الادراك، فلهم ذلك، بشرط أن يقدموا المؤجر بأجرة المثل للمدة الباقية، لانها لحفظه على الغرماء. وإن اختلفوا، فأراد بعضهم القطع، وبعضهم التبقية، فعن أبي إسحق: يعمل بالمصلحة، والصحيح: أنه إن كان له قيمة قطع، أجبنا من أراد القطع من المفلس والغرماء، إذ ليس عليه تنمية ماله لهم، ولا عليهم إنتظار النماء. فعلى هذا، لو لم يأخذ المؤجر أجرة المدة الماضية، فهو أحد الغرماء، فله طلب القطع، وإن لم يكن له قيمة لو قطع، أجبنا من طلب التبقية، إذ لا فائدة لطالب القطع. وإذا أبقوا الزرع بالاتفاق، أو بطلب بعضهم، وأجبناه، فالسقي وسائر المؤن، إن تطوع بها الغرماء أو بعضهم، أو أنفقوا عليه على قدر ديونهم، فذاك، وإن أنفق بعضهم ليرجع، فلا بد من إذن الحاكم، أو اتفاق الغرماء والمفلس. فإذا حصل الاذن، قدم المنفق بما أنفق. وكذا لو أنفقوا على قدر ديونهم، ثم ظهر غريم آخر، قدم المنفقون بما أنفقوا على الغرماء. وهل يجوز الانفاق عليه من مال المفلس ؟ وجهان. أصحهما: الجواز. ووجه المنع: أن حصول الفائدة متوهم. قلت: وإن أنفق بإذن المفلس وحده، على أن يرجع بما أنفق، جاز وكان دينا في ذمة المفلس، لا يشارك به الغرماء، لانه وجب بعد الحجر. وإن أنفق بعضهم بإذن باقيهم فقط، على أن يرجع عليهم، رجع عليهم في مالهم. والله أعلم. النوع الثاني: الاجارة على الذمة. ولنا خلاف في أن هذه الاجارة، هل لها حكم السلم حتى يجب فيها تسليم رأس المال في المجلس، أم لا ؟ فإن قلنا: لا، فهي كإجارة العين، وإلا، فلا أثر للافلاس بعد التفرق لمصير الاجرة مقبوضة قبل التفرق. فلو فرض الفلس في المجلس، فإن أثبتنا خيار المجلس فيها، إستغني عن هذا الخيار، وإلا، فهي كإجارة العين. القسم الثاني: إفلاس المؤجر في إجارة العين، أو الذمة. أما الاولى، فإذا أجر دابة، أو دارا لرجل، فأفلس، فلا فسخ للمستأجر، لان المنافع المستحقة له متعلقة بعين ذلك المال، فيقدم بها كما يقدم حق المرتهن، ثم إذا طلب الغرماء بيع المستأجر، فإن قلنا: لا يجوز، فعليهم الصبر إلى انقضاء المدة. وإن جوزناه،(3/388)
أجيبوا ولا مبالاة بما ينقص من ثمنه بسبب الاجارة، إذ ليس عليهم الصبر لتنمية المال. وأما الثانية: فإذا التزم في ذمته نقل متاع إلى بلد، ثم أفلس، نظر، إن كانت الاجارة باقية في يد المفلس، فله فسخ الاجرة والرجوع إلى عين ماله، كانت تالفة، فلا فسخ، ويضارب الغرماء بقيمة المنفعة المستحقة، وهي أجرة المثل، كما يضارب المسلم بقيمة المسلم فيه. ثم إن جعلنا هذه الاجارة سلما، فحصته بالمضاربة لا تسلم إليه، لامتناع الاعتياض عن المسلم فيه، بل ينظر، فإن كانت المنفعة المستحقة قابلة للتبعيض، بأن كان الملتزم حمل مائة رطل، فينقل بالحصة بعض المائة. وإن لم يقبله كقصارة ثوب، ورياضة دابة، وركوب إلى بلد، ولو نقل إلى نصف الطريق لبقي ضائعا، قال الامام: للمستأجر الفسخ بهذا السبب، والمضاربة بالاجرة المبذولة. وأما إذا لم نجعل هذه الاجارة سلما، فتسلم الحصة بعينها إليه، لجواز الاعتياض. هذا كله إذا لم يكن سلم عينا لاستيفاء المنفعة الملتزمة. فإن كان التزم النقل، وسلم دابة لينقل عليها، ثم أفلس، بني على أن الدابة المسلمة تتعين بالتعيين، وفيها وجهان مذكوران في باب الاجارة. فإن قلنا: تتعين، فلا فسخ، ونقدم المستأجر بمنفعتها، كالمعينة في العقد، وإلا، فهو كما لو لم يسلمها. فرع إقترض مالا، ثم أفلس وهو باق في يده، فللمقرض الرجوع فيه، سواء قلنا: يملك بالقبض أو بالتصرف. فرع باع مالا واستوفى ثمنه، وامتنع من تسليم المبيع، أو هرب، فهل للمشتري الفسخ كما لو أبق المبيع، أم لا لانه لا نقص في نفس المبيع ؟ فيه وجهان. الشرط الثاني للمعاوضة: أن تكون سابقة للحجر. وفي بعض مسائل هذا الشرط، خلاف. فإذا اشترى المفلس شيئا بعد الحجر، وصححناه، فقد سبق في ثبوت الرجوع خلاف.(3/389)
ولو أجر دارا وسلمها إلى المستأجر وقبض الاجرة ثم أفلس وحجر عليه فقد سبق أن الاجارة مستمرة، فإن انهدمت في أثناء المدة، إنفسخت الاجارة فيما بقي، وضارب المستأجر بحصة ما بقي منها إن كان الانهدام قبل قسمة المال بينهم. وإن كان بعدها ضارب أيضا على الاصح، لاستناده إلى عقد سبق الحجر، فأشبه انهدامها قبل القسمة. ووجه المنع: أنه دين حدث بعد القسمة. ولو باع جارية بعبد، وتقابضا، ثم أفلس مشتري الجارية وحجر عليه، وهلكت في يده، ثم وجد بائعها بالعبد عيبا، فرده، فله طلب قيمة الجارية لا محالة. وكيف يطالب ؟ وجهان. أصحهما: يضارب كغيره. والثاني: يقدم على الغرماء بقيمتها، لانه أدخل بدلها عبدا في المال، ويخالف هذا من باعه شيئا، لان هذا حق مستند إلى ما قبل الحجر. وأما المعوض، فيشترط في المبيع المرجوع فيه شرطان. أحدهما: بقاؤه في ملك المفلس. فلو هلك بآفة أو جناية، لم يرجع، سواء كانت قيمته مثل الثمن، أو أكثر، وليس له إلا المضاربة بالثمن. وفي وجه: إن زادت القيمة، ضارب بها واستفاد زيادة حصته. ولو خرج عن ملكه ببيع، أو هبة، أو اعتاق، أو وقف، كالهلاك، وليس له فسخ هذه التصرفات بخلاف الشفيع، فإنه يفسخها. لسبق حقه عليها. ولو استولد، أو كاتب، فلا رجوع. ولو دبر، أو علق بصفة، أو زوجها، رجع. وإن أجر، فلا رجوع إن لم نجوز بيع المستأجر، وإلا، فإن شاء أخذه مسلوب المنفعة لحق المستأجر، وإلا، فيضارب بالثمن، وإن جنى، أو رهن، فلا رجوع. فإن قضى حق المجني عليه والمرتهن ببيع بعضه، فالبائع واجد لبعض المبيع، وسيأتي(3/390)
حكمه إن شاء الله تعالى. ولو انفك الرهن، أو برئ عن الجناية، رجع. ولو كان المبيع صيدا فأحرم البائع، لم يرجع. فرع لو زال ملك المشتري، ثم عاد، ثم حجر عليه، فإن عاد بلا عوض، كالارث، والهبة، والوصية، ففي رجوعه وجهان. وإن عاد بعوض، بأن اشتراه، فإن كان دفع الثمن إلى البائع الثاني، فكعوده بلا عوض. وإن لم يدفعه، وقلنا بثبوته للبائع لو عاد بلا عوض، فهل الاول أولى لسبق حقه، أم الثاني لقرب حقه، أم يشتركان ويضارب كل بنصف الثمن ؟ فيه أوجه. قلت: أصح الوجهين أولا: أنه لا يرجع، وبه قطع الجرجاني في التحرير وغيره. قال البغوي: ويجري الوجهان فيما لو رد عليه بعيب. والله أعلم. وعجز المكاتب وعوده، كانفكاك الرهن. وقيل: كعود الملك. قلت: لو كان المبيع شقصا مشفوعا، ولم يعلم الشفيع حتى حجر على المشتري، وأفلس بالثمن، فأوجه. أحدها: يأخذه الشفيع، ويؤخذ منه الثمن، فيخص به البائع، جمعا بين الحقين. والثاني يأخذه البائع، وأصحهما عند الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، وآخرين: يأخذه الشفيع، ويكون الثمن بين الغرماء كلهم. والله أعلم. الشرط الثاني: أن لا يحدث في المبيع تغير مانع. وللتغير حالان. حال بالنقص، وحال بالزيادة. الاول: النقص، وهو قسمان. أحدهما: نقص لا يتقسط الثمن عليه، ولا يفرد بعقد، كالعيب. فإن كان بآفة سماوية، فالبائع بالخيار. إن شاء رجع فيه ناقصا ولا شئ له غيره، وإشاء ضارب بالثمن كتعيب المبيع في يد البائع، وسواء كان النقص حسيا كسقوط بعض الاعضاء والعمى، أو غيره، كنسيان الحرفة والتزويج والاباق والزنا. وحكي قول: أنه يأخذ المعيب، ويضارب بارش النقص، كما نذكره في القسم الثاني إن شاء الله تعالى. وهو شاذ ضعيف. وإن كان بجناية، فإن كان بجناية أجنبي، لزمه الارش إما مقدر، وإما غير مقدر، بناءا على الخلاف، في أن جرح العبد مقدر، أم لا ؟(3/391)
وللبائع أخذه معيبا، والمضاربة بمثل نسبة ما نقص من القيمة من الثمن. وإن كان بجناية البائع، فكالأجنبي 2 (212). وإن كان بجناية المشتري، فطريقان. أصحهما عند الامام: أنه كالاجنبي، لان جناية المشتري قبض واستيفاء، فكأنه صر ف جزءا من المبيع إلى غرضه. والثاني وبه قطع صاحب التهذيب وغيره: أنه كجناية البائع على المبيع قبل القبض، ففي قول، كالاجنبي، وعلى الاظهر، كالآفة السماوية. قلت: المذهب: أنه كالآفة السماوية، وبه قطع جماعات. والل أعلم. القسم الثاني: نقص يتقسط الثمن عليه، ويصح إفراده بالعقد، كمن اشترى عبدين أو ثوبين، فتلف أحدهما في يده، ثم حجر عليه، فللبائع أخذ الباقي بحصته من الثمن، والمضاربة بحصة ثمن التالف. ولو بقي جميع المبيع، وأراد البائع الرجوع في بعضه، مكن، لانه أنفع للغرماء من الفسخ في كله، فهو كما لو رجع الاب في نصف ما وهبه، يجوز. ومن الاصحاب، من حكى قولين في أنه يأخذ الباقي بحصته من الثمن، أم بجميع الثمن ولا يضارب بشئ ؟ قال الامام: وطردهما أصحاب هذه الطريقة في كل مسألة تضاهيها. حتى لو باع شقصا وسيفا بمائة، يأخذ الشقص بجميع المائة على قول. قال الامام: وهذا قريب من خرق الاجماع هذا إذا تلف أحد العبدين ولم يقبض من الثمن شيئا. أما إذا باع عبدين متساويي القيمة بمائة، وقبض خمسين، فتلف أحدهما في يد المشتري، ثم أفلس، فالقديم: أنه لا رجوع، بل يضارب بباقي الثمن مع الغرماء، والجديد: أنه يرجع. فعلى هذا يرجع في جميع العبد الباقي بما يفي من الثمن، ويجعل ما قبض في مقابلة التالف. هذا هو المذهب، والمنصوص. وقيل: فيه قول مخرج: أنه يأخذ نصف العبد الباقي بنصف باقي الثمن، ويضارب الغرماء بنصفه. ولو قبض بعض الثمن، ولم يتلف شئ من المبيع، ففي رجوعه، القولان، القديم، والجديد. فعلى الجديد: يرجع في المبيع بقسط الباقي من الثمن. فلو(3/392)
قبض نصف الثمن، رجع في نصف العبد المبيع، أو العبدين المبيعين. فرع لو أغلى الزيت المبيع حتى ذهب بعضه، ثم أفلس، فالمذهب وبه قطع الجمهور: أنه كتلف بعض المبيع، كما لو انصب. فعلى هذا إن ذهب نصفه، أخذ الباقي بنصف الثمن، وضارب بنصفه. وإن ذهب ثلثه، أخذ بثلثيه وضارب بثلث الثمن. وقيل: وجهان. أصحهما: هذا. والثاني: أنه كتعيب المبيع، فيرجع فيما بقي إن شاء، ويقنع به. ولو كان بدل الزيت عصير، فالاصح: أنه كالزيت. وقيل: تعيب قطعا، لان الذاهب منه الماء، ولا مالية له، بخلاف الزيت. فإذا قلنا: بالاصح، فكان العصير أربعة أرطال، يساوي ثلاثة دراهم، فأغلاها فصارت ثلاثة أرطال، فيرجع في الباقي، ويضارب بربع الثمن للذاهب، ولا عبرة بنقص قيمة المغلي لو عادت إلى درهمين. فلو زادت فصارت أربعة، بني على أن الزيادة الحاصلة بالصنعة، عين، أم أثر ؟ إن قلنا: أثر، فاز البائع بما زاد. وإن قلنا: عين، قال القفال: الجواب كذلك. وقال غيره: يكون المفلس شريكا بالدرهم الزائد. فلو بقيت القيمة ثلاثة، فإن قلنا: الزيادة أثر، فاز بها البائع. وإن قلنا: عين، فكذلك عند القفال وعند غيره، يكون المفلس شريكا بثلاثة أرباع درهم، فإن هذا القدر، هو قسط الرطل الذاهب، فهذا هو المستمر على القواعد. ولصاحب التلخيص في المسألة كلام غلطوه فيه. فرع لو كان المبيع دارا فانهدمت، ولم يتلف من نقضها شئ، فله حكم القسم الاول، كالعمى ونحوه. وإن تلف نقضها بإحراق وغيره، فهو من القسم الثاني، كذا أطلقوه. ولك أن تقول: ينبغي أن يطرد فيه الخلاف السابق في تلف سقف الدار المبيعة قبل القبض، أنه كالتعيب، أو كتلف أحد العبدين. الحال الثاني: التغير بالزيادة، وهو نوعان. أحدهما: الزيادات الحاصلة، لا من خارج، وهي ثلاثة أضرب. أحدها: المتصلة من كل وجه، كالسمن، وتعلم الصنعة، وكبر الشجرة،(3/393)
فلا عبرة بها. وللبائع الرجوع من غير شئ يلتزمه للزيادة، وهذا حكم الزيادات في جميع الابواب، إلا الصداق، فإن الزوج إذا طلق قبل الدخول، لا يرجع في النصف الزائد إلا برضاها. الضرب الثاني: الزيادات المنفصلة من كل وجه، كالولد، واللبن، والثمرة، فيرجع في الاصل، وتبقى الزوائد للمفلس. فلو كان ولد الامة صغيرا، فوجهان. أحدهما: أنه إن بذل قيمة الولد، أخذه مع الام، وإلا، فيضار ب لامتناع التفريق. وأصحهما: إن بذل قيمة الولد، وإلا فيباعان ويصرف ما يخص الا إلى البائع، وما يخص الولد إلى المفلس. وذكرنا وجهين، فيما إذا وجد الام معيبة، وهناك ولد صغير: أنه الرد وينتقل إلى الارش، أو يحتمل التفريق للضرورة. وفيما إذا رهن الام دون الولد، أنهما يباعان معا، أو يحتمل التفريق. ولم يذكروا فيما نحن فيه احتمال التفريق، بل احتالوا في دفعه، فيجوز أن يقال: يجئ وجه التفريق هنا، لكن لم يذكروه اقتصارا على الاصح، ويجوز أن يفرق بأن مال المفلس مبيع كله، مصروف إلى الغرماء، فلا وجه لاحتمال التفريق، مع إمكان المحافظة على جانب الراجع، وكون ملك المفلس مزالا. قلت: هذا الثاني هو الصواب، وبه قطع الجمهور تصريحا وتعريضا، وحكى صاحب الحاوي والمستظهري، وغيرهما وجها غريبا ضعيفا: أنه يجوز التفريق بينهما للضرورة، كمسألة الرهن. وقالوا: ليس هو بصحيح، إذ لا ضرورة، وفرقوا بما سبق، فحصل أن دعوى الامام الرافعي ليست بمقبولة. والله أعلم. فرع لو كان المبيع بذرا، فزرعه فنبت، أو بيضة فتفرخت في يده، ثم فلس، فوجهان. أصحهما عند العراقيين وصاحب التهذيب: يرجع فيه، لانه حدث من عين ماله، أو هو عين ماله اكتسب صفة أخرى، فأشبه الودي إذا صار نخلا. والثاني: ليس له الرجوع، لان المبيع هلك، وهذا شئ جديد إستجد(3/394)
إسما، ويجري الوجهان في العصير إذا تخمر في يد المشتري، ثم تخلل، ثم فلس. ولو اشترى زرعا أخضر مع الارض، ففلس وقد اشتد الحب، فقيل بطرد الوجهين. وقيل: القطع بالرجوع. الضرب الثالث: الزيادات المتصلة من وجه دون وجه، كالحمل. فإن حدث بعد الشراء، وانفصل قبل الرجوع، فحكمه ما سبق في الضرب الثاني. وإن كانت حاملا عند الشراء والرجوع جميعا، فهو كالسمن فيرجع فيها حاملا. وإن كانت حاملا قبل الشراء وولدت قبل الرجوع، ففي تعدي الرجوع إلى الولد، قولان، بناء على أن الحمل يعرف، أم لا ؟ إن قلنا: نعم وهو الاظهر، رجع كما لو اشترى شيئين، وإلا، فلا، وإن كانت حائلا عند الشراء، حاملا عند الرجوع، فقولان أظهرهما عند الجمهور: يرجع فيها حاملا، لان الحمل تابع في البيع، فكذا هنا. والثاني: لا يرجع في الحمل، فعلى هذا: يرجع في الام على الاصح. وقيل: لا، بل يضارب. فإن قلنا: يرجع في الام فقط، قال الشيخ أبو محمد: يرجع فيها قبل الوضع. فإذا ولدت، فالولد للمفلس. وقال الصيدلاني وغيره: لا يرجع في الحال، بل يصير إلى انفصال الولد، ثم الاحتراز عن التفريق بين الام والولد، طريقه ما سبق. قلت: قول الشيخ أبي محمد هو ظاهر كلام الاكثرين، وصرح به صاحب الحاوي وغيره. قال صاحب الحاوي: ولا يلزم تسليمها إلى البائع، لحق المفلس، ولا إقرارها في يد المفلس أو غرمائه، لحق البائع في الام، ولا يجوز أخذ قيمة الولد، فتوضع الام عند عدل يتفقان عليه، وإلا فيختار الحاكم عدلا. قال: ونفقتها على البائع دون المفلس، لانه مالك الام، وسواء قلنا: تجب نفقة الحامل لحملها، أم لا. قال أصحابنا: وحكم سائر الحيوانات الحائلة والحاملة حكم الجارية، إلا أن في باقي الحيوانات، يجوز التفريق بينهما وبين ولدها الصغير، بخلاف الجارية. والله أعلم. فرع إستتار الثمار بالاكمة وظهورها بالتأبير، قريبان من إستتار الجنين(3/395)
وظهوره بالانفصال. وفيها الاحوال الاربع المذكورة في الجنين. أولها: أن يشتري نخلا عليها ثمرة غير مؤبرة كانت عند الرجوع غير مؤبر أيضا. وثانيها: أن يشتريها ولا ثمرة عليها، ثم حدث بها ثمرة عند الرجوع مؤبرة، أو مدركة، أو مجذوذة، فحكمها ما ذكرناه في الحمل. وثالثها: إذا كانت ثمرتها عند الشراء غير مؤبرة، وعند الرجوع مؤبرة، فطريقان. أحدهما: أن أخذ البائع الثمرة على القولين في أخذ الولد إذا كانت حاملا عند البيع ووضعت عند الرجوع. والثاني: القطع بأخذها، لانها وإن كانت مستترة، فهي شاهدة موثوق بها، قابلة للافراد بالبيع، وكانت أحد مقصودي البيع، فرجع فيها رجوعه في النخيل. ورابعها: إذا كانت النخلة عند الشراء غير مطلعة، وأطلعت عند المشتري، وكانت يوم الرجوع غير مؤبرة، فقولان. أظهرهما وهو رواية المزني وحرملة: يأخذ الطلع مع النخل، لانه تبع في البيع، فكذا هنا. والثاني: لا يأخذه وهو رواية الربيع، لانه يصح إفراده فأشبه المؤبرة. وقيل: لا يأخذه قطعا. قال الشيخ أبو حامد: وعلى هذا قياس الثمرة التي لم تؤبر. فحيث أزال الملك باختياره بعوض، بيع ما لم يؤبر. وإن زال قهرا بعوض، كالشفعة، والرد بالعيب، فالتبعية على هذين القولين. وإن زال بلا عوض، باختيار أو قهر، كالرجوع بهبة الولد، ففيه أيضا القولان. وحكم باقي الثمرة وما يلتحق منها بالمؤبرة، ومالا، أوضحناه في البيع. فإذا قلنا برواية المزني، فجرى التأبير والرجوع، فقال البائع: رجعت قبل التأبير، فالثمار لي، وقال المفلس: بعده، فالمذهب: أن القول قول المفلس مع يمينه، لان الاصل عدم الرجوع حينئذ، وبقاء الثمار له. قال المسعودي: ويخرج قول أالقول قوله بلا يمين، بناء على أن النكول ورد اليمين كالاقرار، وأنه لو أقر، لم يقبل إقراره. وفي قول: القول قول البائع، لانه أعرف بتصرفه. قلت: ينبغي أيجئ قول: أن القول قول السابق بالدعوى. وقول: أنهما إن اتفقا على وقت التأبير، واختلفا في الفسخ، فقول المفلس. وإن اتفقا على وقت الفسخ، واختلفا في التأبير، فقول البائع، كالقولين في إختلاف الزوجين في انقضاء العدة، والرجعة، والاسلام. قال صاحب الشامل وغيره: وكذا لو قال البائع: بعتك بعد التأبير، فالثمرة لي. وقال المشتري: قبله، فالقول قول البائع مع يمينه، وقد ذكرت هذه المسألة في اختلاف المتبايعين. والله أعلم.(3/396)
فإذا حلف المفلس، حلف على نفي العلم بسبق الرجوع على التأبير، لا على نفي السبق. قلت: فلو أقر البائع أن المفلس لا يعلم تاريخ الرجوع، سلمت الثمرة للمفلس بلا يمين، لانه يوافقه على نفي علمه، قاله الامام. والله أعلم. فإن حلف، بقيت الثمار له وإن نكل، فهل للغرماء أن يحلفوا ؟ فيه الخلاف السابق، فيما إذا ادعى المفلس شيئا ولم يحلف. فإن قلنا: لا يحلفون وهو المذهب، أو يحلفون، فنكلوا، عرضت اليمين على البائع، فإن نكل، فهو كما لو حلف المفلس. وإن حلف، فإن جعلنا اليمين المردودة بعد النكول كالبينة، فالثمرة له. وإن جعلناها كالاقرار، فعلى القولين في قبول إقرار المفلس في مزاحمة المقر له الغرماء. فإن لم يقبله، صرفت الثمار إلى الغرماء. فإن فضل شئ، أخذه البائع بحلفه السابق. هذا إذا كذب الغرماء البائع، كما كذبه المفلس. فإن صدقوه، لم يقبل قولهم على المفلس، بل إذا حلف، بقيت الثمار له، وليس لهم طلب قسمتها، لانهم يزعمون أنها للبائع، وليس له التصرف فيها، للحجر، واحتمال أن يكون له غريم آخر، لكن له إجبارهم على أخذها إن كانت من جنس حقهم، أو إبراء ذمته من ذلك القدر، هذا هو الصحيح، كما لو جاء المكاتب بالنجم، فقال السيد: غصبته، فيقال: خذه، أو أبرئه عنه. وفي وجه: لا يجبرون، بخلاف المكاتب، لانه يخاف العود إلى الرق إن لم يأخذه، وليس على المفلس كبير ضرر. وإذا أجبروا على أخذها، فللبائع أخذها منهم لاقرارهم. وإن لم يجبروا وقسمت أمواله، فله طلب فك الحجر إذا قلنا: لا يرتفع بنفسه. ولو كانت من غير جنس حقوقهم، فبيعت وصرف ثمنها إليهم تفريعا على الاجبار، لم يتمكن البائع من أخذه منهم، بل عليهم رده إلى المشتري. فإن لم يأخذه، فهو مال ضائع. قلت: هذا هو الصحيح المعروف. وفي الحاوي وجه شاذ: أنه يجب عليهم دفع الثمن إلى البائع، لانه بدل الثمرة فأعطى حكمها، والصواب ما سبق. والله أعلم. ولو كان في المصدقين عدلان شهدا للبائع بصيغة الشهادة وشرطها، أو عدل(3/397)
وحلف معه البائع، قضي له. كذا أطلق الشافعي رضي الله عنه وجماهير الاصحاب، وأحسن بعض الشارحين للمختصر، فحمله على ما إذا شهدا قبل تصديق البائع. ولو صدق بعض الغرماء البائع، وكذبه بعضهم، فللمفلس تخصيص المكذبين بالثمرة. فلو أراد قسمتها على الجميع، فوجهان. قال أبو إسحق: له ذلك، كما لو صدقه الجميع. وقال الاكثرون: لا، لان المصدق يتضرر، لكون البائع يأخذ منه ما أخذ، والمفلس لا يتضرر بعدم الصرف إليه، لامكان الصرف إلى من كذب، بخلاف ما إذا صدقه الجميع. وإذا صرف إلى المكذبين، ولم يف بحقوقهم، ضاربوا المصدقين في باقي الاموال ببقية دينهم مؤاخذة لهم على الاصح المنصوص - وفي وجه: بجميع ديونهم - لان زعم المصدقين، أن شيئا من ديون المكذبين لم يتأد. هذا كله إذا كذب المفلس البائع، فلو صدقه، نظر، إن صدقه الغرماء أيضا، قضي له. وإن كذبوه وزعموا أنه أقر بمواطأة، فعلى القولين بإقراره بعين أو دين. إن قلنا: لا يقبل، فللبائع تحليف الغرماء أنهم لا يعرفون رجوعه قبل التأبير على المذهب. وقيل: في تحليفهم القولان في حلف الغرماء على الدين، وهو ضعيف، لان اليمين هنا توجهت عليهم إبتداء، وهناك ينوبون عن المفلس. واليمين لا تجري فيها النيابة. قلت: وليس للغرماء تحليف المفلس، لان المقر لا يمين عليه فيما أقر به، قاله في الحاوي وغيره. والله أعلم. فرع الاعتبار في إنفصال الجنين وتأبير الثمار بحال الرجوع دون الحجر، لان ملك المفلس باق إلى أن يرجع البائع.
فصل متى رجع البائع في الشجر وبقيت الثمار للمفلس، فليس له قطعها، بل عليه إبقاؤها إلى الجداد، وكذا لو رجع في الارض وهي مزروعة بزرع المفلس، يترك إلى الحصاد، كما لو اشترى أرضا مزروعة، لم يكن له تكليف البائع قلعه. ثم إذا أبقي الزرع، فلا أجرة على المذهب. وحكي قول مخرج مما لو بنى أو غرس، فإن للبائع الابقاء بأجرة، ثم الكلام في طلب الغرماء والمفلس، القطع، أو الجداد والحصاد على ما سبق. فرع متى ثبت الرجوع في الثمار بالتصريح ببيعها مع الشجر، أو قلنا به في(3/398)
الحالة الثالثة والرابعة، فتلفت الثمار بجائحة، أو أكل أو غيرهما، ثم فلس، أخذ البائع الشجر بحصتها من الثمن، وضارب بحصة الثمر، فتقوم الشجر وعليها الثمر، فيقال مثلا: قيمتها مائة، وتقوم وحدها فيقال: تسعون، فيضارب بعشر الثمن. فإن حصل في قيمتها إنخفاض أو ارتفاع، فالصحيح أن الاعتبار في الثمار بالاقل من قيمتي يومي العقد والقبض، لانها إن كانت يوم القبض أكثر، فالنقص قبله كان من ضمان البائع، فلا يحسب على المشتري. وإن كانت يوم العقد أقل، فالزيادة ملك المشتري، وتلفت، فلا حق للبائع فيها. وفي وجه شاذ: يعتبر يوم القبض. وأما الشجر، ففيها وجهان. أحدهما: يعتبر أكثر القيمتين، لان المبيع بين العقد والقبض من ضمان البائع، فنقصه عليه، وزيادته للمشتري، فيأخذ بالاكثر، ليكون النقص محسوبا عليه. كما أن في الثمرة الباقية على المشتري، يعتبر الاقل، ليكون النقص محسوبا عليه. والثاني: يعتبر يوم العقد قل أم كثر، لان ما زاد بعده فهو من الزيادات المتصلة، وعين الاشجار باقية، فيفوز بها البائع، ولا يحسب عليه. وهذا الثاني، هو المنقول في التهذيب والتتمة وبالاول جزم الصيدلاني وغيره، وصححه الغزالي. مثل ذلك، قيمة الشجر يوم البيع عشرة، وقيمة الثمر خمسة. فلو لم تختلف القيمة، لاخذ الشجرة بثلثي الثمن، وضارب للثمرة بالثلث. وإن زادت قيمة الثمرة وكانت يوم القبض عشرة، فعلى الصحيح، هو كما لو كانت بحالها إعتبارا لاقل قيمتها. وعلى الشاذ يضارب بنصف الثمن. ولو نقصت وكانت يوم القبض درهمين ونصفا، ضارب بخمس الثمن. فلو زادت قيمة الشجر أو نقصت، فالحكم على الوجه الثاني، كما لو بقيت بحالها. وعلى الاول كذلك إن نقصت. وإن زادت، فكانت خمسة عشر، ضار ب بربع الثمن. قال الامام: وإذا اعتبرنا في الثمار أقل القيمتين فتساوتا، ولكن بينهما نقص. فإن كان لمجرد انخفاض السوق، فلا عبرة به. وإن كان لعيب طرأ وزال، فكذلك على الظاهر. كما أنه يسقط بزواله حق الرد بالعيب. وإن لم يزل العيب، لكن عادت قيمته إلى ما كان بارتفاع السوق، فالذي أراه، إعتبار قيمته يوم العيب، لان النقص من ضمان البائع، والارتفاع بعده في ملك المشتري، فلا يجبره. قال: وإذا اعتبرنا في الشجر أكثر القيمتين، فكانت(3/399)
قيمته يوم العقد مائة، ويوم القبض مائة وخمسين، ويوم رجوع البائع مائتين، فالوجه: القطع باعتبار المائتين. ولو كانت قيمتها يومي العقد والقبض ما ذكرناه، ويوم الرجوع مائة، اعتبر يوم الرجوع، لان ما طرأ من زيادة ونقص وزال، ليس ثابتا يوم العقد حتى يقول: إنه وقت المقابلة، ولا يوم أخذ البائع ليحسب عليه. فرع سبيل التوزيع في كل صورة تلف فيها أحد الشيئين المبيعين، واختلفت القيمة وأراد الرجوع إلى الباقي، على ما ذكرناه في الاشجار والثمار بلا فرق. النوع الثانيمن الزيادات: ما التحق بالمبيع من خارج، وينقسم إلى عين محضة، وصفة محضة، ومركب منهما. الضرب الاول: العين المحضة، ولها حالان. أحدهما: أن تكون قابلة للتمييز عن المبيع، كمن اشترى أرضا فغرس فيها، أو بنى، ثم فلس قبل أداء الثمن، فإذا اختار البائع الرجوع في الارض، نظر، إن اتفق الغرماء والمفلس على القلع وتسليم الارض بيضاء، رجع فيها وقلعوا، وليس له أن يلزمهم أخذ قيمة الغراس والبناء ليتملكها مع الارض. وإذا قلعوا، وجب تسوية الحفر من مال المفلس، وإن حدث في الارض نقص بالقلع، وجب أرشه في ماله. قال الشيخ أبو حامد: يضارب به. وفي المهذب والتهذيب: أنه يقدم به، لانه لتخليص ماله. وإن قال المفلس: يقلع. وقال الغرماء: نأخذ القيمة من البائع ليتملكه، أو بالعكس، أو وقع هذا الاختلاف بين الغرماء، أجيب من في قوله المصلحة. فإن امتنعوا جميعا من القلع، لم يجبروا، لانه غير متعد. ثم ينظر، إن رجع على أن يتملك البناء والغراس بقيمتهما، أو يقلع ويغرم أرش النقص، فله ذلك، لانه يندفع به الضرر من الجانبين، والاختيار فيهما إليه، وليس للغرماء والمفلس الامتناع، بخلاف ما سبق في الزرع، لان له أمدا قريبا. وإن أراد الرجوع في الار ض وحدها، لم يكن له ذلك على الاظهر، لانه ينقض قيمة البناء والغراس، ويضرهم، والضرر لا يزال بالضرر. وفي قول: له ذلك، كما لو صبغ المشتري الثوب ثم فلس، يرجع البائع في الثوب(3/400)
فقط. وقيل: إن كانت الارض كثيرة القيمة، والبناء والغراس مستحقرين بالاضافة إليها، كان له ذلك. وإن كان عكسه، فلا، إتباعا للاقل الاكثر. وقيل: إن أراد الرجوع في البياض المتخلل بين البناء والشجر، ويضارب للباقي بقسطه من الثمن، كان له. وإن أراد الرجوع في الجميع، فلا، فإن قلنا بالاظهر، فالبائع يضارب بالثمن، أو يعود إلى بذل قيمتهما أو قلعهما مع غرامة أرش النقص. وإن مكناه من الرجوع فيها، فوافق الغرماء والمفلس، وباع الارض معهم حين باعوا البناء فذاك. وطريق التوزيع، ما سبق في الرهن. وإن امتنع، لم يجبر على الاظهر، وإذا لم يوافقهم، فباعوا البناء والغراس، بقي للبائع ولاية التملك بالقيمة، والقلع مع الارش، وللمشتري الخيار في البيع إن كان جاهلا بحال ما اشتراه، هذا الذي ذكرناه في هذا الضرب، هو الذي قطع به الجماهير في الطرق كلها، وهو الصواب المعتمد. وذكر إمام الحرمين في المسألة أربعة أقوال. أحدها: لا رجوع بحال. والثاني: تباع الارض والبناء رفقا بالمفلس. والثالث: يرجع في الارض ويتخير بين ثلاث خصال: تملك البناء والغراس بالقيمة، وقلعهما مع إلتزام أرش النقص، وإبقاؤهما بأجرة المثل، يأخذها من ملكهما. وإذا عين خصلة، فاختار الغرماء والمفلس غيرها، أو امتنعوا من الكل، فوجهان في أنه يرجع إلى الارض، ويقلع مجانا، أو يجبرون على ما عينه. والرابع: إن كانت قيمة البناء أكثر، فالبائع فاقد عين ماله. وإن كانت قيمة الارض أكثر، فواجد. هذا نقل الامام، وتابعه الغزالي وأصحابه على الاقوال الثلاثة الاول، وهذا النقل شاذ منكر لا يعرف، وليت شعري من أين أخذت هذه الاقوال ؟ ! فرع إشترى الارض من رجل، والغراس من آخر، وغرسه فيها، ثم فلس، فلكل الرجوع إلى عين ماله. فإن رجعا وأراد صاحب الغراس القلع، مكن وعليه تسوية الحفر وأرش نقص الارض إن نقصت. وإن أراده صاحب الارض، فكذلك إن ضمن أرش النقص، وإلا، فوجهان. أحدهما: المنع، لانه غرس محترم، كغرس المفلس. والثاني: له، لانه باع الغرس مفردا، فيأخذه كذلك.(3/401)
الحال الثاني: أن لا تكون الزيادة قابلة للتمييز، كخلط ذوات الامثال بعضها ببعض، فإذا اشترى صاع حنطة أو رطل زيت، فخلطه بحنطة، أو زيت، ثم فلس، فإن كان مثله، فللبائع الفسخ، وتملك صاع من المخلوط، وطلب القسمة. وإن طلب البيع، فهل يجاب ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لا يجاب الشريك. والثاني: نعم، لانه لا يصل بالقسمة إلى عين حقه، ويصل بالبيع إلى بدل حقه، وقد يكون له غرض. وإن كان المخلوط أردأ من المبيع، فله الفسخ والرجوع في قدر حقه من المخلوط. وفي كيفيته وجهان. أحدهما: يباع الجميع، ويقسم الثمن بينهما على قدر القيمتين، لانه لو أخذ صاعا، نقص حقه. ولو أخذ أكثر، حصل الربا. فعلى هذا، إن كان المبيع يساوي درهمين، والمخلوط به درهما، قسم الثمن أثلاثا. وأصحهما: ليس له إلا أخذ صاع، أو المضاربة، لانه نقص حصل في المبيع، كتعيب العبد. وخرج قول أن الخلط بالمثل والاردأ يمنع الرجوع، وليس بشئ. وإن كان المخلوط به أجود، فأقوال. أظهرها: ليس له الرجوع، بل يضارب بالثمن. والثاني: يرجع ويباعان، ثم يوزع الثمن على نسبة القيمة. والثالث: يوزع نفس المخلوط بينهما باعتبار القيمة. فإذا كان المبيع يساوي درهما، والمخلوط به درهمين، أخذ ثلثي صاع، وهذا القول أضعفها، وهو رواية البويطي والربيع. فرع قال الامام: إذا قلنا: الخلط يلحق المبيع بالمفقود، فكان أحد الخليطين كثيرا، والآخر قليلا، لا تظهر به زيادة في الحس، ويقع مثله بين الكيلين، فإن كان الكثير للبائع، فالوجه: القطع بكونه واجدا عين ماله، وإن كان الكثير للمشتري، فالظاهر كونه فاقدا. فرع لو كان المخلوط به من غير جنس المبيع، كالزيت بالشيرج، فلا فسخ، بل هو كالتالف، وفيه احتمال للامام. الضرب الثاني: الصفة المحضة. فإذا اشترى حنطة فطحنها، أو ثوبا فقصره، أو خاطه بخيوط من نفس الثوب، ثم فلس، فللبائع الرجوع فيه. ثم إن لم تزد قيمته، فلا شركة للمفلس، وإن نقصت، فلا شئ للبائع غيره، وإن زادت، فقولان. أحدهما: أن هذه الزيادة أثر، ولا شركة للمفلس، لانها صفات تابعة،(3/402)
كسمن الدابة بالعلف، وكبر الودي بالسقي. وأظهرهما: أنها عين، والمفلس شريك بها، لانها زيادة بفعل محترم متقوم، ويجري القولان، فيما لو اشترى دقيقا فخبزه، أو لحما فشواه، أو شاة فذبحها، أو أرضا فضرب من ترابها لبنا أو عرصة، وآلات البناء فبنى بها دارا. أما تعليم العبد القرآن، والحرفة، والكتابة، والشعر المباح، ورياضة الدابة، فالاصح أنها على القولين. وقيل: هي أثر قطعا، كالسمن. وضبط صور القولين، أن يصنع به ما يجوز الاستئجار عليه، فيظهر به أثر فيه. وإنما اعتبرنا الاثر، لان حفظ الدابة وسياستها، يجوز الاستئجار عليه، ولا تثبت به مشاركة للمفلس، لانه لا يظهر بسببه أثر على الدابة. فإن قلنا: أثر، أخذ البائع المبيع بزيادته. وإن قلنا: عين، بيع وللمفلس بنسبة ما زاد في قيمته. مثاله، قيمة الثوب خمسة، وبلغ بالقصارة ستة، فللمفلس سدس الثمن. فلو ارتفعت القيمة، أو انخفضت بالسوق، فالزيادة والنقص بينهما على هذه النسبة. فلو ارتفعت قيمة الثوب دون القصارة، بأن صار مثل ذلك الثوب يساوي غير مقصور ستة، ومقصورا سبعة، فللمفلس سبع الثمن فقط. فلو زادت قيمة القصارة دون الثوب، بأن كان مثل هذا الثوب يساوي مقصورا سبعة، وغير مقصور خمسة، فللمفلس سبعان من الثمن. وعلى هذا القياس. ويجوز للبائع أن يمسك المبيع، ويمنع من بيعه، ويبذل للمفلس حصة الزيادة، كذا نقل في التهذيب وغيره، كما تبذل قيمة البناء والغراس. ومنعه في التتمة لان الصفة لا تقابل بعوض. قلت: الاصح: نقل صاحبا التهذيب، وبه قطع صاحب الشامل والبيان. وقال صاحب الحاوي: ولا يسلم هذا الثوب إلى البائع، ولا المفلس، ولا الغرماء، بل يوضع عند عدل حتى يباع كالجارية الحامل. والله أعلم. فرع إذا استأجر المفلس أو غيره على القصارة، أو الطحن، فعمل الاجير عمله، فهل له حبس الثو ب المقصور والدقيق لاستيفاء الاجرة ؟ إن قلنا: القصارة وما في معناها أثر، فلا. وإن قلنا: عين، فنعم. كما للبائع حبس المبيع، لاستيفاء الثمن، وبه قال الاكثرون. قلت: هكذا أطلق المسألة كثيرون، أو الاكثرون، ونص الشافعي رضي الله(3/403)
عنه في الام والشيخ أبو حامد، والماوردي، وغيرهم، على أنه ليس للاجير حبسه، ولا لصاحب الثوب أخذه، بل يوضع عند عدل حتى يوفيه الاجرة، أو يباع لهما. وهذا الذي قالوه ليس مخالفا لما سبق. فإن جعله عند العدل، حبس. لكن ظاهر كلام الاكثرين: أن الاجير يحبسه في يده. والله أعلم. الضرب الثالث: ما هو عين من وجه، وصفة من وجه، كصبغ الثوب، ولت السويق وشبههما. فإذا اشترى ثوبا وصبغه، فإن نقصت القيمة، أو لم تزد، فحكمه ما سبق في الضرب الثاني. وإن زادت، فقد تزيد بقدر قيمة الصبغ أو أقل، أو أكثر. الحال الاول: مثل أن يكون الثوب يساوي أربعة، والصبغ درهمين، وصارت قيمته مصبوغا ستة، فللبائع أن يفسخ البيع في الثوب، ويكون المفلس شريكا له في الصبغ، فيباع ويكون الثمن بينهما أثلاثا. وهل يقول: كل الثوب للبائع، وكل الصبغ للمفلس، كما لو غرس ؟ أو يقول: يشتركان فيهما جميعا بالاثلاث لتعذر التمييز كخلط الزيت ؟ فيه وجهان. الحال الثاني: مثل أن تصير قيمته مصبوغا خمسة، فالنقص محال على الصبغ، لانه هالك في الثوب، والثوب بحاله، فيباع، وللبائع أربعة أخماس الثوب، وللمفلس خمس. الحال الثالث: مثل أن تصير قيمته مصبوغا ثمانية، فالزيادة حصلت بصنعة الصبغ. فإن قلنا: الصنعة عين، فالزيادة مع الصبغ للمفلس، فيجعل الثمن بينهما نصفين. وإن قلنا: أثر، فوجهان. أحدهما: يفوز البائع بالزيادة، فله ثلاثة أرباع الثمن، وللمفلس ربع. وأصحهما وبه قال الاكثرون: يكون للبائع ثلثا الثمن، وللمفلس ثلثه، لان الصنعة اتصلت بهما، فوزعت عليهما. ولو صارت قيمته مصبوغا ستة عشر مثلا، أو رغب فيه رجل فاشتراه، ففي كيفية القسمة، هذه الاوجه الثلاثة. ثم ما يستحقه المفلس من الثمن للبائع، دفعه ليخلص له الثوب مصبوغا. ومنع ذلك صاحب التتمة كما سبق. هذا كله إذا صبغه بصبغ نفسه. أما إذا اشترى ثوبا وصبغا من رجل، فصبغه به، ثم فلس، فللبائع الرجوع فيهما، إلا أن تكون قيمته بعد الصبغ كقيمة الثوب قبل الصبغ أو دونها، فيكون فاقد للصبغ. فإن(3/404)
زادت القيمة، بأن كانت قيمة الثوب أربعة، والصبغ درهمين، فصارت مصبوغا ثمانية، وقلنا: الصنعة أثر، أخذه، ولا شئ للمفلس. وإن قلنا: عين، فالمفلس شريك بالربع. ولو اشترى الثوب من واحد بأربعة وهي قيمته، والصبغ من آخر بدرهمين وهما قيمته، وصبغه، وأراد البائعان الرجوع، فإن كان مصبوغا لا يزيد على أربعة، فصاحب الصبغ فاقد ماله، وصاحب الثوب واجد ماله، بكماله إن لم ينقص عن أربعة، وناقصا إن نقص. فإن زاد على أربعة، فصاحب الصبغ أيضا واجد ماله، بكماله إن بلغت الزيادة درهمين، وناقصا إن لم تبلغهما. وإن كانت قيمته مصبوغا ثمانية، فإن قلنا: الصنعة أثر، فالشركة بين البائعين، كهي بين البائع والمفلس إذا صبغه بصبغ نفسه. وإن قلنا: عين، فنصف الثمن لبائع الثوب، وربعه لبائع الصبغ، والربع للمفلس. ولو اشترى صبغا وصبغ به ثوبا له، فللبائع الرجوع إن زادت قيمته مصبوغا على ما كانت قبل الصبغ، وإلا، فهو فاقد. وإذا رجع، فالقول في الشركة بينهما كما سبق. قلت: وإذا شارك ونقصت حصته عن ثمن الصبغ، فوجهان. أصحهما وهو قول أكثر الاصحاب على ما حكاه صاحب البيان: أنه إن شاء قنع به ولا شئ له غيره، وإن شاء ضارب بالجميع. والثاني: له أخذه والمضاربة بالباقي. وبهذا قطع في المهذب والشامل والعدة وغيرها. والله أعلم. فرع حكم صبغ الثوب، كالبناء والغراس. فلو قال المفلس والغرماء: نقلعه ونغرم نقص الثوب، قال ابن كج: لهم ذلك. فرع ما ذكرناه من القطع بالشركة بالصبغ، إذا لم يحصل، هو على إطلاقه، سواء أمكن تمييز الصبغ من الثوب، أو صار مستهلكا. وفي وجه: إذا صار مستهلكا، صار كالقصارة في أنه عين أم أثر. فرع إذا اشترى ثوبا، واستأجر قصارا فقصره، ولم يوفه أجرته حتى فلس، فإن قلنا: القصارة أثر، فليس للاجير إلا المضاربة بالاجرة، وللبائع الرجوع في الثوب مقصورا، ولا شئ عليه لما زاد. وقال صاحب التلخيص: عليه أجرة القصار، فكأنه استأجره. وغلطه الاصحاب فيه. وإن قلنا: عين، نظر، إن لم تزد قيمته مقصورا على ما قبل القصارة، فالاجير فاقد عين ماله. وإن زادت، فلكل(3/405)
من البائع والاجير، الرجوع إلى عين ماله. فلو كانت قيمة الثوب عشرة، والاجرة درهم، والثوب المقصور يساوي خمسة عشر، بيع. وللبائع عشرة، وللاجير درهم، والباقي للمفلس. ولو كانت الاجرة تساوي خمسة دراهم، والثوب بعد القصارة يساوي أحد عشر، فإن فسخ الاجير الاجارة، فعشره للبائع، ودرهم للاجير، ويضارب بأربعة. وإن لم يفسخ، فعشرة للبائع، ودرهم للمفلس، ويضارب الاجير بالخمسة. وحكى في الوسيط وجها: أنه ليس للاجير إلا القصارة الناقصة، أو المضاربة، كما هو قياس الاعيان. ولم أر هذا النقل لغيره، فالمعتمد ما سبق. ولو كانت قيمة الثوب عشرة، واستأجر صباغا صبغه بصبغ قيمته درهم، فصارت قيمته خمسة عشرة، فالاربعة الزائدة حصلت بالصنعة، فيجري فيها القولان في أنها عين أو أثر. فإن رجع البائع والصباغ، بيع بخمسة عشر، وقسم على أحد عشر إن قلنا: أثر. وإن قلنا: عين، فلهما أحد عشر، والاربعة للمفلس. ولو كانت بحالها، وبيع بثلاثين، قال ابن الحداد: للبائع عشرون، وللصباغ درهمان وللمفلس ثمانية. وقال غيره يقسم الجميع على أحد عشر، عشرة للبائع، ودرهم للصباغ، ولا شئ للمفلس. قال أبو علي: الاول جواب على قولنا: عين. والثاني: على أنها أثر. ولو كانت قيمة الثوب عشرة، واستأجره على قصارته بدرهم، وصارت قيمته مقصورا خمسة عشر، فبيع بثلاثين، قال الشيخان أبو محمد والصيدلاني وغيرهما تفريعا على العين: إنه يتضاعف حق كل منهم، كما قاله ابن الحداد في الصبغ. قال الامام: ينبغي أن يكون للبائع عشرون، وللمفلس تسعة، وللقصار درهم كما كان، ولا يزيد حقه، لان القصارة غير مستحقة للقصار. وإنما هي مرهونة بحقه، وهذا استدراك حسن. فرع لو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك ودعنا نكون شركاء صاحب الثوب، أجبر على الاصح، كالبائع إذا قدمه الغرماء بالثمن، فكأن هذا القائل(3/406)
يعطي القصارة حكم العين من كل وجه.
فصل لو أخفى المديون بعض ماله، ونقص الموجود عن دينه فحجر عليه، ورجع أصحاب الامتعة فيها، وقسم باقي ماله بين غرمائه، ثم علمنا إخفاءه، لم ينقص شئ من ذلك، لان للقاضي بيع مال الممتنع وصرفه في دينه. والرجوع في عين المبيع بامتناع المشتري من أداء الثمن، مختلف فيه. فإذا حكم به، نفذ، كذا قاله في التتمة، وفيه توقف، لان القاضي ربما لا يعتقد جواز ذلك.
فصل من له الفسخ بالافلاس، لو ترك الفسخ على مال، لم يثبت المال. فإن كان جاهلا بجوازه، ففي بطلان حقه من الفسخ، وجهان كما سبق في الرد بالعيب.(3/407)
كتاب الحجر
هو نوعان. حجر شرع لغيره، وحجر لمصلحة نفسه. الاول: خمسة أضرب. حجر الراهن لحق المرتهن، وحجر المفلس لحق الغرماء، وحجر المريض للورثة، وحجر العبد لسيده، وكذا المكاتب لسيده ولله تعالى. وخامسها: حجر المرتد لحق المسلمين.(3/408)
وهذه الاضرب خاصة لا تعم التصرفات، بل يصح من هؤلاء المحجورين، الاقرار بالعقوبات، وكثير من التصرفات، وهي مذكورة في أبوابها.(3/410)
النوع الثاني: ثلاثة أضرب. أحدها: حجر المجنون، ويثبت بمجرد الجنون، ويرتفع بالافاقة، وتنسلب به الولايات واعتبار الاقوال كلها. ومن عامله، أو أقرضه، فتلف المال عنده، أو أتلفه، فمالكه هو المضيع. وما دام باقيا يجوز استرداده. والثاني: حجر الصبي. قال في التتمة: ومن له أدنى تمييز، ولم يكمل عقله، فهو كالصبي المميز. وتدبيره ووصيته، يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى. وقد سبق إذنه في الدخول وحمله الهدية. والثالث: حجر السفيه المبذر، والضرب الاول أعم من الثاني. والثاني أعم من الثالث. ومقصود الكتاب هذه الاضرب، والثالث معظم المقصود.
فصل فيما يزول به حجر الصبي قال جماعة: ينقطع حجر الصبي بالبلوغ رشيدا. ومنهم من يقول: حجر الصبي ينقطع بمجرد البلوغ، وليس هذا اختلافا محققا، بل من قال بالاول، أراد الاطلاق الكلي، ومن قال بالثاني، بالحجر أراد الحجر المخصوص بالصبي، وهذا أولى، لان الصبي سبب مستقل بالحجر، وكذلك التبذير. وأحكامهما متغايرة. ومن بلغ مبذرا، فحكم تصرفه حكم تصرف السفيه، لا حكم تصرف الصبي. فرع للبلوغ أسباب. منها مشترك بين الرجال والنساء، ومختص بالنساء. أما المشترك، فمنه السن. فإذا استكمل المولود خمسة عشرة سنة قمرية، فقد بلغ. وفي وجه: يبلغ بالطعن في الخامسة عشرة، وهو شاذ ضعيف.(3/411)
السبب الثاني: خروج المني ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين، ولا عبرة بما ينفصل قبلها، هذا هو الصحيح المعتمد. وفي وجه: إنما يدخل بمضي نصف السنة العاشرة. وفي وجه: باستكمال العاشرة. ولنا وجه: أن المني لا يكون بلوغ في النساء، لانه نادر فيهن. وعلى هذا، قال الامام: الذي يتجه عندي: أنه لا يلزمها الغسل. وهذا الوجه شاذ، وفيما قاله الامام نظر. السبب الثالث: إنبات العانة يقتضي الحكم بالبلوغ في الكفار. وهل هو حقيقة البلوغ، أم دليله ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. فإن قلنا بالاول، فهو بلوغ في المسلمين أيضا. وإن قلنا بالثاني، فالاصح أنه ليس ببلوغ. قلت: إختلف أصحابنا فيما يفتى به في حق المسلمين، واختار الامام الرافعي في المحرر أنه لا يكون بلوغا. والله أعلم. ثم المعتبر شعر خشن يحتاج في إزالته إلى حلق، فأما الزغب والشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغر، فلا أثر له. وأما شعر الابط، واللحية، والشارب، فقيل: كالعانة. وقيل: لا أثر لها قطعا. وألحق صاحب التهذيب الابط بالعانة دون اللحية والشارب.(3/412)
قلت: ويجوز منبت عانة من احتجنا إلى معرفة بلوغه بها للضرورة، هذا هو الصحيح. وقيل: تمس من فوق حائل. يلصق بها شمع ونحوه ليعتبر بلصوقه به وكلاهما خطأ، إذ يحتمل أنه حلقه، أو نبت شئ يسير. والله أعلم وأما ثقل الصوت، ونهود الثدي، ونتوء طرف الحلقوم وانفراق الارنبة، فلا أثر لها على المذهب. وطرد في التتمة فيها الخلاف. وأما ما يختص بالنساء، فاثنان. أحدهما: الحيض فهو لوقت الامكان، بلوغ. والثاني: الحبل، فإنه مسبوق بالانزال، لكن لا نستيقن الولد إلا بالوضع. فإذا وضعت، حكمنا بحصول البلوغ قبل الوضع بستة أشهر وشئ. فإن كانت مطلقة، وأتت بولد يلحق الزوج، حكمنا ببلوغها قبل الطلاق. فرع الخنثى المشكل، إذا خرج من ذكره ما هو بصفة المني، ومن فرجه ما هو بصفة الحيض، حكم ببلوغه على الاصح. لانه ذكر أمنى، أو أنثى حاضت. والثاني: لا للتعارض. وإن وجد أحد الامرين فقط، أو أمنى وحاض بالفرج، فقطع الجمهور بأنه ليس ببلوغ، لجواز أن يظهر من الفرج الآخر ما يعارضه. والحق، ما قاله الامام، أنه ينبغي أن يحكم ببلوغه بأحدهما، كما يحكم بذكورته وأنوثته. إن ظهر خلافه، غيرنا الحكم. قلت: قال صاحب التتمة إذا أنزل الخنثى من ذكره أو خرج الدم من فرجه مرة، لم يحكم ببلوغه. فإن تكرر، حكم به. وهذا الذي قاله حسن وإن كان غريبا. والله أعلم. فرع وأما الرشد، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: هو إصلاح الدين(3/413)
والمال، والمراد بالصلاح في الدين: أن لا يرتكب محرما يسقط العدالة، وفي المال: أن لا يبذر. فمن التبذير تضييع المال بإلقائه في البحر، أو احتمال الغبن الفاحش في المعاملات ونحوها، وكذا الانفاق في المحرمات. وأما الصرف في الاطعمة النفيسة التي لا تليق بحاله، فقال الامام، والغزالي: هو تبذير. وقال الاكثرون: لا، لان المال يتخذ لينتفع فيه ويلتذ. وكذا القول في التجمل بالثياب الفاخرة، والاكثار من شراء الجواري، والاستمتاع بهن، وما أشبه ذلك. وأما الصرف إلى وجوه الخير، كالصدقات، وفك الرقاب، وبناء المساجد و المدارس، وشبه ذلك، فليس بتبذير، فلا سرف في الخير، كما لا خير في السر وقال الشيخ أبو محمد: إن بلغ الصبي وهو مفرط بالانفاق في هذه الوجوه، فهو مبذر. وإن عرض ذلك بعد بلوغه مقتصدا، لم يصر مبذرا، والمعروف للاصحاب ما سبق. وبالجملة التبذير على ما نقله معظم الاصحاب محصور في التضييعات وصرفه في المحرمات. فرع لا بد من اختبار الصبي ليعرف حاله في الرشد وعدمه. ويختلف(3/414)
بطبقات الناس، فولد التاجر يختبر في البيع والشراء والمماكسة فيهما، وولد الزارع في أمر الزراعة والانفاق على القوام بها، والمحترف فيما يتعلق بحرفته، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الاقمشة وصون الاطعمة عن الهرة والفأرة وشبهها من مصالح البيت. ولا تكفي المرة الواحدة في الاختبار، بل لا بد من مرتين فأكثر بحيث يفيد غلبة الظن برشده. وفي وقت الاختبار. وجهان. أحدهما: بعد البلوغ. وأصحهما: قبله. وعلى هذا في كيفيته وجهان. أصحهما: يدفع إليه قدر من المال، ويمتحن في المماكسة والمساومة. فإذا آن الامر إلى العقد، عقد الولي. والثاني: يعقد الصبي ويصح منه هذا العقد للحاجة. ولو تلف في يده المال المدفوع إليه للاختبار، فلا ضمان على الولي. قلت: والصبي الكافر كالمسلم في هذا الباب، فيعتبر في صلاح دينه وماله ما هو صلاح عندهم، وصرح به القاضي أبو الطيب وغيره. والله أعلم.(3/415)
فصل إن بلغ الصبي غير رشيد لاختلال صلاح الدين، أو المال، بقي محجورا عليه، ولم يدفع إليه المال. وفي التتمة وجه، أنه إن بلغ مصلحا لماله، دفع إليه وصح تصرفه فيه، وإن كان فاسقا. وإن بلغ مفسدا لماله، منع منه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، وهذا الوجه شاذ ضعيف، والصواب ما تقدم وعليه التفريع، فيستدام الحجر عليه، ويتصرف في ماله من كان يتصرف قبل بلوغه. وإن بلغ رشيدا، دفع إليه ماله. وهل ينفك الحجر بنفس البلوغ والرشد ؟ أم يحتاج إلى فك ؟ وجهان. أصحهما: الاول لانه لم يثبت بالحاكم، فلم يتوقف عليه، كحجر المجنون، يزول بنفس الافاقة. والثاني، يحتاج، فعلى هذا ينفك بالقاضي أو الاب، أو الجد. وفي الوصي والقيم وجهان. وعلى هذا لو تصرف قبل الفك، فهو كتصرف من أنشئ عليه الحجر بالسفه الطارئ بعد البلوغ. ويجري الوجهان في الاحتياج فيما لو بلغ غير رشيد، ثم رشد. وإذا حصل الرشد، فلا فرق بين الرجل والمرأة وبين أن تكون مزوجة أو غيرها. فرع لو عاد التبذير بعدما بلغ رشيدا، فوجهان. أحدهما: يعود الحجر عليه بنفس التبذير، كما لو جن. وأصحهما: لا يعود، لكن يعيده القاضي، ولا يعيده غيره على الصحيح. وقال أبويحيى البلخي: يعيده الاب والجد كما يعيده القاضي. ولو عاد الفسق دون التبذير، لم يعد الحجر قطعا، ولا يعاد أيضا على المذهب، لان الاولين لم يحجروا على الفسقة، بخلاف الاستدامة، لان الحجر كان ثابتا، فبقي. وإذا حجر على من طرأ عليه السفه، ثم عاد رشيدا، فإن قلنا: الحجر عليه لا يثبت إلا بحجر القاضي، لم يرتفع إلا برفعه. وإذا قلنا: يثبت بنفسه، ففي زواله الخلاف السابق فيمن بلغ رشيدا. وأما الذي يلي أمر من حجر عليه للسفه الطارئ، فهو القاضي إن قلنا: لا بد من حجر القاضي. وإن قلنا:(3/416)
يصير محجورا بنفس السفه، فوجهان، كالوجهين فيما إذا طرأ عليه الجنون بعد البلوغ، أحدهما الاب، ثم الجد كحال الصغر، وكما لو بلغ مجنونا. والثاني: القاضي لان ولاية الاب زالت، فلا تعود. والاول أصح في صورة الجنون، والثاني أصح في صورة السفه. وأعلم أن الغزالي صرح في الوسيط والوجيز بأن عود التبذير وحده لا أثر له، وإنما المؤثر في عود الحجر أو إعادته عود الفسق والتبذير جميعا، وليس كما قال، بل الاصحاب متفقون على أن عود التبذير كاف في ذلك كما سبق. قلت: أما الوجيز فهو فيه كما نقله عنه، وكذا في أكثر نسخ الوسيط. وفي بعضها حذف هذه المسألة وإصلاحها على الصواب. وكذا وجد في أصل الغزالي، وقد ضرب على الاول وأصلحه على الصواب. والله أعلم. فرع لو كان يغبن في بعض التصرفات خاصة، فهل يحجر عليه حجر خاص في ذلك النوع ؟ وجهان، لبعد اجتماع الحجر بالسفه وعدمه في شخص. فرع الشحيح على نفسه جدا مع اليسار، في الحجر عليه لينفق بالمعروف وجهان، أصحهما: المنع.
فصل فيما يصح من تصرفات المحجور عليه بالسفه، وما لا يصح وفيه مسائل. الاولى: لا تصح منه العقود التي هي مظنة الضرر المالي، كالبيع، والشراء، والاعتاق، والكتابة، والهبة، والنكاح، وسواء اشترى بعين أو في الذمة.(3/417)
وفي الشراء في الذمة وجه، أنه يصح تخريجا من العبد، وليس بشئ. وإذا باع وأقبض، استرد من المشتري، فإن تلف في يده، ضمن. ولو اشترى وقبض، أو استقرض فتلف المأخوذ في يده، أو أتلفه، فلا ضمان لان الذي أقبضه هو المضيع، ويسترد وليه الثمن إن كان أقبضه. وسواء كان من عامله عالما بحاله، أم جاهلا لتقصيره بالبحث عن حاله. ولا يجب على السفيه أيضا الضمان بعد فك الحجر، لانه حجر ضرب لمصلحته فأشبه الصبي، لكن الصبي لا يأثم، والسفيه يأثم لانه مكلف. وفي وجه، يضمن بعد فك الحجر إن كان أتلفه بنفسه، وهو شاذ. قلت: هذا إذا أقبضه البائع الرشيد. فأما إذا أقبضه السفيه بغير إذن البائع، أو أقبضه البائع، وهو صبي أو محجور عليه بسفه، فإنه يضمنه بالقبض قطعا، صرح به أصحابنا وفقهه ظاهر. والله أعلم. هذا كله إذا استقل بهذه التصرفات، فأما إذا أذن له الولي، فإن أطلق الاذن، فهو لغو وإن عين تصرفا وقدر العوض، فوجهان. أصحهما عند الغزالي: الصحة، كما لو أذن في النكاح، فإنه يصح قطعا، وإن كان بعضهم قد أشار إلى طرد الخلاف فيه. وأصحهما عند البغوي: لا يصح كما لو أذن للصبي. قلت: هذا الثاني أصح عند الاكثرين منهم، الجرجاني، والرافعي في المحرر وجزم به الروياني في الحلية. والله أعلم. ويجري الوجهان فيما لو وكله رجل بشئ من هذه التصرفات، هل يصح عقده للموكل، وفيما لو اتهب أو قبل الوصية لنفسه. قلت: الاصح: صحة إتهابه وبه قطع الجرجاني. والله أعلم. ولو أودعه إنسان شيئا فتلف عنده، فلا ضمان عليه. وإن أتلفه، فقولان كما لو أودع صبيا. المسألة الثانية: لو أقر بدين معاملة، لم يقبل سواء أسنده إلى ما قبل الحجر أو(3/418)
بعده، كالصبي. وفيما إذا أسنده إلى ما قبل الحجر، وجه أنه يصح تخريجا من المفلس على قول، وليس شئ. ولو أقر بإتلاف أو جناية توجب المال، لم يقبل على الاظهر كدين المعاملة. ثم ما رددناه من إقراره لا يؤاخذ به بعد فك الحجر. ولو أقر بما يوجب حدا أو قصاصا، قبل. ولو أقر بسرقة توجب القطع قبل في القطع. وفي المال قولان كالعبد إذا أقر بالسرقة. هذا إن لم يقبل إقراره بالاتلاف. فإن قبلناه فهنا أولى. ولو أقر بقصاص وعفا المستحق على مال ثبت على الصحيح، لانه يتعلق باختيار غيره، لا بإقراره. ولو أقر بنسب، ثبت وينفق على الولد المستلحق من بيت المال. قلت: كذا قال الاصحاب في كل طرقهم: يقبل إقراره بالنسب، وينفق عليه من بيت المال قطعا. وشذ الروياني فقال في الحلية: يقبل إقراره بالنسب في أصح الوجهين، وينفق عليه من ماله، وهذا شاذ نبهت عليه لئلا يغتر به. ولو أقر بالاستيلاد، لم يقبل. والله أعلم. ومن ادعى عليه دين معاملة قبل الحجر وأقام بينة سمعت، فإن لم تكن بينة، وقلنا: النكول ورد اليمين كالبينة، سمعت، وإن قلنا: كالاقرار، فلا. الثالثة: يصح طلاقه وخلعه، وظهاره، ورجعته، ونفيه النسب باللعان، وشبه ذلك، إذ لا تعلق لها بالمال. ولو كان السفيه مطلقا مع حاجته إلى النكاح، سري بجارية فإن تضجر منها، أبدلت. الرابعة: حكمه في العبادات، كالرشيد، لكن لا يفرق الزكاة بنفسه.(3/419)
ولو أحرم بغير إذن الولي، إنعقد إحرامه. فإن أحرم بحج تطوع، وزاد ما يحتاج إليه في سفره على نفقته المعهودة، ولم يكن له في طريقه كسب يفي بتلك الزيادة، فللولي منعه. ثم المذهب وبه قطع الاكثرون، أنه كالمحصر يتحلل بالصوم، إذا قلنا: لدم الاحصال بدل، لانه ممنوع من المال، ونقل الامام فيه وجهين: هذا، والثاني أن عجزه عن النفقة لا يلحقه بالمحصر، بل هو كالمفلس الفاقد للزاد والراحلة، لا يتحلل إلا بلقاء البيت. وإن لم يزد ما يحتاج إليه على النفقة المعهودة، أو كان يكتسب في الطريق ما يفي بالزيادة، لم يمنعه الولي، بل ينفق عليه من ماله، ولم يسلمه إليه، بل إلى ثقة لينفق عليه في الطريق. وإن أحرم بحجة مفروضة، كحجة الاسلا والنذر قبل الحجر، لم ينفق عليه الولي كما ذكرنا. قال في التتمة: وكالمنذورة بعد الحجر، كالنذورة قبله إن سلكنا بالنذر مسلك واجب الشرع، وإلا فهي كحجة التطوع. قلت: ولو أفسد حجة المفروض بالجماع، لزمه المضي فيه والقضاء. وهل يعطيه الولي نفقة القضاء ؟ وجهان. حكتهما الماوردي. والله أعلم. ولو نذر التصدق بعين مال، لم يصح. وفي الذمة ينعقد. ولو حلف،(3/420)
انعقدت بيمينه ويكفر عند الحنث بالصوم كالعبد. قلت: وفيه وجه حكاه صاحب الحاوي، والقاضي حسين، والمتولي، أنه يلزمه التكفير بالمال، فيجب على الولي إخراج الكفارة من مال السفيه. قال ا لقاضي: فإن كثر حنثه، لزمه الكفارة، ولا يخرجها الولي، ولا يصح صومه، بل تبقى عليه حتى يعسر، فيصوم إذا قلنا: الاعتبار في الكفارة بحال الاداء. وإذا قلنا: بالصحيح أن واجبه الصوم، فلم يصم حتى فك حجره. قال الماوردي: إن قلنا يعتبر في الكفارة حال الاداء، لم يجزئه الصوم مع اليسار. وإن اعتبرنا حال الوجوب، ففي إجزاء الصوم وجهان، لانه كان من أهل الصوم، إلا أنه كان موسرا. والله أعلم.
فصل فيمن يلي أمر الصبي والمجنون، وكيف يتصرف أما الذي يلي، فهو الاب ثم الجد، ثم وصيهما، ثم القاضي، أو من ينصبه القاضي. قلت: وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالة الاب والجد لثبوت ولايتهما ؟ وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب، والشاشي، وآخرون. وينبغي أن يكون الراجح، الاكتفاء بالعدالة الظاهرة. والله أعلم. ولا ولاية للام على الاصح.(3/421)
وقال الاصطخري: لها ولاية المال بعد الاب والجد، وتقدم على وصيهما. وأما كيفية التصرف، فالقول الجملي فيه: كون التصرف على وجه النظر والمصلحة، فيجوز للولي أن يشتري له العقار، بل هو أولى من التجارة. فإن لم يكن فيه مصلحة لثقل الخراج، أو جور السلطان، أو إشراف الموضع على الخراب، لم يجز. ويجوز أن يبني له الدور والمساكن، ويبني بالآجر والطين دون اللبن والجص. قال الروياني: جوز كثير من الاصحاب البناء على عادة البلد كيف كان. قال: وهو الاختيار. ولا يبيع عقاره إلا لحاجته، مثل أن لا يكون له ما يصرفه في نفقته وكسوته، وقصرت غلته عن الوفاء بهما ولم يجد من يقرضه، أو لم ير المصلحة في(3/422)
الاقتراض، أو لغبطة مثل أن يكون ثقيل الخراج، أو رغب فيه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله وهو يجد مثله ببعض ذلك الثمن. ويجوز أن يبيع ماله نسيئة وبالعرض، إذا رأى المصلحة فيه. وإذا باع نسيئة، زاد على ثمنه نقدا، وأشهد عليه وارتهن به رهنا وافيا. فإن لم يفعل، ضمن، كذا قاله الجمهور. وحكى الامام وجهين في صحة البيع إذا لم يرتهن، وكان المشتري مليئا، وقال: الاصح الصحة. ويشبه أن يذهب القائل بالصحة إلى أنه لا يضمن، ويجوزه اعتمادا على ذمة الملئ. وإذا باع الاب مال ولده لنفسه نسيئة، لا يحتاج إلى رهن من نفسه، لانه أمين في حق ولده. فرع إذا باع الاب أو الجد عقار الطفل ورفع إلى القاضي، سجل على بيعه، ولم يكلفه إثبات الحاجة أو الغبطة بالبينة، لانه غير متهم. وفي بيع الوصي والامين لا يسجل إلا إذا قامت البينة على الحاجة أو الغبطة. قلت: وفي احتياج الحاكم إلى ثبوت عدالة الاب والجد ليسجل لهما، وجهان حكاهما في البيان. والله أعلم. وإذا بلغ الصبي وادعى على الاب أو الجد بيع ماله بغير مصلحة، فالقول قولهما مع اليمين. وإن ادعاه على الوصي أو الامين، فالقول قول المدعي في العقار، وعليهما البينة. وفي غير العقار وجهان. أصحهما: كالعقار. والفرق عسر الاشهاد في كل قليل وكثير يبيعه، ومنهم من أطلق وجهين من غير فرق بين ولي وولي، ولا بين العقار وغيره. ودعواه على المشتري من الولي، كهي على الولد.(3/423)
فرع ليس للوصي بيع ماله لنفسه، ولا بيع مال نفسه له، وللاب والجد ذلك، ولهما بيع مال أحد الصغيرين للآخر. وهل يشترط أن يقول: بعت واشتريت، كما لو باع لغيره. أم يكفي أحدهما ؟ وجهان سبقا في البيع. فرع إذا اشترى الولي للطفل، فليشتر من ثقة. وحيث أمر بالارتهان، لا يقوم الكفيل مقامه. فرع لا يستوفى القصاص المستحق له، ولا يعفو، ولا يعتق عبيده، ولو كان بعوض، ولا يكاتبهم، ولا يهب أمواله ولو بشرط الثواب، ولا يطلق زوجته ولو بعوض. ولو باع شريكه شقصا مشفوعا، أخذ أو ترك بحسب المصلحة. فإن ترك بحسب المصلحة، ثم بلغ الصبي وأراد أخذه، لم يمكن على الاصح، كما لو أخذ للمصلحة، ثم بلغ الصبي وأرادرده. والثاني: يمكن لانه لو كان بالغا، كان له الاخذ. وإن خالف المصلحة والآخذ المخالف للمصلحة، لم يدخل في ولايته، فلا يفوت بتصرف الولي. قلت: فإذا قلنا بالاصح، فبلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطة، قال صاحب المهذ ب وغيره: حكمه حكم بيع العقار. والله أعلم. فرع ليس للولي أخذ أجرة ولا نفقة من مال الصبي إن كان غنيا، وإن(3/424)
كان فقيرا وانقطع بسببه عن الكسب، فله أخذ قدر النفقة. وفي التعليق: أنه يأخذ اقل الامرين من قدر النفقة، وأجرة المثل. قلت: هذا المنقول عن التعليق، هو المعروف في أكثر كتب العراقيين ونقله صاحب البيان عن أصحابنا مطلقا، وحكاه هو وغيره عن نص الشافعي رضي الله عنه، وحكى الماوردي والشاشي وجها، أنه يجوز أيضا للغني أن يأكل بقدر أجرته. والصحيح المعروف، القطع بأنه لا يجوز للغني مطلقا. والله أعلم. والقول في أنه هل يستبد بالاخذ، يأتي في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وهل عليه ضمان ما أخذه كالمضطر إذا أكل طعام الغير أم لا ؟ كالامام إذا أخذ الرزق من بيت المال ؟ فيه قولان. قلت: أظهرهما: لا ضمان، لظاهر القرآن، ولانه بدل عمله. والله أعلم. فرع للولي أن يخلط ماله بمال الصبي ويؤاكله، قال ابن سريج: وللمسافرين خلط أزوادهم وإن تفاوتوا في الاكل، قال: وهذا أولى بالجواز، لان كلا منهم من أهل المسامحة. قلت: لا خلاف في جواز خلط المسافرين على الوجه المذكور، بل هو مستحب، ونقل صاحب البيان من أصحابنا، أنه مستحب، ذكره في باب الشركة، ودلائله من الاحاديث الصحيحة كثيرة. والله أعلم. فرع يجب على الولي أن ينفق عليه ويكسوه بالمعروف، ويخرج من أمواله الزكاة وأروش الجنايات وإن لم تطلب، ونفقة القريب بعد الطلب. فرع إن دعت ضرورة حريق أو نهب إلى المسافرة بماله، سافر، وإلا، فإن كان الطريق مخوفا، لم يسافر به، وإن كان آمنا، فوجهان. أصحهما: الجواز لان المصلحة قد تقتضي ذلك، والولي مأمور بالمصلحة بخلاف المودع. والثاني:(3/425)
المنع وبه قطع العراقيون كالوديعة. قلت: لو سافر به في البحر، لم يجز إن كان مخوفا، وكذا إن كانت سلامته غالبة على المذهب، وبه قطع القاضي حسين، ونقله الامام عن معظم الاصحاب. وقيل: يجوز إن أوجبنا ركوبه للحج. والله أعلم. ثم إذا أجاز له المسافرة به، جاز أن يبعثه مع أمين. فرع ليس لغير القاضي إقراض مال الصبي، إلا عند ضرورة نهب أو حريق ونحوه، أو إذا أراد سفرا. ويجوز للقاضي الاقراض، وإن لم يكن شئ من ذلك لكثرة أشغاله. وفي وجه: القاضي كغيره. ولا يجوز إيداعه مع إمكان الاقراض على الاصح، فإن عجز عنه، فله الايداع. ويشترط فيمن يودعه الامانة، وفي من يقرضه الامانة واليسار. وإذا أقرض ورأى أن يأخذ به رهنا، أخذه، وإلا تركه. قلت: يستحب للحاكم إذا حجر على السفيه، أن يشهد على حجره. وإن رأى أن ينادي عليه في البلد، نادى مناديه ليتجنب الناس معاملته. وحكى في الحاوي والمستظهري عن أبي علي ابن أبي هريرة وجها، أنه يجب الاشهاد، وهو شاذ. وإذا كان للصبي أو السفيه كسب، أجبره الولي على الاكتساب ليرتفق به في النفقة وغيرها، حكاه في البيان. ولو وجب للسفيه قصاص، فله أن يقتص ويعفو. فإن عفا على مال، صح، ووجب دفع المال إلى وليه. وإن عفا مطلقا، أو على غير مال، فإن قلنا: القتل يوجب أحد الامرين: القصاص أو الدية، وجبت الدية لان عفوه عنها لا يصح، وإن قلنا: يوجب القصا ص فقط، سقط القصاص، ولا مال. وإذا مرض المحجور عليه لسفه مرضا مخوفا، لم يتغير حكمه، وتصرفاته فيه كتصرفه في صحته. وحكى في الحاوي وجها، أنه يغلب عليه حجر المرض، فيصح عتقه من ثلثه، وهذا شاذ ضعيف. والله أعلم.(3/426)
كتاب الصلح
فسره الائمة بالعقد الذي تنقطع به خصومة المتخاصمين، وليس هذا على سبيل الحد، بل أرادوا ضربا من التعريف، إشارة إلى أن هذه اللفظة تستعمل عند سبق المخاصمة غالبا، ثم أدخل الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم في الباب، التزاحم في المشترك، كالشوارع ونحوها. وفي الكتاب ثلاثة أبواب.
الاول : في أحكام الصلح. وقد يجري بين المتداعيين، وبين المدعي وأجنبي. والقسم الاول نوعان. أحدهما: ما يجري على الاقرار وهو ضربان.(3/427)
أحدهما: الصلح عن العين. وهو صنفان. أحدهما: صلح المعاوضة، وهو الذي يجري على غير العين المدعاة، بأن ادعى عليه دارا فأقر له بها، وصالحه منها على عبد أو ثوب، فهذا الصنف حكمه حكم البيع، وإن عقد بلفظ الصلح. وتتعلق به جميع أحكام البيع كالرد بالعيب، والشفعة، والمنع من التصرف قبل القبض، واشتراط القبض في المجلس إن كان المصالح عليه والمصالح عنه متفقين في علة الربا، واشتراط التساوي في معيار الشرع إن كان جنسا ربويا، وجريان التحالف عند الاختلاف، ويفسد بالغرر، والجهل، والشروط الفاسدة كفساد البيع. ولو صالحه منها على منفعة دار، أو خدمة عبد مدة معلومة، جاز، ويكون هذا الصلح إجارة، فتثبت فيه أحكام الاجارة. الصنف الثاني: صلح الحطيطة، وهو الجاري على بعض العين المدعاة، كمن صالح من الدار المدعاة على نصفها أو ثلثها، أو من العبدين على أحدهما، فهذا هبة بعض المدعى لمن في يده، فيشترط لصحته القبول ومضي مدة إمكان القبض. وفي اشتراط إذن جديد في قبضه، الخلاف المذكور في كتاب الرهن. ويصح بلفظ الهبة، وما هو في معناها. وفي صحته بلفظ الصلح، وجهان. أحدهما: لا، لان الصلح يتضمن المعاوضة. ومحال أن يقابل ملكه ببعضه. وأصحهما: الصحة، لان الخاصية التي يفتقر إليها لفظ الصلح، هي سبق الخصومة، وقد حصلت. ولا يصح هذا الصنف بلفظ البيع.(3/428)
فرع الصلح يخالف البيع في صور. إحداها: المسألة السابقة، وهي إذا صالح صلح الحطيطة بلفظ الصلح، فإنه يصح على الاصح. ولو كان بلفظ البيع، لم يصح قطعا. الثانية: لو قال من غير سبق خصومة: بعني دارك بكذا، فباع، صح. ولو قال والحالة هذه: صالحني عن دارك هذه بألف، لم يصح على الاصح، لان لفظ الصلح لا يطلق إلا إذا سبقت خصومة، وكأن هذا الخلاف فيما لو استعملا لفظ الصلح بلا نية. فلو استعملاه ونويا البيع، كان كناية بلا شك، وجرى فيه الخلاف في انعقاد البيع بالكناية. الثالثة: لو صالح عن القصاص، صح ولا مدخل للفظ البيع فيه. الرابعة: قال صاحب التلخيص لو صالحنا أهل الحرب من أموالهم على شئ نأخذه منهم، جاز ولا يقوم مقامه البيع، واعترض عليه القفال، بأن تلك المصالحة، ليست مصالحة عن أموالهم وإنما نصالحهم ونأخذ منهم للكف عن دمائهم وأموالهم، وهذا صحيح، ولكن لا يمنع مخالفة اللفظين، فإن لفظ البيع لا يجري في أمثال تلك المصالحات. الخامسة: قال صاحب التلخيص لو صالح من إرش الموضحة على شئ معلوم، جاز إذا علما قدر أرشها. ولو باع، لم يجز وخالفه الجمهور في افتراق اللفظين، وقالوا: إن كان الارش مجهولا كالحكومة التي لم تقدر ولم تضبط، لم يصح الصلح عنه ولا بيعه. وإن كان معلوم القدر والصفة، كالدراهم، إذا ضبطت، صح الصلح عنها، وصح بيعها ممن هي عليه. وإن كان معلوم القدر دون الصفة، على الوجه المعتبر في السلم، كالابل الواجبة في الدية، ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع جميعا(3/429)
وجهان. ويقال: قولان. أحدهما: يصح كمن اشترى عينا لم يعرف صفتها. وأصحهما: المنع كما لو أسلم في شئ لم يصفه، هذا في الجراحة التي لا توجب القود، فإن أوجبته في النفس، أو فيما دونها، فالصلح عنها مبني على أن موجب العمد ماذا ؟ وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. الضرب الثاني: الصلح عن الدين، وهو صنفان. أحدهما: صلح المعاوضة وهو الجاري على عين الدين المدعى. فينظر، إن صالح عن بعض أموال الربا على ما يوافقه في العلة، فلا بد من قبض العوض في المجلس، ولا يشترط تعيينه في نفس الصلح على الاصح. فإن لم يكن العوضان ربويين، فإن كان العوض عينا، صح الصلح، ولا يشترط قبضه في المجلس على الاصح. وإن كان دينا، صح على الاصح، ولكن يشترط التعيين في المجلس، ولا يشترط القبض بعد التعيين على الاصح. الصنف الثاني: صلح الحطيط وهو الجاري على بعض الدين المدعى، فهو إبراء عن بعض الدين، فإن استعمال لفظ الابراء أو ما في معناه، بأن قال: أبرأتك من خمسمائة من الالف الذي عليك، أو صالحتك على الباقي، برئ مما أبرأه، ولا يشترط القبول على الصحيح. وفي وجه بعيد: يشترط فيه، وفي كل إبراء، ولا يشترط قبض الباقي في المجلس. وإن اقتصر على لفظ الصلح فقال: صالحتك على الالف الذي لي عليك على خمسمائة، فوجهان كنظيره في صلح الحطيطة في العين، والاصح الصحة. وفي اشتراط القبول وجهان، كالوجهين فيما لو قال لمن عليه الدين: وهبته لك. والاصح، الاشتراط، لان اللفظ بوضعه يقتضيه. ولو(3/430)
صالح منه على خمسمائة معينة، جرى الوجهان. ورأى الامام الفساد هنا أظهر. ولا يصح هذا الصنف بلفظ البع، كنظيره في الصلح عن العين. ولو صالح من ألف مؤجل على ألف حال أو عكسه. فباطل، لان الاجل لا يسقط ولا يلحق. فلو عجل من عليه المؤجل وقبله المستحق، سقط الاجل بالاستيفاء، وكذا الحكم في الصحيح والمكسر. ولو صالح من ألف مؤجل على خمسمائة، حالة فباطل. ولو صالح من ألف حال على خمسماءة مؤجلة، فهذا ليس من المعاوضة في شئ، بل هو مسامحة من وجهين. أحدهما حط خمسمائة. والثاني: إلحاق أجل بالباقي. والاول شائع، فيبرأ. عن خمسمائة. والثاني: وعد لا يلزم، فله المطالبة بالباقي في الحال. فرع قال أحد الوارثين لصاحبه: تركت حقي من التركة لك، فقال قبلت، لم يصح ويبقى حقه كما كان. ولو قال صالحتك من نصيبي على هذا الثوب، فإن كانت التركة أعيانا، فهو صلح عن العين. وإن كانت ديونا عليه، فهو صلح عن الدين. وإن كانت على غيره، فهو بيع دين لغير من عليه، وقد سبق حكمه. وإن كان فيها عين ودين على الغير، ولم نجوز بيع الدين لغير من عليه، بطل الصلح في الدين. وفي العين قولا تفريق الصفقة. فرع له في يد رجل ألف درهم، وخمسون دينارا، فصالحه منه على ألفي درهم، لا يجوز. وكذا لو مات عن إبنين والتركة ألفا درهم، ومائة دينار، وهي في يد أحدهما، فصالحه الآخر من نصيبه على ألفي درهم، لم يجز. ولو كان المبلغ المذكور دينا في ذمة غيره، فصالحه منه على ألفي درهم، جاز. والفرق أنه إذا كان في الذمة، فلا ضرورة إلى تقدير المعاوضة فيه، فيجعل مستوفيا لاحد الالفين، ومعتاضا عن الدنانير الالف الآخر. وإذا كان معينا، كان الصلح عنه إعتياضا، فكأنه باع ألف درهم وخمسين دينارا بألفي درهم. وهو من صور(3/431)
مد عجوة. ونقل الامام عن القاضي حسين وجها في صورة الدين بالمنع، تنزيلا على المعاوضة. فرع صالحه عن الدار المدعاة على أن يسكنها سنة، فهو إعادة للدار يرجع فيها متى شاء. وإذا رجع، لم يستحق أجرة للمدة الماضية على الصحيح، لانها عارية. وفي وجه: يستحق، لانه قابل به رفع اليد عنها، وهو عوض فاسد، فيرجع بأجرة المثل. ولو صالحه عنها على أن يسكنها بمنفعة عبده سنة، فهو كما لو أجر دارا بمنفعة عبد سنة. فرع صالح عن الزرع الاخضر بشرط القطع، جاز. ودون هذا الشرط لا يجوز. ولو كانت المصالحة عن الزرع مع الارض، فلا حاجة إلى شرط القطع على الاصح. ولو كان النزاع في نصف الزرع، ثم أقر المدعى عليه، وتصالحا عنه على الشئ، لم يجز. وإن شرطا القطع، كما لو با نصف الزرع مشاعا، لا يصح، سواء شرط، أم لا. النوع الثاني: الصلح عن الانكار، فينظر، إن جرى على غير المدعى، فهو باطل. وصورة الصلح على الانكار، أن يدعي عليه دارا مثلا، فينكر، ثم(3/432)
يتصالحا على ثوب أو دين، ولا يكون طلب الصلح منه إقرارا، لانه ربما يريد قطع الخصومة، هذا إذا قال: صالحني مطلقا، أو صالحني عن دعواك. بل الصلح عن الدعوى، لا يصح مع الاقرار أيضا، لان مجرد الدعوى لا يعتاض عنه. ولو قال بعد الانكار: صالحني عن الدار التي ادعيتها، فهل يكون إقرارا، كما لو قال: ملكني، أم لا، لاحتمال قطع الخصومة ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فعلى هذا، يكون الصلح بعد هذا الالتماس صلح إنكار. ولو قال: بعنيها، أو هبها لي، فالصحيح أنه إقرار. لانه صريح في التماس التمليك. وقال الشيخ أبو حامد: هو كقوله: صالحني. ومثله: لو كان النزاع في جارية، فقال: زوجنيها. ولو قال: أعرني أو أجرني فأولى بأن لا يكون إقرارا. ولو كان النزاع في دين، فقال: أبرئني، فهو إقرار. ولو أبرأ المدعي المدعى عليه وهو منكر، وقلنا: لا يفتقر الابراء إلى القبول، صح، لانه مستقل به، فلا حاجة إلى تصديق الغريم، بخلاف الصلح. ولهذا لو أبرأه من بعد(3/433)
التحليف، لو صح، ولو تصالحا بعد التحليف، لم يصح. فرع لو جرى الصلح على الانكار على بعض العين المدعاة وهو صلح الحطيطة في العين، فوجهان. قال القفال: يصح، لانهما متفقان على أن المدعي يستحق النصف، لان المدعي يزعم إستحقاق الجميع، والمدعى عليه يسلم النصف له بحكم هبته له، وتسليمه إليه، فبقي الخلاف في جهة الاستحقاق، وقال الاكثرون: باطل، كما لو كان على غير المدعي. قالوا: ومتى اختلف القابض والدافع في الجهة، فالقول قول الدافع كما سبق في الرهن. والدافع هنا، يقول: إنما بذلت النصف لدفع الاذى، حتى لا يرفعني إلى القاضي، ولا يقيم علي بينة زور. وإن كان المدعى دينا، وتصالحا على بعضه على الانكار، نظر، إن صالحه عن ألف على خمسمائة مثلا في الذمة، لم يصح. ولو أحضر الخمسمائة وتصالحا من الالف المدعى عليها، فهو مرتب على صلح الحطيطة في العين. فإن لم يصح، فهنا أولى. وإلا، فوجهان. والاصح: البطلان باتفاقهم. والفرق أن ما في الذمة، ليس هو ذلك المحضر، وفي الصلح عليه معنى المعاوضة، ولا يمكن تصحيحه معاوضة مع الانكار. ولو تصالحا، ثم اختلفا هل تصالحا على الانكار، أم على الاعتراف ؟ قال ابن كج: القول قول مدعي الانكار، لان الاصل أن لا عقد. وينبغي أن يخرج على الوجهين فيما لو تنازع المتبايعان، هل عقدا صحيحا أم فاسدا. قلت: الصواب، ما قاله ابن كج وقد صرح به أيضا الشيخ أبو حامد، وصاحب البيان وغيرهما. والفرق أن الظاهر والغالب جريان البيع على الصحة، والغالب وقوع الصلح على الانكار. والله أعلم.
القسم الثاني من الباب : في الصلح الجاري بين المدعى وأجنبي، وله حالان.(3/434)
الاول: مع إقرار المدعى عليه. فإن كان المدعى عينا، وقال الاجنبي: إن المدعى عليه وكلني في مصالحتك له على نصف المدعى، أو على هذا العبد من ماله، فتصالحا عليه، صح. وكذا لو قال: وكلني في مصالحتك عنه على عشرة في ذمته. ثم إن كان صادقا في الوكالة، صار المدعى ملكا للمدعى عليه، وإلا، فهو شراء الفضول، وقد سبق بيانه وتفريعه. وإن قال: أمرني بالمصالحة عنه على هذا العبد من مالي، فصالحه عليه، فهو كما لو اشترى لغيره بمال نفسه بإذن ذلك الغير، وقد سبق خلاف في صحته، وأنه إذا صح، هل هو هبة، أو قرض ؟ ولو صالح الاجنبي لنفسه بعين ماله، أو بدين في ذمته، صح له، كما لو اشتراه. وقيل: وجهان، كما لو قال لغيره من غير سبق دعوى: صالحني من دارك على ألف، لانه لم يجر مع الاجنبي خصومة. والمذهب، الصحة، لان الصلح ترتب على دعوى وجواب. أما إذا كان هذا المدعى دينا، وقال: وكلني المدعى عليه بمصالحتك على نصفه، أو على هذا الثوب من ماله، فصالحه، صح. ولو قال: على هذا الثوب، وهو ملكي، فوجهان. أحدهما: لا يصح، لانه بيع شئ بدين غيره. والثاني: يصح، ويسقط الدين كمن ضمن دينا وأداه. قلت: الاول: أصح. والله أعلم. ولو صالح لنفسه على عين أو دين في ذمته، فهو ابتياع دين في ذمة الغير، وسبق بيانه في موضعه. قلت: لو قال: صالحني عن الالف الذي لك على فلان على خمسمائة، صح، سواء كان بإذنه أم لا، لان القضاء دين غيره بغير إذن جائز. والله أعلم. الحال الثاني: أن يكون منكرا ظاهرا، فجاء أجنبي فقال: أقر المدعى عليه عندي، ووكلني في مصالحتك له، إلا أنه لا يظهر إقراره لئلا تنزعه منه، فصالحه،(3/435)
صح، لان دعوى الانسان الوكالة في البيع والشراء وسائر المعاملات مقبولة. فإن قال: هو منكر، ولكنه مبطل، فصالحني له على عبدي هذا، لتنقطع الخصومة بينكما، فوجهان. قال الامام: أصحهما: لا يصح، لانه صلح إنكار. والثاني: يصح، لان الاعتبار في شروط العقد بمن يباشره وهما متفقان. هذ إذا كان المدعى عينا، فإن كان دينا، فقيل: على الوجهين. والمذهب: القطع بالصحة. والفرق أنه لا يمكن تمليك الغير عين ماله بغير إذنه. ويمكن قضاء دينه بغير إذنه. وإن قال: هو منكر، وأنا أيضا لا أعلم صدقك، وصالحه مع ذلك، لم يصح، سواء كان المصالح عليه له، أو للمدعى عليه. كما لو صالحه المدعي وهو منكر. وإن قال: هو منكر ومبطل في إنكاره، فصالحني لنفسي بعبدي هذا، أو بعشرة في ذمتي لآخذه منه، فإن كان المدعى دينا، فهو ابتياع دين في ذمة غيره. وإكان عينا، فهو شراء مغصوب، فينظر في قدرته على انتزاعه وعجزه. وقد سبق بيان الحالين في أول البيع. ولو صالح وقال: أنا قادر على انتزاعه، صح العقد على الاصح، إكتفاء بقوله. والثاني: لا، لان الملك في الظاهر للمدعى عليه، وهو عاجز عن انتزاعه. قال الامام: والوجه أن يقال: إن كان الاجنبي كاذبا، فالعقد باطل باطنا، وفي مؤاخذته في الظاهر لالتزامه، الوجهان. وإن كان صادقا، حكم بصحة العقد باطنا، وقطعنا بمؤاخذته، لكن لا تزال يد المدعى عليه إلا بحجة. فرع كالمثال لما ذكرنا إدعى رجل على ورثة ميت دارا من تركته، وقال: غصبنيها، فأقروا له، جاز لهم مصالحته. فإن دفعوا إلى بعضهم ثوبا مشتركا بينهم ليصالح عليه، جاز، وكان عاقدا عن نفسه ووكيلا عن الباقين. ولو قالوا لواحد: صالحه عنا على ثوبك، فصالحه عنهم، فإن لم يسمهم في الصلح، وقع الصلح عنه. وإن سماهم، فهل تلغى التسمية ؟ وجهان. فإن لم نلغها، وقع الصلح عنهم. وهل الثو ب هبة لهم، أو قرض عليهم ؟ وجهان. وإن ألغيناها، فهل يصح الصلح كله للعاقد، أم يبطل في نصيب الشركاء ويخرج نصيبه على قولي(3/436)
تفريق الصفقة ؟ وجهان. وإن صالحه بعضهم على مال له دون إذن الباقين ليتملك جميع الدار، جاز. وإن صالح لتكون الدار له ولهم جميعا، لغا ذكرهم، وعاد الوجهان في أن الجميع يقع له، أم يبطل في نصيبهم. ويخرج نصيبه على قولي الصفقة. فرع أسلم كافر على أكثر من أربع نسوة، ومات قبل الاختيار والتعيين، وقف الميراث بينهن. فإن اصطلحن على القسمة على تفاوت أو تساو، جاز، وللضرورة. ولو اصطلحن على أن تأخذ ثلاث منهم أو أربع المال الموقوف، ويبذلن للباقيات عوضا من خالص أموالهم، لم يصح. ونظير المسألة، مالو طلق إحد إمرأتيه ومات قبل البيان، ووقف لهم نصيب زوجة فاصطلحتا، وما إذا ادعى اثنان وديعة في يد رجل، فقال: لاأعلم لايكما هي، وما إذا تداعيا دارا في يدهما، وأقام كل بينة. ثم اصطلحا. وكذا لو كانت في يد ثالث وقلنا باستعمال البينتين. قلت: وهذه مسائل تتعلق بالباب. إحداها: إدعى دارا، فأقر، فصالحه على عبد، فخرج مستحقا، أو رده بعيب، أو هلك قبل القبض، رجعت الدار إلى الاول. وإن وجد به عيبا بعد ما هلك، أو تعيب في يده، أخذ من الدار بقدر ما نقص من قيمة العبد، كما لو باعها بعبد. الثانية: إدعى عليه دارا، فأنكره، فقال المدعي: أعطيك ألفا وتقر لي بها، ففعل، فليس بصلح، ولا يلزم الالف، بل بذله وأخذه حرام. وهل يكون هذا إقرارا ؟ وجهان فالعدة والبيان. الثالثة: صالح أجنبي عن المدعي عليه بعوض معين، فوجده المدعي معيبا، فله رده، ولا يرجع ببدله بل ينفسخ الصلح ويرجع إلى خصومة المدعى عليه،(3/437)
وكذا لو خرج العوض مستحقا. ولو صالحه على دراهم في الذمة، فأعطاه دراهم، فوجدها معيبة وردها، أو خرجت مستحقة، فله المطالبة ببدلها. الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه: لو اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، فجاء رجل فادعاها، فإن صدقه المشتري، لزمه قيمتها. وإن كذبه، فصالحه رجل آخر، صح الصلح، لانه بذل مال على جهة القربة، ولان القيمة على المشتري، لانه وقفه. والصلح عما في ذمة بغير إذنه، جائز. الخامسة: لو أتلف عليه شيئا قيمته دينار، فأقر به، وصالحه على أكثر من دينار، لم يصح، لان الواجب قيمة المتلف، فلم يصح الصلح على أكثر منه، كمن غصب دينارا، فصالح على أكثر منه. ولو صالحه عنه بعوض مؤجل، لم يصح. السادسة: سبق في أول الباب أن الصلح عن المجهول، لا يصح. قال الشافعي رضي الله عنه: لو ادعى عليه شيئا مجملا، فأقر له به وصالحه عنه على عوض، صح الصلح. قال الشيخ أبو حامد وغيره: هذا إذا كان المعقود عليه معلوما لهما، فيصح وإن لم يسمياه، كما لو قال: بعتك الشئ الذي نعرفه أنا وأنت بكذا، فقال: إشتريت، صح. السابعة: إذا أنكر المدعى عليه، ووكل أجنبيا ليصالح كما سبق، فهل يحل له التوكيل ؟ وجهان. قال ابن سريج: يحرم عليه الانكار. ولو فعله، فله التوكيل في المصالحة. وقال أبو إسحق: يحرم عليه أيضا التوكيل. ولو مات مورثه وخلف عينا فادعاها رجل، فأنكره ولا يعلم صدقه، وخاف من اليمين، جاز أن يوكل أجنبيا في الصلح، لتزول الشبهة، حكاه في البيان. والله أعلم.
الباب الثاني في التزاحم على الحقوق وفيه فصول. الاول: في الطريق، وهو قسمان: نافذ، وغيره. أما النافذ، فالناس كلهم يستحقون المرور فيه، وليس لاحد أن يتصرف فيه بما يبطل المرور، ولا أن يشرع(3/438)
فيه جناحا، أو يتخذ على جدرانه ساباطا يضر بالمارة. فإن لم يضر، فلا منع منهما. ويرجع في معرفة الضرر وعدمه إلى حال الطريق. فإن كان ضيقا لا تمر فيه القوافل والفوارس، فينبغي أن يرتفع بحيث يمر المار تحته منتصبا. وإن كانوا يمرون فيه، فليكن ارتفاعه إلى حد يمر فيه المحمل مع الكنيسة فوقه على البعير، لانه وإن كان نادرا، فإنه قد يتفق. ولا تشترط زيادة على هذا، على الصحيح. وقال أبو عبيد بن حربويه: يشترط أن يكون بحيث يمر الراكب تحته منصوب الرمح. واتفق الاصحاب على تضعيف قوله، لان وضع الرمح على الكتف، ليس بعسير. ويجوز لكل أحد أن يفتح الابواب من ملكه إلى الشارع كيف شاء. وأما نصب الدكة وغرس الشجرة، فإن كان يضيق الطريق ويضر بالمارة، منع، وإلا، فوجهان. أحدهما: الجواز، كالجناح الذي لا يضر بهم. وأصحهما، وبه قطع العراقيون واختاره الامام: المنع. ولا يجوز أن يصالح عن إشراع الجناح على شئ، سواء صالح الامام، أو غيره، وسواء ضر بالمارة، أم لا. ولو أشرع جناحا لاضرر فيه، فانهدم، أو(3/439)
هدمه، فأشرع رجل آخر جناحا في محاذاته لا تمكن معه إعادة الاول، جاز، كما لو قعد في طريق واسع ثم انتقل عنه، ويجوز لغيره الارتفاق به، هكذا قاله الاصحاب. ولك أن تقول: المرتفق بالقعود للمعاملة لا يبطل حقه بمجرد الزوال عن ذلك الموضع، وإنما يبطل بالسفر والاعراض عن الحرفة. فقياسه أن لا يبطل هنا بمجرد الهدم والانهدام، بل يعتبر إعراضه عن إعادته. قلت: إن ما قاسه كثيرون على ما إذا وقف في الطريق، ثم فارق موقفه، أو قعد للاستراحة ونحوها فلا يرد إعتراض الامام الرافعي رحمه الله. قال أصحابنا: ولو أخرج جناحا تحت جناح من يحاذيه، لم يكن للاول منعه، إذ لا ضرر. ولو أخرج فوق جناح الاول، قال ابن الصباغ: إن كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق الجناح الاول، لم يمنع، وإلا، فله منعه. ولو أخرج مقابلا له، لم يمنع، إلا أن يعطل إنتفاع الاول. ولو كان الاول قد أخذ أكثر هواء الطريق، لم يكن لجاره مطالبته بتقصير جناحه ورده إلى نصف الطريق، لانه مباح سبق إليه. والله أعلم. واعلم أن الاكثرين، لم يتعرضوا في الاضرار الممنوع إلا للارتفاع، والانخفاض. وأما إظلام الموضع، فقال ابن الصباغ وطائفه: لا يؤثر، ومقتضى المعنى المذكور، ولفظ الشافعي رضي الله عنه، وأكثر الاصحاب، تأثيره. وقد صرح به منصور التميمي. وفي التتمة: إن انقطع الضوء كله، أثر، وإن نقص، فلا. فرع الشوارع التي في البلاد، والجواد الممتدة في الصحاري سواء في أنها منفكة عن الملك والاختصاص. والاصل فيها، الاباحة وجواز الانتفاع، إلا فيما يقدح في مقصودها هو الاستطراق. قال الامام: ومصير الموضع شارعا، له صورتان، إحداهما: أن يجعل الرجل ملكه شارعا وسبيلا مسبلا. والثانية: أن تجئ جماعة بلدة أو قرية، ويتركوا مسلكا نافذا بين الدور والمساكن، ويفتحوا إليه الابواب. ثم حكي عن شيخه، ما يقتضي صورة ثالثة، وهو أن يصير موضع من(3/440)
الموات جادة يستطرقها الرفاق، فلا يجوز تغييره. وإنه كان يتردد في بنيات الطرق التي يعرفها الخواص ويسلكونها. وكل موات، يجوز استطراقه، لكن لا يمنع أحد من إحيائه وصرف الممر عنه، بخلاف الشوارع. قلت: قال الامام: ولا حاجة إلى لفظ في مصير ما يجعل شارعا. قال: وإذا وجدنا جادة مستطرقة، ومسلكا مشروعا نافذا، حكمنا باستحقاق الاستطراق فيه بظاهر الحال، ولم نلتفت إلى مبدإ مصيره شارعا. وأما قدر الطريق، فقل من تعرض لضبطه، وهو مهم جدا، وحكمه، أنه إن كان الطريق من أرض مملوكة يسبلها صاحبها، فهو إلى خيرته، والافضل توسيعها. وإن كان بين أراض يريد أصحابها إحياءها، فإن اتفقوا على شئ، فذاك. وإن اختلفوا، فقدره سبع أذرع، هذا معنى ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الاختلاف في الطريق، أن يجعل عرضه سبع أذرع. ولو كان الطريق واسعا، لم يجز لاحد أن يستولي على شئ منه، وإن قل، يجوز عمارة ما حوله من الموات، ويملكه بالاحياء بحيث لا يضر بالمارة. ومن المهمات المستفادة، أن أهل الذمة يمنعون من إخراج الاجنحة إلى شوارع المسلمين النافذة. وإن جاز لهم استطراقها، لانه كإعلائهم على بناء المسلمين، أو أبلغ. هذا هو الصحيح، وذكر الشاشي في جوازه وجهين. ومن أخرج جناحا على وجه لا يجوز، هدم عليه. والله أعلم. القسم الثاني: الطريق الذي لا ينفذ، كالسكة المسدودة الاسفل، والكلام فيها ثلاثة أمور. الاول: إشراع الجناح، فلا يجوز لغير أهل السكة بلا خلاف، ولا لهم على(3/441)
الاصح الذي قاله الاكثرون إلا برضاهم، سواء تضرروا، أم لا. والثاني وهو قول الشيخ أبي حامد ومن تابعه: يجوز إذا لم يضر الباقين، فإن أضر ورضي أهل السكة جاز. ولو صالحوه على شئ، لم يصح بلا خلاف، لان الهواء تابع، فلا يفرد بالمال صلحا، كما لا يفرد به بيعا. وهكذا الحكم في صلح صاحب الدار عن الجناح المشرع إليها، ونعني بأهل السكة كل من له باب نافذ إليها دون من يلاصق جدار دار السكة من غير نفوذ باب. ثم هل الاشتراك في جميعها لجميعهم، أم شركة كل واحد تختص بما بين رأس السكة وباب داره ؟ وجهان. أصحهما: الاختصاص، لان ذلك هو محل تردده، وما عداه، فهو فيه كغير أهل السكة. وتظهر فائدة الخلاف على قول الاكثرين في منع إشراع الجناح إلا برضاهم. فإن شركنا الكل في الكل، جاز لكل واحد من أهل السكة المنع. وإن خصصنا، فإنما يجوز المنع لمن موضع الجناح بين بابه ورأس الدرب. وتظهر فائدته على قول الشيخ أبي حامد، في أن مستحق المنع إذا أضر الجناح: من هو ؟ لكنهم لم يذكروه. قول الرافعي: لم يذكروه، من أعجب العجب، فقد ذكره صاحب التهذيب، مع أن معظم نقل الرافعي منه ومن النهاية. والله أعلم. ولو اجتمع المستحقون فسدوا رأس السكة، لم يمنعوا منه، كذا قاله الجمهور. وقال أبو الحسن العبادي: يحتمل أن يمنعوا، لان أهل الشارع يفزعون إليه إذا عرضت زحمة. ولو امتنع بعضهم، لم يكن للباقين السد قطعا. ولو سدوا باتفاقهم، لم يستقل بعضهم بالفتح. ولو اتفقوا على قسمة صحن السكة بينهم، جاز. ولو أراد أهل رأس السكة قسمة رأسها بينهم، منعوا لحق من يليهم. ولو أراد الاسفل قسمته فوجهان، بناء على الاشتراك فيه، ثم ما ذكرناه من سد الباب وقسمة الصحن، مفروض فيما لو لم يكن في السكة مسجد. فإن كان فيها مسجد عتيق، أو جديد، منعو من السد والقسمة، لان المسلمين كلهم يستحقون الاستطراق إليه، ذكره ابن كج. وعلى(3/442)
قياسه، لا يجوز الاشراع عند الاضرار وإن رضي أهل السكة، لحق سائر المسلمين. الامر الثاني: فتح الباب، فليس لمن لا باب له في السكة إحداث باب إلا برضى أهلها كلهم. فلو قال: أفتح إليها بابا للاستضاءة دون الاستطراق، أو أفتحه وأسمره، فوجهان. أصحهما: عند أبي القاسم الكرخي: لايمنع. قلت: قل من بين الاصح من هذين الوجهين، ولهذا، اقتصر الرافعي على نسبة التصحيح إلى الكرخي. وممن صححه، صاحب البيان والرافعي في المحرر وخالفهم الجرجاني، والشاشي، فصححا المنع، وهو أفقه. والله أعلم. ولو كان له باب في السكة، وأراد أن يفتح غيره، فإن كان ما يفتحه أبعد من رأس السكة، فلمن الباب المفتوح بين داره ورأس السكة منعه، وفيمن داره بين الباب ورأس السكة، وجهان، بناء على كيفية الشركة كما سبق في الجناح. وإن كان ما يفتحه أقرب إلى رأس السكة، فإن سد الاول، جاز، وإلا، فكما إذا كان أبعد، لان الباب الثاني إذا انضم إلى الاول، أورث زيادة زحمة الناس ووقوف الدواب، فيتضررون به. وحكى في النهاية طريقة جازمة، بأن لا منع لمن يقع المفتوح بين داره ورأس السكة، لان الفاتح لا يمر عليهم. وهذا ينبغي أن يطرد فيما إذا كان المفتوح أبعد من رأس السكة. قلت: جزم صاحب الشامل بأنه إذا فتح بابا آخر أقرب إلى رأس السكة، ولم يسد الاول، جاز، ولا منع لاحد. وهذا وإن كان ظاهرا، فما نقله الامام أقوى. ولم يذكر الرافعي - فيما إذا كان المفتوح أبعد - حكم من بابه مقابل المفتوح، لا فوقه ولا تحته. وقد ذكر الامام، أنه كمن هو أقرب إلى رأس السكة، ففيه الوجهان. والله أعلم. وتحويل الميزاب من موضع إلى موضع، كفتح باب وسد باب.(3/443)
فرع لو كان له داران، ينفذ باب إحداهما إلى الشارع، والاخرى إلى سكة منسدة، فأراد فتح باب من إحداهما إلى الاخرى، لم يكن لاهل السكة منعه على الاصح. ولو كان باب كل واحدة في سكة غير نافذة، ففتح من إحداها إلى الاخرى، ففي ثبوت المنع لاهل السكتين، الوجهان، قاله الامام. وموضع الوجهين، ما إذا سد باب إحداهما، وفتح الباب لغرض الاستطراق. أما إذا قصد إتساع ملكه ونحوه، فلا منع قطعا. قلت: هذه العبارة فاسدة، فإنها توهم إختصاص الخلاف، بما إذا سد باب إحداهما، وذلك خطأ، بل الصواب، جريان الوجهين إذا بقي البابان نافذين، وكل الاصحاب مصرحون به. قال أصحابنا: ولو أراد رفع الحائط بينهما وجعلهما دارا واحدة، ويترك بابيهما على حالهما، جاز قطعا. وممن نقل إتفاق الاصحاب على هذا، القاضي أبو الطيب في تعليقه. فالصواب أن يقال: موضع الوجهين، إذا لم يقصد إتساع ملكه. وأما قوله: كذا نقله الامام، فإن الوجهين مشهوران جدا. وقوله الاصح: الجواز، تابع فيه صاحب التهذيب، وخالفه أصحابنا العراقيون، فنلقوا عن الجمهور، المنع. بل نقل القاضي أبو الطيب إتفاق الاصحاب على المنع. قال: وعندي أنه يجوز. والله أعلم. فرع حيث منعنا فتح الباب إلى السكة المنسدة، فصالحه أهل السكة بمال، جاز، بخلاف الجناح، لانه هناك بذل مال في مقابلة الهواء. قال في التتمة: ثم إن قدروا مدة، فهو إجارة. وإن أطلقوا، أو شرطوا التأبيد، فهو بيع جزء شائع من السكة، وتنزيل له منزلة أحدهم. كما لو صالح رجلا على مال ليجري في أرضه نهرا، كان ذلك تمليكا للنهر. ولصالحه بمال على فتح باب من داره إلى داره، صح، ويكون كالصلح عن إجراء الماء على سطحه، ولا يملك شيئا من الدار والسطح، لان السكة لا تراد إلا للاستطراق، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلا للملك.(3/444)
وأما الدار والسطح، فلا يقصد بهما الاستطراق وإجراء الماء. قلت: قال أصحابنا: لو كانت داره في آخر السكة المنسدة، فأراد نقل بابها إلى الوسط، ويجعل ما بين الباب وأسفل السكة دهليزا، فإن شركنا الجميع في جميع السكة، كان للباقين منعه، وإلا، فلا. والله أعلم. الامر الثالث: فتح المنافذ والكوات للاستضاءة، ولا منع منه بحال، لمصادفته الملك، بل له إزالة رفع الجدار، وجعل شباك مكانه. فرع قال الامام: لو فتح من لا باب له في السكة المنسدة بابا برضى أهلها، كان لاهلها الرجوع متى شاؤوا، ولا يلزمهم بالرجوع شئ، بخلاف ما لو أعار الارض للبناء والغراس، ثم رجع، فإنه لا يقلعه مجانا. وهذا لم أره لغيره. والقياس: أن لافرق. فرع قال الروياني: إذا كان بين داريه طريق نافذ، فحفر تحته سردابا من إحداهما إلى الاخرى، وأحكمه بالازج لم يمنع. قال: وبمثلها أجاب الاصحاب فيما إذا لم يكن نافذا، لان لكل أحد دخول هذا الزقاق، كاستطراق الدرب النافذ. قال: وغلط من قال بخلافه، وهذا اختيار منه لكونها في معنى الشارع، والظاهر خلافه. واعتذر الامام عن جواز دخولها بأنه من قبيل الاباحة المستفادة من قرائن الاحوال. قلت: هذا الذي ذكره الروياني - فيما كان الطريق نافذا - صحيح. وكذا صرح به القاضي أبو الطيب وغيره.(3/445)
وأما تجويزه ذلك - فيما إذا لم يكن الطريق نافذا - ونقله ذلك عن الاصحاب، فضعيف، ولا يوجد ذلك في كتب معظم الاصحاب، ولعله وجده في كتاب أو كتابين، فإني رأيت له مثل هذا كثيرا. وكيف كان، فهذا الحكم ضعيف، فإن الاصحاب مصرحون بأن الطريق في السكة المسدودة ملك لاصحاب السكة، وأنهم لو أرادوا سدها وجعلها مساكن، جاز، ونقل الامام إتفاق الاصحاب على هذا. وإذا ثبت إنها ملكهم، فالقرار تابع للارض كما يتبعها الهواء، فكما لا يجوز إخراج الجناح فوق أرضهم بغير رضاهم، كذا السرداب تحتها. والله أعلم. الفصل الثاني في الجدار الجدار بين المالكين قسمان. الاول: المختص. فهل للجار وضع الجذوع عليه بغير إذن مالكه ؟ قولان. القديم: نعم. ويجبر المالك إن امتنع، والجديد: لا، ولا يجبر. قلت: الاظهر: هو الجديد. وممن نص على تصحيحه، صاحب المهذب، والجرجاني، والشاشي، وغيرهم، وقطع به جماعة. والله أعلم. فعلى القديم: إنما يجبر بشروط. أحدها: أن لا يحتاج مالك الجدار إلى وضع جذوع عليه. والثاني: أن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدار، ولا يبني عليه أزجا، ولا يضع عليه ما يضر الجدار. والثالث: أن لا يملك شيئا من جدران البقعة التي يريد نسقيفها، أو لا يملك إلا جدارا، فإن ملك جدارين، فليسقف عليهما، وليس له إجبار صاحب الجدار، ولم يعتبر الامام هذا الشرط هكذا. بل قال: يشترط كون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت، ويحتاج رابعا. فأما إذا كان الكل للغير، فلا يضع قولا واحدا. قال: ولم يعتبر بعض الاصحاب هذا الشرط، واعتبر في التتمة مثل ما ذكره الامام، وحكى الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانبا أو جانبين. والمذهب: ما(3/446)
قدمناه. وإن قلنا بالجديد، فلا بد من رضى المالك. فإن رضي بلا عوض، فهو عارية، يرجع فيها قبل وضع الجذوع والبناء عليها قطعا، وبعده، على الاصح كسائر العواري. وإذا رجع، لا يتمكن من قلعه مجانا. وفي فائدة رجوعه وجهان. أصحهما: أنه يتخير بين أن يبقى بأجره، وبين أن يقلع، ويضمن أرش النقص، كما لو أعار أرضا للبناء. لكن في إعارة الارض خصلة ثالثة، وهي تملك البناء بقيمته، وليس لمالك الجدار ذلك، لان الارض أصل، فجاز أن يستتبع البناء، والجدار تابع، فلايستتبع. والثاني: ليس له إلا الاجرة، ولا يملك القلع أصلا، لان ضرر القلع يصل إلى ما هو خالص ملك المستعير، لان الجذوع إذا رفعت أطرافها، لم تستمسك على الجدار الباقي. والوجه الثاني: لا يملك الرجوع أصلا، ولا يستفيد به القلع، ولاطلب الاجرة للمستقبل، وبه قطع العراقيون، لان مثل هذه الاعارة، يراد بها التأبيد، فأشبه الاعارة لدفن ميت، فإنه لا ينبش ولا أجرة. فعلى هذا، لو رفع الجذوع صاحبها، أو سقطت بنفسها، لم يملك إعادتها بغير إذن جديد على الاصح. وكذا لو سقط الجدار فبناه مالكه بتلك الآلة، لان الاذن تناول مرة. فإن بناه بغير تلك الآلة، فلا خلاف أنه لا يعيد إلا بإذن جديد، لانه جدار آخر. قلت: الخلاف في جواز الاعادة بلا إذن. فلو منعه المالك، لم يعد بلا خلاف، إذ لا ضرر، كذا صرح به صاحب التتمة. وأشار القاضي أبو الطيب أو صرح بجريان الوجهين في جواز منعه، فقال في وجه: ليس له منعه لانه صار له حق لازم، هذا كله إذا وضع أولا بإذن. فلو ملكا دارين، ورأيا خشبا على الجدار، ولا يعلم كيف وضع، فإذا سقط الحائط، فليس له منعه، من إعادة الجذوع بلا خلاف، كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحب المهذب والشامل وآخرون، لانا حكمنا بأنه وضع بحق، وشككنا في المجوز للرجوع. ولو أراد صاحب الحائط نقضه، فإن كان مستهدما، جاز، وحكم إعادة جذوع ما سبق. وإن لم يكن مستهدما، لم يمكن من نقضه قطعا. والله أعلم. أما إذا رضي بعوض، فقد يكون على وجه البيع أو الاجارة، وسنتكلم فيهما(3/447)
إن شاء الله تعالى. ولو صالحه عنه على المال، لم يجز على قول الاجبار، لان من ثبت له حق، لا يجوز أخذ عوض من عليه، وإن قلنا لا، جاز، بخلاف الصلح عن الجناح، لانه هواء مجرد. القسم الثاني: المشترك، والكلام فيه ثلاثة أمور. الاول: الانتفاع به، فليس لاحد الشريكين أن يتد فيه وتدا، أو يفتح فيه كوة، أو يترب الكتاب بترابه بغير إذن شريكه، كسائر الاملاك المشتركة، لا يستقل أحد الشريكين بالانتفاع، ويستثنى من الانتفاع، ضربان. أحدهما: لو أراد أحدهما وضع الجذوع عليه، ففي إجبار شريكه، القولان، كالجار وأولى. ما لا تقع فيه المضايقة من الانتفاعات، فلكل واحد منهما الاستقلال به، كالاستناد وإسناد المتاع إليه، ويجوز في الجدار الخالص للجار مثله، وهو كالاستضاءة بسراج الغير، والاستظلال بجداره، فإنه جائز. ولو منع أحدهما الآخر من الاستناد، فهل يمتنع ؟ وجهان، لانه عناد محض. قلت: أصحهما: لا يمتنع. والله أعلم. ومن الضرب الثاني، ما إذا بنى في ملكه جدارا متصلا بالجدار المشترك، بحيث لا يقع ثقله عليه. الامر الثاني: قسمته، إما في كل الطول ونصف والعرض، وإما في نصف الطول وكل العرض، وليس المراد بالطول: إرتفاعه عن الارض، فإن ذلك سمك،(3/448)
وإنما طول الجدار: امتداده زاويته البيت إلى زاوته الاخرى مثلا، والعرض: هو البعد الثالث، فإذا كان طوله عشرة أذرع، وعرضه ذراعا، فقسمته في كل الطول ونصف العرض: أن يجعل لكل واحد نصف ذراع من العرض في طول عشرة أذرع. وقسمته بالعكس: أن يجعل لكل واحد خمسة أذرع طولا في عرض ذراع، أو أي واحدا من النوعين تراضيا عليه، جاز. لكن كيف يقسم ؟ وجهان. أحدهما: يعلم بعلامة وخط يرسم. والثاني: يشق وينشر بالمنشار. وينطبق على هذا الثاني ما ذكره العراقيون: أنهما لو طلبا من الحاكم القسمة بالنوع الاول، لم يجبهما، لان شق الجدار في الطول إتلاف له، وتضييع، ولكنهما يباشرانها بأنفسهما إن شاءا، وهو كما لو هدماه، واقتسما النقض. وإن طلب أحدهما القسمة، وامتنع الآخر، نظر، إن طلب النوع الاول، لم يجب إليه على الصحيح لما فيه من الاضرار. وقيل: يجاب ويجبر الممتنع، لكن لا يقسم بالقرعة، بل يخص كل واحد مما يليه. وإن طلب النوع الثاني، لم يجب إليه على الاصح. أما إذا انهدم الجدار وظهرت العرصة، أو كان بينهما عرصة جدار لم يبن عليها، فطلب أحدهما قسمتها بالنوع الثاني، يجاب قطعا. وإن طلبها بالنوع الاول، فإن قلنا في الجدار: إن طالب مثل هذه القسمة يجاب، ويخص كل واحد بالشق الذي يليه بغير قرعة، فكذا هنا. وإن قلنا هناك: لا يجاب، فهنا وجهان. أصحهما عند العراقيين وغيرهم: الاجابة. وإذا بنى الجدار وأراد تعريضه، زاد فيه من عرض بيته. الامر الثالث: العمارة، فإذا هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير إذن صاحبه لاستهدامه، أو لغيره، ففي التهذيب وغيره: أن النص إجبار الهادم على إعادته، وأن القياس: أنه يغرم نقضه ولا يجبر على البناء، لان الجدار ليس مثليا. قلت: قد ذكر صاحب التنبيه وسائر العراقيين وطائفة من غيرهم، فيما إذا استهدم، فهدمه أحدهما بلا إذن، طريقين. أصحهما: القطع بإجباره على إعادة مثله. والثاني: فيه القولان السابقان في الاجبار إبتداء، أحدهما عليه إعادة مثله، والثاني: لا شئ. وقطع إمام الحرمين في أواخر باب ثمرة الحائط يباع أصله بأن من هدمك حائط غيره عدوانا، يلزمه أرش ما نقص، ولا يلزمه بناؤه، لانه ليس بمثلي، والمذهب ما نص عليه. والله أعلم.(3/449)
ولو إنهدم الجدار بنفسه، أو هدماه معا لاستهدامه أو غيره، وامتنع أحدهما من العمارة، فقولان. القديم: إجباره عليها دفعا للضرر وصيانة للاملاك المشتركة عن التعطيل. والجديد: لا إجبار، كما لا يجبر على زرع الارض المشتركة، ولان الممتنع يتضرر أيضا بتكليفه العمارة. ويجري القولان في النهر، والقناة، والبئر المشتركة، إذا امتنع أحدهما من التنقية والعمارة. قلت: لم يبين الامام الرافعي الاظهر من القولين، وهو من المهمات. والاظهر عند جمهور الاصحاب، هو جديد. ممن صرح بتصحيحه: المحاملي، والجرجاني، وصاحب التنبيه وغيرهم. وصحح صاحب الشامل القديم، وأفتى به الشاشي. وقال الغزالي في الفتاوى: الاقيس، أن يجبر. وقال: والاختيار، إن ظهر للقاضي أن امتناعه مضارة، أجبره. وإن كان لاعسار، أو غرض صحيح، أو شك فيه، لم يجبر. وهذا التفصيل الذي قاله، وإن كان أرجح من إطلاق القول بالاجبار، فالمختار الجاري على القواعد: أن لا إجبار مطلقا. والله أعلم. ولو كان علو الدار لواحد، وسفلها لآخر، فانهدمت، فليس لصاحب السفل إجبار صاحب العلو على معاونته في إعادة السفل وهل لصاحب العلو إجبار صاحب السفل على إعادته ليبني عليه ؟ فيه القولان. وقيل: القولان فيما إذا انهدم، أو هدما، فلا شرط. أما لو استهدم، فهدمه صاحب السفل بشرط الاعادة، فيجبر قطعا. ويجري القولان، فيما إذا طلب أحدهما اتخاذ سترة بين سطحيهما، هل يجبر الآخر على مساعدته ؟ قلت: قال أصحابنا: ويجريان فيما لو كان بينهما دولاب وتشعث واحتاج إلى(3/450)
إصلاحه. والله أعلم. فرع إذا قلنا بالقديم، فأصر الممتنع، أنفق الحاكم عليه من ماله. فإن لم يكن له مال، اقترض عليه، أو أذن الشريك في الانفاق عليه، ليرجع على الممتنع. فلو استقل به للشريك، فلا رجوع على المذهب. وقيل: قولان. القديم: نعم. والجديد: لا. وقيل: يرجع في القديم. وفي الجديد، قولان وقيل: إن لم يمكنه عند البناء مراجعة الحاكم، رجع، وإلا، فلا. ثم إذا بناه، إن كان بالآلة القديمة، فالجدار بينهما كما كان. والسفل في الصورة الاخرى لصاحبه كما كان، وليس لصاحب العلو نقضه ولا منعه من الانتفاع بملكه. وإن بناه بآلة من عنده، فالمعاد ملكه، وله نقضه. فلو قال الشريك: لا تنقض وأغرم لك نصف القيمة، لم يجز له النقض، لانا على هذا القول نجبر الممتنع على ابتداء العمارة، فالاستدامة أولى. فرع إذا قلنا بالجديد، فأراد الطالب الانفراد بالعمارة، نظر، إن أرادها بالنقض المشترك، أو أراد صاحب العلو إعادة السفل بنقض صاحب الاسفل، أو بآلة مشتركة، فللآخر منعه. وإن أراد بناءه بآلة من عنده، فله ذلك ليصل إلى حقه. ثم المعاد ملكه، يضع عليه ما شاء، وينقضه إذا شاء. فلو قال شريك الجدار: لا تنقض لاغرم لك نصف القيمة، أو قال صاحب السفل: لا تنقض لاغرم لك القيمة، لم يلزمه إجابته على هذا القول كابتداء العمارة. ولو قال صاحب السفل: انقض ما أعدته لابنيه بآلة نفسي. فإن كا طالبه بالبناء، فامتنع، لم يجبره، وإن لم يطالبه وقد بنى علوه، لم يجب، لكن له أن يتملك السفل بالقيمة،(3/451)
ذكره في التهذيب، وإن لم يبن عليه العلو، أجيب صاحب السفل، ومتى بنى بآلة نفسه، فله منع صاحبه من الانتفاع بالمعاد، بفتح كوة وغرز وتد ونحوهما، وليس له منع صاحب السفل من السكون على الصحيح، لان العرصة ملكه. ولو أنفق على البئر والنهر، فليس له منع الشريك من الانتفاع بالماء لسقي الزرع وغيره، وله منعه من الانتفاع بالدولاب والبكرة المحدثين. ولو كان للممتنع على الجدار المنهدم جذوع، فأراد إعادتها بعد أن بناه الطالب بآلة نفسه، لزمه تمكينه، أو نقض ما أعاد ليبني معه الممتنع، ويعيد جذوعه. فرع لو تعاونا على إعادة الجدار المشترك بنقضه، بقي على ما كان. فلو شرطا زيادة لاحدهما، لم يصح على الصحيح. وفي وجه: يصح، لتراضيهما. فلو انفرد أحدهما بالبناء بالنقض المشترك بإذن شريكه، بشرط أن يكون له الثلثان، جاز، ويكون السدس الزائد في مقابلة عمله في نصيب الآخر، هكذا أطلقوه. واستدرك الامام فقال: هذا مصور فيما إذا شرط له سدس النقض في الحال، لتكون الاجرة عتيدة. فأما إذا شرط السدس الزائد له بعد البناء، فلا يصح، لان الاعيان لا تؤجل. ولو بناه أحدهما بآلة نفسه بإذن الآخر، بشرط أن يكون ثلثا الجدار له، فقد قابل ثلث الآلة المملوكة له، وعمله فيه بسدس العرصة المبني عليها. وفي صحة هذه المعاملة قولان، لجمعها بيعا وإجارة. وشرط صحتها: معرفة الآلات وصفة الجدار، ويعود النظر في شرط ثلث النقض في الحال، أو بعد البناء. فرع إذا كان له حق إجراء ماء في ملك غيره، فانهدم، لم يجب على مستحق الاجراء مشاركته في العمارة، لانها تتعلق بالآلات وهي لمالكها. وإن كان الانهدام بسبب الماء، فلا عمارة عليه أيضا. قال الامام: وفيه احتمال، لكن الظاهر، أن لا عمارة عليه، لان الانهدام تولد من مستحق.(3/452)
الفصل الثالث في السقف فإذا كان السفل لرجل، والعلو لرجل، فقد يكون السقف بين ملكيهما مشتركا، وقد يكون لاحدهما. وحكم القسمين في الانتفاع، يخالف حكمهما في الجدار، فيجوز لصاحب العلو، الجلوس ووضع الاثقال عليه على العادة، ولصاحب السفل الاستكنان به، وتعليق ما ليس له ثقل يتأثر به السقف، كالثوب ونحوه قطعا. وفي غيره، أوجه. أحدها: لا يجوز أصلا. والثاني: يجوز ما لا يحتاج إلى إثبات وتد في السقف. وأصحها: يجوز مطلقا على العادة بلا فرق بين ما يحتاج إلى وتد وغيره. قال الشيخ أبو محمد: فإن قلنا: ليس له إثبات الوتد والتعليق فيه، فليس لصاحب العلو غرز الوتد في الوجه الذي يليه. وإن جوزناه له، ففي جوازه لصاحب العلو وجهان، لندور حاجته، بخلاف التعليق. فرع إذن المالك لغيره في البناء على ملكه، قد يكون بغير عوض، وهو الاعارة، وقد يكون بعوض. فمن صوره، أن يكري أرضه، أو رأس جداره، أو سقفه، مدة معلومة بأجرة معلومة، فيجوز، وسبيله سبيل سائر الاجارات. ومنها أن يأذن فيه بصيغة البيع، ويبين الثمن، وهو صحيح، خلافا للمزني رحمه الله. ثم يتصور ذلك بعبارتين. إحداهما: أن يبيع سطح البيت أو علوه للبناء عليه بثمن معلوم. والثانية: أن يبيع حق البناء على ملكه. والاولى، هي عبارة الشافعي رضي الله عنه وجماهير الاصحاب. والثانية: عبارة الامام، والغزالي، رحمهما الله تعالى. والاشبه: أن المراد منهما شئ واحد. ثم في حقيقة هذا العقد، أوجه. أحدها أنه بيع ويملك المشتري به مواضع رؤوس الجذوع. والثاني: أنه إجارة. وإنما لم يشرط تقدير المدة، لان العقد الوارد على المنفعة، تتبع فيه الحاجة. فإذا اقتضت التأبيد، أبد، كالنكاح. وأصحهما: أنه ليس بيعا ولا إجارة محضين، بل فيه شبههما، لكونه على منفعة، لكنها مؤبدة. فإذا قلنا: ليس بيعا، فعقده بلفظ الاجارة، ولم يتعرض لمدة، انعقد أيضا على الاصح، كما ينعقد بلفظ الصلح، لانه كما يوافق البيع في التأبيد، يوافقها في المنفعة. وإذا جرت هذه المعاملة، وبنى المشتري عليه، لم يكن للبائع أن يكلفه النقص ليغرم له(3/453)
أرش النقض. ولو انهدم الجدار أو السقف بعد بناء المشتري عليه وإعادة مالكه، فللمشتري إعادة البناء بتلك الآلات أو بمثلها. ولو انهدم قبل البناء، فللمشتري البناء عليه إذا أعاده. وهلل يجبره على إعادته ؟ فيه الخلاف السابق. ولو هدم صاحب السفل أو غيره السفل قبل بناء المشتري، فعلى الهادم قيمة حق البناء للمشتري، لانه حال بينه وبين حقه. فلو أعيد السفل، استرد الهادم القيمة لزوال ا لحيلولة. ولو كان الهدم بعد البناء، فالقياس أن يقال: إن قلنا: إن من هدم جدار غيره، يلزمه إعادته، لزمه إعادة السفل والعلو. وإن قلنا: عليه أرش النقص، فعليه أرش نقص الآلات، وقيمة حق البناء للحيلولة. وبالجملة لا ينفسخ هذا العقد بعارض هدم وانهدام، لالتحاقه بالبيوع. فرع سواء جرى الاذن في البناء بعوض أو بغيره، يجب بيان قدر الموضع المبني عليه طولا وعرضا، ويجب مع ذلك إن كان البناء على الجدار أو السطح، بيان سمك البناء وطوله وعرضه، وكون الجدران منضدة أو خالية الاجواف، وكيفية السقف المحمول عليه، لان الغرض يختلف بذلك. وفي وجه: يكفي إطلاق ذكر البناء، ويحمل على ما يحتمله المبني عليه، ولا يشترط التعرض لوزن ما يبنيه على الصحيح، لان التعريف في كل شئ بحسبه. ولو كانت الآلات حاضرة، أغنت مشاهدتها عن كل وصف. وإذا أذن في البناء على أرضه، لم يجب ذكر سمك البناء وكيفيته على الصحيح، لان الارض تحتمل كل شئ. فرع ادعى بيتا في يد رجل، فأقر، وتصالحا على أن يبني المقر على سطحه، جاز وقد أعاره المقر له سطح بيته للبناء. ولو تنازعا في سفله، واتفقا على كون العلو للمدعى عليه، فأقر له بما ادعى، وتصالحا على أن يبني المدعي على السطح، ويكون السفل للمدعى عليه، جاز، وذلك بيع السفل بحق البناء على العلو. فصل من احتاج إلى إجراء ماء المطر من سطحه على سطح غيره، أو إجراء ماء في أرض رجل، لم يكن له إجبار صاحب السطح والارض على المذهب. وحكي قول قديم: أنه يجبر، وهو شاذ. فإن أذن فيه بإجارة، أو إعارة،(3/454)
أو بيع، جاز. ثم في السطح لا بد من بيان الموضع الذي يجري عليه الماء، والسطوح التي ينحدر الماء إليه منها. ولا بأس بالجهل بقدر ماء المطر، لانه لا يمكن معرفته، وهذا عقد جوز للحاجة. وإذا أذن وبين، ثم بنى على سطحه ما يمنع الماء، فإن كان عارية، فهو رجوع، وإن كان بيعا أو إجارة، فللمشتري أو المستأجر نقب البناء وإجراء الماء فيه. وأما في الارض، فقال في التهذيب: لا حاجة في العارية إلى بيان، لانه إذا شاء رجع، والارض تحتمل ما تحتمل. وإن أجر، وجب بيان موضع الساقية وطولها وعرضها وعمقها، وقدر المدة. قال في الشامل: ويشترط كون الساقية محفورة. وإذا استأجر، لا يملك الحفر. وإن باع، وجب بيان الطول والعرض. وفي العمق وجهان، بناء على أن المشتري، يملك موضع المجرى، أم لا يملك إلا حق الاجراء ؟ ومقتضى كلام الاصحاب ترجيح الاول. هذا إذا كان لفظ البيع: بعتك مسيل الماء. فإن قال: حق مسيل الماء، فهو كبيع حق البناء، ويجئ في حقيقة العقد ما سبق في بيع حق البناء. وفي المواضع كلها، ليس له دخول الارض بغير إذن مالكها، إلا أن يريد تنقية النهر، وعليه أن يخرج من أرضه ما يخرجه من النهر. فرع المأذون له في إجراء ماء المطر، ليس له إلقاء الثلج، ولا أن يترك الثلج حتى يذوب ويسيل إليه، ولا أن يجري فيه ما يغسل به ثيابه وأوانيه، بل لا يجوز أن يصالح على ترك الثلوج على سطحه ولا إجراء الغسالات على مال، لان الحاجة لا تدعو إليه. وفي الاول، ضرر ظاهر. وفي الثاني، جهالة. والمأذون له في إلقاء الثلج، ليس له إجراء الماء. فرع تجوز المصالحة على قضاء الحاجة في حش غيره على مال، وكذا على جمع الزبل والقمامة في ملكه، وهي إجارة يراعى فيها شرائطها، وكذا المصالحة على البيتوتة على سطح. فلو باع مستحق البيتوتة منزله، فليس للمشتري أن يبيت عليه، بخلاف ما إذا باع مستحق إجراء الماء على غيره مدة [ بقاء ] داره، فإن المشتري يستحق الاجراء بقية المدة، لان الاجراء من مرافق الدار، بخلاف البيتوتة.(3/455)
فرع لو خرجت أغصان شجرة إلى هواء ملك جاره، فللجار مطالبته بإزالتها. فإن لم يفعل، فله تحويلها عن ملكه. فإن لم يمكن، فله قطعها، ولا يحتاج فيه إلى إذن القاضي، وفيه وجه ضعيف. فلو صالحه على إبقائها بعوض، لم يصح إن لم يستند الغصن إلى شئ، لانه اعتياض عن مجرد الهواء. وإن استند إلى جدار، فإن كان بعد الجفاف، جاز، وإن كان رطبا، فلا، لانه يزيد ولا يعرف قدر ثقله وضرره. فقال طائفة من أصحابنا البصريين: يجوز، وما ينمى يكون تابعا. والاول أصح. وانتشار العروق، كانتشار الاغصان. وكذلك ميل الجدار إلى هواء الجار، قاله الاصطخري.
