه ولو بالسؤال، فلم يفعل، لم يجب على حابسه قصاص ولا ضمان، لان المحبوس قتل نفسه، وإن منعه الطعام والشراب، ومنعه الطلب حتى مات، نظر، إن مضت مدة يموت مثله فيها غالبا بالجوع أو العطش، وجب القصاص، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفا، والزمان حرا وبردا، وإن لم تمض هذه المدة، ومات، فإن لم يكن به جوع أو عطش سابق، فهو شبه عمد، وإن كان به بعض جوع أو عطش، ففي وجوب القصاص ثلاثة أقوال، أظهرها: أنه إن علم الحابس جوعه السابق، لزمه القصاص، وإلا فلا، والثاني: يجب القصاص في الحالين، والثالث: عكسه، وشبهوا الجاهل بمن دفع رجلا دفعا خفيفا، فسقط على سكين وراءه، والدافع جاهل بها، لا قصاص عليه، فإن أوجبنا القصاص، وجبت دية عمد بكمالها إن كان عالما، ودية شبه عمد إن كان جاهلا، وإن لم نوجب القصاص، فقولان،(7/8)
أحدهما: تجب الدية بكمالها، وإنما سقط القصاص للشبهة، وأظهرهما وبه قطع الاكثرون: تجب نصف دية العمد، أو شبه العمد. ولو منعه الشراب دون الطعام، فلم يأكل المحبوس خوفا من العطش، فمات، فلا قصاص قطعا، ولا ضمان أيضا على الاصح، وبه قطع البغوي، لانه المهلك نفسه، وقال القفال: يجب، ولو حبسه، وراعاه بالطعام والشراب، فمات في الحبس، فإن كان عبدا، ضمنه باليد، وإن كان حرا، فلا ضمان أصلا، سواء مات حتف أنفه، أو بانهدام سقف، أو جدار عليه، أو بلسع حية ونحوها. ولو حبسه وعراه حتى مات بالبرد، فهو كما لو حبسه، ومنعه الطعام والشراب، ذكره القاضي حسين. ولو أخذ طعامه، أو شرابه، أو ثيابه في مفازة، فمات جوعا، أو عطشا، أو بردا، فلا ضمان، لانه لم يحدث فيه صنعا. فرع لو سحر رجلا، فمات، سألناه، فإن قال: قتلته بسحري، وسحري يقتل غالبا، لزمه القصاص، وإن قال: قد يقتل، والغالب أنه لا يقتل، فهو إقرار بشبهة العمد، وإن قال: قصدت غيره، فتأثر به لموافقة الاسم الاسم، فهو إقرار بالخطإ، وفي الحالين دية شبه العمد، والخطأ يكون في ماله، ولا يلزم العاقلة إلا أن يصدقوه، وسيعود ذكر السحر إن شاء الله تعالى في كتاب الديات، ثم في كتاب دعوى الدم، ولنا وجه ضعيف مذكور هناك، أن السحر لا حقيقة له، فلا قصاص فيه.
الطرف الثاني : في بيان المزهق.
فالفعل الذي له مدخل في الزهوق، إما أن لا يؤثر في حصول الزهوق، ولا في حصول ما يؤثر في الزهوق، وإما أن يؤثر في الزهوق ويحصله، وإما أن يؤثر في حصول ما يؤثر في الزهوق، فأما الاول، فكحفر البئر مع التردي أو التردية، وكالامساك مع القتل، وأما الثاني فكالقد، وحز الرقبة، والجراحات السارية، وأما الثالث، فكالاكراه المؤثر في القد، فالاول شرط، والثاني علة، والثالث سبب، ولا يتعلق القصاص بالشرط، ويتعلق بالعلة، وكذا بالسبب على تفصيل وخلاف سنراه إن شاء الله تعالى. ثم السبب ثلاثة أضرب:(7/9)
الاول: ما يولد المباشرة توليدا حسيا، وهو الاكراه، فإذا أكرهه على قتل بغير حق، وجب القصاص على الآمر على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور، وعن ابن سريج أنه لا قصاص، لانه متسبب، والمأمور مباشر آثم بفعله، والمباشرة مقدمة، وقد سبق بيان حقيقة الاكراه في كتاب الطلاق، والذي مال إليه المعتبرون هنا ورجحوه، أن الاكراه على القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل، أو ما يخاف منه التلف، كالقطع والجرح والضرب الشديد بخلاف الطلاق، وحكم الاكراه الصادر من الامام أو نائبه أو المتغلب سواء فيما ذكرناه. الضرب الثاني: ما يولدها شرعا وهو الشهادة، فإذا شهدوا على رجل بما يوجب قتله قصاصا، أو بردة، أو زنى وهو محصن، فحكم القاضي بشهادتهم وقتله بمقتضاها، ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، لزمهم القصاص، ولو شهدوا بما يوجب القطع قصاصا، أو في سرقة، فقطع، ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا، لزمهم القطع، وإن سرى فعليهم القصاص في النفس، وإن رجع الشهود وقالوا: لم نعلم أنه يقتل بقولنا، أو رجع المزكي أو القاضي أو الوالي وحده أو مع الشهود، فسيأتي بيان كل ذلك في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. وإنما يجب القصاص على الشهود بالرجوع واعترافهم بالتعمد، لا بكذبهم، حتى لو تيقنا كذبهم بأن شاهدنا المشهود بقتله حيا، فلا قصاص عليهم لاحتمال أنهم لم(7/10)
يتعمدوا، ولا يلزمهم القصاص بالرجوع إلا إذا أخرجت شهادتهم مباشرة الولي عن كونها عدوانا، أما إذا اعترف الولي بكونه عالما بكذبهم، فلا قصاص عليهم، وعلى الولي القصاص، رجعوا أم لم يرجعوا. الضرب الثالث: ما يولدها توليدا عرفيا، كتقديم الطعام المسموم، فإذا أوجروه سما صرفا، أو مخلوطا وهو مما يقتل غالبا، سواء كان موحيا أو غير موح، فمات، لزمه القصاص، وإن كان لا يقتل غالبا وقد يقتل فهو شبه عمد، فلا قصاص على المشهور، وحكى ابن كج قولا: إنه يجب القصاص، لان للسم نكاية في الباطن كالجرح، فعلى المشهور لو كان السم لا يقتل غالبا، لكن أوجره ضعيفا بمرض أو غيره ومثله يقتل مثله غالبا، وجب القصاص، ولو قال المؤجر: كان مما لا يقتل غالبا، ونازعه الولي، فالقول قول المؤجر بيمينه، فإن ساعدته بينة، فلا يمين عليه، وإن أقام الولي بينة على ما يقوله، وجب القصاص، ولو اتفقا على أنه كان من هذا السم الحاضر، وشهد عدلان أنه يقتل غالبا، وجب القصاص، ولو قال: لم أعلم أنه سم، أو لم أعلم أنه يقتل غالبا، ونازعه الولي، فهل يصدق المؤجر ؟ قولان، قال الروياني: فيما إذا قال: لم أعلم كونه قاتلا، أظهرهما: لا يصدق، فيجب القصاص، ولو لم يوجره السم القاتل، لكن أكرهه على شربه، فشربه، قال الداركي وغيره: في وجوب القصاص قولان، أظهرهما: الوجوب، والوجه أن يكون هذا كإكراهه على قتل نفسه، وسيأتي إن شاء الله تعالى. فرع لو ناوله الطعام المسموم وقال: كله، أو قدمه إليه وضيفه به، فأكله، ومات به، فإن كان صبيا أو مجنونا، لزمه القصاص، سواء قال لهما: هو(7/11)
مسموم أم لا، وذكروا مثله في الاعجمي الذي يعتقد أنه لا بد من الطاعة في كل ما يشار عليه به، ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره، ولا نظروا إلى أن عمد الصبي عمد أم خطأ، وللنظرين محال، وإن كان بالغا عاقلا، فإن علم حال الطعام، فلا شئ على المناول والمقدم، بل الآكل هو المهلك نفسه، وإلا ففي القصاص قولان، وهما جاريان فيما لو غطى رأس بئر في دهليزه، ودعا إلى داره ضيفا، وكان الغالب أنه يمر على ذلك الموضع إذا أتاه، فأتاه وهلك بها، أظهرهما: لا قصاص، وطرد البغوي القولين فيما لو قال: كل، وفيه شئ من السم، لكنه لا يضرك، وفيما إذا جعل السم في جرة ماء على الطريق فشرب منه، ومات، ولتكن الصورة فيما إذا كان على طريق شخص معين، إما مطلقا، وإما في ذلك الوقت، وإلا فلا تتحقق العمدية، فإذا قلنا: لا قصاص، وجبت الدية على الاظهر، فإن هذا أقوى من حفر البئر، وفي قول: لا تجب تغليبا للمباشرة، ولو دس السم في طعام رجل، فأكله صاحبه جاهلا بالحال، ومات، فطريقان، أصحهما: أنه على القولين، إذا كان الغالب أنه يأكل منه، والثاني: القطع بالمنع، لانه لم يوجد منه تغرير، ولا حمل على الاكل، وإنما وجد منه إتلاف طعامه، فعليه ضمانه، ولو دسه في طعام نفسه فدخل شخص داره بغير إذنه وأكله، فلا ضمان، فإن كان الرجل ممن يدخل داره، ويأكل انبساطا، فهل يجري القولان في القصاص، أم يقطع بنفيه ؟ طريقان.(7/12)
فصل فيما إذا جرى سبب وقدر المقصود على دفعه وفيه مسائل: إحداها: جرحه جراحة مهلكة، فلم يعالجها المجروح حتى مات، وجب القصاص على الجارح، لان مجرد الجراحة مهلك، بخلاف ما لو حبسه والطعام عنده فلم يأكل حتى مات، لان الحبس بمجرده ليس مهلكا. الثانية: غرقه في ماء، فإن أمسكه فيه حتى مات، أو تركه وفيه حياة، ولكن تألم به، وبقي متألما حتى مات، فعليه القصاص، وإن ألقاه في الماء، فمات به، نظر إن كان الماء بحيث لا يتوقع الخلاص منه كلجة البحر التي لا تنفع فيها السباحة، وجب القصاص، سواء كان الملقى يحسن السباحة أم لا، وإن كان يتوقع الخلاص منه، فإن كان قليلا لا يعد مثله مغرقا، بأن كان راكدا في موضع منبسط، فمكث الملقى فيه مضطجعا، أو مستلقيا حتى هلك، فلا قصاص ولا دية، فإنه المهلك نفسه، ومثله لو فصده فلم يعصب نفسه حتى مات، لان الدفع موثوق به، لكن لو كتفه وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص، فعليه القصاص، وإن كان يعد مغرقا كالانهار الكبار التي لا يخلص منها إلا بالسباحة، فإن كان الملقى مكتوفا، أو صبيا، أو زمنا، أو ضعيفا، أو قويا لا يحسن السباحة، وجب القصاص، وإن كان يحسنها، فمنعه منها عارض موج، أو ريح، فلا قصاص، ولكنه شبه عمد، وإن ترك السباحة بلا عذر، حزنا أو لجاجا، ففي وجوب الدية وجهان، أو قولان، أصحهما: لا تجب، وقيل: لا تجب قطعا، وقيل: عكسه، ولا قصاص على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: يجب إن أوجبنا الدية. المسألة الثالثة: لو ألقاه في نار لا يمكنه الخلاص منها، لعظمها أو كونها في وهدة، أو كونه مكتوفا، أو زمنا، أو صغيرا، فمات فيها، أو خرج منها متأثرا متألما، وبقي متألما إلى أن مات، فعليه القصاص، وإن أمكنه التخلص، فلم يفعل حتى هلك، فلا تجب الدية على الاظهر، ولا قصاص على الصحيح،(7/13)
ولكن يجب ضمان ما تأثر بالنار بأول الملاقاة قبل تقصيره في الخروج، سواء كان أرش عضو أو حكومة قطعا. فرع قال الملقي: كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه من ماء أو نار، فقصر، وقال الولي: لم يمكنه، فأيهما يصدق بيمينه ؟ وجهان، ويقال: قولان، لتعارض براءة الذمة، مع أن الظاهر أنه لو تمكن لخرج. قلت: الراجح تصديق الولي. والله أعلم. فرع كتفه وطرحه على الساحل، فزاد الماء وهلك به، إن كان في موضع يعلم زيادة الماء فيه، كالمد بالبصرة، وجب القصاص، وإن كان قد يزيد، وقد لا يزيد، فهو شبه عمد، وإن كان بحيث لا يتوقع زيادته، فاتفق سيل نادر، فخطأ محض.
الطرف الثالث : في اجتماع السبب والمباشرة، أو الشرط. أما الشرط والمباشرة إذا اجتمعا، فالقصاص والدية يتعلقان بالمباشرة فقط، فلو حفر بئرا في محل عدوان أو غيره، فردي رجل فيها شخصا، فالضمان على المردي دون الحافر، ولو أمسك رجلا، فقتله آخر، فالضمان على القاتل، ولا شئ على الممسك، إلا أنه يأثم إذا أمسكه للقتل، ويعزر. هذا في الحر، أما لو كان المقتول عبدا، فيطالب الممسك بالضمان باليد والقرار على القاتل، ولو أمسك محرم صيدا، فقتله محرم آخر، فقرار الضمان على القاتل، وتتوجه المطالبة على الممسك، هذا هو المذهب، وفيه خلاف سبق في الحج. ولو قدم صبيا إلى هدف، فأصابه سهم كان أرسله الرامي قبل تقديم الصبي، فقتله، فالرامي كالحافر، والمقدم كالمردي، فعليه القصاص، أما إذا اجتمع السبب والمباشرة فهو ثلاثة أضرب:(7/14)
أحدها: أن يغلب السبب المباشرة، بأن أخرجها عن كونها عدوانا مع توليده لها، مثل أن شهدوا عليه بما يوجب الحد، فقتله القاضي، أو جلاده، أو بما يوجب القصاص، فقتله الولي أو وكيله، فالقصاص على الشهود، دون القاضي والولي ونائبهما. الضرب الثاني: أن يصير السبب مغلوبا، بأن رماه من شاهق، فتلقاه رجل بسيف، فقده نصفين، أو ضرب رقبته قبل وصوله الارض، فالقصاص على القاد، ولا شئ على الملقي، سواء عرف الحال أم لا، وفي وجه: يجب عليه الضمان بالمال، لا بالقصاص، والصحيح: الاول. ولو ألقاه في ماء مغرق، كلجة بحر، فالتقمه حوت، فعلى الملقي القصاص على الصحيح المنصوص، وخرج الربيع قولا: إنه لا قصاص، لكن تجب دية مغلظة، وقيل: إن التقمه الحوت قبل الوصول إلى الماء، فلا قصاص، كمسألة القاد، وإلا فيجب، والصحيح أنه لا فرق، وفي كلام الشيخ أبي حامد وغيره من العراقيين، ما يشعر بأن القولين في الالتقام قبل وصوله الماء، والقطع بوجوب القصاص إذا كان بعده، وفرق الامام بين مسألة القد والالتقام، بأن القد قتل صدر من فاعل مختار بفعل وروية، فيقطع أثر السبب الاول، والحوت يلتقم بطبعه كالسبع الضاري، فلم يقطع أثر السبب الاول، ولذلك قلنا: لو أمسكه، فقتله آخر، فالقصاص على القاتل دون الممسك، ولو أمسكه وهدفه لوثبة سبع ضار، فافترسه، فالقصاص على الممسك، لان الحيوان الضاري يفعل بطبعه عند التمكن، وكأنه آلة لصاحب السبب الاول نازل منزلة ما لو ألقاه في بئر وكان في سفلها نصل منصوب فمات به، فالقصاص على الملقي، بخلاف ما إذا كان الطارئ فعل صاحب رأي، فإنه يبعد تنزيله منزلة الآلة، وبني على هذا أنه لو كان في سفل البئر حية عادية بطبعها، أو نمر ضار، فقتله، وجب القصاص على المردي، ولو كان هناك مجنون ضار على طبع السباع، فكذلك، وإن لم يكن ضاريا، كان كالعاقل في إسقاط الضمان عن المردي، فلم يجعل الهلاك الحاصل بالسبع الضاري كالتلقي بالسيف، وأطلق البغوي نفي الضمان إذا(7/15)
افترسه السبع قبل أن يصل إلى الارض، ولا فرق في مسألة القد، بين أن يكون القاد ممن يضمن أو ممن لا يضمن، كالحربي، ولو رفع الحوت رأسه، فألقمه فاه، لزمه القصاص بلا خلاف، ولو ألقاه في ماء غير مغرق، فالتقمه حوت، فلا قصاص قطعا، لانه لم يقصد إهلاكه، ولم يشعر بسبب الهلاك، فأشبه ما لو دفع رجلا دفعا خفيفا، فألقاه، فجرحه بسكين كان هناك لم يعلم به الدافع، فلا قصاص، ولكن تجب في الصورتين دية شبه العمد، كذا ذكره ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، وحكاه ابن كج عن الاصحاب، ثم قال: ينبغي أن لا تتعلق به دية كما لا يتعلق به قصاص. الضرب الثالث: أن يعتدل السبب والمباشرة، كالاكراه، فإذا أكره على القتل، وجب القصاص على الآمر، كما سبق، وفي المأمور قولان، أظهرهما: وجوب القصاص أيضا، لانه آثم بالاتفاق بخلاف قتل الصائل، وسواء في جريان القولين كان المكره سلطانا أو متغلبا، وقيل: هما في السلطان، فإن كان متغلبا، وجب القصاص قطعا، فإن أوجبنا القصاص، فآل الامر إلى الدية، فهي عليهما كالشريكين، وللولي أن يقتص من أحدهما، ويأخذ نصف الدية من الآخر، وإن لم نوجب القصاص على المأمور، ففي وجوب نصف الدية، وجهان، أحدهما: لا يجب، تنزيلا له منزلة الآلة، وأصحهما: يجب وهو المنصوص، وبه قطع الاكثرون، فإن أوجبناه، وجبت الكفارة، وحرم الميراث، وهل تكون نصف الدية في ماله أم على عاقلته ؟ فيه تردد للامام. قلت: الارجح أنه في ماله. والله أعلم. وإن قلنا: لا دية، وجبت الكفارة على الاصح، لانه آثم، فإن أوجبنا الكفارة، حرم الارث، وإلا فوجهان، أصحهما: الحرمان.(7/16)
فرع إذا أوجبنا القصاص على المكره والمكره جميعا، وكان أحدهما مكافئا للمقتول دون الآخر، وجب القصاص على المكافئ دون الآخر، كشريك الاب، فإذا أكره عبد حرا على قتل عبد، أو ذمي مسلما على قتل ذمي، وجب القصاص على الآمر دون المأمور، ولو أكره حر عبدا على قتل عبد، أو مسلم ذميا على قتل ذمي، فالقصاص على المأمور، ولو أكره الاب أجنبيا على قتل الولد، أو الاجنبي الاب، فالقصاص على الاجنبي. فرع إذا أكره بالغ صبيا مراهقا على قتل، فلا قصاص على الصبي، وأما المكره، فيبنى على أن عمد الصبي عمد أم خطأ ؟ فإن قلنا: عمد وهو الاظهر، فعليه القصاص، وإن قلنا: خطأ، فلا، لانه شريك مخطئ، قال الامام: هذا إذا قلنا: يجب القصاص على المكره والمكره، وجعلناهما كالشريكين، فأما إن قلنا: لا قصاص على المكره، ففي وجوب القصاص على المكره مع قولنا عمد الصبي خطأ، وجهان، وأما الدية، فجميعها على المكره إن لم نوجب على المكره شيئا، وإن أوجبنا عليه نصفها، فنصفها على المكره، ونصفها في مال الصبي إن قلنا: عمده عمد، وإن قلنا: خطأ، فعلى عاقلته، ولو أكره مراهق بالغا، فلا قصاص على المراهق، وفي البالغ: القولان، إن قلنا: عمد الصبي عمد، وإن قلنا: خطأ، فلا قصاص قطعا، لانه شريك مخطئ. فرع أكره رجل رجلا على أن يرمي إلى طلل علم الآمر أنه إنسان، وظنه المأمور حجرا أو صيدا، أو على أن يرمي سترة وراءها إنسان، وعلمه الآمر دون المأمور، فلا قصاص على المأمور، ويجب على الآمر على الصحيح، فإنه آلة له، ووجه المنع أنه شريك مخطئ، فإن آل الامر إلى الدية، فوجهان، أحدهما: تجب كلها على الآمر واختاره البغوي، والثاني: عليه نصفها وعلى عاقلة المأمور نصفها، ولو أكرهه على أن يرمي إلى صيد، فرمى، وأصاب رجلا فقتله، فلا قصاص على واحد منهما، لانهما لم يتعمدا، وأما الدية فجميعها على عاقلة الآمر إن لم نضمن المكره، وإلا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصفها، ولو أكرهه على(7/17)
صعود شجرة، أو نزول بئر، ففعل، فزلق وهلك، فالصحيح أنه شبه عمد، فلا قصاص، لانه لا يقصد به القتل غالبا، وهذا هو الذي ذكره الفوراني والبغوي والروياني، وقال الغزالي: يجب القصاص. فرع لو قال: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، ففي وجوب القصاص، قولان، أظهرهما: لا يجب، فإن أوجبناه، فعفي عنه على مال، وجب جميع الدية، وإن لم نوجبه، فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكره، وجميعها إن لم نوجبه، ويجري القولان، فيما لو أكرهه على شرب سم، فشربه وهو عالم به، وإن كان جاهلا، فعلى المكره القصاص قطعا، ولو قال: اقطع يدك وإلا قتلتك، فهو إكراه قطعا، ذكره أبو الحسن العبادي. فرع قال: اقتلني وإلا قتلتك، فهذا إذن منه في القتل وإكراه، ولو تجرد الاذن، فقتله المأذون له، ففي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب للورثة ابتداء عقب هلاك المقتول، أم تجب للمقتول في آخر جزء من حياته ثم تنتقل إليهم ؟ إن قلنا بالاول، وجبت ولم يؤثر إذنه، وإلا فلا، وهذا الثاني أظهر، كذا ذكره البغوي والغزالي وغيرهما، لانه ينفذ منها ديونه ووصاياه، ولو كانت للورثة لم(7/18)
يكن كذلك، وأما القصاص، فلا يجب على المذهب، وبه قطع الجمهور، وعن سهل الصعلوكي طرد الخلاف فيه، ولو قال: اقطع يدي، فقطعها، فلا قصاص ولا دية قطعا، لانه إتلاف مأذون فيه، فصار كإتلاف ماله بإذنه، ولو أذن عبد في القتل، أو القطع، لم يسقط الضمان، وفي وجوب القصاص إذا كان المأذون له عبدا، وجهان، أما إذا انضم الاكراه إلى الاذن، فسقوط القصاص أقوى، وأما الدية، فإن لم نوجبها عند تجرد الاذن فمع الاكراه أولى، وإن أوجبناها، بني على أن المكره هل عليه نصف الدية ؟ إن قلنا: نعم، فعليه نصفها، وإلا فلا. واعلم أن الائمة نقلوا أن المكره على قتله، يجوز له دفع الآمر والمأمور جميعا، وأنه لا شئ عليه إذا قتلهما، وأن للمأمور دفع الآمر، ولا شئ عليه إذا أتى الدفع على نفسه، فعلى هذا إذا قتله دفعا ينبغي أن يحكم بأنه لا قصاص ولا دية بلا تفصيل ولا خلاف، وقد أشار إلى هذا أبو الحسن العبادي فقال: إذا قال: اقتلني وإلا قتلتك، فإن لم يقتله، فهو استسلام، وإن قتله، فهو دفع، ويمكن أن يقال: موضع التفصيل والخلاف ما إذا أمكنه الدفع بغير القتل، وإنما لا يلزمه شئ إذا لم يمكنه الدفع بغيره، ولو قال: اقذفني وإلا قتلتك، فقذفه، فقيل: لا حد، كما لو قال: اقطعني، قال البغوي: والصحيح وجوبه، لانه قد يستعين بالغير في قتل نفسه وقطعه، ولا يستعان به في القذف، فجعل القاذف مبتدئا. قلت: هذا الذي قاله البغوي عجب، والصواب: أنه لا حد. والله أعلم. فرع لو قال: اقتل زيدا أو عمرا وإلا قتلتك، فهذا ليس بإكراه، بل تخيير، فمن قتله منهما كان مختارا لقتله، وإنما المكره من حمل على قتل معين لا يجد عنه محيصا، وفي الرقم وجه أنه إكراه، ونقله المتولي عن اختيار القاضي حسين، وليجئ مثله في الطلاق، والصحيح الاول، فعلى هذا من قتله منهما،(7/19)
لزمه القصاص، ولا شئ على الآمر غير الاثم. فرع لو أكره رجلا على أن يكره ثالثا على قتل رابع، ففعلا، وجب القصاص على الآمر، وفي الثاني والثالث: القولان، لانهما مكرهان.
فصل إذا أمره السلطان بقتل رجل ظلما، فقتله المأمور، نظر إن ظن المأمور أنه يقتله بحق، فلا شئ على المأمور، لان الظاهر أنه لا يأمر إلا بحق، ولان طاعة السلطان واجبة فيما لا يعلم أنه معصية، واستحب الشافعي رحمه الله أن يكفر لمباشرته القتل، وأما الآمر، فعليه القصاص، أو الدية والكفارة، وإن علم المأمور أنه يقتله ظلما، فهل ينزل أمره منزلة الاكراه ؟ وجهان، ويقال: قولان، أحدهما: لا، وإنما الاكراه بالتهديد صريحا كما في غير السلطان، فعلى هذا لا شئ على الآمر سوى الاثم، ويلزم المأمور القصاص، أو الدية والكفارة، والثاني: ينزل منزلة الاكراه لعلتين، إحداهما: أن الغالب من حالة السطوة عند المخالفة، والثاني: أن طاعته واجبة في الجملة، فينتهض ذلك شبهة، فإذا نزلناه منزلة الاكراه، فعلى الآمر القصاص، وفي المأمور، القولان في المكره، ولو أمره صاحب الشوكة من البغاة، كان كأمر إمام العدل، لان أحكامه نافذة، ولو أمره غير السلطان بالقتل بغير الحق، كالزعيم والمتغلب، فقيل: نظر، إن لم يخف من مخالفته المحذور، فعلى المأمور القصاص أو الدية والكفارة، وليس على الآمر إلا الاثم، ولا فرق بين أن يعتقده حقا، أو يعرف كونه ظلما، لانه ليس بواجب الطاعة، وإن كان يخاف من مخالفته المحذور، بأن اعتيد منه ذلك، ففيه الخلاف المذكور في الامام أن المعلوم هل يجعل كالملفوظ به، والقياس جعله كالملفوظ، وإلى ترجيحه مال الغزالي وغيره، وفي أمر السلطان مقتضى ما ذكره الجمهور تصريحا ودلالة لا ينزل منزلة الاكراه، فحصل من هذا أن أمر السلطان من حيث هو سلطان لا أثر له، وإنما النظر إلى خوف المحذور. فرع لو أمر السيد عبده بقتل رجل ظلما فقتله، فإن كان العبد مميزا لا يرى طاعة السيد واجبة في كل ما يأمره به، فالقصاص على العبد، ولا شئ على السيد(7/20)
سوى الاثم، فإن عفا، أو كان مراهقا، تعلق الضمان برقبته، وكذا لو أمره بإتلاف مال، فأتلفه، وإن كان صغيرا لا يميز، أو مجنونا ضاريا، أو أعجميا يرى طاعة السيد واجبة في كل شئ، فهو كالآلة، والقصاص أو الدية على السيد. وفي تعلق المال برقبة مثل هذا العبد، وجهان، أحدهما: نعم، لانه متلف، وأصحهما: لا، لانه كالآلة، فأشبه ما لو أغرى بهيمته على إنسان فقتلته، لا يتعلق بها ضمان، ولو أمر عبد غيره، فكذلك الحكم إن كان العبد بحيث لا يفرق بين أمر سيده وغيره، ويسارع إلى ما يؤمر به، فإن قلنا: يتعلق الضمان برقبته، فبيع فيه، فعلى الآمر قيمته للسيد، وإذا لم تف قيمته بالواجب، فعلى الآمر الباقي، وكذا لو كان الآمر السيد، وليس هذا التعلق كتعلق الارش برقبة سائر العبيد، ولو أمر أجنبي هذا العبد بقتل نفسه، ففعل، فعلى الآمر الضمان إن كان صغيرا أو مجنونا، ولا يجب إن كان أعجميا، لانه لا يعتقد وجوب الطاعة في قتل نفسه بحال، لكن لو أمره ببط جراحة أو فتح عرق على مقتل، وجب الضمان، لانه لا يظنه قاتلا، فيجوز أن يعتقد وجوب الطاعة، هكذا حكي عن النص، فإن كان الاجنبي الآمر عبدا، فليكن القصاص على هذا التفصيل، كما سيأتي نظيره إن شاء الله تعالى. فرع لو أمر رجل صبيا أو مجنونا حرا بقتل شخص، فقتله، قال البغوي: إن كان لهما تمييز، فلا شئ على الآمر سوى الاثم، وتجب الدية في مال المأمور مغلظة، إن قلنا: عمده عمد، وإن قلنا: خطأ، فعلى عاقلته مخففة، وإن لم يكن لهما تمييز، وكانا يسارعان إلى ما أغريا به، أو كان المجنون ضاريا، فالقصاص أو كمال الدية على الآمر، وليا كان، أو أجنبيا، ولو أمر أحدهما بقتل نفسه، ففعل، فعلى الآمر القصاص، ولو أن مثل هذا الصبي أو المجنون قتل، أو أتلف مالا من غير أمر أحد، ففي تعلق الضمان بهما الخلاف السابق في التعلق برقبة العبد، لانه يشبه إتلاف البهيمة العادية، ذكره الشيخ أبو محمد. قلت: قال أصحابنا: لو أمر صبيا لا يميز بصعود شجرة، أو نزول بئر،(7/21)
ففعل، فسقط فهلك، فعلى عاقلة الآمر الدية. والله أعلم. فرع لو أكره رجل عبدا صغيرا مميزا على قتل، فقتل، فهل تتعلق الدية برقبته ؟ قال الامام: يبنى على أن المكره الحر هل تلزمه الدية ؟ إن قلنا: نعم، فنعم، وإلا ففي التعلق برقبته الخلاف السابق في التعليق برقبة العبد الاعجمي، لنزوله منزلة الآلة. فرع لو أمره الامام بصعود شجرة، أو نزول بئر، فامتثل، فهلك به، فإن قلنا: أمره ليس بإكراه، فلا ضمان، كما لو أمره أحد الرعية، وإن قلنا: إكراه، فإن كان يتعلق بمصلحة المسلمين، فالضمان على عاقلة الامام، أو في بيت المال ؟ فيه القولان المعروفان في نظائره، وإن تعلق به خاصة، فالضمان على عاقلته.
فصل فيما يباح بالإكراه
الإكراه على القتل المحرم لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق إذا قتل، وكذا لا يباح الزنى بالاكراه، ويباح بالاكراه شرب الخمر والافطار في رمضان، والخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير، ويباح أيضا كلمة الكفر، وفي وجوب التلفظ بهما وجهان، أحدهما: نعم حفظا لنفسه، كما يجب أكل الميتة للضرورة، والثاني - وهو الصحيح: لا يجب للاحاديث الصحيحة في الحث على الصبر على الدين، واقتداء بالسلف، فعلى هذا الافضل أن يثبت ولا يتلفظ، وإن قتل، وقيل: إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو، أو القيام بأحكام الشرع، فالافضل أن يتلفظ، وإلا، فالافضل الامتناع، ولا يجب شرب الخمر عند الاكراه على الصحيح، ويمكن أن يجئ مثله في الافطار في(7/22)
رمضان، ولا يكاد يجئ في الاكراه على إتلاف المال، ثم إذا أتلف مال غيره بالاكراه، فللمالك مطالبة المكره الآمر بالضمان، وفي مطالبة المأمور وجهان، أحدهما: لا يطالب، لانه إتلاف مباح له بالاكراه، وأصحهما: يطالب، لكنه يرجع بالمغروم على الآمر، هذا هو المذهب، وقيل: إن الضمان على المأمور، ولا رجوع له، وقيل: يتقرر الضمان عليهما بالسوية، كالشريكين، والقول في جزاء الصيد إذا قتله المحرم مكرها، كالقول في ضمان المال. فرع ذكره الرافعي في مسائل منثورة قبل كتاب الديات. يجوز للمكره على إتلاف مال، ولصاحب المال دفع المكره بما أمكنهما، وليس لصاحب المال دفع المكره، بل يلزمه أن يقي روحه بماله، كما يناول المضطر طعامه. فصل إذا أنهشه حية، أو ألدغه عقربا يقتل غالبا، فقتلته، وجب القصاص، وإن لم يقتل غالبا، فهل هو عمد، أم شبه عمد ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، وإن لم ينهشها، ولكن ألقى الحية عليه، أو ألقاه عليها، أو قيده وطرحه في موضع فيه حيات وعقارب، فقتلته، فلا قصاص ولا ضمان، سواء كان الموضع واسعا أو ضيقا، لانه لم يلجئها إلى قتله، بل هي قتلته باختيارها، فهو كالممسك مع القاتل. ولو عرضه لافتراس سبع يقتل غالبا، كالاسد والنمر والذئب، وهدفه له حتى صار السبع كالمضطر إلى قتله، لزمه القصاص، نص عليه، فإن كان السبع مما لا يقتل غالبا، فهو كالحية التي لا تقتل غالبا، وإن أرسل عليه السبع، أو أغرى به كلبا عقورا في موضع واسع كالصحراء، فقتله، أو طرحه في مسبعة أو بين يدي سبع في الصحراء مكتوفا، أو غير مكتوف، فقتله، فلا قصاص ولا ضمان، سواء كان المطروح صغيرا أو كبيرا، لانه لم يلجئه إلى قتله، والذي وجد منه ليس بمهلك، وهو كالممسك مع القاتل، وفي الصبي وجه، أنه يجب الضمان، ولو(7/23)
أغراه به في موضع ضيق، أو حبسه معه في بئر، أو بيت، فقتله، وجب القصاص، مكتوفا كان أو غير مكتوف، لانه إلجاء السبع إلى قتله، وليس السبع كالحية، حيث لم يفرق فيها بين الموضع الواسع والضيق، لان الحية تنفر من الآدمي، والسبع يقصده في المضيق ويتوثب، وفي الموضع الواسع لا يقصده قصده في المضيق، إنما يقصده دفعه ويمكن التحرز منه والفرار، فهذا هو المنصوص، والمذهب، وبه قطع الجمهور، وعن القاضي حسين أن الحية إن كانت تقصد ولا تنفر، فهي كالسبع، وأنها أنواع مختلفة الطباع، وأن السبع إذا كان ضاريا شديد العدو ولا يتأتى الهرب منه في الصحراء، وجب القصاص، وجعل الامام هذا بيانا لما أطلقه الاصحاب واستدراكا، وأما البغوي وغيره فجعلوا المسألة مختلفا فيها، وحكى ابن كج قولا أنه لو جمع بينه وبين حية في بيت، وجب القصاص كالسبع، وقولا أنه لا يجب في السبع، وهما غريبان، وحيث أوجبنا القصاص في الحية والسبع فذلك إذا قتل في الحال، أو جرح جراحة تقتل غالبا، أما إذا جرحه جرحا لا يقتل مثله غالبا، فهو شبه عمد، وكأن تلك الجراحة صدرت من المغري، وإذا أمكن المغرى عليه الفرار، فلم يفر، قال الامام: هو كترك السباحة، والمجنون الضاري في ذلك كالسبع، ولو ربط في داره كلبا عقورا، ودعا إليها رجلا، فافترسه الكلب، فلا قصاص ولا ضمان، ولم يجعل على الخلاف السابق في حفر البئر في الدهليز وتغطية رأسها، لان الكلب يفترس باختياره، ولانه ظاهر يمكن دفعه بعصا وسلاح.
الطرف الرابع : في اجتماع مباشرتين، فإذا صدر فعلان مزهقان من شخصين،(7/24)
نظر، إن وجدا معا، فهما قاتلان، سواء كانا مذففين بأن حز أحدهما رقبته، وقده الآخر نصفين، أو لم يكونا، بأن أجاف كل منهما، أو قطعا عضوين، ومات منهما، وإن كان أحدهما مذففا دون الآخر، فقياس ما سنذكره إن شاء الله تعالى أن يكون المذفف هو القاتل، وإن طرأ فعل أحدهما على الآخر فله حالان. أحدهما: أن يوجد فعل الثاني بعد انتهاء المجني عليه إلى حركة المذبوح، إما عقب الفعل الاول لكونه مذففا، وإما لسرايته وتأثيره، فالقاتل هو الاول، ولا شئ على الثاني سوى التعزير، لانه هتك حرمة ميت، فعزر، كما لو قطع عضو ميت، والمراد بحركة المذبوح الحالة التي لا يبقى معها الابصار والادراك، والنطق والحركة الاختياريان، وقد يقد الشخص، وتترك أحشاؤه في النصف الاعلى فيتحرك ويتكلم بكلمات لكنها لا تنتظم، وإن انتظمت، فليست صادرة عن روية واختيار، والحالة المذكورة وهي التي تسمى حالة اليأس، لا يصح فيها الاسلام، ولا شئ من التصرفات، ويصير فيها المال للورثة، ولو مات قريب لمن انتهى إليها، لم يورث منه، ولو أسلم كافر، أو عتق رقيق فيها، لم يزاحم سائر الورثة، وكما لا يصح فيها الاسلام، لا تصح فيها الردة، هذا هو الصحيح، وبه قطع الاصحاب، وفي كتاب ابن كج: أنها تصح، لان الكافر يوقن حينئذ، فإعراض المسلم قبيح، وهذا ليس بشئ، ومن قطع حلقومه ومريه، أو أبينت حشوته من جوفه، فقد انتهى إلى حركة المذبوح، ولو أصاب الحشوة حرق، أو قطع، وتيقن موته بعد يوم أو يومين، وجب القصاص على قاتله في ذلك الحال. الحال الثاني: أن يوجد فعل الثاني قبل انتهائه إلى حركة المذبوح، فينظر، إن كان الثاني مذففا بأن جرحه الاول، وحز الثاني رقبته، أو قده، فالقاتل هو الثاني، وأما الاول فليس عليه إلا القصاص في العضو المقطوع، أو المال على ما(7/25)
يقتضيه الحال، ولا فرق بين أن يتوقع البرء من الجرح السابق لو لم يطرأ الحز، وبين أن يستيقن الهلاك بعد يومين أو نحو ذلك، لان حياته في الحال مستقرة، وتصرفاته نافذة، وإن لم يكن الثاني مذففا أيضا، ومات بسرايتهما، بأن أجافاه، أو قطع الاول يده من الكوع، والثاني من المرفق، فمات، فهما قاتلان، لان القطع الاول قد انتشرت سرايته وألمه ولو شك في الانتهاء إلى حركة المذبوحين، عمل فيه بقول أهل الخبرة. فرع المريض المشرف على الموت يجب القصاص على قاتله، قال القاضي وغيره: سواء انتهى إلى حالة النزع أم لا، ولفظ الامام: أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت اماراته، وتعثرت الانفاس في الشراسيف، لا يحكم له بالموت، بل يلزم قاتله القصاص، وإن كان يظن أنه في مثل حال المقدود، وفرقوا بينهما بأن إنهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به، وقد يظن به ذلك، ثم يشفى، بخلاف المقدود، ولان المريض لم يسبق فعل بحال القتل وأحكامه عليه حتى يهدر الفعل الثاني والقد ونحوه بخلافه.
فصل فيما إذا قتل إنسانا يظنه على حال وكان بخلافه وفيه مسائل: الاولى: قتل من ظنه كافرا، بأن كان عليه زي الكفار، أو رآه يعظم آلهتهم، فبان مسلما، نظر، إن كان ذلك في دار الحرب، فلا قصاص قطعا، ولا دية على الاظهر، وتجب الكفارة قطعا، وإن كان في دار الاسلام، وجبت الدية والكفارة قطعا، وكذا القصاص على الاظهر، فإن لم نوجبه، فهل الدية مغلظة أم مخففة على العاقلة ؟ قولان. الثانية: قتل من ظنه مرتدا أو حربيا، فلم يكن، فعليه القصاص، فإن عهده مرتدا، أو ظن أنه لم يسلم وكان أسلم، فالنص وجوب القصاص، ونص فيما لو عهده ذميا أو عبدا، فقتله ظانا أنه لم يسلم، ولم يعتق، فبان خلافه، أنه لا قصاص، فقيل: في الجميع قولان، وقيل: بظاهر النصين، لان المرتد يحبس فلا(7/26)
يخلى، فقاتله مقصر بخلاف الذمي والعبد، وقيل: يجب القصاص في الجميع، لانه ظن لا يبيح القتل، والمذهب وجوب القصاص في الجميع، وإن أثبتنا الخلاف، كما لو علم تحريم القتل، وجهل وجوب القصاص، ولو عهده حربيا فظن أنه لم يسلم، فقيل: كالمرتد، وقيل: لا قصاص قطعا، لان المرتد لا يخلى، والحربي يخلى بالمهادنة، ويخالف العبد والذمي، فإنه ظن لا يفيد الحل والاهدار، بخلاف الحربي، ولو ظنه قاتل أبيه، فقتله، فبان غيره، وجب القصاص على الاظهر، لانه يلزمه التثبت، ولم يعهده قاتلا حتى يستصحبه، ولو قال: تبينت أن أبي كان حيا حين قتلته، وجب القصاص قطعا، وحيث قلنا: لا قصاص في هذه الصور، فقال: ظننته كافرا أو رقيقا، فقال الولي: بل علمته مسلما حرا، فالقول قول القاتل، لانه أعرف، ونقل الغزالي في موضع القولين فيما إذا قال: ظننته قاتل أبي، طريقين، أحدهما: موضعهما إذا تنازعا، أما إذا صدقه الولي، فلا قصاص قطعا، والثاني: طرد القولين في الحالين، لانه ظن من غير مستند شرعي. الثالثة: ضرب مريضا ضربا يقتل المريض دون الصحيح، فمات منه، فإن علم مرضه، فعليه القصاص قطعا، وكذا إن جهله على الصحيح، لان جهله لا يبيح الضرب. الركن الثاني: القتيل. وشرط وجوب القصاص كونه معصوم الدم بالاسلام، أو الجزية، أو الامان، فالحربي مهدر، والمرتد مهدر في حق المسلم، وأما في حق ذمي ومرتد آخر، ففيه خلاف يأتي قريبا إن شاء الله تعالى، ومن عليه قصاص إذا قتله غير مستحقه، لزمه القصاص، والزاني المحصن إن قتله ذمي، فعليه(7/27)
القصاص، وإن قتله مسلم، فلا على الاصح المنصوص. قلت: قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: الخلاف إذا قتل قبل أن يأمر الامام بقتله، فإن قتل بعد أمر الامام بقتله، فلا قصاص قطعا. والله أعلم. فرع في فتاوى القفال: أن من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، وكان يؤمر بفعلها، فلا يفعلها، فقتله إنسان، فلا قصاص، وليكن هذا جوابا على الاصح المنصوص في الزاني المحصن، قال: فلو جن قبل فعلها، لم يقتل في حال الجنون، فلو قتله حينئذ رجل، لزمه القصاص، وكذا لو سكر، ولو جن المرتد، أو سكر، فقتله رجل، فلا قصاص لقيام الكفر. الركن الثالث: القاتل. وشرطه أن يكون ملتزما للاحكام، فلا قصاص على صبي ولا مجنون، كما لا قصاص على النائم إذا انقلب على شخص، لانه ليس لهما أهلية الالتزام، ومن يقطع جنونه له حكم المجنون في حال جنونه، وحكم العاقل في حال عقله، ومن لزمه قصاص بإقرار، أو بينة، ثم جن، استوفي منه حال جنونه، لانه لا يقبل الرجوع بخلاف ما لو أقر بحد، ثم جن، لا يستوفى منه، والمذهب وجوب القصاص على السكران، ومن تعدى بشرب دواء مزيل للعقل، وفيه خلاف سبق في الطلاق. فرع لو قال القاتل: كنت يوم القتل صغيرا، وقال الولي: بل بالغا، صدق القاتل بيمينه، لان الاصل الصغر، وهذا بشرط الامكان، ولو قال: أنا الآن(7/28)
صغير، صدق، ولا قصاص ولا يمين عليه، لان اليمين لاثبات المحلوف عليه، ولو ثبت صباه، لبطلت يمينه، ولو قال: كنت مجنونا عند القتل، وكان عهد له جنون، صدق، وإلا فلا، لان الاصل السلامة، ولو اتفقا على أنه كان زائل العقل، وقال القاتل: كنت مجنونا، وقال الوارث: بل سكران، صدق القاتل، ولو أقام القاتل بينة أنه كان يوم القتل مجنونا، وأقام الوارث بينة أنه كان حينئذ عاقلا تعارضتا. فرع يجب القصاص على المرتد، والمعصوم، لالتزامه الاحكام، ولا يجب على الحربي، كما لا يضمن المال لعدم التزامه، هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: يلزم الحربي ضمان النفس والمال، لانه مخاطب بفروع الشرع، قال أبو الحسن العبادي: ويعزى هذا إلى المزني في المنثور.
باب ما يشترط مساواة القتيل القاتل فيه لوجوب القصاص وما لا يؤثر اختلافهما فيه الخصال التي يفضل القاتل القتيل بها كثيرة، ولا يؤثر منها في منع القصاص إلا ثلاث وهي: الاسلام والحرية والولادة، فإن استوى القاتل والمقتول في عدم الثلاثة، أو وجود ما يمكن وجوده، جرى القصاص بينهما، وإلا قتل المفضول بالفاضل ولا عكس. الخصلة الاولى: الاسلام، فلا يقتل مسلم بكافر، حربيا كان أو ذميا، أو(7/29)
معاهدا، ويقتل الذمي والمعاهد بالمسلم، ويقتل الذمي بالذمي وإن اختلفت ملتهما، كيهودي ونصراني، ولو قتل ذمي ذميا، ثم أسلم القاتل، اقتص منه، ولو جرح ذمي ذميا، أو معاهدا، وأسلم الجارح، ثم مات المجروح بالسراية، وجب القصاص على الاصح عند الجمهور، وقطع به جماعة، وهذا الخلاف في قصاص النفس، فإن جرح جرحا يوجب قصاصا، كقطع طرف، ثم أسلم القاطع، ثم سرى، وجب القصاص في الطرف قطعا، ثم إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل، أو بعد قطع الطرف، استوفى الامام القصاص بطلب الوارث، ولا يفوضه إليه حذارا من تسليط الكافر على المسلم، إلا أن يسلم، فيفوضه إليه، ولو قتل مسلم ذميا، ثم ارتد، أو جرحه، ثم ارتد، ثم مات المجروح، فلا قصاص، لعدم المكافأة حالة الجناية، ولو قتل ذمي مسلما، ثم أسلم، لم يسقط عنه القصاص، ولو قتل عبد مسلم عبدا مسلما لكافر، فهل يثبت القصاص، وجهان: أحدهما: وجوب القصاص، وبه قال الشيخ أبو حامد والماوردي، وأصحهما عند المتأخرين، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والقفال: لا قصاص، لانه لا يقتل بجزء الحرية جزء الحرية، وبجزء الرق جزء الرق، بل يقتل جميعه بجميعه، ولهذا لو كان القتل خطأ، أو آل الامر إلى المال، وأوجبنا نصف الدية ونصف القيمة مثلا، لا نقول: نصف الدية في مال القاتل، ونصف القيمة في رقبته، بل يجب ربع الدية، وربع القيمة في ماله، وربع الدية وربع القيمة في رقبته، وهذا متفق عليه، ولو وقع الاستيفاء شائعا، لزم قتل البعض الحر بالبعض الحر والرقيق معا. فرع قتل عبد مسلم حرا ذميا، أو حر ذمي عبدا مسلما، أو قتل كافر ابنه المسلم، أو الابن المسلم أباه الكافر، لا قصاص، لان الحر والمسلم والاب لا يقتل بمفضوله. فرع قتل المكاتب أباه وهو يملكه، فلا قصاص على الاصح، ولو قتل(7/30)
عبدا له غير أبيه، فلا قصاص على المذهب، وقيل: وجهان، لان المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. قلت: إذا أوجبنا القصاص، استوفاه سيد المكاتب، لانهما عبدان للسيد، قتل أحدهما الآخر، فهو كما لو قتله أجنبي. والله أعلم. الخصلة الثالثة: الولادة، فلا قصاص على والد يقتل ولده، والام كالاب وكذلك الاجداد والجدات وإن علوا من قبل الاب والام جميعا، وحكى ابن القاص وابن سلمة قولا في الاجداد والجدات، وهو شاذ منكر، قال الامام: هذا لا يقبله الاصحاب منصوصا ولا مخرجا، ولو حكم قاض بقتل الوالد بولده، قال ابن كج: ينقض حكمه، وليكن هذا فيما يوافقنا فيه مالك رحمه الله، فإنه روي عنه أنه إن أضجعه وذبحه، فعليه القصاص، وإن حذفه بالسيف، فلا، لاحتمال قصده التأديب، وعندنا: لا فرق. فرع يقتل الولد بالوالد، وكذا سائر المحارم بعضهم ببعض. فرع قتل الاب الرقيق عبد ابنه، فلا قصاص، لان قصاصه لابنه، ولو قتل الابن الرقيق عبد أبيه، فللاب القصاص. فرع لو قتل من يرثه ولد القاتل، لم يجب القصاص، مثاله: قتل زوجة ابنه، أو زوجته وله منها ولد، أو قتلت أم الولد سيدها وله منها ولد، ولو ثبت عليه قصاص، فورث ولده القصاص، أو بعضه، بأن قتل أبا زوجته، ثم ماتت الزوجة، ولها منه ولد، أو قتل ابن عتيق ولده ثم مات العتيق وورثه الولد، فلا قصاص، وكذا(7/31)
لو ورث القاتل القصاص، بأن قتل أحد الابنين أباه، ثم مات الابن الآخر، فورثه القاتل. فرع تداعى رجلان مولودا مجهولا، ثم قتله أحدهما، أو قتلاه، فلا قصاص في الحال، فإن ألحقه القائف بأحدهما، وكانا مشتركين في القتل، فلا قصاص على الذي ألحق به، ويقتص من الآخر، وحكى ابن كج وجها شاذا أنه لا يقتص من الآخر، لان إلحاق القائف مبني على الاشباه، وهو ضعيف، فلا يرتب عليه القصاص الذي يسقط بالشبهات وإن كان القاتل أحدهما، فألحقه بالآخر، اقتص منه، وكذا لو ألحقه بغيرهما، ويعود فيه وجه ابن كج، وإن رجعا عن الدعوة، لم يقبل رجوعهما، لانه صار ابنا لاحدهما، وفي رجوعه إبطال حق الولد، وإن رجع أحدهما، وأصر الآخر، فهو ابن الآخر، فيقتص من الراجع إن اشتركا في قتله، أو إن انفرد هو بقتله، هذا إذا لحق المولود أحدهما بالدعوة، أما إذا لحق بالفراش، بأن نكحت معتدة وأتت بولد يمكن كونه من الاول ومن الثاني، أو فرض وطئ شبهة، فإنما يتعين أحدهما بإلحاق القائف، أو بانتساب المولود بعد بلوغه، فلو نفاه أحدهما، فهل يتعين للثاني، أم يبقى الابهام حتى يعرض على القائف، أو ينتسب ؟ قولان، أظهرهما: ثانيهما، فإذا ألحقه القائف بأحدهما، اقتص من الآخر إن انفرد بقتله، أو شارك فيه، وإن ألحقه بأحدهما، أو انتسب بعد البلوغ، فقتله الذي لحقه، لم يقتص منه، فإن أقام الآخر بينة بنسبه، لحقه واقتص من الاول. فرع أخوان لاب وأم، قتل أحدهما الاب والآخر الام، فلهما حالان، أحدهما: أن يقتلاهما معا، والثاني: على التعاقب، والاعتبار في المعية والتعاقب بزهوق الروح لا بالجرح. الحال الاول: أن يقتلاهما معا، فكل واحد يستحق القصاص على الآخر،(7/32)
فإن عفا أحدهما، فللمعفو عنه أن يقتص من العافي، وإن لم يعف، قدم للقصاص من خرجت قرعته، وإذا استوفى أحدهما بقرعة، أو بالمبادرة بلا قرعة، فإن قلنا: القاتل بحق لا يحرم الميراث، ولم يكن المقتص محجوبا، سقط القصاص عنه، لانه ورث القصاص المستحق على نفسه، أو بعضه، وإن قلنا: يحرم الميراث وهو المذهب، أو كان هناك من يحجبه، فلوارث المقتص منه أن يقتص من المبادر. الحال الثاني: أن يتعاقب القتلان، فإن كانت الزوجية باقية بين الاب والام، فلا قصاص على القاتل أولا، ويجب على القاتل الثاني، فإذا اقتص القاتل الاول من الثاني، وقلنا: القاتل بحق يحرم الميراث، أو كان المقتص محجوبا، فلورثة المقتص منه نصيبه من دية القتيل الاول يطالبون به القاتل الاول، وإن لم تكن الزوجية باقية بين الاب والام، فلكل واحد منهما حق القصاص على الآخر، وهل يقدم بالقرعة، أم يقتص من المبتدئ بالقتل ؟ وجهان، ميل القاضي حسين والامام إلى الاول، وبالثاني أجاب الروياني وغيره. قلت: لم يعبر عن ترجيح الوجهين بما ينبغي، فقد قطع بالاقراع الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم، وقطع بالثاني القاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهما، ونقله الامام عن الاصحاب، مع أنه رجح الاقراع، والارجح ما نقله عن الاصحاب. والله أعلم. ولو بادر من أردنا الاقتصاص منه بالقرعة أو لابتدائه بالقتل، عاد النظر في أن القاتل هل يحرم الميراث وأنه هل خلف المقتول من يحجبه كما سبق، وحكى الروياني عن الاصحاب فيما إذا وقع القتلان معا، وأقرعنا للابتداء، فخرجت القرعة لاحدهما، أنه لو وكل من خرجت قرعته وكيلا، جاز، لانه يقتص له في حياته، ولو وكل الآخر، لم يجز، لانه يقتص له بعد قتله، ولا تبقى الوكالة حينئذ، قال: وعندي أن توكيله صحيح أيضا، ولهذا لو بادر وكيله، فقتل، لم يلزمه شئ، لكن إذا قتل موكله، بطلت الوكالة. قلت: ولو وكل كل واحد من الاخوين وكيلا قبل الاقراع، صح، ثم يقرع بين الوكيلين، فإذا اقتص أحدهما، انعزل الآخر. والله أعلم.(7/33)
فرع أربعة إخوة، قتل الثاني أكبرهم، ثم الثالث أصغرهم، ولم يخلف القتيلان غير القاتلين، فللثاني أن يقتص من الثالث، ويسقط عن الثاني القصاص، لانه ورث ما كان الصغير يستحقه عليه. فرع قتل زيد ابنا لعمرو، وعمرو ابنا لزيد، وكل واحد من الابوين متفرد بالارث، فلكل واحد منهما القصاص على الآخر، وحكى ابن كج عن ابن أبي هريرة وابن القطان، أنه لا قصاص بينهما، بل يقع التقاص، والصحيح الاول، ولا بد من مجئ هذا الوجه في الاخوين. قلت: قد صرح صاحب البيان بنقل الوجه في الاخوين عن ابن اللبان. والله أعلم. فرع لو شهد الابن على أبيه بما يوجب القتل، قبلت شهادته على الصحيح، ونقل ابن كج عن ابن أبي هريرة أنها لا تقبل. فرع يكره للجلاد قتل والده حدا وقصاصا.
فصل فيما لا يؤثر اختلاف القاتل والمقتول فيه وفيه مسائل إحداها: يقتل الذمي بالمعاهد وبالعكس، كما يستويان في الدية، وفي الاول احتمال للامام، ولو أسر الامام حربيا بالغا، فقتله ذمي قبل أن يرى الامام إرقاقه أو غيره، فلا قصاص، لانه على حكمه الذي كان حتى يرقه الامام. الثانية: يقتل الرجل بالمرأة، وبالخنثى، وبالعكس، كما يقتل العالم بالجاهل، والشريف بالخسيس، والشيخ بالصبي، والشاب وبالعكس. فرع فيما لو قطع ذكر خنثى مشكل وأنثياه وشفراه. وهو مبني على أصلين، أحدهما: أنه هل يجب القصاص في شفري المرأة ؟ فيه خلاف، والثاني: أن العضو الاصلي لا يقطع بزائد، ويقطع الزائد بالزائد إذا اتحد المحل، وسنذكر الاصلين إن شاء الله تعالى، فإذا قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه، فلا قصاص في الحال، لاحتمال أنه إمرأة، ثم إن صبر المقطوع إلى التبين، فذاك، فإن بان ذكرا اقتص في الذكر والانثيين، وأخذ حكومة الشفرين،(7/34)
وإن بان أنثى، فلا قصاص، وله دية الشفرين، وحكومة الذكر والانثيين، وإن لم يصبر، نظر، إن قال: عفوت عن القصاص، وطلب حقه من المال، أعطي المستيقن، وهو دية الشفرين وحكومة الذكر والانثيين، ثم إن بان أنثى، فمعه حقه، وإن بان ذكرا، فله مائتان من الابل عن الذكر والانثيين، وله حكومة الشفرين، فيحسب ما كان معه ويعطى الباقي، وحكى الامام وجها أنه إنما يعطى في الابتداء حكومة كل عضو، لانه المتيقن في ذلك العضو، فلا نوجب دية الشفرين، قال: وهذا ضعيف، لان استحقاق القدر المذكور متيقن، وإن لم تتحقق جهته، وإنما يصح ذلك إذا تعدد الجاني، فقطع قاطع ذكره وأنثييه، وآخر شفريه، وعفا عن القصاص، فلا نوجب على كل واحد إلا حكومة ما قطعه، وأما إذا لم يعف عن القصاص وطلب ما يجب له من المال مع القصاص، فوجهان، أحدهما: لا نعطي شيئا، قاله ابن أبي هريرة والقفال، لانا لا ندري ما الواجب، وأصحها: يعطى المستيقن مع القصاص، وفي قدره ثلاثة أوجه، أحدها: أقل الحكومتين من حكومة الشفرين على تقدير الذكورة، وحكومة الذكر والانثيين على تقدير الانوثة، والثاني: حكومة العضو المقطوع آخرا، لانه قطعه والدم سائل من الاول، فحكومته أقل، وأصحهما: يعطى أقل الامرين من حكومة الشفرين بتقدير الذكورة، وحكومة الذكر والانثيين مع دية الشفرين، أما إذا قطعت إمرأة ذكر الخنثى وأنثييه وشفريه، فإن صبر إلى التبين، توقفنا كما في الرجل، فإن بان ذكرا، فله ديتان للذكر والانثيين وحكومة الشفرين، وإن بان أنثى، فلها حكومة الذكر والانثيين والقصاص في الشفرين، إن أجرينا فيهما القصاص، وإلا فلها ديتهما أيضا، وإن لم يصبر، بني على أن القصاص هل يجري في الشفرين ؟ إن قلنا: نعم، قيست الصورة بما ذكرنا في الرجل، فإن عفا عن القصاص، سلم إليه دية الشفرين وحكومة الذكر والانثيين، وإن لم يعف، ففي وجه، لا يعطى شيئا، وفي وجه، يعطى أقل الحكومتين، وفي وجه، حكومة المقطوع آخرا، وفي وجه، حكومة الذكر والانثيين ليوقع القصاص في الشفرين، وإن قلنا: لا يجري القصاص فيهما، فالحكم كما لو أجريناه، فعفا، ولو قطع رجل ذكره وأنثييه، وإمرأة شفريه، ولم يعف، لم يطالب واحد منهما بمال لتوقع القصاص في حق كل واحد بناء على جريان القصاص في الشفرين، فإن منع، فلا يوقع فيهما، فتجب حكومتهما على المرأة، وإن قطع رجل شفريه،(7/35)
وإمرأة ذكره وأنثييه، فلا مجال للقصاص، فيطالب كل واحد بحكومة ما قطع، ولو قطع مشكل جميع ذلك من مشكل، فلا قصاص في الحال، فإن بانا ذكرين، أو أنثيين، قطع الاصلي بالاصلي، والزائد بالزائد إن تساوى الزائدان، وإلا ففي الزائد الحكومة، وإن بان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، فقد سبق حكمه، ولو عفا المقطوع قبل التبين، دفع إليه المتيقن، وهو دية الشفرين، وحكومة الذكر والانثيين، وإن لم يعف، فقد نقل الامام وأبو الحسن العبادي: أنه يدفع إليه أقل الحكومتين، والصحيح أنه لا يدفع إليه شئ في الحال، لان القصاص متوقع في الجميع، وبيان حال الخنثى قد يكون بشئ من العلامات الحسية، كالبول والمني ونحوهما، فحكمه كما ذكرنا، وقد يكون بالرجوع إلى قوله وإخباره عن ميله إلى الرجال أو النساء، فإن أخبر عن حاله، ثم جني عليه، اعتمدنا قوله، فإذا قال: أنا رجل، ثم قطعه رجل، أوجبنا القصاص، وإن جني عليه، ثم قال: أنا رجل، فهل يقبل قوله لايجاب القصاص ولايجاب دية الذكر والانثيين ؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم، كما قبل الجناية، وأصحهما على ما ذكره القفال والامام: المنع، لانه متهم، وشبهوا بما إذا شهد برؤية هلال شوال، فردت شهادته، ثم أكل، لا يعزر، ولو أكل ثم شهد، عزر للتهمة، وبما لو ثبت بشهادة رجل وامرأتين أنه غصب، ثم قال: إن كنت غصبت فامرأتي طالق، يقع الطلاق، ولو قال أولا: إن غصبت فهي طالق، فشهد رجل وامرأتان بغصبه، لا تطلق على الاصح، ولو اختلف الجاني والمقطوع، فقال الجاني: أقررت بأنك إمرأة، فلا قصاص لك، وقال: بل قلت: إني رجل، فقولان وأظهرهما: القول قول الجاني، لان الاصل براءته من القصاص، وهذا نصه في مواضع، والثاني: قول المقطوع، لانه أعرف بحاله. فرع لو قطع الخنثى المشكل ذكر رجل وأنثييه، وقف، فإن بان ذكرا، اقتص منه، وإن بان أنثى، فعليه ديتان ولا قصاص، فإن طلب منه مالا قبل التبين ولم يعف، لم يعط، لان القصاص متوقع. فرع لو قطعت يد الخنثى، وجب القصاص، سواء قطعها رجل أو إمرأة، فلوآل الامر إلى المال، لم يؤخذ إلا اليقين، وهو نصف دية المرأة، وكذا لو قتل لا تؤخذ إلا دية إمرأة.(7/36)
المسألة الثالثة: إذا قتلت الجماعة واحدا، قتلوا به، سواء قتلوه بمحدد أو مثقل، أو ألقوه من شاهق، أو في بحر، أو جرحوه جراحات مجتمعة أو متفرقة، وأثبت ابن الوكيل قولا أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ونقل الماسرجسي عن القفال قولا قديما أن الولي يقتل واحدا من الجماعة أيهم شاء، ويأخذ حصة الآخرين من الدية، ولا يقتل الجميع، ويكفي للزجر كون كل واحد منهم خائفا من القتل، وهذان القولان شاذان واهيان، والمشهور قتل الجماعة بالواحد، ثم للولي أن يقتل جميعهم، وله أن يقتل بعضهم، ويأخذ حصة الباقين من الدية، وله أن يقتصر على الدية، فتكون على جميعهم دية واحدة موزعة على عددهم، سواء كانت جراحة بعضهم أفحش أو عدد جراحات بعضهم أكثر، أم لم يكن شئ من ذلك، وسواء كان لجراحة بعضهم أرش مقدر، أم لم يكن، ثم إذا كانت الجماعة عشرة مثلا،(7/37)
فالولي يستحق دم كل واحد بكماله، وعن الحليمي أنه إنما يستحق عشر دم كل واحد، لكنه يجوز قتله، لانه لا يمكن استيفاؤه إلا باستيفاء الباقي، والصواب الاول، وبه قطع الجمهور، قال الامام: قول الحليمي بعيد، وكيف يريق تسعة أعشار دم غير مستحقة لتحصيل عشر. المسألة الرابعة: إذا قتل واحد جماعة، يقتل بأحدهم ووجبت دية الباقين في ماله، وسيأتي القول فيمن يقتل به في بابه إن شاء الله تعالى، ولو قطع أيدي جماعة، قطع بواحد، وللباقين الدية، وحكى الروياني وجها أنه إذا وقعت الجنايات معا، قتل، أو قطع بهم جميعا، ويرجع كل واحد من المستحقين إلى حصته من الدية، وهذا شاذ ضعيف، هذا إذا كان القاتل حرا وقتل الجماعة في غير المحاربة، فإن كان عبدا، أو قتل في المحاربة، فسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل في اجتماع سببين مختلفين في اقتضاء القصاص الجنايات الصادرة من جماعة الواردة على واحد المستعقبة موته إن كانت بحيث يجب القصاص(7/38)
لو انفردت كل واحدة، وجب القصاص على الشركاء كما سبق، وإلا فإما أن لا يجب القصاص بواحدة منها لتقاعد الفعل عن إيجاب القصاص بأن قتلوه خطأ، أو لعدم الكفاءة بأن قتل حران عبدا، فلا قصاص، وإما أن يجب القصاص ببعضها دون بعض، ولعدم الوجوب في حق البعض أسباب، أحدها: أن تكون جناية بعضهم ضعيفة لا تؤثر في الزهوق كالخدشة الخفيفة فلا اعتبار بها، وكأنه لم توجد سوى الجنايات الباقية. الثاني: أن يغلب بعضها بقوته بحيث يقطع نسبة الزهوق إلى سائر الجنايات، بأن جرحه جماعة، ثم حز رقبته آخر، فقصاص النفس على الحاز، وأما الاولون، فجارحون، يتعلق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو دية مغلظة أو مخففة، وقد سبق بيانه في الطرف الرابع من الركن الاول، وعد من نظائره أن يصعد به على كرسي، ويربط في عنقه حبلا، ويشده إلى فوق، فيجئ آخر فينحي ما تحت قدميه، فالقاتل هو المنحي. الثالث: أن تندمل بعض الجراحات، ثم يوجد الباقي، فعلى من اندملت جراحته ما تقتضيه جراحته ولا يلزمه قصاص النفس، لان القتل هو الجراحة السارية، وإذا جرحه اثنان متعاقبان، وادعى الاول الاندمال، وأنكر الولي، فلا قصاص على الاول، وإذا عفا عن الثاني، لم يأخذ منه إلا نصف الدية، وإنما يأخذ منه كمال الدية إذا قامت بينة بالاندمال، الرابع: أن يكون فعل أحدهما خطأ، بأن جرحه أحدهما عمدا، والآخر خطأ، فلا قصاص على واحد منهما، وعلى عاقلة المخطئ نصف دية الخطأ، وفي مال العامد نصف دية العمد إن كانت جناية لا توجب قصاصا، أو آل الامر إلى الدية، فإن قطع طرفا، فعليه قصاصه، وكذا لو جرح أحدهما عمدا، والآخر شبه عمد، لا قصاص على واحد منهما، وتجب نصف دية شبه العمد على عاقلة صاحبه، وحكى الروياني في جمع الجوامع أنه قيل: إن للشافعي رحمه الله قولا أنه يجب القصاص على شريك المخطئ، ذكره المزني في العقارب وتمنى الامام أن يكون هذا قولا في المذهب، والمشهور المنصوص في كتب ] الشافعي وقطع به الاصحاب، أنه لا قصاص. الخامس: أن يمتنع القصاص من بعضهم لمعنى فيه، فله حالان، أحدهما: أن يكون فعل من لا قصاص عليه مضمونا، بأن شارك الاب أجنبيا في قتل الولد، فعلى الاجنبي القصاص، وعلى الاب نصف الدية المغلظة، ومثله لو شارك حر عبدا في قتل عبد أو مسلم ذميا في قتل ذمي، لا قصاص على الحر والمسلم، ويجب على(7/39)
العبد والذمي، ولو جرح ذمي ذميا، ثم أسلم المجروح، فجرحه مسلم، أو جرح عبد عبدا، ثم عتق المجروح، فجرحه حر ومات منهما، فعليهما القصاص، لان كل واحد لو انفرد بجنايته لزمه القصاص. الحال الثاني: أن لا يكون مضمونا، بأن جرح حربي ومسلم مسلما، ومات منهما، أو قطعت يد إنسان في سرقة أو قصاص، ثم جرحه رجل عدوانا، أو جرح مسلم مرتدا أو حربيا، ثم أسلم، فجرحه غيره، أو جرح ذمي حربيا، ثم عقدت الذمة للمجروح، فجرحه ذمي آخر، أو جرح صائلا، ثم جرحه غيره، ففي وجوب القصاص في الصور، قولان، أظهرهما: الوجوب كشريك الاب، والثاني: لا، بل عليه نصف الدية، ولو جرحه سبع، أو لدغته عقرب أو حية، وجرحه مع ذلك رجل، فطريقان، أشهرهما: طرد القولين، والثاني: القطع بأن لا قصاص، وهذا أصح عند القاضي حسين، والامام والغزالي، وموضع الطريقين فيما يقتضيه كلام الامام أن يقصد السبع الجراحة، فأما إذا وقع السبع عليه بلا قصد، فلا قصاص قطعا، وقال البغوي: لا فرق بين أن يقصده السبع بالجرح أم لا، ففيه الطريقان، ثم الخلاف فيما إذا كان جرح السبع بحيث يحصل منه الموت غالبا، وإلا فشريكه شريك الجارح شبه عمد، ولو جرح رجل عبده، وجرحه عبد، أو عتق، فجرحه عبد، أو حر ثم مات منهما، ففي وجوب القصاص على شريك السيد طريقان، أشهرهما، طرد القولين، والثاني: القطع بالوجوب، لان فعل السيد مضمون بالكفارة، فشريكه شريك عامد ضامن، كشريك الاب، ولو جرح نفسه، وجرحه غيره، بني على أن قاتل نفسه هل عليه كفارة ؟ إن قلنا: نعم، فكشريك السيد، وإلا فكشريك الحربي، وكيف كان فالمذهب الوجوب، ولو رمى اثنان سهمين إلى مسلم في صف الكفار، وقد علم أحدهما أنه مسلم، ولم يعلم الآخر أن هناك مسلما، فوجوب القصاص على العالم مبني على الخلاف في شريك السيد، لان(7/40)
فعل الجاهل مضمون بالكفارة. فرع وجوب القصاص على شريك الصبي والمجنون العامدين، يبنى على أن عمدها عمد أم خطأ ؟ إن قلنا: عمد وهو الاظهر، وجب، وإلا فلا، كذا أطلقه مطلقون، وعن القفال وغيره أن الخلاف في صبي يعقل عقل مثله، وفي مجنون له نوع تمييز، فأما من لا تمييز له بحال، فعمده خطأ، وشريكه شريك مخطئ قطعا، وعلى هذا جرى الائمة، منهم البغوي. فرع إذا جرح شخص شخصا جراحتين إحداهما: عمد، والاخرى: خطأ، فمات بهما، فلا قصاص في النفس، لان الزهوق لم يحصل بعمد محض، وتجب نصف الدية المغلظة في ماله، ونصف المخففة على عاقلته، وقد يتعلق القصاص بجراحة العمد، بأن تكون قطع طرف، وكذا لو جرح حربيا أو مرتدا، فأسلم، فجرحه ثانيا، أو قطع يد إنسان قصاصا، أو بسرقة، ثم جرحه، أو قطع يده الاخرى ظلما، أو قطع الصائل دفعا، فلما ولى، جرحه، أو قطع يده الاخرى، فلا قصاص في النفس، ويثبت موجب الجراحة الواقعة في حال العصمة من قصاص، أو دية مغلظة، وكذا لو جرح العادل الباغي في القتال، ثم جرحه بعده، أو السيد عبده ثم جرحه بعد عتق، أو جرح حربي مسلما، ثم أسلم الجارح، وجرحه ثانيا، ولو قطع مسلم يد ذمي، فأسلم، فقطع يده الاخرى، أو حر يد عبد، فعتق، فقطع يده الاخرى، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف المقطوع بعد الاسلام والحرية، فإن اقتص في الطرف، أخذ نصف الدية، وإن عفا، أخذ دية حر مسلم، ولو قطع ذمي يد ذمي، فأسلم القاطع، ثم قطع يده الاخرى، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف المقطوع أولا، فإن عفا المستحق، أخذ دية ذمي. فرع إذا داوى المجروح نفسه بسم قاتل، بأن شربه، أو وضعه على الجرح، فإن كان السم مذففا، فالمجروح قاتل نفسه، وليس على الجارح قصاص في النفس، وإنما عليه أرش جراحته أو القصاص إن تعلق بها قصاص طرف، وإن كان السم مما لا يقتل غالبا، فالجارح شريك لصاحب شبه عمد، فلا قصاص عليه في النفس، بل عليه نصف الدية المغلظة، أو القصاص في الطرف إن اقتضته، وإن(7/41)
كان السم قاتلا غالبا فإن لم يعلم المجروح ذلك، فهو كالحالة الثانية، وإن علمه، ففي وجوب القصاص على الجارح طريقان، أصحهما: أنه كشريك جارح نفسه، والثاني: لا يجب قطعا، لانه شريك مخطئ، لكونه قصد التداوي لا الاهلاك. فرع لو خاط جرحه في لحم ميت، لم يؤثر، لانه لا يؤلم، وعلى الجارح القصاص، أو كمال الدية، وإن خاطه تداويا في لحم حي، وكان ذلك مما يقتل غالبا، ففي وجوب القصاص على الجارح الطريقان في التداوي بالسم القاتل غالبا، وفي الصورتين لا فرق بين أن يفعل المجروح ذلك بنفسه، أو يأمر به، ولا شئ على المأمور، ولو استقل به غيره، فهو والاول جارحان متعديان، ولو تولاه الامام في مجروح، فإن كان بالغا رشيدا، فكذلك، لانه لا ولاية له عليه، وإن كان صغيرا أو مجنونا، فداواه لمصلحته، فمات، ففي وجوب القصاص على الامام قولان، كما لو قطع سلعة من صغير، أو مجنون، فمات منه، فإن قلنا: لا قصاص، وجب نصف دية مغلظة، وهل هي على عاقلة الامام أم في بيت المال ؟ فيه القولان المعروفان، وحكم الجارح يبنى على الخلاف فيما إذا تولاه المجروح بنفسه، فإن جعلنا وجوب القصاص عليه على الخلاف في مشاركة العامد الذي لا يضمن، لم يجب هنا القصاص، لانه شارك من فعله مضمون بالقصاص، أو الدية، وإن نزلنا المجروح منزلة المخطئ لقصده التداوي، ولم نوجب القصاص على شريكه، فكذا هنا، ولو قصد الخياطة في لحم ميت، فغلط وخاط في حي، فالجارح شريك مخطئ قطعا، قال القفال: وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فغلط وأصابت الابرة اللحم، وأما الكي فكالخياطة، فينظر أكوى لحما ميتا أو حيا يؤلم وله سراية، ولا اعتبار بالمداواة بما لا يضر، ولا يخشى منه هلاك، ولا بما على المجروح من قروح، ولا بما به من مرض وضنى. فرع قطع أصبع رجل، فتأكل موضع القطع، فقطع المقطوع كفه خوفا من السراية، نظر، إن لم يتآكل إلا موضع القطع، فليس على الجاني إلا القصاص في الاصبع، أو أرشها إن لم يسر إلى النفس، فإن سرى، ففي وجوب القصاص(7/42)
على الجاني في النفس، الخلاف المذكور في الخياطة، ولو جرح عضوا، فداواه المجروح فتأكل العضو، فسقط، فإن كان ما داواه به لا يورث التآكل، فعلى الجارح ضمان العضو، وإن كان يورث التآكل فليس عليه إلا أرش الجراحة، فلو قال الجاني: داويت بما يحدث منه التآكل، وأنكر المجني عليه، صدق المجني عليه بيمينه، لان الجناية معلومة، وغيرها من الاسباب غير معلوم، قال البغوي: ويحتمل أن يقال: المصدق الجاني بيمينه، لان الاصل براءته، ولو قطع يد إنسان ومات المقطوع، فقال الوارث: مات بالسراية، وقال الجاني: بل قتل نفسه، فأيهما المصدق بيمينه ؟ وجهان، أصحهما: الوارث، وهو نصه في الام. فرع ضرب جماعة رجلا بسياط، أو عصى خفيفة حتى قتلوه، نظر، إن كانت ضربات كل واحد منهم قاتلة لو انفردت، فعليهم القصاص، وإن آل الامر إلى الدية، فهل توزع عليهم على عدد الضربات، أم على عدد الرؤوس ؟ قولان، أرجحهما الاول، لان الضربات تلاقي ظاهر البدن، فلا يعظم فيها التفاوت بخلاف الجراحات، وإن لم يكن ضرب كل واحد قاتلا، بأن ضربه كل واحد من العدد الكثير ضربة، فمات، فثلاثة أوجه، أحدها: لا قصاص على واحد، والثاني: يجب على الجميع القصاص، لئلا يصير ذريعة إلى القتل، وأصحها: أنهم إن تواطؤوا على أن يضربوه تلك الضربات، فعليهم القصاص، وإن وقعت اتفاقا، فلا، وإذا لم نوجب القصاص، وجبت الدية قطعا، كذا قاله الامام، وذكر البغوي أنه لو ضربه واحد سوطين، أو ثلاثة، وآخر خمسين سوطا، أو مائة قبل زوال ألم الاول، ولا تواطؤ، فلا قصاص على واحد منهما، لان ضرب الاول شبه عمد، والثاني شريك له، ويجب بضرب الاول نصف دية شبه العمد، وبضرب الثاني نصف دية العمد، وأنه لو ضربه واحد خمسين، ثم ضربه الآخر سوطين قبل زوال ألم الاول، فإن كان الثاني عالما بضرب الاول، فعليهما القصاص لظهور قصد(7/43)
الاهلاك فيهما، وإن كان جاهلا، فلا قصاص على واحد منهما، لانه لم يظهر قصد الاهلاك من الثاني، والاول شريكه، ويجب بضرب الاول نصف دية العمد، وبضرب الثاني نصف دية شبه العمد، وفرق بينه وبين ما إذا ضرب مريضا سوطين، جاهلا مرضه، حيث يجب القصاص، بأن هناك لم يجد من يحيل عليه القتل سوى الضارب، وليكن الحكم بتنصيف الدية في الصورتين تفريعا على أن التوزيع على الرؤوس دون الضربات. فرع جرحه رجل، ونهشته حية، ومات منهما، فالجارح شريك الحية وقد سبق بيان القصاص، وإذا آل الامر إلى المال، فعليه نصف الدية، ولو جرحه مع ذلك سبع، فوجهان، أصحهما: عليه ثلث الدية، والثاني: نصفها، ويجعل غير الآدمي جنسا.