الباب الثالث في التنازع فيه مسائل. الاولى: إذا ادعى على رجلين دارا في يدهما، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، ثبت له النصف بإقرار المصدق، والقول قول المكذب. فلو صالح المدعي المقر على مال، وأراد المكذب أخذها بالشفعة، ففيه طريقان. أحدهما، قول الشيخ أبي حامد وجماعة: إن ملكاها في الظاهر بسببين مختلفين، فله ذلك، لانه لا تعلق لاحد الملكين بالآخر. وإن ملكا بسبب واحد، من إرث، أو شراء، فوجهان. أحدهما: المنع، لانه زعم أن الدار ليست للمدعي، وأن الصلح باطل. وأصحهما: يأخذ، لانا حكمنا في الظاهر بصحة الصلح. ولا يبعد انتقال ملك أحدهما فقط وإن ملكا بسبب. و الطريق الثاني، قاله ابن الصباغ: إن اقتصر المكذب على قوله: لا شئ لك في يدي، أو لا يلزمني تسليم شئ إليك، أخذ. وإن قال مع ذلك: وهذه الدار ورثناها، ففيه الوجهان. وهذا الطريق، أقرب، مع أن قوله: ورثناها، لا يقتضي بقاء نصيب الشريك في ملكه، بل يجوز انتقاله إلى المدعي. فالاختيار: أن يقطع بجواز الاخذ، إلا أن يقول: إن الشريك مالك في الحال.(3/456)
قلت: هذا الذي اختاره، هو الصواب، وقد قطع به هكذا القاضي أبو الطيب في تعليقه. والله أعلم. المسألة الثانية: ادعى رجلان دارا في يد رجل، فأقر لاحدهما بنصفها، نظر، إن ادعياها إرثا ولم يتعرضا لقبض، شارك صاحبه فيما أخذه، لان التركة مشتركة، فالحاصل منها مشترك. وإن قالا: ورثناها وقبضناها، ثم غصبناها، لم يشاركه على الصحيح وقول الاكثرين. فإن ادعيا ملكا بشراء أو غيره، فإن لم يقولا: اشترينا معا، فلا مشاركة. وإن قالا: اشترينا معا، أو اتهبنا معا، وقبضنا معا، فوجهان. أصحهما: أنه كالارث. والثاني: لا مشاركة. فلو لم يتعرضا لسبب الملك، فلا مشاركة قطعا، نص عليه في المختصر. وحيث شركنا في هذه الصور، فصالح المصدق المدعى عليه على مال، فإن كان بإذن الشريك، صح، وإلا، فباطل في نصيب الشريك. وفي نصيبه قولا تفريق الصفقة. وقيل: يصح في جميع المقر به لتوافق المتعاقدين، وهضعيف. ولو ادعيا دارا في يده، فأقر لاحدهما بجميعها، فإن وجد من المقر له في الدعوى ما يتضمن إقرارا لصاحبه، بأن قال: هذه الدار بيننا، ونحو ذلك، شاركه. وإن لم يوجد، بل اقتصر على دعوى النصف، نظر، إن قال بعد إقرار المدعى عليه بالكل: الجميع لي، سلم الجميع له، ولا يلزم من ادعائه النصف أن لا يكون الباقي له، ولعله ادعى النصف، لكون البينة ما تساعده على غيره، أو يخاف الجحوالكلي. وإن قال: النصف الآخر لصاحبي، سلم لصاحبه. وإن لم يثبته لنفسه، لا لرفيقه، فهل يترك في يد المدعى عليه، أم يحفظه القاضي، أم يسلم إلى رفيقه ؟ فيه أوجه، أصحها: أولها. الثالثة: تداعيا جدارا حائلا بين ملكيهما، فله حالان. أحدهما: أن يكون متصلا ببناء أحدهما دون الآخر اتصالا لا يمكن إحداثه(3/457)
بعد بنائه، فيرجح جانبه. وصورته: أن يدخل نصف لبناء الجدار المتنازع فيه في جداره الخاص، ونصف جداره الخاص في المتنازع فيه، ويظهر ذلك في الزوايا. وكذلك لو كان لاحدهما عليه أزج لا يمكن إحداثه بعد بناء الجدار بتمامه، بأن أميل من مبدإ ارتفاعه عن الارض قليلا. وإذا ترجح جانبه، حلف وحكم له بالجدار، إلا أن تقوم بينة على خلافه. ولا يحصل الرجحان بوجود الترصيف المذكور في مواضع معدودة من طرف الجدار، لامكان إحداثه بعد بناء الجدار بنزع لبنة ونحوها، وإدراج أخرى. ولو كان الجدار المتنازع فيه مبنيا على خشبة طرفها في ملك أحدهما، وليس منها شئ في ملك الآخر، فالخشبة لمن طرفها في ملكه، والجدار المبني عليها تحت يده ظاهرا، قال الامام: ولا يخلو من احتمال. الحال الثاني: أن يكون متصلا ببنائهما جميعا، أو منفصلا عنهما، فهو في أيديهما، فإن أقام أحدهما بينة، قضي له، وإلا، فيحلف كل واحد منهما للآخر. فإذا حلفا، أو نكلا، جعل الجدار بينهما بظاهر اليد. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قضى للحالف بالجميع. وهل يحلف كل واحد على النصف الذي يحصل له، أم على الجميع لانه ادعاه ؟ وجهان. أصحهما: الاول. قال الشافعي رضي الله عنه: ولا أنظر إلى من إليه الدواخل والخوارج، ولا أنصاف اللبن، ولا معاقد القمط معناه: لا أرجح بشئ منها. قال المفسرون لكلامه: المراد بالخوارج: الصور، والكتابة المتخذة في ظاهر الجدار. وبالدواخل: الطاقات، والمحاريب في باطن الجدار. وبأنصاف اللبن: أن يكون الجدار من لبنات مقطعة، فتجعل الاطراف الصحاح إلى جانب، ومواضع الكسر إلى جانب. ومعاقد القمط، تكون في الجدار المتخذ من قصب أو(3/458)
حصير ونحوهما. وأغلب ما يكون ذلك، في الستر بين السطوح، فيشد بحبال، أو خيوط. وربما جعل عليها خشبة معترضة، فيكون العقد من جانب، والوجه المستوي من جانب. ولو كان لاحدهما عليه جذوع، لم يرجح، لانه لا يدل على الملك، كما لو تنازعا دارا في يدهما ولاحدهما فيها متاع، فإذا حلفا، بقيت الجذوع بحالها، لاحتمال أنها وضعت بحق. الرابعة: السقف المتوسط بين سفل أحدهما وعلو الآخر، كالجدار بين ملكيهما، فإذا تداعياه، فإن لم يكن إحداثه بعد بناء العلو كالازج الذي لا يمكن عقده على وسط الجدار بعد امتداده في العلو، جعل في يد صاحب السفل، لاتصاله ببنائه على سبيل الترصيف. وإن أمكن بأن يكون السقف عاليا، فيثقب وسط الجدار، وتوضع رؤوس الجذوع في الثقب، فيصير البيت بيتين، فهو في أيديهما، لاشتراكهما في الانتفاع به. الخامسة: علو الخان أو الدار لاحدهما، والسفل للآخر، وتنازعا في العرصة أو الدهليز. فإن كان المرقى في الصدر، جعلت بينهما، لان لكل واحد يدا، وتصرفا بالاستطراق ووضع الامتعة وغيرهما. قال الامام: وكان لا يبعد أن يقال: ليس للعلو إلا الممر، وتجعل الرقبة للسفل. لكن لم يصر إليه أحد من الاصحاب. وإن كان المرقى في الدهليز أو الوسط، فمن أول الباب إلى المرقى، بينهما، وفيما وراءه، وجهان. أصحهما: لصاحب السفل، لانقطاع صاحب العلو عنه، واختصاص صاحب السفل يدا(3/459)
وتصرفا. والثاني: بينهما، لان صاحب العلو قد ينتفع به بوضع الامتعة فيه، وطرح القمامة. وإن كان المرقى خارجا، فلا تعلق لصاحب العلو بالعرصة بحال. ولو تنازعا المرقى وهو داخل، فإن كان منقولا كالسلم الذي يوضع ويرفع، فإن كان في بيت لصاحب السفل، فهو في يده، وإن كان في غرفة لصاحب العلو، ففي يده. وإن كان منصوبا في موضع المرقى، فنقل ابن كج عن الاكثرين: أنه لصاحب العلو، لعود منفعته إليه. وعن ابن خيران: أنه لصاحب السفل كسائر المنقولات. وهذا هو الوجه. وإن كان المرقى مثبتا في موضعه، كالسلم المسمر، والاخشاب المعقودة، فلصاحب العلو، لعود نفعه إليه. وكذا إن كان مبنيا من لبن أو آجر إذا لم يكن تحته شئ. فإن كان تحته بيت، فهو بينهما كسائر السقوف. وإن كان تحته موضع حب أو جرة، فالاصح: أنه لصاحب العلو. والثاني: أنه كما لو كان تحته بيت.(3/460)
كتاب الحوالة
أصلها مجمع عليه. ومن أحيل على ملئ استحب أن يحتال. ولا بد في وجودها من ستة أمور: محيل، ومحتال، ومحال عليه، ودين للمحتال على المحيل، ودين للمحيل على المحال عليه، ومراضاة بالحوالة بين المحيل والمحتال. ويشترط في صحتها أمور. منها ما يرجع إلى الدينين، ومنها ما يتعلق بالاشخاص الثلاثة.(3/461)
وفي حقيقة الحوالة، وجهان. أحدهما: أنها إستيفاء حق، كأن المحتال استوفى ما كان له على المحيل وأقرضه المحا عليه. إذ لو كانت معاوضة، لما جاز فيها التفرق قبل القبض إذا كانا ربويين. وأصحهما: أنها بيع، وهو المنصوص، لانها تبديل مال بمال. وعلى هذا، وجهان. أحدهما: أنها بيع عين بعين، وإلا، فيبطل، للنهي عن بيع دين بدين. والصحيح: أنها بيع دين بدين، واستثني هذا للحاجة. قال الامام وشيخه رحمهما الله: لا خلا ف في اشتمال الحوالة على المعنيين: الاستيفاء والاعتياض، والخلاف في أن أيهما أغلب ؟ أما شروطها فثلاثة. الاول: الرضى، فلا تصح إلا برضى المحيل والمحتال. وأما المحال عليه، فإن كان عليه دين للمحيل، لم يعتبر رضاه على الاصح. وإن لم يكن، لم يصح بغير رضاه قطعا. وبإذنه وجهان، بناء على أنها اعتياض أم استيفاء، إن قلنا: استيفاء، صح، وإلا، فلا. فإن صححنا، فوجهان. أحدهما: يبر المحيل بنفس الحوالة كسائر الحوالات. وأصحهما وبه قطع الاكثرون: لا يبرأ، بل قبوله ضمان مجرد. فإن قلنا: لا تصح هذه الحوالة، فلا شئ على المحال عليه. فإن تطوع وأداه، كان قضاء لدين غيره. وإن قلنا: يصح، فهو كما لو ضمن، فيرجع(3/462)
على المحيل إن أدى بإذنه، وكذا بغير إذنه على الاصح، لجريان الحوالة بإذنه، وفي رجوعه قبل الاداء، وجهان بناء على براءة المحيل. إن قلنا: يبرأ، فنعم، وإلا، فلا. وإذا طالب المحتال بالاداء، فله مطالبة المحيل بتخليصه. وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال ؟ وجهان، كالوجهين في مطالبة الضامن. ولو أبرأ المحتال، لم يرجع على المحيل بشئ. ولو قبضه المحتال ثم وهبه له، ففي الرجوع وجهان. قلت أصحهما: الرجوع. والله أعلم. ولو ضمن عنه ضامن، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال منه، أو من ضامنه. ولو أحال المحتال على غيره، نظر، إن أحاله على من عليه دين، رجع على محيله بنفس الحوالة، لحصول الاداء بها. وإن أحال على من لا دين عليه، لم يرجع (ما لم يرجع) عليه الذي أحال عليه.
فرع قد ذكرنا أن الرضى شرط. والمراد به: الايجاب والقبول. ولو قال المحتال: أحلني. فقال: أحلتك، ففيه الخلاف السابق في مثله في البيع. وقيل: ينعقد هنا قطعا، لان مبناها على الرفق والمسامحة. الشرط الثاني: أن يكون دينا لازما، أو مصيره إلى اللزوم. والدين، ضربان. لازم، وغيره. أما غيره، ففيه مسائل.(3/463)
إحداها: الثمن في مدة الخيار، تصح الحوالة به وعليه، على الاصح. فإن منعنا، ففي انقطاع الخيار به، وجهان. وإن جوزنا، فقطع الامام والغزالي: بأنه لا يبطل الخيار. فلو اتفق فسخ البيع، بطلت الحوالة، لانها إنما صحت لافضاء البيع إلى اللزوم. فإذا لم يفض، لم تصح. ومنقول الشيخ أبي علي واختياره، بطلان الخيار، لان مقتضى الحوالة اللزوم. فلو بقي الخيار، فات مقتضاها، فإن أبطلنا، فأحال البائع المشتري على ثالث، بطل خيارهما، لتراضيهما. وإذا أحال البائع رجلا على المشتري، لا يبطل خيار المشتري إلا إذا فرض منه قول ورضى. وأما الحوالة بالثمن بعد انقضاء الخيار، وقبل قبض المبيع، فالمذهب الذي عليه الجمهور: القطع بجوازها. وللمسعودي إشارة إلى منعها، لكونه غير مستقر. وقد اشتهر في كتب الاصحاب اشتراط استقرار ما يحال به وعليه. المسألة الثانية: إذا أحال السيد على مكاتبه بالنجوم، لم يصح على الاصح. وقال الحليمي: يصح. ولو أحال المكاتب سيده بالنجوم، صح على الاصح، وبه قطع الاكثرون. ولو كان للسيد عليه دين معاملة، فأحال عليه، بني على أنه لو عجز نفسه، هل يسقط ذلك الدين ؟ إن قلنا: لا، صحت، وإلا، فلا. قلت: الاصح: الصحة، وبه قطع صاحب الشامل. والله أعلم. الثالثة: مال الجعالة. القياس أن يجئ في الحوالة به وعليه، الخلاف المذكور في الرهن به، وفي ضمانه. وقطع المتولي بجوازها به وعليه بعد العمل، ومنعها قبله. قلت: قطع الماوردي بالمنع مطلقا. والله أعلم.(3/464)
قال المتولي: لو أحال من عليه الزكاة الساعي، جاز إن قلنا: هي استيفاء. وإن قلنا: اعتياض، فلا، لامتناع أخذ العوض عن الزكاة. الضرب الثاني: الدين اللازم، فتجوز الحوالة به وعليه، سواء اتفق الدينان في سبب الوجوب، أو اختلفا، بأن كان أحدهما ثمنا، والآخر أجرة، أو قرضا، أو بدل متلف. قلت: أطلق الامام الرافعي، أن الدين اللازم، تصح الحوالة به وعليه، واقتدى في ذلك بالغزالي، وليس كذلك، فإن دين السلم لازم، ولا تصح الحوالة به ولا عليه على الصحيح، وبه قطع الاكثرون. وحكي وجه في الحاوي والتتمة وغيرهما: أنه يجوز بناء على أنها استيفاء، وسبقت هذه المسألة في باب حكم المبيع قبل القبض. فكان ينبغي أن يقول: الدين المستقر، ليخرج هذا. والله أعلم.
فرع كل دين تجوز الحوالة به وعليه، فسواء كان مثليا كالاثمان والحبوب، أو متقوما كالثياب والعبيد. وفي وجه: يشترط كونه مثليا. ولا خلاف أنه يشترط العلم بقدر ما يحال به وعليه، وبصفتهما، إلا إذا أحال بابل الدية أو عليها، وصححنا الحوالة في المنقولات، فوجهان، أو قولان، بناء على جواز المصالحة والاعتياض عنها. والاصح: المنع، للجهل بصفتها.(3/465)
الشرط الثالث: اتفاق الدينين، فيشترط اتفاقهما جنسا، وقدرا، وحلولا، وتأجيلا، وصحة، وتكسرا، وجودة، ورداءة وفي وجه: تجوز الحوالة بالقليل على الكثير، وبالصحيح على المكسر، وبالجديد على الردئ، وبالمؤجل على الحال، وبالابعد أجلا على الاقرب، وكأنه تبرع بالزيادة. والصحيح: المنع. قال المتولي: ومعنى قولنا: هذه الحوالة غير صحيحة عند الاختلاف، أن الحق لا يتحول من الدراهم إلى الدنانير مثلا، لكنها لو جرت فهي حوالة على من لا دين عليه وسبق حكمها.
فصل الحوالة إذا جرت بشروطها، برئ المحيل من دين المحتال، وتحول الحق إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحال عليه من دين المحيل. حتى لو أفلس المحال عليه ومات، أو لم يمت، أو جحد وحلف، لم يكن للمحتال الرجوع إلى المحيل، كما لو أخذ عوضا عن الدين ثم تلف في يده. فلو شرط في الحوالة الرجوع بتقدير الافلاس، أو الجحود، فهل تصح الحوالة والشرط، أم الحوالة فقط ؟ أم لا يصحان ؟ فيه أوجه، هذا إذا طرأ الافلاس. فلو كان مفلسا حال الحوالة، فالصحيح المنصوص الذي عليه جمهور الاصحاب: أنه لا خيار للمحتال، سواء شرط يساره، أم أطلق. وفي وجه: يثبت خياره في الحالين، وفي وجه: يثبت إن شرط فقط. واختار الغزالي، الثبوت مطلقا، وهو خلاف المذهب.(3/466)
فرع صالح مع أجنبي عن دين على عين، ثم جحده الاجنبي وحلف، ففي عوده إلى من كان عليه الدين، وجهان. قال القاضي حسين: نعم. وأبو عاصم: لا. قلت: الاصح: قول القاضي. والله أعلم. فرع خرج المحال عليه عبدا. فإن كان لاجنبي وللمحيل دين في ذمته، صحت الحوالة، كما لو أحال على معسر، ويتبعه المحتال بعد العتق. وهل له الرجوع على المحيل ؟ فيه خلاف مرتب على ما إذا بان معسرا، وأولى بالرجوع. وإن كان عبدا للمحيل، فإن كان له في ذمته دين، بأن ثبت قبل ملكه، وقلنا: لا يسقط، فهو كما لو كان لاجنبي. وإن لم يكن له في ذمته دين، فهي حوالة على من لا دين عليه. فإن صححناها وجعلناها ضمانا، فهو ضمان العبد عن سيده بإذنه، وسيأتي بيانه في كتاب الضمان إن شاء الله تعالى. ولا يخفى حكمه لو كان لاجنبي ولم يكن للمحيل عليه دين. فصل إذا اشترى عبدا، وأحال البائع بالثمن على رجل، ثم علم بالعبد عيبا قديما، فرده بالعيب أو بالاقالة، أو التحالف، أو غيرها، ففي بطلان الحوالة، ثلاثة طرق. أحدها: البطلان. والثاني: لا. والثالث: على قولين. أظهرهما: البطلان، وهما مبنيان على أنها إستيفاء، أم بيع ؟ إن قلنا: إستيفاء بطلت، وإلا، فلا. قلت: المذهب: البطلان، وصححه في المحرر. والله أعلم. وسواء كان الرد بالعيب بعد قبض المبيع، أو قبله، على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: إنما الخلاف إذا كان بعده. فإن رد قبله، بطلت قطعا، لعدم تأكدها. وسواء كان الرد بعد قبض المحتال مال الحوالة أم قبله على الاصح، وهو إختيار الاكثرين. وقال العراقيون والشيخ أبو علي: إن كان بعده، لم تبطل قطعا، وإنما الخلاف قبله. ولو أحال البائع رجلا على المشتري بالثمن، فقيل: فيه(3/467)
القولان، والمذهب: أنها لا تبطل قطعا، وبه قطع الجمهور، سواء قبض المحتال مال الحوالة، من المشتري، أم لا. والفرق، أن هنا تعلق الحق بثالث، فإذا القولان مخصوصان بالصورة الاولى، فنفرع عليهما. فإن لم نبطلها، لم يطالب المشتري المحال عليه بحال، بل يرجع على البائع فيطالبه إن كان قبض مال الحوالة، ولا يتعين حقه في ما أخذ، بل له إبداله. وإن لم يقبضه، فله قبضه. وهل للمشتري الرجوع عليه قبل قبضه لكون الحوالة كالمقبوض، أم لا، لعدم حقيقة القبض ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فعلى هذا له مطالبته بتحصيل القبض ليرجع عليه. وفي وجه: لا يملك مطالبته بالتحصيل أيضا، وهو شاذ ضعيف. وأما إذا أبطلنا الحوالة، فإن كان قبض من المحال عليه، فليس له رده عليه، لان قبضه بإذن المشتري. فلو رد، لم يسقط عنه مطالبة المشتري، بل يلزمه الرد على المشتري، ويتعين حقه فيما قبضه. فإن كان تالفا، لزمه بدله، وإن لم يكن قبضه، فليس له قبضه، لانه عاد إلى ملك المشتري كما كان فلو خالف وقبض، لم يقع عنه وفي وقوعه عن المشتري، وجهان. أحدهما: يقع، لبقاء الاذن. وأصحهما: لا، لعدم الحوالة والوكالة، ولانه إنما يقبض لنفسه، ولم يبق له حق، بخلاف ما إذا فسدت الشركة والوكالة، فإن التصرف يصح، لبقاء الاذن، لكن التصرف يقع للموكل. أما في صورة إحالة البائع على المشتري، إذا قلنا بالمذهب: إنها لا تبطل، فإن كان المحتال قبض من المشتري، رجع المشتري على البائع، وإن لم يقبض، فهل للمشتري الرجوع في الحال، أم لا يرجع إلا بعد القبض ؟ فيه الوجهان السابقان. فرع قال ابن الحداد: إذا أحالها بصداقها، ثم طلقها قبل الدخول، لم تبطل الحوالة، وللزوج مطالبتها بنصف المهر. قال من شرح كتابه: المسألة تترتب على ما إذا أحال المشتري البائع. فإن لم تبطل هناك، فهنا أولى، وإلا ففي بطلانها في نصف الصداق، وجهان. والفرق أن الطلاق سبب حادث، لا يستند إلى ما تقدم، بخلاف الفسخ، ولان الصداق أثبت من غيره. ولو أحالها ثم انفسخ النكاح بردتها، أو بفسخ أحدهما بعيب، لم تبطل الحوالة على الاصح أيضا، ويرجع الزوج عليها في صورة الطلاق بنصف الصداق، وبجميعه في الردة والفسخ. وإذا قلنا بالبطلان، فليس له مطالبة المحال عليه، ويطالب الزوج بالنصف في الطلاق.(3/468)
فرع باع عبدا وأحال بثمنه على المشتري، ثم تصادق المتبايعان على أنه حر الاصل. فإن وافقهما المحتال، أو قامت بينة بحريته، بطلت الحوالة، لبطلان البيع، فيرد المحتال ما أخذه على المشتري، ويبقى حقه كما كان، وهذه البينة يقيمها العبد، أو يشهدون حسبة. ولا يتصور أن يقيمها المتبايعان، لانهما كذباها بدخولهما في البيع. وإن كذبهما المحتال، ولا بينة، فلهما تحليفه على نفي العلم، فإذا حلف، بقيت الحوالة في حقه، وله أخذ المال من المشتري. وهل يرجع المشتري على البائع لانه قضى دينه بإذنه ؟ أم لا، لانه يقول: ظلمني المحتال بما أخذ، والمظلوم لا يطالب غير ظالمه ؟ قال في التهذيب بالثاني. وقال الشيخ أبو حامد، وابن كج، وأبو علي بالاول فعلى هذا، يرجع إذا دفع المال إلى المحتال. وفي رجوعه قبله، الوجهان السابقان. وإن نكل المحتال، حلف المشتري. ثم إن جعلنا اليمين المردودة كالاقرار، بطلت الحوالة. وإن جعلناها كالبينة، فهو كما لو حلف، لانه ليس للمشتري إقامة البينة. ثم ما ذكرناه في إقرار المحتال وقيام البينة، من بطلان الحوالة، مفروض فيما إذا وقع التعرض، لكون الحوالة بالثمن. فإن لم تقع، وزعم البائع أن الحوالة عليه بدين آخر له على المشتري. فإن أنكر المشتري أصل الدين، فالقول قوله مع يمينه. وإن(3/469)
صدقه وأنكر الحوالة به، فإن لم نعتبر رضى المحال عليه، فلا عبرة بإنكاره. وإن اعتبرناه، فهل القول قول مدعي صحة الحوالة، أو فسادها ؟ فيه الخلاف في نظائرها. فصل إذا كان لزيد عليك مائة، ولك على عمرو مائة، فوجد زيد منك ما يجوز له قبض مالك على عمرو، فله صورتان. إحداها: أن تقول لزيد: وكلتك لتقبضه لي، وقال: بل أحلتني عليه 2 (212)، فينظر، إن اختلفتما في أصل اللفظ، فزعمت الوكالة بلفظها، وزعم زيد الحوالة بلفظها، فالقول قولك مع يمينك عملا بالاصل. وإن اتفقتما على جريان لفظ الحوالة، وزعمت أنك أردت به تسليطه بالوكالة، فوجهان. أصحهما: القول قولك، وبه قال أكثر الاصحاب. وقال ابن سريج: القول قول زيد مع يمينه. وقطع به القاضي حسين. قال الائمة: وموضع الوجهين أن يكون اللفظ الجاري بينكما: أحلتك بمائة على عمرو. فأما إذا قلت بالمائة التي لك علي على عمرو، فهذا لا يحتمل إلا حقيقة الحوالة، فالقول قول زيد قطعا. فإن قلنا: القول قول زيد، فحلف، ثبتت الحوالة وبرئت. وإن قلنا: القول قولك في الصورة الاولى أو الثانية على الاصح، فحلفت، نظر، هل قبض زيد من عمرو، أم لا ؟ فإن قبض، برئت ذمة عمرو، لدفعه إلى وكيل أو محتال. وفي وجه: لا يبرأ في صورة اتفاقكما على لفظ الحوالة. والصحيح: الاول. ثم ينظر، فإن كان المقبوض باقيا، لزمه تسليمه إليك. وهل له مطالبتك بحقه ؟ وجهان. أحدهما: لا، لاعترافه ببرأتك بدعوى الحوالة. وأصحهما: نعم، لانه إن كان وكيلا، فظاهر. وإن كان محتالا، فقد استرجعت منه ظلما، فلا يضيع حقه والوجهان، في الرجوع ظاهرا. فأما بينه وبين الله تعالى، فإنه إذا لم يصل إلى حقه عندك، فله إمساك المأخوذ، لانه ظفر بجنس حقه من مالك وأنت ظالمه. وإن كان المقبوض تالفا، فقد قطع الاكثرون، بأنه لا يضمن إذا لم يكن التلف بتفريط، لانه وكيل في زعمك، والوكيل أمين، وليس له مطالبتك، لانه استوفى بزعمه. وقال في التهذيب: يضمن، لانه ثبتت وكالته. والوكيل، إذا أخذ المال لنفسه، ضمن. أما إذا لم يقبض زيد من عمرو، فليس له القبض بعد حلفك، لان الحوالة اندفعت وصار معزولا عن الوكالة بانكاره، ولك مطالبة عمرو بحقك. وهل لزيد مطالبتك بحقه ؟ فيه الوجهان فيما إذا قبض(3/470)
وسلم إليك، قال صاحب البيان: ينبغي أن لا يطالبك هنا قطعا، لاعترافه بأن حقه على عمرو، وأن ما قبضته أنت من عمرو، ليس حقا له، بخلاف ما إذا قبض، فإن حقه تعين في المقبوض، فإذا أخذته، أخذت ماله. الصورة الثانية: أن تقول لزيد: أحلتك على عمرو، فيقول: بل وكلتني بقبض ما عليه، وحقي باق. ويظهر تصوير هذا الخلاف عند إفلاس عمرو. فينظر، إن اختلفتما في أصل اللفظ، فالقول قول زيد مع يمينه. وإن اتفقتما على لفظ الحوالة، جرى الوجهان السابقان في الصورة الاولى على عكس ما سبق. فعلى قول ابن سريج، القول قولك، مع اليمين، وعلى قول الاكثرين، القول قول زيد مع يمينه. فإن قلنا: قولك، فحلفت، برئت من دين زيد، ولزيد مطالبة عمرو، إما بالوكالة، وإما بالحوالة، وما يأخذه يكون له، لانك تقول: إنه حقه، وعلى زعمه هو لك، وحقه عليك، فيأخذه بحقه. وحيث قلنا: القول قول زيد، فحلف، فإن لم يكن قبض المال من عمرو، فليس له قبضه، لان قولك: ما وكلتك، يتضمن عزله إن كان وكيلا، وله مطالبتك بحقه. وهل لك الرجوع إلى عمرو ؟ وجهان. لانك اعترفت بتحول ما عليه إلى زيد. ووجه الرجوع وهو اختيار ابن كج، أن زيدا إن كان وكيلا فلم يقبض، فبقي حقك. وإن كان محتالا، فقد ظلمك بأخذه منك، وما على عمرو حقه، فلك أخذه عوضا عما ظلمك به. وإن قبض المال من عمرو، فقد برئت ذمة عمرو. ثم إن كان المقبوض باقيا، فقد حكى الغزالي وجهين. أحدهما: يطالبك بحقه، ويرد المقبوض عليك. والثاني وهو الصحيح: أنه يملكه الآن وإن لم يملكه عند القبض، لانه من جنس حقه، وصاحبه يزعم أنه ملكه. ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق، بل له أن يرده ويطالب ببدل حقه، وله أن يأخذه بحقه. وإن تلف بتفريط، فلك عليه الضمان، وله عليك حقه. وربما يقع التقاص. وإن لم يكن منه تفريط، فلا ضمان، لانه وكيل أمين. وفي وجه ضعيف: يضمن، لان الاصل فيما يتلف في يد الانسان من ملك غيره، الضمان، ولا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة ليبقى حقه، تصديقه في إثبات الوكالة، ليسقط عنه الضمان. فصل في مسائل منثورة الاولى: لو أحلت زيدا على عمرو، ثم أحال(3/471)
عمرو زيدا على بكر، ثم أحاله بكر على آخر، جاز، وقد تعدد المحال عليهم دون المحتال. هنا ولو أحلت زيدا على عمرو، ثم أحال زيد بكرا على عمرو، ثم أحال بكر آخر على عمرو، جاز التعدد هنا في المحتالين دون المحال عليه. ولو أحلت زيدا على عمرو، ثم ثبت لعمرو عليك مثل ذلك الدين، فأحال زيدا عليك، جاز. الثانية: لك على رجلين مائة، على كل واحد خمسون، وكل واحد ضامن عن صاحبه، فأحالك احدهما بالمائة على إنسان، برئا جميعا. وإن أحلت على أحدهما بالمائة، برئ الثاني، لان الحوالة كالقبض. وإن أحلت عليهما على أن يأخذ المحتال من كل واحد خمسين، جاز، ويبرأ كل واحد عما ضمن. وإن أحلت عليهما على أن يأخذ المائة من أيهما شاء، فعن ابن سريج: في صحته وجهان. وجه المنع: أنه لم يكن له إلا مطالبة واحد، فلا يستفيد بالحوالة زيادة صفة. الثالثة: لك على رجل مال، فطالبته، فقال: أحلت فلانا علي وفلان غائب، فأنكرت، فالقول قولك مع يمينك. فلو أقام بينة، سمعت وسقطت مطالبتك له. وهل تثبت به الحوالة في حق الغائب حتى لا يحتاج إلى إقامة بينة إذا قدم ؟ وجهان.(3/472)
كتاب الضمان
هو صحيح بالاجماع، وفيه بابان.
الاول: في أركانه، وهي خمسة. الاول: المضمون عنه. ولا يشترط رضاه بالاتفاق، لان قضاء دينه بغير إذنه جائز، فضمانه أولى، وكما يصح الضمان عن الميت اتفاقا سواء خلف وفاء، أم لا. ولا يشترط معرفة المضمون عنه على الاصح.(3/473)
قلت: وسواء كان المضمون عنه حرا، أم عبدا، أم معسرا. والله أعلم. الركن الثاني: المضمون له، ويشترط معرفته على الاصح. وعلى هذا لا يشترط رضاه على الاصح وقول الاكثرين، فان شرطناه، لم يشترط قبوله لفظا على الاصح، فإن شرطناه، فليكن بينه وبين الضمان ما بين الايجاب والقبول في سائر العقود. وإن لم نشترطه، جاز أن يتقدم الرضى على الضمان. فإن تأخر عنه، فهو إجارة إن جوزنا وقف العقود، قاله الامام، وفرع على قولنا: لا يشترط رضاه، فقال: إذا ضمن بغير رضاه، نظر إن ضمن بغير إذن المضمون عنه، فالمضمون له بالخيار، إن شاء طالب الضامن، وإن شاء تركه. وإن ضمن بإذنه، فحيث قلنا: يرجع الضامن على المضمون عنه، يجبر المضمون له على قبوله، لان ما يؤديه في حكم ملك المضمون عنه. وإن قلنا: لا يرجع، فهو كما لو قال لغيره: أد ديني ولم يشترط الرجوع، وقلنا: لا يرجع. وهل لمستحق الدين والحالة هذه أن يمتنع من القبول ؟ وجهان بناء على أن المؤدى يقع فداء، أم موهوبا لمن عليه الدين ؟ إن قلنا بالثاني، لم يكن له الامتناع، وهو الاشهر، فحصل في معرفة المضمون عنه، وله أوجه. أصحها: يشترط معرفة المضمون له فقط. والثاني: يشترط معرفتهما. والثالث: لا. ورابع حكاه الامام: يشترط معرفة المضمون عنه فقط، وهو غريب ضعيف. قلت: وإذا شرطنا قبول المضمون له، فللضامن الرجوع عن الضمان قبل قبوله، قاله في الحاوي لانه لم يتم الضمان، فأشبه البيع. والله أعلم. الركن الثالث: الضامن. وشرطه: صحة العبارة، وأهلية التبرع. أما صحة العبارة، فيخرج عنه الصغير، والمجنون، والمبرسم الذي يهذي،(3/474)
فلا يصح ضمانهم. ولو ضمن إنسان ثم قال: كنت صبيا يوم الضمان، وكان محتملا، قبل قوله مع يمينه. وكذا لو قال: كنت مجنونا وقد عرف له جنون سابق، أو أقام به بينة، وإلا فالقول قول المضمون له مع يمينه. وفي ضمان السكران، الخلاف المذكور في تصرفاته. قلت: هذا في السكران بمعصية. فأما السكران بمباح، فكالمجنون. والله أعلم. وأما الاخرس، فإن لم يكن له إشارة مفهومة، ولا كتابة، لم نعرف أنه ضمن حتى نصحح أو نبطل، وإن كانت له إشارة مفهومة، صح ضمانه بها كبيعه وسائر تصرفاته. وفي وجه: لا يصح ضمانه، إذ لا ضرورة إليه، بخلاف سائر التصرفات. ولو ضمن بالكتابة، فوجهان، سواء أحسن الاشارة، أم لا. أصحهما: الصحة، وذلك عند القرينة المشعرة، ويجري الوجهان في الناطق وفي سائر التصرفات. وأما أهلية التبرع، فلا يصح ضمان المحجور عليه لسفه وإن أذن الولي، لانه تبرع، وتبرعه لا يصح بإذن الولي. كذا قال الامام، والغزالي: إن الضمان تبرع، وإنما يظهر هذا حيث لا رجوع. وأما حيث ثبت الرجوع، فهو قرض محض. ويدل عليه نص الشافعي رضي الله عنه: أنه لو ضمن في مرض موته بغير إذن المضمون عنه، حسب من ثلثه. وإن ضمن باذنه، فمن رأس المال، لان للورثة الرجوع على الاصيل، وهو وإن لم يكن تبرعا فلا يصح من السفيه كالبيع وسائر التصرفات المالية. فان أذن فيه الولي، فليكن كما لو كان في البيع.(3/475)
قلت: الذي قاله الامام، هو الصواب. وقد صرح الاصحاب بأنه لا يصح ضمانه من غير فرق بين الاذن وعدمه. وقول الرافعي: إنه ليس تبرعا، فاسد، فإنه لو سلم أنه كالقرض، كان القرض تبرعا. وقوله: إذا أذن الولي، كان كالبيع، يعني فيجري فيه الوجهان، فاسد أيضا، فان البيع، إنما صح على وجه، لانه لا يأذن إلا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله بلا مصلحة. وأما ضمان المريض، فقال صاحب الحاوي: هو معتبر من الثلث، لانه تبرع. فان كان عليه دين مستغرق، فالضمان باطل. وإن خرج بعضه من الثلث، صح فيه. فلو ضمن في مرضه، ثم أقر بدين مستغرق، قدم الدين ولا يؤثر تأخر الاقرار به. والله أعلم. وأما المحجور عليه لفلس، فضمانه كشرائه. فرع ضمان المرأة صحيح، مزوجة كانت أو غيرها، ولا حاجة إلى إذن الزوج كسائر تصرفاتها. فرع في ضمان العبد بغير إذن سيده مأذونا كان أو غيره، وجهان. أحدهما: صحيح يتبع به إذا عتق، إذ لا ضرر على سيده، كما لو أقر باتلاف مال وكذبه السيد. وأصحهما: لا يصح. وإن ضمن بإذن سيده، صح. ثم إن قال: اقضه مما تكسبه، أو قال للمأذون: اقضه مما في يدك، قضى منه. وإن عين مالا وأمر بالقضاء منه، فكمثل. وإن اقتصر على الاذن في الضمان، فإن لم يكن مأذونا، ففيه أوجه، أصحها: يتعلق بما يكسبه بعد الاذن كالمهر. والثاني: يكون في ذمته إلى أن يعتق لانه أذن في الالتزام دون الاداء. والثالث يتعلق برقبته. وإن كان مأذونا له في التجارة، فهل يتعلق بذمته أم بما يكسبه بعد ؟ أم به وبما في يده من الربح الحاصل ؟ أم بهما وبرأس المال ؟ فيه أوجه، أصحها: آخرها.(3/476)
وحيث قلنا: يؤدي مما في يده، فلو كان عليه ديون، ففيه أوجه عن ابن سريج، أحدها: يشارك المضمون له الغرماء، كسائر الديون. والثاني: لا يتعلق الضمان بما في يده أصلا، لانه كالمرهون بحقوق الغرماء. والثالث: يتعلق بما فضل عن حقوقهم رعاية للجانبين. قلت: أصحها: الثالث. والله أعلم. وهذا إذا لم يحجر القاضي عليه. فإن حجر باستدعاء الغرماء، لم يتعلق الضمان بما في يده قطعا. وأم الولد والمدبر، كالقن في الضمان، وكذا من بعضه حر إن لم يكن بينه وبين سيده مهاياة، أو كانت وضمن في نوبة السيد. فإن ضمن في نوبته، صح قطعا. ويجوز إن ضمن في نوبته، أن يخرج على الخلاف في المؤن والاكساب النادرة، هل تدخل في المهاياة ؟ والمكاتب بلا إذن، كالقن، وبالاذن، قالوا: هو على القولين في تبرعاته. فرع ضمن عبد باذن سيده، وأدى في حال رقه، فحق الرجوع لسيده. وإن أدى بعد عتقه، فالرجوع للعبد على الاصح. ولو ضمن العبد لسيده عن أجنبي، لم يصح لانه يؤدي من كسبه وهو لسيده، ولو ضمن لاجنبي عن سيده، فإن لم يأذن السيد، فهو كما لو ضمن عن أجنبي. وإن أذن، صح. ثم إن أدى قبل عتقه، فلا رجوع، وبعده، وجهان بناء على ما لو أجره ثم أعتقه في المدة، هل يرجع بأجرة المثل لما بقي ؟ قلت: لو ثبت على عبد دين بالمعاملة فضمنه سيده، صح كالاجنبي. ولو ضمن السيد لعبده دينا على أجنبي، فإن لم يكن على العبد دين من التجارة، فالضمان باطل. وإلا فوجهان، قاله في الحاوي. والله أعلم.(3/477)
الركن الرابع: الحق المضمون، وشرطه ثلاث صفات: كونه ثابتا، لازما، معلوما. الصفة الاولى: الثبوت، وفيها مسائل. إحداها: إذا ضمن ما لم يجب، وسيجب بقرض أو بيع، وشبههما، فطريقان. أحدهما: القطع بالبطلان، لانها وثيقة، فلا تسبق وجوب الحق كالشهادة. وأشهرهما على قولين. الجديد، البطلان. والقديم، الصحة، لان الحاجة قد تدعو إليه. ونقل الامام، فروعا على القديم. أحدها: إذا قال ضمنت لك ثمن ما تبيع فلانا، فباع شيئا بعد شئ، كان ضامنا للجميع، لان ما من أدوات الشرط، فتقتضي التعميم، بخلاف ما إذا قال: إذا بعت فلانا، فأنا ضامن، لا يكون ضامنا إلا ثمن ما باعه أولا، لان إذا ليست من أدوات الشرط. والثاني: إن شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدين، فهنا أولى. وإلا، فوجهان. وكذا معرفة المضمون عنه. والثالث: لا يطالب الضامن ما لم يجب الدين على الاصيل، وليس له الرجوع بعد لزومه. وأما قبله، فعن ابن سريج، أن له الرجوع. وقال غيره: لا، لان وضعه على اللزوم. وأما إذا قلنا بالجديد، فقال: أقرض فلانا كذا وعلي ضمانة، فأقرضه، فالصحيح، أنه لا يجوز، وجوزه ابن سريج. المسألة الثانية: ضمان نفقة المدة الماضية للزوجة، صحيح سواء كانت نفقة الموسرين أو المعسرين. وكذا ضمان الادم، ونفقة الخادم، وسائر المؤن. ولو ضمن نفقة اليوم، فكمثل، لانها تجب بطلوع الفجر. وفي ضمان نفقة الغد والشهر المستقبل، قولان بناء على أن النفقة تجب بالعقد أم بالتمكين ؟ إن قلنا بالاول وهو(3/478)
القديم، صح، وإن قلنا بالثاني، وهو الجديد الاظهر، فلا، هكذا نقله عامة الاصحاب. وأشار الامام إلى أنه على قولين مع قولنا: ضمان ما لم يجب باطل، لان سبب وجوب النفقة ناجز وهو النكاح. فإن جوزنا ضمن نفقة المستقبل، فله شرطان. أحدهما: أن يقدر مدة. فإن أطلق، لم يصح فيما بعد الغد، وفيه وجهان كما لو قال أجرتك كل شهر بدرهم، هل يصح في الشهر الاول ؟ الشرط الثاني: أن يكون المضمون نفقة المعسر، وإن كان المضمون عنه موسرا لانه ربما أعسر. وفي التتمة وجه، أنه يجوز ضمان نفقة الموسر والمتوسط، لان الظاهر استمرار حاله. فرع لا يجوز ضمان نفقة القريب لمدة مستقبلة. وفي نفقة يومه وجهان، لان سبيلها سبيل البر والصلة. ولهذا، تسقط بمضي الزمان وبضيافة الغير. المسألة الثالثة: باع شيئا فخرج مستحقا، لزمه رد الثمن، ولا حاجة فيه إلى شرط والتزام. قال القفال: ومن الحماقة اشتراط ذلك في القبالات. وإن ضمن عنه ضامن ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج المبيع مستحقا، فهذا ضمان العهدة، ويسمى ضمان الدرك. أما ضمان العهدة، فقال في التتمة إنما سمي به لالتزامه ما في عهدة البائع رده، والدرك لالتزامه الغرم عند إدراك المستحق عين ماله. وفي صحة هذا الضمان، طريقان. أحدهما: يصح قطعا. وأصحهما: على قولين. أظهرهما: الصحة للحاجة إليه. والثاني: البطلان. فإن صححنا، فذلك إذا ضمن بعد قبض الثمن. فأما قبله، فوجهان. أصحهما. المنع لانه إنما يضمن ما دخل(3/479)
في ضمان البائع ولا يوجد ذلك قبل القبض. والثاني: الصحة لانه قد تدعو إليه حاجة بأن لا يسلم الثمن إلا بعده. فرع كما يصح ضمان العهدة للمشتري، يصح ضمان نقص الصنجة للبائع بأن جاء المشتري بصنجة ووزن بها الثمن، فاتهمه البائع فيها، فضمن ضامن نقصها إن نقصت. وكذا ضمان رداءة الثمن إذا شك البائع، هل المقبوض من النوع الذي يستحقه ؟ فإذا خرج ناقصا، أو رديئا، طالب البائع الضامن بالنقص وبالنوع المستحق إذا رد المقبوض على المشتري. ولو اختلف البائع والمشتري في نقص الصنجة، صدق البائع بيمينه. فإذا حلف، طالب المشتري بالنقص ولا يطالب الضامن على الاصح، لان الاصل براءته. ولو اختلف البائع والضامن في نقصها، فالمصدق الضامن على الاصح، لان الاصل براءته بخلاف المشتري، فان ذمته كانت مشغولة. فرع لو ضمن عهدة الثمن، إن خرج المبيع معيبا ورده، أو بان فساد البيع بغير الاستحقاق كفوات شرط معتبر في البيع، أو اقتران شرط مفسد، فوجهان. أصحهما: الصحة. وهو الذي ذكره العراقيون للحاجة. والثاني: المنع لندور الحاجة، ولانه في المعيب ضمان ما لم يجب. فإن قلنا يصح إذا ضمن صريحا، فحكى الامام والغزالي وجهين في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة. فرع في مسائل تتعلق بضمان الدرك إحداها: من ألفاظ هذا الضمان، أن يقول للمشتري: ضمنت لك عهدته، أو دركه، أو خلاصك منه. ولو قال: ضمنت لك خلاص المبيع، لم يصح لانه لا يستقل بتخليصه إذا استحق. ولو ضمن عهدة الثمن وخلاص المبيع معا، لم يصح ضمان الخلاص. وفي العهدة قولا الصفقة. ولو شرط في البيع كفيلا بخلاص المبيع، بطل، بخلاف ما لو شرط كفيلا بالثمن. الثانية: يشترط أن يكون قدر الثمن معلوما للضامن. فان لم يكن، فهو كما لو لم يكن قدر الثمن في المرابحة معلوما.(3/480)
الثالثة يجوز ضمان المسلم فيه للمسلم إليه لو خرج رأس المال مستحقا بعد تسليم المسلم فيه، ولا يجوز قبله على الاصح. ولا يجوز ضمان رأس المال للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقا، لان المسلم فيه في الذمة، والاستحقاق لا يتصور فيه، وإنما يتصور في المقبوض، وحينئذ يطالبه المسلم بمثله لا برأس المال. الرابعة: إذا ظهر الاستحقاق، فالمشتري يطالب من شاء من البائع والضامن. ولا فرق في الاستحقاق بين أن يخرج مستحقا أو كان شقصا ثبت فيه شفعة ببيع سابق، فأخذه الشفيع بذلك البيع، ولو بان فساد البيع بشرط أو غيره، ففي مطالبته الضامن، وجهان. أحدهما: نعم كالاستحقاق. والثاني: لا للاستغناء عنه بامكان حبس المبيع حتى يسترد الثمن. ولو خرج المبيع معيبا فرده المشتري، ففي مطالبته الضامن بالثمن، وجهان، وأولى بأن لا يطالب، لان الرد هنا بسبب حادث وهو مختار فيه، فأشبه الفسخ بخيار شرط أو مجلس أو تقايل، هذا إذا كان العيب مقرونا بالعقد. أما إذا حدث في يد البائع بعد العقد، ففي التتمة أنه لا يطالب الضامن بالثمن وجها واحدا، لانه لم يكن سبب رد الثمن مقرونا بالعقد، ولم يكن من البائع تفريط فيه. وفي العيب الموجود عند العقد، سبب الرد موجود عند العقد، والبائع مفرط بالاخفاء، فالتحق بالاستحقاق على رأي. قلت: أصح الوجهين الاولين، لا يطالب. ولو خرج المبيع معيبا وقد حدث عند المشتري عيب، ففي رجوعه بالارش على الضامن، الوجهان. والله أعلم. ولو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن، وانفسخ العقد، هل يطالب الضامن بالثمن ؟ إن قلنا ينفسخ من أصله، فهو كظهور الفساد بغير الاستحقاق. وإن قلنا: من حينه، فكالرد بالعيب. ولو خرج بعض المبيع مستحقا، ففي صحة البيع في الباقي قولا الصفقة، وإن قلنا: يصح وأجاز المشتري، فإن قلنا: يجيز بجميع الثمن، لم يطالب الضامن بشئ. وإن قلنا: بالقسط، طالبه بقسط المستحق من الثمن. وإن فسخ، طالبه بالقسط، ومطالبته بحصة الباقي من الثمن، كمطالبته عند الفسخ بالعيب. وإن قلنا: لا يصح ففي مطالبته بالثمن طريقان. أحدهما: أنه كما لو بان فساد العقد بشرط ونحوه، والثاني: القطع بتوجه المطالبة لاستناد الفساد(3/481)
إلى الاستحقاق، هذا كله إذا كانت صيغة الضمان كما ذكرنا في المسألة الاولى. أما إذا عين جهة الاستحقاق، فقال: ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقا، فلا يطالب بجهة أخرى. وكذا لو عين جهة غير الاستحقاق، لم يطالب عند الاستحقاق. الخامسة: اشترى أرضا وبنى فيها، أو غرس ثم خرجت مستحقة، فقلع المستحق البناء والغراس، فهل يجب ارش النقص على البائع وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا ؟ وجهان. الاصح المنصوص، وجوبه. فعلى هذا، لو ضمنه ضامن، نظر إن كان قبل ظهور الاستحقاق، أو بعده وقبل القلع، لم يصح. وإن كان بعدهما، إن كان قدره معلوما. ولو ضمن رجل عهدة الارض وارش نقص البناء والغراس في عقواحد، لم يصح في الارش، وفي العهدة قولا الصفقة. ولو كان المبيع بشرط أن يعطيه كفيلا بهما، فهو كما لو شرط في البيع رهنا فاسدا. وقال جماعة من الاصحاب: ضمان نقص البناء والغراس، كما لا يصح من غير البائع، لا يصح من البائع، وهذا إن أريد به أنه لغو. كما لو ضمن العهدة لوجوب الارش عليه من غير التزام، فهو جار على ظاهر المذهب. وإلا، فهو ذهاب منهم إلى أنه لا ارش عليه. الصفة الثانية: اللزوم. والديون الثابتة، ضربان. أحدهما: ما لا يصير إلى اللزوم بحال، وهو نجوم الكتابة، فلا يصح ضمانها على الصحيح. ولو ضمن رجل عن المكاتب غير النجوم، فان ضمن لاجنبي، صح. وإذا غرم، رجع على المكاتب إن ضمنه باذنه. وإن ضمنه لسيده، نبني على أن ذلك الدين، هل يسقط بعجزه ؟ وفيه وجهان. إن قلنا: نعم وهو الاصح، لم يصح كضمان النجوم الضرب الثاني: ماله مصير إلى اللزوم. فان كان لازما في حال الضمان،(3/482)
صح ضمانه سواء كان مستقرا أم لا كالمهر قبل الدخول، والثمن قبل قبض المبيع، ولا نظر إلى احتمال سقوطه، كما لا نظر إلى احتمال سقوط المستقر بالابراء، والرد بالعيب وشبههما. وإن لم يكن لازما حال الضمان، فهو نوعان. أحدهما: الاصل في وضعه اللزوم، كالثمن في مدة الخيار، وفي ضمانه وجهان. أصحهما: الصحة. قال في التتمة هذا الخلاف، إذا كان الخيار للمشتري أو لهما. أما إذا كان للبائع، فقط، فيصح قطعا لان الدين لازم في حق من عليه. وأشار الامام إلى أن تصحيح الضمان، مفرع على أن الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع. أما إذا منعه، فهو ضمان ما لم يجب. النوع الثاني: ما الاصل في وضعه الجواز، كالجعل في الجعالة، وفيه وجهان كما سبق في الرهن به، وموضع الوجهين بعد الشروع في العمل وقبل تمامه، كما سبق هناك. وضمان مال المسابقة، إن جعلناها إجارة، صح، وإلا فكالجعل. الصفة الثالثة: العلم، وفيه صور. احداها: ضمان المجهول، فيه طريقان، كضمان ما لم يجب. فان صححناه، فشرطه أن يمكن الاحاطة به، بأن يقول: أنا ضامن ثمن ما بعته فلانا،(3/483)
وهو جاهل به، لان معرفته متيسرة. أما إذا قال: ضمنت لك شيئا مما لك على فلان، فباطل قطعا. والقولان في صحة ضمان المجهول يجريان في صحة الابراء عنه. وذكروا للخلاف في الابراء مأخذين. أحدهما: الخلاف في صحة شرط البراءة عن العيوب، فإن العيوب مجهولة الانواع والاقدار. والثاني: أن الابراء هل هو اسقاط كالاعتاق ؟ أم تمليك المديون ما في ذمته، ثم إذا ملكه سقط ؟ وفيه رأيان. إن قلنا: اسقاط، صح الابراء عن المجهول. وإلا، فلا، وهو الاظهر. ويتخرج على هذا الاصل مسائل. منها: لو عرف المبرئ قدر الدين ولم يعرفه المبرأ. إن قلنا: اسقاط، صح، وإلا فيشترط علمه كالمتهب. ومنها: لو كان له دين على هذا، ودين على هذا، فقال: أبرأت أحدكما. إن قلنا اسقاط، صح، وأخذ بالبيان. وإلا فلا، كما لو كان له في يد كل واحد عبد، فقال: ملكت أحدكما العبد الذي في يده. ومنها: لو كان لابيه دين على رجل، فأبرأه منه وهو لا يعلم موت الاب، إن قلنا: إسقاط صح، كما لو قال لعبد أبيه: أعتقك، وهو لا يعلم موت الاب. إن قلنا: تمليك، فهو على الخلاف فيما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتا. ومنها: أنه لا يحتاج إلى القبول إن جعلناه اسقاطا، وإن جعلناه تمليكا، لم يحتج إليه على الصحيح المنصوص. فإن اعتبرنا القبول، ارتد بالرد، وإلا، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يرتد. والله أعلم. وهذه المسائل، ذكرها في التتمة مع أخوات لها. واحتج للتمليك بأنه لو قال للمديون: ملكتك ما في ذمتك، صح وبرئت ذمته من غير نية وقرينة، ولولا أنه تمليك، لافتقر إلى نية أو قرينة، كما إذا قال لعبده: ملكتك رقبتك، أو لزوجته: ملكتك نفسك، فإنه يحتاج إلى النية. فرع لو اغتابه فقال اغتبتك، فاجعلني في حل ففعل، وهو لا يدري ما اغتابه به، فوجهان. أحدهما: يبرأ لانه اسقاط محض، كمن قطع عضوا من عبد ثم عفا سيده عن القصاص، وهو لا يعلم عين المقطوع، فإنه يصح. والثاني: لا لان المقصود رضاه، ولا يمكن الرضى بالمجهول، ويخالف القصاص، فإنه مبني(3/484)
على التغليب والسراية بخلاف اسقاط المظالم. الصورة الثانية: ضمان أروش الجنايات، صحيح إن كان دراهم أو دنانير. وفي ضمان إبل الدية، إذا لم نجوز ضمان المجهول، وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: الصحة. وقيل: يصح قطعا كما يصح الابراء عنها. وإذا دفع الحيوان وكان الضمان يقتضي الرجوع، فهل يرجع بالحيوان ؟ أم بالقيمة ؟ قال الامام: لا يبعد أن يجرى فيه الخلاف المذكور في إقراض الحيوان. ولا يجوز ضمان الدية عن العاقلة قبل تمام السنة، لانها غير ثابتة بعد. الصورة الثالثة: إذا منعنا ضمان المجهول، فقال: ضمنت مما لك على فلان من درهم إلى عشرة، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما الصحة لانتفاء الغرر، فعلى هذا، يلزمه عشرة على الاصح. وقيل: ثمانية. وقيل: تسعة. قلت: الاصح: تسعة، وسنوضحه في الاقرار إن شاء الله تعالى. والله أعلم. وإن قال ضمنت لك ما بين درهم وعشرة، فإن عرف أن دينه لا ينقص عن عشرة، صح وكان ضامنا لثمانية. وإلا، ففي صحته في الثمانية القولان، أو الوجهان. ولو قال ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان، وهو لا يعرف مبلغها، فهل يصح الضمان في ثلاثة لدخولها في اللفظ على كل حال ؟ كما لو أجر كل شهر بدرهم، فهل يصح في الشهر الاول، وهذه المسائل بعينها جارية في الابراء. فرع يصح ضمان الزكاة عمن هي عليه على الصحيح. وقيل: لا لانها حق لله تعالى ككفالة بدن الشاهد لاداء الشهادة. فعلى الصحيح، يعتبر الاذن عند الاداء على الاصح.(3/485)
فرع يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمة كالاموال. فصل في كفالة البدن ويسمى أيضا، كفالة الوجه، وهي صحيحة على المشهور. وقيل: تصح قطعا، فتجوز ببدن من عليه مال، ولا يشترط العلم بقدره على الاصح. والثاني: يشترط بناء على أنه لو مات، غرم الكفيل المال. ويشترط أن يكون المال مما يصح ضمانه. فلو تكفل ببدن مكاتب للنجوم التي عليه، لم يصح. فإن كان عليه عقوبة، فإن كانت لآدمي كالقصاص وحد القذف، صحت الكفالة على الاظهر. وقيل: لا تصح قطعا. وإن كانت حدا لله تعالى، لم تصح على المذهب. وقيل: قولان. وضبط الامام والغزالي من تكفل ببدنه فقالا: حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه، فكل من يلزمه حضور مجلس الحكم عند الاستعداء أو يستحق إحضاره، تجوز الكفالة ببدنه، فيخرج على هذا الضابط صور، منها: الكفالة ببدن امرأة يدعي رجل زوجيتها، صحيحة. وكذلك الكفالة بها، لمن تثبت زوجيته. قال في التتمة والظاهر، أن حكم هذه الكفالة حكم الكفالة ببدن من ادعي عليه القصاص، لان المستحق عليها لا يقبل النيابة. ومنها: لو تكفل ببدن عبد آبق لمالكه، قال ابن سريج: يصح ويلزمه السعي في رده. ويجئ فيه مثما حكينا في الزوجة. ومنها: الميت قد يستحق إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا تحملوها كذلك ولم يعرفوا اسمه ونسبه. وإذا كان كذلك، صحت الكفالة ببدنه.(3/486)
ومنها: الصبي، والمجنون، قد يستحق إحضارهما لاقامة الشهادة على صورتها في الاتلاف، وغيره، فتجوز الكفالة فيهما. ثم إن كفل بإذن وليها، فله مطالبة الولي بإحضارهما عند الحاجة، وإن كفل بغير إذنه، فهو كالكفالة ببدن العاقل البالغ بغير إذنه. ومنها: قال الامام: لو تكفل رجل ببغداد ببدن رجل بالبصرة، فالكفالة باطلة، لان من بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد للخصومات، والكفيل فرع المكفول به. وإذا لم يجب حضوره، لا يمكن إيجاب الاحضار على الكفيل. وهذا الذي قاله، تفريع على أنه لا يلزم إحضار من هو على مسافة القصر، وفيه خلاف يأتي إشاء الله تعالى. فرع الحق الذي تجوز بسببه الكفالة، إن ثبت على المكفول ببدنه بإقرار أو بينة، فذاك. وإن لم يثبت، لكنه ادعى عليه، فلم ينكر وسكت، صحت الكفالة أيضا. وإن أنكر، فوجهان. أحدهما: أنها باطلة. لان الاصل البراءة والكفالة بمن لا حق عليه باطلة. وأصحهما: الصحة لان الحضور مستحق. ومعظم الكفالات إنما تقع قبل ثبوت الحق. فرع تجوز الكفالة ببدن الغائب، والمحبوس، وإن تعذر تحصيل الغرض في الحال، كما يجوز للمعسر ضمان المال. فرع يشترط كون المكفول ببدنه معينا. فلو قال: كفلت بدن أحد هذين، لم يصح كما لو ضمن أحد الدينين. فصل في ضمان الاعيان فإذا ضمن عينا لمالكها وهي في يد غيره،(3/487)
نظر، إن كانت مضمونة عليه كالمغصوب، والمستعار، والمستام، والامانات إذا خان فيها، فله صورتان. إحداهما: يضمن رد أعيانها. فالمذهب الذي عليه الجمهور، أنه على قولي كفالة البدن. وقيل: يصح قطعا. والفرق أن حضور الخصم ليس مقصودا في نفسه، وإنما هو ذريعة إلى تحصيل المال، فالتزام المقصود، أولى. فإن صححنا، فردها، برئ من الضمان. وإن تلفت وتعذر الرد، فهل عليه قيمتها ؟ وجهان، كما لو مات المكفول ببدنه. فان أوجبنا، فهل يجب في المغصوب أكثر القيم ؟ أم قيمته يوم التلف لان ا لكفيل لم يكن متعديا ؟ وجهان. قلت: الثاني أقوى. والله أعلم. ولو ضمن تسليم المبيع وهو بعد في يد البائع، جرى الخلاف في الضمان. فإن صححناه وتلف، انفسخ البيع. فان لم يدفع المشتري الثمن، لم يطالب الضامن بشئ. وإن كان دفعه، عاد الوجهان في أن الضامن، هل يغرم ؟ فان غرمناه، فهل يغرم الثمن ؟ أم أقل الامرين من الثمن وقيمة المبيع ؟ وجهان. أصحهما: أولهما. الصورة الثانية: أن يضمن قيمتها لو تلفت. قال البغوي: يبنى على أن المكفول ببدنه لو مات، هل يغرم الكفيل الدين ؟ إن قلنا: نعم، صح ضمان القيمة لو تلف العين. وإلا، فلا، وهو الصحيح لهذا، ولان القيمة قبل تلف العين، غير واجبة. أما إذا لم تكن العين مضمونة على من هي في يده كالوديعة والمال في يد الشريك، والوكيل، والوصي، فلا يصح ضمانها قطعا، لانها غير مضمونة الرد أيضا، وإنما يجب على الامين التخلية فقط. ولو تكفل ببدن العبد الجاني جناية توجب المال، فهو كضمان العين. ومنهم من قطع بالمنع. والفرق أن العين المضمونة مستحقة، ونفس العبد ليست مستحقة، وإنما المقصود تحصيل الارش من بدله، وبدله مجهول. فرع باع شيئا بثوب أو بدراهم معينة، فضمن قيمته، فهو كما لو كان(3/488)
الثمن في الذمة وضمن العهدة. فرع رهن ثوبا ولم يسلمه، فضمن رجل تسليمه، لم يصح لانه ضمان ما ليس بلازم. فرع في مسائل من الكفالة إحداها: إذا عين في الكفالة مكانا للتسليم، تعين. وإن أطلق، فالمذهب أنها تصح ويجب التسليم في مكان الكفالة. وقيل: هو كما لو أطلق السلم. وإذا أتى الكفيل بالمكفول به في غير الموضع المستحق، جاز قبوله، وله أن يمتنع إن كان فيه غرض، بأن كان قد عين مجلس الحكم، أو موضعا يجد فيه من يعينه على خصمه. فان لم يختلف الغرض، فالظاهر أنه يلزمه قبوله. فان امتنع، رفعه إلى الحاكم ليقبض عنه. فان لم يكن حاكم، أشهد شاهدين أنه سلمه إليه. الثانية: يخرج الكفيل عن العهدة بتسليمه في المكان الذي وجب فيه التسليم، سواء طلبه المستحق أم أباه، بشرط أن لا يكون هناك حائل كيد سلطان، ومتغلب، وحبس بغير حق ينتفع بتسليمه. وحبس الحاكم بالحق، لا يمنع صحة التسليم، لامكان إحضاره ومطالبته بالحق. ولو حضر المكفول به وقال: سلمت نفسي إليك عن جهة الكفيل، برئ الكفيل كما يبرأ الضامن بأداء الاصيل الدين. ولو لم يسلم نفسه عن جهة الكفيل، لم يبرأ الكفيل لانه لم يسلمه إليه هو، ولا احد عن جهته، حتى قال القاضي حسين: لو ظفر به المكفول له في مجلس الحكم وادعى عليه، لم يبرأ الكفيل. وكذلك لو سلمه أجنبي، لا عن جهة الكفيل. وإن سلمه عن جهة الكفيل، فإن كان باذنه، فهو كما لو سلمه الكفيل. وإن كان بغير إذنه، فليس على المكفول به قبوله، لكن لو قبل: برئ الكفيل. ولو كفل رجل لرجلين، فسلم إلى أحدهما، لم يبرأ من حق الآخر. ولو كفل رجلان لرجل، فسلم أحدهما، قال في التهذيب: إن كفلاه على الترتيب، وقع تسليمه عن(3/489)
المسلم دون صاحبه، سواء قال: سلمت عن صاحبي أم لم يقل. وإن كفلاه معا، فوجهان. قال المزني: يبرأ أيضا صاحبه، كما لو دفع أحد الضامنين الدين. وقال ابن سريج والاكثرون: لا يبرأ، كما لو كان بالدين رهنان، فانفك أحدهما، لا ينفك الآخر، ويخالف قضاء الدين، فإنه يبرئ الاصيل، وإذا برئ، برئ كل ضامن. ولو كانت المسألة بحالها، وكفل كل واحد من الكفيلين بدن صاحبه، ثم أحضر أحدهما المكفول به وسلمه، فعلى قول المزني: يبرأ كل واحد عن الكفالة الاولى وعن كفالة صاحبه. وعلى قول ابن سريج: يبرأ المسلم عن الكفالتين، ويبرأ صاحبه عن كفالته دون الكفالة الاولى. الثالثة: كما يخرج الكفيل عن العهدة بالتسليم، يبرأ أيضا إذا أبرأه المكفول له. ولو قال المكفول له: لا حق لي قبل المكفول به أو عليه، فوجهان. أحدهما: يبرأ الاصيل والكفيل. والثاني: يرجع. فإن فسر بنفي الدين، فذاك. وإن فسر بنفي الوديعة والشركة ونحوهما، قبل قوله، فإن كذباه، حلف. الرابعة: إذا غاب المكفول ببدنه، نظر، إن غاب غيبة منقطعة والمراد بها أن لا يعرف موضعه وينقطع خبره، فلا يكلف الكفيل إحضاره. وإن عرف موضعه، فإن كان دون مسافة القصر، لزمه إحضاره لكن يمهل مدة الذهاب والاياب ليحضره. فإن مضت المدة ولم يحضره، حبس. وإن كان على مسافة القصر، فوجهان. أصحهما: يلزمه إحضاره. والثاني: لا يطالب به. ولو كان غائبا حال الكفالة، فالحكم في إحضاره كما لو غاب بعد الكفالة.(3/490)
الخامسة: إذا مات المكفول به، ففي انقطاع طلب الاحضار عن الكفيل، وجهان. أصحهما: لا ينقطع، بل عليه إحضاره ما لم يدفن إذا أراد المكفول له إقامة البينة على صورته، كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت. والثاني: ينقطع. وهل يطالب الكفيل بمال ؟ وجهان. أصحهما: لا لانه لم يلتزمه. كما لو ضمن المسلم فيه فانقطع، فإنه لا يطالب برد رأس المال. والثاني: يطالب، وبه وقال ابن سريج لانه وثيقة كالرهن. وعلى هذا، هل يطالب بالدين، أم بأقل الامرين من الدين ودية المكفول به ؟ وجهان بناء على القولين، في أن السيد يفدي الجاني بالارش، أم بأقل الامرين من الارش وقيمة العبد ؟ قلت: المختار، المطالبة بالدين فإن الدية غير مستحقة، بخلاف قيمة العبد. قال صاحب الحاوي: ولو مات الكفيل، فعلى مذهب الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم، بطلت الكفالة ولا شئ في تركته. وعلى قول ابن سريج: ينبغي أن لا تبطل، لانها عنده قد تفضي إلى مال بتعلق بالتركة، لكن لم أر له فيه نصا. ولو مات المكفول له، بقي الحق لوارثه. فإن كان له غرماء وورثة، وأوصى إلى زيد بإخراج ثلثه، لم يبرأ الكفيل إلا بالتسليم إلى الورثة والغرماء والوصي. فلو سلم إلى الورثة والغرماء والموصى لهم، دون الوصي، ففي براءته وجهان حكاهما ابن سريج. والله أعلم. السادسة: لو هرب المكفول به إلى حيث لا يعلم، أو توارى، ففي مطالبة الكفيل بالمال، خلاف مرتب على الموت، وأولى بأن لا يطالب، إذ لم نأيس من إحضاره. السابعة: إذا تكفل وشرط أنه [ إن ] عجز عن تسليمه، غرم الدين. فان قلنا: يغرم عند الاطلاق، صح، وإلا، فالكفالة باطلة. الثامنة: يشترط رضى المكفول ببدنه على الصحيح، ولا يشترط رضى(3/491)
المكفول له على الصحيح. فإذا كفل بغير رضى المكفول به، فأراد إحضاره لطلب المكفول له، نظر، إن قال: أحضر خصمي، فللكفيل مطالبته بالحضور، وعليه الاجابة لا بسبب الكفالة، بل لانه وكله في إحضاره. وإن لم يقل ذلك، بل قال: أخرج عن حقي، فهل له مطالبة المكفول به ؟ وجهان. أحدهما: لا كما لو ضمن عنه بغير إذنه مالا، وطالب المضمون له الضامن، فإنه لا يطالب المضمون عنه. وذكروا على هذا أنه يحبس، واستبعده الائمة لانه حبس على ما لا يقدر عليه. والثاني: نعم، لان المطالبة بالخروج عن العهدة، تتضمن التوكيل في الاحضار. التاسعة: لو تكفل ببدن الكفيل كفيل، ثم كفيل، ثم كذلك آخرون بلا حصر، جاز، لانه تكفل بمن عليه حق لازم، وقياسا على ضمان المال. ثم إذا برئ واحد برئ من بعده دون من قبله. العاشرة: في موت المكفول له، ثلاثة أوجه، أصحها: بقاء الكفالة وقيام وارثه مقامه، كما لو ضمن له المال، والثاني: تبطل، لانها ضعيفة. والثالث: إن كان عليه دين، أو له وصي، بقيت، وإلا، فلا، لان الوصي نائبه والدين لا بد منه. الركن الخامس: الصيغة، وفيه مسائل. الاولى: لا بد من صبغة دالة على التزام، كقوله: ضمنت لك مالك على فلان، أو تكفلت ببدن فلان، أو أنا باحضار هذا المال أو هذا الشخص كفيل، أو ضامن، أو زعيم، أو حميل، أو قبيل. وفي البيان وجه: أن لفظ القبيل ليس(3/492)
بصريح، ويطرد هذا الوجه في الحميل وما ليس بمشهور في العقد. ولو قال: خل عن فلان والدين الذي لك عليه عندي، فليس بصريح في الضمان. ولو قال: دين فلان إلي، فوجهان. قلت: أقواهما: ليس بصريح. والله أعلم. ولو قال: أؤدي المال، أو احضر الشخص، فهذا ليس بالتزام، وإنما هو وعد. ولو تكفل فأبراه المستحق، ثم وجده ملازما للخصم فقال: خله وأنا على ما كنت عليه من الكفالة، صار كفيلا. الثانية: لو شرط الضامن، أو الكفيل الخيار لنفسه، لم يصح الضمان. فلو شرط للمضمون له، لم يضر، لان الخيار في المطالبة والابراء له أبدا. الثالثة: لو علق الضمان بوقت أو غيره فقال: إذا جاء رأس الشهر، فقد ضمنت، أو إن لم يؤد مالك غدا، فأنا ضامن، لم يصح على المذهب، كما لا يصح مؤقتا، كقوله: أنا ضامن إلى شهر، فإذا مضى ولم أغرم، فأنا برئ. وعن ابن سريج أنه إذا جاز على القديم ضمان المجهول وما لم يجب، جاز التعليق. قال الامام: ويجئ في تعليق الابراء القولان، لانه اسقاط فإذا قلنا بالقديم، فقال: إذا بعت عبدك بألف، فأنا ضامن لثمن، فباعه بألفين، قال ابن سريج: لا يكون ضامنا لشئ. وفي وجه: يصير ضامنا لالف. ولو باعه بخمسمائة، ففي كونه ضامنا لها، الوجهان. ولو قال: إذا أقرضته عشرة، فأنا ضامن لها، فأقرضه خمسة عشر، فهو ضامن للعشرة على الوجهين، لان من أقرض خمسة عشر، فقد أقرض عشرة، والبيع بخمسة عشر ليس بيعا بعشرة. وإن أقرضه خمسة، فعن ابن سريج: تسليم كونه ضامنا لها. قال الامام: وهو خلاف قياسه، لان الشرط لم يتحقق. ولو علق كفالة البدن بمجئ الشهر، فإن جوزنا تعليق المال، فهي أولى، وإلا، فوجهان، كالخلاف في تعليق الوكالة، والفرق أن الكفالة مبنية على المصلحة والحاجة. ولو علقها بحصاد الزرع، فوجهان مرتبان، وأولى بالمنع، لانضمام الجهالة. وإن علقها بقدوم زيد، فأولى بالمنع، للجهل بأصل حصول القدوم، فإن(3/493)
جوزنا، فوجد الشرط المعلق عليه، صار كفيلا. الرابعة: لو وقت كفالة البدن فقال: أنا كفيل به إلى شهر، فإذا مضى، برئت، فوجهان، وقيل: قولان. أصحهما: البطلان، كضمان المال. ولو نجز الكفالة وشرط التأخير في الاحضار شهرا، جاز للحاجة كمثله في الوكالة، وتوقف فيه الامام، وجعل الغزالي في الوسيط هذا التوقف وجها. فإذا صححنا فأحضره قبل المدة وسلمه، وامتنع المكفول له من قبوله، نظر، هل له غرض في الامتناع بأن كانت بينته غائبة أو دينه مؤجلا، أم لا ؟ وحكم القسمين، على ما سبق فيمن سلمه في غير المكان المعين. ولو شرط لاحضاره أجلا مجهولا، كالحصاد، ففي صحة الكفالة، وجهان. أصحهما: المنع. الخامسة: لو ضمن الدين الحال حالا، أو أطلق، لزمه حالا، وإن ضمن المؤجل مؤجلا بأجل، أو أطلق لزمه لاجله. وإن ضمن الحال مؤجلا بأجل معلوم، فوجهان. أحدهما: لا يصح الضمان، للاختلاف. وأصحهما: الصحة، للحاجة، وعلى هذا، فالمذهب ثبوت الاجل، فلا يطالب إلا كما التزم، وبهذا قطع الجمهور. وشذ إمام الحرمين فادعى إجماع الاصحاب على أن الاجل لا يثبت، وأن في فساد الضمان لفساده، وجهين. أصحهما: الفساد. أما لو ضمن المؤجل حالا، والتزم التبرع بالتعجيل مضموما إلى التبرع بأصل الضمان، فوجهان كعكسه، أصحهما: الصحة. وعلى هذا، هل يلزمه الوفاء بالتعجيل ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو التزم الاصيل التعجيل. وعلى هذا، هل يثبت الاجل في حقه مقصودا، أم تبعا ؟ فيه وجهان. وفائدتهما فيما لو مات الاصيل والحالة هذه. ولو ضمن المؤجل إلى شهرين مؤجلا إلى شهر، فهو كضمان المؤجل حالا. السادسة: لو تكفل ببدن رجل، أو نفسه، أو جسمه، أو روحه، صح. وإن(3/494)
تكفل بعضو منه، فأربعة أوجه. أحدها: أنه باطل، كالبيع والاجارة، بخلاف العتق والطلاق، لان لهما قوة وسراية، وبهذا قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب. واختاره ابن الصباغ. الثاني: يصح. والثالث: إن كان عضوا لا يبقى البدن دونه، كالرأس، والقلب، والكبد، والدماغ، صح. وإن بقي دونه، كالرجل، واليد، لم يصح. وقال في التهذيب: هذا أصح. والرابع: ما عبر به عن جميع البدن، كالرأس، والرقبة، يصح. وما لا، كاليد، والرجل، فلا. قال القفال: هذا أصح. وللوجه حكم سائر الاعضاء، كذا قاله الجمهور. وقال الامام: يصح قطعا، لشهرة هذا العقد بكفالة الوجه. وأما ا لجزء الشائع، كالنصف والثلث، فكالجزء الذي لا يبقى البدن دونه، فيكون فيه وجهان. قلت: قطع صاحب الحاوي بصحة الكفالة فيما لو كفل برأسه، أو وجهه، أو عينه، أو قلبه وفؤاده وغيرها مما لا يحيى دونه، أو جزء شائع. والله أعلم. فرع في مسائل تتعلق بالباب إحداها: ضمن عن رجل ألفا، وشرط للمضمون له أن يعطيه كل شهر درهما ولا يحسبه من الضمان، فالشرط باطل. وفي بطلان الضمان، وجهان. قلت: أصحهما: البطلان. والله أعلم. الثانية: ضمن أو كفل، ثم ادعى أنه لم يكن على المضمون عنه، والمكفول حق، فالقول قول المضمون له. وهل يحلف، أم يقبل بلا يمين ؟ وجهان عن ابن سريج. فإن قلنا بالاول، فنكل، حلف الضامن، وسقطت عنه المطالبة. ولو أقر أنه ضمن، أو كفل بشرط الخيار، وأنكر المضمون له الشرط، بني ذلك على(3/495)
تبعيض الاقرار. إن قلنا: لا يبعض، فالقول قول الضامن مع يمينه. وإن بعضناه، فقول المضمون له. الثالثة: قال الكفيل: برئ المكفول، وأنكر المكفول له، قبل إنكاره بيمينه. فإن نكل فحلف الكفيل، برئ، ولا يبرأ المكفول. الرابعة: قال تكفلت ببدن زيد، فإن أحضرته، وإلا فأنا كفيل ببدن عمرو، لم يصح. ولو قال للمكفول له: أبرئ الكفيل، وأنا كفيل المكفول، قال الاكثرون: لا وقال ابن سريج: يصح. الخامسة: الكفالة ببدن الاجير المعين، صحيحة على الصحيح. ومن قال بتغريم الكفيل عند موت الاصيل، لم يصححها، لانه إذا مات، انفسخ العقد وسقط الحق. قلت الباب الثاني فيما يترتب على الضمان الصحيح من الاحكام وهي ثلاثة. الاول: أن تتجدد للمضمون له مطالبة الضامن، ولا تنقطع مطالبته عن المضمون عنه، بل له مطالبتهما جميعا، ومطالبة أيهما شاء. قلت: وله مطالبة أحدهما ببعضه، والآخر بباقيه. والله أعلم. فلو ضمن بشرط براءة الاصيل، لم يصح على الاصح، لانه ينافي مقتضاه. والثاني: يصح الضمان والشرط. والثالث: يصح الضمان فقط. فإن صححناهما، برئ الاصيل، ورجع الضامن عليه في الحال إن ضمن بإذنه، لانه حصل براءته كما لو أدى. ومهما أبرأ مستحق الدين الاصيل، برئ (الضامن) لسقوط الحق، كما لو أدى الاصيل الدين، أو أحال مستحقه على إنسان، أو أحال المستحق غريمه عليه. وكذا يبرأ ببراءته ضامن الضامن. ولو أبرأ الضامن، ولم يبرأ(3/496)
الاصيل، لكن يبرأ ضامن الضامن. ولو أبرأ لا تلغى ضامن الضامن، لم يبرأ ضامن. فرع ضمن دينا مؤجلا، فمات الاصيل، حل عليه الدين، ولم يحل على الضامن على الصحيح. وقال ابن القطان: يحل، لانه فرعه، فعلى الصحيح، لو أخر المستحق المطالبة، كان للضامن أن يطالبه بأخذ حقه من تركة الاصيل، أو إبرائه، لانه قد تهلك التركة، فلا يجد مرجعا إذا غرم. وفي وجه ضعيف: ليس له هذه المطالبة. ولو مات الضامن، حل عليه الدين. فإن أخذ المستحق المال من تركته، لم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه قبل حلول الاجل، وفي وجه شاذ: لا يحل بموت الضامن. الحكم الثاني: في مطالبة الضامن المضمون عنه بالاداء، ومداره على وجهين خرجهما ابن سريج رحمه الله، في أن مجرد الضمان يوجب حقا للضامن على الاصيل ويثبت علقة بينهما، أم لا ؟ فإذا طالب المضمون له الضامن بالمال، فله مطالبة الاصيل بتخليصه إن ضمن بإذنه. وفي وجه شاذ: ليس له، وليس له مطالبته قبل أن يطالب على الاصح. وهل للضامن تغريم الاصيل قبل أن يغرم حيث يثبت له الرجوع ؟ وجهان، بناء على التخريج المذكور. وليكن الوجهان تفريعا على أن ما يأخذه عوضا عما يقضي به دين الاصيل، يملكه. وفيه وجهان بناء على التخريج. ولو دفعه الاصيل ابتداء بلا مطالبة، فإن قلنا: يملكه، فله التصرف فيه، كالفقير إذا أخذ الزكاة المعجلة، لكن لا يستقر ملكه عليه، بل عليه رده. ولو هلك عنده، ضمنه كالمقبوض بشراء فاسد. ولو دفعه إليه وقال: اقض به ما ضمنت عني، فهو وكيل الاصيل، والمال أمانة في يده. ولو حبس(3/497)
المضمون له الضامن، فهل له حبس الاصيل ؟ وجهان بناء على التخريج. إن أثبتنا العلقة بينهما. فنعم وإلا فلا، وهو الاصح. ولو أبرأ الضامن الاصيل عما سيغرم، إن أثبتنا العلقة، صح الابراء، وإلا، فعلى الخلاف في الابراء عما لم يجب، ووجد سبب وجوبه. ولو صالح الضامن الاصيل عن العشرة التي سيغرمها على خمسة، إن أثبتناها في الحال، صح الصلح، وكأنه أخذ عوض بعض الحق وأبرأ عن الباقي، وإلا، فلا يصح. ولو ضمن عن الاصيل ضامن للضامن، ففي صحته، الوجهان. وكذا لو رهن الاصيل عند الضامن شيئا بما ضمن. والاصح في الجميع: المنع. ولو شرط في ابتداء الضمان أن يعطيه الاصيل ضامنا بما ضمن، ففي صحة الشرط الوجهان. فإن صححنا فوفى، وإلا فللضامن فسخ الضمان. وإن أفسدناه، فسد به الضمان على الاصح. الحكم الثالث: الرجوع. أما غير الضامن إذا أدى دين غيره بغير إذنه، فلا رجوع، لانه متبرع. وإن أدى بإذنه، رجع إن شرط الرجوع قطعا. وكذا إن أطلق على الاصح. وفي وجه ثالث: إن كان حالهما يقتضي الرجوع، رجع، وإلا، فلا، كنظيره من الهبة. وأما الضامن، فله أربعة أحوال. الحال الاول: يضمن بإذن ويؤدي بإذن، فيرجع سواء شرط الرجوع، أم لا. قال الامام: ويحتمل أن ينزل منزلة الاذن في الاداء بلا ضمان، حتى يقال: إن شرط الرجوع، رجع، وإلا فعلى الخلاف. وفي كلام صاحب التقريب رمز إليه.(3/498)
الحال الثاني: أن يضمن ويؤدي بلا إذن، فلا رجوع. الثالث: يضمن بغير إذن، ويؤدي بالاذن، فلا رجوع على الاصح. فلو أذن في الاداء بشرط الرجوع، ففيه احتمالان للامام، أحدهما: يرجع كما لو أذن في الاداء بهذا الشرط من غير ضمان. والثاني: لا، لان الاداء مستحق بالضمان، والمستحق بلا عوض لا يجوز مقابلته بعوض كسائر الحقوق الواجبة. قلت: الاحتمال الاول أصح. والله أعلم. الرابع: يضمن بالاذن، ويؤدي بلا إذن، فأوجه. الاصح المنصوص: يرجع. والثاني: لا. والثالث: إن أدى من غير مطالبة أو بمطالبة، ولكن أمكنه استئذان الاصل، لم يرجع، وإلا فيرجع. فرع حوالة الضامن المضمون له على إنسان، وقبوله حوالة المضمون له عليه، ومصالحتهما عن الدين على عوض، وصيرورة الدين ميراثا للضامن، كالاداء في ثبوت الرجوع وعدمه.(3/499)
فصل في كيفية الرجوع فإن كان ما دفعه إلى رب الدين من جنس الدين وعلى صفته، رجع به. وإن اختلف الجنس، فالكلام في المأذون في الاداء بلا ضمان، ثم في الضامن. أما الاول، فالمأذون بشرط الرجوع أو دونه، إن أثبتناه لو صالح على غير الجنس، ففي رجوعه أوجه. أصحها: يرجع. والثاني: لا. والثالث: إن قال: أد ديني أو ما علي، رجع، وإن قال: أد ما علي من الدنانير مثلا، فلا رجوع. وإذا قلنا: يرجع، رجع بما سنذكر في الضامن إن شاء الله تعالى. وأما الضامن، إذا صالح على غير الجنس، فيرجع بلا خلاف، لان بالضمان ثبت المال في ذمته كثبوته في ذمة الاصيل، والمصالحة معاملة مبنية عليه. ثم ينظر، فإن كانت قيمة المصالح عليه أكثر من قدر الدين، لم يرجع بالزيادة. وإن لم تكن أكثر، كمن صالح عن ألف بعبد يساوي تسعمائة، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يرجع بتسعمائة. والثاني: بالالف. ولو باعه العبد بألف، ثم تقاصا، رجع (بالالف) بلا خلاف. ولو قال: بعتك العبد بما ضمنته لك عن فلان، ففي صحة البيع، وجهان. فإن صححنا، فهل يرجع بما ضمنه ؟ أم بالاقل مما ضمنه، ومن قيمة العبد ؟ وجهان. قلت: المختار الصحة، وأنه يرجع بما ضمنه. والله أعلم. أما إذا اختلفت الصفة، فإن كان المؤدى خيرا، بأن أدى الصحاح عن المكسرة، لم يرجع بالصحاح. وإن كان بالعكس، ففيه الخلاف المذكور في خلاف الجنس. وعن الشيخ أبي محمد، القطع بالرجوع.(3/500)
فرع في مسائل تتعلق بالرجوع إحداها: ضمن عشرة، وأدى خمسة، وأبرأه رب المال عن الباقي، لم يرجع إلا بالخمسة المغرومة، وتبقى الخمسة الاخرى على الاصيل. ولو صالحه من العشرة على خمسة، لم يرجع إلا بالخمسة أيضا، لكن يبرأ الضامن والاصيل عن الباقي. الثانية: ضمن ذمي لذمي دينا على مسلم، ثم تصالحا على خمر، فهل يبرأ المسلم لان المصالحة بين ذميين، أم لا، كما لو دفع الخمر بنفسه ؟ وجهان. فإن قلنا بالاول، ففي رجوع الضامن على المسلم، وجهان، لان ما أدي ليس بمال، إلا أنه أسقط الدين. قلت: الاصح: لا يبرأ، ولا يرجع. والله أعلم. الثالثة: ضمن عن الضامن آخر، وأدى الثاني، فرجوعه على الاول، كرجوع الاول على الاصيل، فيراعى الاذن وعدمه. وإذا لم يثبت له الرجوع على الاول لم يثبت بأدائه للاول الرجوع على الاصيل إذا وجد شرطه فلو أراد الثاني أن يرجع على الاصيل، ويترك الاول نظر، إن كان الاصيل قال له: اضمن عن ضامني، ففي رجوعه عليه، وجهان. كما لو قال لانسان: أد ديني وليس كما لو قال: أد دين فلان، حيث لا يرجع قطعا على الآمر، لان الحق لم يتعلق بذمته. وإن لم يقل له: اضمن عن ضامني، فإن كان الحال لا يقتضي رجوع الاول على الاصيل، لم يرجع الثاني عليه. وإن اقتضاه، فكذلك على الاصح، لانه لم يضمن عن الاصيل. ولو أن الثاني ضمن عن الاصيل أيضا، فلا رجوع لاحد الضامنين على الآخر، وإنما الرجوع للمؤدي على الاصيل. ولو ضمن عن الاول والاصيل معا، فأدى، فله أن يرجع على(3/501)
أيهما شاء، وأن يرجع على هذا بالبعض، وعلى ذاك بالبعض، ثم للاول الرجوع على الاصيل بما غرم بشرطه. الرابعة: على زيد عشرة، ضمنها اثنان، كل واحد خمسة، وضمن كل واحد عن الآخر، فلرب المال مطالبة كل واحد منهما بالعشرة، نصفها عن الاصيل، ونصفها عن الآخر، فإن أدى أحدهما العشرة، رجع بالنصف على الاصيل، وبالنصف على صاحبه. وهل له الرجوع بالجميع على الاصيل إذا كان لصاحبه الرجوع عليه لو غرم ؟ فيه الوجهان. وإن لم يؤد إلا خمسة، نظر، هل أداها عن الاصيل، أو عن صاحبه، أو عنهما ؟ ويثبت الرجوع بحسبه. الخامسة: ضمن الثمن، فهلك المبيع له أو وجد به عيبا فرده، أو ضمن الصداق، فارتدت المرأة قبل الدخول، أو فسخت بعيب، نظر، إن كان ذلك قبل أن يؤدي الضامن، برئ الضامن والاصيل. وإن كان بعده، فإن كان بحيث يثبت الرجوع، رجع بالمغروم على الاصيل، وضمن ر ب الدين للاصيل ما أخذ إن كان هالكا. وإن كان باقيا، رده بعينة. وهل له إمساكه ورد بدله ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا رد المبيع بعيب وعين دراهمه عند البائع، فأراد إمساكها ورد مثلها، والاصح: المنع. وإنما يغرم للاصيل دون الضامن، لان في ضمن الاداء عنه إقراضه وتمليكه إياه. وإن كان بحيث لا يثبت للضامن الرجوع، فلا شئ له على الاصيل، ويلزم المضمون له رد ما أخذ. وعلى من يرد ؟ فيه الخلاف فيمن تبرع بالصداق وطلق الزوج قبل الدخول، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. السادسة: أدى الضامن الدين، ثم وهبه رب الدين له، ففي رجوعه على الاصيل، وجهان بناء على القولين فيما لو وهبت الصداق للزوج، ثم طلقها قبل الدخول. قلت: الاصح: الرجوع. والله أعلم. السابعة: لرجل على رجلين عشرة، وضمن كل واحد ما على الآخر، فلرب الدين أن يطالبهما، ومن شاء منهما بالعشرة، فإن أداها أحدهما، برئا(3/502)
جميعا، وللمؤدي الرجوع بخمسة على صاحبه إن وجد شرط الرجوع. وإن أدى كل واحد خمسة عما عليه، فلا رجوع. وإن أدى عن الآخر، جاء خلاف التقاص. وإن أدى أحدهما خمسة، ولم يؤد الآخر شيئا، فإن أداها عن نفسه، برئ مما عليه، وبقي على صاحبه ما كان عليه والمؤدي ضامن له. وإن أداها عن صاحبه، رجع بها عليه، وبقي عليه، ما كان عليه، وصاحبه ضامن له. وإن أداها عنهما، فلكل نصف حكمه. وإن أدى ولم يقصد شيئا، فهل يقسط عليهما ؟ أو يقال: اصرف إلى ما شئت ؟ وجهان سبق نظيرهما في آخر الرهن. ومن فوائدهما، أن يكون بنصيب أحدهما رهن. فإن قلنا: له صرفه، فصرفه إلى ما به الرهن، انفك، وإلا، فلا. ولو قال المؤدي: أديت عما علي، فقال القابض: بل عن صاحبك، صدق المؤدي بيمينه. فإذا حلف، برئ مما عليه، لكن لرب الدين مطالبته بخمسة على الصحيح، لان عليه خمسة أخرى، إما بالاصالة، وإما بالضمان. وفي وجه: لا مطالبة له، لانه إن طالبه عن الاصالة، فالشرع يصدق المؤدي في البراءة منها. وإن طالبه بالضمان، فرب الدين معترف بأنه أدى عنه. وإن أبرأ رب الدين أحدهما عن جميع العشرة، برئ أصلا وضمانا، وبرئ الآخر من الضمان دون الاصل. وإن أبرأ أحدهما عن خمسة، نظر، إن أبرأ عن الاصل، برئ عنه، وبرئ صاحبه عن ضمانه وهي عليه ضمانة ما على صاحبه. وإن أبرأه عن الضمان وبرئ عنه، وبقي عليه الاصيل، وبقي على صاحبه الاصل والضمان وإن أبرأه عن الخمسة من الجهتين جميعا، سقط عنه نصف الاصل ونصف الضمان، وعن صاحبه نصف الضمان (وبقي عليه الاصل، ونصف الضمان)، فيطالبه بسبعة ونصف، ويطالب المبرأ بخمسة. وإن لم ينو عند الابراء شيئا، فهل يحمل على النصف، أم يخير ليصرف إلى ما شاء ؟ فيه الوجهان. ولو قال: أبرأت عن الضمان، فقال المبرأ: بل عن الاصل، فالقول قول المبرئ. الثامنة: ادعى أن له على زيد وعلى غائب ألفا باعهما به عبدا قبضاه، أو عن جهة أخرى، وأن كل واحد منهما ضمن ما على الآخر وأقام بذلك بينة، فأخذ الالف(3/503)
من زيد، نص أنه يرجع على الغائب بنصف الالف. قال الجمهور هذا إذا لم يكن وجد من زيد تكذيب للبينة. فان كان، لم يرجع، لانه مظلوم بزعمه، فلا يطالب غير ظالمه، وهذا هو الاصح. وقال ابن خيران: يرجع وإن صرح بالتكذيب، لان البينة أبطلت حكم إنكاره. فرع جميع ما سبق من رجوع المأذون له في الاداء، والضامن على الاصيل، مفروض فيما إذا أشهد على الاداء رجلين أو رجلا وامرأتين. فلو أشهد واحدا اعتمادا على أنه يحلف معه، أو أشهد مستورين، فبانا فاسقين، كفى ذلك على الاصح. ولا يكفي إشهاد من يعلم سفره عن قرب، لانه لا يفضي إلى المقصود. أما إذا أدى بلا إشهاد، وأنكر رب المال، فإن أدى في غيبة الاصيل، فمقصر، فلا يرجع إن كذبه الاصيل قطعا، وكذا إن صدقه على الاصح. وهل يحلف الاصيل إذا كذبه ؟ قال في التتمة: يبنى على أنه لو صدقه، هل يرجع عليه ؟ إن قلنا: نعم، حلفه على نفي العلم بالاداء، وإلا بني على أن النكول ورد اليمين، كالاقرار، أم كالبينة ؟ إن قلنا: كالاقرار، لم يحلفه لان غايته أن ينكل فيحلف الضامن، فيكون كتصديقه، وذلك لا يفيد الرجوع. وإن قلنا: كالبينة، حلفه طمعا في أن ينكل، ويحلف، فيكون كالبينة. ولو كذبه الاصيل وصدقه رب المال، رجع على الاصح، لسقوط المطالبة، فإنه أقوى من البينة. وأما إذا أدى بحضور الاصيل، فيرجع على الصحيح المنصوص. ولو توافق الاصيل والضامن على أنه أشهد، ولكن مات الشهود أو غابوا، ثبت الرجوع على الصحيح. وقيل: لا، وهو شاذ ضعيف. ولو قال الضامن: أشهدت وماتوا، وأنكر الاصيل الاشهاد، فهل القول قول الاصيل، لان الاصل عدم الاشهاد، أو قول الضامن، لان الاصل عدم التقصير ؟ وجهان. أصحهما: الاول. ولو قال: أشهدت فلانا وفلانا، فكذباه، فهو كما لو لم يشهد. ولو قالا: لا ندري وربما نسينا، ففيه تردد للامام. ومتى لم تقم بينة بالاداء، وحلف رب المال، بقيت مطالبته(3/504)
بحالها. فإن أخذ المال من الاصيل، فذاك. وإن أخذ من الكفيل مرة أخرى، فقيل: لا يرجع بشئ، والاصح: أنه يرجع. وهل يرجع بالمغروم أولا لانه مظلوم بالثاني، أم بالثاني لانه المسقط للمطالبة ؟ وجهان. قلت: ينبغي أن يرجع بأقلهما. فان كان الاول، فهو يزعم أنه مظلوم بالثاني. وإن كان الثاني، فهو المبرئ، فهو المبرئ، ولان الاصل براءة ذمة الاصيل من الزائد. والله أعلم.
فصل الضمان في مرض الموت، إذا كان بحيث يثبت الرجوع، ووجد الضامن مرجعا، فهو محسوب من رأس المال. وإن لم يثبت الرجوع، أو لم يجد مرجعا لموت الاصيل معسرا، فمن الثلث. ومتى وفت تركة الاصيل بثلثي الدين، فلا دور، لان صاحب الحق إن أخذه من ورثة الضامن، رجعوا بثلثيه في تركة الاصيل. وإن أخذ تركة الاصيل وبقي شئ، أخذه من تركة الضامن ويقع تبرعا، لان ورثة الضامن لا يجدون مرجعا. وإن لم تف التركة بالثلثين، فقد يقع الدور، كمريض ضمن تسعين، ومات وليس له إلا تسعون، ومات الاصيل وليس له إلا خمسة وأربعون، فرب المال بالخيار، إن شاء أخذ تركة الاصيل كلها ولا دور حينئذ، ويطالب ورثة الضامن بثلاثين، ويقع تبرعا إذ لم يبق للاصيل تركة يرجع فيها، وإن أراد الاخذ من تركة الضامن، لزم الدور، لان ما يغرمه ورثة الضامن، يرجع إليهم بعضه، لان المغروم صار دينا لهم على الاصيل، فيتضاربون به مع رب المال في تركة الاصيل، ويلزم من رجوع بعضه زيادة التركة ومن زيادة التركة زيادة المغروم، ومن زيادة المغروم زيادة الراجع. وطريق استخراجه أن يقال: يأخذ رب المال من ورثة الضامن شيئا، ويرجع إليهم مثل نصفه، لان تركة الاصيل نصف تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون إلا نصف شئ، وهو يعدل مثلي ما تلف بالضمان، والتالف نصف شئ، ومثلا شئ، فإذا تسعون إلا نصف شئ يعدل شيئا. وإذا جبرنا وقابلنا، عدلت تسعون شيئا ونصفا فيكون الشئ ستين، فبان أن المأخوذ ستون، وحينئذ يكون الستون دينا لهم على(3/505)
الاصيل، وقد بقي لرب المال ثلاثون، فيتضاربون في تركته بسهمين وسهم، وتركته خمسة وأربعون، يأخذ منها الورثة ثلاثين، ورب الدين خمسة عشر، ويتعطل باقي دينه وهو خمسة عشر، ويكون الحاصل للورثة ستين، ثلاثين بقيت عندهم، وثلاثين أخذوها من تركة الاصيل، وذلك مثلا ما تلف ووقع تبرعا، وهو ثلاثون. ولو كانت المسألة بحالها، لكن تركة الاصيل ثلاثون، فيأخذ رب الدين شيئا، ويرجع إلى ورثة الضامن مثل ثلثه، لان تركة الاصيل ثلث تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون ناقصة ثلثي شئ تعدل مثلي التالف بالضمان، وهو ثلثا شئ، فمثلاه شئ وثلث. فإذن تسعون إلا ثلث شئ يعدل شيئا وثلثا، فإذا جبرنا وقابلنا، عدلت تسعون شيئين فيكون الشئ خمسة وأربعين، وذلك ما أخذه رب الدين، وصار دينا لورثة الضامن على الاصيل، وبقي لرب الدين عليه خمسة وأربعون أيضا، فيتضاربون في تركته بسهم وسهم، فتجعل بينهما مناصفة. ولو كانت تركة الاصيل ستين، فلا دور، بل لرب الدين أخذ تركة الضامن كلها، ثم هم يأخذون تركة الاصيل كلها بحق الرجوع، ويقع الباقي تبرعا. قلت: وهذه مسائل منثورة، تتعلق بالضمان. وترك بياضا في الاصل.(3/506)
كتاب الشركة
كل حق ثابت بين شخصين فصاعدا على الشيوع، يقال: هو مشترك وذلك ينقسم إلى ما لا يتعلق بمال، كالقصاص، وحد القذف، ومنفعة كلب الصيد، ونحوه، وإلى متعلق بمال، وذلك إما عين مال ومنفعته، كما لو غنموا مالا أو ورثوه أو اشتروه. وإما مجرد منفعة، كما لو استأجروا عبدا، أو وصي لهم بمنفعته. وإما مجرد العين، كما لو ورثوا عبدا موصى بمنافعه. وإما حق يتوصل به إلى مال، كالشفعة الثابتة لجماعة. والشركة، قد تحدث بلا اختيار، كالارث. وباختيار، كالشراء، وهذا مقصود الكتاب. والشركة أربعة أنواع. الاول: شركة العنان، ولها ثلاثة أركان. وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الغصب. فإن جعلناه متقوما، لم تجز الشركة. وإلا، فعلى الخلاف في المثلي. وأما الدراهم المغشوشة، فقال الرويانى: لا تصح الشركة فيها. وحكى في التتمة في صحة القراض عليها، خلافا مبنيا على جواز المعاملة بها، إن جوزناها، فقد ألحقنا المغشوش بالخالص، وإلا، فلا. فإذا جاء في القراض خلاف، ففي الشركة أولى. وقال صاحب العدة: الفتوى، جواز الشركة فيها إن استمر في البلد رواجها. قلت: هذا المنقول عن العدة هو الاصح. وأما قوله: أطلقوا منع الشركة في التبر إلى آخره، فعجب، فإن صاحب التتمة حكى في انعقاد الشركة على التبر والنقرة وجهين كالمثلي. والمراد بصاحب العدة هنا، أبو المكارم الروياني. والله أعلم. ثم ما ذكرناه في المسألة من منع الشركة وجوازها، المراد به: إذا أخرج هذا قدرا من ماله، وذاك قدرا، وجعلاهما رأس مال. وتتصور الشركة على غير هذا الوجه في جميع الاموال، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. المسألة الثانية: إذا أخرج كل واحد قدرا من المال الذي تجوز الشركة فيه، وأراد الشركة، اشترط خلط المالين خلطا لا يمكن معه التمييز. فإن لم يفعلا، فتلف مال أحدهما قبل التصرف، تلف على صاحبه فقط، وتعذر إثبات الشركة في الباقي، فلا تصح الشركة إن اختلف الجنس كالدراهم والدنانير، أو الصفة كاختلاف السكة، وكالصحاح والمكسرة، أو المثقوبة، وكالعتيقة والجديدة، والبيضاء(3/507)
والسوداء. وفي البيض والسود، وجه عن الاصطخري. وإذا جوزنا الشركة في المثليات، وجب تساويهما جنسا ووصفا، فلا يكفي خلط حنطة حمراء ببيضاء لامكان التمييز، وإن كان فيه عسر. وفي وجه: يكفي، لانه يعد خلطا. وينبغي أن يتقدم الخلط على العقد، فإن تأخر، حكى في التتمة وجهين. أصحهما: المنع، إذ لا اشتراك حال العقد. والثاني: الجواز إن وقع في مجلس العقد، لانه كالعقد. فان تأخر عنه، لم يجز على الوجهين. ومال الامام إلى جوازه، لان الشركة توكيل، وتوكل. لكن لو قيد الاذن بالتصرف في المال المفرد، فلا بد من تجديد الاذن. ولو ورثوا عروضا أو اشتروها، فقد ملكوها شائعة، وذلك أبلغ من الخلط. فإذا انضم إليه الاذن في التصرف، تم العقد. ولهذا قال المزني والاصحاب: الحيلة في الشركة في العروض المتقومة، أن يبيع كل واحد نصف عرضه بنصف عرض صاحبه، سواء تجانس العرضان أو اختلفا، ليصير كل واحد منهما مشتركا بينهما، فيتقابضان، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف. وقال في التتمة: يصير العرضان مشتركين، ويملكان التصرف فيهما بالاذن، لكن لا تثبت أحكام الشركة في الثمن حتى يستأنفا عقدا، وهو ناض، ومقتضى إطلاق الجمهور، ثبوت الشركة وأحكامها مطلقا، وهو الصحيح. ولو لم يتبايعا العرضين، لكن باعاهما بعرض أو نقد، ففي صحة البيع، قولان سبقا. فان صححناها، كان الثمن مشتركا بينهما على التساوي أو التفاضل بحسب قيمة العرضين، فيأذن كل واحد لصاحبه في التصرف. قلت: وإذا باع كل واحد بعض عرضه ببعض عرض صاحبه، فهل يشترط علمهما بقيمة العرضين ؟ وجهان حكاهما في الحاوي. والصحيح: لا يشترط. ومن الحيل في هذا أن يبيع كل واحد بعض عرضه لصاحبه بثمن في ذمته، ثم يتقاصا. والله أعلم. الثالثة: الصحيح أنه لا يشترط تساوي المالين في القدر، بل تثبت الشركة(3/508)
مع التفاوت على نسبة المالين، وقال الانماطي: يشترط، وهو ضعيف. وهل يشترط العلم حالة العقد بقدر النصيبين بأن يعرفا أن المال بينهما نصفان، أو على نسبة أخرى ؟ وجهان. أصحهما: لا يشترط إذا أمكن معرفته من بعد. ومأخذ الخلاف أنه إذا كان بينهما مال مشتر ك، وكل واحد يجهل حصته، فاذن كل واحد لصاحبه في التصرف في كل المال أو في نصيب، هل يصح الاذن ؟ وجهان. أحدهما: لا، لجهلهما. وأصحهما: نعم، لان الحق لا يعدوهما. وعلى هذا تكون الاثمان بينهما مبهمة كالمثمنات. فرع لو كان لهما ثوبان اشتبها، لم يكف ذلك لعقد الشركة، فان المالين متميزان، لكن اشتبها. فرع قال أصحابنا العراقيون وغيرهم: إذا جوزنا الشركة في المثليات، فإن استوت القيمتان، كانا شريكين على السواء. وإن اختلفتا، بأن كان لاحدهما قفيز قيمته مائة، وللآخر قفيز بقيمة خمسون، فهما شريكان مثالثة، وهذا مبني على قطع النظر في المثلي عن تساوي الاجزاء في القيمة. فرع لاحدهما دراهم، وللآخر دنانير، واشتريا شيئا بهما، فطريقه أن يقوم ما ليس بنقد البلد منهما بما هو نقده، فان استوت قيمتهما، فالشركة على التساوي، وإلا فعلى الاختلاف. النوع الثاني: يكسبان، ليكون بينهما متساويا أو متفاضلا، وهي(3/509)
الاول: العاقدان والمعتبر فيهما، أهلية التوكيل والتوكل. وتكره مشاركة الذمي، ومن لا يحترز من الربا ونحوه. الثاني: الصيغة، ولا بد من لفظ يدل على الاذن في التجارة والتصرف. فإن أذن كل واحد لصاحبه صريحا، فذاك. فلو قالا: اشتركنا، واقتصرا عليه، لم يكف ذلك، لتسلطهما على التصرف من الجانبين على الاصح عند الاكثرين. ولو أذن أحدهما للآخر في التصرف في الجميع، ولم يأذن الآخر، تصرف المأذون في جميع المال، ولم يتصرف الآخر إلا في نصيبه، وكذا لو أذن لصاحبه في التصرف في الجميع وقال، أنا لا أتصرف إلا في نصيبي. ولو شرط أحدهما على الآخر أن لا يتصرف في نصيبه، لم يصح العقد، لما فيه من الحجر على المالك في ملكه. ثم ينظر في المأذون فيه، فان عين جنسا، لم يتصرف المأذون في نصيب الاذن في غير ذلك الجنس. وإن قال: تصرف واتجر فيما شئت من أجناس المال، جاز على الصحيح. وفي وجه: لا بد من التعيين. قلت: ولو أطلق الاذن ولم يتعرض لما يتصرف فيه، جاز على الاصح كالقراض. والله أعلم. الثالث: المال المعقود عليه، وفيه مسائل.(3/510)
الاولى: تجوز الشركة في النقدين قطعا، ولا تجوز في المتقومات قطعا. وفي المثليات، قولان. ويقال: وجهان، أظهرهما: الجواز. والمراد بالنقدين، الدراهم والدنانير المضروبة. أما التبر والحلي والسبائك، فأطلقوا منع الشركة فيها. ويجوز أن يبنى على أن التبر مثلي أم لا(3/511)
باطلة، سواء اتفقا في الصنعة، أو اختلفا، كالخياط والنجار، لان كل واحد متميز ببدنه ومنافعه فاختص بفوائده، كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة، ليكون الدر والنسل بينهما، فإنه لا يصح. وفي وجه ضعيف: يصح سواء اتفقت الصنعة أم لا. قلت: هذا الوجه، حكاه صاحب الشامل وغيره قولا. والله أعلم. فإذا أبطلنا، فاكتسبا، نظر، إن انفردا، فلكل كسبه، وإلا فيقسم الحاصل على قدر أجرة المثل، لا بحسب الشرط. النوع الثالث: شركة المفاوضة، وهي أن يشتركا ليكون بينهما ما يكسبان ويربحان ويلزمان من غرم ويحصل من غنم. وهي باطلة. فلو استعملا لفظ(3/512)
المفاوضة، وأرادا شركة العنان، جاز، نص عليه. وهذا يقوي تصحيح العقود بالكنايات. النوع الرابع: شركة الوجوه، وقد فسرت بصور. أشهرها: أن يشترك وجيهان عند الناس، ليبتاعا في الذمة إلى أجل، على أن ما يبتاعه كل واحد يكون بينهما، فيبيعانه ويؤديان الاثمان، فما فضل فهو بينهما. الثانية: أن يبتاع وجيه في الذمة، ويفوض بيعه إلى خامل، ويشترطا أن يكون ربحه بينهما. والثالثة: أن يشتري وجيه لا مال له، وخامل ذو مال، ليكون العمل من الوجيه، والمال من الخامل، ويكون المال في يده لا يسلمه إلى الوجيه، والربح بينهما. وبهذا الثالث فسرها ابن كج والامام. ويقرب منه ما ذكره الغزالي، وهو أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح، ليكون له بعض الربح، وهي في الصور كلها باطلة، إذ ليس بينهما مال مشترك يرجع إليه عند القسمة. ثم ما يشتريه أحدهما في الصورة الاولى والثانية، فهو له، يختص بربحه وخسرانه، ولا يشاركه فيه الآخر إلا إذا صرح بالاذن في الشراء بشرط التوكيل في الشراء، وقصد المشتري موكله. وأما الصورة الثالثة، فليست بشركة في الحقيقة، بل قراض فاسد لاستبداد المالك باليد. فان لم يكن المال نقدا، زاد للفساد وجه آخر. فرع في مسائل تتعلق بما سبق وهي منصوصة في البويطي. إحداها: لو أخذ جملا لرجل، وراوية لآخر، وتشاركوا على أن يستقي الآخذ الماء، والحاصل بينهم، فهو باطل. فلو استقى، فلمن يكون الماء ؟ نقل صاحب التلخيص وآخرون فيه اختلاف قول، وضعف الجمهور هذه الطريقة، وصوبوا تفصيلا ذكره ابن سريج، وهو أنه إن كان الماء مملوكا للمستقي، أو مباحا، لكن قصد به نفسه، فهو له، وعليه لكل واحد من صاحبيه أجرة المثل. وإن قصد الشركة، فهو على الخلاف في جواز النيابة في تملك المباحات. فان منعناها، فهو للمستقي، وعليه الاجرة لهما. وإن جوزناها وهو الاصح، فالماء بينهم. وفي كيفية الشركة، وجهان. أحدهما: تقسم بينهم على نسبة أجور أمثالهم، وبهذا قطع الشيخ أبو(3/513)
حامد، وحكي عن نصه في البويطي. وأصحهما عند الشيخ أبي علي وبه قطع القفال: أنه يقسم بينهم بالسوية إتباعا لقصده، فعلى هذا، يرجع المستقي على كل واحد من صاحبيه بثلث أجره منفعنه، إذ لم يصل إليه منها إلا الثلث، ويرجع كل واحد من صاحبيه بثلثي أجرة ماله على صاحبه، وعلى المستقي. وعلى الوجه الاول: لا تراجع بينهم أصلا. الثانية: استأجر رجل الراوية من صاحبها، والجمل من صاحبه، واستأجر أيضا المستقي لاستقاء الماء وهو مباح، نظر، إن أفرد كل واحد بعقد، صح والماء للمستأجر، وإن جمع الجميع في عقد، ففي صحة الاجارة، قولان. كمن اشترى عينين لرجلين بثمن واحد، فإن صححنا، وزعت الاجرة المسماة على أجور الامثال، وإلا، فلكل واحد عليه أجرة المثل، ويكون الماء للمستأجر صححنا الاجارة أم أفسدناها، لانا وإن أفسدناها، فمنافعهم مضمونة بالاجرة، قاله الامام. وإن نوى المستقي نفسه، وفرعنا على فساد الاجارة، فعن الشيخ أبي علي: أنه أيضا للمستأجر، وتوقف فيه الامام، لان منفعته غير مستحقة للمستأجر، وقد قصد نفسه، فليكن الحاصل له. وموضع القولين، إذا وردت الاجارة على عين المستقي والجمل والراوية، فأما إذا ألزم ذممهم، فتصح الاجارة قطعا. الثالثة: اشترك أربعة، لاحدهم بيت رحى، ولآخر حجر الرحى، ولآخر بغل يديره، والرابع يعمل في الرحى، على أن الحاصل من أجرة الطحن بينهم، فهو فاسد. ثم إن استأجر مالك الحنطة العامل والآلات من مالكيها، وأفرد كل واحد بعقد، لزمه ما سمى لكل واحد، وإن جمعهم في عقد، فان لزم ذممهم الطحن، صح العقد، وكانت الاجرة المسماة بينهم أرباعا، ويتراجعون بأجرة المثل، لان المنفعة المملوكة لكل واحد منهم قد استوفى ربعها، حيث أخذ ربع المسمى، وانصرف ثلاثة أرباعها إلى أصحابه، فيأخذ منهم ثلاثة أرباع أجرة المثل. وإن استأجر عين العامل وأعيان الآلات، ففيه القولان السابقان. فان أفسدنا الاجارة، فلكل واحد أجرة مثله. وإن صححناها، وزع المسمى عليهم، ويكون التراجع بينهم على ما سبق. وإن ألزم مالك الحنطة ذمة العامل الطحن، لزمه، وعليه إذا استعمل ما لاصحابه أجرة المثل، إلا أن يستأجر منهم إجارة صحيحة، فعليه المسمى.(3/514)
الرابعة: لواحد بذر، ولآخر أرض، ولآخر آلة الحرث، اشتركوا مع رابع ليعمل، وتكون الغلة بينهم، فالزرع لصاحب البذر، وعليه لاصحابه أجرة المثل. قال في التتمة: فلو أصاب الزرع آفة ولم يحصل منه شئ، فلا شئ لهم، لانهم لم يحصلوا له شيئا. ولا يخفى عدول هذا عن القياس الظاهر. قلت: الذي قاله في التتمة هو الصواب. والله أعلم.