باب تغير حال المجروح بين الجرح والموت للتغير أحوال: أحدها: أن يطرأ المضمن وفيه مسائل: إحداها: إذا جرح مرتدا أو حربيا بقطع يد أو غيره، ثم أسلم، أو عقدت للحربي ذمة، ثم مات من تلك الجراحة، فلا قصاص قطعا، ولا دية على الصحيح المنصوص، وقيل: لا دية قطعا، لانه قطع غير مضمون، فلم تضمن سرايته، كسراية القصاص والسرقة. الثانية: جرح حربي مسلما، ثم أسلم، أو عقدت له ذمة، ثم مات المجروح، قطع البغوي بأنه لا ضمان، ونقل بعضهم لزوم الضمان، لانه مضمون في الحالين. قلت: الصحيح: لا ضمان. والله أعلم. الثالثة: جرح عبد نفسه، ثم أعتقه، فمات بالسراية، فلا ضمان على السيد على المذهب والمنصوص، وقيل: قولان، ثانيهما: وجوب الدية.(7/44)
الرابعة: رمى مرتدا أو حربيا، فأسلم، ثم أصابه السهم، فلا قصاص لعدم الكفاءة في أول أجزاء الجناية، وتجب الدية على المذهب وهو المنصوص، وقيل: لا تجب، وقيل: تجب في المرتد دون الحربي، لان المرتد لا يجوز لغير الامام قتله، ولان المرتد يقتل بالسيف ولا يرشق بالنشاب، فرشقه ممنوع، ويجري الخلاف فيما إذا رمى إلى قاتل أبيه، ثم عفا عنه قبل الاصابة، وهو أولى بالوجوب من المرتد، وفيما إذا رمى إلى عبد نفسه، ثم أعتقه قبل الاصابة، وهو أولى بالوجوب، لان العبد معصوم مضمون بالكفارة. الخامسة: حفر بئرا في محل عدوان، فتردى فيها مسلم كان مرتدا وقت الحفر، أو حر كان عبدا، وجبت الدية بلا خلاف، لان الحفر ليس سببا ظاهرا للاهلاك، ولا يتوجه نحو معين فلا يؤثر وجوده في زمن الاهدار بخلاف الرمي. فرع لو تغير حال الرامي، بأن رمى حربي إلى مسلم، ثم أسلم قبل الاصابة، ففي وجوب الضمان وجهان. فرع إذا قلنا بوجوب الضمان فيما إذا جرح حربيا، فأسلم ثم مات، وفيما إذا جرح عبد نفسه، ثم أعتقه فمات، فالواجب دية حر مسلم، وكذلك في مثلهما من صور الرمي. ثم الذي رأى الامام القطع به وتابعه عليه الغزالي أن الدية في طريان الاسلام والعتق بعد الجرح تكون مخففة، وعلى العاقلة، كما لو رمى إلى صيد، فأصاب آدميا، وأما في طريانهما بعد الرمي، ففي الدية الواجبة خلاف مذكور في الديات. الحال الثاني: أن يطرأ المهدر، فإذا جرح مسلما، ثم ارتد، ثم مات بالسراية، أو ذميا، فنقض العهد، ثم مات، فلا يجب قصاص النفس، ولا ديتها، ولا الكفارة، لانها تلفت وهي مهدرة، وأما ما يتعلق بالجراحة، ففيه صورتان،(7/45)
إحداهما: أن تكون الجراحة مما يوجب القصاص، كالموضحة وقطع اليد، ففي وجوب القصاص في الموضحة والطرف، قولان، أظهرهما: الوجوب، فعلى هذا قال الشافعي رحمه الله في المختصر: لوليه المسلم أن يقتص، فقيل: أراد بالولي، السلطان، لانه وارث للمرتد، وقال الجمهور: يستوفيه قريبه الذي كان يرثه لولا الردة، لان القصاص للتشفي، وذلك يتعلق بالقريب دون السلطان، فعلى هذا لو كان القريب صغيرا أو مجنونا انتظر بلوغه وإفاقته ليستوفي. الصورة الثانية: أن تكون الجراحة موجبة للمال دون القصاص، كالجائفة والهاشمة، أو من جنس ما يوجب القصاص، وقلنا: لا قصاص، أو عفي عنه، فهل يجب المال ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الوجوب، فعلى هذا فيما يجب وجهان، أصحهما ويحكى عن النص: أنه يجب أقل الامرين من الارش الذي تقتضيه الجراحة ودية النفس، والثاني، وبه قال الاصطخري: يجب أرش الجراحات بالغا ما بلغ، فيجب فيما إذا قطع يديه ورجليه ديتان، وعلى كل حال فالواجب فئ لا يأخذ القريب منه شيئا، هذا إذا طرأت الردة بعد الجرح، فلو طرأت بعد الرمي وقبل الاصابة، فلا ضمان باتفاقهم. فرع قطع يده، ثم ارتد المقطوع، واندمل جرحه، فله قصاص اليد، فإن مات قبل أن يقتص، اقتص وليه، ومن الولي ؟ فيه الخلاف السابق، فإن كانت الجناية توجب المال، قال البغوي: إن قلنا: ملكه باق، أخذه، وإن قلنا: زائل، وقف، فإن عاد إلى الاسلام، أخذه، وإلا، أخذه الامام. الحال الثالث: أن يتخلل المهدر بين الجرح والموت، فإذا جرح مسلم مسلما، ثم ارتد المجروح، ثم أسلم ومات بالسراية، وجبت الكفارة قطعا، وأما القصاص، فنص أنه لا يجب، ونص فيما إذا جرح ذمي ذميا، أو مستأمنا فنقض العهد، والتحق بدار الحرب، ثم جدد العهد، ومات بالسراية، أن في وجوب القصاص قولين، وللاصحاب طريقان، أصحهما في المسألتين، قولان، أحدهما: وجوب القصاص، لانه مضمون بالقصاص في حالتي الجرح والموت، والثاني: لا، لتخلل حالة الاهدار، والطريق الثاني: تنزيل النصين على حالين، فحيث قال: لا قصاص، أراد إذا طالت مدة الاهدار، بحيث يظهر أثر السراية،(7/46)
وحيث قال: يجب، فذلك إذا قصرت المدة بحيث لا يظهر للسراية أثر، وإذا قلنا بطريقة القولين، ففي موضعهما طريقان، أحدهما: تخصيصهما بما إذا قصرت المدة، فإن طالت، لم يجب القصاص قطعا، والثاني: طردهما في الحالين قاله ابن سريج وابن سلمة وابن الوكيل، والاصح عند الجمهور: تخصيص القولين بقصر المدة، والاظهر منها عند الجمهور، أنه لا قصاص، وأما الدية، ففيها أقوال، أظهرها عند الجمهور: يجب كمال الدية، والثاني: نصفها، والثالث: ثلثاها، والرابع: أقل الامرين من كل الدية وأرش الجراحة، وهذان الاخيران مخرجان، ثم قال الجمهور: تختص الاقوال بما إذا طالت مدة الاهدار، فإن قصرت، وجب كل الدية قطعا، وقيل بطردها في الحالين، قال الامام: وإذا أوجبنا القصاص، فآل الامر إلى المال، ففيه هذا الخلاف، وقال البغوي: إذا أوجبنا القصاص، فعفي، وجب كمال الدية بلا خلاف، وإنما الخلاف إذا لم نوجب قصاصا، وهذا أرجح. فرع رمى إلى مسلم فارتد وعاد إلى الاسلام، ثم أصابه السهم، فلا قصاص على المذهب، وبه قطع الجمهور، قال الامام: ويجئ فيه قول. الحال الرابع: أن يطرأ ما يغير قدر الدية، فيجب ما يقتضيه يوم الموت، لان الضمان بدل التالف، فيعتبر وقت التلف، وقد يكون التغير من الاكثر إلى الاقل، وقد ينعكس، مثال الاول: جنى على نصراني، فتمجس ثم مات، فإن قلنا: يقر النصراني إذا تمجس على التمجس، فعلى الجاني دية مجوسي، وإن قلنا: لا يقر، فهو كما لو ارتد المجروح ومات، فعلى الاصح: يجب الاقل من أرش الجناية على نصراني ودية نفسه، وعلى قول الاصطخري: يجب الارش بالغا ما بلغ، ولو جرح نصرانيا، فنقض المجروح العهد، والتحق بالحرب، ثم سبي واسترق، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف إن كانت الجناية بقطع طرف، وإن أراد المستحق المال، ففيما يجب، قولان، أحدهما: أقل الامرين من أرش جنايته حرا، وكمال قيمته عبدا، وعلى هذا هو لورثته(7/47)
النصارى، سواء كانوا عندنا أم في دار الحرب، كذا حكاه ابن كج والروياني، وفي قول غريب، يكون لبيت المال. قلت: قد جزم البغوي على هذا القول بأنه لسيده، لانه بدل روحه وكانت ملكه. والله أعلم. وأظهرهما: أن الواجب للوارث، والباقي للسيد، ولو أن الذي ملكه أعتقه، فمات حرا فقولان في أن الواجب أقل الامرين من الارش، ودية حر ذمي، وعلى القولين فالواجب لورثته، ولو أسلم وعتق ومات، ففي القصاص قولان، وفي المال الواجب قولان، هل هو دية حر مسلم، أم أقل الامرين من الارش ودية حر مسلم ؟ وعلى القولين، فهو لورثته المسلمين. مثال العكس: جرح ذميا، فأسلم، أو عبدا لغيره، فعتق، ثم مات، نظر، إن مات بعد الاندمال، وجب أرش الجناية، ويكون الواجب في العبد لسيده، فلو قطع يديه، أو فقأ عينيه، لزمه كمال قيمته، سواء كان العتق قبل الاندمال أم بعده، وقيل: إن كان الاندمال بعد العتق، فعليه دية حر، والصحيح الاول، وإن مات بالسراية، لم يجب قصاص النفس إذا كان جارح الذمي مسلما، وجارح العبد حرا، وتجب فيه دية حر مسلم، لانه كان مضمونا أولا، وهو في الانتهاء حر مسلم، ولا فرق بين أن تكون القيمة أقل من الدية، أو أكثر، حتى لو فقأ عيني عبد قيمته تساوي مائتين من الابل، أو قطع يديه، لم يجب إلا مائة، ثم إن كانت الدية مثل القيمة أو أقل، فالجميع للسيد، وإن كانت أكثر، فالزيادة على القيمة للورثة، لانها وجبت بالحرية، وقال المزني: إذا كانت القيمة أكثر، وجبت بكمالها للسيد، ولو قطع إحدى يدي عبد، فعتق ومات بالسراية، أوجبنا كمال الدية، وفيما للسيد منها قولان، أحدهما: أقل الامرين من(7/48)
كل الدية، وكل القيمة، وأظهرهما: أقل الامرين من كل الدية، ونصف القيمة، وهو أرش الطرف المقطوع في ملكه. فصل قطع يد عبد، فعتق، ثم جاء آخر، فقطع يده الاخرى، أو رجله، نظر، إن اندملت الجراحتان، فلا قصاص على الاول إن كان حرا، وعليه نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص، أو نصف الدية، وإن مات منهما، فلا قصاص على الاول في النفس، ولا في الطرف إن كان حرا، وأما الثاني، فللوارث أن يقتص منه في الطرف، وكذا في النفس على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: لا قصاص، وقيل: قولان كشريك المبيع، وإذا أوجبنا القصاص، فعفا المستحق، فعليهما كل الدية للسيد، أقل من نصف الدية ونصف القيمة، ويكون حقه فيما يجب على الاول دون الثاني، وإن اقتص الوارث من الثاني، بقي على الاول نصف الدية، فإن كان قدر نصف القيمة أو أقل، أخذه السيد، وإن كان أكثر، فالزيادة للوارث ولو قطع حر يد عبد، فعتق، ثم قطع يده الاخرى، فمات منهما، فللوارث القصاص في الطرف الثاني ولا يجب قصاص النفس على الصحيح، فلو عفا المستحق عن قصاص الطرف، ففيهما الدية، وإن استوفاه، بقي نصف الدية، وحكم ما للسيد في الحالين على ما ذكرنا فيما إذا كان القاطع غيره، ولو قطع إصبع عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده، ومات منهما، فعليهما الدية، وللسيد على أحد القولين: الاقل من نصف الدية، ونصف القيمة، وعلى الاظهر: الاقل من نصف الدية، وعشر القيمة. فرع قطع إحدى يدي عبد، فعتق، ثم جرحه رجلان، بأن قطع أحدهما يده الاخرى، والآخر رجله، ومات، فلا قصاص على الاول، لا في النفس ولا في الطرف إن كان حرا، وعلى الآخرين القصاص في الطرف، ويجب أيضا في النفس على المذهب، وأما الدية، فتجب على الثلاثة أثلاثا، ولا حق للسيد فيما يجب على الآخرين، وإنما يتعلق حقه بما على الاول، وفيما يستحقه القولان، فعلى القول الاول: أقل الامرين من ثلث الدية، وثلث القيمة، وعلى الثاني: الاقل من ثلث الدية، وأرش الجناية في ملكه وهو نصف القيمة، فلو كانت الصورة بحالها، فعاد الاول وجرح بعد العتق جراحة أخرى ومات بسراية الجميع، فالدية عليهم أثلاثا لما سبق أنا ننظر إلى عدد الجارحين، لا إلى الجراحات، ثم الثلث الواجب على(7/49)
الجاني الاول واجب عن جنايتيه، فتقابل الجناية الواقعة في الرق سدس الدية، فللسيد على القول الاول الاقل من سدس الدية الواجب بالجناية في ملكه، أو سدس القيمة، وعلى الثاني الاقل من سدس الدية أو نصف القيمة وهو أرش الجناية في ملكه. ولو قطع يد عبد، فعتق، فجرحه آخر جراحة، فعاد الاول، فجرحه أخرى، فعليهما الدية نصفين، والنصف الواجب على الاول وجب بجنايتي الرق والحرية، فحصة الجناية الاولى ربع الدية، فللسيد في القول الاول الاقل من ربع الدية وربع القيمة، وعلى الثاني الاقل من ربع الدية، ونصف القيمة، وبه أجاب ابن الحداد في هذه الصورة، وذكر القاضي أبو الطيب أنه الاظهر، ولو جنى اثنان على عبد معتق، ثم جنى عليه ثالث، ومات بالسراية، فعليهم الدية أثلاثا، وللسيد في القول الاول الاقل من ثلثي الدية وثلثي القيمة، وفي الثاني الاقل من ثلثي الدية وأرش جنايتي الرق، ولو جنى عليه ثلاثة في الرق، فعتق، ثم جنى رابع ومات، فعليهم الدية أرباعا، للسيد في القول الاول الاقل من ثلاثة أرباع الدية وثلاثة أرباع القيمة، وفي الثاني الاقل من ثلاثة أرباع الدية وأرش جنايات الرق، ولو جنى اثنان في الرق، وثلاثة بعد ما عتق، فالدية عليهم أخماسا، للسيد في القول الاول الاقل من خمسي الدية وخمسي القيمة، وفي الثاني الاقل من خمسي الدية وأرش جنايتي الرق، ولو أوضح عبدا، فعتق، فقطع آخر يده، ومات منهما، فعليهما الدية، وللسيد على القول الاول أقل الامرين من نصف الدية، ونصف القيمة، وعلى الثاني الاقل من نصف الدية ونصف عشر القيمة، وهو أرش الموضحة، ولو أوضحه، فعتق، فجاء تسعة فجرحوه ومات، فعليهم الدية أعشارا، وللسيد على القول الاول الاقل من عشر الدية وعشر القيمة، وعلى الثاني الاقل من عشر الدية، ونصف عشر القيمة، وهو أرش الموضحة ولو جرحه الاول جرحا آخر مع التسعة، فالدية عليهم كذلك للسيد، الاقل من نصف عشر الدية ونصف عشر القيمة على القولين، لانه لم يجب بالجناية واقفة وسارية إلا نصف عشر الضمان، وهكذا يتفق القولان إذا اتفق قدر الضمان على التقديرين، كما إذا جنى خمسة في الرق، وأرش جناياتهم نصف القيمة، وخمسة بعد العتق، فللسيد على القولين الاقل من نصف الدية ونصف القيمة. فرع قطع حر يد عبد، فعتق، فحز آخر رقبته، فقد أبطل الحز السراية،(7/50)
فعلى الاول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص، أو كمال الدية للوارث، ولو قطع حر يد عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده الاخرى، ثم حزت رقبته، فإن حزه ثالث، فقد بطلت سراية القطعين، فعلى الاول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص في الطرف، أو نصف الدية للوارث، وعلى الثالث القصاص في النفس، أو كمال الدية، وإن حزه الاول، نظر، إن حزه بعد اندمال قطعه، فعليه نصف القيمة للسيد، والقصاص في النفس، أو كمال الدية للوارث، وعلى الثاني نصف الدية، وإن حزه قبل الاندمال، فعليه القصاص في النفس، ثم إن قلنا بالصحيح: إن بدل الطرف يدخل في النفس، فإن اقتص الوارث، سقط حق السيد، وإن عفا، وجب كمال الدية للسيد منه الاقل من نصف الدية، ونصف القيمة على أحد القولين كما سبق، هذا هو الصحيح، وقال القاضي أبو الطيب: عندي يسقط حق السيد وإن عفا الوارث، لانه إذا سقط حكم الطرف، صار الحكم للنفس، وكان المأخوذ بدل النفس المفوتة بعد زوال ملك السيد، وعلى قول ابن سريج والاصطخري: أن بدل الطرف لا يدخل في النفس، يكون للسيد عليه نصف القيمة، وللوارث القصاص في النفس، أو كمال الدية، وإن حز الثاني، بطلت سراية الاول، فعلى الاول نصف القيمة للسيد، والثاني قطع طرف حز ثم قتله، فإن قتله بعد الاندمال، فللوارث أن يقتص منه في الطرف والنفس، وله أن يأخذ نصف الدية لليد، ودية كاملة للنفس، فإن شاء، اقتص فيهما، وإن شاء، أخذ بدلهما، وإن شاء، بدل أحدهما وقصاص الآخر، وإن قتله قبل الاندمال، فللوارث القصاص في النفس بقطع اليد، وله أخذ دية النفس فقط. فرع قد عرفت أن الواجب فيما إذا جنى على عبد، فعتق، وسرت الجناية إلى نفسه، إنما هو الدية، والدية الابل، قال الاصحاب: تؤخذ الدية، وتصرف إلى السيد حصته على التفصيل السابق من الابل، وليس للوارث أن يقول: أستوفي الابل، وأدفع إليه ما يستحقه من الدراهم، أو الدنانير، زاعما أنه إنما يستحق القيمة، والقيمة دراهم أو دنانير، لان ما يستحقه يستحقه من عين الدية التي هي الواجبة وليست مرهونة بحقه، بخلاف الدين مع التركة، وليس للسيد أن يكلف الجاني تسليم الدراهم، ولو أتى الجاني بالدراهم، ففي إجبار السيد على قبولها وجهان، أرجحهما عند الامام والغزالي: نعم، وحاصله تخيير الجاني بين تسليم(7/51)
الدية والدراهم، ولو أبرأ السيد الجاني عما يستحقه من الدية، برئ، وليس للورثة المطالبة به. فرع رمى إلى ذمي، فأسلم، أو عبد، فعتق قبل الاصابة، وجب دية حر مسلم، ولا قصاص إذا كان الرامي حرا مسلما، وكذا لو رمى ذمي إلى ذمي، أو إلى عبد، ثم أسلم الرامي، أو عتق قبل الاصابة، لا قصاص، لانه لا كفارة عند الاصابة. فرع قد يعبر عن مسائل الباب في تغير الحال بين الجرح والموت، وبين الرمي والاصابة، فيقال: كل جرح أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونا بتغير الحال في الانتهاء، وإن كان مضمونا في الحالين، اعتبر في قدر الضمان الانتهاء، وفي القصاص تعتبر الكفاءة في الطرفين والوسط، وكذا إذا تبدل الحال بين الرمي والاصابة، اعتبر في القصاص الكفاءة في الطرفين والوسط، وكذا يعتبر الطرفان والوسط في تحمل العاقلة وبالله التوفيق.
باب القصاص في الأطراف فيه فصول أربعة:
الأول : في أركانه وهي ثلاثة: القطع والقاطع والمقطوع، وكما يعتبر في القتل أن يكون عمدا محضا عدوانا يعتبر ذلك في الطرف، فلا يجب القصاص بالجراحات، وإبانة الاطراف إذا كانت خطأ، أو شبه عمد، ومن صور شبه العمد: أن يضرب رأسه بلطمة أو حجر لا يشج غالبا لصغره، فيتورم الموضع، ويتضح العظم، وقد يكون الضرب بالعصا الخفيفة، والحجر المحدد عمدا في الشجاج، لانه يوضح غالبا، ويكون شبه عمد في النفس، لانه لا يقتل غالبا، ولو أوضحه بما يوضح غالبا، ولا يقتل غالبا، فمات من تلك الموضحة، فعن الشيخ أبي حامد أنه يجب القصاص في الموضحة، ولا يجب في النفس، واستبعده ابن الصباغ(7/52)
وغيره، لانه إذا كانت هذه الآلة توضح في الغالب كانت كالحديدة، وفق ء العين بالاصبع عمد، لانها في العين تعمل عمل السلاح ويعتبر في القاطع كونه مكلفا ملتزما للاحكام، وفي المقطوع كونه معصوما كما ذكرنا في النفس، ومن قتل به الشخص، قطع به، ومن لا، فلا. ولا يشترط في قصاص الطرف التساوي في البدل، فيقطع العبد بالعبد، والمرأة بالرجل وبالعكس، والذمي بالمسلم، والعبد بالحر، ولا عكس فيهما، وتقطع الجماعة بالواحد إذا اشتركوا بأن وضعوا السكين على اليد، وتحاملوا عليها دفعة واحدة حتى أبانوها، أو ضربوه ضربة اجتمعوا عليها، ولو تميز فعل الشركاء، بأن قطع هذا من جانب، وهذا من جانب حتى التقت الحديدتان، أو قطع أحدهما بعض اليد، وأبانها الآخر، فلا قصاص على واحد منهما، ويلزم كل واحد منهما حكومة تليق بجنايته، وينبغي أن يبلغ مجموع الحكومتين دية اليد، وعن صاحب التقريب حكاية قول: إنه يقطع من كل واحد منهما بقدر ما قطع إن أمكن ضبطه، والمشهور الاول، ولو جزا حديدة جز المنشار، فقال الجمهور: هما فعلان متميزان، وقال ابن كج: هو اشتراك موجب للقصاص، قال الامام: هذا يصور صورتين، إحداهما: إن يتعاونا في كل جذبة وإرساله، فتكون من صور الاشتراك، والثانية: أن يجذب كل واحد إلى جهة(7/53)
نفسه، ويفتر عن الارسال في جهة صاحبه، فيكون البعض مقطوع هذا، والبعض مقطوع ذاك، ويكون الحكم ما قاله الجمهور.
الفصل الثاني : فيما يوجب قصاص الطرف الجنايات فيما دون النفس ثلاثة أنواع: جرح يشق، وقطع يبين، وإزالة منفعة بلا شق ولا إبانة. النوع الاول: الجرح، ويتعلق به القصاص في الجملة، قال الله تعالى * (والجروح قصاص) * ثم تنقسم إلى واقعة على الرأس والوجه، وإلى غيرها. الضرب الاول: الواقعة على الرأس والوجه، وتسمى الشجاج، وهي عشر، إحداها: الحارصة وهي التي تشق الجلد قليلا نحو الخدش، وتسمى الحرصة أيضا، الثانية: الدامية: وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، هكذا نص عليه الشافعي وأهل اللغة، قال أهل اللغة: فإن سال منها دم، فهي الدامعة بالعين المهملة، وذكر الامام والغزالي في تفسيرها: سيلان الدم وهو خلاف الصواب، الثالثة: الباضعة وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي: تقطعه، الرابعة: المتلاحمة وهي التي تغوص في اللحم، ولا تبلغ الجلدة بين اللحم والعظم، وتسمى اللاحمة أيضا، الخامسة: السمحاق وهي التي تبلغ تلك الجلدة، وتسمى تلك الجلدة السمحاق، وقد تسمى هذه الشجة: الملطى والملطاة واللاطئة، السادسة: الموضحة وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم،(7/54)
السابعة: الهاشمة وهي التي تهشم العظم، أي: تكسره، الثامنة: المنقلة وهي التي تنقل العظم من موضع إلى موضع، ويقال: هي التي تكسر وتنقل، ويقال: هي التي تكسر العظم حتى يخرج منها فراش العظام، والفراشة: كل عظم رقيق، وفراش الرأس: عظام رقاق تلي القحف، التاسعة: المأمومة وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ المحيطة به، ويقال لها: الآمة أيضا، العاشرة: الدامغة وهي التي تخرق الخريطة وتصل الدماغ وهي مذففة. فهذه العشرة هي المشهورة، وذكر فيها ألفاظ أخر تؤول إلى هذه، وجميع هذه الشجاج تتصور في الجبهة كما تتصور في الرأس، وكذلك تتصور ما عدا المأمومة والدامغة في الخد، وفي قصبة الانف، واللحي الاسفل، إذا عرفت هذا، فالقصاص واجب في الموضحة، لتيسر ضبطها، واستيفاء مثلها، ولا قصاص فيما بعدها من الهاشمة والمنقلة وغيرهما، وأما ما قبلها، فلا قصاص في الحارصة قطعا، ولا في الباضعة والمتلاحقة والسمحاق على المذهب، والدامية كالحارصة، وقيل: كالباضعة، فإن أوجبنا القصاص في المتلاحمة والباضعة، فإن كان على رأس كل واحد من الشاج والمشجوج موضحة، تيسرت معرفة النسبة بهما، وإن لم تكن، راجعنا أهل الخبرة لينظروا في المقطوع والباقي، ويحكموا بأنه نصف، أو ثلث بالاجتهاد بعد غمر رأس الشاج والمشجوج، ويحكمون أيضا عند القصاص، ويعمل باجتهادهم، فإن شكوا في أن المقطوع نصف أو ثلث أخذ باليقين. الضرب الثاني: الجراحات في سائر البدن، فما لا قصاص فيه إذا كان على الرأس والوجه لا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، وأما الموضحة التي توضح عظم الصدر، أو العنق، أو الساعد أو الاصابع، ففي وجوب القصاص فيها وجهان،(7/55)
أحدهما: لا، كما لا يجب فيها أرش مقدر، وأصحهما: نعم، وهو ظاهر النص لتيسر استيفاء المثل، وإذا اختصرت، وأجبت في الجراحات في جميع البدن بالمختار، قلت: يجب القصاص في الجراحة على أي موضع كانت بشرط أن تنتهي إلى عظم ولا تكسره. النوع الثاني: قطع الطرف، فيجب القصاص بقطع الطرف بشرط إمكان المماثلة، وأمن استيفاء الزيادة، ويحصل ذلك بطريقين: أحدهما: أن يكون للعضو مفصل توضع عليه الحديدة وتبان، والمفصل موضع اتصال عضو بعضو على منقطع عظمين، وقد يكون ذلك بمجاورة محضة، وقد يكون مع دخول عضو في عضو، كالمرفق والركبة، فمن المفاصل الانامل والكوع والمرفق ومفصل القدم والركبة، فإذا وقع القطع على بعضها، اقتص من الجاني، قال الامام: وفي بعض التعاليق عن شيخي حكاية وجه بعيد في المرفق والركبة، قال: وأظنه غلطا من المعلق، ومن المفاصل أصل الفخذ والمنكب، فإن أمكن القصاص بلا إجافة، اقتص، وإلا فلا، سواء كان الجاني أجاف أم لا، لان الجوائف لا تنضبط، وحكى الامام وجها شاذا أنه يجري القصاص إذا كان الجاني أجاف، وقال أهل البصر: يمكن أن يقطع، ويجاف مثل تلك الجائفة. الطريق الثاني: أن يكون للعضو حد مضبوط ينقاد لآلة الابانة، فيجب القصاص في فق ء العين، وفي الاذن، والجفن، والمارن، والذكر والانثيين قطعا، وفي الشفة واللسان على الصحيح، وفي الشفرين والاليتين على الاصح عند الاكثرين، ولا قصاص في إطار الشفة بكسر الهمزة وتخفيف الطاء المهملة، وهو المحيط بها، لانه ليس له حد مقدر، والكلام(7/56)
في قدر الشفتين والشفرين والاليتين يأتي في الديات إن شاء الله تعالى. فرع لو قطع بعض الاذن، أو بعض المارن من غير إبانة، وجب القصاص على الاظهر، لاحاطة الهواء بهما، وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر المقطوع بالجزئية، كالثلث والربع، لا بالمساحة، ولو قطع بعض الكوع، أو مفصل الساق والقدم، ولم يبن، فلا قصاص على الاظهر، لانها تجمع العروق والاعصاب، وهي مختلفة الوضع تسفلا وتصعدا، فلا يوثق بالمماثلة فيها بخلاف المارن، ولو قطع فلقة من الاذن، أو المارن، أو اللسان، أو الحشفة، أو الشفة، وأبانها، وجب القصاص على الصحيح، وتضبط بالجزئية، ولو أبان قطعة من الفخذ، فلا قصاص، كذا جزم به الغزالي، ويشبه أن يجئ فيه خلاف كالباضعة. فرع قطع يدا أو عضوا، وبقي المقطوع متعلقا بجلده، وجب القصاص، أو كمال الدية، لانه أبطل فائدة العضو، ثم إذا انتهى العضو في الاقتصاص إلى تلك الجلدة، فقد فصل القصاص، ويراجع الجاني أهل الخبرة في تلك الجلدة، ويفعل مصلحته من القطع والترك. فرع لا قصاص في كسر العظام، لعدم الوثوق بالمماثلة، لكن للمجني عليه أن يقطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر، ويأخذ الحكومة للباقي، وله أن يعفو، ويعدل إلى المال، ولو أوضح رأسه مع الهشم، فللمجني عليه أن يقتص في الموضحة، ويأخذ الهشم ما بين أرش الهاشمة والموضحة، وهو خمس من الابل، ولو أوضح ونقل، فللمجني عليه أن يقتص في الموضحة، ويأخذ ما بين الموضحة والمنقلة، وهو عشر من الابل، ولو أوضح وأم، فله أن يوضح، ويأخذ ما بين الموضحة والمأمومة، وهو ثمانية وعشرون بعيرا وثلث بعير، لان في المأمومة ثلث الدية.(7/57)
فرع قطعه من الكوع، فأراد المجني عليه أن يلقط أصابعه، فليس له ذلك، فلو بادر وفعله، عزر، ولا غرم عليه، لانه يستحق إتلاف الجملة، فلا يلزمه بإتلاف البعض غرم، كما أن مستحق قتل النفس لو قطع طرف الجاني، لا غرم عليه، قال البغوي: وهل له أن يعود ويقطع الكف ؟ وجهان، أصحهما: نعم، كما أن مستحق النفس لو قطع يد الجاني له أن يعود ويحز رقبته، ولو طلب حكومة الكف تدخل في دية الاصابع وقد استوفى الاصابع المقابلة بالدية، ولو قطع يده من المرفق، فأراد أن يقطع من الكوع، أو يقطع أصبعا، ويرضى بها قصاصا ومالا، لم يكن له ذلك، لانه عدول عن محل الجناية مع القدرة عليه، وقيل: إن رضي بذلك بلا مال، جاز، والصحيح الاول، فلو خالفنا فقطع من الكوع، عزر ولا غرم لما سبق، ولو أراد بعد ذلك أن يقطع من المرفق، قال الامام: لا يمكنه، وجعله البغوي على وجهين، ولو طلب حكومة الساعد لم نثبتها له، كذا نقله الامام عن الاصحاب، ونقله البغوي أيضا، ثم قال: وعندي أنها تثبت. فرع لو كسر عظم العضد، وأبان اليد منه، فللمجني عليه أن يقطع من المرفق، ويأخذ الحكومة لما بقي، وإن عفا، فله دية الكف، وحكومة للساعد، وحكومة للمقطوع من العضد، فلو أراد أن يترك المرفق، ويقطع من الكوع، فهل له ذلك ؟ وجهان، أرجحهما عند البغوي: يجوز، لعجزه عن محل الجناية، ومسامحته، وأرجحهما عند الروياني وغيره لا، لانه عدول عما هو أقرب إلى محل الجناية ولو أراد التقاط الاصابع، لم يمكن قطعا، ولو أراد أخذ أصبع واحدة، فالقياس أنه على الوجهين في قطع الكوع، فإذا قلنا: ليس له القطع من الكوع، فقطع، ثم أراد القطع من المرفق، لم يكن وليس له حكومة الساعد، وإن قلنا: له القطع من الكوع، فقطع، فله حكومة الساعد على الاصح، وتجب له حكومة المقطوع من العضد، هكذا جزم به الاصحاب، وحكى الغزالي فيه وجهين، والصواب الاول، لان استيفاء تلك البقية متعذر شرعا، ولم يوجد من المجني عليه فيها تقصير وعدول، ولم أجد هذين الوجهين لغير الغزالي.(7/58)
فرع لو قطعه من نصف الساعد، قطع من الكوع وأخذت حكومة نصف الساعد، فلو عفا، فله دية الكف، وحكومة لنصف الساعد، ولو أراد أن يلتقط أصابعه، لم يكن، فلو فعل، لم يمكن من القطع من الكوع، قال البغوي: وليس له حكومة الكف، وله حكومة نصف الساعد، ويجئ في حكومة نصف الساعد الخلاف. فرع لو قطع يده من نصف الكف، لم يقتص في الكف، وله التقاط الاصابع. وإن تعددت الجراحة، لانه لا سبيل إلى إهماله، وليس بعد موضع الجراحة إلا مفاصل متعددة، وهل تجب مع قطعها حكومة نصف الكف، أم تدخل الحكومة في فرع من الام: لو قطعها، كدخولها في استيفاء الدية ؟ وجهان، أصحهما: الوجوب فرع: من " الام ": لو شق كفه حتى انتهى إلى مفصل، ثم قطع من المفصل أو لم يقطع، اقتص منه إن قال أهل الخبرة: يمكن أن يفعل به مثله. النوع الثالث: إبطال المنافع وهي لا تباشر بالتفويت، وإنما تفوت تبعا لمحلها، وقد ترد الجناية على غير محلها، وتفوت هي بالسراية لارتباط بينها وبين محل الجناية، فلو أوضح رأسه، فذهب ضوء عينيه، فالنص أنه يجب القصاص في الضوء كما يجب في الموضحة، ونص فيما إذا قطع أصبعه فسرى إلى الكف، أو إلى أصبع أخرى بتآكل أو شلل، أنه لا يجب القصاص في محل السراية، فقيل: فيهما قولان، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن الضوء ونحوه من اللطائف لا تباشر بالجناية، وإنما تقصد بالجناية على محلها، أو محل آخره، وإذا أوجبنا القصاص في الضوء بالسراية، فالذي صححه الامام نقلا ومعنى أن السمع كالبصر، وحكى فيما إذا أبطل بطش عضو بالسراية تردد الاصحاب، منهم من ألحقه بالضوء، وبه قال صاحب التقريب ومنهم من رأى البطش عسر الازالة،(7/59)
كالاجسام، وإليه ميل الشيخ أبي محمد، وفي العقل أيضا تردد لبعده عن التناول بالسراية، قال: ولا يبعد إلحاق الكلام بالبصر، ورتبها فجعل البصر والسمع في درجة، ويليهما الكلام، ويليه البطش، ويليه العقل، وذكر صاحب المهذب أنه لو جنى على رأسه، فذهب عقله، أو على أنفه، فذهب شمه، أو على أذنه، فذهب سمعه، فلا قصاص في العقل والشم والسمع، والاقرب منع القصاص في العقل، ووجوبه في الشم والبطش والذوق، لان لها محال مضبوطة، ولاهل الخبرة طرق في إبطالها، وإذا ذهب الضوء بالموضحة، واقتصصنا في الموضحة، فلم يذهب ضوء الجاني، أذهب بأخف ما يمكن، كتقريب حديدة محماة من عينيه، أو طرح كافور فيها ونحوهما، وإن ذهب ضوء الجاني، حصل القصاص، وفيه شئ يأتي إن شاء الله تعالى. ولو هشم رأسه، فذهب ضوؤه، عولج بما يزيل الضوء ولا يقابل الهشم بالهشم، ولو لطمه، فذهب ضوؤه واللطمة بحيث تذهب الضوء غالبا، فالمنقول عن نصه في الام أنه يلطم مثل لطمته، فإن ذهب الضوء فعلى ما ذكرنا في الموضحة، وإلا أزيل بالمعالجة، وإن ابيضت الحدقة، أو شخصت، فعل به ما يفضي إليه إن أمكن، ونسب صاحب المهذب هذا المنقول عن النص إلى بعض الاصحاب، ثم قال: ويحتمل أن لا يقتص في اللطمة كما لا يقتص بالهاشمة، لانه لا قصاص في اللطمة لو انفردت، وهذا حسن، وجعله صاحب التهذيب وجها، وقال: هو الاصح. فرع إذا قلنا: لا يجب القصاص في الاجسام بالسراية، فقطع أصبعه، فسرى القطع إلى الكف وسقطت، فلا يجب القصاص إلا في تلك الاصبع، وإذا اقتص في الاصبع، فسرى إلى الكف فالنص أن السراية لا تقع قصاصا، بل يجب على الجاني دية باقي اليد، ونص فيما إذا أوضحه فذهب ضوؤه وشعر رأسه، فاقتص في الموضحة، فذهب ضوء الجاني وشعر رأسه أيضا، أنه يكون مستوفيا حقه، ولو لم يذهب ضوء الجاني، ونبت شعره، فعليه دية البصر وحكومة الشعر. وفي هذا(7/60)
النص إيقاع الشعر مقابلا للشعر وهو من الاجسام، فاقتضى وقوع السراية في الاجسام قصاصا، فقيل: قولان في أن السراية في الضوء والكف هل تقع قصاصا ؟ وقيل: في الكف قولان، ويقع الضوء قطعا، والمذهب أن السراية لا تقع قصاصا في الكف ولا في الشعر، ولو عفا المجني عليه عن قصاص الاصبع، فله دية اليد، وإن اقتص، فلم يسر القطع إلى غير تلك الاصبع، أو سرى وقلنا: لا يقع قصاصا، فله أربعة أخماس دية الكف للاصابع الاربع، ولا تجب لمنابتها من الكف حكومة، بل تدخل في ديتها، وفي دخول حكومة خمس الكف في قصاص الاصبع، وجهان سيعودان إن شاء الله تعالى، وما يجب من الدية يجب مغلظا في مال الجاني، لانه وجب بجناية عمد موجبة للقود، وقيل: على العاقلة، والصحيح الاول، وله المطالبة به عقب قطع الاصبع، وفي صورة الموضحة المذهبة للبصر، لو أوضحه، فلم يذهب ضوؤه في الحال، لا يطالب بالدية، بل ينتظر، فلعله يسري إلى البصر فيحصل الاقتصاص، وكذا في النفس، لو قطع أصبعه فسرى إلى نفسه، فقطع الولي أصبع الجاني، ينتظر السراية ولا يطالب بالدية في الحال. فرع له تعلق بالسراية. لو قتل مستحق القصاص الجاني خطأ، أو ضربه بسوط خفيف، فهل يصير مستوفيا ؟ فيه خلاف، ومثله: لو وثب الصبي، أو المجنون على قاتل مورثه فقتله، هل يصير مستوفيا ؟ وجهان، أصحهما: لا، فعلى هذا ينتقل حقه إلى الدية، وتجب الدية بقتل الجاني، وهل تكون عليه أم على عاقلته ؟ يبنى على الخلاف في أن عمدهما عمد أم خطأ، ويجري فيما إذا ثبت قصاص لصبي أو مجنون، فوثب على القاطع فقطع طرفه، هل يكون مستوفيا لحقه ؟ ثم موضع الخلاف إذا لم يكن من الجاني تمكين، فأما إذا أخرج يده إلى الصبي أو المجنون فقطعه، فلا يكون مستوفيا لحقه بلا خلاف، ويكون قطعه هدرا.
الفصل الثالث : في المماثلة وهي معتبرة في وجوب القصاص في الطرف، كالكفاءة في النفس، فلا يقابل طرف بغير جنسه، كاليد بالرجل، وإذا اتحد(7/61)
الجنس، لم يؤثر التفاوت في الصغر والكبر، والطول والقصر، والقوة والضعف، والضخامة والنحافة، كما لا تعتبر مماثلة النفسين في هذه الامور، وكذلك تقطع يد الصانع بيد الاخرق، كما يقتل العالم بالجاهل، وإنما يؤثر التفاوت في أمور: أحدها: تفاوت المحل والقدر، أما المحل، فلا تقطع اليد اليمنى باليسرى، ولا اليسرى باليمنى، وكذا الرجل والعين والاذن، ولا يقطع من الجنس الاعلى بالاسفل، وكذا العكس، وكذا في الشفة، ولا أصبع ولا أنملة بغيرها، ولا أصبع زائدة بزائدة أخرى، إذا اختلف محلهما، بأن كانت زائدة بجنب الخنصر، وزائدة الجاني بجنب الابهام. وأما القدر، فالتفاوت في الحجم صغرا وكبرا، وطولا وقصرا لا يؤثر في الاعضاء الاصلية قطعا، وكذا في الزائدة على الاصح، فإن قلنا: تؤثر، وكانت زائدة الجاني أكبر، لم يقتص منه، وإن كانت زائدة المجني عليه أكبر، اقتص، وأخذ حكومة قدر النقصان، ثم الخلاف فيما رأى الامام فيما إذا لم يؤثر تفاوت الحجم في الحكومة، فإن أثر، فلا قصاص، قال: والاختلاف في الكون وسائر الصفات لا يؤثر بعد التساوي في الحكومة، وتقطع الزائدة بالاصلية إذا اتفق محلهما، ولا شئ له لنقصان الزائدة، كما لو رضي بالشلاء عن السليمة. فرع نقلوا عن النص أنه لو كانت زائدة الجاني أتم، بأن كان لاصبعه الزائدة ثلاث مفاصل، ولزائدة المجني عليه مفصلان، لم تقطع بها، لان هذا أعظم من تفاوت المحل. فرع الكلام في قصاص الموضحة يتعلق بالمساحة والمحل، أما المساحة، فمعتبرة طولا وعرضا، فلا تقابل ضيقة بواسعة، ولا يقنع بضيقة عن واسعة، فتذرع موضحة المشجوج بخشبة أو خيط، ويحلق ذلك الموضع من رأس الشاج، إن كان عليه شعر، ويخط عليه بسواد أو حمرة، ويضبط الشاج حتى لا يضطرب، ويوضح بحديدة حادة كالموسى، ولا يوضح بالسيف، وإن كان(7/62)
أو صح به، لانه لا تؤمن الزيادة، وكذا لو أوضح بحجر، أو خشب، يقتص منه بالحديدة، كذا ذكره القفال وغيره، وتردد فيه الروياني، ثم يفعل ما هو أسهل عليه من الشق دفعه واحدة، أو شيئا فشيئا، ويرفق في موضع العلامة، ولا عبرة بتفاوت الشاج والمشجوج في غلظ الجلد واللحم، وأما المحل، فإن أوضح جميع رأسه، ورأساهما متساويان في المساحة، أوضح جميع رأسه، وإن كان رأس الشاج أصغر، استوعبناه إيضاحا، ولا يكفي به ولا ينزل لاتمام المساحة إلى الوجه، ولا إلى القفا، بل يؤخذ قسط ما بقي من الارش إذا وزع على جميع الموضحة، وإن كان رأس الشاج أكبر، لم يوضح جميعه، بل بقدره بالمساحة والاختيار في موضعه إلى الجاني، وقيل: إلى المجني عليه، وقيل: يبتدئ من حيث بدأ الجاني، ويذهب به في الجهة التي ذهب إليها إلى أن يتم القدر، والصحيح الاول وبه قطع الاكثرون، فإن كان في رأس الجاني موضحة، والباقي بقدر ما فيه القصاص، تعين، وصار كأنه كل الرأس، ولو أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس، وبعضه من مؤخره، لم يكن له ذلك على الصحيح، لانه يأخذ موضحتين بدل موضحة، ولو أراد أن يستوفي البعض ويأخذ للباقي قسطه من الارش مع تمكنه من استيفاء الباقي، لم يكن له ذلك على الاصح، بخلاف ما لو أوضح في موضعين، فإن له أن يقتص في أحدهما، ويأخذ أرش الآخر، لانهما جنايتان، ولو أوضح الجاني بعض الرأس، كالقذال والناصية، أوضحنا ذلك القدر وتممناه من الرأس إن بقي من حقه شئ، وقيل: لا يجوز مجاوزة ذلك الموضع، والاول هو الصحيح المنصوص، ولو أوضح جبهته، وجبهة الجاني أصغر، لم يرتق إلى الرأس،(7/63)
وليجئ في مجاوزة موضع من الوجه إلى موضع يلاصقه الوجهان، وإذا أوجبنا القصاص في موضحة سائر البدن، فأوضح ساعده وساعد الجاني أصغر، لم يجاوزه إلى العضد ولا إلى الكتف، كما في الوجه والرأس. فرع لو زاد المقتص في الموضحة على قدر حقه، نظر، إن زاد باضطراب الجاني، فلا غرم، وإن زاد عمدا، اقتص منه في الزيادة ولكن بعد اندمال الموضحة التي في رأسه، وإن آل الامر إلى المال، أو أخطأ باضطراب يده، وجب الضمان، وفي قدره وجهان، أحدهما: يوزع الارش عليهما، فيجب قسط الزيادة، وأصحهما: يجب أرش كامل، ولو قال المقتص: أخطأت بالزيادة، فقال المقتص منه: بل تعمدتها، صدق المقتص بيمينه، ولو قال: تولدت الزيادة باضطرابك، وأنكر، فأيهما يصدق ؟ وجهان، لان الاصل براءة الذمة وعدم الاضطراب. فرع اشترك جماعة في موضحة، بأن تحاملوا على الآلة وحزوها معا، ففيه احتمالان للامام، أحدهما: يوزع عليهم، ويوضح من كل واحد قدر حصته لامكان التجزئة، بخلاف القتل، والثاني: يوضح من كل واحد مثل تلك الموضحة، كالشركاء في القطع، وبهذا قطع البغوي، ويجري الاحتمالان فيما لو آل الامر إلى المال، هل يجب على كل واحد أرش كامل أم يوزع عليهم ؟ قال الامام: وهذا الثاني أقرب، وبالاول قطع البغوي. فرع ما ذكرنا أنه يحلق شعر رأس الشاج عند الاقتصاص، مفروض فيما(7/64)
إذا كان لكل منهما شعر، فإن لم يكن للشاج شعر، فلا حلق، وإن لم يكن على رأس المشجوج شعر، وكان على رأس الشاج شعر، لم يمكن من القصاص لما فيه من إتلاف شعر لم يتلفه، نص عليه في الام ولا يضر التفاوت في خفة الشعر وكثافته. فرع لو شك هل أوضح بالشجة أم لا، لم يقتص مع الشك، ويبحث عن الحال بمسمار حتى يعرف، ويشهد به شاهدان، أو يعترف به الجاني، لان حكم الايضاح يتعلق بالانتهاء إلى العظم حتى لو غرز إبرة فانتهت إلى العظم، كان ذلك موضحة، وإن كان لا يظهر العظم للناظر. التفاوت الثاني في الصفات التي يؤثر التفاوت فيها وفيه مسائل: إحداها: مطلق التفاوت لا يؤثر، بل تقطع اليد البيضاء بالسوداء، والسليمة بالبرصاء، ويد الصانع بيد الاخرق. الثانية: لا تقطع يد أو رجل صحيحة بشلاء وإن رضي به الجاني، وإنما الواجب في الطرف الاشل الحكومة، كما لا يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي وإن رضي الجاني، فلو خالف المجني عليه، وقطع الصحيحة، لم تقع قصاصا، بل عليه نصف الدية، ولو سرى فعليه القصاص في النفس، فإن كان قطع بإذن الجاني، فلا قصاص عند السراية، لانه بإذنه، ثم ينظر، إن قال الجاني: اقطع يدي، وأطلق، جعل المجني عليه مستوفيا لحقه، ولم يلزمه شئ، وإن قال: اقطعها عوضا عن يدك، أو قصاصا، فوجهان، أحدهما وبه قطع البغوي: أن على المجني عليه نصف الدية، وعلى الجاني الحكومة، لانه لم يبذلها مجانا، والثاني: لا شئ على المجني عليه، وكأن الجاني أدى الجيد عن الردئ، وقبضه المستحق. الثالثة: اليد الشلاء، والرجل الشلاء، هل تقطعان بالصحيحتين ؟ وجهان،(7/65)
أحدهما: لا، لان الشرع لم يرد بالقصاص فيها، والثاني وهو الصحيح الذي عليه الاصحاب: أنه يراجع أهل البصر، فإن قالوا: لو قطعت لم ينسد فم العروق بالحسم، ولم ينقطع الدم، لم تقطع بها، وتجب دية يده، وإن قالوا: تنقطع، فله قطعها، وتقع قصاصا، كقتل الذمي بالمسلم، وليس له أن يطلب بسبب الشلل أرشا. الرابعة: هل تقطع الشلاء بالشلاء ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان الشلل علة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن، والثاني وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور: أنهما إن استويا في الشلل، أو كان شلل يد القاطع أكثر، قطعت بها، والشرط أن لا يخاف نزف الدم كما ذكرنا، وإن كان الشلل في يد المقطوع أكثر، لم يقطع بها. فرع قال الشيخ أبو محمد: المراد بالشلل في اليد والرجل زوال الحس والحركة، وقال الامام: لا يشترط زوال الحس بالكلية، وإنما الشلل بطلان العمل. الخامسة: لا أثر لتفاوت البطش، بل تقطع يد القوي بيد الشيخ الذي ضعف بطشه، لكن لو كان النقص بجناية، بأن ضرب رجل يده فنقص بطشها، وألزمناه الحكومة، ثم قطع تلك اليد كاملة البطش، فقد حكى الامام أنه لا قصاص، وأنه لا تجب دية كاملة على الاصح، وهذا كما سبق أن من صار إلى حالة المحتضر بلا جناية، لو حز إنسان رقبته، لزمه القصاص، ولو انتهى إلى تلك الحالة بجناية، فلا قصاص على حازه. السادسة: تقطع يد السليم ورجله بيد الاعسم ورجل الاعرج، لانه لا خلل في اليد والرجل، والعسم: تشنج في المرفق، أو قصر في الساعد أو العضد.(7/66)
السابعة: لا اعتبار بإخضرار الاظفار واسودادها وزوال نضارتها، فإنها علة ومرض في الاظفار، والطرف السليم يستوفى بالعليل، وأما التي لا أظفار لها، فالصحيح الذي ذكره العراقيون وغيرهم: أنه لا تقطع بها سليمة الاظفار، وأنها تقطع بالسليمة، وكذا حكاه الامام عنهم ونسبه إلى النص، لكن عن الشيخ أبي حامد وغيره، أنه تكمل فيها الدية، وللامام احتمال في جريان القصاص وإن عدمت الاظفار، لانها زوائد، ولو لم يجر القصاص لما تمت دية اليد والاصبع الساقط ظفرها، وقال البغوي: ينقص من الدية شئ. الثامنة: لا تقطع يد صحيحة بيد فيها أصبع شلاء، ولا تقطع من الكوع يد مسبحتها شلاء بيد وسطاها شلاء، فإن استويا في الشلل، فهما كالشلاوين. التاسعة: إذا قطع سليم اليد يدا شلاء، ثم شلت يده، فعن القفال أنه خرج في الاقتصاص منه قولين، ثم رجع وقطع بالمنع، وهو الذي رآه الامام مذهبا، والمذكور في التهذيب أنه يقتص منه، وكذا لو قطع يدا ناقصة أصبعا، ثم سقطت تلك الاصبع من القاطع، بخلاف ما لو قطع حر ذمي يد عبد، ثم نقض العهد، وسبي واسترق لا يقطع، ولو قتله لا يقتل، وفرق بأن القصاص هناك سقط لعدم الكفاءة، والكفاءة تراعى حال الجناية، والامتناع هنا لزيادة حسية في يد القاطع والاعتبار فيها بحال الاستيفاء، فإذا زالت، قطع، ولهذا لو قطع الاشل يدا شلاء، ثم صحت يد القاطع، لا يقتص منه لوجود الزيادة عند الاستيفاء، قال: وكذا اليد ذات الاظفار لا تقطع بما لا أظفار لها، فلو سقطت أظفار القاطع، قطعت بها، والتي لا أظفار لها تقطع بمثلها، فلو نبتت أظفار القاطع لم تقطع لحدوث الزيادة. العاشرة: يجب في قطع الذكر، وفي قطع الانثيين وإشلالها القصاص، سواء قطع الذكر والانثيين معا، أو قدم الذكر، أو الانثيين، ولو دق خصييه، ففي(7/67)
التهذيب أنه يقتص بمثله إن أمكن، وإلا وجبت الدية، ويشبه أن يكون الدق ككسر العظام، ولو قطع، أو أشل إحدى الانثيين وقال أهل البصر: يمكن القصاص من غير إتلاف الاخرى، اقتص، وذكر الروياني أن الماسرجسي قال: إنه ممكن وإنه وقع في عهده لرجل من أهل فراوة. والقول في قطع الذكر الصحيح بالاشل وبالعكس، والاشل بالاشل على ما ذكرنا في اليد والرجل، وشلل الذكر أن يكون منقبضا لا ينبسط، أو منبسطا لا ينقبض، هذه عبارة الجمهور وقيل: هو الذي لا يتقلص في البرد ولا يسترسل في الحر، وهو بمعنى العبارة الاولى، ولا اعتبار بالانتشار وعدمه، ولا بالتفاوت في القوة والضعف، بل يقطع ذكر الفحل الشاب بذكر الخصي والشيخ والصبي والعنين، لانه لا خلل في نفس العضو وإنما تعذر الانتشار لضعف في القلب أو الدماغ وسواء الاقلف والمختون. الحادية عشرة: تقطع أذن السميع بأذن الاصم وبالعكس، وهل تقطع الاذن الصحيحة بالمستحشفة ؟ قولان، أظهرهما: نعم، لبقاء الجمال والمنفعة من جمع الصوت ورد الهوام بخلاف اليد الشلاء، وبيان الاستحشاف يأتي في الديات إن شاء الله تعالى، وسواء المثقوبة وغيرها إذا كان الثقب للزينة ولم يورث شينا ونقصا، فإن أورث نقصا فلتكن المثقوبة كالمخرومة، ولا تقطع صحيحة بمخرومة، وهي التي قطع بعضها، ولكن يقطع منها بقدر ما كان بقي من المخرومة، وهذا إذا قلنا: يجب القصاص في بعض الاذن كما سبق، فإن شقت ولم يبن منها شئ، فنقل الامام عن العراقيين أنه لا تقطع الصحيحة بها أيضا، لفوات الجمال، قال: ولست أرى الامر كذلك لبقاء الجرم بصفة الصحة.(7/68)
قلت: هذا الذي قاله الامام ضعيف. والله أعلم. وتقطع المخرومة بالصحيحة ويؤخذ من الدية بقدر ما ذهب من المخرومة، وسواء في المثقوبة والمخرومة المرأة والرجل. الثانية عشرة: يقطع أنف الصحيح بأنف الاخشم، لان الشم ليس في جرم الانف، وهل يقطع الانف السليم بالمجذوم ؟ قال البغوي: إن كان في حال الاحمرار، قطع به، وإن اسود، فلا قصاص، لانه دخل في حد البلى، وإنما تجب فيه الحكومة، ولم يفرق الجمهور بين الاحمرار والاسوداد، وقالوا: يجب القصاص ما لم يسقط منه شئ، فإن سقط، لم يقطع به الصحيح، لكن يقطع منه ما كان بقي من المجني عليه إن أمكن، وإن كان بأنف الجاني نقص كنقص المجذوم جرى القصاص وفيه وجه، قال الامام: هو غلط. الثالثة عشرة: لا تؤخذ العين السليمة بالحدقة العمياء، والصورة القائمة من الحدقة كاليد الشلاء، وتؤخذ القائمة بالصحيحة إذا رضي المجني عليه، ويقطع جفن البصير بجفن الاعمى لتساوي الجرمين، وفقد البصر ليس في الجفن. الرابعة عشرة: لا يقطع لسان ناطق بأخرس ويجوز العكس برضى المجني عليه، ويقطع لسان المتكلم بلسان الرضيع إن ظهر فيه أثر النطق بالتحريك عند البكاء وغيره، وإلا فلا، فإن بلغ أوان التكلم ولم يتكلم، لم يقطع به المتكلم. فرع قطع أذن شخص، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم فالتصقت، لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني، لان الحكم يتعلق بالابانة وقد وجدت، ثم ذكر الشافعي والاصحاب رحمهم الله أنه لا بد من قطع الملصق لتصح صلاته وسببه نجاسة الاذن إن قلنا: ما يبان من الآدمي نجس، وإلا فسببه الدم الذي ظهر في محل القطع فقد ثبت له حكم النجاسة فلا تزول بالاستبطان ويجيئ فيه ما سبق في كتاب الصلاة في الوصل بعظم نجس والتفصيل بين أن ينبت اللحم على موضع النجاسة،(7/69)
أو لا ينبت، وبين أن يخاف التلف من القطع أو لا يخاف، ولو قطعها قاطع، فلا قصاص عليه، لانها مستحقة الازالة، وإن لم يوجب إزالتها لخوف التلف مثلا، فلو سرى قطع القاطع إلى النفس، حكى الامام عن المحققين أن عليه القصاص، قال: ولا يبعد خلافه، ثم هي وإن كانت مستحقة الازالة فليس للجاني أن يقول: أزيلوها ثم اقطعوا أذني، لان إزالتها من باب الامر بالمعروف لا اختصاص له به، والنظر في مثله إلى الامام، ولو اقتص المجني عليه فألصق الجاني أذنه، فالقصاص حاصل بالابانة، وأما قطع ما ألصق فلا يختص به المجني عليه، ولو قطع بعض أذنه ولم يبنه، ففي القصاص في ذلك القدر خلاف سبق، وذلك إذا بقي غير ملتصق، فأما إذا ألصقه المجني عليه، فالتصق، فيسقط القصاص والدية عن الجاني، ويرجع المجني عليه إلى الحكومة، كالافضاء إذا اندمل يسقط الدية، ولذلك نقول: لو جاء رجل وقطع الاذن بعد الالتصاق، لزمه القصاص، أو الدية الكاملة، هذا هو الصحيح المنصوص، وقيل: لا يسقط القصاص في القدر المقطوع، كما لا يسقط قصاص الموضحة بالاندمال، ولا يجب قطع الملصق قبل تمام الابانة، وهكذا أطلقوه، وفيه نظر إن عللنا بظهور الدم، ولو استأصل أذنه، وبقيت معلقة بجلدة، وجب القصاص بلا خلاف، فلو ألصقها المجني عليه، لم يجب قطعها، وفي سقوط القصاص عن الجاني هذا الخلاف، ولو أبان أذنه، فقطع المجني عليه بعض أذنه مقتصا، فألصقه الجاني، فللمجني عليه أن يعود، ويقطعه لاستحقاقه الابانة. فرع ربط السن المقلوعة في مكانها، وثبوتها، كإلصاق الاذن المقطوعة فيما ذكرناه.
فصل في السن القصاص، وإنما يجب إذا قلعها، فلو كسرها، فلا قصاص، كذا ذكره البغوي وغيره، وحكى ابن كج عن نصه في الام أنه إذا كسر بعض سنه يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: يمكن استيفاؤه بلا زيادة ولا صدع في الباقي، اقتص منه، وبهذا قطع صاحب المهذب ولا تؤخذ السن الصحيحة(7/70)
بالمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة مع قسط الذاهب من الارش، وتؤخذ الزائدة بالزائدة بالشرط السابق، ولو قلع سن رجل، وليس للجاني تلك السن، فلا قصاص، وتؤخذ الدية، فلو نبت بعد ذلك، فلا قصاص أيضا، لانها لم تكن موجودة حال الجناية. فرع إذا قلع مثغور وهو الذي سقطت رواضعه سن صبي لم يثغر، فلا قصاص في الحال ولا دية، لانها تعود غالبا، فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية، ولكن عليه الحكومة إن نبتت سوداء، أو معوجة، أو خارجة عن سمت الاسنان، أو بقي شين بعد النبات، وإن نبتت أطول مما كانت، أو نبت معها سن شاغية، فكذلك على الاصح، وإن نبتت أقصر مما كانت، وجب بقدر النقص من الارش، وإن جاء وقت نباتها، بأن سقط سائر الاسنان، وعادت، ولم تنبت المقلوعة، أريناه أهل الخبرة، فإن قالوا: يتوقع نباتها إلى وقت كذا، توقفنا تلك المدة، فإن مضت ولم تنبت، أو قالوا: فسد المنبت ولا يتوقع النبات، وجب القصاص على المذهب، وبه قطع الاصحاب، وحكى الغزالي فيه قولين، لان سن الصغير ناقصة، ولم يذكر الخلاف غير الغزالي، ثم إذا أوجبنا القصاص، فالاستيفاء إنما يكون بعد البلوغ، فإن مات الصبي قبل بلوغه، اقتص وارثه في الحال، أو أخذ الارش، وإن مات قبل حصول اليأس، وقبل تبين الحال، فلا قصاص، وفي الارش وجهان يأتيان في الديات إن شاء الله تعالى. فرع قلع مثغور سن مثغور، وجب القصاص، فلو نبت سن المجني عليه، ففي سقوط القصاص قولان، أحدهما: يسقط، لان العائد قائم مقام الاول، كما في غير المثغور، وأظهرهما: لا يسقط، لان هذا هبة جديدة من الله تعالى، وعلى القولين لا ننتظر العود، بل للمجني عليه أن يقتص، أو يأخذ الدية في الحال، وقيل: يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: قد يعود إلى مدة كذا، انتظر تلك المدة، ويكون الحكم كما ذكرنا في غير المثغور، ولو التأمت الموضحة والتحمت،(7/71)
لم تسقط الدية ولا القصاص، لان العادة فيها الالتحام، وكذا حكم الجائفة، وعن صاحب التقريب وجه أنها إذا التحمت، زال حكمها، ورأى الامام تخصيص هذا الوجه على ضعفه بما إذا نفذت الحديدة إلى الجوف، وحصل خرق من غير زوال لحم دون ما إذا زال شئ، ونبت لحم جديد، ورأى طرده في مثلها في الموضحة، ولو قطع لسانا فنبت، ففي سقوط القصاص طريقان، أحدهما: قولان كالسن، والمذهب القطع بالمنع، لان عوده بعيد جدا، فهو هبة محضة، وجنس السن معتاد العود، التفريع على القولين في عود السن، فإذا اقتص المجني عليه، أو أخذ الارش، ثم نبتت سنه، فليس للجاني قلعها، وهل يسترد الارش إن كان المجني عليه أخذه ؟ وجهان أو قولان، إن قلنا: العائد كالاول، استرد، وإن قلنا: هبة، فلا، وإن كان المجني عليه اقتص، فهل يطالبه الجاني بأرش السن ؟ يبنى على الخلاف، وقال ابن سلمة: لا يطالب هنا قطعا لتعذر استرداد القصاص، وهذا ضعيف، ولو تعدى الجاني، فقلع العائد وقد اقتص منه، فإن قلنا: العائد كالاول، لزمه الارش بهذا القلع لتعذر القصاص وقد وجب له على المجني عليه الارش بالعود ففيه الكلام في التقاص، وإن جعلناه هبة، لزمه الارش بالقلع الثاني، وعلى هذا القول لو لم يقتص منه أولا وأخذ الارش، فللمجني عليه أن يقتص للقلع الثاني، فلو لم يكن اقتص للاول ولا أخذ الارش، لزمه قصاص وأرش، أو أرشان بلا قصاص، أما إذا اقتصصنا من الجاني فعاد سنه دون المجني عليه، فإن قلنا: العائد كالاول، فهل للمجني عليه القلع ثانيا ؟ وجهان، أحدهما: لا، لانه قابل قلعا بقلع فلا تثنى عليه العقوبة، لكن له الارش لخروج القلع الاول عن كونه قصاصا، وكأنه تعذر القصاص بسبب، والثاني: نعم، لان الجاني أفسد منبته، فيكرر عليه حتى يفسد منبته، وإن قلنا: هبة، فلا شئ للمجني عليه وقد استوفى حقه بما سبق، وهذا هو الاظهر، ولو اقتص، فعاد سن الجاني والمجني عليه معا، فلا شئ لواحد منهما على الآخر باتفاق القولين. فرع قلع غير مثغور سن مثغور، قال ابن كج: للمجني عليه أن يأخذ الارش إن شاء، ويقتص إن شاء، وليس له مع القصاص شئ آخر كما في أخذ(7/72)
الشلاء بالصحيحة، هذا إذا كان غير المثغور بالغا، وإلا فلا قصاص، وفي أمالي أبي الفرج أنه يقال له: إن قلعت سنه الآن، فالظاهر منها العود، فاصبر إلى أن يصير مثغورا، فإن استعجل، أجيب وشرط عليه أن لا حق له فيما يعود. فرع قلع غير مثغور سن غير مثغور، فلا قصاص في الحال، فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية، وإن لم تنبت وقد دخل وقته، فالمجني عليه يأخذ الارش أو يقتص، فإن اقتص ولم يعد سن الجاني فذاك، وإن عادت، فهل يقلع ثانيا ؟ وجهان، أصحهما: نعم، قاله الامام. التفاوت الثالث في العدد وفيه مسائل: إحداها: قطع يدا كاملة الاصابع، ويد الجاني ناقصة أصبعا، فللمجني عليه أن يأخذ دية اليد، وله أن يقطع اليد الناقصة، ويأخذ الارش للاصبع، ولو كانت ناقصة أصبعين، فله قطع يده وأرش أصبعين، ولو قطع أصبعين وله أصبع واحدة، فللمجني عليه قطع الموجودة، وأرش المفقودة، ولو قطع أصبعا صحيحة، وتلك الاصبع منه شلاء، فأراد المجني عليه قطع الشلاء وأخذ شئ للشلل، لم يكن له. الثانية: إذا كان النقص في يد المجني عليه، بأن قطع السليم ناقصة بأصبع، فليس للمجني عليه قطع اليد الكاملة، لكن له أن يلتقط الاصابع الاربع، وله أخذ ديتها، فإن التقطها فقد ترك كف الجاني مع قطعه كفه، فله حكومة خمس الكف، وهو ما يقابل منبت أصبعه الباقية، وهل له حكومة أربعة أخماسها ؟ وجهان، أحدهما: لا، بل تدخل تحت قصاص الاصابع، كما تدخل تحت ديتها، وأصحهما: نعم، لان القصاص ليس من جنسها، ويجري الوجهان فيما إذا كانت يد الجاني زائدة بأصبع، ويد المجني عليه معتدلة، فلقط الخمس لتعذر القطع من الكوع بسبب الزائدة، وهل تدخل حكومة الكف تحت قصاص الخمس ولو أخذ دية(7/73)
الاصابع الاربع في الصورة الاولى، دخلت حكومة منابتها فيها على الصحيح، وقيل: لا تدخل، بل تختص قوة الاستتباع بالكل، وأما حكومة الخمس الباقي من الكف، فتجب على الصحيح، وحكي وجه أن كل أصبع تستتبع الكف كما تستتبعها كل الاصابع. الثالثة: إذا قطع كفا لا أصابع لها، فلا قصاص إلا أن تكون كف القاطع مثلها، ولو قطع صاحب هذه الكف يد سليم، فله قطع كفه ودية الاصابع، حكاه ابن كج عن النص. الرابعة: إذا كان على يد الجاني أصبعان شلاوان، ويد المجني عليه سليمة، فإن شاء قطع يده وقنع بها، وإن شاء لقط الثلاث السليمة وأخذ دية أصبعين، وفي استتباع الثلاث حكومة منابتها واستتباع دية الاصبعين حكومة منبتهما الخلافان السابقان، ولو كانت يد الجاني سليمة، ويد المعني عليه فيها أصبعان شلاوان، لم يجب القصاص من الكوع، ولكن للمجني عليه قطع الثلاث السليمة وحكومة الشلاوين، ويعود الخلاف في استتباع القصاص في الثلاث حكومة منابتها، وفي استتباع حكومة الشلاوين حكومة منبتهما وجهان، أصحهما عند الامام والغزالي والبغوي: المنع، وهو ظاهر نصه في المختصر والثاني: أنه يستتبع، وبه قطع العراقيون. الخامسة: قطع كفا لها أصبع فقط خطأ، وجبت دية تلك الاصبع، والصحيح أنه تدخل حكومة منبتها فيها، وأنه يجب حكومة باقي الكف، وعلى الوجه المحكي في آخر المسألة الثانية: لا حكومة أصلا. فرع في التهذيب أنه لو كانت أصابع إحدى يديه وكفها أقصر من الاخرى، فلا قصاص في القصيرة، لانها ناقصة، وفيها دية ناقصة بحكومة. السادسة: سبق أن الزائد من الاعضاء يقطع بالزائد إذا اتحد المحل، وذكرنا خلافا في اشتراط التساوي في الحجم، فلو فرض شخصان لكل منهما أصبع زائدة،(7/74)
قطع أحدهما زائدة الآخر، اقتص منه إذا حصل شرطه، وكذا لو قطع أحدهما يد الآخر، ولو قطع المعتدل يدا لها أصبع زائدة، قطع، وأخذ منه حكومة للزائدة، سواء كانت معلومة بعينها أم لا، وإن شاء المجني عليه أخذ دية اليد وحكومة الزائدة، ولو قطع صاحب الاصابع الست يد معتدل، لم تقطع يده من الكوع إلا أن تكون الزائدة نابتة في الاصابع وللمجني عليه لقط الخمس الاصليات، ويعود الوجهان في استتباع قصاصها حكومة الكف، فإن كانت الزائدة بجنب أصلية بحيث لو قطعت الاصلية سقطت الزائدة، لم تقطع، بل يقتصر على قطع الاربع ويأخذ دية الخامسة، ولو كانت نابتة على أصبع وأمكن قطع بعضها مع الاربع بأن كانت نابتة على الانملة الوسطى من أنمله، قطعت الانملة العليا مع الاربع، وأخذ ثلثا دية أصبع، هذا إذا كانت في الست زائدة معلومة بعينها، أما إذا كانت الست كلها أصلية، بأن انقسمت القوة في الست على ستة أجزاء متساوية في القوة والعمل بدلا عن القسمة على خمسة أجزاء، فللمجني عليه أن يلتقط منها خمسا على الولاء من أي جانب شاء، هكذا أطلق، ولك أن تقول: إن لم تكن الست على تقطيع الخمس المعهودة فهذا قريب، وإن كانت على تقطيعها، فمعلوم أن صورة الابهام من الخمس تباين صورة باقيها، فإن كانت التي تشبه الابهام على طرف، فينبغي أن يلقط الخمس من ذلك الجانب، وإن وقعت ثانية وكانت التي تليها على الطرف كالملحقة بها، فينبغي أن يلقط الخمس من الجانب الآخر، قال الامام: ويختلج في النفس أن يقال: ليس له لقط الخمس لوقوع الست على نظم يخالف نظم الخمسة المعتدلة، ثم إنه لا يستكمل حقه بقطع الخمس، لانها خمسة أسداس اليد، فله مع ذلك سدس الدية، لكن يحط من السدس شئ لان الخمس الملقوطة وإن كانت خمسة أسداس، فهي في الصورة كالخمس المعتدلة، وتقدير المحطوط إلى رأي المجتهد، ولو بادر المقطوع فقطع الست، قال البغوي: يعزر ولا شئ عليه، ولو قيل: يلزمه شئ لزيادة الصورة، لم يبعد، ولو قطع صاحب الست أصبعا لمعتدل، قطعت أصبعه، وأخذ ما بين خمس دية اليد وسدسها، وهو بعير وثلثا بعير، لان خمسها عشرة، وسدسها ثمانية وثلث، وقياس ما سبق أن يقال: يحط من قدر التفاوت شئ، ولو قطع معتدل اليد اليد الموصوفة، قطعت يده، وأخذ منه شئ للزيادة المشاهدة، كذا حكاه الامام وغيره، ولو قطع أصبعا، لم يقتص،(7/75)
لما فيه من استيفاء خمس سدس، ولكن يأخذ منه سدس دية اليد، ولو قطع أصبعين، قطع منه أصبع، وأخذ ما بين ثلث دية اليد وخمسها، وهو ستة أبعرة وثلثان، ولو قطع ثلاثا، قطع منه أصبعان وأخذ ما بين نصف دية لايد وخمسيها، وهو خمسة أبعرة، ولو بادر المجني عليه، وقطع بأصبعه المقطوعة أصبعا منها، قال الامام: هو كمن قطع يدا شلاء فابتدر المجني عليه، وقطع بها الصحيحة. المسألة السابعة: إذا قطع صاحب الست يد معتدل، وقال أهل البصر: نعلم أن واحدة من الست زائدة، وهي ملتبسة، فليس للمجني عليه قطع الخمس، لان الزائدة لا تقطع بالاصلية عند اختلاف المحل، ولا يؤمن أن تكون الزائدة هي إحدى المستوفيات، ولو بادر وقطع خمسا، عزر، ولا شئ له، ولا شئ عليه، لاحتمال أن المقطوعات أصليات، وإن بادر وقطع الكل، فعليه حكومة للزائدة، وإن قال أهل البصر: لا ندري أهي كلها أصليات، أم خمس منها أصلية، وواحدة زائدة، فلا قصاص أيضا، فلو قطع جميعها أو خمسا منها، عزر، ولا شئ له، ولا عليه، لانه إن قطع الكل، احتمل أنهن أصليات، وإن قطع خمسا احتمل أن الباقية زائدة. الثامنة: في الزائدة من الانامل قد أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن كل أصبع سوى الابهام منقسمة ثلاثة أقسام وهي الانامل الثلاث، فلو انقسمت على خلاف العادة أصبع بأربع أنامل، فلها حالان، أحدهما: أن تكون الاربع أصلية عند أهل البصر، وقد يستدل عليه بأن تكون غير مفرطة الطول، وتناسب باقي الاصابع، فإذا قطع صاحبها أنملة لمعتدل، قطعت منه أنملة، لكن لا يتم بها حق المجني عليه، لان أنملته ثلث الاصبع، وهذه ربعها، فيطالب بما بين الربع والثلث من دية أصبع، وهو خمس أسداس بعير، وإن قطع أنملتين، قطعنا منه أنملتين، وطالبناه بما بين نصف دية الاصبع وثلثها، وهو بعير وثلثا بعير، وإن قطع أصبع معتدل بتمامها، فهل يقطع أصبعه بها ؟ وجهان، أحدهما: نعم، وبه قطع الغزالي والروياني، وصححه الامام، وأصحهما عند البغوي: المنع، فعلى هذا يقطع ثلاث أنامل هي ثلاثة أرباع حصته، ويطالب بالتفاوت بين جميع الدية، وثلاثة أرباعها، وهو بعيران ونصف، ولو بادر المجني عليه، وقطع أصبعه، عزر ولا شئ عليه، ولو قطع معتدل أنملة من له هذه الاصبع، لم تقطع أنملته، لكن يؤخذ منه(7/76)
ربع دية أصبع، ولو قطع أنملتين، فللمجني عليه أن يقطع منه أنملة ويأخذ بعيرا وثلثين، ولو قطع ثلاث أنامل، فله أن يقطع أنملتين ويأخذ خمسة أسداس بعير، ولو قطع الاصبع بتمامها، قطعت أصبعه، ولم يلزمه شئ آخر، هكذا ذكره الامام والروياني. الحال الثاني: أن تكون الانملة العليا زائدة خارجة عن أصل الخلقة، فإن قطع صاحبها أصبع معتدل، لم يقطع أصبعه، لما فيها من الزيادة، وتؤخذ منه الدية، ولو قطعها معتدل، قطعت أصبعه، وأخذت منه حكومة للزائدة، وتختلف الحكومة بكون الزائدة عاملة أم لا، ولو قطع المعتدل أنملة منها، فلا قصاص، وعليه الحكومة، ولو قطع أنملتين، قطع منه أنملة وأخذت الحكومة للزائدة، ولو قطع ثلاثا، قطعت منه أنملتان وأخذت الحكومة. فرع لو كان لانملة طرفان، أحدهما أصلي عامل، والآخر زائد غير عامل، ففي الاصل القصاص والارش الكامل، وفي الآخر الحكومة، ولو قطع صاحبها أنملة معتدل، قطع منه الاصلي إن أمكن إفراده، وإن كانا عاملين مشتدين، قال الامام: القول فيهما قريب من القول في الاصابع الست الاصليات، وإن قطع المعتدل أحد الطرفين، لم تقطع أنملته، وإن قطعهما معا، قطعت أنملته، ولزمه لزيادة الخلقة شئ، وإن قطع صاحبها أنملة معتدل، لم يقطع طرفا أنملته، بل يختار المقطوع أحدهما فيقطعه، ويأخذ معه نصف الارش، ويحط منه شئ، هذا كله إذا نبت طرفا تلك الانملة على رأس الانملة الوسطى، فلو لقي رأسها عظم، ثم انشعب الطرفان من ذلك العظم، فإن لم يكن مفصل بين العظم وبينها، فليس ذلك موضع القصاص، وإن كان لكل طرف مفصل هناك، فالعظم الحائل بين الشعبتين والانملة الوسطى أنملة أخرى، وهي أصبع لها أربع أنامل، والعليا منها ذات طرفين، ولو كان على الساعد كفان، أو على الساق قدمان، فحكمه كالانملتين على رأس أصبع. المسألة التاسعة: لو كانت أصبع ليس لها إلا أنملتان، وهي تناسب سائر(7/77)
الاصابع في الطول، فللامام فيه احتمالان، أحدهما: ليست أصبعا تامة، وإنما هي أنملتان، وأصحهما: انها أصبع تامة، لكنها ذات قسمين، كما لو كان لها أربع أنامل كانت أصبعا ذات أربع أقسام، ولو وجدت أصبع لا مفصل لها، قال الامام: الارجح عندي نقصان شئ من الدية، لان الانثناء إذا زال، سقط معظم منافع الاصبع، وقد ينجر هذا إلى أن لا تقطع أصبع السليم بها. العاشرة: سليم اليد قطع الانملة الوسطى من فاقد العليا، فلا سبيل إلى الاقتصاص مع بقاء العليا، فإن سقطت بآفة أو جناية، اقتص من الوسطى، وللقفال احتمال أنه لا يقتص، ومثله لو قطع السليم كفا لا أصابع لها، فحكمه ما ذكرنا، فلو بادر المجني عليه فقطع الوسطى مع العليا، فقد تعدى، وعليه أرش العليا، ولو أراد طلب أرش الوسطى في الحال للحيلولة، فليس له ذلك على الصحيح إلا أن يعفو، ولو كانت العليا مستحقة القطع قصاصا، فليس له أيضا طلب أرش الوسطى من غير عفو على الاصح، وقيل: له، لان استيفاء القصاص مرتقب، ومن صور استحقاق العليا بالقصاص ما نص عليه في المختصر وهو أن تقطع الانملة العليا من رجل، والوسطى من آخر فاقد للعليا، فلصاحب العليا القصاص فيها أولا، وإن كان قطعه متأخرا، فإن طلب القصاص، اقتص، ويمكن مستحق الوسطى من استيفائها، قال أبو بكر الطوسي: ولو اتفقا على وضع الحديدة على مفصل الوسطى واستوفيا الانملتين بقطعة واحدة، جاز، وقد هونا الامر عليه، وإن لم يطلب صاحب العليا القصاص، صبر صاحب الوسطى أو عفا. فرع قطع الانملة العليا لرجل، والعليا والوسطى لغيره، نظر، إن سبق قطع الانملة، فلصاحبها الاقتصاص فيها، ويتخير الآخر بين أن تقطع الوسطى، ويأخذ دية العليا، وبين أن يعفو ويأخذ ديتهما، ولو بادر صاحب الانملتين فقطعهما، كان مستوفيا لحقه، ويأخذ الآخر دية العليا من الجاني. الفصل الرابع في وقت الاقتصاص في الجروح المستحب في قصاص الجروح والاطراف التأخير إلى الاندمال، فلو طلب المستحق الاقتصاص في(7/78)
الحال، مكن منه على المذهب والمنصوص، لان القصاص في تلك الجراحة ثابت وإن سرت إلى النفس، أو شاركه غيره في الجرح، وأما المال، فلا يتقدر، فقد تعود الديتان في اليدين والرجلين إلى واحدة بالسراية إلى النفس، وقد يشاركه جماعة، فيقل واجبه، وقيل: في التعجيل في المال والقصاص قولان، فإن قلنا: يعجل المال، ففي قدر المعجل وجهان، أحدهما: تعجل أروش الجراحات وديات الاطراف وإن كثرت، فإن حصلت سراية، استرد، والثاني: لا يعجل إلا دية نفس، لاحتمال السراية. قلت: الثاني الاصح. والله أعلم.