فصل في حكم الشركة الصحيحة لها أحكام.
أحدها : إذا وجد الاذن من الطرفين، تسلط كل واحد منهما على التصرف. وتصرف الشريك كتصرف الوكيل، لا ببيع نسيئة، ولا بغير نقد البلد، ولا يبيع ولا يشتري بغبن فاحش إلا باذن الشريك. فإن باع بالغبن الفاحش، لم يصح في نصيب شريكه. وفي نصيبه، قولا تفريق الصفقة. فإن لم نفرقها، بقي المبيع على ملكهما والشركة بحالها. وإن فرقناها، انفسخت الشركة في المبيع، وصار مشتركا بين المشتري والشريك. وإن اشترى بالغبن، نظر، إن اشترى بعين مال الشركة، فهو كما لو باع. وإن اشترى في الذمة، لم يقع للشريك، وعليه وزن الثمن من خالص ماله. فرع ليس لاحدهما أن يسافر بمال الشركة، ولا أن يبعضه من غير إذن صاحبه. فإن فعل، ضمن. الحكم الثاني: لكل واحد فسخ الشركة متى شاء، كالوكالة. فلو قال أحدهما للآخر: عزلتك عن التصرف، أو لا تتصرف، في نصيبي، انعزل المخاطب، ولا ينعزل العازل عن التصرف في نصيب المعزول. ولو قال: فسخت الشركة، انفسخ القعد قطعا. والمذهب: أنهما ينعزلان عن التصرف. وقال في التتمة: في بقا تصرفهما، وجهان إن كانا صرحا في(3/515)
عقد الشركة بالاذن. ووجه البقاء: استمراره حتى يأتي بصريح العزل. فرع تنفسخ الشركة بموت أحدهما أو جنونه أو إغمائه، كالوكالة. ثم في صورة الموت، إن لم يكن دين ولا وصية، فللوارث الخيار بين القسمة وتقرير الشركة إن كان رشيدا، فان كان موليا عليه لصغره أو جنونه، فعل وليه ما فيه حظه من الامرين. وإنما تتقرر الشركة بعقد مستأنف، فان كان على الميت دين، فليس للوارث تقرير الشركة إلا بعد قضاء الدين. وإن كان هناك وصية لمعين، فهو كأحد الورثة. فان كان غير معين، كالفقراء، لم يصح تقرير الشركة حتى تخرج الوصية. ثم هو كما لو لم تكن وصية. الحكم الثالث: أن الربح بينهما على قدر المالين، شرط ذلك، أم لا، تساويا في العمل، أم تفاوتا. فان شرطا التساوي في الربح مع التفاوت في المال، أو التفاوت في الربح مع التساوي في المال، فسدت الشركة على المذهب، وبه قطع الاصحاب. وحكى الامام وجها اخر: أنها لا تفسد، ويوزع الربح على قدر المالين. ولعل الخلاف راجع إلى الاصطلاح، فأطلق الجمهور لفظ الفساد، وامتنع منه بعضهم لبقاء أكثر الاحكام. فلو اختص أحدهما بزيادة عمل، وشرط له زيادة ربح، فوجهان. أحدهما: صحة الشرط، ويكون الزائد على حصة ملكه في مقابلة العمل، ويتركب العقد من شركة وقراض. وأصحهما: المنع، كما لو شرط التفاوت في الخسران، فانه يلغو ويوزع الخسران على المال، ولا يصح جعله قراضا، فإن هناك يقع العمل مختصا بمال المالك، وهنا بملكيهما. ومتى فسد(3/516)
الشرط، لم يؤثر في فساد التصرف، لوجود الاذن، ويكون الربح على نسبة المالين، ويرجع كل واحد على صاحبه بأجرة مثل عمله في ماله. فان تساويا في المال والعمل، فنصف عمل كل واحد يقع في مقابلة ماله، فلا أجرة فيه، ونصفه في مال صاحبه، ويستحق صاحبه مثل بدله عليه، فيقع في التقاص. وإن تفاوتا في العمل مع استواء المال، فساوى عمل أحدهما مائتين، والآخر مائة. فان كان عمل من شرط له الزيادة أكثر، فنصف عمله مائة، ونصف عمل صاحبه خمسون، فيبقى له بعد التقاص خمسون. وإن كان عمل صاحبه أكثر، ففي رجوعه بخمسين على من شرط له الزيادة، وجهان. أحدهما: الرجوع، كما لو فسد القراض. وأصحهما: المنع. ويجري الوجهان، فيما لو فسدت الشركة، واختص أحدهما بأصل التصرف والعمل، هل يرجع بنصف أجرة عمله على الآخر ؟ أما إذا تفاوتا في المال، فكان لاحدهما ألف وللآخر ألفان، وتفاوتا في العمل، فعمل صاحب الاكثر أكثر، بأن ساوي عمله مائتين، وعمل الآخر مائة، فثلثا عمله في ماله، وثلثه في مال صاحبه، وعمل صاحبه بالعكس، فيكون لصاحب الاكثر ثلث المائتين على الاقل، ولصاحب الاقل ثلثا المائة على صاحب الاكثر، وقدرهما متفق، فيقع في التقاص. وإن كان عمل صاحب الاقل أكثر، والتفاوت كما صورنا، فثلث عمل صاحب الاقل في، ماله وثلثاه في مال صاحبه، وثلثا عمل صاحب الاكثر في ماله، وثلثه في مال شريكه، فيبقى لصاحب الاقل على الاكثر مائة بعد التقاص. ولو تساويا في العمل، فلصاحب الاقل ثلثا المائة على صاحب الاكثر، ولصاحب الاكثر ثلث المائة عليه، فثلث تقاص، ويبقى لصاحب الاقل ثلث المائة. فرع ما ذكرناه من حكم الفساد عند تغيير نسبة الربح، يجري في سائر اسباب فساد الشركة. لكن قال الامام: لو لم يكن بين المالين شيوع، وخلط، فلا شركة هنا على التحقيق، بل ثمن كل مال يختص بمالكه، ولا يقع مشتركا. والكلام في الصحة والفساد، إنما يكون بعد حصول نفس الشركة. وإن جرى توكيل من الجانبين، لم يخف حكمه. فرع إذا جوزنا شرط زيادة ربح لمن اختص بزيادة عمل، فلم يشترطاه،(3/517)
ولا اشترطا توزيع الربح على قدر المالين، بل أطلقا، فذكر صاحب التقريب والشيخ أبو محمد، خلافا في أن الربح يوزع على المالين، وتكون زياد العمل تبرعا، أم تثبت للزيادة أجرة تخريجا مما إذا استعمل صانعا ولم يذكر أجرة. ثم إذا شرطا زيادة ربح لمن زاد عمله، هل يشترط استقلاله باليد كالقراض ؟ أم لاكسائر الشرك ؟ وجهان. وكذا لو اشترطا انفراد أحدهما بالعمل. والخلاف في جواز اشتراط زيادة الربح لمن زاد عمله، جار فيما إذا شرط انفراد أحدهما بالتصرف وجعل له زيادة ربح. وقيل: يجوز هنا، ولا يجوز إذا اشتركا في أصل العمل، لانه لا يدرى أن الربح بأي عمل حصل. الحكم الرابع: أن يد كل منهما يد أمانة كالمودع. فإذا ادعى رد المال إلى شريكه، أو تلفا، أو خسرانا، صدق. فإن اسند التلف إلى سبب ظاهر، طولب بالبينة على السبب. فإذا أقامها، صدق في الهلاك به. ولو ادعى أحدهما خيانة صاحبه، لم يسمع حتى يبين قدر ما خان به. فإذا بين، فالقول قول المنكر مع يمينه. ولو كان في يد أحدهما مال، فقال: هو لي، صدق بيمينه. ولو اشترى شيئا وقال: اشتريته لنفسي، وقال الآخر: بل للشركة، أو عكسه، فالقول قول المشتري، لانه أعلم بقصده. ولو قال صاحب اليد: اقتسمنا، وهذا نصيبي، وقال الآخر: هو مشترك، فالقول قول الثاني. ولو كان في أيديهما أو في يد أحدهما مال، وقال كل واحد: هذا نصيبي من المشترك، وأنت أخذت نصيبك، حلفا، وجعل المال بينهما. فإن نكل أحدهما، قضي للحالف. فرع بينهما عبد، باعه أحدهما بإذن شريكه، وأذن له في قبض الثمن، أو قلناه للوكيل بالبيع قبض الثمن، ثم اختلف الشريكان في قبض الثمن، فذلك يتصور على وجهين. أحدهما: أن يقول الشريك للبائع: قبضت كل الثمن، فسلم إلي نصيبي، ويوافقه المشتري على أن البائع قبض، وينكر البائع، فيبرأ المشتري عن نصيب الذي لم يبع، لاعترافه ببراءته. ثم هنا خصومة بين البائع والمشتري، وخصومة بين الشريكين، وربما تقدمت الاولى على الثانية، وربما تأخرت. فإن(3/518)
تقدمت، نظر، إن قامت للمشتري بينه على الاداء، اندفعت عنه مطالبة البائع. فإن شهد له الشريك، لم يقبل في نصيبه. وفي نصيب البائع القولان في تبعيض الشهادة. وإن لم يقم بينة، فالقول قول البائع بيمينه أنه لم يقبض. فإن حلف، أخذ نصيبه من المشتري، ولا يشاركه الذي لم يبع فيه، لانه يزعم أن ما يأخذه الآن ظلم. وإن نكل، وحلف المشتري، انقطعت عنه المطالبة. وإن نكل المشتري أيضا، فوجهان. قال ابن القطان: لا يلزمه نصيب البائع، لانا لا نقضي بالنكول. والصحيح: أنه يلزمه، لانه ليس قضاء بالنكول، بل مؤاخذة باعترافه بلزوم المال بالشراء. فإذا انقضت خصومه البائع والمشتري، فطلب الشريك حصته من البائع لزعمه أنه قبض الثمن، فالقول قول البائع بيمينه أنه لم يقبض إلا نصيبه بعد الخصومة. فإن نكل البائع، حلف الشريك وأخذ منه نصيبه، ولا يرجع به البائع على المشتري، لانه يزعم أن شريكه ظلمه، ولا يمنع البائع من الحلف نكوله على اليمين في الخصومة مع المشتري، لانها خصومة أخرى مع آخر. إما إذا تقدمت خصومة الشريكين، فأدعي الذي لم يبع على البائع قبض الثمن، وطلب حقه، فعليه البينة، ولا تقبل شهادة المشتري له. فإن لم تكن بينة، حلف البائع، فإن نكل، حلف المشتري وأخذ نصيبه من البائع. فإذا انقضت خصومة الشريكين، فطالب البائع المشتري بحقه، أخذه بيمينه. فإن نكل، حلف المشتري وبرئ. ولا يمنع البائع من الحلف وطلب حقه من المشتري تكوله في الخصومة الاولى مع شريكه. وفي وجه: يمنعه، وهو ضعيف باتفاق الاصحاب. وعلى ضعفه، قال الامام: القياس طرده فيما إذا تقدمت خصومة البائع والمشتري، ونكل البائع، وحلف المشتري. حتى يقال: تثبت للشريك مطالبة البائع بنصيبه من غير تجديد خصومة. الوجه الثاني: أن يقول البائع للشريك: قبضت الثمن كله، وصدقه المشتري، وأنكر الشريك، فله حالان. أحدهما: أن يكون الشريك مأذونا من جهة البائع في قبض الثمن، فيبرأ المشتري من نصيب البائع، لاعترافه بأن وكيله قبضه. ثم تتصور خصومتان كما سبق، فإن تخاصم الشريك والمشتري، فالقول قول الشريك، فيحلف ويأخذ نصيبه، ويسلم له المأخوذ. وإن تخاصم البائع والشريك، حلف الشريك. فإن(3/519)
نكل، حلف البائع وأخذ حقه منه، ولا رجوع له على المشتري. وكل هذا، كما سبق في النزاع الاول. ولو شهد البائع للمشتري، لم يقبل، لانه يشهد لنفسه. الحال الثاني: أن يكون غير مأذون، فلا تبرأ ذمة المشتري عن شئ من الثمن. ثم يكون البائع مأذونا من جهة الشريك في القبض، وتارة لا. فإن كان، فله مطالبة المشتري بنصيبه، وليس له مطالبة بنصيب الشريك، لانه لما أقر بقبض الشريك نصيب نفسه، صار معزولا. ثم إذا تخاصم الشريك والمشتري، فعلى المشتري البينة بالقبض. فإن لم تكن، فالقول قول الشريك. فإذا حلف، ففيمن يأخذ حقه منه ؟ وجهان. أحدهما: قال المزني وابن القاص وآخرون: إن شاء أخذ تمام حقه من المشتري، وإن شاء شارك البائع في المأخوذ وأخذ الباقي من المشتري، لان الصفقة واحدة، فكل جزء من الثمن شائع بينهما. فإذا شارك، لم يبق للبائع إلا ربع الثمن. وقال ابن سريج وغيره: ليس له إلا الاخذ من المشتري، ولا يشارك البائع فيما أخذه، لان البائع انعزل عن الوكالة بإقرار أن الشريك أخذ حقه، فما يأخذه بعد الانعزال، يأخذه لنفسه فقط. وهذا الوجه استحسنه الشيخان: أبو حامد وأبو علي. ولو شهد البائع للمشتري على الشريك بقبض الثمن، فعلى قول المزني: لا تقبل شهادته، لانه يدفع بها شركة صاحبه فيما أخذه. وعلى ما ذكره ابن سريج: تقبل. القسم الثاني: أن لا يكون البائع مأذونا في القبض، قال العراقيون: للبائع مطالبة المشتري بحقه، وما يأخذه يسلم له، وتقبل شهادته للمشتري على الشريك. ويجئ وجه: في مشاركة صاحبه، وفي قبول الشهادة. وحكى الحناطي وجها: أن أحد الوارثين، لو قبض من الدين قدر حصته، لم يشاركه الآخر، إلا أن يأذن له المديون في الرجوع عليه، أو لا يجد مالا سواه. والصحيح: المشاركة مطلقا. ولو ملكا عبدا، فباعاه صفقة، فهل ينفرد أحدهما بقبض حصته من الثمن ؟ وجهان. أحدهما: لا. فلو قبض شيئا، شاركه الآخر كالميراث. وأرجحهما: نعم، كما لو انفرد بالبيع. فرع بينهما عبد، فغصب غاصب نصيب أحدهما، بأن نزل نفسه منزلته،(3/520)
فأزال يده، ولم يزل يد صاحبه، يصمن الذي لم يغصب نصيبه بيعه، ولا يصح من الآخر بيع نصيبه إلا للغاصب، أو لقادر على أخذه من الغاصب. فلو باع الغاصب والذي لم يغصب نصيبه، جميع العبد صفقة واحدة بطل في نصيب الغاصب، وصح في نصيب المالك، ولا يخرج على تفريق الصفقة، لان الصفقة تتعدد بتعدد البائع. وقيل: يبنى نصيب المالك، على أن أحد الشريكين إذا باع نصف العبد مطلقا، ينصرف إلى نصيبه. أم يشيع ؟ فيه وجهان مذكوران في كتاب العتق. فإن قلنا: ينصرف إلى نصيبه، صح، وإلا فيبطل في ثلاثة أرباع العبد. وفي ربعه قولا تفريق الصفقة. ولا ينظر إلى هذا البناء إذا باع المالكان معا، وأطلقا. ولا يجعل كما لو أطلق كل واحد بيع نصف العبد، لان هناك تناول العقد الصحيح جميع العبد. وهذان الفرعان، غير مختصين بباب الشركة، لك ذكرهما الاصحاب هنا. قلت: هذه مسائل منثورة. إحداها: يستحب اشتراك المسافرين في الزاد مجلسا مجلسا، نص عليه أصحابنا، وصحت فيه الاحاديث (والله أعلم). وترك بياضا في الاصل.(3/521)
كتاب الوكالة
فيه ثلاثة أبواب.
الباب الاول في أركانها وهي أربعة. الاول: ما فيه التوكيل. وله شروط. الاول: أن يكون مملوكا له. فلو وكله في طلاق من سينكحها، أو بيع عبد سيملكه، أو إعتاق من سيملكه، أو قضاء دين سيلزمه، أو تزويج بنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها، وما أشبه ذلك، لم يصح على الاصح.(3/522)
الشرط الثاني: أن يكون قابلا للنيابة. والذي يفرض فيه النيابة، أنواع. منها العبادات. والاصل، امتناع النيابة فيها ويستثنى الحج، والزكاة، والكفارات، والصدقات، وذبح الهدي، والاضحية، وركعتا الطواف من الاجير. وفيهما كلام يأتي في الوصايا إن شاء الله تعالى. وفي صوم الولي عن الميت، خلاف سبق في موضعه. وألحق بالعبادات، الشهادات، والايمان. ومن الايمان: الايلاء، واللعان والقسامة، فلا يصح التوكيل في شئ منها قطعا، ولا في الظهار على الاصح. وفي معنى الايمان، النذور، وتعليق الطلاق، والعتق، وكذا التدبير على المذهب. وقيل: إن قلنا: إنه وصية، جاز. ومنها، المعاملات، فيجوز التوكيل في طرفي البيع بأنواعه، كالسلم، والصرف، والتولية، وغيرها، وفي الرهن، والهبة، والصلح، والابراء، والحوالة، والضمان والكفالة، والشركة، والمضاربة، والاجارة، والجعالة، والمساقاة، والايداع، والاعارة، والاخذ(3/523)
بالشفعة، والوقف، والوصية، وقبولها. وفي وجه شاذ: لا يجوز التوكيل في الوصية، لانها قربة. ويجوز التوكيل في طرفي النكاح والخلع، وفي تنجيز الطلاق والاعناق والكتابة ونحوها. ويجوز في الرجعة على الاصح. ولو أسلم على أكثر من أربع نسوة، فوكل بالاختيار، أو طلق إحدى امرأتيه، أو أعتق أحد عبديه، ووكل بالتعبين، لم يصح. قلت: لو أشار إلى واحدة وقال: وكلتك في تعيين هذه للطلاق، أو النكاح، أو أشار إلى أربع من المسلمات، فقال: وكلتك في تعيين النكاح فيهن، فهو كالتوكيل في الرجعة، فيصح على الصحيح، قاله في التتمة. والله أعلم. ويجوز التوكيل في الاقالة وسائر الفسوخ، لكن ما هو على الفور، قد يكون التأخير بالتوكيل فيه تقصيرا. وفي التوكيل في خيار الرؤية، خلاف سبق. ويجوز التوكيل في قبض الاموال، مضمونة كانت أو غيرها، وفي قبض الديون وإقباضها، ومنها: الجزية، يجوز في قبضها وإقباضها. وفي وجه: يمتنع توكيل الذمي مسلما فيها. قلت: قال أصحابنا: ويجوز توكيل أصناف الزكاة في قبضها لهم. والله أعلم. ومنها: المعاصي، كالقتل، والسرقة، والغصب، والقذف، فلا مدخل للتوكيل فيها، بل أحكامها تثبت في حق مرتكبها، لان كل شخص بعينه مقصود بالامتناع منها. فرع في التوكيل في تملك المباحات، كاحياء الموات، والاحتطاب، والاصطياد، والاستقاء، وجهان. أصحهما: الجواز. فيحصل الملك للموكل(3/524)
إذا قصده الوكيل له، لانه أحد أسباب الملك، فأشبه الشراء. قلت: هكذا حكاهما وجهين تقليدا لبعض الخراسانيين، وهما قولان مشهوران. والله أعلم . ولو استأجره ليحتطب له، أو ليستقي، قال في التهذيب: هو على الوجهين. وبالمنع أجاب ابن كج. وقطع الامام بالجواز، وقاس عليه وجه جواز التوكيل. قلت: الاصح: قوله في التهذيب. وسلك الجرجاني في كتابه التحرير طريقة أخرى فقال: يجوز التوكيل في الاحتطاب ونحوه بأجرة، وفي جوازه بغيرها وجهان. ولا يجوز في إحياء الموات بلا أجرة، ويجوز بأجرة على الاصح. والله أعلم. فرع التوكيل بالاقرار، صورته أن يقول: وكلتك لتقر عني لفلان بكذا، وفيه وجهان. أصحهما عند الاكثرين: لا يصح، لانه خبر، فأشبه الشهادة. فعلى هذا، هل يجعل مقرا بنفس التوكيل ؟ وجهان. أحدهما: نعم، قاله ابن القاص، واختاره الامام. وأصحهما عند البغوي: لا، كما أن التوكيل بالابراء لا يكون إبراء. قلت: قول ابن القاص أصح عند الاكثرين. وإذا صححنا التوكيل، لم يلزمه شئ قبل إقرار التوكيل على الصحيح الذي قطع به الجمهور، وفي الحاوي والمستظهري وجه: أنه يلزمه بنفس التوكيل. والله أعلم. وإذا صححنا التوكيل، فينبغي أن يبين الوكيل جنس المقر به وقدره. فلو(3/525)
قال: أقر عني لفلان بشئ، فأقر، أخذ الوكيل بتفسيره. ولو اقتصر على قوله: أقر عني لفلان، فوجهان. أحدهما: هو كقوله: أقر عني بشئ. وأصحهما: لا يلزمه شئ بحال، لاحتمال أنه يريد الاقرار بعلم أو شجاعة، لا بمال. قلت: ولو قال: أقر عني لفلان بألف له علي، فهو إقرار بلا خلاف، صرح به الجرجاني وغيره. والله أعلم. فرع للمدعي والمدعى عليه التوكيل في الخصومة، رضي الخصم أم لم يرض، وليس لصاحبه الامتناع من مخاصمة الوكيل، سواء كان للموكل عذر، أم لا، وسواء كان المطلوب بالتوكيل في الخصومة مالا، أو عقوبة لآدمي، كالقصا ص وحد القذف. وأما حدود الله تعالى، فلا يجوز التوكيل في إثباتها، لانها مبنية على ا لدرء. فرع يجوز التوكيل في استيفاء حدود الله تعالى للامام، وللسيد في حد مملوكه، ويجوز للوكيل استيفاء عقوبات الآدميين بحضرة المستحق. وفي غيبته، طرق. أشهرها على قولين. أظهرهما: الجواز. والطريق الثاني: الجواز قطعا. والثالث: المنع قطعا. قلت: قال ابن الصباغ: ولا يصح التوكيل في الالتقاط قطعا، كما لا يجوز في الاغتنام. فإن التقط، أو غنم، كان له دون الموكل. قال صاحب البيان: ينبغي أن يكون الالتقاط على الخلاف في تملك المباحات. وما قاله ابن الصباغ، أقوى. ولو اصطرف رجلان، فأراد أحدهما أن يفارق المجلس قبل القبض، فوكل(3/526)
وكيلا في ملازمة المجلس، لم يصح، وينفسخ العقد بمفارقة الموكل، لان التنفيذ منوط بملازمة العاقد. فلو مات العاقد، فهل يقوم وارثه مقامه في القبض ليبقى العقد ؟ فيه وجهان حكاهما الامام والغزالي في البسيط بناء على بقاء خيار المجلس. والله أعلم. الشرط الثالث: أن يكون ما وكل فيه معلوما من بعض الوجوه، بحيث لا يعظم الغرر. وسواء كانت الوكالة عامة أو خاصة. أما العامة ففيها طريقة لامام الحرمين والغزالي، وطريقة للاصحاب. فأما طريقتهما، فقالا: لو قال: وكلتك في كل قليل وكثير، فباطلة. وإن ذكر الامور المتعلقة به مفصلة، فقال: وكلتك في بيع أملاكي، وتطليق زوجاتي، وإعتاق عبيدي، صح توكيله. ولو قال: وكلتك في كل أمر هو إلي مما يقبل التوكيل، ولم يفصل أجناس التصرفات، فوجهان. أصحهما: البطلان. وأما طريقة سائر الاصحاب، فقالوا: لو قال: وكلتك في كل قليل وكثير، أو في كل أموري، أو في جميع حقوقي، أو في كل قليل وكثير أموري، أو فوضت إليك جميع الاشياء، أو أنت وكيلي فتصرف في مالي كيف شئت، لم تصح الوكالة. قالوا: ولو قال: وكلتك في بيع أموالي، أو استيفاء ديوني، أو استرداد ودائعي، أو إعتاق عبيدي، صحت، وهذه الطريقة هي الصحيحة نقلا ومعنى، وقد نص (عليها) الشافعي رضي الله عنه. وأما الوكالة الخاصة، ففيها صور. إحداها: لو وكله في بيع جميع أمواله، أو قضاء ديونه واستيفائها، صح قطعا. ولا يشترط كون أمواله معلومة على الصحيح. وكلام البغوي، يقتضي اشتراطه. وفي فتاو القفال: لو قال: وكلتك في استيفاء ديوني على الناس، جاز وإن كان لا يعرف من عليه الدين، وأنه واحد أو جماعة كثيرة، وأي جنس ذلك الدين. أما إذا قال: بع بعض مالي، أو طائفة منه، أو سهما، فلا يصح، لجهالته(3/527)
من الجملة. وكأن الشرط أن يكون الموكل فيه معلوما أو يسهل علمه. ولو قال: بع ما شئت من مالي، أو اقبض ما شئت من ديوني، جاز، ذكراه في المهذب والتهذيب. وفي الحلية ما يخالفه، فإنه قال: لو قال: بع من رأيت من عبيدي، لم يصح حتى يميز. قلت: هذا المذكور عن المهذب هو الصحيح المعروف. قال في التهذيب: ولا يجوز أن يبيع الكل إلا أن يقبض الكل. وأما قول صاحب الحلية، ففي البيان أيضا عن ابن الصباغ نحوه، فإنه قال: لو قال: بع ما تراه من مالي، لم يجز. ولو قال: ما تراه من عبيدي، جاز، وكلاهما شاذ ضعيف. وهذا النقل عن الحلية، إن كان المراد به الحلية للروياني فغلط، فإن الذي في حلية الروياني: لو قال: بع من عبيدي هؤلاء الثلاثة من رأيت، جاز، ولا يبيع الجميع، لان من للتبعيض. ولو وكله أن يزوجه من شاء، جاز، ذكره القاضي أبو حامد، وهذا لفظ الروياني في الحلية بحروفه. وقد صرح إمام الحرمين، والغزالي في البسيط بأنه إذا قال: بع من شئت من عبيدي، يبيع جميعهم، لان من للتبعيض. فلو باعهم إلا واحدا، جاز، قال أصحابنا: لو قال: بع هذا العبد، أو هذا، لم يصح. ولو وكله ليهب من ماله ما يرى، قال في الحاوي: لا يصح. وقياس ما سبق، أنه يصح. والله أعلم. الثانية: التوكيل في الشراء. ولا يكفي فيه أن يقول: اشتر لي شيئا، أو حيوانا، أو رقيقا، بل يشترط أن يبين أنه عبد أو أمة. والنوع، كالتركي والهندي وغيرهما. ولا يشترط استقصاء(3/528)
أوصاف السلم، ولا ما يقرب منها بلا خلاف. فإن اختلفت أصناف نوع اختلافا ظاهرا، قال الشيخ أبو محمد: لا بد من التعرض للصنف. وأما الثمن، فلا يشترط بيان قدره على الاصح. وعلى الثاني: يشترط بيان قدره أو غايته، بأن يقول: من مائة إلى ألف. وحكى صاحب التقريب وجها: أنه يصح التوكيل بشراء عبد مطلقا، وهذا لوجه، ضعيف جدا. وإذا طرد في قوله: اشتر شيئا، كان أبعد. قلت: ذكر فالبسيط ترددا في قوله: اشتر شيئا تفريعا على هذا الوجه. والله أعلم. ولو قال: اشتر لي عبدا كما تشاء، فقيل: يصح، كما لو قال في القراض: اشتر من شئت من العبيد. والصحيح الذي عليه الاكثرون: لا يصح. والفرق، أن المقصود هناك الربح، والعامل أعرف به. ولو وكله في شراء دار، يشترط ذكر المحلة والسكة. وفي الحانوت يذكر السوق، وعلى هذا القياس. قلت: وفي ذكر الثمن، الوجهان. والله أعلم. الثالثة: التوكيل في الابراء، يشترط فيه علم الموكل إذا قلنا بالاظهر: إنه لا يصح الابراء عن المجهول كما سبق في كتاب الضمان. ولا يشترط علم الوكيل على الاصح، وبه قطع القاضي والغزالي. وفي المهذب والتهذيب: اشتراط علمه بجنسه وقدره كما لو قال: (بع) بما باع به فلان فرسه، فإنه يشترط لصحة البيع علم الوكيل دون الموكل. ولا يشترط في الابراء علم من عليه الحق على الصحيح، والخلاف فيه مبني على ما سبق أن الابراء إسقاط أو تمليك. فإن قلنا: تمليك، اشترط علمه كالمتهب، وإلا، فلا. ثم إن كانت صيغته: أبرئ فلانا عن ديني، أبرأه عن جميعه. وإن قال: عن شئ منه، أبرأه عن قليل منه. وإن قال: عما شئت، أبرأه عما شاء، وأبقى شيئا.(3/529)
قلت: قوله: أبرئه عن قليل منه، يعني أقل ما ينطلق عليه اسم الشئ، كذا صرح به في التتمة، وهو واضح. ولو قال: أبرئه عن جميعه، فأبرأ عن بعضه، جاز، بخلاف ما لو باع بعض ما أمره ببيعه. والله أعلم. الرابعة: قال: وكلتك في مخاصمة خصماي، وأطلق، صح على الاصح وصار وكيلا فجميع الخصومات. وقيل: يشترط تعيين من يخاصمه، لاختلاف الغرض به. الركن الثاني: الموكل. تشترط فيه صحة مباشرته بملك أو ولاية، فيخرج منه الصبي، والمجنون، والمغمى عليه، والنائم، والمرأة في التزويج، والفاسق في تزويج بنته إذا لم نجعله وليا. وأما السكران، فتوكيله كسائر تصرفاته، ويدخل فيه توكيل الاب والجد في التزويج والمال. وأما الاخ والعم وغيرهما مما لا يجبر، ففي توكيلهم في التزويج وجهان يذكران في النكاح إن شاء الله تعالى. وأما الوكيل في البيع ونحوه، فلا يملك التوكيل إلا إذا أذن له الموكل، أو دلت عليه قرينة. وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. وفي معناه، توكيل العبد المأذون. وأما المحجور عليه بسفه، أو فلس، أو رق، فيجوز توكيله فيما يستقل به من التصرفا ت، ولا يجوز فيما لا يستقل به إلا بعد إذن الولي، والمولى، والغريم. ومن جوز التوكيل في بيع(3/530)
عبد سيملكه، فقياسه جواز توكيل المحجور عليه فيما سيأذن فيه الولي، ولم يتعرض له. قلت: قد يمكن الفرق، بأن الخلل هناك في عبارة المحجور عليه. والله أعلم. ويستثنى مما سبق، بيع الاعمى، وشراؤه. فإنه يصح التوكيل فيه، وإن لم يصح من الاعمى للضرورة. قلت: قال في الحاوي: للاب والوصي والقيم أن يوكل في بيع مال(3/531)
الطفل، إن شاء عن نفسه، وإن شاء عن الطفل. وفي جوازه عن الطفل، نظر. والله أعلم. الركن الثالث: الوكيل. وشرطه صحة مباشرته ذلك الشئ لنفسه، بأن يكون صحيح العبارة فيه، فلا يصح توكيل الصبي والمجنون في التصرفات. وفي جواز اعتماد قول الصبي في الاذن في دخول الدار والملك عند إيصاله الهدية وجهان، وسبقا في البيع. فإن جوزناه، فهو وكالة من الآذن والمهدي. وعلى هذا، لو وكل الصبي فيه غيره، فالقياس تخريجه على الخلا ف. والتفصيل في أن الوكيل، هل يوكل ؟ فإن جاز، صار الصبي أهلا للتوكيل، ولا يصح كون المرأة والمحرم وكيلين في النكاح. وفي توكيل العبد في الشراء ونحوه، وجهان سبقا في باب مداينة العبيد. وفي توكيله في قبول النكاح بغير إذن سيده، وجهان. أصحهما: الجواز. قلت: وفي توكيله فيه بإذن السيد أيضا، وجهان في الشامل والبيان، وقطعا بالمنع بغير إذنه، والمختار الجواز مطلقا. والله أعلم. وفي توكيله في الايجاب وجهان. أصحهما: المنع، لانه لا يزوج بنته، فبنت غيره أولى، كذا صححه الجمهور، وقطع به جماعة. وتوكيل المحجوز عليه لسفه في طرفي النكاح، كتوكيل العبد. والفاسق في الايجاب إذا سلبناه الولاية، كالعبد، وفي القبول يصح قطعا. والمحجوز عليه لفلس، يوكل فيما لا يلزم ذمته(3/532)
عهدة قطعا، وفيما يلزمها أيضا على الاصح، كما يصح شراؤه على الصحيح. فرع يصح توكيل المرأة في طلاق غيرها على الاصح، كما يصح أن يفوض إليها طلاق نفسها. قال في التتمة: ولا يصح توكيلها في رجعة نفسها، ولا رجعة غيرها، لان الفرج لا يستباح بقول النساء. ولا يصح توكيلها في الاختيار في النكاح إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة. وفي الاختيار للفراق وجهان، لانه يتضمن اختيار الاربع للنكاح. قلت: الاصح: لا يصح. والله أعلم. فرع توكيل المرتد في التصرفات المالية، يبنى على بقاء ملكه وزواله. إن أبقيناه، صح، وإن قطعناه، فلا، وإن وقفناه، فكذا التوكيل. ولو وكل، ثم ارتد، ففي انقطاع التوكيل، الاقوال الثلاثة. ولو وكل رجل مرتدا، أو ارتد الوكيل، لم يقدح في الوكالة، لان الخلاف في تصرفه لنفسه، لا لغيره، كذا نقل الاصحاب عن ابن سريج. وفي التتمة: أنه مبني على أنه يصير محجورا عليه، إن قلنا: نعم، انعزل، وإلا، فلا. قلت: ولو وكل المسلم كافرا ليقبل له نكاح مسلمة، لا يصح. ولو وكله في قبول كتابية، صح. وإن وكله في طلاق مسلمة، فوجهان، لانه لا يملك طلاق مسلمة، لكن يملك طلاقا في الجملة. وللمكاتب أن يوكل غيره في البيع والشراء وسائر التصرفات التي تصح منه، ولا يملك التوكيل في التبرع بغير إذن سيده. وبإذنه قولان، بناء على صحته بإذنه. ولو وكل رجل مكاتبا بجعل يفي بأجرته، جاز. وبغير جعل، له حكم تبرعه. والله أعلم. الركن الرابع: الصيغة. فيه مسائل. الاولى: لا بد من جهة الموكل من لفظ دال على الرضى، كقوله: وكلتك في(3/533)
كذا، أو فوضته إليك، أو أنبتك فيه، وما أشبهه. ومثله: بع أو أعتق ونحوهما. وأما القبول، فيطلق بمعنيين. أحدهما: الرضى والرغبة فيما فو ض إليه، ونقيضه الرد. والثاني: اللفظ الدال عليه على النحو المعتبر في البيع وسائر المعاملات. ويعتبر في الوكالة القبول بالمعنى الاول. حتى لو رد فقال: لا أقبل، أو لا أفعل، بطلت الوكالة. فلو رد ثم ندم، وأراد أن يفعل، لم يجز، بل لا بد من إذن جديد، لان الوكالة جائزة، ترتفع في الدوام بالفسخ، فارتدادها بالرد في الابتداء أولى. وأما المعنى الثاني وهو القبول لفظا، ففيه أوجه. أصحها: لا يشترط. والثاني: يشترط. والثالث: إن أتى بصيغة عقد، ك: وكلتك، وفوضت إليك، اشترط. وإن أتى بصيغة أمر، نحو: بع، واشتر، لم يشترط. فإن شرطنا القبول لفظا، فهل يشترط على الفور كالبيع، أم في المجلس وإن طال ؟ أم يجوز أبدا وإن فارق المجلس، كالوصية ؟ فيه أوجه، الصحيح: الثالث. وأما القبول بالمعنى الاول، فلا يشترط فيه التعجيل بحال بلا خلاف. وإذا لم نشرط القبول، فوكله، والوكيل لا يعلم، ثبتت وكالته على الاصح. فعلى هذا لو تصرف الوكيل قبل العلم بالوكالة، ثم بان وكيلا، ففي صحة تصرفه الخلاف السابق فيمن باع مال أبيه يظنه حيا، فبان ميتا. وإن لم نثبت الوكالة، فهل نحكم بنفوذها حالة بلوغ الخبر ؟ وجهان. فرع حيث لا نشترط القبول، تكفي الكتابة والرسالة، ونجعله مأذونا في التصرف. وحيث شرطنا، فحكمه كما لو كتب بالبيع، وقطع الروياني في الوكالة بالجواز. قلت: قطع الماوردي أيضا، وكثيرون بالجواز وهو الصواب. والله أعلم. فرع إذا شرطنا القبول، فقال: وكلني في كذا، فقال: وكلتك، فهل يكفي، أم لا بد من قبول بعده ؟ فيه الخلاف السابق في البيع ونحوه. ثم قيل:(3/534)
الوكالة أحوج إلى الاشتراط، لانها ضعيفة، ولو قيل: عكسه، لان الوكالة يحتمل فيها ما لا يحتمل في البيع، لكان أقرب. المسألة الثانية: إذا علق الوكالة بشرط، فقال: إذا قدم زيد، أو جاء رأس الشهر، فقد وكلتك في كذا، أو أنت وكيلي، لم يصح على الاصح. فلو نجز الوكالة وشرط للتصرف شرطا، بأن قال: وكلتك الآن في بيع هذا العبد، ولكن لا تبعه حتى يجئ رأس الشهر، صح التوكيل بلا خلاف، ولا يبيعه إلا إذا حصل الشرط. وإذا أفسدنا الوكالة بالتعليق، فتصرف الوكيل بعد حصول الشرط، صح تصرفه على الاصح، لحصول الاذن. وإن كان العقد فاسدا كما لو شرط للوكيل جعلا مجهولا، بأن قال: بع كذا ولك عشر ثمنه، تفسد الوكالة، ويصح البيع. فعلى هذا، فائدة فساد الوكالة سقوط الجعل المسمى إن كان، والرجوع إلى أجرة المثل، كما أن الشرط الفاسد في النكاح يفسد الصداق، ويوجب مهر المثل، ولا يؤثر في صحة النكاح. فرع لو قال: وكلتك، ومتى عزلتك فأنت وكيلي، ففي صحة الوكالة في الحال، وجهان. أصحهما: الصحة. فإذا قلنا بالصحة، أو كان قوله: متى(3/535)
عزلتك، مفصولا عن الوكالة، فعزله، نظر، إن لم يعلم به الوكيل، واعتبرنا علمه في نفوذ العزل، فهو على وكالته. وإن لم نعتبره، أو كان عالما به، ففي عوده وكيلا بعد العزل وجهان بناء على تعليق الوكالة، لانه علق الوكالة ثانيا على العزل، أصحهما: المنع. فإن قلنا: يعود، نظر في اللفظ الموصول بالعزل. فإن كان قال: إذا عزلتك، أو مهما، أو متى، لم يقتض ذلك عود الوكالة إلا مرة واحدة. وإن قال: كلما عزلتك، اقتضى العود مرة بعد مرة أبدا، لان كلما للتكرار. فإن أراد أن لا يعود وكيلا، فطريقه أن يوكل غيره في عزله، فينعزل، لان المعلق عليه عزل نفسه. فإن كان قال: كلما عزلتك، أو عزلك أحد عني، فطريقه أن يقول: كلما عدت وكيلا، فأنت معزول. فإذا عزله، ينعزل لتقاوم التوكيل والعزل، واعتضاد العزل بالاصل، وهو الحجر في حق الغير. والخلاف في قبول الوكالة التعليق، جار في أن العزل هل يقبله، ولكن بالترتيب ؟ والعزل أولى بقبوله، لانه لا يشترط فيه قبول قطعا. وتصحيح إدارة الوكالة والعزل جميعا، مبني على قبولهما التعليق. قال الامام: وإذا نفذنا العزل، وقلنا: تعود الوكالة، فلا شك أن العزل ينفذ في وقت وإن لطف، ثم ترتب عليه الوكالة. فلو صادف تصرف الوكيل ذلك الوقت اللطيف، ففي نفوذ تصرفه وجهان. المسألة الثالثة: تصح الوكالة الموقتة، كقولك: وكلتك إلى شهر رمضان.
الباب الثاني في أحكام الوكالة الصحيحة وهي أربعة. الاول: صحة تصرف الوكيل إذا وافق، والموافقة والمخالفة تعرفان بالنظر إلى اللفظ تارة، وبالقرائن أخرى. فإن القرينة قد تقوى، فيترك لها إطلاق اللفظ. ولهذا لو أمره في الصيف بشراء الجمد، لا يشتريه في الشتاء. وقد يتعادل اللفظ والقرينة، ويحصل من تعادلهما خلاف في المسألة. وهذا القول الجملي، نوضحه بصور(3/536)
تعرف بها أخواتها. إحداها: وكله في بيع شئ وأطلق، لا يصح بيعه بغير نقد البلد، ولا بثمن مؤجل، ولا بغبن فاحش على المشهور. وفي قول: يصح كل ذلك موقوفا على إجازة الموكل، وهذا هو القول المنقول في بيع الفضولي، والصواب: الاول، وعليه التفريع. فلو كان في البلد نقدان، لزمه البيع بأغلبهما. فإن استويا في المعاملة، باع بأنفعهما للموكل. فإن استويا، تخير فيهما على الصحيح. وفي وجه: لا يصح الوكيل حتى يبين. ثم إذا باع الوكيل على أحد الاوصاف الممنوعة، لم يصر ضامنا للمبيع ما لم يسلمه إلى المشتري. فإذا سلم، ضمن. ثم القول فيه إذا كان المبيع باقيا، أو تالفا. وفي كيفية تغريم الموكل الوكيل والمشتري على ما بيناه فيما إذا باع العدل الرهن بغبن فاحش أو بغير نقد البلد، أو بنسيئة. فأما بيع الوكيل بغبن يسير، فجائز. واليسير هو الذي يتغابن الناس به ويحتملونه غالبا. وبيع ما يساوي عشرة بتسعة، متحمل. وبثمانية غير متحمل قال الروياني: ويختلف القدر المتحمل باختلاف أجناس الثياب من الثياب والعبيد والعقار وغيرها. فرع لا يجوز للوكيل أن يقتص على البيع بثمن المثل وهناك طالب بزيادة. فلو باع بثمن المثل، ثم حضر المجلس طالب بزيادة، فالحكم على ما سبق في عدل الرهن. فرع لو قال الموكل: بعه بكم شئت، فله البيع بالغبن الفاحش، ولا يجوز بالنسيئة، ولا بغير نقد البلد. ولو قال: بما شئت، فله البيع بغير النقد، ولا(3/537)
يجوز بالغبن، ولا بالنسيئة. ولو قال: كيف شئت، فله البيع بالنسيئة. ولا يجوز بالغبن، ولا بغير نقد البلد، وعن القاضي حسين، جواز الجميع. ولو قال: بعه بما عز وهان، قال في التتمة: هو كقوله: بكم شئت. وقال العبادي: له البيع بالعرض والغبن، ولا يجوز بالنسيئة، وهو الاولى. فرع الوكيل بالبيع مطلقا، هل يجوز بيعه لابيه وابنه وسائر أصوله وفروعه ؟ وجهان. أصحهما: الجواز، كما لو باع صديقه، وكالعم يزوج موليته لابنه البالغ إذا أطلقت الاذن، وقلنا: لا يشترط تعيين الزوج، فإنه يصح قطعا. ويجري الوجهان في البيع للزوج والزوجة إذا قلنا: لا تقبل شهادته له، أو فيما لو باع لمكاتبه، والوجهان في الفروع المستقلين. أما ابنه الصغير، فلا يصح البيع له مطلقا. وكذا لا يبيع من نفسه على الصحيح المعروف. وعن الاصطخري، جوازه. فعلى الصحيح: لو صرح في الاذن في بيعه لنفسه، فوجهان. قال ابن سريج: يصح. وقال الاكثرون: لا يصح. ولو أذن في بيعه لابنه الصغير، قال في التتمة: هو على هذا الخلاف. وقال البغوي: وجب أن يجوز. ويجري الوجهان فيما لو وكله في الهبة لنفسه، أو تزويج بنته لنفسه. وفي تولي ابن العم طرفي النكاح، أن يتزوج بنت عمه بإذنها وهو وليها، والنكاح أولى بالمنع. وفيما لو وكل مستحق الدين المدين باستيفائه من نفسه، أو وكل مستحق القصاص الجاني باستيفائه من نفسه في النفس أو الطرف، أو وكل الامام السارق في قطع يده، أو وكل الزاني ليجلد نفسه. والصحيح: المنع في كل ذلك، وطردوهما في الوكيل في الخصومة من الجانبين، والاصح: المنع. فعلى هذا يتخير ويخاصم لايهما شاء. ولو توكل في طرفي النكاح أو البيع، فعلى الوجهين. وقيل بالمنع قطعا. ولو وكل(3/538)
من عليه الدين في إبراء نفسه، فقيل على الوجهين. وقيل: يجوز قطعا، وهو بناء على اشتراط القبول في الابراء. فإن اشترطناه، جرى الوجهان، وإلا فيجوز قطعا، كما لو وكل من عليه القصاص في العفو، والعبد في إعتاق نفسه. والوكيل في الشراء كالوكيل في البيع في أنه لا يشتري من نفسه، ولا مال ابنه الصغير. وفي ابنه الكبير، الوجهان في سائر الصور. قلت: وإذا وكل الابن الكبير أباه في بيع، لم يجز أن يبيع لنفسه على الاصح. وحكى في الحاوي وجها: أنه يجوز تغليبا للابوة، كما لو كان في حجره. والله أعلم. فرع إذا أذن في البيع مؤجلا، نظر. إن قدر الاجل، صح التوكيل. وإن أطلق، فوجهان. أحدهما: لا يصح، لاختلاف الغرض. وأصحهما: يصح. وفيما يحمل عليه، أوجه. أصحها: أنه ينظر إلى المتعارف في مثله. فإن لم يكن فيه عرف، راعى الانفع. والثاني. له التأجيل إلى ما شاء. والثالث: إلى سنة. الصورة الثانية: في قبض الثمن، وإقباض المبيع. فإذا وكله بالبيع مطلقا، فهل يملك الوكيل قبض الثمن ؟ وجهان. أحدهما: لا، لانه لم يأذن فيه، وقد يرضاه للبيع، ولا يرضاه لقبض الثمن. وأصحهما: نعم، لانه من توابع البيع ومقتضياته. وهل يملك تسليم المبيع إذا كان معه ؟ أشار كثيرون إلى الجزم بجوازه. وقال الشيخ أبو علي: هو على الوجهين في قبض الثمن. ولو صرح(3/539)
بهما، لم يملك التسليم ما لم يقبض الثمن، وعلى هذا جرى صاحب التهذيب وغيره. قلت: الاصح: جواز تسليمه، ولكن بعد قبض الثمن. فهذا هو الراجح في الدليل، وفي النقل أيضا، وقد صححه الرافعي في المحرر. والله أعلم. والوكيل في الصرف، يملك القبض والاقباض بلا خلاف، لانه شرط في صحة العقد، وكذلك في السلم يدفع وكيل المسلم رأس المال، ويقبضه وكيل المسلم إليه قطعا. فرع إذا باع الوكيل بمؤجل حيث يجوز، سلم المبيع على المذهب، إذ لا حبس بالمؤجل، ويجئ وجه مما ذكره أبو علي: أنه لا يسلم، إذ لم يفوض إليه. ثم إذا حل الاجل، لا يملك الوكيل قبض الثمن إلا بإذن مستأنف. وإذا باع بحال، وجوزنا قبض الثمن، لم يسلم المبيع حتى يقبضه كما لو أذن فيهما صريحا، وله مطالبة المشتري بتسليم الثمن. وإذا لم نجوز له القبض، فلا تجوز له المطالبة، وللموكل المطالبة بالثمن على كل حال. ولو منعه من قبض الثمن، لم يجز قبضه قطعا. ولو منعه من تسليم المبيع، فكذلك عند الشيخ أبي علي. وقال آخرون: هذا الشرط فاسد، فإن التسليم مستحق بالعقد. وفي فساد الوكالة به وجهان. أحدهما: تفسد، ويسقط الجعل المسمى، فيرجع بأجرة المثل. والصواب أن يقال: المسألة مبنية على أن في صورة الاطلاق، هل للوكيل التسليم، أم لا ؟ إن قلنا: لا، فعند المنع أولى، وإن قلنا: نعم، فذلك من توابع العقد وتتماته، لا لان تسليمه مستحق بالعقد، فإن المستحق هو التسليم، لا تسليمه بعينه، والممنوع منه تسليمه. فلو قال: امنع المبيع منه، فهذا شرط فاسد، لان منع الحق عمن(3/540)
يستحق، وإثبات يده عليه، حرام. وفرق بين قوله: لا تسلمه إليه، وقوله: أمسكه أو امنعه. فرع الوكيل بالشراء، إن لم يسلم الموكل إليه الثمن، واشترى في الذمة، فسيأتي الكلام - في أن المطالبة بالثمن، على من تتوجه ؟ - في الحكم (من الباب) الثاني إن شاء الله تعالى. وإن سلمه إليه واشترى بعينه، أو في الذمة، فهل يملك تسليم الثمن وقبض المبيع بمجرد الاذن في الشراء ؟ قال في التتمة والتهذيب: فيه الخلاف السابق في وكيل البائع، وجزم الغزالي بالجواز، فإن العرف يقتضيه. قلت: الصحيح: القطع بالجواز، وهو الذي جزم به صاحب الحاوي والاكثرون. وقال صاحب الشامل: يسلم الثمن قطعا، ويقبض المبيع على الاصح، ففرق بينهما. والله أعلم. فرع إذا سلم المشتري الثمن إلى الموكل أو الوكيل حيث يجوز قبضه، لزم الوكيل تسليم المبيع وإن لم يأذن الموكل فيه، لان الثمن إذا قبض صار دفع المبيع مستحقا، وللمشتري الانفراد بأخذه. فإن أخذه المشتري، فذاك، وإن سلمه الوكيل، فالامر محمول على أخذ المشتري، فلا حكم للتسليم. فرع ذكرنا أن الوكيل لا يسلم المبى قبل قبض الثمن. فلو فعل، غرم للموكل قيمته إن كانت القيمة والثمن سواء، أو كان الثمن أكثر. فإن كانت القيمة أكثر، بأن باعه بغبن محتمل، فهل يغرم جميع القيمة، أم يحط قدر الغبن ؟ وجهان. أصحهما: أولهما. فإن باعه بغبن فاحش بإذن الموكل، فقياس الوجه الثاني: أن لا يغرم إلا قدر الثمن، ثم إذا قبض الوكيل الثمن بعدما غرم، دفعه إلى الموكل، واسترد المغروم. فرع الوكيل باستيفاء الحق، هل يثبته، أو باثباته، هل يستوفيه عينا كان أو دينا ؟ فيه أوجه. أصحها: لا. والثاني: نعم. والثالث: يثبت ولا يستوفي. فلو كان الحق قصاصا أو حدا، لم يستوفه على المذهب. وقال ابن خيران: على الوجهين.(3/541)
الصورة الثالثة: في شرائه المعيب. فللوكيل بالشراء حالان. أحدهما: أن يوكل في شراء موصوف، فلا يشتري إلا سليما، فإن اشترى معيبا، نظر، إن كان مع العيب يساوي ما اشتراه به، فإن جهل العيب، وقع عن الموكل، وإن علمه، فأوجه. أصحها: لا يقع عنه، لان الاطلاق يقتضي سليما. والثاني: يقع. والثالث: إن كان عبدا يجزئ في الكفارة، وقع عنه، وإلا، فلا، إلا أن يكون كافرا، فإنه يجوز للوكيل شراؤه. وإن لم يساو ما اشتراه (به)، فإن علم، لم يقع عن الموكل، وإن جهل، وقع عنه على الاصح عند الاكثرين، كما لو اشتراه بنفسه جاهلا. وحيث قلنا بوقوعه عن الموكل، فإن كان جاهلا، فللموكل الرد قطعا، وكذا للوكيل على الصحيح. وعن ابن سريج: أنه لا ينفرد بالرد. وإن كان الوكيل عالما، فلا رد له، وللموكل الرد على الاصح. فعلى هذا، هل ينتقل الملك إلى الوكيل، أم ينفسخ العقد من أصله ؟ وجهان. فمن قال بالانتقال، كأنه يقول: ينعقد موقوفا حتى يتبين الحال، وإلا، فيستحيل ارتداد الملك من الموكل إلى الوكيل، قاله الامام. وهذا الخلاف، تفريع على وقوعه للموكل مع علم الوكيل، وهو خلاف ظاهر المذهب. الحال الثاني: أن يكون وكيلا في شراء معين. فإن لم ينفرد الوكيل في الحال الاول بالرد، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. الاصح المنصوص: الجواز، لان الظاهر أنه يريده بشرط السلامة. ولم يذكروا في هذا الحال، متى يقع عن الموكل، ومتى لا يقع ؟ والقياس: أنه كما سبق في الحال الاول. لكن لو كان المبيع معيبا يساوي ما اشتراه به وهو عالم، فايقاعه عن الموكل هنا أولى، لجواز تعلق الغرض بعينه. وكل ما ذكرناه في الحالين، فيما إذا اشترى في الذمة. أما إذا اشترى بعين مال الموكل، فحيث قلنا هناك: لا يقع عن الموكل، لا يصح هنا أصلا. وحيث قلنا: يقع، فكذا هنا، وليس للوكيل الرد على الاصح. ومتى ثبت الرد للوكيل في صورة الشراء في الذمة، فاطلع الموكل على العيب قبل اطلاع الوكيل أو بعده، ورضيه، سقط خيار الوكيل، ولا يسقط خيار الموكل بتأخير الوكيل وتقصيره. وإذا أخر الوكيل(3/542)
الرد، أو صرح بالزام العقد، فهل له العود إلى الرد، لان أصل الحق باق وهو نائب، أم لا، لانه بالتأخير كالعازل نفسه عن الرد ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فإذا قلنا به، وأثبتنا له العود ولم يعد، فاطلع الموكل عليه، وأراد الرد، فله ذلك إن سماه الوكيل في الشراء، أو نواه وصدقه البائع، وإلا، فوجهان. أحدهما: يرده على الوكيل، ويلزمه المبيع، لانه اشترى في الذمة ما لم يأذن فيه الموكل. فانصرف إليه. وبهذا قطعا في التهذيب والتتمة. والثاني وبه قطع الشيخ أبو حامد وأصحابه: أن المبيع للموكل، وقد فات الرد لتفريط الوكيل. ويضمن الوكيل، وفيما يضمنه وجهان. قال أبويحيى البلخي: يضمن قدر نقص قيمته من الثمن. فلو كانت القيمة تسعين، والثمن مائة، رجع بعشرة. فإن تساويا، فلا رجوع. وقال الاكثرون: يرجع بارش العيب من الثمن. قلت: المذكور عن التهذيب والتتمة أصح، وقد نقله صاحب المهذب عن نص الشافعي رضي الله عنه. والله أعلم. فرع لو أراد الوكيل الرد بالعيب، فقال البائع: أخر حتى يحضر الموكل، لم يلزمه إجابته. وإذا رد، فحضر الموكل ورضيه، احتاج إلى استئناف الشراء. ولو أخر كما التمس البائع، فحضر الموكل ولم يرضه، قال البغوي: المبيع للوكيل، ولا رد، لتأخيره مع الامكان. وقيل: له الرد، لانه لم يرض بالعيب. ولقائل أن يقول للبغوي: أنت وسائر الاصحاب متفقون على أنه إذا رضي الوكيل بالعيب، ثم حضر الموكل وأراد الرد، فله ذلك إن كان الوكيل سماه أو نواه، وهنا الوكيل والموكل والبائع متصادقون على أن الشراء وقع للموكل، ومن ضرورة ذلك أن يكون سماه أو نواه، فوجب أن يقال: المبيع للموكل، وله الرد. فرع إذا أراد الوكيل الرد، فقال البائع: قد عرفه الموكل ورضيه، ولا رد لك، نظر، إن لم يحتمل بلوغ الخبر إليه، لم يلتفت إلى قوله، وإن احتمل، وأنكر الوكيل، حلف على نفي العلم برضى الموكل. وفوجه ضعيف: لا يحلف. فإن عرضنا اليمين على الوكيل، فحلف، رده. فإن حضر الموكل، فصدق البائع، فعن ابن سريح: أن له استرداد المبيع من البائع، لموافقته إياه على الرضى قبل الرد. وعن القاضي حسين: لا يسترد، وينفذ فسخ الوكيل.(3/543)
قلت: المنقول عن ابن سريج أصح، وبه قطع صاحبا الشامل والبيان. والله أعلم. وإن نكل الوكيل، حلف البائع، وسقط رد الوكيل. ثم إذا حضر الموكل، وصدق البائع، فذاك. وإن كذبه، قال في التهذيب: يلزم العقد الوكيل، ولا رد له، لابطال الحق بالنكول. وفيه الاشكال السابق في الفرع قبله. فرع الوكيل بالبيع إذا باع، فوجد المشتري بالمبيع عيبا، رده عليه إن لم يعلمه وكيلا، وإن علمه، فإن شاء رده عليه، ثم هو يرد على الموكل، وإن شاء رد على الموكل. وهل للوكيل حط بعض الثمن للعيب ؟ فيه قولان. قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: عدم الحط. والله أعلم. ولو زعم الموكل حدوث العيب في يد المشتري، وصدق الوكيل المشتري، رد على الوكيل، ولم يرد الوكيل على الموكل. فرع سيأتي في كتاب القراض إن شاء الله تعالى: أن الوكيل بالشراء، هل يشتري من يعتق على الموكل ؟ فإن قلنا: يشتريه، فكان معيبا، فللوكيل رده، لانه لا يعتق على الموكل قبل رضاه بالعيب، ذكره في التهذيب. الصورة الرابعة: في توكيل الوكيل، فإن سكت الموكل عنه، نظر، إن كان أمرا يتأتى له الاتيان به، لم يجز أن يوكل فيه. وإن لم يتأت منه، لكونه لا يحسنه، أو لا يليق بمنصبه، فله التوكيل على الصحيح، لان المقصود من مثله الاستنابة. وفي وجه: لا يوكل، لقصور اللفظ. ولو كثرت التصرفات الموكل فيها، ولم يمكنه الاتيان بجميعها، لكثرتها، فالمذهب: أنه يوكل فيما يزيد على الممكن، ولا يوكل في الممكن. وفي وجه: يوكل في الجميع. وقيل: لا يوكل في الممكن. وفي(3/544)
الباقي وجهان. وقيل: في الجميع وجهان. وإن أذن له في التوكيل، فله أحوال. الاول: إذا قال: وكل عن نفسك، ففعل، انعزل الثاني بعزل الاول إياه، وبموته وجنونه على الصحيح في الجميع، لانه نائبه. ولو عزل الموكل الاول، انعزل. وفي انعزال الثاني بإنعزاله هذا الخلاف. ولو عزل الموكل الثاني، انعزل على الاصح، كما ينعزل بموته وجنونه. والثاني: لا، لانه ليس وكيلا من جهته. والذي يجمع هذه الاختلافات، أن الوكيل الثاني، هل هو وكيل الوكيل الاول كما لو صرح به، أم وكيل الموكل، ويكون تقديره: أقم غيرك مقام نفسك ؟ والاصح: أنه وكيل الوكيل الاول. الحال الثاني: أن يقول: وكل عني، فالثاني وكيل الموكل، وله عزل أيهما شاء، وليس لاحدهما عزل الآخر، ولا ينعزل أحدهما بانعزال الآخر. الحال الثالث: إذا قال: وكلتك في كذا، وأذنت لك أن توكل فيه، ولم يقل: عنك، ولا عني، فهذا كالصورة الاولى، أم كالثانية ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا جوزنا له أن يوكل في صورة سكوت الموكل، فينبغي أن يوكل عن موكله. فلو وكل عن نفسه، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يجوز. والله أعلم. فرع حيث ملك الوكيل أن يوكل، فشرطه أن يوكل أمينا، إلا أن يعين له غيره. ولو وكل أمينا، ثم فسق، هل له عزله ؟ وجهان. قلت: أقيسهما: المنع. والله أعلم. فرع لو وكله في تصرف، وقال: افعل فيه ما شئت، لم يكن ذلك إذنا في التوكيل على الاصح.(3/545)
قلت: لو قال: كل ما تصنعه، فهو جائز، فهو كقوله: افعل ما شئت. والله أعلم. الصورة الخامسة: في امتثال تقييد الموكل. والصور المذكورة من أول الباب إلى هنا، مفروضة في التوكيل المطلق، ومن هنا إلى آخره في التوكيل المقرون بتقييد. وحاصله: أنه يجب مراعاة تقييد الموكل، ورعاية المفهوم منه بحسب العرف، وفيه مسائل. إحداها: إذا عين الموكل شخصا، بأن قال: بع لزيد. أو (عين) وقتا، بأن قال: بع يوم الجمعة، لم يجز أن يبيع لغير زيد، ولا قبل الجمعة، ولا بعده. قلت: هكذا قال الاصحاب في البيع قبل الجمعة وبعده: إنه لا يصح. قالوا: وكذا حكم العتق، لا يجوز قبل الجمعة بعده. وأما الطلاق، فنقل صاحبا الشامل والبيان عن الداركي، أنه قال: إن طلقها قبل الجمعة، لم يقع، وإن طلقها بعده يقع، لانها إذا كانت مطلقة يوم الجمعة، كانت مطلقة يوم السبت، بخلاف الخميس. ولم أر هذا لغيره، وفيه نظر. والله أعلم. لو عين مكانا من سوق ونحوها، نظر، إن كان له في ذلك المكان غرض ظاهر، بأن كان الراغبون فيه أكثر، أو النقد فيه أجود، لم يجز البيع في غيره. وإلا، فوجهان. أحدهما: يجوز، وبه قال القاضي أبو حامد، وقطع به الغزالي. وأصحهما عند ابن القطان والبغوي: المنع. قلت: قطع بالجواز أيضا صاحبا التنبيه والتتمة وغيرهما، لكن الاصح على الجملة: المنع، وهو الذي صححه الماوردي والرافعي في المحرر. قلت: هذا إذا لم يقدر الثمن. فإن قال: بع في سوق كذا بمائة، فباع بمائة في غيرها، جاز، صرح به صاحبا الشامل والتتمة وغيرهما. والله أعلم. ولو نهاه صريحا عن البيع في غيره، امتنع قطعا. ولو قال: بع في بلد كذا، قال ابن كج: هو كقوله: بع في سوق كذا، حتى لو باع في بلد آخر، جاء فيه(3/546)
التفصيل المذكور، وهذا صحيح، لكنه يصير ضامنا بالنقل من ذلك البلد، ويكون الثمن مضمونا في يده. بل لو أطلق التوكيل في البيع في بلد، فليبع فيه فإن نقل، ضمن. المسألة الثانية: قال: بع بمائة درهم، لم يبع بدونها، وله البيع بأكثر. والمقصود بالتقدير: أن لا ينقص فيهما من العرف. وفي وجه شاذ حكاه العبادي: لا يجوز البيع بأكثر من مائة. والصحيح المعروف: الاول. ولو نهاه عن الزيادة صريحا، لم يزد قطعا. قلت: حكي في النهاية والبسيط عن صاحب التقريب أنه لو قال: بع بمائة ولا تزد، فزاد، أو اشتر هذا العبد بمائة ولا تنقص، فنقص، ففي صحته وجهان. قالا: والوجه أن يقال: إن أتى بما هو نص في المنع، لم ينفذ، لمخالفته، وإن احتمل أنه يريد: لا تتعب نفسك في طلب الزيادة والنقص، اتجه التنفيذ. والله أعلم. وهل له البيع بمائة وهناك راغب بزيادة على المائة ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: المنع، لانه مأمور بالاحتياط والغبطة. والله أعلم. قال الاصحاب: ولو كان المشتري معينا، فإن قال: بعه لزيد بمائة، لم يجز أن يبيع بأكثر منها قطعا، لانه ربما قصد إرفافه. فرع لو قال: بع ثوبي، ولا تبعه بأكثر من مائة، لم يبعه بأكثر من مائة، ويبيع بها وبما دونها ما لم ينقص عن ثمن المثل. ولو قال: بعه بمائة، ولا تبعه بمائة وخمسين، فليس له بيعه بمائة وخمسين، ويجوز بما دون ذلك ما لم ينقص عن مائة، ولا يجوز بما زاد على مائة وخمسين على الاصح. فرع الشراء كالبيع فيما سبق. فإذا قال: اشتر بمائة، فله الشراء بأقل، إلا أن ينهاه، ولا يشتري بما فوقها. ولو قال: اشتر بمائة، ولا تشتر بخمسين، فله الشراء بالمائة وبما بينها وبين خمسين، ولا يجوز بخمسين. وفيما دونها، الوجهان.(3/547)
قلت: قال أصحابنا: لو قال: اشتر عبد فلان بمائة، فاشتراه بأقل منها، صح، وهذا يخالف ما سبق في قوله: بعه لزيد بمائة. قال صاحب الحاوي: والفرق أنه في البيع ممنوع من قبض ما زاد على المائة، فلا يجوز قبض ما نهي عنه. وفي الشراء، مأمور بدفع مائة، ودفع الوكيل بعض المأمور به جائز. والله أعلم. المسألة الثالثة: لو قال: بعه إلى أجل، وبين قدره، أو قلنا: لا حاجة إلى بيانه، وحملناه على المعتاد، فخالف وباع حالا، نظر، إن باعه بقيمته حالا، لم يصح، لانه أقل مما أمره به. وإن باعه حالا بقيمته إلى ذلك الاجل، نظر، إن كان في وقت لا يؤمن النهب والسرقة، أو كان لحفظه مؤنة في الحال، لم يصح أيضا. وإن لم يكن شئ من ذلك، صح على الاصح. ولا فرق فيما ذكرنا بين ثمن المثل عند الاطلاق، وبين ما قدره من الثمن، بأن قال: بع بمائة نسيئة، فباع بمائة نقدا. ولو قال: بع بكذا إلى شهرين، فباع به إلى شهر، ففيه الوجهان. ولو قال: اشتر حالا، فاشتراه مؤجلا بقيمته مؤجلا، لم يصح للموكل، لانه أكثر، وإن اشتراه بقيمته حالا، فوجهان كما في طرف البيع. قال صاحب التتمة: هذا إذا قلنا: إن مستحق الدين المؤجل إذا عجل حقه، يلزمه القبول. وأما إذا قلنا: لا يلزمه، فلا يصح الشراء هنا للموكل بحال. وذكر هو وغيره تخريجا على المسألة التي نحن فيها: أن الوكيل بالشراء مطلقا، لو اشترى نسيئة بثمن مثله نقدا، جاز، لانه زاد خيرا، وللموكل تفريغ ذمته بالتعجيل. قلت: هذا المنقول أولا عن التتمة قد عكسه صاحب الشامل فقال: هذا الخلاف حيث لا يجبر صاحب الدين على قبول تعجيله، وحيث يجبر، يصح الشراء قطعا. وهذا الذي قاله، أصح وأفقه وأقرب إلى تعليل الاصحاب. والله أعلم. فرع لو دفع (إليه) دينارا، وقال: اشتر به شاة، ووصفها، فاشترى به شاتين بتلك الصفة، نظر، إن لم تساو واحدة منهما دينارا، لم يصح الشراء للموكل وإن(3/548)
زادت قيمتهما جميعا على الدينار، لفوات ما وكل فيه. وإن ساوت كل واحدة دينارا، فقولان. أظهرهما: صحة الشراء، وحصول الملك فيهما للموكل، لانه حصل غرضه وزاد خيرا. والثاني: لا تقع الشاتان للموكل، لانه لم يأذن فيهما، بل ينظر، إن اشتراهما في الذمة، فللموكل واحدة بنصف دينار، والاخرى للوكيل، ويرد على الموكل نصف دينار. وللموكل أن ينتزع الثانية منه، ويقرر العقد فيهما، لانه عقد العقد له. وفي قول شاذ: لا يصح الشراء للموكل في واحدة منهما، بل يقعان للوكيل. وإن اشتراهما بعين الدينار، فقد اشترى شاة باذنه، وشاة بلا إذنه، فيبنى على وقف العقود. فإن قلنا: لا توقف على الاجازة، بطل العقد في شاة. وفي الاخرى قولا (تفريق) الصفقة. وإن قلنا: توقف، فإن شاء الموكل أخذهما بالدينار، وإن شاء اقتصر على واحدة ورد الاخرى على البائع. وهذا القول مشكل، لان تعين الشاة للموكل أو لابطال العقد فيها، ليس بأولى من تعين الاخرى، والتخيير يشبه بيع شاة من شاتين، وهو باطل. فإذا صححنا الشراء فيهما للموكل، فباع الوكيل إحداهما بغير إذن الموكل، ففي صحة بيعه، قولان. وعلى هذا يخرج ما إذا اشترى شاة بدينار، وباعها بدينارين. وقيل: هذا الخلاف، هو القولان في بيع الفضولي، فعلى الجديد: يلغو، وعلى القديم: ينعقد موقوفا على إجازة الموكل. قلت: الاظهر: أنه لا يصح بيعه. قال أصحابنا: ولو اشترى به شاتين، تساوي إحداهما دينارا، والاخرى بعض دينار، فطريقان. الاصح منهما عند القاضي أبي الطيب والاصحاب: صحة البيع فيهما جميعا، ويكون كما لو ساوت كل واحدة دينارا على ما سبق. فعلى الاظهر: يلزم البيع فيهما جميعا للموكل، وبه قطع المحاملي وغيره. والطريق الثاني: لا يصح في حق الموكل واحدة منهما.(3/549)
فعلى الاظهر: لو باع الوكيل التي تساوي دينارا، لم يصح قطعا، وإن باع الاخرى، فعلى الخلاف. وإن قلنا: للوكيل إحداهما، كان له التي لا تساوي دينارا بحصتها، وللموكل انتزاعها كما سبق. والله أعلم. فرع قال: بع عبدي بمائة درهم، فباعه بمائة وعبد أو وثوب يساوي مائة، فعن ابن سريج: أنه على قولين بالترتيب على مسألة الشاتين، وأولى بالمنع، لانه عدل عن الجنس. فإن أبطلنا، فهل يبطل في القدر المقابل لغير الجنس وهو النصف، أم في الجميع ؟ قولان. فإن قلنا: في ذلك القدر، قال في التتمة: لا خيار له، لانه إذا رضي ببيع الجميع بمائة، فالبعض أولى. وأما المشتري، فإن لم يعلم أنه وكيل بالبيع بدراهم، فله الخيار، وإن علم، فوجهان، لشروعه في العقد مع العلم بأن بعض المعقود عليه لا يسلم له. قلت: ولو باعه بمائة درهم ودينار، ففي التتمة والتهذيب: أنه على الخلاف في مائة وثوب. وقطع صاحب الشامل بالصحة، لانه من جنس الاثمان، وينبغي أن يكون الاصح في الجميع: الصحة. والله أعلم. فرع لو قال: بع بألف درهم، فباع بألف دينار، لم يصح، لانه غير المأمور به، وفيه احتمال ذكره ابن كج، والغزالي في الوجيز. وعلى هذا الاحتمال: البيع بعرض يساوي ألف دينار، يشبه أن يكون كالبيع بألف دينار. الصورة السادسة: في الوكالة في الخصومة، وفيها مسائل. إحداها: الوكيل بالخصومة من جهة المدعي، يدعي ويقيم البينة ويسعى في تعديلها، ويحلف ويطلب الحكم والقضاء، ويفعل ما هو وسيلة إلى الاثبات. والوكيل من جهة المدعى عليه، ينكر ويطعن في الشهود، ويسعى في الدفع بما أمكنه. الثانية: هل يشترط في التوكيل في الخصومة بيان ما فيه الخصومة، من دم، أو مال، أو عين، أو دين، أو أرش جناية، أو بدل مال حكى العبادي فيه وجهين كالوجهين في بيان من يخاصمه. الثالثة: لو أقر وكيل المدعي بالقبض، أو الابراء، أو قبول الحوالة، أو(3/550)
المصالحة على مال، أو بأن الحق مؤجل، أو أقر وكيل المدعى عليه بالحق للمدعي، لم يقبل، سواء أقر في مجلس الحكم، أم في غيره، كما لا يصح إبراؤه ومصالحته، لان اسم الخصومة لا يتناولهما، فكذا الاقرار. ثم وكيل المدعي، إذا أقر بالقبض، أو الابراء، انعزل، وكذا وكيل المدعى عليه، إذا أقر بالحق، انعزل، لانه بعد الاقرار ظالم في الخصومة. وأطلق ابن كج وجهين في بطلان وكالته بالاقرار. قلت: ولو أبرأ وكيل المدعي خصمه، لم ينعزل، لان إبراءه باطل، ولا يتضمن اعترافا بأن المدعي ظالم، الاقرار، وكذا فرق صاحب الحاوي وغيره. والله أعلم. فرع نقل في النهاية أن الوكيل بالخصومة من جهة المدعى عليه، لا يقبل تعديله بينة المدعي، لانه كالاقرار في كونه قاطعا للخصومة، وليس للوكيل قطع الخصومة بالاختيار. الرابعة: تقبل شهادة الوكيل على موكله، وتقبل لموكله في غير ما توكل فيه. وإن شهد بما توكل فيه، نظر، إن شهد قبل العزل، أو بعده وقد خاصم فيه، لم يقبل، للتهمة. وإن كان بعده ولم يخاصم، قبلت على الاصح. هذه هي الطريقة الصحيحة المشهورة. وقال الامام: قياس المراوزة، أن يعكس فيقال: إن لم يخاصم، قبلت، وإلا، فوجهان. قال: وهذا التفصيل، إذا جرى الامر على تواصل. فإن طال الفصل، فالوجه: القطع بقبول الشهادة مع احتمال فيه. الخامسة: لو وكل رجلين بالخصومة، ولم يصرح باستقلال كل واحد منهما، فوجهان. الاصح: لا يستقل واحد منهما، بل يتشاوران ويتباصران. كما لو وكلهما في بيع أو طلاق أو غيرهما، أو وصى إليهما. ولو وكل رجلين في حفظ متاع، فالاصح: أنه لا ينفرد واحد منهما بحفظه، بل يحفظانه في حرز بينهما. والثاني: ينفرد. فإن قبل القسمة، قسم ليحفظ كل واحد بعضه. السادسة: ادعى عند القاضي أنه وكيل زيد، فإن كان المقصود بالخصومة حاضرا، وصدقه، ثبتت الوكالة، وله مخاصمته، وإن كذبه، أقام البينة على الوكالة. ولا يشترط في إقامة البينة تقدم دعوى حق الموكل على الخصم. وإن كان(3/551)
غائبا، وأقام الوكيل بينة بالوكالة، سمعها القاضي وأثبتها. ولا يعتبر حضور الخصم في إثبات الوكالة، خلافا لابي حنيفة رضي الله عنه حيث (قال): لا تسمع البينة إلا في وجه الخصم. قال الامام: وهو بناء على مذهبه، في امتناع القضاء على الغائب. ثم حكى الامام عن القاضي حسين: أنه لا بد (و) أن ينصب القاضي مسخرا ينوب عن الغائب، ليقيم المدعي البينة في وجهه. قال الامام: وهذا بعيد لا أعرف له أصلا، مع ما فيه من مخالفة الاصحاب. وحكى عنه أيضا أن القضاة اصطلحوا على أن من وكل في مجلس القضاء وكيلا بالخصومة، اختص التوكيل بالمخاصمة في ذلك المجلس. قال الامام: والذي نعرفه للاصحاب أنه يخاصم في ذلك المجلس وبعده، ولا نعرف للقضاة العرف الذي ادعاه. السابعة: وكل رجلا عند القاضي بالخصومة عنه، وطلب حقوقه، فللوكيل أن يخاصم عنه ما دام حاضرا في المجلس، اعتمادا على العيان. فإن غا ب وأراد الوكيل الخصومة عنه اعتمادا على اسم ونسب يذكره، فلا بد من إقامة بينة على أن فلان ابن فلان وكله، أو على أن الذي وكله هو فلان بن فلان، ذكره أصحابنا العراقيون، والشيخ أبو عاصم العبادي. وعبارة العبادي: إنه لا بد وأن يعرف الموكل شاهدان يعرفهما القاضي ويثق بهما. ثم إن الامام حكى عن القاضي حسين - رحمهما الله - أن عادة الحكام التساهل في هذه البينة، والاكتفاء بالعدالة الظاهرة، وترك البحث والاستزكاء تسهيلا على الغرباء. وقال القاضي أبو سعد ابن أبي يوسف في شرح مختصر العبادي: يمكن أن يكتفى بمعرف واحد إذا كان موثوقا به، كما قال الشيخ أبو محمد: إن تعريف المرأة في تحمل الشهادة عليها، يحصل يمعرف واحد، لانه إخبار لا شهادة. قلت: وإذا ادعى على وكيل مالا، وأقام بينة وقضى بها الحاكم، ثم حضر الغائب وأنكر الوكالة، أو ادعى عزله، لم يكن له أثر، لان الحكم على الغائب جائز. قال في التتمة: وإذا اعترف الخصم عند القاضي بأنه وكيل، جاز له المحاكمة قطعا. وفي وجوبها عليه، الخلاف فيما إذا اعترف بأنه وكيل في قبض الدين، هل يلزمه دفعه إليه، أم لا يجب حتى يقيم بينة ؟ والله أعلم.(3/552)
الصورة السابعة: وكله في الصلح عن الدم على خمر، ففعل، حصل العفو ووجبت الدية كما لو فعله الموكل بنفسه. فلو صالح على خنزير، فهو لغو على الاصح، فيبقى القصاص، لانه غير مأذون فيه. والثاني: أنه كالعفو على خمر. وعلى هذا، لو صالح على الدية، أو على ما يصلح عوضا، جاز. ولو جرت هذه المخالفة بين الموجب والقابل في الصلح، لغا قطعا، لعدم انتظام الخطاب. ولو وكله في خلع زوجته على خمر، فخالعها على خمر أو خنزير، فعلى ما سبق في الصلح عن الدم. فرع وكله في بيع أو شراء فاسد، لم يملك فاسدا ولا صحيحا، لعدم الاذن. الصورة الثامنة: في مخالفته، فإذا سلم إليه ألفا، وقال: اشتر بعينه ثوبا، فاشترى في الذمة لينقذ الالف، لم يصح للموكل. ولو قال: اشتر في الذمة وسلم الالف في ثمنه، فاشترى بعينه، لم يصح على الاصح. ولو سلمه إليه، وقال: اشتر ثوبا، ولم يقل: بعينه، ولا في الذمة، فوجهان. أحدهما: أنه كقوله: اشتر بعينه، لان قرينة التسليم تشعر به. وأصحهما: أن الوكيل يتخير بين الشراء بعينه أو في الذمة، لان الاسم يتناولهما. قلت: وإذا قال: اشتر في الذمة وسلمه فيه، فاشترى للموكل في الذمة، ونقد الوكيل الثمن من ماله، برئ الموكل من الثمن، ولا يرجع عليه الوكيل بشئ، لانه متبرع بقضاء دينه، ويلزمه رد الالف المعينة إلى الموكل، صرح به الماوردي وغيره، وهو ظاهر. والله أعلم.
فصل في حكم البيع والشراء المخالفين أمر الموكل أما البيع، فإذا قال: بع هذا العبد، فباع آخر، فباطل. وأما الشراء، فإن وقع بعين مال الموكل، فباطل. وإن وقع في الذمة، نظر، إن لم يسم الموكل، وقع عن الوكيل، وكذا(3/553)
إن سماه على الاصح. وتلغو التسمية، لان تسمية الموكل غير معتبرة في الشراء، فإذا سماه، ولم يكن صرفه إليه، صار كأنه لم يسمه. والثاني: العقد باطل. فإذا قلنا بالاصح، فذلك إذا قال: بعتك، فقال: اشتريت لموكلي فلان. فأما إذا قال البائع: بعت فلانا، فقال الوكيل: اشتريته له، فالمذهب بطلان العقد، لانه لم تجر بينهما مخاطبة. ويخالف النكاح حيث يصح من الولي ووكيل الزوج على هذه الصيغة، بل لا يصح إلا كذلك، لان للبيع أحكاما تتعلق بالمجلس كالخيار وغيره، وتلك الاحكام، إنما يمكن اعتبارها بالمتعاقدين، فاعتبر جريان المخاطبة بينهما، والنكاح سفارة محضة. ثم ما ذكرناه في هذا الفصل، تفريع على الجديد، وهو منع وقف العقود، وإلغاء تصرف الفضولي. وأما على القديم، فالوكيل كأجنبي، فيقف الشراء في الذمة على إجازته. فإن أجاز، وقع عنه، وإلا، فعن الوكيل، وكذا الشراء بعين ماله، وبيع العبد الآخر، ينعقدان موقوفين على هذا القول كما ذكرنا في بابه. فرع وكيل المتهب في القبول، يجب أن يسمي موكله، وإلا فيقع عنه، لجريان الخطاب معه، ولا ينصرف بالنية إلى الموكل، لان الواهب قد يقصد بتبرعه المخاطب، وليس كل أحد يسمح بالتبرع عليه، بخلاف الشراء، فإن المقصود منه حصول العوض. قلت: قال في البيان: لو وكله أن يزوج بنته زيدا، فزوجها وكيل زيد لزيد، صح. ولو وكله في بيع عبده لزيد، فباعه لوكيل زيد، لم يصح. والفرق أن النكاح لا يقبل نقل الملك، والبيع يقبله. ولهذا يقول وكيل النكاح: زوج موكلي، ولا يقول: زوجني لموكلي. وفي البيع يقول: بعني لموكلي (ولا يقول: بع موكلي). والله أعلم.
الحكم الثاني : للوكالة حكم الامانة. فيد الوكيل يد أمانة، فلا يضمن ما تلف في يده بلا تفريط، سواء كان بجعل، أو متبرعا، فإن تعدى، بأن ركب الدابة، أو لبس الثوب، ضمن قطعا، ولا ينعزل عن المذهب، بل يصح تصرفه، وإذا باع وسلم المبيع، زال عنه الضمان، لانه أخرجه من يده بإذن المالك. وفي زوال(3/554)
الضمان بمجرد البيع، وجهان. أحدهما: نعم، لزوال ملك الموكل. وأصحهما: لا، لانه يرتفع العقد بتلفه قبل القبض. وأما الثمن الذي يقبضه، فلا يكون مضمونا عليه، لانه لم يتعد فيه. ولو رد عليه المبيع بعيب، عاد الضمان. فرع لو دفع إلى وكيله دراهم ليشتري بها شيئا، فتصرف فيها على أن يكون قرضا عليه، صار ضامنا. وليس له أن يشتري للموكل بدراهم نفسه، ولا في الذمة، فلو حصل، كان ما اشتراه لنفسه دون موكله. ولو عادت الدراهم التي تصرف فيها إليه، فاشترى بها للموكل، فهو على الخلاف في انعزاله بالتعدي. فعلى المذهب: لا ينعزل، فيصح شراؤه، ولا يكون ما اشتراه مضمونا عليه، لانه لم يتعد فيه. فلو رد ما اشتراه بعيب، واسترد الثمن، عاد مضمونا عليه. فرع متى طالب الموكل الوكيل برد ماله، لزمه أن يخلي بينه وبينه، فإن امتنع، صار ضامنا كالمودع. الحكم الثالث: في العهدة، فيه مسائل. إحداها: الوكيل بالشراء إذا اشترى لموكله ما وكله في شرائه فلمن يقع الملك ؟ وجهان. أحدهما: للوكيل ثم ينتقل إلى الموكل، لان الخطاب جرى معه. وأحكام العقد تتعلق به. والصحيح: أنه يقع أولا للموكل، كما لو اشترى الاب للطفل، فإنه يقع للطفل ابتداء، ولانه لو وقع للوكيل، لعتق عليه أبوه إذا اشتراه لموكله، فلا يعتق قطعا. الثانية: أحكام العقد في البيع والشراء، تتعلق بالوكيل دون الموكل، حتى تعتبر رؤية الوكيل للمبيع دون الموكل، وتلزم بمفارقة الوكيل المجلس دون الموكل، وكذا تسليم رأس المال في السلم والتقابض حيث يشترط، يعتبران قبل مفارقة الوكيل. والفسخ بخيار المجلس وخيار الرؤية، إن أثبتناه يثبت للوكيل دون الموكل، حتى لو أراد الموكل الاجازة، كان للوكيل الفسخ، ذكره في التتمة.(3/555)
الثالثة: إذا اشترى الوكيل بثمن معين، طالبه به البائع، إن كان في يده، وإلا، فلا. وإن اشترى في الذمة، فإن كان الموكل قد سلم إليه ما يصرفه في الثمن، طالبه البائع، وإلا، فإن أنكر البائع كونه وكيلا، أو قال: لا أدري، هل هو وكيل، أم لا ؟ طالبه به. وإن اعترف بوكالته، فهل يطالب به الموكل فقط ؟ أم الوكيل فقط ؟ أم يطالب أيهما شاء ؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث. فإن قلنا بالثاني، فهل للوكيل مطالبة الموكل قبل أن يغرم ؟ فيه وجهان. أصحهما: المنع. وإذا غرم الوكيل للبائع، رجع على الموكل، ولا يشترط لثبوت الرجوع اشتراط الرجوع على المذهب. وإذا قلنا بالثالث، فالوكيل كالضامن، والموكل كالمضمون عنه، فيرجع الوكيل إذا غرم. والقول في اعتبار شرط الرجوع، وفي أنه هل يطالبه بتخليصه قبل الغرم، كما سبق في الضمان. وفرع ابن سريج على الاوجه فقال: لو سلم دراهم إلى الوكيل ليصرفها إلى الثمن الملتزم في الذمة، ففعل، ثم ردها البائع بعيب، فإن قلنا بالوجه الاول أو الثالث، لزم الوكيل تلك الدراهم بأعيانها إلى الموكل، وليس له إمساكها ودفع بدلها. وإن قلنا بالثاني، فله ذلك، لان ما دفعه الموكل إليه على هذا الوجه، أقرضه إياه ليبرئ ذمته. فإن عاد، فهو ملكه. وللمستقرض إمساك ما استقرضه ورد مثله. ولك أن تقول: لا خلاف أن للوكيل أن يرجع على الموكل في الجملة، وإنما الكلام في أنه متى يرجع ؟ وبأي شئ يرجع ؟ فإذا كان كذلك، اتجه أن يكون تسليم الدراهم دفعا لمؤنة التراجع، لا إقراضا. الرابعة: الوكيل بالبيع إذا قبض الثمن، إما بإذن صريح، وإما بمقتضى البيع. إذا قلنا به، فتلف المقبوض في يده، ثم خرج المبيع مستحقا، والمشتري معترف بالوكالة، فهل يرجع بالثمن على الوكيل لحصول التلف عنده ؟ أم على الموكل لانه سفيره ويده يده ؟ أم على من شاء منهما ؟ فيه الاوجه السابقة. فإن قلنا:(3/556)
على الموكل أو الوكيل، فغرم، لا يرجع أحدهما على صاحبه. وإن قلنا: يغرم أيهما شاء، فثلاثة أوجه. أصحها وأشهرها: أنه إن غرم الموكل، لم يرجع على الوكيل، وإن غرم الوكيل، رجع على الموكل. والثاني: يرجع الموكل دون الوكيل، لحصول التلف في يده. والثالث: لا يرجع واحد منهما. والذي يفتى به من هذه الاختلافات: أن المشتري يغرم من شاء منهما، والقرار على الموكل. ولذلك اقتصرنا على هذا الجواب في بدل الرهن وإن كان يطرد فيه الخلاف. الخامسة: الوكيل بالشراء إذا قبض المبيع وتلف في يده، ثم بان مستحقا، فللمستحق مطالبة البائع بقيمة المبيع أو مثله، لانه غاصب. وفي مطالبته الوكيل أو الموكل، الاوجه الثلاثة. قال الامام: والاقيس في المسألتين: أنه لا رجوع إلا على الوكيل، لحصول التلف في يده، وبظهور الاستحقاق بان أن لا عقد، وصار الوكيل قابضا ملك غيره بلا حق. ويجري الخلاف في القرار في هذه الصورة. السادسة: الوكيل بالبيع، إذا باع بثمن في الذمة، واستوفاه ودفعه إلى الموكل، وخرج مستحقا أو معيبا، فرده، فللموكل أن يطالب المشتري بالثمن، وله أن يغرم الوكيل، لانه صار مسلما للمبيع قبل أخذ عوضه. وفيما يغرمه وجهان. أحدهما: قيمة العين، لانه فوتها. والثاني: الثمن، لان حقه انتقل إليه. فإن قلنا بالاول، فأخذ منه القيمة، طالب الوكيل المشتري بالثمن. فإذا أخذه، دفعه إلى الموكل واسترد القيمة. السابعة: دفع إليه دراهم ليشتري عبدا بعينها، ففعل، فتلفت في يده قبل التسليم، انفسخ البيع، ولا شئ على الوكيل. وإن تلفت قبل الشراء، ارتفعت الوكالة. ولو قال: اشتر في الذمة، واصرفها إلى الثمن، فتلفت في يد الوكيل بعد الشراء، لم ينفسخ العقد. ولكن هل ينقلب إلى الوكيل ويلزمه الثمن ؟ أم يبقى للموكل. وعليه مثل الدراهم ؟ أم يقال للموكل: إن أردته فادفع مثل تلك الدراهم، وإلا فيقع عن الوكيل وعليه الثمن ؟ فيه ثلاثة أوجه. ولو تلفت قبل الشراء، لم ينعزل. فإن اشترى للموكل، فهل يقع له، أم للوكيل ؟ فيه الوجهان الاولان من هذه الثلاثة. قلت: هكذا ذكره صاحب التهذيب: وقطع في الحاوي بأنه إذا قال:(3/557)
اشتر في الذمة أو بعينها، فتلفت، انفسخت الوكالة، وانعزل، فإذا اشترى بعده، وقع للوكيل قطعا. والله أعلم. فرع إذا اشترى الوكيل شراء فاسدا، وقبض، وتلف المبيع في يده، أو بعد تسليمه إلى الموكل، فللمالك مطالبته بالضمان، ثم هو يرجع على الموكل. فرع لو أرسل رسولا ليستقرض له، فاقترض، فهو كوكيل المشتري. وفي مطالبته ما في مطالبة وكيل المشتري بالثمن. والمذهب: أنه يطالب، وأنه إذا غرم، رجع على الموكل. الحكم الرابع: الجواز من الجانبين، فلكل واحد منهما العزل. ولاتفاعها أسباب. الاول: أن يعزله الموكل بقوله: عزلته، أو رفعت الوكالة، أو فسختها، أو أبطلتها، أو أخرجته عنها، فينعزل سواء ابتدأ توكيله، أو وكله بسؤال الخصم، بأن سألت زوجها أن يوكل في الطلاق، أو الخلع، أو المرتهن الراهن أن يوكل ببيع الرهن، أو سأله خصمه أن يوكل في الخصومة. وهل ينعزل قبل بلوغ العزل إليه ؟ قولان. أظهرهما: ينعزل. فإن قلنا: لا ينعزل حتى يبلغه الخبر، فالمعتبر خبر من تقبل روايته، دون الصبي والفاسق. وإذا قلنا: ينعزل، فينبغي للموكل أن يشهد على العزل، لان قوله بعد تصرف الوكيل: كنت عزلته، لا يقبل. الثاني: إذا قال الوكيل: عزلت نفسي، أو أخرجتها عن الوكالة، أو رددتها، انعزل قطعا، كذا قاله الاصحاب. وقال بعض المتأخرين: إن كانت صيغة الموكل: بع واعتق ونحوهما من صيغ الامر، لم ينعزل برد الوكالة، وعزله نفسه، لان ذلك إذن وإباحه، فأشبه ما لو أباحه الطعام لا يرتد برد المباح له، ولا يشترط في انعزاله بعزل نفسه حصول علم الموكل. الثالث: ينعزل الوكيل بخروجه، أو خروج الموكل عن أهلية تلك التصرفات بالموت أو الجنون. وفي وجه: لا ينعزل بجنون لا يمتد، بحيث تتعطل(3/558)
المهمات. ويخرج إلى نصب قوام. والاغماء، كالجنون على الاصح. والثاني: لا ينعزل به، واختاره الامام، والغزالي في الوسيط، لان المغمى عليه، لا يلتحق بمن تولى عليه. والمعتبر في الانعزال، التحاق الوكيل والموكل بمن تولى عليه. وفي معنى الجنون، الحجر عليه بسفه، أو فلس في كل تصرف لا ينفذ منهما. وكذا لو طرأ الرق، بأن وكل حربيا، ثم استرق. وإذا جن الموكل، انعزل الوكيل في الحال وإن لم يبلغه الخبر قطعا، بخلاف العزل. الرابع: خروج محل التصرف عن ملك الموكل، بأن باع (الموكل) ما وكله في بيعه أو أعتقه. فلو وكله ببيعه. ثم آجره، قال في التتمة: ينعزل، لان الاجارة إن منعت البيع، لم يبق مالكا للتصرف، وإلا، فهي علامة الندم، لان من يريد البيع لا يؤاجر لقلة الرغبات. وتزويج الجارية، عزل. وفي طحن الحنطة وجهان. وجه الانعزال، بطلان اسم الحنطة. وأما العرض على البيع وتوكيل وكيل آخر، فليس بعزل قطعا. الخامس: لو وكل عبده في بيع أو تصرف آخر، ثم أعتقه أو باعه، ففي انعزاله أوجه. ثالثها: أنه إن كانت الصيغة: وكلتك، بقي الاذن. وإن كانت: بع، أو نحوه، ارتفع. والكتابة، كالبيع. وعبد غيره كعبده. وإذا حكمنا ببقاء الاذن في صورة البيع، لزمه استئذان المشتري، لان منافعه صارت له. فلو لم يستأذن، نفذ تصرفه لبقاء الاذن وإن عصى، قال الامام: وفيه احتمال. قلت: لم يصحح الرافعي شيئا من الخلاف في انعزاله، ولم يصححه الجمهور. وقد صحح صاحب الحاوي والجرجاني في المعاياة انعزاله. وقطع به الجرجاني في كتابه التحرير. وأما عبد غيره، فطرد الرافعي فيه الوجهين متابعة لصاحب التهذيب. ولكن المذهب، والذي جزم به الاكثرون: القطع ببقائه. قال صاحب البيان: والخلاف في عبد غيره، هو فيما إذا أمره السيد ليتوكل لغيره. فأما إن قال: إن شئت فتوكل لفلان، وإلا، فلا تتوكل، ثم أعتقه أو باعه، فلا ينعزل قطعا كالاجنبي. والله أعلم.(3/559)
السادس: لو جحد الوكيل الوكالة، هل يكون ذلك عزلا ؟ فيه أوجه، أصحها: ثالثها: إن كان لنسيان أو غرض في الاخفاء، لم يكن عزلا، وإن تعمد ولاعرض في الاخفاء، انعزل. ولو أنكر الموكل التوكيل، ففي انعزاله الاوجه. قلت ومن فروع هذه، لو وكل رجلين، فعزل أحدهما لا بعينه، فوجهان في الحاوي والمستظهري، أصحهما: لا ينفذ تصرف واحد منهما حتى يميز، للشك في أهليته. والثاني: لكل التصرف، لان الاصل بقاء تصرفه. والله أعلم. فرع متى قلنا: الوكالة جائزة، أردنا الخالية عن الجعل. فأما إذا شرط (فيها) جعل معلوم، واجتمعت شرائط الاجارة، وعقد بلفظ الاجارة، فهي لازمة. وإن عقد بلفظ الوكالة، أمكن تخريجه على أن الاعتبار بصيغ العقود، أم بمعانيها ؟
فصل في مسائل منثورة إحداها : وكله ببيع، فباع، ورد عليه المبيع بعيب، أو أمره بشرط الخيار، فشرطه، ففسخ البيع، لم يكن له بيعه ثانيا. الثانية: قال: بع نصيبي من كذا، أو قاسم شركائي، أو خذ بالشفعة، فأنكر الخصم ملكه، هل له الاثبات ؟ يخرج على الوجهين في أن الوكيل بالاستيفاء، هل يثبت ؟ الثالثة: قال: بع بشرط الخيار فباع مطلقا، لم يصح. ولو أمره بالبيع وأطلق، لم يكن للوكيل شرط الخيار للمشتري، وكذا ليس للوكيل بالشراء شرط الخيار للبائع. وفي شرطهما الخيالا نفسهما أو للموكل، وجهان. قلت: أصحهما: الجواز، وبه قطع في التتمة. والله أعلم. الرابعة: أمره بشراء عبد، أو بيع عبد، لا يجوز العقد على بعضه، لضرر التبعيض ولو فرضت فيه غبطة. وفيه وجه شاذ ضعيف. ولو قال: اشتره بهذا الثوب، فاشتراه بنصف الثوب، صح.(3/560)
الخامسة: قال: بع هؤلاء العبيد، أو اشتر لي خمسة أعبد، ووصفهم، فله الجمع والتفريق، إذ لا ضرر. ولو قال: اشترهم صفقة، ففرق، لم يصح للموكل. فلو اشترى خمسة من مالكين، لاحدهما ثلاثة، وللآخر اثنان دفعة، وصححنا مثل هذا العقد، ففي وقوع شرائهم عن الموكل وجهان. أحدهما: الصحة، لانه ملكهم دفعة. وأصحهما: المنع، لانه إذا تعدد البائع، لم تكن الصفقة واحدة. السادسة: قال: بع هؤلاء الاعبد الثلاثة بألف، لم يبع واحدا منهم بدون ألف. ولو باعه بألف، صح. ثم هل يبيع الآخرين ؟ فيه وجهان. أصحهما نعم. ولو قال: بع من عبيدي من شئت، أبقى بعضهم ولو واحدا. السابعة: وكله باستيفاء دينه على زيد، فمات زيد، نظر، إن قال: وكلتك بطلب حقي من زبد، لم يطالب الورثة. وإن قال: بطلب حقي الذي على زيد، طالبهم. قلت: ولو لم يمت، جاز له القبض من وكيله قطعا كيف كان، قاله في الشامل وغيره. والله أعلم. الثامنة: أمره بالبيع مؤجلا، لا يلزمه المطالبة بعد الاجل، ولكن عليه بيان الغريم. وكذلك لو قال: ادفع هذا الذهب إلى صائغ، فقال: دفعته، فطالبه الموكل ببيانه، فقال القفال: يلزمه البيان. فلو امتنع، صار متعديا، حتى لو بينه بعد ذلك، وكان تلف في يد الصائغ، يلزمه الضمان. قال القفال: والاصحاب يقولون: لا يلزمه البيان. قلت: هذا المنقول عن الاصحاب، ضعيف أو خطأ. والله أعلم. التاسعة: قال لرجل: بع عبدك لفلان بألف، وأنا أدفعه إليك، فباعه له،(3/561)
قال ابن سريج: يستحق البائع الالف على الآمر دون المشتري. فإذا غرم الآمر، رجع على المشتري. قلت: هذا كله مشكل مخالف للقواعد من وجهين، وهما لزوم الالف للآمر، ورجوعه بها بغير إذن المشتري. ومن قضى دين غيره بلا إذن، لا يرجع قطعا كما سبق في الضمان. وقد قال أصحابنا: لو قال: بع عبدك لفلان بألف علي، لم يصح التزامه. فالصواب: أنه لا يلزم الآمر شئ، لانه ضمان ما لم يجب، ولا جرى سبب وجوبه. ثم رأيت صاحب الحاوي رحمه الله، أوضح المسألة فقال: لو قال لرجل: بع عبدك هذا على زيد بألف درهم، وهي علي دونه، فله حالان. أحدهما: أن يكون هذا الآمر هو المتولي للعقد، فيصح ويكون مشتريا لغيره بثمن في ذمته، فيعتبر حال زيد المشتري له. فإن كان موليا عليه، أو أذن فيه، كان الشراء له، والثمن على العاقد الضامن. وإن كان غير مولى عليه، ولا أذن، كان المشترى للعاقد، يعني على الاصح فيما لو قال: اشتره لزيد، وليس وكيلا له وعلى وجه: بيعه باطل. الحال الثاني: أن يكون زيد هو العاقد، فوجهان. أحدهما: يصح ويكون العبد لزيد بلا ثمن، والثمن على الضامن الآمر، قاله ابن سريج. والثاني - قال: وهو الصحيح -: أن البيع باطل، لان عقد البيع ما أوجب تمليك المبيع عوضا على المالك، وهذا مفقود هنا، فيبطل. فعلى هذا، لو قال: بع عبدك على زيد بألف درهم، وخمسمائة علي، ففعل، فعند ابن سريج: العقد صحيح، وعلى المشتري ألف، وعلى الآمر خمسمائة، وعلى الصحيح: العقد باطل، هذا كلام صاحب الحاوي وهو واضح حسن. وعجب من ] الامام الرافعي، اقتصاره على ما حكاه عن ابن سريج، وإهماله بيان المذهب الصحيح. ثم حكايته عن ابن سريج، مخالفة في الرجوع ما ذكرنا. والله أعلم. العاشرة: قال: اشتر لي عبد فلان بثوبك هذا، أو بدراهمك، ففعل، حصل الملك للآمر ورجع عليه المأمور بالقيمة أو المثل. وفي وجه ضعيف: لا يرجع إلا أن يشرطا الرجوع.(3/562)
الحادية عشرة: متى قبض وكيل المشتري المبيع، وغرم الثمن من ماله، لم يكن له حبس المبيع ليغرم الموكل له. وفي وجه ضعيف: له ذلك. الثانية عشرة: وكله عمرو باستيفاء دينه من زيد، فقال زيد: خذ هذه العشرة، واقض بها دين عمرو، فأخذها، صار وكيلا لزيد في قضاء دينه، حتى يجوز لزيد استردادها ما دامت في يد الوكيل. ولو تلفت عند الوكيل، بقي الدين على زيد. ولو قال زيد: خذها عن الدين الذي تطالبني به لعمرو، فأخذها، كان قبضا لعمرو، وبرئ زيد، وليس له الاسترداد. ولو قال: خذها قضاء لدين فلان، فهذا محتمل للحالين. فلو تنازع عمرو وزيد، فالقول قول زيد بيمينه. قلت: المختار في هذه الصورة، أنه عند الاطلاق إقباض بوكالة عمرو. والله أعلم. الثالثة عشرة: دفع إليه دراهم ليتصدق بها، فتصدق ونوى نفسه، لغت نيته ووقعت الصدقة للآمر. الرابعة عشرة: وكل عبدا ليشتري له نفسه، أو مولى اخر من مولاه، صح على الاصح. فعلى هذا، قال صاحب التقريب: يجب أن يصرح بذكر الموكل فيقول: اشتريت نفسي منك لموكلي فلان، وإلا فقوله: اشتريت نفسي، صريح في اقتضاء العتق، فلا يندفع بمجرد النية. ولو قال العبد لرجل: اشتر لي نفسي من سيدي، ففعل، صح. قال صاحب التقريب: ويشترط التصريح بالاضافة إلى العبد، فلو أطلق، وقع الشراء للوكيل، لان البائع لا يرضى بعقد يتضمن الاعتاق قبل توفية الثمن. الخامسة عشرة: قال لرجل: أسلم لي في كذا، وأد رأس المال من مالك، ثم ارجع علي، قال ابن سريج: يصح ويكون رأس المال قرضا على الآمر. وقيل: لا يصح، لان الاقراض لا يتم إلا بالاقباض، ولم يوجد من المستقرض قبض. قلت: الاصح عند الشيخ أبي حامد وصاحب العدة: أنه لا يصح. قال الشيخ أبو حامد: هذا الذي قاله أبو العباس، سهو منه. قال: وقد نص الشافعي(3/563)
رضي الله عنه في كتاب الصرف، أن ذلك لا يجوز. والله أعلم. السادسة عشرة: لو أبرأ وكيل المسلم المسلم إليه، لم يلزم إبراؤه الموكل. لكن المسلم إليه لو قال: لا أعلمك وكيلا، وإنما التزمت لك شيئا وأبرأتني منه، نفذ في الظاهر، ويتعطل بفعله حق المسلم. وفي وجوب الضمان عليه قولا الغرم بالحيلولة. والاظهر: وجوبه، لكن لا يغرم مثل المسلم (فيه) ولا قيمته، كي لا يكون اعتياضا عن السلم، وإنما يغرم رأس المال، كذا حكاه الامام عن العراقيين، واستحسنه. ورأيت في تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يغرم للموكل مثل المسلم فيه. السابعة عشرة: قال: اشتلي طعاما، نص الشافعي رضي الله عنه، على أنه يحمل على الحنطة اعتبارا بعرفه. قال الروياني: وعلى هذا لو كان بطبرستان، لم يصح التوكيل، لانه لاعرف فيلهذا اللفظ عندهم. الثامنة عشرة: قال: وكلتك بابراء غرمائي، لم يملك الوكيل إبراء نفسه. فإن قال: وإن شئت فأبرئ نفسك، فعلى الخلاف في توكيل المديون بإبراء نفسه. ولو قال: فرق ثلثي على الفقراء، وإن شئت أن تضعه في نفسك فافعل، فعلى الخلاف فيمن أذن له في البيع لنفسه. التاسعة عشرة: قال: بع هذا ثم هذا، لزمه رعاية الترتيب، قاله القفال. العشرون: جعل للوكيل جلا، فباع، استحقه وإن تلف الثمن في يده، لان استحقاقه بالعمل وقد عمل قلت: وممسائل الباب فروع. أحدها: قال في الحاوي: لو شهد لزيد شاهدان عند الحاكم أن عمرا وكله، فإن وقع في نفس زيد صدقهما، جاز العمل بالوكالة. ولو رد الحاكم شهادتهما، لم يمنعه ذلك من العمل بها، لان قبولها عند زيد خبر، وعند الحاكم شهادة. وإن لم يصدقهما، لم يجز (له) العمل بها، ولا يغني قبول الحاكم شهادتهما عن تصديقه. الثاني: قال في الحاوي: إذا سأل الوكيل موكله أن يشهد على نفسه بتوكيله، فإن كانت الوكالة فيما لو جحده الموكل ضمنه الوكيل، كالبيع، والشراء،(3/564)
وقبض المال، وقضاء الدين، لزمه. وإن كانت فيما لا يضمنه الوكيل، كاثبات الحق بطلب الشفعة ومقاسمة الشريك، لم يلزمه. الثالث: قال في البيان: لو قال: اشتر لي جارية أطؤها، ووصفها، وبين ثمنها، فاشترى من تحرم عليه، أو أخت من يطؤها، لم يلزم الموكل، لانه غير المأذون فيه. الرابع: وكله أن يتزوج امرأة، ففي اشتراط تعيينها وجهان في البيان وغيره، الاصح أو الصحيح: الاشتراط. والله أعلم.
الباب الثالث في الاختلاف وهو ثلاثة أضرب. الاول: في أصل العقد. فإذا اختلفا في أصل الوكالة، أو كيفيتها، أو قدر ما يشترى به، فقال: وكلتني في بيع كله، أو بيع نسيئة، أو بعشرة، فقال: بل في بيع بعضه، أو بحال، أو بخمسة، فالقول قول الموكل. فرع أذن في شراء جارية، فاشتراها الوكيل بعشرين، وقال: أذنت لي في العشرين، وقال الموكل: بل في عشرة، وحلفناه، فحلف، فينظر في الشراء، أكان بعين مال الموكل، أم في الذمة ؟ فإن كان بعينه، فإن ذكر في العقد أن المال لفلان، وأن الشراء له، فهو باطل. وإن لم يذكر في العقد، وقال بعد الشراء: إنما اشتريت له، فإن صدقه البائع، فالعقد باطل، فإذا بطل، فالجارية للبائع وعليه رد ما أخذ. وإن كذبه البائع، وقال: إنما اشتريت لنفسك والمال لك، حلف على نفي العلم بالوكالة، وحكم بصحة الشراء للوكيل في الظاهر، وسلم الثمن المعين إلى البائع، وغرم الوكيل مثله للموكل. وإن كان الشراء في الذمة، نظر، إن لم يسم الموكل بل نواه، كانت الجارية للوكيل بالشراء له ظاهرا، وإن سماه، فإن صدقه البائع بطل الشراء، لاتفاقهما على أنه للغير. وإن كذبه، وقال: أنت مبطل في تسميته، لزم الشراء للوكيل. وهل يكون كما لو اقتصر على النية، أم يبطل الشراء ؟ وجهان سبق نظائرهما. أصحهما: صحته ووقوعه للوكيل. وحيث صححنا الشراء، وجعلنا الجارية للوكيل ظاهرا، وهو يزعم أنها للموكل، قال المزني: والشافعي رضي الله عنه: يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالآمر للمأمور،(3/565)
فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين، فقد بعته إياها بعشرين. فيقول الآخر: قبلت ليحل له الفرج. قال أصحابنا: إن أطلق الموكل وقال: بعتكها بعشرين. فقال المشتري: اشتريت، صارت الجارية له ظاهرا وباطنا. وإن علق كما ذكره المزني، فوجهان. أحدهما: لا يصح، للتعليق. قالوا: والتعليق فيما حكاه المزمي، من كلام الحاكم، لا من كلام الموكل. وأصحهما: الصحة، لانه لا يتمكن من البيع إلا بهذا الشرط، فلا يضر التعرض له. وسواء أطلق البيع، أو علقه، لا نجعل ذلك إقرارا بما قاله الوكيل. وإن امتنع الموكل من الاجابة، أو لم يرفق به الحاكم، نظر، إن كان الوكيل كاذبا، لم يحل له وطؤها، ولا التصرف فيها ببيع ولا غيره إن كان الشراء بعين مال الموكل، لان الجارية للبائع. وإن كان في الذمة، ثبت الحل، لوقوع الشراء للوكيل، لكونه مخالفا للموكل. وذكر في التتمة: أنه إذا كان كاذبا والشراء بعين مال الموكل، فللوكيل بيعها بنفسه أو بالحاكم، لان البائع يكون أخذ مال الموكل بغير استحقاق، وقد غرم الوكيل للموكل، وكان له أن يقول للبائع: رد مال الموكل، لكن تعذر ذلك باليمين، فله أخذ حقه من الجارية التي هي ملكه. وإن كان الوكيل صادقا، ففيه أوجه. أحدها: يحل للوكيل ظاهرا وباطنا، فيحل له الوطئ وكل تصرف، حكي عن الاصطخري، وهو بناء على أن الملك يقع للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل. فإذا تعذر نقله، بقي له. ومنهم من خص هذا الوجه بما إذا اشترى في الذمة، وإليه مال الامام. والوجه الثاني: إن ترك الوكيل مخاصمة الموكل، فالجارية له ظاهرا وباطنا، وكأنه كذب نفسه، وإلا، فلا. والثالث: وهو الاصح: أنه لا يملكها باطنا، بل هي للموكل، وللوكيل عليه الثمن، فهو كمن له على رجل دين لا يؤديه، فظفر بغير جنس حقه، ففي جواز بيعه وأخذ الحق من ثمنه، خلاف. الاصح: الجواز. ثم هل يباشر البيع بنفسه، أم يرفع الامر إلى القاضي ليبيع ؟ فيه خلاف. والاصح هنا: (له) البيع بنفسه، لان القاضي لا يجيبه إلى البيع. وإذا قلنا: ليس له أخذ حقه من ثمنها، فهل يوقف في يده حتى(3/566)
يظهر مالكها، ويأخذها الحاكم ويحفظها ؟ وجهان. يأتي نظائرهما إن شاء الله تعالى. فرع لو اشترى جارية، فقال الموكل: إنما وكلتك بشراء غيرها، وحلف عليه، بقيت الجارية في يد الوكيل، والحكم على ما ذكرناه في الصورة السابقة، فيتلطف الحاكم ويرفق. فرع باع الوكيل مؤجلا، ثم ادعى أنه مأذون له فيه، فقال الموكل ما أذنت لك إلا في حال، فالقول قول الموكل. ثم لا يخلو، إما أن ينكر المشتري الوكالة، أو يعترف بها. الحال الاول: أن ينكر، فالموكل يحتاج إلى البينة. فإن لم تكن فالقول قول المشتري مع يمينه على نفي العلم بالوكالة، فإن حلف، قرر المبيع في يده، وإلا، فترد العين على الموكل. فإن حلف، حكم ببطلان البيع، وإلا، فهو كما لو حلف المشتري. ونكول الموكل عن يمين الرد في خصومة المشتري، لا يمنعه من الحلف على الوكيل. وإذا حلف عليه، فله أن يغرم الوكيل قيمة المبيع، أو مثله إن كان مثليا، ولا يطالب الوكيل المشتري حتى يحل الاجل، مؤاخذة له بمقتضى تصرفه، فإذا حل، نظر، إن رجع عن قوله الاول وصدق الموكل، لم يأخذ من المشتري إلا أقل الامرين من الثمن والقيمة. وإن لم يرجع، بل أصر على قوله، طالبه بالثمن بتمامه. فإن كان مثل القيمة أو أقل، فذاك. وإن كان أكثر، فالزيادة في يده للموكل بزعمه، والموكل ينكرها، فهل يحفظها أم يلزمه دفعها إلى القاضي ؟ فيه خلاف مذكور في مواضع ثم إن كان ما أخذه من جنس حقه، فذاك، وإلا فعلى الخلاف السابق، كذا قاله الجمهور وهو المذهب. وقال الامام، والغزالي: يقطع هنا بأخذه، لان المالك في غير الجنس يدعيه لنفسه، والموكل هنا لا يدعي الثمن، فأولى مصارفه التسليم إلى الوكيل الغارم. الحال الثاني: أن يعترف المشتري بالوكالة، فينظر، إن صدق الموكل، فالبيع باطل، وعليه رد المبيع. فإن تلف، فالموكل بالخيار، إن شاء غرم الوكيل، لتعديه، وإن شاء غرم المشتري. وقرار الضمان على المشتري، لحصول الهلاك في يده، ويرجع بالثمن الذي دفعه على الوكيل. وإن صدق الوكيل، فالقول قول(3/567)
الموكل مع يمينه، فإن حلف، أخذ العين. وإن نكل، حلف المشتري وبقيت له. الموضع الثاني: في المأذون فيه، إذا وكله في بيع، أو هبة، أو صلح، أو طلاق، أو إعتاق، أو إبراء، فقال: تصرفت كما أذنت، وقال الموكل: لم تتصرف بعد، نظر، إن جرى هذا الاختلاف بعد انعزال الوكيل، لم يقبل قوله إلا ببينة، لانه غير مالك للتصرف حينئذ. وإن جرى قبل الانعزال، فهل القول قول الموكل، أم الوكيل ؟ قولان. أظهرهما عند الاكثرين: الاول، وهو نصه في مواضع. وقيل: ما يستقل به الوكيل، كالطلاق، والاعتاق، والابراء، يقبل قوله فيه بيمينه، وما لا، كالبيع، فلا. ولو صدق الموكل الوكيل في البيع ونحوه، لكن قال: عزلتك قبل التصرف، وقال الوكيل: بل بعد التصرف، فهو كما لو قال الزوج: راجعتك قبل انقضاء العدة، فقالت: انقضت عدتي قبل الرجعة. ولو قال الموكل: باع الوكيل، فقال: لم أبع. فإن صدق المشتري الموكل، حكم بإنتقال الملك إليه، وإلا، فالقول قوله. فرع دعوى الوكيل تلف المال، مقبولة بيمينه قطعا، وكذا دعواه الرد إن كان بلا جعل، وكذا إن كان بجعل على الاصح، وقد ذكرناه في كتاب الرهن. وكل ما ذكرناه هنا وهناك، إذا ادعى الرد على من ائتمنه. فإن ادعى الرد على غيره، لم يقبل، وسيأتي إيضاحه في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى. ومن ذلك، أن يدعي الوكيل الرد على رسول المالك، لاسترداد ما عنده، وينكر الرسول، فالقول قول الرسول بلا خلاف، ولا يلزم الموكل تصديق الوكيل على الصحيح، لانه يدعي الرد على من لم يأتمنه. وقيل: يلزمه، لانه معترف بالرسالة، ويد رسوله يده، فكأنه ادعى الرد عليه. الموضع الثالث: في القبض، فإذا وكله بقبض دين، فقال: قبضته، وأنكر الموكل، نظر، إن قال: قبضته وهو باق في يدي، فخذه، لزمه أخذه، ولا معنى لهذا الاختلاف. وإن قال: قبضته وتلف في يدي، فالقول قول الموكل مع يمينه على نفي العلم بقبض الوكيل، لان الاصل بقاء حقه، هذا هو المذهب. وقيل بطرد الخلاف في اختلافهما في البيع ونحوه. فعلى المذهب،(3/568)
إذا حلف الموكل، أخذ حقه ممن كان عليه، ولا رجوع له على الوكيل، لاعترافه بأنه مظلوم. ولو وكله في البيع وقبض الثمن، أو في البيع مطلقا، وجوزنا له قبض الثمن، فاتفقا على البيع، واختلفا في قبض الثمن، فقال الوكيل: قبضته وتلف في يدي، أو دفعته إليك وأنكر الموكل، ففي المصدق منهما طريقان. أحدهما: على الخلاف السابق في البيع ونحوه. وأصحهما: أنهما إن اختلفا قبل تسليم المبيع، فالقول قول الموكل، وإن كان بعد تسليمه، فوجهان. أحدهما: قول الموكل. وأصحهما: قول الوكيل، وبه قال ابن الحداد، لان الموكل يدعي تقصيره وخيانته بالتسليم بلا قبض، والاصل عدمه. وهذا التفصيل فيما إذا أذن في البيع مطلقا. فإذا أذن في التسليم قبل قبض الثمن، أو في البيع بمؤجل وفي القبض بعد الاجل، لم يكن خائنا بالتسليم بلا قبض، كالاختلاف قبل التسليم، فإذا صدقنا الوكيل فحلف، ففي براءة المشتري، وجهان. أصحهما عند الامام: يبرأ. وأصحهما عند البغوي: لا. فعلى الاول، إذا حلف وبرئ المشتري، ثم وجد المشتري بالمبيع عيبا، فإن رده على الموكل وغرمه الثمن، لم يكن له الرجوع على الوكيل، لاعترافه بأن الوكيل لم يأخذ شيئا. وإن رده على الوكيل وغرمه، لم يرجع على الموكل، والقول قوله بيمينه أنه لم يأخذ منه شيئا، ولا يلزم من تصديقنا للوكيل في الدفع عن نفسه بيمينه أن نثبت بها حقا على غيره. ولو خرج المبيع مستحقا، رجع المشتري بالثمن على الوكيل، لانه دفعه إليه، ولا رجوع له على الموكل لما سبق. ولو اتفقا على قبض الوكيل الثمن، وقال الوكيل: دفعته إليك، وقال الموكل: بل هو باق عندك، فهو كما لو اختلفا في رد المال المسلم إليه. والمذهب: أن القول قول الموكل. ولو قال الموكل: قبضت الثمن فادفعه إلي، فقال الوكيل: لم أقبضه بعد، فالقول قول الوكيل مع يمينه، وليس للموكل طلبه من المشتري، لاعترافه بقبض وكيله، لكن لو سلم الوكيل المبيع حيث لا يجوز التسليم قبل قبض الثمن، فهو متعد، فللموكل أن يغرمه قيمة المبيع.
فصل دفع إليه مالا، ووكله بقضاء دينه به، ثم قال الوكيل: قضيت به، وأنكر رب الدين، صدق رب الدين بيمينه، فإذا حلف، طالب الموكل بحقه، وليس له مطالبة الوكيل. وهل يقبل قول الوكيل على الموكل ؟ قولان. أظهرهما: لا. والثاني: نعم بيمينه. فعلى الاظهر: ينظر، إن ترك الاشهاد على الدفع، فإن(3/569)
دفع بحضرة الموكل، فلا رجوع للموكل عليه على الاصح. وإن دفع في غيبته، رجع، وسواء صدقه الموكل في الدفع، أم لا، على الصحيح. وفي وجه: لا يرجع إذا صدقه. فلو قال: دفعت بحضرتك، صدق الموكل بيمينه. وإن كان قد أشهد، لكن مات الشهود، أو جنوا، أو غابوا، فلا رجوع. وإن أشهد واحدا أو مستورين، فبانا فاسقين، فوجهان. وكل ذلك، على ما ذكرناه في رجوع الضامن على الاصيل. ولو أمره بالايداع، ففي لزوم الاشهاد وجهان مذكوران في الوديعة.
فصل إذا ادعى قيم اليتيم أو الوصي دفع المال إليه بعد البلوغ، لم يقبل إلا ببينة على الصحيح. فصل إذا طالب المالك من في يده المال بالرد، فقال: لا أرد حتى تشهد عليك، نظر، إن كان ممن يقبل قوله في الرد كالمودع والوكيل، فأوجه. أصحها: ليس له ذلك. والثاني: بلى. والثالث: إن كان التوقف إلى الاشهاد يؤخر التسليم، فليس له، وإلا، فله. وإن كان ممن لا يقبل قوله كالغاصب، فإن كان عليه بينة بالاخذ، فله الامتناع، وإلا، فوجهان. صحح البغوي الامتناع، وقطع العراقيون بعدمه، لانه يمكنه أن يقول: ليس له عندي شئ، ويحلف، والمديون في هذا الحكم كمن لا يقبل قوله في رد الاعيان.
فصل إذا كان عليه دين لزيد، أو عين في يده، فقال رجل: أنا وكيله بالقبض منك فأقبضنيه، فله حالان. أحدهما: أن يصدقه في دعوى الوكالة، فله دفعه إليه. فإن دفع فحضر زيد، وأنكر الوكالة، فالقول قوله بيمينه. فإذا حلف، فإن كان الحق عينا، أخذها، فإن تلفت، فله تغريم من شاء منهما، ولا رجوع للغارم على الآخر، لانه مظلوم بزعمه، فلا يؤاخذ غير ظالمه. قال في التتمة: هذا إذا تلفت بلا تفريط وإن تلفت بتفريط القابض، نظر، إن غرم القابض، فلا رجوع. وإن غرم الدافع، رجع، لان القابض وكيل عنده، والوكيل يضمن بالتفريط، وزيد ظالمه بأخذالقيمة منه، وماله في ذمة القابض، فيستوفيه بحقه. وإن كان الحق دينا، فلمطالبة الدافع بحقه. وإذا غرمه، قال المتولي: إن كان المدفوع باقيا، فله استرداده وإن كان ذلك لزيد في زعمه، لانه ظالمه بتغريمه،(3/570)
وقد ظفر بماله. وإن كان تالفا، فإن فرط فيه، غرمه، وإلا، فلا. وهل لزيد مطالبة القابض ؟ نظر، إن تلف المدفوع عنده، فلا، وكذا إن كان باقيا على الاصح، وبه قال الاكثرون، لان الآخذ فضولي بزعمه، والمأخوذ ليس حقه، وإنما هو مال المديون. وقال أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد: له مطالبته، لانه في معنى وكيله بالدفع إليه. فعلى هذا، إذا أخذه، برئ الدافع، هذا كله في جواز الدفع إذا صدقه في الوكالة، وهل يلزم الدفع، أم له الامتناع إلى قيام البينة ؟ نص هنا، أن له الامتناع. ونص فيما لو أقر بدين أو عين لزيد، وأنه مات وهذا وارثه: أنه يلزمه الدفع بلا بينة ؟ فقيل قولان فيهما. والمذهب: تقرير النصين. الحال الثاني: أن لا يصدقه، فلا يكلف الرفع إليه. فإن دفع ثم حضر زيد وحلف على نفي الوكالة، غرم الدافع، وكان له أن يرجع على القابض دينا كان أو عينا، لانه لم يصرح بصدقه. ولو أنكر الوكالة أو الحق، وكان الوكيل مأذونا له في إقامة البينة، أو قلنا: الوكيل بالقبض مطلقا له إقامة البينة، أقامها وأخذ الحق. فإن لم تكن بينة، فهل له التحليف ؟ يبنى على أنه لو صدقه، هل يلزمه الدفع ؟ إن قلنا: نعم، حلفه، وإلا، فيبنى على أن النكول مع يمين الرد كالبينة، أم كالاقرار ؟ وإن قلنا بالاول، حلفه، وإلا، فلا. فرع جاء رجل وقال لمن عليه الدين: أحالني به مالكه، فصدقه. وقلنا: إذا صدق مدعي الوكالة، لا يلزمه الدفع، فهنا وجهان. أصحهما: يلزمه كالوارث. ولو كذبه ولم تكن بينة، هل له تحليفه ؟ إن ألزمناه الدفع، فنعم، وإلا، فكما سبق. ولو قال: مات فلان وله عندي كذا، وهذا وصيه، فهو كقوله: وارثه. فلو قال: مات، وقد أوصى به لهذا الرجل، فكاقراره بالحوالة. فرع إذا أوجبنا الدفع إلى الوارث والوصي، أو لم نوجب، فدفع، ثم بان حياة المستحق وغرم الدافع، فله الرجوع على المدفوع إليه. ولو جحد الحوالة، فكجحد الوكالة. فصل إذا ادعى على رجل أنه دفع إليه متاعا ليبيعه ويقبض ثمنه، وطالبه برده، أوقال: بعته وقبضت ثمنه فسلمه إلي، فأنكر المدعي عليه، فأقام المدعي بينة بادعى، فادعى المدعى عليه أنه كان تلف، أو رد، نظر في صيغة جحوده، فإن قال: ما لك عندي شئ، أو لا يلزمني تسليم شئ إليك، قبل قوله في الرد(3/571)
والتلف. وإن أقام بينة، سمعت، إذ لا تناقض بين كلاميه. وإذا كانت صيغته: ما وكلتني، أوما دفعت إلي شيئا، أو ما قبضت، فإن ادعى التلف أو الرد قبل الجحود، لم يقبل، لمناقضته، ولزمه الضمان. وإن أقام بينة بما ادعاه، فوجهان. أصحهما: تسمع دعواه وبينته. وأصحهما عند الامام، والغزالي: لا تسمع. ولو ادعى أنه رد بعد الجحود، لم يصدق، لمصيره خائنا. فلو أقام بينة، سمعت على المذهب، وهو المعروف، لان غايته أن يكون كالغاصب، ومعلوم أنه تسمع بينته بالرد. وقال الامام: فيه الوجهان، للتناقض، وهو حسن. ولو ادعى التلف بعد الجحود، صدق بيمينه لتنقطع عنه المطالبة برد العين، ولكن يلزمه الضمان، لخيانته، كما إذا ادعى الغاصب التلف. فصل إذا ادعى عليه خيانة، لم تسمع حتى يبين ما خان به، بأن يقول: بعت بعشرة، وما دفعت إلي إلا خمسة. فصل وكل بقبض دين أو استرداد وديعة، فقال المديون والمودع: دفعت، وصدقه الموكل، وأنكر الوكيل، هل يغرم الدافع بترك الاشهاد ؟ وجهان كما لو ترك الوكيل بقضاء الدين الاشهاد. قلت: الاصح: أنه لا يغرم. والله أعلم.