باب اختلاف الجاني ومستحق الدم فيه مسائل: إحداها: قد ملفوفا في ثوب نصفين وقال: كان ميتا، وقال الولي: كان حيا، فأيهما يصدق ؟ قولان، أظهرهما: الولي، وقيل: يفرق بين أن يكون ملفوفا على هيئة التكفين، أو في ثياب الاحياء، قال الامام: وهذا لا أصل له، ويجري القولان فيما لو هدم عليه بيتا وادعى أنه كان ميتا، وأنكر الولي، وسواء قلنا: المصدق الولي، أو الجاني، فللولي أن يقيم بينة بحياته ويعمل بها، وللشهود أن يشهدوا بالحياة إذا كانوا رأوه يتلفف في الثوب، ويدخل البيت، وإن لم يتيقنوا حياته حالة القد والانهدام استصحابا لما كان، ولكن لا يجوز أن يقتصروا على أنهم رأوه يدخل البيت ويتلفف في الثوب، ذكره البغوي وغيره. قلت: وإذا صدقنا الولي بلا بينة، فالواجب الدية دون القصاص، ذكره المحاملي والبغوي، وقال المتولي: هو على الخلاف في استحقاق القود بالقسامة. والله أعلم.(7/79)
الثانية: قتل شخصا، وادعى رقه، وقال قريبه: كان حرا، فالنص أن القول قول القريب، ونص أنه لو ادعى رق المقذوف، فقيل بظاهر النصين، والاصح أن فيهما قولين، أظهرهما: تصديق القريب، لان الغالب الثالثة: قطع طرفه، وادعى والظاهر الحرية، ولهذا حكمنا بحرية اللقيط المجهول. الثالثة: قطع طرفه، نقصه بشلل في اليد أو الرجل أو الذكر، أو فقد أصبع أو بخرس أو عمى، وأنكره المجني عليه، ففيه نصوص وطرق مختصرها أربعة أقوال، أحدها: يصدق المجني عليه، والثاني: الجاني، والثالث: يصدق المجني عليه إلا في العضو الظاهر عند إنكار أصل السلامة، لانه يمكن إقامة البينة، والمراد بالعضو الباطن ما يعتاد ستره مروءة، وقيل: ما يجب وهو العورة، وبالظاهر ما سواه، وإذا صدقنا الجاني، احتاج المجني عليه إلى بينة بالسلامة، ثم الاصح أنه يكفي قول الشهود: كان صحيحا، ولا يشترط تعرضهم لوقت الجناية، وقيل: إن شهدوا بالسلامة عند الجناية، كفى ولا يحتاج معها إلى يمين، وإن شهدوا أنه كان سليما، احتاج معها إلى اليمين لجواز حدوث النقص، ثم تجوز الشهادة بسلامة العين إذا رأوه يتبع بصره الشئ زمنا طويلا ويتوقى المهالك، ولا يجوز بأن يروه يتبعه بصره زمنا يسيرا، لانه قد يوجد من الاعمى، وكذلك تجوز الشهادة بسلامة اليد والذكر برؤية الانقباض والانبساط. فرع إذا اختلفا في أصل العضو، فقيل بإطلاق الخلاف في أن المصدق أيهما ؟ وأنكر الامام هذا، وقال: من أنكر أصل العضو، أنكر الجناية عليه، فيقطع بتصديقه، وإنما الخلاف إذا اختلفا في صحته، ومنه ما إذا قطع كفه، واختلفا في نقص أصبع، وليس منه ما إذا ادعى المقطوع قطع الذكر والانثيين، وقال الجاني: لم أقطع إلا أحدهما.(7/80)
الرابعة: قطع يديه ورجليه ومات، فقال الجاني: مات بالسراية، فعلي دية، وقال الولي: بل مات بعد الاندمال، فعليك ديتان، نظر، إن لم يمكن الاندمال في تلك المدة لقصرها كيوم ويومين، فالقول قول الجاني بلا يمين، وقيل: بيمين، قاله الشيخ أبو حامد، لاحتمال الموت بعارض، كحية وسم مذفف، والصحيح الاول، لان الاختلاف في الاندمال فقط، فلا ينظر إلى غيره، وإن أمكن الاندمال في تلك المدة، ففيه أوجه، أصحها: أن القول قول الولي بيمينه، وبهذا قطع الاكثرون، والثاني: إن مضت مدة طويلة لا يمكن أن تبقى الجراحة فيها غير إمندملة، صدق الولي بلا يمين، وإلا فيمين، قطع به ابن الصباغ والروياني، والثالث: إن كان احتمال الاندمال مع إمكانه بعيدا، صدق الجاني بيمينه، وإلا فالولي، وادعى الامام اتفاق الاصحاب عليه، وليس كما ادعى، ولو اختلفا في مضي زمن الاندمال، صدق الجاني، لان الاصل أنه لم يمض. ولو قال الجاني: مات بالسراية، أو قتلته أنا قبل الاندمال، وقال الولي: بل مات بسبب آخر، بأن قال: قتل نفسه، أو قتله آخر، أو شرب سما موحيا، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: الولي، لان الاصل بقاء الديتين بالجنايتين، والاصل عدم السبب الآخر، ولو اقتصر الولي على أنه مات بسبب آخر ولم يعينه، قال الصيدلاني: لا يلتفت إلى قوله إن قصر الزمان ولم يمكن فيه الاندمال، فإن أمكن، فإن صدقناه بيمينه ولم نحوجه إلى بينة، قبل قوله، وحلف أنه مات بسبب آخر، وإن لم نصدقه وأحوجناه إلى البينة، فلا بد من التعيين لتصور إقامة البينة، قال الامام: ولا يبعد طرد الوجهين، وإن لم يمكن الاندمال، ولو اتفقا على أن الجاني قتله، لكن قال: قتلته قبل الاندمال، فعلى دية، وقال الولي: بل بعده، فعليك ثلاث ديات، والزمان محتمل للاندمال، صدق الولي في بقاء الديتين، والجاني في نفي الثالثة، ويجئ وجه أنه يصدق الجاني مطلقا. فرع لو قطع إحدى يديه ومات، فقال الجاني: مات بسبب آخر، فعلي نصف الدية، وقال الولي: مات بالسراية، فعليك دية، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: الولي، ولو قال الجاني: مات بعد الاندمال فعلي نصف دية، وقال الولي: مات بالسراية، والزمن محتمل للاندمال، فالمصدق الجاني على الاصح، ولو اختلفا في مضي زمن الامكان، فالمصدق الولي، لان الاصل عدم المضي، ولو(7/81)
قتله الجاني بعد القطع، وقال: قتلته قبل الاندمال، فعلي دية، وقال الولي: بعده، فعليك دية ونصف، فالمصدق الجاني. فرع جرحه بقطع يد أو غيره، فمات، فقال الجاني: حز آخر رقبته، فليس علي قصاص النفس، وقال الولي: بل مات بسراية جرحك، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: الولي، وبه قطع الداركي. ولو قال الولي: مات بالسراية، وقال الجاني: مات بعد الاندمال، قال الامام: إن طالت المدة، وكان الظاهر الاندمال، صدق الجاني بيمينه، وإن قصرت المدة، وبعد احتمال الاندمال، فالمصدق الولي، وقيل: في المصدق قولان مطلقا متى كانت المدة محتملة، وإن لم تحتمل المدة الاندمال، صدق الولي بلا يمين، وإن لم تحتمل بقاء الجرح، صدق الجاني بلا يمين. فرع حيث صدقنا مدعي الاندمال، فأقام الآخر بينة بأن المجروح لم يزل متألما من الجراحة حتى مات، رجعنا إلى تصديقه. الخامسة: أوضحه موضحتين، ثم رفع الحاجز بينهما وقال: رفعته قبل الاندمال، فليس علي إلا أرش واحد، وقال المجني عليه: بل بعده، فعليك أرش ثلاث موضحات، قال الاصحاب: إن قصر الزمان، صدق الجاني بيمينه، وإن طال، صدق المجني عليه، وإذا حلف المجني عليه، ثبت الارشان، ولا يثبت الثالث على الاصح، ولو وجدنا الحاجز مرتفعا، وقال الجاني: رفعته أنا، أو ارتفع بالسراية، وقال المجني عليه: بل رفعه آخر، أو رفعته أنا، فالظاهر تصديق المجني عليه، ولو كان الموجود موضحة واحدة، فقال الجاني: هكذا أوضحت، وقال المجني عليه: بل أوضحت موضحتين، وأنا رفعت الحاجز بينهما، صدق الجاني. قلت: باب الاختلاف واسع، وإنما أشار هنا إلى مسائل منه، وباقيها مفرق(7/82)
في مواضعه، ومنها: لو قطع أصبعه، فداوى جرحه وسقطت الكف، فقال الجاني: تآكل بالدواء، وقال المجني عليه: بل تآكل بسبب القطع، قال المتولي: نسأل أهل الخبرة، فإن قالوا: هذا الدواء يأكل اللحم الحي والميت، صدق الجاني، وإن قالوا: لا يأكل الحي، صدق المجني عليه، وإن اشتبه الحال، صدق المجني عليه، لانه أعرف به، ولا يتداوى في العادة بما يأكل. والله أعلم.
باب استيفاء القصاص فيه أطراف :
الأول : فيمن له ولاية الاستيفاء، أما القصاص، فيستحقه جميع الورثة على فرائض الله تعالى، وفي وجه تستحقه العصبة خاصة، وفي وجه يستحقه الوارثون بالنسب دون السبب، حكاهما ابن الصباغ، وهما شاذان، والصحيح الاول وبه قطع الجمهور، ولو قيل: من ليس له وارث خاص، فهل للسلطان أن يقتص من قاتله، أم يتعين، أخذ الدية ؟ فيه قولان سبقا في كتاب اللقيط، وإن خلف بنتا، أو جدة، أو أخا لام، فإن قلنا: للسلطان الاستيفاء إذا لم يكن وارث، استوفاه مع صاحب الفرض، وإلا فالرجوع إلى الدية. فرع لو كان في الورثة غائب، أو صبي، أو مجنون، انتظر حضور الغائب أو إذنه، وبلوغ الصبي، وإفاقة المجنون، وليس للآخرين الانفراد بالاستيفاء. فرع إذا انفرد صبي، أو مجنون باستحقاق القصاص، لم يستوفه وليه سواء فيه قصاص النفس والطرف، وأما أخذ الولي له الدية، وجواز رد المستحق لها إذا كمل واقتصاصه، فقد ذكرناه في كتابي الحجر واللقيط، ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ولا يخلى بالكفيل، فقد يهرب، ويفوت الحق،(7/83)
وكذلك يحبس إلى أن يقدم الغائب، كما لو وجد الحاكم مال ميت مغصوبا، والوارث غائب، فإنه يأخذه حفظا لحق الميت، وذكر ابن الصباغ أنه لا يحبس في قصاص الطرف إلى قدوم الغائب، لان الحاكم لا ولاية له على الغائب المكلف، كما لا يأخذ ماله المغصوب، وفي كلام الامام وغيره ما ينازع فيه ويشعر بأنه يأخذ مال الغائب ويحفظه له، وأنه يحبس لقصاص الطرف، وفي أمالي السرخسي أن الشيخ أبا علي قال: لا يحبس القاتل، لانه عقوبة زائدة، وحمل الحبس في كلام الشافعي رحمه الله على التوقف للانتظار، والصحيح الاول، وبه قطع الجماهير قال الاصحاب: وحبسه أهون عليه من تعجيل القتل، ولا طريق إلى حفظ الحق سواه. فصل إذا كان القصاص لجماعة حضور كاملين، فليس لهم أن يجتمعوا على مباشرة قتله، لان فيه تعذيبا، ولكن يتفقون على واحد يستوفيه، أو يوكلون أجنبيا، فإن طلب كل واحد أن يستوفيه بنفسه، أقرع، فمن خرجت قرعته، تولاه بإذن الباقين، فلو أخروا لم يكن له الاستيفاء بخلاف ما إذا تنازعوا في التزويج، فخرجت قرعة واحد، فإنه يزوج، ولا يحتاج إلى إذن الباقين، لان القصاص مبني على الاسقاط ولجميعهم ولبعضهم تأخيره كإسقاطه، والنكاح لا يجوز تأخيره، هذا هو الصحيح، وعن القفال تفريعا أنه لا يفرع بينهم إلا بإذنهم بخلاف القرعة في القسمة وبين الاولياء، وحكى الامام وغيره وجها أنه لا حاجة بعد خروج القرعة إلى إذن الباقين، لتظهر فائدة القرعة، وإلا فاتفاقهم على واحد مغن عن القرعة، ولا شك أنه لو منع بعضهم من خرجت له القرعة من الاستيفاء، لم يكن له الاستيفاء، وهل يدخل في القرعة العاجز عن الاستيفاء، كالشيخ والمرأة ؟ وجهان، وقيل: قولان، أصحهما عند الاكثرين: لا، لانه ليس أهلا للاستيفاء، والقرعة إنما تكون بين المستوين في الاهلية، والثاني: نعم، فإن خرجت القرعة له، وكل،(7/84)
فإن قلنا: لا يدخل، فخرجت القرعة لقادر، فعجز، أعيدت بين الباقين، وإن قلنا: يدخل، لا تعاد، لكن يستنيب، هذا كله إذا كان المستحق القصاص في النفس لحز الرقبة، فأما قصاص الطرف، وقصاص النفس المستحق بقطع الطرف ونحوه، فسيأتي إن شاء الله تعالى. فصل من عليه قصاص إذا قتله أجنبي، لزمه القصاص كما سبق، ويكون هذا القصاص لورثته، لا لمن كان يستحق القصاص عليه، قال البغوي: فلو عفا ورثته عن القصاص على الدية، فالدية للورثة على الصحيح، وقيل: لمن له القصاص، كما إذا قتل المرهون تكون قيمته مرهونة، وهو ضعيف، وأما إذا بادر أحد ابني المقتول الحائزين، فقتل الجاني بغير إذن الآخر، فينظر أوقع ذلك قبل عفو أخيه أم بعده ؟ الحالة الاولى: إذا قتله قبل العفو، ففي وجوب القصاص عليه، قولان، أظهرهما: لا يجب، لان له حقا في قتله، فصار شبهة، والقولان فيما إذا قتله عالما بالتحريم، فإن جهل، فلا قصاص بلا خلاف، الحالة الثانية: أن يقتله بعد العفو، فإن علم العفو، وحكم الحاكم بسقوط القصاص عن الجاني، لزمه القصاص قطعا، وإن لم يحكم به، لزمه أيضا على المذهب، وقيل: لا، لشبهة اختلاف العلماء، وإن جهله، فإن قلنا: لا قصاص إذا علمه، فهنا أولى، وإلا فوجهان، ولو قتله العافي، أو عفوا، ثم قتله أحدهما، لزمه القصاص قطعا. التفريع على الحالة الاولى، فإذا أوجبنا القصاص على الابن المبادر، وجبت دية الاب في تركة الجاني، وكانت بينهما نصفين، وإن عفا مجانا، أو أطلق العفو، وقلنا: العفو المطلق لا يوجب الدية، أخذها الاخوان، وإن عفا على الدية، أو أطلق وجعلنا المطلق موجبا للدية، فللاخ الذي لم يقتل نصف الدية في تركة الجاني، وللمبادر النصف وعليه دية الجاني بتمامها، ويقع الكلام في التقاص، وقد يصير النصف بالنصف قصاصا، ويأخذ وارث الجاني النصف الآخر، وقد يختلف(7/85)
القدر بأن يكون المقتول أولا رجلا، والجاني امرأة، وإذا قلنا بالاظهر، ولم نوجب القصاص على المبادر، فلاخيه نصف الدية، وممن يأخذها ؟ قولان، أحدهما: من أخيه المبادر، وأظهرهما: من تركة الجاني، فإذا قلنا: يأخذ من أخيه، فأبرأ أخاه، برئ، وإن أبرأ وارث الجاني، لم يصح، لانه لا حق له عليه، ولو أبرأ وارث الجاني المبادر عن الدية، لم يسقط النصف الثابت عليه لاخيه، وأما النصف الثابت للوارث، فيبنى على التقاص في الدينين، هل يحصل بنفس الوجوب ؟ إن قلنا: نعم، فالعفو لغو، وبمجرد وجوبهما، سقطا، وإن قلنا: لا يحصل حتى يتراضيا، صح الابراء، وسقط ما ثبت للوارث على المبادر، ويبقى للمبادر النصف في تركة الجاني، وإن قلنا: حق الذي لم يقتل في تركة الجاني لا على أخيه، فلوارث الجاني على المبادر دية تامة، وللمبادر نصف الدية في تركة الجاني، فيقع النصف تقاصا، ويأخذ وارث الجاني منه النصف الآخر، فلو أبرأ الذي لم يقتل أخاه، فإبراؤه لغو إذ لا شئ له عليه، ولو أبرأ وارث الجاني، صح، ولو أسقط وارث الجاني الدية عن المبادر، فإن قلنا: يقع التقاص بنفس الوجوب، فقد سقط النصف بالنصف، ويؤثر الاسقاط في النصف الآخر، فلا يبقى لاحدهما على الآخر شئ، وإن قلنا: لا يقع التقاص إلا بالتراضي، سقط حق الوارث بإسقاطه، وبقي للمبادر نصف الدية في تركة الجاني، وإذا كان المبادر جاهلا بالتحريم، وجبت الدية بقتله، وهل يكون في ماله لقصده القتل، أم على عاقلته، لان الجهل كالخطأ ؟ قولان، فإن قلنا: في ماله، فالابن الذي لم يقتل يأخذ نصف الدية من أخيه، أو من تركة الجاني، فيه القولان، وإن قلنا: على العاقلة، أخذ الابنان الدية من تركة الجاني في الحال، ووارث الجاني يأخذ ديته من عاقلة المبادر، كما تؤخذ الدية من العواقل، هذا تفريع الحالة الاولى، أما إذا قتله بعد عفو أخيه، فإن أوجبنا القصاص، واقتص وارث الجاني، فلورثة المقتص منه نصف الدية في تركة الجاني، وأما العافي، فلا شئ له إن عفا مجانا، وإن عفا على نصف الدية، عاد الخلاف في أنه ممن يأخذه، وإن لم يقتص منه الوارث، بل عفا، نظر في حال العفوين وما يقتضيانه من وجوب المال وعدمه، وإن لم نوجب القصاص، فإن كان الآخر عفا على الدية، أو مطلقا، وقلنا: المطلق يقتضي الدية، فللابنين دية أبيهما، وعلى المبادر دية الجاني، فيقع ما له وما عليه في التقاص، ويأخذ الآخر(7/86)
النصف من أخيه، أو من تركة الجاني على الخلاف، وإن عفا مجانا أو مطلقا وقلنا: لا يوجب المال، فلا شئ للعافي، وللمبادر نصف دية أبيه، وعليه جميع دية الجاني، وما ذكرناه في المسألة من صور مجئ الخلاف في التقاص كذا أطلقه الاصحاب وفيه نظر، لان شرط التقاص استواء الديتين في الجنس والصفة حتى لا يجري إذا كان أحدهما مؤجلا والآخر حالا واختلف أجلهما، وهنا أحد الديتين في ذمة الابن المبادر لورثة الجاني، والآخر يتعلق بتركة الجاني ولا يثبت في ذمة أحد، وهذا الاختلاف أشد من اختلاف قدر الاجل. فصل الواحد إذا قتل جماعة، قتل بأحدهم وللباقين الديات، وكذا لو قطع أطراف جماعة كما سبق، وفي البيان وجه أنه يقتل بالجميع وليس بشئ، فلو رضي الاولياء بأن يقتل بهم جميعا ويرجع كل واحد إلى ما يبقى له من الدية عند توزيع القصاص عليهم، لم يجابوا إليه بلا خلاف، قاله الامام، ثم ينظر إن قتلهم مرتبا، قتل بالاول، فإن عفا ولي الاول، قتل بالثاني وهكذا يراعى الترتيب، وإن لم يعف ولي الاول ولا اقتص، فلا اعتراض عليه، وليس لولي الثاني المبادرة بقتله، فلو فعل، عزر ولا غرم، بل يقع قتله عن القصاص المستحق له، وينتقل الاول إلى الدية، وفي وجه يغرم للاول دية قتله، ويأخذ من تركة الجاني دية قتيل نفسه، وليس بشئ، ولو كان ولي القتيل الاول غائبا أو صبيا أو مجنونا، حبس القاتل حتى يحضر الولي، أو تكمل حاله، وحكى الفوراني قولا عن رواية حرملة أن للثاني الاقتصاص، ويصير الحضور والكمال مرجحا، والمشهور الاول، وأما إذا قتلهم معا، بأن هدم عليهم جدارا أو جرحهم وماتوا معا، فيقرع بينهم، فمن خرجت قرعته.، قتل به، فإن خرجت لواحد، فعفا وليه، اعيدت القرعة بين الباقين، وكذا لو عفا، بأن خرجت قرعته، وهذا الاقراع واجب على مقتضى كلام الجمهور، وحكى أبو الفياض وغيره أنه مستحب وللامام أن يقتله بمن شاء منهم، قال الروياني: وهو الاصح، وعليه جرى ابن كج وغيره، وحكوا عن نص الشافعي(7/87)
رحمه الله أنه قال: أحببت أن يقرع بينهم، ولو رضوا بتقديم واحد بلا قرعة، جاز، فإن بدا لهم، ردوا إلى القرعة، ذكره الامام، ولو كان ولي بعض القتلى غائبا أو صبيا أو مجنونا، فالمذهب الانتظار إذا أوجبنا الاقراع، وفي الوسيط عن رواية حرملة أن للحاضر والكامل الاقتصاص، وإذا أشكل الحال، فلم يدر أقتلهم دفعة أو مرتبا، أقرع بينهم، فإن أقر بسبق قتل بعضهم، اقتص منه وليه، ولولي غيره تحليفه إن كذبه. فرع إذا قتل مرتبا، فجاء ولي الثاني يطلب القصاص، ولم يجئ الاول، فعن نص الشافعي رضي الله عنه قال: أحببت أن يبعث الامام إلى ولي الاول، ليعرف أهو طالب أو عاف، فإن لم يبعث وقتله بالثاني، كرهته ولا شئ عليه، لان لكلهم عليه حق القود، ويشبه أن تكون الكراهة كراهة تحريم، ويؤيده أنه قال في الام: فقد أساء. فرع قتل جماعة جماعة، فالقاتلون كشخص، فإن قتلوهم مرتبا، قتلوا بالاول، وإلا فيقرع، فمن خرجت قرعته، قتلوا به، وللباقين الديات في تركات القاتلين. فرع إذا قتل عبد جماعة أحرارا أو عبيدا، فوجهان، أحدهما: يقتل بجميعهم، لان في تخصيص بعضهم تضييع حق الآخرين، ولان العبد لو قتلهم خطأ، تضاربوا في رقبته، فكذا في قصاصه بخلاف الحر، وأصحهما عند الاكثرين: لا يقتل بجميعهم، بل يكون كالحر المعسر، يقتل بواحد، وللباقين(7/88)
الديات في ذمته يلقى الله تعالى بها، فعلى هذا إن قتلهم مرتبا، قتل بالاول، وإن قتلهم معا، أقرع، وقتل بمن خرجت قرعته، ولو عفا ولي الاول، أو ولي من خرجت قرعته على مال، تعلق المال برقبته، وللثاني قتله وإن بطل حق الاول، لان تعلق المال لا يمنع القصاص، كجناية المرهون، وإن عفا الثاني أيضا على مال، تعلق المالان برقبته ولا يرجح بالتقدم، كما لو أتلف أموالا لجماعة في أزمنة. فرع إذا تمالا على الجاني أولياء القتيل، فقتلوه جميعا، فثلاثة أوجه، أصحها: يقع القتل موزعا على جميعهم، ويرجع كل واحد بقسط ما بقي من ديته، والثاني: يقرع ويجعل القتل واقعا عمن خرجت قرعته، وللباقين الديات، والثالث قاله الحليمي: يكتفى به عن جميعهم، ولا رجوع إلى شئ من الدية. فرع قتل رجلا، وقطع طرف آخر، وحضر المستحقان، يقطع طرفه، ثم يقتل، سواء تقدم قتله، أم قطعه ليجمع بين الحقين، وإن قطع يمين زيد، ثم أصبعا من يمين عمرو، وحضرا، قطعت يمينه لزيد ويأخذ عمرو دية الاصبع، فإن عفا زيد، قطعت أصبعه لعمرو، وإن كان قطع الاصبع أولا، قطعت أصبعه للاول، ويأخذ الثاني دية اليد، وإن شاء، قطع ما بقي من يد الجاني، وأخذ دية الاصبع، وإن وقع القطعان معا، أقرع، فمن خرجت قرعته مكانه يقدم قطعه. فصل ليس لمستحق القصاص استيفاؤه إلا بإذن الامام أو نائبه، وعن أبي إسحاق ومنصور التميمي أن المستحق يستقل بالاستيفاء كالاخذ بالشفعة وسائر الحقوق، والصحيح المنصوص الاول، وسواء فيه قصاص النفس والطرف، وإذا استقل به عزر، لكنه لا غرم عليه، ويقع عن القصاص، ولو استقل المقذوف باستيفاء حد القذف بإذن القاذف، أو بغير إذنه، ففي الاعتداد به وجهان، فإن قلنا: لا يعتد به، ترك حتى يبرأ ثم يحد، ولو مات منه، وجب القصاص إن جلده بغير إذنه، وإن كان بإذنه، فلا قصاص، وفي الدية خلاف، كما لو قتله بإذنه، ثم إذا طلب المستحق أن يستوفي القصاص بنفسه، فإن لم يره أهلا له كالشيخ والزمن(7/89)
والمرأة، لم يجبه، وأمره أن يستنيب، وإن رآه أهلا له، فإن كان المطلوب قصاص النفس، والطالب الولي، فوضه إليه بخلاف الجلد في القذف لا يفوض إلى المقذوف، لان تفويت النفس مضبوط، والجلدات يختلف موقعها، والتعزير كحد القذف، وإن كان المطلوب قصاص الطرف، والطالب المجني عليه، فوجهان، أحدهما: يفوضه إليه كالنفس، لان إبانة الطرف مضبوطة، وأصحهما: المنع، لانه لا يؤمن أن يردد الحديدة، ويزيد في الايلام. فرع يستحب للامام أن يحضر الاقتصاص عدلين متيقظين، ليشهدا إن أنكر المقتص، ولا يحتاج إلى القضاء بعلمه إن كان الترافع إليه. فرع يتفقد الامام السيف، ويقتص بصارم لا كال، فلو كان الجاني قتل بكال، فهل يقتص بكال أم يتعين الصارم ؟ وجهان، أصحهما: الاول، وإذا لم نجوز بالكال، فبان بعد الاستيفاء كلاله، عزر المستوفي. فرع يضبط الجاني في قصاص الطرف، لئلا يضطرب، فيؤدي إلى استيفاء زيادة. فرع إذا أذن للولي في ضرب الرقبة، فأصاب غيرها، واعترف بأنه تعمد، عزر، وكذا لو ادعى الخطأ فيما لا يقع الخطأ بمثله، بأن ضرب رجله أو وسطه، لكن لا يمنع من الاستيفاء، ولا يعزل، لانه أهل له، وإن تعدى بفعله، كما لو جرحه قبل الارتفاع إلى الحاكم، لا يمنع من الاستيفاء، وفيه وجه، أو قول ضعيف: أنه يعزل، ويؤمر بالاستنابة، لانه لا يؤمن أن يتعدى ثانيا، ولو ادعى(7/90)
الخطأ فيما يمكن فيه الخطأ، بأن ضرب كتفه، أو رأسه مما يلي الرقبة، حلف، ولا يعزر إذا حلف، لكن يعزل، لان حاله يشعر بعجزه وخرقه، وحكي قول، أو وجه: انه يعذر بالخطأ ولا يعزل، قال الامام: وهذا الوجه ينبغي أن يكون مخصوصا بما إذا لم يتكرر الخطأ منه، ولم يظهر خرقه، فإن ظهر فليمنع بلا خلاف، قال: وعزله على الصحيح ينبغي أن يكون مخصوصا بمن لم تعرف مهارته في ضرب الرقاب، فأما الماهر فينبغي أن لا يعزل بخطأ اتفق له بلا خلاف. فرع هل يمنع من الاستيفاء بالسيف المسموم، وجهان، الصحيح: المنع، هكذا أطلقهما مطلقون، وخصهما الامام بما إذا كان تأثير السم في التقطع، واكتفيت بتأخر عن الدفن، فإن كان يؤثر قبل الدفن، منع بلا خلاف لما فيه من هتك الحرمة وعسر الغسل والدفن، وحيث يمنع، فلو بان بعد القطع أنه كان مسموما، عزر، وأما في قصاص الطرف، فيمنع من المسموم بلا خلاف، فلو استوفاه بمسموم، فمات المقتص منه، فلا قصاص، لانه مات من مستحق وغيره، وتجب نصف الدية، وهل تكون على المستوفي، أم على عاقلته ؟ وجهان، أصحهما: الاول، وحكى ابن كج وجها غريبا أنه يجب القصاص، قال: ولو كان السم موحيا، وجب القصاص بلا خلاف. فرع لينصب الامام من يقيم الحدود ويستوفي القصاص بإذن المستحقين له، ويرزقه من خمس خمس الفئ والغنيمة المرصد للمصالح، فإن لم يكن عنده من سهم المصالح شئ، أو كان واحتاج إليه لاهم منه، فأجرة الاقتصاص على المقتص منه، لانها مؤنة حق لزمه أداؤه، وقيل: على المقتص، والصحيح المنصوص الاول، وبه قطع الجمهور، وفي أجرة الجلاء في الحدود، والقاطع في السرقة، وجهان، أصحهما: على المجلود والسارق، لانها تتمة الحد الواجب عليه، والثاني: في بيت المال، ومنهم من خص الايجاب في بيت المال بما إذا لم يكن للجاني مال، وأجرة الجلاد في القذف كأجرة الاقتصاص، وإذا قلنا: تجب في(7/91)
بيت المال، فلم يكن فيه ما يمكن صرفه إليه، اقترض الامام على بيت المال إلى أن يجد سعة، قال الروياني: أو يستأجر بأجرة مؤجلة، أو يسخر من يقوم به على ما يراه، والاستئجار قريب والتسخير بعيد، وبتقدير جوازه يجوز أن يأخذ الاجرة ممن يراه من الاغنياء ويستأجر بها، ولو قال الجاني: أنا أقتص من نفسي، ولا أؤدي الاجرة، فهل يقبل منه ؟ وجهان، قال الداركي: نعم، وأصحهما: لا، فعلى هذا لو قتل نفسه، أو قطع طرفه بإذن المستحق، ففي الاعتداد به عن القصاص وجهان، أحدهما: لا، كما لو جلد نفسه في الزنى بإذن الامام، وفي القذف بإذن المقذوف، لا يسقط الحد عنه، وكما لو قبض المبيع من نفسه بإذن المشتري، لا يعتد به، والثاني: نعم، لحصول الزهوق، وإزالة الطرف، بخلاف الجلد فإنه قد لا يؤلم نفسه، ويوهم الايلام، فلا يتحقق حصول المقصود، وفي البيع المقصود إزالة يد البائع، ولم تزل، قال البغوي: ولو قطع السارق يد نفسه بإذن الامام اعتد به عن الحد، وهل يمكنه إذا قال: أقطع بنفسي ؟ وجهان، أقربهما: نعم، لان الغرض التنكيل، ويحصل بذلك.
الطرف الثاني : في وقت الاقتصاص لمستحق القصاص استيفاؤه على الفور إذا أمكن، فلو التجأ الجاني إلى الحرم، جاز استيفاؤه منه في الحرم، سواء فيه قصاص النفس والطرف، ولو التجأ إلى المسجد الحرام، قال الامام: أو غيره من المساجد، أخرج منه وقتل، لان هذا تأخير يسير، وفيه صيانة للمسجد، وفيه وجه ضعيف أنه تبسط الانطاع، ويقتل في المسجد تعجيلا لتوفية الحق وإقامة الهيبة.(7/92)
قلت: ولو التجأ إلى الكعبة، أو إلى ملك إنسان، أخرج قطعا. والله أعلم. فصل لو قطع طرفه، فمات بالسراية، فسيأتي إن شاء الله تعالى أن القصاص يستوفى بمثله، فإذا قطع طرف الجاني، فله أن يحز رقبته في الحال، وله أن يؤخر، فإن مات بالسراية، فذاك، وإلا حز رقبته، لانه استحق إزهاق روحه، فإن شاء عجل، وإن شاء أخر. فصل لا يؤخر قصاص الطرف لشدة الحر والبرد، ولا بسبب المرض وإن كان مخطرا، وكذا لا يؤخر الجلد في القذف بخلاف قطع السرقة والجلد في حدود الله تعالى، لان حقوق الله تعالى مبنية على التخفيف، هكذا قطع به الغزالي والبغوي وغيرهما، وفي جمع الجوامع للروياني أنه نص في الام على أنه يؤخر قصاص الطرف بهذه الاسباب، ولو قطع أطراف رجل، فللمجني عليه أن يقتص في الجميع متواليا سواء قطعها الجاني متوالية أم متفرقة، وقيل: يفرق مطلقا، وقيل: يفرق إن فرق، ويوالي إن والى، والصحيح الاول، لانها حقوق واجبة في الحال. فصل المرأة الحامل لا يقتص منها في نفس ولا طرف، ولا تحد للقذف، ولا في حدود الله تعالى قبل الوضع، سواء الحامل من زنى أو غيره، وسواء وجبت العقوبة قبل الحمل أم بعده، حتى إن المرتدة لو حبلت من زنى بعد الردة، لا تقتل حتى تضع، وإذا وضعت لا تستوفى العقوبة حتى تسقي الولد اللبأ، ومال القاضي أبو الطيب إلى أنها لا تمهل لارضاعه اللبأ، لانه قد يعيش دونه، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، لان الغالب أنه لا يعيش بدونه مع أنه تأخير يسير، ثم إذا أرضعته اللبأ، فإن لم يكن هناك من يرضعه، ولا ما يعيش به الولد من لبن بهيمة وغيره،(7/93)
فوجهان، قال ابن خيران: يقتص منها، ولا يبالى بالطفل، والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يجب التأخير إلى أن توجد مرضعة أو ما يعيش به، أو ترضعه هي حولين وتفطمه، لانه إذا وجب تأخير العقوبة احتياطا للحمل، فوجوبه بعد وجود الولد، وتيقن حياته أولى، فلو بادر مستحق القصاص والحالة هذه فقتلها، فمات الطفل، فالصحيح أنه قاتل للطفل عمدا، فيلزمه قوده، كما لو حبس رجلا في بيت ومنعه الطعام، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد، ونقله ابن كج عن النص، وعن الماسرجسي قال: سمعت ابن أبي هريرة يقول: عليه دية الولد، فقلت له: أليس لو غصب طعام رجل في البادية أو كسوته، فمات جوعا أو بردا، لا ضمان عليه، فتوقف، فلما عاد إلى الدرس قال: لا ضمان فيهما، أما إذا أمكن تربية الولد بمراضع يتناوبن عليه، أو بلبن شاة ونحوه، ولم توجد مرضعة راتبة، فيستحب للمستحق أن يصبر لترضعه هي لئلا يفسد خلقه ونشوؤه بالالبان المختلفة ولبن البهيمة، فإن لم يصبر وطلب القصاص، أجيب إليه، ولو وجدت مرضعة راتبة، فله الاقتصاص في الحال، ولو وجد مراضع وامتنعن، أجبر الحاكم من يرى منهن بالاجرة. والجلد في القذف كالقصاص، وأما الرجم وسائر حدود الله تعالى، فلا تستوفى وإن وجدت مرضعة، بل ترضعه هي، وإذا انقضى الارضاع لم يستوف أيضا حتى يوجد للطفل كافل، والفرق بين الحدود والقصاص أنها على المساهلة كما سبق. فرع تحبس الحامل في القصاص إلى أن يمكن الاستيفاء كما ذكرنا فيما إذا كان في المستحقين صبي، ولو كان عليها رجم، أو غيره من حدود الله تعالى، لم تحبس على الصحيح، لانه على التخفيف، وقيل: تحبس، كالقصاص، قال الامام: وإطلاق هذا الوجه بعيد، والاقرب أنه مخصوص بما إذا ثبت بالبينة، فإن ثبت بالاقرار، فلا معنى للحبس مع أنه بعرض السقوط بالرجوع. فرع جميع ما ذكرناه إذا ثبت الحمل بإقرار المستحق، أو شهادة النسوة، فلو ادعت الجانية الحمل، هل يمتنع عنها بمجرد دعواها ؟ وجهان، قال(7/94)
الاصطخري: لا، وقال الجمهور: نعم وهو الصحيح، قال الامام: ولا أدري أيقول هؤلاء بالصبر إلى انقضاء مدة الحمل أم إلى ظهور المخايل، والارجح الثاني، فإن التأخير أربع سنين من غير ثبت بعيد، قال الغزالي: فعلى قول الاصطخري: لا يمكن الاقتصاص من منكوحة يخالطها زوجها، وهذا إن أراد به إذا ادعت الحمل، فهو كذلك، وإن أراد الامتناع بمجرد المخالطة والوطئ بغير دعواها، فليس كذلك، لان الاصل عدم الحمل. فرع إذا قتلت الحامل على خلاف ما أمرنا به، نظر، إن بادر إليه الولي مستقلا، أثم ووجبت غرة الجنين إن انفصل ميتا، وتكون على عاقلة الولي، وإن انفصل حيا متألما فمات، وجبت الدية، وإن أذن له الامام في قتلها، فقتلها، فنتكلم في ثلاثة أشياء، أحدها: الاثم وهو تبع للعلم فإن علم الولي والامام بالحمل، أثما، وإن جهلا، فلا، وإن علم أحدهما، اختص بالاثم. الثاني: الضمان، فإن لم ينفصل الجنين، فلا ضمان، وإن انفصل ميتا، ففيه الغرة والكفارة، وإن انفصل حيا متألما فمات به، ففيه دية وكفارة، وإن انفصل سليما، ثم مات، لم يجب فيه شئ. الثالث: فيمن عليه الضمان، فإن كان الامام والولي عالمين أو جاهلين، فالصحيح المنصوص أن الضمان على الامام، لان البحث عليه، وهو الامر به، وقيل: على الولي، لانه المباشر، وقيل: عليهما بالسوية، وإن كان الامام عالما، والولي جاهلا، فإن أوجبنا الضمان إذا علما على الامام، فهنا أولى، وإلا فوجهان، وإن كان الولي عالما والامام جاهلا، فالصحيح أن الضمان على الولي، وقيل: على الامام لتقصيره، وحيث ضمنا الولي، فالغرة على عاقلته، والكفارة في ماله، وحيث ضمنا الامام، فإن كان عالما ففي ماله، وإن كان جاهلا، فعلى القولين في أن ما يجب بخطأ الامام في الاجتهاد، هل هو على عاقلته أم في بيت المال ؟ أظهرهما وهو المنصوص هنا: أنه على عاقلته، وبه قطع ابن(7/95)
سلمة وأبو علي الطبري، وإذا قلنا: الدية والغرة في بيت المال، ففي الكفارة وجهان، لقربها من القربات، وبعدها من التحمل، ولو باشر القتل نائب الامام، أو جلاده دون الولي، فإن كان جاهلا، فلا ضمان عليه بحال، لانه سيف الامام، وإن كان عالما، فخلاف مرتب على ما إذا أذن الامام للولي وعلم الولي، وأولى بأن لا ضمان، لانه آلة الامام، ولهذا لا كفارة عليه إذا جرى على يده قتل بغير حق، وهل يؤثر علم الولي مع الجلاد ؟ وجهان، أصحهما: نعم، حتى إذا كانوا عالمين، ضمنوا أثلاثا، هذا كله في ضمان الجنين، أما الام فلا يجب ضمانها، لانها تلفت في حد أو عقوبة عليها، قال البغوي: هذا إذا ماتت بألم الضرب، فإن ماتت بألم الولادة، وجبت ديتها، وإن ماتت منهما، وجب نصف ديتها والمراد إذا ضربها في الحد، فأفضى إلى الاجهاض وماتت. فرع إذا لم يعلم الامام الحمل فأذن للولي في القتل، ثم علم، فرجع عن الاذن، ولم يعلم الولي رجوعه، فقتل، فعلى من الضمان ؟ يبنى ذلك على ما إذا عفا الموكل عن القصاص ولم يعلم الوكيل، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. فرع ليس المراد مما أطلقناه من العلم بالحمل وعدمه، حقيقة العلم، بل المراد ظن مؤكد بمخايله وبالله التوفيق.
الطرف الثالث : في كيفية المماثلة
وهي مشترطة في استيفاء القصاص، فإذا قتله قتلا موحيا بمحدد، كسيف وغيره، أو بمثقل، أو خنقه، أو غرقه في ماء، أو ألقاه في نار، أو جوعه حتى مات، أو رماه من شاهق، فللولي أن يقتله بمثل ما قتل به، ويستثنى عن هذه القاعدة ثلاث صور، إحداها: إذا قتله بسحر، اقتص منه بالسيف، لان عمل السحر حرام ولا ينضبط، الثانية: إذا قتله باللواط، وهو مما يقتل غالبا، بأن لاط بصغير، فالصحيح أنه يقتل بالسيف كمسألة السحر، والثاني: تدس في دبره خشبة قريبة من آلته ويقتل بها، قاله أبو إسحق والاصطخري، قال(7/96)
المتولي: هذا إن توقع موته بالخشبة، وإلا فالسيف، والثالث: لا يجب به القصاص، لانه لا يقصد به الاهلاك، فيكون القتل به خطأ، أو شبه عمد، وهو غريب ضعيف، الثالثة: إذا أوجره خمرا حتى مات، فثلاثة أوجه، الصحيح: أنه يقتل بالسيف، والثاني: يوجر مائعا، كخل أو ماء أو شئ مر، والثالث: لا قصاص، لانه لا يقصد به القتل وهو غريب ضعيف، ولو سقاه بولا، فكالخمر، وقيل: يسقى بولا، لانه يباح عند الضرورة بخلاف الخمر، ولو أوجره ماء نجسا، أو جر ماء طاهرا. فرع كما ترعى المماثلة في طريق القتل، ترعى في الكيفية والمقدار، ففي التجويع يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام، وفي الالقاء في الماء والنار يلقى في ماء ونار مثلهما، ويترك تلك المدة، وتشد قوائمه عند الالقاء في الماء إن كان يحسن السباحة، وفي التخنيق يخنق بمثل ما خنق مثل تلك المدة، وفي الالقاء من الشاهق يلقى من مثله وتراعى صلابة الموضع، وفي الضرب بالمثقل يراعى الحجم وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر، أو قدر النار، أو عدد الضربات فعن القفال أنه يقتل بالسيف، وعن بعضهم يؤخذ باليقين. قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم. فرع متى عدل المستحق من غير السيف إلى السيف، مكن منه، لانه أوحى وأسهل، قال البغوي: وهو الاولى، وأشار الامام إلى وجه أنه لا يعدل من الخنق إلى السيف، والمذهب: الاول. فرع إذا جوع الجاني مدة تجويعه، أو ألقي في النار مثل مدته، أو ضرب بالسوط والحجر كضربه، فلم يمت، فقولان، أحدهما: يزاد في ذلك الجنس حتى يموت، والثاني: يقتل بالسيف، وفرق جماعة فقالوا: يفعل الاهون منهما، وهذا(7/97)
أقرب، والاول: أظهر عند البغوي، وقيل: يعدل في السوط والحجر إلى السيف، قال الامام: ولو قتل نحيفا بضربات تقتل مثله غالبا، وعلمنا أو ظننا طنا مؤكدا أن الجاني لا يموت بتلك الضربات لقوة جثته، فالوجه القطع بأنه لا يضرب، ثم قال: وفيه احتمال. فرع هذا الذي ذكرناه في الاقتصاص بالقتل الموحي، فأما غير الموحي من القتل، كالجروح وقطع الاطراف إذا سرت إلى النفس، فله حالان، أحدهما: أن تكون الجراحة بحيث يقتص فيها لو وقفت، كالموضحة وقطع الكف، فللمستحق أن يحز رقبته، وله أن يوضحه أو يقطع كفه، ثم إن شاء حز رقبته في الحال، وليس للجاني أن يقول: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي، لان القصاص ثابت في الحال، وعن ابن القطان أن له ذلك، والصحيح الاول، وإن شاء أمهله إلى السراية كما سبق، وليس للجاني أن يقول: أريحوني بالقتل أو العفو، بل الخيرة للمستحق، وإذا اقتص في موضحة الجناية، أو قطع العضو المقطوع مثله، لم يكن له أن يوضح موضعا آخر، ولا أن يقطع عضوا آخر بلا خلاف، بل ليس له إلا حز الرقبة. الحال الثاني: أن تكون الجراحة بحيث لا يقتص فيها لو وقفت، كالجائفة وقطع اليد من نصف الساعد، فهل يجوز استيفاء القصاص بهذا الطريق تحقيقا للمماثلة، أم يجب العدول إلى حز الرقبة ؟ قولان، أظهرهما عند الاكثرين: الاول، فعلى هذا لو أجافه كجائفته، فلم يمت، فهل يزاد في الجوائف، وجهان، أصحهما: لا، قال البغوي: وإذا قلنا: يجوز الاقتصاص بطريق الجائفة، فقال: أجيفه، ثم أعفو قال: ولو أجافه ثم عفا عنه، عزر على ما فعل، ولم يجبر على قتله، فإن مات، بان بطلان العفو، والقولان في أنه هل يستوفى القصاص بالجائفة ونحوها ؟ يجريان فيما قطع يدا شلاء، ويد القاطع صحيحة، أو ساعدا ممن لا كف له، والقاطع سليم، هل يستوفى القصاص بقطع اليد والساعد ؟ فرع المماثلة مرعية في قصاص(7/98)
الطرف، كما هي مرعية في قصاص النفس بشرط إمكان رعايتها، فلو أبان طرفا من أطرافه بمثقل، لم يقتص إلا بالسيف، ولو أوضح رأسه بالسيف، لم يوضح بالسيف، بل يوضح بحديدة خفيفة، فإن كان الطريق موثوقا به مضبوطا، قوبل بمثله، كفق ء العين بالاصبع. فرع قطعه رجل من الكوع، ثم قطع آخر ساعده من المرفق قبل اندمال القطع الاول، فمات بالسراية، فالقصاص عليهما، وطريق استيفائه من الاول أن تقطع يده من الكوع، فإن لم يمت، حزت رقبته، وأما الثاني، فإن كان له ساعد بلا كف، اقتص منه بقطع مرفقه، ثم يقتل، وإن كانت يده سليمة، فهل تقطع من المرفق ثم تحز رقبته، أم يقتصر على الحز ؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما: الاول، وهو نصه في المختصر لترد الحديدة على موردها في الجناية، ولا عبرة بزيادة الكف الهالكة بهلاك النفس، ولو أراد الولي العفو عن الاول بعد أن أقطعه من الكوع، قال الاصحاب: لا يجوز أن يعفو على مال، لان الواجب عليه نصف الدية، فإنه أحد القاتلين، وقد استوفى النصف باليد التي قطعها، وإن أراد أن يعفو عن الثاني على مال، فله نصف الدية إلا قدر أرش الساعد، فإنه لم يستوف منه إلا الساعد. فرع إذا اقتص من قاطع اليد، ثم مات المجني عليه بالسراية، فللولي أن يحز رقبته، وله أن يعفو ويأخذ نصف الدية، واليد المستوفاة مقابلة بالنصف، فإن مات الجاني، أو قتل ظلما، أو في قصاص آخر، تعين أخذ نصف الدية من تركته، ولو قطع يدي رجل، فقطعت يداه قصاصا، ثم مات المجني عليه بالسراية، فللولي حز رقبة الجاني، فلو عفا، فلا مال له، لانه استوفى ما يقابل الدية، وهذه صورة يستحق فيها القصاص ولا تستحق الدية بالعفو عليها، ولو اقتص من قاطع اليد، فمات بالسراية، فلا شئ على المقتص، ولو ماتا جميعا بالسراية بعد الاقتصاص في اليد، نظر، إن مات المجني عليه أولا، أو ماتا معا، فوجهان، الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا شئ على الجاني، والثاني: أن في تركته نصف الدية، نقله ابن كج عن عامة الاصحاب، وإن مات الجاني أولا، فهل يجب في تركته نصف الدية، أم لا شئ ؟ وجهان، أصحهما: الاول، فلو كان ذلك في الموضحة، وجب تسعة أعشار الدية ونصف عشرها، وقد أخذ بقصاص الموضحة نصف العشر.(7/99)
فرع قطعه، فحز المقطوع رقبة الجاني، فإن مات المقطوع بالسراية، صار قصاصا، وإن اندمل، قتل قصاصا، وفي تركة الجاني نصف الدية لقطعه اليد، هكذا ذكره البغوي. فرع قطع يد رجل وقتل آخر ثم مات المقطوع بالسراية فقد قتل شخصين، نقل صاحب الشامل عن الاصحاب أنه يقتل بالمقتول دون المقطوع، لان قصاص المقطوع وجب بالسراية وهي متأخرة عن وجوبه للمقتول، لكن لولي المقطوع أن يقطع يده، فإذا قتله الآخر، أخذ نصف الدية من تركته، وتوقف في تخصيص الاقتصاص في النفس بالمقتول، ولو أنه بعد ما قطع واحدا، وقتل آخر قطعت يده قصاصا، ومات بالسراية، فلولي المقتول الدية في تركته، وإن قطع قصاصا ثم قتل قصاصا، ثم مات المقطوع الاول، فلوليه نصف الدية في تركة الجاني. فصل سبق أنه لا تقطع يمين بيسار ولا عكسه، ولو وجب القصاص في يمين واتفقا على قطع يسار بدلها، لم يكن بدلا، كما لو قتل غير القاتل برضاه بدلا، لا يقع بدلا، ولكن لا قصاص في اليسار لشبهة البذل وتجب ديتها، ومن علم منهما فساد هذه المصالحة، أثم بقطع اليسار، وهل يسقط قصاص اليمين بما جرى ؟ وجهان، أصحهما: نعم، ولو قال مستحق قصاص اليمين للجاني: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها المستحق، فللمخرج أحوال، أحدهما: أن يعلم أن اليسار لا تجزئ عن اليمين، وأنه يخرج اليسار ويقصد بإخراجها الاباحة للمقتص، فلا قصاص في اليسار ولا دية، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الاصحاب، وقالوا: قد بذلها صاحبها مجانا، وإن لم يتلفظ بإباحة قالوا: والفعل بعد السؤال كالاذن في المسؤول، حتى لو قال لاجنبي: أخرج يدك لاقطعها، أو قال: ملكني قطعها، فأخرجها، كان ذلك إباحة، ولو قال: ناولني متاعك لالقيه في البحر، فناوله كان كما لو نطق بالاذن فيه، فلا يجب ضمانه إذا ألقاه في البحر، ولو قدم طعاما إلى من استدعاه، كان كما لو قال له: كل، وحكى ابن القطان وجها أنه يجب ضمان اليسار إذا لم يتلفظ المخرج بالاذن في القطع، وحمل نص الشافعي(7/100)
على ما إذا أذن لفظا، والصحيح الاول، وبه قطع الاصحاب، وسواء علم القاطع أنها اليسار، وأنها لا تجزئ أم لا، لكن إذا علم، عزر، وعن ابن سلمة احتمال في وجوب القصاص إذا كان عالما، ولو قصد شخص قطع يد رجل ظلما، فلم يدفعه المقصود وسكت حتى قطع، فهل يكون سكوته إهدارا ؟ وجهان، الصحيح: لا، لانه لم يوجد منه لفظ ولا فعل، فصار كسكوته عن إتلاف ماله، والثاني: نعم، لانه سكوت محرم، فدل على الرضى، ولو سرى قطع اليسار إلى نفس المخرج، ففي وجوب الدية الخلاف السابق فيما إذا قال: اقتلني، فقتله، وبني وجوب الكفارة على المقطوع يساره على الخلاف في أن قاتل نفسه هل تلزمه الكفارة ؟ هذا حكم قطع اليسار في هذه الحالة، وأما قصاص اليمين، فيبقى كما كان، لكن إذا سرى قطع اليسار إلى النفس، فات القصاص، فيعدل إلى دية اليد، فلو قال القاطع: قطعت اليسار على ظن أنها تجزئ عن اليمين فوجهان، أحدهما: لا يسقط قصاصه في اليمين، لانه لم يسقطه ولا اعتاض عنه، وأصحهما وبه قطع البغوي واختاره الشيخ أبو حامد والقاضي حسين: يسقط، لانه رضي بسقوطه اكتفاء باليسار، فعلى هذا يعدل إلى دية اليمين، لان اليسار وقعت هدرا، وطرد الوجهان فيما لو جاء الجاني بالدية وطلب من مستحق القطع متضرعا إليه أن يأخذها ويترك القصاص، فأخذها، فهل يجعل الاخذ عفوا، ولو قال القاطع: علمت أن اليسار لا تجزئ عن اليمين شرعا، لكن جعلتها عوضا عنها، اطرد الخلاف، وجعل الامام هذه الصورة أولى بالسقوط، الحال الثاني: أن يقول: قصدت بإخراج اليسار إيقاعها عن اليمين لظني أنها تقوم مقامها، فنسأل المقتص لم قطع ؟ وله في جوابه ألفاظ أحدها أن يقول: ظننت أنه أباحها بالاخراج، فلا قصاص عليه في اليسار، وفيه احتمال للامام، ويبقى قصاص اليمين كما كان قطعا، الثاني: أن يقول: علمت أنها اليسار، وأنها لا تجزئ ولا تجعل بدلا، ففي وجوب القصاص وجهان، أصحهما: لا يجب، لكن تجب الدية، وعلى الوجهين يبقى قصاص اليمين، الثالث: أن يقول: قطعتها عوضا عن اليمين، وظننتها تجزئ كما ظنه المخرج، فالصحيح أنه لا قصاص في اليسار، وأنه يسقط قصاص اليمين، ولكل واحد منهما دية ما قطعه الآخر، الرابع: أن يقول: ظننت المخرجة اليمين، فلا قصاص في اليسار على المذهب، وفي التهذيب فيه وجهان، كما لو قتل رجلا وقال: ظننته(7/101)
قاتل أبي فلم يكن، فإن لم نوجب القصاص، وجبت الدية علي الاصح، لانه لم يبذلها مجانا ويبقى قصاص اليمين على المذهب، ويجئ فيه الخلاف السابق. الحال الثالث: أن يقول المخرج: دهشت فأخرجت اليسار، وظني أني أخرج اليمين، فيسأل المقتص عن قصده في قطعه اليسار، وله في جوابه صيغ، إحداها: أن يقول: ظننت أن المخرج قصد الاباحة، فقياس مثله في الحال الثاني أن لا يجب القصاص في اليسار، والذي ذكره البغوي أنه يجب القصاص كمن قتل رجلا وقال: ظننت أنه أذن لي في القتل، وهذا يوافق الاحتمال المذكور هناك وهو المتوجه في الموضعين. الثانية: أن يقول: علمت أنها اليسار وأنها لا تجزئ، قال الاصحاب: لا قصاص فيه، وفيه احتمال للامام. الرابعة: أن يقول: ظننتها اليمين، فلا قصاص على المذهب، وفي جميع هذه الصيغ يبقى قصاص اليمين إلا إذا قال: ظننت أن اليسار تجزئ، فإن الاصح سقوطه، وإذا سقط القصاص من الطرفين، فلكل واحد منهما الدية على الآخر، ولو قال القاطع: دهشت فلم أدر ما قطعت، قال الامام: لا يقبل منه ويلزمه القصاص في اليسار، لان الدهشة لا تليق بحال القاطع، وفي كتب الاصحاب لا سيما العراقيين، أن المخرج لو قال: لم أسمع من المقتص: أخرج يمينك، وإنما وقع في سمعي: أخرج يسارك، فأخرجتها، فالحكم فيه كقوله: دهشت، فأخرجت وأنا أظنها اليمين. فرع جميع ما ذكرناه في القصاص، فأما إذا وجب قطع يمينه في السرقة، فقال الجلاد للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، فقولان، أحدهما ويقال: إنه قديم، ويقال: مخرج: إن الحكم كما ذكرنا في القصاص، والثاني وهو المشهور: أنه يقع قطع اليسار عن الحد، فيسقط قطع اليمين، لان المقصود التنكيل وقد حصل، ولان الحد مبني على التخفيف، واستدرك القاضي حسين، فحمل ما أطلقه الاصحاب على الحالين الاخيرين من الاحوال الثلاثة، وقال في الحال الاول وهو الاخراج بقصد الاباحة: ينبغي أن لا يسقط قطع اليمين، كما لو قطع السارق يسار نفسه، أو قطعها غيره بعد وجوب قطع اليمين. فرع لو كان المقتص منه مجنونا، فهو كما لو أخرج اليسار مدهوشا، ولا يتحقق منه البدل، ولو كان المقتص منه عاقلا، والمستحق مجنونا، فقطع يمين المقتص منه مكرها له، فهل يكون مستوفيا لحقه ؟ فيه خلاف سبق، فإن قلنا: لا(7/102)
يصير مستوفيا وهو الصحيح، انتقل حقه إلى الدية، ويجب للجاني دية يده، فإن جعلنا عمده عمدا، فالدية في ماله، والصورة من صور التقاص، وإن جعلناه خطأ، فدية اليسار على عاقلته ولا تقاص، ولو قال لمن عليه القصاص: أخرج يمينك، فأخرجها، فقطعها المجنون، قال الاصحاب: لا يصح استيفاؤه، وينتقل حقه إلى الدية، ولا ضمان عليه، لانه أتلفها ببذله وتسليطه، وإن أخرج يساره، فقطعها، فهي مهدرة ويبقى حقه في قصاص اليمين. فرع حيث أوجبنا دية اليسار في الصور السابقة، فهي في ماله، لانه قطع متعمدا، وعن نصه في الام أنها تجب على العاقلة. فرع حيث قلنا: يبقى القصاص في اليمين، لا يستوفى حتى يندمل قطع اليسار لما في توالي القطعين من خطر الهلاك، نص عليه، ولو قطع طرفي رجل معا، اقتص فيهما معا، ولا يلزمه التفريق، نص عليه، فقيل: فيهما قولان، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن خطر الموالاة في الصورة الاولى يحصل من قطع مستحق وغير مستحق. فرع قال المخرج: قصدت بالاخراج إيقاعها عن اليمين، وقال القاطع: أخرجتها بقصد الاباحة، فالمصدق المخرج لانه أعرف بقصده. فرع ثبت له القصاص في أنملة، فقطع من الجاني أنملتين، سئل، فإن اعترف بالتعمد، قطعت منه الانملة الثانية، وإن قال: أخطأت وتوهمت أني أقطع أنملة واحدة، صدق بيمينه، ووجب أرش الانملة الزائدة، وهل هي في ماله أم على عاقلته ؟ قولان، أو وجهان، أصحهما: في ماله. وبالله التوفيق (2).
باب العفو عن القصاص
هو مستحب، فإن عفا بعض المستحقين، سقط القصاص وإن كره الباقون،(7/103)
ولو عفا عن عضو من الجاني، سقط القصاص كله، ولو أقت العفو، تأبد، ويشتمل الباب على طرفين: أحدهما : في حكم العفو، وهو مبني على أن موجب العمد في النفس والطرف ماذا ؟ وفيه قولان، أظهرهما عند الاكثرين: أنه القود المحض، وإنما الدية بدل منه عند سقوطه، والثاني: أنه القصاص أو الدية، أحدهما لا بعينه، وعلى القولين للولي أن يعفو على الدية بغير رضى الجاني، ولو مات أو سقط الطرف المستحق، وجبت الدية، وحكي قول قديم أنه لا يعدل إلى المال إلا برضى الجاني، وأنه لو مات الجاني، سقطت الدية وليس بشئ، فإذا قلنا: الواجب أحدهما لا بعينه، فعفا عن القصاص والدية جميعا، فلا مطالبة بواحد منهما، ولو قال: عفوت عما وجب لي بهذه الجناية، أو عن حقي الثابت عليك وما أشبهه، فلا مطالبة أيضا بشئ، نقله ابن كج عن النص، ولو قال: عفوت على أن لا مال لي، فوجهان، أحدهما: أنه كعفوه عنهما، والثاني: لا تسقط المطالبة بالمال، لانه لم يسقطه، وإنما شرط انتفاءه، وإلى هذا مال الصيدلاني، ولو عفا عن(7/104)
القصاص، تعينت الدية، ولو عفا عن الدية، فله أن يقتص، فلو مات الجاني بعد ذلك، فله الدية لفوات القصاص بغير اختياره، ونقل ابن كج قولا أنه لا مال له، والمشهور الاول، وهل له أن يعفو بعد هذا عن القصاص ويرجع إلى الدية ؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحهما وهو محكي عن النص: لا، فعلى هذا لو عفا مطلقا، لم يجب شئ، والثاني: نعم، وحاصل هذا الوجه أن العفو عن الدية لغو، والولي على خيرته كما كان، والثالث: إن عفا على الدية، وجبت، وإن عفا مطلقا، فلا، فإن قلنا: لا رجوع إلى الدية استقلالا، فلو تراضيا بمال من جنس الدية أو غيره بقدرها، أو أقل، أو أكثر، فوجهان، أحدهما: لا يجوز كما لا تجوز المصالحة عن حد القذف على عوض، والصحيح الجواز، لان الدم متقوم شرعا، كالبضع بخلاف العرض، ولو جرى الصلح مع أجنبي، جاز أيضا على الاصح، كاختلاع الاجنبي وأولى، لان حقن الدم مرغب فيه، ولو عفا، أو صالح عن القصاص على مال قبل أن يعفو عن الدية، فإن كان المصالح عليه من غير جنس الدية، جاز، سواء كانت قيمته بقدر الدية، أم أقل، أو أكثر، وإن كان من جنسه، فسيأتي إن شاء الله تعالى، ويجري الخلاف فيما لو ثبت القصاص بلا دية، وصورته ما إذا قطع يديه، فسرى إلى النفس، فقطعت يد الجاني قصاصا، أو قطعت يداه قصاصا، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فإنه يجوز حز رقبته، ولا يجوز العفو على الدية كما سبق، ولو قال: عفوت عنك ولم يذكر القصاص ولا الدية، أو قال: عفوت عن أحدهما، ولم يعين، فوجهان، أحدهما: يحمل على القصاص ويحكم بسقوطه، وأصحهما: يقال له: اصرف الآن إلى ما شئت منهما، ولو قال: اخترت الدية، سقط القصاص ووجبت الدية، ويكون كقوله: عفوت عن القصاص، هذا(7/105)
هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وعن القفال أن اختياره أحدهما لا يسقط حقه من الثاني، بل يبقى خياره كما كان، ولو قال: اخترت القصاص، فقياس القفال ظاهر، وأما على الصحيح، فهل له الرجوع إلى الدية لانها أخف، أم لا كعكسه ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قاله البغوي، هذا كله تفريع على قولنا: الواجب أحدهما، أما إذا قلنا: الواجب القصاص بعينه، فلو عفا عنه على الدية، وجبت، وإن عفا عنه على مال آخر، فإن كان من جنس الدية، فسيأتي إن شاء الله تعالى، وإن عفا، أو صالح على غير جنسها، وقبل الجاني، ثبت المال، وسقط القود، وإن لم يقبل الجاني، لم يثبت المال قطعا، ولم يسقط القصاص على الاصح، فإن قلنا: يسقط القصاص، فهل تثبت الدية ؟ قال البغوي: هو كما لو عفا مطلقا، ولو عفا عن القود على نصف الدية، قال القاضي حسين: هذه معضلة أسهرت الجلة، قال غيره: هو كعفوه عن القود ونصف الدية، فيسقط القود، ونصف الدية، ولو عفا عن القود مطلقا ولم يتعرض للدية، لم تجب دية على المذهب، لان القتل لم يوجبها على هذا القول، والعفو إسقاط ثابت لا إثبات معدوم، فإن قلنا: لا تثبت الدية بنفس العفو، فاختارها بعد العفو، قال ابن كج: تثبت الدية، ويكون اختيارها بعد العفو كالعفو عليها، وحكي عن النص أن هذا الاختيار يكون عقب العفو، وعن بعض الاصحاب أنه يجوز فيه التراخي، ولو عفا عن الدية، فهو لغو على هذا القول، فله بعد ذلك العفو عن القود على الدية، فلو عفا مطلقا، عاد الخلاف في وجوب الدية. فصل لو كان مستحق القصاص محجورا عليه، نظر، إن كان مسلوب العبارة، كالصبي والمجنون، فعفوه لغو، وإلا فإن كان الحجر عليه لحق غيره، كالحجر بالفلس، فله أن يقتص، ولو عفا عن القصاص، سقط، وأما الدية، فإن قلنا: موجب القتل أحد الامرين، فليس له العفو عن المال، وإذا تعين المال بالعفو عن القصاص، دفع إلى غرمائه، ولا يكلفه تعجيل القصاص، أو العفو ليصرف المال إليهم، وإن قلنا: موجب القتل القصاص، فعفا على مال، ثبت المال، وإن عفا مطلقا، ثبتت الدية إن قلنا: المطلق يوجب الدية، وإن قلنا: لا يوجبها، لم(7/106)
تثبت، وإن قال: عفوت على أن لا مال، فإن لم يوجب مطلق عفوه المال، فالمعتد بالنفي أولى، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يوجبه، لئلا يكلف المفلس الاكتساب، وعفو المريض مرض الموت، وعفو الورثة عن القصاص مع نفي المال إذا كان على التركة دين أو وصية، كعفو المفلس، وأما الحجور عليه لسفه، فيصح منه إسقاط القصاص واستيفاؤه، وفيما يرجع إلى الدية حكمه حكم المفلس على الاصح، وبه قطع الجمهور، وقيل: لا يصح عفوه عن المال بحال، كالصبي، وعفو المكاتب عن الدية تبرع، فلا يصح بغير إذن سيده، وبإذنه قولان. فصل لو صالح من القصاص على أكثر من الدية من جنسها، بأن صالح على مائتين من الابل، فإن قلنا: الواجب أحد الامرين، لم يصح، كالصلح من ألف على ألفين، وإن قلنا: الواجب القود بعينه، صح على الاصح، وثبت المال المصالح عليه.
فصل إذا سقط القصاص بعفو بعض المستحقين، فللباقين الدية بالحصة، وأما العافي، فإن عفا على حصته من الدية، ثبتت، وإن نفى المال، لم تثبت، وإن أطلق، فإن قلنا: موجب القتل أحد الامرين: ثبتت، وإلا فعلى الخلاف في أن مطلق العفو، هل يوجب الدية ؟
الطرف الثاني : في العفو الصحيح والفاسد وألفاظه وفيه مسائل: إحداها: إذا قال لغيره: اقطع يدي، والقاتل مالك لامره، فقطع المأذون له يده، فلا قصاص ولا دية، كما لو أذن في إتلاف ماله، فلا ضمان بإتلافه، فلو سرى القطع، أو قال: اقتلني، فقتله، فقد سبق في فصل الاكراه أنه لا قصاص على المذهب، ولا دية على الاظهر، فإن قلنا: لا دية، وجبت الكفارة على الاصح ولا تؤثر فيها الاباحة، وقيل: تسقط تبعا.(7/107)
الثانية: قطع عضو زيد، كيده أو أصبعه، فعفا عن موجب الجناية قودا أو أرشا، فللجناية أحوال، أحدها: أن تندمل، فلا قصاص ولا أرش، وقال المزني: يجب أرشه، وسواء اقتصر على قوله: عفوت عن موجبها، أو قال: وعما يحدث منها، لانه لم يحدث شئ، ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد، نص في الام أنه عفو عن القصاص، وعن الاصحاب أنه تفريع على قولنا: موجب العمد القود فإن قلنا: أحد الامرين، ففي بقاء الدية احتمالان للروياني، الثاني: أن يسري القطع إلى النفس، فلا قصاص في النفس، كما لا قصاص في الطرف، وعن ابن سريج وابن سلمة وجوب قصاص النفس، لانه لم يدخل في العفو، فعلى هذا إن عفا عن القصاص، فله نصف الدية فقط، لسقوط نصفها بالعفو عن اليد، والصحيح الاول، وأما المال، فهو قسمان، أرش اليد والزيادة عليه إلى تمام الدية، فأما أرش اليد، فينظر، إن جرى لفظ الوصية بأن قال: أوصيت له بأرش هذه الجناية، فهي وصية للقاتل، وفيها القولان، فإن أبطلناها، لزمه أرش اليد، وإن صححناها، سقط الارش إن خرج من الثلث، وإلا سقط منه قدر الثلث، وإن جرى لفظ العفو أو الابراء أو الاسقاط، بأن قال: عفوت عن أرش هذه الجناية، أو أبرأته، أو أسقطته، فقيل: هو كالوصية للاتفاق على أنه يعتبر من الثلث، فيكون على القولين، والمذهب أنه يسقط قطعا، لانه إسقاط ناجز، والوصية ما تعلق بالموت، وأما الزيادة فهي واجبة إن اقتصر على العفو عن موجب الجناية ولم يقل: وما يحدث منها، فإن قال: وما يحدث، نظر، إن قاله بلفظ الوصية، كقوله: أوصيت له بأرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها، أو يتولد، أو يسري إليه، بني على القولين في الوصية للقاتل، ويجئ في جميع الدية ما ذكرناه في أرش اليد، وإن قال: عفوت عنه، أو أبرأته من ضمان ما يحدث، أو أسقطته، لم يؤثر فيما يحدث على الاظهر، فيلزمه ضمانه، لانه إسقاط قبل الثبوت، والثاني: يؤثر، فلا يلزمه شئ، هذا كله إذا كان الارش دون الدية، فأما إذا قطع يديه، فعفا عن أرش الجناية وما يحدث منها، فإن لم نصحح الوصية، وجبت الدية بكمالها، وإن صححناها، سقطت بكمالها إن وفى بها الثلث، سواء صححنا الابراء عما لم يجب، أم لم نصححه. الثالث: أن يسري إلى عضو آخر، بأن قطع أصبعه فتأكل باقي الكف بها، ثم اندمل، فلا قصاص، ويمكن أن يجئ فيه خلاف، وأما(7/108)
الدية، فتسقط دية العضو المقطوع بالعفو، ولا يسقط ضمان السراية على الاصح، فإن قال: عفوت عن هذه الجناية وما يحدث منها، فإن لم نوجب الضمان إذا أطلق، فهنا أولى، وإلا فعلى الخلاف في الابراء عما لم يجب وجرى سبب وجوبه. المسألة الثالثة: جنى عبد جناية توجب المال، وعفا المجني عليه عن أرشها، ثم مات بالسراية، أو اندمل الجرح، وعفا في مرض الموت، فإما أن يطلق العفو، وإما أن يضيفه إلى السيد، أو إلى العبد، فإن أطلقه، انبنت صحته على أن أرش جناية العبد يتعلق برقبته فقط أم بها وبالذمة حتى يطالب بما فضل بعد العتق ؟ وفيه قولان مذكوران في الديات، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة فقط، صح العفو، لانه تبرع على غير القاتل وهو السيد، وإن قلنا: يتعلق بالذمة أيضا، ففائدة العفو تعود إلى العبد، فيبنى على الوصية للقاتل، إن صححناها، صح العفو، وإلا فلا، وحكى الامام وجهين إذا قلنا بالتعلق بالذمة في أن المجني عليه هل يملك فك الرقبة عن التعلق، وجعل الحق في الذمة خاصة كما يملك فك المرهون ؟ قال: وعلى الوجهين يبقى تعلق الارش بالرقبة إذا أبطلنا العفو، وأما إذا أضاف العفو إلى السيد، فقال: عفوت عنك، فيصح إن علقنا الارش بالرقبة فقط، وإلا فلا، وإن أضافه إلى العبد، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة فقط، لم يصح، وإلا فعلى القولين في الوصية للقاتل، أما إذا كانت الجناية موجبة للقصاص، فالعفو عن العبد صحيح، فإنه عليه بكل حال. المسألة الرابعة: جرح حر رجلا خطأ، فعفا عنه، ثم سرت الجناية إلى النفس، بني على أن الدية في قتل الخطأ تجب على العاقلة ابتداء، أم على القاتل، ثم تتحملها العاقلة، وفيه خلاف مذكور في بابه، فإن قال: عفوت عن العاقلة، أو أسقطت الدية عنهم، أو قال: عفوت عن الدية، فهذا تبرع على غير القاتل، فينفذ إذا وفى الثلث به، ويبرؤون، سواء جعلناهم متأصلين أم متحملين، وإن قال للجاني: عفوت عنك، لم يصح، وقيل: إن قلنا: يلاقيه الوجوب ثم(7/109)
يحمل عنه، صح، والمذهب الاول، لانه بمجرد الوجوب ينتقل عنه، فيصادفه العفو، ولا شئ عليه، هذا إذا ثبتت الجناية بالبينة، أو باعتراف العاقلة، فأما إذا أقر القاتل، وأنكرت العاقلة، فالدية على القاتل، ويكون العفو تبرعا على القاتل، ففيه الخلاف، ولو عفا الوارث بعد موت المجني عليه عن العاقلة، أو مطلقا، صح، ولو عفا عن الجاني، لم يصح، لانه لا شئ عليه، فإن ثبت بإقراره، صح. فرع لو كان الجاني ذميا وعاقلته مسلمين أو حربيين، فالدية في ماله، فإن عفا عنها، فهي وصية للقاتل، وفيها القولان. الخامسة: جنى عليه جناية توجب القصاص لو اندملت، كقطع يد، فعفا على الدية، ثم سرت إلى النفس، لم يجب القصاص في النفس، وفيه الوجه المنسوب إلى ابن سريج وابن سلمة، ولو جنى بما لا قصاص فيه، كالجائفة وكسر الذراع، فأخذ المجني عليه الارش، ثم سرت إلى النفس، وجب القصاص، وفيه احتمال للامام، ولو كان المجني عليه قد قال والحالة هذه: عفوت عن القصاص، فهو لغو، لان هذه الجناية لا قصاص فيها، ولو عفا المجني عليه عن قطع اليد ونحوها على الدية، ثم عاد الجاني فحز رقبته، نظر، إن حز بعد الاندمال، فعليه القصاص في النفس ودية اليد، وإن حز قبل الاندمال، فوجهان، أحدهما: لا قصاص، لانه عفا عن بعض النفس، لكن له الباقي من الدية، وأصحهما: يجب القصاص، فعلى هذا لو عفا عن القصاص، فهل له دية كاملة، أم الباقي من الدية ؟ وجهان، أصحهما: الثاني. السادسة: عفا الوارث بعد موت المجني عليه، صح، ولو وجب على الجاني قصاص طرف إنسان ونفسه، نظر، إن كان مستحق هذا غير مستحق ذاك، فلا شك أن عفو أحدهما لا يسقط حق الآخر، ومن صوره أن يقطع عبد يد عبد، فيعتق(7/110)
المجني عليه، ثم يسري إلى نفسه، فالقصاص في اليد للسيد، وفي النفس لورثة العتيق، وإن استحقهما واحد، فعفا عن النفس، وأراد القصاص في الطرف، فله ذلك على المذهب، وانفرد الغزالي بحكاية وجه فيه، وإن عفا عن الطرف، لم يسقط قصاص النفس على الاصح، ولو استحق قصاص النفس بقطع الطرف، بأن كان الجاني قد قطع المجني عليه، ومات بالسراية، ثم عفا الولي عن قصاص النفس، فليس له قطع الطرف، لان المستحق هو القتل، والقطع طريقه، وقد عفا عن المستحق، وإن عفا عن القطع، فله حز رقبته على الاصح، ولو قطع يد رجل ثم حز رقبته قبل الاندمال، فعفو الولي عن القطع لا يسقط حز الرقبة، وكذا عفوه عن النفس لا يسقط القطع. السابعة: إذا قتل رجلا بالقطع الساري، فقطعه الولي، ثم عفا عن النفس مجانا، فإن سرى القطع، بان بطلان العفو، وإن وقف، صح العفو، ولم يلزمه لقطع اليد شئ، وكذا لو كان قتله بغير القطع، وقطع الولي يده متعديا، ثم عفا عنه، لا ضمان عليه، ولو رمى الولي إلى الجاني ثم عفا عنه قبل الاصابة، ففي نفوذه وجهان، أحدهما: لا ينفذ لخروج الامر عن اختياره، وأصحهما: أنه كقطع اليد، فإن لم يصب السهم، فالعفو صحيح مفيد، وإن أصابه وقتله، تبينا بطلان العفو، وفي وجوب الدية على العافي وجهان سبقا في باب تغير الحال بين الجرح والموت، أصحهما: الوجوب، لانه محقون الدم عند الاصابة. الثامنة: قطع ذمي يد مسلم، فاقتص منه، أو يد ذمي، فاقتص منه، ثم أسلم المقطوع، ثم مات بالسراية، فللولي القصاص في النفس، فإن عفا على مال، فهل له نصف الدية، أم خمسة أسداس دية مسلم ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، لانه يستحق دية مسلم سقط منها ما استوفاه وهو يد ذمي بسدس دية مسلم، ولو قطع ذمي يد مسلم، فاقتص منه، ومات المسلم بالسراية، فعفا الولي، فعلى الوجه الاول لا شئ له، وعلى الاصح له ثلثا دية المسلم، لانه استوفى ما يقابل ثلث دية المسلم، ولو قطعت امرأة يد رجل، فاقتص منها، ثم مات الرجل بالسراية،(7/111)
وعفا الولي فعلى الوجه الاول، له نصف الدية، وعلى الاصح، ثلاثة أرباعها، ولو قطعت المرأة يدي رجل، فاقتص منها، ثم مات المجني عليه بالسراية، وعفا الولي، فلا شئ له على الوجه الاول، وعلى الاصح، له نصف الدية، ولو قطع يد حر، فاقتص منه، ثم عتق العبد، ومات المجني عليه بالسراية، ففي وجه يسقط نصف الدية، وعلى السيد أقل الامرين من نصف دية الحر وكمال قيمة العبد، لانه صار مختارا للفداء، وفي وجه يسقط من دية الحر بقدر نصف قيمة العبد، وعلى السيد الاقل من باقي الدية، وكمال قيمة العبد. التاسعة: سبق في كتاب الوكالة أن التوكيل في استيفاء القصاص جائز في حضرة الموكل، وكذا في غيبته على المذهب، وحد القذف كالقصاص، وسواء جوزناه أم لا، فإذا استوفاه الوكيل، صار حق الموكل مستوفى، كما لو وكله في بيع سلعة توكيلا فاسدا، فباع الوكيل، صح البيع. إذا عرفت هذا، فإذا وكل وغاب، أو تنحى الوكيل بالجاني ليقتص منه، فعفا الموكل، نظر، إن لم يعلم أكان العفو قبل القتل أم بعده، فلا شئ على الوكيل، وإن عفا بعد قتله، فهو لغو، وإن عفا، ثم قتل الوكيل، فإن كان عالما بالعفو، فعلى الوكيل القصاص، وإن كان جاهلا به، فلا قصاص على المذهب والمنصوص وبه قطع الاصحاب، وحكى الشيخ أبو محمد في السلسلة قولا مخرجا: أنه يجب القصاص، وليس بشئ، فإن ادعى على الوكيل العلم بالعفو، فأنكر، صدق بيمينه، فإن نكل، حلف الوارث واستحق القصاص، وفي وجوب الدية إذا قتله جاهلا قولان: أظهرهما: تجب، لانه بان أنه قتله بغير حق، ولو عزله، فقتله الوكيل جاهلا العزل، ففي وجوب الدية القولان، فإن لم نوجب الدية، وجبت الكفارة على الاصح، وإذا أوجبنا الدية، فهي مغلظة على المشهور، وفي قول مخففة، فإن قلنا: مخففة، فهي على العاقلة، وإن قلنا: مغلظة، فهي على الوكيل على الاصح، لانه متعمد، وإنما سقط القصاص للشبهة، وقيل: على العاقلة، لانه جاهل بالحال، فأشبه المخطئ، فإن قلنا: على الوكيل، فهل هي حالة أم مؤجلة ؟ وجهان، حكاهما الامام. قلت: أصحهما: حالة. والله أعلم. ثم الدية هنا تكون لورثة الجاني لا تعلق للموكل بها بخلاف ما إذا ثبت(7/112)
القصاص لابنين، وبادر أحدهما، وقتل الجاني، يجب عليه نصف الدية للآخر على أحد القولين والفرق أن القاتل هناك أتلف حق أخيه، فتعلق الاخ ببدله، والوكيل هنا قتل بعد سقوط حق الموكل، ونقل ابن كج عن بعضهم جعله على الخلاف، ثم إذا غرم الوكيل، أو عاقلته الدية، فهل يرجع الغارم على العافي ؟ فيه أوجه، أصحها: لا، لان العافي محسن بالعفو غير مغرر بخلاف الغاصب إذا قدم الطعام المغصوب إلى الضيف، والثاني: نعم، والثالث: يرجع بها على الاصح، كما لا تضرب على العاقلة، وهل للموكل العافي دية قتيله ؟ ينظر، إن عفا مجانا أو مطلقا، وقلنا: المطلق لا يوجب الدية، فلا شئ له، وإن عفا على مال، أو مطلقا، وقلنا: يوجب المال، فله الدية في تركة الجاني مغلظة إن أوجبنا بقتل الوكيل، الدية، وإن لم نوجبها به، فلا دية للموكل لخروج العفو على هذا التقدير عن الفائدة. وبالله التوفيق.
باب في مسائل منثورة :
إذا جنى عبد على حر جناية، تعلق الارش برقبته، فاشتراه بالارش، فإن جهل أحد المتبايعين عدد الابل الواجبة أو سنها، لم يصح البيع، وإن علما ذلك، ولم يبق إلا الجهل بأوصافها، ففي صحة البيع الوجهان، أو القولان في صحة الصلح من إبل الدية على مال، وقد سبق في كتاب الصلح، وإن كانت الجناية موجبة للقصاص، فاشتراه بالارش، فهو اختيار للمال، وإسقاط للقصاص، وحيث صححنا البيع، فوجد المشتري بالعبد عيبا، فله الرد، فإذا رد، بقي الارش متعلقا بالرقبة، ولا يكون السيد ملتزما للفداء، بل له الخيار بين الفداء، وتسليمه للبيع، ولو اشتراه المجني عليه بمال غير الارش، صح ولم يسقط القصاص، فلو صالح عن القود على مال، جاز وإن كانت الدية مجهولة، فإن تلفت عين المال المصالح عليه، أو استحقت، أو ردها بعيب، فلا رجوع إلى القصاص، فهل يرجع بقيمة(7/113)
العين، أم بضمان الجناية ؟ قولان بناء على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد أم ضمان اليد، وقد ذكرناه في كتاب البيع، فإن قلنا: يرجع بضمان الجناية، فهو على السيد لاختياره الفداء ببذل المال، وهل عليه أرش الجناية بالغا ما بلغ، أم الاقل من الارش وقيمة العبد ؟ قولان يذكران في موضعهما إن شاء الله تعالى، ولو كانت الجناية موجبة للمال، وصالح من الابل على مال، ففي صحته الخلاف، فإن صححناه، فهلك المصالح عليه قبل القبض، أو خرج مستحقا، أو رده بعيب، فالرجوع إلى الارش بلا خلاف، لان الصلح هنا عن المال، ويكون السيد مختارا للفداء، وهل يلزمه الارش أم الاقل ؟ فيه القولان. فرع جنى حر على حر جناية توجب القصاص، فصالحه على عين، كعبد وثوب، جاز وإن لم تكن الدية معلومة لهما، فإن تلفت العين قبل القبض، أو خرجت مستحقة، أو ردها بعيب، فلا رجوع إلى القصاص، فهل يرجع بقيمة العين أم بأرش الجناية ؟ يبنى على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد أم ضمان اليد ؟ وإن كانت الجناية موجبة للدية، فصالح عنها على عين، أو اشترى بها عينا، إما من العاقلة في الخطأ، وإما من الجاني في العمد، نظر، أعلما عدد الابل وأسنانها أم لا، وحكمه ما بينا، وإذا صح، فتلف المصالح عليه، أو رده بعيب، رجع إلى الارش بلا خلاف، لانه يمكن الرجوع إلى المصالح عنه، لانه مال بخلاف القصاص. فرع جنت حرة على رجل، فتزوجها على القصاص، أو تزوجها وارثه على القصاص، جاز، وسقط القصاص، وإن طلقها قبل الدخول، فهل يرجع بنصف أرش الجناية، أم بنصف مهر المثل ؟ قولان، أظهرهما: الاول، وإن كانت الجناية موجبة للدية، فنكحها عليها، صح النكاح، وفي صحة الصداق ما سبق في الاعتياض عن إبل الدية. فرع إذا أوجبت الجناية مالا معلوم القدر والوصف، بأن أتلف مالا أو قتل عبدا، ووجبت قيمته، فصالحه المستحق على عين وهما يعلمان، صح الصلح بلا خلاف، فإن تلفت قبل القبض، أو ردت بعيب، فالرجوع بالارش بلا خلاف، وإن كان الجاني والحالة هذه عبدا، كان السيد مختارا للفداء، فإن صالح على رقبته،(7/114)
ثم رده بعيب، لم يكن مختارا، بل الارش في رقبته كما كان حتى لو مات سقط حق المجني عليه. فصل قطع يدي رجل ورجليه، فمات، فقطع الولي يدي الجاني وعفا عن الباقي على الدية، لم تكن له الدية، لانه استوفى ما يقابلها، ولو عفا على غير جنسها، فوجهان، أحدهما: لا يجب كالدية، والثاني: يجب ويكون عوضا عن القصاص الذي تركه، ولو قطع إحدى يديه، وعفا عن الباقي على الدية، فله نصف الدية فقط. فصل قتل مسلم ذميا، فقتل ولي الذمي القاتل بغير حكم حاكم، فعليه القصاص، نقله الروياني عن والده. فصل أكره رجلا على أن يرمي صيدا، فرماه، فأصاب آدميا فقتله، فهما قاتلان خطأ، فعلى كل منهما كفارة، وعلى عاقلة كل واحد نصف الدية، وهل لعاقلة المكره الرجوع بما يغرمون على المكره ؟ نقل الروياني عن والده أنه يحتمل أن لا يرجعوا وإن كان متعديا، كما لا يرجعون في شبه العمد على القاتل، قال: ويحتمل أن لا يجب شئ على المكره وعاقلته، لانه لم يتلف ما أكرهه عليه. فصل قطع يديه عمدا، فمات بالسراية، فقطع الوارث إحدى يدي الجاني، فمات قبل قطعه الاخرى، فلا شئ للوارث في تركة الجاني، لانه إذا سرت الجراحة إلى النفس سقط حكم الاطراف وصارت النفس بالنفس، وقد قتله فصار كحز الرقبة، ولو قطع يدي رجل، فاندملتا، فقطع إحدى يدي الجاني، فمات، فله دية اليد الاخرى من تركته، لانه استحق قصاصها وقد فات بما لا ضمان عليه فأشبه سقوطها بآفة، ولو قطع إحدى يدي الجاني، وعفا عن الاخرى على ديتها وقبضها، ثم انتقضت جراحة المجني عليه، ومات بها، فلا قصاص لورثته، لانه مات من جراحتين إحداهما معفو عنها، ولا شئ لهم من الدية، لانه استوفى نصف الدية، واليد المقابلة بالنصف. فصل في فتاوى البغوي: أنه لو قتل أحد عبدي الرجل الآخر، فللسيد القصاص، ولا يثبت له مال على عبده، فلو أعتقه، لم يسقط القصاص، ولو عفا بعد العتق مطلقا، لم يثبت المال، لان القتل لم يقتضه، وإن عفا بعد العتق على(7/115)
مال، ثبت المال، وأنه لو قطع يدي رجل، إحداهما عمدا، والاخرى خطأ، فمات منهما، فلا قصاص في النفس وتجب الدية، نصفها في مال الجاني ونصفها على عاقلته، فإن استوفى الولي قصاص اليد المقطوعة عمدا، فمات الجاني منه، كان مستوفيا لحقه ولا يبقى له شئ على العاقلة، كما لو قتل من له عليه القصاص خطأ، فإنه يكون مستوفيا حقه، وأنه إذا وجب القصاص على مرتد، فقتله الولي عن جهة الردة، نظر، إن كان ولي القصاص هو الامام، فله الدية في تركة المرتد، لان للامام قتله عن الجهتين، وإن كان غير الامام، وقع قتله عن القصاص ولا دية له، لان غير الامام لا يملك قتله عن الردة، قال: وكذا لو اشترى عبدا مرتدا، وقتله المشتري قبل القبض عن جهة الردة، ينفسخ العقد إن كان المشتري هو الامام، وإن كان غيره صار قابضا، كما لو قتله ظلما محضا، وأنه لو ضرب زوجته بالسوط عشر ضربات فصاعدا متوالية، فماتت، فإن قصد في الابتداء العدد المهلك، وجب القصاص، وإن قصد تأديبها بسوطين أو ثلاثة، ثم بدا له فجاوز، لم يجب القصاص، لانه اختلط العمد بشبه العمد، وأن الوكيل باستيفاء القصاص إذا قال: قتلته بشهوة نفسي لا عن جهة الموكل، لزمه القصاص وينتقل حق الموكل إلى التركة، وأنه لو ضرب سنه، فزلزلها، ثم سقطت بعد ذلك، وجب القصاص وكذا لو ضرب يده، فاضطربت أو تورمت، ثم سقطت بعد أيام، وأنه لو أشكلت الحادثة على القاضي، فتوقف، فروى شخص خبرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، وقتل القاضي بها رجلا، ثم رجع الراوي وقال: كذبت وتعمدت، ينبغي أن يجب القصاص كالشاهد إذا رجع والذي ذكره القفال في الفتاوى، والامام أنه لا قصاص بخلاف الشهادة فإنها تتعلق بالحادثة، والخبر لا يختص بها. فصل في فتاوى الغزالي: لو افتصد فمنعه رجل من أن يعصب العرق حتى(7/116)
مات، أو عصبه فحله رجل ومنعه من إعادة العصابة حتى مات، وجب القصاص. فصل في التتمة أنه لو قتله بالدخان، بأن حبسه في بيت وسد منافذ البيت، فاجتمع فيه الدخان وضاق نفسه، فمات، وجب القصاص، وأنه لو رمى إلى شخصين أو جماعة وقصد إصابة أي واحد منهم كان، فأصاب واحدا، ففي القصاص وجهان، لانه لم يقصد عينه. قلت: الارجح وجوبه. والله أعلم. وأن حلمة الرجل تقطع بحلمة الرجل، وحلمة المرأة تقطع بحلمة المرأة، والثدي بالثدي، وفيما إذا لم يتدل وجه ضعيف، لانه لا يتميز عن لحم الصدر، وفي قطع حلمة المرأة بحلمة الرجل وجهان بناء على وجوب الدية في حلمة الرجل، وتقطع حلمة الرجل بحلمة المرأة بلا خلاف وبالله التوفيق.(7/117)
كتاب الديات
فيه ستة أبواب :
الأول : في دية النفس
فيجب بقتل الحر المسلم مائة من الابل، فإن كان القتل خطأ، وجبت(7/118)
مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وأبدل ابن المنذر بني اللبون ببني مخاض. ثم قد يعرض ما تغلظ به الدية وما تنقص به، أما المغلظات فأربعة أسباب. أحدها: أن يقع القتل في حرم مكة، فتغلظ به دية الخطأ، سواء كان القاتل والمقتول في الحرم، أو كان فيه أحدهما، كجزاء الصيد، ولا تغلظ بحرم المدينة ولا بالقتل في الاحرام على الاصح فيهما. الثاني: أن يقتل في الاشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ولا يلحق بها رمضان قطعا. الثالث: أن يقتل قريبا له محرما، فإن كان قريبا غير محرم، فلا تغليظ على الصحيح وبه قال الاكثرون، ولا أثر لمحرمية الرضاع والمصاهرة قطعا. الرابع: أن يكون القتل عمدا أو شبه عمد. فرع إذا قتل في دار الحرب مسلما وجده على زي الكفار، فظنه كافرا، فقد سبق أن الاظهر أنه لا دية فيه، فإن أوجبناها، فهل هي دية عمد، أم شبه عمد أم خطأ ؟ فيه أوجه، ولو رمى إلى مرتد أو حربي، فأسلم، ثم أصابه السهم ومات، فقد سبق أن الاصح وجوب الدية، وفي كيفيتها هذه الاوجه، وهذا أولى بأن تكون(7/119)
دية خطأ، وهو الارجح، ورجح ابن كج كون الدية في ماله، ولو رمى إلى شئ يظنه شجرة أو صيدا، فكان إنسانا، فالصحيح أنه خطأ محض، كما لو رمى إلى صيد، فعرض في الطريق رجل، أو مرق منه السهم، فأصاب رجلا، قال الغزالي: وتجري هذه الاوجه في كل قتل عمد محض صدر عن ظن في حال القتيل.
فصل الدية تتغلظ في قتل العمد من ثلاثة أوجه، فتجب على الجاني، ولا تحملها العاقلة، وتجب حالة، ومثلثة، ثلثهن حقة، وثلثهن جذعة، وأربعون خلفة، والخلفة: الحامل، ويسمى هذا الثالث تغليظا بالسن، وسواء كان العمد موجبا للقصاص، فعفي على الدية، أو لم يوجبه، كقتل الوالد ولده، وتتخفف دية الخطأ من ثلاثة أوجه، فتجب على العاقلة مخمسة مؤجلة في ثلاث سنين، ودية شبه العمد تتخفف من وجهين، فتجب على العاقلة مؤجلة، وتتغلظ من وجه، فتجب مثلثة، وحكي وجه وقول مخرج أن شبه العمد لا تحمله العاقلة، وليس بشئ، وقتل الخطأ في الحرم، أو الاشهر الحرم، أو المصادف لذي الرحم المحرم، ديته كدية شبه العمد، فتجب على العاقلة مؤجلة مثلثة، والدية المخمسة إنما تتفاوت أقسامها بالسن إلا في بنات اللبون وبني اللبون، فإن تفاوتهما في الذكورة، ثم التخميس حاصل في هذه الدية بأقسام متعادلة، والتثليث في الدية المثلثة غير حاصل على التعديل، بل نسبتها المخففة بالاعشار، ثلاثة أعشار حقاق، وثلاثة أعشار جذاع، وأربعة أعشار خلفات، ثم هذه النسبة في المخففة والمغلظة تعتبر في دية المرأة والاطراف والجروح، ودية اليهودي والنصراني والمجوسي وأطرافهم وجروحهم، فتجب في قتل المرأة خطأ، عشر بنات مخاض وعشر بنات لبون وهكذا إلى آخر الاقسام، وفي قتلها عمدا وشبه عمد خمس عشرة حقة، وخمس عشرة جذعة، وعشرون خلفة، وكذا حكم دية اليد، وفي الموضحة إذا كانت خطأ بنت مخاض، وبنت لبون، وابن لبون، وحقة وجذعة، إذا كانت عمدا أو شبه عمد حقة ونصف، وجذعة ونصف، وخلفتان، وفي قطع الاصبع خطأ بنتا مخاض، وبنتا لبون، وابنا لبون، وحقتان وجذعتان، وإذا كانت عمدا أو شبه عمد ثلاث حقاق،(7/120)
وثلاث جذاع، وأربع خلفات، وعلى هذا القياس. فرع بدل العبد الدراهم والدنانير، فلا مدخل للتغليط فيه كسائر الاموال.
فصل وأما المنقصات فأربعة أحدها: الانوثة، فدية المرأة نصف دية الرجل، ودية الخنثى كذلك، لانه اليقين، ودية أطرافها أو جروحها نصف ذلك من الرجل، وفي القديم قول، إنها تساوي الرجل في الاطراف إلى ثلث الدية، فإذا زاد الواجب على الثلث، صارت على النصف، فعلى هذا في أصبعها عشر من الابل، وفي أصبعين عشرون، وفي ثلاث ثلاثون، وفي أربع عشرون، وهو نصف ما في أصابع الرجل الاربع، والمشهور الاول وهو نصه في الجديد. الثاني: الاجتنان، ففي الجنين غرة، وسيأتي إيضاحه في بابه إن شاء الله تعالى. الثالث: الرق، ففي قتل العبد قيمته، سواء زادت على الدية، أم نقصت، سواء قتله عمدا أم خطأ، وأما جروح العبد وأطرافه، فسيأتي بيانها في بابها إن شاء الله تعالى. الرابع: الكفر، والكفار أصناف، أحدها: اليهودي والنصراني، فديته ثلث دية المسلم، وأما السامرة من اليهود، والصابئون من النصارى، فإن كانوا ملاحدة في دينهم، كفرة عندهم، فحكمهم حكم من لا كتاب له من الكفار، وإن كانوا لا يكفرونهم فهم كسائر فرقهم وقد سبق في مناكحتهم طريق ضعيف بإطلاق قولين، ولا بد من مجيئه هنا، الثاني: المجوسي، وديته ثلثا عشر دية المسلم، ودية المجوسية نصف دية المجوسي، وقيل: كديته، وطرد هذا الوجه في سائر الكفار الذين تجب فيهم دية مجوسي، والصحيح الاول، ويراعى في ديات هؤلاء التغليظ والتخفيف، فإن قتل يهودي عمدا أو شبه عمد، وجب فيه عشر حقاق وعشر جذاع وثلاث عشرة خلفة وثلث، وإذا لم يوجد مغلظ، وجب ست بنات مخاض وثلثا السابعة، وكذا من بنات اللبون وسائر الاخماس، وفي المجوسي عند التغليظ حقتان وجذعتان وخلفتان وثلثا خلفة، وعند التخفيف بنت مخاض وثلث وبنت لبون وثلث وكذا من الباقي، ولا يخفى أن الدية إنما تجب في الصنفين إذا كان لهم عصمة بذمة،(7/121)
أو عهد أو أمان. الصنف الثالث: كافر لا كتاب له، ولا شبهة كتاب، كعابد الوثن والشمس والقمر والزنديق والمرتد، فهؤلاء لا يتصور لهم عقد ذمة، لكن قد يكون لهم أمان، بأن دخل بعضهم رسولا، فقتل، ففيه دية مجوسي، إلا المرتد فلا شئ فيه، فإنه مقتول بكل حال، وليس من أهل الامان، قال الامام: ولو تحزبت طائفة من المرتدين ومست الحاجة إلى سماع رسالتهم، فجاء رسولهم فقد قيل: لا يتعرض لهم، لكن لو قتل، فلا ضمان، وتردد الشيخ أبو محمد في إلحاق الزنديق بالمرتد، والصحيح إلحاقه بالوثني، وأما من لاعهد له ولا أمان من الكفار، فلا ضمان في قتله على أي دين كان. قلت: قد سبق خلاف في الذمي والمرتد إذا قتلا مرتدا هل تجب الدية ؟ فإن أوجبناها فهي دية مجوسي، ذكره البغوي. والله أعلم. وجميع ما ذكرناه في كافر بلغته دعوتنا وخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، أما من لم تبلغه دعوتنا، فلا يجوز قتله قبل الاعلام والدعاء إلى الاسلام، فلو قتل، كان مضمونا قطعا، وكيف يضمن. أما الكفارة فتجب بلا تفصيل، ثم له ثلاثة أحوال، أحدها: أن لا تكون بلغته دعوة نبي أصلا، فلا قصاص على الصحيح، وأوجبه القفال، وأما الدية، فهل تجب دية مجوسي أم مسلم ؟ وجهان، أو قولان، أصحهما: الاول وبه قطع جماعة، الثاني: أن يكون متمسكا بدين ولم يبدل ولم يبلغه ما يخالفه، فلا قصاص على الاصح، فعلى هذا هل تجب دية مسلم أم دية أهل ذلك الدين ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، الثالث: أن يكون متمسكا بدين لحقه التبديل لكن لم يبلغه ما يخالفه، فلا قصاص قطعا، وهل تجب دية مجوسي أم دية أهل دينه أم لا يجب شئ ؟ فيه أوجه، أصحها: الاول. فرع من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر مع التمكن أو دون، إذا قتله مسلم، تعلق بقتله القصاص والدية، لان العصمة بالاسلام. فصل لا يجزئ في الدية مريض ولا معيب بعيب يثبت الرد في البيع إلا برضى المستحق، سواء كانت إبل من عليه سليمة أم معيبة.(7/122)
فرع الغالب أن الناقة لا تحمل حتى يكون لها خمس سنين وهي الثنية، فلو حملت قبل ذلك، فهل يلزمه قبولها في الخلفات ؟ قولان، أظهرهما: نعم، وإذا تنازعا في كونها خلفات، عمل بقول عدلين من أهل الخبرة، وإذا أخذت بقول العدلين، أو بتصديق المستحق، فماتت عند المستحق وتنازعا في الحمل، شق جوفها لتعرف، فإن بان أنها لم تكن حاملا، غرمها المستحق وأخذ بدلها خلفة، وفي وجه يأخذ أرش النقص فقط، والصحيح الاول، ولو صادفنا الناقة المأخوذة حائلا، فقال المستحق: لم يكن بها حمل، وقال الدافع: أسقطت عندك، فإن لم يحتمل الزمان الاسقاط، ردت، وطولب بخلفة، وإن احتمل، نظر، إن أخذت بقول الجاني فقط، صدق المستحق بيمينه، وإن أخذت بقول أهل الخبرة، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: الدافع. فرع من لزمته الدية من الجاني أو العاقلة له حالان، الاولى: أن لا يملك إبلا، فيلزمه تحصيل الواجب من غالب إبل البلدة أو القبيلة إن كانوا أهل بادية ينتقلون، فإن تفرقت العاقلة في البلدان أو في القبائل، أخذت حصة كل واحد من غالب إبل بلده أو قبيلته، فإن لم يكن في البلد أو القبيلة إبل، أو كانت بعيدة عن البلد، اعتبر إبل أقرب البلاد، ويلزمه النقل إن قربت المسافة، فإن بعدت وعظمت المؤنة والمشقة، لم يلزمه، وسقطت المطالبة بالابل، وأشار بعضهم إلى ضبط البعيد بمسافة القصر، وقال الامام: لو زادت مؤنة إحضارها على قيمتها في موضع العزة، لم يلزمه تحصيلها، وإلا فيلزم. الحالة الثانية: أن يملك إبلا، فإن كانت من غالب إبل البلدة أو القبيلة، فذاك، وإن كانت من صنف آخر، أخذت أيضا من أي صنف كانت، هذا هو الصحيح، وبه قطع الاكثرون من العراقيين وغيرهم، وهو ظاهر نصه في المختصر وفي وجه حكاه الامام عن محققي المراوزة واختاره أنه يجب غالب إبل البلد، ومتى تعين نوع، فلا عدول إلى ما فوقه أو دونه إلا بالتراضي، وإذا كان الاعتبار بإبل البلد، أو القبيلة، فكانت نوعين فأكثر، ولا غالب فيها، فالخيرة إلى الدافع، وإذا اعتبرنا إبل من عليه، فتنوعت، فوجهان، أحدهما: تؤخذ من الاكثر، فإن استويا، دفع ما شاء، والثاني: تؤخذ من كل(7/123)
بقسطه إلا أن يتبرع، فيعطي الجميع من الاشرف، ولو دفع نوعا غير ما في بيده، أجبر المستحق على قبوله إذا كان من غالب إبل البلد والقبيلة كذلك، وإذا كانت الابل تباع بأكثر من ثمن المثل فهي كالمعدومة فلا يلزم تحصيلها. فرع إذا كانت الابل موجودة وعدل من عليه الدية ومستحقها إلى القيمة أو غيرها بالتراضي، جاز، كما لو أتلف مثليا وتراضيا على أخذ القيمة مع وجود المثل، جاز، قال صاحب البيان: هكذا أطلقوه، وليكن ذلك مبنيا على جواز الصلح عن إبل الدية، ولو أراد أحدهما العدول عن الابل، لم يجبر الآخر عليه، وحكي وجه عن ابن سلمة وغيره أن الجاني يتخير بين الابل والدراهم والدنانير المقدرة على القول القديم تفريعا على القديم، والمذهب الاول، فإن لم توجد الابل في الموضع الذي يجب تحصيلها منه، أو وجدت بأكثر من ثمن المثل، فقولان، الجديد الاظهر: أن الواجب قيمة الابل بالغة ما بلغت، والقديم: يجب ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، وفي وجه مخرج على القديم عشرة آلاف درهم، والاعتبار بالدراهم والدنانير المضروبة الخالصة، وذكر الامام أن الدافع يتخير بين الدراهم والدنانير، وقال الجمهور: على أهل الذهب ذهب، وعلى أهل الورق ورق، فإن كان الواجب دية مغلظة، فهل يزاد للتغليظ شئ ؟ وجهان، أصحهما: لا، والثاني: يزاد ثلث المقدر، فعلى هذا لو تعدد سبب التغليظ بأن قتل محرما في الحرم، فهل يتكرر التغليظ ؟ وجهان، أصحهما: لا فلا يزاد على(7/124)
الثلث، كما لو قتل المحرم صيدا حرميا، يلزمه جزاء فقط، والثاني: يزاد لكل سبب ثلث دية، فعلى هذا لو قتل ذا رحم محرما في الحرم والاشهر الحرم عمدا، وجب ثمانية وعشرون ألف درهم، وأما إذا قلنا بالجديد، فتقوم الابل بغالب نقد البلد وتراعى صفتها في التغليظ إن كانت مغلظة، قال الامام: فإن غلب نقدان في البلد، يخير الجاني منهما، وتقوم الابل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها، فإن لم يكن هناك إبل، قومت من صنف أقرب البلاد إليهم، وهل تعتبر قيمة موضع الوجود، أم موضع الاعواز لو كانت فيه إبل ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وتعتبر قيمتها يوم وجوب التسليم، هذا هو المفهوم من كلام الاصحاب، وقال الروياني: إن وجبت الدية والابل مفقودة، اعتبرت قيمتها يوم الوجوب، وإن وجبت وهي موجودة فلم تؤد حتى أعوزت وجبت قيمتها يوم الاعواز، وإن وجد بعض الابل الواجبة، أخذ الموجود وقيمة الباقي. فرع قال الامام: لو قال المستحق عند إعواز الابل: لا أطالب الآن بشئ، وأصبر إلى أن يوجد، فالظاهر أن الامر إليه، لان الاصل هو الابل، ويحتمل أن يقال لمن عليه أن يكلفه قبض ما عليه لتبرأ ذمته، قال: ولم يصر أحد من الاصحاب إلى أنه لو أخذ الدراهم، ثم وجدت الابل يرد الدراهم، ويرجع إلى الابل، بخلاف ما إذا غرم قيمة المثلي لاعواز المثل، ثم وجد، ففي الرجوع إلى المثل خلاف. وبالله التوفيق.
الباب الثاني : في دية ما دون النفس هي ثلاثة أقسام: جرح، وإبانة طرف، وإزالة منفعة.
القسم الأول : الجروح، وهي نوعان، جائفة وغيرها، الاول: غير الجائفة، وهي ضربان: جراحات الرأس والوجه، وجراحات سائر البدن.(7/125)
الضرب الاول: جراحات الرأس والوجه، ففي الموضحة: خمس من الابل، سواء كانت على الهامة والناصية أو القذال، وهو جماع مؤخر الرأس، أو الخشاء، وهي العظم الذي خلف الاذن، أو منحدر القمحدوة إلى الرقبة، وهي ما خلف الرأس، وذكر في العظم الواصل بين عمود الرقبة وكرة الرأس وجه أنه ليس محلا للموضحة، كالرقبة، ويشبه أن تكون هي المنحدر المذكور، أو تكون منه. وأما الوجه، فالجبهة منه والجبينان، والخدان، وقصبة الانف، واللحيان، كلها محل الايضاح، سواء المقبل من اللحيين الذي تقع به المواجهة، وما تحت المقبل خارجا عن حد المغسول في الوضوء، لان اسم الموضحة يشمل جميعها، وإنما يجب في الموضحة خمس من الابل في حق من تجب الدية الكاملة بقتله، وهو الحر المسلم الذكر، وهذا المبلغ نصف عشر ديته، فتراعى هذه النسبة في حق غيره، فتجب في موضحة اليهودي نصف عشر ديته، وهو بعير وثلثان، وفي موضحة المرأة بعيران ونصف، وفي موضحة المجوسي ثلثا بعير، وعن الاصطخري وأبي محمد الفارسي أن في موضحة الوجه أكثر الامرين من خمس من الابل والحكومة، وهذا شاذ مردود ولا تفريع عليه. فرع إذا هشم العظم مع الايضاح، وجب عشر من الابل، وإن نقل مع ذلك وجب خمسة عشر بعيرا، وحكى السرخسي قولا قديما أن في الهاشمة خمسا من الابل وحكومة، وليس بشئ. فرع في المأمومة ثلث الدية، وفي الدامغة أيضا ثلث الدية على الصحيح المنصوص، وقال الماوردي: ثلث الدية وحكومة، وحكى الفوراني وجماعة أن فيها الدية بكمالها، لانها تذفف، وبهذا قال الامام، وكأن الاولين يمنعون تذفيفها. فرع هشم العظم ولم يوضح، وجب خمس من الابل على الاصح المنصوص، وقال ابن أبي هريرة: تجب حكومة ككسر سائر العظام، ولو نقل العظم من غير إيضاح، فهل يجب عشر من الابل م حكومة ؟ فيه هذان الوجهان، وفي الرقم وغيره أن موضع الوجهين ما إذا لم يحوج الهشم إلى بط وشق لاخراج العظم(7/126)
أو تقويمه، فإن أحوج إليه، فالذي أتى به هاشمة تجب فيها عشر من الابل. فرع أوضح واحد، وهشم آخر، ونقل ثالث، وأم رابع، فعلى الاول القصاص، أو خمس من الابل، وعلى الثاني خمس، وعلى الثالث خمس، وعلى الرابع ما بين المنقلة والمأمومة، وهو ثمانية عشر بعيرا وثلث بعير، وقيل: يجب على الجميع ثلث الدية أرباعا، والصحيح الاول، فلو خرق خامس خريطة الدماغ، ففي التهذيب أن عليه تمام دية النفس، كمن حز رقبة إنسان بعدما قطعت أطرافه، وهذا على طريقة من قال: الدامغة مذففة. فرع ما قبل الموضحة من الشجاج كالدامية والحارصة والباضعة والمتلاحمة ليس فيها أرش مقدر وفي واجبها وجهان، أحدهما: الحكومة، ولا يبلغ بحكومتها أرش موضحة، والثاني وبه قال الاكثرون: إن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة فكذلك، وإن أمكن بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة مثلا، عرف أن المقطوع ثلث أو نصف في عمق اللحم وجب قسطه من أرش الموضحة، فإن شككنا في قدرها من الموضحة، أوجبنا التعين، قال الاصحاب: وتعتبر مع ذلك الحكومة، فيجب أكثر الامرين من الحكومة، وما يقتضيه التقسيط، لانه وجد سبب كل واحد منهما. الضرب الثاني: جراحات سائر البدن، فليس في إيضاح عظامه ولا هشمها ولا تنقيلها، أرش مقدر النوع. النوع الثاني: الجائفة، وفيها ثلث الدية، وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف الاعظم من البطن أو الصدر، أو ثغرة النحر، أو الجنبين، أو الخاصرة، أو الورك، أو العجان إلى الشرج وقد سبق أن العجان ما بين الفقحة والخصية، وكذا الجراحة النافذة إلى الحلق من القفا، أو الجانب المقبل من الرقبة، والنافذة من العانة إلى(7/127)
المثانة، وفي النافذة من الذكر إلى ممر البول وجهان، أصحهما: ليست بجائفة، ولو نفذت إلى داخل الفم بهشم الخد أو اللحي، أو بخرق الشفة، أو الشدق، أو إلى داخل الانف بهشم القصبة، أو بخرق المارن، فليست بجائفة على الاظهر، ويقال: الاصح، لانهما ليسا من الاجواف الباطنة ولهذا لا ينظر بالواصل إليهما، ولانه لا يعظم فيهما الخطر بخلاف ما يصل إلى جوف الرأس والبطن، فعلى هذا يجب في صورة الهشم أرش هاشمة أو منقلة، وتجب معه حكومة للنفوذ إلى الفم والانف، لانها جناية أخرى، ولو نفذت الجراحة من الجفن إلى بيضة العين، فهل هي جائفة أم لا تجب إلا حكومة ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ولو وضع السكين على الكتف أو الفخذ وجرها حتى بلغ البطن، فأجاف، لزمه أرش الجائفة وحكومة لجراحة الكتف والفخذ، لانها في غير محل الجائفة بخلاف ما لو وضعها على صدره، وجرها حتى أجاف في البطن أو في ثغرة النحر، فإنه يجب أرش الجائفة بلا حكومة، لان جميعه محل الجائفة. فرع لا فرق بين أن يجيف بحديدة أو خشبة محددة، ولا بين أن تكون الجائفة واسعة أو ضيقة، حتى لو غرز فيه إبرة فوصلت إلى الجوف فهي جائفة، وقيل: إنما تكون جائفة إذا قال أهل الخبرة: إنه يخاف منه الهلاك، وليس بشئ. فصل لا فرق في الموضحة بين الصغيرة والكبيرة، والبارزة والمستورة بالشعر، والتي يتولد منها شين فاحش والتي لا يتولد، فلا يجب في الجميع إلا خمس من الابل، فإن تعددت الموضحة، تعدد الارش، وتعددها يكون بأسباب. الاول: اختلاف الصورة، بأن أوضحه في موضعين من رأسه، وبقي اللحم والجلد بينهما، فيجب أرشان، سواء رفع الحديدة عن موضحة ثم وضعها على موضع آخر فأوضحه، أو جرها على الرأس من موضع الايضاح إلى أن تحامل عليها في موضع آخر فأوضحه، وبقي اللحم والجلد بينهما سليمين، وحكى الامام في(7/128)
الصورة الثانية وجها ضعيفا أن الحاصل موضحة واحدة لاتحاد الفعل، ولو كثرت الموضحات، تعدد الارش بحسبها ولا ضبط، وقيل: إذا كثرت وصارت بحيث لو أوجبنا لكل موضحة خمسا من الابل، لزاد المبلغ على دية نفس، لم يوجب أكثر من دية نفس، والصحيح الاول، ولو لم يبق الحاجز بين موضعي الايضاح بكماله، بل بقي جلد دون اللحم أو عكسه، فأربعة أوجه، أصحها: أن الحاصل موضحة، والثاني: موضحتان، والثالث: إن بقي الجلد، فموضحة، وإن بقي اللحم، فموضحتان، والرابع: عكسه، فعلى الاول، لو أوضح في موضعين ثم أوغل الحديدة، ونفذها من إحداهما إلى الاخرى في الداخل ثم سلها، فهل يتحدان ؟ وجهان، ولو عاد الجاني، فرفع الحاجز بين موضحتيه قبل الاندمال، فالصحيح أنه لا يلزمه إلا أرش واحد، وقيل: أرشان، وقيل: ثلاثة، ولو تآكل الحاجز بينهما، كان كما لو رفعه الجاني، لان الحاصل بسراية فعله منسوب إليه، ولو رفع الجلد أو اللحم، أو تآكل أحدهما دون الآخر، ففيه الاوجه الاربعة، ولو رفع الحاجز غير الجاني، فعليه أرش موضحة، وعلى الاول: أرشان، ولو رفعه المجني عليه، ففعله هدر، ولا يسقط به شئ مما وجب على الجاني، ولو أوضحه رجلان، فتأكل الحاجز بين موضحتيهما، عادتا إلى واحدة، فعلى كل واحد نصف الارش، ولو اشتركا في موضحتين، ثم رفع أحدهما الحاجز بينهما، فعلى الرافع نصف أرش وعلى الآخر أرش كامل. فرع شجه شجة، بعضها موضحة، وبعضها متلاحمة، أو سمحاق، فالواجب في الجميع أرش موضحة ويدخل فيها حكومة المتلاحمة والسمحاق، لانها(7/129)
لو كانت كلها موضحة لم يجب إلا أرش، فهنا أولى، فلو اقتص فيما فيها من الموضحة، فهل له الحكومة لما حولها من المتلاحمة والسمحاق ؟ قال البغوي: يحتمل أن يكون فيه وجهان، كما لو قطع يده من نصف الكف، فاقتص من الاصابع، هل له حكومة نصف الكف ؟ وجهان. السبب الثاني: اختلاف المحل، فلو نزل في الايضاح من الرأس إلى الجبهة إما لشمول الايضاح، وإما بأن أوضح شيئا من الرأس وشيئا من الوجه، وجرح بينهما جراحة دون الموضحة، فوجهان، أحدهما: الحاصل موضحة، لان الجبهة والرأس محل الايضاح، وأصحهما: موضحتان لاختلاف المحل، ولو شملت الموضحة الجبهة والوجنة، قال الامام: في التعدد تردد، والمذهب الاتحاد تنزيلا لاجزاء الوجه منزلة أجزاء الرأس، ولو جر السكين من موضحة الرأس إلى القفا، وجرح القفا مع إيضاحه أو بغير إيضاحه، لزمه مع أرش الموضحة حكومة لجرح القفا، لانه ليس محل الايضاح، فلم تدخل حكومته في الارش، ولو جر السكين من موضحة الرأس إلى الجبهة، وجرحها جراحة متلاحمة، فإن قلنا: لو أوضح في الجبهة أيضا، كان الحاصل موضحة، دخلت حكومة جراحة الجبهة في أرش الموضحة، وإن قلنا: الحاصل موضحتان، وجب مع الارش حكومة. السبب الثالث: تعدد الفاعل، بأن أوضح رجلا، فوسع آخر تلك الموضحة، أو أوضح قطعة متصلة بموضحة الاول، فعلى كل واحد منهما أرش كامل، ولو وسع الاول موضحته، لزمه أرش واحد على الصحيح، وقيل: أرشان. السبب الرابع: اختلاف الحكم، بأن أوضحه موضحة واحدة هو في بعضها مخطئ، وفي بعضها متعمد، أو في بعضها مقتص وفي بعضها متعد، فهل الحاصل موضحة لاتحاد الصورة والجاني والمحل، أم موضحتان لاختلافهما ؟ وجهان، أصحهما: موضحتان، فإن قلنا: موضحة، وزع الارش على البعضين، وإن قلنا: موضحتان، وجب أرش كامل لما تعدى به، ولو أوضح موضحتين عمدا ورفع الحاجز بينهما خطأ، وقلنا بالصحيح: أنه لو رفعه عمدا تداخل الارشان، فهل يلزمه أرش ثالث أم لا يلزمه إلا أرش واحد ؟ وجهان.(7/130)
قلت: أرجحهما: أرش فقط. والله أعلم. فرع يتعدد أرش الجائفة بتعددها، فلو أجاف جائفتين، ثم رفع الحاجز بينهما، أو تآكل ما بينهما، أو رفعه غير الجاني، فعلى ما ذكرناه في الموضحة. وتتعدد الجائفة بتعدد الصورة، بأن يجرحه جراحتين نافذتين إلى الجوف، فإن بقي بينهما الجلدة الظاهرة، أو انخرق ما تحتها، أو بالعكس، فيشبه أن يكون حكمه كما ذكرنا في الموضحة، وتتعدد بتعدد المحل، بأن ينفذ جراحتين إلى جوفين ويتعدد الفاعل، بأن يوسع جائفة غيره، وفصله الاصحاب فقالوا: إن أدخل السكين في جائفة غيره ولم يقطع شيئا، فلا ضمان عليه ويعزر، وإن قطع شيئا من الظاهر دون ومن جانب بعض الباطن، قال المتولي: ينظر في ثخانة اللحم والجلد ويسقط أرش الجائفة على المقطوع من الجائفتين، وقد يقتضي التقسيط تمام الارش، بأن يقطع نصف الظاهر من جانب، ونصف الباطن من جانب، ولو لم يقطع من أطراف الجائفة شيئا، ولكن زاد في غورها، أو كان قد ظهر عضو باطن، كالكبد، فغرز السكين فيه، فعليه الحكومة، ولو عاد الجاني فوسع الجائفة، أو زاد في غورها، لم يزد الواجب وكان كما لو أجاف ابتداء كذلك. ويمكن أن يعود فيه الوجه السابق في توسيع الموضحة، ويجئ في اختلاف حكم الجائفة وانفسامها إلى عمد وخطأ ما سبق في الموضحة، ولو ضربه بسنان، أو مشقص له رأسان، فنفذ إلى جوفه والحاجز بينهما سليم، فهما جائفتان، ولو طعنه بسنان في بطنه، فأنفذه من ظهره، أو من أحد الجنبين إلى الآخر، فهل هما جائفتان أم جائفة ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: جائفتان، فإن قلنا: جائفة، وجب معها حكومة على الاصح، وقيل: لا حكومة. فصل إذا أوضحه، فاندملت أطراف الجراحة، وبقي شئ من العظم بارزا، لم يسقط شئ من الارش قطعا، وإن التحم الموضع ولم يبق شئ من(7/131)
العظم بارزا، فكذلك على الصحيح، وقيل: إن لم يبق شين، سقط الارش ولا حكومة، وإن بقي، سقط الارش، ووجبت حكومة، وليس بشئ، وإذا اندملت الجائفة، لم يسقط شئ من الارش على المذهب، وقيل: يعود إلى الحكومة، وقيل: في سقوطه قولان، كعود السن. فرع إذا التحمت الجائفة، أو الموضحة، فجاء جان إما الاول وإما غيره، فأوضح في ذلك الموضع، أو أجاف، فعليه أرش آخر إن كان الالتحام قد تم سواء نبت عليه الشعر أم لا، وسواء كان متغير اللون مشينا أم لا، وإن لم يتم الالتحام، ففتقه، فعليه الحكومة فقط، ولو نزع الخيط الذي خيطت الجائفة به قبل أن يلتحم، فعليه التعزير، وأجرة مثل الخياط، وضمان الخيط إن تلف، ولا أرش ولا حكومة، وإن التحمت ظاهرا وباطنا فانفتحت، فهي جائفة جديدة، وكذا لو انفتح جانب منها بعد تمام التحامه، فإن التحم ظاهرها دون باطنها، أو بالعكس، فعليه الحكومة دون الارش، ولا يجب مع الارش أو الحكومة أجرة الخياط، لكن يجب ضمان الخيط إن تلف. فرع في مسائل منثورة تتعلق بما سبق إحداهما: غرز إبرة في رأس رجل حتى انتهت إلى العظم وسلها، فهي موضحة على المذهب وبه قطع الجمهور، وخرجه الامام على وجهين. الثانية: موضحة هشم في بعضها فقط، ليس فيها إلا أرش هاشمة. الثالثة: أوضح وهشم في موضعين واتصل الهشم بينهما في الباطن، فالصحيح أنهما هاشمتان، وقيل: هاشمة. الرابعة: أوضح في مواضع متفرقة، وهشم في كل واحد منها، فهي هاشمتان على الصحيح، وقيل: موضحتان وهاشمة واحدة.(7/132)
الخامسة: أدخل في دبره شيئا خرق به حاجزا في الباطن، هل عليه أرش جائفة ؟ وجهان. السادسة: شجه متلاحمة، فأوضحه آخر في ذلك الموضع بقطع اللحم الباقي، فعلى كل منهما حكومة. السابعة: أجافة ونكأ في بعض الاعضاء الباطنة، كالامعاء، فعليه مع أرش الجائفة حكومة.
القسم الثاني : إبانة الأطراف
والمقدر بدله من الاعضاء ستة عشر عضوا، العضو الاول: الاذنان وفي استئصالهما قطعا أو قلعا كمال الدية، وحكي قول أو وجه مخرج أن فيهما الحكومة، والمذهب الاول، وفي إحداهما نصف الدية، وفي بعضها بقسطه، وتقدر بالمساحة، وسواء أذن السميع والاصم، لان السمع ليس في نفس الاذن، ولو ضرب أذنه، فاستحشفت، أي: يبست كشلل اليد، فقولان، أظهرهما: تجب ديتها، كما لو ضرب يده، فشلت، والثاني: لا تجب إلا الحكومة، لان منفعتها لا تبطل بالاستحشاف بخلاف الشلل. ولو قطع أذنا مستحشفة، بني على هذا الخلاف، إن قلنا هناك: تجب الدية، وجب هنا حكومة، كمن قطع يدا شلاء، وإن قلنا: تجب الحكومة، وجب هنا الدية، وعن الشيخ أبي حامد: هذه الحكومة مع الحكومة الواجبة بالجناية التي حصل بها الاستحشاف عن كمال الدية وجهان. فرع لو لم يقتصر على استئصال الشاخص، بل أوضح معه العظم، وجب دية الاذن، وأرش الموضحة ولا تتبعها، لانه لا يتبع مقدر مقدرا.(7/133)
العضو الثاني: العينان، ففي فقئهما كمال الدية، وفي إحداهما: نصفها، وعين الاعور السليمة لا يجب فيها إلا نصف الدية، ولو فقأ الاعور مثل عينه المبصرة، اقتص منه، وتكمل الدية في عين الاحول والاعمش، والعمش: ضعف الرؤية مع سيلان الدمع في أكثر الاوقات، ويقال: إن خلل الاعمش في الاجفان، وفي عين الاعشى، وهو الذي لا يبصر ليلا، ويبصر نهارا، والاخفش، وهو صغير العين ضعيف البصر، وقيل: هو من يبصر بالليل دون النهار، لان المنفعة باقية في أعين هؤلاء، ومقدار المنفعة لا ينظر إليه، ولو كان في العين بياض لا ينقص الضوء لم يمنع القصاص ولا كمال الدية، سواء كان على بياض الحدقة أو سوادها، وكذا لو كان على الناظر إلا أنه رقيق لا يمنع الابصار ولا ينقص الضوء، وإن كان ينقص الضوء، نظر، إن أمكن ضبط النقص بالاعتبار بالصحيحة التي لا بياض فيها، سقط من الدية قسط ما نقص، وإلا فالواجب الحكومة. العضو الثالث: الاجفان الاربعة، وفيها كمال الدية، وفي كل جفن ربعها، وفي بعض الجفن قسطه من الربع، وسواء الجفن الاعلى والاسفل، وجفن الاعمى والاعمش وغيرهما، ولا دية في الجفن المستحشف، وإنما فيه الحكومة، ولو ضرب الجفن، فاستحشف، لزمه الدية قطعا، ولو قلع الاجفان والعينان، لزمه ديتان. فرع إزالة الاهداب وسائر الشعور، كشعر الرأس واللحية، بالحلق وغيره من غير إفساد المنبت لا يوجب إلا التعزير، فإن أفسد المنبت، لزمه الحكومة فإذا لم يكن على الاجفان أهداب فالواجب بقطعها الدية، فإن قطعت وعليها أهداب، فهل تجب مع الدية حكومة الاهداب، أم تدخل في الدية ؟ وجهان، أصحهما: الدخول، وتدخل حكومة الشعر على محل الموضحة في أرش الموضحة على المذهب، وقيل: فيه وجهان. العضو الرابع: الانف، ففي قطع المارن، وهو مالان من الانف وخلا من(7/134)
العظم كمال الدية، والمارن: ثلاث طبقات، الطرفان، والوترة الحاجزة بينهما، وفي كيفية توزيع الدية، وجهان، أحدهما - وبه قال أبو علي الطبري، ورجحه القاضيان الطبري والروياني -، توزع على الثلاث، فعلى هذا إن رفع الحاجز وحده، وجب ثلث الدية، ولو قطع أحد الطرفين، فكذلك، ولو قطعهما دون الحاجز، أو أحدهما مع الحاجز، وجب ثلثا الدية، ولو قطع أحدهما، ونصف الحاجز وجب نصف الدية، والوجه الثاني، وهو المنصوص، ويحكى عن ابن سريج، وأبي إسحاق، وصححه البغوي: أن الدية تتعلق بالطرفين، وليس في الحاجز إلا الحكومة، فعلى هذا في الحاجز وحده الحكومة، وفي أحد الطرفين، نصف الدية، وفي قطعهما دون الحاجز كمال الدية، وفي أحدهما مع الحاجز أو بعضه نصف الدية وحكومة، ولو سقط بعض أنف المجذوم، فقطع رجل الباقي، وجب قسطه من الدية، وأنف الاخشم كأنف الاشم، ولو ضرب أنفه فاستحشف، أو قطع أنفا مستحشفا، فعلى الخلاف المذكور في الاذن، ولو شق مارنه، فذهب بعضه ولم يلتئم، فعليه من الدية قسط الذاهب، وإن لم يذهب منه شئ، فعليه الحكومة، سواء التأم أم لا، ولو انجبرت القصبة بعد الكسر، فعليه الحكومة، فإن بقي معوجا، كانت الحكومة أكثر. العضو الخامس: الشفتان، ففي استيعابهما كمال الدية، سواء كانتا غليظتين أم دقيقتين، كبيرتين أم صغيرتين، وفي إحداهما نصفها، سواء التأم أم لا، ولو انجبرت القصبة بعد الكسر، فعليه الحكومة، إلى الشدقين، وفي ضبطه في الطول أربعة أوجه، أصحها وهو المنصوص وبه قطع الاكثرون: أن الشفة من جوف الفم إلى الموضع الذي يستر اللثة، والثاني: أنها المتجافي إلى محل الارتتاق، والثالث: الذي ينتأ عند إطباق الفم، والرابع: الذي لو قطع لم تنطبق الشفة الاخرى على الباقي، ولو ضرب شفته، فأشلها فصارت منقبضة لا تسترسل، أو مسترسلة لا تنقبض، فعليه كمال الدية، وفي الشفة الشلاء الحكومة، ولو شق شفتيه ولم يبق منهما شئ، لزمه حكومة، ولو قطع شفة مشقوقة، فعليه دية ناقصة بقدر حكومة(7/135)
الشق، ولو قطع بعض الشفة، وتقلص الباقي حتى بقيت كالمقطوع جميعها، فهل يجب كمال الدية، أو تتوزع على المقطوع والباقي ؟ وجهان، وهل تتبع حكومة الشارب دية الشفة ؟ وجهان. العضو السادس: اللسان، ففيه دية، ولسان الالكن، والمبرسم الذي ثقل كلامه، والالثغ كغيره، وفي لسان الاخرس حكومة، سواء كان خرسه أصليا أم عارضا، وفي وجوب الدية فيه احتمال لابن سلمة، والمذهب الاول، وهذا إذا لم يذهب الذوق بقطع الاخرس، أو كان قد ذهب ذوقه قبله، فأما إذا قطع لسانه، فذهب ذوقه، ففيه الدية، ولو تعذر النطق لا لخلل في اللسان، ولكنه ولد أصم، فلم يحسن الكلام، لانه لم يسمع شيئا، فهل تجب فيه الدية أم الحكومة، وجهان يجئ ذكرهما إن شاء الله تعالى، ولو قطع لسان طفل، نظر، إن نطق ببابا ودادا ونحوهما، أو كان يحركه عند البكاء والضحك والامتصاص تحريكا صحيحا، وجبت الدية لظهور آثار الكلام فيه، وإن لم يوجد نطق وتحريك، فإن كان بلغ وقت النطق والتحريك، فالواجب حكومة، وإلا فالمذهب وجوب الدية أخذا بظاهر السلامة، كما تجب الدية في رجله ويده، وإن لم يكن في الحال بطش، وبهذا قطع جماهير الاصحاب في طرقهم، ونقل الامام عن الاصحاب، أن الواجب الحكومة، ونقل ابن القطان فيه قولين، وإذا قطع بعض لسانه طفل واقتضى الحال إيجاب الحكومة، فأخذناها، ثم نطق ببعض الحروف وعرفنا سلامة لسانه أوجبنا تمام القدر الذي يقتضيه القطع من الدية، ولو كان للسانه طرفان، نظر، إن استويا(7/136)
في الخلقة، فهو لسان مشقوق، فيجب بقطعهما الدية، وبقطع أحدهما قسطه من الدية، وإن كان أحدهما تام الخلقة أصليا، والآخر ناقص الخلقة زائدا، ففي قطعهما دية وحكومة، وفي الاصلي دية، وفي الزائد حكومة، ولا يبلغ بحكومته دية قدره من اللسان من ثلث وربع ونحوهما، وفي قطع اللهاة الحكومة. السابع: الاسنان، فيجب في كل سن من الذكر الحر المسلم، خمس من الابل، سواء قلعها، أو قطعها، أو كسرها ولو اقتلعها، فبقيت معلقة بعروق، ثم عادت إلى ما كانت فليس عليه إلا حكومة، ذكره الروياني، وتستوي الاسنان في الدية وإن اختلفت منافعها، وتكمل دية السن بقلع كل سن أصلية تامة مثغورة غير متقلقلة، فهذه أربعة قيود، الاول: كونها أصلية، ففي الشاغية الحكومة لا الدية، ولو سقطت سنه فاتخذ سنا من ذهب أو حديد أو عظم طاهر، فلا دية في قلعها، وأما الحكومة، فإن قلعت قبل الالتحام، لم تجب، لكن يعزر القالع، وإن قلعت بعد تشبث اللحم بها، واستعدادها للمضغ والقطع، فلا حكومة أيضا على الاظهر. الثاني: كونها تامة، وتكمل دية السن بكسر ما ظهر من السن، وإن بقي السنخ بحاله، ولو قلع السن من السنخ، وجب أرش السن فقط على المذهب، وقيل في وجوب الحكومة معه وجهان، ولو كسر الظاهر رجل، وقلع السنخ آخر، فعلى الاول دية سن، وعلى الثاني حكومة قطعا، ولو عاد ا لاول وقلعه بعد الاندمال، فعليه حكومة مع الدية، وإن قلعه قبل الاندمال، فكذلك على الاصح، وقيل: لا حكومة، وطرد مثل هذا في قطع الكف بعد قطع الاصابع من القاطع أو غيره، ولو قطع بعض الظاهر، فعليه قسطه من الارش وينسب المقطوع إلى الباقي من الظاهر، ولا يعتبر السنخ على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: وجهان، ثانيهما يوزع عليه وعلى السنخ، وفي معنى هذا صور منها: أن الدية تكمل في قطع الحشفة. ومنها: حلمة الثدي فيها كمال الدية، فلو استؤصل الثدي ففيه الطريقان، والمذهب فيهما الاندراج.(7/137)
ومنها: في المارن الدية، فلو قطعه مع القصبة، فهل تندرج حكومة القصبة في دية المارن ؟ وجهان، الصحيح الاندراج. واعلم أنا قدمنا أن قصبة الانف محل الموضحة في الوجه، وكذا هي محل الهاشمة والمنقلة، وإبانة القصبة أعظم من المنقلة، فيجب أن تجب فيها مع دية المارن أرش المنقلة، وقد حكى ابن كج هذا عن النص، لكن لم أجد لغيره تعرضا له. وإذا قلنا بالاندراج في هذه الصور، فقطع بعض الحشفة أو الحلمة أو المارن، فهل ينسب المقطوع إلى الحشفة أم جميع الذكر، وإلى الحلمة أم جميع الثدي، وإلى المارن أم إليه مع القصبة ؟ فيه الطريقان اللذان في بعض ظاهر السن، والمذهب التوزيع على الحشفة والحلمة والمارن فقط، فإذا اختلفا في قدر المكسور من ظاهر السن، فالمصدق الجاني، لان الاصل براءته. فرع كسر واحد بعض ظاهر السن، ثم كسر غيره الباقي من الظاهر، فعلى كل منهما قسط ما كسره من الارش، ولو قلع الثاني الباقي مع السنخ، فطريقان، أحدهما على وجهين، أحدهما: عليه أرش الباقي وحكومة السنخ، والثاني: عليه الارش فقط، والطريق الثاني - وهو الاصح وبه قطع الاكثرون - ينظر في جناية الاول، فإن كسر بعض السن في العرض، وبقي الاسفل بحاله، فليس على الثاني حكومة السنخ، بل يدخل في أرش الباقي، وإن كسر بعضها في الطول، فحكومة السنخ بقدر ما يجب الباقي من السن يدخل في أرشه، وما لا شئ فوقه تلزمه حكومته. فرع لو ظهر بعض السنخ بخلل أصاب اللثة، لم يلحق ذلك بالظاهر، بل(7/138)
تكمل الدية فيما كان ظاهرا في الاصل. فرع لو تناثر بعض السن، أو تآكل، ففي قلعها قسط ما بقي من الدية، فإن اختلفا في قدر المتناثر والمتآكل، صدق المجني عليه بيمينه. فرع لو كانت أسنانه من الاعلى طويلة، ومن الاسفل قصيرة، أو بالعكس، لم يؤثر ذلك، ووجب لكل واحدة كمال الارش، والغالب أن الثنايا من الاسنان تكون أطول من الرباعيات بقليل، فلو كانت ثناياه كرباعياته أو أقصر منها، فوجهان، أحدهما حكاه الامام عن الاكثرين: لا يجب فيها تمام الارش بل ينقص منه بحسب نقصانها، وبهذا قطع الروياني، والثاني: يجب كمال الارش، وبه قطع البغوي، ولو كانت إحدى الثنيتين من الاعلى أو الاسفل أقصر من أختها، فقلعت الصغيرة، نقص من ديتها بقدر نقصانها، لان الغالب أنهما لا تختلفان، فإذا اختلفتا، كانت القصيرة ناقصة، ولو أنهى صغر السن إلى أن بطلت منفعته ولم يصلح للمضغ، ففي قلعها الحكومة دون الدية، كاليد الشلاء. القيد الثالث: كونها مثغورة، فلو قلع سن صغير لم يثغر، فقد سبق في كتاب الجنايات أنه لا يستوفى في الحال قصاص ولا دية، لان الغالب عودها، فهي كالشعر يحلق، لكن ينتظر عودها فإن عادت، فلا قصاص ولا دية، وتجب الحكومة إن بقي شين، وإلا فهل يعتبر حال الجناية وقيام الالم أم لا يجب شئ ؟ فيه خلاف يأتي في باب الحكومات إن شاء الله تعالى، وإن مضت المدة التي يتوقع فيها العود ولم تعد، وفسد المنبت، استوفي القصاص أو الدية، فإن مات الصبي قبل بيان الحال، ففي وجوب الارش وجهان، وقيل: قولان، أحدهما: يجب لتحقق الجناية والاصل عدم العود، وأصحهما: لا، لان الاصل البراءة، والظاهر العود لو عاش، فعلى هذا تجب الحكومة، قال المتولي: هذا على طريقة من يعتبر حال(7/139)
الجناية والالم، ولو قلع رجل سن الصغير، وجنى آخر على منبته جناية أبطلت النبات، قال الامام: لا وجه لايجاب الارش على الثاني ولا عليهما، أما الاول فيجوز أن يقال بوجوبه عليه، ويجوز أن يقتصر على الحكومة، ولو سقطت سنة بنفسها، ثم جنى جان وأفسد المنبت، فيجوز أن يقال بوجوب الارش على الثاني، لانه أفسد المنبت، ولم تسبقه جناية بحال عليها. فرع لو قلع سن مثغور، فأخذ منه الارش، فعادت السن على الندور، لم يسترد الارش على الاظهر، ولو التحمت الموضحة أو الجائفة بعد أخذ أرشها، لم يسترد على الصحيح، ولو جنى على يده فذهب بطشها، أو على عينه فذهب بصرها، فأخذنا ديتهما لظن زوال البطش والبصر، ثم قويت اليد والعين فصار يبطش ويبصر، استردت الدية قطعا، لان الشلل والعمى المحققين لا يزولان، وكذا الحكم في السمع وسائر المعاني. فرع قلع سن صغير، فطلع بعضها ومات الصغير قبل أن يتم نباتها، فعليه من الدية، نص عليه الشافعي رحمه الله، ولو قلعها قبل تمام الطلوع آخر، فعن النص انتظار نباتها، فإن لم تنبت، فعليه حكومة هي أكثر من حكومة المرة الاولى. القيد الرابع: كونها ثابتة غير متقلقلة، فإن كانت متحركة حركة يسيرة لا تنقص المنافع، لم يؤثر تحركها في قصاص ولا دية، وإن كان بها اضطراب شديد بهرم أو مرض ونحوهما، نظر، إن بطلت منفعتها، ففيها الحكومة، وإن نقصت، فهل يجب الارش أم الحكومة ؟ قولان، أظهرهما: الارش، وقال الامام: إن كان الغالب على الظن نباتها، وجب الارش قطعا، وإن كان الغالب على الظن سقوطها، فهو موضع القولين، ولو ضرب سن رجل فتزلزلت وتحركت، نظر، إن سقطت(7/140)
بعد ذلك، لزمه الارش، وإن عادت كما كانت، فلا أرش، وفي وجوب الحكومة وجهان، كما إذا لم يبق في الجراحة نقص ولا شين، وإن بقيت كذلك ناقصة المنفعة، فهل يجب الارش أم الحكومة ؟ فيه القولان، فإن قلعها آخر، فعليه الارش إن أوجبنا على الاول الحكومة، والحكومة إن أوجبنا على الاول الارش، قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: تجب الحكومة، فهي دون حكومة السن المتحركة بهرم ومرض، لان النقص الذي فيها قد غرمه الجاني الاول بخلاف الهرم، وقطع المتولي بأنه ليس على الثاني إلا حكومة بخلاف ما لو كان الاضطراب بهرم ومرض، لان خلل الجناية يخالفهما، ولهذا لو قتل مشرفا على الموت في آخر رمق بالمرض، وجب القصاص، ولو كان في هذا الحال بجناية، فلا قصاص، ولو جنى على سن، فاضطربت ونقصت منفعتها، وقلنا: الواجب عليه الحكومة، فعاد وقلعها قبل أن يضمن الحكومة، فعليه الارش بكماله. فرع قلع سنا سوداء كاملة المنفعة، نظر، إن كانت سوداء قبل أن يثغر وبعده، لزمه كمال الارش، وإن كانت في الاصل بيضاء، فلما ثغر نبتت سوداء، أو نبتت بيضاء ثم اسودت، فعن نص الشافعي رحمه الله أنه يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: لا يكون ذلك إلا لعلة حادثة، ففي قلعها الحكومة، وإن قالوا: لم يحدث ذلك لعلة، أو قالوا: مثل هذا قد يكون لعلة ومرض، وقد يكون لغيره، وجب كمال الارش، والرد إلى الحكومة للمرض مع كمال المنفعة خلاف القياس، وإن ضرب سنا فاسودت، فهل يجب الارش أم الحكومة ؟ نقل المزني اختلاف نص فيه، فقيل: قولان والمذهب وما قطع به الجمهور تنزيل النصين على حالين، إن فاتت المنفعة مع الاسوداد، وجب الارش، وإلا فالحكومة، ولو اخضرت السن بجناية أو اصفرت، وجبت الحكومة، وحكومة الاخضرار أقل من الاسوداد، وحكومة الاصفرار أقل من الاخضرار.(7/141)
فصل الاسنان في غالب الفطرة اثنتان وثلاثون، منها أربع ثنايا وهي الواقعة في مقدم الفم، ثنتان من أعلى وثنتان من أسفل، ويليهما أربع من أعلى وأسفل يقال لها: الرباعيات بفتح الراء وتخفيف الباء، ثم أربع ضواحك، ثم أربعة أنياب وأربعة نواجذ، واثنا عشر ضرسا، ويقال لها: الطواحن، ففي كل سن منها خمس من الابل كما سبق ما لم يجاوز عشرين سنا، فإن جاوزها، فقولان، أحدهما: لا يجب إلا مائة من الابل، وأظهرهما وقطع به جماعة: يجب لكل سن خمس، فلو كانت ثنتين وثلاثين، فقلعها، وجب مائة وستون بعيرا، وهذا الخلاف إذا اتحد الجاني والجناية، فإن تعدد الجاني، بأن قلع عشرين سنا، وقلع غيره الباقي، فعلى الاول مائة بعير، وعلى الثاني ستون قطعا، وإن اتحد الجاني، وتعددت الجناية، نظر، إن تخلل الاندمال بأن قلع سنا وتركه حتى برأت اللثة، وزال الالم، ثم قلع أخرى وهكذا إلى استيعاب الاسنان، لزمه لكل سن خمس قطعا، وإن لم يتخلل الاندمال، فعلى القولين، وقيل: يتعدد قطعا، وصورة الجناية الواحدة أن يسقطها كلها بضربة أو يسقيه دواء يسقطها. فرع قد تزيد الاسنان على ثنتين وثلاثين، فإن زادت، فهل يجب لكل سن خمس، أم لا يجب في الزائد على ذلك إلا الحكومة كالاصبع الزائد ؟ وجهان. العضو الثامن: اللحيان، وهما العظمان اللذان عليهما منبت الاسنان السفلى وملتقاهما الذقن، وفيهما كمال الدية، وفي أحدهما إن ثبت الآخر نصفها، فلو كان على اللحيين أسنان كما هو الغالب، فوجهان، أحدهما: لا يجب إلا دية اللحيين ويدخل فيها أروش الاسنان، وأصحهما: تجب دية اللحيين وأروش الاسنان. التاسع: اليدان، وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، وتكمل الدية(7/142)
بلقط الاصابع، ولو قطع من الكوع، فالواجب ما يجب في الاصابع وتدخل حكومة الكف في ديتها، ولو قطع من بعض الساعد، أو المرفق، أو المنكب، وجبت حكومتها مع الدية بخلاف الكف، لان الكف مع الاصابع كالعضو الواحد، وقال ابن حربويه من أصحابنا: نهاية اليد التي يجب فيها الدية: الابط والمنكب، ويجب فيما دون ذلك قسطه من الدية، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، وفي كل أصبع عشر من الابل، تستوي فيه جميع الاصابع، وفي كل أنملة من الابهام خمس من الابل، وفي كل أنملة من غيرها ثلاثة أبعرة وثلث، ولو انقسمت أصبع بأربع أنامل متساوية، ففي كل واحدة بعيران ونصف. فرع ما ذكرناه من اندراج حكومة الكف تحت دية الاصابع هو فيما إذا قطع من الكوع، وأبان الكف والاصابع بجناية واحدة، فأما إذا قطع واحد الاصابع، وآخر الكف، أو قطع واحد الاصابع ثم الكف قبل الاندمال أو بعده، فعلى ما ذكرناه في الاسنان. فرع إذا كان على معصم إنسان كفان مع الاصابع، أو على العضد ذراعان وكفان، أو على المنكب عضدان وذراعان وكفان مع الاصابع، نظر إن لم يبطش بواحد منهما، فليس فيهما قصاص ولا دية، وإنما يجب فيهما الحكومة كاليد الشلاء، وإن كان فيهما بطش، نظر، إن كانت إحداهما أصلية والاخرى زائدة، ففي الاصلية القصاص والدية، وفي الزائدة الحكومة، وطريق معرفة الزائدة أن ينظر، فإن اختصت إحداهما ببطش أو قوة بطش، فهي الاصلية، وسواء كانت الباطشة أو التي هي أقوى بطشا على استواء الذراع، أو منحرفة عنه، فإن كانت إحداهما مستوية، والاخرى منحرفة، فالمستوية هي الاصلية، وإن كانت إحداهما معتدلة الاصابع والاخرى زائدة، فوجهان، قال القاضي حسين: المعتدلة هي الاصلية، لان الزيادة على الكمال نقصان، وقال الاكثرون: لا يؤثر ذلك في التمييز، لان اليد الاصلية كثيرا ما تشتمل على الاصبع الزائدة، ولو كانت(7/143)
إحداهما ناقصة بأصبع، ولكنها مستوية، والاخرى كاملة الاصابع منحرفة، فأيتهما الاصلية ؟ فيه احتمال للامام، وأما إذا لم تتميز الاصلية عن الزائدة بشئ، فهما كيد واحدة، فيجب في قطعهما القصاص أو كمال الدية، ويجب مع القصاص أو الدية حكومة لزيادة الصورة، وعن المزني أنه لا قصاص لنقصهما بتشوه الخلقة، ولو قطعت إحداهما لم يجب القصاص، ويجب فيها نصف دية وزيادة حكومة، وقيل: لا تجب الحكومة، وهو غريب، والصحيح الاول، فعلى هذا في الاصبع منها نصف دية اصبع وحكومة، وفي الانملة نصف دية أنملة وحكومة، ولو عاد الجاني بعد أخذ الارش والحكومة منه، فقطع اليد الاخرى، وأراد المجني عليه القصاص ورد ما أخذه غير قدر الحكومة، هل له ذلك، وجهان، أحدهما: لا، لانه أسقط بعض القصاص فلا عود إليه، والثاني: نعم، لان القصاص لم يكن ممكنا، وإنما أخذ الارش لتعذره لا لاسقاطه. فرع لو قطع صاحب اليدين الباطشتين يد معتدل لم تقطع يداه للزيادة، وللمجني عليه أن يقطع إحداهما، ويأخذ نصف دية اليد ناقصا بشئ، فلو بادر وقطعهما، عزر، وأخذت منه حكومة للزيادة، وإن كانت إحدى يدي القاطع زائدة، وأمكن إفراد الاصلية بالقطع، قطعت ولم يلزم شئ آخر، وإن علم أن إحداهما زائدة ولم تعلم عينها، لم تقطع واحدة منهما. فرع كانت إحدى يمينيه باطشة دون الاخرى، فقطعت الباطشة، فاستوفى ديتها، فصارت الاخرى باطشة، أو كانت ناقصة البطش، فقوي، فقد تبينا أن الثانية أصلية حتى لو قطعها قاطع لزمه القصاص، أو كمال الدية، وهل يسترد القاطع أولا الارش ويرد إلى مقدار الحكومة ؟ وجهان، أصحهما: لا، فلا يغير ما مضى، وهذه نعمة من الله تعالى، ولو كانتا باطشتين على السواء، فغرمنا قاطع إحداهما نصف دية اليد وزيادة حكومة، فازدادت قوة الباقية، واشتد بطشها، فهل يسترد من(7/144)
أرش الاولى ما يرده إلى قدر الحكومة ؟ فيه الوجهان، وإن ضعفت الثانية لما قطعت الاولى، وبطل بطشها، عرفنا أن الاصلية هي المقطوعة، فعلى قاطعها القصاص أو كمال الدية، قال ابن كج: ويحتمل أن لا قصاص. العضو العاشر: الرجلان، ففيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، ورجل الاعرج كرجل الصحيح، لانه لا خلل في العضو، ولو قطع رجلا تعطل مشيها بكسر الفقار، فوجهان، أحدهما: الواجب الحكومة، كاليد الشلاء، وأصحهما: الدية، لان الرجل صحيحة، والخلل في غيرها، وتكمل دية الرجلين بالتقاط أصابعهما، والقدم كالكف، والساق كالساعد، والفخذ كالعضد، وأنامل أصابع الرجل كأنامل أصابع اليد، وقدمان على ساق، وساقان على ركبة ككفين على معصم، وساعدين على عضد، وقد سبق بيان الجميع، وكذا يقاس بما تقدم حكم الرجل الشلاء، وحصول الشلل بالجناية عليها. العضو الحادي عشر: حلمتا المرأة، وفيهما كمال ديتها، وفي إحداهما نصفها، والحلمة: المجتمع نابتا على رأس الثدي، قال الامام: ولون الحلمة يخالف لون الثدي غالبا، وحواليها دارة على لونها، وهي من الثدي لا من الحلمة، ولو قطع الثدي مع الحلمة، لم يجب إلا الدية، وتدخل فيها حكومة الثدي، وفيه وجه قدمناه، وعن الماسرجسي نقله قولا، ولو قطع مع الثدي جلدة الصدر، وجبت حكومة الجلدة مع الدية قطعا، وإن وصلت الجراحة إلى الباطن، وجب مع دية الحلمة أرش الجائفة، وهل يجب في قطع حلمة الرجل دية أم حكومة ؟ قولان، أظهرهما: حكومة، وقيل: حكومة قطعا، ولو قطع مع حلمة الرجل الثندوة، أفردت الثندوة بحكومة على المذهب، وقيل: إذا أوجبنا في حلمته دية، دخلت فيها حكومة الثندوة، والثندوة: لحمة تحت الحلمة إذا لم يكن الرجل مهزولا. فرع تقطع حلمة المرأة بحلمة المرأة، وفي التتمة وجه أنه إذا لم يتدل الثدي، فلا قصاص، لاتصالها بلحم الصدر، وتعذر التمييز، والصحيح الاول، قال البغوي: ولا قصاص في الثدي، لانه لا يمكن المماثلة، وللمجني عليها أن(7/145)
تقتص في الحلمة، وتأخذ حكومة الثدي، ولك أن تقول: المماثلة ممكنة، فإن الثدي هذا الشاخص، وهو أقرب إلى الضبط من الشفتين والاليتين ونحوهما، وتقطع حلمة الرجل بحلمة الرجل إن أوجبنا فيها الحكومة أو الدية، وتقطع حلمة الرجل بحلمة المرأة وبالعكس، إن أوجبنا في حلمة الرجل الدية، فإن أوجبنا الحكومة، لم تقطع حلمتها بحلمته وإن رضيت، كما لا تقطع صحيحة بشلاء، وتقطع حلمته بحلمتها إن رضيت، كما تقطع الشلاء بالصحيحة إذا رضي المستحق. فرع هل يستدل بنهود الثدي وتدليها على أنوثة الخنثى ؟ وجهان سبقا في الطهارة، قال أبو علي الطبري: نعم، والجمهور: لا، فإن قطعا، فعلى قول الطبري: تجب دية امرأة، وعلى قول الجمهور، إن قلنا: في حلمة الرجل الدية، وجب هنا دية امرأة أخذا باليقين، وإن قلنا: الحكومة، وجب هنا حكومة. فرع ضرب ثدي المرأة، فشل، فعليه الدية، ولو كانت ناهدا، فاسترسل ثديها، لم تجب إلا الحكومة، لان الفائت مجرد الجمال، ولو استرسل بالضرب ثدي الخنثى ولم يجعل الثدي أمارة الانوثة، فلا حكومة في الحال، لجواز كونه رجلا، فلا يلحقه نقص بالاسترسال، ولا يفوت جماله، فإن بانت امرأة، وجبت الحكومة. العضو الثاني عشر: الذكر، وفيه كمال الدية، سواء ذكر الشيخ والشاب والصغير والعنين والخصي وغيرهم، وفي الاشل حكومة، ولو ضرب ذكرا فشل، فعليه كمال الدية، ولو خرج عن أن يمكن به الجماع من غير شلل ولا تعذر انقباض وانبساط، فعليه الحكومة، لان العضو ومنفعته باقيان، والخلل في غيرهما، فلو قطعه قاطع بعد ذلك، فعليه القصاص أو الدية، هكذا ذكره ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، وفيه نظر، وتكمل الدية بقطع الحشفة وفي بعض الحشفة قسطه من(7/146)
الدية، وهل يكون التقسيط على الحشفة فقط أم على جملة الذكر ؟ فيه خلاف سبق في فصل الاسنان، والمذهب أولهما، قال المتولي: هذا إذا لم يختل مجرى البول، بأن قطع بعض الذكر طولا، فإن اختل، فعليه أكثر الامرين من قسطه من الدية، وحكومة فساد المجرى، قال: ولو قطع جزءا من الذكر مما تحت الحشفة، فإن انتهت الجراحة إلى مجرى البول، فقد سبق خلاف في كونها جائفة، وإن لم ينته، فإن قلنا: في قطع بعض الحشفة يقسط على الحشفة فقط، فعليه هنا حكومة، وإن قسطنا على الذكر، فعليه قسط المقطوع من الدية، وإن لم يبن شيئا من الذكر، لكن شقه طولا، وزالت منفعته بذلك، وجبت الدية كالشلل، وتجب في بقية الذكر وحدها الحكومة، وإذا استأصل الذكر، وجبت الدية بلا حكومة على المذهب، وقيل: تجب مع الدية حكومة. العضو الثالث عشر: الانثيان، وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها. العضو الرابع عشر: الاليان، وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، والالية الناتئ المشرف على استواء الظهر والفخذ، ولا يشترط في وجوب الدية قرع العظم، واتصال الحديدة إليه، ولو قطع بعض إحداهما، وجب قسط المقطوع إن عرف قدره وضبطه، وإلا فالحكومة، وسواء في هذا العضو الرجل والمرأة، ولا نظر إلى اختلاف القدر الناتئ، واختلاف الناس فيه كاختلافهم في سائر الاعضاء. ولو قطع أليته، فنبتت، والتحم الموضع، قال البغوي: لا تسقط الدية على المذهب. الخامس عشر: الشفران للمرأة: هما اللحمان المشرفان على المنفذ، وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، سواء فيه السمينة والمهزولة، والبكر والثيب، والرتقاء والقرناء، إذ لا خلل في نفس شفرهما، وسواء المختونة وغيرها، ولو ضرب شفريها فشلا، وجب كمال الدية، ولو قطع مع الشفرين الركب بفتح الراء والكاف وهو عانة المرأة، وجب حكومة مع الدية، وكذا لو قطع شيئا من عانة الرجل مع الذكر، ولو قطع شفري بكر، وأزال بالجناية بكارتها، وجب مع دية الشفرين(7/147)
أرش البكارة، ولو قطع شفريها، فجرح موضعهما آخر بقطع لحم وغيره، لزم الثاني حكومة. السادس عشر: الجلد، فإذا سلخ جلده، وجب كمال الدية، قال الائمة: وسلخ جميعه قاتل، لكن قد يفرض حياة مستقرة بعد، فتظهر فائدة إيجاب الدية فيه لو حز غيره رقبته، وحكى الامام عن الشيخ أبي علي أنه لو قطعت يداه بعد سلخ الجلد، توزع مساحة الجلد على جميع البدن، فما يخص اليدين يحط من دية اليدين ويجب الباقي، وعلى هذا القياس لو قطع يد رجل، ثم جاء آخر، فسلخ جلده، لزم السالخ دية الجلد إلا قسط اليدين. فصل الترقوة: هي العظم المتصل بين المنكب وتغرة النحر، ولكل شخص ترقوتان، فالمشهور من نصوص الشافعي رحمه الله في الام وغيره أن في الترقوتين حكومة، ونص في اختلاف الحديث وغيره أن فيه جملا، فقيل: قولان، القديم جمل، والجديد حكومة، وقطع الجمهور بالحكومة وهو المذهب، كالضلع وسائر العظام.