فصل من قال : أنا وكيل في النكاح أو البيع، وصدقه من يعامله، صح العقد. فلو قال الوكيل بعد العقد: لم أكن مأذونا فيه، لم يلتفت إليه، ولم يحكم ببطلان العقد، وكذا لو صدقه المشتري، لان فيه حقا للموكل، إلا أن يقيم المشتري بينة على إقراره بأنه لم يكن مأذونا في ذلك التصرف.
انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله : " كتاب الإقرار "(3/572)
روضة الطالبين
محيى الدين النووي ج 4(4/)
روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ على محمد معوض الجزء الرابع دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(4/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245 هائف: 366135 - 810073(4/2)
كتاب الاقرار
هو إخبار عن حق سابق، وفيه أربعة أبواب.
الأول: في أركانه، وهي أربعة. الاول: المقر، وهو مطلق، ومحجور عليه. فالمطلق، يصح إقراره. قال الغزالي: يصح إقراره بكل ما يقدر على إنشائه، وهذا الضبط تستثنى منه صور. منها: لو قال الوكيل: تصرفت كما(4/3)
أذنت، فقال الموك ل: لم تتصرف، لم يقبل إقرار الوكيل على أحد القولين مع قدرته على الانشاء. وكذا لو قال: استوفيت ما أمرتني باستيفائه، ونازعه كما سبق. ومنها: إنشاء نكاح الثيب إلى وليها، فاقراره غير مقبول، ويمكن أن يزاد في الضبط فيقال: ينفذ إقراره في التصرفات المتعلقة به التي يستقل بانشائها. أو يقال: ما يقدر على إنشائه، يؤاخذ المقر بموجب إقراره، ولا يلزمه نفوذه في حق الغير، فتخرج عنه المسائل. وأما المحجور، فقد ذكرنا أقسامه في كتاب الحجر. فمنه الصبي، وإقراره باطل، لكن يصح إقراره بالوصية والتدبير إذا صححناهما منه. ولو ادعى أنه بلغ بالاحتلام، أو ادعت أنها بلغت بالحيض في وقت إمكانهما، صدقا. فإن فرض ذلك في خصومة، لم يحلفا، لانه لا يعرف إلا من جهتهما، فأشبه إذا علق العتق بمشيئة غيره فقال: شئت، صدق بلا يمين، هكذا قاله الشيخ أبو زيد، والامام،(4/4)
والغزالي. قال الامام: فلو بلغ مبلغا يتيقن بلوغه، فالظاهر أنه لا يحلف أيضا على أنه كان بالغا، لانا إذا حكمنا بمقتضى قوله، فقد أنهينا الخصومة منتهاها، فلا عود إلى التحليف. وفي التهذيب وغيره: أنه إذا جاء واحد من الغزاة يطلب سهم المقاتلة، وذكر أنه احتلم، حلف وأخذ السهم. فإن لم يحلف، ففي إعطائه، وجهان. ولو ادعى البلوغ بالسن، طولب بالبينة، لامكانها. فلو كان غريبا خامل الذكر، فهل يطال ب بالبينة لامكانها من جنس المدعي ؟ أم يلحق بالاحتلام ؟ أم ينظر إلى الانبات لتعذر معرفة التاريخ كما في صبيان الكفار ؟ فيه ثلاثة احتمالات للامام. أصحها: أولها. قلت: ولو أقر بعد بلوغه ورشده أنه أتلف في صباه مالا، لزمه الآن قطعا، كما لو قامت به بينة، ذكره ابن كج. والله أعلم. ومنه المجنون، وهو مسلوب العبارة إنشاءا وإقرارا في كل شئ بلا استثناء. وفي السكران، خلاف وتفصيل مشهور، نذكره في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. قلت: والمغمى عليه، ومن زال عقله بسبب يعذر فيه، كشرب الدواء ونحوه، أو أكره على شرب الخمر، لا يصح إقرارهم. والله أعلم. ومنه: حجر المبذر والمفلس، وقد سبق حكمهما في بابيهما. ويقبل إقرار المحجور عليه للفلس بالنكاح، دون المحجور عليه لسفه، اعتبارا للاقرا بالانشاء. قال الامام: وإقرار السفيهة بأنها منكوحة فلان، كاقرار الرشيدة، إذ لا أثر للسفه في النكاح من جانبها، وفيه احتمال بسبب ضعف قولها وعقلها.
فصل ومن المحجور عليه : الرقيق. والذي يقر به، ضربان.(4/5)
أحدهما: يوجب العقوبة كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، وما يوجب القصاص في النفس، أو الطرف، فيقبل إقراره به، وتقام عليه عقوبته، خلافا للمزني. وإذا أقر بسرقة توجب القطع، قبل في القطع. وأما المال، فإن كان تالفا، فقولان. أحدهما: يقبل ويتعلق الضمان برقبته. وأظهرهما: لا يقبل ويتعلق الضمان بذمته، إلا أن يصدقه السيد فيقبل. وإن كان باقيا، نظر، إن كان في يد السيد، لم ينتزع منه إلا بتصديقه. وإن كان في يد العبد، فطريقان. أحدهما: أن في انتزاعه القولين في التالف. فإن قلنا: لا ينتزع، ثبت بدله في ذمته. والطريق الثاني: لا ينتزع قطعا، لان يده كيد سيده. وقيل: إن كان المال في يد العبد، قبل إقراره، وإلا، فلا. وإذا اختصرت قلت: في قوله أربعة أقوال. أظهرها: لا يقبل. والثاني: يقبل. والثالث: يقبل إن كان المال باقيا. والرابع: عكسه. وإذا أقر بسرقة توجب القطع، ثم رجع، كان كاقراره بسرقة لا توجب القطع، وسنذكر في الضرب الثاني إن شاء الله تعالى. ولو أقر بالقصاص على نفسه، فعفا المستحق على مال، أو عفا مطلقا، وقلنا: إنه يوجب المال، فوجهان. أصحهما عند البغوي: أنه يتعلق برقبته. وإن كذبه السيد، لانه إنما أقر بالعقوبة، وإنما وجب المال بالعفو. والثاني: أن الحكم كذلك إن قلنا: موجب العمد القصاص، قلنا: موجبه أحد الامرين، ففي ثبوت المال، قولان، كالاقرار بالسرقة الموجبة للقطع. الضرب الثاني: ما لا يوجب عقوبة، فإذا أقر بدين جناية، كغصب، أو سرقة لا توجب قطعا، أو إتلاف، وصدقه السيد، تعلق برقبته، فيباع فيه إلا أن يفديه السيد، وإذا بيع فبقي شئ من الدين، فهل يتبع به إذا عتق ؟ فيه قولان مذكوران في كتاب الجنايات.(4/6)
قلت: أظهرهما وهو الجديد: لا يتبع. والله أعلم. وإن كذبه السيد، لم يتعلق برقبته، لكن يتعلق بذمته، يتبع به إذا عتق، و يخرج عن القولين فيما إذا بيع في الدين وبقي شئ، لانه إذا ثبت التعلق بالرقبة فكأن الحق انحصر فيها. وقيل بطردهما، لان الزائد على القيمة لا يتعلق بالرقبة، كما أن أصل الحق هنا، غير متعلق بها. ولو أقر بدين معاملة، فإن لم يكن مأذونا له في التجارة، لم يقبل إقراره على السيد، بل يتعلق المقر به بذمته، يطالب به إذا عتق، سواء صدقه السيد، أم لا. وإن كان مأذونا فيها، قبل وأدى من كسبه وما في يده، إلا إذا كان مما لا يتعلق بالتجارة كالقرض. ولو أطلق المأذون الاقرار بالدين، ولم يعين جهته، لم ينزل على دين المعاملة على الاصح، لاحتمال أنه باتلاف، ولا فرق في دين الاتلاف بين المأذون وغيره. ولو حجر عليه، فأقر بعد الحجر بدين معاملة، إضافة إلى حال الاذن، لم تقبل إضافته على الاصح. فرع من نصفه حر، لو أقر بدين جناية، لم يقبل فيما يتعلق بسيده، إلا أن يصدقه، ويقبل في نصفه. وعليه قضاؤه مما في يده. ولو أقر بدين معاملة، فمتى صححنا تصرفه، قبلنا اقراره عليه، وقضيناه مما في يده. ومتى لم نصححه، فإقراره كإقرار العبد. فرع إقرار السيد على عبده بما يوجب عقوبة، مردود، وبدين الجناية، مقبول، إلا أنه إذا بيع فيه وبقي شئ، لم يطالب به بعد العتق إلا أن يصدقه. وكذا إقراره بدين المعاملة، لا يقبل على العبد. قلت: قال ابن كج: لو عتق، ثم أقر بأنه أتلف مالا لرجل قبل العتق، لم يلزم السيد، ويطالب به العبد. ولو قامت بينة بأنه كان جنى، لزم السيد أقل الامرين من أرش جنايته وقيمته. قال البغوي: كل ما قبل إقرار العبد فيه كالعقوبات، فالدعوى فيه تكون على العبد. وما لا يقبل المال المتعلق برقبته، إذا صدقه السيد، فالدعوى على السيد. فإن ادعى في هذا على العبد، إن كان له بينة، سمعت، وإلا، فإن قلنا: اليمين المردودة كالبينة، سمعت رجاء نكوله. وإن قلنا: كالاقرار، فلا. ولو ادعى على العبد دين معاملة متعلق بالذمة، وله بينة، ففي(4/7)
سماعها وجهان، كالدين المؤجل. والله أعلم.
فصل ومن المحجور عليهم، المريض مرض الموت، وفيه مسائل. إحداها: يصح إقرار بالنكاح بموجبات العقوبات، وبالدين والعين للاجنبي، وفي إقراره للوارث بالمال، طريقان. أحدهما: يقبل قطعا. وأصحهما عند الجمهور: على قولين. أظهرهما: القبول. واختار الروياني مذهب مالك رضي الله عنه، وهو أنه إن كان متهما، لم يقبل إقراره، وإلا، فيقبل، ويجتهد الحاكم في ذلك. فإن قلنا: لا يقبل، فهل الاعتبار في كونه وارثا بحال الموت، أم بحال الاقرار ؟ فيه وجهان. وقيل: قولان. أظهرهما وأشهرهما وهو الجديد: بحال الموت، كالوصية. ولو أقر في مرضه أنه كان وهب وارثه، وأقبضه في الصحة، أشار الامام إلى طريقين. أحدهما: القطع بالمنع، لانه عاجز عن انشائه. والثاني: أنه على القولين في الاقرا للوارث، ورجح الغزالي: المنع، واختار القاضي حسين: القبول. قلت: القبول أرجح. والله أعلم. ولو أقر لوارثه وأجنبي معا، وقلنا: لا يقبل للوارث، قبل في نصفه للاجنبي على الاظهر. الثانية: لو أقر في صحته بدين لرجل، وفي مرضه بدين لآخر، فهما سواء، كما لو ثبتا بالبينة، وكما لو أقر بهما في الصحة أو المرض. قلت: وحكى في البيان قولا شاذا: أن دين الصحة يقدم. والله أعلم. ولو أقرفي صحته أو مرضه بدين، ثم مات فأقر ورثته عليه بدين لآخر، فوجهان. أصحهما يتساويان فيتضاربان في التركة، لان الوارث يقوم مقامه، فصار كمن أقر بدينين. والثاني: يقدم ما أقر به المورث، لانه بالموت تعلق بالتركة ويجري الوجهان فيما لو ثبت الاول ببينة ثم أقر وارثه، وفيما لو أقر الوارث(4/8)
بدين على الميت، ثم أقر لآخر بدين آخر، وسواء كان الدين الاول مستغرقا للتركة، أم لا. ولو ثب ت عليه دين في حياته أو موته، ثم تردت بهيمة في بئر كان حفرها بمحل عدوان، ففي مزاحمة صاحب البهيمة رب الدين القديم، الخلاف السابق فيما إذا جنى المفلس بعد الحجر عليه، قاله في التتمة. الثالثة: مات وخلف ألف درهم، فادعى رجل أنه أوصى له بثلث ماله، فصدقه الوارث، ثم جاء آخر فادعى عليه ألف درهم دينا، فصدقه الوارث، قيل: يصرف الثلث إلى الوصية، لتقدمها. وقيل: يقدم الدين على الوصية كما هو المعروف فيهما. ولو صدق مدعي دين، أولا، قدم قطعا. ولصدق المدعيين معا، قال الاكثرون: يقسم الالف بينهما أرباعا، لانا نحتاج إلى الالف للدين، وإلى ثلث المال للوصية، فيخص الوصية ثلث عائل، وهو الربع. وقال الصيدلاني: تسقط الوصية، ويقدم الدين كما لو ثبتا بالبينة، وهذا هو الصواب، سواء قدمنا عند ترتب الاقرارين، الاول منهما، أو سوينا. الرابعة: أقر المريض بعين مال لانسان، ثم أقر لآخر بدين مستغرق أو غير مستغرق، سلمت العين للاول، ولا شئ للثاني، لان المقر مات ولا يعرف له مال. ولو أقر بالدين أولا، ثم أقر بالعين، فوجهان. أصحهما: أنه كما لو أقر بالعين أولا، لان الاقرار في الدين، لا يتضمن حجرا في العين، ألا ترى أنه ينفذ تصرفه فيها. والثاني يتزاحمان، لتعارض القوة فيهما. قلت: لو أقر المريض أنه أعتق عبدا في صحته، وعليه دين يستغرق تركته، نفذ عتقه، لان الاقرار ليس تبرعا، بل إخبار عن حق سابق. ولو ملك أخاه، فأقر في مرضه أنه أعتقه في صحته، وهو أقرب عصبته، نفذ عتقه. وهل يرث ؟ يبنى على الاقرار للوارث. إن صححناه، ورث، وإلا، فلا، لاتوريثه يقتضي إبطال حريته، فيذهب الارث. والله أعلم. فرع يشترط في صحة الاقرار الاختيار، فإقرار المكره، باطل كسائر تصرفه.(4/9)
قلت: ولو ضرب ليقر، فأقر في حال الضرب، لم يصح. وإن ضرب ليصدق في القضية، قال الماوردي في الاحكام السلطانية: إن أقر في حال الضرب، ترك ضربه واستعيد إقراره، فإن أقر بعد الضرب، عمل به، ولو لم يستعده وعمل بالاقرار حال الضرب، جاز مع الكراهة، هذا كلام الماوردي. وقبول إقراره حال الضرب مشكل، لانه قريب من المكره ولكنه ليس مكرها، فإن المكره هو من أكره على شئ واحد، وهنا إنما ضرب ليصدق، ولا ينحصر الصدق في الاقرار. وقبول إقراره بعد الضرب، فيه نظر إن غلب على ظنه إعادة الضرب إن لم يقر. والله أعلم.(4/10)
الركن الثاني : المقر له، وله ثلاثة شروط. أحدها: أهلية استحقاق الحق المقر به. فلو قال: لهذا الحمار أو لدابة فلان علي ألف، فهو لغو، ولو قال: لفلان علي ألف بسببها، صح على الصحيح، ولزمه حملا على أنه جنى عليها أو اكتراها. وقيل: لا يلزمه، لان الغالب لزوم المال بالمعاملة، ولا يتصور ذلك. ولو قال: لعبد فلان علي أو عندي ألف، صح وكان إقرارا لسيده، والاضافة فيه كالاضافة في الهبة وسائر الانشاءات. فرع قال: لحمل فلانة علي أو عندي ألف، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يسند إلى جهة صحيحة، كقوله: ورثه من أبيه، أو وصى به له فلان، فيعتبر إقراره. ثم إن انفصل ميتا، فلا حق له، ويكون لورثة من قال: أنه ورثه منه، أو للموصي، أو ورثته في صورة الوصية. وإن انفصل حيا، فإن كان لدون ستة أشهر من حين الاقرار، استحقه. وإن انفصل لاكثر من أربع سنين، فلا، لتيقن عدمه، وإن انفصل لستة أشهر فأكثر، ولدون أربع سنين، فإن كانت مستفرشة، لم يستحق، وإلا فقولان. قلت: أظهرهما: الاستحقاق. والله أعلم. وإذا ثبت الاستحقاق، فإن ولدت ذكرا، فهو له. أو ذكرين فأكثر، فلهم بالسوية، وإن ولدت انثى، فهو لها إن أسنده إلى وصية. وإن أسنده إلى إرث من أبيها، فلها نصفه. وإن ولدت ذكرا وأنثى، فهو بينهما بالسوية إن أسنده إلى وصية، وأثلاثا إن أسنده إلى الارث. هذا إذا اقتضت جهة الوراثة ما ذكرنا، فإن اقتضت(4/11)
التسوية، كولدي أم، سوي بينهما في الثلث. قال الامام: ولو أطلق الارث، سألناه عن الجهة وحكمنا بمقتضاها. قلت: وهذا المحكي عن الامام قاله أيضا ابن الصباغ. وقال الشيخ أبو حامد: يكون بينهما بالسوية. وإن تعذرت مراجعة المقر، فينبغي القطع بالتسوية بينهما. والله أعلم. الحال الثاني: أن يطلق الاقرار، فيصح على الاظهر، ويحمل على الجهة الممكنة في حقه. الثالث: أن يسند إلى جهة باطلة، كقوله: أقرضنيه أو باعني به شيئا، فإن أبطلنا المطلق، فذا أولى، وإلا، فطريقان. أصحهما: القطع بالصحة. والثاني: على القولين في تعقيب الاقرار بما يرفعه. قلت: الاصح في هذا الحال: البطلان، وبه قطع الرافعي في المحرر. والله أعلم. وإذا صححنا الاقرار في الحالين الآخرين، فانفصل ميتا، فلا شئ له، ويسأل المقر عن جهة إقراره من الارث والوصية، ويعمل بمقتضاها. قال الامام: وليس لهذا السؤال والبحث طالب معين، وكان القاضي يسأل حسبة ليصل الحق (إلى) مستحقه. فإن مات قبل البيان، فكمن أقر لانسافرده. وفي تعليق(4/12)
الشيخ أبي حامد: أنه يطالب ورثته كنفسه. وإن انفصل حيا للمدة المعتبرة، فالكل له، ذكرا كان أو أنثى. وإن انفصل ذكر وأنثى، فهو لهما بالسوية. ومتى انفصل حي وميت، فالميت كالمعدوم، وينظر في الحي كما ذكرنا. فرع أقر لانسان بحمل جارية، أو بهيمة، ففيه التفصيل المذكور في الاقرار للحمل. فإن قال: إنه أوصى له (به)، صح، وينظر، كم بين انفصاله وبين يوم الاقرار من المدة، على ما سبق. وفي حمل البهيمة، يرجع إلى أهل الخبرة. وإن أطلق، أو اسند إلى جهة باطلة، ففيه الخلاف المذكور. ولو أقر بالحمل لرجل، وبالام لآخر، فإن جوزنا الاقرار بالحمل، صح الاقراران، وإلا، فقال البغوي: هما جميعا للآخر، وهذا بناء على أن الاقرار بالحامل، إقرار بالحمل، وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى. فرع أقر لمسجد أو مقبرة أو نحوهما بمال، واسنده إلى جهة صحيحة،(4/13)
كغلوقف عليه، صح. وإن أطلق، فوجهان، تخريجا من القولين في الحمل، وعلى قياسهما إذا اسند إلى جهة باطلة. الشرط الثاني: عدم تكذيبه، فيشترط لصحة الاقرار، عدم تكذيب المقر له، وإن كنا لا نشترط قبوله لفظا. فإن كذبه، نظر، إن كان المقر به مالا، ففيما يفعل به، أوجه. أصحها: يترك في يد المقر. والثاني: ينتزعه الحاكم ويتولى حفظه إلى أن يظهر مالكه. فإن رأى استحفاظ صاحب اليد، فهو كما لو استحفظ عدلا آخر. والثالث: يجبر المقر له على القبول والقبض، وهو بعيد. قال الشيخ أبو محمد: موضع الخلاف، ما إذا قال المقر: هذا المال لفلان فكذبه. فأما إذا قال للقاضي: إن في يدي مالا لا أعرف مالكه، فالوجه: القطبأن القاضي يتولى حفظه. وأبعد بعضهم، فلم يجوز انتزاعه هنا أيضا. ولو رجع المقر له عن الانكار، وصدق المقر، فقد حكى الامام، والغزالي: القطع بقبوله وتسليم المال إليه. والاصح، ما ذكره المتولي وغيره: أنه مفرع على الخلاف. فإن قلنا: يترك في يد المقر، فقد حكمنا ببطلان الاقرار، فلا يصرف إلى المقر له إبإقرار جديد.(4/14)
وإن قلنا: ينتزعه الحاكم ويحفظه، لم يسلم إليه أيضا. بل لو أقام بينة بأنه ملكه، لم تسمع، وإنما يسلم إليه إذا قلنا بالوجه الثالث البعيد، فحصل أن المذهب عدم تسليمه إليه. ولو رجع المقر في حال إنكار المقر له، وقال: غلطت، أو تعمدت الكذب، فإن قلنا: ينتزعه الحاكم، لم يقبل. وإن قلنا: يترك في يده، فوجهان. أصحهما عند الجمهور: يقبل. وأصحهما عند الامام، والغزالي: لا يقبل. وجميع ما ذكرناه في الاقرار، بثوب ونحوه. فلو أقر له بعبده، فأنكره، فوجهان. أحدهما: يحكم يعتقه، لانهما لا يدعيانه، كاللقيت إذا قال بعد بلوغه: أنا عبد لزيد، فأنكر زيد، يحكم بحريته. وأصحهما: لا يعتق، لانه محكوم برقه، فلا يرفع إلا بيقين، بخلاف اللقيط، فإنه محكوم بحريته بالدار، فعلى هذا، حكمه كالثوب ونحوه على ما مضى. أما إذا كان المقر به قصاصا، أو حد قذف، فكذبه المقر له، فيسقط، وكذا لو أقر بسرقة توجب القطع، وأنكر رب المال السرقة، فلا قطع. وفي المال، ما سبق. ولو أقرت بالنكاح، وأنكر، سقط حكم الاقرار في حقه. فرع في يده عبدان، فقال: أحدهما لزيد، ثم عين أحدهما، فقال زيد: إنما عبدي الآخر، فهو مكذب للمقر في المعين، ومدع في الآخر. فرع ادعى على رجل ألفا من ثمن مبيع، فقال: قد أقبضتك الالف، وأقام بينة على إقراره بالقبض يوم كذا، فأقام المدعي بينة على إقرار المشتري بعد بينته بأنه ما أقبضه الثمن، سمعت، وألزم المشتري الثمن، لانه وإن قامت البينة على إقرار البائع بالقبض، فقد قامت أيضا على أن صاحبه كذبه، فيبطل حكم الاقرار، وبقي الثمن على المشتري. الشرط الثالث: أن يكون معينا نوع تعيين، بحيث يتوقع منه الدعوى والطلب. فلو قال لانسان أو واحد من بني آدم أو من أهل البلد: علي ألف، ففي صحته وجهان بناء على ما لو أقر بمعين فكذبه، هل ينتزع من يده ؟ إن قلنا: نعم، لانه مال ضائع، فكذا هنا، فيصح الاقرار، وإن قلنا: لا، لم يصح، وهو الصحيح. قال المتولي: فلو جاء واحد فقال: أنا الذي أردتني ولي عليك ألف، فالقول قول المقر(4/15)
بيمينه في نفي الارادة ونفي الالف.
الركن الثالث : المقر به. ويجوز الاقرار بالمجهول، فإن كان ما يقر به عينا، فشرطه أن لا يكون مملوكا للمقر حين يقر، لان الاقرار ليس إزالة ملك، وإنما هو إخبار عن كونه مملوكا للمقر له. فلو قال: داري هذه، أو ثوبي الذي أملكه، لزيد، فهو متناقض، وهو محمول على الوعد بالهبة، ولو قال: مسكني هذا لزيد، كان إقرارا، لانه قد يسكن ملك غيره. ولو شهدت بينة أن الدار الفلانية أقر زيد بأنها ملك عمرو، وكانت ملك زيد إلى أن أقر، كانت الشهادة باطلة، نص عليه. ولو قال: هي لزيد وكانت ملكي (إلى) وقت الاقرار، فاقراره نافذ. والذي ذكره بعده مناقض لاوله، فيلغو كما لو قال: هي له، وليست له، وهذا في الاعيان، وكذا في الديون إذا كان له على غيره في الظاهر دين، من قرض، أو أجرة، أو ثمن، فقال: ديني الذي على زيد لعمرو، فهو باطل. ولو قال: الدين الذي على زيد هو لعمرو، واسمي في الكتاب عارية، فهو إقرار صحيح، فلعله(4/16)
كان وكيلا عنه في الاقراض والاجارة والبيع. ثم عمرو يدعي المال على زيد لنفسه، فإن أنكر، فهو بالخيار بين أن يقيم البينة على دين المقر على زيد، ثم على إقراره له بما على زيد، وبين أن يقيم البينة أولا على الاقرار، ثم على الدين، كذا ذكره القفال. فرع استثنى صاح ب التلخيص ثلاثة ديون، ومنع الاقرار بها، أحدها: الصداق في ذمة الزوج، لا تقر بالمرأة. والثاني: بدل الخلع في ذمة الزوجة، لا يقر به الزوج. والثالث: أر ش الجناية، لا يقر به المجني عليه. فإن كانت الجناية على عبد أو مال آخر، جاز له أن يقر به للغير، لاحتمال كونه له يوم الجناية. قال الائمة: هذه الديون، وإن لم يتصور فيها الثبوت للغير ابتداءا وتقديرا للوكالة، فيجوز انتقالها بالحوالة، وكذلك بالبيع على قول، فيصح الاقرار بها عند احتمال جريان ناقل. وحملوا ما ذكره صاحب التلخيص على ما إذا أقر(4/17)
بها عقيب ثبوتها، بحيث لا يحتمل جريان ناقل، لكن سائر الديون أيضا كذلك، فلا يصح الاستثناء، بل الاعيان أيضبهذه المثابة. حتى لو أعتق عبده، ثم أقر له السيد أو غيره عقيب الاعتاق بدين أو غيره، لم يصح، لان أهلية الملك لم تثبت له إلا في الحال، ولم يجر بينهمما يوجب المال. وقال أبو العباس الجرجاني في الديون الثلاثة: إن اسند الاقرار بها إلى جهة حوالة أو بيع، إن جوزناه، صح، وإلا، فعلى قولين، كما لو أقر للحمل وأطلق.
فصل يشترط في الحكم بثبوت ملك المقر له، أن يكون المقر به تحت يد المقر وتصرفه. فإن لم يكن، لم يحكم به في الحال، بل يكون ذلك دعوى أو شهادة، ولا تلغية من كل وجه بل لو حصل المقر به يوما في يد المقر، لزمه تسليمه إليه. ولو قال: العبد الذي في يد زيد مرهون عند عمرو بكذا، ثم حصل العبد في يده، يؤمر ببيعه في دين عمرو. ولو أقر بحرية عبد في يد رجل، أو شهد بحريته، فلم تقبل شهادته، ثم اشتراه، صح، تنزيلا للعقد على قول من صدقه الشرع، وهو البائع، ويحكم بحريته، وترفع يده عنه. ثم لاقراره صيغتان. إحداهما: أن يقول: إنك أعتقته وتسترقه ظلما، قال الاصحاب: فيكون هذا العقد من جانب البائع بيعا قطعا، وفي جانب المشتري، وجهان: أحدهما: شراء. وأصحهما: افتداء، لاعترافه بحريته. وحكى الامام، والغزالي، فيه ثلاثة أوجه. أصحها: بيع من البائع، وافتداء من المقر. والثاني: بيع منهما. والثالث: فداء منهما. وهذا الثالث فاسد في جهة البائع. وكيف يصح أخذه المال ليفدي من يسترقه ؟ ! ولو قيل: فيه المعنيان، وأيهما أغلب ؟ فيه الخلاف، لكان قريبا، والمعتمد ما ذكرنا عن الاصحاب. ويثبت للبائع فيهذا العقد خيار المجلس والشرط، بناء على ظاهر المذهب، أنه بيع من جانبه. ولو كان البيع بثمن معين، فخرج معيبا ورده، كان له استرداد العبد، بخلاف ما لو باع عبدا فأعتقه المشتري، ثم خرج الثمن المعين معيبا ورده، حيث لا يسترد العبد، بل يعدل إلى القيمة لاتفاقهما على العتق هناك. وأما المقر المشتري، فإن جعلناه شراء في حقه، فله الخيار. وإن قلنا: فداء، فلا. وعلى الوجهين: لا رد له لو خرج العبد معيبا،(4/18)
لكن له أخذ الارش على قولنا: شراء، وليس له على الافتداء، وذكر الامام: أنه إذا لم يثبت الخيار للمشتري، ففي ثبوته للبائع وجهان، لان هذا الخيار، لا يكاد يتبعض. والمذهب على الجملة: ثبوثه للبائع دون المشتري. وأما ولاؤه، فموقوف. فإن مات وخلف مالا، ولا وارث له بغير الولاء، نظر، إن صدق البائع المشتري، اخذه ورد الثمن. وإن كذبه وأصر على كلامه الاول، فظاهر النص: أن الميراث يوقف كما وقف الولاء. واعترض عليه المزني فقال: للمشتري أخذ قدر الثمن مما تركه. فإفضل شئ، كان الفاضل موقوفا، لان المشتري، إما كاذب، فالميت رقيق له وجميع أكسابه له، وإما صادق، فالاكساب للبائع إرثا بالولاء، وقد ظلمه بأخذ الثمن، وتعذر استرداده، فإذا ظفر بماله، كان له أخذ قدر الثمن. واختلف الاصحاب، فذهبت طائفة إلى ظاهر النص، وتخطئه المزني، قالوا: لانه لو أخذه لانه كسب مملوكه، فقد نفاه بإقراره، أو بجهة الظفر بمال ظالمه، فقد بذله تقربا إلى الله تعالى باستنقاذ حر، فلا يرجع فيه كالصدقة، ولانه لا يدري بأي جهة يأخذه، فيوقف إلى ظهور جهته. وذهب ابن سريج وأبو إسحاق والجمهور: إلى أن المذهب ما قاله المزني. وقال ابن سريج وغيره: وقد نص عليه الشافعي رضي الله عنه في غير هذا الموضع. وحملوا ما ذكره هنا، على أن ما يأخذه بجهة الولاء يكون موقوفا وقف الولاء، وهو ما زاد على قدر الثمن. فأما المستحق بكل حال، فلا معنى للوقف فيه. قالوا: ويجوز الرجوع في المبذول فدية وقربة، كمن فدى اسيرا ثم استولى المسلمون على الكفار ووجد الفادي عين ماله، أخذه. وأما اختلاف الجهة، فلا يمنع الاخذ بعد الاتفاق على أصل الاستحقاق. الصيغة الثانية: يقول هو حر الاصل، أو أعتق قبل أن تشتريه، فإذا اشتراه، فهو افتداء من جهته بلا خلاف. وأما إذا مات وخلف مالا، ولا وارث له بغير الولاء، فماله لبيت المال، وليس للمشتري أخذ شئ منه، لان المال بزعمه ليس للبائع حتى يأخذه عوضا عن الثمن. ولو مات العبد قبل ان يقبضه المشتري، لم يكن للبائع أن يطالبه بالثمن، لانه لا حرية في زعمه، وقد تلف المبيع قبل القبض.(4/19)
فرع لو أقر بحرية عبد، ثم استأجره، لم يحل له استخدامه، وللمكري مطالبته بالاجرة. ولو أقر بحرية جارية لزيد، ثم قبل نكاحها (منه)، لم يحل (له) وطؤها، ولزيد مطالبته بمهرها. قلت: ينبغي أن يقال: إن أقر أن زيدا أعتقها، ولم يكن لها عصبة، صح تزويجه، لانه إما مالك، وإما مولى حرة. والله أعلم. فرع قال: هذا العبد الذي في يدك غصبته من زيد، ثم اشتراه منه، ففي صحة العقد، وجهان حكاهما الامام. أصحهما: الصحة، كما لو أقر بحريته ثم اشتراه. والثاني: المنع، لان التصحيح هناك للافتداء والانقاذ من الرق، ولا يتجه مثله في تخليص عبد الغير. فرع أقر بعبد في يده لزيد، فقال العبد: بل أنا ملك عمرو، يسلم إلى زيد، لانه في يد من يسترقه، لا في نفسه. فلو أعتقه زيد، لم يكن لعمرو تسلم رقبته، ولا التصرف فيها، لما فيه من إبطال ولاء زيد. وهل له أخذ أكسابه ؟ وجهان. وجه المنع: أن الاكساب، فرع الرق، ولم يثبت.
الركن الرابع : الصيغة، وفيه مسائل. إحداها: قول القائل: لفلان كذا، صبغة إقرار. وقوله: لفلان علي، أو في ذمتي، إقرار بالدين ظاهرا. وقوله: عندي أو معي، إقرار بالعين. وقوله: له قبلي كذا، قال في التهذيب: هو دين، ويشبه أن يكون صالحا للدين والعين(4/20)
جميعا. قلت: قوله: إقرار بالعين، معناه: أنه يحمل عند الاطلاق على أن ذلك عين مودعة له عنده، قاله البغوي. قال: حتى لو ادعى بعد الاقرار أنها كانت وديعة تلفت، أو رددتها، قبل قوله بيمينه، بخلاف ما إذا قلنا: إنه دين، فإنه لو فسره بالوديعة، لم يقبل. وإذا ادعى التلف، لم ينفعه، بل يلزمه الضمان. والله أعلم. الثانية: إذا قال رجل: لك علي ألف، فقال في جوابه: زن، أو خذ، أو استوف، أو اتزن، لم يكن إقرارا، لانه ليس بالتزام، ولانه قد يذكر للاستهزاء. وفي وجه: اتزن، إقرار، وهو شاذ. ولو قال: خذه، أو زنه، أو اختم عليه، أو شده في هميانك، أو اجعله في كيسك، أو اختم عليه، فليس بإقرار على الصحيح، وقال الزبيري: إقرار. قلت: ولو قال: وهي صحاح، فهو كقوله: زنه. والله أعلم. ولو قال في الجواب: بلى، أو نعم، أو أجل، أو صدقت، فهو إقرار. قالوا: ولو قال: لعمري، فإقرار. ولعل العرف يختلف فيه. ولو قال: أنا مقر به، أو بما تدعيه، أو لست منكرا له فهو إقرار له. ولو قال: أنا مقر، ولم يقل: به، أو لست منكرا، أو أنا أقر، فليس بإقرار. ولو قال: أنا أقر لك به، فوجهان. نسب الامام كونه إقرارا إلى الاكثرين. وفيه نظر، لان العراقيين، والقاضي حسين، والروياني، قطعوا بأنه ليس باقرار، ولا يحكى الوجه الآخر إلا نادرا. ويتأيد كونه إقرارا، بأنهم اتفقوا على أنه لو قال: لا أنكر ما تدعيه، كان إقرارا، ولم يحملوه على الوعد بالاقرار. ولو قال: لا أنكر أن يكون محقا، فليس باقرار، لجواز أن يريد في شئ آخر. فلو قال: فيما يدعيه، فهو إقرار. ولو قال: لا أقر به ولا أنكره، فهو كسكوته، فيجعل منكرا، وتعرض عليه اليمين. ولو قال: أبرأتني منه، أو قضيته، فإقرار، وعليه بينة القضاء والابراء. وفي وجه: أبرأتني منه، ليس بإقرار، وليس بشئ. ولو قال: أقررت بأنك أبرأتني واستوفيت مني فليس باقرار.(4/21)
ولو قال في الجواب: لعل، أو عسى، أو أظن، أو أحسب، أو أقدر، فليس بإقرار. فرع اللفظ وإن كان صريحا في التصديق، فقد تنضم إليه قرائن تصرفه عن موضوعه إلى الاستهزاء والتكذيب. ومن جملتها: الاداء، والابراء، وتحريك الرأس الدال علشدة التعجب والانكار، فيشبه أن يحمل قول الاصحاب: إن صدقت، وما في معناها، إقرار على غير هذه الحالة. فأما إذا اجتمعت القرائن، فلا تجعل إقرارا. ويقال: فيه خلاف، لتعارض اللفظ والقرينة، كما لو قال: لي عليك ألف، فقال فالجواب على سبيل الاستهزاء: لك علي ألف، فإن المتولي حكى فيه وجهين. المسألة الثالثة: إذا قال: أليس لي عليك ألف ؟ فقال: بلى، كان إقرارا. وإن قال: نعم، فوجهان. وقطع البغوي وغيره، بأنه ليس بإقرار كما هو مقتضاه في اللغة. وقطع الشيخ أبو محمد والمتولي، بأنه إقرار، وصححه الامام، والغزالي، لان الاقرار يحمل على مفهوم أهل العرف، لا على دقائق العربية. قلت: هذا الثاني: هو الاصح، وصححه الرافعي في المحرر. والله أعلم. ولو قال: هل لي عليك ألف ؟ فقال: نعم، فاقرار. الرابعة: إذا قال: اشتر مني عبدي هذا، فقال: نعم، فهو إقرار منه للقائل، كما لو قال: أعتق عبدي هذا، فقال: نعم. ويمكن أن يجئ فيه خلاف مما سبق في الصلح، كقوله: بعنيه. ولو قال: اشتر مني هذا العبد، ولم يقل: عبدي، فالتصديق بنعم يقتضي الاعتراف بأنه يملك بيعه، لاأنه يملك العبد. ولو ادعى عليه عبدا، فقال: اشتريته من وكيلك فلان، فهو إقرار له، ويحلف المدعي أنه ما وكل فلانا في بيع. الخامسة: لو قال: له علي ألف في علمي، أو فيما أعلم، أو أشهد، فهي إقرار. السادسة: قال: كان علي ألف، أو كانت هذه الدار في السنة الماضية(4/22)
له، فهل هو إقرار في الحال عملا بالاستصحاب، أم لا، لانه غير معترف في الحال ؟ وجهان. قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: الثاني، وقد أشار إلى تصحيحه الجرجاني. والله أعلم. ويقرب منه الخلاف، فيما لو قال: هذه داري أسكنت فيها فلانا، ثم أخرجته منها، فهو إقرار باليد على الاصح، لانه اعترف بثبوتها وادعى زوالها. وقال أبو علي الزجاجي: ليس باقرار، لانه لم يعترف بيد فلان إلا من جهته. ولو قال: ملكتها من زيد، فهو إقرار، بملكها لزيد، ودعوى انتقالها منه، فإن لم يصدقه زيد، لزمه ردها إليه. قلت: ولو قال: ملكتها على يد زيد، لم يكن إقرارا له بها، لان معناه: كان زيد وكيلا، قاله البغوي. والله أعلم. السابعة: قال: اقض الالف الذي لي عليك، فقال: نعم، فإقرار على المذهب، وتردد فيه بعضهم. وإن قال: أعط غدا، أو ابعث من يأخذه، أو أمهلني يوما، أو أمهلني حتى أصرف الدراهم أو أفتح الصندوق، أو اقعد حتى تأخذ، أو لا أجد اليوم، أو لا تدم المطالبة، أو ما أكثر ما تتقاضى، أو والله لاقضينك، فجميع هذه الصور إقرار عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وأما أصحابنا، فمختلفون في ذلك، والميل إلى موافقته في أكثر الصور أكثر. ومثله: أسرج دابة فلان هذه، فقال: نعم. أو أخبرني زيد أن لي عليك ألفا فقال: نعم، أو متى تقضي حقي ؟ فقال: غدا. الثامنة: قال له رجل: غصت ثوبي. فقال: ما غصبت من أحد قبلك ولا بعدك، فليس بإقرار. ولو قال: ما لزيد علي أكثر من مائة درهم، فليس بإقرار على الاصح. وقيل: تلزم المائة. ولو قال معسر لزيد: علي ألف إن رزقني الله تعالى(4/23)
مالا، فقيل: ليس بإقرار للتعليق، وقيل: إقرار، وذلك بيان لوقت الاداء. والاصح: أنه يستفسر، فإن فسر بالتأجيل، صح، وإن فسر بالتعليق، لنا. قلت: وإن تعذر استفساره، قال في العدة: الاصح: أنه إقرار. والله أعلم. التاسعة: شهد عليه شاهد، فقال: هو صادق، أو عدل، فليس بإقرار. وإن قال: صادق فيما شهد به، أو عدل فيه، كان إقرارا، قاله في التهذيب. قلت: في لزومه بقوله: عدل، نظر. والله أعلم. وإن قال: إن شهد علي فلان وفلان، أو شاهدان بكذا، فهما صادقان، فهو إقرار على الاظهر وإن لم يشهدا. وإن قال: إن شهدا صدقتهما، فليس بإقرار قطعا. قلت: في البيان: أنه لو قال: لي عليك ألف درهم، فقال: لزيد علي أكثر مما لك، لا شئ عليه لواحد منهما. ولو قال: لي مخرج من دعواك، فليس بإقرار. قال: ولو قال: لي عليك ألف أقرضتكه، فقال: والله لا اقترضت منك غيره، أو كم تمن به، قال الصميري: هو إقرار. وإن قال: ما أعجب هذا، أو نتحاسب، فليس بإقرار. وإن كتب: لزيد علي ألف درهم، ثم قال للشهود: اشهدوا علي بما فيه، فليس بإقرار، كما لو كتب عليه غيره، فقال: اشهدوا بما كتب. وقد وافقنا أبو حنيفة رضي الله عنه على الثانية دون الاولى. ووافق أيضا على ما لو كتب ذلك على الارض. ولو قال: له علي ألف إن مت، فليس بإقرار، كما لو قال: إن قدم زيد. ووافق أبو حنيفة رضي الله عنه على الثانية دون الاولى. ولو قال: له علي ألف إلا أن يبدو لي، فوجهان حكاهما في العدة والبيان، ولعل الاصح: أنه إقرار. والله أعلم. العاشرة: إقرار أهل كل لغة بلغتهم وغير لغتهم، إذا عرفوها، صحيح. ولو أقر عجمي بالعربية وقال: لم أفهم معناه، بل لقنت فتلقنت، صدق بيمينه إن كان مميجوز أن لا يعرفه، وكذا الحكم في جميع العقود والحلول.(4/24)
الحادية عشرة: لو أقرثم قال: كنت يوم الاقرار صغيرا، وهو محتمل، صدق بيمينه، لان الاصل الصغر. وكذا لو قال: كنت مجنونا وقد عهد له جنون. ولو قال: كنت مكرها، وهناك أمارة الاكراه، من حبس، أو موكل عليه، فكذلك. فإن لم تكن أمارة، لم يقبل قوله. والامارة، إنما تثبت باعتراف المقر له، أو بالبينة، وإنما يؤثر إذا كان الاقرار لمن ظهر منه الحبس والتوكيل. أما إذا كان في حبس زيد، فلا يقدح ذلك في الاقرار لعمرو. الثانية عشرة: إذا شهد الشهود، وتعرضوا لبلوغه، وصحة عقله، واختياره، فادعى المقر خلافه، لم يقبل، لما فيه من تكذيب الشهود، ولا يشترط في الشهادة التعرض للبلوغ والعقل، والطواعية، والحرية، والرشد. ويكتفى بأن الظاهر وقوع الشهادة على الاقرار الصحيح. وفي قول: يشترط التعرض لحرية مجهول الحرية. وخرج منه اشتراط التعرض لسائر الشروط، والمذهب الصحيح: الاول. قال الاصحاب: وما يكتب في الوثائق أنه أقر طائعا في صحة عقله وبلوغه، احتياط. ولو تقيدت شهادة الاقرار بكونه طائعا، وأقام (الشهود) عليه بينة بكونه كان مكرها، قدمت بينة الاكراه، ولا تقبل الشهادة على الاكراه مطلقا، بل لابد من التفصيل.
الباب الثاني : في الاقرار بالمجمل
يصح الاقرار بالمجمل، وهو المجهول للحاجة. وسواء أقر به ابتداء، أو جوابا عن دعوى معلومة، بأن قال: لي عليك ألف، فقال: لك علي شئ. والالفاظ التي تقع فيها الجهالة، لا تنحصر. وبين الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم ما كثر استعماله، ليعرف ويقاس عليه غيره، وألفاظ الباب سبعة أضرب. الضرب الاول: شئ. فإذا قال: له علي شئ، طلبنا تفسيره. فإن فسره بما يتمول، قبل، كثر أم قل، كرغيف، وفلس، وتمرة حيث يكون لها قيمة. وإن فسره بما لا يتمول، لكنه من جنس ما يتمول، كحبة حنظة، أو شعير، أو قمع باذنجانة، فوجهان. أحدهما: لا يقبل تفسيره، لانه لا يصح التزامه، كما لا تصح الدعوى به. وأصحهما: القبول، لانه شئ يحرم أخذه، ويجب على آخذه رده،(4/25)
وقولهم: لا تصح الدعوى به، ممنوع. والتمرة أو الزبيبة حيث لا قيمة لها، على الوجهين. وقيل: يقبل قطعا. وإن لم يكن من جنس ما يتمول، فإما أن يجوز اقتناؤه لمنفعته، وإما، لا. فالاول: كالكلب المعلم، والسرجين، وجلد الميتة القابل للدباغ، والكلب القابل للتعليم، والخمر المحترمة، فيقبل التفسير به على الاصح. وأما الثاني: فكالخنزير، وجلد الكلب، والكلب الذي لا نفع فيه، والخمر غير المحترمة، فلا يقبل تفسيرة به على الاصح. ولو فسره بوديعة، قبل على الصحيح، لان عليه ردها عند الطلب، وقد يتعدى فتصير مضمونة، وقيل: لا، لانها في يده، لا عليه. ولو فسر بحق الشفعة، قبل. ولو فسره برد السلام والعيادة، لم يقبل. قال البغوي: ولو قال: له حق، قبل تفسيره بهما، وفيه نظر. قلت: ولفسر الشئ بحد قذق، قبل على الاصح. والله أعلم. فرع لو قال: غصبت منه شيئا، قبل تفسيره ما يقبل في الصور السابقة إذا احتمله اللفظ، احترازا من الوديعة وحق الشفعة، ويقبل بالخمر والخنزير، نص عليه في الام، لان الغصب لا يشعر بالتزام وثبوت مال، وإنما يقتضي الاخذ، بخلاف قوله: علي. ولو قال: له عندي شئ، وفسر بخمر أو خنزير، قبل على الصحيح.(4/26)
قلت: قال أصحابنا: لو قال: غصبتك، أو غصبتك ما تعلم، لم يلزمه شئ، لانه قد يغصبه نفسه، فيحبسه. ولو قال: غصبتك شيئا، ثم قال: أردت نفسك، لم يقبل. والله أعلم.
فصل إذا أقر بمجمل، إما شئ، وإما غيره، مما سنذكره إن شاء الله تعالى، وطالبناه بالتفسير، فامتنع، فأربعة أوجه. أصحها: نحبسه كحبسنا من امتنع من أداء الحق، لان التفسير واجب عليه. والثاني: لا يحبس، بل ينظر، إن وقع الاقرار المبهم في جواب دعوى، وامتنع من التفسير، جعل منكرا، وتعرض اليمين عليه. فإن أصر، جعل ناكلا، وحلف المدعي. وإن أقر ابتداءا، قلنا للمقر له: ادع عليه حقك، فإذا ادعى، وأقر بما ادعاه، أو أنكر، أجرينا عليه حكمه. وإن قال: لا أدري، جعلناه منكرا، فإن أصر، جعلناه ناكلا، لانه إذا أمكن حصول الغرض بلا حبس، لا يحبس. والثالث: إن أقر بغصب، وامتنع من بيان المغصوب، حبس. وإن أقر بدين مبهم، فالحكم كما ذكرنا في الوجه الثاني. والرابع: إن قال: علي شئ، وامتنع من التفسير، لم يحبس. وإن قال: علي ثوب، أو فضة، ولم يبين، حبس، قاله أبو عاصم العبادي، وأشار في شرح كلامه، إلى أن الفرق مبني على قبول تفسير الشئ بالخمر ونحوه، فإنه لا يتوجه بذلك مطالبة وحبس. فرع إذا فسر المبهم بتفسير صحيح، وصدقه المقر له، فذاك، وإلا فليبين جنس الحق وقدره، وليدعه، والقول قول المقر في نفيه. ثم إن كان من جنسه، بأن فسر بمائة درهم، وقال المقر له: لي عليك مائتان، فإن صدقه على إرادة المائة، فهي ثابتة باتفاقهما، ويحلف المقر على نفي الزيادة. وإن قال: أراد به المائتين، حلف المقر أنه ما أراد المائتين، وأنه ليس عليه إلا مائة، ويجمع بينهما بيمين واحدة على الصحيح. وقال ابن المرزبان: لا بد من يمينين. فلو نكل، حلف المقر له على استحقاق المائتين، ولا يحلف على الارادة، لانه لا اطلاع له عليها، بخلاف ما إذا مات المقر، وفسر الوارث، فادعى المقر له زيادة، فيحلف الوارث على نفي إرادة المورث، لانه قد يطلع من حال مورثه على ما لا يطلع عليه غيره. قال البغوي: ومثله: لو أوصى بمجمل ومات، ففسره الوارث، وزعم(4/27)
الموصى له أنه أكثر يحلف الوارث على نفي العلم باستحقاق الزيادة، ولا يتعرض للارادة. والفرق، أن الاقرار إخبار عن حق سابق، وقد يطلع عليه، والوصية إنشاء أمر على الجهالة، وبيانه: إذا مات (الموصي) إلى الوارث. وأما إذا كان ما ادعاه من غير جنس ما فسر به المقر، فينظر، إن صدقه في الارادة، فقال: هو ثابت لي عليه، ولي عليه مع ذلك كذا، ثبت المتفق عليه، والقول قول المقر في نفي غيره. وإن صدقه في الارادة، وقال: ليس لي عليه ما فسر (به)، إنما لي عليه كذا، بطل حكم الاقرار برده، وكان مدعيا عليه في غيره. وإن كذبه في دعوى الارادة، وقال: إنما أراد ما ادعيته، حلف المقر على نفي الارادة، وبقي ما يدعيه. ثم إن كذبه في استحقاق المقر به، بطل الاقرار فيه، وإلا، فيثبت. ولو اقتصر المقر له على دعوى الارادة، وقال: ما أردت بكلامك ما فسرته به، وإنما أردت كذا، إما من جنس المقر به، وإما من غيره، لم يسمع منه، لان الاقرار والارادة لا يثبتان حقا له، بل الاقرار إخبار عن سابق، فعليه أن يدعي الحق نفسه. قال الامام: وفيه وجه ضعيف: أنه تقبل دعوى الارادة المجردة، وهو كالخلاف في أن من ادعى على خصمه أنه أقر له بألف درهم، هل تسمع ؟ أم عليه أن يدعي نفس الالف ؟ أما إذا ضم إلى الارادة دعوى الاستحقاق، فيحلف المقر على نفيهما على التفصيل المذكور. واتفقت الطرق عليه. فرع مات المبهم قبل التفسير، طولب به الوارث. فإن امتنع، فقولان. أحدهما: يوقف مما ترك أقل ما يتمول. وأظهرهما: يوقف الجميع، لانه مرتهن بالدين. الضرب الثاني: مال. فإذا قال: له علي مال، قبل تفسيره بأقل ما يتمول، ولا يقبل بما ليس بمال، كالكلب وجلد الميتة، قال الامام: والوجه: القبول بالتمرة الواحدة حيث يكثر، لانه مال، وإن لم يتمول في ذلك الموضع، هكذا ذكره العراقيون، وقالوا: كل متمول مال، ولا ينعكس. وتلتحق حبة الحنطة بالتمرة. وفي قبول التفسير بالمستولدة، وجهان. أصحهما: القبول. وإن فسره بوقف عليه، فيشبه أن يخرج على الخلاف في الملك في رقبة الوقف، هل هو للموقوف عليه ؟(4/28)
فرع إذا قال: له علي مال عظيم، أو كثير، أو كبير، أو جليل، أو نفيس، أو خطير، أو غير تافه، أو مال، وأي مال، قبل في تفسيره بأقل ما يتمول، لانه يحتمل أن يريد عظيم خطره بكفر مستحله، وإثم غاصبه وقد قال الشافعي رضي الله عنه: أصل ما أبني عليه الاقرار، أن لا ألزم إلا اليقين، وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة. وحكي وجه غريب: أنه يجب أن يزيد تفسير مال عظيم على تفسير سمطلق المال، ليكون لوصفه بالعظم فائدة. ولو قال: مال حقير، أو قليل، أو خسيس، أو طفيف، أو تافه، أو نزر، أو يسير، فهو كقوله: مال. وتحمل هذه الصفات على احتقار الناس إياه، أو على أنه فان. فرع قال: لزيد علي مال أكثر من مال فلان، يقبل تفسيره بأقل متمول وإن كثر مال فلان، لانه يحتمل أنه أكثر لكونه حلالا، وذلك حرام أو نحوه. قلت: وسواء علم مال فلان، أم لم يعلم. والله أعلم. وكما أن القدر مبهم، فكذلك الجنس والنوع. ولو قال: له علي من الذهب أكثر من مال(4/29)
فلان عددا والابهام في الجنس والنوع. ولو قال: له علي من الذهب أكثر من مال فلان، فالابهام في القدر والنوع. ولو قال: من صحاح الذهب، فالابهام في القدر وحده. ولو قال: لزيد علي (مال) أكثر مما شهد به الشهود على فلان، قبل في تفسيره بأقل متمول، لاحتمال أن يعتقدهم شهود زور، ويقصد أن القليل الحلال أكثر بركة من كثير يؤخذ بالباطل. ولو قال: أكثر مما قضى به القاضي على فلان، فوجهان. أحدهما: يلزم القدر المقضي به، لان قضاء القاضي محمول على الحق. وأصحهما: أنه كالشهادة، فيقبل أقل متمول، لانه قد يقضي بشهادة كاذبين. ولو قال: لزيد علي أكثر مما في يد فلان، قبل أقل متمول. ولو قال: له علي أكثر مما في يد فلان من الدراهم، لم يلزمه التفسير بجنس الدراهم، لكن يلزم بذلك العد من أي جنس فسر، وزيادة أقل متمول، كذا قاله في التهذيب، وهو مخالف ما سبق من وجهين. أحدهما: إلزام ذلك العدد. والثاني: إلزام زيادة، لان التأويل الذي ذكرناه للاكثرية، بنفيهما جميعا. ولو قال: له علي من الدراهم أكثر مما في يد فلان من الدراهم، وكان في يد فلان ثلاثة دراهم، قال البغوي: يلزمه ثلاثة دراهم، وزيادة أقل ما يتمول. والاصح: ما نقله الامام أنه لا يلزمه زيادة، حملا للاكثر على ما سبق. وحكى عن شيخه: أنه لو فسره بما دون الثلاثة، قبل أيضا. ولو كافي يده عشرة دراهم، وقال المقر: لم أعلم، وظننتها ثلاثة، قبل قوله بيمينه. الضرب الثالث: كذا. فإذا قال: لزيد علي كذا، فهو كقوله: له شئ. ولو قال: كذا كذا، فهو كقوله: كذا، والتكرار للتأكيد. ولو قال: كذا وكذا، لزمه التفسير بشيئين متفقين أو مختلفين، بحيث يقبل كل واحد منهما في تفسير كذا. وهكذا الحكم فيما لو قال: علي شئ شئ، أو شئ وشئ. ولو قال: كذا درهم، يلزمه درهم فقط، وكان الدرهم تفسير ما أبهمه. وفي وجه لابي اسحق: يلزمه عشرون درهما إن كان يعرف العربية، لانه أول اسم مفرد ينتصب الدرهم المفسر بعده. والصحيح المعروف: هو الاول. وأجاب الاصحاب، بأن في تفسير المبهم لا ينظر إلى الاعراب. ولهذا لو قال: علي كذا درهم صحيح، لا يلزمه مائة(4/30)
درهم بالاتفاق، وإن كان ذلك مقتضاه بالعربية. ولو قال: كذا درهم من غير صفة الصحة، لزمه أيضا درهم على الصحيح. وقيل: بعض درهم. ولو قال: كذا درهم، بالرفع، لزمه درهم بلا خلاف. ولو قال: كذا درهم، ووقف عليه ساكنا، فكالمخفوض. ولو قال: كذا كذا درهما، لزمه درهم فقط على الصحيح. وقال أبو إسحق: يلزمه أحد عشر درهما إن عرف العربية. ولو قال: كذا كذا درهم، أو درهم لزمه درهم فقط. ويجئ في المخفوض الوجه السابق ببعض درهم. ولو قال: كذا وكذا درهما، لزمه درهمان على المذهب. وفي قول: درهم. وفي قول: درهم وشئ. وفي وجه لابي إسحق: أحد وعشرون درهما إن عرف العربية. ولو قال: كذا وكذا درهم، بالرفع، لزمه درهم فقط على المذهب. وقيل: قولان. ثانيهما: درهمان. ولو قال: كذا وكذا درهم، بالخفض، لزمه درهم فقط. ويمكن أن يخرج مما سبق أنه يلزمه شئ وبعض درهم، أو لا يلزمه إلا بعض درهم. ولو قال: كذا وكذا وكذا درهما، فإن قلنا: إذا كرر مرتين يلزمه درهمان، لزمه هنا ثلاثة. وإن قلنا: درهم، فكذا هنا.(4/31)
فصل قال: له علي ألف ودرهم، أو ودراهم، أو ألف وثوب، أو ألف وعبد، فله تفسيره بغير جنس ما عطف عليه. ولو قال: له خمسة عشر درهما، فكلها دراهم. ولو قال: خمسة وعشر ودرهما، فكلها دراهم على الصحيح وقال ابن خيران، والاصطخري: العشرون دراهم والخمسة مجملة تفسرها. وعلى هذا الخلاف قوله: مائة وخمسة وعشرون درهما، وقوله: ألف ومائة وخمسة وعشرون درهما، وكذا قوله: ألف وثلاثة أثواب، وقوله: مائة وأربعة دنانير، وقوله: مائة ونصف درهم. ولو قال: درهم ونصف، أو عشرة دراهم ونصف، فالكل دراهم على الصحيح الذي قاله الاكثرون، لانه المعروف في الاستعمال. وقال الاصطخري وجماعة: النصف مجملة. ولو قال: نصف ودرهم، فالنصف مجمل. ولو قال: مائة وقفيز حنطة، فالمائة مجملة، يخلاف قوله: مائة وثلاثة دراهم، لان الدراهم تصلح تفسيرا للكل، والحنطة لا تصلح تفسيرا للمائة، لانه لا يصح أن يقال: مائة حنطة. ولو قال: علي ألف درهم، برفعهما وتنوينهما، فسر الالف بما لا ينقص قيمته عن درهم، كأنه قال: الالف مما قيمة الالف منه درهم. الضرب الرابع: درهم. قد ذكرنا في الزكاة، أن دراهم الاسلام المعتبر بها نصب الزكاة والديات وغيرها، كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وكل درهم ستة دوانير. ونزيد الآن، أن الدانق: ثمان حبات وخمسا حبة، فيكون الدرهم خمسين حبة وخمسي حبة، والمراد: حبة الشعير المتوسطة التي لم تقشر، لكن قطع من طرفيها مادق وطال، والدينار: اثنان وسبعون حبة منها، هكذا نقل عن رواية أبي القاسم بن سلام، وحكاه الخطابي عن ابن سريج. وفي الحلية للروياني، أن الدانق ثمان حبا ت، فيكون الدرهم: ثمانية وأربعين حبة. فإذا قال: له علي درهم، أو ألف درهم ثم قال: هي ناقصة، نظر، إن كان في بلد دراهمه تامة، وذكره متصلا، قبل على المذهب، كما لو استثنى. وقال ابن خيران: في قبوله قولان بناء على تبعيض الاقرار. وإن كان ذكره منفصلا، لم يقبل، ولزمه دراهم(4/32)
الاسلام، إلا أن يصدقه المقر له، لان لفظ الدرهم صريح فيه وضعا وعرفا. واختار الروياني أنه يقبل، لان اللفظ يحتمله، والاصل براءة ذمته، وحكاه عن جماعة من الاصحاب، وهو شاذ. وإن كان في بلد دراهمه ناقصة، قبل إن ذكره متصلا قطعا، وكذا إن ذكره منفصلا على الاصح المنصوص. ويجري هذا الخلاف، فيمن أقر في بلد وزن دراهمه أكثر من دراهم الاسلام، مثل غزنة، هل يحمل على دراهم البلد، أو الاسلام ؟ فإن قلنا بالاول، فقال: عنيت دراهم الاسلام، منفصلا، لم يقبل. وإن كان متصلا، فعلى الطريقين. والمذهب: القبول. فرع الدرهم عند الاطلاق، إنما يستعمل في النقرة. فلو أقر بدراهم، وفسرها بفلوس، لم يقبل، وإن فسرها بمغشوشة، فكالتفسير بالناقصة، لان نقرتها تنقص عن التامة، فيعود فيه التفصيل في الناقصة. ولو فسر بجنس ردئ من الفضة، أو قال: أردت من سكة كذا، وهي جارية في ذلك البلد، قبل، كما لو قال: له علي ثوب، ثم فسره بردئ، أو بما لا يعتاد أهل البلد لبسه، بخلاف ما لو فسر بناقصة، لانه يرفع شيئا مما أقر به، ويخالف البيع، فإنه يحمل على سكة البلد، لانه إنشاء معاملة. والغالب، أن المعاملة في كل بلد بما يروج فيه. والاقرار، إخبار عن حق سابق، وربما ثبت في ذمته ببلد آخر، فوجب قبول تفسيره. وقال المزني: لا يقبل تفسيره بغير سكة البلد، ووافقه غيره من أصحابنا. فرع إذا قال: له علي درهم أو دريهمات، أو درهم صغير، أو دراهم صغار، ففيه اختلاف كثير. والاصح: أنه كقوله: درهم أو دراهم، فيعود في تفسيره بالنقص التفصيل السابق، وليس التقييد بالصغير كالتقييد بالنقصان، لان لفظ الدراهم صريح في الوزن، والوصف بالصغير يجوز أن يكون في الشكل، ويجوز بالاضافة إلى غيرها. وقال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: يلزمه من الدراهم الطبرية، وهي أربعة دوانيق. ولم يفرقوا بين بلد وبلد، لان ذلك المتيقن. ولو قال: درهم كبير، فالمذهب: أنه كقوله: درهم. وقال البغوي: إن كان في بلد أوزانهم ناقصة أو تامة، لزمه درهم الاسلام. وإن كانت أوزانهم زائدة، لزمه من نقد البلد. وفي(4/33)
إلزامه نقد البلد إشكال. فرع إذا قال: علي دراهم، لزمه ثلاثة، ولا يقبل تفسيره بأقل منها. ولو قال: دراهم عظيمة، أو كثيرة، فثلاثة، ويجئ فيه الوجه السابق في مال عظيم ولو قال: علي أقل أعداد الدراهم، لزمه درهمان. ولو قال: مائة درهم عدد، لزمه مائة درهم بوزن الاسلام صحاح. قال في التهذيب: ولا يشترط أن يكون كل واحد ستة دوانيق، وكذلك في البيع. ولا يقبل مائة بالعدد ناقصة الوزن، إلا أن يكون نقد البلد عددية ناقصة، فظاهر المذهب: القبول. ولو قال: علي مائة عدد من الدراهم، اعتبر العدد دون الوزن. فصل قال: علي من درهم إلى عشرة، لزمه تسعة على الاصح عند العراقيين، والغزالي. وقيل: عشرة، وصححه البغوي. وقيل: ثمانية، كما لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار، لا يدخل الجداران في البيع. واحتج الشيخ أبو حامد للاول، بأنه لو قال: لفلان من هذه النخلة إلى هذه النخلة، تدخل الاولى في الاقرار دون الاخيرة. وفيما قاله نظر، وينبغي أن لا تدخل الاولى أيضا، كقوله: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار. ولو قال: ما بين درهم إلى عشرة، فالصحيح المشهور: أنه يلزمه ثمانية، وهو نصه. وقيل: تسعة، ونقله في المفتاح عن نصه. وقيل: عشرة، حكاه أبو خلف السلمي عن القفال. ولم يفرقوا بين قوله: ما بين درهم إلى عشرة، وقوله: ما بين درهم وعشرة. وربما سووا بينهما. ويجوز أن يفرق، فيقطع بالثمانية في الصيغة الاخيرة. قلت: القطع بالثمانية، هو الصواب، وقول الامام الرافعي رحمه الله: لم يفرقوا، غير مقبول، فقد فرق القاضي أبو الطيب في تعليقه، فقطع بالثمانية في(4/34)
قوله: ما بين درهم وعشرة. وذكر الاوجه فيما بين درهم إلى عشرة. والله أعلم. فصل قال: له علي درهم في عشرة، إن أراد الظرف، لزمه درهم فقط. وإن أراد الحساب، فعشرة. وإن أراد بفي: مع، لزمه أحد عشر. وإن أطلق، فدرهم. وحكي قول في مثله في الطلاق: أنه يحمل على الحساب، وهو جار هنا. الضرب الخامس: الظرف. الاصل في هذا، أن الاقرار بالظروف ليس إقرارا بالمظروف. وكذا عكسه، ودليله، البناء على اليقين. أما إذا قال: له عندي زيت في جرة، أو سيف في غمد، أو ثوب في منديل، أو تمر في جراب، أو لبن في كوز، أو طعام في سفينة، أو غصبته زيتا في جرة، فهو مقر بالمظروف فقط. ولو قال: له عندي غمد فيه سيف، وجرة فيها زيت، وجراب فيه تمر، وسفينة فيها طعام، فاقرار بالظرف فقط. ولو قال: فرس فإصطبل، أو حمار على ظهره إكاف، أو دابة عليها سرج أو زمام، وعبد على رأسه عمامة، أو في وسطه منطقة، أو في رجله خف، أو عليه قميص، فاقرار بالدابة والعبد فقط. ولو قال: عمامة على رأس عبد، أو سرج على ظهر دابة، فاقرار بالعمامة والسرج فقط. وقال صاحب التلخيص: إذا قال: عبد على رأسه عمامة، أوفي رجله خف، فاقرار بهما مع العبد. وجمهور الاصحاب، على ما سبق. ولو قال: دابة مسروجة، أو دار مفروشة، لم يكن مقرا بالسرج والفرش، بخلاف ما لو قال: بسرجها وبفرشها، وبخلاف ما لو قال: ثوب مطرز، لان الطراز، جزء من الثوب. وقيل: إن ركب فيه بعد النسج، فعلى وجهين مذكورين في أخوات المسألة. ولو قال: فص في خاتم، فإقرار بالفص فقط، ولو قال: خاتم فيه فص ففي كونه مقرا أيضا بالفص وجهان. قال البغوي. أصحهما: المنع. ولو اقتصر على قوله: عندي له خاتم. ثم قال بعد ذلك: ما أردت الفص، لم يقبل منه على المذهب، بل يلزمه الخاتم بفصه، لان الخاتم تناولهما، فلا يقبل رجوعه عن بعض ما تناوله(4/35)
الاقرار، وحكى الغزالي فيه وجهين. ولو قال: حمل في ببطن جارية، لم يكن مقرا بالجارية. وكذا بطن نعل في حافر دابة، وعروة على قميقمة. ولو قال: جارية في بطنها حمل، ودابة في حافرها نعل، وقمقمة عليها عروة، فوجهان. كقوله: خاتم في فص. ولو قال: هذه الجارية لفلان، وكانت حاملا، لم يدخل الحمل في الاقرار على الاصح، لانه إخبار، فكان على حسب إرادة المخبر، بخلاف البيع، فإن الحمل يدخل فيه. ولو قال: له هذه الجارية إلا حملها، لم يدخل الحمل قطعا. ولو قال: ثمرة على شجر، لم يكن مقرا بالشجرة. ولو قال: شجرة عليها ثمرة، بني على أن الثمرة هل تدخل في مطلق الاقرار بالشجرة ؟ وهي لا تدخل بعد التأبير على الصحيح، ولا قبله على الاصح، وبه قطع البغوي، لان الاسم لا يتناولها لغة، بخلاف البيع، فإنه ينزل على المعتاد، وذكر القفال وغيره في ضبط الباب: أن ما دخل تحت البيع المطلق، دخل تحت الاقرار، وما لا، فلا، وما ذكرنا في المسائل يقتضي أن يقال في الضبط: ما لايتبع في البيع، ولا يتناوله الاسم، لم يدخل، وما يتبع ويتناوله الاسم، دخل، وما يتبع ولم يتناوله الاسم، فوجهان. فصل إذا قال: له علي ألف في هذا الكي س، لزمه، سواء كان فيه ألف، أم لم يكن فيه شئ أصلا، لان قوله: علي، يقتضي اللزوم، ولا يكون مقرا بالكيس كما سبق. فإن كان فيه دون الالف، فوجهان. قال أبو زيد: لا يلزمه إلا ذلك القدر. وقال القفال: يلزمه الاتمام، وهذا أصح. ولو قال: علي الالف الذي في هذا الكيس، وكان فيه دون الالف، لم يلزمه الاتمام على الصحيح. وإن لم يكن فيه شئ، فوجهان. ويقال: قولان، بناء على ما لو حلف: ليشربن ماء هذا الكوز، ولا ماء فيه، هل تنعقد يمينه ويحنث، أم لا ؟ قلت: ينبغي أن يكون الراجح: أنه لا يلزمه، لانه لم يعترف بشئ في ذمته. والله أعلم. فصل لو قال: لفلان في هذا العبد ألف درهم، فهذا لفظ مجمل،(4/36)
فيسأل، فإن قال: أردت أنه جني عليه، أو على ماله جناية أرشها ألف، قبل ويعلق الارش برقبته. وإن قال: أردت أنه رهن عنده بألف علي، فوجهان. أحدهما: لا يقبل، لان اللفظيقتضي كون العبد محلا للالف، ومحل الدين الذمة، لا المرهون. فعلى هذا، إذا نازعه المقر له، أخذناه بالالف الذي ذكره في التفسير، وطالبناه للاقرار المجم بتفسير صالح. وأصحهما: القبول، لان الدين وإن كان في الذمة، فله تعلق ظاهر بالمرهون. وإن قال: أردت أنه وزن في ثمنه ألفا، قيل له: هل وزنت في ثمنه شيئا ؟ فإن قال: لا، فالعبد كله للمقر له. وإن قال: نعم، سئل عن كيفية الشراء، أكان دفعة واحدة، أم لا ؟ فإن قال: دفعة، سئل ما قدر ما وزن ؟ فإن قال: وزنت ألفا أيضا، فالعبد بينهما نصفان. وإن قال: ألفين، فله ثلثا العبد، وللمقر له ثلاثة. وعلى هذا، القياس، ولا نظر إلى قيمة العبد. وإن قال: اشتريناه دفعتين ووزن هو في ثمن عشره مثلا ألفا، واشتريت أنا تسعة أعشاره بألف، قبل قوله، لانه محتمل. وإن قال: أردت أنه أوصي له من ثمنه بألف، قبل وبيع ودفع إليه من ثمنه ألف، وليس له دفع الالف من ماله. ولو قال: دفع إلي الالف لاشتري له العبد، ففعلت، فإن صدقه المقر له، فالعبد له. وإن كذبه، فقد رد إقراره بالعبد، وعليه رد الالف الذي أخذ. وإن قال: أردت أنه أقرضني ألفا، فصرفته إلى ثمنه، قبل ولزمه الالف. وتوجيه الخلاف إذا أقر برهنه يقتضي عوده هنا. ولو قال: له من هذا العبد ألف درهم، فهو كقوله: في هذا العبد. ولو قال: من ثمن هذا العبد، فكذلك، قاله في التهذيب. وجميع ما ذكرناه في هذا الفصل، هو فيما إذا اقتصر على قوله: (له) في هذا العبد، ولم يقل: علي، فإن قال: علي، كان التزاما بكل حال، كما سنذكره إن شاء الله تعالى في آخر الفصل الذي بعد هذا. فرع قال: له علي درهم في دينار، فهو كقوله: له ألف في هذا العبد. فإن نوى نفي مع، لزماه. قلت: وإن لم ينو شيئا، لزمه درهم فقط. والله أعلم. فصل قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لو قال: له في ميرا ث أبي ألف درهم، كان مقرا على أبيه بدين. ولو قال: له في ميراثي من أبي ألف درهم، كان هبة، إلا أن يريد إقرارا. قال الاصحاب: النصان على ظاهرهما.(4/37)
وعن صاحب التقريب إشارة إلى التسوية، كأنه نقل وخرج. والمذهب: الفرق. ومثله، لو قال: له في هذه الدار نصفها، فهو إقرار. ولو قال: في داري نصفها، فهو وعد هبة، نص عليهما. ولو قال: له في مالي ألف درهم، كان إقرارا. ولو قال: له من مالي ألف درهم، كان وعد هبة، نص عليهما. واختلف الاصحاب في قوله: له في مالي ألف، فقيل: قولان. أحدهما: هو وعد هبة. والثاني: إقرار. وقيل: هبة قطعا. وحملوا النص على خطأ الناسخ، وربما أولوه على ما لو أتى بصيغة التزام فقال: علي في مالي، فإنه إقرار، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وإذا أثبتنا الخلاف، فعن الشيخ أبي علي، طرده فيما إذا قال: في داري نصفها. وامتنع من طرده فيما إذا قال: في ميراثي من أبي. وعن صاحب التقريب وغيره، طرده فيه بطريق الاولى، لان قوله: في ميراثي من أبي، أولى بأن يجعل إقرارا من قوله: في مالي أو في داري، لان التركة مملوكة للورثة مع تعلق الدين بها، فيحسن إضافة الميراث إلى نفسه مع الاقرار بالدين، بخلاف المال والدار. وأما فرقه في النص الاخير، بين في ومن، فمن الاصحاب من قال: لا فرق، ولم يثبت هذا النص، أو أولوه، ومنهم من فرق، بأن في يقتضي كون مال المقر ظرفا لمال المقر له، وقوله: من ما لي، يقتضي التبعيض، وهو ظاهر في الوعد بأنه يقطع له شيئا من ماله. وإذا فرقنا بينهما، لزمه مثله في الميراث قطعا. والمذهب: أنه لا فرق بينهما، وأن الحكم في قوله: في مالي كما ذكرنا أولا في ميراثي. واستبعد الامام تخريج الخلاف في قوله: له في داري نصفها، لانه إذا أضاف الكل إلى نفسه، لم ينتظم منه الاقرار ببعضه، كما لا ينتظم الاقرار بكله في قوله: داري لفلان، وخصص طريقة الخلاف بما إذا لم يكن المقر به جزءا من مسمى ما أضافه إلى نفسه، كقوله: في مالي ألف، أو في داري ألف. وحيث قلنا في هذه الصور: إنه وعد هبة، لا إقرار، فذلك إذا لم يذكر كلمة الالتزام فأما إذا ذكرها بأن قال: علي ألف درهم في هذا المال، أو في مالي، أو في ميراثي من أبي، أو في ميراث أبي، أو في داري، أو في عبدي، أو هذا العبد، فهو إقرار بكل حال. ولو قال: له في ميراث من أبي، أو في مالي بحق لزمني. أو بحق ثابت، وما أشبهه، فهو إقرار بكل حال، كما لو قال: علي، ذكره ابن القاص، والشيخ أبو حامد، وغيرهما. واعلم أن مقتضى قولنا في قوله: علي(4/38)
في هذا المال، أو في هذا العبد ألف درهم، هو إقرار: أنه يلزمه الالف وإن لم يبلغ ذلك المال ألفا، بخلاف ما إذا قال: له علي ألف في هذا الكيس، وكان فيه دون الالف، فإن فيه خلافا سبق، فإن ظرفية العبد للدراهم، ليست كظرفية الكيس لها، لكن لو قال: له في هذا العبد ألف، من غير كلمة علي، وفسره بأنه أوصى له بألف من ثمنه، فلم يبلغ ثمنه ألفا، لم يجب عليه تتميم الالف بحال. قلت: الضرب السادس: التأكيد والعطف ونحوهما. وفيه مسائل. إحداها: قال: علي درهم درهم درهم، لزمه درهم فقط، وكذا لو كرره هكذا ألف مرة فأكثر. ولو قال: درهم ودرهم، أو درهم ثم درهم، لزمه درهمان للمغايرة. ولو قال: درهم ودرهم ودرهم، لزمه بالاول والثاني درهمان. وأما الثالث، فإن أراد به درهما آخر، لزمه، وإن قال: أردت به تأكيد الثاني، قبل، ولزمه درهمان فقط. وإن قال: أردت به تأكيد الاول، لم يقبل على الاصح، فيلزمه ثلاثة. وإن أطلق، لزمه ثلاثة على المذهب، وبه قطع الاكثرون. وقال ابن خيران: فيه قولان كالطلاق، ثانيهما درهمان. فعلى المذهب، لو كرره عشر مرات فأكثر، لزمه بعدد ما كرر. ولو قال: علي درهم، ثم درهم، ثم درهم، فهو كقوله: درهم ودرهم ودرهم. ولو قال: درهم ودرهم، ثم درهم، لزمه ثلاثة بكل حال. الثانية: قال: علي درهم مع درهم، أو معه درهم، أو فوق درهم، أو فوقه درهم، (أو تحت درهم)، أو تحته درهم، أو علي درهم، أو عليه درهم، فالمذهب والمنصوص والذي قطع به الاكثرون: أنه يلزمه درهم. وقيل: قولان. ثانيهما: درهم. وقال الداركي: مع الهاء، درهمان، وبحذفها، درهم. ولو قال: له علي درهم قبل درهم، أو قبله درهم، أو بعده درهم، لزمه درهمان على المذهب والمنصوص، وبه قطع الاكثرون. وقيل: قولان. ثانيهما: درهم. وقال ابن خيران وغيره: مع الهاء درهمان. وبحذفها، درهم. الثالثة: قال: له علي أو عندي درهم فدرهم، إن أراد العطف، لزمه(4/39)
درهمان، وإلا، فالنص لزوم درهم (فقط). ونص في: أنت طالق، فطالق، أنه طلقتان. وقال ابن خيران: فيهما قولان. أحدهما: درهمان وطلقتان. والثاني: درهم وطلقة. والمذهب الذي قطع به الاكثرون: تقرير النصين. ولو قال: درهم فقفيز حنطة، فهل يلزمه درهم فقط، أم يلزمانه جميعا ؟ فيه هذا الخلاف. وذكر أبو العباس الروياني، أن قياس ما ذكرنا في الطلاق: أنه إذا قال: بعتك بدرهم فدرهم، يكون بائعا بدرهمين، لانه إنشاء، لا إخبار. الرابعة: إذا قال: علي درهم، بل درهم، لزمه درهم فقط. ولو قال: درهم، لا بل درهم، ولكن درهم، فكذلك. ولو قال: درهم، لا بل درهمان، أو قفيز حنطة، لا بل قفيزان، لزمه درهمان، أو قفيزان فقط. هذا إذا لم يعين. فأما إن قال: له عندي هذا القفيز، بل هذان القفيزان، فيلزمه الثلاثة، لان المعين لا يدخل في المعين. وكذا لو اختلف جنس الاول والثاني مع عدم التعيين، بأن قال: درهم بل ديناران، أو قفيز حنطة، بل قفيزا شعير، لزمه الدرهم والديناران، وقفيز الحنطة وقفيزا الشعير. ولو قال: درهمان بل درهم، أو عشرة، بل تسعة، لزمه الدرهمان والعشرة، لان الرجوع عن الاكثر لا يقبل، ويدخل فيه الاقل. ولو قال: دينار، بل ديناران، بل ثلاثة، لزمه ثلاثة. ولو قال: دينار، بل ديناران، بل قفيز، بل قفيزان، لزمه ديناران وقفيزان. ولو قال: دينار وديناران، بل قفيز وقفيزان، لزمه ثلاثة دنانير وثلاثة أقفزة، وقس عليه ما شئت. الضرب السابع: التكرار. القول الجملي فيه أن تكرر الاقرار لا يقتضي تكرر المقر به، لان الاقرار إخبار، وتعدد الخبر لا يقتضي تعدد المخبر عنه، فينزل على واحد، إلا إذا عرض ما يمنع من ذلك، فيحكم بالمغايرة. فإذا أقر لزيد يوم السبت بألف، ويوم الاحد بألف، لزمه ألف فقط، سواء وقع الاقراران في مجلس أو مجلسين، وسواء كتب به صحا وأشهد عليه شهودا على التعاقب، أو كتب صحا بألف وأشهد عليه، ثم كتب صكا (بألف) وأشهد عليه. ولو أقر في يوم بألف، وفي آخر بخمسمائة، دخل الاقل في الاكثر. ولو أقر يوم السبت بألف من ثمن عبد، ويوم الاحد بألف من ثمن جارية، أو قال مرة: صحاح، ومرة: مكسرة، لزمه(4/40)
ألفان. وكذا لو قال: قبضت منه يوم السبت عشرة، ثم قال: قبضت منه يوم الاحد عشرة، أو طلقها يوم السبت طلقة، ثم قال: طلقتها يوم الاحد طلقتين، تعدد. ولو قال يوم السبت: طلقتها طلقة، ثم أقر يوم الاحد بطلقتين، لم يلزم إلا طلقتا ن. ولو أضاف أحد الاقرارين إلى سبب، أو وصف الدراهم بصفة، وأطلق الاقرار الآخر، نزل المطلق على المضاف، لامكانه. فرع لو شهد عدل أنه أقر يوم السبت بألف، أو بغصب دار، وشهد آخر أنه أقر يوم الاحد بألف، أو بغصب تلك الدار، لفقنا الشهادتين واعتبرنا الالف والغصب، لان الاقرار لا يوجب حقا بنفسه، وإنما هو إخبار عن ثابت، فينظر إلى المخبر عنه وإلى اتفاقهما على الاخبار عنه. وكذا لو شهد أحدهما على إقراره بألف بالعربية، والآخر على إقراره بألف بالعجمية. ولو شهد عدل أنه طلقها يوم السبت، وآخر أنه طلقها يوم الاحد، لم يثبت بشهادتهما شئ لانهما لا يتفقان على شئ، وليس هو إخبارا حتى ينظر إلى المقصود المخبر عنه. وقيل: في الاقرارين والطلاقين، قولان بالنقل والتخريج. قال الامام: أما التخريج من الطلاق إلى الاقرار، فقريب في المعنى وإن بعد في النقل، لان الشاهدين ليشهدا على شئ واحد، بل شهد هذا على إقرار، وذاك على إقرار آخر. والمقصود من اشتراط العدد في الشهادة، زيادة التوثق، وأما التخريج من الاقرار إلى الطلاق، فبعيد نقلا ومعنى، لان من طلق اليوم، ثم طلق غدا، والمرأة رجعية، وزعم أنه أراد طلقة واحدة، لم يقبل منه، فكيف يجمع بين شهادة شاهد على طلاق اليوم، وشاهد على طلاق الغد ؟ ! ويجري التخريج على ضعفه في سائر الانشاءات وفي الافعال، كالقتل، والقبض، وغيرهما. والمذهب: الاول، حتى لو شهد أحدهما أنه قذف يوم السبت بالعربية، والآخر أنه قذف يوم الاحد بالعجمية، لم يثبت بشهادتهما شئ. ولو شهد أحدهما على إقراره أنه يوم السبت قذفه، أو قذفه بالعربية، والآخر على إقراره أنه يوم الاحد قذفه بالعجمية، لم يلفق أيضا، لان المقر به شيئان مختلفان. ولو شهد عدل بألف من ثمن مبيع، وآخر بألف من قرض، أو شهد أحدهما بألف اقترضه يوم السبت، وآخر بألف اقترضه يوم الاحد، لم يثبت بشهادتهما شئ، لكن للمشهود له أن يعين أحدهما ويستأنف الدعوى به،(4/41)
ويحلف مع الذي يشهد به، وله أن يدعيهما، ويحلف مع كل واحد من الشاهدين. ولو كانت الشهادة على الاقرار، فشهد أحدهما أنه أقر بألف من ثمن مبيع، وشهد الآخر أنه أقر بألف من قرض، لم يثبت الالف أيضا على الصحيح. ولو أدعى ألفا، فشهد أحدهما أنه ضمن الالف، والآخر أنه ضمن خمسمائة، ففي ثبوت خمسمائة قولان، وهذا قريب من التخريج في الانشاءات، أو هو هو. ولو شهد أحد شاهدي المدعى عليه أن المدعي استوفى الدين، والآخر أنه أبرأه، لم يلفق على المذهب. ولو شهد الثاني أنه برئ إليه منه، قال أبو عاصم العبادي: يلفق. وقيل: بخلافه. فرع ادعى ألفين، وشهد له عدل بألفين، وآخر بألف، ثبت الالف، وله أن يحلف مع الشاهد بألفين، ويأخذ ألفين. وكذا الحكم، لو كانت الشهادتان على الاقرار. ولو شهد أحدهما بثلاثين، والآخر بعشرين، ثبتت العشرون كالالف مع الالفين. وفي وجه ضعيف: لا تثبت، لان لفظ الثلاثين لا يشمل العشرين، ولفظ الالفين، يشمل الالف، فربما سمع أحدهما الالف، وغفل عن آخره. ولو ادعى ألفا، فشهد له عدل بألف، وآخر بألفين، فالثاني شهد بالزيادة قبل أن يستشهد. وفي مصيره بذلك مجروحا، وجهان. إن لم يصر مجروحا، فشهادته بالزيادة مردودة. وفي الباقي، قولا تبعيض الشهادة وقطع بعضهم بثبوت الالف، وخص الخلاف في التبعيض بما إذا اشتملت الشهادة على ما يقتضي الرد، كما إذا شهد لنفسه ولغيره. فأما إذا زاد على المدعى به، فقوله في الزيادة ليس شهادة، بل هو كما لو أتى بالشهادة في غير مجلس الحكم. وإن قلنا: يصير مجروحا، قال البغوي: يحلف مع شاهد الالف ويأخذه. وقال الامام: إنه على هذا الوجه: إنما يصير مجروحا في الزيادة، فأما الالف المدعى به، فلا حرج في الشهادة عليه، لكن إذا ردت الشهادة في الزائد، كانت الشهادة في المدعى به على قولي التبعيض. فإن لم نبعضها، فأعاد الشهادة بالالف، قبلت، لموافقتها الدعوى، ولا يحتاج إلى إعادة الدعوى على الاصح.
فصل في مسائل منثورة
إحداها: أقر بجميع ما في يده وينسب إليه،(4/42)
صح. فلو تنازعا في شئ، هل كان في يده حينئذ ؟ فالقول قول المقر، وعلى الآخر البينة. ولو قال: ليس لي مما في يدي إلا ألف، صح وعمل بمقتضاه. ولو قال: لا حق لي في شئ مما في يد فلان، ثم ادعى شيئا وقا: لم أعلم كونه في يده يوم الاقرار، صدق بيمينه. الثانية: قال: لفلان علي درهم أو دينار، لزمه أحدهما، وطولب بتعيينه. وقيل: لا يلزمه شئ، وهو ضعيف جدا. الثالثة: قال: له علي ألف، أو على زيد أو على عمرو، لم يلزمه شئ. وكذا لو قال على سبيل الاقرار: أنت طالق، أو، لا، وإن ذكره في معرض الانشاء، طلقت، كما لو قال: أنت طالق طلاقا لا يقع عليك. الرابعة: قال: لزيد علي ألف درهم، وإلا فلعمرو علي ألف دينار، لزمه ألف درهم لزيد، وكلامه الآخر للتأكيد. الخامسة: الاقرار المطلق، ملزم، ويؤاخذ به المقر على الصحيح المعروف. وخرج وجه: أنه لا يلزم حتى يسأل المقر عن سبب اللزوم، لان الاصل براءة الذمة، والاقرار ليس موجبا في نفسه، وأسباب الوجوب مختلف فيها. وربما ظن ما ليس بموجب موجبا، وهذا كما أن الجرح المطلق لا يقبل، وكما لو أقر بأن فلانا، وارثه، لا يقبل حتى يبين جهة الارث. السادسة: قال: وهبت لك كذا وخرجت منه إليك، فالاصح، أن لا يكون مقرا بالاقباض، لجواز أن يريد الخروج منه بالهبة. وقال القفال والشاش: هو إقرار بالاقباض، لانه نسب إلى نفسه ما يشعر بالاقباض بعد العقد المفروغ منه. السابعة: أقر الاب بعين مال لابنه، فيمكن أن يكون مستند إقراره ما يمنع الرجوع، ويمكن أن يكون مستنده ما لا يمنع وهو الهبة، فهل له الرجوع ؟ وجهان. أحدهما: نعم، وبه أفتى القاضيان: أبو الطيب، والماوردي، تنزيلا (للاقرار) على أضعف الملكين، وأدنى السببين، كما ينزل على أقل المقدارين. والثاني: لا، قاله أبو عاصم العبادي، لان الاصل بقاء الملك للمقر له. ويمكن أن يتوسط فيقال:(4/43)
إن أقر بانتقال الملك منه إلى الابن، فالامر على ما قال القاضيان، وإن أقر بالملك المطلق، فالامر كما قال العبادي. الثامنة: أقرفي صك بأنه لا دعوى له على زيد، ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الاسباب، ثم قال: إنما أردت به: في عمامته وقميصه، لا في داره وبستانه. قال القاضي أبو سعد بن أبي يوسف: هذا موضع تردد، والقياس قبوله، لان غايته تخصيص عموم، وهو محتمل. قلت: هذا ضعيف وفاسد. والصواب: أنه لا يقبل في ظاهر الحكم، لكن المختار أن له تحليف المقر له، أنه لا يعلم أنه قصد ذلك، ولعل هذا مراد القاضي. والله أعلم.
فصل المقر به المجهول، قد يعرف بغير تفسير المقر، بأن يحيله على معرف، وهو ضربان. أحدهما: أن يقول: له علي من الدراهم بوزن هذه الصنجة، أو بعدد المكتوب في كتاب كذا، أو بقدر ما باع به زيد عبده، وما أشبه ذلك، فيرجع إلى ما أحال عليه. الضرب الثاني: أن يذكر ما يمكن استخراجه بالحساب، فمن أمثلته: لزيد علي ألف إلا نصف ما لابنيه علي، ولابنيه علي ألف إلا ثلث ما لزيد علي. ولمعرفته طرق. أحدها: أن تجعل لزيد شيئا، وتقول: للابنين ألف إلا ثلث شئ، فيأخذ نصفه وهو خمسمائة إلا سدس شئ، وتسقطه من الالف، يبقى خمسمائة، وسدس شئ، وذلك يعدل الشئ المفروض لزيد، لانه جعل له ألفا إلا نصف ما لابنيه، فيسقط سدس شئ بسدس شئ، تبقى خمسة أسداس شئ في مقابلة خمسمائة، فيكون الشئ التام ستمائة، وهي ما لزيد. فإذا أخذت ثلثها وهو مائتان، وأسقطته من الالف، بقي ثمانمائة، وهي ما أقر به للابنين. الثاني: أن تجعل لزيد ثلاثة أشياء لاستثناء الثلث منه، وتسقط ثلثها من الالف المضاف إلى الابنين، فيكون لهما ألف ينقص شيئا، ثم يأخذ نصفه وهو خمسمائة(4/44)
تنقص نصف شئ، وتزيده على ما فرضناه لزيد، وهو ثلاثة أشياء، يكون خمسمائة وشيئين ونصف شئ، وذلك يعدل ألف درهم، يسقط خمسمائة بخمسمائة، تبقى خمسمائة في مقابلة شيئين ونصف شئ، فيكون الشئ مائتين، وقد كان لزيد ثلاثة أشياء، فهو إذا ستمائة. الثالث: أن تقول: استثني من أحد الاقرارين النصف، ومن الآخر الثلث، فتضرب مخرج أحدهما في مخرج الآخر فيكون ستة، ثم تضرب في الجزء المستثنى من الاقرارين، وكلاهما واحد، فتضرب واحدا في واحد، يكون واحدا، ينقصه من الستة، تبقى خمسة تحفظها وتسميها: المقسوم عليه، ثم تضرب ما تبقى من مخرج كل واحد من الجزئين بعد إسقاطه في مخرج الثاني، وذلك بأن تضرب ما بقي من مخرج النصف بعد النصف، وهو واحد، في مخرج الثلث، وهو ثلاثة، تحصل ثلاثة، تضربها في الالف المذكور في الاقرار، يكون ثلاثة آلاف تقسمها على العدد المقسوم عليه، وهو خمسة يخرج نصيب الواحد ستمائة، فهي ما لزيد، وتضرب ما تبقى من مخرج الثلث بعد الثلث وهو اثنان، في مخرج النصف، وهو اثنان، يكون أربعة، تضربها في الالف، يكون أربعة آلاف تقسمها على الخمسة، تخرج ثمانمائة فهي ما للابنين. ولو قال لزيد علي عشرة إلا ثلثي ما لعمرو، ولعمرو عشرة إلا ثلاثة أرباع ما لزيد، تضر ب المخرج في المخرج، تكون اثني عشر، ثم تضرب أحد الجزئين في الآخر، وهو اثنان، في ثلاثة، تكون ستة، تسقطها من اثني عشر، تبقى ستة، ثم تضرب الباقي من مخرج الثلث بعد إخراج الثلثين، وهو واحد، في أربعة، ثم تضربها في العشرة المذكورة في الاقرار، تكون أربعين تقسمها على الستة، فتكون ستة وثلثين، وذلك ما أقر به لزيد، ثم تضرب واحدا وهو الباقي من مخرج الربع بعد إخراج الارباع الثلاثة في ثلاثة، تكون ثلاثة تضربها في العشرة يكون ثلثين تقسمها على الستة، تكون خمسة، وهو ما أقر به لعمرو. ولعلم أن الطريقين الاولين، ضربان مجربان في أمثال هذه الصور بأسرها. وأما الطريق الثالث، فإنه لا يطرد فيما إذا اختلف المبلغ المذكور في الاقرارين. ولو قال: لزيد عشرة إلا نصف ما لعمرو، ولعمرو ستة إلا ربع ما لزيد، كان مقرا لزيد بثمانية، ولعمرو بأربعة. ولو قال: لزيد عشرة إلا نصف ما لعمرو،(4/45)
ولعمرو عشرة إلا ربع ما لزيد، كان مقرا لزيد بخمسة وخمسة أسباع، ولعمرو بثمانية وأربعة أسباع. ويتصور صدور كل إقرار من شخص، بأن يدعي على زيد وعمرو مالا، فيقول زيد: لك علي عشرة إلا نصف مالك على عمرو، ويقول عمرو: لك علي عشرة إلا ثلث مالك على زيد، وطريق الحساب لا يختلف.
الباب الثالث : في تعقيب الاقرار بما يغيره هو استثناء وغيره. فالثاني ينقسم إلى ما يرفعه بالكلية، وإلى غيره، والاول ينقسم إلى ما لا ينتظم لفظا، فيلغو، وإلى ما ينتظم، فإن كان مفصولا، لم يقبل، وإن كان موصولا، ففيه خلاف. والثاني: إن كان مفصولا، لا يقبل أيضا، وإن كان موصولا، ففيه خلاف بالترتيب، هذا حاصل الباب. وإذا مرت بك مسائله عرفت من أي قبيل هي. وأما الاستثناء، فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، وفيه مسائل. إحداها: قال: لفلان علي ألف من ثمن خمرأو كلب أو خنزير، فإن وقع قوله: من ثمن خمر، مفصولا عن قوله: له ألف، لم يقبل، ولزمه الالف. وإن كان موصولا، فقولان. أحدهما: يقبل ولا يلزمه شئ، لان الكل كلام واحد، فيعتبر جملة ولا يبعض، فعلى هذا للمقر له تحليفه إن كان من ثم خمر. وأظهرهما عند العراقيين وغيرهم: لا يقبل، ويلزمه الالف، ويبعض إقراره فيعتبر أوله ويلغى آخره، لانه وصل به ما يرفعه، فأشبه قوله: ألف لا يلزمني. فعلى هذا لو قال المقر: كان من ثمن خمر، وظننته يلزمني، فله تحليف المقر له على نفيه. ويجري القولان فيما إذا وصل بإقراره ما ينتظم لفظه في العادة، ولكنه يبطل حكمه شرعا، بأن أضاف المقر به إلى بيع فاسد، كالبيع بثمن مجهول، وخيار مجهول. أو قال: تكفلت ببدن فلان بشرط الخيار، أو ضمنت لفلان كذا بشرط الخيار، وما أشبه ذلك، قال الامام: وكنت أود لو فصل فاصل بين أن يكون المقر جاهلا بأن ثمن الخمر لا يلزم، وبين أن يكون عالما، فيعذر الجاهل دون العالم، لكن لم يصر إليه(4/46)
أحد من الاصحاب. أما إذا قدم الخمر فقال: له من ثمن خمر علي الالف، لا يلزمه شئ قطعا بكل حال. الثانية: قال: علي ألف من ثمن عبد لم أقبضه، إذا سلمه سلمت الالف، فطريقان. أحدهما: طرد القولين. ففي قول: يقبل ولا يطالب بالالف إلا بعد تسليم العبد. وفي قول: يؤاخذ بأول الاقرار. والطريق الثاني وهو الاصح: القطع بالقبول، لان المذكور آخرا هنا لا يرفع الاول، بخلاف ثمن الخمر. وعلى هذا، لو قال: علي ألف من ثمن عبد فقط، ثم قال: مفصولا عنه لم أقبض ذلك العبد، قبل أيضا، لانه علق الاقرار بالعبد، والاصل عدم قبضه. ولو اقتصر على قوله: لفلان علي ألف، ثم قال مفصولا: هو ثمن عبد لم أقبضه، لم يقبل. ولا فرق عندنا، بين أن يقول: علي ألف من ثمن هذا العبد، أو من ثمن عبد. الثالثة: قال: علي ألف قضيته، ففي قبوله القولان. وقيل: لا يقبل قطعا. ولو قال: كان لفلان علي ألف قضيته، قبل عند الجمهور. وقيل: على الطريقين. الرابعة: قال: علي ألف لا يلزمني، أو علي ألف أو، لا، لزمه الالف، لانه غير منتظم. قلت: هكذا رأيته في نسخ (من) كتاب الامام الرافعي علي الالف، أو، لا، وهو غلط. وقد صرح به صرح به صاحبا التهذيب والبيان: بأنه لا يلزمه في(4/47)
هذه الصورة شئ، كما لو قال: أنت طالق، أو، لا، فإنه لم يجزم بالالتزام، وما يبعد أن يكون الذي في كتاب الرافعي تصحيفا من النساخ، أو تغييرا مما في التهذيب، فقد قال في التهذيب: لو قال: علي ألف، لا، فهو إقرار، وهذا صحيح، وقرنه في التهذيب بقوله: بألف لا يلزمني، وهو نظيره. ومعظم نقل الرافعي من التهذيب والنهاية، وكيف كان، فالصواب الذي يقطع به: أنه إذا قال: ألف أو، لا، فشئ عليه. والله أعلم. الخامسة: قال: له علي (ألف) إن شاء الله، لم يلزمه شئ على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: على القولين. ولو قال: علي ألف إن شئت، أو إن شاء فلان، فلا شئ عليه على المذهب. قال الامام: والوجه: طرد القولين. ولو قال: علي ألف إذا جاء رأس الشهر، أو إذا قدم زيد، أطلق جماعة أنه لا شئ عليه، لان الشرط لا أثر له في إيجاب المال، والواقع لا يعلق بشرط. وذكر الامام وغيره: أنه على القولين. وكيف كان، فالمذهب أنه لا شئ عليه وهذا إذا أطلق، أو قال: قصدت التعليق. فإن قصد التأجيل، فسنذكره إن شاء الله تعالى. ولو قدم التعليق فقال: إن جاء رأس الشهر فعلي ألف، لم يلزمه قطعا، لانه لم توجد صيغة التزام جازمة. فإن قال: أردت التأجيل برأس الشهر، قبل. وفي التتمة وجه: أن مطلقه محمول على التأجيل برأس الشهر، وهو غريب، وبه قطع فيما إذا قال: علي ألف إذا جاء رأس الشهر. السادسة: قال: علي ألف مؤجل إلى وقت كذا، فإن ذكر الاجل مفصولا، لم يقبل. وإن وصله، قبل على المذهب. وقيل: قولان. وإذا لم يقبل، فالقول قول المقر له بيمينه في نفي الاجل. ثم موضع الخلاف، أن يقر مطلقا، أو مسندا إلى سبب يقبل التعجيل والتأجيل. أما إذا أسند إلى ما لا يقبل الاجل، فقال: أقرضنيه مؤجلا، فيلغو ذكر الاجل قطعا. وإن أسند إلى ما يلازمه الاجل، كالدية على العاقلة، فإن ذكره في صدر إقراره بأن قا: قتل أخي زيدا خطأ، ولزمني من ديته كذا مؤجلا إلى سنة انتهاؤها كذا، قبل قطعا. ولو قال: علي كذا من جهة تحمل العقل مؤجلا إلى كذا، فقولان. وقيل: يقبل قطعا. فرع قال: بعتك أمس كذا، فلم تقبل، فقال: بل قبلت، فعلى قولي(4/48)
تبعيض الا قرار، إن بعضناه، صدق بيمينه في قوله: قبلت. وكذا لو قال لعبده: أعتقتك على ألف، فلم تقبل، أو لامرأته: خالعتك على ألف، فلم تقبلي، فقالا: قبلنا. فرع إذا قال له: أريد أن أقر الآن بما ليس علي لفلان علي ألف. أو قال: ما طلقت امرأتي وأريد أن أقر بطلاقها: قد طلقت امرأتي ثلاثا، قال الشيخ أبو عاصم: لا يصح إقراره، ولا شئ عليه. وقال صاحب التتمة: الصحيح، أنه يلزمه، كقوله: علي ألف لا يلزمني. السابعة: قال: لزيد علي ألف وزعم أنه وديعة، فله حالان. الاول: أن يذكره منفصلا، بأن أتى بألف بعد إقراره، وقال: أردت هذا وهو وديعة عندي، وقال المقر له، هو وديعة ولي عليك ألف آخر دينا، وهو الذي أردته بإقرارك، فهل القول قول المقر له، أو المقر ؟ فيه قولان. أظهرهما: الثاني وقيل به قطعا، لان قوله: علي، يحتمل أن يريد به: عندي، ويحتمل: إني تعديت فيها فصارت مضمونة علي، أو علي حفظها. ولو قال: علي ألف في ذمتي، أو دينا، ثم جاء بألف وفسر كما ذكرنا، لم يقبل على المذهب، والقول قول المقر له بيمينه، لان العين لا تثبت في الذمة. وقيل: في قبوله وجهان. ثم قال الامام: إذا قبلنا التفسير بالوديعة، قال الاصحاب: الالف مضمونة، وليس بأمانة، لان قوله: علي، تتضمن الالتزام. فإن ادعى تلف الالف الذي يزعم أنه وديعة، لم يسقط عنه الضمان، وإن ادعى رده، لم يقبل، لانه ضامن، وإنما يصدق الامين. وهذا الذي قاله الامام، مشكل دليلا ونقلا. أما الدليل، فلان لفظه علي، كما يجوز أن يراد بها مصيرها مضمونة لتعديه، فيجوز أن يريد: وجوب حفظها، ويجوز أن يريد عندي، كما سبق، وهذان لا ينافيان الامانة. وأما النقل، فمقتضى كلام غيره، أنه إذا ادعى تلفه بعد الاقرار، صدق، وقد صرح به صاحب الشامل في موضعين من الباب.(4/49)
الحال الثاني: أن يذكره متصلا، فيقول: لفلان علي ألف وديعة، فيقبل على المذهب. وقال أبو إسحق: على قولين، كقوله: ألف قضيته. وإذا قبلنا فأتى بألف، وقال: هو هذا، قنع به، فإن لم يأت بشئ، وادعى التلف أو الرد، قبل على الاصح. وأما إذا قال: له معي أو عندي ألف، فهو مشعر بالامانة، فيصدق في قوله: إنه كان وديعة، وفي دعوى التلف والرد. ولو قال: له عندي ألف درهم مضاربة دينا أو وديعة دينا، فهو مضمون عليه، ولا يقبل قوله في دعوى الرد والتلف، نص عليه. ووجهوه بأن كونه دينا عبارة عن كونه مضمونا. فإن قال: أردت أنه دفعة إلي مضاربة أو وديعة بشرط الضمان، لم يقبل قوله، لان شرط الامانة لا يوجب الضمان، هذا إذا فسر منفصلا. فإن فسره متصلا، ففيه قولا تبعيض الاقرار. ولو قال: له عندي ألف عارية، فهو مضمون عليه، صححنا إعارة الدراهم أو أفسدناها، لان الفاسد كالصحيح في الضمان. ولو قال: دفع إلي ألفا، ثم فسره بوديعة، وادعى تلفها في يده، صدق بيمينه. وكذا لو قال: أخذت منه ألفا. وقال القفال في أخذت: لو ادعى المأخوذ منه أنه غصبه، صدق بيمينه في الغصب. والصحيح: أنه كقوله: دفع إلي. الثامنة: قال: هذه الدار لك عارية، فهو إقرار بالاعارة، وله الرجوع. وقال صاحب التقريب: قوله: لك إقرار بالملك، فذكر العارية بعده ينافيه، فيكون على قولي تبعيض الاقرار. والمذهب الاول. ولو قال: هذه الدار لك هبة عارية باضافة الهبة إلى العارية، أو هبة سكنى، فهو كما لو قال: لك عارية، بلا فرق. التاسعة: الاقرار بالهبة لا يتضمن الاقرار بقبضها على المذهب، وبه قطع الجمهور. وفي الشامل: فيه خلاف إذا كانت العين في يد الموهوب له، وقال: أقبضتني. ولو قال: وهبته وخرجت إليه منه، فقد سبق أن الاصح أنه ليس بإقرار بالقبض، وكذا لو قال: وهبت له وملكها، قاله البغوي. ولو أقر بالقبض، ثم ذكر لاقراره تأويلا أو لم يذكر، فهو كما ذكرنا في الرهن إذا قال: رهنت وأقبضت ثم عاد فأنكر. العاشرة: لو أقر ببيع أو هبة وقبض، ثم قال: كان ذلك فاسدا، أو أقررت لظني الصحة، لم يصدق، لكن له تحليف المقر له، فإن نكل، حلف المقر وحكم(4/50)
ببطلان البيع والهبة. ولو أقر باتلاف مال (على إنسان) وأشهد عليه، ثم قال: كنت عازما على الاتلاف فقدمت الاشهاد على الاتلاف، لم يلتفت إليه، بخلاف ما لو أشهد عليه بدين ثم قال: كنت عازما على أن استقرض منه، فقدمت الشهادة على الاستقراض، قبل للتحليف، لان هذا معتاد، بخلاف ذاك. الحادية عشرة: أقر عجمي بالعربية وقال: لم أفهم معناه، لكن لقنت، صدق بيمينه إن كان ممن يجوز أن لا يعرفه. وكذا الحكم في جميع العقود والحلول. ولو ادعى أنه أقر وهو صبي أو مجنون، أو مكره، فقد سبق بيانه مع ما يتعلق به في آخر الباب الاول. الثانية عشرة: قال: غصبت هذه الدار من زيد، بل من عمرو، أو قال: غصبتها من زيد، وغصبها زيد من عمرو، أو قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو، سلمت الدار إلى زيد. وفي غرمه لعمرو، قولان. أظهرهما عند الاكثرين: يغرم. وفي الصورة الثالثة طريقة جازمة بأن لا غرم، لانه لم يقر بجناية في ملك الغير، بخلاف الاوليين. ثم قيل: القولان فيما إذا انتزعها الحاكم من يده وسلمها إلى زيد. فأما إذا سلمها بنفسه، فيغرم قطعا. وقيل: القولان في الحالين. قلت: الاصح طردهما في الحالين، قاله أصحابنا. ويجري الخلاف سواء وإلى بين الاقرار لهما، أم فصل بفصل قصير أو طويل. والله أعلم. فرع باع عينا وأقبضها واستوفى الثمن، ثم قال: كنت بعتها لفلان، أو غصبتها منه، لم يقبل قوله على المشتري. وفي غرمه للمقر إليه طريقان. أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: القطع بالغرم، لانه فوت بتصرفه وتسليمه. ويبنى على هذا الخلاف، أن مدعي العين المبيعة، هل له دعوى القيمة على البائع مع بقاء العين في يد المشتري ؟ إن قلنا: لو أقر، غرم القيمة، فله دعواها، وإلا،(4/51)
فلا. ولو كان في يد إنسان عين، فانتزعها مدع بيمينه بعد نكول صاحب اليد، ثم جاء آخر يدعيها، هل له طلب القيمة من الاول ؟ إن قلنا: النكول ورد اليمين كالبينة، فلا، كما لو انتزع بالبينة. وإن قلنا: كالاقرار، ففي سماع دعوى الثاني عليه بالقيمة، الخلاف. فرع قال: غصبت هذه الدار من زيد، وملكها لعمرو، سلمت إلى زيد، لانه اعترف له باليد. والظاهر: أنه محق فيها، ثم تكون الخصومة في الدار بين زيد وعمرو، ولا تقبل شهادة المقر لعمرو، لانه غاصب. وفي غرامة المقر لعمرو، طريقان. أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: القطع بأن لا غرم، لانه لا منافاة هنا بين الاقرارين، لجواز أن يكون الملك لعمرو، ويكون في يد زيد باجارة، أو رهن، أو وصية بالمنافع، فيكون الآخذ غاصبا منه. وفي المسألة الاولى الاقراران متنافيان. ولو أخر ذكر الغصب فقال: هذه الدار ملكها عمرو، وغصبتها من زيد، فوجهان. أصحهما: كالصورة الاولى، لعدم التنافي، فتسلم إلى زيد، ولا يغرم لعمرو. والثاني: لا يقبل إقراره باليد بعد الملك، فتسلم إلى عمرو. وفي غرمه لزيد القولان، هكذا أطلقوه وفيه مباحثة، لانا إذا غرمنا المقر في الصورة السابقة للثاني، فانما نغرمه القيمة، لانه أقر له بالملك، وهنا جعلناه مقرا باليد دون الملك، فلا وجه لتغريمه، بل القياس أن يسأل عن يده: أكانت باجارة أو رهن أو غيرهما ؟ فإن كانت باجارة، غرم قيمة المنفعة، وإن كانت رهنا، غرم قيمة المرهون ليتوثق به زيد، وكأنه أتلف المرهون. ثم إن استوفى الدين من موضع آخر، ردت القيمة عليه. فرع قال: غصبت هذه العين من أحدكما، طولب بالتعيين، فإذا عين أحدهما، سلمت إليه. وهل للثاني تحليفه ؟ يبنى على أنه لو أقر للثاني هل يغرم (له) ؟ إن قلنا: لا، فلا، وإلا، فنعم، لانه ربما يقر له إذا عرضت اليمين فيغرمه، فعلى هذا، إذا نكل ردت اليمين على الثاني، فإذا حلف، فليس له إلا القيمة. وقيل: إن قلنا: النكول ورد اليمين كالاقرار، فالجواب كذلك. وإن قلنا: كالبينة، نزعت الدار من الاول وسلمت إلى الثاني، ولا غرم عليه للاول. وعلى هذا، فله التحليف وإن قلنا: لا يغرم القيمة لو أقر للثاني طمعا في أن ينكل، فيحلف المدعي ويأخذ العين. أما إذا قال المقر: لا أدري من أيكما غصبت،(4/52)
وأصر عليه، فإن صدقاه، فالعين موقوفة بينهما حتى تبين المالك أو يصطلحا. وكذا إن كذباه وحلف لهما على نفي العلم، هذا هو المذهب. قلت: ولو أقر أن الدار التي في تركة مورثه لزيد، بل لعمرو، سلمت إلى زيد، وفى غرمه لعمرو طريقان في الشامل والبيان وغيرهما. أحدهما: القولان. والثاني: القطع بأن لا غرم. والفرق، أنه هنا معذور لعدم كمال اطلاعه. والله أعلم.
فصل في الاستثناء
وهو جائز في الاقرار والطلاق وغيرهما، بشرط أن يكون متصلا، وأن لا يكون مستغرقا. فإن سكت بعد الاقرار، أو تكلم بكلام أجنبي عما هو فيه، ثم استثنى، لم ينفعه. قلت: هكذا قال أصحابنا، إن تخلل الكلام الاجنبي، يبطل الاستثناء. وقال صاحبا العدة والبيان: إذا قال: علي ألف - أستغفر الله - الامانة، صح الاستثناء عندنا، خلافا لابي حنيفة رضي الله عنه. ودليلنا، أنه فصل يسير، فصار كقوله: علي ألف - يا فلان - الامانة، وهذا الذي نقلاه، فيه نظر. والله أعلم. ولو استغرق فقال: علي عشرة إلا عشرة، لم يصح، وعليه عشرة، ويجوز استثناء الاكثر، فإذا قال: علي عشرة إلا تسعة، أو سوى تسعة، لزمه درهم. فرع الاستثناء من الاثبات نفي، ومن النفي إثبات. فلو قال: علي عشرة إلا تسعة، إثمانية، لزمه تسعة. ولو قال: علي عشرة، إلا ثمانية، إلا سبعة، إلا ستة، إلا خمسة، إلا أربعة، إلا ثلاثة، إلا درهمين، إلا درهم، لزمه خمسة. وطريق هذا وما أشبهه، أن يجمع الاثبات ويجمع النفي، ويسقط النفي من الاثبات، فما بقي فهو الواجب. فالاعداد المثبتة هنا ثلاثون، والمنفية خمسة وعشرون. ثم معرفة المثبت، أن العدد المذكور أولا، إن كان شفعا،(4/53)
فالاشفاع مثبتة، والاوتار منفية. وإن كان وترا، فبالعكس، وشرطه أن تكون الاعداد المذكورة على التوالي المعتاد، إذ يتلو كل شفع وترا، وبالعكس. فرع قال: ليس لفلان علي شئ إلا خمسة، لزمه خمسة. ولو قال: ليس علي عشرة إلا خمسة، لم يلزمه شئ على الصحيح الذي قاله الاكثرون، لان العشرة إلا خمسة، خمسة، فكأنه قال: ليس علي خمسة. وفي وجه: يلزمه خمسة، حكاه في النهاية بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات. فرع إذا أتى باستثناء بعد استثناء، والثاني مستغرق، صح الاول، وبطل الثاني. مثاله: علي عشرة، إلا خمسة، إلا عشرة، أو (عشرة) إلا خمسة، إلا خمسة، لزمه خمسة. وإن كان الاول مستغرقا دون الثاني، كقوله: عشرة، إلا عشرة، إلا أربعة، فأوجه. أحدها: يلزمه عشرة ويبطل الاستثناء الاول، لاستغراقه، ويبطل الثاني، لانه من باطل، والثاني: يلزمه أربعة ويصح الاستثناءان، لان الكلام إنما يتم بآخره. قال في الشامل: وهذا أقيس. والثالث: يلزمه ستة، لان الاستثناء الاول باطل، والثاني يرجع إلى الكلام. ولو قال: عشرة، إلا عشرة، إلا خمسة، لزمه على الوجه الاول عشرة، وعلى الآخرين خمسة. هذا إذا لم يكن في الاستثناءين عطف، فإن كان، بأن قال: عشرة إلا خمسة، وإلا ثلاثة، أو عشرة إلا خمسة وثلاثة، فهما جميعا مستثنيان من العشرة، فلا يلزمه إلا درهمان قطعا، فإن كان العددان لو جمعا استغرقا، بأن قال: عشرة إلا سبعة وثلاثة، فهل يلزمه عشرة لكون الواو تجمعهما فيقتضي الاستغراق ؟ أم يختص الثاني بالبطلان فيلزمه ثلاثة لان الاول صح استثناؤه ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. وفي وجه ثالث: يفرق بين قوله: عشرة إلا سبعة وثلاثة، وبين قوله: عشرة إلا سبعة وإلا ثلاثة، ويقطع في الصورة الثانية بالبطلان. ومهما (كان) في المستثنى أو المستثنى منه عددان معطوف أحدهما على الآخر، ففي الجمع بينهما وجهان، كما في الصورة السابقة. أصحهما، وهو المنصوص في الطلاق، وبه قطع الاكثرون: لا يجمع.(4/54)
مثاله: علي درهمان ودرهم إلا درهما، إن لم نجمع، لزمه ثلاثة، وإلا درهمان. ولو قال: ثلاثة إلا درهمين ودرهما، فإن لم نجمع، لزمه درهم، وصح استثناء الدرهمين. وإن جمعنا، فثلاثة ويصير مستغرقا. ولو قال: ثلاثة إلا درهما ودرهمين، فإن لم نجمع، لزمه درهمان وصح استثناء الدرهمين. وإن جمعنا، فثلاثة. ولو قال: درهم ودرهم ودرهم إلا درهما ودرهما ودرهما، لزمه ثلاثة على الوجهين. وحكم هذه الصورة في الطلاق، حكمها في الاقرار. فرع قال: علي عشرة إلا خمسة، أو ستة، قال المتولي: يلزمه أربعة، لان الدرهم الزائد مشكوك فيه، فصار كقوله: علي خمسة أو ستة، فإنه يلزمه خمسة. ويمكن أن يقال: يلزمه خمسة، لانه أثبت عشرة، واستثنى خمسة، وشككنا في استثناء الدرهم السادس. قلت: الصواب، قول المتولي، لان المختار أن الاستثناء بيان ما لم يرد بأول الكلام، لانه إبطال ما أثبت. والله أعلم. فرع قال: علي درهم غير دانق، فمقتضى النحو وبه قال أصحابنا: أنه إن نصب غير، فعليه خمسة دوانق، لانه استثناء، وإلا، فعليه درهم تام، إذ المعنى: درهم، لا دانق. وقال الاكثرون: السابق إلى فهم أهل العرف منه الاستثناء، فيحمل عليه وإن أخطأ في الاعراب. فرع الاستثناء من غير الجنس، صحيح، كقوله: ألف درهم إلا ثوبا أو عبدا، ثم عليه أن يبين ثوبا لا يستغرق قيمته الالف. فإن استغرق، فالتفسير لغو. وفي الاستثناء وجهان. أصحهما: يبطل ويلزمه الالف لانه بين ما أراد بالاستثناء، فكأنه يلفظ به وهو مستغرق. والثاني: لا يبطل، لانه صحيح من حيث اللفظ. وإنما الخلل في تفسيره، فيقال: فسره بتفسير صحيح.(4/55)
فرع يصح استثناء المجمل من المجمل، والمجمل من المفصل، وبالعكس. فالاول، كقوله: ألف إلا شيئا، فيبين الاف جنس أولا، ثم يفسر الشئ بما لا يستغرق الالف الذي بينه. والثاني: كقوله: عشرة دراهم إلا شيئا، يفسر الشئ بما لا يستغرق العشرة. والثالث: كقوله: شئ إلا درهما، يفسر الشئ بما يزيد على درهم وإن قل. وكذا لو قال: ألف إلا درهما، ولا يلزمه أن يكون الالف دراهم. ومهما بطل التفسير في هذه الصور، ففي بطلان الاستثناء الوجهان. وإن اتفق لفظ المستثنى والمستثنى منه. كقوله: شئ إلا شيئا، أو: قال: مال إلا مالا، حكى الامام عن القاضي فيه وجهين. أحدهما: يبطل الاستثناء، كقوله: عشرة إلا عشرة. والثاني: لا، لوقوعه (على) القليل والكثير، فلا يمتنع حمل الثاني على أقل متمول، ويحمل الاول على الزائد على أقل متمول. قال الامام: وفي هذا التردد غفلة، لانا إن ألغينا الاستثناء، اكتفينا بأقل متمول. وإن صححناه، ألزمناه أيضا أقل متمول، فيتفق الوجهان. ويمكن أن يقال: حاصل الجواب، لا يختلف، لكن فيه فائدة، لانا إن أبطلنا، طالبناه بتفسير الاول فقط. وإن صححنا، طالبناه بتفسيرهما، وله آثار الامتناع من التفسير، وكون التفسير الثاني غير صالح للاستثناء من الاول، وما أشبه ذلك. فرع الاستثناء من المعين، صحيح، كقوله: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت، أو هذا القميص إلا كمه، أو هذه الدراهم إهذه الدراهم، أو هذا القطيع إلا هذه الشاة، أو هذا الخاتم إلا هذا الفص، ونظائره. وفي وجه شاذ: لا يصح، لان الاستثناء المعتاد إنما يكون من المطلق لا من المعين، والاول هو الصحيح المنصوص، وعليه التفريع. ولو قال: هؤلاء العبيد لفلان إلا واحدا، صح ورجع إليه في التعيين. فإن ماتوا إلا واحدا فقال: هو الذي أردت بالاستثناء، قبل قوله بيمينه على الصحيح، لانه محتمل. وقيل: لا يقبل، للتهمة، وهو شاذ متفق على ضعفه. ولو قال: غصبتهم إلا واحدا، فماتوا إلا واحدا. فقال: هو المستثنى، قبل بلا خلاف. وكذا لو قتلوا في الصورة الاولى إلا واحدا، لان حقه(4/56)
ثبت في القيمة. ولو قال: هذه الدار لفلان، وهذا البيت منها لي، وهذا الخاتم له، وفصه لي، قبل، لانه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فكان كالاستثناء.
فصل في مسائل تتعلق بالاقرار وإن كان بعضها أجنبيا إحداها: في يده جارية، فقال رجل: بعتكها بكذا وسلمتها، فأد الثمن. فقال: بل زوجتنيها بصداق كذا وهو علي، فله حالان. أحدهما: أن يجري التنازع قبل أن يولدها صاحب اليد، فيحلف كل واحد منهما على نفي ما يدعى عليه، فإن حلفا، سقطت دعوى الثمن والنكاح، ومهر سواء دخل بها صاحب اليد، أم لا، لانه وإن أقر بالمهر لمن كان مالكا، فهو منكر له، وتعود الجارية إلى المالك. ثم أحد الوجهين، أنها تعود إليه كعود المبيع إلى البائع، لافلاس المشتري بالثمن. والثاني: تعود بجهة أنها لصاحب اليد بزعمه، وهو يستحق عليه الثمن، وقد ظفر بغير جنس حقه. فعلى هذا، يبيعه ويستوفي حقه من ثمنها. فإن فضل شئ، فهو لصاحب اليد، ولا يحل له وطؤها. وعلى الاول: يحل وطؤها والتصرف، ولا بد من التلفظ بالفسخ. وإن حلف أحدهما فقط، نظر، إن حلف مدعي الثمن على نفي التزويج، ونكل صاحب اليد عن اليمين على نفي الشراء، حلف المدعي اليمين المردودة على الشراء، ووجب الثمن. وإن حلف صاحب اليد على نفي الشراء ونكل الآخر عن اليمين على نفي التزويج، حلف صاحب اليد اليمين المردودة على النكاح، وحكم له بالنكاح، وبأن رقبتها للآخر. ثم لو ارتفع النكاح بطلاق أو غيره، حلت للسيد في الظاهر. وكذا في الباطن إن كان كاذبا. وعن القاضي حسين: أنه إذا نكل أحدهما عن اليمين المعروضة عليه، اكتفى من الثاني بيمين واحدة يجمع فيها بين النفي والاثبات. والصحيح الاول. الحال الثاني: أن يولدها صاحب اليد، فالولد حر، والجارية أم ولد له باعتراف المالك القديم، وهو يدعي الثمن، فيحلف صاحب اليد على نفيه. فإن حلف على نفي الشراء، سقط عنه الثمن المدعى. وهل يرجع المالك عليه بشئ ؟ وجهان. أحدهما: يرجع بأقل الامرين من الثمن والمهر، لانه يدعي الثمن، وصاحب اليد مقر له بالمهر، فالاقل منهما متفق عليه، والثاني: لا يرجع بشئ،(4/57)
لان صاحب اليد أسقط الثمن عن نفسه بيمينه، والمهر الذي يقر به لا يدعيه الآخر، فلا يمكن من المطالبة. وهل لصاحب اليد تحليف المالك على نفي الزوجية بعدما حلف على نفي الشراء ؟ وجهان. أحدهما: لا، لانه لو ادعى ملكها وتزويجها بعد اعترافه بأنها أم ولد للآخر، لم يقبل، فكيف يحلف على ما لو أقر به لم يقبل ؟ ! والثاني: نعم، طمعا في أن ينكل فيحلف ويثبت له النكاح. ولو نكل صاحب اليد (عن اليمين) على نفي الشراء، حلف المالك القديم اليمين المردودة. وعلى كل حال، فالجارية مقررة في يد صاحب اليد، فإنها أم ولده أو زوجته، وله وطؤها في الباطن. وفي الحل ظاهرا، وجهان. أصحهما: تحل. ووجه المنع: أنه لا يدري، أيطأ زوجته أم مملوكته ؟ وإذا اختلفت الجهة، وجب الاحتياط للبضع، ونفقتها على صاحب اليد إن جوزنا له الوطئ، وإلا، فقولان. أحدهما: على المالك القديم، لانها كانت عليه. وأظهرهما: أنها في كسب الجارية. فإن لم يكن كسب، ففي بيت المال. ولو ماتت الجارية قبل موت المستولد، ماتت قنة، وللمالك القديم أخذ القيمة ممتركته من أكسابها، وما فضل، فموقوف لا يدعيه أحد. وإن ماتت بعد موت المستولد، ماتت حرة، ومالها لوارثها بالنسب. فإن لم يكن، فهو موقوف، لان الولاء لا يدعيه واحد منهما، وليس للمالك القديم أخذ الثمن من تركتها، لان الثمن بزعمه على المستولد وهي قد عتقت بموته، فلا يؤدي دينه مما جمعته بعد الحرية. هذا كله فيما إذا أصر على كلاميهما. أما إذا رجع المالك القديم، وصدق صاحب اليد، فلا يقبل في رد حرية الولد وثبوت الاستيلاد، وتكون أكسابها له مادام المستولد حيا. فإذا مات، عتقت وكانت أكسابها لها. ولو رجع المستولد، وصدق المالك القديم، لزمه الثمن وكان ولاؤها له. المسألة الثانية: إقرار الورثة على الميت بالدين والعين مقبول. فلو أقر بعضهم بدين، وأنكر بعضهم، فقولان. القديم: أن على المقر قضاء جميع الدين من حصته من التركة إن وفى به، وإلا، فيصرف جميع حصته إليه، لانه إنما يستحق بعد قضاء الدين. والجديد: أنه لا يلزمه إلا بقسط حصته من التركة. فعلى الجديد: لو مات المنكر وورثه المقر، فهل يلزمه الآن جميع الدين المقر به ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لحصول جميع التركة فيده. ويتفرع على القولين فرعان.(4/58)
أحدهما: لو شهد بعض الورثة بدين على المور ث. إن قلنا: لا يلزمه بالاقرار إلا حصته، قبلت شهادته، وإلا، فلا، لانه متهم. وسواء كانت الشهادة بعد الاقرار أو قبله. الثاني: كيس في يد رجلين فيه ألف. قال أحدهما لثالث: لك نصف ما في هذا الكيس، فهل يحمل إقراره على النصف المضاف إليه، أم على نصف ما في يده، وهو الربع ؟ وجهان بناء على القولين. قلت: أفقههما: الاول. والله أعلم. المسألة الثالثة: مات عن ابنين، فأقر أحدهما بأن أباه أوصى لزيد بعشرة، فهو كما (لو) أقر عليه بدين، فعلى القديم: تتعلق كل العشرة بثلث نصيبه. وعلى الجديد: يتعلق نصف العشرة بثلث نصيبه. ولو أقر أحدهما أنه أوصى بربع ماله، وأنكر الآخر، فعلى المقر أن يدفع إلى الموصى له ربع ما في يده. ولو أقر أنه أوصى بعين من أعيان أمواله، نظر، إن لم يقسما التركة، فنصيب المقر من تلك العين يصرف إلى الموصى له، والباقي، للمنكر. وإن اقتسماهما، نظر، إن كانت تلك العين في يد المقر، لزمه دفعها إلى الموصى له، وإن كانت في يد المنكر، فللموصى له أخذ نصف القيمة من المقر، لانه فوته عليه بالقسمة. ولو شهد المقر للموصى له، قبلت شهادته، ويغرم للمشهود عليه نصف قيمة العين، كما لو خرج بعض أعيان التركة مستحقا. الرابعة: قال لعبده: أعتقتك على ألف، فطالبه بالالف، فأنكر العبد وحلف، سقطت دعوى المال، وحكم بعتق العبد، لاقراره، وكذا لو قال: بعتك نفسك إذا صححنا هذا التصرف، وهو الصحيح. ولو قال لولد عبده: بعتك والدك بكذا، فأنكر، فكذلك، لاعترافه بمصيره حرا بالملك. الخامسة: قال: لفلان عندي خاتم، ثم جاء بخاتم، فقال: هو هذا الذي أقررت به، فنص في موضع أنه يقبل منه ذلك وعليه تسليمه إلى المقر له. وقال في موضع آخر: لا يلزم التسليم. قال الاصحاب: الاول محمول على ما إذا صدقه المقر له. والثاني: على ما إذا قال: الذي أقررت به غيره وليس هذا لي، فلا يسلم ما جاء به إليه. والقول قول المقر في نفي غيره. السادسة: قال: لي عليك ألف ضمنته، فقال: ما ضمنت شيئا، ولكن لك(4/59)
علي ألف من قيمة متلف، لزم الالف الاصح. قلت: ومما يتعلق بالباب، ما ذكره القاضي أبو الطيب في آخر كتاب الغصب: ولو أقر بدار مبهمة ولم يعينها حتى ما ت، قام وارثه مقامه في التعيين. فإن عينها فذاك، وإن لم يعين، طولب بالتعيين، فإن امتنع، كان للمقر له أن يعين. فإن عين وصدقه الوارث، فذاك، وإلا، فله أن يحلف أنها ليست المقر بها، فإن حلف، طولب بالتعيين، فإن امتنع، حبس حتى يعين. قال القاضي أيضا في اخر الغصب: لو باع دارا ثم ادعى أنها كانت لغيره باعها بغير إذنه، وهي ملكه إلى الآن، وكذبه المشتري، وأراد أن يقيم بينة بذلك، فإن قال: بعتك ملكي أو داري أو نحو ذلك، مما يقتضي أنها ملكه، لم تسمع دعواه، وإلا، سمعت. قال الشاشي: لو قال: غصبت داره، ثم قال: أردت دارة الشمس والقمر، لم يقبل على الصحيح. ولو باع شيئا بشرط الخيار، ثم ادعاه رجل، فأقر البائع في مدة الخيار أنه ملك المدعي، صح إقراره وانفسخ البيع، لان له الفسخ، بخلاف ما لو أقر بعد لزوم البيع، فإنه لا يقبل، لعجزه عن الفسخ. ولو أقر بثياب بدنه لزيد، قال القاضي حسين في الفتاوى: يدخل فيه الطيلسان والدواج وكل ما يلبسه. ولا يدخل فيه الخف، والمراد بالدواج: اللحاف. ومقتضى كلام القاضي هذا، أنه يدخل فيه الفروة فإنها مما يلبسه، ولا شك في دخولها. وإنما نبهت عليه، لئلا يتشكك فيها. وكذلك الحكم لو أوصى بثياب بدنه. ولو كتب على قرطاس: لفلان علي كذا، لم يكن إقرارا، وكذا الاشهاد عليه لا يكون إلا بالتلفظ، قاله القاضي حسين. والله أعلم.(4/60)
الباب الرابع : في الاقرار بالنسب يشترط في المقر بالنسب، أن يكون بالصفات المعتبرة في سائر المقرين كما سبق. ثم لا يخلو، إما أن يلحق النسب بنفسه، وإما بغيره.
القسم الاول : أن يلحقه بنفسه، فيشترط فيه أمور. الاول: أن لا يكذبه الحس، فيكون ما يدعيه ممكنا. فلو كان في سن لا يمكن أن يكون ولدا للمستلحق، فلا اعتبار بإقراره. فلو قدمت امرأة من بلاد الكفر ومعها صبي، وادعاه مسلم، لحقه إن احتمل أنه خرج إليها، أو أنها قدمت إليه قبل ذلك، وإلا، لم يلحقه. الثاني أن لا يكون المقر به مشهور النسب من غيره، سواء صدقه المقر به أم كذبه. الثالث: أن يصدقه المقر به إن كان معتبر التصديق. فإن استلحق بالغا فلم يصدقه، لم يثبت النسب إلا ببينة، فإن لم تكن بينة، حلف المدعي، فإن حلف سقطت دعواه، وإن نكل، حلف المدعي وثبت نسبه. وكذا لو قال رجل لرجل: أنت أبي، فالقول قول المنكر بيمينه. أما إذا استلحق صغيرا، فيثبت نسبه حتى يرث منه الصغير لو مات، ويرث هو الصغير إن مات. وإن استلحق صغيرا، فلما بلغ كذبه، فوجهان. أحدهما: يندفع النسب. وأصحهما: لا يندفع، لان النسب يحتاط له فلا يندفع بعد ثبوته كالثابت بالبينة. فعلى هذا لو أراد المقر له تحليفه، قال ابن الصباغ: ينبغي أن لا يمكن، لانه لو رجع، لم يقبل، فلا معنى لتحليفه. ولو استلحق مجنونا، فأفاق وأنكر، فعلى الوجهين. ولو استلحق صبيا بعد موته،(4/61)
لحقه، سواء كان له مال، أم لا، ولا ينظر إلى التهمة بطلب المال، بل يرثه، لان أمر النسب مبني على التغليب، ولهذا يثبت بمجرد الامكان، حتى لو قتله ثم استلحقه بعد موته، قبل منه وحكم بسقوط القصاص. وإن كان الميت بالغا، فوجهان، لان شرط لحوق البالغ تصديقه، ولا تصديق بعد الموت، ولان تأخيره ربما كان خوفا من إنكاره. والاكثرون على أنه يلحقه كالصغير. ومنعوا كون التصديق شرطا على الاطلاق، بل هو شرط إذا كان المقر به أهلا للتصديق، ولا اعتبار بالتهمة كما سبق. ويجري الوجهان فيما إذا استلحق مجنونا طرأ جنونه بعد ما بلغ عاقلا. فرع إذا ازدحم جماعة على الاستلحاق، نظر، إن كان المقر به بالغا، ثبت نسبه ممن صدقه، فإن كان صبيا، لم يلحق بواحد منهما، بل حكمه ما نذكره في باب اللقيط إن شاء الله تعالى. فإذا عدم زحمة الغير، شرط رابع في الصغير. هذا كله إذا كان المقر به ذكرا حرا. فأما استلحاق المرأة والعبد، فسيأتيان في باب اللقيط إن شاء الله تعالى. فرع إذا استلحق عبد الغير، أو معتقه، لم يلحق إن كان صغيرا، محافظة على حق الولاء للسيد، بل يحتاج إلى البينة. وإن كان بالغا وصدقه، فوجهان. ولو استلحق عبدا في يده، فإن لم يوجد الامكان، بأن كان أكبر سنا منه، لغا قوله. وإن وجد، فإن كان مجهول النسب، لحقه إن كان صغيرا، وحكم بعتقه. وكذا إن كان بالغا وصدقه. وإن كذبه، لم يثبت (النسب). وفي العتق، وجهان. وكذا إن كان المقر به معروف النسب من غيره. فرع استلحق بالغا عاقلا، فوافقه، ثم رجعا، قال ابن أبي هريرة: يسقط النسب، كما لو أقر بمال ورجع وصدقه المقر له. وقال الشيخ أبو حامد: لا يسقط، لان النسب المحكوم بثبوته لا يرتفع بالاتفاق، كالثابت بالفراش.(4/62)
فصل له جارية ذات ولد، فقال: هذا ولدي من هذه الجارية، ثبت نسبه عند الامكان. وفي كون الجارية أم ولد، قولان. ويقال: وجهان. أظهرهما عند الشيخ أبي حامد وجماعة: نعم. وأشبههما بالقاعدة، وأقربهما إلى القياس: لا، لاحتمال أنه أولدها بنكاح ثم ملكها. ولو قال: ولدي استولدتها به في ملكي، أو علقت به في ملكي، انقطع الاحتمال، وكانت أم ولد قطعا. وكذا لو قال: هذا ولدي منها، وهي في ملكي من عشر سنين، وكان الولد ابن سنة. وهذا كله إذا لم تكن الامة مزوجة، ولا فراشا له، أما إذا كانت مزوجة، فلا ينسب الولد إلى السيد، ولا أثر لاستلحاقه، للحوقه بالزوج. وإن كانت فراشا له، فإن أقر بوطئها، لحقه الولد بالفراش، لا بالاقرار، فلا يعتبر فيه إلا الامكان. ولا فرق في الاستلحاق بالاستيلاد، بين أن يكون في الصحة، أو في المرض، لان إنشاءه نافذ في الحالين. فرع له أمتان، لكل واحدة ولد، فقال: أحدهما ولدي، فللامتين أحوال. أحدها: أن لا تكون واحدة منهما مزوجة ولا فراشا للسيد، فيؤمر بالتعيين كما لو أقر بطلاق إحدى المرأتين، فإذا عين أحدهما، ثبت نسبه وكان حرا وورثه. وهل تصير أمه أم ولد ؟ ينظر، إن لم يزد على استلحاقه، فقولان كما قدمناه، وإن صرح بأنه استولدها به في ملك اليمين، صارت أم ولد له، وإن صرح بأنه استولدها في النكاح، لم تصر، وإن أضافه إلى وطئ شبهة، فقولان. وإن قال: استولدتها بالزنا مفصولا على الاستلحاق، لم يقبل، وكانت أمية الولد على القولين فيما إذا أطلق الاستلحاق، وإن وصله باللفظ، قال البغوي: لا يثبت النسب ولا أمية الولد، وينبغي أن يخرج على قولي تبعيض الاقرار. ولو ادعت الامة الاخرى أن ولدها هو الذي استلحقه، وأنها المستولدة، فالقول قول السيد مع يمينه. وكذا لو بلغ الولد وادعى، فإن نكل السيد، حلف المدعي وقضي بمقتضى يمينه. ولو مات السيد قب التعيين، قام وارثه مقامه في التعيين، وحكم تعيينهم حكم تعيينه في النسب والحرية، والارث، وتكون أم المعين مستولدة إن ذكر السيد ما يقتضي ثبوت الاستيلاد، وإلا سئلوا، وحكم بيانهم حكم بيان المورث. فإن قالوا: لا نعلم كيف(4/63)
استولد، فعلى الخلاف فيما إذا أطلق الاستلحاق. وإذا لم يكن وارث، فهو كما لو أطلق الاستلحاق. ويجوز ظهور الحال للقائف مع موت المستلحق، بأن كان رآه، أو يرى قبل الدفن، أو يرى عصبته فيجد الشبه. فإن عجز عن الاستفادة بالقائف لعدمه، أو لالحاقه الولدين به، أو نفيهما، أو أشكل الامر عليه، أقرعنا بينهما ليعرف الحر منهما، ولا ينتظر بلوغهما لينتسبا، بخلاف ما لو تنازع اثنان في ولد، ولاقائف، لان الاشتباه هنا في أن الولد أيهما ؟ فلو اعتبرنا الانتساب، ربما انتسب جميعا إليه، فدام الاشكال، ولا يحكم لمن خرجت قرعته بالنسب والميراث، لان القرعة لا تعمل فيهما. وهل يوقف نصيب ابن، بين من خرجت قرعته، وبين الآخر ؟ وجهان يأتي قريبا بيانهما. وأما الاستيلاد، فهو على التفصيل السابق، فإن لم يوجد من السيد ما يقتضيه، لم يثبت، وإن وجد، فهل تحصل أمية الولد في أم ذلك الولد بخروج القرعة ؟ وجهان. أصحهما عند الامام: لا تحصل. والثاني: تحصل، وب قطع الاكثرون. فرع حيث ثبت الاستيلاد، فالولد حر الاصل. لا ولاء عليه، وحيث لا يثبت، فعليه الولاء إلا إذا وطئ نسبه إلى شبهة وقلنا: لا تصير أم ولو إذا ملكها. وإذا لم يثبت الاستيلاد ومات السيد، ورث الولد أمه وعتقت عليه. هذا إذا تعين، لا بالقرعة. وإن كان معه وارث آخر، عتق نصيبه ولم يشتر. الحال الثاني: إذا كانت الامتان مزوجتين، لم يقبل قول السيد، وولد كل أمة ملحق بزوجها. وإن كانتا فراشا للسيد، بأن كان أقر بوطئها، لحقه الولدان بالفراش. الحال الثالث: كانت إحداهما مزوجة، لم يتعين إقراره في الاخرى، بل يطالب بالتعيين. فإن عين في ولد الاخرى، قبل وثبت نسبه، وإن كانت إحداهما فراشا له، لم يتعين اقراره في ولدها، بل يؤمر بالتعيين، فإن عين في ولد الاخرى، لحقه بالاقرار، والولد الآخر يلحق به بالفراش. فرع له أمة لها ثلاثة أولاد. قال: أحد هؤلاء ولدي، ولم تكن مزوجة ولا فراشا للسيد قبل ولادتهم، طولب بالتعيين، فمن عينه منهم، فهو نسيب حر وارث، والقول في الاستيلاد على التفصيل الذي مر. ثم إن كان المعين الاوسط، فالاكبر(4/64)
رقيق، وأمر الاصغر مبني على استيلاد الامة، فإن لم نجعلها مستولدة، فهو رقيق. وإن جعلناها، نظر، إن لم يدع الاستبراء بعد الاوسط، فقد صارت فراشا له بالاوسط، فيلحقه الاصغر ويرثه على الصحيح. وقيل: لا يلحقه، بل له حكم الام، يعتق بموت السيد. وإن ادعى الاستبراء، بني على أ ن نسب ملك اليمين، هل ينتفي به ؟ إن قلنا: ينتفي، لم يلحقه الاصغر، وفي حكمه وجهان. أصحهما: أنه كالام يعتق بموت السيد، لانه ولد أم ولد. والثاني: يكون قنا، لان ولد أم الولد قد تكون كذلك، كما لو أحبل الراهن المرهونة وقلنا: لا تصير أم ولد، فبيعت في الحق وولدت أولادا ثم ملكها وأولادها، فإنها تحكم بأنها أم ولد له على الصحيح، والاولاد أرقاء لا يأخذون حكمها على الصحيح. وقيل: يأخذون. ولو مات السيد قبل التعيين، عين وارثه، فإن لم يكن وارث، أو قال: لاأعرف، عرضوا على القافة ليعين، والحكم على التقديرين، كما لو عين السيد. فإن تعذرت معرفة القائف، فالنص أنه يقرع بينهم ليعرف الحرية. وثبوت الاستيلاد، على التفصيل السابق. واعترض المزني بأن الاصغر حر بكل حال عند موت السيد، لانه المقر به، أو ولد أم ولد. وولد أم الولد، يعتق بموت السيد، إذا كان حرا بكل حال، لم يدخل في القرعة، لانها ربما خرجت على غيره فيلزم ارقا قه. واختلف الاصحاب في الجواب، فسلم بعضهم حريته وقالوا: دخوله في القرعة إنما هو لرق غيره، ويعتق هو إن خرجت قرعته، ومنعها آخرون، بناء على أن ولد أم الولد يجوز أن يكون رقيقا، والاول: أصح. وحكي وجه: أن الصغير يخرج عن القرعة، وهو شاذ ضعيف. فإذا أقرعنا فخرجت القرعة لواحد، فهو حر، والمذهب: أن النسب والميراث لا يثبتان كما ذكرنا في المسألة الاولى. وقال المزني: الا صغر نسيب بكل حال، وأبطل الاصحاب قوله، لكن الحق المطابق لما سبق، أن يفرق بين ما إذا كان السيد قد ادعى الاستبراء قبل ولادة الاصغر، وبين ما إذا لم يدع. ويوافق المزني في الحالة الثانية. وإذا ثبت النسب، ثبتت الحرية قطعا. وحيث لا يثبت النسب، فهل يوقف الميراث ؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: لا، لانه إشكال وقع اليأس من زواله، فأشبه غرق المتوارثين. والثاني: بلى كما لو طلق إحدى امرأتيه ومات قبل البيان.
القسم الثاني : أن يلحق النسب بغيره، كقوله: هذا أخي ابن أبي وابن أمي،(4/65)
أو يقر بعمومة غيره، فيكون ملحقا للنسب بالجد، ويثبت النسب بهذا الالحاق بالشروط المتقدمة فيما إذا ألحق بنفسه، وبشروط أخر. إحداها: أن يكون الملحق به ميتا، فما دام حيا، ليس لغيره الالحاق به وإن كان مجنونا. الثانية: أن لا يكون الملحق به قد نفى المقر به، فإن كان نفاه ثم استلحقه وارثه بعد موته، فوجهان. أصحهما، وبه قطع معظم العراقيين: يلحقه كما لو استلحقه المورث بعدما نفاه بلعان وغيره. والثاني: المنع. والثالث: صدور الاقرار من الورثة الحائزين للتركة. فرع إقرار الاجنبي لا يثبت به النسب كما ذكرنا، فلو مات مسلم عن ابن كافر، أو قاتل، أو رقيق، لم يقبل إقراره عليه بالنسب، كما لا يقبل إقراره عليه بمال. ولو كان له ابنان. كافر ومسلم، لم تعتبر موافقة الكافر، ولو كان الميت كافرا كفى استلحاق الكافر. ولا فرق في ثبوت النسب، بين أن يكون المقر به مسلما، أو كافرا. فرع مات وخلف ابنا فأقر بابن آخر، ثبت نسبه. ولو مات وخلف بنين، أو بنين وبنات، فلا بد من اتفاقهم جميعا. وتعتبر موافقة الزوج والزوجة على الصحيح. وفي وجه: لا تعتبر، لانقطاع الزوجية بالموت، ويجري الوجهان في المعتق. ولو خلف بنتا واحدة، فإن كانت حائزة بأن كانت معتقة، ثبت النسب(4/66)
إقرارها، وإن لم تكن حائزة ووافقها الامام، فوجهان يجريان فيما إذا مات من لا وارث له، فألحق الامام به مجهولا، أصحهما وبه قطع العراقيون: الثبوت بموافقة الامام. هذا إذا ذكره الامام لا على وجه الحكم، أما إذا ذكره على وجه الحكم، فإن قلنا: يقضي بعلم نفسه، ثبت النسب، وإلا، فلا. ولا فرق بين أن تكون حيازة الملحق تركة الملحق به بغير واسطة، أم بواسطة، كمن أقر بعمومة مجهول وهو حائز لتركة أبيه الحائز تركة جده الملحق به، فإن كان قد مات أبوه قبل جده، والوارث ابن الاب، فلا واسطة. فرع وارثان، بالغ وصغير، فالصحيح أن البالغ لا ينفرد بالاقرار وفي وجه: ينفرد ويحكم بثبوت النسب في الحال. وعلى الصحيح: ينتظر بلوغ الصغير. فإن بلغ ووافق البالغ، ثبت النسب حينئذ. فإن مات قبل البلوغ، نظر، إن لم يخلف سوى المقر، ثبت النسب حينئذ. فإن لم يجدد إقرارا - وإن خلف ورثة سواهم - اعتبر موافقتهم، ولو كان أحدهما مجنونا، فكالصبي. ولو خلف بالغين عاقلين فأقر أحدهما، وأنكر الآخر ثم مات ولم يخلف إلا أخاه المقر، فوجهان. أصحهما: يثبت النسب، لان جميع الميراث صار له. والثاني: المنع، لان إقرار الفرع مسبوق بإنكار الاصل. ويجري الخلاف فيما إذا خلف المنكر وارثا فأقر ذلك الوارث. ولو أقر أحدهما وسكت الآخر ثم مات الساكت وابنه مقر، ثبت النسب قطعا، لانه غير مسبوق بتكذيب الاصل. فرع أقر الابن المستغرق بأخ مجهول، فأنكر المجهول نسب المعروف، لم يتأثر بإنكاره نسب المشهور على الصحيح، وفي وجه: يحتاج المقر إلى بينة على نسبه، وهو ضعيف، ويثبت نسب المجهول على الاصح. ولو أقر بأخ مجهول ثم أقرا بثالث، فأنكر الثالث نسب الثاني، ففي سقوط نسب الثاني وجهان، أصحهما: السقوط، لانه يثبت نسب الثالث فاعتبرت موافقته في ثبوت نسب الثاني. ولو أقر بأخوين مجهولين، فصدق كل واحد منهما الآخر، ثبت نسبهما، وإن كذب كل واحد منهما الآخر، ثبت النسبان على الاصح، لوجود الاقرار من حائز التركة. وإن صدق أحدهما الآخر، وكذبه الآخر، ثبت نسب المصدق فقط، هذا(4/67)
إذا لم يكن المجهولان توأمين، فإن كانا، فلا أثر لتكذيب أحدهما الآخر، فإذا أقر الوارث بنسب احدهما، ثبت نسبهما. فرع أقر بنسب من يحجب المقر، بأن مات عن أخ فأقر بابن للميت، ثبت نسبه على الاصح. فرع في الميراث المقر به حالان. الاولى: أن لا يحجب المقرين، فيشتركون على قدر حصصهم. ولو أقر أحد الابنين المعترفين بأخ، فأنكره الاخ الآخر، فالصحيح المنصوص: أنه لا يرث، لان الارث فرع النسب، ولم يثبت كما سبق. وفي وجه: يرث، ويشارك المقر فيما في يده، كما لو قال أحدهما: فلانة بنت أبينا، فأنكر الآخر، حرم على المقر نكاحها، وكما لو قال لعبد في التركة: إنه ابن أبينا، هل يحكم بعتقه ؟ وجهان. وكما لو قال أحد الشريكين في العقار لثالث: بعتك نصيبي، فأنكر، لا يثبت الشراء. وفي ثبوت الشفعة للشريك خلاف. وكمالو قال: لزيد على عمرو كذا وأنا ضامنه، فأنكر عمرو، ففي مطالبة المقر بالضمان وجهان. أصحهما: المطالبة، كما لو اعترف الزوج بالخلع، وأنكرت المرأة، ثبتت البينونة، وإن لم يثبت المال الذي هو الاصل، وإذا قلنا بالصحيح، قبل في ظاهر الحكم، وأما في الباطن، فهل على المقر إذا كان صادقا أن يشركه فيما يرثه ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لعلمه باستحقاقه. وعلى هذا، هل يشركه بنصف ما في يده، أم بثلثه ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. الحال الثاني: أن يحجبهم أو بعضهم، بأن كان الوارث صغيرا في الظاهر أخا أو معتقا، فأقر بابن للميت، فإن ليثبت نسبه، فذاك. وإن أثبتناه، لم يرث على الاصح، للدور، والثاني: يرث ويحجب المقر، قاله ابن سريج، واختاره صاحب التقريب وابن الصباغ وجماعة، وقالوا: المعتبر كونه وارثا، لولا إقراره. ولو خلف بنتا معتقة، فأقرت بأخ لها، فهل يرث ويكون الميراث بينهما أثلاثا لكون توريثه لا يحجبها، أم لا لانه يمنعها عصوبة الولاء ؟ وجهان. فرع ادعى مجهول على أخي الميت أنه ابن الميت، فأنكر الاخ ونكل عن اليمين، فحلف المدعي اليمين المردودة، ثبت نسبهم، ثم إن قلنا: النكول مع(4/68)
يمين الرد كالبينة، ورث وحجب الاخ. وإن قلنا: كالاقرار، ففيه الخلاف السابق في إقرار الاخ. ولو مات عن ابن وأخت، فأقرا بابن للميت، فعلى الاصح: تسلم الاخت نصيبها، لانه لو ورثها الابن يحجبها، وعلى الثاني: يأخذ جميع ما في يدها. وكذا الحكم فيما لو خلف زوجة وأخا، فأقرا بابن للميت، يكون للزوجة الربع على الاصح، وهذا الابن لا ينقص حقها، كما لا يسقط الاخ. فرع إقرار الورثة بزوج أو زوجة للميت، مقبول على المذهب. وحكي عن القديم قول: أنه لا يقبل. فإن قبلنا فأقر أحد الابنين المستغرقين وأنكر الآخر، فالتوريث على ما ذكرنا فيما إذا أقر أحدهما بأخ وأنكر الآخر. فرع قال: زيد أخي، ثم فسر بأخوة الرضاع، حكى الروياني عن أبيه: أن الاشبه بالمذهب، أنه لا يقبل، لانه خلاف الظاهر، ولهذا لو فسر بأخوة الاسلام، لم يقبل. فرع في فتاوى القفال، أنه لو أقر على أبيه بالولاء، فقال: هو معتق فلان، ثبت الولاء عليه إن كان المقر مستغرقا، كما في النسب. قلت: لو خلف ثلاثة بنين فأقر ابنان برابع، وأنكره الثالث، لم يثبت نسبه بإقرارهما، لكن إذا شهدا به عند الحاكم بشروط الشهادة، ثبت نسبه. لان شهادتهما أولى بالقبول من شهادة الاجنبيين، لان عليهما فيه ضررا، قاله القاضي أبو الطيب. والله أعلم.(4/69)
كتاب العارية
هي بتشديد الياء. قال الخطابي في الغريب: وقد تخفف، وفيه بابان.
الأول : في أركانها، وهي أربعة.(4/70)
الاول: المعير، ويعتبر فيه أن يملك للمنفعة، وأن لا يكون محجورا عليه في التبرعات، فيجوز للمستأجر أن يعير لانه يملك المنفعة، وللموصى له بخدمة عبد أو سكن دار ونحوهما أن يعيرهما، وليس للمستعير أن يعير على الصحيح، ولكن له أن يستوفي المنفعة لنفسه بوكيله.(4/71)
قلت: قال صاحب العدة: ليس للاب أن يعير ولده الصغير لمن يخدمه، لان ذلك هبة لمنافعه، فأشبه إعارة ماله. وهذا الذي قاله، ينبغي أن يحمل على خدمة تقابل بأجرة، أما ما كان محقرا بحيث لا يقابل بأجرة، فالظاهر الذي تقتضيه أفعال السلف: أنه لا منع منه إذا لم يضر بالصبي، وقد سبق في كتاب الحجر نحو هذا. والله أعلم. الركن الثاني: المستعير، ويشترط فيه كونه أهلا للتبرع (عليه) بعقد يشتمل على إيجاب وقبول بقول أو فعل، فلا تصح الاعارة للصبي، كما لا يوهب له. الركن الثالث: المستعار، وله شرطان. أحدهما: كونه منتفعا به مع بقاء عينه، كالعبد، والثوب، والدابة، والدار، فلا يجوز إعارة الطعام قطعا، ولا الدراهم والدنانير على الاصح. قال الامام: ويجري الوجهان في إعارة الحنطة والشعير ونحوهما. ثم السابق إلى الفهم من كلام الاصحاب، أن الخلاف فيما إذا أطلق إعارة الدراهم، فأما إذا صرح بالاعارة للتزيين، فينبغي أن يقطع بالصحة، وبه قطع المتولي، لانه اتخذ هذه المنفعة مقصودا وإن ضعفت، وإذا لم نصححها، فجرت، فهي مضمونة على الصحيح، لان العارية الصحيحة مضمونة، وللفاسد حكم الصحيح في الضمان، وقيل: لا ضمان، لان ما جرى بينهما ليس بعارية صحيحة ولا فاسدة. ومن قبض مال غيره بإذنه لا لمنفعته، كان أمانة.(4/72)
الشرط الثاني: كون المنفعة مباحة، فيحرم استعارة الجارية للاستمتاع. وأما للخدمة، فيجوز إن أعارها لمحرم أو امرأة، وإلا، فلا يجوز، لخوف الفتنة، إلا إذا كانت صغيرة لا تشتهى، أو قبيحة، فوجهان. قلت: أصحهما: الجواز، وبه قطع جماعة، منهم صاحب التهذيب. والله أعلم. قال الغزالي: وإذا أعارها، صحت الاعارة، وإن كانت محرمة. ويشبه أن يقال بالفساد، كالاجارة للمنفعة المحرمة، ويشعر به إطلاق الجمهور نفي الجواز. فرع قلت: يكره استعارة أحد الابوين للخدمة لان استخدامهما مكروه ولفظ الامام ينفي الحل الذي قاله الاصحاب، أنه يكره كراهة تنزيه، قال الجرجاني: ويكره أيضا استئجارهما. وقد يجوز إعارة ما لا يجوز إجارته، وهو الفحل للضراب، والكلب للصيد، فإن إعارتهما صحيحة، وإجارتهما باطلة على الاصح. والله أعلم.(4/73)
وتكره إعارة العبد المسلم لكافر كراهة تنزيه. قلت: صرح الجرجاني وآخرون، بأنها حرام، وصرح صاحب المهذب وآخرون، بأنها لا تجوز، وظاهره التحريم، ولكن الاصح الجواز، وقد سبق في أول البيوع. والله أعلم. فرع يحرم على الحلال إعارة الصيد من المحرم، فإن فعل فتلف في يده، ضمن الجزاء لحق الله تعالى، والقيمة للحلال. ولو أعار المحرم حلالا، فإن نا: المحرم يزول ملكه عن الصيد فلا قيمة له على الحلال لانه غير مالك، وعلى المحرم الجزاء لحق الله تعالى إن تلف في يد الحلال، لانه متعد بالاعارة، فإنه يلزمه إرساله. وإن قلنا: لا يزول، صحت الاعارة وعلى الحلال القيمة إن تلف عنده. فرع دفع شاة إلى رجل وقال: ملكتك درها ونسلها، فهي هبة فاسدة، وما حصل في يده من الدر والنسل، كالمقبوض بالهبة الفاسدة، والشاة مضمونة بالعارية الفاسدة. ولو قال: أبحت لك درها ونسلها، فوجهان. أحدهما: أنه كقوله: ملكتك. والثاني: أنها إباحة صحيحة، والشاة عارية صحيحة، وبه قطع المتولي. قلت: هذا أصح، واختاره أيضا القاضي أبو الطيب، وصاحب الشامل، وحكم هذان والمتولي بالصحة فيما إذا أعاره الشاة ليأخذ لبنها، أو أعاره شجرة ليأخذ ثمرها. والله أعلم. فعلى هذا، قد تكون العارية لاستفادة عين، وليس من شرطها أن يكون المقصود مجرد المنفعة، بخلاف الاجارة. ولو قال: ملكتك درها، أو أبحتكه على أن تعلفها، قال البغوي: العلف أجرة الشاة وثمن الدر والنسل، فالشاة غير مضمونة لانها مقبوضة بإجارة فاسدة، والدر والنسل مضمو نان في الشراء الفاسد. وكذا لو دفع(4/74)
قراضة إلى سقاء، وأخذ الكوز ليشرب، فسقط الكوز من يده وانكسر، ضمن الماء لانه مأخوذ بالشراء الفاسد، ولم يضمن الكوز لانه في يده بإجارة فاسدة، وإن أخذه مجانا، فالكوز عارية، والماء كالمقبوض بالهبة الفاسدة. فرع قال المتولي: تعيين المستعار عند الاعارة، ليس بشرط. حتى لو قال: أعرني دابة، فقال: ادخل الاصطبل فخذ ما أردت، صحت العارية، بخلاف الاجارة، فإنها تصان عن مثل هذا، لان الغرر لا يحتمل في المعاوضات. الركن الرابع: الصيغة، واللفظ المعتد به في الباب ما يدل على الاذن في الانتفاع، كقوله: أعرتك، أو خذه لتنتفع به، وما أشبههما. واختلفوا في الواجب من اللفظ، فالاصح الاشهر ما قطع به البغوي وغيره: أن المعتبر اللفظ من أحد لطرفين، والفعل من الآخر. حتى لو قال المستعير: أعرني، فسلمه المالك إليه، صحت الاعارة، كما لو قال: خذه لتنتفع به، فأخذه، قياسا على إباحة الطعام. وقال الغزالي: يعتبر اللفظ من جهة المعير، ولا يعتبر من جهة المستعير، وإنما يعتبر منه القبول، إما بالفعل وإما بالقول. وقال المتولي: لا يعتبر اللفظ في واحد منهما، حتى لو رآه عاريا فأعطاه قميصا فلبسه، تمت العارية. وكذا لو فرش لضيفه فراشا أو بساطا أو مصلى، أو ألقى له وسادة فجلس عليها، كان ذلك إعارة، بخلاف ما لو دخل فجلس على الفرش المبسوطة، لانه لم يقصد بها انتفاع شخص بعينه، ولا بد في العارية من تعيين المستعير، وهذا الذي قاله المتولي فيه تمام التشبيه باباحة الطعام، ويوافقه ما حكي عن الشيخ أبي عاصم، أنه إذا انتفع بظرف الهدية المبعوثة إليه حيث جرت العادة باستعماله، كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها، كان عارية، لانه انتفاع بملك الغير بإذنه.(4/75)
قلت: هذا المحكي عن أبي عاصم، هو فيما إذا كانت الهدية لا تقابل. فأما إن كانت عوضا، فالظرف أمانة في يده كالاجارة الفاسدة، كذا حكاه المتولي عن أبي عاصم. والله أعلم. فرع قال: أعرتك حماري لتعيرني فرسك، فهي إجارة فاسدة، وعلى كل واحد أجرة مثل دابة صاحبه، وكذا الحكم، لو أعاره شيئا بعوض مجهول، كما لو أعاره دابة ليعلفها، أو داره ليطين سطحها، وكذا لو كان العوض معلوما، ولكن مدة الاعارة مجهولة، كقوله: أعرتك داري بعشرة دراهم، أو لتعيرني ثوبك شهرا. وفي وجه ضعيف: أنها عارية فاسدة، نظرا إلى اللفظ، فعلى هذا تكون مضمونة عليه، وعلى الاول: لا ضمان، ولو بين مدة الاعارة وذكر عوضا معلوما، فقال: أعرتك هذه الدار شهرا من اليوم بعشرة دراهم، أو لتعيرني ثوبك شهرا من اليوم، فهل هي إجارة صحيحة، أو إعارة فاسدة ؟ وجهان، بناء على أن الاعتبار باللفظ، أو المعنى ؟ فرع دفع دراهم إلى رجل وقال: اجلس في هذا الحانوت واتجر فيها لنفسك، أو دفع إليه بذرا وقال: ازرعه في هذه الارض، فهو معير للحانوت والارض، وأما الدراهم والبذر، فهل يكون هبة، أم قرضا ؟ وجهان.
الباب الثاني : في أحكامها
وهي ثلاثة. الاول: الضمان. فإذا تلفت العين في يد المستعير، ضمنها، سواء تلفت(4/76)
بآفة سماوية أم بفعله، بتقصير أم بلا تقصير، هذا هو المشهور. وحكي قول: أنها لا تضمن إلا بالتعدي فيها، وهو ضعيف. ولو أعار بشرط أن يكون أمانة، لغا الشرط وكانت مضمونة، وإذا ضمن، ففي القيمة المعتبرة أوجه. أصحها: قيمته يوم التلف. والثاني: يوم القبض. والثالث: أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف. ويبنى على هذا الخلاف، أن العارية إذا ولدت في يد المستعير، هل يكون الولد مضمونا في يده ؟ إن قلنا بالثالث، كان مضمونا، وإلا، فلا. وليس له استعماله بلا خلاف. قلت: ولو استعار دابة وساقها، فتبعها ولدها، ولم يتكلم المالك فيه بإذن ولا نهي، فالولد أمانة، قاله القاضي حسين في الفتاوى. والله أعلم. والمقبوض على جهة السوم، إذا تلف، في المعتبر من قيمته هذه الاوجه، لكن قال الامام: الاصح فيه قيمته يوم القبض. وقال غيره: الا صح يوم التلف هذا إذا تلفت العارية لا بالاستعمال، أما إذا تلفت بالاستعمال المأذون فيه، بأن انمحق الثوب باللبس، فلا يجب ضمانه على الاصح كالاجزاء. وقيل: يضمن،(4/77)
فعلى هذا، وجهان. أحدهما: يضمن العين بجميع أجزائها، وبه قطع الامام. وأصحهما: يضمنه في آخر حالات التقويم، وبه قطع البغوي. وأما الاجزاء، فما تلف منها بسبب استعمال المأذون فيه، كانمحاق الثوب باللبس، لا يجب ضمانه على الصحيح، وما تلف منها بغير الاستعمال، ففيه وجهان. أحدهما: لا يضمن، كالتالف بالاستعمال. وأصحهما: الضمان، كتلف العين كلها. وأما إذا تلفت الدابة بسبب الركوب والحمل المعتاد، فهو كانمحاق الثوب، وتعييبها به كالانمحاق. وعن القفال: لو قرح ظهرها بالحمل وتلفت منه، يضمن، سواء تعدى بما حمل، أم لا، لانه إنما أذن في الحمل، لا في الجراحة، وردها إلى المالك لا يخرجه عن الضمان، لان السراية تولدت من مضمون، وهذا في الحمل الذي هو غير متعد به، تفريع على وجوب الضمان في صورة الانمحاق، كذا ذكره الامام. فرع مؤنة الرد على المستعير، هذا كله إذا استعار من المالك. فلو استعار من المستأجر أو الموصى له بالمنفعة، فتلفت العين، فوجهان. أحدهما: يضمن كما لو استعار من الملك. وأصحهما: لا يضمن، لان المستأجر لا يضمن وهذا نائبه، ومؤنة الرد في هذه الاستعارة على المستعير إن رد على المستأجر، وعلى المالك إن رد عليه كما لو رد عليه المستأجر. فرع إذا استعار العين المغصوبة من الغاصب، وتلفت في يده، غرم المالك من شاء منهما قيمته يوم التلف، وقرار الضمان على المستعير. فإن كانت قيمته قبل يوم التلف أكثر، نظر، إن كانت الزيادة في يد المعير الغاصب، لم يطالب(4/78)
بها غيره. وإن كانت في يد المستعير، فإن قلنا: العارية تضمن بأقصى القيم، فهي كقيمته يوم التلف، وإلا، فالزيادة كبدل المنافع. وحكم بدل المنافع، أن ما تلف منها تحت يده، فقرار الضمان على المعير، لان يد المستعير في المنافع ليست يد الضمان. والتي استوفاها بنفسه فيها قولان. أظهرهما: على المستعير، لمباشرته الاتلاف، والمستعير من المستأجر من الغاصب، حكمه حكم المستعير من الغاصب إن ضمنا المستعير من المستأجر، وإلا، فيرجع بالقيمة التي غرمها على المستأجر ويرجع المستأجر على الغاصب. فرع إذا أركب وكيله الذي استعمله في شغله دابة الموكل، وسيره إلى موضع، فتلفت الدابة في يده بلا تفريط، فلا ضمان، لانه لم يأخذها لغرض نفسه، وكذا لو سلمها إلى رائض ليروضها، أو كان له عليها متاع نفيس فأركب إنسانا فوقه إحرازا للمال، فلا ضمان. فرع لو وجد (من) أعيا في الطريق فأركبه فتلفت الدابة، فالمذهب أنه يضمن، سواء التمس الراكب أو ابتدأه المركب، ومال الامام، إلى أنه لا يضمن، وجعل الغزالي هذا وجها، وزعم أنه الاصح، والمعروف الاول، وهو الصواب. ولو أركبه مع نفسه، فعلى الرديف نصف الضمان، ورأى الامام أنه لا شئ عليه، تشبيها بالضيف. وعلى المذهب: لو وضع متاعه على دابة رجل، وقال الواضع: سيرها، ففعل، كان صاحب المتاع مستعيرا من الدابة بقسط متاعه مما عليها، حتى لو كان عليها لكن سيرها المالك، لم يكن الواضع مستعير ا، بل يدخل المتاع في ضمان صاحب(4/79)
الدابة، لانه كان حقه أن يطرحه. ولو كان لاحد الرفيقين في السفر دابة، وللآخر متاع، فقال صاحب المتاع للآخر: احمل متاعي على دابتك، فأجابه، فصاحب المتاع مستعير، ولو قال: صاحب الدابة: أعطني متاعك لاضعه على الدابة، فهو مستودع متاعه، ولا تدخل الدابة في ضمان صاحب المتاع، ذكره البغوي. فرع استعار دابة ليركبها إلى موضع، فجاوزه، فهو متعد من حين المجاوزة، وعليه أجرة المثل ذهابا من ذلك الموضع ورجوعا إليه. وفي لزوم أجرة المثل من ذلك الموضع إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه، وجها ن. فإن أوجبناها، فليس له الركوب من ذلك الموضع، بل يسلمه إلى قاضي الموضع الذي استعار إليه. قلت: الاصح. فرع أودعه ثوبا وقال: إن شئت أن تلبسه فالبسه، فهو بعد اللبس عارية، وقبله وديعة على الصحيح، وقيل: عارية، لانه مقبوض لتوقع نفع كالمقبوض بالسوم. قال صاحب التقريب: ولو قيل: لا ضمان في السوم تخريجا من هذا، لم يبعد. فرع استعار صندوقا، فوجد فيه دراهم، فهي أمانة عنده، كما لو طيرت الريح ثوبا في داره. الحكم الثاني: تسلط المستعير على الانتفاع بحسب إذن المعير، وفيه مسائل. الاولى: إذا أعاره أرضا للزراعة، فإن بين ما يزرعه، كقوله: أعرتك لزراعة(4/80)
الحنطة، نظر، إن لم ينهه عن غيرها، فله أن يزرع الحنطة وما ضرره كضررها أو دونه كالشعير، وليس (له) أن يزرع ما فوقها كالذرة والقطن. وإن نهاه عن غيرها، لم يكن له زرع غيرها. وحيث زرع ما ليس له، فللمعير قلعه مجانا. وإن أطلق ذكر الزراعة ولم يبين الزروع، صحت الاعارة على الاصح، ويزرع ما شاء، لاطلاق اللفظ. والثاني: لا يصح، لتفاوت الضرر. ولو قيل: يصح ولا يزرع إلا أقل الانواع ضررا، لكان مذهبا. الثانية: إذا أعار للزراعة، لم يكن له البناء ولا الغراس. وإن أعار لاحدهما، فله الزراعة، وليس له الآخر على الاصح. قلت: حكى صاحب المهذب وغيره وجها: أنه لا يجوز الزرع إذا استعار للبناء، لان الزرع يرخي الارض، بخلاف البناء. والصحيح: الجواز. والله أعلم. الثالثة: إذا كان المستعار لا ينتفع به إلا بجهة واحدة، كالبساط الذي لا يصلح إلا لان يفرش، فلا حاجة في إعارته إلى بيان الانتفاع، وإن كان ينتفع به بجهتين فصاعدا، كالارض تصلح للزراعة، والبناء، والغراس، وكالدابة للركوب، والحمل، فهل تصح الاعارة مطلقا، أم يشترط بيان جهة الانتفاع ؟ وجهان. أصحهما عند الامام، والغزالي: الثاني، وقطع الروياني والبغوي بالاول. قلت: صحح الرافعي في المحرر الثاني. والله أعلم.(4/81)
فعلى الاول: له أن ينتفع كيف شاء. وقال الروياني: ينتفع بما هو العادة فيه، وهذا أحسن. وعلى الثاني: لو قال: أعرتك لتنتفع به كيف شئت، أو لتفعل به ما بدا لك، فوجهان. الحكم الثالث: الجواز. فللمعير الرجوع متى شاء، وللمستعير الرد متى شاء، سواء العارية المطلقة والمؤقتة، إلا في صورتين. الاولى: إذا أعار أرضا لدفن ميت، فدفن، لم يكن له الرجوع ونبش القبر إلى أن يندرس أثر المدفون، وله سقي الاشجار التي فيها إن لم يفض إلى ظهور شئ من بدن الميت، وله الرجوع ما لم يوضع فيه الميت، قال المتولي: وكذا بعد الوضع ما لم يواره التراب. قال: ومؤنة الحفر إذا رجع بعد الحفر وقبل الدفن، على ولي الميت، ولا يلزمه طمها. قلت: كذا هو في نسخ كتاب الامام الرافعي رحمه الله، وهو غلط في النقل عن المتولي، فإن المتولي قال: إذا رجع في العارية بعد الحفر وقبل الدفن، غرم لولي الميت مؤنة الحفر، لانه بإذنه في الحفر أوقعه في التزام ما التزام، وفوت عليه مقصوده لمصلحة نفسه، فهذا لفظ المتولي بحروفه، وهو الصواب. والله أعلم. وإطلاق الاعارة، لا يسلط على الدفن قطعا وإن كان يسلط على ما شاء من المنافع على الوجهين كما سبق، والفرق ظاهر. قلت: في البيان وغيره: أنه لو أعار أرضا ليحفر فيها بئرا، صحت العارية. فإذا نبع الماء، جاز للمستعير أخذه، لان الماء يستباح بالاباحة. والله أعلم. الصورة الثانية: إذا أعاره جدارا لوضع الجذوع، ففي جواز الرجوع(4/82)
وجهان. فإن جوزناه، فهل فائدته طلب الاجرة للمستقبل، أم التخيير بينه وبين القلع وضمان أرش النقص ؟ وجهان. وقد سبق بيان هذا كله واضحا مع بيان الاصح في كتاب الصلح. قلت: ومن أحكامها، أنه لو مات المعير، أو جن، أو أغمي عليه، أو حجر عليه لسفه، انفسخت الاعارة كسائر العقود الجائزة. وإن مات المستعير، انفسخت أيضا، لان الاذن بالانتفاع إنما كان للمستعير دون وارثه، وإذا انفسخت، وجب على المستعير ردها، ذكر هذه الجملة المتولي. والله أعلم.
فصل إعارة الارض للبناء أو الغراس، ضربان: مطلقة لم يبين لها مدة، ومقيدة بمدة. الاول: المطلقة، وللمستعير فيها أن يبني ويغرس ما لم يرجع المعير، فإذا رجع، لم يكن له البناء والغراس. ولو فعل وهو عالم بالرجوع، قلع مجانا، وكلف تسوية الارض كالغاصب. وإن كان جاهلا، فوجهان كالوجهين فيما إذا حمل السيل نواة إلى أرضه فنبتت. وأما ما بني وغرس قبل الرجوع، فإن أمكن رفعه من غير نقص يدخله، رفع، وإلا، فينظر، إن شرط عليه القلع مجانا عند رجوعه، وتسوية الحفر، لزمه، فإن امتنع، قلعه المعير مجانا، وإن شرط القلع دون(4/83)
التسوية، لم تلزمه التسوية، لان شرط القلع رضى بالحفر. وإن لم يشرط القلع، نظر، إن أراده المستعير، مكن منه، لانه ملكه، ويلزمه تسوية الحفر على الاصح. قلت: كذا صححه الجمهور: أنه يلزمه تسوية الحفر هنا منهم القاضي أبو الطيب في المجرد وصاحب الانتصار وغيرهما، وبه قطع المحاملي في المقنع والروياني في الحلية وهو الاصح. ولا يغتر بتصحيح الرافعي في المحرر: أنه لا يلزمه، فإنه ضعيف، نبهت عليه في مختصر المحرر. والله أعلم. وإن لم يرده، لم يكن للمعير قلعه مجانا، لانه محترم، ولكن يتخير المعير. وفيما يتخير ؟ فيه أوجه. أحدها، وبه قطع الامام، وأبو الحسن العبادي، والغزالي: يتخير بين ثلاث خصال. إحداها: أن يبقيه بأجرة يأخذها. والثانية: أن يقلع ويضمن أرش النقص، وهو قدر التفاوت بين قيمته نابتا ومقلوعا. والثالثة: أن يتملكه بقيمته، فإن اختار خصلة، أجبر عليها المستعير. والثاني، وبه قطع البغوي: لا بد في الخصلة الاولى والثالثة من رضى المستعير، لان الاولى إجارة والثالثة بيع. والثالث: يتخير بين خصلتين، القلع وضمان الارش، والتملك بالقيمة، وبهذا قطع أبو علي الزجاجي وأكثر العراقيين وغيرهم، وهذا أصح في المذهب. فعلى هذا، لو امتنع من الخصلتين، وبذل المستعير الاجرة، لم يكن(4/84)
للمعير القلع مجانا. وإن لم يبذلها، فكذلك على الاصح، وبه قطع المخيرون بين الخصال الثلاث إذا امتنع منها جميعا. وما الذي يفعل فيه ؟ وجهان. أحدهما: وبه قال: أبو علي الزجاجي: يبيع الحاكم الارض مع البناء أو الغراس لفصل الخصومة. وقال الاكثرون، منهم المزني: يعرض الحاكم عنهما إلى أن يختارا شيئا، ويجوز للمعير دخول الارض، والانتفاع بها، والاستظلال بالبناء والشجر، لانه جالس في ملكه، وليس للمستعير دخولها للتفرج بغير إذن المعير، ويجوز لسقي الاشجار وإصلاح الجدار على الاصح، صيانة لملكه عن الضياع. ووجه المنع: أنه يشغل ملك غيره إلى أن يصل إلى ملكه. وعلى الاول: لو تعطلت المنفعة على صاحب الارض بدخوله، قال المتولي: لا يمكن إلا بالاجرة، ولكل واحد من المعير والمستعير بيع ملكه للآخر، وللمعير بيع ملكه لثالث، ثم يتخير المشتري تخير المعير، وهل للمستعير بيع البناء والغراس لثالث ؟ وجهان. أصحهما: الجواز. فعلى هذا، يتنزل المشتري منزلة المستعير، وللمعير الخيار كما سبق وللمشتري فسخ البيع إن جهل الحال. ولو اتفق المعير والمستعير على بيع الارض بما فيها بثمن واحد، فقد قيل: هو كما لو كان لهذا عبد، ولهذا عبد، فباعاهما بثمن واحد، والمذهب: القطع بالجواز للحاجة. ثم كيفيوزع الثمن هنا، وفيما إذا باعهما الحاكم على أحد الوجهين ؟ قال المتولي: هو على الوجهين فيما إذا غرس الراهن الارض المرهونة. وقال البغوي: يوزع على الارض مشغولة بالغراس أو البناء،(4/85)
وعلى ما فيها وحده، فحصة الارض للمعير، وحصة ما فيها للمستعير، وحكم الدخول والانتفاع والبيع، على ما ذكرنا في ابتداء الرجوع إلى الاختيار، وفيما إذا امتنعا من الاختيار وأعرض القاضي عنهما سواء. الضرب الثاني: المقيدة بمدة. وللمستعير البناء والغراس في المدة، إلا أن يرجع المعير، وله أن يجدد كل يوم غرسا، وبعد انقضاء المدة ليس له إحداث البناء والغراس. وإذا رجع المعير قبل المدة أو بعده، فالحكم كما لو رجع في الضرب الاول، لكن هنا وجه: أنه لا يتمكن من الرجوع قبل المدة، وقول: أنه إذا رجع بعد المدة، فله القلع مجانا، نقله الساجي، واختاره الروياني. والمذهب: الاول. فرع قال المتولي: إذا بنى أحد الشريكين، أو غرس في الارض المشتركة بإذن صاحبه، ثم رجع صاحبه، لم يكن له القلع بأرش النقص، لانه يتضمن قلع بناء المالك في ملكه، وليس له أن يتملك بالقيمة، لان للباني في الارض مثل حقه، لكن له الابقاء بأجرة. فإن لم يبذلها الباني، فهل يباع أو يعرض عنهما ؟ فيه ما سبق. قلت: كذا قال المتولي: فإن لم يبذلها الباني، وكان ينبغي أن يقول: فإن لم يرض بها الشريك، فإن بذل الباني، ليس بشرط على المختار كما تقدم، ولو بنى أو غرس بغير إذن شريكه، قلعه مجانا، وسيأتي بيانه في بناء المشتري في المشفوع. والله أعلم.
فصل أعار للزرع، فزرعها، فرجع قبل إدراك الزرع، فإن كان مما يعتاد قطعه، كلف قطعه، وإلا، فأوجه، أحدها: للمعير أن يقلع ويغرم أرش النقص. والثاني: له تملكه بالقيمة، قاله القاضي أبو الطيب. والثالث وهو الصحيح: لا تثبت واحدة من هاتين الخصلتين، لان للزرع أمدا، بخلاف البناء والغراس، فعلى هذا، يلزم المعير إبقاؤه إلى أوان حصاده، وهل له الاجرة ؟ وجهان. أحدهما: لا، وهو منقول عن المزني، واختاره الروياني، لان منفعة الارض إلى الحصاد(4/86)
كالمستوفاة. وأصحهما: نعم، لانه إنما أباح له المنفعة إلى وقت الرجوع، فأشبه من أعار دابة إلى بلد ثم رجع في الطريق، فإن عليه نقل متاعه إلى مأمن بأجرة المثل. ولو أعار لزرع مدة، فانقضت والزرع غير مدرك، فإن كان ذلك لتقصيره في الزراعة بالتأخير، قلع مجانا، وإلا، فهو كما لو أعار مطلقا. فرع لو أعار للفسيل، قال الشيخ أبو محمد: إن كان ذلك مما يعتاد نقله، فهو كالزرع، وإلا، فكالبناء. فرع قال البغوي: إذا أعار للزرع مطلقا، لم يزرع إلا زرعا واحدا، وكذا لو أعار للغراس، فغرس وقلعه، لا يغرس بعده إلا بإذن جديد وهذا بين أن قولنا: المستعير للبناء والغراس مطلقا يبني ويغرس ما لم يرجع المعير، معناه: البناء المأذون فيه، وهو مرة واحدة، إلا إذا كان قد صرح له بالتجديد مرة بعد أخرى. فصل إذا حمل السيل حبات أو نوى لغيره إلى أرضه، لزمه ردها إلى مالكها إن عرفه، وإلا، فيدفعها إلى القاضي، ولو نبتت في أرضه، فوجهان. أحدهما: لا يجبر مالكها على قلعها، لانه غير متعد. فعلى هذا، هو مستعير، فينظر في النابت أهو شجر، أم زرع ؟ ويكون الحكم على ما سبق. وأصحهما: يجبر، لان المالك لم يأذن، فهو كما لو انتشرت أغصان شجرة في هواء دار غيره، فله قطعها. ولو حمل ما لا قيمة له، كنواة واحدة، أو حبة، فهل هي لمالك الارض لان التقوم حصل في ملكه ؟ أم لمالك الحبة لانها كانت محرمة الاخذ ؟ وجهان. فعلى الثاني: في قلع النابت، الوجهان. قلت: الاصح: كونها لمالك الحبة، وهذا في حبة ونواة لم يعرض عنها مالكها، أما إذا أعرض عنها أو ألقاها، فينبغي القطع بكونها لصاحب الارض. والله أعلم. ولو قلع صاحب الشجرة شجرته، لزمه تسوية الارض، لانه لتخليص ملكه.(4/87)
فصل في الاختلاف وفيه مسائل. الاولى: قال راكب الدابة لمالكها: أعرتنيها. فقال: بل أجرتكها مدة كذا بكذا، فتارة يختلفان والدابة باقية، وتارة (يختلفان) وهي تالفة. الحال الاول: الباقية، وهو ضربان. أحدهما: يختلفان بعد مضي مدة لمثلها أجرة. والثاني: قبلها. فالاول: نص فيه أن القول قول الراكب بيمينه. ونص فيما إذا زرع أرض غيره واختلفا هكذا، أن القول قول صاحب الارض. والله أعلم. وللاصحاب طريقان. أحدهما: تقرير النصين، واختاره القفال، لان الدواب تكثر فيها الاعارة، بخلاف الارض، وأصحهما عند الجمهور، وبه قال المزني، والربيع، وابن سريج: فيهما قولان. أظهرهما: القول قول المالك، فعلى هذا كيف يحلف ؟ وجهان. قال الشيخ أبو محمد وطائفة: يحلف على نفي الاعارة، ولا يتعرض لاثبات الاجرة، لانه مدع فيها. وقال العراقيون والقاضي والاكثرون: يتعرض لاثبات الاجرة مع نفي الاعارة. فعلى الاول: إذا حلف، استحق أقل الامرين من أجرة المثل والمسمى. وعلى الثاني: أوجه. أحدها: يستحق المسمى. والثاني: أقل الامرين. وأصحها وهو نصه في الام: أجرة المثل. فلو نكل المالك عن اليمين، لم يحلف الراكب والزارع، لانهما لا يدعيان حقا على المالك، وإنما يدعيان الاعارة وليست لازمة. وعن القاضي حسين رمز إلى أنهما يحلفان للتخلص من الغرم، أما إذا قلنا: القول قول الراكب والزارع، فإن حلف على نفي الاجارة، كفاه وبرئ، وإن نكل، ردت اليمين على المالك، واستحق بيمينه المسمى على الصحيح، وعلى الشاذ أجرة المثل. الضرب الثاني: أن يقع الاختلاف قبل مضي مدة لها أجرة، فالقول قول الراكب بيمينه. فإذا حلف على الاجارة، سقطت دعوى الاجرة، وردت العين إلى المالك. وإن نكل، حلف المالك يمين الرد، واستحق الاجرة. وإنما لم يجر القولان، لان الراكب لا يدعي لنفسه حقا، ولم تتلف المنافع على المالك. الحال الثاني: أن تكون الدابة تالفة، فإن تلفت قبل مضي مدة لها أجرة،(4/88)
فالراكب مقر بالقيمة، و المالك ينكرها ويدعي الاجرة، فيخرج على الخلاف السابق في كتاب الاقرار: أن اختلاف الجهة، هل يمنع الاخذ ؟ إن قلنا: نعم، سقطت القيمة برده. وفيمن القول قوله في الاجرة، الطريقان في الحال الاول. وإن قلنا: لا، فإن كانت الاجرة مثل القيمة أو أقل، أخذ ها بلا يمين. وإن كانت أكثر، أخذ قدر القيمة. وفي المصدق في الزائد، الخلاف السابق. المسألة الثانية: قال المتصرف: أعرتني هذه الدابة أو الارض، فقال المالك: بل غصبتنيها، فإن لم تمض مدة لها أجرة، فلا معنى للمنازعة، فيرد المال إلى مالكه. وإن مضت مدة لها أجرة، فنقل المزني: أن القول قول المستعير. وللاصحاب طرق. أصحها: أنها على الطريقين في المسألة الاولى، ففي طريق: يفرق بين الارض والدابة. وفي طريق: هما على قولين. والطريق الثاني: القطع بأن القول قول المتصرف، لان الظاهر أنه تصرف بحق. والثالث: القطع بأن القول قول مالكه، لان الاصل عدم إذنه. ومن قال بهذا، خطأ المزني في النقل. قال الشيخ أبو حامد: لكنه ضعيف، لان الشافعي رضي الله عنه نص في الام على ما نقله المزني، هذا إذا كانت العين باقية. فلو تلفت، نظر، إن تلفت بعد مدة لها أجرة، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة بالغصب، والمتصرف ينكر الاجرة ويقر بالقيمة بجهة العارية، فالحكم في الاجرة على ما ذكرنا عند بقاء العين. وأما القيمة، فقال البغوي: إن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الاخذ، لم يأخذها إلا باليمين، وإلا، فإن قلنا: العارية تضمن ضمان الغصب، أو لم نقل به، وكانت القيمة يوم التلف أكثر، أخذها بلا يمين، وإن كانت يوم التلف أقل، أخذها بلا يمين، وفي الزيادة يحتاج إلى اليمين. وإن هلكت قبل مدة لها أجرة، لزمه القيمة. ثم قياس ما ذكره البغوي: أنا إن جعلنا اختلاف الجهة مانعا من الاخذ، حلف، وإلا، فيأخذ بلا يمين، ومقتضى كلام الامام: أن لا يخرج على ذلك الخلاف، لا هذه الصورة، ولا ما إذا كان الاختلاف بعد مدة لها أجرة، قال: لان العين متحدة ولا أثر للاختلاف في الجهة مع اتحاد العين. والاول أصح. الثالثة: قال المالك: غصبتنيها، وقال المتصرف: بل أجرتني، فالمذهب:(4/89)
أنه إن كانت العين باقية، ولم تمض مدة لها أجرة، فالمصدق المالك. فإذا حلف، استرد المال. وإن مضت مدة لها أجرة، فالمالك يدعي أجرة المثل، والمتصرف يقر بالمسمى. فإن استويا، أو كانت أجرة المثل أقل، أخذ بلا يمين. وإن كانت أجرة المثل أكثر، أخذ قدر المسمى بلا يمين، والزيادة باليمين. قال البغوي: ولا يجئ هنا خلاف اختلاف الجهة، كما لو ادعى المالك فساد الاجارة، والمتصرف صحتها، يحلف المالك، ويأخذ أجرة المثل. وإن كان الاختلاف بعد بقاء العين في يد المتصرف مدة، وتلفها، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة، والمتصرف يقر بالمسمى وينكر القيمة، فللمالك أخذ ما يقر به بلا يمين. وأخذ ما ينكره باليمين. الرابعة: قال المالك: غصبتني، وقال (صاحب اليد): بل أودعتني، حلف المالك على الاصح، وأخذ القيمة إن تلف المال، وأجرة المثل إن مضت مدة لها أجرة. الخامسة: قال الراكب: أكريتنيها، وقال المالك: بل أعرتكها، والدابة باقية، فالقول قول المالك في نفي الاجارة. فإذا حلف، استردها. فإن نكل، حلف الراكب واستحق الامساك. ثم إن مضت مدة لها أجرة، فالراكب يقر بالاجرة، والمالك ينكرها، ولا يخفى حكمه. وإن كان هذا الاختلاف بعد هلاك الدابة، فإن هلكت عقب القبض، فالمذهب: أن المالك يحلف، ويأخذ القيمة، لان الراكب أتلفها، ويدعي مسقطا. وخرج قول في المسألة الاولى: أن القول قول الراكب، لان الاصل براءته، وإن تلفت بعد مدة لها أجرة، فالمالك يدعي القيمة وينكر الاجرة، والراكب يقر بالاجرة وينكر القيمة. فإن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الاخذ، حلف وأخذ القيمة، ولا عبرة باقرار الراكب. وإن قلنا: لا يمنع، وهو الاصح، فإن(4/90)
كانت القيمة والاجرة سواء، أو كانت القيمة أقل، أخذها بلا يمين. وإن كانت القيمة أكثر، أخذ الزيادة باليمين. فرع استعمل المستعير العارية بعد رجوع المعير وهو جاهل بالرجوع، لم يلزمه الاجرة، ذكره القفال. فرع مات المستعير، يلزم ورثته الرد وإن لم يطالب المعير. قلت: قال أصحابنا: الرد الواجب والمبرئ، هو أن يسلم العين إلى المالك أو وكيله في ذلك. فلو رد الدابة إلى الاصطبل، أو الثوب ونحوه إلى البيت الذي أخذه منه، لم يبرأ من الضمان، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الغصب بيان هذا واضحا. ولو رد الدابة إلى دار المعير، فلم يجده، فسلمها إلى زوجته، أو ولده، فإن سلمها المتسلم إلى المدعي، فضاعت، فالمعير بالخيار، إن شاء ضمن المستعير، وإن شاء غرم الزوجة أو الولد. فإن غرم المستعير، رجع عليهما، وإن غرمهما. لم يرجعا على المستعير. والله أعلم.(4/91)
كتاب الغصب
للاصحاب رحمهم الله، عبارات في معنى الغصب. إحداها: أنه أخذ مال الغير على جهة التعدي، وربما قيل: الاستيلاء على مال الغير. الثانية: وهي أعم من الاولى: أنه الاستيلاء على مال الغير بغير حق. واختار الامام هذه العبارة، وقال: لا حاجة إلى التقييد بالعدوان، بل يثبت الغصب وحكم من غير عدوان، كما لو أودع ثوبا عند رجل، ثم جاء المالك فأخذ ثوبا(4/92)
للمودع وهو يظنه ثوبه، أو لبسه المودع على ظن أنه ثوبه. الثالثة: وهي أعم من الاوليين: أن كل مضمون على ممسكه فهو مغصوب، كالمقبوض بالبيع الفاسد، والوديعة إذا تعدى فيها المودع، الرهن إذا تعدى فيه المرتهن. وأشبه العبارات وأشهرها هي الاولى. وفي الصورة المذكورة، الثابت حكم الغصب، لا حقيقته. قلت: كل هذه العبارات ناقصة، فإن الكلب وجلد الميتة وغيرهما مما ليس بمال، لا يدخل فيها مع أنه يغصب، وكذلك الاختصاصات بالحقوق، فالاختيار: أنه الاستيلاء على حق الغير بغير حق. والله أعلم. وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الامة، على تحريم الغصب، وفيه بابان.(4/93)
الاول : في الضمان، وفيه أربعة أطراف.
الاول : في الموجب للضمان، والغصب وإن كان موجبا للضمان، فلا ينحصر الموجب فيه، بل الاتلاف أيضمضمن، وكذلك الاستعارة والاستيام وغيرهما، والاتلاف يكون بالمباشرة، أو بالتسبب، وماله مدخل في الهلاك، فقد يضاف إليه الهلاك حقيقة، وقد، لا. ومالا، يقصد فقد بتحصيله حصول ما يضاف إليه الهلاك حقيقة، وقد، لا، لان الذي يضاف إليه الهلاك يسمى علة، والاتيان به، مباشرة، وما لا يضاف إليه الهلاك ويقصد بتحصيله ما يضاف إليه، يسمى سببا، والاتيان به، تسببا. وهذا القصد والتوقع، قد يكون لتأثيره بمجرده فيه، وهو علة العلة، وقد يكون بإنضمام أمور إليه وهي غير بعيدة الحصول. فمن المباشرة: القتل، والاكل، والاحراق. ومن التسبب: الاكراه على أتلاف مال الغير. ومنه ما إذا حفر بئرا في محل عدوان، فتردت فيها بهيمة، أو عبد، أو حر، فإن رداه غيره، فالضمان على المباشرة المردي، لان المباشر مقدمة على السبب، وسيأتي تمام هذا وبيان محل العدوان في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. فرع لو فتح رأس زق فضاع ما فيه، نظر، إن كان (مطروحا) على الارض فاندفق ما فيه بالفتح، ضمن. وإن كان منتصبا لا يضيع ما فيه لو بقي كذلك، لكنه سقط، نظر إن سقط بفعله بأن كان يحرك الوكاء ويجذبه حتى أفضى إلى السقوط، ضمن، وكذا لو سقط بما يقصد تحصيله بفعله، بأن فتح رأسه، فأخذ ما فيه في التقاطر شيئا فشيئا، حتى ابتل أسفله وسقط، ضمن. وإن سقط بعارض، كزلزلة، أو هبوب ريح، أو وقوع طائر، فلا ضمان، ولو فتح رأسه فأخذ ما فيه في الخروج، ثم جاء آخر ونكسه مستعجلا، فضمان الخارج بعد النكس، هل هو عليهما كالجارحين، أم على الثاني فقط كالحاز مع الجارح ؟ فيه(4/94)
وجهان. أصحهما: الثاني. هذا إذا كان ما في الزق مائعا. فإن كان جامدا فطلعت الشمس فأذابته وضاع، أو ذاب بمرور الزمان وتأثير حرارة الريح فيجب الضمان على الاصح. ويجري الوجهان، فيما لو أزال أوراق العنب وجرد عناقيده للشمس فأفسدتها، وفيما لو ربح شاة رجل فهلكت سخلتها، أو حمامة فهلك فرخها، لفقد ما يصلح لهما. ولو جاء آخر وقرب نارا من الجامد فذاب وضاع، فوجهان. أحدهما: لا ضمان على واحد منهما، وأصحهما: يضمن الثاني. ويجري الوجهان فيما لو قرب الفاتح ايضا النار، وفيما لو كان رأس الزق مفتوحا فجاء رجل وقرب منه النار. فرع لو حل رباط سفينة فغرقت بالحل، ضمن، ولو غرقت بحادث، كهبوب ريح أو غيره، لم يضمن. وإن لم يظهر حادث، فوجهان. وليكن الامر كذلك في مسألة الزق إذا لم يظهر حادث لسقوطه. فرع فتح قفصا عن طائر وهيجه حتى طار، ضمنه. فإن لم يزد على الفتح، فثلاثة أقوال. أظهرها: إن طار في الحال، ضمن، وإلا، فلا. والثاني: يضمن مطلقا. والثالث: لا يضمن مطلقا. وفي ما جمع في فتاوى القفال - تفريعا على وجوب الضمان إذا طار في الحال -: أ نه لو وثبت هرة بمجرد فتح القفص، ودخلته وقتلت الطائر، لزمه الضمان، لانه في معنى إغراء الهرة، وأنه لو كان القفص مغلقا فاضطرب بخروج الطائر وسقط فانكسر، لزم الفاتح ضمانه. وأنه لو كسر الطائر في خروجه قارورة رجل، لزمه ضمانها، لان فعل الطائر منسوب إليه، وأنه لو كان شعير في جراب مشدود الرأس، بجنبه حمار، ففتح رأسه(4/95)
فأكله الحمار في الحال، لزم الفاتح ضمانه، ولو حل رباط بهيمة، أو فتح باب الاصطبل فخرجت وضاعت، فالحكم على ما ذكرنا في القفص. ولو خرجت في الحال وأتلفت زرع رجل، قال القفال: إن كان نهارا، لم يضمن الفاتح، وإن كان ليلا، ضمن، كدابة نفسه. وقال العراقيون: لا يضمن، إذ ليس عليه حفظ بهيمة الغير عن الزروع. قلت: قطع ابن كج بما قاله القفالو الله أعلم ولو حل قيد العبد المجنون، أو فتح باب السجن، فذهب، فهو كما لو حل رباط البهيمة. وإن كان العبد عاقلا، نظر، إن لم يكن آبقا، فلا ضمان، لان له إختيارا صحيحا، فذهابه محال عليه، وإن كان آبقا، فلا ضان أيضا على الاصح، وقيل: هو كحل رباط البهيمة، ففيه فرع لو وقع طائر على جداره، فنفره، لم يضمن، لانه كان ممتنعا قبله، التفصيل ولو رماه في الهواء فقتله، ضمنه، سواء هواء داره وغيره، إذ ليس له منع الطائر من هواء ملكه. فرع لو فتح باب الحرز فسرق غيره، أو دل سارقا فسرق، أو أمر غاصبا فغصب، أو بنى دارا فألقت الريح فيها ثوبا وضاع، فلا ضمان عليه: ولو حبس المالك عن ماشيته جتى تلفت، فلا ضمان، لانه لم يتصرف في المال، كذا قالوه، ولعل صورته فيما إذا لم يقصد منعه عن الماشية، وإنما قصد حبسه فأفضى الامر إلى هلاكها، لان المتولي قال: لو كان له زرع ونخيل، وأراد(4/96)
سوق الماء إليها فمنعه ظالم من السقي حتى فسدت، ففي الضمان الوجهان فيما لو فتح الزق عن جامد فذاب بالشمس وضاع. قلت: الاصح في صورتي الحبس عن الماشية والسقي: أنه لا ضمان، بخلاف فتح الزق لما ذكرنا أنه لم يتصرف في المال. والله أعلم ولو غصب هادي القطيع فتبعه القطيع، أو غصب البقرة فتبعها العجل، لم يضمن القطيع والعجل على الاصح. فرع لو نقل صبيا حرا إلى مضيعة، فاتفق سبع فافترسه، فلا ضمان لاحالة الهلاك على اختيار الحيوان ومباشرته. ولو نقله إلى مسبعة فأفترسه سبع، فلا ضمان أيضا، هذا هو المذهب والمعروف في كتب لاصحاب، وذكر الغزالي فيه وجهين، وليس بمعروف. فصل إثبات اليد العادية سبب للضمان، وينقسم إلى مباشرة، بأن يغصب الشئ فيأخذه من يد مالكه، وإلى التسبب، وهو في الاولاد وسائر الزوائد، لان إثبات اليد على الاصول سبب لاثباتها على الفروع، فيكون ولد المغصوب وزوائد ه مغصوبة. ثم إثبات اليد العادية يكون في المنقول والعقار.(4/97)
أما المنقول، فالاصل فيه النقل، لكن لو ركب دابة غيره، أو جلس على فراش غيره ولم ينقله، في كونه غاصبا ضامنا، وجهان. أصحهما: نعم، سواء قصد الاستيلاء أم لا. قال المتولي: وهذا إذا كان المالك غائبا، أما إذا كان حاضرا، فإن أزعجه وجلس على الفراش، أو لم يزعجه وكان بحيث يمنعه من رفعه والتصرف فيه، فيضلنه قطعا، وقياس ما يأتي إن شاء الله تعالى في نظيره من العقار: أن لا يكون غاصبا إلا لنصفه. وأما العقار، فإن كان مالكه فيه، فأزعجه ظالم ودخل الدار بأهله على هيئة من يقصد السكن، فهو غاصب، سواء قصد الاستيلاء، أم لا، لا ن وجود الاستيلاء يغني عن قصده، ولو سكن بيتا من الدار، ومنع المالك منه دون باقي الدار، فهو غاصب لذلك البيت دون باقي الدار. وإن أزعج المالك ولم يد خل الدار، فالمذهب والذي يدل عليه كلام جماهير الاصحاب: أنه غاصب، فلم يعتبروا في الغصب إلا الاستيلاء ومنع المالك عنه، وقال الغزالي: لا يكون غصبا، واعتبر دخول الدار في غصبها، أما إذا لم يزعج المالك، ولكن دخل واستولى معه، فهو غاصب لنصف الدار، لاجتماع يدهما واستيلائهما، فإن كان الداخل ضعيفا، والمالك قوي لا يعد مثله مستوليا عليه، لم يكن غاصبا لشئ من الدار، ولا اعتبار بقصد ما لا يتمكن من تحقيقه. أما إذا لم يكن هناك مالك، فدخل على قصد الاستيلاء، فهو غاصب وإن كان ضعيفا وصاحب الدار قويا، لان الاستيلاء حاصل في الحال، وأثر قوة المالك إنما هو سهولة إزالته والانتزاع من يده، فصار كما لو سلب قلنسوة ملك، فإنه غاصب وإن سهل على المالك انتزاعها. وفي وجه: لا يكون غصبا، لان مثله في العرف يعد(4/98)
هزءا، ولا يعد استيلاء، وهو شاذ ضعيف، وإن دخل لا على قصد الاستيلاء، بل لينظر، هل يصلح له، أو غير ذلك ؟ لم يكن غاصبا. قال المتولي: لكن لو انهدمت في تلك الحال، هل يضمنها ؟ وجهان. أحد هما: نعم، كما لو أخذ منقولا من بين يدي مالكه لينظر هل يصلح له ليشتريه، فتلف في تلك الحال، فأنه يضمنه. وأصحهما: لا، لان اليد على المنقول حقيقة. ولو اقتطع قطعة أرض ملاصقة لارضه، وبنى عليها حائطا وأضافها إلى ملكه، ضمنها، لوجود الاستيلاء. فصل فيما إذا انبنت على يد الغاصب يد أخرى قد سبق معظم مسائله في كتاب الرهن، وحاصله: أن كل يد ترتبت على يد الغاصب، فهي يد ضمنان، فيتخير المالك عند التلف، بين مطالبة الغاصب، ومن ترتبت يده على يده، سواء علم المغصوب أم لا، لانه أثبت يده على مال غيره بغير إذنه، فالجهل ليس مسقطا للضمان. ثم الثاني، أن علم الغصب، فهو غاصب من الغاصب، فيطالب بكل ما يطالب به الغاصب، وإن تلف المغصوب في يده، فقرار الضمان عليه. فإذا غرم، لا يرجع على الاول، وإذا غرم الاول رجع عليه، هذا إذا لم تختلف قيمته في يدهما، أو كانت في يد الثاني أكثر، فلو كانت في يد الاول أكثر، لم يطالب بالزيادة إلا الاول، وتستقر عليه. أما إذا جهل الثاني الغصب، فإن كانت اليد في وضعها يد ضمان كالعارية، استقر الضمان على الثاني. وإن كانت يد أمانة كالوديعة، استقر على الغاصب على المذهب. وفي وجه: تستقر على المودع وفي وجه: لا يطالب المودع أصلا، وقد سبق بيان هذا الفصل في أواخر(4/99)
الباب الثالث من كتاب الرهن بزيادة على هذا، والقرض معدود من أيدي الضمان. ولو وهب المغصوب، فهل القرار على الغاصب لانها ليس يد ضمان، أم على المتهب لانه أخذه للتملك ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. ولو زوج المغصوبة فتلفت عند الزوج، فالمذهب: أنه لا يطالب الزوج بقيمتها قطعا. وقيل: كا لمودع. فرع إذا أتلف القابض من الغاصب، نظر، إن استقل بالاتلاف، فقرار الضمان عليه. وإن حمله الغاصب عليه، بأن غصب طعاما فقدمه إليه ضيافة فأكله، فالقرار على الاكل أن كان على عالما، وكذا إن كان جاهلا على الاظهر المشهور في الجديد. فعلى هذا، إن ضمنه، لم يرجع على الغاصب، وإن ضمن الغاصب، رجع عليه. وعلى القول الاخر بالعكس، هذا إذا قدمه إليه وسكت. فإن قال: هو ملكي، فإن ضمن الاكل، ففي رجوعه على الغاصب القولان. وإن ضمن الغاصب، فالمذهب: أنه لا يرجع قطعا، لانه معترف بأنه مظلوم، فلا يرجع على غير ظالمه. وقال المزني: يرجع عليه، وغلطه الاصحاب. ولو وهب المغصوب فأتلفه المتهب، فالقولان، وأولى بالاستقرار على المتهب. فرع لو قدم الطعام المغصوب إلى عبد إنسان فأكله، فإن جعلنا القرار على الحر الاكل، فهذه جناية من العبد يباع فيها، وإلا، فلا يباع، وإنما يطالب الغاصب كما لو قدم شعيرا مغصوبا إلى بهيمة بغير إذن مالكها. فرع غصب شاة وأمر قصابا بذبحها جاهلا با لحال، فقرار ضمان النقص على الغاصب، ولا يخرج على القولين في آكل الطعام، لا نه ذبح الغاصب، وهناك انتفع بأكله.(4/100)
فرع لو أمر الغاصب رجلا باتلاف المغصوب بالقتل والاحراق ونحوهما، ففعله جاهلا بالغصب، فالمذهب: القطع با لاستقرار على المتلف، لانه حرام، بخلاف الاكل، ولا أثر للتغرير مع التحريم، وقيل على القولين. فرع قدم المغصوب إلى مالكه، فأكله جاهلا بالحال، فإن قلنا في التقديم إلى الاجنبي: القرار على الغاصب، لم يبرأ من الضمان. وإلا، فيبرأ، وربما نصر العراقيون الاول. ونقل الامام عن الاصحاب إن البراءة هنا أولى من الاستقرار على الاكل. ولو أودعه للمالك، أو رهنه عنده، أو أجره إياه جاهلا بالحال، فتلف عنده، لم يبرأ من الضمان على المذهب، وقيل بالقولين. ولو باعه للمالك، أو أقرضه، أو أعاره فتلفت عنده، برئ الغاصب. ولو دخل المالك دار الغاصب، فأكل طعاما يظنه للغاصب، فكان هو المغصوب، برئ الغاصب، ولو صال العبد المغصوب على مالكه، فقتله المالك للدفع، لم يبرأ الغاصب، سواء علم أنه عبده، أم لا، لان الاتلاف بهذه الجهة كاتلاف العبد نفسه، ولهذا لو كان العبد لغيره، لم يضمنه. وفي وجه: يبرأ عند العلم، لاتلافه مال نفسه لمصلحته، وهو ضعيف. فرع زوج المغصوبة بمالكها جاهلا، فتلفت عنده، فهو كما لو أودعها عنده فتلفت، فلو استولدها، نفذ الاستيلاد وبرء الغاصب على المذهب. ولو قال الغاصب للمالك: أعتق هذا، فأعتقه جاهلا، نفذ العتق على الاصح، لانه لا يبطل بالجهل، فعلى هذا، يبرأ الغاصب على الاصح، لعود مصلحة العتق إليه. وعلى الثاني: لا يبرأ، فيطالبه بقيمته. ولو قال: أعتقه عني، ففعل جاهلا، ففي نفوذ العتق وجهان، إن نفذ، ففي وقوعه عن الغاصب،(4/101)
وجهان. الصحيح: المنع. ولو قال المالك للغاصب: أعتقه عني، أو مطلقا، فأعتقه، عتق وبرئ الغاصب.
الطرف الثاني : في المضمون، قال الاصحا ب رحمهم الله: المضمون هو المعصوم، وهو قسمان. أحدهما: ما ليس بمال، وهو الاحرار، فيضمنون بالجناية على النفس والطرف، بالمباشرة تارة، وبالتسبب أخرى، وتفصيله في كتاب الديات. الثاني: ما هو مال، وهو نوعان: أعيان، ومنافع. والاعيان ضربان: حيوان وغيره. والحيوان صنفان: آدمي وغيره. أما الادمي: فيضمن النفس والطرف من الرقيق بالجناية كما يضمن الحر، ويضمن أيضا باليد العادية. وبدل نفسه: قيمته بالغة ما بلغت، سواء قتل أو تلف تحت اليد العادية. وأما الاطراف والجراحات، فما كان منها لا يتقدر واجبه في الحر، فواجبه في الرقيق ما نقص من قيمته، سواء حصل بالجناية، أو فات تحت اليد العادية، وما كان مقدرا في الحر، ينظر، إن حصل بجناية، فقولان. الجديد الاظهر: أنه يتقدر من الرقيق أيضا، والقيمة في حقه كالدية في حق الحر، فيجب في يد العبد نصف قيمته، كما يجب في يد الحر نصف ديته، وعلى هذا، القياس. والقديم: الواجب ما نقص من قيمته كسائر الاموال. وأما ما يتلف تحت اليد العادية، كمن غصب عبدا فسقطت يده بآفة سماوية، فالواجب فيه ما ينقص على الصحيح. وفي وجه: إن كان النقص أقل من المقدر، وجب ما يجب على الجاني، فعلى الجديد: لو قطع الغاصب المغصوب، لزمه اكثر الامرين من نصف القيمة والارش. لو قطع يديه، فعليه كمال القيمة. وكذا لو قطع أنثييه، فزادت قيمته. ولو كان الناقص بقطع الغاصب ثلثي قيمته، وجب ثلثا قيمته على القولين.(4/102)
أما على القديم، فلانه قدر النقص. وأما على الجديد، فالنصف بالجناية، والسدس باليد العادية. ولو كان النقص بسقوط اليد بآفة ثلث القيمة، فهو الواجب على القديم، وكذا على الجديد تفريعا على الصحيح، وعلى الوجه الاخر: الواجب نصف قيمته. والمكاتب، والمستولدة، والمدبر، حكمهم في الضمان حكم القن. الصنف الثاني: غير الادمي من الحيوان، فيجب فيه باليد والجناية قيمته، وفي ما تلف من أجزائه ما نقص من قيمته، ويستوي فيه الخيل، والابل، والحمير، وغيرها. الضرب الثاني: غير الحيوان، وهو منقسم إلى مثلي ومتقوم، وسيأتي ضبطهما وحكمهما في الطرف الثالث إن شاء الله تعالى. النوع الثاني: المنافع، وهي أصناف. منها: منافع الاموال من العبيد والثياب والارض وغيرها، وهي مضمونة بالتفويت. والفوات تحت اليد العادية، فكل عين لها منفعة تستأجر لها، يضمن منفتها إذا بقيت في يده مدة لها أجرة حتى لو غصب كتابا وأمسكه مدة وطالعه، أو مسكا فشمه، أو لم يشمه، لزمه أجرته. ولو كان العبد المغصوب يعرف صنائع، لزمه أجرة أعلاها أجرة، ولا يلزمه أجر الجميع. ولو استأجر عينا لمنفعة، فاستعملها في غيرها، ضمنها.(4/103)
قلت: ذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه، أنه لو غصب أرضا ولم يزرعها، وهي مما تنقص بترك الزرع كأرض البصرة وشبهها فإنها إذا لم تزرع نبت فيها الدغل والحشيش، كان عليه رد الحشيش وأجرة الارض، ولم يذكر القاضي أرش النقص. والظاهر: أنه يجب. والله أعلم ومنها: منفعة البضع، فلا تضمن بالفوات تحت اليد، لان اليد لا تثبت عليها، ولهذا يزوج السيد المغصوبة، ولا يؤجرها، كما لا يبيعها، وكذا لو تداعى رجلان نكاح امرأة، ادعيا عليها، ولا يدعي كل واحد منهما على الاخر وإن كانت عنده. وإذا أقرت لاحدهما، حكم بأنها زوجه، وذلك يدل على أن اليد لها، ولان منفعة البضع تستحق إستحقاق ارتفاق للحاجة، وسائر المنافع تستحق استحقاق ملك تام. ولهذا، من ملك منفعة بالاستئجار، ملك نقلها إلى غيره بعوض أو بغيره، والزوج لا يملك، نقل منفعة البضع. فأما إذا فوت منفعة البضع بالوطئ، فيضمن مهر المثل، وسيأتي تفريعه في الفصل الثالث من الباب الثاني إن شاء الله تعالى. ومنها: منفعة بدن الحر، وهي مضمونة بالتفويت. فإذا قهر حرا وسخره في عمل، ضمن أجرته. وإن حبسه وعطل منافعه، لم يضمنها على الاصح، لان الحر لا يدخل تحت اليد، فمنافعه تفوت تحت يده، بخلاف المال، وقال ابن أبي هريرة: يضمنها، ويقرب من الوجهين الخلاف في صورتين. إحداهما: لو إستأجر حرا وأراد أن يؤجره، هل له ذلك ؟ والثانية: إذ أسلم الحر المستأجر نفسه، ولم يستعمله المستأجر إلى انقضاء المدة التي استأجره فيها، هل تتقرر أجرته ؟ قال الاكثرون: له أن يؤجره وتتقرر أجرته. وقال القفال: لا يؤجره ولا تتقرر أجرته، لان الحر لا يدخل تحت اليد، ولا تحصل منافعه في يد المستأجر، ويدخل ضمانه إلا عند وجودها، هكذا ذكر الاصحاب (توجيه) الخلاف في المسائل الثلاث، ولم يجعلوا دخول الحر تحت اليد(4/104)
مختلفا فيه، بل اتفقوا على عدمه، ولكن من جوز إجارة المستأجر، وقرر الاجرة، بنى الامر على الحاجة والمصلحة، وجعل الغزالي الخلاف في المسائل مبنيا على التردد في دخوله تحت اليد ولم نر ذلك لغيره. فرع في دخول ثياب الحر في ضمان من استولى عليه، تفصيل مذكور في كتاب السرقة. فرع قال المتولي: لو نقل حرا صغيرا أو كبيرا بالقهر إلى موضع، فأن لم يكن له غرض في الرجوع إلى الموضوع الاول، فلا شئ عليه. وإن كان واحتاج إلى مؤنة، فهي على الناقل، لتعديه. ومنها: منفعة الكلب، فمن غصب كلب صيد أو حراسة، لزمه رده مع مؤنة الرد إن كان له مؤنة، وهل تلزمه أجرة منفعته ؟ وجهان، بناء على جواز إجارته. وفيما اصطاده الغاصب بالكلب المغصوب، وجهان. أحدهما: للمالك، كصيد العبد وكسبه. وأصحهما: للغاصب، كما لو غصب شبكة أو قوسا واصطاد بهما، فإنه للغاصب. ويجري الوجهان، فيما لو اصطاد بالبازي والفهد المغصوبين، وحيث كان الصيد للغاصب، لزمه أجرة مثل المغصوب، وحيث كان للمالك كصيد العبد، ففي وجوب الاجرة لزمن الاصطياد وجهان. أصحهما: الوجوب، لانه ربما كان يستعمله في شغل آخر. قلت: والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الصيد عن الاجرة، فإن نقصت، وجب الناقص قطعا. وألله أعلم فرع المغصوب، إذا دخله نقص، هل يجب أرشه مع الاجرة ؟ نظر، إن كان النقص بسبب غير الاستعمال، بأن غصب ثوبا أو عبدا، فنقصت قيمته بآفة سماوية كسقوط عضو العبد بمرض، وجب الارش مع الاجرة، ثم الاجر الواجبة لما قبل حدوث النقص، أجرة مثله سليما، ولما بعده، أجرة مثله معيبا. وإن كان(4/105)
النقص بسبب الاستعمال، بأن لبس الثوب فأبلاه، فوجهان. أصحهما: يجبان، والثاني: لا يجب إلا أكثر الامرين من أجرة المثل وأرش النقص. فرع سيأتي إن شاء الله تعالى، أن العبد المغصوب إذا تعذر رده بآفة، غرم الغاصب قيمته للحيلولة، وتلزمه مع ذلك أجرة المثل للمدة الماضية قبل بذل القيمة، وفيما بعدها، وجهان. أصحهما: الوجوب، لبقاء حكم الغصب. ويجري الوجهان في أن الزوائد الحاصلة بعد خفع القيمة، هل تكون مضمونة على الغاصب ؟ وفي أنه هل يلزمه مؤنة ردها ؟ وفي أن جناية الابق في إباقه، هل يتعلق ضمانها بالغاصب ؟ ولو غيب الغاصب المغصوب إلى مكان بعيد، وعسر رده، وغرم القيمة، قال الامام: وطرد شيخي في هذه الصورة، الخلاف في الاحكام المذكورة، ومنهم من قطع بوجوب الاجرة وثبوت سائر الاحكام. والفرق، أنه إذا غيبه بإختياره، فهو باق في يده وتصرفه، فلا ينقطع عنه الضمان. فرع الخمر والخنزير، لا يضمنان (لا) لمسلم ولا لذمي، سواء أراق حيث تجوز الاراقة، أم حيث لا تجوز، ثم خمور أهل الذمة لا تراق إلا إذا تظاهروا بشر بها أو بيعها، ولو غصب منهم والعين باقية، وجب ردها، وإن غصبت من مسلم، وجب ردها إن كانت محترمة، وإن لم تكن محترمة، لم يجب، بل تراق. فرع آلات الملاهي كالبربط والطنبور وغيرهما، وكذا الصنم والصليب، لا يجب في إبطالها شئ، لانها محرمة الاستعمال، ولا حرمة لتلك الصنعة. وفي الحد المشروع في إبطالها، وجهان. أحدهما: تكسر وترضى حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منها،(4/106)
لا الاولى ولا غيرها. وأصحهما: لا تكسر الكسر الفاحش لكن تفصل. وفي حد التفصيل وجهان. أحدهما: قدر لا يصلح معه للاستعمال المحرم، حتى إذا رفع وجه البربط وبقي على صورة قصعة، كفى، والثاني: أن يفصل إلى حد حتى لو فرض اتخاذ آلة محرمة من مفصلها لنال الصانع التعب الذي يناله في ابتداء الاتخاذ، وهذا بأن يبطل تأليف الاجزاء كلها حتى تعود كما كانت قبل التأليف، وهذا أقرب إلى كلام الشافعي رضي الله عنه وجماهير الاصحاب. ثم ما ذكرناه من الاقتصار على تفصيل الاجزاء، هو فيما إذا تمكن المحتسب منه، أما إذا منعه من في يده ودافعه عن المنكر، فله إبطاله بالكسر قطعا. وحكى الامام اتفاق الاصحاب على أن قطع الاوتار لا يكفي لانها مجاورة لها منفصلة. ومن اقتصر في إبطالها على الحد المشروع، فلا شئ عليه. ومن جاوزه، فعليه التفاوت بين قيمتها مكسورة بالحد المشروع، وبين قيمتها منتهية إلى الحد الذي أنى به. وإن أحرقها فعليه قيمتها مكسورة الحد المشروع. قلت: قال الغزالي في البسيط: أجمعوا على أنه لا يجوز إحراقها، لان رضاضها متمول. ومما يتعلق بهذا الفصل، أن الرجل، والمرأة، والعبد، والفاسق، والصبي المميز، يشتركون في جواز الاقدام على إزالة هذا المنكر وسائر المنكرات، ويثاب الصبي عليها كما يثاب البالغ، ولكن إنما تجب إزالته على المكلف القادر. قال الغزالي في الاحياء: وليس لاحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمور وغيرهما من المنكرات، كما ليس له منع البالغ، فإن الصبي وإن لم يكن مكلفا، فهو من أهل القرب، وليس هذا من الولايات، ولهذا يجوز للعبد والمرأة وآحاد الرعية، وسيأتي ذلك مبسوطا مع ما يتعلق به في كتاب السير إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
الطرف الثالث : وفي قدر الواجب، فما كان مثليا، ضمن بمثله. وما كان متقوما، فبالقيمة.(4/107)
وفي ضبط المثلي أوجه، أحدها: كل مقدر بكيل أو وزن فهو مثلي، وينسب هذا إلى نص الشافعي رضي الله عنه، لقوله في المختصر: وما له كيل أو وزن، فعليه مثل كيله أو وزنه. والثاني: يزاد مع هذا جواز السلم فيه. والثالث: زاد القفال وآخرون اشتراك جواز بيع بعضه ببعض. والرابع: ما يقسم بين الشريكين من غير تقويم. والخامس، قاله العراقيون: المثلي ما لا تختلف أجزاء النوع منه في القيمة، وربما قيل في الجرم والقيمة. ويقرب منه قول: من قال: المثلي: المتشاكل في القيمة ومعظم المنافع. وما اختاره الامام، هو تساوي الاجزاء في المنفعة والقيمة، فزاد المنفعة، واختاره الغزالي، وزاد من حيث الذات لا من حيث الصنعة. والوجه الاول منقوض با لمعجونات. والثالث: بعيد عن اختيار أكثر الاصحاب لانهم اعرضوا عن هذا الشرط، وقالوا: امتناع بيع بعضه (ببعض) لرعاية الكمال في حال التماثل بمعزل عما نحن فيه. والرابع: لا حاصل له، فأنه منقض بالارض المتساوية، فأنها تنقسم كذلك، وليست مثلية: والخامس: ضعيف أيضا منتقض بأشياء، فالاصح الوجه الثاني، لكن الاحسن أن يقال: المثلي: ما يحصره كيل أو وزن، ويجوز السلم فيه، ولا يقال:(4/108)
مكيل أو موزون، لان المفهوم منه ما يعتاد كيله ووزنه، فيخرج منه الماء وهو مثلي، وكذا التراب وهو مثلي على الاصح. ويحصل من الخلاف اختلاف من الصفر، والنحاس، والحديد، لان أجزاءها مختلفة الجواهر، وكذا في التبر، والسبيكة، والمسك، والعنبر، والكافور، والثلج، والجمد، والقطن، لمثل ذلك. وفي العنب والرطب وسائر الفواكه الرطبة لامتناع بيع بعضها ببعض، وكذا الدقيق. والاصح: أنها كلها مثلية. وفي السكر والفانيذ والعسل المصفى بالنار واللحم الطري، للخلاف في جواز بيع كل منها بجنسه، وفي الخبز، لامتناع بيع بعضه ببعض، وأيضا الخلاف في جواز السلم فيه. وأما الحبوب، والادهان، والالبان والسمن، والمخيض، والخل الذي ليس فيه ماء، والزبيب، والتمر، ونحوها، فمثلية بالاتفاق. والدراهم، والدنانير الخالصة، مثلية. ومقتضى العبارة الثانية، جريان خلاف فيها، لان في السلم فيها خلافا سبق. قلت: الصواب المعروف الذي قطع به الاصحاب: أنها مثلية. والله أعلم وفي المكسرة، الخلاف في تبر والسبيكة، وأما الدراهم والدنانير المغشوشة، فقال المتولي: إن جوزنا المعاملة بها، فمثلية، وإلا، فمتقومة.(4/109)
فصل إذا غصب مثليا وتلف في يده، والمثل موجود، فلم يسلمه حتى فقد، أخذت منه القيمة. والمراد بالفقدان: أن لا يوجد في ذلك البلد وحواليه على ما سبق في انقطاع المسلم فيه، وفي القيمة المعتبرة أحد عشر وجها. أصحها: يجب أقصى القيم من يوم الغصب إلى الاعواز. والثاني: أقصاها من الغصب إلى التلف. والثالث: أقصاها من التلف إلى الاعواز، وربما بني هذان الوجهان على أن الواجب عند إعوا المثل، هل هو قيمة المغصوب لانه الذي أتلف على المالك، أم قيمة المثل لانه الواجب عند التلف، وفيه وجهان لابي الطيب ابن سلمة. والرابع: أقصاها من الغصب إلى تغريم القيمة والمطالبة بها. والخامس: أقصاها من الاعواز إلى المطالبة. والسادس: أقصاها من تلف المغصوب إلى المطالبة. والسابع: قيمته يوم التلف. والثامن: يوم الاعواز، اختاره أبو علي الزجاجي، بضم الزاي، والحناطي، بالحاء المهملة، والماوردي، وأبو خلف السلمي. والتاسع: يوم المطالبة. والعاشر: إن كان منقطعا في جميع البلاد، فقيمة يوم الاعواز. وإن فقد هناك فقط، فقيمة يوم الحكم بالقيمة.(4/110)
والحادي عشر: حكي عن الشيخ أبي حامد إن ثبت عنه: قيمة يوم أخذ القيمة، لا يوم المطالبة، ولو غصب مثليا فتلف والمثل مفقود، فالقياس: أنه يجب على الوجه الاول. والثاني: أقصى القيم من الغصب إلى التلف. وعلى الثالث والسابع والثامن: (قيمة) يوم التلف، وأن يعود. والرابع والسادس والتاسع بحالها. وعلى الخامس أقصى القيم من التلف إلى يوم التقويم. والعاشر بحاله. قلت: والحادي عشر بحاله. والله أعلم ولو أتلف لرجل مثليا بلا غصب، وكان المثل موجودا فلم يسلمه حتى فقد، فعلى الوجه الثاني: قيمة يوم الاتلاف. وعلى الاول والثالث: أقصى القيم من الاتلاف إلى الاعواز. وعلى الرابع: من الاتلاف إلى التقويم. والقياس: عود الاجه الباقية. ولو أتلفه والمثل مفقود، فالقياس أن يقال: على الاوجه الثلاثة الاوائل، والسابع والثامن: تجب قيمة يوم الاتلاف. وعلى الرابع والخامس والسادس: أقصى القيم من الاتلاف إلى التقويم. وعلى التاسع: قيمة يوم التقويم. وعلى العاشر: إن كان مفقودا في جميع البلاد، فيوم الاتلاف، وإلا، فيوم التغريم. فرع متى غرم الغاصب أو المتلف القيمة لاعواز المثل، ثم وجد المثل، هل للمالك رد القيمة وطلب المثل ؟ وجهان. أصحهما: لا. قلت: ويجريان، في أن الغاصب والمتلف، هل لهما رد المثل و طلب القيمة. والله أعلم فرع في أن المثلي، هل يؤخذ مثله مع اختلاف الزمان والمكان أما المكان، فإذا غصب مثليا ونقله إلى بلد آخر، كان للمالك أن يكلفه رده، وله أن يطالبه بالقيمة في الحال للحيلولة. ثم إذا رده الغاصب رد القيمة(4/111)
واسترده. فلو تلف في البلد المنقول إليه، طالبه بمثله حيث ظفر به من البلدين لتوجه الطلب عليه برد العين في الموضعين. فإن فقد المثل، غرمه (قيمة) أكثر البلدين قيمة. ولو اتلف مثليا أو غصبه وتلف عنده في بلد، ثم ظفر به في آخر، هل له مطالبته بالمثل ؟ فيه ثلاثة أوجه. الصحيح الذي قطع به الاكثرون: إن كان مما لا مؤنة لنقله كالدراهم والدنانير، فله المطالبة بالمثل، وإلا، لم يكن له طلب المثل، وللغارم تكليفه قبوله لما فيه من الضرر، وللمالك أن يغرمه قيمة بلد التلف، فإن تراضيا على المثل، لم يكن له تكليفه مؤنة النقل. والوجه الثاني: بطالبه بالمثل. وإن لزمت مؤنة وزادت القيمة كما لو أتلف مثليا في وقت الرخص، له طلب المثل في الغلاء. والثالث: إن كانت قيمة ذلك البلد لا تزيد على قيمة بلد التلف، طالبه بالمثل، وإلا، فلا. وإذا قلنا بالمنع، فأخذ القيمة، ثم اجتمعا في(4/112)
بلد التلف، هل للمالك رد القيمة وطلب المثل ؟ وهل لصاحبه استرداد القيمة وبذل المثل ؟ فيه الوجهان فيما لو غرم القيمة لاعواز المثل. ولو نقل المغصوب المثلي إلى بلد، وتلف هناك، أو أتلفه ثم ظفر به المالك في بلد ثالث وقلنا: إنه لا يطالب بالمثل في غير موضع التلف، فله أخذ قيمة أكثر البلدين قيمة. وأما إذا اختلف الزمان، فله المطالبة بالمثل وإن زادت القيمة، وليس له إلا ذلك وإن نقصت القيمة. هذا كله إذا لم يخرج المثل باختلاف الزمان والمكان عن أن يكون له قيمة ومالية. فأما إن خرج بأن أتلف ماءه في مفازة، ثم أجتمعا علي شط نهر أو في بلد، أو أتلف عليه الجمد في الصيف واجتمعنا في الشتاء، فليس للمتلف بذل المثل، بل عليه قيمة المثل في مثل تلك المفازة، (وفي الصيف، وإذا غرم القيمة ثم اجتمعا في مثل تلك المفازة) أو في الصيف، فهل يثبت التراد ؟ فيه وجهان. وأما المسلم إليه والمقترض، إذا ظفرا به المالك في بلد آخر، ففي مطالبته كلام سبق في كتاب السلم. قلت: ولو قال المستحق: لا آخذ القيمة بل أنتظر وجود المثل، فله ذلك، نقله في البيان، ويحتمل أن يجئ فيه الخلاف في أن صاحب الحق إذا امتنع من قبضه، هل يجبر، ويمكن الفرق. ولو لم يأخذ القيمة حتى وجد المثل تعين قطعا. والله أعلم(4/113)
فصل الذهب والفضة، إن كانا مضروبين، فقد سبق أنهما مثليان، وإلا، فإن كان فيهما صنعة بأن أتلف حليا وزنه عشرة وقيمته عشرون، فأربعة أوجه. أحدها: يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها، سواء كان ذلك نقد البلد، أم لا، لانا لو ضمناه الجميع بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا. والثاني: يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بنقد البلد، كما لو أتلف الصنعة وحدها بكسر، يضمن بنقد البلد، سواء كان من جنس المكسور، أم لا. والثالث: يضمن الكل بغير جنسه تحرزا عن الفاضل، وعن اختلاف الجنس في أحد الطرفين. والرابع، وهو أصحها: يضمن الجميع بنقد البلد وإن كان من جنسه، ولا يلزم من ذلك الربا، فإنه إنما يجري في العقود لا في هذه الغرامات، هكذا نقل الجمهور، وأحسن منه ترتيب البغوي، وهو أن صنعة الحلي متقومة، وفي ذاته الوجهان السابقان في التبر. فإن قلنا: متقوم، ضمن الكل بنقد البلد كيف كان، وإن قلنا: مثلي، فوجهان. أحدهما: يضمن الجميع بغير جنسه. وأصحهما: يضمن الوزن بالمثل، والصنعة بنقد البلد، سواء كان من جنسه، أم من غيره. ولو أتلف إناء من ذهب أو فضة، فإن جوزنا اتخاذه، فهو كما لو أتلف حليا، وإن منعناه، فهو كاتلاف ما لا صنعة له. ولو أتلف ما لا صنعة فيه كالتبر والسبيكة. فإن قلنا: هو مثلي، ضمن مثله، وإلا، فوجهان. أحدهما: يضمن قيمته ينقد البلد، سواء كان من جنسه، أم لا كسائر المتقومات. والثاني: أن الجواب كذلك، إلا إذا كان نقد البلد من جنسه، وكانت القيمة تزيد على الوزن، فحينئذ يقوم بغير الجنس ويضمن به، وهذا اختيار العراقيين.
فصل إذا تغير المغصوب، فقد يكون متقوما ثم يصير مثليا، وعكسه، ومثليا فيهما، ومتقوما فيهما. الحال الاول: كمن غصب رطبا وقلنا: إنه متقوم فصار تمرا، ثم تلف عنده، فوجهان. أحدهما، وبه قطع العراقيون: يضمن مثل التمر، لانه أقرب إلى الحق، وأشبههما، وبه قطع البغوي: إن كان الرطب أكثر قيمة، لزمه قيمته لئلا تضيع الزيادة، وإن كان التمر أكثر أو استويا، لزمه المثل، واختار الغزالي أنه يتخير بين مثل التمر وقيمة الرطب.(4/114)
الحال الثاني: كمن غصب حنطة فطحنها، وتلف الدقيق عنده أو جعله خبزا وأتلفه، وقلنا: لا مثل للدقيق والخبز، أو تمرا واتخذ منه خلا بالماء، فعلى قول العراقيين: يضمن المثل وهو الحنطة والتمر، وعلى ما قطع به البغوي: إن كان المتقوم أكثر قيمة، غرمها، وإلا فالمثل، وعن القاضي حسين: يغرم أكثر القيم، وليس للمالك مطالبته بالمثل. فعلى هذا، إذا قيل: من غصب حنطة في الغلاء فتلف المغصوب عنده، ثم طالبه المالك في الرخص، فهل يغرمه المثل أو القيمة، لم يصح إطلاق الجواب بواحد منهما، بل الصواب أن يقال: إن تلفت وهي حنطة، غرم المثل. وإن صار إلى حالة التقويم ثم تلف، فالقيمة. الحال الثالث: كمن غصب سمسما فاتخذ منه شيرجا ثم تلف عنده، قال العراقيون والغزالي: يغرمه المالك ما شاء منهما. وقال البغوي: إن كان قيمة أحدهما أكثر، غرم مثله، وإلا، فيتخير المالك ما شاء منهما. الحال الرابع: يجب فيه أقصى القيم. فرع إذا لزمه المثل، لزمه تحصيله إن وجده بثمن المثل. فإن لم يجده إلا بزيادة، فوجهان. أصحهما عند البغوي، والروياني: يلزمه المثل، لان المثل كالعين، ويجب رد العين وإن لزم في مؤنته أضعاف قيمته. وأصحهما عند آخرين، منهم الغزالي: لا يلزمه تحصيله، لان الموجود بأكثر من ثمنه كالمعدوم، كالرقبة، وماء الطهارة، ويخالف العين، فانه تعدى فيها دون المثل. قلت: هذا الثاني أصح، وقد صححه أيضا الشاشي. والله أعلم.
فصل غصب متقوما فتلف عنده، لزمه أقصى قيمته من يوم غصبه إلى تلفه، وتجب قيمته من نقد البلد الذي تلف فيه، فلو كانت مائة فصارت مائتين،(4/115)
ثم عادت بالرخص إلى خمسين، ثم تلف، لزمه مائتان. ولو تكرر ارتفاع السعر وانخفاضه، لم يضمن كل زيادة، وإنما يضمن الاكثر، ولا أثر لارتفاع السعر بعد التلف قطعا. ولو أتلف متقوما بلا غصب، لزمه قيمته يوم الاتلاف. فإن حصل التلف بتدرج وسراية، واختلفت قيمته في تلك المدة بأن جنى على بهيمة قيمتها مائة يومئذ، ثم هلكت وقيمة مثلها خمسون، فقال القفال: يلزمه المائة، لانا إذا أعتبرنا الاقصى في اليد العادية، ففي نفس الاتلاف أولى. فرع لو لم يهلك المغصوب، لكن أبق، أو غيبه الغاصب، أو ضلت الدابة، أو ضاع الثوب، فللمالك أن يضمنه القيمة في الحال للحيلولة. والاعتبار بأقصى القيم من الغصب إلى المطالبة، وليس للغاصب أن يلزمه قبول القيمة، لان قيمة الحيلولة ليست حقا ثابتا في الذمة حتى يجبر على قبوله، أو الابراء منه، بل لو أبرأه المالك عنها، لم ينفذ. وفي وجه: هي كالحقوق المستقرة، وهو شاذ. ثم القيمة المأخوذة، يملكها المالك كما يملك عند التلف، وينفذ تصرفه فيها، ولا يملك الغاصب المغصوب، فإذا ظفر بالمغصوب، فللمالك استرداده ورد القيمة، وللغاصب رده واسترداد القيمة. وهل له حبس المغصوب إلى أن يستردها ؟ حكى القاضي حسين عن نص الشافعي رضي الله عنه: أن له ذلك، كما حكى ثبوت الحبس للمشتري في الشراء الفاسد لاسترداد الثمن، لكن سبق في البيع ذكر الخلاف في ثبوت الحبس للمشتري، وذكرنا أن الاصح: المنع، ويشبه أن يكون حبس الغاصب في معناه، والمنع هو اختيار الامام في الموضعين. وإذا كانت الدراهم المبذولة بعينها باقيه في(4/116)
يد المالك، فللشيخ أبي محمد تردد في أنه هل يجوز للمالك إمسأكها وغرامة مثلها، أم لا. قلت: الاقوى: أنه لا يجوز. والله أعلم ولو اتفقا على ترك التراد، فلا بد من بيع ليصير المغصوب للغاصب، ثم التضمين للحيلولة، لا يختص بالمتقومات، بل يثبت في كل مغصوب خرج من اليد وتعذر رده. قلت: قد حكى صاحب البيان عن القفال: أن المالك لا يملك القيمة المأخوذة للحيلولة، بل ينتفع به على ملك الغاصب، لئلا يجتمع في ملكه البدل والمبدل، وهذا شاذ ضعيف نبهت عليه لئلا يغتر به قال في البيان: ولو ظهر على المالك دين مستغرق، فالغاصب أحق بالقيمة التي دفعها، لانها عين ماله. وإن تلفت في يد المالك، رجع الغاصب بمثلها. وإن كانت باقية زائدة، رجع في زيادتها المتصلة دون المنفصلة. قال القاضي أبو الطيب، والجرجاني: هذا إذا تصور كون القيمة مما يزيد. والله أعلم فرع سبق أن منافع المغصوب مضمونة. فلو كانت الاجرة في مدة الغصب متفاوتة، فثلاثة أوجه حكاها القاضي أبو سعد بن أبي يوسف. أصحها: يضمن في كل بعض من أبعاض المدة بأجرة مثلها فيه. والثاني: كذلك إن كانت الاجرة في أول المدة أقل فإن كانت في الاولى أكثر، ضمنها بالاكثر في جميع المدة، لانه لو(4/117)
كانت العين في يده، فربما يكريها بها في جميع المدة. والثالث: بالاكثر في جميع المدة مطلقا، وهو ضعيف.
فصل زوائد المغصوب، منفصلة كانت، كالولد والثمرة والبيض، أو متصلة، كالسمن وتعلم الصنعة، مضمونة على الغاصب كاأصل، سواء طلبه المالك بالرد، أم لا.
الطرف الرابع : في الاختلاف، وفيه مسائل. الاولى: ادعى الغاصب تلف المغصوب، وأنكر المالك. فالصحيح أن القول قول الغاصب مع يمينه، وقيل: قول المالك بيمينه، فعلى الصحيح، إذا حلف الغاصب، هل للمالك تغريمه المثل أو القيمة ؟ وجهان. أشحهما: نعم. الثانية: اتفقا على الهلاك واختلفا في قيمته، صدق الغاصب لان الاصل براءته، وعلى المالك البينة، وينبغي أن يشهد الشهود أن قيمته كذا، أما إذا أراد إقامة البينة على صفات العبد ليقومه المقومون بتلك الصفات ففي قول: يقبل ويقوم بالاوصاف، وينزل على أقل الدرجات كالسلم، والمشهور: المنع، للتفاوت. قال الامام: لكن يستفيد المالك بالبينة على الاوصاف إبطال دعوى الغاصب مقدارا حقيرا لا يليق بتلك الصفات، ويصير كما لو أقر الغاصب بصفات في العبد تقتضي النفاسة، ثم قومه بحقير لا يليق بها، لا يلتفت إليه، بل يؤمر بالزيادة إلى أن يبلغ حدا يجوز أن يكون قيمة لمثل ذلك الموصوف. ولو قال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: بل خمسمائة، وجاء المالك(4/118)
ببينة أنها أكثر من خمسمائة من غير تقدير، فقيل: لا تسمع هكذا، والاكثرون سمعوها، قالوا: وفائدة السماع أن يكلف الغاصب زيادة على خمسمائة إلى حد لا يقطع البينة بزيادة عليه، ولو قال المالك: لا أدري كم قيمته، لم تسمع دعواه حتى يبين. وكذا لو قال الغاصب: أعلم انه دون ما ذكره، ولا أعرف قدره، لم تسمع حتى يبين، فإذا بين حلف عليه. الثالثة: قال المالك: كان العبد كاتبا أو محترفا، فأنكر الغاصب، فالصحيح أن القول قول الغاصب، وقيل: قول المالك، لانه أعرف بملكه. ولو ادعى الغاصب به عيبا وأنكر المالك، نظر، إن ادعى عيبا حادثا فقال: كان أقطع أو سارقا، ففي المصدق قولان، أظهرهما: المالك. وإن ادعى عيبا خلقيا، فقال: كان أكمه أو ولد أعرج أو عديم اليد، فالمصدق الغاصب على الصحيح، لان الاصل العدم، ويمكن المالك البينة. والثاني: يصدق المالك نظرا إلى غلبة السلامة. والثالث: يفرق بين ما يندر من العيوب وغيره. الرابعة: رد المغصوب وبه عيب، وقال: غصبته هكذا، وقال المالك: حدث العيب عندك، صدق الغاصب، قاله المتولي. قلت: وقاله ابن الصباغ أيضا، ونقله في البيان. والله أعلم الخامسة: تنازعا في الثياب التي على العبد، صدق الغاصب، لثبوت يده. السادسة: قال: غصبت داري بالكوفة، فقال: غصبتها بالمدينة، فالقول قول المدعى عليه أنه لم يغصب بالكوفة. وأما دار المدينة، فإن وافقه المدعي عليها، ثبتت، وإلا، فيبطل إقراره بها، لتكذيبه. قلت: ومثله لو قال: غصبت مني عبدا فقال: بل جارية، ونحو ذلك. والله أعلم(4/119)
السابعة: غصب خمرا محترمة فهلكت عنده، فقال المغصوب منه: هلكت بعد التخلل، فقال الغاصب: قبله، صدق الغاصب. الثامنة: قال: طعامي الذي غصبته كان جديدا، فقال الغاصب: بل عتيقا، صدق الغاصب بيمينه. فإن نكل، حلف المالك، ثم له أخذ العتيق لانه دون حقه. التاسعة: باع عبدا فجاء زيد وأدعى أنه ملكه وأن البائع كان غصبه منه، فلا شك أن له دعوى عين العبد على المشتري. وفي دعواه القيمة على البائع ما ذكرناه في الاقرار. فإن ادعى العين على المشتري فصدقه، أخذ العبد منه، ولا رجوع له بالثمن على البائع. وإن كذبه المشتري، فأقام زيد بينة، أخذه ورجع المشتري بالثمن على البائع. وإن لم يقم بينة ونكل المشتري، حلف زيد وأخذه، ولا رجوع للمشتري بالثمن، لتقصيره بالنكول. وإن صدقه البائع دون المشتري، لم يقبل إقرار البائع على المشتري ويبقى البيع بحاله، إلا أن يكون إقراره بالغصب في زمن الخيار، فيجعل ذلك فسخا للبيع. ثم لو عاد العبد إلى البائع بارث أو رد بعيب، لزمه تسليمه إلى زيد. وإن صدقه البائع والمشتري جميعا، سلم العبد إلى زيد، وعلى البائع رد الثمن أو بدله إن كان تالفا. ولو جاء المدعي بعدما أعتق المشتري العبد وصدقه البائع والمشتري، لم يبطل العتق، سواء وافقهما العبد أو خالفهما، لان في عتقه حقا لله تعالى، بخلاف ما لو كاتبه المشتري، ثم توافقوا على تصديق المدعي، لان الكتابة قابلة للفسخ. وللمدعي في مسألة الاعتاق قيمة العبد على البائع جن اختص بتصديقه، وإذا أوجبنا الغرم للحيلولة فيما إذا أقر به لزيد ثم لعمرو، وعلى المشتري إن اختص بتصديقه،(4/120)
وعلى من شاء منهما إن صدقاه جميعا. وقرار الضمان على المشتري، إلا أن تكون القيمة في يد البائع أكثر، فلا يطالب المشتري بالزيادة. ولو مات المعتق وقد كسب مالا، فهو للمدعي، لان المال خالص حق آدمي، وقد توافقوا أنه مستحقه، بخلاف العتق، كذا أطلقوه. قال الامام: وهو محمول على كب يستقل به العبد، فأما كسب يحتاج إلى إذن السيد، فلا يستحقه المدعي، لاعترافه بخلوه عن الاذن. قلت: ولو ادعى الغاصب رد المغصوب حيا وأقام به بينة، فقال المالك: بل مات عندك وأقام به بينة، تعارضت البينتان وسقطتا، وضمن الغاصت، لان الاصل بقاء الغصب. ولو قال: غصبنا من زيد ألفا، ثم قال: كنا عشرة أنفس، وخالفه زيد، قال في البيان: قال بعض أصحابنا: القول قول الغاصب بيمينه، لان الاصل براءته مما زاد. والله أعلم.
الباب الثاني : في الطوارئ على المغصوب فيه ثلاثة أطراف.
الأول : في النقص، وهو ثلاثة أقسام. الاول: نقص القيمة فقط، كمن غصب ما يساوي عشرة، فرده بحاله وهو يساوي درهما، فلا شئ عليه، وقال أبو ثور: يلزمه نقص القيمة، ووافقه بعض أصحابنا، وهذا شاذ. القسم الثاني: نقص القيمة والاجزاء، فالجزء الفائت، مضمون بقسطه من قصى القيم من الغصب إلى التلف، والنقص الحاصل بتفاوت السعر في الباقي المردود غير مضمون.(4/121)
مثاله: غصب ثوبا قيمته عشرة، فعادت بالرخص إلى درهم، ثم لبسه فأبلاه حتى عادت إلى نصف درهم، يرده مع خمسة دراهم، لان بالاستعمال انسحقت أجزاء من الثوب، وتلك الاجزاء في هذه الصورة، نصف الثوب، فيغرم النصف بمثل نسبته من أقصى القيم كما يغرم الكل عند تلفه بالاقصى. ولو كانت القيمة عشرين وعادت بانخفاض السعر إلى عشرة، ثم لبسه وأبلاه فعادت إلى خمسة، لزمه مع رده عشرة. ولو كانت عشرة فعادت بالانخفاض إلى خمسة، ثم لبسه فأبلاه حتى عادت إلى درهم، لزمه مع رده ستة، لانه تلف بالاستعمال ثلاثة أخماس الثوب، فيغرمها بثلاثة أخماس أقصى القيم. قال الشيخ أبو علي: وأخطأ بعضهم فقال: يلزمه ثلاثة لانها الناقصة بالاستعمال، وقياس قول هذا: أن يلزم في الصورة الاولى نصف درهم، وفي الثانية خمسة. ولو غصبه وقيمته عشرة فعاد بالاستعمال إلى خمسة، ثم انخفض السعر فعادت إلى درهمين فرده، لزمه مع الرد الخمسة الناقصة بالاستعمال، ولا يضمن النقصان الحاصل في البالي المردود. ولو غصب ثوبا قيمته عشرة، فلبسه وأبلاه حتى عادت إلى خمسة، ثم ارتفع السعر فصارت قيمته وهو بال عشرة قال ابن الحداد، وبعض الاصحاب: يغرم مع رد الثوب عشرة، لان الباقي من الثوب نصفه وهو يساوي عشرة. وقال الجمهور: لا يغرم مع رده إلا الخمسة الناقصة بالاستعمال، ولا عبرة بالزيادة الحاصلة بعد التلف. قال الامام: والصفات كالاجزاء في هذا كله، حتى لو غصب عبدا صانعا قيمته مائة، فنسي الصنعة وعادت قيمته إلى خمسين، ثم ارتفع السعر فبلغت قيمته ناسيا مائة، وقيمة مثله يحسن الصنعة مائتين، لا يغرم مع رده إلا خمسين. ثم الجواب في صور إبلاء الثوب (كلها) مبني على أن أجرة مثل المغصوب لازمة مع أرش النقص الحاصل بالاستعمال، وهو الاصح. وسبق وجه: أنه لا يجمع بينهما. فعلى ذلك(4/122)
الوجه: الواجب أكثر الامرين من المقادير المذكورة وأجرة المثل. ولو اختلف المالك والغاصب في قيمة الثوب الذي أبلاه، فقال المالك: زاد تقبل الابلاء فأغرم التالف بقسطه (منها)، وقال الغاصب: (بل) زادت بعده، قال ابن سريج: المصدق الغاصب. القسم الثالث: نقص الاجزاء والصفات وحدها، وسنذكر حكمه في الصور الاتية إن شاء الله تعالى.