القسم الثالث : إزالة المنافع وهي ثلاثة عشر شيئا. الاول: العقل، فتجب بإزالته كمال الدية، ولا يجب فيه قصاص لعدم الامكان، ولو نقص عقله ولم تستقم أحواله، نظر، إن أمكن الضبط، وجب قسط الزائل، والضبط قد يتأتى بالزمان بأن يجن يوما، ويفيق يوما، فتجب نصف الدية، أو يوما ويفيق يومين، فيجب الثلث، وقد يتأتى بغير الزمان، بأن يقابل صواب قوله، ومنظوم فعله بالخطأ المطروح منهما، وتعرف النسبة بينهما، فيجب قسط الزائل، وإن لم يمكن الضبط، بأن كان يفزع أحيانا مما يفزع، أو يستوحش إذا خلا، وجبت حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، وذكر المتولي أن الدية إنما تجب عند تحقق الزوال بأن يقول أهل الخبرة: لا يزول العارض الحادث، أما إذا توقعوا زواله، فيتوقف في الدية، فإن مات قبل الاستقامة، ففي الدية وجهان، كما لو قلع(7/148)
سن مثغور، فمات قبل عودها. فرع ينظر في الجناية التي ذهب بها العقل، فإن لم يكن لها أرش، بأن ضرب رأسه، أو لطمه، فذهب عقله، وجبت دية العقل، وإن كان لها أرش مقدر، كالموضحة واليد والرجل أو غير مقدر كالجراحة الموجبة للحكومة، فقولان، القديم: أنه يدخل الاقل في الاكثر، فإن كانت دية العقل أكثر بأن أوضحه فزال عقله، دخل فيها أرش الموضحة، وإن كان أرش الجناية أكثر، بأن قطع يديه ورجليه، أو يديه مع بعض الذراع فزال عقله، دخل فيه دية العقل، والجديد الاظهر: لا تداخل، بل يجب دية العقل وأرش الجناية، فعلى هذا لو قطع يديه ورجليه فزال عقله، وجب ثلاث ديات، وعلى القديم تجب ديتان، وقيل: إن كان أرش الجناية بقدر الدية أو أكثر، وجب دية العقل معها قطعا، وإلا فعلى القولين، وقيل: إن لم يكن أرش الجناية مقدرا، لم يدخل في دية العقل قطعا. فرع أنكر الجاني زوال العقل ونسبه إلى التجانن، راقبناه في الخلوات والغفلات، فإن لم تنتظم أفعاله وأقواله، أوجبنا الدية ولا نحلفه، لانه يتجانن في الجواب، ولان يمينه تثبت جنونه، والمجنون لا يحلف، وإن وجدناها منظومة، صدق الجاني بيمينه، وإنما حلفناه، لاحتمال صدورها منه اتفاقا وجريا على العادة. الثاني: السمع، وفي إبطاله كمال الدية، ولو أبطله من إحدى الاذنين، وجب نصف الدية على الصحيح وبه قطع الجمهور، وقيل: يجب بقسط ما نقص(7/149)
من السمع من الدية، ولو قطع الاذن، وبطل السمع، وجب ديتان، لان السمع ليس في الاذن، ولو جنى عليه، فصار لا يسمع في الحال، لكن قال أهل الخبرة: يتوقع عوده، نظر، إن قدروا مدة، انتظرناها، فإن لم يعد، أخذت الدية، واستثنى الامام ما إذا قدروا مدة يغلب على الظن انقراض العمر قبل فراغها، وقال: الوجه أن تؤخذ الدية ولا ينتظر هذه المدة، وإن لم يقدروا مدة: أخذت الدية في الحال، فإن عاد، ردت، لانه بان أنه لم يزل، وإن قال أهل الخبرة: لطيفة السمع باقية في مقرها، ولكن ارتتق داخل الاذن بالجناية وامتنع نفوذ الصوت، ولم يتوقعوا زوال الارتتاق، فالواجب الحكومة على الاصح، وقيل: الدية، ويجري الوجهان فيما لو أذهب سمع صبي فتعطل لذلك نطقه، فإن الطفل يتدرج إلى النطق تلقيا مما يسمع أنه هل تجب دية للنطق مضمومة إلى دية السمع ؟ فرع أنكر الجاني زوال السمع، امتحن المجني عليه، بأن يصاح به في نومه وحال غفلته صياحا منكرا، وبأن يتأمل حاله عند صوت الرعد الشديد، فإن ظهر منه انزعاج واضطراب، علمنا كذبه، ومع ذلك يحلف الجاني لاحتمال أن الانزعاج بسبب آخر اتفاقي، وإن لم يظهر عليه أثر، علمنا صدقه ومع ذلك يحلف لاحتمال أنه يتجلد، وإن ادعى ذهاب سمع إحدى الاذنين، حشيت السليمة وامتحن في الاخرى على ما ذكرناه. فرع نقص سمعه من الاذنين، نظر، إن عرف قدر ما نقص، بأن علم أنه كان يسمع من موضع فصار يسمع من دونه، ضبط ما نقص، ووجب قسطه من الدية، وإن لم يعلم ولكن نقص سمعه، وثقلت أذنه، قال الاكثرون: تجب فيه حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، وذكر الامام وغيره، أنه يقدر بالاعتبار بسليم السمع في مثل سنه وصحته، بأن يجلس بجنب المجني عليه، ويؤمر من يرفع صوته، ويناديهما من مسافة بعيدة لا يسمعه واحد منهما، ثم يقرب المنادي شيئا فشيئا إلى أن يقول السليم: سمعت، فيعرف الموضع، ثم يديم المنادي ذلك الحد من رفع الصوت ويقرب إلى أن يقول المجني عليه: سمعت، فيضبط ما بينهما من(7/150)
التفاوت، وإن نقص سمعه من إحدى الاذنين، صممت العليلة، وضبط منتهى سماع الصحيحة، ثم تصمم الصحيحة، ويضبط منتهى سماع العليلة، ويجب من الدية بقسط التفاوت، وإن كذبه الجاني في دعوى انتقاص السمع، فالمصدق المجني عليه بيمينه، سواء ادعى نقصه من الاذنين أو إحداهما، لانه لاي يعرف إلا من جهته. الثالث: البصر. ففي إذهابه من العينين كمال الدية، ومن إحداهما نصفها، سواء ضعيف البصر بالعمش وغيره، والاحول والاخفش وغيرهم، ولو فقأ عينيه، لم تجب إلا دية، كقطع يديه بخلاف ما لو قطع أذنيه، وذهب سمعه، لما سبق أنه ليس السمع في الاذنين، ولو قال عدلان: إن البصر يعود، فرق بين أن يقدروا مدة، أو لا يقدروا، ويكون حكمه ما سبق في الاذنين، ولو مات المجني عليه قبل مضي تلك المدة، فلا قصاص للشبهة، وفي الدية طريقان، أحدهما: على الوجهين فيمن قلع سن غير مثغور، ومات قبل أوان النبات، والمذهب القطع بوجوبها، لان الظاهر في السن العود لو عاش بخلاف البصر، ولو قال الجاني: مات بعد عود السمع أو البصر، وقال الوارث: قبله، صدق الوارث. فرع ادعى المجني عليه زوال البصر، وأنكر الجاني، فوجهان، أحدهما وهو نصه في الام: يراجع أهل الخبرة، فإنهم إذا وقفوا الشخص في مقابلة عين الشمس، ونظروا في عينيه، عرفوا أن الضوء ذاهب أم موجود، بخلاف السمع لا يراجعون فيه إذ لا طريق لهم إليه، والثاني: يمتحن بتقريب حية، أو عقرب منه، أو حديدة من حدقته مغافصة، فإن انزعج، فالقول قول الجاني بيمينه، وإلا فقول المجني عليه بيمينه، قال المتولي: الامر إلى خبرة الحاكم، إن أراد مراجعتهم،(7/151)
فعل، وإن أراد امتحانه فعل، وإذا روجع أهل الخبرة، فشهدوا بذهاب البصر، فلا حاجة إلى التحليف، وتؤخذ الدية بخلاف الامتحان، فإنه لا بد من التحليف بعده، ولا يقبل في ذهاب البصر إن كانت الجناية عمدا إلا شهادة رجلين، وإن كانت خطأ، قبل رجل وامرأتان، وإذا ادعى ذهاب بصر إحدى العينين، روجع أهل الخبرة، أو امتحن كما ذكرنا في العينين. فرع إذا نقص ضوء العينين ولم يذهب، فإن عرف قدره، بأن كان يرى الشخص من مسافة، فصار لا يراه إلا من بعضها، وجب من الدية قسط الذاهب، وإن لم يعرف، فعلى الخلاف في السمع، قال الاكثرون: تجب حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، ولا يعتبر تغيره لاختلاف الناس في الادراك. عن الماسرجسي قال: رأيت صيادا يرى الصيد على فرسخين. وإن نقص ضوء إحدى العينين، عصبت العليلة، وأطلقت الصحيحة، ووقف شخص في موضع يراه، ويؤمر أن يتباعد حتى يقول: لا أراه، فتعرف المسافة، ثم تعصب الصحيحة وتطلق العليلة، ويؤمر الشخص بأن يقرب راجعا إلى أن يراه، فيضبط ما بين المسافتين، ويجب قسطه من الدية، ثم إنه متهم في هذا الضبط بالزيادة في الصحيحة، وبالنقص في العليلة، فلا يؤمن كذبه، فيمتحن في قوله أبصر في الصحيحة، بأن تغير ثياب الشخص الذي يبعد ويقرب، ويسأل عنها، فينظر، أيصيب أم لا، وأما في العليلة فقيل: يحلف أنه لا يبصر فوق ذلك، وقال الاكثرون: يمتحن بأن تضبط تلك الغاية ويؤمر الشخص بأن ينتقل إلى سائر الجهات والمجني عليه بأن يدور، فإن توافقت الغاية من الجهات صدقناه، وإلا كذبناه، ويجري مثل هذا الامتحان في نقصان سمع إحدى الاذنين، فيمتحن في قوله: أسمع بالصحيحة، بأن يغير المنادي نداءه وكلامه، وينظر، هل يقف عليه المجني عليه، وفي قوله: لا أسمع بالعليلة، بأن(7/152)
ينتقل المنادي إلى سائر الجهات، وإذا عرف تفاوت مسافتي الابصار، فالواجب القسط، فإن أبصر بالصحيحة من مائتي ذراع، وبالعليلة من مائة ذراع، فموجبه التنصيف، لكن لو قال أهل الخبرة: إن المائة الثانية تحتاج إلى مثلي ما تحتاج إليه المائة الاولى لقرب الاولى وبعد الثانية، وجب ثلثا دية العليلة، قال الشافعي رحمه الله: وما أرى ذلك يضبط. فرع الاعشى الذي يبصر بالنهار دون الليل فيه كمال الدية، وفي التهذيب أنه لو جني عليه، فصار أعشى، لزمه نصف الدية، ولو عشيت إحدى عينيه بالجناية، لزمه ربع الدية، ومقتضى هذا إيجاب نصف الدية إذا جنى على الاعشى، فأذهب بصره، وكذا من يبصر بالليل دون النهار. فرع شخصت عينه بجناية، أو صار أعمش أو أحول، وجبت حكومة. فرع ذهب ضوء عينه بجناية، وقلع آخر الحدقة، فقال: قلعت قبل عود الضوء، وقال الاول: بل بعده، صدق الثاني، فلو صدق المجني عليه الاول، برئ الاول، ويحلف الثاني وعليه حكومة. الرابع: الشم، وفي إزالته بالجناية على الرأس وغيره كمال الدية على الصحيح المشهور، وحكي وجه وقول أن واجبه الحكومة، وهو ضعيف، فلو أذهب شم أحد المنخرين، فنصف الدية، ولو سد المنفذ فلم يدرك الروائح، وقال أهل الخبرة: القوة باقية: فليكن كما سبق في السمع، وإذا أنكر الجاني ذهاب الشم، امتحن المجني عليه بتقريب ماله رائحة حادة منه، طيبة وخبيثة، فإن هش للطيبة وعبس للمنتن، صدق الجاني بيمينه، وإن لم يظهر عليه أثر، صدق المجني عليه بيمينه، وإن نقص الشم، نظر، إن علم قدر الذاهب، وجب قسطه من الدية، وإن لم يعلم، وجبت حكومة يقدرها الحاكم بالاجتهاد، ولم يذكروا هنا الامتحان بمن هو في مثل شمه، ولا يبعد طرده هنا، وإن نقص شم أحد المنخرين، فيمكن أن يعتبر بالجانب الآخر، ولم يذكروه، ولعلهم اكتفوا بالمذكور في السمع(7/153)
والبصر، وإذا ادعى النقص وأنكر الجاني، صدق المجني عليه بيمينه، لانه لا يعرف إلا منه. قال الامام: وينبغي أن يعين المجني عليه قدرا يطالب به، وإلا فهو مدع مجهولا، وطريقه في نفسه أن يطلب الاقل المتيقن، ولو أخذ دية الشم وعاد، وجب ردها، ولو وضع يده على أنفه عند رائحة منكرة، فقال الجاني: فعلت ذلك لعود شمك، وأنكر المجني عليه، صدق المجني عليه بيمينه، لانه قد يفعله اتفاقا، ولا متخاط، وبفكر ورعاف وغيرها. الخامس: النطق، فإذا جنى على لسانه فأبطل كلامه، وجب كمال الدية، وإنما تؤخذ الدية إذا قال أهل الخبرة: لا يعود نطقه، فإن أخذت فعاد، استردت، ولو ادعى ذهاب النطق، وأنكر الجاني، قال المتولي: يفزع في أوقات الخلوة، وينظر، هل يصدر منه ما يعرف به كذبه، فإن لم يظهر شئ، حلف كما يحلف الاخرس، ووجبت الدية، ولو بطل بالجناية بعض الحروف، وزعت الدية عليها، سواء ما خف منها على اللسان وما ثقل، والحروف مختلفة في اللغات، فكل من تكلم بلغة، فالنظر عند التوزيع إلى حروف تلك اللغة، فلو تكلم بلغتين، فبطل بالجناية حروف من هذه وحروف من تلك، فهل توزع على أكثرهما حروفا أم على أقلهما ؟ وجهان، ثم في الحروف الموزع عليها وجهان، أصحهما وبه قال الاكثرون، وهو ظاهر النص: أن التوزيع يكون على جميعها، وهي ثمانية وعشرون حرفا في اللغة العربية، فإن ذهب نصفها، وجب نصف الدية، وإن ذهب حرف فأكثر، وجب لكل حرف سبع ربع الدية، والثاني قاله الاصطخري: لا يدخل في التوزيع الحروف الشفهية، وهي الباء والفاء والميم والواو، ولا الحلقية وهي الهاء والهمزة، والعين والحاء، والغين والخاء، وإنما التوزيع على الحروف الخارجة من اللسان وهي ما عدا المذكورات، هذا إذا ذهب بعض الحروف، وبقي في البقية(7/154)
كلام مفهوم، فأما إذا لم يبق في البقية كلام مفهوم، فوجهان، أحدهما: يجب كمال الدية، قاله أبو إسحق والقفال، وجزم به البغوي، وذكر الروياني أنه المذهب، والثاني: لا يلزمه إلا قسط الحروف الفائتة، قال المتولي: وهو المشهور، ونصه في الام: ولو ضرب شفتيه، فأذهب الحروف الشفهية، أو رقبته، فأذهب الحروف الحلقية، قال المتولي: إن قلنا بقول الاصطخري، وجبت الحكومة فقط، وإن قلنا بقول الاكثرين، وجب قسط الذاهب من جميع الحروف، وذكر ابن كج أنه لو قطع شفتيه، فأذهب الباء والميم، فقال الاصطخري: يجب مع دية الشفتين أرش الحرفين، وقال ابن الوكيل: لا يجب غير الدية، كما لو قطع لسانه فذهب كلامه، لا يجب إلا الدية. فرع جنى على لسانه فصار يبدل حرفا بحرف، وجب قسط الحرف الذي أبطله، ولو ثقل لسانه بالجناية، أو حدثت في كلامه عجلة، أو تمتمة، أو فأفأة، أو كان ألثغ، فزادت لثغته، فالواجب الحكومة لبقاء المنفعة. فرع من لا يحسن بعض الحروف كالارت والالثغ الذي لا يتكلم إلا بعشرين حرفا مثلا، إذا أذهب كلامه وجهان، أصحهما: يجب كمال الدية، فعلى هذا لو أذهب بعض الحروف، وزع على ما يحسنه، لا على الجميع، والثاني: لا يجب إلا قسطها من جميع الحروف، وفي بعضها بقسطه من الجميع، فعلى هذا لو كان يقدر على التعبير عن جميع مقاصده لفطنته واستمداده من اللغة، لم تكمل الدية أيضا على الاصح، لان قدرته لحذقه لا بالكلام، هذا إذا كان نقص حروفه خلقة، أو حدث بآفة سماوية، فلو حدث بجناية، فالمذهب أنه لا تكمل الدية، لئلا يتضاعف الغرم في القدر الذي أبطله الجاني الاول. فرع في الجناية على محل ناقص المنفعة أو الجرم، أما المنافع التي لا(7/155)
تتقدر تقدر النطق بالحروف كالبطش والبصر، فإن كان النقص فيها بآفة، فلا اعتبار به، ويجب على من أبطلها الدية الكاملة، وكذا من قطع العضو الذي هو محل تلك ا لمنفعة، لانه لا ينضبط ضعفها وقوتها، وإن كان النقص بجناية، فأوجه، أصحها: لا تكمل الدية بل يحط منها قدر الحكومة التي غرمها الاول عن مبطل المنفعة الناقصة لتجانس جنايته وجناية الاول، وأما الاجرام، فإن كان لما نقص أرش مقدر لزم الثاني دية يحط منها أرش ما نقص، سواء حصل النقص بآفة أم بجناية، فلو سقطت أصبعه، أو أنملته بآفة، ثم قطعت يده، حط من دية اليد أرش الاصبع أو الانملة، ولو جرح رأسه متلاحمة، فجعلها آخر موضحة، لزم الثاني أرش موضحة يحط منه واجب المتلاحمة، سواء قدرنا واجبها، أم أوجبنا فيها الحكومة، ولو التأمت المتلاحمة، واكتسى موضعها بالجلد لكن بقي غائرا، فأوضح فيه آخر، فالصحيح أن حكم ذلك الجرح قد سقط، وعلى من أوضح أرش كامل، أما إذا لم يكن لما نقص أرش مقدر، كفلقة تنفصل من لحم الانملة، فإن لم تؤثر في المنفعة، لم تنقص به الدية، وإن وجب فيه حكومة للشين، وسواء حصل ذلك بآفة أم بجناية وإن أثر في المنفعة، فإن حصل بآفة لم تنقص الدية، وإن حصل بجناية، ففيه احتمالان للامام، أقربهما: يحط عن الثاني قدر حكومة الاول. فصل نزل العلماء النطق في اللسان منزلة البطش في اليد والرجل، فقالوا: إذا استأصل لسانه بالقطع وأبطل كلامه، لم يلزمه إلا دية واحدة، ولو قطع عذبة اللسان، وبطل الكلام، فكذلك، كما لو قطع أصبعا من اليد فشلت، ولو قطع بعض اللسان، فذهب بعض الكلام، نظر، إن تساوت نسبة جرم اللسان والكلام، بأن قطع نصف لسانه، فذهب نصف كلامه، وجب نصف الدية، وإن اختلفت بأن قطع الربع فذهب نصف الكلام أو عكسه، وجب نصف الدية قطعا، واختلفوا في علته، فقال الجمهور: اللسان مضمون بالدية ومنفعته أيضا كذلك، فوجب أكثرهما، وقال أبو إسحق: الاعتبار بالجرم، لانه الاصل وفيه تقع الجناية، قال: وإنما وجب نصف الدية في قطع ربعه إذا ذهب نصف الكلام، لانه قطع ربعا، وأشل ربعا، وتظهر فائدة الخلاف في صور، إحداها: قطع نصفه، فذهب(7/156)
ربع الكلام، واستأصل آخر الباقي، فعلى قول الاكثرين يلزم الثاني ثلاثة أرباع الدية، وعلى قول أبي إسحق نصفها، الثانية: قطع ربعه، فذهب نصف الكلام، واستأصله آخر، فعند الاكثرين يلزم الثاني ثلاثة أرباع الدية، وعند أبي إسحق نصف الدية وحكومة، لانه قطع نصفا صحيحا وربعا أشل، الثالثة: ذهب نصف الكلام بجناية على اللسان من غير قطع منه، ثم قطعه آخر، فيلزم الثاني عند الاكثرين دية كاملة، وعنده نصفها وحكومة، لان نصف اللسان صحيح ونصفه أشل لذهاب نصف الكلام. فرع رجلان قطع من أحدهما نصف لسانه وذهب ربع كلامه، ومن الآخر نصف لسانه وذهب نصف كلامه، فقطع الاول النصف الباقي من الثاني، لا يقتص منه، وإن أجرينا القصاص في بعض اللسان لنقص المجني عليه. فرع قطع نصف لسانه، فذهب نصف كلامه، فاقتص من الجاني، فلم يذهب إلا ربع كلامه، فللمجني عليه ربع الدية ليتم حقه، وإن ذهب من المقتص منه ثلاثة أرباع كلامه، فلا شئ على المجني عليه، لان سراية القود مهدرة. فرع عود الكلام بعد أخذ الدية، كعود السمع. فرع من لا يتكلم بحرف إذا ضرب لسانه فنطق بذلك الحرف وفات حرف آخر، يجب قسط الفائت ولا ينجبر، وهل يوزع على الحروف وفيها الحرف المستفاد أم عليها قبل الجناية ؟ قال الامام: هذا موضع نظر، ولك أن تقول: ليبن على الخلاف فيمن يحسن بعض الحروف وله كلام مفهوم إذا أبطل بالجناية بعض ما يحسنه، هل التوزيع على ما يحسنه أم على الجميع ؟ فإن قلنا بالثاني، دخل المستفاد، وإلا فلا. فرع في لسانه عجلة واضطراب، فضرب فاستقام، فلا شئ على الضارب.(7/157)
فرع قطع بعض لسانه، ولم يبطل به شئ من كلامه، هل تجب الحكومة أم قسط المقطوع من الدية ؟ وجهان، أصحهما: الحكومة، القسط للزم إيجاب الدية الكاملة في لسان الاخرس. السادس: الصوت، فإذا جنى على شخص، فأبطل صوته، وبقي اللسان على اعتداله، ويمكنه من التقطيع والترديد، لزمه لابطال الصوت كمال الدية، فإن أبطل معه حركة اللسان حتى عجز عن التقطيع والترديد، فوجهان، أرجحهما: يجب ديتان، لانهما منفعتان في كل واحدة إذا أفردت كمال الدية، والثاني: يجب دية فقط، فإن قلنا: ديتان، وكانت حركة اللسان باقية فقد تعطل النطق بسبب فوات الصوت، فيجئ الخلاف السابق في أن تعطل المنفعة هل هو كزوالها ؟ فإن قلنا: نعم، وجب ديتان، وإلا فدية. السابع: الذوق، وفي إبطاله كمال الدية، وقد يبطل بجناية على اللسان أو الرقبة أو غيرهما، والمدرك بالذوق خمسة أشياء: الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والعذوبة، والدية تتوزع عليها، فإذا أبطل إدراك واحد، وجب خمس الدية، ولو نقص الاحساس فلم يدرك الطعوم على كمالها، فالواجب الحكومة، وإذا اختلفا في ذهاب الذوق، جرب بالاشياء المرة أو الحامضة الحادة، فإن ظهر منه تعبس وكراهة، صدقنا الجاني بيمينه، وإلا فالمجني عليه، ولو ضربه ضربة زال بها ذوقه ونطقه، وجب ديتان.(7/158)
الثامن: المضغ، وفي إبطاله كمال الدية، ولابطاله طريقان، أحدهما: أن يصلب مغرس اللحيين حتى تمتنع حركتهما مجيئا وذهابا، والثاني: أن يجني على الاسنان، فيصيبهما خدر، وتبطل صلاحيتهما للمضغ. التاسع والعاشر والحادي عشر: الامناء والاحبال والجماع، فإذا كسر صلبه، فأبطل قوة إمنائه، وجب كمال الدية، ولو قطع انثييه، فذهب ماؤه، لزمه ديتان، وكذا لو أبطل من المرأة قوة الاحبال، لزمه ديتها، ولو جنى على ثديها، فانقطع لبنها، لزمه حكومة، فإن نقص، وجبت حكومة تليق به، وإن لم يكن لها لبن عند الجناية، ثم ولدت ولم يدر لها لبن، وامتنع به الارضاع، وجبت حكومة إذا قال أهل الخبرة: إن الانقطاع بجنايته، أو جوزوا أن يكون هو سببها، وللامام احتمال أنه تجب الدية بإبطال الارضاع، ولو جنى على صلبه، فذهب جماعه، وجبت الدية، لان المجامعة من المنافع المقصودة، ولو ادعى ذهابه، فأنكر الجاني، صدق المجني عليه بيمينه، لانه لا يعرف إلا منه، ثم إنهم صوروا ذهاب الجماع فيما إذا لم ينقطع ماؤه وبقي ذكره سليما، وذكروا أنه لو كسر صلبه، وأشل(7/159)
ذكره، فعليه دية الذكر وحكومة لكسر الصلب، وإذا كان الذكر سليما، كان الشخص قادرا على الجماع حسا، فأشعر ذلك بأنهم أرادوا بذهاب الجماع بطلان الالتذاذ به والرغبة فيه، ولذلك صور الامام والغزالي المسألة في إبطال شهوة الجماع مع أن الامام استبعد ذهاب الشهوة مع بقاء المني. فرع لو جنى على عنقه، فلم يمكنه ابتلاع الطعام إلا بمشقة لالتواء العنق أو غيره، لزمه حكومة، فلو لم ينفذ الطعام والشراب أصلا لانسداد المنفذ، فلا يعيش المجني عليه والحالة هذه ولم تزد طائفة من الاصحاب على أنه إن ساغ الطعام والشراب، فحكومة، وإن مات، فالدية، ونقل الامام والغزالي أن نفس الجناية المفضية إلى الانسداد توجب الدية حتى لو حز غيره رقبته وفيه حياة مستقرة، لزم الاول دية، ولو مات بامتناع نفوذ الطعام والشراب، قال الامام: إن قلنا: من قطع يدي رجل ورجليه ثم حز رقبته، تلزمه دية فقط، فكذا هنا، وإن قلنا: هناك ديتان، فيحتمل هنا دية ويحتمل ديتان. الثاني عشر: إفضاء المرأة، وفيه كمال دية، وهو رفع الحاجز بين مسلك الجماع والدبر على الاصح، وقيل: رفع الحاجز بين مسلك الجماع ومخرج البول، قال المتولي: الصحيح أن كل واحد منهما إفضاء موجب للدية، لان الاستمتاع يختل بكل واحد منهما، ولان كل واحد منهما يمنع إمساك الخارج من أحد السبيلين، فعلى هذا لو أزال الحاجزين، لزمه ديتان، وتختلف الدية الواجبة بالافضاء خفة وغلظا باختلاف حال الافضاء، فقد يكون عمدا محضا، بأن تكون المرأة ضعيفة أو نحيفة، والغالب إفضاء وطئها إلى الافضاء، وقد يكون عمد خطإ، بأن لا يتضمن وطؤها الافضاء غالبا، وقد يكون خطأ محضا، بأن يجد امرأة على فراشه، فيظنها امرأته التي عهدها، فيطؤها فيفضيها، هذا إذا حصل الافضاء بالوطئ، ولا فرق في الدية بينه وبين أن يحصل بأصبع أو خشبة أو شئ محدد، وإذا أفضاها، فصار بولها يسترسل ولا يستمسك، لزمه مع الدية حكومة الشين، وقيل: لا حكومة وهو(7/160)
ضعيف، وسواء في وجوب الدية بالافضاء الحاصل بالوطئ، الزوج والواطئ بشبهة والزاني، ويستقر المهر على الزوج بالوطئ المتضمن للافضاء، ويجب به مهر المثل على الواطئ بشبهة، وكذا على الزاني إن كانت مكرهة وعليه الحد. فصل لبكارة المرأة حالان، أحدهما: أن يزيلها من لا يستحق افتضاضها، فإن أزالها بغير آلة الجماع، كالاصبع والخشبة، لزمه أرش البكارة، والمراد الحكومة المأخوذة من تقدير الرق كما سيأتي في بيان الحكومة إن شاء الله تعالى، وهل يكون جنس الواجب من الابل، أم من نقد البلد ؟ وجهان، أصحهما: الابل على قاعدة الجناية على الاحرار، ولو أزالت بكر بكارة أخرى، اقتصت منها، وإن أزالها بآلة الجماع، فإن طاوعته المرأة فلا أرش كما لا مهر، وإن كانت مكرهة أو كان هناك شبهة نكاح فاسد أو غيره فوجهان، أصحهما وهو المنصوص: أنه يجب مهر مثلها ثيبا وأرش البكارة، والثاني: يجب مهر مثلها بكرا، فإن أفردنا الارش عاد الوجهان في أن جنسه الابل أم النقد. الحال الثاني: أن يزيلها مستحق الافتضاض، وهو الزوج، فإن أزالها بآلة الجماع، فقد استوفى حقه، وإن أزالها بغيره، فوجهان، أصحهما: لا شئ عليه، لانه حقه وإن أخطأ في طريقه، والثاني: يلزمه الارش، ثم من افتض، وألزمناه أرش البكارة، فلو أفضاها مع الافتضاض، ففي دخول أرش البكارة في دية الافضاء وجهان، أصحهما: الدخول، لان الدية والارش تجبان للاتلاف، فدخل أقلهما في أكثرهما بخلاف المهر، فإنه يجب للاستمتاع، فلا يدخل في بدل الاتلاف، كما لو تحامل على الموطوءة، فكسر رجلها، لا يدخل المهر في دية الرجل. فصل إذا كانت الزوجة لا تحتمل الوطئ إلا بالافضاء، لم يجز للزوج(7/161)
وطؤها، ولا يلزمها تمكينه، ثم قال الغزالي: إن كان سببه ضيق المنفذ بحيث يخالف العادة، فللزوج خيار الفسخ، كالرتق، وإن كان سببه كبر آلته بحيث يخالف العادة، فلها الخيار، كما في الجب، والذي قاله الاصحاب: إنه لا فسخ بذلك مطلقا بخلاف الجب والرتق، فإنهما يمنعان الوطئ مطلقا، ويشبه أن يفصل فيقال: إن كانت نحيفة لو وطئها الزوج لافضاها، لكن لو وطئها نحيف احتملته، فلا فسخ، وإن كان ضيق المنفذ بحيث يفضيها أي شخص وطئها، فهذا كالرتق، وينزل ما قاله الاصحاب على الاول، وما قاله الغزالي على الثاني. فرع إذا التأم الجرح بعد الافضاء، سقطت الدية وعليه الحكومة إن بقي أثر، كما لو عاد ضوء العين، وفي وجه لا تسقط، كما لو التحمت الجائفة. فرع لو أفضى الخنثى المشكل، قال في البيان: إن قلنا: الافضاء رفع الحاجز بين منفذ البول ومدخل الذكر، لم تجب الدية، وإن قلنا: رفع الحاجز بين القبل والدبر، فوجهان، ولو أزيلت البكارة من فرج المشكل وجبت حكومة جراحة، ولا تعتبر البكارة، لانا لا نتحقق كونه فرجا. الثالث عشر: البطش والمشي، ففي كل واحد منهما كمال الدية، فإذا ضرب يديه فشلتا، لزمه الدية، ولو ضرب أصبعه فشلت، لزمه دية أصبع، ولو ضرب صلبه فبطل مشيه ورجله سليمة، وجبت الدية، ولا تؤخذ الدية حتى تندمل، فإن انجبر وعاد مشيه كما كان، فلا دية وتجب الحكومة إن بقي أثر، وكذا إن نقص مشيه، بأن احتاج إلى عصا، أو صار يمشي محدودبا، ولو كسر صلبه، وشلت رجله، قال المتولي: يلزمه دية لفوات المشي، وحكومة لكسر الظهر، بخلاف ما إذا كانت الرجل سليمة لا يجب مع الدية حكومة، لان المشي منفعة في الرجل، فإذا شلت الرجل ففوات المنفعة لشلل الرجل، فأفرد كسر الصلب بحكومة، أما إذا كانت سليمة، ففوات المشي لخلل الصلب، فلا يفرد بحكومة، ويوافق هذا ما ذكره ابن الصباغ، أنه لو كسر صلبه فشل ذكره، تجب حكومة الكسر ودية الشلل(7/162)
الذكر، وفي هذا تصريح بأن مجرد الكسر لا يوجب الدية، وإنما تجب الدية إذا فات به المشي، أو الماء أو الجماع كما سبق، وإذا ادعى ذهاب المشي، فكذبه الجاني، امتحن، بأن يقصد بالسيف في غفلته، فإن تحرك ومشى، علمنا كذبه، وإلا فيحلف ويأخذ الدية، ولو أذهب كسر الصلب مشيه ومنيه، أو مشيه وجماعه، وجبت ديتان على الاصح، وقيل: دية. فصل قد ذكرنا الديات في الجروح والاعضاء والمنافع مفصلة، فيجوز أن تجتمع في شخص ديات كثيرة، بأن تزال منه أعضاء ومنافع، ولا يسري إلى النفس، بل تندمل، وهذا بيان الديات. الاذنان، أو إبطال إحساسهما، العينان أو البصر، الاجفان، المارن، الشفتان، اللسان أو النطق، الاسنان، اللحيان، اليدان، الرجلان، الذكر، الانثيان أو الحلمتان والشفران، الاليان، العقل، السمع، الشم، الصوت، الذوق، المضغ، الامناء أو الاحبال، إبطال لذة الجماع، إبطال لذة الطعام، الافضاء في المرأة، البطش، المشي، وقد يضاف إليها المواضح وسائر الشجات، والجوائف والحكومات، فيجتمع شئ كثير لا ينحصر، فإذا اندملت هذه الجراحات، وجب جميع هذه الديات، وإن سرت فمات منها، وجب دية واحدة بلا خلاف، ولو عاد الجاني، فحز رقبة المجروح. أو قده نصفين، فإن كان ذلك بعد الاندمال، وجبت دية الاطراف ودية النفس لاستقرار دية الاطراف بالاندمال، وإن كان قبل الاندمال، فوجهان، الاصح المنصوص: أنه لا يجب إلا دية النفس، كالسراية، والثاني خرجه ابن سريج، وبه قال الاصطخري، واختاره الامام: تجب ديات الاطراف مع دية النفس، هذا إذا(7/163)
اتفقت الجناية على النفس والاطراف في العمد أو الخطإ، فأما إذا كانت إحداهما عمدا، والاخرى خطأ، وقلنا بالتداخل عند الاتفاق، فهنا وجهان، أحدهما: التداخل أيضا، وأصحهما: لا، لاختلافهما واختلاف من يجنيان عليه، فلو قطع يده خطأ، ثم حز رقبته قبل الاندمال عمدا، فللولي قتله قصاصا وليس له قطع يده، فإن قتله قصاصا، فإن قلنا بالتداخل، وجعلنا الحكم للنفس، فلا شئ له من الدية، وإن قلنا: لا تداخل، أخذ نصف الدية من العاقلة لليد، وإن عفا عن القصاص، فإن قلنا بالتداخل، فوجهان، أحدهما: يجب دية نصفها مخففة على العاقلة، ونصفها مغلظة على الجاني، وينسب هذا إلى النص، وأصحهما وبه قطع البغوي: يجب دية مغلظة على الجاني، لان معنى التداخل إسقاط بدل الطرف والاقتصار على بدل النفس لمصير الجناية نفسا، وإن قلنا: لا تداخل، وجب نصف دية مخففة على العاقلة، ودية مغلظة عليه، وإن قطع يده عمدا، ثم حز رقبته خطأ قبل الاندمال، فللولي قطع يده، وإذا قطعها إن قلنا بالتداخل، فله نصف الدية المخففة، لانه أخذ بالقطع نصف بدل النفس، وإن قلنا: لا تداخل، فله كمال الدية المخففة، وإن عفا عن القطع، فإن قلنا بالتداخل، فعلى الوجهين، على النص يجب نصف دية مخففة، ونصف مغلظة لليد، وعلى الآخر دية مخففة للنفس، قال الامام: ولو قطع يديه ورجليه أو أصبعه عمدا، ثم حز رقبته قبل الاندمال خطأ أو بالعكس، وقلنا: تراعى صفة الجنايتين على القول بالتداخل، تنصفت تخفيفا وتغليظا، ولا نظر إلى أقدار أروش الاطراف، لان الحكم بالتداخل مبني على أن الحز بعد قطع الاطراف كسراية الاطراف، فكان الحز مع الجراحات السابقة، كجراحات مؤثرة في الزهوق انقسمت عمدا وخطأ، وحينئذ تتنصف الدية تخفيفا وتغليظا ولا نظر إلى أقدار الاروش.
الباب الثالث : في بيان الحكومات والجناية على الرقيق فيه طرفان:
الأول : في الحكومة وهي جزء من الدية نسبته إليها نسبة ما تقتضيه الجناية من قيمة المجني عليه على تقدير تقويمه رقيقا، فيقوم المجني عليه بصفاته التي هو(7/164)
عليها لو كان عبدا، وينظر كم نقصت الجناية من قيمته، فإن قوم بعشرة دون الجناية، وبتسعة بعد الجناية، فالتفاوت العشر، فيجب عشر دية النفس، وقيل: عشر دية العضو الذي جني عليه، والصواب الاول وبه قطع الجمهور، وتكون الحكومة من جنس الابل، ثم إن كانت الجناية على عضو له أرش مقدر، نظر، إن لم تبلغ الحكومة أرش ذلك العضو، وجبت بكمالها، وإن بلغته، نقص الحاكم شيئا منه بالاجتهاد، قال الامام: ولا يكفي حط أقل ما يتمول فحكومة الانملة العليا بجرحها، أو قلع ظفرها ينقص عن أرش الانملة، والجناية على الاصبع إذا أتت على طولها لا تبلغ حكومتها أرش الاصبع، وعلى الرأس لا تبلغ حكومتها أرش الموضحة، وعلى البطن لا تبلغ أرش الجائفة، وحكومة جرح الكف لا تبلغ دية الاصابع الخمس، وكذا حكومة قطع الكف التي لا أصبع عليها، وكذا حكم القدم، وهل يجوز أن تبلغ دية اليد، الصحيحة ويجوز أن تبلغ دية أصبع، وأن نزيد عليها ؟ وجهان: أصحهما: نعم، لان منفعتها دفعا واحتواء تزيد على منفعة أصبع، وكما أن دية اليد الشلاء لا تبلغ دية اليد، ويجوز أن تبلغ دية أصبع، وأن تزيد عليها، أما إذا كانت الجراحة على عضو ليس له أرش مقدر، كالظهر والكتف والفخذ، فيجوز أن تبلغ حكومتها دية عضو مقدر، كاليد والرجل، وأن تزاد عليه، وإنما تنقص عن دية النفس، وعد المتولي والبغوي من هذا القبيل الساعد والعضد، فيجوز أن تبلغ حكومة جرح أحدهما دية الاصابع الخمس، وأن يزاد عليها، وسوى الغزالي بينهما وبين الكف، والاول أصح، فإن الكف هي التي تتبع الاصابع دون الساعد والعضد.(7/165)
فصل إنما يقوم لمعرفة الحكومة بعد اندمال الجراحة، ونقصان القيمة حينئذ قد يكون لضعف ونقص في المنفعة، وقد يكون لنقص الجمال باعوجاج، أو أثر قبيح، أو شين من سواد وغيره، فلو اندملت الجراحة ولم يبق نقص في منفعة ولا في جمال ولم تنقص القيمة، فوجهان أحدهما وينسب إلى ابن سريج: لا شئ عليه سوى التعزير، كما لو لطمه، أو ضربه بمثقل، فزال الالم، ولم ينقص منفعة ولا جمال، وأصحهما عند الاكثرين، وبه قال أبو إسحق، وهو ظاهر النص: أنه لا بد من وجوب شئ، فعلى هذا وجهان، أحدهما: يقدر الحاكم شيئا باجتهاده بأن ينظر إلى خفة الجناية وفحشها في المنظر سعة أو غوصا وقدر الآلام المتولدة، وأصحهما: أنه ينظر إلى ما قبل الاندمال من الاحوال التي تؤثر في نقص القيمة ويعتبر أقربها إلى الاندمال، فإن لم يظهر نقص إلا في حال سيلان الدم، ترقبنا واعتبرنا القيمة والجراحة السائلة، فإن فرضت الجراحة خفيفة لا تؤثر في تلك الحالة أيضا، ففي الوسيط أنا نلحقها باللطم والضرب للضرورة، وفي التتمة أن الحاكم يوجب شيئا بالاجتهاد، ولو قطع أصبعا أو سنا زائدة أو أتلف لحية امرأة، وأفسد منبتها، ولم تنقص القيمة بذلك، وربما زادت لزوال الشين، فهل يجب شئ ؟ فيه الوجهان في أصل المسألة، فإن أوجبنا، فهو الاصح، فقيل: يجتهد الحاكم فيه، والاصح: أنه يعتبر في قطع الاصبع الزائدة أقرب أحوال النقص من الاندمال كما سبق، وفي السن يقوم وله سن زائدة نابتة فوق الاسنان ولا أصلية خلفها، ثم يقوم مقلوع تلك الزائدة، ويظهر التفاوت، لان الزائدة تسد الفرجة ويحصل بها نوع جمال، وفي لحية المرأة تقدر كونها لحية عبد كبير يتزين باللحية، ولو قطع أنملة لها شعبتان، أصلية وزائدة، قدر الحاكم للزائدة شيئا بالاجتهاد، ولو ضربه بسوط أو غيره أو لطمه ولم يظهر أثر، لم يتعلق به ضمان، فإن اسود أو اخضر وبقي الاثر بعد الاندمال، وجبت الحكومة، فإن زال الاثر بعد أخذ الحكومة، وجب ردها وضبطت(7/166)
هذه الصور بأن قيل: إذا بقي أثر الجناية من ضعف أو شين، وجبت الحكومة، وإن لم يبق أثر والجناية ضرب ونحوه، فلا شئ، وإن كانت جرحا، فوجهان. فرع كسر عظما في غير الرأس والوجه، وعاد بعد الكسر مستقيما، فإن بقي فيه ضعف وخلل وهو الغالب، وجبت الحكومة، وإلا فعلى الوجهين، وإذا كان مع الضعف اعوجاج، كانت الحكومة أكثر، وليس للجاني كسره ثانيا ليجبر مستقيما، ولو فعل، لم تسقط الحكومة الاولى، وتجب للكسر الثاني حكومة أخرى، لانها جناية جديدة. فرع إزالة الشعور من الرأس وغيره، بحلق أو غيره، من غير إفساد المنبت، لا يجب بها حكومة أصلا بلا خلاف، لان الشعر يعود. فصل إذا كان للجراحة أرش مقدر، كالموضحة، فالشين حواليها يتبعها ولا يفرد بحكومة، هذا إذا كان الشين في محل الايضاح، فلو أوضح رأسه، واتسع الشين حتى انتهى إلى القفا، فوجهان لتعديه محل الايضاح وهل المتلاحمة كالموضحة في استتباع الشين، إذا قدرنا أرشها بالنسبة إلى الموضحة ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وإن لم يكن للجراحة أرش مقدر، فقد سبق أن ما دون الموضحة من جراحات الرأس إذا أمكن تقديرها موضحة على الرأس يجب فيها أكثر الامرين من قسط أرش الموضحة والحكومة على قول الاكثرين، والجراحات على البدن إن أمكن تقديرها بالجائفة، بأن كان بقربها جائفة، هل تقدر بها كالتقدير بالموضحة أم الواجب فيها الحكومة لا غير ؟ وجهان، أرجحهما: الاول، وإذا عرف ذلك، فإن قدرت الجراحة بالنسبة إلى جراحة مقدرة الارش، وأوجبنا ما يقتضيه التقسيط لكونه أكثر من الحكومة، فالشين تابع له لا يفرد بحكومة كالموضحة، وإن كانت الحكومة أكثر فأوجبناها فقد وفينا حق الشين.(7/167)
فرع أوضح جبينه، وأزال حاجبه، فعليه الاكثر من أرش الموضحة وحكومة الشين وإزالة الحاجب، قاله المتولي.
الطرف الثاني : في الجناية على الرقيق قد سبق أن الواجب بقتل الرقيق قيمته بالغة ما بلغت، يستوي فيه القن والمدبر والمكاتب وأم الولد، وأما الجناية عليه فيما دون النفس، فينظر، إن كانت مما يوجب في الحر بدلا مقدرا، كالموضحة وقطع الاطراف، فقولان، أظهرهما: أن الواجب فيها جزء من القيمة، نسبته إلى القيمة كنسبة الواجب في الحر إلى الدية، والثاني: الواجب ما نقص من قيمته، ومن الاصحاب من أنكر القول الثاني وقطع بالاول، والجمهور على إثباتهما، ثم منهم من يقول: الاول منصوص، والثاني خرجه ابن سريج من قوله: لا تحمل العاقلة عبدا، فإنه جعله كالبهيمة، ومنهم من يقول: هما منصوصان، الاول جديد، والثاني قديم، وإن كانت الجناية لا توجب مقدرا في الحر، فواجبها في العبد ما نقص من القيمة بلا خلاف. إذا عرف هذا فعلى الاظهر في يد العبد نصف قيمته، وفي يديه قيمته، وفي أصبعه عشرها، وفي أنملته ثلث عشرها، وفي موضحته نصف عشرها، وعلى هذا القياس. ولو قطع ذكره وأنثييه، فعليه قيمتان، وعلى القول الآخر الواجب فيها كلها ما نقص، فإن لم تنقص القيمة بقطع الذكر والانثيين، أو زادت، فوجهان، أصحهما: لا يجب شئ، والثاني: تجب حكومة يقدرها الحاكم بالاجتهاد، أو يعتبر بما قبل الاندمال، كالوجهين فيما إذا اندملت الجراحة ولم يبق شين ولا أثر، ومنهم من قطع بالوجه الاول، ولو قطع يد عبد قيمته ألف، فعادت إلى مائتين، فعلى الاظهر يجب خمسمائة، وعلى القديم ثمانمائة، ولو عادت إلى ثمانمائة وجب على الاظهر خمسمائة، وعلى القديم(7/168)
مائتان، ولو جنى على العبد اثنان، فقطع أحدهما يده، والآخر يده الاخرى، نظر، إن وقعت الجنايتان معا، فعليهما قيمته، وإن تعاقبتا وكانت القيمة عند قطع الثاني ناقصة بسبب القطع الاول، فإن مات منهما، ففي الواجب عليهما أوجه سبقت في كتاب الصيد والذبائح، وإن وقف القطعان، نظر، إن كان قطع الثاني بعد اندمال الاول، لزم كل واحد منهما نصف قيمته قبل جنايته، فإن كانت قيمته ألفا، فصارت بالقطع الاول ثمانمائة، وبالثاني ستمائة، لزم الاول خمسمائة، والثاني أربعمائة، وإن قطع الثاني قبل الاندمال الاول، لزم الثاني نصف ما أوجبنا على الاول وهو مائتان وخمسون، لان الجناية الاولى لم تستقر وقد أوجبنا نصف القيمة فكأنه انتقص نصف القيمة، فلو قطع الواحد يدي العبد ولم يسر، فالحكم كما لو قطعه اثنان، هذا كله تفريع على الاظهر، وعلى الثاني يلزم كل قاطع ما نقص بجنايته، وإذا قطعت أطراف عبد، ثم حز رقبته، لزمه قيمة العبد ذاهب الاطراف، وبالله التوفيق. الباب الرابع في موجب الدية وحكم السحر فيه خمسة أطراف: الاول: السبب، والواجب في إهلاك النفس وما دونها، كما يجب بالمباشرة يجب بالتسبب، وقد سبق أن مراتب الشئ الذي له أثر في الهلاك ثلاث، وهي: العلة والسبب والشرط، وضابطه أن يقال: ما يحصل الهلاك عنده أو عقبه إن كان هو المؤثر في الهلاك، فهو علة للهلاك، وتتعلق به الدية لا محالة، وإن لم يكن هو المؤثر، فإن توقف تأثير المؤثر عليه، كالحفر مع التردي تعلقت به الدية أيضا، وإن لم يتوقف، لم تتعلق به الدية، بل الموت عنده اتفاقي، ثم فيه مسائل: إحداها: صفعه صفعة خفيفة، فمات، فلا ضمان للعلم بأنه لا أثر لها في الهلاك، الثانية: صاح على صبي غير مميز على طرف سطح أو بئر أو نهر، فارتعد وسقط ومات منه، وجبت الدية قطعا، ولا قصاص على الاصح، وقيل: الاظهر، ومن أوجب يدعي أن التأثر به غالب، ولو كان الصبي على وجه الارض، فمات من الصيحة، فقيل: هو كالسقوط من سطح، والاصح أنه لا ضمان، لان الموت به في غاية البعد، ولو صاح على بالغ على طرف سطح ونحوه، فسقط ومات فلا قصاص، وفي الضمان أوجه، أصحها: لا يجب، والثاني: يجب، والثالث: إن غافصه من ورائه،(7/169)
وجب، وإن صاح به من وجهه، فلا، ولو صاح على صغير فزال عقله، وجب الضمان، وإن كان بالغا، فعلى الاوجه الثلاثة، والمجنون والمعتوه، والذي تعتريه الوساوس والنائم والمرأة الضعيفة، كالصبي الذي لا يميز، والمراهق المتيقظ كالبالغ، وشهر السلاح والتهديد الشديد كالصياح، ولو صاح على صيد، فاضطرب منه الصبي على طرف السطح، وسقط، وجب الضمان، لكن الدية والحالة هذه تكون مخففة على العاقلة، وفيما إذا قصد الصبي نفسه تكون مغلظة على العاقلة، وقياس من يوجب القصاص أن تجب مغلظة على الجاني، وعن صاحب التلخيص أن الصائح إن كان محرما أو في الحرم تعلق بصيحته الضمان لتعديه، وإلا فلا، وذكر على قياسه أنه لو صاح على صبي في ملكه، لم يجب الضمان تشبيها بما لو حفر بئرا في ملكه، فسقط فيها رجل، والاصح أنه لا فرق. فرع إذا بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء، وأمر بإحضارها، فأجهضت جنينا فزعا منه، وجب ضمان الجنين، ولو كذب رجل، فأمرها على لسان الامام بالحضور، فأجهضت، فالضمان على عاقلة الرجل، ولو هددها غير الامام حاملا، وأجهضت فزعا، فليكن كالامام، لان إكراهه كإكراه الامام، ولو ماتت الحامل المبعوث إليها، أو بعث الامام إلى رجل ذكر بسوء وهدده ومات، فلا ضمان على الصحيح، لانه لا يفضي إلى الموت، وفي النهاية أنه يجب. فرع لو فزع إنسانا، فأحدث في ثيابه فأفسدها، فلا ضمان.(7/170)
الطرف الثاني: فيما يغلب إذا اجتمعت العلة والسبب أو الشرط، فحفر البئر شرط أو سبب، والتردي علة، فإذا اجتمعا، نظر، إن كانت العلة عدوانا، بأن حفر بئرا، فردي فيها غيره إنسانا، فالقصاص والضمان يتعلقان بالتردية، ولا اعتبار بالحفر معها، وإن لم تكن العلة عدوانا، بأن تخطى شخص الموضع جاهلا، فتردى فيها وهلك، فإن كان الحفر عدوانا، تعلق الضمان به، وإلا فلا ضمان. فرع وضع صبيا في مسبعة، فافترسه سبع، نظر، إن كان يقدر على الحركة والانتقال عن موضع الهلاك فلم يفعل، فلا ضمان على الواضع، كما لو فتح عرقه فلم يعصبه حتى مات، وإن كان لا يقدر على الانتقال، فلا ضمان أيضا على الاصح، وبه قطع الاكثرون، لان الوضع ليس بإهلاك ولم يوجد منه ما يلجئ السبع إليه، فإن كان الموضوع بالغا، فلا ضمان قطعا، ويشبه أن يقال: الحكم منوط بالقوة والضعف، لا بالصغر والكبر. فرع لو اتبع إنسانا بسيف، فولى المطلوب هاربا، فألقى نفسه في نار أو ماء، أو من شاهق، أو من سطح عال أو في بئر، فهلك، فلا ضمان، لانه باشر إهلاك نفسه قصدا، والمباشرة مقدمة على السبب، فلو لم يعلم بالمهلك، فوقع من غير قصد في النار أو الماء، أو من الشاهق والسطح بأن كان أعمى، أو في ظلمة الليل، أو في موضع مظلم، أو في بئر مغطاة، وجب على المتبع الضمان، ولو استقبله سبع في طريقه، فافترسه، أو لص فقتله، فلا ضمان على المتبع، بصيرا كان المطلوب أو أعمى، لانه لم يوجد من المتبع إهلاك، ومباشرة السبع العارضة كعروض القتل على إمساك الممسك، لكن لو ألجأه إليه في مضيق، وجب الضمان على المتبع، ولو انخسف به سقف في هربه، وجب الضمان على الاصح المنصوص، وهو الذي أورده العراقيون، ولو ألقى نفسه على السقف من علو، فانخسف به لثقله، فهو كما لو ألقى نفسه في ماء أو نار وما ذكرناه من سقوط الضمان عن التبع إذا ألقى المطلوب نفسه في ماء، أو نار أو من سطح قصدا، أردنا به العاقل البالغ، أما إذا كان المطلوب صبيا أو مجنونا، فيبنى على أن عمدهما(7/171)
عمد أم خطأ ؟ إن قلنا: خطأ، ضمن، وإلا فلا. فرع سلم صبي إلى سباح ليعلمه السباحة، فغرق، وجبت فيه دية شبه العمد على الصحيح، كما لو ضرب المعلم الصبي للتأديب، فهلك، وقيل: لا ضمان، كما لو وضعه في مسبعة، ويجري الخلاف فيما لو كان الولي يعلمه السباحة بنفسه فغرق، ولو أدخله الماء ليعبره به، فالحكم كما لو ختنه أو قطع يده من أكلة، فمات منه، كذا ذكره المتولي، ولو سلم بالغ نفسه، ليعلمه السباحة، ففي الوسيط أنه إن خاض معه اعتمادا على يده، فأهمله، احتمل أن يجب الضمان، والذي ذكره العراقيون والبغوي أنه لا ضمان، لانه مستقل وعليه أن يحتاط لنفسه، ولا يغتر بقول السباح.
فصل في بيان الحفر الذي هو في محل عدوان وغيره، والحفر يقع في مواضع، أحدها: إذا حفر في ملك نفسه، فلا عدوان، فلو دخل ملكه داخل بإذنه، وتردى فيه، لم يجب ضمانه إذا عرفه المالك أن هناك بئرا، أو كانت مكشوفة والداخل متمكن من التحرز، فأما إذا لم يعرفه، والداخل أعمى، أو الموضع مظلم، ففي التتمة أنه كما لو دعاه لطعام مسموم، فأكله، ولو حفر بئرا في دهليز داره، ودعا إليها رجلا، فتردى فيها، ففي الضمان قولان سبقا في أول الجنايات، أظهرهما: الوجوب، وقيل: إن كان الطريق واسعا وعن البئر معدل، فقولان، وإن كان ضيقا، فقولان مرتبان، وأولى الوجوب، وعلى هذا قياس تقديم الطعام المسموم وأطعمة فيها طعام مسموم. الموضوع الثاني: إذا حفر في موات للتملك أو للارتفاق بالاستقاء منها، فلا ضمان، لانه جائز كالحفر في ملكه. وعلى هذا يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح البئر جبار. الثالث: إذا حفر في ملك غيره، نظر إن حفر بإذن المالك فهو كحفره في ملكه، وإن حفر بغير إذنه، تعلق به الضمان، لكونه عدوانا، وتكون الدية على(7/172)
العاقلة، ولو هلك به دابة، أو مال آخر، وجب الضمان في ماله، وهل يجعل رضى المالك ببقاء البئر المحفورة كرضاه بالحفر ؟ وجهان سبقا في الغصب، أصحهما: نعم، ولو كان الحافر عبدا، فالضمان يتعلق برقبته، فلو أعتقه السيد، فضمان من يتردى بعد العتق يتعلق بالعتيق، ولو حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذن الشريك، تعلق به الضمان أيضا، لانه لا يجوز الحفر في المشترك، وإذا حفر في ملك الغير متعديا، ودخله رجل بغير إذن، فتردى فيها، ففي تعلق الضمان بالحافر وجهان، قال في البيان: لو قال المالك: حفر بإذني، لم يصدق. الرابع: إذا حفر في شارع، نظر، إن كان ضيقا يتضرر الناس بالبئر فيه، وجب ضمان ما هلك بها، سواء أذن الامام أم لا، وليس للامام الاذن فيما يضر، وإن كان لا يتضرر بها لسعة الشارع، أو انعطاف موضع البئر، نظر، إن كان الحفر لمصلحة عامة، كالحفر للاستقاء، أو لاجتماع ماء المطر، فإن أذن فيه الوالي، فلا ضمان، وإلا فالاظهر الجديد أنه لا ضمان، وأشار في القديم إلى وجوبه، وإن حفر لغرض نفسه، فإن كان بغير إذن الامام، ضمن، وإلا فلا على الاصح، وبه قطع العراقيون والمتولي والروياني، وهذا جار على ما سبق في إحياء الموات أن الاصح الذي عليه الاكثرون أنه يجوز أن يقطع الامام من الشوارع ما لا ضرر فيه، وأن للمقطع أن يبني فيه. فرع الحفر في المسجد كالحفر في الشارع، فلو بنى مسجدا في شارع لا يتضرر به المارون، جاز، فلو تعثر به إنسان أو بهيمة، أو سقط جداره على إنسان، أو مال، فأهلكه، فلا ضمان إن كان بإذن الامام، وكذا إن لم يكن بإذنه على الاظهر الجديد، ولو بنى سقف مسجد أو نصب فيه عمادا، أو طين جداره أو علق فيه قنديلا، فسقط على إنسان أو مال، فأهلكه، أو فرش فيه حصيرا، أو(7/173)
حشيشا، فزلق به إنسان، فهلك، أو دخلت شوكة منه في عينه، فذهب بها بصره، فإن جرى ذلك بإذن الامام أو متولي أمر المسجد، فلا ضمان، وإلا فلا ضمان أيضا على الجديد الاظهر ونقل البغوي عن أبي إسحق أنه إن لم يأذن أهل المحلة ضمن. قلت: قال البغوي: ومثل هذا لو وضع دنا على بابه ليشرب الناس منه، فإن وضعه بإذن الامام، لم يضمن ما تلف به، وإلا فوجهان، يعني أصحهما لا ضمان بخلاف ما لو بنى دكة على باب داره فهلك بها شئ، فإنه يضمن، لانه فعله لمصلحة نفسه. والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالتصرف في الشارع وفي ملك نفسه، والقول في التصرف في الشارع سبق بعضه في الصلح وفي إحياء الموات، ويذكر هنا بقيته إن شاء الله تعالى. المسألة الاولى: لا يجوز إشراع الاجنحة التي تضر بالمارة إلى الشارع، فلو فعل، منع وما يتولد منه من هلاك يكون مضمونا، فإن كان الجناح عاليا غير مضر، فلا منع من إشراعه، وكذا بناء الساباط العالي، لكن لو تولد منه هلاك إنسان، فهو مضمون بالدية على العاقلة، وإن هلك به مال، وجب الضمان في ماله، ولم يفرقوا بين أن يأذن الامام أم لا، ولو أشرع جناحا إلى درب منسد بغير إذن أهله، ضمن المتولد منه، وبإذن أهله لا ضمان، كالحفر في دار الغير بإذنه. الثانية: يتصرف كل واحد في ملكه بالمعروف، ولا ضمان فيما يتولد منه بشرط جريانه على العادة واجتناب الاسراف، فلو وضع حجرا في ملكه أو نصب شبكة، أو سكينا، وتعثر به إنسان فهلك، أو على طرف سطحه، فوقع على شخص، أو على مال، أو وضع عليه جرة ماء، فألقتها الريح، أو ابتل موضعها، فسقطت، فلا ضمان، وكذا لو وقف دابة في ملكه فرفست إنسانا أو بالت فأفسدت(7/174)
به ثوبا أو غيره مما هو خارج الملك، أو كان يكسر الحطب في ملكه، فأصاب شئ منه عين إنسان فأبطل ضوءها، فلا ضمان، وكذا لو حفر بئرا في ملكه فتندى جدار جاره فانهدم، أو غار ماء بئره أو حفر بالوعة فتغير ماء بئر الجار، فلا شئ عليه، لان الملاك لا يستغنون عن مثل هذا بخلاف الاشراع إلى الشارع فإنه يستغنى عنه، ولو قصر فخالف العادة في سعة البئر، ضمن، فإنه إهلاك، وليكن كذلك إذا قرب الحفر من الجدار على خلاف العادة، ويمنع من وضع السرجين في أصل حائط الجار، ولو أوقد نارا في ملكه، أو على سطحه، فطار الشرر إلى ملك الغير، فلا ضمان إلا أن يخالف العادة في قدر النار الموقدة، أو يوقد في يوم ريح عاصفة، فيكون ذلك كطرح النار في دار غيره، فيضمن، فإن عصفت الريح بغتة بعدما أوقد، فهو معذور، ولو سقى أرضه، فخرج الماء من جحر فأرة، أو شق، فدخل أرض غيره، فأفسده زرعه، فلا ضمان إلا أن يخالف العادة في قدر الماء، أو كان عالما بالجحر أو الشق، فلم يحتط. ولو حفر البئر في أرض خوارة ولم يطوها، ومثلها تنهار إذا لم تطو، كان مقصرا، كما ذكرنا في سعة البئر، ولا بد من هذا الاحتياط حيث جوزنا حفر البئر في الشارع. الثالثة: يجوز إخراج الميزاب إلى الشارع، وليكن عاليا، كالجناح، فلو سقط منه شئ، فهلك به إنسان أو مال، فقولان، القديم: لا ضمان، والجديد الاظهر: يضمن، فعلى هذا إن كان الميزاب كله خارجا بأن سمر عليه، تعلق به جميع الضمان، وإن كان بعضه في الجدار، وبعضه خارجا، فإن انكسر، فسقط الخارج، أو بعضه، تعلق به جميع الضمان أيضا، وإن انقلع من أصله، فوجهان أو قولان، أصحهما: يجب نصف الضمان، والثاني: يجب بقسط الخارج، ويكون التقسيط بالوزن، وقيل: بالمساحة، وسواء أصابه الطرف الداخل(7/175)
أو الخارج، لان الهلاك يحصل بثقل الجميع، والحكم في كيفية التضمين إذا حصل الهلاك بجناح مشروع، إما بالخارج منه، وإما بالخارج والداخل جميعا كما ذكرنا في الميزاب بلا فرق. فرع ذكر البغوي أنه لو رش ماء الميزاب على ثوب إنسان، ضمن ما ينقص. الرابعة: الجدار الملاصق للشارع إن بناه صاحبه مستويا، فسقط من غير ميل ولا استهدام وتولد منه هلاك، فلا ضمان، ولو بناه مائلا إلى ملكه، أو مال إليه بعد البناء وسقط، فلا ضمان أيضا، وإن بناه مائلا إلى الشارع، وجب ضمان ما تولد من سقوطه، وإن بناه مستويا ثم مال إلى الشارع وسقط، فإن لم يتمكن من هدمه وإصلاحه، فلا ضمان قطعا، وكذا إن تمكن على الاصح عند الجمهور، ويجري الوجهان فيما لو سقط إلى الشارع، فلم يرفعه حتى هلك به إنسان، أو مال. ولا فرق بين أن يطالبه الوالي، أو غيره بالنقض، وبين أن لا يطالب، لانه بنى في ملكه بلا ميل، والهلاك حصل بغير فعله، وإذا وجب ضمان في البناء المائل ابتداء أو دواما، فلو مال بعضه، نظر، هل حصل التلف برأسه المائل، أم بالباقي على الاستواء، أم بالجميع، ويكون حكمه كما ذكرنا في الميزاب. فرع إذا باع ناصب الميزاب، أو باني الجدار المائل الدار، لم يبرأ من الضمان، حتى لو سقط على إنسان فهلك به، يجب الضمان على عاقلة البائع، هكذا ذكره البغوي. فرع لو أراد الجار أن يبني جداره الخالص أو المشترك مائلا إلى ملك الجار، فله المنع، وإن مال فله المطالبة بالنقص، كما إذا انتشرت أغصان شجرته إلى هواء غيره، فله المطالبة بإزالتها، فلو تولد منه هلاك، فالضمان على ما ذكرنا فيما إذا مال إلى الشارع.(7/176)
فرع لو استهدم الجدار ولم يمل، قال الاصطخري: لا يطالب بنقضه، لانه لم يجاوز ملكه، وفي التتمة وجه آخر أن للجار وللمارة المطالبة به لما يخاف من ضرره، وأورد ابن الصباغ هذا احتمالا على الاول لا ضمان فيما تولد منه، وعلى الثاني هو كما لو مال، فلم ينقضه. الخامسة: قمامة البيت، وقشور البطيخ، والرمان، والباقلاء إذا طرحها في ملكه أو في موات، فزلق بها إنسان، فهلك، أو تلف بها مال، فلا ضمان، وإن طرحها في الطريق فحصل بها تلف، وجب الضمان على الصحيح وبه قطع الجمهور، وقيل: لا ضمان لاطراد العرف بالمسامحة به مع الحاجة، وقيل: إن ألقاها في متن الطريق، ضمن، وإن ألقاها في منعطف وطرف لا ينتهي إليه المارة غالبا، فلا. قال الامام: والوجه القطع بالضمان بالالقاء في متن الطريق، وتخصيص الخلاف بالالقاء على الطرف ولك أن تقول: قد يوجد بين العمارات مواضع معدة للالقاء فيها تسمى تلك المواضع السباطات والمزابل، وتعد من المرافق المشتركة بين سكان البقعة، فيشبه أن يقطع بنفي الضمان إذا كان الالقاء فيها، فإنه استيفاء منفعة مستحقة ويخص الخلاف بغيرها وإذا أوجبنا الضمان، فذلك إذا كان المتعثر بها جاهلا، أما إذا مشى عليها قصدا، فلا ضمان كما لو نزل البئر فسقط. فرع لو رش الماء في الطريق، فزلق به إنسان أو بهيمة، فإن رش لمصلحة عامة، كدفع الغبار عن المارة فليكن كحفر البئر للمصلحة العامة، وإن كان لمصلحة نفسه، وجب الضمان، ويمكن أن يجئ فيه الوجه المذكور في طرح القشور، ولو جاوز القدر المعتاد في الرش، قال المتولي: وجب الضمان قطعا، كما لو بل الطين في الطريق، فإنه يضمن ما تلف به.(7/177)
فرع لو بنى على باب داره دكة فتلف بها إنسان أو دابة، وجب الضمان، وكذا الطواف إذا وضع متاعه في الطريق، فتلف به شئ، لزمه الضمان بخلاف ما لو وضع على طرف حانوته. فرع لو بالت دابته، أو راثت، فزلق به رجل أو دابة، أو تطاير منه شئ إلى طعام إنسان فنجسه، نظر، إن كانت الدابة في ملكه، فلا ضمان، وإن كانت في الطريق، أو ربطها في الطريق فأتلفت، فحكمه سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر كتاب موجبات الضمان، ولو مشى قصدا على موضع الرش أو البول، فلا ضمان. السادسة: أسند خشبه إلى جدار، فسقط الجدار على شئ فأتلفه، إن كان الجدار لغير المسند ولم يأذن له فعليه ضمان الجدار وما سقط عليه، سواء سقط عقب الاسناد أم متأخرا عنه، وإن كان الجدار للمسند أو لغيره، وقد أذن له في الاسناد، لم يجب ضمان الجدار، وفي ضمان ما سقط عليه وجهان، قال ابن القاص وأبو زيد، إن سقط في الحال، ضمن، كما لو أسقط جدارا على مال رجل، وإن سقط بعد زمان، لم يضمن، كما لو حفر بئرا في ملكه، وعن القفال أنه لا يضمن في الحالين، كما لا يضمن ما سقط في البئر في الحالين، فإن ضمناه إذا سقط في الحال، فلم يسقط، لكنه مال في الحال إلى الشارع، ثم سقط بعد مدة، وجب الضمان، كما لو بنى الجدار مائلا، لانه مال بفعله بخلاف ما لو مال في الدوام بنفسه. السابعة: نخس دابة أو ضربها مغافصة فقفزت ورمت راكبها، فمات أو أتلفت مالا، وجب الضمان، قال البغوي: فإن كان النخس بإذن المالك فالضمان عليه، ولو غلبته دابته، فاستقبلها رجل، وردها، فأتلفت في انصرافها،(7/178)
فالضمان على الراد. فرع رجل حمل رجلا، فجاء فقرص الحامل، أو ضربه، فتحرك، فسقط المحمول عن ظهره، قال المتولي: هو كما لو أكره الحامل على إلقائه عن ظهره.
الطرف الثالث : في اجتماع سببين
فمتى اجتمع سببا هلاك، قدم الاول منهما، لانه المهلك، إما بنفسه، وإما بوساطة الثاني، فأشبه التردية مع الحفر، فإذا حفر بئرا في محل عدوان، أو نصب سكينا، ووضع آخر حجرا، فتعثر بالحجر، فوقع على مؤخر السكين، أو في مقدم البئر، فمات فالضمان يتعلق بواضع الحجر، وقال أبو الفياض من أصحابنا: يتعلق بناصب السكين إذا كانت قاطعة موحية، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، لان التعثر بالحجر هو الذي ألجأه إلى الوقوع في البئر، أو على السكين، وكأنه أخذه فرداه، وصار كما لو كان في يده سكين، فألقى عليه رجل إنسانا، وجب القصاص والضمان على الملقي، ولو أهوى إليه من في يده سكين ووجهه نحوه حين ألقاه الملقي كان القصاص على صاحب السكين، هذا إذا كانا متعديين، فلو حفر بئرا، أو نصب سكينا في ملكه، ووضع متعد حجرا فعثر رجل بالحجر، ووقع في البئر، أو على السكين، فالضمان أيضا على واضع الحجر، ولو وضع حجرا في ملكه، وحفر متعد هناك بئرا، أو نصب سكينا، فعثر رجل بالحجر، ووقع في البئر أو على السكين، فالمنقول أنه يتعلق الضمان بالحافر وناصب السكين، فإنه المتعدي، وينبغي أن يقال: لا يتعلق بالحافر والناصب ضمان، كما سنذكره قريبا في مسألة السيل إن شاء الله تعالى، ويدل عليه أن المتولي قال: لو حفر بئرا في ملكه، ونصب غيره فيها حديدة، فوقع رجل في البئر فجرحته الحديدة ومات، فلا ضمان على واحد منهما. فرع حفر بئرا في محل عدوان، وحصل حجر على طرف البئر بحمل السيل، أو بوضع حربي أو سبع، فعثر رجل بالحجر، فوقع في البئر، فهلك، فلا ضمان على أحد، كما لو ألقاه الحربي، أو السبع في البئر، وقيل: يجب الضمان(7/179)
على عاقلة الحافر وهو ضعيف، ولو حفر بئر عدوان، ونصب آخر في أسفلها سكينا فالضمان على عاقلة الحافر على الصحيح، وقيل: على ناصب السكين. فرع حفر بئرا قريبة العمق، فعمقها غيره، فوجهان، أحدهما: يختص الاول بضمان التالف فيها، وأصحهما: يتعلق بهما، وعلى هذا هل يتنصف، أم يوزع على الاذرع التي حفراها ؟ وجهان. قلت: الاصح: التنصيف، كالجراحات. والله أعلم. ولو حفر بئرا وطمها، فأخرج غيره ما طمت به، فهل يتعلق ضمان التالف فيها بالاول، لانه المبتدئ، أم بالثاني لانقطاع أثر الاول بالطم ؟ وجهان. قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم. فرع وضع زيد حجرا في طريق، وآخران حجرا بجنبه، فتعثر بهما إنسان ومات، فالاصح تعلق الضمان بهم أثلاثا، كالجراحات المختلفة، وقيل: يتعلق بزيد نصفه، وبالآخرين نصفه. فصل وضع الحجر كحفر البئر يتعلق الضمان به إذا عثر به من لم يره كما سبق، فلو وضع حجرا في طريق، فعثر به رجل ودحرجه، ثم عثر به ثان، فهلك، فضمان الثاني يتعلق بالمدحرج، لان الحجر إنما حصل هناك بفعله. فرع من قعد في موضع، أو نام، أو وقف، فعثر به ماش، وماتا أو مات أحدهما، نظر، إن كان قعوده في ملكه، ودخله الماشي بلا إذن، فالماشي مهدر، وعلى عاقلته دية القاعد والواقف، وكذا لو قعد، أو وقف في موات أو طريق واسع لا يتضرر به المارة، وسواء كان القاعد أو الواقف بصيرا أو أعمى، كما لو قتل شخصا أمكنه الدفع عن نفسه، وإن قعد أو نام في طريق ضيق يتضرر به المارة فعثر به الماشي وماتا، ففيه طرق: المذهب منها وهو المنصوص: أن دم القاعد والنائم(7/180)
مهدر، وعلى عاقلتهما دية الماشي، وأنه إذا عثر بالواقف، كان دم الماشي مهدرا وعلى عاقلته دية الواقف، لان الانسان قد يحتاج إلى الوقوف لكلال، أو انتظار رفيق، أو سماع كلام، فالوقوف من مرافق الطريق كالمشي، لكن الهلاك حصل بحركة الماشي، فخص بالضمان، والقعود والنوم ليسا من مرافق الطريق، فمن فعلهما فقد تعدى وعرض نفسه للهلاك، والثاني: وجوب دية كل واحد منهما على عاقلة الآخر مطلقا، والثالث: يهدر دم القاعد والنائم والواقف، وتجب دية الماشي على عاقلتهم، والرابع: يهدر دم الماشي، وتجب دية هؤلاء على عاقلته، لان القتل حصل بحركته، كما لو تردد الاعمى في الطريق بلا قائد فأتلف يلزمه الضمان، هذا كله إذا لم يوجد من الواقف فعل، فإن وجدنا بأن انحرف إلى الماشي لما قرب منه، فأصابه في انحرافه، فماتا، فهما كماشيين اصطدما، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى. ولو انحرف عنه، فأصابه في انحرافه، أو انصرف إليه، فأصابه بعد تمام انحرافه، فالحكم كما لو كان واقفا لا يتحرك، ولو جلس في مسجد، فعثر به إنسان وماتا، فعلى عاقلة الماشي دية الجالس، ويهدر دم الماشي، كما لو جلس في ملكه، فعثر به ماش، ولو نام في المسجد معتكفا، فكذلك، ولو جلس لامر ينزه المسجد عنه، أو نام غير معتكف، فهو كما لو نام في الطريق، هكذا ذكره البغوي. فرع حيث أطلق الضمان في هذه الصور وما قبلها، وقيل: إنه على الحافر، أو واضع الحجر، أو القاعد، وناصب الميزاب والجناح، وملقي القمامة، وقشر البطيخ ونحوهم، فالمراد أنه يتعلق الضمان بهم، ومعناه أنه يجب على عاقلتهم.(7/181)
فصل وقع في البئر واحد خلف واحد، فهلكوا، أو هلك بعضهم، فله حالان. الاولى: أن يقع الثاني بغير جذب الاول، فإن مات الاول، فالثاني ضامن، فإن تعمد إلقاء نفسه عليه، ومثله يقتل مثله غالبا لضخامته وعمق البئر وضيقها، لزمه القصاص، وإن تعمده، لكنه لا يقتل غالبا، فهو شبه عمد، وإن لم يتعمد ووقع في البئر بغير اختياره، أو لم يعلم وقوع الاول، فهو خطأ محض، ثم أطلق مطلقون أنه إذا آل الامر إلى المال، وجبت دية كاملة، وقال آخرون: إنما على الثاني نصف الدية، لان الاول مات بوقوعه في البئر وبوقوع الثاني عليه، ويكون النصف الآخر على الحافر، إن كان الحفر عدوانا، وإلا فمهدر وهذا أصح عند المتولي وغيره، لكن لو نزل الاول إلى البئر ولم ينصدم، فوقع عليه الثاني، تعلق بوقوعه كل الدية، أما إذا مات الثاني، فإن تعمد إلقاء النفس فيها، أو لم يكن الحفر عدوانا، فهو هدر، وإلا تعلق الضمان بعاقلة الحافر، وإن ماتا معا، فالحكم في حق كل واحد ما ذكرنا، ولو تردى في البئر ثلاثة، واحد بعد واحد فوجهان، أحدهما: تجب دية الاول على عاقلة الثاني والثالث، قاله الشيخ أبو حامد، والثاني: يجب على عاقلتهما ثلثا الدية، والثلث الباقي على عاقلة الحافر إن كان متعديا، وإلا فهو هدر، قاله القاضي أبو الطيب واختاره ابن الصباغ. الحالة الثانية: أن يقع الثاني في البئر بجذب الاول، فإذا تزلق على طرف بئر، فجذب غيره، ووقع في البئر، ووقع الثاني فوقه فماتا، فالثاني هلك بجذب(7/182)
الاول، فكأنه أخذه وألقاه في البئر إلا أنه قصد الاستمساك والتحرز عن الوقوع، فكان مخطئا، فيجب ضمان الثاني على عاقلة الاول، وأما الاول، فإن كان الحفر عدوانا، فوجهان، أحدهما يحكى عن الخضري: أنه مهدر، وأصحهما: تجب نصف ديته على عاقلة الحافر ويهدر النصف، لانه مات بسببين: صدمة البئر وثقل الثاني منسوب إليه، وإن لم يكن الحفر عدوانا، فالاول مهدر بلا خلاف، وليحمل على هذه الحالة إطلاق من أطلق إهدار الاول، وقد أطلقه كثيرون. ولو كانت الصورة كما ذكرنا، وجذب الثاني ثالثا، وماتوا جميعا فأما الاول ففيه وجهان، أحدهما: تهدر نصف ديته لجذبه الثاني، ويجب نصفها على عاقلة الثاني لجذبه الثالث، وهذا تفريع على أنه لا أثر للحفر مع الجذب، وأصحهما: أنه مات بثلاثة أسباب: صدمة البئر وثقل الثاني والثالث، فهدر ثلث الدية لجذبه الثاني، ثم ينظر إن كان الحفر عدوانا، وجب ثلثها على عاقلة الحافر، وثلثها على عاقلة الثاني بجذبه الثالث، وإن لم يكن الحفر عدوانا، أهدر ثلث آخر ووجب ثلث على عاقلة الثاني، وقال ابن الحداد: مات بالوقوع في البئر وبجذبة الثاني، فيهدر نصف دية، ويجب نصفها على عاقلة الحافر، وأعرض عن تأثره بثقل الثالث، وهذا ضعيف عند الاصحاب، وأما الثاني، فمات بجذب الاول، وبثقل الثالث، وثقل الثالث حصل بفعله، فيهدر نصف ويجب نصف على عاقلة الاول، وأما الثالث فتجب جميع ديته على الثاني على الاصح، وقيل: على الاول والثاني، والمراد عاقلتهما، ولو كانت الصورة بحالها وجذب الثالث رابعا وماتوا، وجب جميع دية الرابع بلا خلاف، وهل تتعلق بالثالث وحده أم بالثلاثة ؟ وجهان، أصحهما: الاول. وأما ديات الثلاثة ففيها أوجه، أصحها: أن الاول مات بأربعة أسباب: صدمة البئر، وثقل الثلاثة، فيهدر ربع ديته لجذبه الثاني، ويجب الربع على عاقلة الحافر إن كان الحفر عدوانا، وإن لم يكن عدوانا، أهدر أيضا، ويجب ربع على عاقلة الثاني، وربع على عاقلة الثالث، وأما الثاني، فلا أثر للحفر في حقه وقد مات(7/183)
بجذب الاول، وثقل الثالث والرابع، فيهدر ثلث ديته، ويجب ثلثها على عاقلة الاول وثلثها على عاقلة الثالث، وأما الثالث فمات بجذب الثاني وثقل الرابع، فيهدر نصف ديته، ويجب نصفها على عاقلة الثاني، والوجه الثاني لا يجب للاول شئ لانه باشر قتل نفسه بجذب الثاني وما تولد منه، وأما الثاني فيهدر نصف ديته ويجب نصفها على عاقلة الاول، وأما الثالث، فيهدر نصف ديته، ويجب نصفها على عاقلة الثاني، ومقتضى هذا الوجه أن لا يجب للاول في صورة الثلاثة شئ أصلا وإن لم يذكروه هناك، والوجه الثالث أنه تجعل دية الثلاثة أثلاثا، فيهدر ثلث دية كل واحد ويجب الثلثان من دية الاول على عاقلتي الثاني والثالث، والثلثان من دية الثاني على عاقلتي الاول والثالث، والثلثان من دية الثالث على عاقلتي الاول والثاني، والوجه الرابع حكاه المتولي: يجب للاول ربع الدية إن كان الحافر متعديا، وللثاني الثلث، وللثالث النصف للقصة المروية من قضاء علي رضي الله عنه بهذا وإمضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، لكنه حديث ضعيف وجميع ما ذكرناه إذا وقع الثلاثة أو الاربعة بعضهم فوق بعض، أما إذا كانت البئر واسعة وجذب بعضهم بعضا لكن وقع كل واحد في ناحية، فدية كل مجذوب على عاقلة جاذبه ودية الاول على عاقلة الحافر إن كان متعديا، ومن وجبت في هذه الصور دية بعضهم أو بعضها على عاقلته، لزمه الكفارة في ماله، ويقع النظر في أنها هل تتجزأ ؟ ومن أهدر دمه أو شئ منه لفعله، ففي وجوب الكفارة عليه الخلاف في أن قاتل نفسه هل عليه كفارة ؟
الطرف الرابع : في اجتماع سببين متقاومين وفيه مسائل : إحداها: إذا اصطدم حران ماشيان، فوقعا وماتا، فكل واحد مات بفعله وفعل صاحبه، فهو شريك في القتلين، ففعله هدر في حق نفسه مضمون في حق صاحبه، فالصحيح أن في تركة كل واحد منهما كفارتين بناء على أن الكفارة لا تتجزأ، وأن قاتل نفسه عليه كفارة، وأما الدية، فتسقط نصف دية كل واحد، ويجب نصفها، ثم إن لم يقصدا الاصطدام بأن كانا أعميين، أو في ظلمة، أو مدبرين، أو غافلين، فهو خطأ محض، فعلى عاقلة كل واحد نصف دية الآخر، وإن تعمدا الاصطدام، فوجهان، أحدهما: أن الحاصل عمد محض، ويجب في مال كل واحد نصف دية الآخر، قاله أبو إسحق، واختاره الامام والغزالي، وأصحهما عند الاكثرين وهو نصه في الام: أن الحاصل شبه عمد، لان الغالب(7/184)
أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض، ولذلك لا يتعلق القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر، فيجب على عاقلة كل واحد نصف دية الآخر مغلظة. الثانية: إذا كان المصطدمان راكبين، فحكم الدية والكفارة كما ذكرنا، فلو تلفت الدابتان، ففي تركة كل واحد نصف قيمة دابة صاحبه، ولو غلبتهما الدابتان، فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما سبق، وفي قول أنكره جماعه أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر، إذ لا صنع لهما، ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها أو سائقها، وأتلفت مالا، هل يسقط الضمان عنه ؟ فرع سواء في اصطدام الراكبين اتفق جنس المركوبين وقوتهما، أم اختلف، كراكب فرس، أو بعير مع راكب بغل أو حمار، وسواء في اصطدام الرجلين اتفق سيرهما، أو اختلف، بأن كان أحدهما يمشي والآخر يعدو، وسواء كانا مقبلين، أم مدبرين، أو أحدهما مقبلا والآخر مدبرا، قال الامام: لكن لو كانت إحدى الدابتين ضعيفة بحيث يقطع بأنه لا أثر لحركتها مع قوة الدابة الاخرى، لم يتعلق بحركتها حكم، كغرز الابرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة، وسواء وقع المصطدمان مقبلين أو مستلقيين، أو أحدهما مستلقيا والآخر مكبا، وعن المزني أنه إذا وقع أحدهما مكبا والآخر مستلقيا، فالمكب مهدر وعلى عاقلته ضمان المستلقي، وعن ابن القاص مثله تخريجا، وعنه أن المكبين مهدران، والمذهب الاول، وبه قطع الجمهور، ولو اصطدم ماش وراكب لطول الماشي وهلكا، فالحكم ما سبق. فرع تجاذب رجلان حبلا، فانقطع، فسقطا وماتا، وجب على عاقلة كل واحد نصف دية الآخر ويهدر النصف، سواء وقعا مكبين أو مستلقيين، أو أحدهما هكذا والآخر كذاك، لكن قال البغوي: إن أكب أحدهما، واستلقى الآخر، فعلى عاقلة المستلقي نصف دية المكب مغلظة، وعلى عاقلة المكب نصف دية المستلقي(7/185)
مخففة، وهذا إن صح اقتضى أن يقال مثله في الاصطدام، هذا إذا كان الحبل لهما أو مغصوبا، فإن كان لاحدهما والآخر ظالم، فدم الظالم هدر، وعلى عاقلته نصف دية المالك، ولو أرخى أحد المتجاذبين، فسقط الآخر، ومات فنصف ديته على عاقلة المرخي ويهدر نصفها، ولو قطع الحبل قاطع، فسقطا وماتا، فديتاهما جميعا على عاقلة القاطع. فرع ما ذكرنا أنه يهدر نصف قيمة الدابة ويجب النصف الآخر هو فيما إذا كانت الدابة للراكب، فإن كانت مستعارة أو مستأجرة لم يهدر منها شئ، لان العارية مضمونة، وكذا المستأجر إذا أتلفه المستأجر. الثالثة: إذا اصطدم صبيان أو مجنونان، نظر، إن كانا ماشيين، أو راكبين ركبا بأنفسهما، فهما كالبالغين إلا أنا إذا أوجبنا هناك دية مغلظة، فهي هنا مخففة إلا إذا قلنا: عمد الصبي والمجنون عمد، وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما، لم يهدر شئ من ديتهما، ولا من قيمة الدابتين، ولا شئ على الصبيين، ولا على عاقلتهما، بل إن كان المركب واحدا، فعليه قيمة الدابتين، وعلى عاقلته دية الصبيين، وإن أركب هذا واحدا وذاك آخر، فعلى كل واحد نصف قيمة كل دابة، وكذا يضمن ما أتلفته دابة من أركبه بيدها أو رجلها، وعلى عاقلة كل واحد نصف ديتي الصبيين، هذا هو الصحيح المعروف الذي قطع به الاصحاب، وقال الداركي وابن المرزبان: يلزم عاقلة كل مركب دية من أركبه، قال الشيخ أبو حامد: هذا غلط، قال في الوسيط: فلو تعمد الصبي والحالة هذه، احتمل أن يحال الهلاك عليه إذا قلنا: عمده عمد، لان المباشرة مقدمة على التسبب، وهذا احتمال حسن، فإن قيل به، فحكمه كما لو ركبا بأنفسهما، والاعتذار عنه تكلف، ولو وقع الصبي، فمات، فقد أطلق الشيخ أبو حامد أنه يتعلق بالمركب الضمان، وقال المتولي: إن كان مثله لا يستمسك على الدابة ولم يشده، وجب الضمان، وإن كان يستمسك، فإن كان ينقله من موضع إلى موضع، فلا ضمان، سواء أركبه الولي أو غيره، لانه لا يخاف منه الهلاك غالبا، وإن أركبه ليتعلم الفروسية، فهو كما لو تلف(7/186)
في يد السباح، وفي كل واحد من الاطلاق والتفصيل نظر، أما إذا أركبهما ولياهما لمصلحتهما فوجهان، أصحهما: لا ضمان على الولي، كما لو ركبا بأنفسهما إذ لا تقصير، والثاني قاله القفال: يجب الضمان، لان في الا ركاب خطرا، هكذا أطلق جماعة الوجهين، وخصهما الامام بالاركاب لزينة أو حاجة غير مهمة، قال: فأما إذا مست حاجة أرهقت إلى إركابه للانتقال إلى مكان، فلا ضمان قطعا، ثم الوجهان مخصوصان بما إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركبه الولي دابة شرسة جموحا، فلا شك في أنه يتعلق به الضمان. الرابعة: اصطدام المرأتين كالرجلين، فإن اصطدم حاملان فماتتا ومات جنيناهما، وجب في تركة كل واحدة منهما أربع كفارات على الصحيح، وهو إيجاب الكفارة على قاتل نفسه، وعدم تجزئة الكفارة، فإن لم نوجبها على قاتل نفسه، وجب ثلاث كفارات، وإن قلنا بالتجزئة، وجب ثلاثة أنصاف كفارة وعلى عاقلة كل واحدة نصف دية صاحبتها ونصف غرة كل جنين. الخامسة: اصطدم عبدان، فمات أحدهما، وجب نصف قيمته متعلقا برقبة الحي، وإن ماتا فمهدران، لان ضمان جناية العبد تتعلق برقبته، سواء اتفقت قيمتهما، أم اختلفت، وإن اصطدم حر وعبد ومات العبد، فنصفه هدر، وتجب نصف قيمته، وهل تكون على الحر أم على عاقلته ؟ فيه الخلاف في تحمل العاقلة قيمة العبد، وإن مات الحر، وجب نصف ديته متعلقا برقبة العبد، وإن ماتا معا، فإن قلنا: قيمة العبد لا تحملها العاقلة، وجب نصفها في تركة الحر، ويتعلق به نصف دية الحر، لانه بدل رقبته، وإن قلنا: تحمل العاقلة القيمة، فنصف قيمة العبد على عاقلة الحر، ويتعلق به نصف دية الحر، فيأخذ السيد من العاقلة نصف القيمة، ويدفع نصف الدية إلى ورثة الحر، إما من عين المأخوذ وإما من غيره، قال الامام: والوجه أن يثبت لورثة الحر مطالبة عاقلته بنصف القيمة، وإن كان ملكه(7/187)
السيد ليتوثقوا به وكذا إذا تعلق أرش برقبة عبد، فقتله أجنبي، ثبت للمجني عليه مطالبة قاتل الجاني بالقيمة، ويثبت للمرتهن مطالبة قاتل المرهون بالقيمة ليتوثق بها، وليكن هذا مبنيا على أن المرتهن هل له أن يخاصم الجاني ؟ وفيه خلاف سبق، الاصح: المنع وبتقدير أن يخاصم ويأخذ، فإن لم يصر المأخوذ ملكا للراهن، لم يصح التوثق، وإن صار، فجعل المرتهن نائبا عنه قهرا بعيد. السادس: اصطدم مستولدتان لرجلين فماتتا، أهدر نصف قيمة كل منهما ووجب نصف قيمة كل واحدة على سيد الاخرى، لان ضمان جناية المستولدة على سيدها، كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، والمذهب أنه يضمن أقل الامرين من أرش الجناية وقيمة مستولدته، وإن كانتا حاملين، فماتتا، وأجهضتا جنينهما، فحكم القيمة ما ذكرنا، وأما ضمان الجنينين، فإن كانا رقيقين، فعلى سيد كل واحدة مع نصف قيمة الاخرى نصف عشر قيمتها لنصف جنينها، وإن كانتا حاملين بحرين من شبهة، فعلى كل سيد مع نصف قيمة الاخرى نصف غرة لجنين مستولدته، ونصف غرة لجنين الاخرى، وإن كانتا حاملين بحرين من السيدين، فنصف كل جنين هدر، لان المستولدة إذا جنت على نفسها، وألقت جنينا، كان هدرا، وعلى كل واحد من السيدين نصف غرة جنين الاخرى، وتصير الصورة من صور التقاص، وإذا فضل لاحدهما شئ أخذه، وإن كانت إحداهما حاملا، فألقت جنينها ميتا، فنصف الغرة على سيد الحامل، فإن كان للجنين أم أم وارثة، فلها نصف سدس الغرة، والباقي لسيد الحامل، وعليه للجدة نصف سدس أيضا ل يكمل لها سدس الغرة. السابعة: إذا اصطدم سفينتان، وغرقتا بما فيهما، فإما أن يحصل الاصطدام بفعلهما، وإما لا، فهما حالان. الاول بفعلهما، فينظر إن كانت السفينتان وما فيهما ملكا للملاحين المجريين لهما، فنصف قيمة كل سفينة وما فيهما مهدر، ونصف قيمتها ونصف قيمة ما فيها على صاحب الاخرى، فإن هلك الملاحان أيضا، فهما كالفارسين يموتان بالاصطدام، وإن كانت السفينتان لهما وحملا الاموال والانفس تبرعا أو بأجرة،(7/188)
نظر إن تعمدا الاصطدام بما يعده أهل الخبرة مفضيا إلى الهلاك، تعلق بفعلهما القصاص حتى إذا كان في كل سفينة عشرة أنفس مثلا يقرع بينهم لموتهم معا، فمن خرجت قرعته، قتل به الملاحان، وفي مال كل واحد منهما نصف ديات الباقين، فيكون على كل واحد تسع ديات ونصف مع القصاص، وفي مال كل واحد من الكفارات بعدد من في السفينتين من الاحرار والعبيد، وعلى كل واحد منهما نصف قيمة ما في السفينتين لا يهدر منه شئ، ونصف قيمة سفينة صاحبه، ويهدر نصفها، ويجري التقاص في القدر الذي يشتركان فيه، وإن تعمدا الاصطدام بما لا يفضي إلى الهلاك غالبا وقد يفضي إليه، فهو شبه عمد، والحكم كما ذكرنا، إلا أنه لا يتعلق به قصاص، وتكون الدية على العاقلة مغلظة، وإن لم يتعمدا الاصطدام بل ظنا أنهما يجريان على الريح فأخطأ أو لم يعلم واحد منهما أن بقرب سفينته سفينة الآخر، فالدية على العاقلة، وإن كانت السفينتان لغير الملاحين، وكانا أجيرين للمالك، أو أمينين، لم يسقط شئ من ضمان السفينتين بل على كل واحد منهما نصف قيمة كل سفينة، وكل واحد من المالكين مخير بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من أمينه، ثم هو يرجع بنصفها على أمين الآخر، وبين أن يأخذ نصفها منه ونصفها من أمين الآخر، وإن كان المجريان عبدين، فالضمان يتعلق برقبتهما. الحال الثاني: أن يحصل الاصطدام لا بفعلهما، فإن وجد منهما تقصير بأن توانيا في الضبط، فلم يعدلاهما عن صوب الاصطدام مع إمكانه، أو سيرا في ريح شديدة لا تسير في مثلها السفن، أو لم يكملا عدتهما من الرجال والآلات، وجب الضمان على ما ذكرنا، وإن لم يوجد منهما تقصير، وحصل الهلاك بغلبة الرياح وهيجان الامواج، ففي وجوب الضمان قولان، أحدهما: نعم كالفارسين إذا غلبتهما دابتاهما، وأصحهما: لا، لعدم تقصيرهما، كما لو حصل الهلاك بصاعقة بخلاف غلبة الدابة، فإن ضبطها ممكن باللجام، وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل، بأن كانت السفينة مربوطة بالشط أو مرساة في موضع، فهاجت ريح فسيرتها فأما إذا سيراهما، ثم غلبت الريح، وعجزا عن ضبطهما، فيجب الضمان قطعا، والمذهب طرد القولين في الحالين، فإن قلنا: يجب الضمان، فهو كما لو فرطا،(7/189)
ولكن لم يقصدا الاصطدام، وإن قلنا بالاظهر: لم يجب ضمان الاحرار، ولا ضمان الودائع والامانات فيهما ولا ضمان الاموال المحمولة بالاجرة إن كان مالكها أو عبده معها يحفظها، وإن استقل المجريان باليد، فعلى القولين في أن يد الاجير المشترك هل هي يد ضمان ؟ وإن كان فيهما عبيد، فإن كانوا أعوانا أو حفاظا للمال لم يجب ضمانهم، وإلا فهم كسائر الاموال، وعلى هذا لو اختلف صاحب المال والملاحان، فقال صاحب المال: كان الاصطدام بفعلكما، وقالا: بل بغلبة الريح، صدقا بيمينهما، ومتى كان أحدهما مفرطا أو عامدا دون الآخر، خص كل واحد منهما بالحكم الذي يقتضيه حاله على ما ذكرنا، ولو صدمت سفينة السفينة المربوطة بالشط فكسرتها، فالضمان على مجري السفينة الصادمة. فرع إذا خرق واحد سفينة، فغرق ما فيها من نفس ومال، وجب ضمانه، ثم إن تعمد الخرق بما يفضي إلى الهلاك غالبا كالخرق الواسع الذي لا مدفع، وجب القصاص والدية المغلظة في ماله، وإن تعمده بما لا يحصل به الهلاك غالبا، فهو شبه عمد، وكذا لو قصد إصلاح السفينة، فنفذت الآلة في موضع الاصلاح فغرقت به السفينة، وإن أصابت الآلة غير موضع الاصلاح، أو سقط من يده حجر، أو غيره، فخرقت السفينة، فهو خطأ محض. فرع لو كانت السفينة مثقلة بتسعة أعدال، فوضع آخر فيها عدلا آخر عدوانا، فغرقت، فهل يغرم جميع الاعدال التسعة أم بعضها ؟ وجهان، أحدهما: جميعها، لان الهلاك ترتب على فعله، وأصحهما: البعض، وفيه وجهان، أحدهما: النصف، والثاني: قسطه إذا وزع على جميع الاعدال، وهو كالخلاف في الجلاد إذا زاد على الحد المشروع، وله نظائر متقدمة. فصل إذا أشرفت السفينة على الغرق، جاز إلقاء بعض أمتعتها في البحر، ويجب الالقاء رجاء نجاة الراكبين إذا خيف الهلاك، ويجب إلقاء ما لا روح فيه(7/190)
لتخليص ذي الروح، ولا يجوز إلقاء الدواب إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان، وإذا مست الحاجة إلى إلقاء الدواب، ألقيت لابقاء الآدميين، والعبيد كالاحرار، وإذا قصر من عليه الالقاء حتى غرقت السفينة، فعليه الاثم ولا ضمان كما لو لم يطعم صاحب الطعام المضطر حتى مات، يعصي ولا يضمنه، ولا يجوز إلقاء المال في البحر من غير خوف، لانه إضاعة للمال، وإذا ألقى متاع نفسه أو متاع غيره بإذنه رجاء السلامة، فلا ضمان على أحد، ولو ألقى متاع غيره بغير إذنه، وجب الضمان، وقيل: إذا ألقى من لا خوف عليه متاع نفسه لانقاذ غيره، ففي رجوعه عليه وجهان، كمن أطعم المضطر قهرا والمذهب الاول، ولو قال لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه أو على أني ضامن، أو على أني أضمن قيمته، فألقاه فعلى الملتمس ضمانه، وقال أبو ثور وبعض الاصحاب: لا يجب ضمانه، لانه ضمان ما لم يجب، والصحيح الاول وبه قطع الجمهور، لانه التماس إتلاف بعوض له فيه(7/191)
غرض صحيح، فصار كقوله: أعتق عبدك على كذا، فأعتق، قال الاصحاب: وليس هذا على حقيقة الضمان وإن سمي ضمانا، ولكنه بذل مال للتخليص عن الهلاك، فهو كما لو قال: أطلق هذا الاسير ولك علي كذا، فأطلقه، يجب الضمان، وبنى القاضي حسين عليه أنه لو قال لمن له القصاص: اعف ولك كذا، أو قال لرجل: أطعم هذا الجائع ولك علي كذا، فأجاب، يستحق المسمى، أما إذا اقتصر على قوله: ألق متاعك في البحر، ولم يقل: وعلي ضمانه، فألقاه فقيل في وجوب الضمان خلاف، كقوله: أد ديني، وقطع الجمهور بأنه لا ضمان، لان قضاء الدين ينفعه قطعا وهذا قد لا ينفعه، قال البغوي: وتعتبر قيمة الملقى قبل هيجان الامواج، فإنه لا قيمة للمال في تلك الحال، فلا تجعل قيمة المال في البحر وهو على خطر الهلاك كقيمة البر، ثم إنما يجب الضمان على الملتمس بشرطين، أحدهما: أن يكون الالتماس عند خوف الغرق، فأما في غير حال الخوف فلا يقتضي الالتماس ضمانا، سواء قال: على أني ضامن، أو لم يقل، كما لو قال: اهدم دارك، ففعل. الشرط الثاني: أن لا تختص فائدة الالقاء بصاحب المتاع، واعلم أن فائدة التخليص بإلقاء المتاع تتصور في صور: إحداها: أن يختص بصاحب المتاع، فإذا كان في السفينة المشرفة راكب ومتاعه، فقال له رجل من الشط، أو من زورق بقربها: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فألقى، لا يجب الضمان، ولا يحل له أخذ الضمان، لانه فعل ما هو واجب عليه لغرض نفسه، فلا يستحق عوضا، كما لو قال للمضطر: كل طعامك وأنا ضامنه لك، فأكله، لا شئ على الملتمس. الثانية: أن يختص بالملتمس، بأن أشرفت سفينة على الغرق وفيها متاع رجل وهو خارج عنها، فقال للخارج: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فألقى، وجب الضمان كما ذكرنا سواء حصلت السلامة أم لا، حتى لو هلك الملتمس وجب الضمان في تركته.(7/192)
الثالثة: أن يختص بغيرهما، بأن كان الملتمس وصاحب المتاع خارجين عن السفينة وفيها جماعة مشرفون على الغرق، وجب الضمان على الملتمس أيضا، لانه غرض صحيح. الرابعة: أن تعود المصلحة إلى ملقي المتاع وغيره دون الملتمس، فوجهان، أصحهما: يجب ضمان جميع المتاع، والثاني: بقسط الملقى على مالكه وسائر من فيها، فيسقط قسط المالك ويجب الباقي، فإن كان معه واحد، وجب نصف الضمان، وإن كان معه تسعة، وجب تسعة أعشاره. الخامسة: أن يكون في الالقاء تخليص الملتمس وغيره، بأن التمس بعض ركاب السفينة من بعض، فيجب الضمان على الملتمس، قال الامام: ويجئ الوجهان في أنه هل تسقط حصة المالك ؟ فرع إذا قال: ألق متاعك في البحر وأنا وركاب السفينة ضامنون، كل واحد منا على الكمال، أو على أني ضامن وكل واحد منهم ضامن، فعليه ضمان الجميع، ولو قال: أنا وهم ضامنون كل واحد منا بالحصة، لزمه ما يخصه، وكذا لو قال: أنا وهم ضامنون، واقتصر عليه، ولو قال: وأنا ضامن وركاب السفينة، أو على أن أضمنه أنا والركاب، أو قال: وأنا ضامن وهم ضامنون، لزمه ضمان الجميع على الاصح، وقيل: على القسط، ثم قوله: هم ضامنون، إما للجميع، وإما للحصة، إن أراد به الاخبار عن ضمان سبق منهم، واعترفوا به، لزمهم، وإن أنكروا، فهم المصدقون، وإن قال: أردت إنشاء الضمان عنهم، فقيل: إن رضوا به، ثبت المال عليهم، والصحيح أنه لا يثبت، لان العقود لا توقف، وإن قال: وأنا وهم ضمناء وضمنت عنهم بإذنهم، طولب هو بالجميع بقوله، وإذا أنكروا الاذن، فهم المصدقون حتى لا يرجع عليهم، ولو قال: أنا وهم ضمناء، وأصححه من مالهم، فقد نقل الائمة لا سيما العراقيون، أنه يطالب بالجميع أيضا، وكذا لو قال: أنا أحصله من مالهم كما لو قال: اخلعها على ألف أصححها لك من مالها، أو أضمنها لك من مالها، يلزمه الالف، ولو قال: ألقي متاعك في البحر على أني وهم ضمناء، فأذن له في الالقاء، فألقاه، فهل تلزمه الحصة أم الجميع، لانه باشر الاتلاف ؟ وجهان.(7/193)
فرع قال: ألق متاعك وعلي نصف الضمان، وعلى فلان الثلث، وعلى فلان السدس، لزمه النصف. فرع قال لرجل: ألق متاع زيد وعلي ضمانه إن طالبك، فالضمان على الملقي دون الآمر. فرع قال الامام: المتاع الملقى لا يخرج عن ملك مالكه حتى لو لفظه البحر على الساحل، وظفرنا به، فهو لمالكه، ويسترد الضامن المبذول، وهل للمالك أن يمسك ما أخذه، ويرد بدله ؟ فيه خلاف كالخلاف في العين المقرضة إذا كانت باقية، فهل للمقترض إمساكها ورد بدلها ؟ المسألة الثامنة: إذا عاد حجر المنجنيق على الرامين، فقتل أحدهم، فقد مات بفعله وفعل شركائه، وحكمه كالاصطدام، فإن كانوا عشرة، سقط عشر ديته، ووجب على عاقلة كل واحد من التسعة عشرها، ولو قتل اثنين منهم، فصاعدا فكذلك، فلو قتل العشرة، أهدر من دية كل واحد عشرها، ووجب على عاقلة كل(7/194)
واحد من الباقين عشرها، ولو أصاب الحجر غيرهم، نظر، إن لم يقصدوا واحدا أو أصاب غير من قصدوه، بأن عاد فقتل بعض النظارة، فهذا خطأ يوجب الدية المخففة على العاقلة، وإن قصدوا شخصا أو جماعة بأعيانهم فأصابوا من قصدوه، فوجهان، قطع العراقيون بأنه شبه عمد، لانه لا يتحقق قصد معين بالمنجنيق، والثاني وبه قطع الصيدلاني، والامام والغزالي والمتولي، ورجحه البغوي والروياني: أنه عمد إذا كانوا حاذقين تتأتى لهم الاصابة، والغالب الاصابة. قلت: هذا الثاني هو الذي صححه في المحرر. والله أعلم. وإن قصدوا واحدا أو جماعة، والغالب أنه لا يصيب من قصدوه وقد يصيب، فهو شبه عمد، والعلم بأنه يصيب أحدهم لا بعينه، أو جماعة منهم لا بأعيانهم، لا يحقق العمدية، ولا يوجب القصاص، لان العمدية تعتمد قصد عين الشخص ولهذا لو قال: اقتل أحد هؤلاء وإلا قتلتك، فقتل أحدهم، لا قصاص على الآمر، لانه لم يقصد عين أحدهم، ثم قال الغزالي: يكون هذا خطأ في حق ذلك الواحد، وقال البغوي: يكون شبه عمد تجب به دية مغلظة على العاقلة وهذا هو الصحيح إذا قصدوا واحدا أو جماعة لا بأعيانهم، وكذا لو رمى سهما إلى جماعة، ولم يعين أحدهم، ثم استدرك الامام فقال: قولنا لا يجب القصاص مفروض فيمن قصد إصابة واحد لا بعينه، أو جماعة لا بأعيانهم وأصاب الحجر بعضهم، فأما إذا كان القوم محصورين في موضع وعلم الحاذق أنه إذا سدد عليهم الحجر أصاب جميعهم وحقق قصده، فأتى عليهم، فالذي أراه وجوب القصاص. التاسعة: جرح مرتدا بقطع يده أو غيرها، فأسلم، ثم جرحه الاول، ثم جرحه ثلاثة آخرون فمات، نظر، إن وقعت الجراحات الاربع بعد اندمال الاولى، لزمهم الدية أرباعا، وإن وقعت قبل اندمالها ومات من الجراحات الخمس، ففيما عليهم وجهان، أصحهما وبه قال ابن الحداد: توزع الدية على عدد الجارحين وهم(7/195)
أربعة، فيجب على كل واحد ربعها، ثم يعود ما على الجارح في الردة إلى الثمن، لان جراحة الردة مهدرة، والثاني: توزع الدية على الجراحات، فيسقط خمسها للردة، ويجب على كل واحد من الاربعة خمسها، كما لو جرحه واحد في الردة وأربعة بعد الاسلام، فإنه يلزم كل واحد من الاربعة خمس الدية، ولو جرحه ثلاثة في الردة، ثم جرحوه مع رابع في الاسلام، ومات بالجراحات، فعلى قول ابن الحداد توزع الدية على الاربعة وقد جرح ثلاثة منهم جراحتين، إحداهما في الردة، فيعود ما على كل منهم إلى الثمن، ويبقى على الرابع الربع، وعلى الوجه الآخر: الجراحات سبع، فيسقط ثلاثة أسباع الدية بجراحات الردة، ويجب على كل واحد سبعها، ولو جرحه في الردة أربعة، ثم جرحه أحدهم مع ثلاثة في الاسلام، فعلى قول ابن الحداد: الجارحون سبعة فعلى كل واحد من الذين لم يجرحوا إلا في الاسلام سبع الدية، ولا شئ على الجارحين في الردة فقط، وعلى الجارح في الحالين نصف سبع، وعلى الوجه الآخر مات بثمان جراحات، أربع في الاهدار، فعلى كل واحد من الجارحين في الاسلام ثمن الدية. ولو جرحه أربعة في الردة، ثم جرحه أحدهم وحده في الاسلام، فعلى قول ابن الحداد: الجارحون أربعة، يلزم الجارح في الاسلام الثمن، لان حصته الربع، فيسقط نصفه بجراحة الردة، ولا شئ على الباقين، وعلى الوجه الآخر يلزمه خمس الدية، ويسقط أربعة أخماسها، ولو جرحه ثلاثة في الردة، ثم جرحه أحدهم في الاسلام، فهل عليه سدس الدية أم ربعها ؟ فيه الوجهان، ولو جرحه اثنان في الردة، ثم جرحه أحدهما مع ثالث في الاسلام، فعلى قول ابن الحداد، لا شئ على الذين لم يجرح إلا في الردة، وعلى الجارح في الحالين سدس، وعلى الآخر ثلث، وعلى الوجه الآخر، يلزم الجارح في الحالين ربع الدية، وكذا الجارح في الاسلام. ولو جرحه اثنان في الردة، ثم في الاسلام، لزم كل واحد منهما ربع الدية باتفاق الوجهين، ولو جرحه ثلاثة في الردة ثم في الاسلام، لزم كل واحد سدس الدية باتفاق الوجهين، وكذا يتفقان متى لم يختلف عدد الجراحات ولا الجارحين في الحالين. فرع إذا اختلف جنايات رجل عمدا وخطأ، وشاركه غيره بأن جرح خطأ، ثم عاد مع آخر، فجرحا عمدا، فالتوزيع لمعرفة ما يؤخذ منه وما يضرب على عاقلته(7/196)
كما سبق فيما إذا جنى في الردة والاسلام. العاشرة: جنى عبد على زيد بإيضاح، أو قطع يد، أو أصبع أو غيرها، ثم قطع عمرو يد العبد، ثم جنى العبد على بكر، ومات زيد وبكر بالجراحة أو لم يموتا، ومات العبد بالقطع، لزم عمرا قيمة العبد، فحصة اليد منها يخص بها زيد، ويتضارب زيد وبكر أو ورثتهما في الباقي: زيد بما بقي بعد أخذ حصة اليد، وبكر بالجميع، لانه جنى على زيد بتمام بدنه، وجنى على بكر ولا يد له، ولا حق له في بدلها، وأما حصة اليد، فالصحيح أنها ما نقص من قيمته بقطع اليد، قال الشيخ أبو علي: ومن الاصحاب من يغلط، فيعتبر أرشها وهو نصف القيمة، قال: وهذا فاسد من وجهين، أحدهما: أنه لو قطع يدي زيد ينبغي أن يختص بجميع القيمة، ولا يجوز أن يجني على اثنين، ثم تكون قيمته لاحدهما، والثاني: أن الجراحة إذا صارت نفسا، سقط اعتبار بدل الطرف. فرع في مسائل من فتاوى البغوي ذكرها الرافعي في آخر باب العاقلة، منها: حفر بئرا عدوانا، ثم أحكم رأسها، ثم جاء آخر وفتحه، فوقع فيها شخص، فمات فالضمان على فاتح الرأس، ولو أحكم رأسها آخر ففتحه ثالث، تعلق الضمان بالثالث، ولو وقعت بهيمة في بئر عدوان فلم تتأثر بالصدمة وبقيت فيها أياما، فماتت جوعا أو عطشا، فلا ضمان على الحافر لحدوث سبب آخر، كما لو افترسها سبع في البئر، ولو تقاتل رجلان فرمى أحدهما صاحبه، فسقط بصولته، وتلف، فلا(7/197)
ضمان، وإن سقط بصولته، وضربة صاحبه، وجب نصف الضمان، ولو شد عنق أحد بعيريه بالآخر، وتركهما بالمسرح، فدخل بعير رجل بينهما فتلف من جذبة الحبل أحد البعيرين، فلا ضمان إلا أن يكون ذلك البعير معروفا بالافساد.
الطرف الخامس : في حكم السحر
اعلم أن حكم السحر وقع بعضه في أول الجنايات، وبعضه هنا، ومعظمه في آخر كتاب دعوى الدم وقد رأيت تقديم هذا الأخير إلى هنا، فالساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور، فيمرض ويموت منه، وقد يكون ذلك بوصول شئ إلى بدنه من دخان وغيره، وقد يكون دونه. وقال أبو جعفر الاسترابادي من أصحابنا: لا حقيقة للسحر وإنما هو تخييل، والصحيح أن له حقيقة كما قدمناه، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. ويحرم فعل السحر بالاجماع، ومن اعتقد إباحته، فهو كافر، وإذا قال إنسان: تعلمت السحر، أو أحسنه، استوصف، فإن وصفه بما هو كفر فهو كافر، بأن يعتقد التقرب إلى الكواكب السبعة، قال القفال: ولو قال: أفعل بالسحر بقدرتي دون قدرة الله تعالى، فهو كافر، وإن وصفه بما ليس بكفر، فليس بكافر. وأما تعلم السحر وتعليمه ففيه ثلاثة أوجه، الصحيح الذي قطع به الجمهور: أنهما حرامان، والثاني: مكروهان، والثالث: مباحان، وهذان إذا لم يحتج في تعليمه إلى تقديم اعتقاد هو كفر. قلت: قال إمام الحرمين في كتابه الارشاد: لا يظهر السحر إلا على فاسق، ولا تظهر الكرامة على فاسق، وليس ذلك بمقتضى العقل، ولكنه مستفاد من إجماع الامة، وذكر المتولي في كتابه الغنية نحو هذا. والله أعلم. واعلم أن التكهن، وإتيان الكهان، وتعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل وبالشعير والحصى، وتعليم هذه كلها حرام، وأخذ العوض عليها حرام بالنص الصحيح في حلوان الكاهن، والباقي بمعناه، وقد أوضحت هذا الفصل في تهذيب الاسماء واللغات عند ذكر الحلوان والكهانة، ونبهت فيه على النصوص، وأقوال العلماء في تحريمه، ولا يغتر بجهالة من يتعاطى الرمل وإن نسب نفسه، أو نسبه الناس إلى علم، كما لا يفتر به فيما يعرفه من حاله من تساهله في الشبهات،(7/198)
وبعض المحرمات وأما الحديث الصحيح: كان نبي من الانبياء يخط، فمن وافق خطه، فذاك فمعناه: من علمتم موافقته له، فلا بأس، ونحن لا نعلم الموافقة، فلا يجوز، لان الجواز معلق بمعرفة الموافقة. والله أعلم.
فصل القتل بالسحر لا يثبت بالبينة، لأن الشاهد لا يعلم قصد الساحر، ولا يشاهد تأثير السحر، وإنما يثبت ذلك بإقرار الساحر، وقد سبق في الجنايات أنه إذا قال: قتلته بسحري، وسحري يقتل غالبا، فقد أقر بقتل العمد، وإن قال: وهو يقتل نادرا، فهو إقرار بشبه العمد، وإن قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه، فهو إقرار بالخطإ، ثم ديه شبه العمد، ودية الخطإ المخففة كلاهما في مال الساحر، ولا تطالب العاقلة بشئ إلا أن يصدقوه، لان إقراره عليهم لا يقبل، كما سيأتي في باب العاقلة إن شاء الله تعالى، وقوله في الوجيز هي على العاقلة خطأ وسبق قلم، لم يذكره غيره، ولا هو في الوسيط. فرع قال الشافعي رحمه الله في الام: لو قال: أمرض بسحري ولا أقتل، وأنا سحرت فلانا فأمرضته، عزر، قال: ولو قال: لا أمرض به، ولكن أوذي، نهي عنه، فإن عاد، عزر، لان السحر كله حرام. فرع إذا قال: أمرضته بسحري ولم يمت به، بل بسبب آخر، نص الشافعي رحمه الله في المختصر أنه لوث يقسم به الولي، ويأخذ الدية، قال الامام: وفيه قول مخرج: إنه ليس بلوث، والمذهب والمنصوص في الام وما عليه الجمهور، أنه إن بقي متألما إلى أن مات، حلف الولي، وأخذ الدية، وذلك قد يثبت بالبينة، وقد يثبت باعتراف الساحر، وإن ادعى الساحر البرء من ذلك المرض وقد مضت مدة يحتمل البرء فيها، فالقول قوله بيمينه، وعلى هذا يحمل نص المختصر. فرع قال: قتلت بسحري جماعة، ولم يعين أحدا، فلا قصاص ولا يقتل حدا، خلافا لابي حنيفة رحمه الله. فرع إذا أصاب غيره بالعين، واعترف بأنه قتله بالعين، فلا قصاص، وإن كانت العين حقا، لانه لا يفضي إلى القتل غالبا، ولا يعد مهلكا.(7/199)
قلت: ولا دية فيه أيضا ولا كفارة، ويستحب للعائن أن يدعو للمعين بالبركة، فيقول: اللهم بارك فيه ولا تضره، وأن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وفي صحيح مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العين حق، وإذا استغسلتم فاغسلوا قال العلماء: الاستغسال أن يقال للعائن: اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد بماء، ثم يصب عل المعين، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يؤمر العائن أن يتوضأ، ثم يغتسل منه المعين. وقد جاء في هذه المسألة أحاديث في الصحيح وغيره وغيرها أوضحتها في أواخر كتاب الاذكار. والله أعلم.
الباب الخامس : في العاقلة ومن عليه الدية وفي جناية الرقيق
قد سبق عند ذكر جهات تخفيف الدية وتغليظها، أن الدية في العمد على الجاني، وفي شبه العمد والخطإ على العاقلة، وسواء في العمد كان موجبا للدية ابتداء كقتل الاب الابن، أم كان موجبا للقصاص، ثم عفي على الدية، ولا تحمل العاقلة أيضا دية الاطراف في جناية العمد، ثم بدل العمد يجب حالا على قياس ابدال المتلفات، وبدل شبه العمد والخطإ، يجب مؤجلا، وفي الباب أطراف: الاول في بيان العاقلة، والثاني: في صفتهم، والثالث: في كيفية الضرب عليهم، وهذه الاطراف مختصة بجناية الحر، والرابع: في جناية الرقيق. أما العاقلة فجهات التحمل ثلاث: القرابة والولاء وبيت المال، وليست المحالفة والموالاة من جهات التحمل، ولا يتحمل الحليف ولا العديد الذي لا عشيرة له، فيدخل نفسه في قبيلة ليعد منها، ولا يتحمل أيضا عندنا أهل الديوان بعضهم عن بعض بمجرد ذلك، أما جهة القرابة فإنما يتحمل منها من كان على حاشية النسب وهم الاخوة وبنوهم والاعمام وبنوهم، وأما أبو الجاني وأجداده وبنوه وبنو بنيه، فلا يتحملون، لانهم أبعاضه وأصوله، فلم يتحملوه، كما لا يتحمل الجاني، وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بدية مقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها والولد، وفي الحديث الآخر قال لرجل معه ابنه: لا يجني عليك ولا تجني عليه أي: لا يلزمك موجب جنايته، ولا يلزمه موجب جنايتك، فلو جنت امرأة ولها ابن هو ابن ابن عمها، لم يتحمل على الاصح، لان البنوة مانعة. فرع يقدم أقرب العصبات فأقربهم، ومعنى التقديم: أن ينظر في الواجب(7/200)
عند آخر الحول، وفي الاقربين فإن كان فيهم وفاء إذا وزع الواجب عليهم لقلة الواجب أو لكثرتهم، وزع عليهم ولا يشاركهم من بعدهم وإلا فيشاركهم في التحمل من بعدهم ثم الذين يلونهم. والمقدم من العاقلة الاخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الاعمام ثم بنوهم، ثم أعمام الاب ثم بنوهم، ثم أعمام الجد ثم بنوهم على ما سبق في الميراث، وهل يقدم من يدلي من هؤلاء بالابوين على المدلي بالاب كالاخ من الابوين مع الاخ من الاب أم يستويان ؟ قولان، الجديد الاظهر تقديمه. فرع ذوو الارحام لا يتحملون، قال المتولي: إلا إذا قلنا بتوريثهم فيتحملون عند عدم العصبات كما يرثون عند عدمهم، ولا تحمل بالزوجية بحال. الجهة الثانية: الولاء، فإذا لم يكن للجاني عصبة نسب، أو كانوا ولم يف التوزيع عليهم يحمل معتقه، فإن لم يكن، أو فضل عنه شئ، تحمل عصبته من النسب، فإن لم يكونوا، أو فضل شئ، تحمل معتق المعتق، ثم عصباته، ولا يدخل في عصبة المعتق ابنه وأبوه على الاصح، وقيل: يدخل لفقد البعضية بينه وبين الجاني، ويجري الوجهان في ابن معتق المعتق وأبيه، فإن لم يوجد من له نعمة الولاء على الاب الجاني ولا أحد من عصباته، تحمل معتق الاب ثم عصباته، ثم معحق معتق الاب ثم عصباته، فإن لم يوجد من له نعمة الولاء على الاب، تحمل معتق الحد ثم عصباته كذلك إلى حيث ينتهي، واللقيط الذي لا يعرف نسبه لو ادعاه رجل، أو بلغ وانتسب إلى ميت واعترف به ورثته، يثبت نسبه، وتؤخذ دية جنايته من عصباته، فإن قامت بينة بأنه من قبيلة أخرى، فالحكم للبينة. فصل سيأتي إن شاء الله تعالى أن المرأة لا تتحمل العقل بحال، فلو أعتقت عبدا لم تحمل عقله، وإنما يحمله من يحمل دية جنايتها، كما يزوج عتيقها من يزوجها. فرع أعتق جماعة عبدا، فجنى خطأ، حملوا عنه حمل شخص واحد، لان الولاء لجميعهم لا لكل واحد، فإن كانوا أغنياء فالمضروب على جميعهم نصف دينار، وإن كانوا متوسطين، فربع، وإن كانوا بعضا وبعضا، فعلى الغنى حصته من النصف وعلى المتوسط حصته من الربع، ولو كان المعتق واحدا ومات عن إخوة مثلا، ضرب على كل واحد حصته تامة من نصف دينار أو ربعه، ولا يقال: يوزع(7/201)
عليهم ما كان الميت يحمله، لان الولاء لا يتوزع عليهم توزعه على الشركاء، ولا يرثون الولاء من الميت، بل يرثون به، ولو مات واحد من الشركاء المعتقين، أو جميعهم، حمل كل واحد من عصباته مثل ما كان يحمله الميت وهو حصته من نصف أو ربع، لان غايته نزوله منزلة ذلك الشريك. فرع إذا ضربنا على المعتق، فبقي شئ من الواجب، فهل يضرب على عصباته في حياته ؟ نقل الامام والغزالي المنع إذ لا حق لهم في الولاء ولا بالولاء في حياته، وتردد الامام فيما لو لم يبق المعتق وضربنا على عصبته، فهل يخص بالاقربين، لانهم أهل الولاء والارث، أم يتعدى إلى الاباعد كعصبة الجاني ؟ ورجح الاحتمال الثاني، وجزم به الغزالي، وصرح صاحبا الشامل والتتمة وغيرهما بالضرب عليهم.
فصل في تحمل العتيق عن المعتق قولان، أظهرهما: المنع إذ لا إرث، والثاني: نعم، ويتأخر عن المعتق، ولا يضرب على عصبته بحال، قال في البيان: مقتضى المذهب أن يكون في عتيق العتيق القولان، لان الجاني يتحمل عنه. فصل سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب العتق أن من لم يمسه رق قد يثبت عليه ولاء لمعتق أبيه أو جده أو أمه، وإن أمه إذا كانت عتيقة والاب رقيق، فعليه الولاء لمعتقها، فإن أعتق الاب، انجر ولاء الولد إلى مولى الاب، وتحمل عقله(7/202)
مفرع على الولاء، فيتحمله من له الولاء، فلو جنى متولد من عتيقة ورقيق، فالدية على مولى الام، ولو جرح رجلا، فأعتق أبوه، ثم مات المجروح فأرش الجراحة على مولى الام، والباقي على الجاني، لانه لا يمكن إيجابه على معتق الام، لزوال استحقاقه الولاء، ولا على معتق الاب، لانه وجب بسراية وجدت قبل انجرار الولاء إليه، ولا على بيت المال لوجود جهة الولاء، هكذا قاله ابن الحداد والاصحاب، وللامام والغزالي احتمال في بيت المال، لان تعذر الولاء كعدمه، وللمسألة نظائر منها: متولد من عتيقة ورقيق حفر بئرا عدوانا، أو أشرع جناحا أو ميزابا، فمات به رجل، فالدية على مولى الام، فإن أعتق أبوه، ثم حصل الهلاك، فالدية في ماله، ثم لو حفر العبد بئرا، ثم عتق، ثم تردى فيها شخص، أو رمى إلى صيد، فعتق، ثم أصاب السهم شخصا، فالدية في ماله، ولو قطع يد إنسان خطأ، فأعتقه سيده، ثم سرت إلى النفس، صار السيد بإعتاقه مختارا للفداء، فعليه الاقل من نصف الدية وكمال قيمة العبد، ويجب في مال الجاني نصف الدية، قال البغوي: ويجئ وجهان السيد يفديه بالاقل من كل الدية وكل القيمة، لان الجناية وجدت في الرق. ومنها: رمى ذمي صيدا، فأسلم، ثم أصاب إنسانا، فالدية في ماله لا على عاقلة الذمي ولا المسلم، لان الدية إنما يحملها من كان عاقلة في حالتي الرمي والاصابة، ولو رمى يهودي صيدا، ثم تنصر، ثم أصاب شخصا، قال الاصحاب: إن قلنا: لا يقر عليه، فهو مرتد لا عاقلة له، فالدية في ماله، وإن قلنا: يقر، فالدية على عاقلته، على أي دين كانوا، وليكن تحملهم على خلاف نذكره إن شاء الله تعالى متصلا به، ولو جرح ذمي رجلا خطأ، وأسلم، ثم مات المجروح، فأرش الجرح على عاقلته الذميين، والباقي في ماله، فإن زاد أرش الجرح على دية بأن قطع يديه ورجليه، فالواجب دية النفس على عاقلته الذميين، قاله ابن الحداد، ووافقه الجمهور، وفيه وجه قطع به في المهذب أن الارش والزائد على العاقلة الذميين اعتبارا بحال الجرح، ولو عاد بعد الاسلام وجنى على المجني عليه جناية أخرى خطأ، ومات منهما، فنصف الدية على عاقلته المسلمين، وأما الذميون، فإن كان أرش الجرح نصف الدية أو أكثر، فعليهم النصف أيضا، وإن كان أقل(7/203)
كأرش موضحة، فهو على الذميين، وما زاد إلى تمام النصف، فعلى الجاني، وإن كان الجرح بعد الاسلام مذففا قال الشيخ أبو علي وغيره: أرش الجرح الواقع في الكفر على الذميين، والباقي إلى تمام الدية على المسلمين، وفي النهاية والبيان إن هذا تفريع على قول ابن سريج فيمن جرح ثم قتل أنه لا يدخل أرش جرحه في الدية، وأما على الصحيح وهو الدخول، فجميع الدية على المسلمين، ولو عاد بعد الاسلام، فجرحه مع آخر خطأ، بني على الخلاف السابق أن الدية توزع على الجارحين أم على الجراحات ؟ إن قلنا: على الجارحين وهو الاصح، فعليه نصف الدية وهو واجب بالجرحين، فحصة جرح الاسلام وهي الربع على عاقلته المسلمين، وأما جرح الكفر، فإن كان أرشه كربع الدية أو أكثر، فعلى الذميين الربع أيضا، وإن كان دون الربع، فعليهم قدر الارش، والزيادة إلى تمام الربع في مال الجاني، وإن وزعنا على الجراحات، فثلث الدية وهو حصة جرح الاسلام على عاقلته المسلمين، وجرح الكفر إن كان أرشه كثلث الدية أو أكثر، فعلى الذميين الثلث، وإن كان أقل، فعليهم الارش، والباقي إلى تمام الثلث في مال الجاني. ومنها: لو جرح شخصا خطأ، ثم ارتد، ثم مات المجروح بالسراية، فأرش الجرح على عاقلته المسلمين، والباقي إلى تمام الدية في مال الجاني، فإن كان الارش كالدية، أو أكثر بأن قطع يديه ورجليه، فقدر الدية وهو الواجب يلزم العاقلة، ولو جرح وهو مرتد، ثم أسلم، ثم مات المجروح، فالدية في ماله إذ لا عاقلة للمرتد، ولو جرحه وهو مسلم، فارتد الجارح، ثم أسلم، ثم مات المجروح، فهل على عاقلته جميع الدية اعتبارا بالطرفين، أم عليهم أرش الجرح وما زاد في مال الجاني ؟ قال الشيخ أبو علي: فيه قولان، وجزم آخرون بوجوب الجميع عليهم إن قصر زمان الردة المتخللة، وخصوا القولين بطول زمانها، قال البغوي: ويجئ وجه أن على العاقلة ثلثي الدية لوجود الاسلام في حالين، ولو رمى سهما إلى صيد(7/204)
وارتد، فأصاب شخصا، أو رمى المرتد صيدا فأسلم، فأصاب السهم، فالدية في ماله، لانه تبدل حاله رميا وإصابة، ولو تخللت الردة بين الرمي والاصابة، فكذا الجواب في التهذيب وذكر أبو علي أنهم خرجوها على قولين، أحدهما: تجب الدية على عاقلته المسلمين، والثاني: في ماله. الجهة الثالثة: بيت المال، فيتحمل جناية من لا عصبة له بنسب ولا ولاء، أو له عصبة معسرون، أو فضل عنهم شئ من الواجب، فيجب الباقي في بيت المال إن كان الجاني مسلما، فإن كان مستأمنا أو ذميا، فلا، بل الدية في ماله على المذهب، وقيل: قولان، كمسلم لا عاقلة له ولا بيت مال، وهل يتحمل أبوه وابنه ؟ وجهان كالوجهين في المسلم إذا لم يكن له عاقلة ولا بيت مال، وقلنا: تجب عليه الدية، هل يلزم أباه وابنه ؟ وأما المرتد، فلا عاقلة له، فدية قتله خطأ في ماله مؤجلة، فإن مات، سقط الاجل. الطرف الثاني: في صفات العاقلة وهي خمس: الاولى: التكليف، فلا يعقل صبي ولا معتوه، الثانية: الذكورة، فلا تعقل امرأة ولا خنثى، فإن بان ذكرا، فهل يغرم حصته التي أداها غيره ؟ وجهان. قلت: لعل أصحهما: نعم. والله أعلم. الثالثة: اتفاق الدين، فلا يعقل مسلم عن ذمي وعكسه، وفي عقل يهودي عن نصراني وعكسه قولان. قلت: أظهرهما: نعم. والله أعلم. ولو كان لذمي أقارب حربيون، فلا قدرة عليهم، فهم كالعدم، قال المتولي: فإن قدر الامام على الضرب عليهم، بني على أن اختلاف الدار يمنع التوارث، إن قلنا: نعم، فلا ضرب، وإلا فوجهان، والمعاهد كالذمي، فيعقل عنه الذمي، ويعقل هو عن الذمي إن زادت مدة العهد على أجل الدية ولم ينقطع قبل مضي(7/205)
الاجل، الرابعة: الحرية، فلا يعقل مكاتب، الخامسة: أن يكون غنيا أو متوسطا لا فقيرا معتملا، ولا يمنع العقل مطلق المرض والكبر والزمانة والعمى والهرم، وفي الزمن والاعمى والهرم وجه، لضعفهم عن النصرة.
فصل يضرب على الغني نصف دينار، وعلى المتوسط ربع دينار، وهل النصف والربع حصة كل سنة أم لا يجب في السنين الثلاث إلا النصف أو الربع ؟ وجهان، أصحهما: الاول، قال البغوي: يضبط الغنى والتوسط بالعادة، ويختلف باختلاف البلدان والازمان، ورأي الامام أن الاقرب اعتبار ذلك بالزكاة، فإن ملك عشرين دينارا آخر الحول، فغني، وإن ملك دون ذلك فاضلا عن حاجاته، فمتوسط، ويشترط أن يملك شيئا فوق المأخوذ منه وهو الربع لئلا يصير فقيرا، وشرطهما أن يكون ما يملكانه فاضلا عن مسكن وثياب وسائر ما لا يكلف بيعه في الكفارة. فرع الاعتبار فيما يؤخذ كل حول بآخر ذلك الحول في أمور، أحدها: إذا تم حول وهناك إبل، جمعت العاقلة ما عليهم من نصف وربع، فاشتروا به إبلا، فإن لم توجد الابل، فعلى القولين في أن الواجب حينئذ القيمة أم بدل مقدر، فلو تأخر الاداء بعد الحول فوجدت، لزمهم الابل، وإن وجدت بعد أخذ البدل، لم يؤثر، الثاني: إذا لم يف التوزيع على العاقلة بواجب الحول، أخذ الباقي من بيت المال ولا ينتظر مضي الاحوال الثلاثة، الثالث: يعتبر غناه وتوسطه في آخر الحول، فلو كان معسرا آخر الحول، لم يلزمه شئ من واجب ذلك الحول، وإن كان موسرا من قبل، أو أيسر بعد، ولو كان موسرا آخر الحول، لزمه، فلو أعسر بعده، فهو دين عليه، ولو كان بعضهم في أول الحول كافرا أو رقيقا أو صبيا أو مجنونا، وصار في آخره بصفة الكمال، فهل تؤخذ منه حصته من واجب تلك السنة وما بعدها ؟ فيه أوجه، أصحها: لا، والثاني: نعم، والثالث: لا تؤخذ حصة تلك السنة ويؤخذ ما بعدها.(7/206)
فرع يشبه أن يكون المرعي في وجوب النصف والربع قدرهما، لا أنه يلزم العاقلة بذل الدنانير بأعيانهما، لان الابل هي الواجب في الدية، وما يؤخذ يصرف إلى الابل، وللمستحق أن لا يقبل غيرها، يوضحه أن المتولي قال: عليه نصف دينار، أو ستة دراهم.
الطرف الثالث : في كيفية الضرب على العاقلة، قد سبق بيان ترتيب العصبات والجهات، وقدر الواجب، فإذا انتهى التحمل إلى بيت المال، فلم يكن فيه مال، فهل يؤخذ الواجب من الجاني ؟ وجهان بناء على أن الدية تجب على العاقلة أولا، أم على الجاني، ثم تحملها العاقلة ؟ وفيه وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: تؤخذ من الجاني، فإن قلنا: لا تؤخذ، ففي وجه تجب الدية على جماعة المسلمين كنفقة الفقراء، ولم يذكر الجمهور هذا، لكن لو حدث في بيت المال مال، هل يؤخذ منه الواجب ؟ وجهان، حكاهما القاضي حسين وغيره، أحدهما: لا، كما لا يطالب فقير العاقلة لغناه بعد الحول، وإن قلنا: تؤخذ من الجاني، فهي مؤجلة عليه كالعاقلة، وهل تجب علي أبيه وابنه ؟ وجهان، أصحهما: لا، والثاني: نعم، ويقدمان على القاتل. فرع إذا اعترف الجاني بالخطإ أو شبه العمد، وصدقته العاقلة، فعليهم الدية، وإن كذبوه، لم يقبل إقراره عليهم ولا على بيت المال، لكن يحلفون على نفي العلم، فإذا حلفوا، فالدية على المقر قطعا، وعن المزني: أنه لا شئ عليه إن قلنا: تجب الدية أولا على العاقلة، قال الامام: ولا يبعد هذا عن القياس، والذي قطع به الاصحاب هو الاول، وتتأجل الدية عليه كالعاقلة، لكنه يؤخذ منه في آخر كل حول ثلث الدية بخلاف الواحد من العاقلة، فلو مات، فهل تحل الدية ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان الاجل يلازم دية الخطإ، وأصحهما: نعم، كسائر الديون المؤجلة بخلاف ما لو مات أحد العاقلة في أثناء الحول، لا تؤخذ من(7/207)
تركته، لان سبيله المواساة، والوجوب على الجاني سبيله صيانة الحق عن الضياع، فلا يسقط، فلو مات معسرا، قال البغوي: يحتمل أن تؤخذ الدية من بيت المال، كمن لا عاقلة له، ويحتمل المنع كما لو كان حيا معسرا. الثاني أرجح. والله أعلم. ولو غرم الجاني ثم اعترفت العاقلة، فإن قلنا: الوجوب يلاقيه، لم يرد الولي ما قبض، بل يرجع الجاني على العاقلة، وإن قلنا: هي على العاقلة أولا، رد الولي ما أخذ، وابتدأ بمطالبة العاقلة، وفي التهذيب أنه لو ادعى عليه قتل خطإ، أو شبه عمد ولا بينة ونكل المدعى عليه عن اليمين، فحلف المدعي، فإن قلنا: اليمين المردودة كإقرار المدعى عليه، وجبت الدية على المدعى عليه إن كذبت العاقلة المدعي، وإن قلنا: كالبينة، فهل الدية على العاقلة، أم على المدعى عليه ذهابا إلى أنها لا تكون كالبينة إلا في حق المتداعيين ؟ فيه وجهان.
فصل بدل الأطراف وأروش الجراحات والحكومات قليلها وكثيرها يضرب على العاقلة على المشهور كدية النفس، وحكي عن القديم قول أنها لا تضرب عليهم، لان الضرب على خلاف القياس لكن ورد الشرع به في النفس، فيقتصر عليها، ولهذا لا كفارة ولا قسامة في الطرف، وقول آخر: إن ما دون ثلث الدية لا يضرب، لانه لا يعظم اجحافه بالجاني. فرع لو كان الارش نصف دينار مثلا، والعاقلة جماعات، فوجهان، أصحهما: يوزع النصف عليهم، والثاني يعين له القاضي واحدا، أو جماعة باجتهاده كي لا يعسر التوزيع، وهذا كالخلاف فيما لو كثرت العاقلة في درجة بحيث(7/208)
لو وزع الواجب، لاصاب كل غني دون نصف، وكل متوسط دون ربع، فقولان، المشهور: ضربه على الجميع، والثاني: يخص الامام جماعة يضرب على أغنيائهم النصف، ومتوسطهم الربع، وعلى هذا وجهان، الصحيح: أنه يخص جماعة باجتهاده، والثاني: يجعلهم فريقين أو ثلاثة كما يقتضيه الحال ويقرع.
فصل لا خلاف أن ما يضرب على العاقلة يضرب مؤجلا وأن الأجل لا ينقص عن سنة، وأن دية النفس الكاملة تؤجل إلى ثلاث سنين، يؤخذ في كل سنة ثلثها، واختلف الاصحاب في علته، فراعت طائفة كونها بدل نفس محترمة، وراعى آخرون قدر الواجب واعتبروا التأجيل به، وهذا أصح، وتظهر فائدة الخلاف في صور: إحداها: بدل العبد أو طرفه إذا جني عليه خطأ، أو شبه عمد، هل تحمله العاقلة أم هو في مال الجاني ؟ قولان، أظهرهما: الاول وهو الجديد، لانه بدل آدمي ويتعلق به قصاص وكفارة، فعلى هذا لو اختلف السيد والعاقلة في قيمته، صدقوا بأيمانهم، فلو صدقه الجاني لم يقبل عليهم بل الزيادة على ما اعترفت به العاقلة في ماله، وعلى هذا القول لو كانت قيمة العبد قدر دية حر ضربت في ثلاث سنين، ولو كانت قدر ديتين، فهل تضرب في ثلاث سنين لكونها بدل نفس، أم في ست سنين في كل سنة قدر ثلث دية نظرا إلى القدر ؟ وجهان، أصحهما: الثاني. الثانية: في دية النفس الناقصة، كامرأة وذمي وغرة جنين، وجهان، أحدهما: في ثلاث سنين، لانها نفس، وأصحهما: ينظر إلى القدر، فدية اليهودي والنصراني والمجوسي والجنين في سنة، فإنها لا تزيد على الثلث، ودية المرأة في سنتين، في آخر الاولى ثلث دية الرجل، وفي آخر الثانية الباقي. الثالثة: قتل جماعة كثلاثة رجال مثلا، فهل تضرب دياتهم على عاقلته في ثلاث سنين أم في تسع ؟ وجهان أصحهما: الاول، ولو قتل ثلاثة واحدا، فعلى عاقلة كل واحد ثلث ديته، مؤجل عليهم في ثلاث سنين على الصحيح، وقيل: في سنة. الرابعة: دية الاطراف وأروش الجراح والحكومات، قيل: تضرب في سنة(7/209)
قلت أم كثرت، والصحيح: التفضيل، فإن لم يزد الواجب على ثلث الدية، ضرب في سنة، وإن زاد عليه ولم يجاوز الثلثين، ففي سنتين في آخر الاولى ثلث دية وفي آخر الثانية الباقي، وإن زاد على الثلثين ولم يجاوز الدية، ففي ثلاث سنين، وإن زاد كقطع يديه ورجليه، فالمذهب أنه في ست سنين، وقيل: في ثلاث، ويد المرأة في سنة ويداها كنفسها.
فصل مات بعض العاقلة في أثناء السنة لا يؤخذ شئ من تركته، كالزكاة، ولو مات بعد الحول والوجوب عليه، وجب في تركته. فصل إن كانت العاقلة حاضرين في بلد الجناية، فالدية عليهم، وإن كانوا غائبين، لم يستحضروا ولا ينتظر حضورهم بل إن كان لهم هناك مال أخذ منه، وإلا فيحكم القاضي عليهم بالدية على ترتيبهم، ويكتب بذلك إلى قاضي بلدهم ليأخذها، وإن شاء حكم بالقتل وكتب إلى قاضي بلدهم ليحكم عليهم بالدية، ويأخذها منهم، وإن غاب بعضهم وحضر بعضهم، نظر، إن استووا في الدرجة، فقولان، أحدهما: يقدم من حضر لقرب داره وإمكان النصرة منه، وأظهرهما: تضرب على الجميع، ويكون كما لو حضروا كلهم أو غابوا، وعلى الاول إن لم يكن في الحاضرين وفاء، ضرب الباقي على الغائبين، وطريقه كتاب القاضي كما سبق، وإن اختلفت دارهم، قدم الاقرب دارا فالاقرب، هكذا ذكر القولين الجمهور، وجعلهما المتولي في أنه هل يجوز تخصيص الحاضرين وإن اختلفت درجتهم، فإن كان الحاضرون أقرب، وزع عليهم، فإن لم يفوا بالواجب كتب القاضي لما بقي، وإن كانوا أبعد ففي تخصيص الحاضرين طريقان، أصحهما: طرد الخلاف، والثاني: القطع بالضرب على الاقربين وإن بعدت دارهم، وبه قطع الشيخ أبو حامد والعراقيون. فصل ابتداء المدة في دية النفس من وقت الزهوق، سواء قتله بجرح مذفف أو بسراية جرح ولا خلاف فيما ذكرناه في كتب الاصحاب في جميع الطرق، وأما قول الغزالي: إن ابتداء المدة من وقت الرفع إلى القاضي، فلا يعرف لغيره، وقد نقله صاحب البيان عن الخراسانيين، ويمكن أنه أراد به الغزالي، وأما(7/210)
أرش ما دون لنفس، فإن لم يسر واندملت، فابتداء مدتها من وقت الجناية على الصحيح، وقال أبو الفياض: من الاندمال، فعلى الاول، لو مضت سنة ولم تندمل، ففي مطالبة العاقلة بالارش الخلاف السابق في مطالبة الجاني العامد قبل الاندمال، وإن سرت من عضو إلى عضو، بأن قطع أصبعه، فسرت إلى كفه، فهل ابتداء المدة من سقوط الكف أم من الاندمال، أم أرش الاصبع من يوم القطع، وأرش الكف من يوم سقوطها ؟ فيه ثلاثة أوجه، وبالاول قطع البغوي، وبالثاني الشيخ أبو حامد وأصحابه، والثالث اختاره القفال والامام والغزالي والروياني.
فصل في مسائل منثورة : القاتل خطأ لا يحمل شيئا من الدية، ومن قتل نفسه أو قطع طرفه خطأ أو عمدا فهدر. جناية الصبي والمجنون محمولة إن كانت خطأ أو شبه عمد أو عمدا، وقلنا: عمدهما خطأ. لو حل نجم ولا إبل في البلد، قومت يومئذ، وأخذت قيمتها، ولا تعتبر بعض النجوم ببعض، وفي فتاوي البغوي أن من نصفه حر، ونصفه رقيق إذا قتل خطأ تجب نصف الدية على عاقلته.
الطرف الرابع : في جناية العبد وأم الولد، فإذا جنى عبد جناية توجب مالا أو قصاصا، وعفي على مال، تعلق برقبته فتؤدى منها، وهل تتعلق مع ذلك بذمته ؟(7/211)
فيه قولان مستنبطان من قواعد الشافعي رحمه الله تعالى، ويقال: وجهان، أحدهما: نعم، فتكون الرقبة مرهونة به، وأظهرهما عند الجمهور: لا، وينسب إلى الجديد، فإن قلنا بالذمة، فبقي شئ بعد صرف ثمنه إلى الارش، اتبع به بعد معتق، وكذا لو ضاع الثمن قبل صرفه إلى المجني عليه يطالب بالجميع، وهل يجوز ضمانه ؟ وجهان، أحدهما: لا، لعدم استقراره في الحال، وأصحهما: نعم، كضمان المعسر وأولى لتوقع يساره، وضمان ما يلزم ذمته بدين المعاملة أولى بالصحة. ولا خلاف أنه يصح ضمان ما تعلق بكسبه، كالمهر في نكاح صحيح، ولو ضمنه السيد فمرتب على ضمان الاجنبي وأولى بالصحة لتعلقه بملكه، ثم العبد المتعلق برقبته مال لا يصير ملكا للمجني عليه، بل سيده بالخيار بين أن يبيعه بنفسه، أو يسلمه للبيع، وبين أن يبقيه لنفسه ويفديها، ويكون المال الذي بذله فداء كالثمن الذي يشتريه به أجنبي، وإذا سلمه للبيع، فإن كان الارش يستغرق قيمته، بيع كله، وإلا فقدر الحاجة إلا أن يأذن سيده في بيع الجميع، فيؤدي الارش ويكون الباقي له، وكذا الحكم لو لم يوجد من يشتري بعضه، وإن أراد سيده فداءه، فبكم يفديه ؟ قولان، أظهرهما باتفاق الاصحاب وهو الجديد: بأقل الامرين من قيمته وأرش الجناية، والقديم: بالارش بالغا ما بلغ، فعلى الجديد قال البغوي: النص أنه تعتبر قيمته يوم الجناية، وقال القفال: ينبغي أن تعتبر قيمته يوم الجناية، وقال القفال: ينبغي أن تعتبر قيمته يوم الفداء، لان ما نقص قبل ذلك لا يؤاخذ السيد به، وحمل النص على ما إذا سبق من السيد منع من بيعه حالة الجناية، ثم نقصت قيمته، ولو جنى، ففداه، ثم جنى، فإما أن يسلمه ليباع، وإما أن يفديه ثانيا، فإن كانت الجناية الثانية قبل الفداء، فإن سلمه للبيع، بيع ووزع الثمن على أرش(7/212)
الجنايتين، وإن اختار الفداء، فداه على الجديد: بأقل الامرين من القيمة والارشين، وعلى القديم: بالارشين، وكذا الحكم لو كان سلمه للبيع، فجنى ثانيا قبل البيع، ولو قتل السيد عبده الجاني أو أعتقه أو باعه، وقلنا بنفوذهما، أو استولد الجانية، لزمه الفداء، وفي قدره طريقان، أحدهما: طرد القولين، وأصحهما: القطع بأقل الامرين لتعذر البيع وبطلان توقع زيادة راغب. ولو مات الجاني أو هرب قبل أن يطالب السيد بتسليمه، فلا شئ على السيد، وكذا لو طولب ولم يمنعه، فلو منعه، صار مختارا للفداء، قال البغوي: ولو قتل الجاني، فللسيد أن يقتص، وعليه الفداء للمجني عليه، ويجوز أن ينظر في وجوب الفداء عليه إلى أن موجب العمد القصاص، أو أحد الامرين، فإن كان القتل موجبا للمال، تعلق حق المجني عليه بقيمته، وإذا أخذت، يخير السيد في تسليم عينها أو بدلها من سائر أمواله، وإذا لزم الفداء بعد موت العبد أو قبله، ففيما يفديه به ؟ الطريقان فيمن قتل العبد أو أعتقه لحصول اليأس من بيعه بما يزيد على قيمته، ولو قال السيد: اخترت الفداء، أو قال: أنا أفديه، فوجهان، أحدهما: يلزمه الفداء ولا يقبل رجوعه، والصحيح: أنه لا يلزمه بل يبقى خياره كما كان، وموضع الخلاف ما إذا كان العبد حيا، فإن مات فلا رجوع له بحال.
فصل إذا جنت مستولدة على نفس أو مال، وجب على سيدها الفداء، وفيما يفديه به طريقان، المذهب أنه بأقل الامرين من قيمتها والارش، والثاني:(7/213)
على قولين، كالقن، والفرق أنها غير قابلة للبيع، وهل تعتبر قيمة يوم الجناية، أم يوم الاستيلاد، وجهان، أصحهما: الاول، ولو جنت جنايتين، وقلنا: يفدي بالارش، لزم السيد الاروش بالغة ما بلغت، وإن قلنا بالمذهب: إن الواجب أقل الامرين، فإن كان أرش الجناية الاولى دون القيمة وفداها به وكان الباقي من قيمتها يفي بأرش الجناية الثانية، فداها بأرشها أيضا، وإن كان أرش الاولى كالقيمة أو أكثر أو أقل، والباقي من القيمة لا يفي بأرش الجناية الثانية، فثلاثة أقوال، أظهرها: أن الجنايات كلها كواحدة، فيلزمه البيع فداء واحد، والثاني: يلزمه لكل جناية فداء، والثالث: إن فدى الاولى قبل جنايتها الثانية، لزمه فداء آخر، وإلا فواحد، وإذا ألزمناه فداء واحدا، اشترك فيه المجني عليهما أو عليهم على قدر جناياتهم، فلو كانت قيمة المستولدة ألفا وأرش كل واحدة من الجنايتين ألفا، فلكل منهما خمسمائة، فإن كان الاول قبض الالف، استرد الثاني منه خمسمائة، فإن كانت قيمتها ألفا وأرش الاولى ألف والثانية خمسمائة، يرجع الثاني على الاول بثلث الالف ولو كانت الاولى خمسمائة والثانية ألفا، أخذ الثاني من السيد خمسمائة تمام القيمة، ورجع على الاول بثلث خمس المائة التي قبضها ليصير معه ثلثا الالف، ومع الاول ثلثه، ثم قيل: الخلاف عند تخلل الفداء فيما إذا دفع السيد الفداء إلى المجني عليه الاول باختياره، أما إذا دفعه بقضاء القاضي فلا يلزمه شئ آخر قطعا، وعن ابن أبي هريرة أنه لا فرق، وتجري الاقوال في الجناية الثالثة والرابعة وإلى ما لا نهاية له،(7/214)
ومهما زادت الجناية، زاد الاسترداد، وشبه ذلك بما إذا قسمت تركة إنسان على غرمائه أو ورثته وكان حفر بئر عدوان، فهلك بها شئ، زاحم المستحق الغرماء والورثة، واسترد منهم حصته، فلو هلك آخر، زاد الاسترداد. فرع جنى القن، فمنع السيد بيعه، واختار الفداء، ثم جنى، ففعل مثل ذلك، لزمه لكل جناية الاقل من أرشها وقيمته، ولو جنى جنايات ثم قتله السيد أو أعتقه، لا يلزمه إلا فداء واحد. فرع وطئ الجانية، فوجهان، أحدهما: أنه اختيار للفداء، كما أن وطئ البائع في زمن الخيار فسخ، ووطئ المشتري إجازة، والصحيح: المنع، لان الوطئ لا دلالة له على الالتزام، مع أنه لو التزم لم يلزمه على الاصح كما سبق ويخالف الخيار، فإنه ثبت بفعله فسقط به، وخيار السيد هنا ثبت بالشرع، فلا يسقط بفعله. فرع جنت جارية لها ولد، أو ولدت بعد الجناية، من كان موجودا حال الجناية، أو حدث بعدها لا يتعلق به الارش، فإن لم يجوز التفريق، بيع معها وصرفت حصة الام إلى الارش، وحصة الولد للسيد، وهل تباع حاملا بحمل كان يوم الجناية أو حدث ؟ إن قلنا: الحمل لا يعرف، بيعت، كما لو زيدت زيادة متصلة، وإلا، فلا تباع حتى تضع، لانه لا يمكن إجبار السيد على بيع الحمل، ولا يمكن استثناؤه. فرع لو لم يفد السيد الجاني ولا سلمه للبيع، باعه القاضي، وصرف الثمن إلى المجني عليه، ولو باعه بالارش، جاز إن كان نقدا، وكذا إن كان إبلا وقلنا: يجوز الصلح عنها.