فصل النقص الحادث في المغصوب، ضربان. أحدهما: ما لا سراية له، فعلى الغاصب أرشه ورد الباقي، ولا فرق بين أن يكون الارش قدر القيمة كقطع يدي العبد أو دونها، ولا بين أن تفوت معظم منافعه، أو لا تفوت، ولا بين أن يبطل بالجناية عليه الاسم الاول كذبح الشاة وطحن الحنطة، وتمزيق الثوب، أو لا يبطل. فلو أراد المالك ترك الناقص عند الغاصب وتغريمه بدله، لم يكن له ذلك، لانه عين ملكه. وفي وجه: إذا طحن الطعام، فله تركه وطلب المثل، لانه أقرب إلى حقه من الدقيق. الضرب الثاني: ما له سراية، لا يزال يسري إلى الهلاك الكلي، كما لو بل الحنطة وتمكن فيها العفن الساري، أو اتخذ منها هريسة، أو غصب سمنا وتمرا ودقيقا وعمله عصيدة، وفيه نصوص وطرق مختلفة تجمعها أربعة أقوال منصوصة. أظهرها عند العراقيين: يجعل كالهالك ويغرم بدل كل مغصوب من مثل أو قيمة. والثاني: يرده مع أرش النقص، وليس للمالك إلا ذلك، واختاره الامام،(4/123)
والبغوي. والثالث: يتخير المالك بين موجب القولين، واختاره الشيخ أبو محمد، والمسعودي. والرابع: يتخير الغاصب بين أن يمسكه ويغرمه، وبين أن يرده مع أرش النقص. قلت: رجح الرافعي في المحرر الاول أيضا. والله أعلم فعلى الاول: لمن تكون الحنطة المبلولة ؟ وجهان نقلهما المتولي. أحدهما: تبقى للمالك كما لو نجس زيته وقلنا: لا يطهر بالغسل، فإن المالك أولى به. والثاني: يصير للغاصب. وإذا حكمنا بالارش مع الرد، غرم أرش عيب سار. قال المتولي: فإن رأى الحاكم أن يسلم الجميع إليه، فعل، وإن رأى يسلم أرش النقص المتحقق إليه في الحال ووقف الزيادة إلى أن تتيقن نهايته. وفي هذا نظر، لان المفهوم من أرش العيب السراي أرش عيب شأنه السراية، وهو حاصل في الحال. أما المتولد منه، فيجب قطع النظر عنه، إذ الكلام في نقص لا تقف سرايته إلى الهلاك. فلو نظرنا إلى المتولد منه، لانجر إلى تمام القيمة، وهو عود إلى القول الاول، وقد بين ما قلناه أبو خلف السلمي في شرح المفتاح فقال في قول التخيير: إن شاء المالك غرمه ما نقص إلى الان، ثم لا شئ له في زيادة فساد حصل بعد ذلك، وإن شاء تركه له وطالبه بجميع البدل. فرع من صور هذا الضرب ما إذا صب الماء في الزيت وتعذر تخليصه منه، فأشرف على الفساد. وعن الشيخ أبي محمد تردد في مرض العبد المغصوب إذا كان ساريا عسر العلاج، كالسل والاستسقاء، ولم يرضه الامام، لان المريض المأيوس منه، قد يبرأ، والعفن المفروض في الحنطة يفضي إلى الفساد قطعا. قلت: ولو عفن الطعام في يده لطول المكث، فطريقان. قال الشيخ أبو حامد: هو كبل الحنطة. وقال القاضي أبو الطيب: يتعين أخذه مع الارش قطعا،(4/124)
واختاره ابن الصباغ، وهو الاصح. والله أعلم.
فصل في جناية العبد المغصوب، والجناية عليه أما جنايته، فينظر إن جنى جناية توجب القصاص، واقتص منه في يد الغاصب، غرم الغاصب أقصى قيمه من الغصب إلى القصاص. وإن جنى بما يوجب قصاصا في الطرف، واقتص منه في يده، غرم بدله، كما لو سقط بآفة سماوية. ولو اقتص منه بعد الوفاء إلى السيد، يلزم الغاصب أيضا، وكذا الحكم لو ارتد أو سرق في يد الغاصب، ثم قتل أو قطع بعد الرد إلى المالك. ولو غصب مرتدا أو سارقا فقتل، أو قطع في يد الغاصب، فهل يضمنه الغاصب ؟ وجهان، كمن اشترى مرتدا أو سارقا فقتل، أو قطع في يده، فمن ضمان من يكون القتل أو القطع ؟ أما إذا جنى المغصوب على نفس أو مال جناية توجب المال متعلقا برقبته، فعلى الغاصب تخليصه بالفداء. وبماذا يفديه ؟ فيه طريقان. المذهب: أنه يفديه بأقل الامرين من الارش وقيمة العبد. وقال الامام: فيه قولان. أحدهما: هذا. والثاني: بالارش وإن زاد كالقولين فيما إذا أراد السيد فداء الجاني. وإذا ثبت أن الجاني والجناية مضمونان على الغاصب، لم يخل، إما أن يتلف الجاني في يد الغاصب، وإما أن ير ده. فإن تلف في يده، فللمالك تغريمه أقصى القيم. فإذا أخذها، فللمجني عليه أن يغرم الغاصب إن لم يكن غرمه، وله أن يتعلق بالقيمة التي أخذها المالك، لان حقه كان متعلقا بالرقبة فيتعلق ببدلها كما إذا تلف المرهون كانت قيمته رهنا. وفي وجه: لا مطالبة للمجني عليه بما أخذه المالك. والصحيح: الاول. فإذا أخذ المجني عليه حقه في تلك القيمة، رجع المالك بما أخذه على الغاصب. ولو كان العبد يساوي ألفا، فرجع بانخفاض السعر إلى خمسمائة، ثم جنى ومات عند الغاصب، فغرمه المالك الالف، لم يكن للمجني عليه إلا خمسمائة وإن كان أرش الجناية ألفا فأكثر، لانه ليس له إلا قدر قيمته يوم الجناية وإن رد العبد إلى(4/125)
المالك، نظر، إن رده بعدما غرم للمجني عليه، فذاك، وإن رد قبله فبيع في الجناية، رجع المالك على الغاصب بما أخذ منه، لان الجناية حصلت حين كان مضمونا عليه، بخلاف ما إذا جنى في يد المالك ثم غصبه رجل ورده ثم بيع في تلك الجناية، فإنه لا يرجع المالك بشئ، لان الجناية حصلت وهو غير مضمون عليه. وفرعابن الحداد وغيره على ذلك فقالوا: إذا جنى في يد المالك جناية تستغرق قيمته، ثم غصب وجنى في يد الغاصب جناية مستغرقة. ثم رده المالك، ثم بيع في الجنايتين وقسم الثمن بينهما نصفين، يرجع المالك على الغاصب بنص قيمة العبد. ولو كان الفرع بحاله، وتلف العبد بعد الجنايتين في يد الغاصب، فله طلب القيمة من الغاصب، وللمجني عليهما أخذها، فإذا أخذاها، فللمالك الرجوع بنصفها على الغاصب، لانه أخذ منه نصفها بجناية في يد الغاصب، فإذا رجع به، فللمجني عليه الاول أخذه، لانه بدل ما تعلق به حقه قبل الجناية الثانية. وإذا أخذه لم يكن له الرجوع على الغاصب مرة أخرى، لانه مأخوذ بجناية غير مضمونة على الغاصب. هذا هو الصحيح في الصورتين. وقيل: إذا رد العبد وبيع في الجناية، فالنصف الاول يرجع به المالك ويسلم له ولا يؤخذ منه، وإنما يطالب المجني عليه الاول الغاصب بنصف القيمة. وإذا تلف في يد الغاصب بعد الجنايتين، لا يأخذ المالك شيئا، ولكن المجني عليه الاول يطالب الغاصب بتمام القيمة، والمجني عليه الثاني، يطالبه بنصف القيمة. ولو جنى المغصوب في يد الغاصب أولا، ثم رده إلى المالك فجنى في يده أخرى، وكل واحد منهما تستغرق القيمة، فبيع فيهما وقسم الثمن بينهما، فلل مالك الرجوع على الغاصب بنصف القيمة للجناية التي هي مضمونة عليه. قال الشى أبو علي: سمعت القفال مرة يقول: ليس لواحد من المجني عليهما أخذ هذا النصف من المال. أما الثاني، فلان الجناية عليه مسبوقة بجناية مستغرقة، وحقه لم يثبت إلا في نصف القيمة وقد أخذه. وأما الاول، فلان حق السيد يثبت في القيمة بنفس الغصب، وهو متقدم على(4/126)
حق المجني عليه، فما لم يصر حقه إليه، لا يرجع إلى غيره شئ. قال أبو علي: ليس هذا بشئ، بل للمجني عليه الاول أخذه كما في الجناية السابقة، ولا عبرة بثبوت حق السيد في القيمة، فإن حقه وإن تقدم، فحق المجني عليه مقدم كما في الرقبة. قال: وناظرت القفال فيه، فرجع إلى قولي. وعلى هذا إذا أخذه المجني عليه الاول، رجع به المالك على الغاصب مرة أخرى، ويسلم له المأخوذ ثانيا، لان الاول أخذ تمام القيمة، والثاني لم يتعلق حقه إلا بالنصف وقد أخذه. ولو جنى في يد الغاصب ثم في يد المالك كما صورناه، ثم قتله الغاصب أو غصبه ثانيا فمات عنده، أخذت القيمة منه وقسمت بين المجني عليهما، ثم للمالك أن يأخذ منه نصف القيمة، لانه أخذ منه بسبب جناية مضمونة عليه. فإذا أخذه كان للمجني عليه الاول أن يأخذه منه، ثم له أن يرجع به على الغاصب مرة أخرى ويسلم له المأخوذ في هذه المرة، وقد غرم الغاصب والحالة هذه القيمة مرتين، مرة بجناية العبد في يده، ومرة بالقتل. أما الجناية عليه، فإن قتل، نظر، إن وجب القصاص بأن كان القاتل عبدا والقتل عمدا، فللمالك القصاص. فإذا اقتص، برئ الغاصب، لانه أخذ بدل حقه، ولا نظر مع القصاص إلى تفاوت القيمة، كما لا نظر في الاحرار إلى تفاوت الدية. وإن لم يجب القصاص. فإن كان الجاني حرا، لزمه للجناية قيمته يوم القتل، سواء قتله الغاصب أو أجنبي، والمالك بالخيار، بين أن يطالب بها الغاصب، أو الجاني، لكن القرار على الجاني. ثم إن كانت قيمته قبل يوم القتل أكثر، ونقصت في يد الغاصب، لزمه ما نقص بحكم اليد. وإن كان الجاني عبدا، فإن سلمه سيده مبيع في الجناية، نظر، إن كان الثمن مثل قيمة المغصوب، أخذه ولا شئ له على الغاصب إلا إذا كانت قيمته قد نقصت عنده قبل القتل. وإن كان الثمن أقل، أخذ الباقي من الغاصب. وإن اختار سيده فداه، فإن قلنا: يفديه بالارش، أخذه ولا شئ له على الغاصب إلا على التقدير المذكور. وإن قلنا: يفدي بالاقل من الارش والقيمة، فإن كانت قيمة المغصوب أكثر من قيمة الجاني، فالباقي على الغاصب، وإن كانت أقل أو مثلها، أخذها المالك ولا شئ له على الغاصب إلا على التقدير المذكور. ولو اختار المالك تغريم الغاصب ابتداء، فله ذلك، ويأخذ منه جميع قيمة الغصوب، ثم يرجع الغاصب على سيد الجاني بما(4/127)
غرم إلا ما لا يطالب به إلا الغاصب. هذا إذا كانت الجناية قتلا، فأما الجراحات، فاما أن يكون لها أرش مقدر في الحر، وإما لا، والواجب في الحالين، ما ذكرناه من قبل. وإذا كان الواجب ما نقص من قيمته بالجناية، كان المعتبر حال الاندمال، فإن لم يكن حينئذ نقص، لم يطالب بشئ. وإذا كان الواجب مقدرا من القيمة كالمقدر من الدية، فهل يؤخذ في الحال، أم يؤخذ في الا ندمال ؟ قولان، كما لو كانت الجناية على حر، وسيأتي (ذلك) في موضعه إن شاء الله تعالى. وإذا كان الجاني غير الغاصب وغرمناه المقدر من القيمة، وكان الناقص أكثر من ذلك القدر، فعى الغاصب ما زاد. وإن كان المقدر أكثر مما نقص من القيمة، فهل يطالب الغاصب بالزيادة على ما نقص ؟ ذكرنا فيما إذا سقطت يده بآفة: أن الاصح: أنه لا يطالب. وهنا الاصح: أنه يطالب، والقرار على الجاني. واختلفوا فيما لو قطعت يده قصاصا أو حدا، لانه يشبه السقوط بآفة من حيث أنه تلف لا بدل له، ويشبه الجناية من حيث حصوله بالاختيار. فرع لو اجتمعت جناية المغصوب والجناية عليه، بأن قتل إنسانا، ثم قتله في يد الغاصب عبد رجل، فللمغصوب منه أن يقتص ويسقط به الضمان عن الغاصب، ويسقط حق ورثة من قتله المغصوب، لان العبد الجاني إذا هلك (و) لم يحصل له عوض، يضيع حق المجني عليه، لكن لو كان المغصوب قد نقص عند الغاصب بحدوث عيب بعدما جنى، لم يبرأ الغاصب من أرش ذلك النقص، ولولي من قتله التمسك به، وإن حدث العيب قبل جنايته، فاز المغصوب منه بالارش. فلو لم يقتص المغصوب منه، بل عفا على مال، أو كانت الجانية موجبة للمال، فحكم تغريمه وأخذه المال على ما سبق في الجناية عليه من غير جناية منه. ثم إذا أخذ المال كان لورثة من جنى عليه هذا العبد التعلق به، لانه بدل الجاني على مورثهم. فإذا أخذوه، رجع به المغصوب منه على الغاصب مرة أخرى، لانه أخذ (منه) بسبب(4/128)
جناية مضمونة عليه، ويسلم المأخوذ ثانيا كما سبق نظيره. قلت: ومما يتعلق بالفصل، لو وثب العبد المغصوب فقتل الغاصب، وهرب إلى سيده، فإن كانت الجناية عمدا، قال الصيمري: إن عفا ورثة الغاصب عن القصاص والدية، سقط الضمان عن الغاصب في المال. وإن قتلوه، لزمهم قيمة العبد في التركة، وكأنهم لم يسلموه، وكذا لو طلبوا الدية من رقبته. وإن قتل المغصوب سيده وهو في يد الغاصب، فالصحيح الذي قطع به الشيخ أبو حامد: أن لورثة المالك أن يقتصوا منه، وإذا قتلوه، استحقوا قيمته من الغاصب. وحكى في البيان وجها: أن جنايته تكون هدرا. ولو صال العبد المغصوب أو الجمل المغصو ب على رجل، فقتله المصول عليه للدفع، فلا ضمان عليه، ويجب ضمانه على الغاصب، ولا يرجع على المصول عليه. والله أعلم.
فصل نقل التراب من الارض المغصوبة، تارة يكون من غير إحداث حفر، ككشط وجهها، وتارة باحداثها كحفر بئر أو نهر. ففي الحالة الاولى، للمالك إجباره على رده إن كان باقيا. فإن تلف وانمحق بهبوب الريح أو السيول، أجبره على رد مثله إليه، وعليه إعادة وضعه وهيئته كما كان من انبساط أو ارتفاع. وإن لم يطالبه المالك بالرد، نظر، إن كان له غرض، بأن دخل الارض نقص يرتفع بالرد ويندفع عنه الارش، أو نقله إلى ملكه وأراد تفريغه، أو إلى ملك غيره، أو شارع يخاف من التعثر به الضمان، فله الاستقلال بالرح. وإن لم يكن شئ من ذلك، بأن نقله إلى موات، أو من أحد طرفي الارض المغصوبة إلى الطرف الاخر، فإن منعه المالك من الرد، لم يرد، وإن لم يمنعه، فهل يفتقر الرد إلى إذنه ؟ وجهان بناء على الوجهين في أنه لو منعه فخالف ورد، هل للمالك تكليفه النقل ثانيا ؟ إن قلنا: لا، فله الرد بغير إذنه، وإلا، فلا، وهو الاصح. وإذا كان له غرض في الرد(4/129)
فرده، فمنعه المالك من بسطه، لم يبسطه وإن كان في الاصل مبسوطا. الحالة الثانية: إذا حفر بئرا فأمره المالك بطمها، لزمه، وإلا، فله أن يستقل به ليدفع عن نفسه خطر الضمان بالسقوط فيها. وقال المزني: لا يطم إلا بإذن المالك. فإن منعه وقال: رضيت باستدامة البئر، فإن كان للغاصب غرض (في الطم) سوى دفع ضمان السقوط، فله الطم، وإلا، فلا، في الاصح، ويندفع عنه الضمان لخروجه عن أن يكون جناية وتعديا. فلو لم يقل: رضيت باستدامتها، واقتصر على المنع من الطم، قال المتولي: هو كما لو صرح بالرضي، لتضمنه إياه. وقال الامام: لا يتضمنه. ولو طوى الغاصب البئر بآلة نفسه، فله نقلها، وللمالك إجباره عليه. فإن تركها ووهبها له، لم يلزمه القبول على الاصح. وحيث قلنا في الحالتين: يرد التراب إلى موضعه لوقوعه في ملكه، أو شارع، فذلك إذا لم يتيسر نقله إلى موات ونحوه في طريق الرد. فإن تيسر، لم يرد إلا باذن قاله الامام وذكر أنه إنما يستقل بالطم إذا بقي التراب الاول بعينه. أما إذا تلف، ففي الطم بغيره بغير إذن المالك وجهان. وينبغي أن يجئ هذا الخلاف في الحالة الاولى، وفيما إذا طلب المالك الرد والطم عند تلف ذلك (التراب)، والاصح فيهما جميعا، لانه لا فرق بين ذلك التراب وغيره، ثم إذا أعاد هيئة الارض في الحالين كما كانت، إما بطلب المالك، وإما دونه، نظر، إن لم يبق في الارض نقص، فلا شئ عليه، ولكن عليه اجرة المثل لمدة الحفر والرد، وإن بقي، لزمه أرشه مع الاجرة. هذا الذي ذكرناه من أول الفصل إلى هنا هو المذهب والذي يفتى به، ووراءه تصرف للاصحاب قالوا: نص هنا: أنه يجب أرش النقص الحاصل بالحفر، ولم يوجب التسوية لانه نص على ذلك فيما إذا غرس الارض المغصوبة ثم قلع بطلب المالك. ونص فيما إذا باع أرضا فيها أحجار مدفونة فنقلها: أنه يلزمه التسوى. فقيل قولان فيهما، وقيل بتقرير النصين، والفرق ضعيف. وكلام الغزالي يوهم ظاهره خلاف ما ذكرناه، فليتأول على ما بيناه.
فصل إذا خصي العبد المغصوب، فهو على قولين السابقين في جراح(4/130)
العبد. وهل يتقدر ؟ إن قلنا بالجديد: أنه يتقدر، لزمه كمال القيمة، وإلا، فالواجب ما نقص من القيمة، فان لم ينقص شئ عليه. ولو سقط ذلك العضو بآفة سماوية، ولم تنقص قيمته، ورده، فلا شئ عليه على القولين، لكن قياس الذي قدمناه في أنه يضمن بالتلف تحت اليد العادية كما يضمن الجناية: أنههلزمه كمال القيمة. فرع لو كان في الجارية المغصوبة سمن مفرط، فزال ورجعت إلى الاعتدال ولم تنقص قيمتها، لم يلزمه شئ، لان السمن ليس له مقدر، بخلاف الاثنيين.
فصل إذا غصب زيتا أو دهنا فأغلاه، فان نقصت عينه فقط، كمن غصب صاعين قيمتهما درهمان فصار بالاغلاء صاعا قيوته درهمان، فوجهان. أصحهما: يرده ويغرم مثل الصاع الذاهب. والثاني: يرده ولا شئ عليه. وإن نقصت قيمته فقط، رده مع الارش. وإن نقصا معا، وجب رد الباقي ومثل ما ذهب، إلا إذا كان ما نقص من القيمة أكثر مما نقص من العين، فيجب مع مثل الذاهب أرش نقص الباقي. وإن لم ينقص واحد منهما، رده ولا شئ عليه. ولو غصب عصيرا فأغلاه، فطريقتان. أحدهما: أنه كالزيت فيضمن مثل مثل الذاهب وإن لم تنقص قيمته على الاصح. وأصحها: لا، فلا يضمن مثل العصير الذاهب إذا لم تنقص قيمته، لان الذاهب مائيته، والذاهب من الزيت زيت. ويجري الخلاف في العصير إذا صار خلا ونقصت عينه دون قيمته، وفي الرطب إذا صار تمرا.(4/131)
فصل نقص الغصوب هل ينجبر بالكمال بعده ؟ ينظر، إن كان الكمال من الوجه الذي نقص به، كما لو هزلت الجارية ثم سمنت وعادت القيمة كما كانت، لم ينجبر على الاصح وقيل: لا ينجبر قطعا، ولو كان المغصوب يحسن صنعه فنسيها، ثم ذكرها أو تعلمها، انجبر على الاصح. وقيل: ينجبر قطعا، لان تذكر الصنعة لا يعد شيأ متجددا، بخلاف السمن. والثاني: ويجري الخلاف فما لوز كسر والاناء، ثم أعاد تلك الصنعة. قلت: الاصح هنا، إلحاق بالسمن، لا بتذكر الصنعة، لان هذه صنعة أخرى وهو تبرع بعلمه. والله أعلم وحيث قلنا بالانجبار، فلو لم يبلغ بالعائد القيمة الاولى، ضمن ما بقي من النقص وانجبر الباقي. أما إذا كان الكمال بوجه آخر، بأن نسي صنعة وتعلم أخرى، أو أبطل صنعة الحلي وأحدث أخرى، فلا انجبار بحال. وعلى هذا لو تكرر النقص وكان الناقص في كل مرة مغايرا للناقص في المرة الاخرى، ضمن الجميع. حتى لو غضب جارية قيمتها مائة، فسمنت وبلغت ألفا، وتعلمت صنعة وبلغت ألفين، ثم هزلت ونسيت الصنعة وعادت قيمتها مائة، يردها ويغرم ألفا وتسع مائة، وكذا لو علمه الغاصب سورة من القرآن، أو حرفة فنسيها،(4/132)
ثم علمه أخرى فنسيها أيضا، ضمنها. وإن لم يكن مغايرا، بأن علمه سورة واحدة، أو حرفة مرارا، وينسى قي كل مرة، فان قلنا: لا يحصل الانجبار بالعادة، ضمن نقصان جميع المرات، وإلا، ضمن أكثر المرات نقصا. فرع لو زادت فيه الجارية بتعلم الغناء، ثم نسيته، نقل الروياني عن النص: أنه لا يضمن النقص، لانه محرم، وإنما يضمن المباح. وعن بعض الاصحاب: أنه يضمنه. ولهذا لو قتل عبدا مغنيا، يغرم تمام قيمته. قال: وهو الاختيار. قلت: الاصح المختار: هو النص. وقد تقدم في فصل كسر الملاهي: أنه لا ضمان في صنعتها، لانها محرمة، وهذا لا خلاف فيه. وقد نص القاضي حسين وغيره، على أنه لو أتلف كبشا نطاحا، أو ديكا هراشا، لزمه قيمته بلا نطاح ولا هراش، لانها محرمة. والله أعلم. فرع مرض العبد المغصوب، ثم برأ وزال أثر المرض ورده، فلا شئ عليه على الصحيح. وقيل: يضمن نقص المرض ولا يسقط بالبرء، وكذا الحكم لو رده مريضا فبرأ وزال الاثر. فرع غصب شجرة فتحات ورقها، ثم أورقت، أو شاة فجز صوفها، ثم نبت، يغرم الاول قطعا، ولا ينجبر بالثاني، بخلاف ما لو سقط من الجارية المغصوبة ثم نبت، أو تمعط شعرها ثم نبت، فإنه ينجبر. قال البغوي: لان الورق والصوف متقومان، فغرمهما، وسن الجارية وشعرها غير متقومين، وإنما يغرم أرش النقص بفقدهما وقد زال.
فصل غصب عصيرا فتخمر عنده، كان للمغصوب منه تضمينه مثل العصير، لفوات المالية. قالوا: وعلى الغاصب إراقة الخمر. ولو جعلت محترمة، كما لو تخمرت في يد المالك بلا قصد الخمرية، لكان جائزا. فلو تخللت في يد(4/133)
الغاصب، فوجهان. أصحهما: أن الخل للمغصوب منه، وعلى الغاصب أرش النقص إن نقصت قيمة الخل عن العصير. والثاني: يغرم مثل العصير. وعلى هذا، في الخل وجهان. أحدهما: للغاصب، وأصحهما: للمغصوب منه، لانه فرع ملكه. ويجري هذا الخلاف، فيما لو غصب بيضة ففرخت عنده، أو بذرا فزرعه ونبت، أو بزر قز فصار قزا، فعلى الاصح: الحاصل للمالك، ولا غرم على الغاصب، إلا أن يكون الحاصل أنقص قيمة مما غصبه، لان المغصوب عاد زائدا إليه. وعلى الثاني: يغرم المغصوب لهلاكه، ويكون الحاصل للمالك على الاصح، وللغاصب على الآخر. فرع غصب خمرا فتخللت في يده، أو جلد ميتة فدبغه، فأربعة أوجه. أصحها: أن الخل والجلد للمغصوب منه. فعلى هذا إن تلف في يد الغاصب، ضمنه. والثاني: للغاصب. والثالث: الخل للمغصوب منه، والجلد للغاصب، لانه صار مالا بفعله. والرابع: عكسه، لان الجلد كان يجوز للمغصوب منه إمساكه، والخمر المحترمة كالجلد. وإذا قلنا: هما للمغصوب منه، فذلك إذا لم يكن المالك معرضا عن الخمر والجلد، فإن أراق الخمر، أو ألقى الشاة الميتة فأخذها رجل، فهل للمعرض استرداد الحاصل ؟ وجهان. قلت: الاصح: ليس له، وبه قطع الشيخ أبو حامد وغيره في الجلد. والله أعلم.
الطرف الثاني : في الزيادة، وهي آثار محضة وأعيان.(4/134)
أما الاثر، فالقول الجملي فيه: أن الغاصب لا يستحق بتلك الزيادة شيئا، لتعديه، ثم ينظر، إن لم يمكن رده إلى الحالة الاولى رده بحاله وأرش النقص إن نقصت قيمته، وإلا فإن رضي به المالك، لم يكن للغاصب رده إلى ما كان وعليه أرش النقص، إلا أن يكون له عرض في الرد إلى الحالة الاولى، فله الرد، وإن ألزمه المالك الرد إلى الحالة الاولى، لزمه ذلك وأرش النقص إن نقص عما كان قبل تلك الزيادة. فإذا تقرر ذلك، فمن صوره، طحن الحنطة، وقصارة الثوب وخياطته، وضرب الطين لبيا، وذبح الشاة وشيها. ولا يملك الغاصب المغصوب بشئ من هذه التصرفات، بل يردها مع أرش النقص إن نقصت القيمة. وإنما تكون الخياطة من هذا القسم، إذا خاط بخيط المالك. فإن خاط بخيط الغاصب، فستأتي نظائره إن شاء الله تعالى. ثم في الطحن والقصارة، والذبح، والشي، لا يمكن الرد إلى ما كان. وكذا في شق الثوب وكسر الاناء، ولا يجبر على رف ء الثوب وإصلاح الاناء، لانه لا يعود إلى ما كان، ولو غزل القطن، رد الغزل وأرش النقص إن نقص. ولو نسج الغزل، فالكرباس للمالك مع الارش إن نقص، وليس للمالك إجباره على نقضه إن لم ى مكن رده إلى الحالة الاولى ونسجه ثانيا، فإن أمكن، كالخز، فله إجباره. فإن نقضه ونقصت قيمته عن قيمة الغزل في الاصل، غرمه، ولا يغرم ما زاد بالنسج، لان المالك أمره بنقضه. فإذا نقضه بغير إذن المالك، ضمنه أيضا. ولو غصب نقرة وضربها دراهم، أو صاغها حليا، أو غصب نحاسا أو زجاجا فجعله إناء، فإن رضي المالك به، رده كذلك، ولم يكن له رده إلى الحالة الاولى، إلا أن يضرب الدراهم بغير إذن السلطان، أو على غير عياره، لانه حينئذ(4/135)
يخاف التغيير، وحيث منع من الرد إلى ما كان فخالف، فهو كاتلاف الزوائد الحاصلة عند الغصب. ولو أجبره المالك على رده إلى ما كان، لزمه. فإذا امتثل، لم يغرم النقصان الحاصل بزوال الصنعة، لكن لو نقص عما كان بما طرأ وزال، ضمنه. وأما الاعيان، فمن صورها صبغ الثوب. وتقدم عليه صورتين. إحداهما: إذا غصب أرضا وبنى فيها، أو غرس، أو زرع، كان لصاحب الارض أن يكلفه القلع مجانا. ولو أراد الغاصب القلع لم يكن للمالك منعه، فإنه عين ماله. وإذا قلع، لزمه الاجرة. وفي وجوب التسوية والارش، ما سبق في نقل التراب. وإن نقصت الارض لطول مدة الغراس، فهل يجمع بين أجرة المثل وأرش النقص، أو لا يجب إلا أكثرهما ؟ فيه الخلاف السابق فيما إذا أبلى الثوب بالاستعمال. ولو أراد المالك أن يتملك البناء والغراس بالقيمة، أو يبقيهما أو الزرع بالاجرة، فهل على الغاصب إجابته ؟ وجهان. أحدهما: نعم، كالمستعير، وأولى، لتعديه. وأصحهما: لا، لتمكنه من القلع بلا غرامة. ولو غصب من رجل أرضا وبذرا فزرعها به، فللمالك أن يكلفه إخراج البذر من الارض ويغرمه أرش النقص، وليس للغاصب إخراجه إذا رضي به المالك. الصورة الثانية: إذا زوق الارض المغصوبة، نظر إن كان بحيث لو نزع، لحصل منه شئ، فللمالك إجباره على النزع. فإن تركه الغاصب ليدفع عنه كلفة النزع، فهل يجبر المالك على قبوله ؟ وجهان ولو أراد الغاصب نزعه، فله(4/136)
ذلك، وسواء كان للمنزوع قيمة أم لا، فإن نزع فنقصت عما كانت قبل التزويق، لزمه الارش. أما إذا كان التزويق تمويها لا يحصل منه عين بالنزع، فليس للغاصب النزع إن رضي المالك. وهل للمالك إجباره عليه ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لانه قد يريد تغريمه أرش النقص الحاصل بإزالته. وأصحهما: لا، كالثوب إذا قصره. إذا ثبت هذا، عدنا إلى الصبغ فنقول: للصبغ الذي يصبغ به المغصوب، ثلاثة أحوال. الاول: أن يكون للغاصب، فينظر، إن كان الحاصل تمويها محضا، فحكمه ما ذكرناه في التزويق. وإن حصل فيه عين مال بالانصباغ، فهو ضربان. الاول: إذا لم يمكن فصله، فقولان. القديم: أنه يفوز به صاحب الثوب تشبيها له بالسمن. والمشهور: أنهما شريكان، فينظر، إن كانت قيمة الثوب مصبوغا مثل قيمته، وقيمة الصبغ قبل الصبغ جميعا، بأن كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وصار يساوي مصبوغا عشرين، فهو بينهما بالسوية. فلو رغب فيه راغب بثلاثين، كانت بينهما نصفين. وإن نقصت قيمته مصبوغا عنهما، بأن صارت قيمته في الصورة المذكورة خمسة عشر، فقد أطلق الاكثرون: أن النقص محسوب من الصبغ، لان الثوب هو الاصل، والصبغ وإن كان عينا، فهو تابع، فيكون الثوب المصبوغ بينهما أثلاثا، الثلثان للمغصوب منه. وفي الشامل والتتمة: أنه إن كان النقص لانخفاض سعر الثياب، فالنقص محسوب من الثوب. وإن كان لانخفاض سعر الاصباغ، فمن الصبغ وكذا لو كان النقص بسبب العمل. ويمن أن يكون هذا التفصيل مراد من أطلق. وإن كانت قيمته بعد الصبغ عشرة، انمحق الصبغ، ولا حق فيه للغاصب. وإن نقصت قيمته مصبوغا عن قيمة الثوب، فصار يساوي ثمانية، فقد ضاع الصبغ ونقص من الثوب درهمان، فير ده مع درهمين. وإن زادت قيمته مصبوغا عليهما، بأن صار ثلاثين، فمن أطلق الجواب في طرف النقص، أطلق هنا أن الزيادة بينهما على نسبة ماليهما. ومن فصل قال: إن كان ذلك لارتفاع سعر الثياب، فالزيادة لصاحب الثوب، وإن كان لارتفاع سعر الاصباغ، فهي للغاصب، وإن كان للعمل والصنعة، فهي بينهما، لان الزيادة بفعل الغاصب تحسب للمغصوب منه.(4/137)
الضرب الثاني: إذا أمكن فصله عن الثوب، فقد حكي قول عن القديم: أنه إن كان المفصول لا قيمة له، فهو كالسمن، والمشهور أنه ليس كالسمن، فلا يفوز به المغصوب منه. وهل يملك إجبار الغاصب على فصله ؟ وجهان. أصحهما عند العراقيين: لا. وأصحهما: عند البغوي وطائفة: نعم، واختاره الامام، ونقل القطع به عن المراوزة. وإنما الخلاف، فيما إذا كان الغاصب يخسر بالفصل خسرانا بينا، وذلك، قد يكون لضياع المنفصل بالكلية، وقد يكون لحقارته بالاضافة إلى قيمة الصبغ. ومن جملة الضياع، أن يحدث في الثوب نقص بسبب الفصل لا تفي بأرشه قيمة المفصول. ولو رضي المغصوب (منه) بابقاء الصبغ وأراد الغاصب فصله، فله ذلك إن لم ينقص الثوب، وكذا إن نقص على الاصح. وإن تراضيا على ترك الصبغ بحاله، فهما شريكان. وكيفية الشركة، كما سبق في الضرب الاول. فرع لو ترك الغاصب الصبغ للمالك، فهل يجبر كالنعل في الدابة المردودة بالعيب لانه تابع، أم لا، كالبناء والغراس إذا تركه الغاصب ؟ وجهان. قال الروياني: أصحهما: الاول. قال الرافعي: بل الثاني أقيس وأشبه. قلت: الثاني أصح. وممن صححه، صاحب التنبيه قال الجرجاني: ويجري الوجهان فيما لو غصب بابا وسمره بمساميز للغاصب وتركها للمالك. والله أعلم. ثم قيل، الوجهان فيما إذا أمكن فصل الصبغ، وفيما إذا لم يمكن. والاصح: تخصيصهما بما إذا أمكن وقلنا: إن الغاصب يجبر على الفصل، وإلا فهما شريكان لا يجبر واحد منهما على قبول هبة الآخر. وعلى هذا، فطريقان. أحدهما: أن الوجهين فيما إذا كان يتضرر بالفصل، إما لما يناله من التعب، وإما(4/138)
لان المفصول يضيع كله أو أكثره، فإن لم يكن كذلك، لم يجب القبول بحال. والثاني: أن الوجهين فيما إذا كان الثوب ينقص بالفصل نقصا لا تفي بأرشه قيمة الصبغ المفصول، فإن وقت، لم يجب القبول بحال وإن تعب أو ضاع معظم المفصول. قال الامام: وإذا قلنا: يجب القبول على المغصوب منه، لم يشترط تلفظه بالقبول. وأما الغاصب، فلا بد من لفظ من جهته يشعر بقطع الحق، كقوله: أعرضت عنه، أو تركته، أو أبرأته عن حقي، أو أسقطته، قال: ويجوز أن يعتبر اللفظ المشعر بالتمليك. فرع لو بذل المغصوب منه قيمة الصبغ، وأراد أن يتملكه على الغاصب، فهل يجاب إليه ؟ فيه أوجه - سواء كان الصبغ يمكن فصله، أم لا - أحدهما: نعم كالغراس في العارية. وأصحهما: لا، لان المعير لا يتمكن من القلع مجانا فكان محتاجا إلى التملك بالقيمة، وهنا بخلافه. والثالث: إن كان الصبغ بحيث لو فصل لم يحصل منه شئ ينتفع به، فنعم، وإلا، فلا. فرع متى اشتركا في الثوب المصبوغ، فهل لاحدهما الانفراد ببيع ملكه (منه) ؟ وجهان، كبيع دار لا ممر لها. والاصح: المنع. ولو أراد مالك الثوب البيع، ففي المهذب والتهذيب: أنه يجبر الغاصب على موافقته ويباع، وإن أراد الغاصب البيع، لم يجبر صاحب الثوب على الاصح، لئلا يستحق بتعديه إزالة ملك غيره. وفي النهاية: القطع بأن واحدا منهما لا يجبر كسائر الشركاء. الحال الثاني: أن يكون الصبغ مغصوبا من غير مالك الثوب، فإن لم يحدث بفعله نقص، فلا غرم عليه، وهما شريكان في الثوب المصبوغ كما سبق في المالك والغاصب. وإن حدث، نظر، إن كانت قيمته مصبوغا عشرة، والتصوير كما سبق، فهو لصاحب الثوب، ويغرم الغاصب الصبغ للآخر. وإن كانت خمسة عشر، فوجهان. أحدهما: (يكون) الثوب بينهما نصفين، ويرجعان على الغاصب بخمسة. وأصحهما: أثلاثا على ما سبق في الحال الاول. فإن كان مما يمكن فصله، فلهما تكليف الغاصب الفصل. فإن حصل بالفصل نقص فيهما أو في أحدهما عما كان قبل(4/139)
أن يصبغ، غرمه الغاصب، ولصاحب الثوب وحده طلب الفصل أيضا إذا قلنا: المالك يجبر الغاصب عليه في الحال الاول. هذا إذا حصل بالانصباغ عين مال في الثوب. فإن لم يحصل إلا تمويه، فالحكم كما سبق في التزويق. فرع يقاس بما ذكرناه في الحالتين ثبوت الشركة فيما إذا طير الريح ثوب إنسان في أجانة صباغ، فانصبغ، لكن ليس لاحدهما أن يكلف الاخر الفصل ولا التغريم إن حصل نقص في أحدهما، إذ لا تعدي. ولو أراد صاحب الثوب تملك الصبغ بالقيمة، فعلى ما سبق. الحال الثالث: أن يكون الصبغ مغصوبا من مالك الثوب أيضا. فإن لم يحدث بفعله نقص، فهو للمالك، ولا غرم على الغاصب، ولا شئ له إن زادت القيمة، لان الموجود منه أثر محض. وإن حدث بفعله نقص، ضمن الارش، وإذا أمكن الفصل، فللمالك إجباره عليه. وليس للغاصب الفصل إذا رضي المالك. فرع إذا كان الصبغ للغاصب وقيمته عشرة، وقيمة الثوب عشرة، فبلغت قيمة الثوب مصبوغا ثلاثين، ففصل الغاصب الصبغ، ونقصت قيمة الثوب عن عشرة، لزمه ما نقص، وكذا ما نقص عن خمسة عشر إن فصل بغير إذن المالك وطلبه، وإن فصل بإذنه، لم يلزمه إلا نقص العشرة. ولو عادت قيمته مصبوغا إلى عشرة لانخفاض السعر وكان النقص في الثياب والاصباغ على نسبة واحدة، فالثوب بينهما بالسوية كما كان، والنقص داخل عليهما جميعا، وليس على الغاصب غرامة ما نقص مع رد العين، لكن لو فصل الصبغ بعد رجوع القيمة إلى عشرة، فصار الثوب يساوي أربعة، غرم ما نقص، وهو خمس الثوب بأقصى القيم. والمعتبر في الاقصى خمسة عشر إن فصل بنفسه، وعشرة إن فصل بطلب المالك.
فصل إذا خلط المغصوب بغيره، فقد يتعذر التمييز بينهما، وقد، لا. وإذا تعذر، فقد يكون ذلك الغير من جنسه، وقد، لا. فإن كان كالزيت بالزيت. والحنطة بالحنطة، نظر، فإن خلطه بأجود من المغصوب أو مثله، أو أردأ منه، فالمذهب النص أنه كالهالك حتى يتمكن الغاصب من أن يعطيه قدر حقه من غير المخلوط. وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: يشتركان في(4/140)
المخلوط، ويرجع في قدر حقه من نفس المخلوط. وقيل: إن خلط بالمثل، اشتركا، وإلا، فكالهالك. فإن قلنا: كالهالك، فللغاصب دفع المثل من غير المخلوط، وله دفعه منه إذا خلطه بالاجود أو بالمثل، وليس له دفع قدر حقه من المخلوط بالاردإ، إلا أن يرضى المالك. وإذا رضي، فلا أرش له كما إذا أخذ الردئ من موضع آخر. وإن قلنا بالشركة، فإن خلط بالمثل، فقدر زيته من المخلوط له. وإن خلط بالاجود، بأن خلط صاعا قيمته درهم، بصاع قيمته درهمان، نظر، إن أعطاه صاعا من المخلوط، أجبر المالك على قبوله، وإلا فيباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما أثلاثا، فإن أراد قسمة عين الزيت على نسبة القيمة، فالمشهور: أنه لا يجوز، وفي قول رواه البويطي: يجوز، وفي وجه: يكلف الغاصب تسليم صاع من المخلوط، لان اكتساب المغصوب صفة الجودة بالخلط، كزيادة متصلة. وإن خلط بالاردإ، بأن خلط صاعا قيمته درهمان بصاع قيمته درهم، أخذ المغصوب منه صاعا من المخلوط مع أرش النقص، لان الغاصب متعد بالخلط، بخلاف المفلس إذا خلط بالاردإ، فإن البائع إذا رجع بصاع من المخلوط لا أرش له، لعدم التعدي، فإن اتفقا على بيع المخلوط وقسمة الثمن أثلاثا، جاز، وإن أراد قسمة الزيت على نسبة القيمتين، فقيل: هو على الخلاف في طرق الاجود، وقيل: بالمنع قطعا. فرع خلط الخل بالخل، واللبن باللبن، كخلط الزيت بالزيت. وإن خلط الدقيق بالدقيق، فإن قلنا: هو مثلي، فكالزيت بالزيت. وإن قلنا: متقوم، فإن قلنا: المختلط هالك، فالواجب على الغاصب القيمة. وإن قلنا: بالشركة، بيع وقسم الثمن بينهما على قدر القيمتين. فإن أراد قسمة عين الدقيق على نسبة القيمتين، وكان الخلط بالاجود أو الاردإ، فعلى ما ذكرنا في خلط الزيت بالزيت.(4/141)
وإن كان الخلط بالمثل، جازت القسمة إن جعلناها إفرازا. وإن جعلناها بيعا، لم يجز، لان بيع الدقيق بالدقيق لا يجوز. فرع خلط المغصوب بغير الجنس، كزيت بشيرج أو دهن جوز، أو دقيق حنطة بدقيق شعير، فالمغصوب هالك لبطلان فائدة خاصيته، بخلاف الجيد بالردئ. وقيل: هو على الخلاف السابق، واختار المتولي الشركة هناك وهنا، وقال: إن تراضيا على بيع المخلوط وقسمة الثمن، جاز، وإن أراد قسمته، جاز، وكأن المغصوب منه باع ما يصير في يد الغاصب من الزيت بما يصير في يده من الشيرج. قال الامام: وألحق الاصحاب بخلط الزيت بالشيرج لت السويق بالزيت، وهو بعيد، وانما هو كصبغ الثوب. فرع إذا لم يتعذر التمييز، لزم الغاصب التمييز وفصله بالالتقاط وإن شق، سواء خلط الجنس كالحنطة البيضاء بالحمراء، أو بغيره كالحنطة بالشعير. فرع إذا خلط الزيت بالماء، وأمكن التمييز، لزمه التمييز وأرش النقص ان نقص، وإلا، فهو كخلطه بالشيرج، الا أن لا تبقى له قيمة، فيكون هالكا قطعا. فإن حصل فيه مميزا كان أو غيره. نقص سار، فقد سبق حكمه.
فصل إذا غصب خشبة وأدخلها في بناء، أو بنى عليها، أو على آجر مغصوب، لم يملكها، بل عليه إخراجها وردها إلى المالك ما لم تعفن. فإن عفنت بحيث لو أخرجت لم يكن لها قيمة، فهي هالكة. فإذا أخرجها قبل العفن وردها، لزمه أرش النقص وإن نقصت. وفي الاجرة ما ذكرناه في إبلاء الثوب بالاستعمال. ولو أدخل لوحا مغصوبا في سفينة، نظر، إن لم يخف من النزع هلاك نفس ولا مال، بأن كانت على الارض، أو مرساة على الشط، أو أدخله في أعلاها ولم(4/142)
يخف من نزعه غرقا، أو لم يكن فيها نفس ولا مال، ولا خيف هلاك السفينة نفسها، لزمه نزعه ورده، فإن كان في لجة (البحر) وخيف من النزع هلاك حيوان محترم، سواء كان آدميا الغاصب أو غيره، أو غير آدمي، لم ينزع حتى تصل الشط. وإن خيف من النزع هلاك مال، إما في السفينة، وإما في غيرها، فهو، إما للغاصب، أو لمن وضع ماله فيها وهو يعلم أن فيها لوحا مغصوبا، فإن كان لهما، ففي نزعه وجهان. أصحهما عند الامام: النزع، كما يهدم البناء لرد الخشبة. وأصحهما عند ابن الصباغ وغيره: لا ينزع، لان السفينة لا تدوم في البحر، فيسهل الصبر إلى الشط. وإن كان لغيرهما، لم ينزع قطعا. قلت: الاصح عند الاكثرين ما صححه ابن الصباغ. والله أعلم. وحيث لا ينزع إلى الشط، فتؤخذ القيمة للحيلولة إلى أن يتيسر النزع، فحينئذ يرد اللوح مع أر ش النقص ويسترد القيمة. وإن قلنا: لا يبالي في النزع بهلاك مال الغاصب فاختلطت التي فيها اللوح بسفن للغاصب، ولا قلت: كذا أطلقوا يوقف على اللوح إلا بنزع الجميع، فهل ينزع الجميع ؟ وجهان الوجهين بلا ترجيح، وينبغي أن يكون أرجحهما عدم النزع. والله أعلم فرع الخيط المغصوب، إن خيط به ثوب ونحوه، فالحكم كما في البناء على الخشبة. وإن خيط به جرح حيوان، فهو قسمان. محترم، وغيره. والمحترم نوعان. آدمي وغيره. أما الآدمي: فإن خيف من نزعه هلاكه، لم ينزع، وعلى الغاصب قيمته. ثم إن خيط جرح فسه، فالضمان مستقر عليه. وإن خاط جرح غيره باذنه وهو عالم(4/143)
بالغصب، فقرار الضمان على المجروح. وإن كان جاهلا، فعلى الخلاف فيما إذا أطعم المغصوب رجلا. وفي معنى خوف الهلاك، خوف كل محذور يجوز العدول إلى التيمم من الوضوء وفاقا وخلافا. وأما غير الادمي، فضربان. مأكول، وغيره فغيره، له حكم الادمي، إلا أنه لا اعتبار ببقاء الشين (فيه). وأما المأكول، فإن كان لغير الغاصب، لم ينزع، وإن كان للغاصب، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: لا يذبح كغير المأكول. وإذا مات الحيوان وفيه الخيط. فإن كان غير آدمي نزع، وكذا إن كان آدميا على الاصح. وأما غير المحترم، فلا يبالي بهلاكه، فينزع منه الخيط. ومن هذا القسم: الخنزير، والكلب العقور، وكذا الكلب الذي لا منفعة فيه، قاله الامام. وكذا المرتد على المذهب، وبه قطع الاكثرون. وذكر الامام فيه وجهين، وادعى أن الاوجه: منع النزع، لان المثلة بالمرتد محرمة، بخلاف المثلة بالميت، لانا نتوقع عود المرتد إلى الاسلام. ومن هذا القسم الحربي. وأما الزاني المحصن، والمحارب، فقال المتولي: هما على الوجهين فيما إذا مات وفيه الخيط، لان تفويت روحه مستحق، وحيث قلنا: لا ينزع، يجوز غصب الخيط ابتداء ليخاط به الجرح إذا لم يوجد خيط حلال. وحيد قلنا: ينزع، لا يجوز. قلتوحيث بلي الخيط، فلا نزع مطلقا، بل تجب القيمة. والله أعلم فرع حصل فصيل رجل في بيت رجل، ولم يمكن إخراجه إلا بنقض البناء، فإن كان بتفريط صاحب البيت، بأن غصبه وأدخله، نقض ولم يغرم صاحب الفصيل شيئا. وإن كان بتفريط صاحب الفصيل، نقض البناء، ولزمه أرش(4/144)
النقص. وإن دخل بنفسه، نقض أيضا، ولزم صاحب الفصيل أرش النقص على المذهب، وبه قطع العراقيون. وقيل: وجهان. ثانيهما: لا أرش عليه. فرع وقع دينار في محبرة، ولا يخرج إلا بكسرها، فإن وقع بفعل صاحب المحبرة عمدا أو سهوا، كسرت، ولا غرم على صاحب الدينار، وإن وقع بفعل صاحبه، أو بلا تفريط من أحد، كسرت، وعلى صاحبه الارش. وقال ابن الصباغ: إذا لم يفرط أحد، والتزم صاحب المحبرة ضمان الدينار، ينبغي أن لا تكسر، لزوال الضرر بذلك، وهذا الاحتمال عائد في صورة البيت والفصيل. فرع أدخلت بهيمة رأسها في قدر، ولم يخرج إلا بكسرها، فإن كان معها صاحبها، فهو مفرط بترك الحفظ. فإن كانت غير مأكولة، كسرت القدر، وعليه أرش النقص. وإن كانت مأكولة، ففي ذبحها وجهان، كمسألة الخيط. وإن لم يكن معها أحد، فإن فرط صاحب القدر، بأن وضع القدر في موضع لا حق له فيه، كسرت، ولا أرش له. وإن لم يفرط، كسرت، وغرم صاحب البهيمة الارش، ولم يذكروا هذا التفصيل بين المأكول وغيره في مسألة الفصيل، والوجه: التسوية. فرع سيأتي إن شاء الله تعالى القول في أن ما تتلفه البهيمة، متى يضمنه مالكها في بابه. فإذا ابتلعت شيئا واقتضى الحال الضمان، نظر، إن كان مما يفسد بالابتلاع، ضمنه. وإن كان مما لا يفسد، كاللؤلؤ، فإن كانت غير مأكولة، لم تذبح، وغرم قيمة المبتلع، للحيلولة. وإن كانت مأكولة، ففي ذبحها الوجهان. فرع لو باع بهيمة بثمن معين، فابتلعته، فإن لم يكن الثمن مقبوضا، انفسخ البيع، وهذه بهيمة لبائعها ابتلعت مال المشتري، إلا أن يقتضي الحال وجوب الضمان على صاحب البهيمة، فيستقر العقد، ويكون ما جرى قبضا للثمن بناء على أن إتلاف المشتري قبض منه. وإن كان الثمن مقبوضا، لم ينفسخ البيع،(4/145)
وهذه بهيمة للمشتري ابتلعت مال البائع. فصل غصب زوجي خف قيمتهما عشرة، فرد أحدهما وقيمته ثلاثة، وتلف الاخر، لزمه سبعة قطعا، لان بعض المغصوب تلف، وبعضه نقص. ولو أتلف أحدهما، أو غصبه وحده وتلف، وعادت قيمة الباقي إلى ثلاثة، ففيه أوجه. أصحها عند الشيخ أبي حامد ومن تابعه: يلزمه سبعة. وأصحها عند الامام، والبغوي: خمسة، كما لو أتلف رجل أحدهما، وآخر الاخر، فإن كلا منهما يضمن خمسة. والثالث: يلزمه ثلاثة، لانها قيمة ما أتلفه. ولو أخذ أحدهما بالسرقة، وقيمته مع نقص الباقي نصاب، لم يقطع بلا خلاف. قلت الاقوى، ما صححه الامام، وإن كان الاكثرون على ترجيح الاول وعليه العمل. ويخالف المقيس عليه، فإنه لا ضرر على المالك هناك. وصورته: أنهما أتلفاهما دفعة واحدة. فإن تعاقبا، لزم الثاني ثلاثة. وفي الاول، الخلاف. وفي الصورة الاولى إذا غصبهما معا وجه في التنبيه والتتمة: أنه يلزمه ثلاثة، وهو غريب. والله أعلم.
الطرف الثالث : فيما يترتب على تصرفات الغاصب.
وفيه مسائل. إحداها: إذا أتجر الغاصب في المال المغصوب، فقولان. الجديد: أنه إن باعه أو اشترى بعينه، فالتصرف باطل. وإن جاع سلما أو اشترى في الذمة وسلم المغصوب فيه، فالعقصحيح، والتسليم فاسد، فلا تبرأ ذمته مما التزم، ويملك الغاصب ما أخذ، وأرباحه له. والقديم: أن بيعه والشراء بعينه ينعقد موقوفا على إجازة المالك. فإن أجاز، فالربح له. وكذا إذا التزم في الذمة وسلم المغصوب، تكون الارباح للمالك، وهذه المسألة سبق ذكرها في البيع، ويتم شرحها في القراض إن شاء الله تعالى. والغرض هنا، أن ما ذكرناه بعدها مفرع على الجديد، وهو الاظهر. الثانية: وطئ الغاصب المغصوبة، فإن كانا جاهلين بتحريم الوطئ، فلا حد عليهما، وعليه المهر للسيد، وكذا أرش البكارة إن كانت بكرا. ثم هل يفرد الارش فنقول: عليه مهر ثيب، والارش ؟ أم لا يفرد، فنقول: مهر بكر ؟ وجهان.(4/146)
أصحهما: الاول. والوجه، أن يقال: إن اختلف المقدار بالاعتبارين، وجب الزائد، وقد أشار الامام إليه، وإلا، ففيه الوجهان. وإن كانا عالمين بالتحريم، نظر، إن كانت الجارية مكرهة، فعلى الغاصب الحد والمهر، ويجب أرش البكارة إن كانت بكرا. وإن كانت طائعة، فعليهما الحد، ولا يجب المهر على الصحيح المنصوص. وقيل: على المشهور. ويجب أرش البكارة إن كانت بكرا إذا قلنا: يفرد عن المهر، وإلا، ففي وجوب الزائد على مهر، وإلا، ففي وجوب الزائد على وهي ثيب، وجهان. أحدهما: لا يجب كما لو زنت الحرة وهي طائعة وهي بكر. والثاني: يجب، كما لو أذنت في قطع طرف منها. وإن كان الغاصب عالما دونها، فعليه الحد وأرش البكارة إن كانت بكرا، والمهر. وإن كانت عالمة دونه، فعليها الحد دونه إن طاوعته، ويجب المهر إن كانت مكرهة، وإلا، فعلى الخلاف. ثم الجهل بتحريم الوطئ، قد يكون للجهل بتحريم الزنا مطلقا، وقد يكون لتوهم حلها خاصة لدخولها بالغصب في ضمانه، ولا تقبل دعواهما إلا من قريب العهد بالاسلام، أو ممن نشأ في موضع بعيد عن المسلمين، وقد يكون لاشتباههما عليه وظنه أنها جاريته فلا يشترط لقبول دعواه ما ذكرناه. الثالثة: إذا وطئ المشتري من الغاصب، فالقول في وطئه في حالتي العلم والجهل ما ذكرنا في الغاصب، إلا أن جهل المشتري قد ينشأ من الجهل بكونها مغصوبة أيضا، فلا يشترط في دعواه الشرط السابق، وإذا غرم المشتري المهر، فسيأتي القول في رجوعه (به) على الغاصب.(4/147)
وهل للمالك مطالبة الغاصب به ابتداء ؟ وجهان. أصحهما: نعم، وهو مقتضى كلام الجمهور. وأشار الامام إلى جريان الوجهين، سواء قلنا: يرجع المشتري بالمهر على الغاصب، أم لا. وقال: إذا قلنا: لا رجوع، فظاهر القياس: أنه لا يطالب. وإذا قلنا بالرجوع، فالظاهر المطالبة، لاستقرار الضمان عليه، وطرد الخلاف في مطالبة الغاصب بالمهر إذا وطئت بالشبهة. فرع إذا تكرر وطئ الغاصب أو المشترى منه، فإن كان في حال الجهل، لم يجب إلا مهر، لان الجهل شبهة واحدة مطردة، فأشبه الوطئ في نكاح فاسد مرارا. وإن كان عالما، وجب المهر، لكونها مكرهة. أو قلنا بالوجوب مع طاعتها، فوجهان، أحدهما: الاكتفاء بمهر. وأصحهما: يجب لكل مرة مهر. وإن وطئها، مرة عالما، ومرة جاهلا، وجب مهران. فرع هذا الذي ذكرنا، فيما إذا لم يكن الوطئ محبلا. أما إذا أحبل الغاصب أو المشترى منه، نظر، إن كان عالما بالتحريم، فالولد رقيق للمالك غير نسيب، لكونه زانيا. فإن انفصل حيا، فهو مضمون على الغاصب، أو ميتا بجناية، فبدله لسيده، أو بلا جناية، ففي وجوب ضمانه على الغاصب، وجهان. أحدهما وهو ظاهر النص: الوجوب، لثبوت اليد عليه تبعا للام، وبه قال الانماطي، وابن سلمة، واختاره القفال. وبالمنع قال أبو إسحاق، واختاره أبو محمد، والامام، والبغوي، لان جنايته غير متيقنة، وسبب الضمان هلاك رقيق تحت يده. ويجري الوجهان في حمل البهيمة المغصوبة إذا انفصل ميتا، فإن أوجبنا الضمان، فهو قيمته يوم الانفصال لو كان حيا في ولد الجارية والبهيمة جميعا،(4/148)
وخرج الامام وجها في ولد الجارية أنه يضمن بعشر قيمة الام، تنزيلا للغاصب منزلة الجاني. أما إذا كان الواطئ جاهلا بالتحريم، فالولد نسيب حر للشبهة، وعليه قيمته لمالك الجارية يوم الانفصال إن انفصل حيا. فإن انفصل ميتا بنفسه، فالصحيح: أنه لا قيمة عليه، وإن كان بجناية، فعلى الجاني ضمانه، وللمالك تضمين الغاصب، لان له بدله، فقوم عليه، ثم الواجب على الجاني الغرة، وللمالك عشر قيمة الام. فإن استويا، ضمن الغاصب للمالك عشر قيمة الام. وإن كانت قيمة الغرة أكثر، فكذلك، والزيادة تستقر له بحق الارث. وإن نقصت الغرة عن العشر، فوجهان. أصحهما: أنه يضمن للمالك تمام العشر. والثاني: لا يضمن إلا قدر الغرة. ولو انفصل ميتا بجناية الغاصب، لزمه الضمان. ولو أحبل الغاصب ومات وترك أباه، ثم انفصل الجنين ميتا بجناية، فالغرة لجد الطفل. ثم عن القاضي حسين: أنه يضمن للمالك ما كان يضمنه الغاصب. وعنه: أنه لو كان مع الغاصب أم أم الجنين، فورثت سدس الغرة، قطع النظر عنه، ونظر إلى عشر قيمة الام وخمسة أسداس الغرة، وكأنها كل الغرة، والجوابان مختلفان، فرأى الامام إثبات احتمالين في الصورتين، ينظر في أحدهما، إلى أن من يملك الغرة، ينبغي أن يضمن للمالك، ويستبعد في الاخر تضمين من لم يغصب. قال المتولي: الغرة تجب مؤجلة، وإنما يغرم الغاصب عشر قيمة الام إذا أخذ الغرة. وتوقف الامام فيه. هذا هو الصحيح المعروف في الولد المحكوم بحريته. وفي وجه: لا ينظر إلى عشر قيمة الام، بل تعتبر قيمته لو انفصل حيا. وفي وجه: يغرم الغاصب للمالك أكثر(4/149)
الامرين من قيمة الولد والغرة. ودعوى الجهل في هذا، كدعواه إذا لم تحبل على ما سبق. وحكى المسعودي خلافا في قبولها لحرية الولد، وإن قبلت لدفع الحد. ويجب في حالتي العلم والجهل أرش نقص الجارية إن نقصت بالولادة، فإن تلفت عنده، وجب أقصى القيم، ودخل فيه نقص الولادة وأرش البكارة. ولو ردها وهي حبلى، فماتت في يد المالك بالولادة، قال أبو عبد الله القطان في المطارحات: لا شئ عليه في صورة العلم، لان الولد ليس منه حتى يقال: ماتت بولادة ولده. ونقل في صورة الجهل قولين، وأطلق المتولي القولين بوجوب الضمان. قلت: الاصح: قول المتولي: والله أعلم فرع لو وطئ الغاصب بإذن المالك، فحيث قلنا: لا مهر إذا لم يأذن، فهنا أولى، وإلا، فقولان محافظة على حرمة البضع. وفي قيمة الولد، طريقان. قيل: كالمهر، وقيل: تجب قطعا، لانه لم يصرح بالاذن في الاحبال.
فصل فيما يرجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه المالك وفيه فروع. الاول: إذا تلفت العين المغصوبة عند المشتري، ضمن قيمتها أكثر ما كانت من يوم قبضها إلى التلف، ولا يضمن زيادة كانت في يد الغاصب، ولا يرجع بما ضمنه عالما كان أو جاهلا. وعن صاحب التقريب: أنه يرجع من المغروم بما(4/150)
زاد على قدر الثمن، سواء اشتراه رخيصا، أم زادت قيمته، وهو شاذ. الثاني: إذا تعيب المغصوب عند المشتري بمعى أو شلل أو نحوهما، فإن كان بفعل المشتري، استقر ضمانه عليه، وكذا لو أتلف الجميع. وإن كان بآفة سماوية، فقولان. أظهرهما: لا يرجع على الغاصب، وبه قطع العراقيون والاكثرون. الثالث: منافع المغصوب، يضمنها المشتري للمالك بأجرة مثلها، سواء استوفاها بالسكون والركوب واللبس ونحوها، أم فاتت تحت يده، ولا يرجع بما استوفاه، ولا بالمهر وأرش البكارة على الجديد الاظهر، ويرجع بما تلف تحت يده على الاصح. الرابع: لا يرجع بقيمة الولد المنعقد حرا على المذهب. وقيل: قو لان. ويرجع بأرش نقص الولادة على المذهب، وبه قطع العراقيون. وقيل: وجهان. ولو وهب الجارية المغصوبة، فاستولدها المتهب جاهلا بالحال، وغرم قيمة الولد، ففي رجوعه بها وجهان. الخامس: إذا بنى المشتري أو غرس في المغصوبة، فجاء المالك ونقض، رجع بأرش النقصان على الغاصب على الاصح، وبه قطع العراقيون. قال البغوي: والقياس: أن لا يرجع على الغاصب بما انفق على العبد وما أدى من خراج الارض، لانه شرع في الشراء على أنه يضمنهما. السادس: لو زوج الغاصب المغصوبة، فوطئها الزوج جاهلا، غرم مهر المثل للمالك، ولا يرجع به على الغاصب، لانه شرع فيه على أن يضمن المهر. فلو استخدمها الزوج، وغرم الاجرة، لم يرجع لانه لم يسلطه بالتزويج على الاستخدام، بخلاف الوطئ، ويرجع بغرم المنافع التالفة تحت يده، لانه لم يستوفها، ولم يشرع على أن يضمن. والقول في قيمتها لو تلفت في يده، سبق،(4/151)
فإن غرمها، رجع بها. قال الاصحاب: وضابط هذه المسائل، أن ينظر فيما غرمه من أثبت يده على (يد) الغاصب جاهلا. فإن دخل على أن يضمنه، لم يرجع، وأن شرع على أن لا يضمنه، فإن لم يستوف ما يقابله، رجع به. وإن استوفاه، فقولان. فلو غصب شاة فولدت في يد المشتري، أو شجرة فأثمرت، فأكل فائدتهما وغرمهما للمالك، ففي رجوعه بما غرم على الغاصب قولان، كالمهر. وإن هلكت تحت يده، فهي كالمنافع التي لم يستوفها، وكذا القول في الاكساب. ولو انفصل الولد ميتا، فالمذهب: أنه لا ضمان، وكذا إذا انفصل ميتا في يد الغاصب. ولو استرضع المشتري الجارية في ولده أو ولد غيره، وغرم أجرة مثلها، ففي رجوعه بها قولان، كالمهر، ويغرم المشتري اللبن وإن انصرف إلى سخلتها وعاد نفعه إلى المالك، كما لو غصب علفا وعلف به بهيمة مالكه، قال البغوي: وينبغي أن يرجع لانه لم يدخل فيه على أن يضمنه، ولا عاد نفعه إليه. ولو أجر العين المغصوبة، غرم المستأجر أجرة المثل للمالك، ولم يرجع بها على الغاصب، ويسترد المسمى. ولو أعارها، رجع المستعير بما غرم للمنافع الفائتة تحت يده. وفي الرجوع بما غرمه للمنافع المستوفاة، القولان. وكذا ما غرم للاجزاء التالفة بالاستعمال. فرع كل ما لو غرمه المشتري رجع به على الغاصب. فإذا طولب به الغاصب وغرمه، لم يرجع به على المشتري، وكل ما (لو) غرمه المشتري، لم يرجع به على الغاصب، فإذا غرمه الغاصب، رجع به على المشتري، وكذا الحكم في غير المشتري ممن أثبتت يده على يد الغاصب. فرع لو نقصت الجارية بالولادة، والولد رقيق تفي قيمته بنقصها، لم ينجبر به النقص، بل يأخذ الولد والارش.(4/152)
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالكتاب إحداها: حمال تعب بخشبة، فأسندها إلى جدار رجل، فإن لم يأذن مالكه، ضمن الجدار إن وقع با سناده، وضمن ما تلف بوقوعه عليه. وإن وقعت الخشبة وأتلفت شيئا، ضمن إن وقعت في الحال. وإن وقعت بعد ساعة، لم يضمن. وإن كان الجدار له أو لغيره، وقد أذن في إسنادها إليه، فكذلك يفرق بين أن تقع الخشبة في الحال أو بعد ساعة، كفتح رأس الزق. الثانية: غصب دارا فنقضها وأتلف النقض، ضمن النقض وما نقص من قيمة العرصة. وهل يغرم أجرة مثلها دارا إلى وقت النقض، أم إلى وقت الرد ؟ وجهان. الثالثة: غصب شاة وأنزى عليها فحلا، فالولد للمغصوب منه. ولو غصب فحلا وأنزاه على شاته، فالولد للغاصب، ولا شئ عليه للا نزاء. فإن نقصت قيمته، غرم الارش، وينبغي أن يخرج وجوب شئ للانزاء، على الخلاف في صحة الاستئجار له. قلت: هذا التفريع، لا بد منه، وإنما فرعوه على الاصح. والله أعلم الرابعة: غصب جارية ناهدا، فتدلى ثديها، أو عبدا شابا، فشاخ، أو أمرد، فالتحى، ضمن النقصان. الخامس: غصب خشبة فاتخذ منها أبوابا وسمرها بمساميره، نزع المسامير. فإن نقصت الابواب به، ضمن الارش. ولو بدلها، ففي إجبار المغصوب منه على قبولها وجهان سبق نظائرهما. السادسة: غصب ثوبا ونجسه، أو تنجس عنده، لا يجوز له تطهيره، ولا للمالك أن يكلفه تطهيره. فإن غسله فنقص، ضمن النقص. ولو رده نجسا، فمؤنة التطهير عل الغاصب. وكذا أرش النقص اللازم منه، وتنجيس المائع الذي لا يمكن تطهيره، إهلاك. وتنجيس الدهن، مبني على إمكان تطهيره. إن جوزناه، فهو كالثوب.(4/153)
السابعة: غصب من الغاصب، فأبرأ المالك الاول عن ضمان الغصب، صح الابراء، لانه مطالب بقيمته فهو كدين عليه. وإن ملكه العين المغصوبة، برئ، وانقلب الضمان على الثاني حقا له. وإن باعه لغاصب الغاصب، أو وهبه له، وأذن في القبض، برئ الاول. وإن أودعه عند الثاني وقلنا: يصير أمانة في يده، برئ الاول أيضا. وإن رهنه عند الثاني، لم يبرأ واحد منهما. الثامنة: إذا رد المغصوب إلى المالك أو وكيله، أو وليه، برئ. ولو رد الدابة إلى اصطبله، قال المتولي: برئ أيضا إذا علم المالك به أو أخبره من يعتمد خبره، ولا يبرأ قبل العلم والاخبار. ولو امتنع المالك من الاسترداد، رفع الامر إلى الحاكم. التاسعة: لو أبرأ المالك غاصب الغاصب عن الضمان، برئ الاول، لان القرار على الثاني، والاول كالضامن، كذا قاله القفال وغيره، وهذا إن كان بعد تلف المال فبين، وإن كان قبله، فيخرج على صحة إبراء الغاصب مع بقاء المال في يده، وفيه خلاف سبق في كتاب الرهن، وبالله التوفيق. قلت: لو غصب مسكا أو عنبرا أو غيرهما مما يقصد شمه، ومكث عنده، لزمه أجرته كالثوب والعبد ونحوهما. ولو طرح في المسجد غلة أو غيرها وأغلقه، لزمه أجرة جميعه. وإن لم يغلقه، لكن شغل زاوية منه، لزمه أجرة ما شغله وممن صرح بالمسألة الغزالي في الفتاوى، قال: وكما يضمن أجزاء المسجد بالاتلاف، يضمن منفعته باتلافها. والله أعلم(4/154)
كتاب الشفعة
فيه ثلاثة أبواب.
الأول : فيما تثبت به الشفعة.
وله ثلاثة أركان.
الأول : المأخوذ، وله ثلاثة شروط.
الأول : أن يكون عقارا قال الاصحاب: الاعيان ثلاثة أضرب. أحدها: المنقولات، فلا شفعة فيها سواء بيعت وحدها أو مع الارض. الثاني: الارض، ثبتت الشفعة فيها سواء بيع الشقص منها وحده، أم مع شئ من المنقولات.(4/155)
الثالث: ما كان منقولا ثم أثبت في الارض للدوام كالابنية والاشجار، فإن بيعت منفردة، فلا شفعة فيها على الصحيح، وإن بيعت الارض وحدها، ثبتت الشفعة فيها وصار الشفيع معه كالمشتري. وإن بيعت الابنية والاشجار مع الارض، إما صريحا، وإما على قولنا: تستتبعها. ثبتت الشفعة فيها تبعا للارض. فلو كان على الشجرة ثمرة مؤبرة، وأدخلت في البيع بالشرط، لم تثبت فيها الشفعة، لانها لا تدوم في الارض، فيأخذ الشفيع الارض والنخيل بحصتها. وإن كانت غير مؤبرة، دخلت في البيع شرعا، وهل للشفيع أخذها ؟ وجهان أو قولان. أصحهما: نعم. فعلى هذا، لو لم يتفق الاخذ حتى تأبرت، أخذها أيضا على الاصح. والثاني: لا يأخذها. فعلى هذا، فيما يأخذ به الارض والنخل ؟ وجهان. أصحهما: بحصتها من الثمن كالمؤبرة. والثاني: بجميع الثمن، تنزيلا له منزلة عيب يحدث. وإن كانت النخل حائلة عند البيع، ثم حدثت الثمرة قبل أخذ الشفيع، فإن كانت مؤبرة، لم يأخذها، وإلا، أخذها على الاظهر، وإذا بقيت الثمار للمشتري، لزم الشفيع إبقاؤها إلى الادراك. وهذا إذا بيعت الاشجار مع البياض المتخلل لها، أو بيع البستان كله. أما إذا بيعت الاشجار ومغارسها فقط، أو بيع الجدار مع الاس، فلا شفعة على الاصح، لان الارض تابعة هنا، والمتبوع منقول. فرع إذا باع شقصا فيه زرع لا يجز مرارا وأدخله في البيع بالشرط، أخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن ولا يأخذ الزرع. وإن كان مما يجز مرارا، فالجزة الظاهرة لا تدخل في البيع المطلق كالثمرة المؤبرة، والاصول كالاشجار. فرع ما دخل في مطلق بيع الدار من الابواب، والرفوف، والمسامير،(4/156)
تؤخذ بالشفعة تبعا، كالابنية، وكذا الدولاب الثابت في الارض، سواء أداره الماء، أم غيره، بخلاف الدلو والقولات. ولو باع شقصا من طاحونة، وقلنا: يدخل الحجر الاسفل والاعلى في البيع، أخذ الاسفل بالشفعة، وفي الاعلى وجهان كالثمار التي لم تؤبر. الشرط الثاني: كون العقار ثابتا. فلو باع شقصا من غرفة مبنية على سقف لاحدهما أو لغيرهما، فلا شفعة، إذ لا قرار لها. فلو كان السقف المبني عليه مشتركا أيضا، فلا شفعة على الاصح لما ذكرناه. ولو كان السفل مشتركا، والعلو لاحدهما، فباع صاحب العلو نصيبه من السفل، فوجهان. أحدهما: أن الشريك يأخذ السفل ونصف العلو بالشفعة، لان الارض مشتركة، وعلوها تابعها. وأصحهما: لا يأخذ إلا السفل. ولو كان بينهما أرض مشتركة فيها شجر لاحدهما، فباع صاحب الشجر الشجر ونصيبه من الارض، فعلى الوجهين. الشرط الثالث: كونه منقسما، فالعقار الذي لا يقبل القسمة، لا شفعة فيه على المذهب، وهو قوله الجديد. وقيل: تثبت. و منهم من حكاه، قولا قديما. والمراد بالمنقسم: ما يجبر الشريك على قسمته إذا طلب شريكه القسمة. وفي ضبطه أوجه. أحدها: أنه الذي لا تنقص القسمة قيمته نقصا فاحشا، حتى لو كانت قيمة الدار مائة، ولو قسمت عادت قيمة كل نصف ثلاثين، لم تقسم. والثاني: أنه الذي ينتفع بعد القسمة بوجه ما. أما ما لا يبقى فيه نفع(4/157)
بحال، فلا يقسم. وأصحهما الثالث: أنه الذي إذا قسم، أمكن أن ينتفع به الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة، ولا عبرة بامكان نفع آخر. إذا عرف هذا، فلو كان بينهما طاحونة أو حمام، أو بئر أو نهر، فباع أحدهما نصيبه، نظر، إن كان المبيع كبيرا بحيث يمكن جعل الطاحونة ثنتين لكل واحدة حجران، والحمام حمامين، أو كل بيت منه بيتين، والبئر وارعة يمكن أن يبنى فيها فيجعل بئرين لكل واحدة بياض بقف فيه المستقي، ويلقى فيه ما يخرج منها، ثبتت الشفعة فيها. وإن لم يمكن ذلك وهو الغالب من هذه الانواع، فلا شفعة على الاصح. وعلى الوجهين الآخرين، لا يخفى الحكم. ولو اشترك اثنان في دار صغيرة، لاحدهما عشرها، وللآخر باقيها، فإن أثبتنا الشفعة فيما لا ينقسم، فأيهما باع فلصاحبه الشفعة، وإن منعناها، فباع صاحب العشر، فلا شفعة لصاحبه. وإن باع صاحب الكبير، فلصاحبه الشفعة على الاصح تفريعا على الاصح: أن صاحب الاكثر يجاب إلى القسمة. ولو كان حول البئر بياض وأمكنت القسمة بجعل البئر لواحد، والبياض لآخر ليزرعه أو يسكن فيه، أو كان موضع الحجر في الرحى واحدا، ولكن فيها بيت يصلح لغرض، وأمكنت القسمة بجعل موضع الرحى لواحد، وذلك البيت لآخر، فقال جماعة: تثبت الشفعة وأن هذه البئر من المنقسمات، وهذا تفريع على الاجبار في هذا النوع من القسمة. وعلى أنه لا يشترط فيما يصير لكل واحد، إمكان الانتفاع به من الوجه الذي كان. فرع شريكان في مزارع وبئر يستقى منها، باع أحدهما نصيبه منهما، ثبت للآخر الشفعة فيهما إن انقسمت البئر أو أثبتنا الشفعة فيما لا ينقسم، وإلا، فتثبت في المزرعة قطعا، ولا تثبت في البئر على الاصح.
الركن الثاني : الآخذ، وهو كل شريك في رقبة العقار، سواء فيه المسلم والذمي، والحر، والمكاتب. حتى لو كان السيد والمكاتب شريكين في دار، فلكل(4/158)
منهما الشفعة على الآخر، ولا شفعة للجار، ملاصقا كان أو مقابلا. وفي وجه: للملاصق الشفعة، وكذا للمقابل إذا لم ينفذ بينهما طريق، وهو شاذ، والصحيح المعروف: الاول. وإذا قضى الحنفي لشافعي بشفعة الجوار، لم يعترض عليه في الظاهر، وفي الحل باطنا خلاف موضعه كتاب الاقضية. قلت: ولا يقتضي قضاء الحنفي بشفعة الجوار على الاصح. والله أعلم فرع الدار إن كان بابها مفتوحا إلى درب نافذ، ولا شركة لاحد فيها، فلا شفعة فيها ولا في ممرها، لان هذا الدرب غير مملوك. وإن كان بابها إلى درب غير نافذ، فالدرب مشترك بين سكانه. فان باع نصيبه من الممر فقط، فللشركاء الشفعة فيه إن كان منقسما كما سبق، وإلا، ففيه الخلاف السابق. وإن باع الدار بممرها، فلا شفعة لشركاء الممر في الدار على الصحيح. فان أرادوا أخذ الممر با لشفعة، نظر، إن كان للمشتري طريق آخر إلى الدار، أو أمكنه فتح باب آخر إلى شارع، فلهم ذلك على الصحيح إن كان منقسما، وإلا. فعلى الخلاف في غير المنقسم. وقال الشيخ أبو محمد: إن كان في اتخاذ الممر الآخر عسر، أو مؤنة لها وقع، وكانت الشفعة على الخلاف، والمذهب: الاول. وإن لم يكن طريق آخر، ولا أمكن اتخاذه، ففيه أوجه. أصحها: لا شفعة لهم، لما فيه من الاضرار بالمشتري. والثاني: لهم الاخذ والمشتري هو المضر بنفسه بشرائه هذه الدار. والثالث: إن مكنوا المشتري من المرور، فلهم الشفعة، وإلا، فلا، جمعا بين الحقين. وشركة مالكي سور الخان في صحنه، كشركة مالكي الدور في الدرب الذي لا ينفذ، وكذا الشركة في مسيل الماء إلى الارض دون الارض، وفي بئر المزرعة دون المزرعة، كالشركة في الممر. فرع تثبت الشفعة للذمي على المسلم، وعلى الذمي كثبوتها للمسلم، فلو باع ذمي شقصا لذمي بخمر أو خنزير، وترافعوا إلينا بعد الاخذ بالشفعة، لم(4/159)
نرده. ولو ترافعوا قبله، لم نحكم بالشفعة. ولو بيع الشقص، فارتد الشريك، فهو على شفعته إن قلنا: الردة لا تزيل المالك. وإن قلنا: تزيله، فلا شفعة. فإن عاد إلى الاسلام، وعاد ملكه، لم تعد الشفعة على الاصح. وإن قلنا بالوقف، فمات أو قتل على الردة، أخذه لبيت المال. كما لو اشترى معيبا، أو بشرط الخيار، وأرتد ومات، فللامام رده. ولو ارتد المشتري، فالشفيع على شفعته. فرع دار نصفها لرجل، ونصفها لمسجد، اشتراه قيم المسجد له، أو وهب له ليصرف في عمارته، فباع الرجل نصيبه، كان للقيم أخذه بالشفعة إن رأى فيه مصلحة، كما لو كان لبيت المال شركة في دار، فباع الشريك نصيبه، فللامام الاخذ بالشفعة. وإن كان نصف الدار وقفا، ونصفها طلقا، فباع المالك نصيبه، فلا شفعة لمستحق الوقف على المذهب، ولا شفعة لمالك المنفعة فقط بوصية أو غيرها. فرع المأذون له بالتجارة، إذا اشترى شقصا، ثم باع الشريك نصيبه، فله الاخذ بالشفعة، إلا أن يمنعه السيد أو يسقط الشفعة. وله الاسقاط وإن أحاطت به الديون وكان في الاخذ غبطة، كما له منعه من الاعتياض في المستقبل. ولو أراد السيد أخذه بنفسه، فله ذلك. فرع لا يخفى أن الشركة لا تعتبر في مباشرة الاخذ، وإنما هي معتبرة فيمن يقع الاخذ له، بدليل الوكيل، والولي، والعبد المأذون، فإن لهم الاخذ.
الركن الثالث : المأخوذ منه، وهو المشتري ومن في معناه. وفي ضبطه قيود. الاول: كون ملكه طارئا على ملك الآخذ. فإذا اشترى رجلان دارا معا، أو شقصا من دار، فلا شفعة لواحد منهما على الآخر، لاستوائهما في وقت حصول الملك. الثاني: كونه لازما. فان باع بشرط الخيار لهما، أو للبائع، فلا شفعة ما دام الخيار باقيا. وإن شرط الخيار للمشتري فقط، فإن قلنا: الملك له، أخذه الشفيع(4/160)
في الحال على اأظهر عند الجمهور. وإن قلنا: الملك للبائع، أو موقوف، لم يأخذ في الحال على الاصح. فإن قلنا يأخذ، تبينا أن المشتري ملكه قبل أخذه، وانقطع الخيار. فرع باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار، ثم باع الثئني نصيبه في زمن الخيار بيع بتات، فلا شفعة في المبيع أو لا للبائع الثاني إذ زال ملكه، ولآ للمشترى منه، وإن تقدم ملكه على ملك المشتري الاول إذا قلنا: لا يملك في زمن الخيار، لان سبب الشفعة البيع، وهو سابق على ملكه. وأما الشفعة في المبيع ثانيا، فموقوفة إن توقفنا في الملك، وللبائع الاول إن أبقينا الملك له، وللمشترى منه إن أثبتنا الملك له. وعلى هذا، قال المتولي: إن فسخ البيع قبل العلم بالشفعة، بطلت شفعته إن قلنا: الفسخ بخيار الشرط يرفع العقد من أصله. وإن قلنا: يرفعه من حينه، فهو كما لو باع ملكه قبل العلم بالشفعة. وإن أخذه بالشفعة، ثم فسخ البيع، فالحكم في الشفعة كالحكم في الزوائد الحادثة في زمن الخيار. فصل إذا وجد المشتري بالشقص عيبا قديما، وأراد رده، وجاء الشفيع يريد أخذه، ويرضى بكونه معيبا، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما عند الجمهور، وقطع به بعضهم: أن الشفيع أولى بالاجابة، لان حقه سابق، فإنه ثبت بالبيع، ولان غرض المشتري استدراك الظلامة وتحصيل الثمن، وذلك حاصل بأخذ الشفيع. ولانا لو قدمنا المشتري، بطل حق الشفيع بالكلية. وإذا قدمنا الشفيع، حصل للمشتري مثل الثمن أو قيمته. والثاني: المشتري أولى، لان الشفيع إنما يأخذ إذا استقر العقد. ولو رده با لعيب قبل مطالبة الشفيع، ثم طلب الشفيع، فإن قلنا: المشتري أولى عند اجتما عهما، فلا يجاب، وإلا، فيجاب على الاصح،(4/161)
ويفسخ الرد. أو نقول: تبينا أن الرد كان باطلا، والخلاف - في أن المشتري أولى أو الشفيع - جار فيما لو اشترى شقصا بعبد، ثم وجد البائع بالعبد عيبا فأراد رده واسترداد الشقص، وأراد الشفيع أخذه بالشفعة. وحكى البغوي جريانه فيما لو اشترى شقصا بعبد وقبض الشقص قبل تسليم العبد، فتلف العبد في يده، ففي وجه: تبطل شفعة الشفيع. وفي وجه: يتمكن من الاخذ. وقطع ابن الصباغ وغيره، بانه إذا كان الثمن عينا فتلف قبل القبض، بطل البيع والشفعة. فصل أصدقها شقصا، ثم طلقها قبل الدخول، أو ارتد، وجاء الشفيع يريد أخذه بالشفعة، فله أخذ نصفه، وأما النصف الآخر، فهل الزوج أولى به، أم الشفيع ؟ وجهان. وكذا إذا اشترى شقصا وأفلس بالثمن، فأراد البائع الفسخ، والشفيع الاخذ بالشفعة، فيه الوجهان. أصحهما: فيهما الشفيع أولى، لان حقه أسبق، فإنه ثبت بالعقد. وفي وجه ثالث: الشفيع في الاولى أولى، والبائع في الثانية أولى. فإذا قدمنا الشفيع في صورة الافلاس، ففيه أوجه. أصحها: أن الثمن المأخوذ من الشفيع مقسوم بين الغرماء كلهم، لان حق البائع إذا انتقل إلى الذمة، صار كسائر الغرماء، وبهذا قال ابن الحداد، والثاني: يقدم البائع بالثمن رعاية للجانبين. والثالث: إن كان البائع سلم الشقص ثم أفلس المشتري، لم يكن أولى بالثمن، لرضاه بذمته. وإن لم يسلمه، فهو أولى بالثن. والخلاف في نصف الصداق، جار فيما إذا أعاد كله إلى الزوج بردتها، أو فسخ قبل الدخول. هذا إذا اجتمع الشفيع والزوج أو البائع، أما إذا أخذ الشفيع الشقص من يد الزوجة، ثم طلق الزوج، أو من يد المشتري، ثم أفلس، فلا رجوع للزوج والبائع إلى الشقص بحال، لكن ينتقل حق البائع إلى الثمن، وحق الزوج إلى القيمة في مالها، كما لو زال الملك ببيع أو غيره. ولو طلقها قبل علم الشفيع، وأخذ النصف، ثم جاء(4/162)
الشفيع، ففي استرداده ما أخذه الزوج، وجهان، كما لو جاء بعد الرد بالعيب. وقيل: لا يسترد قطعا، لان المهر يتشطر بالطلاق من غير اختيار، فيبعد نقضه. فإن قلنا: يسترده، أخذه وما بقي في يدها، وإلا، فيأخذ ما في يدها ويدفع إليها نصف مهر المثل. ولو كان للشقص الممهور شفيعان، فطلبا، وأخذ أحدهما نصفه، ثم طلقها قبل أن يأخذ الآخر، فلا يأخذ الزوج النصف الحاصل في يد الشفيع. وأما النصف الآخر، فهل هو أولى، أم الشفيع ؟ فيه الخلاف السابق، ويجري فيما إذا أخذ أحد الشفيعين من يد المشتري، ثم أفلس. فان قلنا: الشفيع أولى، ضارب البائع مع الغرماء بالثمن. وإن قلنا: البائع أولى، فإن شاء أخذ النصف الباقي وضارب مع الغرماء بنصف الثمن، وإلا، فيتركه ويضارب بكل الثمن. القيد الثالث: أن يملكه بمعاوضة. فإن ملك بارث، أو هبة، أو وصية، فلا شفعة. فإن وهب بشرط الثواب، أو مطلقا، وقلنا: تقتضي الثواب، تثبت الشفعة على الاصح للمعاوضة. وقيل: لا، لانها ليست مقصودة. فعلى الاصح، هل يأخذ قبل قبض الموهوب لانه صار بيعا، أم لا، لان الهبة لا تتم إلا بالقبض ؟ وجهان. أصحهما: الاول. فرع اشترى شقصا، ثم تقايلا، فان عفا الشفيع، وقلنا: الاقالة بيع، تجددت الشفعة، وأخذه من البائع. وإن قلنا: فسخ، لم تتجدد كما لا تتجدد بالرد بالعيب. وإن قاله قبل علم الشفيع بالشفعة. فإن قلنا: الاقالة بيع، فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ بها، وبين أن ينقضها حتى يعود الشقص إلى المشتري، فيأخذ منه. وإن قلنا: فسخ، فهو كطلب الشفعة بعد الرد بالعيب. فرع إذا جعل الشقص أجرة، أو جعلا، أو رأس مال (في) سلم، صداقا، أو متعة، أو عوض خلع أو صلح عن دم أو مال، أو جعله المكاتب عوضا عن النجوم، ثبتت الشفعة في كل ذلك. ولو أقرضه شقصا، قال المتولي:(4/163)
القرض صحيح، وللشفيع أخذه إذا ملكه المستقرض. وإنما ثبتت الشفعة في الجعل بعد العمل. وحكي وجه: أنه إذا كان ما يقابل الشقص مما لا يثبت في الذمة بالسلم ولا با لقرض، فلا شفعة، وهو شاذ ضعيف. فرع بذل شقصا عن بعض النجوم، ثم عجز ورق، فهتبقى الشفعة لانه كان عوضا، أم تبطل لخروجه عن العوض ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فرع قال المولى لمستولدته: إن خدمت أولادي شهرا، فلك هذ االشقص، فخدمتهم، استحقته. وهل تثبت فيه الشفعة كالاجرة، أم لا، لاه وصية معتبرة من الثلث ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فصل إذا باع الوصي أو القيم شقص الصبي وهو شريكه، فلا شفعة له على الاصح. وبه قال ابن الحداد، لانه لو تمكن منه، لم يؤمن أن يسامح في الثمن، ولهذا لا يبيعه مال نفسه. ولو اشترى شقصا للطفل وهو شريك في العقار، فله الشفعة على الصحيح، إذ لا تهمة. وقيل: لا، لان في الشراء والاخذ تعليق عهدة الصبي من غير نفع له، وللاب والجد الاخذ بالشفعة إذا كانا شريكين، سواء باعا أو اشتريا لقوة ولايتهما وشفقتهما، كما له بيع ماله لنفسه. ولو كان في حجر الوصي يتيمان بينهما دار، فباع نصيب أحدهما لرجل، فله أخذه بالشفعة للآخر. فرع وكل أحد الشريكين صاحبه في بيع نصيبه، فباعه، فللوكيل أخذه بالشفعة على الاصح وقول الاكثرين، لان الموكل ناظر لنفسه يعترض على الوكيل إن قصر، بخلاف الصبي. ولو وكل رجل أحد الشريكين في شراء الشقص، فللوكيل(4/164)
الاخذ بالشفعة بلا خلاف. ولو وكل الشريك الشريك في بيع نصف نصيبه وأذن له في بيع نصيبه، أو بعض نصيبه مع نصيب الموكل إن شاء، فباع نصف نصيب الموكل مع نصيبه صفقة واحدة، فللموكل أخذ نصيب الوكيل بالشفعة. وهل للوكيل أخذ نصيب الموكل ؟ فيه الوجهان. فرع إذا كان للمشتري في الدار شركة قديمة، بأن كانت بين ثلاثة أثلاثا، فباع أحدهم نصيبه لاحد صاحبيه، فالاصح أن المشتري والشريك الآخر يشتركان في أخذ الشقص، لاستوائهما في الشركة. وقيل: الشريك الثالث يختص بالشفعة، فعلى هذا إن شاء أخذ جميع الشقص، وإن شاء تركه. وعلى الاصح: إن شاء أخذ نصف الشقص، أو تركه. فإن قال المشتري: خذ الكل، أو اترك الكل، وقد تركت أنا حقي، لم تلزمه الاجابة، ولم يصح إسقاط المشتري حقه من الشفعة، لان ملكه استقر على النصف بالشراء، فصار كما لو كان للشقص شفيعان: حاضر، وغائب، فأخذ الحاضر الجميع، فحضر الغائب، له أن يأخذ نصفه، وليس للحاضر أن يقول: اترك الجميع أو خذ الجميع فقد تركت حقي، ولا نظر إلى تبعيض الصفقة عليه، فإنه لزم من دخوله في هذا العقد. وحكي وجه: أنه إذا ترك المشتري حقه، لزم الآخر أخذ الكل أو تركه، كما لو عفا أحد الشفيعين الاجنبيين. ولو كان بين اثنين دار، فباع أحدهما نصف نصيبه لثالث، ثم باع النصف الثاني لذلك الثالث، فعلى الاصح حكمه كما لو باع النصف الثاني لاجنبي، وسيأتي بيانه في الباب الثاني إن شاء تعالى. وعلى الوجه الآخر: لا شفعة للمشتري، وللشفيع الخيار بين أن يدخذ الكل أو يأخذ أحد النصفين فقط. فصل إذا باع في مرض موته شقصا، وحابى، فقد يكون الشفيع والمشتري أجنبيين، أو وارثين، وقد يكون المشتري وارثا فقط، أو عكسه، فهذه أربعة أضرب.(4/165)
الاول: إذا كانا أجنبيين، فان احتمل الثلث المحاباة، صح البيع، وأخذ الشقص بالشفعة. وإن لم يحتمله، بأن باع شقصا يساوي ألفين بألف، ولا مال له غيره، نظر، إن رده الوارث، بطل البيع في قدر المحاباة. وفي صحته في الباقي طريقان. أحدهما: فيه قولا تفريق الصفقة. والثاني: القطع بالصحة. وإذا قلنا بالصحة، ففيما يصح فيه البيع ؟ قولان. أحدهما: يصح في قدر الثلث، والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن. والثاني: لا يسقط شئ من المبيع إلا ويسقط ما يقابله من الثمن. وقد سبق بيان الاظهر من القولين في باب تفريق الصفقة. فان قلنا بالقول الاول، صح البيع في الصورة المذكورة في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا بالثاني، دارت المسألة. وحسابها أن يقال: يصح البيع في شئ من الشقص بنصف شئ، يبقى مع الورثة ألفان إلا نصف شئ، وذلك يعدل مثلي المحاباة، وهي نصف شئ، فمثلاها شئ، فنجبر ونقابل، فيكون ألفان معادلين لشئ ونصف، والشئ من شئ ونصف ثلثاه، فعلمنا أن البيع صح في ثلثي الشقص، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن، وهو نصف هذا المبلغ، فتكون المحاباة ستمائة وستة وستين وثلثين، يبقى للورثة ثلث الشقص وثلثا الثمن، وهما ألف وثلاثمائة وثلاثون وثلث، وذلك ضعف وثلاثة المحاباة. وعلى القولين جميعا، للمشتري الخيار، لان جميع المبيع لم يسلم له. فان أجاز، أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على القول الاول، وثلثيه بثلث الثمن على الثاني. وإن أراد أن يفسخ، وطلب الشفيع، فأيهما يجاب ؟ فيه الخلاف السابق في الرد بالعيب، وكذا لو فسخ قبل طلب الشفيع، هل تبطل الشفعة، أم للشفيع رد الفسخ ؟ فيه ما سبق من الخلاف. وإن أجاز الورثة، صح البيع في الكل. ثم إن قلنا: إن إجازتهم تنفيذ لما فعل الميت، أخذ الشفيع الكل بكل الثمن. وإن قلنا: إنها ابتداء عطية منهم، لم يأخذ القدر المنفذ بإجازتهم، ويأخذ المستغني عن إجازتهم، وفيه القولان المذكوران عند الرد. الضرب الثاني والثالث:: أن يكونا وارثين، أو المشتري وارثا، فيكون هذا البيع محاباة مع الوارث، وهي مردودة. فان لم نفرق الصفقة، بطل البيع في الكل، وإن فرقناها، فإن قلنا في الضرب الاول - والتصوير كما سبق -: إن البيع يصح في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن، فهنا في مثل تلك الصورة يصح(4/166)
البيع في نصفه بجميع الثمن، وإن قلنا هناك: يصح في ثلثيه بثلثي الثمن، فهنا يبطل البيع في الكل، كذا ذكره القفال وغيره، وفيه نظر. وينبغي أن يفرق بين الاجازة والرد، كالضرب الاول. الضرب الرابع: أن يكون الشفيع وارثا دون المشتري. فان احتمل الثلث المحاباة، أو لم يحتمل، وصححنا البيع في بعض المحاباة في الضرب الاول، ومكنا الشفيع من أخذه، فهنا أوجه. أصحها عند الجمهور: يصح البيع ويأخذه الوارث بالشفعة، لان المحاباة مع المشتري، لا مع الوارث. والثاني: يصح ولا يأخذه الوارث بالشفعة. والثالث: لا يصح البيع أصلا لتناقض الاحكام. والرابع: يصح في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن، ويبقى الباقي للمشتري مجانا. والخامس: لا يصح البيع إلا في القدر المقابل للثمن. فصل وقد سبق أن تقدم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه شرط. فلو كان في يد رجلين دار اشترياها بعقدين، وادعى كل أن شراءه سبق، وأنه يستحق على صاحبه الشفعة، نظر، إن ابتدأ أحدهما بالدعوى، أو جاءا معا وتنازعا في البداءة، فقدم أحدهما بالقرعة فادعى، فعلى الآخر الجواب، ولا يكفيه قوله: شرائي قبل، لانه ابتداء دعوى، بل إما أن يبقي سبق شراء المدعي، وإما أن يقول المدعي، وإما أن يقول: شرائي قبل، لانه ابتداء دعوى، بل إما أن ينفي سبق شراء المدعي، وإما أن يقول: لا يلزمني تسليم شئ إليك، وحينئذ يحلف، فان حلف، استقر ملكه ثم تسمع دعواه على الارل، فان حلف، استقر ملكه أيضا. وإن نكل المدعى عليه أولا وردت اليمين على المدعي، فإن حلف، أخذ ما يد المدعي عليه، وليس للمدعى عليه الناكل بعد ذلك أن يدعي عليه، لانه لم يبق له ملك يأخذ به. وإن نكل المدعي عن اليمين المردود، سقطت دعواه، وللمدعى عليه أن يدعي عليه. هذا إذا لم يكن بينة. أما إذا أقام أحدهما بينة بالسبق، فيقضى له. وإن أقام كل منهما بينة على سبق شرائه مطلقا، أو على أنه اشترى يوم السبت وصاحبه يوم الاحد، فمتعارضتان، وفي تعارضهما قولان. أظهرهما: سقوطهما، فكأنه لا بينة. والثاني: تستعملان. وفي كيفيته أقوال. أحدها: بالقرعة. فمن قرع، أخذ نصيب الآخر بالشفعة. والثاني: بالقسمة، ولا فائدة فيها هنا، إلا أن تكون الشركة بينهما على التفاوت، فيكون التصنيف مقيدا. والثالث الوقف. وعلى هذا،(4/167)
يوقف حق التملك إلى أن يظهر الحال. وقيل: لا معنى للوقف هنا. ولو عينت البينتان وقتا واحدا، فلا منافاة، لاحتمال وقوع العقدين معا، ولا شفعة لواحد منهما، لوقوع العقدين معا. وفي وجه: تسقطان.
الباب الثاني : في كيفية الاخذ بالشفعة فيه أطراف.
الأول : فيما يحصل به الملك، لا يشترط في التملك بالشفعة حكم الحاكم، ولا إحضار الثمن، ولا حضور المشتري، ولا رضاه. وقال الصعلوكي: حضور المأخوذ منه، أو وكيله، شرط، وهو شاذ ضعيف، ولا بد من جهة الشفيع من لفظ، كقوله: تملكت، أو اخترت الاخذ بالشفعة، أو أخذته بالشفعة، وما أشبهه. وإلا، فهو من باب المعاطاة. ولو قال: أنا مطالب بالشفعة، لم يحصل به التملك على الاصح، وبه قطع المتولي. ولذلك قالوا: يعتبر في التملك بها، أن يكون الثمن معلوما للشفيع، ولم يشترطوا ذلك في الطلب. وينبغي أن يكون في صحة التملك مع جهالة الثمن ما ذكرناه في بيع المرابحة. وفي التتمة إشارة إلى نحوه، ثم لا يملك الشفيع بمجرد اللفظ، بل يعتبر معه أحد أمور. الاول: أن يسلم العوض إلى المشتري، فيملك به قبل أن يسلمه، وإلا فيخلي بينه وبينه، أو يرفع الامر إلى القاضي حتى يلزمه التسليم. قلت: أو يقبض عنه القاضي. والله أعلم الثاني: أن يسلم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمته، إلا أن(4/168)
يبيع شقصا من دار عليها صفائح ذهب بالفضة، أو عكسه، فيجب التقابض في المجلس. ولو رضي بكون الثمن في ذمته، ولم يسلم الشقص، فوجهان. أحدهما: لا يحصل الملك، لان قول المشتري وعد. وأصحهما: الحصول، لانه معاوضة، والملك في المعاوضات لا يقف على القبض. الثالث: أن يحضر مجلس القاضي ويثبت حقه بالشفعة، ويختار التملك، فيقضي القاضي له بالشفعة، فوجهان. أحدهما: لا يحصل الملك حتى يقبض عوضه، أو يرضى بتأخره. وأصحهما: الحصول. الرابع: أن يشهد عدلين على الطلب واختيار الشفعة. فان لم نثبت الملك بحكم القاضي، فهنا أولى، وإلا، فوجهان لقوة قضاء القاضي. وإذا ملك الشفيع الشقص بغير الطريق الاول، لم يكن له أن يتسلمه حتى يؤدي الثمن، وأن يسلمه المشتري قبل أداء الثمن، ولا يلزمه أن يؤخر حقه بتأخير البائع حقه. وإذا لم يكن الثمن حاضرا وقت التملك، أمهل ثلاثة أيام، فان انقضت ولم يحضره، فسخ الحاكم تملكه، هكذا قاله ابن سريج والجمهور. وقيل: إذا قصر في الاداء، بطل حقه. وإن لم يوجد، رفع الامر إلى الحاكم وفسخ منه. فرع يثبت خيار المجلس للشفيع على الاصح المنصوص، وعلى هذا فيمتد إلى مفارقته المجلس. وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري ؟ وجهان. قلت: الذي صححه الاكثرون: أنه لا خيار للشفيع، ممن صححه صاحب التنبيه، والفارقي، والرافعي في المحرر، وقطع به البغوي في كتابيه التهذيب وشرح مختصر المزني، وهو الراجح أيضا في الدليل. والله أعلم(4/169)
فرع إذا ملك الشفيع، امتنع تصرف المشتري، فلوطلبه ولم يثبت الملك بعد، لم يمتنع، وفيه احتمال للامام، لتأكد حقه بالط. وفي نفوذ تصرف الشفيع قبل القبض إذا كان قد سلم الثمن، وجهان. أصحهما: المنع كالمشتري. والثاني: الجواز، لانه قهري كالارث. ولو ملك بالاشهاد أو بقضاء القاضي، لم ينفذ تصرفه قطعا، وكذا لو ملك برضى المشتري بكون الثمن عنده. فرع في تملك الشفيع الشقص الذي لم يره، طريقان. أصحهما: أنه على قولي بيع الغائب، إن منعناه، لم يتملكه قبل الرؤية، وليس للمشتري منعه من الرؤية، وإن صححناه، فله التملك. ثم قيل: خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس. وقيل: يثبت قطعا، لان خيار المجلس يبعد ثبوته لاحد الجانبين، بخلاف خيار الرؤية. قلت: هذا الثاني، أصح، وصححه الامام. والله أعلم والطريق الثاني: القطع بالمنع وإن صححنا بيع الغائب، لان البيع جرى بالتراضي، فأثبتنا الخيار فيه، وها هنا الشفيع أخذ من غير رضى المشتري، فلا يمكن إثبات الخيار فيه. فلو رضي المشتري أن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار، فعلى قول الغائب. وإذا جوزنا له التملك وأثبتنا الخيار، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن وإقباض المبيع حتى يراه، ليكون على ثقة منه. فرع للشفيع الرد بالعيب. ولو أفلس وكان المشتري سلم إليه الشقص راضيا بذمته، فله الاسترداد.(4/170)
الطرف الثاني : فيما يأخذ به الشفيع، المأخوذ أنواع. أحدها: المبيع. فان بيع بمثلي، أخذه يمثله. ثم إن قدر بميعاد الشرع، أخذه به، وإن قدر بغيره، بأن باع بمائة رطل حنطة، فهل يأخذه بمثله وزنا أو كيلا ؟ فيه خلاف سبق في القرض. فلو كان المثل منقطعا وقت الاخذ، عدل إلى القيمة كالغصب. وإن بيع بمتقوم من عبد وثوب ونحوهما، أخذه بقيمة ذلك المتقوم. والاعتبار بقيمة يوم البيع، لانه يوم إثبات العوض. وقال ابن سريج والبغوي وجماعة: يعتبر يوم استقرجر العقد وانقطاع الخيار. النوع الثاني: أن يكون الشقص رأس مال سلم أخذه بمثل المسلم فيه إن كان مثليا، أو بقيمته إن كان متقوما. الثالث: إذا صالح من دين على شقص، أخذه بمثل ذلك الدين إن كان مثليا، أو بقيمته إن كان متقوما. وسواء دين المعاملة ودين الاتلاف. الرابع: الشقص الممهور، يؤخذ بمهر مثل المرأة. وكذا إذا خالعها على شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح ويوم الخلع. هذا هو الصحيح المعروف. وفي التتمة وجه: أنه يأخذه بقيمة الشقص. ولو متع المطلقة بشقص، أخذه الشفيع بمتعة مثلها، لا بالمهر. الخامس: إذا أخذ من المكاتب شقصا عوضا عن النجوم، أخذه الشفيع بمثل النجوم أو بقيمتها. السادس: الشقص الذي جعل أجرة يؤخذ بأجرة مثل الدار. السابع: إذا صالح عليه عن الدم، أخذه الشفيع بقيمة الدية يوم الجناية، ويعود فيه قول ابن سريج والبغوي. الثامن: قال المتولي: إذا اقترض شقصا أخذه الشفيع بقيمته وإن قلنا: المقترض يرد المثلي. فصل إذا كان الثمن حالا، بذله الشفيع في الحال. فان كان بألف إلى سنة مثلا، ففيه أقوال. أظهرها: يتخير، إن شاء عجل الثمن وأخذ الشقص في(4/171)
الحال، وإن شاء صبر إلى أن يحل الاجل، فحينئذ يبذل الالف، ويأخذ الشقص، وليس له أن يأخذ بألف مؤ جل. والثاني: له الاخذ بألف مؤجل. والثالث: يأخذ بعرض يساوي الالف إلى سنة، فعلى الاول: لا يبطل حقه بالتأخير، لانه بعذر. وهل يجب إعلام المشتري بالطلب ؟ وجهان. أصحهما: نعم. ولو مات المشتري وحل عليه، لم يتعجل الاخذ على الشفيع، بل هو على خيرته، إن شاء عجل، وإن شاء أخر إلى انقضاء السنة. وإن مات الشفيع، فالخيرة لوارثه. ولو باع المشتري الشقص في المدة، صح، والشفيع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن الثاني، وبين أن يفسخه في الحال، أو عند حلول الاجل، ويأخذه بالثمن الاول. هذا إذا قلنا بالمذهب: إن الشفيع ينقض تصرف المشتري، وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى. وإن قلنا بالقول الثاني، ففي موضعه وجهان. أحدهما: أنه إنما يأخذ بثمن مؤجل إذا كان مليئا موثوقا به وأعطى كفيلا مليئا، وإلا، فلا يأخذ. والثاني: له الاخذ مطلقا. وإذا أخذه ثم مات، حل عليه الاجل. وإن قلنا بالثالث، فتعيين العرض إلى الشفيع، وتعديل القيمة إلى من يعرفها. قال الامام: فلو لم يتفق طلب الشفعة حتى حل الاجل، وجب أن لا يطالب على هذا القول إلا بالعرض المعدل، لان الاعتبار في قيمة عوض المبيع بحال البيع، ثم على القول الثاني والثالث، إذا أخر الشفيع، بطل حقه. فصل إذا اشترى مع الشقص منقولا، كسيف وثوب، صفقة واحدة، وزع الثمن عليهما على اعتبار قيمتهما، وأخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن، وتعتبر قيمتهما يوم البيع، ولا خيار للمشتري وإن تفرقت صفقته لدخوله فيها عالما بالحال. فرع إذا اشترى شقصا من دار نقضت، فلها أحوال. إحداها: أن تتعيب من غير تلف شئ منها، ولا انفصال بعضها عن بعض،(4/172)
بأن ينشق جدار، أو مالت اسطوانة، أو انكسر جذع، أو اضطرب سقف، فالشفيع بالخيار بين الاخذ بكل الثمن، وبين، الترك، كتعيبها في يد البائع. الثانية: أن يتلف بعضها، فينظر إن تلف شئ من العرصة بأن غشيها سيل فغرقها، أخذ الباقي بحصته من الثمن. وإن بقيت العرصة وتلفت السقوف والجدران باحتراق وغيره، فيبنى على الخلاف السابق في كتاب البيع: أن سقف الدار المبيعة وجدارها كأحد العبدين المبيعين، أم كطرف من أطراف العبد وصفة من صفاته ؟ فإن قلنا بالاصح: إنه كأحد العبدين، أخذ العرصة بحصتها من الثمن. وإن قلنا: كطرف العبد، أخذها بكل الثمن. وقيل: إن تلف بآفة سماوية، أخذ بكل الثمن. وإن تلف با تلاف متلف، أخذ بالحصة، لان المشتري وحصل له بدل التالف، فلا يتضرر. الثالثة: أن لا يتلف شئ منها، لكن ينفصل بعضها عن بعض بالانهدام، فهل يأخذ الشفيع النقض. فيه قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم. فعلى هذا يأخذه مع العرصة بكل الثمن، أو يتدكهما. وإن قلنا: لا يأخذه، بني على أن السقف والجدار كأحد العبدين، أو كطرف العبد. إن قلنا بالاول، أخذ العرصة وما بقي من البناء بحصتها من الثمن، وإلا، فوجهان. أحدهما: يأخذ بالحصة. والثاني وهو قياس الاصل المبني عليه: يأخذ بتمام الثمن كالحالة الاولى. وعلى هذا يشبه النقض بالثمار والزوائد التي يفوز بها المشتري قبل أخذ الشفيع. فصل إذا اشترى الشقص، ثم اتفق المتبايعان على حط من الثمن، أو زيادة فيه، فذلك قد يكون بعد لزوم العقد وقبله، وفي زمن الخيار ومكانه. وسبق بيان ذلك كله في كتاب البيع. وحاصله: أنه لا يلحق الحط ولا الزيادة بالعقد بعد لزومه، لا حط الكل، ولاحط البعض. وفيما قبل لزومه، وجهان. أصحهما: اللحوق. فإن قلنا به، وحط الثمن، فهو كما لو باع بلا ثمن، فلا شفقة للشريك، لانه يصير، حبة على رأي، ويبطل على رأي. فصل إذا اشترى الشقص بعبد مثلا، وتقابضا، ثم وجد البائع بالعبد عيبا، وأراد رده واسترداد الشقص، وطلب الشفيع الشقص، ففي المقدم منهما خلاف سبق قريبا. وحكى الامام طريقا حازما بتقديم البائع. ولو علم عيب العبد بعد(4/173)
أخذ الشفيع الشقص لم ينقض بملك الشفيع، كما لو باع ثم اطلع على عيب. وفي قول: يسترد المشتري الشقص من الشفيع، ويرد عليه ما أخذه، ويسلم الشقص إلى البائع، لان الشفيع نازل منزلة المشتري، فرد البائع يتضمن نقض ملكه، كما يتضمن نقض ملك المشتري لو كان في ملكه، والمشهور هو الاول. فإذا قلنا به، أخذ البائع قيمة الشقص من المشتري. فان كانت مثل قيمة العبد، فذاك، وإلا، ففي رجوع من بذل الزيادة على صاحبه وجهان. أصحهما: لا رجوع، لان الشفيع ملكه بالمبذول، فلا يتغير حكمه. ولو عاد الشقص إلى ملك المشتري بابتياع أو غيره، لم يتمكن البائع من إجباره على رد الشقص، ولا المشتري من إجبار البائع على القبول ورد القيمة، بخلاف ما إذا غرم قيمة المغصوب لا باقه، فرجع، لان ملك المغصوب منه لم يزل، وملك المشتري قد زال. وحكى المتولي فيه وجهين بناء على أن الزائل العائد، كالذي لم يزل، أم كالذي لم يعد ؟ والمذهب: الاول. ولو وجد البائع العيب بالعبد، وقد حدث عنده عيب، فأخذ الارش لامتناع الرد، نظر، إن أخذ الشفيع الشقص بقيمة العبد سليما، فلا رجوع عليه. وإن أخذه بقيمته معيبا، ففي رجوع المشتري على الشفيع الوجهان السابقان في التراجع. لكن الاصح هنا: الرجوع، ومال ابن الصباغ إلى القطع به، لان الشقص استقر عليه بالعبد والارش، ووجوب الارش من مقتضى العقد، لاقتضائه السلامة. ولو رضي البائع ولم يرده، ففيما يجب على الشفيع وجهان. أحدهما: قيمة العبد سليما. والثاني: قيمته معيبا. حتى لو بذل قيمة السليم، استرد قسط السلامة من المشتري، وبالاول قطع البغوي، وغلط الامام قائله. فرع للمشتري رد الشقص بالعيب على البائع، وللشفيع رده على المشتري بالعيوب السابقة على البيع وعلى الاخذ. ثم لو وجد المشتري العيب بعد أخذ الشفيع، فلا رد في الحال، ولا أرش له على المذهب. ويجئ فيه الخلاف السابق فيما إذا باعه. فلو رد عليه الشفيع بالعيب، رده حينئذ على البائع. ولو وجد(4/174)
المشتري عيب الشقص قبل أخذ الشفيع، ومنعه عيب حادث من الرد، فأخذ أرش العيب القديم، حط ذلك عن الشفيع. وإن قدر على الرد، لكن توافقا على الارش، ففي صحة هذه المصالحة وجهان سبقا. فإن صححناها، ففي حطه عن الشفيع وجهان. أصحهما: الحط. والثاني: لا، لانه تبرع من البائع. فصل اشترى بكف من الدراهم لا يعلم وزنها، أو صبرة حنطة لا يعلم كيلها، فيوزن ويكال ليأخذ الشفيع بذلك القدر. فإن كان ذلك غائبا، فتبرع البائع باحضاره، أو أخبر عنه، واعتمد قوله، فذاك، وإلا، فليس للشفيع أن يكلفه الاحضار، ولا الاخبار عنه. وإن هلك الثمن وتعذر الوقوف عليه، تعذر الاخذ بالشفعة. فإن أنكر الشفيع كون الشراء بما لا يعلم قدره، نظر، إن عين قدرا وقال: اشتريت بكذا، وقال المشتري: لم يكن قدره معلوما، فالاصح المنصوص الذي عليه جمهور الاصحاب: أنه يقنع منه بذلك، ويحلف عليه. وقال ابن سريج لا يقنع منه ولا يحلف، بل إن أصر على ذلك، جعل ناكلا وردت اليمين على الشفيع. وعلى هذا الخلاف، لو قال: نسيت، فهو كالنكول. وإن لم يعين قدرا، لكن ادعى على المشتري أنه يعلمه، وطالبه بالبيان، فوجهان. أصحهما: لا تسمع دعواه حتى يعين قدرا، فيحلف المشتري حينئذ أنه لا يعرف. والثاني: تسمع، ويحلف المشتري على ما يقوله. فإن نكل، حلف الشفيع على علم المشتري، وحبس المشتري حتى يبين قدره. فعلى الاول: طريق الشفيع أن يعين قدرا، فإن وافقه المشتري، فذاك، وإلا، حلفه على نفيه، فان نكل، استدل الشفيع بنكوله وحلف على ما عينه، وإن حلف المشتري، زاد وادعى ثانيا. وهكذا يفعل إلى أن ينكل المشتري، فيستدل الشفيع بنكوله ويحلف. وهذا أن اليمين قد تستند إلى التخمين، ولهذا له أن يحلف على خط أبيه إذا سكنت نفسه إليه. فصل إذا ظهر الاستحقاق في ثمن الشقص المشفوع، فان ظهر في ثمن المبيع، نظر، إن كان معينا، بأن بطلان البيع وبطلت الشفعة، وعلى الشفيع رد(4/175)
الشقص إن كان قبضه. وإن خرج بعضه مستحقا، بطل البيع في ذلك القدر، وفي الباقي قولا (تفريق) الصفقة. فان فرقناها واختار المشتري الا جازة، فللشفيع الاخذ. وإن اختار الفسخ وأراد الشفيع أخذه، ففيه الخلاف فيما إذا أصدقها شقصا ثم طلقهج قبل الدخول. وإن كان الثمن في الذمة، وخرج المدفوع مستحقا، لزمه إبداله، والبيع والشفعة بحالهما، وللبائع استرداد الشقص ليحبسه إلى أن يقبض الثمن، وإن ظهر الاستحقاق في ثمن الشفيع، فان كان جاهلا، لم يبطل حقه وعليه الابدال. وإن كان عالما، لم يبطل على الاصح، واختاره كثير من الاصحاب، وقطع البغوي بالبطلان. ثم قال الشيخ أبو حامد وآخرون: الوجهان فيما إذا كان الثمن معينا، بأن قال: تملكت الشقص بهذه الدراهم. أما إذا كان غير معين، كقوله: تملكته بعشرة دنانير، ثم نقد المستحقة، فلا تبطل شفعته قطعا، وقيل: الوجهان في الحالين. قلت: الصحيح: الفرق بين في الحالتين. والله أعلم ثم في حالة الجهل والعلم، إذا قلنا: لا يبطل حقه، هل نتبين أنه لم يملك بأداء المستحق، ويفتقر إلى تملك جديد ؟ أم نقول: قد ملكه والثمن دين عليه ؟ فيه وجهان. قال الغزالي: أصحهما: الثاني، وهو خلاف المفهو من كلام الجمهور، لا سيما في حالة العلم. وخروج الدنانير نحاسا، كخروجها مستحقة. ولو خرج ثمن المبيع رديئا، فللبائع الخيار بين الرضى به والاستبدال. فإن رضي، لم يلزم المشتري الرضى بمثله، بل يأخذ من الشفيع ما اقتضاه العقد، ذكره البغوي. قلت: وفي هذا احتمال ظاهر. والله أعلم ولو خرج ما دفعه الشفيع رديئا، لم تبطل شفعته عالما كان أو جاهلا. وقيل: هو كخروجه مستحقا، والمذهب: الاول. فصل إذا بنى المشتري، أو غرس، أو زرع، في المشفوع، ثم علم الشفيع، فله الاخذ وقلع بنائه وغراسة وزرعه مجانا، لا بحق الشفعة، بل لانه شريك. وأحد الشريكين إذا انفرد بهذه التصرفات في الارض المشتركة، كان للآخر أن يقلع مجانا. وإن بنى أو غرس المشتري في نصيبه بعد القسمة والتمييز، ثم علم(4/176)
الشفيع، لم يكن له قلعه مجانا، كذا نص عليه الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم. وفي المسألة إشكالان. أحدهما: قال المزني: المقاسمة تتضمن الرضى من الشفيع، وإذا رضي بتملك المشتري بطلت شفعته، فكيف يتصور ثبوت الشفعة بعد القسمة ؟ الثاني: أن القسمة تقطع الشركة، فيصيران جا رين، ولا شفعة للجار. وأجاب الاصحاب عن الاول، فصوروا صحة القسمة مع بقاء الشفعة في صور. منها: أن يقال للشفيع: جرى الشراء بألف، فيعفو ويقاسم، أو أن الشقص ملكه بالهبة فيقاسم، ثم بأن الشراء كان بدون ألف، وأن الملك حصل بالبيع، فتصح القسمة وتثبت الشفعة. ومنها: أن يقاسم الشفيع المشتري على ظن أنه وكيل للبائع باخباره، أو بسبب آخر. ومنها: أن يكون للشفيع وكيل بالقسمة مع شركائه ومع المشترين منهم، فيقاسم الوكيل المشتري بغير علم الشفيع. ومنها: أن يكون له وكيل في القسمة وفي أخذ الاشقاص بالشفعة، فرأى في شقص الحظ في تركه، فيتركه، ويقاسم، ثم يقدم الشفيع، ويظهر له أن له الحظ في الاخذ، وكذلك ولي اليتيم. ومنها: أن يكون الشفيع غائبا، فيطالب المشتري الحاكم بالقسمة، فيجيبه وإن علم بثبوت الشفعة، كذا قاله الاصحاب، وتوقف الامام في إجابته إذا علم ثبوت الشفعة. وأمآ الثاني: فأجابوا عنه بأن الجواز إنما لا يكفي في الابتداء. فإذا تقرر ما ذكرناه، فإن اختار المشتري قلع البناء والغراس، فله ذلك، ولا يكلف تسوية الارض، لانه كان متصرفا في ملكه.(4/177)
فان حدث في الارض نقص، فيأخذه الشفيع على صفته، أو يترك. وإن لم يختر المشتري القلع، فللشفيع الخيار بين إبقاء ملكه في الارض بأجرة، وبين تملكه بقيمته يوم الاخذ، وبين أن ينقضه ويغرم أرش النقص على الصفة المذكورة في المعير إذا رجع وقد بنى المستعير أو غرس بلا فرق. وإن كان قد زرع، بقي زرعه إلى أن يدرك فيحصد. وقياس الباب: أن يجئ الخلاف المذكور هناك في زرع الارض المستعارة. والمذهب في الموضعين، تبقية الزرع. ثم قال صاحب التقريب: في مطالبة الشفيع للمشتري بالاجرة، الخلاف في المعير. وقال الجمهور: لا مطالبة هنا قطعا، وهو المذهب، لانه زرع ملك نفسه، بخلاف المستعير، فأشبه من باع أرضا مزروعة، لا مطالبة للمشتري بأجرة مدة بقاء الزرع على المذهب، وقد سبق بيانه في كتاب البيع. فرع إذا زرع المشتري، فللشفيع تأخير الشفعة إلى الادراك والحصاد. قال الامام: ويحتمل أن لا يجوز التأخير وإن تأخرت المنفعة، كما لو بيعت الارض في غير وقت الانتفاع، لا يؤخر الاخذ إلى وقته. ولو كان في الشقص شجر عليه ثمر لا يستحق بالشفعة، ففي جواز تأخيره إلى القطاف وجهان، لان الثمر لا يمنع الانتفاع بالمأخوذ. فصل تصرفات المشتري في الشقص من البيع والوقف وغيرهما صحيحة، لانها في ملكه. وقيل: باطلة، وهو شاذ. فعلى الصحيح: ينظر إن كان التصرف مما لا تثبت فيه الشفعة كالوقف،(4/178)
والهبة، والاجارة، فللشفيع نقضه وأخذ الشقص بالشفعة. وإن كان مما تثبت فيه الشفعة كالبيع والاصداق، فهو كالخيار بين أن ينقضه ويأخذ الشقص بالعقد الاول، وبين أن لا ينقض ويأخذ بالعقد الثاني. هذا هو المذهب. وفي وجه: لا ينقض تصرفه. وفي وجه: لا ينقض ما تثبت فيه الشفعة، لكن يتجدد حق الشفعة بذلك. وقيل: لا يتجدد أيضا، لانه تصرف يبطل الشفعة، فلا يثبتها. وفي وجه: لا ينقض الوقف، وينقض ما سواه. فصل في الاختلاف وفيه مسائل. الاولى: قال المشتري: عفوت عن شفعتك، أو قصرت، فسقطت، فالقول قول الشفيع. الثانية: قال: اشتريت بألف، فقال الشفيع: بل بخمسمائة، صدق المشتري، لانه أعلم بعقده. وكذا لو كان الثمن عرضا، وتلف، واختلفا في قيمته، فإن نكل المشتري، حلف الشفيع وأخذ بما حلف عليه. فإن كان لاحدهما بينة، قضي بها.(4/179)
ولا تقبل شهادة البائع للمشتري على الصحيح، لانه يشهد بحق نفسه. وقيل: تقبل، لانه لا يجر لنفسه نفعا، والثمن ثابت له باقرار المشتري. ولو شهد للشفيع، فهل يقبل قوله ؟ فيه أوجه. أحدها: لا، وبه قطع العراقيون، لانه يشهد على فعله. والثاني: نعم، وصححه البغوي، لانه ينقض حقه. والثالث: إن شهد قبل قبضه الثمن، قبلت، لانه ينقض حقه، إذ لا يأخذ أكثر مما شهد به، وإن شهد بعده، فلا، لانه يجر إلى نفسه نفعا، فإنه إذا قل الثمن، قل ما يغرمه عند ظهور الاستحقاق. وإن أقام كل واحد منهما بينة، فوجهان، أحدهما: تقدم بينة المشتري، كما أن بينة الداخل أولى من بينة الخارج. وأصحهما: أنهما تتعارضان، لان النزاع هنا فيما وقع العقد به، ولا دلالة لليد عليه. فعلى هذا إن قلنا: تسقطان، فهو كما لو لم يكن بينة. وإن قلنا تستعملان، فالاستعمال هنا بالقرعة أو الوقف. الثالثة: اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فإن ثبت قول المشتري، فذاك، وإن ثبت قول البائع بالبينة أو اليمين المردودة، لزم المشتري (ما ادعاه البائع وأخذ الشفيع بما ادعاه المشتري). وتقبل شهادة الشفيع للبائع، ولا تقبل للمشتري، لانه متهم في تقليل الثمن. وإن لم تكن بينة، وتحالفا، وفسخ عقدهما، أو انفسخ، فإن جرى ذلك بعدما أخذ الشفيع الشقص، أقر في يده، وعلى المشتري قيمة الشقص للبائع. وإن جرى قبل الاخذ، ففي سقوط حقه الخلاف السابق في خروجه معيبا. فإن قلنا: لا يسقط، أخذه بما حلف عليه البائع، لان البائع اعترف باستحقاق الشفيع الاخذ بذلك الثمن، فيأخذه منه وتكون عهدته على البائع. الرابعة: أنكر المشتري كون الطالب شريكا، فالقول قول المشتري بيمينه، فيحلف على نفي العلم بشركته، لا على نفي شركته، فإن نكل، حلف الطالب على البت وأخذ بالشفعة، وكذا الحكم لو أنكر تقدم ملك الطالب على ملكه.(4/180)
الخامسة: إذا كانا شريكين في عقار، فغاب أحدهما، ورأينا نصيبه في يد ثالث، فادعى الحاضر عليه أنه اشتراه، وأنه يستحقه بالشفعة، فإن كان للمدعي بينة، قضي بها وأخذه بالشفعة. ثم إن اعترف المدعى عليه، سلم الثمن إليه، وإلا، فهل يترك الثمن في يد المدعى إلى أن يقر المدعى عليه، أم يأخذه القاضي وحفظه، أم يجبر على قبوله أو الابراء منه ؟ فيه ثلاثة أوجه مذكورة في باب الاقرار وغيره. ولو أقام المدعي بينة، وجاء المدعى عليه ببينة أنه ورثه أو اتهبه، تعارضتا. وإن جاء ببينة أن الغائب أودعه إياه، أو أعاره، فإن لم يكن للبينتين تاريخ، أو سبق تاريخ الايداع، فلا منافاة فيقضى بالشفعة، لانه ربما أودعه ثم باعه، وإن سبق تاريخ البيع، فلا منافاة أيضا، لاحتمال أن البائع غصبه بعد البيع ثم رده إليه بلفظ الايداع، فاعتمده الشهود. فإن انقطع الاحتمال بأن كان تاريخ الايداع متأخرا، وقال الشهود: أودعه وهي ملكه، فهاهنا يراجع الشريك القديم. فإن قال: وديعة، سقط حكم الشراء. وإن قال: لا حق لي فيه، قضي بالشفعة. أما إذا لم يكن للمدعي بينة، فللمدعى عليه في الجواب أحوال. أحدها: أن يقر بأنه كان لذلك الغائب فاشتراه منه، فهل للمدعي أخذه ؟ وجهان. أحدهما: لا، إذ لا يقبل قوله على الغائب، فيوقف الامر حتى يكاتب، هل هو مقر بالبيع ؟ وأصحهما: نعم، لتصادقهما على البيع، ويكتب القاضي في السجل أنه أثبت الشفعة بتصادقهما، فإذا قدم الغائب، فهو على حقه. الثاني: أن ينكر أصل الشراء، فيصدق بيمينه. ثم إن اقتصر في الجواب إنه لا يستحق اخذه بالشفعة أو أنه لا يلزمه التسلم إليه حلف ذلك ولم يلزمه التعرض لنفي الشراء. وإن قال في الجواب: لم اشتره، بل ورثته، أو اتهبته، فيحلف لذلك، أم يكفي الحلف على أنه لا يستحق الشفعة ؟ وجهان سبقا في دعوى عيب المبيع. وإن نكل المدعى عليل، حلف الطالب واستحق الشقص. وفي الثمن الاوجه السابقة. هذا إذا أنكر الشراء والشريك القديم غير معترف بالبيع، فإن كان معترفا والشقص في يده، نظر، إن لم يعترف بقبض الثمن، ثبتت الشفعة على الاصح. وإلى من يسلم الثمن ؟ وجهان. أصحهما: إلى البائع، وعهدته عليه، لانه يتلقى الملك منه. والثاني: ينصب القاضي أمينا يقبض الثمن منه للمشتري ويدفعه إلى البائع، ويقبض الشقص من يد البائع للمشتري ويدفعه إلى الشفيع. وإذا أخذ البائع(4/181)
ثمن الشقص، فهل له مخاصمة المشتري ومطالبته بالثمن ؟ وجهان، لانه قد يكون ماله أبعد عن الشبهة، والرجوع عليه بالدرك أسهل. فإن قلنا: نعم، وحلف المشتري، فلا شئ عليه. وإن نكل، حلف البائع، وأخذ الثمن من المشتري، وكانت عهدته عليه. وأما ما أخذه من الشفيع، فهل يؤخذ منه ويوقف، أم يترك في يده ؟ وجهان. كذا قال البغوي، وفي الشامل أن الوجهين في أنه هل يطالب المشتري فيما إذا لم يرض أخذ الثمن من الشفيع ؟ فإن رضي، فليقنع به، وهذا أصح. فإن اعترف مع البيع بقبض الثمن، فإن قلنا: لا شفعة إذا لم يعترف بالقبض، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. وأصحهما: ثبوتها. ثم هل يترك الثمن في يد الشفيع، أم يأخذه القاضي ويحفظه، أم يجبر المشتري على قبوله والابراء منه ؟ فيه الاوجه السابقة. الحال الثالث: أن يقول: اشتريته لفلان ولا خصومة لك معي، فينظر في المضاف إليه، أحاضر، أم غائب، أم صبي ؟ وحكمه ما يأتي في سائر الدعاوى إن شاء الله تعالى.