الباب السادس : في دية الجنين فيه أطراف
الأول : الموجب وهو جناية توجب انفصال الجنين ميتا، فهذه قيود، الاول: الجناية وهي ما يؤثر في الجنين من ضرب، وإيجار دواء ونحوهما، ولا أثر للطمة(7/215)
خفيفة ونحوها، كما لا يؤثر في الدية. الثاني: الانفصال، فلو ماتت الام ولم ينفصل جنين، لم يجب على الضارب شئ، وكذا لو كانت منتفخة البطن، فضربها شخص فزال الانتفاخ، أو كانت تجد حركة في بطنها فزالت، لجواز أنه كان ريحا فانفشت، ثم هل يعتبر انكشاف الجنين بظهور شئ منه أم الانفصال التام ؟ وجهان، أصحهما: الاول لتحقق وجوده، ويتفرع عليهما ما لو ضرب بطنها، فخرج رأس الجنين مثلا، وماتت الام كذلك، ولم ينفصل، أو خرج رأسه ثم جنى عليها فماتت، فعلى الاصح تجب الغرة لتيقن وجوده، وعلى الثاني لا، ولو قدت نصفين، وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل، ففيه الوجهان، ولو خرج رأسه وصاح فحز رجل رقبته، فعلى الاصح يجب القصاص والدية، لانا تيقنا بالصياح حياته، وإن اعتبرنا الانفصال، فلا قصاص ولا دية، ولو صاح ومات، فوجوب الدية على الخلاف. الثالث: كون المنفصل ميتا، فلو انفصل حيا، نظر، إن بقي زمانا سالما غير متألم ثم مات، فلا ضمان على الضارب لان الظاهر أنه مات بسبب آخر، وإن مات عند خروجه أو بقي متألما حتى مات، وجبت فيه دية كاملة، لانا تيقنا حياته، فأشبه سائر الاحياء، وسواء استهل، أو وجد ما يدل على حياته، كتنفس وامتصاص لبن وحركة قوية، كقبض يد وبسطها، ولا عبرة بمجرد الاختلاج على المشهور، وإذا علمت الحياة، فسواء كان انتهى إلى حركة المذبوح أم لم ينته، وبقي يوما ويومين ثم مات، لانا تيقنا الحياة في الحالين، والجناية عليه،(7/216)
والظاهر موته بها، وسواء انفصل لوقت يعيش فيه، أو لوقت لا يتوقع أن يعيش، بأن ينفصل لدون ستة أشهر، وقال المزني: إن لم يتوقع أن يعيش أو كان انتهى إلى حركة المذبوح، ففيه الغرة دون الدية، ولو قتل شخص هذا الجنين بعد انفصاله، فإن انفصل لا بجناية، فعلى القاتل القصاص، كما لو قتل مريضا مشرفا على الموت، وإن انفصل بجناية، فإن كان فيه حياة مستقرة فكذلك، وإلا فلا شئ على الثاني، والقاتل هو الاول، ولو انفصل ميتا بعد موت الام من الضرب، وجبت الغرة كما لو انفصل في حياتها، لانه شخص مستقل، فلا يدخل في ضمانها. فرع سواء في وجوب الغرة كان الجنين ذكرا أو أنثى، ثابت النسب أو غيره، تام الاعضاء أو ناقصها، ولو اشترك اثنان في الضرب، فالغرة عليهما، ولو ألقت جنينين، وجب غرتان، ولو ألقت حيا وميتا، ومات الحي، وجب دية وغرة، ولو ضرب بطن ميتة فانفصل منها جنين ميت، فلا غرة، كذا قاله البغوي قال القاضي الطبري: يجب لان الجنين قد يبقى في جوفها حيا، والاصل بقاء الحياة. فرع ألقت المضروبة يدا أو رجلا وماتت، ولم ينفصل الجنين بتمامه، فالصحيح وجوب الغرة، وهو نصه في المختصر وفي وجه يجب نصف غرة، لان اليد تضمن بنصف الجملة، وهو تفريع على أن الجنين لا يضمن حتى ينفصل كله، ولو ألقت يدين أو رجلين، أو يدا ورجلا، وجبت غرة قطعا، ولو ألقت من الايدي والارجل ثلاثا، أو أربعا، أو رأسين، فغرة على الصحيح، وقيل: غرتان، ولو ألقت بدنين، فغرتان، لان الشخص الواحد لا يكون له بدنان بحال، كذا ذكره الامام والغزالي والبغوي وغيرهم، وحكى الروياني من نص الشافعي رحمه الله خلافه وجوز بدنين لرأس، كرأسين لبدن، ولو ألقت عضوا، كيد أو رجل، ثم(7/217)
ألقت جنينا، فله حالان، أحدهما: أن يكون الجنين فقيد ذلك العضو، فينظر، إن ألقته قبل الاندمال، وزوال ألم الضرب، فإن كان ميتا، لم تجب إلا غرة، وبقدر العضو مبانا منه بالجناية، وإن انفصل حيا، ثم مات من الجناية، وجب دية ودخل فيها أرش اليد، وإن عاش، فقد أطلق البغوي وجوب نصف الدية على عاقلة الضارب، ونقل ابن الصباغ وغيره أنه تراجع القوابل، فإن قلن: إنها يد من خلق فيه حياة، وجب نصف الدية، وكذا إن علمنا انفصال اليد منه بعد خلق الحياة، بأن ألقتها ثم انفصل الجنين عقب الضرب، وإن شككنا في حاله، وجب نصف الغرة عملا باليقين، وليكن اطلاق البغوي محمولا على ذا التفصيل، وإن ألقته بعد الاندمال، لم يضمن الجنين، حيا كان أو ميتا، لزوال الالم الحاصل بفعله، وأما اليد، فإن خرج ميتا، فعليه نصف غرة لها، وإن خرج حيا ومات أو عاش، فقيل: يجب نصف غرة، كما لو قطع يد شخص فاندمل ثم مات، وقيل: تراجع القوابل كما سبق، ولو ضرب بطنها فألقت يدا، ثم ضربها آخر فألقت جنينا لا يد له، فإن ضرب الثاني قبل الاندمال وانفصل الجنين ميتا، فالغرة عليهما، وإن انفصل حيا، فإن عاش، فعلى الاول نصف الدية، وليس على الثاني سوى التعزير، وإن مات فعليهما الدية، وإن ضرب الثاني بعد الاندمال، فإن انفصل ميتا، فعلى الاول نصف الغرة، وعلى الثاني غرة كاملة، كما لو قطع يد رجل فاندمل، ثم قتله آخر، فعلى الاول نصف دية، وعلى الثاني دية، وإن خرج حيا، فعلى الاول نصف الدية، ثم إن عاش فليس على الثاني إلا التعزير، وإن مات، فعليه دية كاملة. الحال الثاني: أن ينفصل الجنين كامل الاطراف، فينظر، إن انفصل قبل الاندمال، فمقتضى ما سبق فيمن ألقت ثلاث أيد، أن يقال: إن انفصل ميتا، لم يجب إلا غرة واحدة، لاحتمال أن التي ألقتها كانت يدا زائدة، وإن انفصل حيا(7/218)
ومات، فالواجب غرة، وإن عاش، لم يجب إلا حكومة، وبهذا التفصيل جزم الغزالي، وفي التتمة والتهذيب أنه إن انفصل ميتا وجب غرتان، إحداهما لليد، والاخرى للجنين، وإن خرج حيا ومات، وجب دية وغرة، ولو ألقت أولا جنينا كاملا، ثم يدا، فالحكم كذلك، وإن انفصل الجنين بعد الاندمال، لم يجب بسبب الجنين شئ، ولو ضربها رجل، فألقت اليد، ثم ضربها آخر، فألقت الجنين، ففي التهذيب أن ضمان الجنين على الثاني، سواء ضرب بعد اندمال الاول، أو قبله، فإن خرج ميتا، وجب فيه غرة، وإن خرج حيا فمات، فدية، وقياس ما سبق أن يقال: إن ضرب الثاني قبل الاندمال وانفصل ميتا، وجبت الغرة عليهما، وإن انفصل حيا وعاش، فعلى الاول حكومة، وليس على الثاني إلا التعزير، وإن مات، فعليهما الدية.
الطرف الثاني : في الجنين الذي تجب فيه الغرة قد سبق في كتاب العدة أن الغرة تجب إذا سقطت بالجناية ما ظهر فيه صورة آدمي، كعين أو أذن أو يد ونحوها، ويكفي الظهور في طرف ولا يشترط في كلها، ولو لم يظهر شئ من ذلك، فشهد القوابل أن فيه صورة خفية يختص بمعرفتها أهل الخبرة، وجبت الغرة أيضا، وإن قلن: ليس فيه صورة خفية، لكنه أصل آدمي ولو بقي لتصور، لم تجب الغرة على المذهب، وإن شككن هل هو أصل آدمي، لم تجب قطعا. فصل إنما تجب الغرة الكاملة في جنين محكوم بإسلامه تبعا لابويه أو أحدهما، وبحريته، فأما الجنين المحكوم بأنه يهودي أو نصراني تبعا لابويه، ففيه أوجه، أحدها: لا يجب فيه شئ أصلا، والثاني: تجب غرة كالمسلم، وأصحها وبه قطع الجمهور: يجب ثلث غرة المسلم، فعلى هذا في الجنين المجوسي ثلثا عشر غرة المسلم، وهو ثلث بعير، ثم قيل: يؤخذ هذا القدر من الدية ويدفع إلى المستحق، ولا يصرف في غرة، وقيل: يدفع هذا القدر، أو غرة بقيمته، والاصح المنصوص: أنه يشتري به غرة إلا أن لا توجد فيعدل حينئذ إلى الابل أو الدراهم،(7/219)
ولو كان أحد أبوي الجنين يهوديا أو نصرانيا، والآخر مجوسيا، فهل يجب فيه ما يجب في الجنين النصراني أم المجوسي، أم يعتبر بالاب ؟ فيه أوجه، الاصح المنصوص هو الاول، ولو كان أحد أبويه ذميا، والآخر وثنيا لا أمان له، فعلى الاصح يجب ما يجب فيمن أبواه ذميان، وعلى الثاني: لا شئ فيه، وعلى الثالث: يعتبر جانب الاب، والجنين المتولد من مستأمنين كجنين الذميين، ولو اشترك مسلم وذمي في وطئ ذمية بشبهة فحبلت وأجهضت جنينا بجناية، يعرض الجنين على القائف وله حكم من ألحقه به، وإن أشكل الامر أخذ الاقل ووقف إلى أن ينكشف الحال أو يصطلحوا، قال في البيان: ولا يجوز أن يصطلح الذمي والذمية في قدر الثلث منه لجواز أن يكون الجميع للمسلم لا حق لهما فيه، ويجوز أن يصطلح في الثلث المسلم والذمية، لانه لا حق للذمي فيه، ولا يخرج استحقاقه عنهما، والمسألة مفرعة على أن الميت يعرض على القائف وهو الصحيح، ولو جنى على مرتدة حبلى، فأجهضت، نظر، إن ارتدت بعد الحبل، وجبت غرة، لان الجنين محكوم بإسلامه، وإن حبلت بعد الردة من مرتد، بني على المتولد من مرتدين مسلم أم كافر ؟ إن قلنا: مسلم، وجب غرة، وإلا فلا شئ فيه على الصحيح، كجنين الحربيين، وبه قطع الشيخ أبو علي وغيره، وفي التهذيب أن فيه دية جنين مجوسي لعلقة الاسلام. فرع جنى على ذمية حبلى من ذمي، فأسلم أحدهما، ثم أجهضت، وجبت غرة كاملة، لان الاعتبار في الضمان بآخر الامر، وكذا حكم من جنى على أمة حبلى، فعتقت ثم ماتت، وفيما يستحقه سيدها من ذلك وجهان، أو قولان، الصحيح: الاقل من عشر قيمة الامة ومن الغرة، والثاني: لا يستحق السيد بحكم الملك شيئا، قاله القاضي أبو الطيب والقفال، لان الاجهاض حصل حال(7/220)
الحرية، فصار كحر تردى في بئر كان عند حفرها رقيقا، لا شئ لسيده من الضمان. فرع جنى على حربية، فأسلمت ثم أجهضت، فالاصح وبه قال ابن الحداد: لا يجب شئ، وقيل: يجب غرة. قلت: قال البغوي: يجري الوجهان فيما لو جنى السيد على أمته الحامل من غيره، فعتقت، ثم ألقت الجنين. والله أعلم. فرع الجنين الرقيق فيه عشر قيمة الام، ذكرا كان أو أنثى، قنة كانت أمه أو مدبرة ومكاتبة ومستولدة، ولو ألقت جنينا ميتا، فعتقت، ثم ألقت آخر ميتا، فالواجب في الاول عشر قيمة الام، وفي الثاني الغرة، وفي القيمة المعتبرة وجهان، أحدهما: قيمة يوم الاجهاض، والاصح المنصوص تعتبر القيمة أكثر ما كانت من الجناية إلى الاجهاض، فلو كان الجنين سليما والام مقطوعة الاطراف أو بالعكس، فوجهان، أحدهما: تقوم مقطوعة، وأصحهما: سليمة، كما لو كانت كافرة والجنين مسلم، يقدر فيها الاسلام وتقوم مسلمة، وكما لو كان الجنين رقيقا وهي حرة، بأن كانت لرجل والجنين لآخر فأعتقها صاحبها، وبقي الجنين رقيقا لصاحبه، تقدر الام رقيقة، ويجب في الجنين عشر قيمتها. فرع جارية مشتركة بينهما نصفين، حبلت من زوج أو زنى، وجنى عليها رجل فألقت جنينا ميتا، لزمه عشر قيمة الام للسيدين، فلو جنى عليها أحدهما،(7/221)
فألقت ميتا، لزمه نصف عشر قيمة الام لشريكه، ولو أعتقها بعدما جنى، ثم ألقته، نظر، إن كان معسرا عتق نصيبه من الام والجنين وعليه نصف عشر قيمة الام لشريكه، وهل يلزمه نصف الغرة للنصف الحر ؟ وجهان، قال ابن الحداد: لا، لانه وقت الجناية كان ملكه، وقال آخرون: نعم، وهو نصه في الام لان الجناية على الجنين إنما تتحقق عند الالقاء، وهو حر حينئذ، والخلاف مبني على أن الموجب للغرة الضرب أو الاجهاض، وفيه وجهان، وأكثر الناقلين يميلون إلى ترجيح وجوب نصف الغرة، والاصح ما رجحه الشيخ أبو علي وجماعة أنه لا يجب، وأن الموجب الضرب لتأثيره، فإن أوجبنا، بني على أن من بعضه رقيق هل يورث، إن قلنا: نعم، فهو لورثته غير سيده وأمه، لانه قاتل وبعضها رقيق، وإن قلنا: لا، فهل هو لبيت المال أم للمالك نصفه ؟ فيه الخلاف السابق في الفرائض، أما إذا كان المعتق موسرا، فإن قلنا: تحصل السراية بنفس الاعتاق أو بأداء القيمة وأداها قبل الاجهاض، فعلى الجاني الغرة وتصرف إلى ورثة الجنين، وإن قلنا: تحصل بأداء القيمة ولم يؤدها حتى أجهضت، فحكمه كما ذكرنا فيما لو كان معسرا، وإن قلنا: العتق موقوف، فإن أدى القيمة تبين حصول العتق من وقت اللفظ، ويكون حكمه كما إذا قلنا: تحصل بنفس الاعتاق، وإن لم يؤد، فكما ذكرنا لو كان معسرا، ولو كانت المسألة بحالها لكن أعتق أحدهما نصيبه ثم جنى عليها جان، فألقت جنينا ميتا، فالجاني المعتق أو شريكه أو أجنبي، فإن كان المعتق، نظر، إن كان معسرا، بقي نصيب الشريك ملكا له، فعليه له نصف عشر قيمة الام، وعليه للنصف الذي عتق نصف الغرة بلا خلاف، ولمن يكون ذلك ؟ يبنى على الخلاف فيمن بعضه حر، هل يورث كما سبق، وإن كان موسرا، فإن قلنا: تحصل السراية بأداء القيمة، أو قلنا: بالوقف، وأدى القيمة، غرم لشريكه نصف قيمة الامة حاملا ولا يفرد الجنين بقيمته، بل يتبع الام في التقويم، كما يتبعها في البيع، ويلزمه بالجناية الغرة، لان الجنين حر، وترث الام منها، لانها حرة، والباقي منها لعصبته ولا شئ للمعتق، لانه قاتل، وإن جنى الشريك الآخر، فإن كان المعتق معسرا،(7/222)
فنصف الجنين مملوك للجاني، فيلزمه نصف غرة للنصف الحر، ويعود الخلاف في أنه لمن هو، وإن كان موسرا، فإن قلنا: لا تحصل السراية إلا بأداء القيمة، أو قلنا: بالوقف، ولم يؤد القيمة، فالحكم كما لو كان معسرا، وإن قلنا: يعتق باللفظ أو بالتوقف، وأدى القيمة، فللجاني على المعتق نصف قيمتها حاملا وعلى الجاني الغرة، وترثها الام والعصبة، وإن كان الجاني أجنبيا، فإن كان المعتق معسرا، فقد أتلف الاجنبي جنينا نصفه حر، ونصفه رقيق، فعليه نصف غرة، ونصف عشر قيمة الام، وإن كان المعتق موسرا، وعتق كله، فقد أتلف الاجنبي جنينا حرا ففيه غرة، ولو جنى عليها الشريكان معا، فأجهضت جنينا، فعلى كل واحد منهما للآخر ربع عشر قيمة الام، لان كل واحد منهما جنى على ملك نفسه وملك صاحبه، ونصيب كل واحد تلف بفعليهما، فهدر جنايته على ملكه والحقان من جنس واحد، فيكون على خلاف التقاص. وإن أعتقاها معا بعدما جنيا، أو وكلا رجلا، فأعتقها بكلمة، ثم أجهضت، فقد عتق الجنين مع الام قبل الاجهاض، فيضمن بالغرة، وفيما يجب على كل واحد منهما وجهان، قال ابن الحداد: ربع الغرة اعتبارا بحال الجناية، وقال غيره: نصفها اعتبارا بحال الاجهاض، وللام ثلث الواجب والباقي للعصبة، ولا يرث السيدان منها شيئا، لانهما قاتلان، ولو جنى عليها أحدهما، ثم أعتقاها، ثم أجهضت، فعلى قول ابن الحداد: على الجاني نصف الغرة، ولشريكه الاقل من نصفها ونصف عشر قيمة الام، وعلى قول غيره: عليه غرة كاملة اعتبارا بيوم الاجهاض. فرع وطئ شريكان مشتركة، فحبلت، فجنى، فألقت ميتا، فإن كانا موسرين، فالجنين حر وعلى الجاني غرة، وهي لمن يلحقه الجنين، وإن كانا معسرين، فهل كل الولد حر أم نصفه ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، فعلى هذا على الجاني نصف الغرة، ونصف عشر قيمة الام، فنصف الغرة لمن يلحقه، ونصف عشر القيمة للآخر. فرع جنت مستولدة حامل من سيدها على نفسها، فألقت جنينا ميتا، فلا ضمان إن لم يكن للجنين وارث سوى السيد، وإن كان له أم أم حرة، غرم السيد لها(7/223)
الاقل من قيمة المستولدة وسدس الغرة، قال الشيخ أبو علي: ويجئ قول: إن عليه سدس الغرة بالغا ما بلغ على أن أرش جناية المستولدة يلزم السيد بالغا ما بلغ. فرع مات عن زوجة حامل وأخ لاب، وفي التركة عبد، فضرب بطنها، فألقت الجنين ميتا، تعلقت الغرة برقبة العبد وللام ثلثها، وللعم ثلثاها، والعبد ملكهما، والمالك لا يستحق على ملكه شيئا فيقابل ما يرثه كل واحد بما يملكه، فالاخ يملك ثلاثة أرباع العبد، فيتعلق به ثلاثة أرباع الغرة، وله ثلثا الغرة، يذهب الثلثان بالثلثين يبقى نصف سدس الغرة متعلقا بحصته من العبد، والزوجة تملك ربع العبد، فيتعلق به ربع الغرة، ولها ثلث الغرة، يذهب ربع بربع، يبقى لها نصف سدس الغرة متعلقا بنصيب الاخ، وهو ثلاثة أرباع العبد، فيفديه بأن يدفع نصف سدس الغرة إلى الزوجة. فرع جنى حر أبوه رقيق وأمه عتيقة على امرأة حامل، ثم أعتق أبوه، انجر ولاؤه من معتق أمه إلى معتق أبيه، ثم أجهضت الحامل، قال ابن الصباغ: على قياس ابن الحداد يتحمل بدل الجنين مولى الام اعتبارا بحال فرع أحبل الجناية، وعلى قياس غيره، يتحمل مولى الاب اعتبارا بحال الاجهاض(7/224)
فرع أحبل مكاتب أمته، فجنى عليها، فأجهضت، وجب في الجنين عشر قيمة الام، لانها رقيقة بعد.
الطرف الثالث : في صفة الغرة هي رقيق سليم من عيب، يثبت رد المبيع، له سن مخصوص، فيجبر المستحق على قبولها من أي نوع كانت، وسواء الذكر والانثى، ولا يجبر على قبول خصي وخنثى وكافر، ولو رضي بقبول المعيب، جاز، ولا يجبر على قبول من لم يبلغ سبع سنين، وفي لفظ الشافعي رحمه الله، لا يقبل دون سبع أو ثمان، فقيل: معناه ما ذكرنا، ويمكن أن المراد لا يقبل دون سن التمييز وهو سبع أو ثمان، ويختلف باختلاف الصبيان، ولا يقبل من ضعف بالهرم، وخرج عن الاستقلال، ويقبل دونه، وقيل: لا يقبل بعد عشرين سنة، غلاما كان أو جارية، وقيل: لا تقبل الجارية بعد عشرين، ولا الغلام بعد خمس عشرة، وصحح جماعة هذا، والاول أصح، وحكوه عن النص. قلت: كذا ضبطوه على الوجه الثالث بخمس عشرة سنة وعللوه بأنه لا يدخل على النساء، وكان ينبغي أن يضبط بالبلوغ، فلا يقبل من بلغ لدون هذا السن. والله أعلم. وهل تتقدر قيمة الغرة ؟ وجهان، أحدهما: الابل إذا وجدت السلامة والسن، وجب القبول وإن قلت قيمتها، وأصحهما وبه قطع الجمهور: يشترط أن تبلغ قيمتها نصف عشر الدية، وهو خمس من الابل، ومتى وجدت الغرة بصفاتها لم يجبر على قبول غيرها، والاعتياض عنها كالاعتياض عن إبل الدية، وإن لم توجد الغرة، فطريقان، أصحهما: على قولين، أظهرهما: يجب خمس من الابل، والثاني: قيمة الغرة، والطريق الثاني: خمس من الابل قطعا، فإذا أوجبنا الابل، ففقدت، فهو كفقدها في الدية، فعلى الجديد: تجب قيمتها، وعلى القديم: يجب خمسون دينارا، أو ستمائة درهم.(7/225)
الطرف الرابع : في مستحق الغرة ومن تجب عليه أما المستحق، فورثة الجنين، فلو جنت الحامل على نفسها بشرب دواء أو غيره، فلا شئ لها من الغرة المأخوذة من عاقلتها، لانها قاتلة، وهي لسائر ورثة الجنين. وأما من تجب عليه الغرة، فالجناية على الجنين قد تكون خطأ محضا، بأن يقصد غير الحامل فيصيبها، وقد تكون شبه عمد، بأن يقصد ضربها بما يؤدي إلى الاجهاض غالبا، فتجهض، ولا تكون عمدا محضا، لانه لا يتحقق وجوده وحياته حتى يقصد، هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وفي المهذب أنه يكون عمدا محضا إذا قصد الاجهاض، وقال ابن الصباغ: قال أبو إسحق: وإن قصدها بالضرب يكون خطأ محضا في حق الجنين، فعلى الصحيح، سواء كانت خطأ، أو شبه عمد، فالغرة على العاقلة، قال ابن الصباغ: والغرة بدل نفس، فلا يجئ فيها القول القديم في أن العاقلة لا تحمل ما دون النفس، وفي جمع الجوامع للروياني أن بعضهم أثبت فيها القديم، وليس بشئ، وإذا فقدت الغرة وقلنا: تنتقل إلى خمس من الابل، غلظنا إن كانت الجناية شبه عمد، بأن تؤخذ حقة ونصف، وجذعة ونصف، وخلفتان، قاله الاصحاب، ولم يتكلموا في التغليظ عند وجود الغرة، لكن قال الروياني: ينبغي أن يقال: تجب غرة قيمتها نصف عشر الدية المغلظة، وهذا حسن، أما بدل الجنين الرقيق فلسيده، وهل تحمله العاقلة ؟ فيه القولان في بدل العبد. فرع قطع طرف حامل أو جرحها، فألقت جنينا ميتا، يجب مع ضمان الجنين ضمان الجناية، حكومة كان أو أرشا مقدرا، ويكون ضمان الجناية لها، ولو تألمت بالضرب، وألقت جنينا، فإن لم يبق شين، لم يجب للالم شئ، وإن بقي، وجبت له حكومة في الاصح. فصل سقط جنين ميت، وادعى وارثه على رجل أنه سقط بجنايته، فأنكر أصل الجناية، صدق بيمينه، ولا يقبل قول المدعي إلا بشهادة رجلين، فإن أقر بالجناية، وأنكر الاسقاط وقال: السقط ملتقط، فهو المصدق أيضا، وعلى المدعي(7/226)
البينة، وتقبل شهادة النساء، لان الاسقاط ولادة، وإن أقر بالجناية والاسقاط، وأنكر كون الاسقاط بسبب جنايته، نظر، إن أسقطت عقب الجناية، فهي المصدقة باليمين، سواء قال: إنها شربت دواء، أو ضرب بطنها آخر، أو قال: انفصل الجنين لوقت الولادة، لان الجناية سبب ظاهر، وإن أسقطت بعد مدة من وقت الجناية، صدق بيمينه، لان الظاهر معه إلا أن تقوم بينة على أنها لم تزل متألمة حتى أسقطت، ولا تقبل هذه الشهادة إلا من رجلين، وضبط المتولي المدة المتخللة بما يزول فيه ألم الجناية وأثرها غالبا، وإن اتفقا على سقوطه بجنايته، فقال الجاني: سقط ميتا، فالواجب الغرة، وقال الوارث: بل حيا، ثم مات، والواجب الدية، فعلى الوارث البينة لما يدعيه من استهلال وغيره، وتقبل فيه شهادة النساء، لان الاستهلال حينئذ لا يطلع عليه غالبا إلا النساء، وعن رواية الربيع أنه يشترط رجلان، ولو أقام كل بينة لما يقوله، فبينة الوارث أولى، لان معها زيادة علم، ولو اتفقا على أنه انفصل حيا بجنايته، وقال الوارث: مات بالجناية، وقال الجاني: بل مات بسبب آخر، فإن لم يمتد الزمان، فالمصدق الوارث بيمينه، وإن امتد، وإن امتد، صدق الجاني بيمينه، إلا أن يقيم الوارث بينة أنه لم يزل متألما إلى أن مات، ولو ألقت جنينين، وادعى الوارث حياتهما، وأنكر الجاني حياتهما، فأقام الوارث بينة باستهلال أحدهما، قال المتولي: الشهادة مسموعة، ثم إن كانا ذكرين، وجب دية رجل وغرة، وإن كانا أنثيين، فدية امرأة وغرة، وإن كانا ذكرا وأنثى، وجب اليقين وهو دية امرأة وغرة، ولو صدق الوارث في حياة أحدهما، وكانا ذكرا وأنثى، فقال الوارث: الحي هو الذكر، وقال الجاني: بل الانثى، صدق الجاني بيمينه، ويحلف على نفي العلم بحياة الذكر، وتجب دية امرأة وغرة، ولو صدقه الجاني في حياة الذكر، وكذبته العاقلة، فعلى العاقلة دية أنثى وحكومة، والباقي في مال الجاني، ولو ألقت جنينين حيين وماتا، وماتت الام بينهما، ورثت الام من الاول، وورث الثاني من الام، ولو قال وارث الجنين: ماتت الام أولا فورثها الجنين، ثم مات، فورثته أنا، وقال وارث الام: بل مات الجنين أولا، فورثته الام، ثم ماتت، فورثها، فإن كان بينة، حكم بها، وإلا فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قضي للحالف، وإن حلفا أو نكلا، لم يورث أحدهما من الآخر، لانه عمي موتهما كالغرقى، وما تركه كل واحد لورثته الاحياء.(7/227)
باب كفارة القتل هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فهل عليه إطعام ستين مسكينا ؟ قولان، وقال القفال: وجهان، وأنكر على صاحب التلخيص رواية القولين، أظهرهما: لا، فعلى هذا لو مات قبل الصوم أخرج من تركته لكل يوم مد طعام، كفوات صوم رمضان، والقول في صفة الرقبة والصيام والاطعام إن أوجبناه، وما يجوز النزول من درجة إلى درجة، على ما سبق في الكفارات. فصل قتل العمد، وشبه العمد والخطإ يوجب الكفارة، وقال ابن المنذر: لا تجب في العمد، وحكى الروياني وجها ضعيفا عن رواية أبوي علي بن أبي هريرة والطبري أنه إذا اقتص من المتعمد، فلا كفارة في ماله، فعلى هذا إنما يجب إخراج الكفارة إذا لم يقتص منه، بأن مات أو عفي عنه، وتجب الكفارة في القتل بالسبب كما في المباشرة، فتجب على حافر البئر عدوانا، ومن نصب شبكة، فهلك بهما شخص، وعلى المكره وشاهد الزور، ولا تجب في القتل المباح، كقتل مستحق القصاص الجاني، وكقتل الصائل والباغي، ونعني بالمباح ما أذن فيه، والخطأ لا يوصف بكونه مباحا ولا حراما، بل المخطئ غير مكلف فيما هو مخطئ فيه. فصل تجب الكفارة على الذمي والعبد وفي مال الصبي والمجنون إذا قتلا، ولا تجب بوطئه في صوم رمضان لانه غير متعد، والتعدي شرط في وجوب تلك الكفارة، وإذا وجبت الكفارة بقتل الصبي والمجنون، أعتق الولي من مالهما، كما يخرج الزكاة والفطرة منه، ولا يصوم عنهما بحال، ولو صام الصبي في صغر، فهل يجزئه ؟ وجهان، كما لو قضى في صغره حجة أفسدها، وإذا أدخلنا الاطعام في هذه الكفارة، أطعم الولي إن كانا من أهله، وينبغي أن يقال: إن اكتفينا بصوم(7/228)
الصبي لم يجز العدول إلى الاطعام، وإلا فيجوز كالمجنون، ولو أعتق الولي من مال نفسه عنهما، أو أطعم، قال البغوي: إن كان أبا أو جدا، جاز، وكأنه ملكهما، ثم ناب عنهما في الاعتاق والاطعام، وإن كان وصيا أو قيما، لم يجز، حتى يقبل القاضي لهما التمليك، ولا كفارة على حربي، لانه غير ملتزم، وهل تجب على من قتل نفسه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لانه قتل محرم، فتخرج من تركته، ويجري الخلاف فيمن حفر بئرا عدوانا فهلك بها رجل بعد موته، ووجه المنع أن في الكفارة معنى العبادة، فيبعد وجوبها على ميت ابتداء، ولو اشترك جماعة في قتل، فهل على كل واحد كفارة، أم على الجميع كفارة واحد ؟ وجهان، أصحهما: الاول.
فصل شرط القتيل الذي تجب بقتله الكفارة أن يكون آدميا معصوما بإيمان أو أمان، فتجب على من قتل عاقلا أو مجنونا أو صبيا أو جنينا أو ذميا أو معاهدا أو عبدا، وعلى السيد في قتل عبده، ولا تجب بقتل حربي ومرتد، وقاطع طريق، وزان محصن، ولا بقتل نساء أهل الحرب وأولادهم وإن كان قتلهم محرما، لان تحريمه ليس لحرمتهم، بل لمصلحة المسلمين، لئلا يفوتهم الارتفاق بهم. فرع إذا قتل مسلما في دار الحرب، وجبت الكفارة بكل حال، قال الله تعالى: * (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * معناه عند الشافعي وغيره رحمهم الله: وإن كان من قوم عدوكم. وأما القصاص والدية، فإن ظنه القاتل كافرا، لكونه بزي الكفار، فلا قصاص، وفي الدية قولان، أظهرهما: لا تجب، وإلا فإن عرف مكانه، فهو كما لو قتله في دار الاسلام، حتى إذا قصد قتله، يجب القصاص أو الدية المغلظة في ماله مع الكفارة، وإن لم يعرف مكانه، ورمى سهما إلى صف الكفار في دار الحرب، سواء علم في الدار مسلما أم لا، نظر، إن لم يعين شخصا أو عين كافرا فأخطأ، وأصاب مسلما، فلا قصاص ولا دية، وكذا لو قتله في بيات أو غارة ولم يعرفه، وإن عين شخصا فأصابه وكان مسلما، فلا قصاص، وفي الدية قولان، ويشبه أن يكونا هما القولين فيمن ظنه كافرا، ولو دخل الكفار دار الاسلام، فرمى إلى صفهم، فأصاب مسلما، فهو كما لو رمى إلى صفهم في دار الحرب. وبالله التوفيق.(7/229)
كتاب دعوى الدم والقسامة والشهادة على الدم
فيه ثلاثة أبواب :
الأول : في الدعوى ولها خمسة شروط، أحدها: تعيين المدعى عليه، بأن ادعى القتل على شخص أو جماعة معينين، فهي مسموعة، وإذا ذكرهم للقاضي، وطلب إحضارهم، أجابه، إلا إذا ذكر جماعة لا يتصور اجتماعهم على القتل، فلا يحضرهم، ولا يبالي بقوله، فإنه دعوى محال، ولو قال: قتل أبي أحد هذين، أو واحد من هؤلاء العشرة، وطلب من القاضي أن يسألهم، ويحلف كل واحد منهم، فهل يجيبه ؟ وجهان، أصحهما: لا، وبه قطع جماعة للابهام، كمن ادعى دينا على أحد رجلين، والثاني: نعم، للحاجة ولا ضرر عليهم في يمين صادقة، ويجري الخلاف في(7/230)
دعوى الغصب والاتلاف والسرقة، وأخذ الضالة على أحد رجلين أو رجال، ولا يجري في دعوى قرض وبيع سائر المعاملات، لانها تنشأ باختيار المتعاقدين، وشأنها أن يضبط كل واحد منهما صاحبه، هذا هو المذهب في الصورتين، وقيل بطرد الخلاف في المعاملات، وقيل بقصره على دعوى الدم لعظم خطرها، فلو لم يكن الجماعة التي ادعى عليهم القتل حاضرين، وطلب إحضارهم، ففي إجابته الوجهان، ولو قال: قتله أحدهم، ولم يطلب إحضارهم، ليسألوا، ويعرض عليهم اليمين، لم يحضرهم القاضي، ولم يبال بكلامه، هكذا ذكره المتولي، وذكر أن الوجهين فيما إذا تعلقت الدعوى بواحد من جماعة محصورين، فأما إذا قال: قتله واحد من أهل القرية، أو المحلة وهم لا ينحصرون، وطلب إحضارهم، فلا يجاب، لانه يطول فيه العناء على القاضي، ويتعطل زمانه في خصومة واحدة، وتتأخر حقوق الناس. الشرط الثاني: أن تكون الدعوى مفصلة، أقتله عمدا أم خطأ، أم شبه عمد، منفردا أم مشارك غيره، لان الاحكام تختلف بهذه الاحوال، ويتوجه الواجب تارة على العاقلة، وتارة على القاتل، فلا يعرف من يطالب إلا بالتفصيل، وفيه وجه سنذكره إن شاء الله تعالى، أنه يجوز كون الدعوى مجهولة، فعلى الصحيح لو أجمل الولي فوجهان، أحدهما: يعرض القاضي عنه، ولا يستفصل، لانه ضرب من التلقين، والثاني وهو الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور: يستفصل، وربما وجد في كلام الائمة ما يشعر بوجوب الاستفصال، وإليه أشار الروياني، وقال الماسرجسي: لا يلزم الحاكم أن يصحح دعواه، ولا يلزمه أن يستمع إلا إلى دعوى محررة، وهذا أصح، ثم إذا قال: قتله منفردا أو عمدا ووصف العمد أو خطأ، وطالب المدعى عليه بالجواب، وإن قال: قتله بشركة، سئل عمن شاركه، فإن ذكر جماعة لا يمكن اجتماعهم على القتل، لغا قوله ودعواه، وإن ذكر جماعة يتصور اجتماعهم، ولم يحضرهم، أو قال: لا أعرف عددهم، فإن ادعى قتلا يوجب الدية بأن قال: قتله خطأ، أو شبه عمد، أو تعمد وفي شركائه مخطئ، لم تسمع دعواه(7/231)
لان حصة المدعى عليه من الدية لا تعلم إلا بحصر الشركاء، فلو قال: لا أعلم عددهم تحقيقا، ولكن أعلم أنهم لا يزيدون على عشرة، سمعت دعواه، وطالب بعشر الدية، وإن ادعى ما يوجب القود بأن قال: قتل عمدا مع شركاء عامدين، فوجهان، أصحهما: تسمع دعواه، ويطالب بالقصاص، لانه لا يختلف بعدد الشركاء، والثاني: لا، لانه قد يختار الدية فلا يعلم حقه منها، وأشير إلى وجه ثالث: أنا إن قلنا: موجب العمد القود، سمعت، وإن قلنا: أحدهما، فلا. الشرط الثالث: أن يكون المدعي مكلفا ملتزما، فلا تسمع دعوى صبي ومجنون وحربي، ولا يضر كون المدعي صبيا أو مجنونا، أو جنينا حالة القتل إذا كان بصفة الكمال عند الدعوى، لانه قد يعلم الحال بالتسامع، ويمكنه أن يحلف في مظنة الحلف إذا عرف ما يحلف عليه بإقرار الجاني، أو سماع ممن يثق به، كما لو اشترى عينا وقبضها، فادعى رجل ملكها، فله أن يحلف أنه لا يلزمه التسليم إليه اعتمادا على قول البائع، وأما المحجور عليه بسفه، فتسمع دعواه الدم، وله أن يحلف ويحلف، ويستوفي القصاص، وإذا آل الامر إلى المال أخذه الولي، كما في دعوى المال، يدعي السفيه ويحلف، والولي يأخذ المال. الرابع: أن يكون المدعى عليه مكلفا، فلا يدعي على صبي ومجنون، فلو ادعى على محجور عليه بسفه، نظر، إن كان هناك لوث، سمعت الدعوى، سواء ادعى عمدا، أو خطأ، أو شبه عمد، ويقسم المدعي، ويكون الحكم كما في غير السفيه، وإذا كان اللوث قول عدل واحد، حلف المدعي معه، ويثبت المال بالشاهد واليمين، وإن لم يكن لوث، فإن ادعى قتلا يوجب القصاص، سمعت الدعوى لان إقراره بما يوجب القصاص مقبول، فإن أقر، أمضى حكمه عليه، وإن نكل، حلف المدعي، وكان له أن يقتص، وإن ادعى خطأ، أو شبه عمد، فهذا مبني على أن إقرار المحجور عليه بالاتلاف هل يقبل ؟ وفيه وجهان سبقا في(7/232)
الحجر، وسواء قبلناه، أم لا، فتسمع أصل الدعوى، أما إذا قبلنا إقراره، فليمض عليه الحكم إن أقر، وليقم البينة عليه إن أنكر، وأما إذا لم نقبل وهو الاصح، فليقم البينة عليه إن أنكر، ثم إذا أنكر هل يحلف ؟ يبنى على أن يكون المدعى عليه مع يمين المدعي كبينة يقيمها المدعي أم كإقرار المدعى عليه إن قلنا: كالبينة، حلف، فربما نكل، وإن قلنا: كالاقرار، لم يحلف على الاصح، وقيل: يحلف لتنقطع الخصومة في الحال. فرع تسمع دعوى القتل على المحجور عليه بفلس، فإن كان بينة، أو لوث، وأقسم المدعي، فهو كغيره، ويزاحم المستحق الغرماء بالمال، وإن لم تكن بينة ولا لوث، حلف المفلس، فإن نكل، حلف المدعي، واستحق القصاص إن ادعى قتلا يوجب القصاص، قال الروياني: فإن عفا عن القصاص على مال ثبت، وهل يشارك به الغرماء ؟ يبنى على أن اليمين المردودة كالبينة أم كالاقرار، إن قلنا: كالبينة، فنعم، وإلا فقولان، كما لو أقر بعين في يده، أو بمال نسبه إلى ما قبل الحجر، وإن كان المدعي قتل خطأ، أو شبه عمد، ثبت باليمين المردودة الدية، وتكون على العاقلة إن قلنا: كالبينة، وإن قلنا: كالاقرار كانت على الجاني، وفي مزاحمة المدعي الغرماء بها القولان. فرع ادعى مثلا على عبد إن كان لوث، سمعت، وأقسم المدعي واقتص إن ادعى عمدا وأوجبنا القصاص بالقسامة، وإلا فتتعلق الدية برقبة العبد، وإن لم يكن لوث، فدعوى القتل الموجب للقصاص تكون على العبد، ودعوى الموجب(7/233)
للمال على السيد، وتمام المسألة يأتي في الدعوى والبينات إن شاء الله تعالى. الشرط الخامس: أن لا تتناقض دعواه، فلو ادعى على شخص تفرده بالقتل، ثم على آخر تفرده بالقتل أو مشاركته، لم تسمع الثانية، ولو لم يقسم على الاول، ولم يمض حكم، فلا يمكن من العود إليه، لان الثانية تكذبها، ولو صدقه الثاني في دعواه الثانية فوجهان، أحدهما، ليس له مؤاخذته، لان في الدعوى على الاول اعترافا ببراءة غيره، وأصحهما: له مؤاخذته، لان الحق لا يعدوهما، ويحتمل كذبه في الاولى وصدقه في الثانية، ولو ادعى قتلا عمدا فاستفصل، فوصفه بما ليس بعمد، نقل المزني أنه لا يقسم، والربيع أنه يقسم، قال الاكثرون: في المسألة قولان، أحدهما: تبطل الدعوى ولا يقسم لان في دعوى العمد اعترافا ببراءة العاقلة، فلا يمكن من مطالبتهم بعدة ولان فيه اعترافا بأنه ليس بمخطئ فلا يقبل رجوعه عنه، وأظهرهما: لا تبطل، لانه قد يظن الخطأ عمدا، فعلى هذا يعتمد تفسيره ويمضي حكمه، ومنهم من قطع بهذا وتأول نقل المزني على أنه لا يقسم على العمد. ويجري الطريقان فيمن ادعى خطأ، وفسر بعمد، وكذا فيمن ادعى شبه عمد، وفسر بخطإ، وقيل: يقبل تفسيره قطعا، لان فيه تخفيفا عن العاقلة ورجوعا عن زيادة ادعاها عليهم. فرع ادعى قتلا، فأخذ المال، ثم قال: ظلمته بالاخذ، وأخذته باطلا، أو ما أخذته حرام علي، سئل، فإن قال: كذبت في الدعوى وليس هو قاتلا، استرد المال منه، وإن قال: أردت أني حنفي لا أعتقد أخذ المال بيمين المدعي، لم يسترد، لان النظر إلى رأي الحاكم واجتهاده، لا إلى مذهب الخصمين، وذكروا للمسألة نظائر. منها: مات شخص، فقال ابنه: لست أرثه، لانه كان كافرا، فسئل عن كفره، فقال: كان معتزليا أو رافضيا، فيقال له: لك ميراثه وأنت مخطئ في اعتقادك، لان الاعتزال والرفض ليس بكفر، هكذا قاله القفال والبغوي والروياني وغيرهم. قال الفوراني: ومن شيوخنا من يكفر أهل الاهواء، فعلى هذا يحرم الميراث.(7/234)
قلت: هذا الوجه خطأ، والصواب المنصوص والذي قطع به الجمهور: أنا لا نكفرهم. [ والله أعلم ]. ومنها: قضى حنفي لشافعي بشفعة الجوار، فأخذ الشقص، ثم قال: أخذته باطلا، لانني لا أرى شفعة الجوار، لا يسترد منه. ومنها: مات عن جارية أولدها بنكاح، فقال وارثه: لا أتملكها، لانها صارت أم ولد له بذلك، وعتقت بموته، فيقال له: هي مملوكتك ولا تصير أم ولد بالنكاح. واعلم أن جميع هذا فيما يتعلق بظاهر الحكم، أما الحل باطنا إذا حكم القاضي في مواضع الخلاف لشخص على خلاف اعتقاده، كحكم حنفي لشافعي بشفعة جوار، ففي ثبوته خلاف، وميل الائمة هنا إلى ثبوته، وسنذكره إن شاء الله تعالى في كتاب الاقضية. ولو قال: أردت بقولي، حرام أنه مغصوب، فإن عين المغصوب منه، لزمه تسليمه إليه، ولا رجوع له على المأخوذ منه، لان قوله لا يقبل عليه، وإن لم يعين أحدا، فهو مال ضائع، وفي مثله خلاف مشهور، والجواب في الشامل أنه لا يلزمه رفع يده عنه، ولو قال بعد ما أقسم: ندمت على الايمان، لم يلزمه بهذا شئ. فرع ادعى القتل على رجل، وحلف وأخذ المال، فجاء رجل وقال: أنا قتلت مورثك، ولم يقتله الذي حلف عليه، فإن لم يصدقه الوارث، لم يؤثر قوله فيما جرى، وإن صدقه، لزمه رد ما أخذ، وهل له الدعوى على الثاني ومطالبته ؟ فيه قولان، وهما نظير الوجهين السابقين في أول هذا الشرط.
الباب الثاني : في القسامة هي الايمان في الدماء. وصورتها: أن يوجد قتيل بموضع لا يعرف من قتله، ولا بينة، ويدعي وليه قتله على شخص أو جماعة، وتوجد قرينة تشعر بصدقه، ويقال له: اللوث، فيحلف على ما يدعيه، ويحكم له بما سنذكره إن شاء الله تعالى.(7/235)
وفي الباب أربعة أطراف :
الأول : في محل القسامة، وهو قتل الحر في محل اللوث، فهذه ثلاثة قيود، الاول: القتل، فلا قسامة في إتلاف المال، ولا فيما دون النفس من الجروح والاطراف، بل القول فيها قول المدعى عليه بيمينه، وإن كان هناك لوث، لان النص ورد في النفس، وهي أعظم من الاطراف، ولهذا اختصت بالكفارة، فلا تلحق بها الاطراف، وحكى الروياني وجها في الاطراف، وغلط قائله، فعلى الصحيح لو جرح مسلم، فارتد، ثم مات بالسراية، فلا قسامة، فلو عاد إلى الاسلام، جرت القسامة، سواء أوجبنا كمال الدية أم لا، لان الواجب هنا بدل النفس، وكذا الحكم فيما لو جرح ذمي، فنقض عهده، ثم مات، أو جدد العهد ثم مات. القيد الثاني: كون القتيل حرا، فلو قتل العبد، وهناك لوث، فادعى السيد على عبد، أو حر أنه قتله، فهل يقسم السيد ؟ فيه طريقان، أشهرهما: على القولين في أن بدل العبد هل تحمله العاقلة ؟ إن قلنا: لا، فقد ألحقناه بالبهيمة، فلا قسامة، وإن قلنا: نعم وهو الاظهر، أقسم السيد وهو المنصوص، والثاني: يقسم قطعا، لان القسامة تحفظ الدماء، وهذه الحاجة تشمل العبد، كالقصاص والكفارة، والمدبر والمكاتب وأم الولد في هذا كالقن، فإذا أقسم السيد، فإن كانت الدعوى على حر، أخذ الدية من ماله في الحال إن ادعى عمدا محضا، وإن ادعى خطأ، أو شبه عمد، أخذها من عاقلته في ثلاث سنين، وإن كانت الدعوى على عبد، فإن ادعى العمد، ففي القصاص القولان في ثبوته بالقسامة، فإن منعناه وهو الاظهر، أو ادعى خطأ، أو شبه عمد، تعلقت القيمة برقبته. الثالث: كونه في محل اللوث، فإن لم يكن لوث، لم يبدأ بيمين المدعي، واللوث قرينة تثير الظن وتوقع في القلب صدق المدعي وله طرق: منها: أن يوجد قتيل في قبيلة، أو حصن، أو قرية صغيرة، أو محلة منفصلة عن البلد الكبير، وبين القتيل وبين أهلها عداوة ظاهرة فهو لوث في حقهم، فإذا ادعى وليه القتل عليهم، أو على بعضهم، كان له أن يقسم، ويشترط أن لا يساكنهم غيرهم، وقيل: يشترط أن لا يخالطهم غيرهم، حتى لو كانت القرية بقارعة طريق يطرقها التجار والمجتازون وغيرهم، فلا لوث، والصحيح أن هذا ليس بشرط.(7/236)
ومنها: لو تفرق جماعة عن قتيل في دار دخلها عليهم ضيفا، أو دخل معهم لحاجة، أو في مسجد أو بستان أو طريق أو صحراء، فهو لوث، وكذا لو ازدحم قوم على بئر، أو باب الكعبة، أو في الطواف، أو في مضيق، ثم تفرقوا عن قتيل، ولا يشترط في هذا أن تكون بينه وبينهم عداوة. ومنها: لو تقابل صفان، فتقاتلا، وانكشفا عن قتيل من أحدهما، فإن اختلطوا، أو وصل سلاح أحدهما إلى الآخرين رميا أو طعنا أو ضربا، فهو لوث في حق الصف الآخر، وإن لم يصل سلاح، فهو لوث في حق أهل صفه. ومنها: إذا وجد قتيل في صحراء، وعنده رجل معه سلاح متلطخ بدم، أو على ثوبه أثر دم، فهو لوث، وإن كان بقربه سبع، أو رجل آخر مول ظهره، أو وجد أثر قدم، أو ترشيش وأم في غير الجهة التي فيها صاحب السلاح، (فليس بلوث) في حقه، ولو رأينا من بعد رجلا يحرك يده كما يفعل من يضرب بسيف أو سكين ثم وجدنا في الموضع قتيلا، فهو لوث في حق ذلك الرجل. ومنها: لو شهد عدل بأن زيدا قتل فلانا، فلوث على المذهب، سواء تقدمت شهادته على الدعوى أو تأخرت، ولو شهد جماعة تقبل روايتهم، كعبيد ونسوة، فإن جاؤوا متفرقين، فلوث، وكذا لو جاؤوا دفعة على الاصح، وفي التهذيب(7/237)
أن شهادة عبدين، أو امرأتين كشهادة الجمع، وفي الوجيز أن القياس أن قول واحد منهم لوث، وفيمن لا تقبل روايتهم، كصبيان أو فسقة أو ذميين، أوجه، أصحها: قولهم لوث، والثاني: لا، والثالث: لوث من غير الكفار، ولو قال المجروح: جرحني فلان، أو قتلني، أو دمي عنده، فليس بلوث، لانه مدع، ولو تفرق عنه جماعة لا يتصور اجتماعهم على القتل، لم تسمع الدعوى عليهم ولا قسامة كما سبق، ولو ازدحم قوم لا يتصور اجتماعهم على القتل في مضيق، وتفرقوا عن قتيل، فادعى الولي القتل على عدد منهم يتصور اجتماعهم، فينبغي أن تقبل ويمكن من القسامة، كما لو ثبت اللوث في جماعة محصورين فادعى الولي القتل على بعضهم. فرع قال البغوي: لو وقع في ألسنة العام والخاص أن زيدا قتل فلانا، فهو لوث في حقه، وسواء في القسامة ادعى كافر على مسلم، أو مسلم على كافر، قال الامام: لو عاين القاضي ما هو لوث، فله اعتماده ولا يخرج على الخلاف في قضائه بعلمه، لانه يقضي بالايمان، قال المتولي: إذا وجد قتيل قريب من قرية، وليس هناك عمارة أخرى، ولا من يقيم بالصحراء، ثبت اللوث في حقهم، يعني إذا وجدت العداوة، وكنا نحكم باللوث لو وجد فيها، قال: ولو وجد بين قريتين، أو قبيلتين، ولم يعرف بينه وبين إحداهما عداوة، لم يجعل قربه من إحداهما لوثا.
فصل قد يعارض القرينة ما يمنع كونها لوثا، ويعارض اللوث ما يسقط أثره، ويبطل الظن الحاصل به، وذلك خمسة أنواع: أحدها: أن يتعذر إثباته، وإذا ظهر لوث في حق جماعة، فللولي أن يعين واحدا أو أكثر ويدعي عليه ويقسم، فلو قال: القاتل أحدهم ولا أعرفه، فلا قسامة، وله تحليفهم، فإن حلفوا إلا واحدا، فنكوله يشعر بأنه القاتل، ويكون لوثا في حقه، فإذا طلب المدعي أن يقسم عليه، مكن منه، ولو نكل الجميع، ثم عين الولي أحدهم وقال: قد بان لي أنه القاتل، وأراد أن يقسم عليه، مكن منه على الاصح.(7/238)
الثاني: إذا ظهر لوث في أصل القتل دون كونه خطأ أو عمدا، فهل يتمكن الولي من القسامة على أصل القتل ؟ وجهان، أصحهما: لا، قال البغوي: لو ادعى على رجل أنه قتل أباه، ولم يقل عمدا ولا خطأ، وشهد له شاهد، لم يكن ذلك لوثا، لانه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده، ولو حلف، لا يمكن الحكم به، لانه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه. واعلم أن هذا المذكور يدل على أن القسامة على قتل موصوف يستدعي ظهور اللوث في قتل موصوف، وقد يفهم من إطلاق الاصحاب أنه إذا ظهر اللوث في أصل القتل، كفى ذلك في تمكن الولي من القسامة على القتل الموصوف، وليس هذا ببعيد، ألا ترى أنه لو ثبت اللوث في حق جماعة وادعى الولي على بعضهم، جاز، ويمكن من القسامة، فكما لا يعتبر ظهور اللوث فيما يرجع إلى الانفراد والاشتراك لا يعتبر في صفة العمد والخطأ. الثالث: أن ينكر المدعى عليه اللوث في حقه، بأن قال: لم أكن مع القوم المتفرقين عن القتيل، أو قال: لست أنا الذي رئي معه السكين المتلطخ على رأسه، أو لست أنا المرئي من بعيد، فعلى المدعي البينة على الامارة التي ادعاها، فإن لم يكن بينة، حلف المدعى عليه على نفيها، وسقط اللوث، وبقي مجرد الدعوى، ولو قال: كنت غائبا يوم القتل، أو ادعى على جمع، فقال أحدهم: كنت غائبا، صدق بيمينه، لان الاصل براءته، وعلى المدعي البينة على حضوره يومئذ، أو إقراره بالحضور، فإن أقام بينة بحضوره، وأقام المدعى عليه بينة بغيبته، ففي الوسيط: أنهما تتساقطان، وفي التهذيب: تقدم بينة الغيبة، لان معها زيادة علم، هذا إذا اتفقا أنه كان حاضرا من قبل، ويعتبر في بينة الغيبة أن يقولوا: كان غائبا في موضع كذا، فلو اقتصروا على أنه لم يكن هنا، فهذا نفي محض لا تسمع الشهادة عليه، ولو أقسم المدعي، وحكم القاضي بموجب القسامة، ثم أقام المدعى عليه بينة على غيبته يوم القتل، أو أقر بها المدعي، نقض الحكم واسترد المال، وكذا لو قامت بينة على أن القاتل غيره، ولو قال الشهود: لم يقتله هذا، واقتصروا عليه، لم تقبل شهادتهم، ولو كان محبوسا أو مريضا يوم القتل، فهل هما كالغيبة حتى يسقط اللوث إذا ثبت الحال بإقرار المدعي، أو بينة ؟ وجهان،(7/239)
وموضعها إذا أمكن كونه قاتلا بحيلة ولو في صورة بعيدة، أصحهما: هما كالغيبة. الرابع: شهد عدل أو عدلان أن زيدا قتل أحد هذين القبيلين، فليس بلوث، ولو شهد أو شهدا أن زيدا قتله أحد هذين، ثبت اللوث في حقهما على الصحيح، فإذا عين الولي أحدهما وادعى عليه، فله أن يقسم، كما لو تفرق جماعة عن قتيل، وقيل: لا لوث، كالصورة الاولى. الخامس: تكذيب بعض الورثة، فإذا كان للميت ابنان، فقال أحدهما: قتل زيد أبانا، وقد ظهر عليه اللوث، وقال الآخر: لم يقتله، بل كان غائبا يوم القتل، وإنما قتله فلان، أو اقتصر على نفي القتل عنه، أو قال: برأ من الجراحة، أو مات حتف أنفه، فهل يبطل تكذيبه اللوث، ويمنع الاول القسامة ؟ فيه قولان، أظهرهما: نعم، وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا، وقيل: لا تبطل بالفاسق قطعا، والمنصوص الاصح: أنه لا فرق، فإن قلنا: لا تبطل، حلف المدعي خمسين يمينا، وأخذ حقه من الدية، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيد، وقال الآخر: بل قتله عمرو، وقلنا: لا يبطل اللوث بالتكاذب، أقسم كل واحد على من عينه، وأخذ نصف الدية، وإن قلنا: يبطل، فلا قسامة، ويحلف كل واحد من عينه، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيد ورجل لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو، ورجل لا أعرفه، فلا تكاذب، فيقسم كل واحد على من عينه، ويأخذ منه ربع الدية، فإن عادا، وقال كل واحد منهما: قد بان لي أن المبهم هو الذي عينه أخي، فلكل واحد أن يقسم على الآخر، ويأخذ منه ربع الدية، وهل يحلف كل واحد خمسين يمينا، أم خمسا وعشرين ؟ فيه خلاف يأتي في نظائره إن شاء الله تعالى، وإن قال كل واحد: المبهم غير الذي عينه أخي، حصل التكاذب، فإن قلنا: تبطل القسامة، رد كل واحد ما أخذ بها، وإلا فيقسم كل واحد على من عينه ثانيا، ويأخذ منه ربع الدية، ولو قال الذي عين زيدا: تبينت أن الذي أبهمت ذكره عمر الذي عينه أخي، وقال الذي عين عمرا: تبينت أن الذي ابهمت ذكره غير زيد، فالذي عين عمرا لا يكذبه أخوه، فله أن يقسم على عمرو، ويأخذ منه ربع الدية، والذي عين زيدا، كذبه أخوه، فإن قلنا: تبطل القسامة، رد ما أخذ، وحلف المدعى عليه، وإلا أقسم على من عينه، وأخذ منه ربع الدية، ولو قال أحدهما: قتل أبانا(7/240)
زيد وحده، وقال الآخر: قتله زيد وعمرو، فإن قلنا: التكاذب لا يبطل القسامة، أقسم الاول على زيد، وأخذ منه نصف الدية، ويقسم الثاني عليهما، ويأخذ من كل واحد ربع الدية، وإن قلنا: يبطل، فالتكاذب هنا في النصف، وفي بطلان القسامة في كل وجهان، أصحهما: لا تبطل، فيقسم الاول على زيد، ويأخذ منه ربع الدية، وكذا يقسم الثاني عليه ويأخذ ربعها، ولا يقسم الثاني على عمرو، لان أخاه كذبه في الشركة، وللاول تحليف زيد، لما بطلت فيه القسامة، وللثاني تحليف عمرو، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيد وعمرو، وقال الآخر: قتله بكر وخالد، فإن أبطلنا القسامة بالتكذيب، لم يقسم واحد منهما، ولكل واحد تحليف اللذين عينهما، وإن لم يبطلها، أقسم كل واحد على اللذين عينهما، وأخذا من كل منهما ربع الدية. فرع لا يشترط في اللوث والقسام ظهور دم ولا جرح، لان القتل يحصل بالخنق، وعصر الخصية، وغيرهما، فإذا ظهر أثره، قام مقام الدم، فلو لم يوجد أثر أصلا، فلا قسامة على الصحيح، وبه قطع الصيدلاني والمتولي، فلا بد أن يعلم أنه قتيل، ليبحث عن القاتل، ولو وجد بعضه في محلة وتحقق موته، ثبتت القسامة، سواء وجد رأسه أو بدنه، أقله أو أكثره، وإذا وجد بعضه في محلة وبعضه في أخرى، فللولي أن يعين ويقسم.
الطرف الثاني : في كيفية القسامة وفيه مسائل: إحداها: أيمانها خمسون يمينا، وكيفية اليمين كسائر الدعاوى، ويقول في يمينه: لقد قتل هذا، ويشير إليه، أو لقد قتل فلان ابن فلان، ويرفع في نسبه، أو يعرفه بما يمتاز به من قبيلة أو صنعة، أو لقب فلان ابن فلان، ويعرفه كذلك منفردا بقتله، وإن ادعى على اثنين، قال: قتلاه منفردين بقتله، نص الشافعي رحمه الله على ذكر الانفراد، فقيل: هو تأكيد، لان قوله: قتله، يقتضي الانفراد، وقيل: شرط، لاحتمال الانفراد صورة والاشتراك حكما، كالمكره مع المكره، ويتعرض لكونه عمدا أو خطأ، وذكر الشافعي رحمه الله أن الجاني لو ادعى أنه برئ من الجرح، زاد في اليمين: وما برئ من جرحه حتى مات منه.(7/241)
الثانية: يستحب للقاضي أن يحذر المدعي إذا أراد أن يحلف، ويعظه ويقول: اتق الله، ولا تحلف إلا عن تحقق، ويقرأ عليه * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *، والقول في التغليظ في اليمين زمانا ومكانا ولفظا منه ما سبق في اللعان، ومنه ما هو مؤخر إلى الدعوى والبينات. الثالثة: لا تشترط موالاة الايمان على المذهب، وقيل: وجهان، فعلى المذهب: لو حلف الخمسين في خمسين يوما، جاز. الرابعة: جن المدعي في خلال الايمان، أو أغمي عليه، ثم أفاق، يبنى عليها، ولو عزل القاضي، أو مات في خلالها، فالاصح أن القاضي الثاني يستأنف منه الايمان، وحكي عن نصه في الام أنه يكفيه البناء، قال الروياني: وهو الاصح، لكن المتولي حمل النص على ما إذا حلف المدعى عليه بعض الايمان تفريعا على تعدد يمينه، فمات القاضي، أو عزل وولي غيره، يعتد بالايمان السابقة، وفرق بأن يمين المدعى عليه على النفي فتنفذ بنفسها، ويمين المدعي للاثبات فتوقف على حكم القاضي، والقاضي لا يحكم بحجة أقيمت عند الاول، قال: وعزل القاضي وموته بعد تمام الايمان، كالعزل في أثنائها في الطرفين، قال: ولو عزل القاضي في أثناء الايمان من جانب المدعي أو المدعى عليه، ثم تولى ثانيا، فيبنى على أن الحاكم هل يحكم بعلمه ؟ إن قلنا: لا، استأنف، وإلا بنى، ولو مات الولي المقسم في أثنائها، نص في المختصر أن وارثه يستأنف الايمان، وقال الخضري: يبنى عليها، والصحيح الاول، ولو مات بعد تمامها، حكم لوارثه، كما لو أقام بينة ثم مات ولو مات المدعى عليه في أثناء الايمان، إذا حلفناه في غير صورة اللوث، أو فيها، لنكول المدعي، بنى وارثه على أيمانه. الخامسة: في جواز القسامة في غيبة المدعى عليه وجهان، أصحهما: نعم، كالبينة، والثاني: لا، لضعف القسامة، ولا يمنع من القسامة كون المدعي كان(7/242)
غائبا عن موضع القتل، كما لا يمنع كونه صبيا أو جنينا، لانه قد يعرف الحال بإقرار المدعى عليه، أو بسماع ممن يثق به. السادسة: ما يستحق بالقسامة يستحق بخمسين يمينا، فإن كان الوارث واحدا وهو جائز، حلف خمسين وأخذ الدية، وإن لم يكن جائزا، حلف أيضا خمسين، لانه لا يمكنه أخذ شئ إلا بعد تمام الحجة، فإذا حلف أخذ قدر حقه ولا يثبت الباقي بيمينه، بل حكمه حكم من مات ولا وارث له وسيأتي إن شاء الله تعالى، وإن كان للقتيل وارثان فأكثر، فقولان، أحدهما: يحلف كل واحد خمسين يمينا، وأظهرهما: يوزع الخمسون عليهم على قدر مواريثهم، ومنهم من قطع بهذا، فعلى هذا إن وقع كسر، تممنا المنكسر، فإذا كان ثلاثة بنين، حلف كل ابن سبع عشرة، وإن خلف أما وابنا، حلفت تسعا وحلف اثنتين وأربعين، وإن خلف زوجة وبنتا جعلت الايمان بينهما أخماسا، فتحلف الزوجة عشرا، والبنت أربعين، وفي زوج وبنت، تجعل أثلاثا، وإذا خلف أكثر من خمسين ابنا أو أخا، حلف كل واحد يمينا، وإن كانوا تسعة وأربعين، حلف كل واحد يمينين، وفي صورة الجد والاخوة تقسم الايمان، كقسم المال، وفي المعادة لا يحلف ولد الاب إن لم يأخذ شيئا، فإن أخذ، حلف بقدر حقه، فإذا خلف جدا وأخا لابوين وأخا لاب، حلف الجد سبع عشرة والاخ للابوين أربعا وثلاثين، ولا يحلف الاخ للاب وعلى التوزيع لو نكل بعضهم عن جميع حصته، أو بعضها، فلا يستحق الآخر شيئا حتى يحلف خمسين ولو غاب بعضهم، فالحاضر بالخيار بين أن يصبر حتى يحضر الغائب، فيحلف كل واحد قدر حصته، وبين أن يحلف في الحال خمسين، ويأخذ قدر حقه، فلو كان الورثة ثلاثة بنين أحدهم حاضر، فأراد أن يحلف، حلف خمسين يمينا، وأخذ ثلث الدية، فإذا قدم ثان، حلف نصف الخمسين، وأخذ(7/243)
الثلث فإذا قدم الثالث، حلف سبع عشرة، وأخذ ثلث الدية، ولو كانوا أربعة، حلف الحاضر خمسين، وأخذ ربع الدية، فإذا قدم ثان، حلف خمسا وعشرين، وأخذ ربعها، وثالث يحلف سبع عشرة والرابع ثلاث عشرة، ولو قال الحاضر: لا أحلف إلا بقدر حصتي لا يبطل حقه من القسامة حتى إذا قدم الغائب حلف معه بخلاف ما إذا قال الشفيع الحاضر: لا آخذ إلا قدر حصتي، فإنه يبطل حقه، لان الشفعة إذا أمكن أخذها، فالتأخير تقصير مفوت، والمين في القسامة لا تبطل بالتأخير، ولو كان في الورثة صغير، أو مجنون، فالبالغ العاقن كالحاضر، والصبي والمجنون كالغائب في جميع ما ذكرناه، ولو حلف الحاضر، أو البالغ خمسين، ثم مات الغائب أو الصبي، وورث الحالف، لم يأخذ نصيبه إلا بعد أن يحلف حصته ولا يحسب ما مضى، لانه لم يكن مستحقا له يومئذ. فرع كان في الورثة خنثى مشكل، أخذ بالاحتياط واليقين في الايمان والميراث، فإن خلف ولدا خنثى، حلف خمسين لاحتمال أنه ذكر، ولا يأخذ إلا نصف المال، ثم إن لم يكن معه عصبة، لم يأخذ القاضي الباقي من المدعى عليه بل يوقف حتى يبين الخنثى، فإن بان ذكرا أخذه، وإن بان أنثى حلف القاضي المدعى عليه للباقي، وإن كان معه عصبة كأخ، فإن شاء صبر إلى وضوح الخنثى، وإن شاء حلف، فإن صبر توقفنا، وإن حلف حلف خمسا وعشرين، وأخذ القاضي النصف الآخر، ووقفه بين الاخ والخنثى، فإذا بان المستحق منهما، دفعه إليه باليمين السابقة، ولو خلف ولدين خنثيين، حلف كل واحد منهما ثلثي الايمان مع الجبر وهي أربع وثلاثون يمينا، لاحتمال أنه ذكر، والآخر أنثى، ولا يأخذان إلا الثلثين لاحتمال أنهما أنثيان، ولو خلف ابنا وخنثى، حلف الابن ثلثي الايمان، وأخذ نصف الدية، وحلف الخنثى نصفها، وأخذ ثلث الدية، ووقف السدس بينهما، ولو خلف بنتا وخنثى، حلفت نصف الايمان، والخنثى ثلثيها، وأخذ ثلثي الدية، ولا يؤخذ الباقي من المدعى عليه حتى يظهر الخنثى. وهنا صور أخر في الخناثى تعلم من الضابط والمثال المذكور حذفتها اختصارا ولعدم الفائدة فيها وتعذر وقوعها. فرع مات بعض الورثة المدعين الدم، قام وارثه مقامه في الايمان، فإن(7/244)
تعددوا، عاد القولان، فإن قلنا: يحلف كل وارث خمسين، فكذا ورثة الورثة، وإن قلنا: بالتوزيع، وزعت حصة ذلك الوارث على ورثته، فلو كان للقتيل ابنان، مات أحدهما عن ابنين، حلف كل منهما ثلاث عشرة، فلو حلف أحدهما ثلاث عشرة، فمات أخوه قبل أن يحلف، ولم يترك سوى هذا الحالف، حلف أيضا ثلاث عشرة بقدر ما كان يحلف الميت، ولا يكفيه إتمام خمس وعشرين، ولو مات وارث القتيل بعد حلفه، أخذ وارثه ما كان له من الدية، وإن مات بعد نكوله، لم يكن لوارثه أن يحلف، لانه بطل حقه من القسامة بنكوله، لكن لوارثه تحليف المدعى عليه. فرع للقتيل ابنان، حلف أحدهما، ومات الآخر قبل أن يحلف عن ابنين، فحلف أحدهما حصته، وهي ثلاث عشرة ونكل الآخر، وزع الربع الذي نكل عنه على أخيه وعمه على نسبة ما يأخذان من الدية، فيخص الاخ أربع وسدس يضم ذلك إلى حصته في الاصل، وهي اثنتا عشرة ونصف، فتبلغ ست عشرة وثلثين فتكمل، وقد حلف ثلاث عشرة، فيحلف الآن أربعا، ويخص العم ثمان وثلث، فيحلف تسعا فيكمل له أربع وثلاثون. فرع جميع ما سبق في أيمان القسامة من جهة المدعي، أما إذا ادعى القتل بغير لوث وتوجهت اليمين على المدعى عليه، فهل يغلظ عليه بالعدد ؟ قولان، أظهرهما: نعم، لانها يمين دم، فإن نكل المدعى عليه رد على المدعي ما توجه على المدعى عليه على اختلاف القولين. ويجري القولان في يمين المدعي مع الشاهد الواحد، ولو كانت الدعوى في محل اللوث، ونكل المدعي عن القسامة، غلظت اليمين على المدعى عليه بالعدد قطعا، وقيل: بطرد القولين، فإن قلنا: بالتعدد، وكانت الدعوى على جماعة مع لوث أو مع عدمه، فهل يقسط الخمسون عليهم بعدد الرؤوس، أم يحلف كل واحد خمسين ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، فإن قسطنا فكانت الدعوى على اثنين، حاضر وغائب، حلف الحاضر خمسين، فإذا حضر الغائب وأنكر، حلف خمسا وعشرين، وإن كانا حاضرين، فنكل أحدهما، حلف الآخر خمسين، لان البراءة عن الدم لا تحصل بدونها على قول التعدد، ويحلف المدعي على الناكل خمسين، ولو نكل المدعى عليه عن اليمين والمدعون جماعة وقلنا: بالتعدد، فهل توزع(7/245)
الايمان على قدر مواريثهم أم يحلف كل واحد خمسين ؟ فيه القولان السابقان. فرع هذا الذي سبق حكم الايمان في دعوى النفس، فأما دعوى الطرف والجرح، فقد سبق أنه لا قسامة فيها، ولا اعتبار باللوث، ولكن يحلف المدعى عليه، وهل تتعدد اليمين ؟ يبنى على أن يمين المدعى عليه في دعوى النفس هل تتعدد ؟ إن قلنا: لا، فهنا أولى، وإلا فقولان أو وجهان، أشبههما بالترجيح التعدد، قال ابن الصباغ: هذا الخلاف في دعوى العمد المحض، أما في الخطإ وشبه العمد فتتحد فيه اليمين بلا خلاف، ولم يفرق الاكثرون كما في النفس، وإذا قلنا: بالتعدد، فذلك إذا كان الواجب فيما يدعيه قدر الدية، فإن نقص كبدل اليد والحكومة، فقولان، أظهرهما: يحلف المدعى عليه خمسين يمينا أيضا، والثاني: توزع الخمسون على الابدال، ففي اليد خمس وعشرون، وفي الموضحة ثلاث، ولو زاد الواجب على دية نفس، فهل يزاد في قدر الايمان بزيادة قدر الاروش ؟ طرد الامام حكاية الخلاف فيه، ولو كانت الدعوى في الطرف على جماعة، فهل يحلف كل واحد منهم بقدر ما يحلف المنفرد، أم يوزع على رؤوسهم ؟ فيه قولان كما سبق، ومتى نكل المدعى عليه عن اليمين المعروضة عليه، ردت على المدعي، وحلف بقدر ما كان يحلف المدعى عليه، فإن تعدد المدعون، فهل توزع عليهم بقدر الارث، أم يحلف كل واحدكما يحلف المنفرد ؟ فيه القولان السابقان. فرع كان مع المدعي شاهد، فأراد أن يحلف معه، فإن قلنا: تتحد اليمين مع الشاهد في دعوى الدم، نظر، إن جاء بصيغة الاخبار أو شهد على اللوث، حلف معه خمسين يمينا، وإن جاء بلفظ الشهادة وحافظ على شرطها، حلف معه يمينا واحدة، قال الامام: ويثبت المال إن كان القتل خطأ، وإن كان المدعى قتل عمد، فلا قصاص قطعا، وفي المال خلاف يأتي نظيره إن شاء الله تعالى، وإذا قلنا: تعدد اليمين مع الشاهد، فلا بد من خمسين يمينا بكل حال.
الطرف الثالث : في حكم القسامة فإذا أقسم الولي في محل اللوث، فإن كان ادعى قتل خطإ أو شبه عمد،(7/246)
وجبت الدية على عاقلة المحلوف عليه، مخففة في الخطإ، ومغلظة في شبه العمد، وإن ادعى قتلا عمدا والمدعى عليه ممن يقتل بذلك القتيل، فهل يجب القصاص بالقسامة ؟ قولان، القديم: نعم، والجديد الاظهر: لا، فعلى الجديد تجب الدية فق مال القاتل حالة، وعلى القديم لا فرق بين أن تكون الدعوى على واحد، أو جماعة كالبينة، وخرب ابن سريج على القديم أن الولي يختار واحدا منهم، فيقتله قصاصا، ولا يقتل الجميع، وقيل: على هذا يأخذ من الباقين حصتهم من الدية، وهو ضعيف، وإذا ادعى القتل على ثلاثة في محل اللوث. والحاضر منهم واحد، فإن قال: تعمدوا جميعا، أقسم علق الحاضر خمسين يمينا، وأخذ ثلث الدية من ماله على الجديد، وعلى القديم له القصاص، فإذا قدم أحد الغائبين، فإن أقر، اقتص منه، وإن أنكر، أقسم عليه المدعي، وهل يقسم خمسين أم خمسا وعشرين ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الاول، هكذا أطلقوه، وينبغي أن يكون هذا على الخلاف السابق في جواز القسامة في غيبة المدعى عليه، فإن جوزناها وذكره في الايمان السابقة اكتفى بها، ثم إذا حلف عليه، عاد القولان، الجديد والقديم، فإذا قدم الثالث وأنكر فكم يحلف عليه ؟ فيه الخلاف السابق، وإن قال: تعمد هذا الحاضر، وكان الغائبان مخطئين، أقسم على الحاضر ولا يقتص منه قطعا، فإذا حضر الغائبان وأنكرا، فكم يحلف عليهما ؟ فيه الخلاف، وإن أقرا وصدقتهما العاقلة، فالدية على العاقلة، وإلا ففي مالهما مخففة، وإن قال: تعمد الحاضر ولا أدري أتعمد الغائبان أم أخطأ، أقسم على الحاضر خمسين وأخذ منه ثلث الدية على الجديد، وعلى القديم يوقف الامر حتى يحضرا، فإن حضرا واعترافا بالتعمد، اقتص منهما ويقتص من الاول أيضا في القديم، وإن اعترفا بالخطإ، وجبت الدية المخففة عليهما إن كذبتهما العاقلة، وإلا فعلى العاقلة، وإن أنكرا أصل القتل، فهل يقسم المدعي ؟ فيه الوجهان السابقان فيما إذا ادعى القتل وظهر اللوث فيه ولم يذكر أنه عمد أم خطأ، الاصح: لا يقسم، فإن قلنا: يقسم،(7/247)
فأقسم، حبسا حتى يصفا القتل، وكم يقسم ؟ فيه الخلاف، ولو ادعى القتل على شخصين، وعلى أحدهما لوث دون الآخر، أقسم المدعي على الذي عليه لوث خمسين، وفي الاقتصاص منه القولان، وحلفالذي لا لوث عليه. فرع إذا نكل المدعي عن القسامة في محل اللوث، حلف المدعى عليه كما سبق، فإن نكل، فهل ترد اليمين على المدعي ؟ ينظر إن ادعى قتلا يوجب القصاص، وقلنا: القسامة لا توجب القصاص، ردت اليمين قطعا، لانه يستفيد بها ما لا يستفيد بالقسامة، وهو القصاص، وإن كان قتلا لا يوجب القصاص، أو يوجبه وقلنا: القسامة توجبه، فقولان، أحدهما: لا ترد، لانه نكل عن اليمين في هذه الخصومة، وأظهرهما: الرد، لانه إنما نكل عن يمين القسامة، وهذه غيرها، والسبب الممكن من تلك هو اللوث، ومن هذه نكول المدعى عليه، ولو كانت الدعوى في غير صورة اللوث، ونكل المدعى عليه عن اليمين، والمدعي عن اليمين المردودة، ثم ظهر لوث وأراد المدعي أن يقسم فقد أجروا القولين في تمكينه منه، ولو أقام المدعي شاهدا في دعوى بمال، ونكل عن الحلف معه، ونكل المدعى عليه عن اليمين المعروضة عليه، فأراد المدعي أن يحلف اليمين المردودة، عاد القولان هكذا أطلقوه، ومقتضى ما ذكرنا في أول المسألة أن يقال: إن جرى ذلك في دعوى قتل يوجب قصاصا، حلف اليمين المردودة قطعا، لانه لا يستفيد باليمين مع الشاهد القصاص، ويستفيد باليمين المردودة. فرع إذا حلف المدعى عليه تخلص عن المطالبة، ولا يطالب أهل الموضع الذي وجد فيه القتيل، ولا يأتي ذلك الموضع ولا عاقلته ولا عاقلة الحالف ولا غيرهم سواء كان المدعى قتلا عمدا أم خطأ، وإذا حلف المدعي عند نكول المدعى عليه، فإن كان المدعى قتلا عمدا، ثبت القصاص، لان اليمين المردودة كالاقرار، أو كالبينة، والقصاص يثبت بكل منهما، وإن كان المدعى خطأ، أو شبه عمد، وجبت الدية، ثم قيل: إن قلنا: اليمين المردودة كالبينة، فهي على عاقلته، وإن قلنا: كالاقرار، ففي ماله، وقيل: في ماله مطلقا، لانها إنما تكون كالبينة في حق المتداعيين.(7/248)
الطرف الرابع : فيمن يحلف في القسامة وهو كل من يستحق بدل الدم، فيدخل فيه السيد، فإنه إذا قتل عبده، أقسم على المذهب كما سبق، وعلى هذا يقسم المكاتب إذا قتل عبده، ولا يقسم سيده، بخلاف ما إذا قتل عبد المأذون له فإن السيد يقسم دون المأذون له، لانه لا حق له، بخلاف المكاتب، فإن عجز قبل أن يقسم، وتعرض عليه اليمين، أقسم السيد، وإن عجز بعد عرض اليمين ونكوله، لم يقسم السيد، لبطلان الحق بنكوله، كما لا يقسم الوارث إذا نكل المورث، ولكن يحلف المدعى عليه، وإن عجز بعد ما أقسم، أخذ السيد القيمة، كما لو مات الولي بعد ما أقسم. فرع ملك عبده عبدا، فقتل وهناك لوث، فإن قلنا: العبد لا يملك بتمليك السيد، أقسم السيد، لان المقتول عبده، فإن أقسم، كانت القيمة له ولورثته بعده، وإن قلنا: يملك بالتمليك، بني ذلك على أن من ملك عبده شيئا فأتلف، هل ينقطع حق العبد منه وتكون القيمة للسيد، أم ينتقل حقه إلى القيمة ؟ وفيه وجهان، أصحهما: الانقطاع، لضعف ملكه ولانه لو أعتق أو انتقل من ملك السيد، انقلب ما ملكه إلى ملك سيده، فإن قلنا: ينقطع، أقسم السيد، وإلا فوجهان، أحدهما: يقسم العبد كالمكاتب، والثاني: لا، لضعف ملكه، فعلى هذا لا يقسم السيد أيضا، لانه لا ملك له، ولو استرجع السيد الملك، وأعاد القيمة إلى ملكه، لم يقسم السيد أيضا، لانها لم تثبت للعبد، فكيف يخلفه السيد فيها، وإن قلنا: يقسم العبد، فقد قيل: لا يقسم السيد أيضا، لان العبد لم يكن له حين قتل، ولا صارت القيمة له حينئذ، وإنما يملك بالاسترجاع، قال الامام: ويجوز أن يجعل السيد خلفا عن العبد كالوارث مع مورثه، ولو ملك مستولدته عبدا كان كما لو ملك عبده القن في جميع ما ذكرنا، وإن عتقت بموت السيد، ولو أوصى لمستولدته بعبد، فقتل وهناك لوث، أقسم السيد وأخذ القيمة وبطلت الوصية، ولو أوصى لها بقيمة عبده بعدما قتل، أو أوصى لها بقيمة عبده فلان إن قتل، صحت الوصية، لان القيمة له ولا يقدح فيها الخطر، لان الوصية تحتمل الاخطار، وليست الوصية للمستولدة كالوصية للقن، لانها تعتق بالموت وهو وقت استحقاق الوصية، والقن ينتقل إلى الوارث، فلا يمكن تصحيح الوصية له، قال الروياني: وعلى هذا لو أوصى لعبد نفسه، ثم أعتقه قبل موته، صحت الوصية، وعن القاضي أبي الطيب،(7/249)
أنه لو باعه بعد الوصية، صحت الوصية، ويثبت الاستحقاق للمشتري، وإذا صحت الوصية لها، فإن أقسم السيد، ثم مات، فالقيمة لها، وإن لم يقسم حتى مات ولم يوجد منه نكول، أقسم الورثة، وتكون القيمة لها بالوصية، وإنما أقسم الورثة، وإن كانت القيمة للمستولدة، لان العبد يوم القتل كان للسيد، والقسامة من الحقوق المعلقة بالقتل، فيرثونها كسائر الحقوق، وتثبت القيمة له، ثم يصرفونها إلى المستولدة بموجب وصيته، ولهم غرض ظاهر في تنفيذ وصيته، وتحقيق مراده، وهذا كما أنهم يقضون دينه، وليس سبيلهم فيه سبيل سائر الناس، حتى لو مات من عليه دين ولا تركة له، فقضاه الورثة من مالهم، لزم المستحق قبوله بخلاف ما لو تبرع به أجنبي، قال الامام: وغالب ظني أني رأيت فيه خلافا، قال: ولو أوصى لانسان بمال ومات، فجاء من ادعى استحقاقه هل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية ؟ فيه احتمالان، والفرق أن القسامة تثبت على خلاف القياس احتياطا للدماء. ولو نكل الورثة عن القسامة، فهل للمستولدة أن تقسم وتأخذ القيمة ؟ قولان، أحدهما: نعم، لان الحق لها، وأظهرهما: لا، لان القسامة لاثبات القيمة، وهي تثبت للسيد ثم تنتقل بالوصية إليها، ولا يقوم مقام السيد إلا وارثه، ويجري القولان في المديون إذا لم يقسم ورثته، هل يقسم غرماؤه ؟ ولا خلاف أن للورثة الدعوى، وطلب اليمين من المدعى عليه إذا لم يقسموا، وأما المستولدة، فهل لها الدعوى وطلب اليمين ؟ قيل: إن قلنا: لها أن تقسم، فلها ذلك، وإلا فلا، والمذهب والمنصوص أن لها ذلك، وإن قلنا: لا تقسم، لانها صاحبة القيمة، وأما القسامة(7/250)
فللورثة، فلو نكل الخصم ردت اليمين عليها، قال الامام: وعلى هذا لا يفتقر طلبها ودعواها إلى إعراض الورثة عن الطلب. واعلم أن الورثة وإن كان لهم القسامة، لا تجب عليهم وإن كانوا متيقنين، فالايمان لا تجب قط. فرع لو قطعت يد عبد، فعتق ومات بالسراية، فقد سبق أن الواجب فيه الدية، وذكرا قولين، أظهرهما: للسيد أقل الامرين من نصف قيمة العبد وكمال الدية، والثاني: أنه أقل الامرين من كمال القيمة وكمال الدية، فلو وقعت هذه الجناية في محل لوث وكان الواجب قدر ما يأخذه السيد ولا يفضل شئ للورثة، فهل يقسم ؟ يبنى على ما لو مات رقيقا، إن قلنا: يقسم، فهنا أولى، وإلا فوجهان، أصحهما: يقسم أيضا، لان القتيل حر، والواجب دية، وإن كان يفضل عن الواجب شئ للورثة، أقسم الورثة قطعا، وفي قسامة السيد الخلاف، إن قلنا: لا يقسم، أقسم الورثة خمسين يمينا، وإلا فالسيد مع الوارث كالوارثين، فيعود القولان في أن كل واحد يحلف خمسين يمينا، أم توزع الايمان عليهما بحسب ما يأخذان. فرع إذا ارتد ولي القتيل بعد ما أقسم، فالدية ثابتة، ولها حكم سائر أمواله التي ارتد عليها، وإن ارتد قبل أن يقسم، قال الاصحاب: الاولى أن لا يعرض الحاكم القسامة عليه، لانه لا يتورع عن اليمين الكاذبة، فإذا عاد إلى الاسلام، أقسم، ولو أقسم في الردة، فالمذهب صحة القسامة، واستحقاق الدية بها، وهي كمال كسبه بعد الردة باحتطاب واصطياد ونحوهما، ولو ارتد الولي قبل موت المحروح، ومات المجروح والولي مرتد، لم يقسم، لانه لا يرث بخلاف ما إذا قتل العبد، وارتد السيد، لا يفرق بين أن يرتد قبل موت العبد أم بعده، بل يقسم إذا قلنا بالقسامة في بدل العبد، لان استحقاقه بالملك لا بالارث. فرع قتل من لا وارث له بجهة خاصة وهناك لوث، فلا قسامة لعدم المستحق المعين، لكن ينصب القاضي من يدعي عليه ويحلفه، فإن نكل، فهل يقضي عليه بنكوله ؟ فيه خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.(7/251)
فصل في مسائل منثورة :
ينبغي للقاضي أن لا يحلف السكران مدعيا كان ولا مدعى عليه، حتى يعلم ما يقول، وما يقال له، وينزجر عن اليمين الكاذبة، فإن حلفه في السكر، فعلى الخلاف في أن السكران كالصاحي أم كالمجنون. والاصح: الاول، ولو قتل رجل وكان اللوث على عبده، فأراد وارثه أن يقسم عليه، فله ذلك إن أوجبنا القصاص بالقسامة ليقتص منه، وإلا فلا يقسم، لانه لا يثبت له في رقبة عبده مال إلا أن يكون مرهونا، فيستفيد بالقسامة فك الرهن وبيعه، وقسمة ثمنه على الغرماء، ولو ادعى على رجل أنه قتل أباه عمدا، فقال المدعى عليه: قتلته ولكن خطأ، أو شبه عمد، فإن لم يكن لوث، صدق المدعى عليه بيمينه، وإن كان بأن شهد عبيد أو نسوة على إقراره بالعمدية، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: المدعي، وبه قطع الامام والمتولي، فإن حلف المدعى عليه، فلم يحلف ؟ يبنى على ما لو أنكر أصل القتل إن قلنا: يمينا واحدة، فكذا هنا وإن قلنا: خمسين، فكذا هنا على الاصح، وقيل: يمينا، لان إنكار الصفة أخف من إنكار الاصل، وإذا حلف المدعى عليه، فهل للمدعي طلب الدية ؟ فيه وجهان بناء على أن الدية في الخطإ تجب على العاقلة ابتداء أم تجب على الجاني وهم يحملون، إن قلنا بالاول، ليس له الطلب، لانه ادعى حقا على المدعى عليه، وهو اعترف بوجوبه على غيره، وإن قلنا بالثاني، بني على أن الخلف في الصفة هل هو كالخلف في الموصوف ؟ وفيه قولان سبقا في مسائل خيار النكاح، إن قلنا: نعم، فكأنه ادعى مالا فاعترف بمال آخر لا يدعيه، وإن قلنا: لا، طالب بالدية وهو المذهب وعليه اقتصر الاكثرون، وتكون الدية على المدعى عليه مخففة مؤجلة إلا أن تصدقه العاقلة، فتكون عليهم، ولو ادعى أنه قتل أباه خطأ، فقال: قتلته عمدا، فلا قصاص، وهل له المطالبة بدية مخففة ؟ قال المتولي: فيه الوجهان، ولو نكل المدعى عليه في الصورة الاولى، حلف المدعي أنه كان عمدا ويكون عدد يمينه بعدد يمين المدعى عليه، ويثبت له بيمينه القصاص أو الدية المغلظة في ماله. فرع ادعى جرحا لا يوجب قصاصا كجائفة، وأقام بها شاهدا، وحلف معه يمينا واحدة ليستحق المال، ثم مات المجروح بالسراية، قال ابن الحداد: لا يعطى(7/252)
الورثة شيئا إلا بخمسين يمينا، لانها صارت نفسا، قال القاضي أبو الطيب: تصوير ابن الحداد مبني على أن دعوى الجرح والبينة به تسمعان قبل اندماله، وفيه خلاف، ومفرع على أن الايمان لا تتعدد في الجراحات، فإن قلنا: تتعدد، وحلف مع شاهده خمسين، وإن قلنا: بالتوزيع على قدر الدية، حلف للجائفة مع الشاهد ثلث الخمسين، ثم إذا مات المجروح، وصارت الجراحة نفسا، أقسم الورثة واللوث حاصل بشهادة الشاهد الذي أقامه مورثهم، ولا تحسب يمينه لهم، وقال الخضري: تحسب حتى لو حلف خمسين على قولنا بالتكميل، فلا يمين على الورثة، والصحيح: الاول.
الباب الثالث : في الشهادة على الدم صفات الشهود، ونصب الشهادات، وشروطها تستوفى في كتاب الشهادات، لكن ذكر الشافعي رضي الله عنه مسائل تتعلق بالشهادة على الجناية، فراعى معظم الاصحاب ترتيبه، فكل قتل أو جرح يوجب القصاص، لا يثبت إلا بشهادة رجلين يشهدان على نفس القتل أو الجرح، أو إقرار الجاني به، وما لا يوجب إلا الدية، كالخطإ وشبه العمد، وجناية الصبي والمجنون، ومسلم على ذمي، وحر على عبد، وأب على ابن، يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبرجل ويمين، ولو كانت الجناية المدعاة بحيث توجب القصاص، وقال المدعي: عفوت عن القصاص فاقبلوا مني رجلا وامرأتين، أو شاهدا ويمينا لاخذ المال، فهل يقبل ويثبت المال ؟ وجهان، الاصح المنصوص: المنع، لانها في نفسها موجبة للقصاص، ومنهم من قطع بهذا، ومن القسم الاول، موضحة توجب القصاص، ومن الثاني، هاشمة ومأمومة وجائفة تجردت عن الايضاح، فلو كانت هاشمة مسبوقة بإيضاح، فهل يثبت أرش الهاشمة برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين ؟ النص أنه لا يثبت، ونص فيما لو رمى سهما إلى زيد، فمرق منه إلى غيره، أنه يثبت الخطأ الوارد على الثاني برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، وفيهما طريقان، أحدهما: على قولين، ثبوت الهشم والجناية على الثاني برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، والثاني: المنع، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن الهشم المشتمل على الايضاح جناية واحدة، وإذا اشتملت الجناية على ما يوجب القصاص، احتيط لها، ولم يثبت إلا بحجة كاملة،(7/253)
وفي صورة مروق السهم حصل جنايتان لا تتعلق إحداهما بالاخرى، قال الامام: ولو قال المدعي: أصاب سهمه الرجل الذي قصده، ونفذ منه إلى أبي فقتله، ولم تكن الجناية الاولى متعلق حق المدعي، وجب القطع بثبوت الخطإ بالبينة الناقصة، ومحل الخلاف ما إذا كانت الجناية الاولى متعلق حق المدعي، قال: وفيه احتمال، قال: ولو ادعى أنه أوضح رأسه، ثم عاد وهشمه، ينبغي أن يثبت أرش الهاشمة برجل وامرأتين، لانها لم تتصل بالموضحة، ولم تتحد الجناية، قال: ولو ادعى القصاص مالا من جهة لا تتعلق بالقصاص، وأقام على الدعويين رجلا وامرأتين، فالمذهب ثبوت المال، وبه قطع الجمهور، وأبعد بعضهم فخالف فيه، وفي الوسيط أنه لا خلاف أنه لو ادعى قتل عمرو خطأ، فشهدوا، وذكروا مروق السهم إليه من زيد لا يقدح في الشهادة، لان زيدا ليس مقصودا بها، فإذا أثبتنا الهاشمة المسبوقة بإيضاح، وأوجبنا أرشها، قال صاحب التقريب: في وجوب القصاص في الموضحة وجهان، وجه الوجوب التبعية للهاشمة، وقال الشيخ أبو علي والائمة: لا قصاص في الموضحة، وفي أرشها وجهان، لانا وجدنا متعلقا لثبوت المال، فلا يبعد أن يستتبع مال مالا. فصل لتكن الشهادة على الجناية مفسرة مصرحة بالغرض، فيشترط أن يضيف الهلاك إلى فعل المشهود عليه، فلو قال: ضربه بالسيف، لم يثبت به شئ، ولو قال: ضربه فأنهر الدم، أو قال: جرحه أو ضربه بالسيف فأنهر الدم، أو فمات، لم يثبت به شئ أيضا لاحتمال الموت بسبب آخر، ولو قال: جرحه، فقتله، أو فمات من جراحته، أو أنهر دمه فمات بسبب ذلك، ثبت القتل، وفي معناه قوله: جرحه أو ضربه بالسيف فأنهر دمه ومات مكانه، نص عليه في المحتصر وجعل قوله: ومات مكانه، كقوله: ومات من جراحته، وفي لفظ الامام ما يشعر بنزاع فيه، ثم الشاهد يعرف حصول القتل بقرائن يشاهدها، فإن لم ير إلا الجرح وإنهار الدم، وحصول الموت، فللامام تردد في جواز تحمل الشهادة به، قال: والوجه: المنع، ولو قال: ضرب رأسه فأدماه، أو أسال دمه، ثبتت الدامية فمال دمه، لم يثبت، لاحتمال حصول السيلان بغيره،(7/254)
ولو قال: ضربه بسيف، فأوضح رأسه، أو فاتضح من ضربه أو بجرحه، ثبتت الموضحة، ولو قال: ضربه، فوجدنا رأسه موضحا، أو فاتضح، لم تثبت، وحكى الامام والغزالي أنه يشترط التعرض لوضوح العظم، ولا يكفي إطلاق الموضحة، فإنها من الايضاح، وليست مخصوصة بإيضاح العظم، وتنزيل لفظ الشاهد على ألقاب اصطلح الفقهاء عليها لا وجه له، فلو كان الشاهد فقيها، وعلم القاضي أنه لا يطلق الموضحة إلا على ما يوضح العظم، ففيه تردد للامام، قال: يجوز أن يكتفى به، لفهم المقصود، ويجوز أن يعتبر الكشف لفظا، لان للشرع تعبدا في لفظ الشهادات وإن أفهم غيرها المقصود، ولا بد من تعيين محل الموضحة وبيان مساحتها ليجب القصاص، فلو كان على رأسه مواضح، وعجزوا عن تعيين موضحة المشهود عليه، فلا قصاص، ولو لم يكن على رأسه إلا موضحة، وشهدوا أنه أوضح رأسه، فلا قصاص أيضا، لجواز أنها كانت موضحة صغيرة فوسعها، وإنما يجب القصاص إذا قالوا: أوضح هذه الموضحة، وهل يجب الارش إذا أطلقوا أنه أوضح موضحة، وعجزوا عن تعيينها ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لان الارش لا يختلف باختلاف محلها وقدرها، وإنما تعذر القصاص لتعذر المماثلة، ويدل عليه نصه في الام أنهما لو شهدا أنه قطع يد فلان، ولم يعينها، والمشهود له مقطوع اليدين، لا يجب القصاص، وتجب الدية، ولو كان مقطوع يد واحدة والصورة هذه، فهل تنزل شهادتهم هذه على ما نشاهدها مقطوعة أم يشترط تنصيصهم ؟ يجوز أن يقدر فيه خلاف. قلت: الصواب الجزم هنا بالتنزيل على المقطوعة. والله أعلم. ولو شهدا بموضحة شهادة صحيحة، ورأينا رأس المشجوج سليما لا أثر عليه، والعهد قريب بالشهادة، فالشهادة مردودة. فصل سيأتي في الشهاددت إن شاء الله تعالى أنه من شرط الشاهد أن ينفك عن التهمة، ومن التهمة أن يجر إلى نفسه نفعا، أو يدفع ضرا، ومن صور الجر أن يشهد على جرح مورثه، فإذا ادعى على شخص أنه جرحه، وشهد للمدعي وارثه، نظر، إن كان من الاصول أو الفروع، لم تقبل شهادته للبعضية، وإن كان من غيرهم(7/255)
وشهد بعد الاندمال، قبلت شهادته، وإن شهد قبله، فلا، وإن شهد بمال آخر لمورثه المريض مرض الموت، قبلت شهادته على الاصح عند الجمهور، ولو شهد بالجرح محجوبان، ثم صاروا وارثين، فالشهادة في الاصل مقبولة، فإن صارا وارثين قبل قضاء القاضي بشهادتهما، لم يقض، وإن كان بعد قضائه، لم ينقض القضاء، كما لو شهد الشاهد ثم فسق، وقيل: في المسألة قولان، حدهما: هذا، والثاني: الاعتبار بحال الشهادة، ولو شهد وارثان ظاهرا، ثم ولد ابن يحجبهما، فالشهادة مردودة للتهمة عند أدائها، وقيل بطرد القولين، ولو شهد بجرحه وارثاه فبرأ، فالصحيح أنه لا تثبت الجراحة للتهمة عند الاداء. ومن صور دفع الضرر: أن تقوم بينة بقتل خطإ، فيشهد اثنان من العاقلة الذين يتحملون الدية على فسق بينة القتل، فلا تقبل شهادتهما، لانهما يدفعان عنهما، فلو كان الشاهدان من فقراء العاقلة، فالنص أنه لا تقبل شهادتهما، وإن كانا من الاباعد، وفي عدد الاقربين وفاء بالواجب، فالنص قبول شهادتهما، فقيل: قولان، والمذهب عند الجمهور تقرير النصين، والفرق أن المال غاد ورائح، فالغنى غير مستبعد، فتحصل التهمة، وموت القريب كالمستبعد في الاعتقاد، فلا تتحقق فيه تهمة، وتقبل شهادة العاقلة على فسق بينة قتل العمد وبينة الاقرار بالخطإ، لان الدية لا تلزمهم، فلا تهمة. فرع شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا زيدا، فشهد المشهود عليهما على الاولين أنهما قتلاه، قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله: يسأل الولي، فإن صدق الاولين دون الآخرين، ثبت القتل على الآخرين، وإن صدق الآخرين دون الاولين، أو صدق الجميع، أو كذب الجميع، بطلت شهادة الجميع، لان الآخرين يدفعان عن أنفسهما ضررا، ولانهما عدوان للاولين، واعترض على تصوير المسألة بأن الشهادة لا تسمع إلا بعد تقدم دعوى على معين، وأجيب بأوجه، أحدها عن أبي إسحق: إن تقدم الدعوى إنما يشترط إذا كان المدعي يعبر عن نفسه، وتجوز الشهادة قبل الدعوى لمن لا يعبر، كصبي ومجنون، والشهادة هنا للقتيل، ولهذا تقضى منها ديونه ووصاياه، وهذا ذهاب إلى قبول شهادة الحسبة في الدماء، وهو وجه ضعيف. الثاني عن الماسرجسي والاستاذ أبي طاهر: أن صورتها إذا لم يعلم الولي(7/256)
القاتل، وتسمع الشهادة قبل الدعوى والحالة هذه، وهذا وجه ضعيف أن شهادة الحسبة تقبل إن لم يعلم بها المستحق. الثالث قاله الجمهور تفريعا على أن الشهادة لا تقبل إلا بعد تقديم الدعوى، وهو المذهب، وصورتها أن يدعي الولي القتل على رجلين، ويشهد له شاهدان، فيبادر المشهود عليهما، ويشهدان على الشاهدين بأنهما القاتلان، وذلك يورث ريبة للحاكم، فيراجع الولي، ويسأله احتياطا، ولو كان المدعي وكيل الولي، نظر، إن كان عين الآخرين وأمره بالدعوى عليهما، ففعل، وأقام بها شاهدين، فشهد المشهود عليهما على الشاهدين، فإن استمر الوكيل على تصديق الاولين، ثبت القتل على الآخرين، وإن صدقهم جميعا، أو صدق الآخرين، انعزل عن الوكالة، ولا تبطل دعوى الموكل على الآخرين، وإن لم يعين الوكيل أحدا، بل قال: ثأري عند اثنين من هؤلاء الجماعة، فادع عليهما واطلب ثأري منهما، ففي صحة التوكيل هكذا وجهان، قال البغوي: وعلى تصحيحه عمل الحكام، وعلى الصحيح ينطبق ما ذكره صاحب التقريب وأبو يعقوب الابيوردي أن المسألة من أصلها فيمن وكل اثنين في الدم فادعى أحدهما على رجلين، والآخر على آخرين، وشهد كل اثنين على الآخرين، ولو عين الوكيل شخصين، والتوكيل منهم كما صورنا، وأقام عليهما شاهدين، فشهد المشهود عليهما على الشاهدين، واستمر الوكيل على تصديق الاولين، ثبت القتل على الآخرين، وإن صدق الآخرين، جاز، أو صدق الجميع، انعزل عن الوكالة، ثم إن صدق الموكل الاولين، ثبت القتل على الآخرين، وإن صدق الآخرين، جاز، وله الدعوى على الاولين إذا لم يتقدم منه ما يناقض ذلك، لكن لا تقبل شهادة الآخرين، وإذا قلنا: تقبل الشهادة قبل الدعوى، فابتدر أربعة إلى مجلس القاضي، فشهد اثنان منهم على الآخرين أنهما قتلا فلانا، وشهد الآخران على الاولين أنهما القاتلان، فوجهان، أحدهما: تبطل الشهادتان لتضادهما، والثاني: يسأل الولي، فإن لم يصدقهم، بطلت شهادتمم، وإن صدق اثنين، تأيدت شهادتهما بالتصديق، فيقضي بها، وقيل: يعمل بشهادة الاولين، وترد شهادة الآخرين، لانهما عدوان ودافعان. فرع شهد رجلان على رجلين بالقتل، فشهد المشهود عليهما بذلك القتل(7/257)
على أجنبي أو أجانب فالنظر في كون الشهادة واقعة بعد الدعوى أو قبلها، وفي تصديق الولي الصنفين أو أحدهما على ما سبق، ولو كان المدعي وكيل الولي، ولم يكن الولي عين أحدا، ثم إنه صدق الآخرين، كان له أن يدعي على الاولين، لانه لم يسبق منه ما يناقضه، ولا تقبل شهادة الآخرين، لانهما متهمان بالدفع، وعن الصيدلاني أنه يحتمل أن لا يجعلا متهمين. فرع شهد رجلان على رجلين على التصوير المتقدم، فشهد أجنبيان على الشاهدين أنهما القاتلان، عاد التفصيل، فإن كان الولي ادعى بنفسه وكذب الاجنبيين، بطلت شهادتهما، ولو صدقهما، أو صدق الجميع، بطلت الشهادات للتناقض، وإن كان المدعي الوكيل، ولم يعين الموكل أحدا، فللموكل الدعوى على الاولين، والاجنبيان ليسا دافعين، ولكنهما مبادران إلى الشهادة قبل الاستشهاد، فإن ادعى عليهما، وشهد الاجنبيان، فعلى الخلاف في قبول الشهادة المعادة من المبادر، وقال البغوي: إن ادعى، وأعاد الشهادة في مجلس آخر، قبلت قطعا، وإن ادعى، وشهدا في ذلك المجلس، فوجهان. فرع ادعى على اثنين ألفا، وشهد به شاهدان، ثم شهد المشهود عليهما، أو أجنبيان بأن للمدعي على الشاهدين ألفا، وصدق المدعي الآخرين أيضا، لم تبطل دعواه الاولى ولا شهادة الاولين على الآخرين، وله أن يدعي على الآخرين أيضا، لامكان اجتماع الالفين، وشهادة الآخرين على الاولين شهادة قبل الدعوى والاستشهاد، قال البغوي: فلو ادعى، وشهدا في مجلس آخر، قبلت، وإن جرى في ذلك المجلس، فوجهان. فصل أقر بعض الورثة بعفو أحدهم عن القصاص، وعينه أو لم يعينه، سقط القصاص، وأما الدية، فإن لم يعين العافي، فللورثة كلهم الدية، وإن عينه، وأنكر، فكذلك، ويصدق بيمينه في كونه لم يعف، وإن أقر بالعفو، فلغير العافي حقهم من الدية، والعافي وإن عفا على الدية، فكذلك، وإن أطلق العفو، فعلى القولين في وجوب الدية بالعفو المطلق، ولو شهد بعض الورثة بعفو أحدهم، فإن كان فاسقا أو لم يعين العافي، فحكمه حكم الاقرار، وإن كان عدلا وعين العافي، وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعا، فللجاني أن يحلف معه، ويسقط(7/258)
القصاص والدية، أما القصاص، فبالاقرار الذي تضمنته الشهادة، وأما الدية، فلان العفو عن المال يثبت بشاهد ويمين، وكذا الحكم لو شهد رجل وامرأتان من الورثة. وإذا حلف الجاني، فيحلف: لقد عفا عن الدية، وقيل: يحلف: لقد عفا عن القصاص والدية، وهو ظاهر النص، وهو ضعيف، والنص مؤول، لان القصاص سقط بالاقرار، وإذا ادعى الجاني على الورثة أو بعضهم العفو عن القصاص على الدية، فأنكروه، فهم المصدقون باليمين، فإن نكلوا، حلف، وثبت العفو بيمين الرد، وإن أقام بينة على العفو، لم يقبل إلا رجلان، ولو آل الامر إلى المال، فادعى على بعضهم عفوه عن حصته من الدية فله اثباته برجل وامرأتين، وشاهد ويمين. فصل إذا اختلف شاهدا القتل في زمان، بأن قال أحدهما: قتله بكرة، وقال الآخر: عشية، أو مكان، فقال أحدهما: في البيت، والآخر: في السوق، أو آلة، فقال أحدهما: قتله بسيف، والآخر: برمح أو عصا، أو هيئة، فقال أحدهما: حزه، والآخر: قده، لم يثبت القتل، وهكذا حكم ما يشهدان به، ويختلفان فيه من الافعال والالفاظ المنشأة، ولا يكون ذلك لوثا على المذهب، ولو شهد أحدهما أنه أقر بالقتل عمدا، أو خطأ يوم السبت، والآخر أنه أقر به يوم الاحد، ثبت القتل، لانه لا اختلاف في القتل وصفته، ولو قال أحدهما: أقر أنه قتله بمكة يوم كذا، وقال الآخر: أقر أنه قتله بمصر ذلك اليوم، سقط قولهما، ولو شهد أحدهما أنه قتله، والآخر أنه أقر بقتله، لم يثبت القتل، ولكنه لوث، فإن كان المدعى قتل عمد، وأقسم الولي، ترتب على القسامة حكمها، وإن كان قتل خطأ، حلف مع أي الشاهدين شاء، وتعدد اليمين واتحادها على ما سبق، فإن حلف مع شاهد القتل، فالدية على العاقلة، وإن حلف مع شاهد الاقرار، ففي مال الجاني، وإن ادعى قتل عمد، فشهد أحدهما على إقراره بقتل عمد، والآخر على إقراره بقتل مطلق أو أحدهما بقتل عمد، والآخر بقتل مطلق، ثبت أصل القتل، لاتفاقهما عليه، حتى لا يقبل من المدعى عليه إنكاره، ويسأل عن صفة القتل، فإن أصر على إنكار أصله، قال له الحاكم: إن لم تبين صفته، جعلتك ناكلا، ورددت اليمين على المدعي أنك قتلت عمدا، وحكمت عليك بالقصاص، فإن بين صفته، فقال: قتلته عمدا، أجري عليه حكمه، وإن قال: قتلته خطأ، وكذبه الولي، فأطلق مطلقون أنه يصدق في نفي العمدية، فيحلف وتجب دية خطإ في ماله، لانها(7/259)
تثبت بإقراره، وإن نكل، حلف، ووجب القصاص، واستدرك الامام والغزالي، فقالا: يصدق في نفي العمدية إن لم يكن هناك لوث، فإن كان، أقسم المدعي ويشبه أن يكون جلمراد لوث العمدية، وإلا فأصل اللوث حاصل بأصل القتل لاتفاق الشاهدين، وقد سبق خلاف في أنه لو ظهر لوث بأصل القتل دون كونه خطأ أو عمدا، هل تثبت القسامة ؟ وهذا نازع إليه. فرع شهد أحدهما أنه قتله عمدا، والآخر أنه قتله خطأ، والدعوى بقتل عمد، ففي ثبوت أصل القتل وجهان، أصحهما: يثبت، فإن قلنا: لا يثبت، فحكمه كما سبق في صور التكاذب، وإن قلنا: يثبت، سئل الجاني، فإن أقر بالعمد، ثبت، أو بخطإ وصدقه الولي، ثبت، وإن كذبه، فللولي أن يقسم، لان معه شاهدا، وذلك لوث هنا قطعا، فإن أقسم الولي، حكم بمقتضى القسامة، وإلا فيحلف الجاني، فإن حلف، فالدية مخففة في ماله، وإن نكل، ففي رد اليمين على المدعي قولان سبقا، فإن ردت، وحلف، ثبت موجب العمد، فإن لم ترد، أوردت، وامتنع من الحلف، تثبت دية الخطإ في ماله، وقال البغوي: إن كان المدعى قتل عمد، فشهادة الخطإ لغو، ويحلف الولي مع شاهد العمد خمسين يمينا، ويثبت مقتضى القسامة، وإن كان قتل خطإ، فشهادة العمد لغو، ويحلف مع شاهد الخطإ، وتجب دية على العاقلة، قال: ولو شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا، والآخر أنه أقر بقتله خطأ، فالحكم كذلك إلا أنه إذا حلف مع شاهد الخطإ، فالدية على الجاني إلا أن تصدقه العاقلة. فرع شهدا أنه ضرب ملفوفا في ثوب، فقده نصفين، ولم يتعرضا لحياته وقت الضرب، لم يثبت القتل بشهادتهما، فلو اختلف الولي والجاني في حياته حينئذ، فأيهما يصدق ؟ فيه قولان سبقا، أظهرهما: الولي، وفي موضع القولين ثلاث طرق، أصحهما: إطلاقهما، والثاني قاله أبو إسحق: ينظر إلى الدم السائل، فإن قال أهل الخبرة: هو دم حي، صدق الولي، وإن قالوا: دم ميت، صدق الجاني، وإن اشتبه، ففيه القولان، والثالث قاله أبو الحسن الطيبي، بكسر الطاء وبالباء الموحدة: أنه إن كان ملفوفا في ثياب الاحياء، صدق الولي، وإن كان في الكفن، صدق الجاني، وإن اشتبه، ففيه القولان، فإن صدقنا الجاني،(7/260)
فحلف، برئ، وإن صدقنا الولي، فله الدية، وفي القصاص وجهان، قال الشيخ أبو حامد: لا، للشبهة وقال الماسرجسي والقاضي أبو الطيب وغيرهما: يجب القصاص، لانه مقتضى تصديقه. فرع شهد رجل على رجل أنه قتل زيدا، وشهد آخر أنه قتل عمرا، حصل اللوث في حقهما جميعا، فيقسم الوليان، نص عليه في الام رضي الله عنه وبالله التوفيق.(7/261)
كتاب الامامة وقتال البغاة
فيه بابان :
الأول في الامامة، وفيه فصول :
الأول : في شروط الامامة وهي كونه مكلفا مسلما عدلا، حرا ذكرا عالما، مجتهدا شجاعا، ذا رأي وكفاية، سميعا بعيدا، ناطقا قرشيا، في اشتراط سلامة سائر الاعضاء، كاليد والرجل والاذن خلاف، جزم المتولي بأنه(7/262)
لا يشترط، وجزم الماوردي باشتراط سلامته من نقص يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض، وهذا أصح. قلت: قال الماوردي: عشا العين لا يمنع من انعقاد الامامة، لانه مرض في زمن الاستراحة، ويرجى زواله، وضعف البصر إن كان يمنع معرفه الاشخاص، منع انعقاد الامامة واستدامتها، وإلا فلا، وفقد الشم والذوق وقطع الذكر والانثيين، لا يؤثر قطعا. والله أعلم. فإن لم يوجد قرشي مستجمع الشروط، فكناني، فإن لم يوجد، فرجل من ولد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن فيهم مستجمع الشرائط، ففي التهذيب أنه يولى رجل من العجم، وفي التتمة أنه يولى جرهمي، وجرهم أصل العرب، فإن لم يوجد جرهمي، فرجل من ولد إسحق - صلى الله عليه وسلم -، ولا يشترط كونه هاشميا، ولا كونه معصوما، وفي جواز تولية المفضول خلاف مذكور في أدب القضاء، فإن لم تتفق الكلمة إلا عليه، جازت توليته بلا خلاف، لتندفع الفتنة، ولو نشأ من هو أفضل من المفضول، لم يعدل إلى الناشئ بلا خلاف.
الفصل الثاني : في وجوب الإمامة وبيان طرقها، لا بد للامة من إمام يقيم الدين، وينصر السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها. قلت: تولي الامامة فرض كفاية، فإن لم يكن من يصلح إلا واحدا، تعين عليه ولزمه طلبها إن لم يبتدئوه. والله أعلم. وتنعقد الامامة بثلاثة طرق، أحدها: البيعة، كما بايعت الصحابة أبا بكر رضي الله عنهم، وفي العدد الذي تنعقد الامامة ببيعتهم ستة أوجه، أحدها: أربعون، والثاني: أربعة، والثالث: ثلاثة، والرابع: اثنان، والخامس: واحد، فعلى هذا يشترط كون الواحد مجتهدا. وعلى الاوجه الاربعة يشترط أن يكون في العدد المعتبر مجتهد لينظر في الشروط المعتبرة، ولا يشترط أن(7/263)
يكون الجميع مجتهدين، والسادس وهو الاصح: أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم، ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد في سائر البلاد والاصقاع، بل إذا وصلهم خبر أهل البلاد البعيدة، لزمهم الموافقة والمتابعة، وعلى هذا لا يتعين للاعتبار عدد، بل لا يعتبر العدد، حتى لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع، كفت بيعته لانعقاد الامامة، ويشترط أن يكون الذين يبايعون بصفة الشهود، وذكر في البيان في اشتراط حضور شاهدين البيعة، وجهين. قلت: الاصح: لا يشترط إن كان العاقدون جمعا، وإن كان واحدا، اشترط الاشهاد، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الارشاد: قال أصحابنا: يشترط حضور الشهود لئلا يدعى عقد سابق، ولان الامامة ليست دون النكاح، لكن اختيار الامام انعقادها بواحد، وذكر الماوردي أنه يشترط في العاقدين: العدالة والعلم والرأي، وهو كما قال. والله أعلم. ويشترط لانعقاد الامامة أن يجيب المبايع، فإن امتنع، لم تنعقد إمامته، ولم يجبر عليها. قلت: إلا أن لا يكون من يصلح إلا واحد، فيجبر بلا خوف. والله أعلم. الطريق الثاني: استخلاف الامام من قبل، وعهده إليه، كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما، وانعقد الاجماع على جوازه، والاستخلاف أن يعقد له في حياته الخلافة بعده، فإن أوصى له بالامامة، فوجهان حكاهما البغوي، ولو جعل الامر شورى بين اثنين فصاعدا بعده، كان كالاستخلاف، إلا أن المستخلف غير(7/264)
متعين، فيتشاورون، ويتفقون على أحدهم، كما جعل عمر رضي الله عنه الامر شورى بين ستة، فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه، وذكر الماوردي أنه يشترط في المعهود إليه شروط الامامة من وقت العهد إليه حتى لو كان صغيرا أو فاسقا عند العقد، بالغا عدلا عند موت العاهد، لم يكن إماما، إلا أن يبايعه أهل الحل والعقد، وقد يتوقف في هذا. قلت: لا توقف فيه، فالصواب الجزم بما ذكره الماوردي، والفرق بينه وبين الوصي ظاهر. والله أعلم. وذكر الماوردي أنه إذا عهد إلى غائب مجهول الحياة، لم يصح، وإن كان معلوم الحياة، صح، فإن مات المستخلف وهو بعد غائب، استقدمه أهل الاختيار، فإن بعدت غيبته وتضرر المسلمون بتأخير النظر في أمورهم، اختار أهل الحل والعقد نائبا له يبايعونه بالنيابة دون الخلافة، فإذا قدم انعزل النائب، وأنه إذا عزل الخليفة نفسه، كان كما لو مات، فتنتقل الخلافة إلى ولي العهد، ويجوز أن يفرق بين أن يقول: الخلافة بعد موتي لفلان، أو بعد خلافتي. قلت: توقف إمام الحرمين في كتابه الارشاد في انعزال الامام بعزله نفسه. والله أعلم وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد، وفيه مذهبان آخران، أحدهما: المنع، كالتزكية والحكم لهما، والثاني: يجوز للوالد دون الولد، لشدة الميل إليه، وأن ولي العهد لو أراد أن ينقل ما إليه من العهد إلى غيره، لم يجز، وأنه لو عهد إلى جماعة مرتبين، فقال الخليفة: بعد موتي فلان، وبعد موته فلان، وبعد موته فلان، جاز، وانتقلت الخلافة إليهم على ما رتب، كما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء جيش مؤتة، وأنه لو مات الاول في حياة الخليفة، فالخلافة للثاني، ولو مات الاول والثاني في حياته، فهي للثالث، وأنه لو مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء، فانتصب الاول للخلافة، ثم إن أراد أن يعهد بها إلى غير الآخرين، فالظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله جوازه، لانها لما انتهت إليه صار أملك بها بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى أحد، فليس لاهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني، ويقدم عهد الاول على اختيارهم وأنه ليس لاهل الشورى أن يعينوا واحدا منهم في(7/265)
حياة الخليفة إلا أن يأذن لهم في ذلك، فإن خافوا انتشار الامر بعده استأذنوه، فإن أذن، فعلوه، وأنه يجوز للخليفة أن ينص على من يختار خليفة بعده، كما يجوز أن يعهد إلى غيره، ثم لا يصح إلا اختيار من نص على أنه يختار، كما لا يصح إلا تقليد من عهد إليه، وأنه إذا عهد إلى غيره بالخلافة، فالعهد موقوف على قبول المعهود إليه، واختلف في وقت قبوله، فقيل: بعد موت الخليفة، والاصح أن وقته ما بين عهد الخليفة وموته، قال صاحب التتمة: وإذا امتنع المعهود إليه من القبول بويع غيره، وكأنه لا عهد، وكذا إذا جعل الامر شورى، فترك القوم الاختيار لا يجبرون عليه، وكأنه لم يجعل الامر إليهم. قلت: ومما ذكره الماوردي في الاحكام السلطانية من هذا، أنه لو جمع شروط الامامة اثنان، استحب لاهل العقد أن يعقدوها لاسنهما، فإن عقدوها للآخر، جاز، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أشجع، روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن دعت الحاجة إلى زيادة الشجاعة لظهور البغاة وأهل الفساد، كان الاشجع أحق، وإن دعت إلى زيادة العلم لسكون الفتن، وظهور البدع، كان الاعلم أحق، وأنه لو تنازعها اثنان، فقد قال بعض الفقهاء: يقدح ذلك فيهما فيعدل إلى غيرهما، والذي عليه الجمهور: أنه لا يقدح، لان طلب الخلافة ليس مكروها، ثم هل يقرع بينهما عند التساوي، أم يقدم أهل الاختيار من شاؤوا بلا قرعة ؟ فيه خلاف، وأن الخليفة إذا أراد العهد، لزمه أن يجتهد في الاصلح، فإذا ظهر له واحد، جاز أن ينفرد بعقد بيعته من غير حضور غيره، ولا مشاورة أحد، وأن المعهود إليه إذا استعفى، لم يبطل عهده حتى يعفى، فإن وجد غيره، جاز استعفاؤه، وخرج من العهد باجتماعهما، وإن لم يوجد غيره، لم يجز إعفاؤه ولا استعفاؤه، ويبقى العقد لازما. والله أعلم فصل وأما الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الامام، فتصدى للامامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا، أو جاهلا، فوجهان، أصحهما: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيا بفعله.(7/266)
فرع لو تفرد شخص بشروط الامامة في وقته، لم يصر إماما بمجرد ذلك، بل لا بد من أحد الطرق.
الفصل الثالث : في أحكام الإمام وفيه مسائل
إحداها: تجب طاعة الامام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع، سواء كان عادلا أو جائرا. الثانية: لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعد إقليماهما، وقال الاستاذ أبو إسحق: يجوز نصب إمامين في إقليمين، لانه قد يحتاج إليه، وهذا اختيار الامام، والصحيح الذي عليه الجمهور هو الاول، فإن عقدت البيعة لرجلين معا، فالبيعتان باطلتان، وإن ترتبتا فالثانية باطلة، ثم إن جهل الثاني ومبايعوه بيعة الاول، لم يعزروا، وإلا فيعزرون، ولو عرف سبق أحدهما ولم يتعين، أو شككنا في معيتهما وتعاقبهما، فليكن كما سبق في الجمعتين، ولو سبق أحدهما: وتعين، واشتبه، وقف الامر حتى يظهر، فإن طالت المدة، ولم يكن الانتظار، فقد ذكر الماوردي أنه تبطل البيعتان، وتستأنف بيعة لاحدهما، وفي جواز العدول إلى غيرهما خلاف. قلت: الاصح المنع. والله أعلم قال الماوردي: ولو ادعى كل واحد أنه الاسبق، لم تسمع دعواه، ولم يحلف الآخر، لان الحق للمسلمين، ولو قطعا التنازع، وسلم أحدهما الامر للآخر، لم تثبت الامامة له، بل لا بد من بينة بسبقه، قال: ولو أقر أحدهما بسبق صاحبه، خرج منها المقر، ولا تثبت للآخر إلا ببينة، فإن شهد له المقر مع آخر، قبلت شهادته إن كان يدعي اشتباه الامر قبل الاقرار، وإن كان يدعي التقديم، لم تسمع للتكاذب في قوليه. المسألة الثالثة: إذا ثبتت الامامة بالقهر والغلبة، فجاء آخر، فقهره، انعزل الاول، وصار القاهر الثاني إماما. الرابعة: لا يجوز خلع الامام بلا سبب، فلو خلعوه، لم ينخلع، ولو خلع الامام نفسه، نظر، إن خلع لعجزه عن القيام بأمور المسلمين لهرم أو مرض(7/267)
ونحوهما، انعزل، ثم إن ولى غيره قبل عزل نفسه، انعقدت ولايته، وإلا فيبايع الناس غيره، وإن عزل نفسه بلا عذر، ففيه أوجه: أصحها: لا ينعزل، وبه قطع صاحب البيان وغيره، والثاني: ينعزل، لان إلزامه الاستمرار قد يضر به في آخرته ودنياه، والثالث وبه قطع البغوي: إن لم يظهر عذر، فعزل نفسه ولم يول غيره، أو ولى من هو دونه، لم ينعزل، وإن ولى مثله، أو أفضل، ففي الانعزال وجهان، وهل للامام عزل ولي العهد ؟ قال المتولي: نعم، والماوردي: لا، لانه ليس نائبا له بل للمسلمين. قلت: قول الماوردي أصح، قال الماوردي: فلو عزله الامام، وعهد إلى ثان، ثم عزل المعهود إليه أولا نفسه، فعهد الثاني باطل، ولا بد من استئنافه. والله أعلم الخامسة: سبق في باب الاوصياء أن الامام لا ينعزل بالفسق على الصحيح، ولا ينعزل بالاغماء لانه متوقع الزوال، وينعزل بالمرض الذي ينسيه العلوم، وبالجنون، قال الماوردي: فلو كان يجن ويفيق، وزمن الافاقة أكثر، ويمكن فيه من القيام بالامور، لم ينعزل، وينعزل بالعمى والصمم والخرس، ولا ينعزل بثقل السمع، وتمتمة اللسان، وفي منعهما ابتداء الولاية خلاف، والاصح أن قطع إحدى اليدين أو الرجلين، لا يؤثر في الدوام وبالله التوفيق. قلت: ومما يتعلق بالباب مسائل، إحداها: قال الماوردي: لو أسر الامام، لزم الامة استنقاذه، وهو على إمامته ما دام مرجو الخلاص بقتال أو فداء، فإن أيس منه، نظر، ان أسره كفار، خرج من الامامة، وعقدوها لغيره، فإن عهد بالامامة وهو أسير، نظر إن كان بعد اليأس من خلاصه، لم يصح عهده لانه عهد بعد انعزاله، وإن عهد قبل اليأس، صح عهده لبقاء ولايته، وتستقر إمامة المعهود إليه باليأس خلاص من العاهد لانعزاله، ولو خلص من أسره، نظر إن خلص بعد اليأس، لم تعد إمامته، بل تستقر لولي عهده، وإن خلص قبل اليأس، فهو على إمامته، وأما إذا أسره بغاة من المسلمين، فإن كان مرجو الخلاص، فهو على إمامته، وإن لم يرج وكانت البغاة لا إمام لهم، فالاسير على إمامته، وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه إن لم يقدر هو على الاستنابة، فإن قدر، فهو أحق(7/268)
بالاستنابة، فإن خلع الاسير نفسه، أو مات، لم يصر المستناب إماما، وإن كان للبغاة الذين أسروه إمام نصبوه، خرج الاسير من الامامة إن أيس من خلاصه، وعلى أهل الاختيار في دار العدل عقد الامامة لمن يصلح لها، فإن خلص الاسير، لم يعد إلى الامامة لخروجه منها. المسألة الثانية: تجب نصيحة الامام بحسب القدرة. الثالثة: يجوز أن يقال للامام: الخليفة والامام وأمير المؤمنين، قال الماوردي: ويقال أيضا: خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال البغوي في شرح السنة: ويقال له أمير المؤمنين وإن كان فاسقا، وقد أوضحت ذلك وما يتعلق به في أواخر كتاب الاذكار. والله أعلم(7/269)
الباب الثاني : في قتال البغاة
وفيه أطراف :
الأول : في صفتهم
الباغي في اصطلاح العلماء: هو المخالف لامام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره بشرطه الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، قال العلماء: ويجب قتال البغاة، ولا يكفرون بالبغي، وإذا رجع الباغي إلى الطاعة قبلت توبته، وترك قتاله، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة، ثم أطلق الاصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وبأن الباغين ليسوا(7/270)
بفسقة، كما أنهم ليسوا بكفرة، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل، ومنهم من يسميهم عصاة، ولا يسميهم فسقة ويقول: ليس كل معصية بفسق، والتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الامام وفي مخالفته كحديث من حمل علينا السلاح فليس منا وحديث من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه وحديث من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية كلها محمولة على من خرج عن الطاعة وخالف الامام بلا عذر ولا تأويل. فصل الذين يخالفون الامام بالخروج عليه وترك الانقياد، والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم، ولكل واحد من الصنفين أحكام خاصة، فنصف البغاة بما يتميزون به، ونذكر في ضمنهم غيرهم من المخالفين. أما البغاة، فتعتبر فيهم خصلتان، إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الامام، أو منع الحق المتوجه عليهم، فلو خرج قوم عن الطاعة، ومنعوا الحق بلا تأويل، سواء كان حدا أو قصاصا أو مالا لله تعالى أو للآدميين، عنادا أو مكابرة، ولم يتعلقوا بتأويل، فليس لهم أحكام البغاة، وكذا المرتدون، ثم التأويل للبغاة إن(7/271)
كان بطلانه مظنونا، فهو معتبر، وإن كان بطلانه مقطوعا به، فوجهان، أوفقهما لاطلاق الاكثرين: أنه لا يعتبر، كتأويل المرتدين وشبهتهم، والثاني: يعتبر، ويكفي تغليطهم فيه، وقد يغلط الانسان في القطعيات. فرع الخوارج صنف من المبتدعة يعتقدون أن من فعل كبيرة، كفر وخلد في النار، ويطعنون لذلك في الائمة، ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات، قال الشافعي وجماهير الاصحاب رضي الله عنهم: لو أظهر قوم رأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات، وكفروا الامام ومن معه، فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الامام، لم يقتلوا ولم يقاتلوا، ثم إن صرحوا بسب الامام أو غيره من أهل العدل، عزروا، وإن عرضوا، ففي تعزيرهم وجهان. قلت: أصحهما: لا يعزرون، قاله الجرجاني، وقطع به صاحب التنبيه. والله أعلم. ولو بعث الامام إليهم واليا فقتلوه، فعليهم القصاص، وهل يتحتم قتل قاتله، كقاطع الطريق، لانه شهر السلاح أم لا لانه لم يقصد إخافة الطريق ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا يتحتم. والله أعلم. وأطلق البغوي أنهم إن قاتلوا، فهم فسقة وأصحاب بهت، فحكمهم حكم قطاع الطريق، فهذا ترتيب المذهب والمنصوص وما قاله الجمهور، وحكى الامام في تكفير الخوارج وجهين، قال: فإن لم نكفرهم، فلهم حكم المرتدين، وقيل: حكم البغاة، فإن قلنا: كالمرتدين، لم تنفذ أحكامهم. الخصلة الثانية: أن يكون لهم شوكة وعدد بحيث يحتاج الامام في ردهم إلى الطاعة إلى كلفة، ببذل مال، أو إعداد رجال، ونصب قتال، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم، فليسوا بغاة، وشرط جماعة من الاصحاب في الشوكة أن ينفردوا ببلدة، أو قرية، أو موضع من الصحراء، وربما قيل: يشترط كونهم في طرف من أطراف ولاية الامام بحيث لا يحيط بهم أجناده، والاصح الذي قاله المحققون: أنه لا يعتبر(7/272)
ذلك، وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الامام حتى لو تمكنوا من المقاومة وهم محفوفون بجند الاسلام، حصلت الشوكة، وتتعلق بالشوكة صور ذكرها الامام: إحداها: حكى في قوم قليلي العدد تقووا بحصن وجهين، ورأى أن الاولى أن يفصل، فيقال: إن كان الحصن على حافة الطريق، وكانوا يستولون بسببه على ناحية وراء الحصن، فالشوكة حاصلة وحكم البغاة ثابت، لئلا تتعطل أقضية أهل تلك الناحية، وإلا فليسوا بغاة، ولا نبالي بما وقع من التعطل في العدد القليل. الثانية: قال: لو تحرب من الشجعان عدد يسير يقوون بفضل قوتهم على مصارمة الجموع الكثيرة، حصلت الشوكة بلا خلاف. الثالثة: قال: يجب القطع بأن الشوكة لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع، إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع، وهل يشترط أن يكون فيهم إمام منصوب لهم أو منتصب ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما عند الاكثرين: لا يشترط، وبه قال العراقيون والامام، وفي المنهاج للشيخ أبي محمد: أنه يشترط فيهم أن يمتنعوا من حكم الامام، وأن يظهروا لانفسهم حكما، ويشبه أن يقال: هذا طريق مخالفة الامام، ولا بد فيهم منها، ثم تعتبر الخصلتان فليس فيه مخالفة ما سقناه. وبالله التوفيق.
الطرف الثاني : في حكم البغاة وفيه مسألتان: إحداها: شهادة البغاة مقبولة بناء على أنهم ليسوا فسقة، ولفظ الشافعي رحمه الله: ولو شهد منهم عدل، قبلت شهادته ما لم يكن يرى الشهادة لموافقته بتصديقه، فأثبت العدالة مع البغي، فإن كان لهم قاض في بلد، قال المعتبرون من الاصحاب: إن كان يستحل دماء أهل العدل، لم ينفذ حكمه، لانه ليس بعدل، ومن شرط القاضي العدالة، وكذا يقول هؤلاء فيما لو كان الشاهد يستحل دماء أهل العدل وأموالهم، ومنهم من يطلق نفوذ قضاء البغاة لمصلحة الرعية، وإن لم يكن قاضيهم ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم، ونفذ حكمه فيما ينفذ فيه حكم قاضي أهل العدل، فلو حكم بما يخالف النص أو الاجماع أو القياس الجلي، فهو باطل، حتى لو قضى على رجل من أهل العدل بضمان ما أتلف في الحرب عليهم، لم ينفذ(7/273)
قضاؤه، وكذا لو حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه هم على أهل العدل في غير القتال، لم ينفذ، ولو حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه في القتال، نفذ حكمه، ولا تجوز مطالبتهم بعد ذلك، لانه مجتهد فيه، ولا ينفذ قضاء الباغي إذا كان من الخطابية الذين يقضون لموافقتهم بتصديقهم إذا قضى لموافقه، كما ترد شهادته له. فرع إذا كتب قاضيهم حيث ينفذ قضاؤه بما حكم به إلى حاكم أهل العدل، جاز قبوله وتنفيذه، ويستحب أن لا يقبل استخفافا بهم، وإن كتب بما ثبت عنده ولم يحكم به، فهل يحكم قاضينا به ؟ فيه قولان، أظهرهما: نعم، وحكى الامام طرد القولين فيما حكم به، واستعان فيه بالاستيفاء، قال: وكنت أود لو فصل فاصل بين حكم يتعلق بأهل النجدة، وحكم يتعلق بالرعايا. فرع لو ورد من قاضي البغاة كتاب على قاضينا، ولم يعلم أنه ممن يستحل دماء أهل العدل أم لا، ففي قبوله والعمل به قولان، حكاهما ابن كج، قال: واختيار الشافعي منهما: المنع. المسألة الثانية: إذا أقام البغاة الحدود على جناة البلد الذي استولوا عليه، وأخذوا الزكاة من أهله وخراج أرضه، وجزية الذميين فيه، اعتد بما فعلوه، وإذا عاد البلد إلى أهل العدل، لم يطالبوا أهله بشئ من ذلك، وفي الجزية وجه شاذ لبعدها عن المسافة، ولو فرقوا سهم المرتزقة من الفئ على جندهم، ففي وقوعه موقعه وجهان، أحدهما: لا، لئلا يكون عونا لهم، وأصحهما: نعم، لانهم من جند الاسلام، وإرعاب الكفار حاصل بهم.(7/274)
فرع إذا عاد البلد إلى أهل العدل، فادعى من عليه حق أن البغاة استوفوه، ولا يعلم الامام ذلك ولا بينة، فإن كان زكاة، صدق بيمينه، وهل اليمين واجبة أم مستحبة ؟ فيه خلاف سبق في الزكاة، وإن كان جزية، لم يصدق على الصحيح، وكذا إن كان خراجا على الاصح، لانه أجرة أو ثمن بخلاف الزكاة، فإنها عبادة ومواساة ومبناها على الرفق، وإن كان حدا فقال المتولي: يصدق إن كان أثره باقيا على بدنه، وإلا فإن ثبت بالاقرار، صدق، لانه يقبل رجوعه، وإن ثبت بالبينة، فلا. فصل الذين لهم تأويل بلا شوكة، أو شوكة بلا تأويل، ليس لهم حكم البغاة، ولا ينفذ قضاء حاكمهم، ولا يعتد باستيفائهم الحقوق والحدود، وفي أصحاب الشوكة احتمال للامام لئلا يتضرر أهل الناحية التي استولوا عليها والمعروف للاصحاب ما سبق، والتحكيم فيهم على الخلاف المعروف في غيرهم.
الطرف الثالث : في حكم ضمان المتلف من نفس أو مال بين الفريقين
فإذا أتلف باغ على عادل أو عكسه في غير القتال، ضمن قطعا على ما تقرر من القصاص والقيمة، وأما في حال القتال، فما يتلفه العادل على الباغي لا يضمنه، وما يتلفه الباغي على العادل من نفس أو مال هل يضمنه ؟ قولان، أظهرهما: لا، فإن كان القتل عمدا، ففي القصاص طريقان، أصحهما: طرد القولين، والثاني: القطع بالمنع لشبهة تأويلهم، فإن أوجبنا القصاص، فال الامر إلى الدية، فهي في مال القاتل، وإن لم نوجبه، فهل يكون له حكم العمد، فتتعجل الدبة في مال القاتل، أم حكم نسبه شبه العمد، فتتأجل على العاقلة ؟ فيه خلاف، كمن قتل مسلما على زي الكفار، وأما الكفارة، فتجب حيث أوجبنا قصاصا أو دية، وإلا فوجهان، أصحهما: المنع طردا للاهدار، ولانها أولى بالمسامحة من حق الآدمي.(7/275)
فرع القولان فيما أتلف بسبب القتال، وتولد منه هلاكه، فلو أتلف في القتال ما ليس من ضرورة القتال، وجب ضمانه قطعا كالمتلف قبل القتال ذكره الامام. فرع الاموال المأخوذة في القتال يجب ردها بعد انقضاء الحرب إلى أصحابها، يستوي فيه الفريقان، فإن أتلفت بعد انقضاء الحرب، وجب الضمان. فرع لو استولى باغ على أمة أو مستولدة لاهل العدل، فوطئها، ألزمه الحد، فإن أولدها، فالولد رقيق غير نسيب، فإن كانت مكرهة، فهل يجب المهر ؟ قيل: فيه القولان في ضمان المال، وقال البغوي: ينبغي أن يجب قطعا، كما لو أتلف المأخوذ بعد الانهزام، ولو استولى حربي على أمة مسلمة وأولدها، فالولد رقيق وغير نسيب، ولا حد ولا مهر، لانه لم يلتزم الاحكام. فرع هذا الذي سبق من حكم الاتلاف هو في قتال البغاة، فأما المخالفون للامام بتأويل بلا شوكة، فيلزمهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال، وإن كان في حال القتال كقطاع الطريق، وأما الذين لهم شوكة بلا تأويل، ففي ضمان ما أتلفوه في القتال طريقان، أحدهما: يجب قطعا كعكسه، وأصحهما: طرد القولين كالباغي، لان سقوط الضمان عن الباغي لقطع الفتنة واجتماع الكلمة، وهذا موجود هنا، ولو ارتدت طائفة لهم شوكة، فأتلفوا مالا أو نفسا في القتال، ثم تابوا وأسلموا، ففي ضمانهم القولان كالبغاة، أظهرهما عند بعضهم: لا ضمان، وخالفه البغوي، ولا ينفذ قضاء قاضي المرتدين قطعا.
الطرف الرابع : في كيفية قتال البغاة
طريقها طريق دفع الصائل، والمقصود ردهم إلى الطاعة، ودفع شرهم، لا(7/276)
النفي والقتل، فإذا أمكن الاسر، لا يقتل، وإذا أمكن الاثخان، لا يذفف، فإن التحم القتال، واشتدت الحرب، خرج الامر عن الضبط، قال الامام: وقد يتخيل من هذا أنا لا نسير إليهم، ولا نفاتحهم بالقتال، وأنهم إذا ساروا إلينا لا نبدأ بقتالهم، بل نصطف قبالتهم، فإن قصدونا، دفعناهم، قال: وقد رأيت هذا لطائفة من الاصحاب وهو خطأ، بل إذا أذنهم الامام بالحرب، ولم يرجعوا إلى الطاعة، سار إليهم، ومنعهم من القطر الذي استولوا عليه، فإن انهزموا وكلمتهم واحدة، اتبعناهم إلى أن يتوبوا ويطيعوا، وليس قتال الفريقيين كصيال الواحد ودفعه بكيفية قتالهم مسائل: الاولى: لا يغتالون ولا يبدؤون بالقتال حتى ينذروا، فيبعث الامام إليهم أمينا فطنا ناصحا، فإذا جاءهم سألهم ما ينقمون ؟ فإن ذكروا مظلمة، وعللوا مخالفتهم بها، أزالها، وإن ذكروا شبة، كشفها لهم، وإن لم يذكروا شيئا، أو أصروا بعد إزالة العلة، نصحهم ووعظهم، وأمرهم بالعود إلى الطاعة، فإن أصروا، دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يجيبوا، أو أجابوا فغلبوا، وأصروا مكابرين، آذنهم بالقتال، فإن استنظروا، بحث الامام عن حالهم واجتهد، فإن ظهر له أنهم عازمون على الطاعة، وأنهم يستنظرون لكشف الشبهة، أو التأمل والمشاورة، أنظرهم، وإن ظهر له أنهم يقصدون الاجتماع، أو يستلحقون مددا لهم، لم ينظرهم، وإن سألوا ترك القتال أبدا، لم يجبهم، وحيث لا يجوز الانظار، فلو بذلوا مالا، ورهنوا أولادهم والنساء، لم يقبله، لانهم قد يقوون في المدة، ويظهرون على أهل العدل ويستردون ما بذلوه، وإذا كان بأهل العدل(7/277)
ضعف، أخر القتال، ونص في الام أنه لو كان عندهم أسارى من أهل العدل فسألوا - والحرب قائمة - أن يمسك ليطلقوهم، وأعطوا بذلك رهائن، قبلنا، فإن أطلقوا الاسارى، أطلقنا الرهائن، وإن قتلوهم، لم يجز قتل الرهائن، بل لا بد من إطلاقهم بعد انقضاء الحرب. الثانية: من أدبر منهم وانهزم، لم يتبع، وكذا من ألقى سلاحه وترك القتال، لم يقاتل، وانهزام الجند بأن يتبدد، وتبطل شوكتهم واتفاقهم، فلو ولوا ظهورهم وهم مجتمعون تحت راية زعيمهم، لم ينكف عنهم، بل يطلبهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ولو بطلت قوة واحد واعتضاده بالجمع لتخلفه عنهم مختارا، أو غير مختار، لا يقتل ولا يتبع، ومن ولى متحرفا لقتال، أتبع وقوتل، وإن ولى متحيزا إلى فئة، فإن كانت قريبة، أتبع، وإلا فلا على الاصح، وربما أطلق وجهان من غير فرق بين قريبة وبعيدة، وأجري الوجهان فيما لو بطلت شوكة الجند في الحال ولم يؤمن اجتماعهم في المآل، وموضع الاتفاق أن يؤمن اجتماعهم. الثالثة: لا يقتل مثخنهم ولا أسيرهم، وجوز أبو حنيفة قتلهما صبرا، فلو قتل عادل أسيرهم، ففي وجوب القصاص عليه وجهان لشبهة خلاف أبي حنيفة. قلت: أصحهما: لا قصاص. والله أعلم. ولا يطلق الاسير قبل انقضاء الحرب إلا أن يبايع الامام، ويرجع إلى الطاعة باختياره، ولو انقضت الحرب وجموعهم باقية، لم يطلق إلا أن يبايع، وإن بذلوا الطاعة، أو تفرقت جموعهم، أطلق، فإن توقع عودهم، ففي الاطلاق الوجهان السابقان، وينبغي أن يعرض على أسراهم بيعة الامام، هذا في أسير هو أهل للقتال، فأما إذا أسر نساءهم وأطفالهم، فيحبسون إلى انقضاء القتال ثم يطلقون،(7/278)
هذا هو الاصح، وفي وجه لابي إسحق: إن رأى الامام في إطلاقهم قوة أهل البغي، وأن حبسهم يردهم إلى الطاعة، ويدعوهم إلى مراجعة الحق، حبسهم حتى يطيعوا، وفي وجه له حبسهم مطلقا كسرا لقلوب البغاة، وعلى هذا وقت تخليتهم وقت تخلية الرجال، وأما العبيد والمراهقون، فأطلق جماعة أنهم كالنساء وإن كانوا يقاتلون، وقال الامام والمتولي: إن كان يجئ منهم قتال، فهم كالرجال في الحبس والاطلاق، وهذا حسن، ولا شك أن العبيد والمراهقين والنساء إذا قاتلوا فهم كالرجال في أنهم يقتلون مقبلين، ويتركون مدبرين، ويجوز أسر كل هؤلاء المذكورين ابتداء. فرع إذا ظفرنا بخيلهم وأسلحتهم، لم نردها حتى ينقضي القتال، ونأمن غائلتهم بعودهم إلى الطاعة، أو تفرقهم، ولا يجوز استعمالها في القتال، فلو وقعت ضرورة ولم يجد أحدنا ما يدفع عن نفسه إلا سلاحهم، أو ما يركبه وقد وقعت هزيمة إلا خيولهم، جاز الاستعمال والركوب، كما يجوز أكل مال الغير للضرورة، وما ليس من آلات الحرب من أموالهم يرد إليهم عند انقضاء الحرب. الرابعة: لا يقاتلهم بما يعم ويعظم أثره، كالمنجنيق والنار، وإرسال السيول الجارفة، لكن لو قاتلونا بهذه الاوجه، واحتجنا إلى المقابلة بمثلها دفعا، أو أحاطوا بنا، واضطررنا إلى الرمي بالنار ونحوها، فعلناه للضرورة، وإن تحصنوا ببلدة أو قلعة، ولم يتأت الاستيلاء عليها إلا بهذه الاسباب، فإن كان فيها رعايا لابغي فيهم، لم يجز قتالهم بهذه الاسباب، وإن لم يكن فيها إلا البغاة المقاتلون، فكذلك في الاصح، لان ترك بلدة في أيدي طائفة من المسلمين قد يمكن الاحتيال في محاصرتهم والتضييق علهم أقرب إلى الاصلاح من اصطلام أمم. الخامسة: لا يجوز أن يستعان عليهم بكفار، لانه لا يجوز تسليط كافر على مسلم، ولهذا لا يجوز لمستحق قصاص أن يوكل كافرا باستيفائه، ولا للامام أن يتخذ جلادا كافرا لاقامة الحدود على المسلمين، ولا يجوز أن يستعان بمن يرى(7/279)
قتلهم مدبرين إما لعداوة وإما لاعتقاده، كالحنفي، إلا أن يحتاج إلى الاستعانة بهم، فيجوز بشرطين، أحدهما: أن تكونه فيهم جرأة وحسن إقدام، والثاني: أن يتمكن من منعهم لو ابتغوا أهل البغي بعد هزيمتهم، ولا بد من اجتماع الشرطين لجواز الاستعانة، كذا حكاه ابن الصباغ والروياني وغيرهما عن اتفاق الاصحاب ولفظ البغوي يقتضي جوازها بأحدهما. السادسة: لو استعان البغاة علينا بأهل الحرب، وعقدوا لهم ذمة وأمانا ليقاتلوا معهم، لم ينفذ أمانهم علينا، فلنا أن نغنم أموالهم، ونسترقهم، ونقتلهم إذا وقعوا في الاسر، ونقتلهم مدبرين، ونذفف على جريحهم، وقال القاضي حسين: لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، والصحيح الاول، وهل ينعقد الامان في حق البغاة ؟ وجهان، أصحهما: نعم، فإن قلنا: لا، فقال البغوي: لاهل البغي أن يكروا عليهم بالقتل والاسترقاق، والذي ذكره الامام على هذا، أنه أمان فاسد، ولوس لاهل البغي اغتيالهم، بل يبلغونهم المأمن، فلو قالوا: ظننا أنه يجوز لنا أن نعين بعض المسلمين على بعض او ظننا أنهم المحقون، أو ظننا أنهم استعانوا بنا في قتال الكفار، فوجهان، أحدهما: لا اعتبار بظنهم الفاسد، ولنا قتلهم واسترقاقهم، وأصحهما: أنا نبلغهم المأمن، ونقاتلهم مقاتلة البغاة، فلا يتعرض لهم مدبرين، وما أتلفه أهل الحرب على أهل العدل غير مضمون عليهم، وما يتلفون على أهل البغي مضمون إن نفذنا أمانهم لهم، وإلا فلا، ولو استعان البغاة بأهل الذمة في قتالنا، نظر، إن علموا أنه لا يجوز لهم قتالنا ولم يكرهوا، انتقض عهدهم، وحكمهم حكم أهل الحرب، فيقتلون مقبلين ومدبرين، ولو أتلفوا بعد القتال شيئا، لم يضمنوه، وقيل: في انتقاض عهدهم قولان، وإن قالوا: كنا مكرهين، لم ينتقض على المذهب، ويقاتلون مقاتلة البغاة، وإن قالوا: ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض، أو أنهم يستعينون بنا على(7/280)
كفار، أو أنهم المحقون، لم ينتقض على المذهب، وقيل: قولان، وإن لم يذكروا عذرا، انتقض على المذهب، وقيل: قولان، ثم قيل: القولان إذا لم نشترط عليهم ترك القتال في عقد الذمة، فإن شرط، انتقض قطعا، وقيل: قولان مطلقا، وحيث قلنا: ينتقض، فهل يبلغون المأمن أم يجوز قتلهم واسترقاقهم ؟ فيه خلاف مذكور في الجزية، فإن قلنا: يبلغون المأمن، فهل لنا قتلهم منهزمين ؟ وجهان، وجه الجواز أنه من بقية العقوبة على القتال، ثم الذي ذكره البغوي وغيره، أنه كما ينتقض عهدهم في حق أهل العدل ينتقض في حق أهل البغي، وفي البيان أنه ينبغي أن يكون في انتقاضه في حق البغاة الخلاف في المسألة السابقة، وإن قلنا: لا ينتقض، فهم كالبغاة في أنه لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، ولو أتلفوا شيئا على أهل العدل، لزمهم الضمان بخلاف البغاة، فإنهم لا يضمنون في قول، لانا أسقطنا الضمان عنهم استمالة لقلوبهم إلى الطاعة لئلا ينفرهم الضمان، وأهل الذمة في قبضة الامام، ولو أتلفوا نفسا، قال الامام: إن أوجبنا القصاص على البغاة، فأهل الذمة وإلا فوجهان، أحدهما: يجب، كالضمان، والثاني: لا، للشبهة المقترنة بأحوالهم، وإذا قلنا: لا ينتقض الامان فجاءنا ذمي تائبا، ففي ضمان ما أتلف طريقان، أحدهما: نعم، والثاني: على قولين، كالبغاة. فرع قاتل أهل الذمة أهل البغي، لا ينتقض عهدهم على الصحيح، لانهم حاربوا من يلزم الامام محاربتهم. فرع استعان البغاة بمن لهم أمان إلى مدة، انتقض أمانهم، فإن قالوا: كنا مكرهين، وأقاموا بينة على الاكراه فهم على العهد، وإلا انتقض أيضا. فصل اقتتل طائفتان باغيتان، فإن قدر الامام على قهرهما، وهزمهما، لم يعن إحداهما على الاخرى إلا إذا أطاعت، فيعينها على الاخرى، وإن لم يقدر على قهرهما، ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق، واستعان بهم على الاخرى، وإن استويا اجتهد فيهما، ولا يقصد بضم المضمومة إليه معاونتها، بل يقصد دفع الاخرى، فإن اندفع شر الاخرى، لم يقاتل المضمومة إلا بعد أن يدعوها إلى الطاعة، لانها بالاستعانة صارت في أمانه، ولو أمن عادل باغيا، نفذ أمانة وإن كان عبدا أو امرأة.(7/281)
فرع حكم دار البغي حكم دار الاسلام، وإذا جرى فيها ما يوجب الحد، أقامه الامام. فرع يتحرز العادل عن قتال قريبه الباغي ما أمكنه. فرع قال المتولي: يلزم الواحد من أهل العدل مصابرة اثنين من البغاة، فلا يولي عنهما إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة. فرع نص في المبسوط أنه إذا غزا أهل العدل والبغاة مشركين، واجتمعوا في دار الشرك، فهم في الغنيمة سواء، والقاتل منهم يستحق السلب، وأما الخمس، فيفرقه الامام، وأنه لو وادع أهل البغي مشركين، لم يقصدهم أحد من المسلمين، ولو غزا أهل البغي قوما من المشركين قد وادعهم الامام، فسبوا منهم، فإذا ظهر الامام عليهم، رد السبي على المشركين، وأنه لو أمن أهل العدل رجلا من البغاة، فقتله رجل جاهل بأمانه، وقال: علمته باغيا، وظننت أنه جاءنا لينال غرتنا، حلف وألزم الدية، وإن قتله عامدا، اقتص منه، وأنه لو قتل عادل عادلا في القتال وقال: ظننته باغيا، حلف وضمن الدية، وأنه لو سبى الكفار من أهل البغي، وقدرنا على استنقاذهم، وجب الاستنقاذ، وبالله التوفيق.(7/282)
كتاب الردة
هي من أفحش أنواع الكفر، وأغلظها حكما، وفيه بابان :
الأول : في حقيقة الردة، ومن تصح منه، وفيه طرفان.
الأول : في حقيقتها، وهي قطع الاسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والافعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات،(7/283)
والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، قال الامام: في بعض التعاليق عن شيخي أن الفعل بمجرده لا يكون كفرا، قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته للتنبيه على غلطه، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناء أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفى ما هو ثابت للقديم بالاجماع، ككونه عالما قادرا، أو أثبت ما هو منفي عنه بالاجماع، كالالوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال، كان كافرا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل، أو أنكر نبوة نبي من الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو كذبه، أو جحد آية من القرآن مجمعا عليها، أو زاد في القرآن كلمة واعتقد أنها منه، أو سب نبيا، أو استخف به، أو استحل محرما بالاجماع كالخمر واللواط، أو حرم حلالا بالاجماع، أو نفى وجوب مجمع على وجوبه، كركعة من الصلوات الخمس، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالاجماع، كصلاة سادسة وصوم شوال، أو نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة، أو ادعى النبوة بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو صدق مدعيا لها، أو عظم صنما بالسجود له، أو التقرب إليه بالذبح باسمه، فكل هذا كفر. قلت: قوله: إن جاحد المجمع عليه يكفر، ليس على إطلاقه، بل الصواب فيه تفصيل سبق بيانه في باب تارك الصلاة عقب كتاب الجنائز، ومختصره أنه إن جحد مجمعا عليه يعلم من دين الاسلام ضرورة، كفر إن كان فيه نص، وكذا إن لم يكن فيه نص في الاصح، وإن لم يعلم من دين الاسلام ضرورة بحيث لا يعرفه كل المسلمين، لم يكفر. والله أعلم. قال المتولي: ولو قال المسلم: يا كافر بلا تأويل، كفر، لانه سمى الاسلام(7/284)