الطرف الثالث : في تزاحم الشفعاء، وهو ثلاثة أضرب. أحدها: أن يتفق الشركاء على الطلب. ونقدم عليه أن تعدد المستحقين قد يكون ابتداء، بأن كانت الدار بين جماعة، فباع أحدهم نصيبه، وثبتت الشفعة للباقين، وقد يكون دواما، بأن يموت المستحق ويترك ورثة، فلهم الشفعة. فإن تساوت حصص المستحقين، تساووا في الشقص. وإن تفاوتت كنصف وثلث وسدس، فباع صاحب النصف، فقولان، أظهرهما: أن الشفعة على قدر الحصص، فيقسم النصف بينهما أثلاثا. والثاني: على عدد الرؤوس، فيقسم نصفين.(4/182)
فرع مات مالك الدار عن ابنين: (ثم مات أحدهما عن ابنين) ثم باع أحد الابنين نصيبه، فهل يشترك الاخ والعم في الشفعة، أم يختص بها الاخ ؟ قولان. أظهرهما: الاول. فعلى هذا، هل يوزع بينهما بالسوية، أم بالحصص ؟ فيه القولان. وقال الامام: مقتضى المذهب: القطع بالحصص. وإذا قلنا: يختص الاخ فعفا، ففي ثبوتها للعم وجهان. أحدهما: لا، لانه لو كان مستحقا، لما تقدم عليه غيره. والثاني: نعم، لانه شريك، وإنما تقدم الاخ، لزيادة قربه، كما أن المرتهن يقدم في المرهون على الغرماء. فلو سقط حقه، تمسك به الباقون. قلت: ينبغي أن يكون هذا الثاني أصح. والله أعلم ويجري القولان في مسألة الاخ والعم في كل صورة، ملك شريكان بسبب واحد، وغيرهما من الشركاء بسبب آخر، فباع أحد المالكين بالسبب الواحد، ففي قول: الشفعة لصاحبه خاصة، وعلى الاظهر: للجميع. مثاله: بينهماا دار، فباع أحدهما نصيبه لرجلين، أو وهبه، ثم باع أحدهما نصيبه. ولو مات من له دار عن بنتين وأختين، فباعت إحدى البنتين نصيبها، فطريقان. أحدهما: على القولين. ففي قول: تختص بالشفعة البنت الاخرى، وعلى الاظهر: يشتركن كلهن. والطريق الثاني وهو المذهب: القطع بالاشتراك. فرع مات الشفيع عن ابن وزوجة ورثا حق الشفعة، ففي كيفية إرثهما طرق. أصحها: يأخذان على قدر الميراث قطعا. والثاني: القطع بالتسوية بينهما. والثالث: على القولين. فرع دار بين اثنين نصفين، باع أحدهما نصف نصيبه لزيد، ثم باع(4/183)
النصف الآخر لعمرو، فالشفعة في النصف الاول تختص بالشريك الاول. ثم قد يعفو عنه، وقد يأخذه. وفي النصف الثاني أوجه. أحدها: يختص به الاول. والثاني: يشترك فيه الاول والمشتري الاول. أصحهما: إن عفا الشريك الاول عن النصف الاول، اشتركا، وإلا، فيختص به الشريك الاول. الضرب الثاني: أن يطلب بعض الشركاء ويعفو بعضهم. ونقدم عليه ما إذا كانت الشفعة لواحد فعفا عن بعضها، وفيه أوجه. أصحها: يسقط جميعها كالقصاص. والثاني: لا يسقط شئ كعفوه عن بعض حد القذف. والثالث: يسقط ما عفا عنه ويبقى الباقي، قال الصيدلاني: وموضع هذا الوجه، ما إذا رضي المشتري بتبعيض الصفقة، فإن أبى وقال: خذ الكل أو دعه، فله ذلك. قال الامام: وهذه الاوجه، إذا لم نحكم بأن الشفعة على الفور. فإن حكمنا به، فطريقان. منهم من قطع بأن العفو عن البعض تأخير لطلب الباقي، ومنهم من احتمل ذلك إذا بادر إلى طلب الباقي، وطرد الاوجه. ويؤيد الاول أن صاحب الشامل قال: استحق شقصا، فجاء وقال: آخذ نصفه، سقطت شفعته في الكل، لانه ترك طلب النصف. إذا تقرر هذا، فاستحق اثنان شفعة، فعفا أحدهما عن حقه، فأوجه. أصحها: يسقط حق العافي، ويثبت الجميع للآخر. فان شاء أخذ الجميع، وإن شاء تركه، وليس له الاقتصار على قدر حصته، لئلا تتبعض الصفقة على المشتري. والثاني: يسقط حقهما جميعا، قاله ابن سريج، كالقصاص. والثالث: لا يسقط حق واحد منهما، تغليبا للثبوت كما سبق في الصورة الاولى. والرابع: يسقط حق العافي، وليس لصاحبه أن يأخذ إلا قسطه، وليس للمشتري أن يلزمه أخذ الجميع. هذا إذا ثبتت الشفعة لعدد ابتداء. فلو ثبتت لواحد فمات عن ابنين، فعفا أحدهما، فهل هو كما لو ثبتت لواحد فعفا عن بعضها، أم كثبوتها لابنين عفا أحدهما ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. ولو كان للشقص شفيعان، فمات كل عن ابنين، فعفا أحدهما عن حقه، فحاصل المنقول تفريعا على ما تقدم أوجه.(4/184)
أحدها: يسقط الكل. والثاني: يبقى الكل للاربعة. والثالث: يسقط حق العافي وأخيه، ويأخذ الآخران. والرابع: ينتقل حق العافي إلى الثلاثة، فيأخذون الشقص أثلاثا. والخامس: يستقر حق العافي للمشتري، ويأخذ ثلاثة أرباع الشقص. والسادس: ينتقل حق العافي إلى أخيه فقط. قلت: أصحها: الرابع. والله أعلم فرع مات الشفيع عن ابنين، فادعى المشتري عفوهما، فالقول قولهما مع يمينهما على البت. فلو ادعى عفو أبيهما، حلفا على نفي العلم. فإن حلفا، أخذا. وإن نكلا، حلف المشتري، وبطل حقهما. وإن حلف أحدهما فقط، فإن قلنا بالاصح: إنه إذا عفا أحدهما أخذ الآخر الجميع، فلا يحلف المشتري، إذ لا فائدة فيه، وبه قال ابن الحداد. وإن قلنا: حق العافي يستقر للمشتري، حلف المشتري ليستقر له نصيب الناكل. ثم الوارث الحالف، لا يستحق الجميع بنكول أخيه، ولكن إن صدق أخاه على أنه لم يعف، فالشفعة بينهما. وإن ادعى عليه العفو، وأنكر الناكل، عرضت عليه اليمين لدعوى أخيه، ولا يمنعه من الحلف نكوله في جواب المشتري. فان حلف، فالشفعة بينهما. وإن نكل أيضا، حلف المدعي أنه عفا، وحينئذ يأخذ الجميع. الضرب الثالث: أن يحضر بعض الشركاء دون بعض. فإذا كانت الدار لاربعة بالسوية، فباع أحدهم نصيبه، وثبتت الشفعة للباقين، فلم يحضر إلا واحد، فليس له أخذ حصته فقط، ولا يكلف الصبر إلى حضورهما، بل إن شاء أخذ الجميع أو تركه. وهل له تأخير الاخذ إلى حضورهما ؟ إذا قلنا: الشفعة على الفور، وجهان. أصحهما: نعم، للعذر، وإذا أخذ الجميع، ثم حضر أحد الغائبين، أخذ منه النصف بنصف الثمن، كما لو لم يكن إلا شفيعان. فإذا حضر الثالث، فله أن يأخذ من كل واحد ثلث ما في يده، ثم يترتب على ما ذكرنا فروع. أحدها: خرج الشقص مستحقا بعد الترتيب المذكور، ففي العهدة وجهان. احدهما: عهدة الثلاثة على المشتري لاستحقاقهم الشفعة عليه. والثاني: أن(4/185)
رجوع الاول على المشتري، فيسترد منه كل الثمن، ورجوع الثاني على الاول، فيسترد منه النصف، ورجوع الثالث على الاول والثاني، يسترد من كل ما دفع إليه، وهذا أصح، ورجح العراقيون، الاول. وقال المتولي: هذا الخلاف في الرجوع بالمغروم من أجرة، ونقص قيمة الشقص. فأما الثمن، فكل فيسترد ما سلمه ممن سلمه إليه بلا خلاف. الثاني: أخذ الحاضر جميع الشقص، فوجده معيبا فرده، فحضر الثاني وهو في يد المشتري، فله أخذ الجميع. الثالث: ما يستوفيه الاول من المنافع، ويحصل له من الاجرة والثمرة، يسلم له، فلا يزا حمه فيه الثاني والثالث على الاصح، وكذا الثالث لا يزاحم الثاني فيما يحصل له بعد المناصفة، كما أن الشفيع لا يزاحم المشتري فيها. الرابع: أخذ الاول كل الشقص وأفرزه، بأن أتى الحاكم فنصب قيما في مال الغائبين، فاقتسما، وبنى فيه، أو غرس ثم رجع الغائبان، هل لهما القلع ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما أن الشفيع لا يقلع بناء المشتري وغراسه مجانا. والثاني: نعم، لانهما يستحقان كاستحقاق الاول، فليس له التصرف حتى يظهر حالهما، بخلاف الشفيع مع المشتري. الخامس: إذا حضر اثنان فأخذا الشقص، واقتسما مع القيم في مال الغائب، ثم قدم (الغائب)، فله الاخذ وإبطال القسمة، فان عفا، استمرت القسمة. السادس: أخذ اثنان، فحضر الثالث، وأراد أخذ ثلث ما في يد أحدهما ولا يأخذ من الثاني شيئا، فله ذلك، كما للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين دون الآخر. السابع: أخذ الاول الجميع، فحضر الثاني وأراد أخذ الثلث فقط، فله ذلك على الاصح، لانه لا يفرق الحق على الاول. فان أخذ الثلث على هذا الوجه، أو بالتراضي، ثم حضر الثالث، نظر، إن أخذ من الاول نصف ما في يده، ولم يتعرض للثاني، فلا كلام، وإن أراد أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده، فله ذلك، لان حقه ثابت في كل جزء، ثم له أن يقول للاول: ضم ما معك إلى ما أخذته(4/186)
لنقسمه نصفين لانا متساويان. وإنما تصح قسمة الشقص في هذه الحالة من ثمانية عشر، لانا نحتاج إلى عدد لثلثه ثلث وهو تسعة، مع الثاني منها ثلاثة، ومع الاول ستة، فينتزع الثالث من الثاني واحدا يضمه إلى الستة التي مع الاول، فلا ينقسم بينهما، فتضرب اثنين في تسعة تبلغ ثمانية عشر، للثاني منها اثنان في اثنين بأربعة، تبقى أربعة عشر للاول والثالث نصفين، وهذا المنقسم من ثمانية عشر، ربع الدار، فتقسم جملتها من اثنين وسبعين. هذا ما ذكره الاكثرون ونقلوه عن ابن سريج. وقال القاضي حسين: لما ترك الثاني سدسا للاول، صار عافيا عن بعض حقه، فيبطل جميع حقه على الاصح كما سبق، فينبغي أن يسقط حق الثاني كله، ويكون الشقص بين الاول والثالث. قلت: الاصح قول الاكثرين، ولا يسلم أنه أسقط بعض حقه. والله أعلم الثامن: قال ابن الصباغ: لو حضر اثنان وأخذ الشقص، ثم حضر الثالث وأحدهما غائب، فان قضى له القاضي على الغائب، أخذ من كل ثلث ما في يده، وإلا، فهل يأخذ ثلث ما في يد الحاضر، أم نصفه ؟ وجهان. ثم إن حضر الغائب وغاب الحاضر، فإن كان الثالث أخذ من الحاضر ثلث ما معه، أخذ من القادم ثلث ما في يده أيضا. وإن كان أخذ نصفه، أخذ من القادم سدس ما في يده ويتم بذلك نصيبه، وينقسم هذا الشقص من اثني عشر، وجملة الدار من ثمانية وأربعين. التاسع: ثبتت الشفعة لحاضر وغائب، فعفا الحاضر، ثم مات الغائب، فورثه الحاضر، فله أخذ الشقص كله بالشفعة تفريعا على الاصح: أنه إذا عفا أحد الشريكين، أخذ الآخر الجميع. وإن قلنا: عفو أحدهما يسقط حق الآخر، لم يأخذ شيئا. وإن قلنا: يستقر نصيب العافي للمشتري، لم يأخذ الحاضر بحق الارث إلا النصف.
فصل ليس للشفيع تفريق الصفقة على المشتري.
ولو اشترى اثنان شقصا من رجل، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما فقط، إذ لا تفريق عليه. ولو باع اثنان من ملاك الدار شقصا لواحد، جاز أن يأخذ حصة أحد البائعين على الاصح. ولو باع اثنان نصيبهما لاثنين يعقد واحد، فهو كأربعة عقود، تفريعا على الاظهر أن تعدد البائع كتعدد المشتري، فللشفيع الخيار، فان شاء أخذ الجميع أو ثلاثة أرباعه وهو(4/187)
نصيب أحد المشتريين ونصف نصيب الآخر، أو يأخذ نصف الجملة بأخذ نصيب أحدهما، أو نصف نصيب كل واحد أو يأخذ ربع الجملة وهو نصف نصيب أحدهما. ولو وكلا وكيلا في بيع شقص أو شرائه، أو وكل وكيلين في بيع شقص أو شرائه، فالاعتبار بالعاقد، أم بمن له العقد ؟ فيه خلاف سبق في تفريق الصفقة. فلو كانت الدار لثلاثة، فوكل أحدهم ببيع نصيبه، وجوز له أن يبيعه مع نصيب نفسه إن شاء صفقة واحدة، فباع كذلك، فليس للثالث إذا قلنا: الاعتبار بالعاقد، إلا أخذ الجميع، أو ترك الجميع. وإن قلنا: الاعتبار بالمعقود له، فله أن يأخذ حصة أحدهما فقط. ولو كانت الدار لرجلين، فوكل أحدهما الآخر ببيع نصف نصيبه، وجوز له أن يبيعه مع نصيب نفسه إن شاء صفقة واحدة، فباع كذلك، وأراد الموكل أخذ نصيب الوكيل بالشفعة بحق النصف الباقي له، فله ذلك، لان الصفقة اشتملت على ما لا شفعة للموكل فيه وهو ملكه، وعلى ما فيه شفعة وهو ملك الوكيل، فأشبه من باع شقصا وثوبا بمائة. وفي وجه ضعيف: أنها كالصورة السابقة. ولو باع شقصين من دارين صفقة واحدة، فان كان الشفيع في أحدهما غير الشفيع في الاخرى، فلكل أن يأخذ ما هو شريك فيه، وافقه الآخر في الاخذ، أم لا. وإن كان شفيعهما واحدا، جاز أيضا على الاصح.
الباب الثالث : فيما يسقط به حق الشفيع.
الاظهر المنصوص في الكتب الجديدة: أن الشفعة على الفور. والثاني: تمتد ثلاثة أيام. والثالث: تمتد مدة تتسع لتأمل المصلحة في الاخذ. والرابع: تمتد إلى التصريح باسقاطها. والخامس: إلى التصريح أو ما يدل عليه، كقوله: بع لمن شئت، أو هبه، وكذا قوله: بعنيه، أو هبه لي، أو قاسمين. وقيل: لا تبطل بهذا، وللمشتري إذا لم يأخذ الشفيع ولم يعفو أن يرفعه إلى الحاكم ليلزمه الاخذ أو العفو. وفي قول: ليس له ذلك، تنزيلا للشفيع منزلة مستحق القصاص، والتفريع ع لى قول الفور. (وإنما نحكم بالفور) بعد علم الشفيع بالبيع. فلو لم يعلم حتى مضى(4/188)
سنون، فهو على شفعته، ثم إذا علم، لا يكلف المبادرة، على خلاف العادة بالعدو ونحوه، بل يرجع فيه إلى العرف، فما عد تقصيرا وتوانيا في الطلب، يسقط الشفعة، وما لا يعد تقصيرا لعذر، لا يسقطها. والعذر ضربان. أحدهما: ما لا ينتظر زواله عن قرب كالمرض، فينبغي للمريض أن يوكل إن قدر. فان لم يفعل، بطلت شفعته على الاصح، لتقصيره. والثاني: لا. والثالث إن لم يلحقه في التوكيل منة ولا مؤنة ثقيلة، بطلت، وإلا، فلا. فان لم يمكنه، فليشهد على الطلب. فإن لم يشهد، بطلت على الاظهر أو الاصح. والخوف من العدو، كالمرض، وكذا الحبس إذا كان ظلما أو بدين هو معسر به عاجز عن بينة الاعسار. وإن حبس بحق، بأن كان مليئا، فغير معذور، ومثله الغيبة. فإذا كان الشفيع في بلد آخر، فعليه أن يخرج طالبا عند بلوغ الخبر، أو يبعث وكيلا، إلا أن يكون الطريق مخوفا، فيجوز التأخير إلى أن يجد رفقة معتمدين يصحبهم هو أو وكيله ويزول الحر والبرد المفرطان. وإذا أخر لذلك، أو لم يمكنه السير بنفسه، ولا وجد وكيلا، فليشهد على الطلب. فإن لم يشهد، ففي بطلان حقه الخلاف السابق، وأجري ذلك في وجوب الاشهاد إذا سار طالبا في الحال. والاظهر هنا: أنه لا يجب، ولا تبطل شفعته بتركه، كما لو أرسل وكيلا ولم يشهد، فإنه يكفي. وليطرد فيما إذا كان حاضرا في البلد فخرج إليه أو إلى مجلس الحكم كما سبق في الرد بالعيب. الضرب الثاني: ما ينتظر زواله عن قرب، بأن كان مشغولا بصلاة، أو طعام، أو قضاء الحاجة، أو في حمام، فله الاتمام، ولا يكلف قطعها، على خلاف العادة على الصحيح. وقيل: يكلف قطعها حتى الصلاة إذا كانت نافلة. وعلى الصحيح: لو دخل وقت الاكل أو الصلاة أو قضاء الحاجة، جاز له أن يقدمها، فإذا فرغ طلب الشفعة، ولا يلزمه تخفيف الصلاة والاقتصار على ما يجزئ.(4/189)
فرع لو رفع الشفيع الامر إلى القاضي، وترك مطالبة المشتري مع حضوره، جاز، وقد ذكرناه في الرد بالعيب. ولو أشهد على الطلب، ولم يراجع المشتري ولا القاضلم يكف. وإن كان المشتري غائبا، فالقياس: أن يرفع الامر إلى القاضي ويأخذ كما ذكرنا هناك. وإذا ألزمناه الاشهاد فلم يقدر عليه، فهل يؤمر أن يقول: تملكت الشقص ؟ وجهان سبق نظيرهما هناك. ولو تلاقيا في غير بلد الشقص، فأخر الشفيع الاخذ إلى العود إليه، بطل حقه، لاستغناء الآخذ عن الحضور عند الشقص.
فصل إذا أخر الطلب ثم قال: أخرت لاني لم أصدق المخبر، فان أخبره عدلان، أو عدل وامرأتان، بطل حقه، وإن أخبره من لا يقبل خبره، ككافر، وفاسق، وصبي، لم يبطل. وإن أخبره ثقة، حر أو عبد، بطل حقه على الاصح. والمرأة كالعبد على المذهب. وقيل: كالفاسق. وعلى هذا، في النسوة وجها ن بناء على أن المدعي هل يقضي له بيمينه مع امرأتين ؟ إن قلنا: لا، فهو كالمرأة، وإلا، فكالعدل الواحد، هذا كله إذا لم يبلغ عدد المخبرين حدا لا يمكن التواطؤ على الكذب. فان بلغه، بطل حقه (و) إن كانوا فساقا. فرع لو كذبه المخبر فزاد في قدر الثمن، بأن قال: باع الشريك الشقص بألف، فعفا أو توانى، ثم بان بخمسمائة، لم يبطل حقه. ولو كذب بالنقص، فقال: باع بألف فعفا، فبان بألفين، بطل حقه. ولو كذب في تعيين المشتري، فقال باع زيدا، فعفا، فبان عمرا، أو قال المشتري: اشتريت لنفسي، فبان وكيلا، أو كذب في جنس الثمن، فقال: باع بدراهم، فبان دنانير، وفي نوعه، فقال: باع بنيسابورية، فبان ب هروية، أو في قدر المبيع، فقال: باع كل نصيبه، فبان بعضه، أو بالعكس، أو باع حالا، فبان مؤجلا، أو إلى شهر، فبان إلى شهرين، أو باع رجلين، فبان رجلا، أو عكسه، لم يبطل حقه، لاختلاف الغرض بذلك. وشذ الامام عن الاصحاب فقال: إذا أخبر بالدراهم أو الدنانير،(4/190)
فعفا، فبان عكسه ولم يتفاوت القدر عند التقويم، بطل حقه. ولو قيل: باع بكذا مؤجلا فعفا، فباع حالا، أو باع كله بألف، (فبان بعضه بألف)، بطل حقه قطعا. فرع لقي المشتري فقال: السلام عليكم، أو سلام عليك، أو سلام عليكم، لم تبطل شفعته، لانه سنة. قال الامام: ومن غلا في اشتراط قطع ما هو مشغول به من الطعام وقضاء الحاجة، لا يبعد أن يشترط فيه ترك الابتداء بالسلام. ولو قال عند لقائه: بكم اشتريت ؟ فوجهان، قطع العراقيون بالبطلان، وقالوا: حقه أن يظهر الطلب ثم يبحث. والاصح: المنع، لافتقاره إلى تحقيق ما يأخذه به. ولو قال: بارك الله لك في صفقتك، لم تبطل على الاصح، وبه قطع الجمهور. ولو قال: اشتريت رخيصا وما أشبهه، بطلت شفعته، لانه فضول. فرع أخر الطلب ثم اعتذر بمرض أو حبس أو غيبة، وأنكر المشتري، فالقول قول الشفيع إن علم به العارض الذي ادعاه، وإلا، فالمصدق المشتري. ولو قال: لم أعلم ثبوت حق الشفعة، أو كونها على الفور، فهو كما سبق في الرد بالعيب. فصل إذا باع الشفيع نصيبه، أو وهبه عالما بثبوت شفعته، بطلت، سواء قلنا: الشفعة على الفور أو التراخي لزوال ضرر المشاركة. ولو باع بعضه، بطلت على الاظهر. وإن باع نصيبه جاهلا بالشفعة، بطلت على الاصح، لزوال الضرر. ولو باع بعضه جاهلا، أطلق البغوي: أنها لا تبطل. والوجه: أن يكون على القولين إن قلنا: إن بيع الجميع جاهلا يبطلها. قلت: الاصح هنا على الجملة: أنها لا تبطل لعذره مع بقاء الحاجة(4/191)
للمشاركة. والله أعلم فصل إذا صالح من حق الشفعة على مال، فهو على ما ذكرناه في الصلح عن الرد بالعيب. واختار أبو إسحاق المروزي صحته. ولو تصالحا على أخذ بعض الشقص، فهل يصح لرضى المشتري بالتبعيض، أم تبطل شفعته، أم يبطل الصلح ويبقى خياره بين أخذ الجميع وتركه ؟ فيه ثلاثة أقوال.
فصل في مسائل منثورة إحداها : للمفلس العفو عن الشفعة، والاخذ، ولا اعتراض عليه للغرماء، وينبغي أن يعود في أخذه الخلاف السابق في شرائه في الذمة. ثم الكلام في أنه من أين يؤدي الثمن ؟ ذكرناه في التفليس. الثانية: وهب شقصا لعبده وقلنا: يملك، فباع شريكه، ثبت للعبد الشفعة، قاله أبو محمد. وفي افتقاره إلى إذن السيد، وجهان. الثالثة: لعامل القراض الاخذ بالشفعة فإن لم يأخذ فللمالك الاخذ ولو اشترى مال القاضي شقصا من شريك رب المال، فلا شفعة له على الاصح. وإن كان العامل شريكا فيه، فله الاخذ إن لم يكن في المال ربح، أو كان وقلنا: لا يملك بالظهور. فإن قلنا: يملك به، فعلى الوجهين في المالك. الرابعة: إذا كان الشقص في يد البائع، فقال الشفيع: لا أقبضه إلا من المشتري، فوجهان. أحدهما: له ذلك، ويكلف الحاكم المشتري أن يتسلمه ويسلم إلى الشفيع. فإن كان غائبا نصب الحاكم من ينوب عنه في الطرفين. والثاني: لا يكلف ذلك، بل يأخذه الشفيع من البائع. وسواء أخذه من المشتري أو البائع، فعهدة الشفيع على المشتري، لان الملك انتقل إليه منه. قلت: الاول أصح، وبه قطع صاحب التنبيه وآخرون، هكذا ذكر الوجهين صاحب الشامل وآخرون، وذكر القاضي أبو الطيب، وصاحب المهذب وآخرون في جواز أخذ الشفيع من البائع وجهين، وقطع صاحب(4/192)
لتنبيه بالمنع. وصحح المتولي الجواز، ذكره في باب حكم البيع قبل القبض. والله أعلم الخامسة: اشترى شقصا بشرط البراءة من العيوب، فإن أبطلنا البيع، فذاك، وإن صححناه وأبطلنا الشرط، فكالشراء مطلقا. وإن صححنا الشرط، فللشفيع رده بالعيب على المشتري، وليس للمشتري الرد. السادسة: لو علم الشفيع العيب ولم يعلمه المشتري، فلا رد للشفيع، وليس للمشتري طلب الارش، لانه استدرك الظلامة، أو لانه لم ييأس من الرد. فلو رجع إليه ببيع وغيره، لم يرد على العلة الاولى، ويرد على الثانية. السابعة: قال أحد الشريكين للآخر: بع نصيبك فقد عفوت عن الشفعة، فباع، ثبتت الشفعة، ولغا العفو. قلت: وكذا لو قال للمشتري: اشتر فلا أطالبك بشفعة، لغا عفوه. والله أعلم الثامنة: باع شقصا، فضمن الشفيع العهدة للمشتري، لم تسقط شفعته. وكذا إذا شرطنا الخيار للشفيع، وصححنا شرطه للاجنبي. التاسعة: أربعة بينهم دار، فباع أحدهم نصيبه واستحق الشركاء الشفعة، فشهد اثنان منهم على الثالث بالعفو، قبلت شهادتهما إن شهدا بعد عفوهما، وإن شهدا قبله، لم تقبل. فلو عفوا ثم أعادا تلك الشهادة، لم تقبل أيضا للتهمة وإن شهدا بعد عفوهما، قبلت شهادة العافي دون الآخر، فيحلف المشتري مع العافي، ويثبت العفو. ولو شهد البائع على عفو الشفيع قبل قبض الثمن، لم تقبل، لانه قد يقصد الرجوع بتقدير الافلاس. وإن كان بعد القبض، فوجهان، لانه ربما توقع العود بسبب ما. العاشرة: أقام المشتري بينة بعفو الشفيع، وأقام الشفيع بينة بأخذه بالشفعة والشقص في يده، فهل بينة الشفيع أولى لقوتها با ليد، أم بينة المشتري لزيادة علمها بالعفو ؟ وجهان. أصحهما: الثاني.(4/193)
الحادية عشرة: شهد السيد بشراء شقص فيه شفعة لمكاتبه، قال الشيخ أبو محمد: تقبل شهادته. قال الامام: كأنه أراد أن يشهد للمشتري إذا ادعى الشراء، ثم ثبتت الشفعة تبعا. فأما شهادته للمكاتب، فلا تقبل بحال. الثا نية عشرة: الشفيع صبي، فعلى وليه الاخذ إن كان فيه مصلحة، وإلا، فيحرم الاخذ. وإذا ترك بالمصلحة، ثم بلغ، فهل له الاخذ ؟ فيه خلاف سبق في الحجر. الثالثة عشرة: بينهما دار، فمات أحدهما عن حمل، فباع الآخر نصبيه، فلا شفعة للحمل، لانه لا يتيقن وجوده. فإن كان له وارث غير الحمل، فله الشفعة. وإذا انفصل حيا، فليس لوليه أن يأخذ شيئا من الوارث. ولو ورث الحمل شفعة عن مورثه، فهل لابيه أو لجده الاخذ قبل انفصاله ؟ وجهان، وبالمنع قال ابن سريج، لانه لا يتيقن. الرابعة عشرة: إذا أخذ الشفيع الشقص، وبنى فيه، أو غرس، فخرج مستحقا، وقلع المستحق بناءه وغراسه، فالقول فيما يرجع به الشفيع على المشتري من الثمن وما نقص من قيمة البناء والغراس وغير ذلك، كالقول في رجوع المشتري من الغاصب عليه. الخامسة عشرة: مات وله شقص من دار، وعليه دين مستغرق، فباع الشريك حصته قبل بيع الشقص في الدين، قا ابن الحداد: للورثة أخذه بالشفعة، وهذا تفريع على الصحيح: أن الدين لا يمنع انتقال الملك في التركة إلى الورثة. وإن قلنا: يمنع، فلا شفعة لهم. ولو خلف دارا كاملة وعليه دين لا يستغرقها، فبيع بعضها في الدين، قال ابن الحداد: لا شفعة للورثة فيما بيع بما بقي لهم من(4/194)
الملك، وهذا مستمر على الصحيح، فإنهم إذا ملكوا الدار، كان المبيع جزءا من ملكهم. ومن يبع من ملكه جزءا بحق، ليكن له استرجاعه بالباقي. وإن قلنا: يمنع، فهل يمنع في قدر الدين، أم في الجميع ؟ فيه خلاف مذكور في موضعه. وإن قلنا بالثاني، فلا شفعة لهم أيضا، وإلا، فلهم. ولو كانت الدار مشتركة بين الميت وورثته، فبيع نصيبه أو بعضه في دينه ووصيته، فقال الجمهور: لا شفعة. وقال ابن الحداد: لهم الشفعة، لان ما بيع في دينه كما لو باعه في حياته، وهو خلاف مقتضى الاصل المذكور، فإنهم إذا ملكوا التركة صار جميع الدار لهم، فيكون المبيع جزءا من ملكهم.
فصل في الحيل الدافعة للشفعة منها : أن يبيع الشقص بأضعاف ثمنه دراهم، ويأخذ عرضا قيمتمثل الثمن الذي تراضيا عليه عوضا عن الدراهم، أو يحط عن المشتري ما يزيد عليبعد انقضاء الخيار. ومنها: ما قاله ابن سريج: يشتري أولا بائع الشقص عرضا يساوي ثمن الشقص بأضعاف ذلك الثمن، ثم يجعل الشقص عوضا عما لزمه. ومنها أن يبيع جزءا من الشقص بثمن كله، ويهب له الباقي، وهذه الطرق فيها غرر، فقد لا يفي صاحبه. ومنها: أن يجعل الثمن حاضرا مجهول القدر، ويقبضه البائع ولا يزنه، بل ينفقه أو يخلطه فتندفع الشفعة على الصحيح. وفيها خلاف ابن سريج السابق. ومنها: إذا وقف الشقص، أو وهبه، بطلت الشفعة على رأي أبي إسحاق. ومنها: لو باع بعض الشقص، ثم باع الباقي، لم يكن للشفيع أن يأخذ جميع المبيع ثانيا على أحد الوجهين، فيندفع أخذ جميع المبيع. ومنها: لو وكل البائع شريكه بالبيع، فباع، لم تكن له الشفعة على أحد الوجهين. وقد سبق ذكر هذه المسائل. قلت: ومنها: أن يهب له الشقص بلا ثواب، ثم يهب له صاحبة قدر قيمته، قال الشيخ أبو حامد: هذا لا غرر فيه، لانه يمكنه أن يحترز من أن لا يفي صاحبه، بأن يهبه ويجعله في يد أمين ليقبضه إياه، ويهبه صاحبه قدر قيمته، ويجعله في يد(4/195)
أمين ليقبضه إياه، ثم يتقابضا في حالة واحدة. والله أعلم فرع عند أبي يوسف: لا يكره دفع الشفعة بالحيلة، إذ ليس فيها دفع حق على الغير، فإنه إنما يثبت بعد البيع. وعند محمد بن الحسن: يكره دفع الشفعة بالحيلة، لما فيها من إبقاء الضرر، وهذا أشبه بمذهبنا في الحيلة في منع وجوب الزكاة. قلت: عجب من الامام الرافعي رحمه الله كيف قال ما قال، مع أن المسألة مسطورة، وفيها وجهان. أصحهما، وبه قال ابن سريج، والشيخ أبو حامد: تكره هذه الحيلة. والثاني: لا، قاله أبو حاتم القزويني في كتاب الحيل. أما الحيل في دفع شفعة الجار، فلا كراهة فيها قطعا، وفيها من الحيل غير ما سبق (ما) ذكره المتولي أنه يشتري عشر الدار مثلا بتسعة أعشار الثمن، فلا يرغب الشفيع لكثرة الثمن، ثم يشتري تسعة أعشاره بعشر الثمن، فلا يتمكن الجار من الشفعة، لان المشتري حالة الشراء شريك في الدار، والشريك مقدم على الجار، أو يخط البائع على طرف ملكه خطا مما يلي دار جاره، ويبيع ما وراء الخط فتمتنع شفعة الجار، لان بين ملكه وبين المبيع فاصلا، ثم يهبه الفاصل. والله أعلم(4/196)
كتاب القراض
القراض والمقارضة والمضاربة، بمعنى، وهو أن يدفع مالا إلى شخص ليتجر فيه والربح بينهما. ودليل صحته إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وفيه ثلاثة أبواب.
الأول : في أركان صحته، وهي خمسة.
الركن الأول : رأس المال، وله أربعة شروط. الاول: أن يكون نقدا، وهو الدراهم والدنانير المضروبة، ودليله الاجماع. ولا يجوز على الدراهم المغشوشة على الصحيح، ولا على الفلوس على(4/197)
المذهب. قلت: قد ذكر الفوراني في جواز، القراض على ذوات المثل وجهين، وهذا شاذ منكر، والصواب المقطوع به: المنع. والله أعلم الشرط الثاني: أن يكون معلوما. فلو دفع إليه ثوبا وقال: بعه وقد قارضتك على ثمنه، لم يجز. الشرط الثالث: أن يكون معينا. فلو قارض على دراهم غير معينة، ثم أحضر في المجلس وعينها، قطع القاضي والامام بجوازه، كالصرف والسلم، وقطع البغوي بالمنع. ولو كان له دين على رجل، فقال لغيره: قارضتك على ديني على فلان، فاقبضه واتجر فيه، أو قارضتك عليه لتقبض وتتصرف، أو أقبضه فإذا قبضته فقد قارضتك عليه، لم يصح، وإذا قبض العامل وتصرف فيه، لم يستحق الربح المشروط، بل الجميع لر ب المال، وللعامل أجرة مثل التصرف إن كان قال: إذا قبضت فقد قارضتك. وإن قال: قارضتك عليه لتقبض وتتصرف، استحق أجرة مثل التقاضي والقبض أيضا. ولو قال للمديون: قارضتك على الدين الذي لي عليك، لم يصح القراض، بل لو قال: اعزل قدر حقي من مالك، فعزله، ثم قال: قارضتك عليه، لم يصح، لانه لم يملكه. فإذا تصرف المأمور فيما عزله، نظر، إن اشترى بعينه للقراض، فهو كالفضولي يشتري لغيره بعين ماله. وإن اشترى في الذمة، فوجهان. أصحهما عند البغوي: أنه للمالك، لانه اشترى له باذنه. وأصحهما: عند(4/198)
الشيخ أبي حامد: للعامل، لان المالك لم يملك اليمين. وحيث كان المعزول للمالك، فالربح ورأس المال له لفساد القراض، وعليه الاجرة للعامل. ولو دفع كيسين في كل ألف، وقال: قارضتك على أحدهما، فوجهان. أحدهما: يصح، لتساويهما. وأصحهما: المنع، لعدم التعيين. قلت: فعلى الاول يتصرف العامل في أيهما شاء، فيتعين للقراض. والله أعلم ولو كانت دراهمه في يد غيره وديعة، فقارضه عليها، صح، ولو كانت غصبا، صح على الاصح، كما لو رهنه عند الغاصب. وعلى هذا، لا يبرأ من ضمان الغصب كما في الرهن. قلت: معناه: لا يبرأ بمجرد القراض. أما إذا تصرف العامل فباع واشترى، فيبرأ من ضمان الغصب، لانه سلمه باذن المالك، وزالت عنه يده، وما يقبضه من الاعواض، يكون أمانة في يده، لانه لم يوجد منه فيها مضمن. والله أعلم الشرط الرابع: أن يكون رأس المال مسلما إلى العامل، ويستقل باليد عليه والتصرف فيه. فلو شرط المالك أن يكون الكيس في يده، ويوفي منه الثمن إذا اشترى العامل شيئا، أو شرط أنه يراجعه في التصرفات، أو مشرفا نصبه، فسد القراض. ولو شرط أن يعمل معه المالك بنفسه، فسد على الصحيح. وقال أبو يحيى البلخي: يجوز على سبيل المعاونة والتبعية. ولو شرط أن يعمل معه غلام المالك، فوجهان. ويقال: قولان. الصحيح الذي عليه الاكثرون: صحته،(4/199)
لان العبد مال، ولمالكه إعارته وإجارته، فيكون في معنى إذن المالك في استخدامه. هذا إذا لم يصرح بحجة على العامل، فأما إذا قال: على أن يعمل معك غلامي ولا تتصرف دونه، أو يكون بعض المال في يده، فيفسد قطعا. ولو شرط أن يعطيه بهيمة يحمل عليها، جاز على المذهب. ولو لم يشرط عمل الغلام معه، ولكن شرط ثلث الربح له، والثلث لغلامه، والثلث للعامل، جاز. وحاصله: اشتراط ثلثي الربح لنفسه، نص عليه في المختصر. فرع قال المتولي: لو كان بينه وبين غيره دراهم مشتركة، فقال لشريكه: قارضتك على نصيبي منها، صح، إذ ليس له إلا الاشاعة، وهي لا تمنع صحة التصرف. قال: ولو خلط ألفين بألف لغيره، ثم قال صاحب الالفين للآخر: قارضتك على أحدهما وشاركتك في الآخر، فقبل، جاز، وانفرد العامل بالتصرف في ألف القراض، ويشتركان في التصرف في باقي المال، ولا يخرج على الخلاف في الصفقة الواحدة تجمع عقدين مختلفين، لانهما جميعا يرجعان إلى التوكيل بالتصرف. فرع لا يجوز جعل رأس المال سكنى دار، لانه إذا لم يجعل العرض رأس مال، فالمنفعة أولى.
الركن الثاني : العمل، وله شروط. الاول: أن يكون تجارة، ويتعلق بهذا الشرط مسائل. الاولى: لو قارضه على أن يشتري الحنطة فيطحنها ويخبزها، والطعام ليطبخه ويبيعه، والغزال لينسجه، والثوب أو ليقصده، والدبغ بينهما، فهو فاسد. ولو اشترى العامل الحنطة، وطحنها ليقصره من غير شرط، فوجهان. أحدهما، وهو قول القاضي حسين وآخرين: يخرج الدقيق عن كونه رأس مال قراض. فإن لم يكن في يده غيره، انفسخ القراض، لان الربح حينئذ لا يحال على البيع والشراء فقط. وعلى هذا، لو أمر المالك العامل بطحن حنطة القراض، كان فسخا للقراض. وأصحهما: أن القراض بحاله، كما لو زاد عبد القراض بكبر، أو سمن، أو تعلم(4/200)
صنعة، فإنه لا يخرج عن كونه مال قراض، لكن إن استقل االعامل بالطحن، صار ضامنا، ولزمه الغرم إن نقض الدقيق. فإن باعه، لم يكن الثمن مضمونا عليه، لانه لم يتعد فيه، ولا يستحق العامل بهذه الصناعات أجرة ولو استأجر عليها، والاجرة عليه، والربح بينه وبين المالك كما شرطا. الثانية: قارضه على دراهم على أن يشتري نخيلا، أو دواب، أو مستغلات ويمسك رقابها لثمارها ونتاجها وغلاتها، وتكون الفوائد بينهما، فهو فاسد، لانه ليس ربحا بالتجارة، بل من عين المال. الثالثة: شرط أن يشتري شبكة ويصطاد بها والصيد بينهما، فهو فاسد، ويكون الصيد للصائد، وعليه أجرة الشبكة. الشرط الثاني: أن لا يكون مضيقا عليه بالتعيين. فلو عين نوعا يندر كالياقوت الاحمر والخز الادكن، والخيل العتق، والصيد حيث يندر، فسد القراض، لانه تضييق يخل بالمقصود. وإن لم يندر، ودام شتاء وصيفا كالحبوب، والحيوان، والخز، والبز، صح القراض. وإن لم يدم، كالثمار الرطبة، فوجهان. أصحهما: الجواز، والثاني: المنع، إلا إذا قال: تصرف فيه، فإذا انقطع، فتصرف في كذا، فيجوز. ولو قال: لا تشتر إلا هذه السلعة، أو إلا هذا العبد، فسد، بخلاف ما لو قال: لا تشتر هذه السلعة، لانه يمكن شراء غيرها. ولو قال: لاتبع إلا لزيد، أو لا تشتر إلا منه، لم يجز، وقال الماسرجسي: إن كان المعين بياعا لا ينقطع عنده المتاع الذي يتجر في نوعه غالبا، جاز تعيينه، والمعروف، الاول. ولو قال: لا تبع لزيد ولا تشتر منه، جاز على الصحيح.(4/201)
فرع لا يشترط تعيين نوع يتصرف فيه على الصحيح، بخلاف الوكالة. فرع إذا جرى تعيين صحيح، لم يكن للعامل مجاوزته كما في سائر التصرفات المستفادة بالاذن. ثم الاذن في البز، يتناول ما يلبس من المنسوج، من الابريسم، والقطن، والكتان والصوف، دون البسط، والفرش. وفي الاكسية، وجهان، لانها ملبوسة، لكن لا يسمى بائعها بزازا. قلت: أصحهما: المنع. والله أعلم الشرط الثالث: أن لا يضيق بالتوقيت، ولا يعتبر في القراض بيان المدة، بخلاف المساقاة، لان مقصودها وهو الثمرة، ينضبط بالمدة. فلو وقت فقال: قارضتك سنة، فإن منعه من التصرف بعدها مطلقا، أو من البيع، فسد، لانه يخل بالمقصود. وإن قال: على أن لا تشتري بعد السنة، ولك البيع، صح على الاصح، لان المالك يتمكن من منعه من الشراء متى شاء، بخلاف البيع. ولو اقتصر على قوله: قارضتك سنة، فسد على الاصح. وعلى الثاني: يجوز، ويحمل على المنع من الشراء، استدامة للعقد. ولو قال: قارضتك سنة على أن لا أملك الفسخ قبل انقضائها، فسد. فرع لا يجوز أن يعلق القراض، فيقول: إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك، كما لا يعلق البيع ونحوه. ولو قال: قارضتك الآن ولا تتصرف حتى ينقضي الشهر، فقيل: يجوز كالوكالة. والاصح: لا يجوز، كقوله: بعتك ولا تملك إلا بعد شهر.
الركن الثالث : الربح، وله أربعة شروط. الاول: أن يكون مخصوصا بالمتعا قدين. فلو شرط بعضه لثالث فقال: على أن يكون ثلثه لك، وثلثه لي، وثلثه لزوجتي، أو لابني، أو لاجنبي، لم يصح، إلا أن يشرط عليه العمل معه، فيكون قراضا مع رجلين. ولو كان المشروط له عبدا لمالك، أو عبدا لعامل، كان ذلك مضموما إلى ما (شرط) للمالك أو للعامل. ولو(4/202)
قال: نصف الربح لك ونصفه لي، ومن نصيبي نصفه لزوجتي، صح القراض، وهذا وعد هبة لزوجته. ولو قال للعامل: لك كذا على أن تعطي ابنك أو امرأتك نصفه، قال القاضي أبو حامد: إن ذكره شرطا، فسد القراض، وإلا، فلا. الشرط الثاني: أن يكون مشتركا بينهما. فلو قال: قارضتك على أن يكون جميع الربح لك، فوجهان. أصحهما: أنه قراض فاسد رعاية للفظ. والثاني: أنه قراض صحيح رعاية للمعنى. ولو قال: قارضتك على أن الربح كله لي، فهل هو قراض فاسد، أم إبضاع ؟ فيه الوجهان. ولو قال: أبضعتك على أن نصف الربح لك، فهو إبضاع، أم قراض ؟ فيه الوجهان. ولو قال: خذ هذه الدراهم وتصرف فيها والربح كله لك، فهو قرض صحيح عند ابن سريج والاكثرين، بخلاف ما لو قال: قارضتك والربح كله لك، لان اللفظ صريح في عقد آخر. قال الشيخ أبو محمد: لا فرق بين الصورتين. وقال القاضي حسين: الربح والخسران للمالك، وللعامل أجرة المثل، ولا يكون قرضا، لانه لم يملكه. ولو قال: تصرف فيها والربح كله لي، فهو إبضاع. الشرط الثالث: أن يكون معلوما. فلو قال: قارضتك على أن لك في الربح شركا، أو شركة، أو نصيبا، فسد. وإن قال: لك مثل ما شرطه فلان لفلان، فإن كانا عالمين به، صح. وإن جهله أحدهما، فسد. ولو قال: الربح بيننا، ولم يبين، فوجهان. أحدهما: الفساد. وأصحهما: الصحة، وينزل على النصف، كقوله: هذه الدار بيني وبين زيد، يكون مقرا بالنصف. ولو قال: على أن ثلث الربح لك، وما بقي فثلثه لي وثلثاه لك، صح. وحاصله اشتراط سبعة أتساع الربح للعامل، هذا إذا علما عند العقد أن المشروط للعامل بهذا اللفظ كم هو، فإن جهلاه أو أحدهما، صح أيضا على الاصح، وبه قطع في الشامل، لسهولة معرفته. ويجري الخلاف، فيما إذا قال: (لك) من الربح سدس ربع العشر، وهما لا يعلمان قدره عند العقد أو أحدهما.(4/203)
الشرط الرابع: أن يكون العلم به من حيث الجزئية، لا من حيث التقدير. فلو قال: لك من الربح، أو لي منه درهم أو مائة، والباقي بيننا نصفين، فسد القراض. وكذا لو قال: نصف الربح إلا درهما، وكذا إذا اشترط أن يوليه سلعة كذا إذا اشتراها برأس المال، لانه ربما لا يربح إلا فيها، أو أن يلبس الثوب المشترى، أو يركب الدابة، أو اختصاص أحدهما بربح صنف من المال، أو قال: ربح أحد الالفين لي، وربح الآخر لك، وشرط تمييز الالفين. فلو دفعهما إليه ولا تمييز، وقال: ربح أحدهما لي، وربح الآخر لك، فسد أيضا على الاصح. وقيل: يصح ويكون كقوله: نصف ربح الالفين لك.
الركن الرابع : الصيغة. القراض والمضاربة والمعاملة، ألفاظ مستعملة في هذا العقد. فإذا قال: قارضتك، أو ضاربتك، أو عاملتك، على أن الربح بيننا نصفين، كان إيجابا صحيحا. ويشترط القبول متصلا الاتصال المعتبر في سائر العقود. ولو قال: خذ هذا الالف واتجر فيه، على أن الربح بيننا نصفين، فقطع القاضي حسين والبغوي، بأنه قراض، ولا يفتقر إلى القبول. وقال الامام: قطع شيخي والطبقة العظمى من نقلة المذهب: أنه لا بد من القبول، بخلاف الجعالة والوكالة، لان القراض عقد معاوضة يختص بمعين. ولو قال: قارضتك على أن نصف الربح لي، وسكت عن جانب العامل، لم يصح على الاصح وقيل: يصح ويكون بينهما نصفين. ولو قال: على أن نصف الربح لك، وسكت عن جانب نفسه، أو على أن لك النصف ولي السدس، وسكت عن الباقي، صح على الصحيح، وكان بينهما نصفين.
الركن الخامس : العاقدان. فالقراض توكيل وتوكل، فيعتبر فيهما ما يعتبر في الوكيل والموكل، ويجوز لولي الطفل والمجنون أن يقارض بمالهما، سواء فيه الاب، والجد، والوصي، والحاكم، وأمينه.(4/204)
فصل إذا قارض في مرض موته، صح، ويسلم للعامل الربح المشروط وإن زاد على أجرة المثل، ولا يحسب من الثلث ولو ساقاه في مرض الموت وزاد على مثله، حسبت الزيادة من الثلث على الاصح والفرق: أن النماء في المساقاة من عين المال. فصل يجوز أن يقارض الواحد اثنين وعكسه. فإذا قارض اثنين، وشرط لهما نصف الربح بالسوية، جاز، ولو شرط لاحدهما ثلث الربح، وللآخر ربعه، فإن أبهم، لم يجز. وإن عين صاحب الثلث وصاحب الربع، جاز. قال الامام: وإنما يجوز أن يقارض اثنين إذا أثبت لكل واحد الاستقلال. فإن شرط كل واحد مراجعة الآخر، لم يجز. هذا كلام الامام، وما أظن الاصحاب يساعدونه عليه. وإذا قارض اثنان واحدا، فليبينا نصيب العامل من الربح، ويكون الباقي بينهما على قدر ماليهما. ولو قالا: لك من نصيب أحدنا من الربح الثلث، ومن نصيب الآخر الربع، فإن أيهما، لم يجز. وإن عينا وهو عالم بقدر مال كل واحد، جاز، إلا أن يشترطا كون الباقي بين المالكين على غير ما تقتضيه نسبة المالين. فصل إذا فسد القراض بتخلف بعض الشروط، فله ثلاثة أحكام. أحدها: تنفذ تصرفاته كنفوذها في القراض الصحيح لوجود الاذن كالوكالة الفاسدة. الثاني: سلامة الربح بكماله للمالك. الثالث: استحقاق العامل أجرة مثل عمله، سواء كان في المال ربح، أم لا، وهذه الاحكام مطردة في صور الفساد، لكن لو قال: قارضتك على أن جميع الربح لي، وقلنا: هو قراض فاسد، لا إبضاع، ففي استحقاق العامل أجرة المثل، وجهان. أصحهما: المنع، لانه(4/205)
عمل مجانا. فرع قال في المختصر لو دفع إليه ألفا وقال: اشتر بها هرويا أو مرويا بالنصف، فهو فاسد. واختلفوا في سبب فساده، فالاصح، وفي سياق الكلام ما يقتضيه: أنه تعرض للشراء دون البيع، وهذا تقريع على الاصح أن التعرض للشراء لا يغني عن التعرض للبيع بل لا بد من لفظ المضاربة ونحوها لتناول البيع والشراء، أو (من) لفظ البيع والشراء جميعا. وإذا اقتصر على الشراء، فللمدفوع إليه الشراء دون البيع، والربح كله للمالك، والخسران عليه. وقيل: يكفي التعرض للشراء، ويتضمن الاذن في البيع بعده، وقيل: إذا اتى بلفظ المضاربة أو القراض كان كقوله: اشتر، من غير تعرض للبيع. والصحيح: الصحة. وقيل: سببه أنه لم يبين لمن النصف. واعترض ابن سريج على هذا، بأن الشرط ينصرف إلى العامل، لان المالك يستحق بالمال، لا بالشرط. وقال ابن أبي هريرة: سبب الفساد، أنه لم يعين أحد النوعين، ولا أطلق التصرف في أنواع الامتعة. واعترض القاضي حسين عليه، بأنه لو عين أحدهما، حكمنا بالصحة، فإذا ذكرهما على الترديد، زاد العامل بسطة وتخييرا، فهو أولى بالصحة. قلت: هذا الاعتراض ليس بمقبول، لان حاصله أنه حمل لفظة أو على التخيير، وابن أبي هريرة ينكر ذلك ويقول: إنما أذن له في أحدهما وشك في المراد. والله أعلم وقيل: سببه أن القراض إنما يصح إذا أطلق التصرف في الامتعة، أو عين جنسا يعم وجوده، والهروي والمروي ليسا كذلك، وكأن هذا القائل يقرضه في بلد لا يعمان فيه. وقال الامام: يجوز أن يكون سببه أنه أرسل ذكر النصف ولم يقل: نصف الربح.
الباب الثاني : في أحكام القراض الصحيح هي ثلاثة أبواب. الاول: تقيد تصرف العامل بالمصلحة كتصرف الوكيل، ثم قد تقتضي(4/206)
المصلحة التسوية بينهما، وقد تقتضي الفرق، فبيع العامل وشراؤه بالغبن كالوكيل، ولا يبيع أيضا نسيئة، ولا يشتري بها. فإن أذن المالك في البيع نسيئة، ففعل، وجب الاشهاد، فإن تركه، ضمن، ولا حاجة إليه في البيع حالا لانه يحبس المبيع إلى استيفاء الثمن، ولو سلمه قبل استيفائه، ضمن، كالو كيل. فإن كان مأذونا له في التسليم قبل قبض الثمن، سلمه، ولم يلزمه الاشهاد، لان العادة ترك الاشهاد في البيع الحال. ويجوز للعامل البيع بالعرض، بخلاف الوكيل، لانه من مصالح القراض، وكذا له شراء المعيب إذا رأى فيه ربحا، فإن اشتراه بقدر قيمته، قال المتولي: في صحته وجهان، لان الرغبات تقل في المعيب. قلت: الاصح: الجواز إذا رأى المصلحة. والله أعلم وإن اشترى شيئا على ظن السلامة، فبان معيبا، فله أن ينفرد برده إن كانت فيه غبطة، ولا يمنعه (منه) رضى المالك، بخلاف الوكيل، لان العامل صاحب حق في المال. وإن كانت الغبطة في إمساكه، لم يكن له رده على الاصح، لاخلاله بالمقصود. وحيث ثبت الرد للعامل، فللمالك أولى. قال الامام: ثم العامل يرد على البائع وينقض البيع. وأما المالك، فإن كان الشراء بعين مال القراض، فكمثل، وإن كان في الذمة، فيصرفه المالك عن مال القراض. وفي انصرافه إلى العامل ما سبق في انصراف العقد إلى الوكيل إذا لم يقع للموكل. ولو تنازع المالك(4/207)
والعامل في الرد وتركه، عمل بالمصلحة. فرع لا يجوز للمالك معاملة العامل، بأن يشتري من مال القراض شيئا، لانه ملكه كالسيد مع المأذون له. فرع لا يجوز أن يشتري للقراض بأكثر من رأس المال. فلو فعل، لم يقع ما زاد عن جهة القراض. فلو دفع إليه مائة قراضا، فاشترى عبدا بمائة، ثم آخر بمائة للقراض أيضا، لم يقع الثاني للقراض، بل ينظر إن كان اشتراه بعين المائة فالشراء باطل، سواء اشترى الاول بعين المائة أو في الذمة. وإن اشتراه في الذمة، انصرف إلى العامل حيث ينصرف شراء الوكيل المخالف إليه. وإذا انصرف إليه، فصرف مائة القراض في ثمنه، فقد تعدى، ودخلت المائة في ضمانه، لكن العبد الاول يبقى أمانة في يده لانه لم يتعد فيه. فإن تلفت المائة والشراء الاول بعينها، انفسخ، وإن كان في الذمة، لم ينفسخ، وثبت للمالك على العامل مائة، والعبد الاول للمالك، وعليه لبائعه مائة، فإن أداها العامل باذن المالك، وشرط الرجوع، ثبت له مائة على المالك، ووقع الكلام في التقاص. وإن أداها بغير إذنه، برئ المالك عن حق صاحب العبد، ويبقى حقه على العامل.
فصل اشترى العامل من يعتق على المالك، فأما أن يشتريه باذنه، وإما بغيره. الحال الاول: باذنه، فيصح. ثم إن لم يكن في المال ربح، عتق على المالك وارتفع القراض إن اشتراه بجميع مال القراض، وإلا، فيصير الباقي رأس مال. وإن كان في المال ربح، بني على أن العامل متى يملك نصيبه من الربح ؟ إن قلنا: بالقسمة، عتق أيضا، وغرم المالك نصيبه من الربح، وكأنه استرد طائفة من المال بعد ظهور الربح، وإن قلنا: يملك بالظهور، عتق منه حصة رأس المال(4/208)
ونصيب المالك من الربح، وسرى إلى الباقي إن كان موسرا ويغرمه، وإن كان معسرا، بقي رقيقا. وفي وجه: إذا كان في المال ربح وقد اشتراه ببعض المال، نظر، إن اشتراه بقدر رأس المال، عتق وكأن المالك استرد المال، والباقي ربح يتقاسمانه، وإن اشتراه بأقل، حسب من رأس المال، أو بأكثر، حسب قدر رأس المال من رأس المال والزيادة من حصة المالك ما أمكن. والصحيح الاول. ولو أعتق المالك عبدا من مال القراض، فهو كشراء العامل من يعتق عليه باذنه. الحال الثاني: يشتريه بغير إذنه، فلا يقع (الشراء) عن المالك بحال، إذ لا مصلحة فيه للقراض، ثم إن اشتراه بعين مال القراض، بطل من أصله. وإن كان في الذمة، وقع عن العامل، ولزمه الثمن من ماله. فإن أداه من مال القراض، ضمن. فرع اشترى زوجة المالك، أو زوجها بلا إذن، قيل: يصح. والاصح المنصوص، المنع كمن يعتق عليه، لانه لو صح لانفسخ النكا ح وتضرر، وإنما قصد بالاذن ما فيه حظ. فعلى هذا، هو كما لو اشترى من يعتق عليه بلا إذن. فرع لو وكل بشراء عبد، فاشترى الوكيل من يعتق على الموكل، صح ووقع عن الموكل على المذهب، وبه قطع الجمهور، لان اللفظ شامل، بخلاف القراض، فإن مقصوده الربح فقط، ونقل الامام وجها: أنه لا يقع للموكل بل يبطل الشراء إن اشترى بعين المال، ويقع عن الوكيل إن كان في الذمة. فرع العبد المأذون له (في التجارة)، إذا اشترى من يعتق على سيده باذنه، صح، وعتق عليه إن لم تركبه ديون، وإلا، فقولان، لان ما في يده كالمرهون بالديون. وإن اشترى بغير إذنه، لم يصح على الاظهر. والثاني: يصح، ويعتق عليه. ورأى الامام القطع بالبطلان إن كان (أذن) في التجارة، وجعل الخلاف فيما إذا قال: تصرف في هذا المال واشتر عبدا. والجمهور على جريان القولين في الاذن في التجارة، وهو نصه في المختصر. ثم هذا الخلاف، إذا لم يركبه دين، فإن ركبه، ترتب على الخلاف فيما إذا لم يركبه، وأولى بالبطلان. فإن صح، ففي نفوذ العتق القولان.(4/209)
فرع اشترى العامل من يعتق عليه، فإن لم يكن في المال ربح، صح ولم يعتق كالوكيل يشتري أباه لموكله، ثم إن ارتفعت الاسعار وظهر ربح، بني على القولين في أن العامل متى يملك الربح ؟ إن قلنا: بالقسمة، لم يعتق منه شئ. وإن قلنا: بالظهور، عتق عليه بقدر حصته على الاصح. وقيل: لا يعتق، لعدم استقرار ملكه. فإن قلنا: بالاصح، ففي السراية وتقويم الباقي عليه إن كان موسرا، وجهان. أصحهما وبه قال الاكثرون: تثبت كما لو اشتراه وفيه ربح وقلنا: يملك بالظهور. وإن كان في المال ربح، سواء كان حاصلا قبل إلشراء، أو حصل بنفس الشراء بأن كان رأس المال مائة، فاشترى بها أباه وهو يساوي مائتين، فإن قلنا: يملك الربح بالقسمة، صح الشراء ولم يعتق، وإلا ففي صحة الشراء في قدر حصته من الربح، وجهان. أصحهما: الصحة، لانه مطلق التصرف في ملكه. والثاني: لا، لانه يخالف غرض الاسترباح. فإن منعنا، ففي الصحة في نصيب المالك قولا الصفقة، وإن صححنا، ففي عتقه عنه الوجهان السابقان. فإن قلنا: يعتق، فإن كان موسرا، سرى العتق إلى الباقي ولزمه الغرم، لانه مختار في الشراء، وإلا، فيبقى الباقي رقيقا. هذا كله إذا اشترى بعين مال القراض، فأما إن اشترى في الذمة للقراض، فحيث صححنا الشراء بعين مال القراض، أو قعناه هنا عن القراض، وحيث لم نصحح هناك، أوقفناه هنا عن العامل، وعتق عليه. وحكي قول: أنه إذا أطلق الشراء ولم يصرفه إلى القراض لفظا، ثم قال: كنت نويته، وقلنا: إنه إذا وقع عن القراض لا يعتق منه شئ، لم يقبل قوله، لان الذي جرى عقد عتاقه، فلا يقبل رفعه. فرع ليس للعامل أن يكاتب عبد القراض بغير إذن المالك. فإن كاتباه معا، جاز، وعتق بالاداء، ثم إن لم يكن في المال ربح، فولاؤه للمالك ولا ينفسخ القراض بما جرى من الكتابة على الاصح، بل ينسحب على النجوم، وإن كان فيه ربح، فالولاء بينهما على حسب الشرط، وما يزيد من النجوم على القيمة، ربح. الحكم الثاني: منع مقارضة العامل غيره. فلو قارض باذن المالك وخرج(4/210)
من الدين وصار وكيلا في مقارضة الثاني، صح، ولا يجوز أن يشرط العامل الاول لنفسه شيئا من الربح. ولو فعل، فسد القراض الثاني، ولعامله أجرة المثل على المالك، لما سبق أن شرط الربح لغير العامل والمالك ممتنع. وإن أذن (له) في أن يعامل غيره ليكون ذلك الغير شريكا له في العمل والربح المشروط له على ما يراه، فقيل: يجوز كمقارضة شخصين ابتداء، والاصح: المنع. وإن قارض بغير إذن المالك، فهو فاسد، ويجئ فيه قول وقف عقد الفضولي على الاجازة. فإذا قلنا بالمشهور، فتصرف الثاني في المال وربح، فهو كالغاصب إذا اتجر في المغصوب. تصرف في عينه، فتصرف فضولي، وإن باع سلما، أو اشترى في الذمة وسلم المغصوب فيما التزمه وربح، فالربح للغاصب في الجديد، وللمالك في القديم. وفي هذا القديم، أبحاث. أحدها: هل الربح للمالك جزما، أم موقوف على إجازته ؟ قيل: بالوقف كبيع الفضولي على القديم. فعلى هذا، إن رده، ارتد، سواء اشترى في الذمة أم بعين المغصوب، وقال الاكثرون بالجزم، وبنوه على المصلحة، وكيف يصح وقف شراء الغاصب لنفسه على إجازة غيره، وإنما قول الوقف إذا تصرف في عين مال الغير أو له ؟ الثاني: أن هذا القول جار فيما إذا كان في المال ربح وكثرت التصرفات وعسر تتبعها، فإن سهل وقلت ولا ربح، فلا مجال له. فإن سهل وهناك ربح، أو عسر ولا(4/211)
ربح، فوجهان، وسواء في الربح القليل والكثير. الثالث: لو اشترى في ذمته ولم يخطر له أن يؤدي الثمن من الدراهم المغصوبة، ثم خطر له، قال الامام: ينبغي أن لا يجري القديم إن صدقه المالك. وهذه المسألة تلقب بمسألة البضاعة، وقذكرناها مختصرة في أول البيع وفي الغصب. وإذا قلنا بالجديد، فاشترى بعين مال القراض، فباطل، وإن اشترى في الذمة، فهل جميع الربح للعامل الثاني لانه المتصرف كالغاصب ؟ أم للاول لان الثاني تصرف باذنه كالوكيل ؟ وجهان. أصحهما: الاول، وعليه للثاني أجرة عمله. وإذا قلنا: بالقديم، ففيما يستحقه المالك من الربح ؟ وجهان. أحدهما: جمعيه كالغصب. فعلى هذا، للعامل الثاني أجرة عمله قيل: يأخذها من العامل الاول، لانه استعمله، وقيل: من المالك، لان نفع عمله عاد إليه. و (الوجه) الثاني وهو الصحيح: له نصف الربح، لانه رضي بخلاف به، بخلاف صورة الغصب. فعلى هذا، في النصف الثاني أوجه. قيل: كله للعامل الاول، وللثاني عليه أجرة عمله، لانه غرة، وقيل: للثاني. وقيل: كله للعامل الاول، وللثاني عليه أجرة عمله، لانه غرة. وقيل: للثاني. وقيل: بينهما بالسوية، وهو الاصح. وعلى هذا، في رجوع الثاني بنصف أجرة المثل، وجهان. أصحهما: لا، لانه أخذ نصف ما حصل لهما، والوجهان فيما إذا كان الاول قال: على أن ربح هذا المال بيننا، أو على أن لكل نصفه. فإن كان قال: ما رزقنا الله تعالى من الربح فهو بيننا، فلا رجوع على المذهب، وبه قطع الاكثرون، لان النصف، هو الذي رزفاه. وعن الشيخ أبي محمد، طرد الوجهين، لان المفهوم، بشطر جميع الربح. وجميع ما ذكرناه إذا كان القراضان على المناصفة، فإن كانا هما أو أحدهما على نسبة أخرى، فعلى ما تشارطا. هذا كله إذا تصرف الثاني وربح. أما لو هلك المال في يده، فإن كان عالما بالحال، فغاصب. وإن ظن العامل مالكا، فهو كالمستودع من الغاصب، لان يده أمانة. وقيل: كالمتهب من الغاصب، لعود النفع إليه، وقد سبق بيانهما ضمانا وقرارا. الحكم الثالث: منعه السفر بمال القراض، فليس له السفر به بغير إذن المالك، وفي قول: له ذلك عند أمن الطريق، نقله البويطي. فعلى المشهور:(4/212)
لو سافر، ضمن المال، ثم إن كان المتاع بالبلدة التي سافر إليها أكثر قيمة، أو تساوت القيمتان، صح البيع، واستحق الربح بسبب الاذن. وإن كان أقل قيمة، لم يصح البيع، إلا أن يكون النقص قدرا يتغابن به. وإذا صححنا البيع، فالثمن الذي يقبضه مضمون عليه، بخلاف الوكيل في البيع إذا تعدى ثم باع، لا يضمن الثمن الذي يقبضه، لانه لم يتعد فيه، وهنا العدوان بالسفر، وهو شامل، ولا تعود الامانة بالعود من السفر. أما إذا سافر بالاذن، فلا عدوان ولا ضمان. قال المتولي: ويبيع بما كان يبيعه في البلد الذي سافر منه، فإن لم يساو إلا ما دونه، فإن ظهر فيه غرض، بأن كانت مؤنة الرد أكثر من قدر النقص، أو أمكن صرف الثمن إلى متاع يتوقع فيه ربحا، فله البيع، وإلا، فلا يجوز، لانه تخسير محض. قلت: وإذا سافر بالاذن، لم يجز سفره في البحر إلا بنص عليه. والله أعلم فصل على العامل أن يتولى ما جرت العادة به من نشر الثياب و طيها وذرعها وإدراجها في السفط وإخراجها ووزن ما يخف كالذهب والمسك والعود وقبض الثمن وحمله وحفظ المتاع على باب الحانوت، وفي السفر بالنوم عليه ونحوه، وليس عليه وزن الامتعة الثقيلة وحملها، ولا نقل المتاع من الخان إلى الحانوت والنداء عليه، ثم ما عليه أن يتولاه لو استأجر عليه، فالاجرة في ماله، وما ليس عليه أن يتولاه، له أن يستأجر عليه من مال القراض. ولو تولاه بنفسه، فلا أجرة له. فصل أجرة الكيال والوزان والحمال، في مال القراض، وكذا أجرة النقل إذا سافر بالاذن، وكذا أجرة الحارس والرصدى.(4/213)
فرع لا يجوز للعامل أن يتصدق من مال القراض بشئ أصلا، ولا أن ينفق منه على نفسه في الحضر قطعا. وفي السفر، قولان. أظهرهما: لا نفقة له، كالحضر. والثاني: له. وقيل: بالمنع قطعا. وقيل: بالاثبات قطعا. فإن أثبتنا، فالاصح أنه يختص بما يزيد بسبب السفر، كالخف والاداوة وشبههما. وقيل: يطرد في كل ما يحتاج إليه من طعام وكسوة وإدام وغيرها. قلت: وإذا قلنا بالاختصاص، استحق أيضا ما يتجدد بسبب السفر من زيادة النفقة، واللباس، والكراء، ونحوها. والله أعلم ويتفرع على الاثبات مسائل. منها: لو استصحب مال نفسه مع مال القراض، وزعت النفقة على قدر المالين. قال الامام: ويجوز أن ينظر إلى قدر العمل على المالين، ويوزع على أجرة مثلهما. وقال أبو الفرج السرخسي: إنما يوزع إذا كان ماله قدرا يقصد السفر له. قلت: قد قال بمثل قول السرخسي أبو علي في الافصاح، وصاحب البيان. والله أعلم ومنها: لو رجع العامل ومعه فضل زاد، أو آلات أعدها للسفر، كالمطهرة ونحوها، لزمه ردها إلى مال القراض على الصحيح. ومنها: لو استرد المالك منه المال في الطريق أو في البلد الذي سافر إليه، لم يستحق نفقة الرجوع على الاصح، كما لو خالع زوجته في السفر. ومنها: أنه يشترط أن لا يسرف، بل يأخذ بالمعروف، وما يأخذه يحسب من الربح، فإن لم يكن ربح، فهو خسران لحق المال، ومهما أقام في طريقه فوق مدة المسافرين في بلد، لم يأخذ لتلك المدة. ومنها: لو شرط نفقة السفر في ابتداء القراض، فهو تأكيد إذا أثبتناها، وإلا، فسد القراض على الاصح، كما لو شرط نفقة الحضر. والثاني: لا، لانه من(4/214)
مصالح العقد. وعلى هذا، في اشتراط تقديرها، وجهان. وعن رواية المزني في الجامع أنه لا بد من شرط النفقة في العقد مقدرة، لكن لم يثبتها الاصحاب. فصل هل يملك العامل حصته من الربح بالظهور كالمساقاة، أم لا يملك إلا بالقسمة ؟ قولان. أظهرهما عند الاكثرين: الثاني. فإن قلنا: بالظهور، فليس ملكا مستقرا، فلا يتسلط العامل على التصرف فيه، لان الربح وقاية لرأس المال. فلو اتفق خسران، كان من الربح دون رأس المال ما أمكن. ولذلك نقول: إذا طلب أحدهما قسمة الربح قبل فسخ القراض، لا يجبر الآخر. فإذا أرتفع القراض والمال ناض واقتسماه، حصل الاستقرار وهو نهاية الامر. وكذلك لو كان قدر رأس المال ناضا، فأخذه المالك واقتسما الباقي. وفي حصول الاستقرار بارتفاع العقد، ونضوض المال من غير قسمة، وجهان. أصحهما: نعم، للوثوق بحصول رأس المال، والثاني: لا، لان القسمة الباقية من تتمة عمل العامل. وإن كان المال عرضا، بني على خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، في أن العامل هل يجبر على البيع والتنضيض ؟ إن قلنا: نعم، فالمذهب أنه لا استقرار، إذ لم يتم العمل، وإلا، فوجهان، كما لو كان ناضا. ولو اقتسما الربح بالتراضي قبل فسخ العقد، لم يحصل الاستقرار، بل لو حصل خسران بعده، كان على العامل جبره بما أخذ. وإذا قلنا: لا يملك إلا بالقسمة، فله فيه حق مؤكد حتى يورث عنه، لانه وإن لم يملكه، فقد ثبت له حق التملك، ويقدم على الغرماء، لتعلق حقه بالعين، وله أن يمتنع من العمل بعد ظهور الربح، ويسعى في التنضيض ليأخذ منه حقه. ولو أتلف المالك المال، غرم حصة العامل، وكان الاتلاف كالاسترداد. فرع لو كان في المال جارية، لم يكن للمالك وطؤها، كان في المال ربح أو لم يكن. واستبعد الامام تحريم إذا لم يكن ربح. وإذا حرمنا، فوطئ، لم يكن فسخا للقراض على الاصح، ولا حد عليه. وأما المهر، فسنذكره إن شاء الله تعالى. ولو وطئها العامل، فعليه الحد إن لم يكن ربح وكان عالما، وإلا، فلا حد، ويؤخذ منه جميع المهر ويجعل في مال القراض. ولو استولد، لم تصر أم ولد إن قلنا: لا يملك بالظهور، وإلا، ثبت الاستيلاد في نصيبه، ويقوم عليه الباقي إن كان موسرا.(4/215)
فرع لا يجوز للمالك تزويج جارية القراض، لانه ينقصها فيضر بالعامل.
فصل فيما يقع في مال القراض من زيادة أو نقص أما الزيادة، فثمرة الشجرة المشتراة للقراض، ونتاج الدابة، وكسب الرقيق، وولد الجارية، ومهرها إذا وطئت بشبهة، وبدل منافع الدواب والارض، وسواء وجب باستعمالها عدوانا أو باجارة صدرت من العامل، فإن له الاجارة. فإذا رأى فيها المصلحة، أطلق الامام والغزالي: أن هذه كلها مال قراض، لانها من فوائده، وقال المتولي: إن كان في المال ربح، وملكنا العامل حصته بالظهور، فالجواب كذلك. فإن لم يكن ربح، أو لم نملكه، فمن الاصحاب من قال: مال قراض. وقال جمهورهم: يفوز بها المالك، لانها ليست من فوائد التجارة. ويشبه أن يكون هذا أولى. فإن جعلناها مال قراض، فالاصح أنها من الربح. وقيل: هي شائبة في الربح ورأس المال. ولو وطئها المالك، قال الغزالي وغيره: يكون مستردا مقدار المهر، فيستقر نصيب العامل منه. وقال البغوي: إن كان في المال ربح وملكناه بالظهور، وجب نصيب العامل من الربح، وإلا، فلا شئ له. واستيلاد المالك جارية القراض، كاعتاقها. وإذا أوجبنا المهر بوطئه الخالي عن الاحبال، فالاصح الجمع بينه وبين القيمة. وأما النقص، فما حصل برخص، فهو خسران مجبور بالربح. وكذا النقص بالتعيب والمرض الحادثين. وأما النقص العيني، وهو تلف البعض، فإن حصل بعد التصرف في المال بيعا وشراء، فقطع الجمهور بأن الاحتراق وغيره من الآفات السماوية، خسران يجبر بالربح. وفي التلف بالسرقة والغصب، وجهان. والفرق أن في الضمان الواجب ما يجبره، فلا حاجة إلى الجبر بمال القراض، وطرد جماعة الوجهين في الآفة السماوية، والاصح في الجميع، الجبر. أما إذا نقص قبل التصر ف بيعا وشراء، بأن دفع إليه ألفين قراضا،(4/216)
فتلف أحدهما قبل التصرف، فوجهان. أحدهما: أنه خسران، فيجبر بالربح الحاصل بعد، ويكون رأس المال ألفين. وأصحهما: يتلف من رأس المال، ويكون رأس المال ألفا. ولو اشترى بالالفين عبدين، فتلف أحدهما، تلف من الربح على المذهب. وقيل: من رأس المال، لانه لم يتصرف بعد بالبيع. هذا إذا تلف بعض المال. أما إذا تلف كله بآفة سماوية قبل التصرف أو بعده، فيرتفع القراض، وكذا لو أتلفه المالك كما سبق. فلو أتلف أجنبي جميعه أو بعضه، أخذ منه بدله واستمر فيه القراض. وما ذكرناه من الخلاف في الجبر من الربح في صورة السرقة والغصب، هو فيما إذا تعذر أخذ البدل من المتلف. ولو أتلف العامل المال، قال الامام: يرتفع القراض، لانه وإن وجب عليه بدله، فلا يدخل في ملك المالك إلا بقبضه منه، وحينئذ يحتاج إلى استئناف القراض. ولك أن تقول: ذكروا وجهين في أن مال القراض إذا غصب أو أتلف، فمن الخصم فيه ؟ أصحهما: أنه المالك فقط إن لم يكن في المال ربح، وهما جميعا إن كان ربح. والثاني: أن للعامل المخاصمة مطلقحفظا للمال، فيشبه أن يكون الجواب المذكور في إتلاف الاجنبي مفرعا على أن العامل خصم، ويتقدر أن يقال: ليس بخصم، بل إذا خاصم المالك وأخذه، عاد العامل إلى التصرف فيه بحكم القراض، ولزم مثله فيما إذا كان العامل هو المتلف. فرع لو قتل رجل عبد القراض، وفي المال ربح، لم ينفرد أحدهما بالقصاص، بل الحق لهما، فإن تراضيا على العفو على مال، أو على القصاص، جاز. وإن عفا أحدهما، سقط القصاص ووجبت القيمة، هكذا ذكروه وهو ظاهر على قولن: يملك العامل الربح بالظهور، وغير ظاهر على القول الآخر. وإن لم يكن في المال ربح، فللمالك القصاص والعفو على غير مال. وكذا لو كانت الجناية موجب للمال، فله العفو عنه ويرتفع القراض. فإن أخذ المال، أو صالح عن القصاص على مال، بقي القراض فيه. فرع مال القراض ألف، اشترى بعينه ثوبا. فتلف الالف قبل التسليم، بطل الشراء وارتفع القراض. وإن اشترى في الذمة، قال في البويطي: يرتفع(4/217)
القراض ويكون الشراء للعامل، فقال بعض الاصحاب: هذا إذا كان التلف قبل الشراء، فإن القراض، والحالة هذه، غير باق عند الشراء، فينصرف الشراء إلى العامل. أما لو تلف بعد الشراء، فالمشتري للمالك. فإذا تلف الالف المعد للثمن، لزمه ألف آخر. وقال ابن سريج: يقع الشراء عن العامل، سواء تلف الالف قبل الشراء أو بعده، وعليه الثمن ويرتفع القراض، لان إذنه ينصرف إلى التصرف في ذلك الالف، فإن قلنا بالاول، فرأس المال ألف، أم ألفان ؟ وجهان. فإن قلنا: ألف، فهو الالف الاول، أم الثاني ؟ وجهان، فائدتهما عند اختلاف الالفين في صفة الصحة وغيرها.
الباب الثالث : في فسخ القراض والاختلاف فيه
فيه طرفان.
الأول : في فسخه. والقراض جائز، فإنه في أوله وكالة، وبعد ذلك شركة. إذا حصل ربح، فلكل منهما فسخه متى شاء، ولا يحتاج إلى حضور صاحبه ورضاه. وإذا مات أحدهما، أو جن، أو أغمي عليه، انفسخ. فإذا فسخا جميعا أو أحدهما، لم يكن للعامل أن يشتري بعده، ثم ينظر إن كان المال دينا، لزم العامل التقاضي والاستيفاء، سواء كان ربح، أم لا. فإن لم يكن دينا، نظر إن كان نقدا من جنس رأس المال ولا ربح، أخذه المالك. وإن كان ربح، اقتسماه بحسب الشرط، فإن كان الحاصل مكسرة، ورأس المال صحاح، نظر، فإن وجد من يبدلها بالصحاح وزنا يوزن، أبدلها وإلا، باعها بغير جنسها من التقديم اشترى به الصحاح، يجوز أيضا أن يبيعها بعرض ويشتري به الصحاح على الاصح. وإن كان نقدا من غير جنس المال، أو عرضا، فله حالان. أحدهما: أن يكون فيه ربح فيلزم العامل بيعه إن طلبه المالك، وله بيعه وإن(4/218)
أباه المالك، وليس للعامل تأخير البيع إلى موسم رواج المجاع، لان حق المالك معجل. ولو قال المالك: تركت حقي لك فلا تكلفني البيع، لم يلزمه الاجابة على الاصح، لان في التنضيض مشقة ومؤنة، فلا يسقط عن العامل. ولو قال المالك: لا تبع ونقتسم العروض بتقويم عدلين، أو قال: أعطيك قدر نصيبك ناضا، ففي تمكن العامل من البيع، وجهان. وقطع الشيخ أبو حامد وغيره بالمنع، لانه إذا جاز للمعير أن يتملك غراس المستعير بقيمته لدفع الضرر، فالمالك هنا أولى. وحيث لزم البيع، قال الامام: الذي قطع به المحققون، أن ما يلزمه بيعه وتنضيضه، قدر رأس المال. أما الزائد، فحكمه حكم عرض يشترك فيه رجلان، فلا يكلف واحد منهما بيعه. ثم ما يبيعه بطلب المالك أو دونه، يبيعه بنقد البلد إن كان من جنس رأس المال. فإن كان من غير جنسه، باعه يرى المصلحة فيه من نقد البلد ورأس المال، فإن باعه بنقد البلد، حصل به رأس المال. الحال الثاني: إذا لم يكن في المال ربح، فهل للمالك تكليفه البيع ؟ وجهان أصحهما: نعم، ليرد كما أخذ لئلا يلزم المالك مشقة ومؤنة. وهل للعامل البيع إذا رضي المالك بامساكه ؟ وجهان حكاهما الامام. أحدهما: لا، إذ لا فائدة، والصحيح وبه قطع الجمهور: له البيع إذا توقع ربحا، بأن ظفر بسوق أو راغب. وإذا قلنا: ليس للعامل البيع إذا أراد المالك إمسا ك العرض، أو أنفقنا على أخذ المالك العرض، ثم ظهر ربح بارتفاع السوق، فهل للعامل فيه نصيب، لحصوله بكسبه ؟ أم لا، لظهوره بعد الفسخ ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فرع كما يرتفع القراض بقول المالك: فسخته، يرتفع بقوله للعامل: لا تتصرف بعد هذا، أو باسترجاع المال منه. فلو باع المالك ما اشتراه العامل للقراض، فهل ينعزل كما لو باع الموكل ما وكل في بيعه ؟ أم لا ويكون ذلك إعانة له ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. ولو حبس العامل ومنعه التصرف، أو قال: لا قراض بيننا، ففي انعزاله وجهان. قلت: ينبغي أن يكون الاصح في صورة الحبس، عدم الانعزال، وفي قوله: لا قراض بيننا الانعزال. والله أعلم(4/219)
فرع إذا مات المالك والمال ناض لا ربح فيه، أخذه الوارث. فإن كان ربح، اقتسماه. وإن كان عرضا، فالمطالبة بالبيع والتنضيض كحالة حصول الفسخ في حياتهما، وللعامل البيع هنا حيث كان له البيع هناك، ولا يحتاج إلى إذن الوارث اكتفاء بإذن المؤرث، بخلاف ما لو مات العامل، فإنه لا يملك وارثه البيع دون إذن المالك، لانه لم يرض بتصرفه. وفي وجه: لا يبيع العامل بغير إذن وارث المالك. والصحيح: الجواز. ويجري الخلاف في استيفائه الديون بغير إذن الوارث. ولو أراد الاستمرار على العقد، فإن كان المال ناضا، فلهما ذلك بأن يستأنفا عقدا بشرطه، ولا بأس بوقوعه قبل القسمة لجواز القراض على المشاع، ولذلك يجوز القراض مع الشريك بشرط أن لا يشاركه في اليد، ويكون للعامل ربح نصيبه، ويتضاربان في ربح نصيب الآخر. وهل ينعقد بلفظ الترك والتقرير، بأن يقول الوارث، أو القائم بأمره: تركتك أو قررتك على ما كنت عليه ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لفهم المعنى، وليكن الوجهان تفريعا على أن القراض ونحوه لا ينعقد بالكناية. فأما إذا قلنا: ينعقد (به)، فينبغي القطع بالانعقاد هنا، وإن كان المال عرضا، ففي جواز تقريره على القراض وجهان. أصحهما: المنع، لان القراض الاول انقطع بالموت، ولا يجوز ابتداء القراض على عرض. والاشبه أن يختص الوجهان بلفظ الترك والتقرير، ولا يسامح باستعمال الالفاظ التي تستعمل في الابتداء. وحكى الامام فيما إذا فسخ القراض في الحياة طريقة طاردة للوجهين، وطريقة قاطعة بالمنع، وهي الاشهر. فأما إذا مات العامل واحتيج إلى البيع والتنضيض، فإن أذن المالك لوارث العامل فيه، فذاك، وإلا، تولاه أمين من جهة الحاكم، ولا يجوز تقرير وارثه على القراض إن كان المال عرضا قطعا، فإن كان ناضا، فلهما ذلك بعقد مستأنف. وفي لفظ التقرير، الوجهان السابقان، ويجريان أيضا فيما إذا انفسخ البيع الجاري بينهما ثم أرادا إعادته، فقال البائع: قررتك على موجب البيع الاول، وقبل صاحبه، وفي النكاح، لا يصح مثله. فرع كان رأس مال الميت مائة، والربح مائتين، وجدد الوارث العقد مع(4/220)
العامل مناصفة كما كان بلا قسمة، فرأس مال الوارث مائتان من ثلاث المائة، والمائة الباقية للعامل، فعند المقاسمة، يأخذها وقسطها من الربح، ويأخذ الوارث رأس ماله مائتين، ويقتسمان ما بقي. قلت: إذا جنا أو أغمي عليهما أو أحدهما، ثم أفاقا وأرادا عقد القراض ثانيا، قال في البيان: الذي يقتضيه المذهب، أنه كما لو انفسخ بالموت، وهو كما قال. والله أعلم فصل إذا استرد المالك طائفة من المال، فإن كان قبل ظهور الربح والخسران، رجع رأس المال إلى القدر الباقي. وإن ظهر ربح، فالمسترد شائع ربحا وخسرانا على النسبة الحاصلة من جملتي الربح ورأس المال، ويستقر ملك العامل على ما يخصه بحسب الشرط مما هو ربح منه، فلا يسقط بالخسران الواقع بعده. وإن كان الاسترداد بعد ظهور الخسران، كان موزعا على المسترد الباقي، فلا يلزم جبر حصة المسترد من الخسران، ويصير المال هو الباقي بعد المسترد وحصته من الخسران. مثال الاسترداد بعد الربح: كان رأس المال مائة، وربح عشرين، واسترد عشرين، فالربح سدس المال، فيكون المسترد سدسه ربحا، وهو ثلاثة دراهم وثلث، ويستقر ملك العامل على نصفه إذا كان الشرط مناصفة، وهو درهم وثلثا درهم. فلو عاد ما في يده إلى ثمانين، لم يسقط نصيب العامل، بل يأخذ منها درهما وثلثي درهم. ومثال الاسترداد بعد الخسران: كان رأس المال مائة، وخسر عشرين، واسترد عشرين، فالخسران موزع على المسترد والباقي، فتكون حصة المسترد خمسة لا يلزم جبرها، بل يكون رأس المال خمسة وسبعين، فما زاد بعد ذلك عليها قسم بينهما. الطرف الثاني : في الاختلاف، وفيه مسائل.(4/221)
إحداها: ادعى العامل تلف المال، صدق بيمينه، فلو ذكر سبب التلف، فسيأتي بيانه في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى. الثانية: لو ادعى الرد، صدق بيمينه على الاصح. الثالثة: قال: ما ربحت، أو ما ربحت إلا ألفا، فقال المالك: ألفين، صدق العامل بيمينه. فلو قال: ربحت كذا، ثم قال: غلطت في الحساب، إنما الربح كذا، أو تبينت أن لا ربح، أو قال: كذجت فيما قلت خوفا من انتزاع المال من يدي، لم يقبل قوله. ولو قال: خسرت بعد الربح الذي أخبرت عنه، قبل منه. قال المتولي وذلك عند الاحتمال، بأن حدث كساد فإن لم يحتمل لم يقبل. ولو ادعى الخسارة عند الاحتمال، أو التلف بعد قوله: كنت كاذبا فيما قلت، قبل أيضا، ولا تبطل أمانته بذلك القول السابق، هكذا نص عليه، وقاله الاصحاب. الرابعة: قال: اشتريت هذا للقراض، فقال المالك: بل لنفسك، فالقول قول العامل على المشهور، وفي قول: قول المالك، لان الاصل عدم وقوعه عن القراض. ولو قال: اشتريته لنفسي، فقال: بل للقراض، صدق العامل بيمينه قطعا. فلو أقام المالك بينة أنه اشتراه بمال القراض، ففي الحكم بها وجهان. وجه المنع: أنه قد يشتري لنفسه بمال القراض عدوانا، فيبطل العقد. الخامسة: قال المالك: كنت نهيتك عن شراء هذا، فقال: لم تنهني، صدق العامل. السادسة: قال: شرطت لي نصف الربح، فقال: بل ثلثه، تحالفا كالمتبايعين، فإذا حلفا، فسخ العقد، واختص الربح والخسران بالمالك، وللعامل أجرة مثل عمله. وفي وجه: أنها إن كانت أكثر من نصف الربح، فليس له إلا قدر(4/222)
النصف، لانه لا يدعي أكثر. قلت: وإذا تحالفا، فهل ينفسخ بنفس التحالف، أم بالفسخ ؟ حكمه حكم البيع كما مضى، قاله في البيان. والله أعلم السابعة: اختلفا في قدر رأس المال، فالقول قول العامل إن لم يكن في المال ربح، (وكذا إن لم كان على الاصح. وقيل: يحالفان. ولو قارض رجلين على أن نصف الربح له)، والباقي بينهما سواء، فربحا، ثم قال المالك: دفعت إليكما ألفين، وصدقه أحدهما، وقال الآخر: بل ألفا، لزم المقر ما أقر به، وحلف الآخر وقضي له بموجب قوله. ولو كان الحاصل ألفين، أخذ المنكر ربع الالف الزائد على ما أقر به، والباقي يأخذه المالك. ولو كان الحاصل ثلاثة آلاف، فالمنكر يزعم أن الربح ألفان، له منهما خمسمائة، فتسلم له، ويأخذ المالك من الباقي ألفين عن رأس المال، يبقى خمسمائة يتقاسماها - المالك والمقر - أثلاثا، لاتفاقهم على أن ما يأخذه المالك مثلا ما يأخذه كل عامل، وما أخذه النكر، كالتالف. ولو قال المالك: رأس المال دنانير، فقال العامل: بل دراهم، صدق العامل. الثامنة: اختلفا في أصل القراض، فقال المالك: دفعت إليك لتشتري لي بالوكالة، وقال القابض: بل قارضتني، فالمصدق المالك. فإذا حلف أخذ المال وربحه، ولا شئ عليه للآخر. قلت: لو دفع إليه ألفا، فتلف في يده، فقال: دفعته قرضا، فقال العامل: بل قراضا، قال في العدة والبيان: بينة العامل أولى في أحد الوجهين. والله أعلم.
فصل في مسائل منثورة إحداها: ليس لعامل القراض التصرف في الخمر بيعا ولا شراء وإن كان ذميا،(4/223)
فإن خالف واشتر خمرا، أو خنزيرا، أو أم ولد، ودفع المال في ثمنه، ضمن، عالما كان أو جاهلا، لان الضمان لا يختلف بهما. هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور. وقيل: لا ضمان في العلم والجهل، وهو شاذ ضعيف. وقيل: يضمن في العلم دون الجهل. وقيل: يضمن في الخمر مطلقا، ولا يضمن في أم الولد مع الجهل. قلت: قلت الوجه المذكور في شراء الخمر عالما، أنه لا يضمنه، هو في الذمي دون المسلم، لانه يعتقده مالا، قاله في البيان. والله أعلم الثانية: قارضه على أن ينقل المال إلى موضع كذا، ويشتري من أمتعته ثم يبيعها هناك، أو يردها إلى موضع القراض، قال الامام: قال الاكثرون بفساد القراض، لان نقل المتاع من بلد إلى بلد، عمل زائد على التجارة، فأشبه شرط الطحن والخبز، ويخالف ما إذا أذن له في السفر، فإن الغرض منه نفي الحرج. وقال الاستاذ أبو إسحاق وطائفة من المحققين: لا يضر شرط المسافرة، فإنها الركن الاعظم في الاموال النفيسة. الثالثة: قال: خذ هذه الدراهم قراضا، وصارف بها مع الصيارفة، ففي صحة مصارفته مع غيرهم وجهان. وجه الصحة: أن مقصوده التصرف مصارفة. الرابعة: خلط العامل مال القراض بماله، صار ضامنا، وكذا لو قارضه رجلان، فخلط مال أحدهما بالآخر، وكذا لو قارضه واحد على مالين بعقدين، فخلطهما، ضمن. فلو دفع إليه ألفا قراضا، ثم ألفا، وقال: ضمه إلى الاول، فإن لم يكن تصرف بعد في الاول، جاز، وكأنه دفعهما إليه معا، وإن كان تصرف في الاول، لم يجز القراض في الثاني، ولا الخلط، لان الاول استقر حكمه بالتصرف ربحا وخسرانا، وربح كل مال وخسرانه يختص به، ولو دفع إليه ألفا قراضا، وقال: ضم إليه ألفا من عندك على أن يكون ثلث ربحهما لك وثلثاه لي، أو بالعكس، فسد القراض، لما فيه من شرط التفاوت في الربح مع التساوي في المال، ولا نظر إلى العمل بعد الشركة في المال. ولو دفع إليه زيد ألفا قراضا، وعمرو كذلك، فاشترى لكل واحد عبدا بألف، ثم اشتبها عليه، فقولان. أحدهما: ينقلب شراء العبدين له، ويغرم لهما، لتفريطه. ثم المغررم عند الاكثرين الالفان. وقيل: يغرم قيمة(4/224)
العبدين وإن زادت. والقول الثاني: يباع العبدان، ويقسم الثمن بينهما. فإن حصل ربح، فهو بينهم على حسب الشرط. وإن حصل خسران، قال الاصحاب: يلزمه ضمانه، لتقصيره. واستدرك المتأخرون فقالوا: إن كان لانخفاض السوق، لا يضمن، لان غايته أن يجعل كالغاصب، والغاصب لا يضمن انخفاض السوق. قال الامام: والقياس مذهب ثالث غير القولين، وهو أن يبقى العبدان لهما على الاشكال إن لم يصطلحا. قلت: قال الجرجاني في المعاياة: (و) لا يتصور خسران على العامل في غير هذه المسألة. وبقي من الباب مسائل. منها: لو دفع إليه مالا وقال: إذا مت فتصرف فيه بالبيع والشراء، ولك نصف الربح، فمات، لم يكن له التصرف، بخلاف ما لو أوصى له بمنفعة عين، لانه تعليق، ولان القراض يبطل بالموت لو صح. ولو قارضه على نقد، فتصرف العامل ثم أبطل السلطان النقد، ثم انفسخ القراض، قال صاحب العدة والبيان: رد مثل، النقد المعقود عليه على الصحيح. ولم وقيل من الحادث ولو مات العامل يعرف مال القراض من غيره، فهو كمن مات وعنده وديعة ولم يعرف عينها، وسيأتي بيانه في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى. ولو جنى عبد القراض، قال في العدة: للعامل أن يفديه من مال القراض على أحد الوجهين كالنفقة عليه والله أعلم(4/225)
كتاب المساقاة
هي أن يعامل إنسان إنسانا على شجرة ليتعهدها بالسقي والتربية، على أن ما رزق الله تعالى من الثمرة يكون بينهما، وفيه بابان.(4/226)
الأول : في أركانها، وهي خمسة.
الركن الأول : العاقدان، وسبق بيانهما في القراض. و
الركن الثاني : متعلق العمل، وهو الشجر، وله ثلاثة شروط. (الشرط) الاول: أن يكون نخلا أو عنبا، فأما غيرهما من النبات، فقسمان. (القسم الاول): ماله ساق، ومالا. والاول ضربان. (الضرب) الاول: ماله ثمرة كالتين، والجوز، والمشمش، والتفاح ونحوها، وفيها قولان. القديم: جواز المساقاة عليها. والجديد: المنع. وعلى الجديد، في شجر المقل وجهان، جوزها ابن سريج، ومنها غيره. قلت: الاصح: المنع. والله أعلم الضرب الثاني: ما لا ثمرة له، كالدلب والخلاف ويره، فلا تجوز المساقاة عليه. وقيل: في الخلاف وجهان لاغصانه.(4/227)
القسم الثاني: ما لا ساق له، كالبطيخ، والقثاء، وقصب السكر، والباذنجان، والبقول التي لا تثبت في الارض ولا تجز إلا مرة واحدة، فلا تجوز المساقاة عليها، كما لا تجوز على الزرع. فإن كانت تثبت في الارض وتجز مرة بعد مرة، فالمذهب المنع. وقيل: وجهان. أصحهما: المنع. الشرط الثاني: أن تكون الاشجار مرئية، وإلا، فباطل على المذهب. وقيل: قولان، كبيع الغائب. الشرط الثالث: أن تكون معينة. فلو ساقاة على أحد الحائطين، لم يصح.
الركن الثالث : الثمار. فيشترط اختصاصه بالعاقدين مشتركة بينهما معلومة، وأن يكون العلم بها من حيث الجزئية دون التقدير. فلو شرطا بعض الثمار لثالث، أو كلها لاحدهما، فسدت المساقاة. وفي استحقاق الاجرة عند شرط الكل للمالك وجهان كالقراض. أصحهما: المنع، لانه عمل مجانا. ولو قال: ساقيتك على أن لك جزءا من الثمرة، فسدت. ولو قال: على أنها بيننا، أو على أن نصفها لي، أو نصفها لك، وسكت عن الباقي، أو على أن ثمرة هذه النخلة أو النخلات لي، أو لك، والباقي بيننا، أو على أن صاعا من الثمرة لي، أو لك، والباقي بيننا، فحكمه كله كما سبق في القراض. وفي التتمة وجه شاذ: أنه تصح المساقاة إذا شرط كل الثمرة للعامل، لغرض القيام بمصلحة الشجر. فصل إذا ساقاه على ودي ليغرسه ويكون الشجر بينهما، أو ليغرسه ويتعهده مدة كذا، والثمرة بينهما، فهو فاسد على الصحيح. وقيل: يصح فيهما، للحاجة. وقيل: يصح في الثاني. فعلى الصحيح: إذا عمل في هذا الفاسد، استحق أجرة المثل إن كانت الثمرة متوقعة في هذه المدة، وإلا فعلى(4/228)
الوجهين في شرط الكل للمالك. ولو ساقاه على ودي مغروس، فإن قدرا العقد بمدة لا يثمر فيها، لم تصح المساقاة، لخلوها عن الغرض. وفي استحقاقه أجرة المثل، الخلاف السابق. قال الامام: هذا إذا كان عالما بأنها لا تثمر فيها، فإن جهل ذلك، استحق الاجرة قطعا. وإن قدر بمدة يثمر فيها غالبا، صح، ولا يضر كون أكثر المدة لا ثمر فيها، فإن اتفق أنها لم تثمر، لم يستحق العامل شيئا، كما لو قارضه فلم يربح، أو ساقاه على النخيل المثمرة فلم تثمر، وإن قدر بمدة تحتمل الاثمار وعدمه، لم يصح على الاصح، كما لو أسلم في معدوم إلى وقت يحتمل وجوده وعدمه. والثاني: يصح. فإن أثمرت، استحق، وإلا، فلا شئ له. وعلى الاول: يستحق الاجرة إن لم تثمر، لانه عمل طامعا. هذه طريقة جمهور الاصحاب، وجعلوا توقع الثمرة ثلاثة أقسام كما ذكرنا. وقيل: إن غلب وجودها في تلك المدة، صح، وإلا، فوجهان. وقيل: إن غلب عدمها، لم يصح، وإلا، فوجهان. فرع دفع إليه وديا ليغرسه في أرض نفسه، على أن يكون الغراس للدافع، والثمر بينهما، فهو فاسد، وللعامل عليه أجرة مثل عمله وأرضه. ولو دفع إليه أرضه ليغرمها بودي نفسه، على أن تكون الثمرة بينهما، ففاسد أيضا، ولصاحب الارض أجرتها على العامل. فصل في جواز المساقاة بعد خروج الثمار، قولان. أظهرهما: الجواز. وفي موضع القولين طرق. أصحها: أنهما فيما بدو الصلا ح، فأما بعده، فلا يجوز قطعا. والثاني: القولان فيما لم ينتاه نضجه. فإن تناهى، لم يجز قطعا. والثالث: طردهما في كل الاحوال. ولو كان بين النخيل بياض، بحيث تجوز المزارعة عليه تبعا للمساقاة، فكان فيه زرع موجود، ففي جواز المزارعة تبعا، وجهان بناء على هذين القولين. فصل إذا كان في الحديقة نوعان من التمر فصاعدا، كالصيحاني، والعجوة، والدقل، فساقاه على أن له النصف من الصيحاني، أو من العجوة الثلث، فإن علما قدر كل نوع، جاز، وإن جهله أحدهما، لم يجز. ومعرفة كل نوع إنما تكون بالنظر والتخمين دون التحقيق. وإن ساقاه على النصف من الكل،(4/229)
جاز وإن جهلا قدر النوعين. ولو ساقاه على أنه إن سقى بماء السماء، فله الثلث، أو بالدالية، فالنصف، لم يصح، للجهل. ولو ساقاه على حديقته بالنصف على أن يساقيه على أخرى بالثلث، أو على أن يساقيه العامل على حديقته، ففاسد. وهل تصح المساقاة الثانية ؟ ينظر، إن عقدها وفاء بالشرط الاول، لم يصح، وإلا، فيصح، وسبق نظيره في الرهن. فرع حديقة بين اثنين مناصفة، ساقى أحدهما صاحبه وشرط له ثلثي الثمار، صح وقد شرط له ثلث ثمرته. وإن شرط له ثلث الثمار، أو نصفها، لم يصح، لانه لم يثبت له عوضا بالمساقاة، فإنه يستحق النصف بالملك. وإذا عمل، ففي استحقاقه الاجرة الوجهان. ولو شرط له جميع الثمار، فسد، وفي الاجرة وجهان، لانه لم يعمل له إلا أنه انصرف إليه. قلت: أصحهما: له الاجرة. والله أعلم. ولو شرط في المساقاة مع الشريك أن يتعاونا على العمل، فسدت وإن أثبت له زيادة على النصف، كما لو ساقى أجنبيا على هذا الشرط. ثم إن تعاونا واستويا في العمل، فلا أجرة لواحد منهما. وإن تفاوتا، فإن كان عمل من شرط له الزيادة أكثر، استحق على الاجرة بالحصة من عمله. وإن كان عمل الآخر أكثر، ففي استحقاقه الاجرة الوجهان. أما لو أعانه من غير شرط، فلا يضر. ولو ساقى الشريكان أجنبيا، وشرطا له جزءا من ثمرة كل الحديقة، ولم يعلم نصيب كل واحد منهما، جاز. فإن قالا: على أن لك من نصيب أحدنا النصف، ومن نصيب الآخر الثلث، من غير تعيين، لم يصح، وإن عينا، فإن علم نصيب كل واحد، صح، وإلا، فلا. فرع كانت الحديقة لواحد، فساقي اثنين على أن لاحدهما نصف الثمرة، وللآخر ثلثها، في صفقة، أو صفقتين، جاز إن عين من له النصف ومن له الثلث. فرع حديقة بين ستة أسداسا، فساقوا رجلا على أن له من نصيب واحد عينوه النصف، ومن نصيب الثاني الربع، ومن الثالث الثمن، ومن الرابع الثلثين،(4/230)
ومن الخامس الثلث، ومن السادس السدس، فحسابه أن مخرج النصف والربع يدخلان في مخرج الثمن، ومخرج الثلثين والثلث يدخل في السدس، تبقى ستة وثمانية، يضرب وفق أحدهما في الآخر، تبلغ أربعة وعشرين، تضربه في عدد الشركاء وهو ستة، تبلغ مائة وأربعة وأربعين، لكل واحد منهم أربعة وعشرون، فيأخذ العامل ممن شرط له النصف اثني عشر، ومن الثاني ستة، ومن الثالث ثلاثة، ومن الرابع ستة عشر، ومن الخامس ثمانية، ومن السادس أربعة، فيجتمع له تسعة وأربعون.
الركن الرابع : العمل، (وشروطه) قريبة من عمل القراض وإن اختلفا في الجنس. فمنها: أن لا يشرط عليه عمل ليس من أعمال المساقاة. ومنها: أن يستبد العامل باليد في الحديقة ليتمكن من العمل متى شاء. فلو شرطا كونه في يد المالك، أو مشاركته في اليد، لم يصح. ولو سلم المفتاح إليه، وشرط المالك الدخول عليه، جاز على الصحيح. ووجه الثاني: أنه إذا دخل، كانت الحديقة في يده، ويتعوق بحضوره العمل. ومنها: أن ينفرد العامل بالعمل. فلو شرطا مشاركة المالك في العمل فسد العقد، وإن شرطا أن يعمل معه غلام المالك، جاز على المذهب والمنصوص. وقيل: وجهان كالقراض. هذا إذا شرطا معاونة الغلام، ويكون تحت تدبير العامل. فلو شرطا اشتراكهما في التدبير، ويعملان ما اتفقا عليه، لم يجز بلا خلاف. وإذا جوزناه في الاول، فلا بد من معرفة الغلام بالرؤية أو الوصف. وأما نفقته، فإن شرطاها على المالك، جاز، وإن شرطاها على العامل، جاز أيضا على الاصح. وعلى هذا، هل يجب تقديرها ليعرف ما يدفع إليه كل يوم من الخبز والادم، أم لا بل يحمل على الوسط المعتاد لانه يتسامح به ؟ وجهان، وبالثاني قطع الشيخ أبو حامد. وإن شرطاها في الثمار،(4/231)
فقطع البغوي بالمنع، لان ما يبقى مجهول. وقال صاحب الافصاح: يجوز، لانه قد يكون من صلاح المال، ويشبه أن يتوسط فيقال: إن شرطاها من جزء معلوم، بأن شرطا للمالك ثلث الثمار، وللعامل ثلثها، ويصرف الثلث الثالث إلى نفقة الغلام. جاز، وكأن المشروط للمالك ثلثاها. وإن شرطاها في الثمار بغير تقدير جزء لم يصح. ولو لم يتعرضا للنفقة أصلا، فالمذهب والذي قطع به الجمهور: أنها على المالك. وفي وجه: على العامل، حكاه في المهذب. ولصاحب الافصاح احتمالان آخران. أحدهما: أنها من الثمرة، والآخر، يفسد العقد، ولا يجوز للعامل استعمال الغلام في عمل نفسه. ولو شرط أن يعمل له، بطل العقد. ولو كان برسم الحديقة غلمان يعملون فيها، لم يدخلوا في مطلق المساقاة. ولو شرط استئجار العامل من يعمل معه من الثمرة، بطل العقد. ولو شرط كون أجرة من يعمل معه على المالك، بطل على المذهب، وبه قطع الاصحاب، وشذ الغزالي، فذكر في جوازه وجهين. فصل يشترط لصحة المساقاة، أن تكون مؤقتة. فإن وقت بالشهور أو السنين العربية، فذاك، ولو وقت بالرومية وغيرها، جاز إذا علماها، فإن أطلقا لفظ السنة، انصرف إلى العربية. وإن وقت بادراك الثمرة، فهل يبطل كالاجارة، أم يصح لانه المقصود ؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: أولهما، وبه قطع البغوي، وصحح الغزالي الثاني. فعلى الثاني لو قال: ساقيتك سنة، وأطلق، فهل يحمل على السنة العربية، أم سنة الادراك ؟ وجهان، زعم أبو الفرج السرخسي (أن) أصحهما: الثاني. فإن قلنا بالاول، أو وقت بالزمان، فأدركت الثمار والمدة باقية، لزم العامل أن يعمل في تلك البقية، ولا أجرة له. وإن انقضت المدة وعلى(4/232)
الشجر طلع أو بلح، فللعامل نصيبه منها، وعلى المالك التعهد إلى الادراك. وإن حدث الطلع بعد المدة، فلا حق للعامل فيه. ولو ساقاه أكثر من سنة، ففي صحته الاقوال التي سنذكرها إن شاء الله تعالى في الاجارة أكثر من سنة، فإن جوزناه، فهل يجب بيان حصة كل سنة، أم يكفي قوله: ساقيتك على النصف لاستحقاق النصف كل سنة ؟ قولان، أو وجهان كالاجارة. وقيل: يجب هنا قطعا، لكثرة الاختلاف في الثمر، بخلاف المنافع، فلو فاوت بين الجزء المشروط في السنين، لم يصح على المذهب. وقيل: قولان كالسلم إلى آجال. ولو ساقاه سنين، وشرط له ثمرة سنة بعينها، والاشجار بحيث تثمر كل سنة، لم يصح. قلت: ولو ساقاه تسع سنين، وشرط له ثمرة العاشرة، لم يصح قطعا، وكذا إن شرط له ثمرة التاسعة على الصحيح. والله أعلم.
الركن الخامس : الصيغة، ولا تصح المساقاة بدونها على الصحيح. وفيها الوجه المكتفى في العقود بالتراضي، والمعاطاة، وكذا في القراض وغيره. ثم أشهر الصيغ: ساقيتك على هذه النخيل بكذا، أو عقدت معك عقد المساقاة. قال الاصحاب: وينعقد بكل لفظ يؤدي معناها، كقوله: سلمت إليك نخيلي لتتعهدها على كذا، أو اعمل على هذا النخيل، أو تعهد نخيلي بكذا، وهذا الذي قالوه، يجوز أن يكون تفريعا على أن مثله من العقود ينعقد بالكناية، ويجوز أن يكون ذهابا إلى أن هذه الالفاظ صريحة، ويعتبر في المساقاة، لقبول قطعا، ولا يجئ فيها الوجه المذكور في القراض والوكالة، للزومهما. فرع لو عقدا بلفظ الاجارة، فقال: استأجرتك لتتعهد نخيلي بكذا من(4/233)
ثمارها، أو عقدا الاجارة بلفظ المساقاة، فوجهان في المسألتين. أحدهما: الصحة، لما بين البابين من المشابهة، واحتمال كل لفظ معنى الآخر. وحهما: المنع، لان لفظ الاجارة صريح في غير المساقاة، فإن أمكن تنفيذه في موضوعه، نفذ فيه، وإلا، فلا، وهو إجارة فاسدة، والخلاف راجع إلى أن الاعتبار باللفظ أو المعنى ؟ ولو قال: ساقيتك على هذه النخيل بكذا ليكون أجرة لك، فلا بأس، لسبق لفظ المساقاة. هذا إذا قصد بلفظ الاجارة المساقاة، أما إذا قصدا الاجارة نفسها، فينظر، إن لم تكن خرجت الثمرة، لم يجز، لان شرط االاجرة أن تكون في الذمة، أو موجودة معلومة. وإن كانت خرجت، وبدا فيها الصلاح، جاز، سواء شرط ثمرة نخلة معينة، أو جزءا شائعا، كذا أطلقوه، ولكن يجئ فيه ما سنذكره إن شاء الله تعالى في مسألة قفيز الطحان وأخواتها. وإن لم يبد فيها الصلاح، فإن شرط له ثمرة نخيله بعينها، جاز بشرط القطع، وكذا لو شرط كل الثمار للعامل. وإن شرط جزءا شائعا، لم يجز وإن شرط القطع، لما سبق في البيع. وإذا عقدا بلفظ المساقاة، فالصحيح: أنه لا يحتاج إلى تفصيل الاعمال، بل يحمل في كل ناحية على عرفها الغالب. وقيل: يجب تفصيلها. وهذا الخلاف إذا علم المتعاقدان العرف المحمول عليه. فإن جهله أحدهما، وجب التفصيل قطعا.
الباب الثاني : في أحكام المساقاة ويجمعها حكمان. أحدهما: ما يلزم العامل والمالك. والثاني: في لزومها. أما الاول: فكل عمل تحتاج إليه الثمار لزيادتها، أو صلاح، ويتكرر كل سنة، فهو على العامل. وإنما اعتبرنا التكرار، لان ما يتكرر يبقى أثره بعد فراغ المساقاة، وتكليف العامل مثل هذا، إجحاف به. فما يجب عليه السقي، وما يتبعه(4/234)
من إصلاح طريق المال والاجاجين التي يقف فيها الماء، وتنقية الآبار والانهار من الحمأة ونحوها. وإدارة الدولاب وفتح رأس الساقية، وسدها عند السقي، على ما يقتضيه الحال. وفي تنقية النهر وجه ضعيف: أنها على المالك. ووجه: أنها على من شرطت عليه منهما. فإن لم يذكراها، فسد العقد. ومنه: تقليب الارض بالمساحي وكرابها في المزارعة. قال المتولي: وكذا تقويتها بالزبل، وذلك بحسب العادة. ومنه: التلقيح، ثم الطلع الذي يلقح به على المالك، لانه عين مال، وإنما يكلف العامل العمل. ومنها: تنحية الحذيش المضر، والقضبان المضرة بالشجر. ومنه: تصريف الجريد. - والجريد: سعف النخل -. وحاصل ما قالوه في تفسيره شيئان. أحدهما: قطع ما يضر تركه يابسا وغير يابس. والثاني: ردها عن وجوه العناقيد بينها لتصيبها الشمس، وليتيسر قطعها عند الادراك. ومنه: تعريش شجر العنب حيث جرت العادة به. قال المتولي: ووضع الحشيش فوق العناقيد صونا عن الشمس عند الحاجة. وفي حفظ الثمار، وجهان. أحدهما: على العامل كحفظ مال القراض. فإن لم يحفظ بنفسه، فعليه مؤنة من يحفظه. والثاني: على العامل والمالك جميعا بحسب اشتراكهما في الثمار، لان الذي يجب على العامل ما يتعلق بزيادة الثمر وتنميته، ويجري الوجهان في حفظ الثمر عن الطيور والزنانير، بأن يجعل كل عنقود في قوصرة، فيلزم ذلك على العامل على الاصح عند جريان العادة (به) وهذه القوصرة على المالك، ويلزم العامل جداد الثمرة على الصحيح، وبه قطع الاكثرون، لانه من الصلاح. وقيل:(4/235)
لا، لانه بعد الفراغ. ويلزمه تجفيف الثمار على الصحيح إذا طردت العادة، أو شرطاه. وإذا وجب التجفيف، وجب تهيئة موضعه وتسويته، ويسمى: البيدر والجرين، ونقل الثمار إليه، وتقليبها في الشمس. وأما ما لا يتكرر كل سنة ويقصد به حفظ الاصول، فهو من وظيفة المالك، وذلك كحفر الآبار والانهار الجديدة، والتي انهارت، وبناء الحيطان، ونصب الابواب والدولاب ونحوها. وفي ردم الثلم اليسيرة التي تتفق في الجدران، ووضع الشوك على رأس الجدار، وجهان كتنقية الانهار. والاصح: اتباع العرف. وأما الآلات التي يتوفر بها العمل، كالفأس، والمعول، والمسحاة، والثيران، والفدان في المزرعة، والثور الذي يدير الدولاب، فالصحيح: أنها على المالك. وقيل: هي على من شرطت عليه، ولا يجوز السكوت عنها، وبه قال أبو إسحاق، وأبو الفرج السرخسي. وخراج الارض الخراجية على المالك قطعا، وكذا كل عين تتلف في العمل، فعلى المالك قطعا. ثم كل ما وجب على العامل، فله استئجار المالك عليه، ويجئ فيه وجه. ولو شرط على المالك في العقد، بطل العقد، وكذا ما على المالك لو شرط على العامل، بطل العقد، ولو فعله العامل بلا إذن لم يستحق شيئا، وإن فعله بإذن المالك، استحق الاجرة. وجميع ما ذكرناه تفريع على الصحيح، في أن تفصيل الاعمال لا يجب في العقد. فإن أوجبناه، فالمتبع الشرط إلا أنه لا يجوز أن يكون الشرط مغيرا مقتضي العقد.
الحكم الثاني : المساقاة عقد لازم كالاجارة، ويملك العامل حصته من الثمرة(4/236)
بالظهور على المذهب. وقيل: قولان كالقراض. والفرق على المذهب: أن الربح في القراض وقاية لرأس المال، بخلاف الثمر. فرع إذا هرب العامل قبل تمام العمل، نظر، إن تبرع المالك بالعمل، أو بمؤنة من يعمل، بقي استحقاق العامل بحاله، وإلا، رفع الامر إلى الحاكم، وأثبت عنده المساقاة ليطلبه الحاكم، فإن وجده، أجبره على العمل، وإلا، استأجر عليه من يعمل. ومن أين يستأجر ؟ ينظر، إن كان للعامل مال، فمنه، وإلا، فإن كان بعد بدو الصلاح، باع نصيب العامل كله أو بعضه بحسب الحاجة للمالك أو غيره، واستأجر بثمنه. وإن كان قبل بدو الصلاح، إما قبل خروج الثمرة، استقرض عليه من المالك أو غيره، أو من بيت المال، واستأجر به، ثم يقضيه العامل إذا رجع، أو يقضى من نصيبه من الثمرة بعد بدو الصلاح، أو الادراك. ولو وجد يستأجره بأجرة مؤجلة، استغنى عن الاقتراض. وإن فعل المالك بنفسه، أو أنفق عليه يفعل، لم يرجع. وإن لم يمكنه الاشهاد، ففي رجوعه وجهان. أصحهما عند الجمهور: لا يرجع، لانه عذر نادر. وحكي وجه: أنه يرجع وإن تمكن من الاشهاد، وهو شاذ. وإن أشهد، رجع على الاصح، للضرورة. وقيل: لا، لئلا يصير حاكما لنفيه. ثم الاشهاد المعتبر، أن يشهد على العمل أو الاستئجار، وأنه بذل ذلك بشرط الرجوع. فأما الاشهاد على العمل أو الاستئجار من غير تعرض للرجوع، فهو كترك الاشهاد، قال في الشامل. وإذا أنفق المالك بإذن الحاكم ليرجع، فوجهان. وجه المنع: أنه منهم في حق نفسه. فطريقه: أن يسلم المال إلى الحاكم ليأمر غيره بالانفاق. ولو استأجره لباقي العمل، فوجهان(4/237)
بناء على ما لو أجر داره، ثم استأجرها من المستأجر. ومتى تعذر إتمام العمل بالاستقراض وغيره، فإن لم تكن الثمرة خرجت، فللمالك فسخ العقد على الصحيح، للتعذر والضرورة. وقال ابن أبي هريرة: لا يفسخ، لكن يطلب الحاكم من يساقي عن العامل، فربما فضل له شئ. وإن كانت الثمرة قد خركت، فهي مشتركة بينهما. فان بدا صلاحها، بيع نصيب العامل كله أو بعضه بقدر ما يستأجر به عامل. وإن لم يبد، تعذر بيع نصيبه وحده، لان شرط القطع في المشاع لا يكفي. فإما أن يبيع المالك نصيبه معه ليشرط القطع في الجميع، وإما أن يشتري المالك نصيبه، فيصح على الاصح في أن بيع الثمار قبل بدو الصلاح لصاحب الشجرة يكفي عن اشتراط القطع. فإن لم يرغب في بيع ولا شراء، وقف الامر حتى يصطلحا. وهذا كله تفريع على أنه لا يثبت الفسخ بعد خروج الثمرة، وهو الصحيح. وقال في المهذب: يفسخ، وتكون الثمرة بينهما، ولا يكاد يفرض للفسخ بعد خروج الثمرة فائدة. ويتفرع على ثبوت الفسخ قبل خروج الثمرة فرعان. أحدهما: إذا فسخ، غرم المالك للعامل أجرة مثل ما عمل، ولا يقال يتوزيع الثمار على أجرة مثل جميع العمل، إذ الثمار ليست موجودة عند العقد حتى يقتضي العقد التوزيع فيها. الثاني: جاء أجنبي وقال: لا تفسخ لاعمل نيابة عن العامل، لم يلزم الاجابة، لانه قد لا يأتمنه ولا يرضى بدخوله ملكه. لكن لو عمل نيابة بغير علم المالك، وحصلت الثمار، سلم للعامل نصيبه منها، وكان الاجنبي متبرعا (عليه)، هكذا قالوه. ولو قيل: وجود المتبرع كوجود مقرض حتى لا يجوز الفسخ، لكان قريبا. والعجز عن العمل بمرض ونحوه كالهرب.
فصل ولو مات مالك الشجر في أثناء المدة، لم تنفسخ المساقاة، بل(4/238)
يستمر العامل ويأخذ نصيبه. وإن مات العامل، فان كانت المساقاة على عينه، انفسخت بموته كالاجير (المعين). وإن كانت على الذمة، فوجهان. أحدهما تنفسخ لانه لا يرضي بيده غيره. والثاني وهو الصحيح وعليه التفريع: لا تنفسخ كالاجارة، بل ينظر إن خلف تركة، تمم وارثه العمل، بأن يستأجر من يعمل، وإلا، فان أتم العمل بنفسه، أو استأجر من ماله من يتم، فعلى المالك تمكينه إن كان أمينا مهتديا إلى أعمال المساقاة، ويسلم له المشروط. وإن أبى، لم يجبر عليه على الصحيح. وقيل: يجبر، لانه خليفته، وهو شاذ، لان منافعه لنفسه، وإنما يجبر على أداء ما على المورث من تركته. لكن لو خلف تركة، وامتنع الوارث من الاستئجار منها، استأجر الحاكم. وإن لم يخلف تركه، لم يستقرض على الميت، بخلاف الحي إذا هرب. ومهما لم يتم العمل، فالقول في ثبوت الفسخ وفي الشركة وفصل الامر إذا خرجت الثمار، كما ذكرناه في الهرب. وهذا الذي ذكرناه من أن المساقاة تكون على العين وفي الذمة، هو تفريع على جوازها على العين، وهو المذهب المقطوع به، وتردد فيها بعضهم، لما فيها من التضييق. فرع نقل المتولي: أنه إذا لم تثمر الاشجار أصلا، أو تلفت الثمار كلها بجائحة، أو غصب، فعلى العامل إتمام العمل وإن تضرر به. كما أن عامل القراض يكلف التنضيض وإن ظهر خسران ولم ينل إلا التعب. وهذا أصح مما ذكره البغوي: أنه إذا تلفت الثمار كلها بالجائحة، ينفسخ العقد، إلا أن يريد: بعد تمام العمل وتكامل الثمار. قال: وإن هلك بعضها، فللعامل الخيار، بين أن يفسخ العقد ولا شئ له، وبين أن يجيز ويتم العمل ويأخذ نصيبه.
فصل دعوى المالك على العامل السرقة والخيانة في الثمر أو السعف، لا تقبل حتى يبين قدر ما خان فيه ويحرر الدعوى. فإذا حررها، وأنكر العامل، فالقول قول العامل مع يمينه. فان ثبتت خيانته ببينة، أو باقراره، أو بيمين المالك بعد نكوله، فقيل: قولان. أحدهما: يستأجر عليه من يعمل عنه. والثاني: يضم إليه أمين يشر ف عليه. وقال الجمهور: هي على حالين: إن أمكن حفظه بضم مشرف، قنع به، وإلا، أزيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من يعمل. ثم إذا استؤجر عليه، فالاجرة في ماله. وأما أجرة المشرف، فعليه أيضا على المذهب، وبه قطع(4/239)
الجمهور. وقال المتولي: تبنى على مؤنة الحفظ، إن جعلناها على العامل، فكذا أجرة المشرف، وإن جعلناها عليهما، فكذا هنا. وقال في الوسيط: أجرة المشرف على العامل إن ثبتت خيانته بالبينة، أو بإقراره، وإلا، فعلى المالك. وهذا الذي ذكره مشكل، وينبغي إذا لم تثبت خيانته أن لا يتمكن المالك من ضم مشرف إليه، لما فيه من إبطال استقلاله باليد.
فصل إذا خرجت الاشجار المساقى عليها مستحقة، أخذها المالك مع الثمار إن كانت باقية. وإن جففاها ونقصت قيمتها بالتجفيف، استحق الارش أيضا، ويرجع العامل على الغاصب الذي ساقاه بأجرة المثل، كما لو استأجر الغاصب من عمل في المغصوب عملا، وقيل: لا أجرة، تخريجا على قولي الغرور، وكما لو تلفت بجانحة. والصحيح: الاول. وإن أتلفها، فللمالك الخيار في نصيب العامل، بين أن يطالب بضمانه العامل أو الغاصب. والقرار على العامل على الصحيح. وقيل: على الغاصب، كما لو أطعمه الطعام المغصوب على قول. وأما نصيب الغاصب، فللمالك مطالبته به. وفي مطالبته العامل به، وجهان. أصحهما عند الجمهور: يطالبه، لثبوت يده لم، كما يطالب عامل القراض والمودع إذا خرج مستحقا. والثاني: لا، لان يده تثبت عليه مقصودة. وعلى الوجهين يخرج ما إذا تلف جميع الثمار قبل القسمة بجائحة أو غصب، فان ثبتنا يد العامل عليها، فهو مطالب، وإلا، فلا. ولو تلف شئ من الاشجار، ففيه الوجهان. وإذا قلنا: يطالب العامل بنصيب الغاصب، ففي رجوعه على الغاصب الخلاف المذكور في رجوع المودع. والمذهب: القطع بالرجوع.
فصل إذا اختلفا في قدر المشروط للعامل، ولا بينة، تحالفا كما في القراض. وإذا تحالفا وتفاسخا قبل العمل، فلا شئ للعامل. وإن كان بعده، فله أجرة مثل عمله. وإن كان لاحدهما بينة، قضي بها. وإن كان لكل منهما بينة، فإن قلنا: يتساقطان وهو الاظهر، فهو كما لو لم يكن لهما بينة، فيتحالفان. وإن قلنا: تستعملان، فيقرع بينهما. ولا يجئ قولا الوقف والقسمة، لان الاختلاف في العقد، وهو لا يقسم ولا يوقف. وقيل: تجئ القسمة في القدر المختلف فيه، فيقسم بينهما نصفين. ولو ساقاه شريكان في الحديقة، فقال العامل: شرطتما لي(4/240)
نصف الثمر، وصدقه أحدهما، قال الآخر: بل شرطنا الثلث، فنصيب المصدق مقسوم بينه وبين العامل. وأما نصيب المكذب، فيتحالفان فيه. ولو شهد المصدق للعامل أو المكذب، قبلت شهادته، لعدم التهمة. ولو اختلفا في قدر الاشجار المعقود عليها، أو في رد شئ من المال أو هلاكه، فالحكم كما ذكرناه في القراض.
فصل إذا بدا صلاح الثمار، فإن وثق المالك بالعامل، تركها في يده إلى الادراك، فيقتسمان حينئذ إن جوزناها، أو يبيع أحدهما نصيبه للثاني، أو يبيعان لثالث. وإن لم يثق به وأراد تضيمنه التمر أو الزبيب، بني على أن الخرص عبرة أو تضمين ؟ فان قلنا: عبرة، لم يجز. وإن قلنا: تضمين، جاز على الاصح كما في الزكاة. ويجري الخلاف، فيما لو أراد العامل تضمين المالك بالخرص.
فصل إذا انقطع ماء البستان، وأمكن رده، ففي تكليف المالك السعي فيه وجهان. أحدهما: لا، كما لا يكلف الشريك العمارة ولا المكري. والثاني: يكلف، لانه لا يتمكن من العمل إلا به، فأشبه ما لو استأجره لقصاة ثوب بعينه يكلف تسليمه. فعلى هذا لو لم يسع في رده، لزمه للعامل أجرة عمله. ولو لم يمكن رد الماء، فهو كما لو تلفت الثمار بجائحة. قلت: أصحهما: لا يكلف. والله أعلم.
فصل السواقط، وهي السعف التي تسقط من النخل، يختص بها المالك، وما يتبع الثمن، فهو بينهما. قال الشيخ أبو حامد: ومنه الشماريخ.
فصل دفع بهمة إليه ليعمل عليها، وما رزق الله تعالى فهو بينهما، فالعقد فاسد. ولو قال: تعهد هذه الغنم بشرط أن درها ونسلها بيننا، فباطل أيضا، لان النماء لا يحصل بعمله. ولو قال: اعلف هذه من عندك ولك نصف درها، ففعل، وجب بدل النصف على صاحب الشاة، والقدر المشروط من الدر لصاحب العلف مضمون في يده، لحصوله بحكم بيع فاسد، والشاة غير مضمونة، لانها غير مقابلة بالعوض. ولو قال: خذ هذه واعلفها لتسمن ولك نصفها، ففعل، فالقدر المشروط منها لصاحب العلف مضمون عليه، دون الباقي.(4/241)
فصل قال المتولي: إذا كانت المساقاة في الذمة، فللعامل أن يعامل غيره لينوب عنه. ثم إن شرط له من الثمار مثل ما شرط المالك له أو دونه، فذاك، وإن شرط له أكثر، فعلى الخلاف في تفريق الصفقة. فان جوزناه، وجب للزيادة أجرة المثل، وإن منعناه، فالاجرة للجميع. وإن كانت المساقاة على عينه، لم يكن له أن يستنيب ويعامل غيره، فلو فعل، انفسخت المساقاة بتركه العمل، وكانت الثمار كلها للمالك، ولا شئ للعامل الاول. وأما الثاني، فان علم فساد العقد، فلا شئ له، وإلا، ففي استحقاقه أجرة المثل الخلاف في خروج الثمار مستحقة. فصل بيع الحديقة التي ساقى عليها في المدة، يشبه بيع العين المستأجرة، ولم أر له ذكرا، لكن في فتاوى البغوي: أن المالك إن باعها قبل خروج الثمرة، لم يصح، لان للعامل حقا في ثمارها، فكأنه استثنى بعض الثمرة. وإن كان بعد خروج الثمرة، صح البيع في الاشجار ونصيب المالك من الثمار، ولا حاجة إلى شرط القطع، لانها مبيعة مع الاصول، ويكون العامل مع المشتري كما كان مع البائع. وإن باع نصيبه من الثمرة وحدها، لم يصح، للحاجة إلى شرط القطع وتعذره في الشائع. قلت ؟: هذا الذي قاله البغوي، حسن، وهذه المسألة، لم يذكرها الرافعي هنا، بل في آخر كتاب الاجارة. والله أعلم.
باب المزارعة والمخابرة
قال بعض الاصحاب: هما بمعنى، والصحيح وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه: أنهما عقدان مختلفان. فالمخابرة: هي المعاملة على الارض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل. والمزارعه مثلها، إلا أن البذر من المالك. وقد يقال: المخابرة: اكتراء(4/242)
الارض ببعض ما يخرج منها. والمزارعة: اكتراء العامل لزرع الارض ببعض ما يخرج منها. والمعنى لا يختلف. قلت: هذا الذي صححه الامام الرافعي، هو الصواب. وأما قول صاحب البيان: قال أكثر أصحابنا: هما بمعنى، فلا يوافق عليه، فنبهت عليه لئلا يغتر به. والله أعلم والمخابرة والمزارعة باطلتان، وقال ابن سريج: تجوز المزارعة. قلت: قد قال بجواز المزارعة والمخابرة من كبار أصحابنا أيضا، ابن خزيمة، وابن المنذر، والخطابي وصنف فيها ابن خزيمة جزءا، وبين فيه علل الاحاديث الواردة بالنهي عنها، وجمع بين أحاديث الباب، ثم تابعه الخطابي وقال: ضعف أحمد ابن حنبل حديث النهي، وقال: هو مضطرب كثير الالوان. قال الخطابي: وأبطلها مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، رضي الله عنهم، لانهم لم يقفوا على علته، قال: فالمزارعة جائزة، وهي عمل المسلمين في جميع الامصار، لا يبطل العمل بها أحد. هذا كلام الخطابي. والمختار جواز المزارعة والمخابرة، وتأويل الاحاديث على ما إذا شرط(4/243)
أحدهما زرع قطعة معينة، والآخر أخرى، والمعروف في المذهب، إبطا لهما، وعليه تفريع مسائل الباب. والله أعلم فمتى أفردت الارض لمخابرة أو مزارعة، بطل العقد. فان كان البذر للمالك، فالغلة له، وللعامل أجرة مثل عمله، وأجرة البقر والآلات إن كانت له. وإن كان البذر للعامل، فالغلة له، ولمالك الارض عليه أجرة مثلها. وإن كان لهما، فالغلة لهما، ولكل واحد على الآخر أجرة مثل ما انصرف من منافعه إلى حصة صاحبه. وإذا أرادا أن يكون الزرع بينهما على وجه مشروع، بحيث لا يرجع أحدهما على الآخر بشئ، نظر، إن كان البذر بينهما، والارض لاحدهما، والعمل والآلات للآخر، فلهما ثلاث طرق. أحدها: قاله الشافعي رضي الله عنه: يعير صاحب الارض للعامل نصفها، ويتبرع العامل بمنفعة بدنوآلاته لانه مما يختص صاحب الارض. الثاني: قاله المزني: يكري صاحب الارض للعامل نصفها بدينار مثلا، ويكتري العامل ليعمل على نصيبه بنفسه وآلاته بدينار، ويتقاصان. الثالث: قاله الاصحاب: يكريه نصف أرضه بنصف منافع العامل وآلاته، وهذا أحوطها. وإن كان البذر لاحدهما، فان كان لصاحب الارض، أقرض نصفه للعامل وأكراه نصف الارض بنصف عمله ونصف منافع آلاته، ولا شئ لاحدهما على الآخر إلا رد العوض. وإن شاء استأجر العامل بنصف البذر، ليزرع له النصف الآخر وأعاره نصف الارض، وإن شاء استأجره بنصف البذر ونصف منفعة تلك الارض ليزرع باقي البذر في باقي الارض. وإن كان الندر للعامل، فان شاء أقرض نصفه لصاحب الارض واكترى منه نصفها بنصف عمله وعمل الآته، وإن شاء اكترى نصف الارض بنصف البذر وتبرع بعمله ومنافع آلاته، وإن شاء اكترى منه نصف الارض(4/244)
بنصف البذر ونصف عمله ومنافع آلاته. ولا بد في هذه الاجارات من رعاية الشرائط، كرؤية الارض والآلات، وتقدير المدة وغيرها. هذا كله إذا أفرد ت الارض بالعقد. أما إذا كان النخيل بياض، فتجوز المزارعة عليه مع المساقاة على النخيل، ويشترط فيه اتحاد العامل، فلا يجوز أن يساقي واحدا، ويزارع آخر، ويشترط أيضا تعذر إفراد النخيل بالسقي، والارض بالعمارة، لانتفاع النخل بسقي الارض وتقليبها، فان أمكن الافراد، لم تجز المزارعة. واختلفوا في اعتبار أمور. أحدها: اتحاد الصفقة، فلفظ المعاملة، يشمل المزارعة والمساقاة. فلو قال: عاملتك على هذا النخيل والبياض بالنصف، كفى. وأما لفظ المساقاة والمزارعة، فلا يغني أحدهما عن الآخر، بليساقي على النخيل، ويزارع على البياض، وحينئذ إن قدم المساقاة، نظر، إن أتى بهما على الاتصال، فقد اتحدت الصفقة ووجد الشرط، وإن فصل بينهما، فقيل: تصح المزارعة، لحصولهما لشخص. والاصح: المنع، لانها تبع، فلا تفرد كالاجنبي. وإن قدم المزارعة، فسدت على الصحيح، لانها تابعة. وقيل: تنعقد موقوفة. فان ساقاه بعدها، بانت صحتها، وإلا، فلا. الثاني: لو شرط للعامل نصف الثمر، وربع الزرع، جاز على الاصح. وقيل: يشترط التساوي، لان التفضيل يزيل التبعية. الثالث: لو كثر البياض المتخلل مع عسر الافراد، فقيل: يبطل، لان الاكثر متبوع لا تابع. والاصح: الجواز، للحاجة. ثم النظر في الكثرة إلى زيادة النماء، أم إلى مساحة البياض ومغارس الشجر ؟ وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم الرابع: لو شرطا كون البذر من العامل فهي مخابرة، فقيل: تجوز تبعا للمساقاة كالمزارعة. والاصح: المنع، لان الحديث ورد في المزارعة تبعا في قصة خيبر، دون المخابرة، ولان المزارعة أشبه بالمساقاة، لانه لا يتوظف على العامل(4/245)
فيهما إلا العمل. فلو شرط أن يكون البذر من المالك والبقر من العامل، أو عكسه، قال أبو عاصم العبادي: فيه وجهان. أصحهما: الجواز إذا شرط البذر على المالك، لانه الاصل، فكأنه اكترى العامل وبقره، قال: فان جوزنا فيما إذا شرط البقر على المالك والبذر على العامل، نظر، فان شرط التبن والحب بينهما، جاز، وكذا لو شرط الحب بينهما والتبن لاحدهما لاشتراكهما في المقصود. فان شرط التبن لصاحب الثور وهو مالك الارض، وشرط الحب للآخر، لم يجز، لان المالك هو الاصل، فلا يمنع المقصود. وإن شرطا التبن لصاحب البذر وهو العامل، فوجهان. وقيل: لا يجوز شرط الحب لاحدهما والتبن للآخر أصلا. واعلم أنهم أطلقوا القول في المخابرة بوجوب أجرة مثل الارض، لكن في فتاوى القفال والتهذيب وغيرهما: أنه لو دفع أرضا إلى رجل ليغر س أو يبني أو يزرع فيها من عنده على أن يكون بينهما مناصفة، فالحاصل للعامل وفيما يلزمه من أجيرة الارض، وجهان. أحدهما: نصفها، لانه غرس نصف الغرس لصاحب الارض بإذنه، فقد رضي ببطلان منفعة النصف. وأصحهما: جميعها، لانه إنما رضي ليحصل له نصف الغراس، فإذا إطلاقهم في المخابرة تفريع على الاصح. ثم العامل يكلف نقل البناء والغراس إن لم تنقص قيمتهما. وإن نقصت، لم يقلع مجانا، للاذن، بل يتخير مالك الارض فيهما تخير المعير، والزرع يبقى إلى الحصاد. ولو زرع العامل البياض بين النخيل من غير إذن، قلع زرعه مجانا. وإذا لم نجوز المساقاة على ما سوى النخيل والعنب من الشجر المثمر منفردا، ففي جوازها تبعا للمساقاة كالمزارعة وجهان. قلت: أصحهما: الجواز. والله أعلم(4/246)
كتاب الاجارة
فيه ثلاثة أبواب.
الأول : في أركانها، وهي أربعة. (الركن) الاول: العاقدان ويعتبر فيهما العقل والبلوغ كسائر التصرفات. الركن الثاني: الصيغة، وهي أن يقول: أكريتك هذه الدار، أو(4/247)
آجرتكها مدة كذا بكذا، فيقول: على الاتصال: (قبلت، أو) استأجرت، أو اكتريت. ولو أضاف إلى المنفعة فقال: أجرتك أو أكريتك منافع هذه الدار، فوجهان. أصحهما: الجواز، وبه قطع في الشامل وذكر المنفعة تأكيد كقوله: بعتك عين هذه الدار أو رقبتها، فانه يصح البيع، والثاني: المنع، وبه قطع الامام، لان لفظ الاجارة وضع مضافا إلى العين. وإن كان العقد في الذمة، فقال: ألزمت ذمتك كذا، فقيل: جاز، وأغنى عن لفظ الاجارة والاكراء. وإن تعاقد بصيغة التمليك، نظر، إن أضاف إلى المنفعة فقال: ملكتك منفعتها شهرا، جاز على الصحيح (المعروف)، فان الاجارة تمليك منفعة بعوض. ولو قال: بعتك منفعة هذه الدار شهرا، فوجهان. قال ابن سريج: يجوز، لان الاجارة صنف من البيع. والاصح: المنع، لان البيع موضوع لملك الاعيان، فلا يستعمل في المنافع، كما لا ينعقد البيع بلفظ الاجارة. وقيل وبالمنع قطعا. الركن الثالث: الاجرة. فالاجارة قسمان. واردة على العين كمن استأجر دابة بعينها ليركبها أو يحمل عليها، أو شخصا بعينه لخياطة ثوب. أو بناء الحاط وواردة على الذمة، كمن أستأجر دابة موصوفة للركوب أو الحمل، أو قال: ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب، أو بناء الحائط، فقبل. وفي قوله: استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا، وجهان. أصحهما: أن الحاصل به إجارة عين، للاضافة إلى المخاطب، كما لو قال: استأجرت هذه الدابة. والثاني: إجارة ذمة، وعلى هذا إنما تكون إجارة عين إذا زاد فقال: استأجرت عينك أو نفسك لكذا، أو لتعمل بنفسك كذا. وإجارة العقار لا تكون إلا إجارة عين، لانه لا يثبت في الذمة، ولهذا لا يجوز السلم في أرض ولا دار. فرع إذا وردت الاجارة على العين، لم يجب تسليم الاجرة في(4/248)
المجلس، كما لا يشترط تسليم الثمن في البيع. ثم إن كانت في الذمة، فهي كالثمن في الذمة في جواز الاستبدال، وفي أنه إذا شرط فيها التأجيل أو التنجيم، كانت مؤجلة أو منجمة. وإن شرط التعجيل، كانت معجلة، وإن أطلق، فمعجلة، وملكها المكري بنفس العقد، استحق استيفاءها إذا سلم العين إلى المستأجر. واستدل الاصحاب بأن المنافع موجودة أو ملحقة بالموجود، ولهذا صح العقد عليها، وجاز أن تكون الاجرة دينا، وإلا، لكان بيع دين بدين. فرع يشترط العلم بقدر الاجرة ووصفها إذا كانت في الذمة كالثمن في الذمة، فلو قال: اعمل كذا لارضيك أو أعطيك شيئا، وما أشبهه، فسد العقد، وإذا عمل، استحق أجرة المثل. ولو استأجره بنفقته أو كسوته، فسد. ولو استأجره بقدر من الحنطة أو الشعير، وضبطه ضبط السلم، جاز. ولو استأجره بأرطال خبز، بني على جواز السلم في الخبز. ولو آجر الدار بعمارتها، أو الدابة بعلفها، أو الارض بخراجها ومؤنتها أو بدراهم معلومة على أن يعمرها، ولا يحسب ما أنفق من الاجرة، لم يصح.(4/249)
ولو أجرها بدراهم معلومة على أن يصرفها إلى العمارة، لم يصح، لان الاجرة، الدراهم مع الصرف إلى العمارة، وذلك عمل مجهول. ثم إذا صرفها في العمارة، رجع بها. ولو أطلق العقد، ثم أذن له في الصرف إلى العمارة، وتبرع به المستأجر، جاز. فإن اختلفا في قدر ما أنفق، فقولان في أن القول قول من ؟ ولو أعطاه ثوبا وقال: إن خطته اليوم فلك درهم، أو غدا فنصف، فسد العقد ووجبت أجرة المثل متى خاطه. ولو قال: إن خطته روميا فلك درهم، أو فارسيا فنصف، فسد، والرومي بغرزتين، والفارسي بغرزة. فرع إذا أجلا الاجرة فحلت وقد تغير النقد، اعتبر نقد يوم العقد. وفي الجعالة الاعتبار بيوم اللفظ على الاصح، وقيل: بوقت تمام العمل، لان الاستحقاق يثبت بتمام العمل. فرع هذا الذي سبق، إذا كانت الاجرة في الذمة. فلو كانت معينة، ملكت في الحال كالمبيع، واعتبرت فيها الشرائط المعتبرة في المبيع، حتى لو جعل الاجرة جلد شاة مذبوحة قبل السلخ، لم يجز، لانه لا يعرف صفته في الرقة والثخانة وغيرهما. وهل تغني رؤية الاجرة، عن معرفة قدرها ؟ فيه طريقان. أحدهما: على قولي رأس مال السلم. والثاني: القطع بالجواز، وهو المذهب.
فصل أما الاجارة الواردة على الذمة، فلا يجوز فيها تأجيل الاجرة، ولا الاستبدال عنها، ولا الحوالة بها ولا عليها، ولا الابراء، بل يجب التسليم في المجلس كرأس مال السلم، لانه سلم في المنافع، فإن كانت الاججرة مشاهدة غير(4/250)
معلومة القدر، فعلى القولين في رأس مال السلم. هذا إذا تعاقدا بلفظ السلم، بأن قال: أسلمت إليك هذا الدينار في دابة تحملني إلى موضع كذا، فإن عقدا بلفظ الاجارة، بأن قال: استأجرت منك دابة صفتها كذالتحملني إلى موضع كذا، فوجهان بنوهما على أن الاعتبار باللفظ، أم بالمعنى ؟ أصحهما عند العراقيين، وأبي علي، والبغوي: أنه كما لو عقدا بلفظ السلم، ورجح بعضهم الآخر. فرع يجوز أن تكون الاجرة منفعة، سواء اتفق الجنس، كما إذا أجر دارا بمنفعة دار، أو اختلف، بأن أجرها بمنفعة عبد. ولا ربا في المنافع أصلا، حتى لو أجر دارا بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب، جاز، ولا يشترط القبض في المجلس.
فصل لا يجوز أن يجعل الأجرة شيئا يحصل بعمل الاجنبي، كما لو استأجر السلاخ ينسج الشاة بجلدها، أو الطحان ليطحن الحنطة بثلث دقيقها، أو بصاع منه، أو بالنخالة، أو المرضعة بجزء من الرقيق المرتضع بعد الفطام، أو قاطف الثمار بجزء منها بعد القطاف، أو لينسخ الثوب بنصفه، فكل هذا فاسد، وللاجير أجرة مثله. ولو استأجر المرضع بجزء من الرقيق في الحال، أو قاطف الثمار بجزء منها على رؤوس الشجر، أو كان الرقيق لرجل وامرأة، فاستأجرها لترضعه بجزء منه، أو بغيره، جاز على الصحيح، كما لو ساقى شريكه وشرط له زيادة من الثمر، يجوز وإن كان يقع عمله في مشترك. وقيل: لا يجوز، ونقله الامام(4/251)
والغزالي عن الاصحاب، لان عمل الاجير ينبغي أن يقع في خاص ملك المستأجر، وهو ضعيف. قال البغوي: لو استأجر شريكه في الحنطة ليطحنها أو الدابة ليتعهدها بدراهم، جاز. ولو قال: استأجرتك بربع هذه الحنطة أو بصاع منها لتطحن الباقي، قال المتولي والبغوي: يجوز، ثم يتقاسمان قبل الطحن، فيأخذ الاجرة، ويطحن الباقي. قال المتولي: وإن شاء طحن الكل والدقيق مشترك بينهما. ومثال هذه المسائل، ما إذا استأجره لحمل الشاة المذكاة إلى موضع كذا بجلدها، ففاسد أيضا. أما لو استأجره لحمل الميتة بجلدها، فباطل، لانه نجس. الركن الرابع: المنفعة، ولها خمسة شروط. أحدها: أن تكون متقومة وفيه مسائل. أحدها: استئجار تفاحة للشم باطل، لانها لا تقصد له، فلم يصح كشراء حبة حنطة. فإن كثر التفاح، فالوجه: الصحة، لانهم نصوا على جواز استئجار المسك والرياحين للشم، ومن التفاح ما هو أطيب من كثير من الرياحين. الثانية: استئجار الدراهم والدنانير، إن أطلقه، فباطل، وإن صرح بالاستئجار للتزيين، فباطل أيضا على الاصح. واستئجار الاطعمة لتزيين الحوانيت، باطل على المذهب. وقيل: فيه الوجهان. وفي استئجار الاشجار لتجفيف الثياب عليها، والوقوف في ظلها، وربط الدواب فيها، الوجهان. قال بعضهم: الاصح هنا: الصحة، لانها منافع مهمة، بخلاف التزيين. واستئجار الببغاء للاستئناس، قال البغوي: فيه الوجهان، وقطع المتولي بالجواز، وكذا في كل ما يستأنس بلونه، كالطاووس، أو صوته، كالعندليب. الثالثة: استئجار البياع على كلمة البيع، أو كلمة يروج بها السلعة ولا تعب فيها، باطل، إذ لا قيمة لها. قال الامام محمد بن يحيى: هذا في مبيع مستقر القيمة في البلد، كالخبز واللحم. أما الثياب والعبيد، وما يختلف قدر الثمن فيه(4/252)
باختلاف المتعاقدين، فيختص بيعها من البياع، لمزيد منفعة وفائدة، فيجوز الاستئجار عليه. ثم إذا لم يجز الاستئجار، ولم يتعب البياع، فلا شئ له. وإن تعب بكثرة التردد، أو كثرة الكلام في أمر المعاملة، فله أجرة المثل، لا ما تواطأ عليه البياعون. الرابعة: استئجار الكلب المعلم للصيد والحراسة، باطل على الاصح، وقيل: يجوز كالفهد والبازي والشبكة للاصطياد والهرة لدفع الفأر. الشرط الثاني: أن لا يتضمن استيفاء عين قصدا، ومقصوده أن الاجارة عقد تراد به المنافع دون الاعيان، هذا هو الاصل، إلا أنه قد تستحق بها الاعيان تابعه لضرورة أو حاجة ماسة، فتلحق تلك الاعيان حينئذ بالمنافع، وفيه مسائل. إحداها: استئجار البستان لثماره، والشاة لنتاجها أو صوفها أو لبنها، باطل. الثانية: الاستئجار لارضاع الطفل جائز، ويستحق به ومنفعة عين. فالمنفعة: أن تضع الصبي في حجرها وتلقمه الثدي وتعصره بقدر الحاجة. والعين: اللبن الذي يمصه الصبي. وإنما جوز لمسيس الحاجة أو الضرورة. وفي الاصل الذي تناوله العقد، وجهان. أحدهما: اللبن. وأما فعلها، فتابع، لان اللبن مقصود لعينه، وفعلها طريق إليه. وأصحهما: أنه فعلها، واللبن مستحق تبعا، لقول الله تعالى: * (فإن أرضعن لكم، فآتوهن أجورهن) *، علق الاجرة بفعل الارضاع، لا باللبن، ولان الاجارة موضوعة للمنافع وإنما الاعيان تتبع للضرورة، كالبئر تستأجر ليسقتى ماؤها، والدار تستأجر وفيها بئر، يجوز الاستقاء منها. ثم إن استأجرها للحضانة مع الارضاع، جاز، وإن استأجر للارضاع، ونفى الحضانة، فوجهان. أحدهما: المنع، كاستئجار الشاة لارضاع سخلة.(4/253)
وأصحهما: الجواز، وبه قطع الاكثرون، كما يجوز الاستئجار لمجرد الحضانة. قال الامام: وهذا الخلاف إذا قصر الاجارة على صرف اللبن إلى الصبي، وقطع عنه وضعه في حجرها ونحوه، فأما الحضانة بالتفسير الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، فيجوز قطعها عن الارضاع بلا خلاف. الثالثة: استئجار الفحل للضراب، حكمه ما ذكرناه في كتاب البيع في باب المناهي. الرابعة: استئجار القناة للزراعة بمائها، جائز، لانا إن قلنا: الماء لا يملك، فكالشبكة للاصطياد - وإلا، فالمنافع آبار الماء وقد جوز واستئجار بئر الماء للاستقاء والتي بعدها مستأجرة لاجراء الماء فيها. وقال الروياني: إذا اكترى قرار القناة ليكون أحق بمائها، جاز في وجه، وهو الاختيار. والمعروف: منعه. ومقتضى لفظه أن يكون تعريفا على أن الماء لا يملك. الشرط الثالث: أن تكون المنفعة مقدورا على تسليمها، فاستئجار الآبق، والمغصوب، والاخرس للتعليم، والاعمى لحفظ المتاع، إجارة عين، ومن لا يحسن القرآن لتعليمه، باطل. فإن وسع عليه وقتا يقدر على التعلم قبل التعليم، فباطل أيضا على الاصح، لان المنفعة مستحقة من عينه، والعين لا تقبل(4/254)
التأخير. وإذا استأجر أرضا للزراعة، اشترط كون الزراعة متيسرة. والارض أنواع. منها: أرض لها ماء دائم من نهر أو عين أو بئر ونحوها. ومنها: أرض لا ماء لها، لكن يكفيها المطر المعتاد، والنداوة التي تصيبها من الثلوج المعتادة، أو لا يكفيها ذلك، لكنها تسقى بماء الثلج والمطر في الجبل، والغالب فيها الحصول. ومنها: أرض لا ماء لها، ولا تكفيها الامطار المعتادة، ولا تسقى بماء غالب الحصول من الجبل، ولكن إن أصابها مطر عظيم أو سيل، نادراا، أمكن زرعها، فالنوع الاول يصح استئجاره قطعا. والثالث لا يصح قطعا. وفي الثاني وجهان. أصحهما: الجواز، وبه قطع القاضي حسين وابن كج وصاحب المهذب، بالمنع أجاب القفال. ومنها: أرض على شط النيل والفرات وغيرهما، يعلو الماء عليها ثم ينحسر، ويكفي ذلك لزراعتها في السنة، فإن استأجرها للزراعة بعدما علاها الماء وانحسر، صح، وإن كان قبل أن يعلوها الماء، فإن كان لا يوثق به، كالنيل لا ينضبط أمره، لم يصح. وإن كان الغالب حصوله، فليكن على الخلاف في النوع الثاني. وإن كان موثوقا (به) كالمد بالبصرة، صح كماء النهر. فإن تردد في وصول الماء إلى تلك الارض، لم يصح، لانه كالنوع الثالث. وإن كان علاها ولم ينحسر، فإن كان لا(4/255)
يرجى انحساره، أو يشك فيه، لم يصح استئجارها، لان العجز موجود، والقدرة مشكوك فيها. وإن رجي انحساره وقت الزراعة بالعادة، صحت الاجارة على المذهب والمنصوص، سواء كانت الاجارة لما يمكن زراعته في الماء كالارز، أم لغيره، وسواء كان رأى الارض مكشوفة أم هي مرئية الآن لصفاء الماء، أم لم يكن شئ من ذلك. وقيل: إن لم تر، لم يصح في قول. وقيل: لا يصح لغير الارز ونحوه. وحجة مذهب القياس على ما لو استأجر دارا مشحونة بأمتعة يمكن الاشتغال بنقلها في الحال، فإنه يجوز على الصحيح، أما إذا لم تكن مؤنة، فلان استتارها بالماء من مصالحها، فإنه يقويها ويقطع ئلعروق المنتشرة، فأشبه استتار الجوز بقشره. أما إذا كانت الارض على شط نهر، والظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء، فلا يجوز استئجارها. فإن احتمل ولم يظهر، جاز، لان الاصل والغالب السلامة. ويجوز أن تخرج حالة الظهور على تقابل الاصل والظاهر. إذا عرفت حكم الانواع، فكل أرض لها ماء معلوم، واستأجرها للزراعة مع شربها منه، فذاك، وإن استأجرها للزراعة دون شربها، جاز إن تيسر سقيها من ماء آخر، وإن أطل، دخل فيه الشرب، بخلاف ما إذا باعها، لا يدخل الشرب، لان المنفعة هنا لا تحصل دون الشرب. هذا إذا طردت العادة بالاجارة مع الشرب، فإن اضطربت، فسيأتي حكمه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. وكل أرض منعنا استئجارها للزراعة، فلو اكتراها لينزل فيها، أو يسكنها، أو يجمع الحطب فيها، أو يربط الدواب، جاز. وإن اكتراها مطلقا، نظر، إن قال: أكريتك هذه الارض البيضاء ولا ماء لها، جاز، لانه يعرف بنفي الماء أن الاجارة لغير الزراعة. ثم لو حمل ماء من موضع وزرعها، أو زرعها على توقع حصول ماء، لم يمنع، وليس له البناء والغراس فيها، نص عليه. وإن لم يقل: لا ماء لها، فإن كانت بحيث يطمع في سوق الماء إليها، لم يصح العقد، لان الغالب في مثلها الاستئجار للزراعة، فكأنه ذكرها، وإن كانت على قلة جبل لا يطمع في سوق الماء إليها، صحح العقد على الاصح اكتفاء بالقرينة، وإذا اعتبرنا نفي الماء، ففي قيام علم المتعاقدين مقام التصريح بالنفي، وجهان. أصحهما: المنع، لان العادة في مثلها الاستئجار للزراعة، فلا بد من الصرف باللفظ. واعلم أن في المسألة تصريحا بجواز الاستئجار مطلقا من غير بيان جنس(4/256)
المنفعة، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
فصل قد عرفت انقسام الاجارة إلى واردة على العين، وعلى الذمة. أما إجارة العين، فلا يصح إيرادها على المستقبل، كاجارة الدار السنة المستقبلة، والشهر الآتي. وكذا إذا قال: أجرتك سنة أولها من غد، أو اجرتك هذه الدابة للركوب إلى موضع كذا على أن تخرج غدا. ولو قال: أجرتك سنة، فإذا انقضت، فقد أجرتك سنة أخرى، فالعقد الثاني باطل على الصحيح، كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد أجرتك شهرا. أما الواردة على الذمة، فيحتمل فيها التأجيل والتأخير، كما إذا قال: ألزمت ذمتك حملي إلى موضع كذا في دابة صفتها كذا غدا أو غرة شهر كذا، كما لو أسلم مؤجلا، وإن أطلق، كانت حالة. ولو أجر داره لزيد سنة، ثم أجرها لغيره السنة المستقبلة قبل انقضاء الاولى، لم يصح. وإن أجرها لزيد نفسه، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: الجواز، لاتصال المدتين. ولو أجرها أولا لزيد سنة، ثم أجرها زيد لعمرو، ثم أجرها المالك لعمرو السنة المستقبلة قبل انقضاء الاولى، ففيه الوجهان، ولا يجوز إجارتها لزيد، كذا قاله البغوي. وفي فتاوى القفال: أنه يجوز أن يؤجرها لزيد، ولا يجوز أن يؤجرها لعمرو، لان زيدا هو الذي عاقده، فيضم إلى ما استحق بالعقد الاول السنة المستقبلة. قال: ولو أجر داره سنة، ثم باعها في المدة، وجوزناه، لم يكن للمشتري أن يؤجرها السنة المستقبلة للمستأجر، لانه لم يكن بينهما معاقدة، وتردد في أن الوارث، هل يتمكن منه إذا مات المكري لان الوارث نائبه ؟ فرع إيجار الدار والحانوت شهرا على أن ينتفع بهما الايام دون الليالي، باطل، لان زمان الانتفاع لا يتصل بعضه ببعض، فيكون إجارة زمن مستقبل، بخلاف مثله في العبد والبهيمة، فإنه يجوز، لانهما لا يطيقان العمل دائما،(4/257)
ويرفهان في الليل على العادة عند إطلاق الاجارة. ولو أجر دابة إلى موضع ليركبها المكري زمانا، ثم المكتري زمانا، لم يصح، لتأخر حق المكتري وتعلق الاجارة بمستقبل. وإن أجره ليركب المكتري بعض الطريق وينزل فيمشي بعضها، أو أجر اثنين ليركب هذا زمانا، وهذا مثله، ففيه أربعة أوجه. أصحها وهو المنصوص في الام: صحت الاجارة في الصورتين، سواء وردت الاجارة على الذمة، أو العين، ويثبت الاستحقاق في الحال، ثم يقتسم المكري والمكتري أو (المكتريان)، ويكون التأخر الواقع من ضرورة القسمة والتسليم، فلا يضر. والثاني: تصح في الصورة الثانية دون الاولى، لاتصال زمن الاجارة في الثانية دون الاولى. والثالث: تبطل فيهما، لانها إجارة أزمان متقطعة. والرابع: تصح في الصورتين إن كانت مضمونة في الذمة، ولا تصح على دابة معينة، وهذه المسألة تعرف بكراء العقب وهو جمع عقبة وهي النوبة. فإذا قلنا بالجواز، فإن كان في ذلك الطريق عادة مضبوطة، إما بالزمان، بأن يركب يوما وينزل يوما، وإما بالمسافة، بأن يركب فرسخا ويمشي فرسخا، حمل العقد عليها، وليس لاحدهما أن يطلب الركوب (ثلاثا) والنزول ثلاثا، (لما) في دوام المشي من التعب. وإن لم تكن عادة مضبوطة، فلا بد من البيان في الابتداء. وإن اختلفا فيمن يبدأ بالركوب، أقرع. ولو أكرى دابة لاثنين، ولم يتعرض للتعاقب، قال المتولي: إن احتملت الدابة ركوب شخصين، اجتمعا على الركوب، وإلا،(4/258)
فالرجوع إلى المهايأة كما سبق. ولو قال: أجرتك نصف الدابة إلى موضع كذا، أو أجرتك الدابة لتركبها نصف الطريق، صح، ويقتسمان بالزمان أو المسافة، وهذه إجارة المشاع، وهي صحيحة كبيع المشاع. وحكي وجه: أن إجارة نصف الدابة لا تصح، للتقطع، بخلاف إجارة نصف الدار، وبخلاف ما إذا أجرهما ليركبا في محمل. فرع لا تصح إجارة ما لا منفعة فيه في الحال، ويصير منتفعا به في المدة، كالجحش، لان الاجارة موضوعة على تعجيل الانتفاع، بخلاف المساقاة.
فصل العجز الشرعي كالحسي، فلا يصح الاستئجار لقلع سن صحيحة، أو (قطع) يد صحيحة، ولا استئجار الحائض لكنس المسجد وخدمته، ولا استئجار أحد لتعليم التوراة والانجيل، أو السحر، أو الفحش، أو ختان صغير لا يحتمل ألمه. فرع قلع السن الوجعة، إنما يجوز إذا صعب الالم وقال أهل الخبرة: إنه يزيل الالم. وقطع اليد المتأكلة، إنما يجوز إذا قال أهل الخبرة: إنه نافع، ومع ذلك، ففيه خلاف وتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى في باب ضمان الولاة من كتاب(4/259)
الجنايات فحيث لا يجوز القلع أو القطع، فالاستئجار له باطل، وحيث يجوز، يصح الاستئجار على الاصح. ووجه المنع: أنه لا يوثق ببقاء العلب، فربما زالت بتعذر الوفاء. وسبيل مثل هذا، أن يحصل بالجعالة، فيقول: اقلع سني هذه ولك كذا. ورأى الامام تخصيص الوجهين بالقلع، لان زوال الوجع في ذلك الزمن غير بعيد، بخلاف الاكلة، فإنه غير محتمل في زمن القطع. ويجري الوجهان، في الاستئجار للفصد والحجامة وبزغ الدابة، لان هذه الايلامات إنما تباح بالحاجة، وقد تزول الحاجة. فرع استأجرها لكنس المسجد، فحاضت، انفسخ العقد إن أستأجر ها عينها وعينت المدة. وإن استأجر (ها) في الذمة، لم ينفسخ، لامكان الكنس بغيرها أو بعد الحيض. وإذا جوزنا الاستئجار لقلع السن، فسكن الوجع وبرأ، انفسخت الاجارة، للتعذر على المذهب، وفيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى في القسم الثالث من الباب الثالث. وإن لم يبرأ، لكن امتنع المستأجر من القلع، قال في الشامل: لا يجبر عليه، إلا أنه إذا سلم الاجير نفسه، ومضى مدة إمكان العمل، وجب على المستأجر الاجرة. ثم ذكر القاضي أبو الطيب: أنها لا تستقر، حتى لو انقلعت تلك السن، انفسخت الاجارة، ووجب رد الاجرة، كما لو مكنت الزوجة في النكاح، ولم يطأ الزوج. ويفارق ما إذا حبس الدابة مدة إمكان السير، حيث تستقر عليه الاجرة، لتلف المنافع تحت يده. قلت: هذا الذي نقله عن صاحب الشامل إلى آخر كلام القاضي أبي الطيب، هكذا هو في الشامل والبيان. فإن قيل: قد قال الشيخ نصر المقدسي في تهذيبه: إذا امتنع المستأجر من قلعه، لم يكن له فسخ العقد، لكن يدفع الاجرة، وله الخيار بين مطالبته بقلعه، وبين تركه، كما لو استأجره ليخيط له ثوبا. قلنا: هذا الذي قاله، لا يخالف قول(4/260)
صاحب الشامل. والله أعلم.
فصل يجوز لغير الزوج استئجار الزوجة للارضاع وغيره باذن الزوج، ولا يجوز بغير إذنه على الاصح، لان أوقاتها مستغرقة بحقه، والثاني: يصح، وللزوج فسخه، حفظا لحقه. ولو أجرت نفسها ولا زوج لها، ثم نكحت في المدة، فالاجارة بحالها، وليس للزوج منعها من توفية ما التزمته، كما لو أجرت نفسها باذنه، لكن يستمتع بها في أوقات فراغها، فإن كانت الاجارة للارضاع، فهل لولي الطفل الذي استأجرها لارضاعه منع الزوج من وطئها ؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم، لانه ربما حبلت فينقطع اللبن أو يقل، وإلا، فيضر بالطفل. والثاني: لا، وبه قطع العراقيون، لان الحبل متوهم، فلا يمنع به الوطئ المستحق. فإن منعناه، فلا نفقة عليه في تلك المدة. قلت: الاصح قول العراقيين. والله أعلم ولو أجر أمته المزوجة، جاز، ولم يكن للزوج منعها من المستأجر، لان يده يد السيد في الانتفاع. أما الزوج، فيجوز استئجاره امرأته، إلا إذا استأجرها لارضاع ولده منها، ففيه وجهان: أحدهما. المنع، وبه قطع العراقيون. وأصحهما: الجواز، كما لو استأجرها بعد البينونة، وكما لو استأجرها للطبخ ونحوه. وعلى هذا الخلاف، استئجار الوالد ولده للخدمة. وفي عكسه وجهان إن كانت الاجارة على عينه،(4/261)
كالوجهين فيما إذا أجر المسلم نفسه لكافر. الشرط الرابع: حصول المنفعة للمستأجر، وأكثر العناية في هذا الشرط بالقرب، وضبطها الامام فقال: هي قسان. أحدهما: قرب يتوقف الاعتداد بها على النية. فما لا تدخله النيابة منها، لا يجوز الاستئجار عليه، وما تدخله النيابة، جاز الاستئجار عليه، كالحج، وتفرقة الزكاة. قال الامام: ومن هذا، غسل الميت إذا أوجبنا فيه النية. القسم الثاني: ما لا تتوقف صحته على النية، وهو نوعان. فرض كفاية، وشعار غير فرض. والاول ضربان. أحدهما: يختص افتراضه في الاصل بشخص وموضع معين، ثم يؤمر به غيره إن عجز، كتجهيز الموتى بالتكفين والغسل والحفر وحمل الميت ودفنه، فإن هذه المؤن تختص بالتركة. فإن لم تكن، فعلى الناس القيام بها. فمثل هذا يجوز الاستئجار عليه، لآن الاجير غير مقصود بفعله حتى يقع عنه. ومن هذا، تعليم القرآن، فإن كل أحد لا يختص بوجوب التعليم وإن كان نشر القرآن وإشاعته من فروض الكفاية، وهذا كله إذا لم يتعين واحد لمباشرة هذه الاعمال، فإن تعين واحد لتجهيز الميت، أو تعليم الفاتحة، جاز استئجاره أيضا على الاصح، كالمضطر، يجب إطعامه ببدله. وقيل: لا، كفرض العين ابتداء. الضرب الثاني: ما يثبت فرضه في الاصل شائعا غير مختص، كالجهاد، فلا يجوز استئجار المسلم عليه، ويجوز استئجار الذمي على الصحيح. النوع الثاني: شعار غير فرض، كالاذان، تفريعا على الاصح. وفي جواز الاستئجار المسلم عليه، ثلاثة أوجه ذكرناها في بابه. فإن جوزنا، فعلى أي شئ يأخذ الاجرة ؟ فيه أوجه. أصحها: على جميع الاذان بجميع صفاته، ولا يبعد أخذ(4/262)
الاجرة على ذكر الله تعالى كتعليم القرآن وإن اشتمل على قراءة المعلم. والثاني: على رعاية المواقيت. والثالث: على رفع الصوت. والرابع: على الحيعلتين، فإنهما ليستا ذكرا. فرع الاستئجار لامامة الصلوات المفروضة، باطل، وكذا للتراويح وسائر النوافل على الاصح، لانه مصل لنفسه. ومتى صلى، اقتدى به من أراد وإن لم ينو الامامة. وإن توقف على نيته شئ، فهو إحراز فضيلة الجماعة، وهذه فائدة تختص به. ومن جوزه، شبهه بالاذان في الشعار. فرع الاستئجار للقضاء باطل. فرع أطلقوا القول ببطلان الاستئجار للتدريس. وعن الشيخ أبي بكر الطوسي ترديد جواب في الاستئجار لاعادة الدرس. قال الامام: ولو عين شخصا أو جماعة ليعلمهم مسألة أو مسائل مضبوطة، فهو جائز، والذي أطلقوه، محمول على استئجار من يتصدى للتدريس من غير تعيين من يعلمه وما يعلمه، لانه كالجهاد في أنه إقامة مفروض على الكفاية ثابت على الشيوع. وكذلك يمتنع استئجار مقرئ يقرئ على هذه الصورة، قال: ويحتمل أن يجوز. الشرط الخامس: كون المنفعة معلومة العين والقدر والصفة، فلا يجوز أن يقول: أجرتك أحدهما. ثم إن لم يكن للعين المعينة إلا منفعة، فالاجارة محمولة عليها، وإن كان لها منافع، وجب البيان. وأما الصفة، فإجارة الغائبة، فيها الخلاف السابق. وأما القدر، فيشترط العلم به، سواء فيه إجارة العين والذمة. ثم المنافع تقدر بطريقتين. أحدهما: الزمان، كاستأجرت الدار للسكنى سنة. والثاني: العمل، كاستأجرتك لتخيط هذا الثوب. ثم قد يتعين الطريق الاول، كاستئجار العقار، فإن منفعته لا تنضبط إلا بالزمان، وكالارضاع، فإن تقدير اللبن لا يمكن، ولا سبيل فيه إلا الضبط بالزمان.(4/263)
وقد يسوغ الطريقان، كما إذا استأجر عين شخص أو دابة، فيمكن أن يقول في الشخص: ليعمل لي كذا شهرا، وإن يقول: ليخيط لي هذا الثوب. وفي الدابة يقول: لاتردد عليها في حوائجي اليوم، أو يقول: لاركبها إلى موضع كذا، فأيهما كان، كفى، لتعريف المقدار. فإن جمع بينهما فقال: استأجرتك لتخيط لي هذا القميص اليوم، فوجهان. أصحهما: بطلان العقد. والثاني: صحته، وعلى هذا وجهان. أصحهما: يستحق الاجرة بأسرعهما، فإن انقضى اليوم قبل تمام العمل، استحقها، فإن تم العمل قبل تمام اليوم، استحقها. والثاني: الاعتبار بالعمل، فإن تم العمل أولا، استحقها. وإن تم اليوم أولا، وجب إتمامه. وإن قال: على أنك إن فرغت قجل تمام اليوم، لم تخط غيره، بطلت الاجارة، لان زمن العمل يصير مجهولا. فإذا عرفت هذا، فالمنافع متعلقة بالاعيان، تابعة لها، وعدد الاعيان التي يستأجر لها كالمتعذر، فعني الاصحاب بثلاثة أنواع تكثر إجارتها ليعرف طريق الضبط بها، ثم يقاس عليها غيرها. النوع الاول: الآدمي يستأجر لعمل أو صنعة، كخياطة، فإن كانت الاجارة في الذمة، قال: ألزمت ذمتك عمل الخياطة كذا يوما، لم يصح، لانه لم يعين خياطا ولا ثوبا. ولو استأجر عينه، قال: استأجرتك لتخيط هذا الثوب. ولو قال: لتخيط لي يوما أو شهرا، قال الاكثرون: يجوز أيضا. ويشترط أن يبين الثوب وما يريد منه من قميص، أو قباء، أو سراويل، والطول، والعرض، وأن يبين نوع الخياطة، أهي رومية، أو فارسية ؟ إلا أن تطرد العادة بنوع، فيحمل المطلق عليه. فرع من هذا النوع، الاستئجار لتعليم القرآن، فليعين السورة والآيات التي يعلمها، فإن أخل بأحدهما، لم يصح على الاصح. وقيل: لا يشترط تعيين واحد منهما، بل يكفي ذكر عشر آيات مثلا. وقيل: تشترط السورة دون الآيات. وهل(4/264)
يكفي التقدير بالمدة فيقول: لتعلمني شهرا ؟ وجهان، قطع الامام والغزالي بالاكتفاء، وايراد غيرهما يقتضي المنع. قلت: الاكتفاء أصح وأقوى. والله أعلم وفي وجوب تعيين قراءة ابن كثير أو نافع أو غيرهما، وجهان. أصحهما: لا، إذ الامر فيها قريب. قال الامام: وكنت أود أن لا يصح الاستئجار للتعليم حتى يختبر حفظ المتعلم، كما لا يصح إيجار الدابة للركوب حتى يعرف حال الراكب، لكن ظاهر كلام الاصحاب، أنه لا يشترط، والحديث الصحيح يدل عليه في الذي تزوج(4/265)
على تعليم ما معه من القرآن، وإنما يجوز الاستئجار لتعليم القرآن إذا كان المتعلم مسلما، أو كافرا يرجى إسلامه، فإن لم يرج، لم يعلم، كما لا يباع المصحف لكافر، فلا يصح الاستئجار. فرع إذا كان يتعلم الشئ بعد الشئ، ثم ينسى، فهل على الاجير إعادة تعليمه ؟ فيه أوجه. أحدها: إن تعلم آية ثم نسيها، لم يجب تعليمها ثانيا، وإن كان دون آية، وجب العرف والثاني: الاعتبار بالسورة والثالث: إن نسي في مجلس التعليم، وجب اعادته. وإن نسي بعده، فلا. والرابع: يرجع فيه إلى العزف الغالب، وهو الاصح. فرع عن القاضي حسين في الفتاوى: أن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر مدة، جائز، كالاستئجار للاذان وتعليم القرآن. واعلم أن عود المنفعة إلى المستأجر شرط، فيجب عودها في هذه الاجارة إلى المستأجر أو ميته، فالمستأجر لا ينتفع بقراءة غيره. ومعلوم أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه: تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة. وذكروا له طريقين. أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت، لان الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إجابة وأكثر بركة. والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم السالوسي، أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت، لم يلحقه. وإن قرأ، ثم جعل ما حصل من الاجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الاجر للميت، فينفع الميت. قلت: ظاهر كلام القاضي حسين: صحة الاجارة مطلقا، وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة، وبه تنزل الرحمة، وهذا مقصود ينفع الميت. والله أعلم فصل ومنه الاستئجار للارضاع، ويجب فيه التقدير بالمدة، ولا سبيل إلى(4/266)
ضبط مرات الارضاع، ولا قدر ما يستوفيه في كل مرة، فقد تعرض له الامراض والاسباب الملهية، ويجب تعيين الصبي، لاختلاف الغرض باختلافه، وتعيين موضع الارضاع، أهو بيته، أم بيتها. فصل ومنه الاستئجار للجج، وقد ذكرناه في بابه. فصل ومنه إذا استأجر لحفر نهر أو بئر أو قناة، قدر، إما بالزمان، فيقول: تحفر لي شهرا، وإما بالعمل، فيقدر الطول والعرض والعمق، ويجب معرفة الارض بالمشاهدة، لتعرف صلابتها ورخاوتها، ويجب عليه إخراج التراب المحفور. فإن انهار شئ من جوانب البئر، لم يلزمه إخراجه. وإذا انتهى إلى موضع صلب أو حجارة، نظر، إن كان يعمل فيه المعول، وجب حفره على الاصح، وبه قال القاضي أبو الطيب. والثاني: لا يجب، وبه قال ابن الصباغ، لانه خلاف ما اقتضته المشاهدة، فعلى هذا له فسخ العقد. وإن لم يعمل فيه المعول، أو نبع الماء قبل وصوله إلى موضع المشروط وتعذر الحق، انفسخ العقد في الباقي، ولا ينفسخ فيما مضى على المذهب، فيوزع المسمى على ما عمل وما بقي. فرع إذا استأجر لحفر قبر، بين الموضع والطول والعرض والعمق، ولا يكفي الاطلاق، ولا يجب عليه رد التراب بعد وضع الميت فيه. فصل ومنه إذا استأجر لضرب اللبن، قدر بالزمان أو العمل. وإذا قدر(4/267)
بالعمل، بين العدد والقالب. فإن كان القالب معروفا، فذاك، وإلا بين طوله وعرضه وسمكه. وعن القاضي أبي الطيب، الاكتفاء بمشاهدة القالب. ويجب بيان الموضع الذي يضرب فيه، ولا يجب عليه إقامتها للجفاف. ولو استأجره لطبخ اللبن فطبخ، لم يجب عليه الاخراج من الاتون. فصل إذا استأجر للبناء، قدر بالزمان أو العمل، فإن قدر بالعمل، بين موضعه وطوله وعرضه وسمكه وما يبنى به من اللبن أو الطين أو الآجر. ولو استأجر للتطيين أو التجصيص، قدر بالزمان، ولا سبيل إلى تقديره بالعمل، لان سمكه لا ينضبط. فصل ومنه إذا استأجر كحالا ليداوي عينه، قدره بالمدة دون البرء. فإن برأت عينه قبل تمامها، انفسخ العقد في الباقي، ولا يقدر بالعمل، لان قدر الدواء لا ينضبط ويختلف بحسب الحاجة. فصل ومنه إذا استأجر للرعي، وجب بيان المدة وحبس الحيوان، ثم يجوز العقد على قطيع معين، ويجوز في الذمة، وحينئذ وجهان. أصحهما عند صاحب المهذب: يجب بيان العدد. والثاني وبه قطع ابن الصباغ والروياني: لا يجب، ويحمل على ما جرت العادة أن يرعاه الواحد. قال الروياني: وهو مائة رأس من الغنم تقريبا. فإن توالدت، حكى ابن الصباغ: أنه لا يلزمه رعي أولادها إن ورد العقد على أعيانها. وإن كان في الذمة، لزمه. فصل استأجر ناسخا للكتابة، بين عدد الاوراق والاسطر في كل صفحة، ولم يتعرضوا للتقدير بالمدة، والقياس جوازه، وأن يجب ند تقدير العمل بيان قدر الحواشي، والقطع الذي يكتب فيه.(4/268)
فصل يجوز الاستئجار لاستيفاء الحد والقصاص، ولنقل الميتة إلى المزبلة، والخمر لتراق، ولا يجوز لنقل الخمر من بيت إلى بيت، ولا لسائر المنافع المحرمة، كالزمر والنياحة، وكما يحرم أخذ الاجرة في هذا، يحرم إعطاؤها. وإنما يباح الاعطاء دون الاخذ في موضع ضرورة، كفكاك الاسير، وإعطاء الشاعر لئلا يهجو، والظالم ليدفع ظلمه، والجائر ليحكم بالحق. وهذه الامثلة، مذكورة في باب القضاء. النوع الثاني: العقار، ويستأجر لاغراض. منها: السكنى. فإذا استأجر دارا، وجب معرفة موضعها، وكيفية أبنيتها، وفي الحمام، يعرف البيوت والبئر التي يستقي منها ماءه، والقدر التي يسخن فيها، ومبسط القماش، والاتون وهو موضع الوقود وما يجمع الاتون من السرقين ونحوه، والموضع الذي يجمع فيه الزبل والوقود، ومطرح الرماد، والمستنقع الذي يجتمع فيه الماء الخارج من الحمام. وعلى هذا قياس سائر المسكن. وهذا الذي ذكرناه من اشتراط الرؤية في الحمام ونحوه، تفريع على منع إجارة الغائب، فإن جوزناها، لم تعتبر الرؤية، بل يكفي الوصف والبيان، ولا يدخل الوقود في بيع الحمام وإجارته، كما لا تدخل الازر والاسطال والحبل والدلو. قال في الشامل: في رؤية قدر الحمام، يكفي رؤية داخلها من الحمام، أو ظاهرها من الاتون. والقياس: على اعتبار الرؤية أن يشاهد الوجهين إذا أمكن، كما تعتبر مشاهدة وجهي الثوب. فرع ذكر في شرح المفتاح أنه لا بد في إجارة الدار من ذكر عدد السكان من الرجال والنساء والصبيان، ثم لا منع من دخول زائر وضيف، وإن بات فيها ليالي.(4/269)
قلت: هذا الاشتراط لا يعرف لغيره. والمختار: أنه لا يعتر لكن يسكن فيها من جرت العادة به في مثلها، وهذا مقتضى إطلاق الاصحاب، فلا عدول عنه. والله أعلم فرع لا بد من تقدير هذه المنفعة بالمدة، وفي تقدير المدة التي يجوز عقد الاجارة عليها ثلاثة أقوال المشهور والذي عليه جمهور الاصحاب أنه يجوز سنين كثيرة، بحيث يبقى إليها ذلك الشئ غالبا، فلا يؤجر العبد أكثر من ثلاثين سنة، والدابة تؤجر عشر سنين، والثوب سنتين أو سنة على ما يليق به، والارض مائة سنة وأكثر. وقال ابن كج: يؤجر العبد إلى تمام مائة وعشرين سنة من عمره. والقول الثاني: لا يجوز أكثر من سنة مطلقا. والثالث: لا يجوز أكثر من ثلاث سنين. وحكي وجه: أنه يجوز أن يؤجرها مدة لا تبقى فيها العين غالبا، لان الاصل الدوام، فإن هلكت لعارض، فكانهدام الدار ونحوه. وحكم الوقف في مدة الاجارة حكم الطلق. قال المتولي: إلا أن الحكام اصطلحوا على منع إجارته أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس الوقف، وهذا الاصطلاح، غير مطرد. وفي أمالي السرخسي: أن المذهب منع إجارة الوقف أكثر من سنة إذا لم تمس إليه حاجة لعمارة وغيرها، وهو غريب. وإذا جوزنا إجارة أكثر من سنة، فهل يجب تقدير حصة كل سنة ؟ قولان. أظهرهما: لا، وتوزع الاجرة على قيمة منافع السنين، ومنهم من قطع بهذا. فرع إذا قال: أجرتك شهرا، أو قال: سنة، صح على الاصح، وحمل على ما يتصل بالعقد. وقيل: يشترط أن يقول: من الآن. ولو قال: أجرتك شهرا من السنة، فالعقد باطل قطعا للابهام. ولو قال: كل شهر بدرهم من الآن، فباطل أيضا على المشهور والصحيح. وقال في الاملاء: يصح في الشهر الاول، وبه قطع الاصطخري. ولو قال: كل(4/270)
شهر من هذه السنة بدرهم، لم يصح على الاصح، وصححه ابن سريج في شهر فقط، ونقل الامام عن الاصحاب، أنهم قالوا: إذا قال: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم، لم يصح البيع، لانه لم يضف إلى جميع الصبرة، بخلاف ما لو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، قال: وكان ينبغي أن يفرق فيقال: إن قال: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم، كان كقوله: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، ويصح العقد في الجميع. وإن قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، بطل على الاصح، وعلى قول ابن سريج: يصح في صاع، وكذلك يفرق في الاجارة. وقد قال بهذا الشيخ أبو محمد، فسوى بين قوله: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم، وبين قوله: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، فصحح البيع في جميع الصبرة باللفظين. فرع مدة الاجارة، كأجل المسلم فيه، في أن مطلق الشهر والسنة يحمل على العربي، وفي أنه إذا قيد بالعددية، أو قال: سنة فارسية أو رومية أو شمسية، كان الاجل ما ذكره، وفي أن العقد إذا انطبق على أول الشهر، كان ذلك الشهر وما بعده بالاهلة. وإن لم ينطبق، تمم المنكسر بالعدد من الاخير، ويحسب الباقي بالاهلة. وفي سائر المسائل المذكورة في السلم، وفي التأجيل بالشمسية، وجه: أنه لا يصح، وهو شاذ. فرع قال: أجرتك شهرا من هذه السنة، فإن لم يكن بقي منها إلا شهر، صح، وإن بقي أكثر من شهر، لم يصح، قاله المتولي والبغوي. فصل مما تستأجر له الارض، والبناء والغراس والزراعة. فإذا قال: أجرتك هذه الارض، ولم يذكر البناء ولا غيره، وكانت صالحة للجميع، لم يصح العقد، لان منافع هذه الجهات مختلفة، وضررها مختلف، فوجب التعيين، كما لو أجر بهيمة، لا يجوز الاطلاق، هكذا ذكره الاصحاب، وجعلوه متفقا عليه، حتى احتجوا به لاحد الوجهين في إعارة الارض مطلقا، لكن قدمنا في مسألة إجارة الارض التي لا ماء لها، تصريحهم بجواز الاجارة مطلقا، ويشبه أن تكون إجارتها(4/271)
مطلقا، على وجهين، كاعارتها. والاصح: المنع فيهما. وما ذكروه في إجارة الارض التي لا ماء لها، مفرع على الوجه الآخر أو مؤول. قلت: المذهب، ما نص عليه الاصحاب في المسائل الثلاث، فلا تصح الاجارة هنا مطلقا، وتصح العارية على وجه، لان أمرها على التوسعة والارفاق، فاحتمل فيها هذا النوع من الجهالة كاباحة الطعام، بخلاف الاجارة، فإنها عقد مغابنة، فهذا عمدة الاصحاب. وأما مسألة إجارة الارض التي لا ماء لها، (فمؤولة). والله أعلم فرع أجر بيتا أو دارا، لا يحتاج إلى ذكر السكنى، لان الدار لا تستأجر إلا للسكنى ووضع المتاع فيها، وليس ضررهما بمختلف، كذا ذكروه، ويجوز أن يمنع فيقال: قد تستأجر أيضا ليتخذها مسجدا، ولعمل الحدادين والقصارين، ولطرح الزبل فيها، وهي أكثر ضررا، فما جعلوه مبطلا في الارض موجود هنا. فإن قيل: ينزل في الدار على أدنى وجوه الانتفاع وهو السكنى ووضع المتاع، لزم أن يقال في(4/272)
الارض مثله وينزل على الزراعة، ومقتضى هذا الاشكال، أنه يشترط في استئجار الدار بيان أنه يستأجر للسكنى أو غيرها، وقد قال به بعض شارحي المفتاح. فرع قال: أجرتك هذه الارض لتنتفع بها بما شئت، صحت الاجارة، وله أن يصنع ما شاء، لرضاه، وهذا هو الاصح، وبه قطع الامام، والغزالي. وحكى البغوي وجها بالمنع، كبيع عبد من عبيده. ولو قال: أجرتكها للزراعة، ولم يذكر ما يزرع، أو للبناء أو للغراس وأطلق، صح على الاصح عند الجمهور، وبالمنع قال ابن سريج، ونقله ابن كج عن النص في الجامع الكبير. ومن جوز قال: يزرع ما شاء، للاطلاق. وكان يحتمل التنزيل على الاقل. ولو قال: أجرتكها لتزرع ما شئت، صحت الاجارة، ويزرع ما شاء، نص عليه. وعن ابن القطان وجه: أنها فاسدة كبيع عبد من عبيده. ولو قال: أجرتكها لتزرع أو تغرس، لم يصح. ولو قال: إن شئت فازرعها، وإن شئت فاغرسها، صح على الاصح، ويخير المستأجر. ولو قال: أجرتكها فازرعها واغرسها، أو لتزرعها وتغرسها، ولم يبين القدر، فوجهان. أحدهما وبه قال ابن سلمة: يصح وينزل على النصف. وعلى هذا، فله أن يزرع الجميع، لجواز العدول من الغراس إلى الزرع، ولا يجوز أن يغرس الجميع. وأصحهما: لا يصح، وبه قال المزني، وابن سريج، وأبو إسحاق، لعدم البيان، بل قال القفال: لو قال: ازرع النصف واغرس النصف، لم يصح، لانه لم يبين المغروس والمزروع، فصار كقوله: بعتك أحد هذين العبدين بألف والآخر بخمسمائة. فرع يشترط في استئجار الارض للبناء، بيان موضعه وطوله وعرضه، وفي بيان قدر ارتفاعه، وجهان سبقا في كتاب الصلح. أصحهما: لا يشترط، بخلاف ما إذا استأجر سقفا للبناء. النوع الثالث: الدواب، وتستأجر لاغراض. منها: الركوب، وفيه مسائل. إحداها: يشترط أن يعرف المؤجر الراكب، وطريق معرفته المشاهدة، كذا(4/273)
قاله الجمهور. والاصح: أن الوصف التام يكفي عنها. ثم قيل: يصفه بالوزن. وقيل: بالضخامة والنحافة ليعرف وزنه تخمينا. الثانية: إن كان الراكب مجردا ليس معه ما يركب عليه، فلا حاجة إلى ذكر ما يركب عليه، لكن المؤجر يركبه على ما شاء من سرج وإكاف وزاملة على ما يليق بالدابة. وإن كان يركب على رحل له، أو فوق زاملة، أو في محمل، أو في عمارية، أو أراد في غير الابل الركوب على سرج أو إكاف، وجب ذكره. وينبغي أن يعرف المؤجر هذه الآلات. فإن شاهدها، كفى، وإلا، فإن كانت سروجهم ومحاملهم وما في معناها على قدر وتقطيع: لا يتفاحش فيه التفاوت، كفى الاطلاق، وحمل على معهودهم. وإن لم يكن معهود مطرد، اشترط ذكر وزن السرج والاكاف والزاملة ووصفها. هذا هو الصحيح المعروف. وقال الامام: لم يتعرض أحد من الاصحاب لاشتراط ذكر الوزن في السرج والاكاف، لانه لا يكثر فيهما التفاوت. وأما المحمل أو العمارية، ففيهما أوجه. أصحها: أن المعتبر فيهما المشاهدة، أو الوصف مع الوزن لافادتهما التخمين. والثاني: يكفي الوزن. أو الصفة والثالث: لا بد من المشاهدة. والرابع: إن كانت محامل خفافا كالبغدادية، كفى الوصف، لتقاربها، وإن كانت ثقالا كالخرسانية، اشترط ت المشاهدة، وقال البغوي: تمتحن الزاملة باليد لتعرف خفتها وثقلها، بخلاف الراكب لا يمتحن بعد المشاهدة. وينبغي أ يكون المحمل والعمارية في ذلك كالزاملة. فرع لا بد في المحمل ونحوه من الوطاء، وهو الذي يفرش فيه ليجلس عليه، وينبغي أن يعرف بالرؤية أو الوصف، والغطاء الذي يستظل به ويتوقى من المطر، قد يكون وقد لا يكون، فيحتاج إلى شرطه. وإذا شرطه، قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: يكفي إطلاقه، لتقارب تفاوته، ويغطيه بجلد أو كساء أو لبد.(4/274)
وقال ابن كج والمتولي: يشترط رؤيته أو وصفه، وهو ظاهر النص كالوطاء. لكن إن كان فيه عرف مطرد، كفى الاطلاق، وقد يكون للمحمل ظرف من لبود، أو أدم، فهو كالغطاء. الثالثة: إذا استأجر للركوب، وشرط حمل المعاليق وهي السفرة، والاداوة، والقدور، والقمقمة، فإن أراها المؤجر، أو وضعها له وذكر وزنها، صح، وإلا، فلا تصح الاجارة على المذهب والمنصوص، ومن صحح، حمله على الوسط المعتاد. وإن لم يشرط المعاليق، لم يستحق حملها على الاصح. وقيل: هو كشرطها مطلقا. وهذا المذكور في السفرة والاداوة الخاليتين، فإن كان فيهما طعام وماء، فسيأتي بيانهما في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. الرابعة: إن كانت الاجارة على عين الدابة، اشترط تعيينها، وفي اشتراط رؤيتها الخلاف في شراء الغائب. وإن كانت في الذمة، اشترط ذكر جنسها، أهي من الابل، أم الخيل، أم الحمير والبغال ؟ ونوعها، كالبخاتي والعراب. ويشترط بيان الذكورة والانوثة على الاصح، لاختلاف الغرض بذلك، فإن الانثى أسهل سيرا، والذكر أقوى. ويشترط أن يقول: مهملج أو بحر أو قطوف، عى الاصح، لان معظم الغرض يتعلق بكيفية السير. الخامسة: إذا استأجر دابة للركوب، فليبينا قدر السير كل يوم، فإذا بينا، حملا على المشروط، فإن زادا في يوم أو نقصا، فلا جبران، بل يسيران بعده على(4/275)
الشرط. ولو أراد أحدهما مجاوزة المشروط، أو النزول دونه لخوف أخصب، لم يكن له ذلك، إلا أن يوافقه صاحبه، ذكره البغوي. وكان يجوز أن يجعل الخوف عذرا لمن يحتاط، ويلزم الآخر موافقته. قلت: هذا الذي قاله البغوي، ضعيف، وينبغي أن يقال: إن غلب على الظن حصول ضرر بسبب الخوف، كان عذرا، وإلا، فلا. ولا يتجه غير هذا التفصيل. والله أعلم فإن لم يبينا قدر السير، وأطلقا العقد، نظر، إن كان في ذلك الطريق منازل مضبوطة، صح العقد وحمل عليها، وإن لم يكن منازل، أو كانت والعادة مختلفة، لم يصح العقد حتى يبينا أو يقدر بالزمان. هذا هو الصحيح المعروف الذي اشتملت عليه طرق الاصحاب. وقال أبو إسحق: إذا اكترى إلى مكة في زماننا، اشترط ذكر المنازل، لان السير في هذه الازمان شديد. وقال القاضي أبو الطيب: إن كان الطريق مخوفا، لم يجز تقدير السير فيه، لانه لا يتعلق بالاختيار، وتابعه الروياني على هذا. ومقتضاه، امتناع التقدير بالزمان أيضا، وحينئذ يتعذر الاستئجار في الطريق الذي ليس له منازل مضبوطة إذا كان مخوفا. فرع القول في وقت السير، أهو الليل، أم النهار ؟ وفي موضع النزول في المرحلة، أهو نفس القرية، أم الصحراء ؟ وفي الطريق الذي يسلكه إذا كان للمقصد طريقان على ما ذكرناه في قدر السير في أنه يحمل على المشروط أو المعهود. وقد يختلف المعهود في فصلي الشتاء والصيف، وحالتي الامن والخوف، فكل عادة تراعى في وقتها، ومتى شرطا خلاف المعهود، فهو المتبع، لا المعهود. فصل مما تستأجر له الدواب الحمل عليها، فينبغي أن يكون المحمول معلوما، فإن كان حاضرا ورآه المؤجر، كفى، وإلا فلا بد من تقديره بالوزن، أو بالكيل إن كان مكيلا، والتقدير بالوزن في كل شئ أولى وأحصر، ولا بد من ذكر(4/276)
جنسه، لاختلاف تأثيره. فلو قال: أجرتكها لتحمل عليها مائة رطل مما شئت، جاز على الاصح، ويكون رضى منه بأضر الاجناس، فلا حاجة حينئذ إلى بيان الجنس. وقال صاحب الرقم: قال حذاق المراوزة: إذا استأجر دابة للحمل مطلقا، جاز، وجعل راضيا بالاضر، وحاصله الاستغناء بالتقدير عن ذكر الجنس. هذا في التقدير بالوزن، أما إذا قدر بالكيل، فالمفهوم من كلام أبي الفرج السرخسي: أنه لا يغني عن ذكر الجنس وإن قال: عشرة أقفزة مما شئت، لاختلاف الاجناس في الثقل مع الاستواء في الكيل، لكن يجوز أن يجعل ذلك رضى بأثقل الاجناس، كما جعل في الوزن رضى بأضر الاجناس. قلت: الصواب قول السرخسي، والفرق ظاهر، فإن اختلاف التأثير بعد الاستواء في الوزن، يسير، بخلاف الكيل، وأين ثقل الملح من ثقل الذرة ؟ والله أعلم ولو قال: أجرتكها لتحمل عليها ما شئت، لم يصح، بخلاف إجارة الارض ليزرعها ما شاء، لان الدواب لا تطيق كل ما تحمل. فرع ظروف المتاع وحباله، إن لم تدخل في الوزن، بأن قال: مائة رطل حنطة، أو كان التقدير بالكيل، فلا بد من معرفتها بالرؤية أو الوصف، إلا أن يكون هناك غرائر متماثلة اطرد العرف باستعمالها، فيحمل مطلق العقد عليها. وإن دخلت في قدر المتاع، بأن قال: مائة رطل حنطة بظروفها، صح العقد. ولو اقتصر على قوله: مائة رطل، فالاصح: أن الظرف من المائة. والثاني: أنه وراءها، لانه السابق إلى الفهم. فعلى هذا، يكون الحكم كما لو قال: مائة رطل من الحنطة،(4/277)
والمسألة مفرعة على الاكتفاء بالتقدير. وإهمال ذكر الجنس، إما مطلقا، وإما بأن قال: مائة رطل مما شئت. فرع الدابة المستأجرة للحمل، إن كانت معينة، فعلى ما ذكرناه في الركوب. وإن كانت الاجارة على الذمة، لم يشترط معرفة جنس الدابة وصفتها، بخلاف الركوب، لان المقصود هنا تحصيل المتاع في الموضع المنقول إليه، فلا يختلف الغرض. لكن لو كان المحمول زجاجا أو خزفا وشبههما، فلا بد من معرفة حال الدابة، ولم ينظروا في سائر المحمولات إلى تعلق الغرض بكيفية سير الدابة بسرعة أو بطء، وقوة أو ضعف، وتخلفها عن القافلة على بعض التقديرات. ولو قيل به، لم يكن بعيدا. والكلام في المعاليق وتقدير السير، على ما ذكر ناه في الاستئجار للركوب. فرع استأجره لحمل هذه الصبرة إلى موضع كذا، كل صاع بدرهم، أو صاع منها بدرهم، وما زاد فبحسابه، صح العقد كما لو باع كذلك، بخلاف ما لو قال: أجرتك كل شهر بدرهم، لان جملة الصبرة معلومة محصورة، بخلاف الاشهر. ولو قال: لتحمل صاعا منها بدرهم، على أن تحمل كل صاع منها بدرهم، أو على أن ما زاد فبحسابه، فوجهان. أصحهما: المنع، لانه شرط عقد في عقد. والثاني: الجواز، وتقديره: كل صاع بدرهم. ولو قال: لتحمل هذه الصبرة وهي عشرة آصع، كل صاع بدرهم، فإن زادت، فبحسابه، صح العقد في العشرة، دون الزيادة المشكوك فيها. ولو قال: لتحمل من هذه الصبرة كل صاع بدرهم، لم يصح على المذهب، وهو المعروف. وقد سبق في مثله في البيع وجه: انه يصح في صاع، فيعود هنا. فصل ومن الاغراض، سقي الارض بادارة الدولاب، والاستقاء من البئر بالدلو. فإن كانت الاجارة على عين الدابة، وجب تعيينها كما في الركوب والحمل. وإن كانت في الذمة، لم يجب بيان الدابة ومعرفة جنسها. وعلى التقديرين يعرف المؤجر الدولاب والدلو وموضع البئر وعمقها، بالمشاهدة، أو الوصف إن كان الوصف يضبطها، ويقدر المنفعة، إما بالزمان، بأن يقول: لتسقي بهذا الدلو من البئر اليوم، وإما بالعمل، بأن يقول: لتستقي خمسين دلوا من هذه البئر بهذا الدلو.(4/278)
ولا يجوز التقدير بالارض، بأن يقول: لتسقي هذا البستان، أو لتسقي جريبا منه. فصل ومنها: الحراثة، فيجب أن يعرف المؤجر الارض، لاختلافها.. وتقدر المنفعة، إما بالزمان، بأن يقول: لتحرث في هذه الارض الشهر، وإما بالعمل، بأن يقول: لتحرث هذه القطعة، أو إلى موضع كذا منها. وقيل: لا يجوز تقدير هذه المنفعة بالمدة، قاله الشيخ أبو حامد. والصحيح: الاول. ولا بد من معرفة الدابة إن كانت إجارة عين. وإن كانت في الذمة، فكذلك إن قدر بالمدة وجوزناه، لان العمل يختلف باختلاف الدابة. وإن قدر بالارض المحروثة، فلا حاجة إلى معرفتها. فصل ومنها: الدياس، فيعرف المؤجر الجنس الذي يريد دياسه، ويقدر المنفعة بالزمان، أو بالزرع الذي يدوسه. والقول في معرفة الدابة، على ما ذكرناه في الحراثة. فصل الاستئجار للطحن كالاستئجار للدياس. فصل جملة ما يجب تعريفه في الاجارات، مما ذكرناه وما لم نذكره، أن ما يتفاوت به الغرض، ولا يتسامح به في المعاملة، يشترط تعريفه. فصل اختلف الاصحاب في أن المعقود عليه في الاجارة ماذا ؟ فقال أبو إسحاق وغيره: هو العين ليستوفي منها المنفعة، لان المنفعة معدومة، ومورد العقد يجب أن يكون موجودا، ولان اللفظ مضاف إلى العين. ولهذا يقول: أجرتك هذه الدار. وقال الجمهور: ليست العين معقودا عليها، لان المعقود عليه هو ما يستحق بالعقد، ويجوز التصرف فيه، وليست العين كذلك. فالمعقود عليه، هو المنفعة، وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما، وعليه ينطبق قول جمهور أصحابنا: أن الاجارة تمليك المنافع بعوض، ويشبه أن لا يكون هذا خلافا محققا، لان الاول لا يقول: العين مملوكة بالاجارة كالمبيع. ومن قال بالثاني، لا يقطع النظر عن العين.(4/279)
الباب الثاني : في حكم الاجارة الصحيحة فيه طرفان. الطرف الاول: فيما يقتضي اللفظ دخوله في العقد وضعا أو عرفا، وما يلزم المتكاربين إتماما له، ومسائله مقسومة على الانواع الثلاثة المذكورة في شرط العلم بالمنفعة. النوع الاول: استئجار الآدمي، وفيه فصلان. الفصل الاول: الاستئجار للحضانة وحدها، وللارضاع وحده جائز، وكذا لهما معا كما سبق وذكرنا أن المستحق بالاجارة للارضاع ما هو ؟ وأما الحضانة، فهي حفظ الصبي وتعهده، بغسله، وغسل رأسه وثيابه وخرقه، وتطهيره من النجاسات، ودهنه وكحله، وإضجاعه في مهده، وربطه وتحريكه في المهد لينام. وإذا أطلق الاستئجار لاحدهما، ولم ينف الآخر، ففي استتباعه الآخر ثلاثة أوجه. أصحها: منع الاستتباع. والثاني: إثباته للعادة بتلازمهما. والثالث: يستتبع الارضاع الحضانة ولا عكس. فإن أتبعنا فيهما، أو شرطهما، فانقطع اللبن، فثلاثة أوجه مبنية على أن المعقود عليه في هذه الاجارة ماذا ؟ أحدها: أنه اللبن، والحضانة تابعة، فعلى هذا ينفسخ العقد بانقطاعه، والثاني: الحضانة، واللبن تابع، فعلى هذا لا ينفسخ العقد، لكن للمستأجر الخيار، لانه عيب. وأصحهما: المعقود عليه(4/281)
كلاهما، لانهما مقصودان. فعلى هذا، ينفسخ العقد في الارضاع، ويسقط قسطه من الاجرة. وفي الحضانة قولا تفريق الصفقة، ولم يفرقوا في طرد الاوجه بين أن يصرح بالجمع بينهما، أو يذكر أحدهما ونحكم باستتباعه الآخر. وحسن أن يفرق فيقال: إن صرح، فمقصودان قطعا. وإن ذكر أحدهما، فهو المقصود، والآخر تابع. فرع يلزم المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن، وللمكتري أن يكلفها ذلك. الثاني: إذا استأجر وراقا، فعلى من الحبر ؟ فيه ثلاثة طرق. أصحها: الرجوع إلى العادة. فإن اضطربت، وجب البيان، وإلا فيبطل العقد. وأشهرها: القطع بأنه لا يجب على الوراق. والثالث: أنه على الخلاف في أن اللبن هل يتبع الحضانة 0 وإذا أوجبنا على الوراق، فهو كاللبن في أنه لا يجب تقديره. وإن صرح باشتراطه عليه، فهو كما لو صرح بالارضاع والحضانة. وإذا لم نوجبه عليه، فشرط في العقد، بطل العقد إن لم يكن معلوما، وإلا، فطريقان. أحدهما: يصح العقد، لان المقصود الكتابة، والحبر تابع. والثاني: أنه شراء واستئجار، وليس الحبر كاللبن، لامكان إفراده بالشراء. وعلى هذا، ينظر، فإن قال: اشتريت منك هذا الحبر على أن تكتب به كذا، فهو كشراء الزرع بشرط أن يحصده البائع. وإن قال: اشتريت الحبر واستأجرتك لتكتب به كذا بعشرة، فهو كقوله: اشتريت الزرع واستأجرتك لتحصده بعشرة. وإن قال: اشتريت الحبر بدرهم واستأجرتك لتكتب به بعشرة، فهو كقوله: اشتريت الزرع بعشرة واستأجرتك لتحصده بدرهم، وحكم الصور مذكور في البيع. فرع إذا استأجر الخياط والصباغ وملقح النخل والكحال، فالقول في(4/282)
الخيط والصبغ وطلع النخل والذرور، كما ذكرنا في الحبر. هذا هو المذهب وعليه الجمهور وقطع الامام وشيخه والغزالي، بأن الخيط لا يجب على الخياط، لان العادة الغالبة في الخيط خلاف الحبر والصبغ. النوع الثاني: العقار، وهو صنفان، مبني كالدار والحمام، وغيره. فالاول: فيه مسألتان. إحداهما: ما تحتاج إليه الدار المكراة من العمارة، وهو ثلاثة أضرب أحدها: مرمة لا تحتاج إلى عين جديدة، كاقامة جدار مائل، وإصلاح منكسر، وغلق تعسر فتحه. والثاني: ما يحوج إلى عين جديدة، كبناء، وجذع جديد، وتطيين سطح، والحاجة في الضربين لخلل عرض في دوام الاجارة. الثالث: عمارة يحتاج إليها لخلل قارن العقد، بأن أجر دارا ليس لها باب ولا ميزاب. ولا يجب شئ من هذه الاضرب على المستأجر، بل هي من وظيفة المؤجر، فإن بادر إلى الاصلاح، فلا خيار للمستأجر، وإلا، فله الخيار إذا نقصت المنفعة. حتلو وكف البيت لترك التطيين، قال الاصحاب: له الخيار. فإذا انقطع بطل الخيار، إلا إذا حدث بسببه نقص. وإنما يثبت الخيار في الضرب الثالث، إذا كان جاهلا به في ابتداء الحال. وهل يجبر المؤجر على هذه العمارات ؟ قال جماعة منهم المتولي والبغوي: لا يجبر في شئ منها، لانه إلزام عين لم يتناولها العقد. وقال الامام والغزالي والسرخسي: يجبر على الضرب الاول، ولا يجبر على الثالث قطعا، ولا على الثاني على الاصح. وقال القاضي حسين وأبو محمد: يجبر توفيرا للمنفعة. ويجري الوجهان فيما إذا غصبت المستأجرة وقدر المالك على الانتزاع. قلت: ينبغي أن يكون الصحيح هنا، وجوب الانتزاع. والله أعلم ولا شك أنه إذا كان العقد على موصوف في الذمة، ولم ينتزع ما سلمه، يطالب ببدله. وحكى الامام تفريعا على طريقته وجهين، في أن الدعامة المانعة من(4/283)
الانهدام إذا احتيج إليها، من الضرب الاول، أم من الثاني ؟ فرع يجب على المكري تسليم مفتاح الدار، للتمكن من الانتفاع، بخلاف ما إذا كانت العادة فيه الاقفال، فإنه لا يجب تسليم القفل، لان الاصل أن لا يدخل المنقولات في العقد الواقع على العقار، والمفتاح تابع للغلق. وإذا سلم، فهو أمانة في يد المستأجر. فإن ضاع بلا تفريط، فلا شئ عليه، وإبداله من وظيفة المؤجر، وهل يطالب به ؟ فيه الخلاف السابق في العمارات. فإن لم يبدله، فللمستأجر الخيار. المسألة الثانية: تطهير الدار عن الكناسة والاتون عن الرماد في دوام الاجارة، على المستأجر، لانهما حصلا بفعله، وكسح الثلج عن السطح، من وظيفة المؤجر، لانه كعمارة الدار. فإن تركه على السطح وحدث به عيب، فللمستأجر الخيار. قال الامام: وهل يجب عليه ؟ فيه الخلاف السابق في العمارة. وحكي وجه: أنه لا يجب الكسح وإن وجبت العمارة، لانها تجب لتعود الدار إلى ما كانت. وأما الثلج في عرصة الدار، فإن خف ولم يمنع الانتفاع، فهو ملحق بكنس الدار. وإن كثف، فكذلك على الاصح، وقيل: كتنقية البالوعة، وفيها خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، لانه يمنع التردد في الدار. فرع يلزم المؤجر تسليم الدار وبالوعتها وحشها فارغان. فإن كان مملوءا، فللمستأجر الخيار، وكذا مستنقع الحمام، وهو الموضع الذي تنصب إليه الغسالة. فلو امتلات البالوعة والحش والمستنقع في دوام الاجارة، فهل تفريغها على المؤجر تمكينا من الانتفاع بقية المدة ؟ أم على المستأجر لحصوله بفعله ؟ وجهان.(4/284)
أصحهما: الثاني، وبه قطع الماوردي وابن الصباغ والمتولي، كنقل الكناسات. فإن تعذر الانتفاع، فلينق، ولا خيار له على الصحيح. ولا يلزم المستأجر التنقية عند انقضاء المدة، ولا تفريغ مستنقع الحمام، ويلزمه التطهير من الكناسة، وفسروها بالقشور وما سقط من الطعام ونحوه، دون التراب الدذي بجمع بهبوب الرياح، لانه بغير فعله لكن قد سبق من أن ثلج العرصة لا يلزم المؤجر نقله، بل هم كالكناسة، مع أنه حصل لا بفعله، فيجوز أن يكون التراب أيضا كالكناسة، مع أنه حصل لا بفعله. قلت: هذا الاحتمال ضعيف. والصواب: أنه لا يلزم المستأجر نقل التراب كما قاله الاصحاب، وليس المراد بما سبق في ثلج العرصة أنه يلزم المستأجر نقله، بل المراد أنه لا يلزم المؤجر، فكذا هنا لا يلزم واحدا منهما. والله أعلم قال الامام والغزالي: رماد الاتون كالكناسة، فيجب على المستأجر نقله. وفي التهذيب أنه لا يجب، لانه من صورة استيفاء المنفعة، بخلاف الكناسة. فرع الدار المستأجرة للسكنى، لا يجوز طرح الرماد والتراب في أصل حائطها، ولا ربط دابة فيها، بخلاف وضع الامتعة. وفي جواز طرح ما يسرع (إليه) الفساد وجهان. أصحهما: الجواز، لانه معتاد. الصنف الثاني: الارض البيضاء. فإذا استأجر أرضا للزراعة ولها شرب معلوم، فإن شرط دخوله في العقد أو خروجه، اتبع الشرط، وإلا، فإن اطردت العادة باتباعه الارض، أو انفراده، اتبعت. وإن اضطربت، فكانت تكرى وحدها تارة، ومع الشرب تارة، فأوجه. أصحها: لا يجعل الشرب تابعا اقتصارا على مقتضى اللفظ، إنما عليه بعرف مطرد. والثاني: يجعل تابعا. والثالث: يبطل العقد من أصله، لان تعارض المقصودين يوجب جهالة.
فصل استأجر أرضا لزرع معين، فانقضت المدة ولم يدرك، فلعدم الادراك فيها أسباب. أحدها: التقصير في الزراعة، بأن أخرها حتى ضاق الوقت، أو أبدل الزرع المعين بما هو أبطا منه، أو أكله الجراد ونحوه، فزرع ثانيا، فللمالك إجباره على(4/285)
قلعه، وعلى الزارع تسوية الارض كالغاصب، هذا لفظ البغوي، ومقتضى إلحاقه بالغاصب، أن يقلع زرعه قبل انقضاء المدة أيضا، لكن المتولي وغيره صرحو ابأنه لا يقلع قبل انقضاء المدة، لان منفعة الارض في الحال له. قلت: الصواب ما صرح به المتولي وغيره، وليس مراد البغوي بالحاقه بالغاصب، القلع قبل المدة. والله أعلم فرع للمالك منعه من زراعة ما هو أبطأ إدراكا، وهل له منعه من زراعة الزرع المعين ابتداء إذا ضاق الوقت ؟ وجهان لانه استحق منفعة الارض تلك المدة، وقد يقصد القصيل. قلت: الاصح: أنه ليس له منعه. والله أعلم السبب الثاني: أن يتأخر الادراك لحر أو برد، أو كثرة المطر، أو أكل الجراد رؤوس الزرع، فنبت ثانيا فتأخر لذلك، فالصحيح أنه لا يجب على القلع، بل على المالك الصبر إلى الادراك مجانا أو بأجرة المثل. وقيل: له قلعه مجانا، لخروجه عن المدة. السبب الثالث: أن يكون الزرع المعين بحيث لا يدرك في المدة، بأن استأجر لزراعة الحنطة شهرين. فإن شرطا القلع بعد المدة، جاز، وكأنه أراد القصيل. ثم لو تراضيا على الابقاء مجانا أو بأجرة المثل، جاز، فإن شرطا الابقاء، فسد العقد، للتناقض بينه وبين التوقيت، ولجهالة مدة الادراك، ويجئ فيه خلاف سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى. وإذا فسد العقد، فللمالك منعه من الزراعة، لكن لو زرع، لم يقلع مجانا، للاذن، بل يأخذ منه أجرة المثل لجميع المدة. وإن أطلقا العقد، ولم يتعرضا لقلع ولا إبقاء، صح العقد على الاصح. فعلى هذا، إن توافقا بعد المدة على إبقائه مجانا أو بأجرة، فذاك. وإن أراد المالك إجباره على القلع، لم يكن له على الاصح، وهو اختيار القفال، لان العادة فيه الابقاء. وعلى هذا، فالاصح أن له أجرة المثل للزيادة. وقيل: لا، لانه في معنى معير للزيادة. وقال أبو الفرج السرخسي: إذا قلنا: لا يقلع بعد المدة، لزم تصحيح العقد إذا شرط الابقاء بعد المدة، وكأنه صرح بمقتضى الاطلاق، وهذا حسن. أما إذا استأجر للزراعة مطلقا(4/286)
وقلنا بالاصح وهو صحته، فعليه أن يزرع ما يدرك في تلك المدة. فإن زرعه وتأخر إدراكه لتقصير أو لغيره، فعلى ما ذكرناه في الزرع المعين. ولو أراد أن يزرع ما لا يدرك في تلك المدة، فللمالك منعه. فلو زرع، لم يقلع انقضاء المدة. وقال صاحب المهذب يحتمل أن لا يمنع من زرعه، كما لا يقلع إذا زرع.
فصل استأجر للبناء أو الغراس، فإن شرط القلع، صح العقد، ولزم المستأجر القلع بعد المدة، وليس على المالك أرش النقصان، ولا على المستأجر تسوية الارض ولا أرش نقصها، لتراضيهما بالقلع. ولو شرطا الابقاء بعد المدة، فوجهان. أحدهما: العقد فاسد، لجهالة المدة. وهذا أصح عند الامام والبغوي. والثاني: يصح، لان الاطلاق يقتضي الابقاء، فلا يضر شرطه، وبهذا قطع العراقيون أو جمهورهم، ويتأيد به كلام السرخسي في مسألة الزرع. فإن قلنا بالفساد، لزم المستأجر أجرة المثل للمدة، وما بعدها حكمه ما سنذكره فيما إذا أطلقا العقد. أما إذا أطلقا، فالمذهب صحة العقد. وقيل: وجهان، وليس بشئ، ثم ينظر بعد المدة، فإن أمكن القلع والرفع بلا نقص، فعل، وإلا، فإن اختار المستأجر القلع، فله ذلك، لانه ملكه. وهل عليه تسوية الحفر وأرش نقص الارض ؟ وجهان. الاصح المنصوص: يلزمه، لتصرفه في أرذ الغير بالقلع بعد خروجها من يده، وتصرفه بغير إذن مالكها. فعلى هذا، لو قلع قبل المدة، لزمه التسوية على الاصح، لعدم الاذن. وقيل: لا، لبقاء الارض في يده وتصرفه. وإن لم يختر القلع، فهل للمؤجر أن يقلعه مجانا ؟ فيه طريقان. أحدهما: القطع بالمنع. والثاني: على وجهين. أصحهما: هذا، لانه بناء محترم. والثاني: نعم. فإن منعنا، فالكلام في أن المؤخر، يتخير بين أن يقلع ويغرم أرش النقص مع نقص الثمار إن كان على الشجر ثمر، أو يتملكه عليه بالقيمة، أو يبقية بأجرة يأخذها، أو لا يتخير إلا بين الخصلتين الاوليين من هذه الثلاث، على ما ذكرناه إذا رجع المعير عن العارية. وإذا انتهى الامر إلى القلع، فمباشرة القلع أو بدل مؤنته، هل هي على المؤجر لانه الذي اختاره، أم على المستأجر لانه شغل الارض فليفرغها ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا عين المؤجر خصلة، فامتنع منها(4/287)
المستأجر، ففي إجباره ما ذكرناه في إجبار المستعير. فإن أجبرناه، كلف تفريغ الارض مجانا، وإلا، فلا، بل هو كما لو امتنع المؤجر من الاختيار، وحينئذ هل يبيع الحاكم الارض بما فيها، أم يعرض عنهما ؟ فيه خلاف سبق. فرع الاجارة الفاسدة للغراس والبناء كالصحيحة في تخيير المالك ومنع القلع مجانا. فصل إذا استأجر لزراعة جنس معين، جاز أن يزرعه وما ضرره مثل ضرره أو دونه، لا ما فوقه، والحنطة فوق ضرر الشعير. وكل واحد من الذرة والارز فوق ضرر الحنطة. وعن البويطي: أنه لا يجوز غير زرع المعين، فقيل: هو قول للشافعي رضي الله عنه. وقيل: هو مذهب للبويطي. وكيف كان، فالمذهب جوازه. هذا إذا عين جنسا أو نوعا. فلو قال: أجرتكها لزرع هذه احنطة، ففي صحة العقد وجهان. أحدهما: المنع، لان تلك الحنطة قد تتلف. والثاني: الصحة، وهو اختيار ابن كج، ولا تتعذر الزراعة بتلف تلك الحنطة. قلت: الاصح: الصحة، لانه لا يتعذر بتلف الحنطة. ولو تعذر، لم يكن احتمال التلف مانعا، كالاستئجار لارضاع هذا الصبي، والحمل على هذه الدابة. والله أعلم ولو قال: لتزرع هذه الحنطة ولا تزرع غيرها، فأوجه. أحدها: يفسد العقد، لانينافي مقتضاه. قال ابن كج والروياني: وهذا هو المذهب. والثاني وهو اختيار الامام: صحة العقد وفساد الشرط، لانه شرط لا يتعلق به غرض، فهو كقوله: أجرتك على أن لا تلبس إلا الحرير. والثالث: يصح العقد والشرط، لانه يملك المنفعة من المؤجر، فملك بحسب التمليك. قلت: الاول أقوى. والله أعلم وعلى هذا قياس طريق أخرى فيه ولو ركبها في إستيفاء سائر المنافع. فإذا استأجر دابة للركوب في طريق، لم يركبها في مثل ذلك الطريق. وإذا استأجر لحمل الحديد، لم يحمل القطن ولا العكس، وإذا استأجر دكانا لصنعة، منع مما فوقها في الضرر.(4/288)
فرع إذا تعدى المستأجر للحنطة، فزرع الذرة، ولم يتخاصما حتى انقضت المدة وحصد الذرة، فالمذهب، وهو نصه في المختصر وبه قال أبو علي الطبري والقاضي أبو حامد: أن المؤجر بالخيار، بين أن يأخذ المسمى وبدل النقصان الزائد بزراعة الذرة ععلى ضرر الحنطة، وبين أن يأخذ أجرة المثل لزرع الذرة. وقال كثيرون: في المسألة قولان. أحدهما: تعيين أجرة المثل للذرة. والثاني: تعيين المسمى وبدل النقص. وقال ابن القطان: قولان. أحدهما: المسمى وبدل النقص. والثاني: التخيير. قلت: وهل يصير ضامنا للارض غاصبا ؟ وجهان حكاهما الشاشي في المستظهري أصحهما: لا. والله أعلم ولو تخاصما عند إرادته زراعة الذرة، منع منها، وإن تخاصما بعد زراعتها وقبل حصادها، فله قلعها. وإذا قلع، فإن تمكن من زراعة الحنطة، زرعها، وإلا، فلا يزرع، وعليه الاجرة لجميع المدة، لانه الذي فوت مقصود العقد. ثم إن لم تمض على بقاء الذرة مدة تتأثر الارض بها، فذاك، وإن مضت، فالمستحق أجرة المثل ؟ أم قسطها من المسمى مع بدل النقصان ؟ أم يتخير بينهما ؟ فيه الطرق السابقة. والطرق جارية فيما إذا استأجر دارا ليسكنها، فأسكنها الحدادين أو القصارين، أو دابة ليحمل عليها قطنا، فحمل بقدره حديدا، أو غرفة ليضع فيها مائة رطل حنطة، فأبدلها بحديد، وكذا كل صورة لا يتميز فيها المستحق عما زاد. فلو تميز، بأن استأجر دابة لحمل خمسين رطلا، فحمل مائة، أو إلى موضع، فجاوزه، وجب المسمى وأجرة المثل لما زاد قطعا. ولو عدل عن الجنس المشروط إلى غيره، بأن استأجر للزرع، فغرس، أو بنى، وجبت أجرة المثل على المذهب. وقيل بطرد الخلاف. وإذا قلنا بالمذهب في أصل المسألة: إنه يتخير، فاختار المسمى وبدل النقصان الزائد، فمثله أجرة مثلها للحنطة خمسون، وللذرة سبعون، وكان المسمى أربعين، فله الاربعون والتفاوت بين الاجرتين وهو عشرون. قلت: وإذا حصد المستأجر ما أذن فيه بعد المدة، لزمه قلع ما يبقى في الارض من قصب الزرع وعروقه، لانه عين ماله، فلزمه إزالته عن ملك غيره. وممن صرح به، صاحب البيان. والله أعلم(4/289)
النوع الثالث: استئجار الدواب، وفيه مسائل. المسألة الاولى: إذا اكترى للركوب، قال الاكثرون: على المؤجر الاكاف والبرذعة، والحزام، والثفر، والخطام، والبرة، لانه لا يتمكن من الركوب دونها. والعرف مطرد بكونها على المؤجر. وفي السرج إذا اكترى الفرس أوجه. ثالثها: اتباع العادة. قلت: صحح الرافعي في المحرر اتباع العادة. والله أعلم وقال أبو الحسن العبادي في الرقم: لا يلزم مكري الدابة إلا تسليمها عارية، والآلات كلها على المستأجر. وقال البغوي: ما عدا السرج والاكاف والبرذعة، فعلى المؤجر. وأما هذه الثلاثة، فإن استأجر عين الدابة، فهي على المستأجر، ويضمن لو ركب بغير إكاف وسرج. وإن كانت على الذمة، فعلى المؤجر، لانها للتمكين من الانتفاع. أما ما هو للتسهيل على الراكب، كالمحمل، والمظلة، والوطاء،(4/290)
والغطاء، والحبل الذي يشد به المحمل على البعير، والذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر، (فعلى المستأجر، والعرف مضطرد به، وفي المهذب وجه في الحبل الذي يشد به أحدهما إلى الآخر أنه على المستأجر، وهو شاذ بعيد، مع القطع بأن المحمل وسائر توابعه على المستأجر. وأما شد أحد المحملين إلى الآخر)، فهل هو على المكري كالشد على الحمل ؟ أم على المكتري لانه إصلاح ملكه ؟ وجهان. قلت: أصحهما: الاول. وممن صححه صاحب البيان. والله أعلم هذا إذا أطلقا العقد، أما إذا قال: أكريتك هذه الدابة العارية بلا حزام ولا إكاف ولا غيرهما، فلا يلزمه شئ من الآلات. المسألة الثانية: إذا اكترى للحمل، فالوعاء الذي ينقل فيه المحمول، عل المستأجر إن وردت الاجارة على عين الدابة. وعلى المؤجر إن ورث على الذمة. والدلو والرشاء في الاستئجار للاستقاء كالوعاء في الحمل، فيفرق بين العين والذمة. وعن القاضي حسين: أنه إن كان معروفا بالاستقاء بآلات نفسه، لزمه الاتيان بها، وهذا يجب طرده في الوعاء. ورأى الامام في إجارة الذمة، الفرق بين أن يلتزم الغرض مطلقا ولا يتعرض للدابة فتكون الآلات عليه، وبين أن يتعرض لها بالوصف وحينئذ يتبع العادة. فإن اضطربت، احتمل واحتمل. وإذا رأينا اتباع العادة، فاضطربت، فالاصح أنه يشترط لصحة العقد التقييد. قلت: الاصح الذي عليه الجمهور ما سبق. والله أعلم فرع مؤنة الدليل وسائق الدابة وقائدها والبذرقة وحفظ المتاع في المنزل، كالوعاء. المسألة الثالثة: الطعام المحمول ليؤكل في الطريق، كسائر المحمولات(4/291)
في اشتراط رؤيته أو تقديره بالوزن على الصحيح. وقيل: لا يشترط تقديره، ويحمل الامر فيه على العادة. فعلى الصحيح: لا يشترط تقدير ما يؤكل منه كل يوم، لصحة العقد على الصحيح. وإذا قدره وحمله، فإن شرط أنه يبدله كلما نقص، أو لا يبدله، اتبع الشرط، وإلا، فإن فني بعضه أو كله بسرقة أو تلف، فله الابدال كسائر المحمولات. وإن فني بالاكل، فإن فني كله، أبدله على الصحيح. وإن فني بعضه، أبدله على الاظهر. ويقال: الاصح. وموضع الخلاف، إذا كان يجد الطعام في المنازل المستقبلة بسعر المنزل الذي هو فيه. أما إذا لم يجده، أو وجده بأعلى، فله الابدال قطعا. وإذا قلنا: لا يشترط تقدير الزاد وحمل ما يعتاد لمثله، لم يبدله حتى يفنى كله، وفيه وجه ضعيف. الرابعة: إذا اكترى للركوب في الذمة، لزم المؤجر الخروج مع الدابة لسوقها، وتعهدها، وإعانة الراكب فق الركوب والنزول. وتراعى العادة في كيفية الاعانة. فينيخ البعير للمرأة، لانه يصعب عليها النزول والركوب مع قيام البعير، وكذا إذا كان الرجل ضعيفا لمرض أو شيخوخة، أو كان مفرط السمن، أو نضو الخلق، ينيخ له البعير، ويقرب البغل والحمار من نشز يسهل عليه الركوب، والاعتبار في القوة والضعف بحال الركوب، لا بحال العقد. وإذا اكترى للحمل في الذمة، لزم المؤجر رفع الحمل وحطه وشد المحمل وحله. وفي شد أحد المحملين إلى الآخر وهما بعد على الارض، الوجهان السابقان قريبا. ويقف الدابة لينزل الراكب لما لا يتهيأ عليها، كقضاء الحاجة، والوضوء، وصلاة الفرض. وإذا نزل انتظره المكري ليفرغ منها، ولا يلزمه المبالغة في التخفيف، ولا القصر ولا الجمع، وليس له الابطاء ولا التطويل. قال الروياني:(4/292)
وله النزول في أول الوقت لينال فضله، ولا يقفها للنوافل والاكل والشرب، لامكانها على الدابة. وإن ورد العقد على دابة بعينها، فالذي على المؤجر التخلية بين المستأجر وبينها، وليس عليه أن يعينه على الركوب ولا الحمل. هذا هو المذهب وقول الجمهور في نوعي الاجارة. وحكى الامام مع هذا، ثلاثة أوجه. أحدها: أنه إن قال في إجارة الذمة: ألزمت ذمتك تبليغي موضع كذا، لزمه الاعانة. وإن قال: ألزمت ذمتك منفعة دابة صفتها كذا، لم تلزمه. والثاني: تجب الاعانة على الركوب في إجارة العين أيضا. والثالث: تجب للحمل في نوعي الاجارة، لاطراد العادة بالاعانة على الحط والحمل وإن اضطربت في الركوب. ورفع المحمل وحطه كالحمل. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: إذا اختلفا في الرحلة، هل لا مكبوبا ولا مستلقيا. قيل: المكبوب أن يجعل مقدم المحمل أو الزاملة أوسع من المؤجر، والمستلقي عكسه. وقيل: المكبوب بأن يضيق المقدم والمؤخر جميعا، والمستلقي أن يوسعهما جميعا. وعلى التفسيرين، المكبوب أسهل على الدابة، والمستلقي أسهل على الراكب. فإن اختلفا فيهما، حملا على الوسط المعتدل، وكذا إذا اختلفا في كيفية الجلوس. فرع ليس للمؤجر منع الراكب من النوم في وقته. ويمنعه في غير ذلك الوقت، لان النائم يتقل، قاله ابن كج. فرع قد يعتاد النزول والمشي للاراحة، فإن شرطا أن ينزل أو لا ينزل، اتبع الشرط. قال الامام: ويعرض في شرط النزول إشكال، لانقطاع المسابة، ويقع في كراء العقب. قال: لكن الاصحاب احتملوه للحاجة. وإن أطلقا، لم(4/293)
يجب النزول على المرأة والمريض. وفي الرجل القوي وجهان، لتعارض اللفظ والعادة. وهكذا حكم النزول عند العقبات الصعاب. قلت: قال أصحابنا: وفي معنى المرأة والمريض، الشيخ العاجز. وينبغي أن يلحق بهم من كانت له وجاهة ظاهرة، وشهرة يخل بمروءته في العادة المشي. ثم الكلام مفروض في طريق يعتاد النزول فيه لاراحة الدابة. فإن لم تكن معتادة، لم يجب مطلقا، ولم نصحح شيئا من الوجهين في الرجل القوي. وينبغي أن يكون الاصح وجوب النزول عند العقبات، دون الاراحة. والله أعلم فرع إذا اكترى دابة إلى بلد، فبلغ عمرانه، فللمؤجر أخذ دابته، ولا يلزمه تبليغه داره. ولو اكترى إلى مكة، لم يكن له تتميم الحج عليها. وإن اكتراها للحج، ركبها إلى منى ثم عرفات، ثم المزدلفة، ثم منى مكة لطوف الافاضة. وهل يركبها إلى مكة راجعا إلى منى للرمي والطواف ؟ وجهان. قلت: ينبغي أن يكون أصحهما استحقاقه ذلك، لان الحج لم يفرغ، وإن كان قد تحلل. ومن مسائل هذا النوع لو طلب أحد المتكاريين مفارقة القافلة بالتقدم أو التأخر، لم يكن له إلا برضى صاحبه. والله أعلم فرع إذا اكترى دابة بعينها، فتلفت، انفسخ العقد، وإن وجد بها عيبا فله الخيار. والعيب، مثل ان تتعثر في المشي، أو لا تبصر في الليل، أو يكون بها عرج تتخلف به عن القافلة. ومجرد خشونة المشي، ليس بعيب.(4/294)
وإن كانت الاجارة على الذمة، وسلم دابة وتلفت، لم ينفسخ العقد. وإن وجد بها عيبا، لم يكن له الخيار في فسخ العقد، ولكن على المؤجر إبدالها. ثم الدابة المسلمة عن الاجارة في الذمة وإن لم ينفسخ العقد بتلفها، فإنه ثبت للمستأجر فيها حق الاختصاص، حتى يجوز له إجارتها. ولو أراد المؤجر إبدالها، فهل له ذلك دون إذن المستأجر ؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: المنع، لما فيها من حق المستأجر. والثاني قاله أبو محمد واختاره الغزالي: إن اعتمد باللفظ الدابة، بأن قال: أجرتك دابة صفتها كذا، لم يجز الابدال. وإن لم يعتمدها، بل قال: التزمت إركابك ددبة صفتها كذا، جاز. ويتفرع على الوجهين ما إذا أفلس المؤجر بعد تعيين عن إجارة الذمة، هل يتقدم المستأجر بمنفعتها على الغرماء ؟ وقد ذكرناه في التفليس. والاصح: التقدم. ولو أراد المستأجر أن يعتاض عن حقه في إجارة الذمة، فإن كان قبل أن يتسلم دابة، لم يجز، لانه اعتياض عن المسلم فيه. وإن كان بعد التسليم، جاز، لان هذا الاعتياض عن حق في عين، هكذا قاله الائمة. وفيه دليل على أن القبض يفيد تعلق حق المستأجر بالعين، فيمتنع الابدال دون رضاه. فصل نذكر فيه قولا جمليا في إبدال متعلقات الاجارة المنفعة المطلوبة في العقد، لها مستوف، مستوفى منه، ومستوفى به، فأما المستوفي وهو مستحق الاستيفاء، فله أن يبدل نفسه بغيره، كما يجوز أن يؤجر ما استأجر، فإذا استأجر دابة للركوب، فله أن يركبها مثل نفسه في الطول والقصر والضخامة والنحافة ومن هو أخف منه. وكذلك يلبس الثوب مثله، ويسكن الدار، دون القصار والحداد، لزيادة الضرر. وكذا إذا استأجر دابة لحمل القطن، فله حمل الصوف والوبر. أو لحمل الحديد، فله حمل النحاس(4/295)
والرصاص. وإذا استأجر للحمل، فأراد إركاب من لا يزيد وزنه على القدر المحمول، قال المتولي: يرجع إلى أهل الصنعة. فإن قالوا: لا يتفاوت الضرر، جاز، وإن قالوا: يتفاوت، لم يجز. وكذا لو استأجر للركوب فأراد الحمل. والاصح: المنع في الطرفين، وهو مقتضى ما في التهذيب. وأما المستوفى منه، فهو الدار والدابة المعينة، والاجير المعين، ولا يجوز إبداله كما لا يبدل المبيع. وأما المستوفى به، فهو كالثوب المعين للخياطة والصبي المعين للارضاع والتعليم، والاغنام المعينة للرعي. وفي إبداله وجهان. ويقال: قولان. أحدهما: المنع. وأصحهما عند الامام والمتولي الجواز، لانه كالراكب. والخلاف جار في انفساخ الاجارة بتلف هذه الاشياء في المدة، وميل العراقيين إلى ترجيح الانفساخ، وقالوا: هو المنصوص. والثاني: مخرج. وسنزيد المسألة إيضاحا إن شاء الله تعالى في الباب الثالث. ويجري الخلاف فيما إذا لم يلتقم الصبي المعين ثديها، فعلى رأي، ينفسخ العقد، وعلى رأي، يبدل. فصل استئجار الثياب للبس، والبسط والزلالي للفراش، واللحف للالتحاف، جائز. وإذا استأجر ثوبا ليلبسه مدة، لم يجز أن ينام فيه بالليل. وهل له النوم فيه (في) وقت القيلولة ؟ وجهان. أصحهما وبه قطع الاكثرون: جوازه للعادة. لكن لو كان المستأجر القميص الفوقاني، لزمه نزعه بل يلزمه نزعه في سائر أوقات الخلوة، وإنما تلبس ثياب التجمل في الاوقات التي جذت العادة فيها بالتجمل،(4/296)
كحالة الخروج إلى السوق ونحوه، ودخول الناس عليه، ولا يجوز الاتزار بما يستأجر للبس، ويجوز الارتداء به على الاصح. قال المتولي: وإذا استأجر للارتداء، لم يجز الاتزار، ويجوز التعمم. قلت: هذا الذي ذكره الامام الرافعي في النوم في الثوب، هو الذي اطلقه الجمهور، إلا قوله: هل يجوز النوم في وقت القيلولة ؟ فإن الاكثرين قالوا: يجوز النوم فيه بالنهار من غير تقييد بالقيلولة، ولكن ضبطه الصيمري فقال: إن نام ساعة أو ساعتين، جاز، لانه متعار ف. وإن نام أكثر النهار، لم يجز. قالوا: وإذا استأجر للبس مطلقا، فله لبسه ليلا ونهارا إذا كان مستيقظا قطعا. ولو استأجر للبس ثلاثة أيام، ولم يذكر الليالي، فالصحيح دخول الليالي. وقيل: لا تدخل، حكياه في العدة والبيان. وإذا استأجر يوما كاملا، فوقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وإن قال: يوما، وأطلق، قال الصيمري: كان من وقته إلى مثله من الغد. وإن استأجر نهار يوم، قال في البيان: فيه وجهان حكاهما الصيمري. أحدهما: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والثاني: من طلوع الشمس إلى غروبها. والله أعلم الطرف الثاني: في بيان حكم الاجارة في الامانة والضمان. مال الاجارة، تارة يكون في يد المستأجر، وتارة في يد الاجير على العمل. وأما المستأجر، ففيه مسألتان. إحداهما: يده على الدابة والدار المستأجرتين ونحوهما في مدة الاجارة يد أمانة، فلا يضمن ما تلف منها بغير تعد وتقصير وهل يضمن ما يتلف في يده بعد مضي المدة ؟ يبنى على أنه هل على المستأجر الرد ومؤنته ؟ وفيه وجهان. أصحهما عند الغزالي: لا، وإنما عليه التخلية بين المالك وبينها إذا طلب، لانه أمانة فأشبه الوديعة. وأقربهما إلى كلام الشافعي رضي الله عنه: يلزمه الرد ومؤنته وإن لم يطلب المالك، لانه غير مأذون في الامساك(4/297)
بعد المدة، ولانه أخذ لمنفعة نفسه، فأشبه المستعير. قال القاضي أبو الطيب: ولو شرط عليه الرد، لزمه بلا خلاف، ومنعه ابن الصباغ وقال: من لا يوجبه عليه، ينبغي أن لا يجوز شرطه. فإن قلنا: لا يلزمه الرد، فلا ضمان. وإن قلنا: يلزمه الرد، لزمه الضمان، إلا أن يكون الامساك بعذر. قلت: صحح الرافعي في المحرر أنه لا ضمان. والله أعلم ويترتب على الوجهين، ضمانه أجرة المنافع التي تتلف في يده بعد المدة. فإن ألزمناه الرد، ضمناه، وإلا، فلا. قلت: وفي فتاوى الغزالي، القطع بأن الاجارة إذا انفسخت بسبب، لا يلزم المستأجر ضمان المنافع التالفة عنده، لانه أمين، وهذا محمول على ما إذا علم المالك بأنها انفسخت، وإلا، فيجب أن يعلمه. وإذا لم يعلمه، كان مقصرا ضامنا. والله أعلم ولو غصبت الدابة المستأجرة مع دواب الرفقة، فذهب بعضهم في الطلب، ولم يذهب المستأجر، فإن قلنا: لا يلزمه الرد، فلا ضمان عليه. وإن ألزمناه، فإن استرد من ذهب بلا مشقة ولا غرامة، ضمن المستأجر المتخلف. وإن لحقه غرامة ومشقة، لم يضمن، قاله الشيخ أبو عاصم العبادي. فرع لو استأجر قدرا مدة ليطبخ فيها، ثم حملها بعد المدة ليردها، فسقط الحمار فانكسرت، قال أبو عاصم: إن كان لا يستقل بحملها، فلا ضمان. وإن كان يستقل، فعليه الضمان، سواء ألزمناه الرد، أم لا، لان العادة أن القدر لا ترد بالحمار مع استقلال المستأجر أو حمال بها. المسألة الثانية: الدابة المستأجرة للحمل أو الركوب، إذا ربطها المستأجر(4/298)
ولم ينتفع بها في المدة، فالقول في استقرار الاجرة عليه، سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا ضمان عليه لو ماتت في الاصطبل. فلو انهدم عليها فهلكت به، نظر، إن كان المعهود في مثل ذلك الوقت لو خرج بها أن يكون في الطريق، وجب عليه ضمانها. وإن كان المعهود في مثل ذلك الوقت أن يكون تحت السقف، كجنح الليل في الشتاء، فلا ضمان. فصل وأما المال في يد الاجير، كالثوب إذا استؤجر لخياطته أو صبغه أو قصارته، والعبد إذا استؤجر لتعليمه أو لرضاعه، والدابة إذا استؤجر لرياضتها. فإذا تلف والاجير منفرد باليد، فهو، إما أجير مشترك، وإما منفرد. والمشترك: هو الذي يتقبل العمل في ذمته، كما هو عادة الخياطين والصواغين. فإذا التزم لواحد، أمكنه أن يلتزم لغيره مثل ذلك العمل، فكأنه مشترك بين الناس. والمنفرد: هو الذي أجر نفسه مدة مقدرة لعمل، فلا يمكنه تقبل مثل ذلك العمل لغيره في تلك المدة. وقيل: المشترك: هو الذي شاركه في الرأي فقال: اعمل في أي موضع شئت. والمنفرد: هو الذي عين عليه العمل وموضعه. أما المشترك، فهل يضمن ما تلف في يده بلا تعد ولا تقصير ؟ فيه طريقان. أصحهما: قولان. أحدهما: يضمن كالمستعير والمستام. وأظهرهما: لا يضمن كعامل القراض. والثاني: لا يضمن قطعا. وأما المنفرد، فلا يضمن على المذهب، وقطع به جماعة. أما إذا لم يكن الاجير منفردا باليد، كما إذا قعد المستأجر عنده حتى عمل، أو حمله إلى بيته ليعمل، فالمذهب وبه قطع الجمهور: لا ضمان، لان المال غير مسلم إليه حقيقة،(4/299)
وإنما استعان به المالك، كالاستعانة بالوكيل. وعن الاصطخري والطبري، طرد القولين. وحيث ضمنا الاجير، فالواجب أقصى قيمة من القبض إلى التلف، أم قيمة يوم التلف ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم هذا كله إذا لم يتعد الاجير، فإن تعدى، وجب الضمان قطعا، وذلك مثل أن يسرف على الخبز في الايقاد ويلصق الخبز قبل وقته، أو يتركه في التنور فوق العادة حتى يحترق، أو ضرب على التأديب والتعليم الصبي فمات، لان تأديبه بغير الضرب ممكن. ومتى اختلفا في التعدي ومجاوزة الحد، عملنا بقول عدلين من أهل الخبرة، فإن لم نجدهما، فالقول قول الاجير. ومتى تلف المال في يده بعد تعديه، فالواجب أقصى قيمة من وقت التعدي إلى التلف إن لم يضمن الاجير. فإن ضمناه، فأقصى قيمة من القبض إلى التلف، كذا ذكره البغوي وغيره. ويشبه أن يكون هذا جوابا على قولنا: يضمن بأقصى قيمة من القبض إلى التلف. فأما إن قلنا: يضمن قيمة يوم التلف، فينبغي أن يجب هنا أقصى قيمة من التعدي إلى التلف. قلت: هذا الاستدراك الذي ذكره الامام الرافعي، متعين لا بد منه. والله أعلم فرع قال الاصحاب: إذا حجمه أو ختنه فتلف، إن كان المحجوم والمختون حرا، فلا ضمان، لانه لا تثبت اليد عليه. وإن كان عبدا، نظر في انفراد الحاجم باليد وعدم انفراده، وأنه أجير مشترك، أم لا ؟ وحكمه ما سبق. والمذهب: أنه لا ضمان مطلقا إذا لم يفرط. وكذا البيطار إذا بزغ الدابة فتلفت، والراعي المنفرد كذلك، فلا ضمان عليهما على المذهب، ولو اكتراه ليحفظ متاعه في دكانه فتلف، فلا ضمان (قطعا)، لان المال في يد المالك. فصل إذا دفع ثوبا إلى قصار ليقصره، أو خياط ليخيطه، أو جلس بين(4/300)
يدي حلاق ليحلق رأسه، أو دلاك ليدلكه، ففعل، ولم يجر بينهما ذكر أجرة ولا نفيها، فيه أوجه. أصحها وهو المنصوص: لا أجرة له مطلقا، لانه لم يلتزم، وصار كما لو قال: أطعمني خبزا، فأطعمه، لا ضمان عليه. والثاني: يستحق أجرة المثل. والثالث: إن بدأ المعمول له فقال: افعل كذا، لزمه الاجرة. وإن بدأ العامل فقال: أعطني ثوبا لاقصره، فلا أجرة. والرابع: إن كان العامل معروفا بذلك العمل وأخذ الاجرة ذليه، استحق الاجرة للعادة، وإلا، فلا. ولو دخل سفينة بغير إذن صاحبها، وسار إلى الساحل، لزمه الاجرة. وإن كان بالاذن ولم يجر ذكر الاجرة، فعلى الاوجه. وإذا لم نوجب الاجرة، فالثوب أمانة في يد القصار ونحوه. وإن أوجبناها، فوجوب الضمان على الخلاف في الاجير المشترك. فرع فيما يأخذه الحمامي أوجه. أحدها: أنه ثمن الماء، وهو متطوع(4/301)
بحفظ الثياب وإعارة السطل، فعلى هذا، الثياب غير مضمونة على الحمامي، والسطل مضمون على الداخل. والثاني: أنه ثمن الماء وأجرة الحمام والسطل. وأصحها: أنه أجرة الحمام والسطل والازار وحفظ الثياب. وأما الماء، فغير مضبوط، ولا يقابل بعوض. فعلى هذا، السطل غير مضمون على الداخل، والحمامي أجير مشترك في الثياب، فلا يضمن على المذهب كسائر الاجراء، وإنما وجبت الاجرة هنا وإن لم يجر لها ذكر ولم يطرد فيه الخلاف، لان الداخل مستوف منفعة الحمام بسكونه، وهناك صاحب المنفعة صرفها. فصل إذا عمل الاجير، ثم تلفت العين التي عمل عليها، نظر، إن لم يكن منفردا باليد، بل عمل في ملك المستأجر، أو في حضرته، لم تسقط أجرته. وإن كان منفردا باليد، بأن سلم الثوب إلى قصار فقصره، ثم تلف عنده، بني على الخلاف السابق في باب التفليس، أن القصارة عين، أم أثر ؟ فإن قلنا: أثر، لم تسقط الاجرة، ثم إن ضمنا الاجير، فعليه قيمة ثوب مقصور، وإلا، فلا شئ عليه. وإن قلنا: عين، سقطت أجرته وعليه قيمة ثوب غير مقصور إن ضمنا الاجير أو وجد منه تعد، وإلا، فلا شئ عليه. وإن أتلف أجنبي الثوب المقصور، فإن قلنا: القصارة أثر، فللاجير الاجرة، وعلى الاجنبي القيمة. ثم المستأجر على قول تضمين الاجير، يتخير بين مطالبة الاجير والاجنبي، والقرار على الاجنبي. وإن قلنا: عين، جاء الخلاف فيما إذا أتلف أجنبي المبيع قبل القبض. فإن قلنا: ينفسخ العقد، فهو كما لو تلف، وإلا، فللمستأجر الخيار في فسخ الاجارة وإجازتها. فإن أجاز ولم يضمن الاجير، استقرت له الاجرة، والمستأجر يغرم الاجنبي قيمة ثوب مقصور. وإن ضمناه، فالمستأجر بالخيار، إن شاء ضمن الاجنبي قيمة ثوب مقصور، وإن شاء ضمن الاجنبي قيمة القصارة، والاجير قيمة ثوب غير مقصور، ثم الاجير يرجع على الاجنبي. وإن فسخ الاجارة، فلا أجرة عليه ويغرم الاجنبي قيمة ثوب غير مقصور. وإن ضمنا الاجير، غرم القيمة من شاء منهما، والقرار على الاجنبي ويغرم الاجنبي الاجير قيمة القصارة. ولو أتلف الاجير الثوب، فإن قلنا: القصارة أثر، فله الاجرة، وعليه قيمة ثوب مقصور. وإن قلنا: عين، جاء الخلاف في أن إتلاف البائع كالآفة السماوية، أم كإتلاف الاجنبي ؟ إن قلنا: كالآفة،(4/302)
فالحكم ما سبق. وإن قلنا: كالاجنبي، وأثبتنا للمستأجر الخيار، فإن فسخ الاجارة، سقطت الاجرة وعلى الاجير قيمة ثوب غير مقصور. وإن أجازها، استقرت الاجرة، وعليه قيمة ثوب مقصور. وصبغ ولثوب بصبغ صاحب الثوب كالقصار. وإن استأجره ليصبغ بصبغ من عنده، قال المتولي: هو جمع بين البيع والاجارة، ففيه الخلاف المعروف. وسواء صح، أم لم يصح، فإذا هلك الثوب عنده، سقطت قيمة الصبغ. وسقوط الاجرة على ما ذكرنا في القصارة. فرع سلم ثوبا إلى قصار ليقصره، فجحده ثم أتى به مقصورا، استحق الاجرة إن قصره ثم جحد، وإن جحد ثم قصره، فوجهان، لانه عمل لنفسه. قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: الفرق بين أن يقصد بعمله لنفسه فلا أجرة، أو يقصد عمله عن الاجارة الواجبة فيستحق الاجرة. والله أعلم فصل المستأجر يضمن بالتعدي، بأن ضرب الدابة أو كبحها فوق العادة، وعادة الضرب تختلف في حق الراكب، والرائض، والراعي، فكل يراعى فيه عادة أمثاله، ويحتمل في الاجير للرياضة والرعي ما لا يحتمل في المستأجر للركوب. وأما الضرب المعتاد، إذا أفضى إلى تلف، فلا يوجب ضمانا، ويخالف ضرب الزوج زوجته، فإنه مضمن، لانه يمكن تأديبها بغير الضرب. ولو نام بالليل في الثوب الذي استأجره، أو نقل فيه التراب، أو ألبسه عصارا، أو دباغا، أو غيرهما ممن هو دون حاله، أو أسكن الدار قصارا أو حدادا أو غيرهما ممن هو أشد ضررا منه، أو أركب الدابة أثقل منه، وجب الضمان، وقراره على(4/303)
الثاني إن كان عالما، وإلا، فعلى الاول. وإن أركبها مثله، فجاوز العادة في الضرب، فالضمان على الثاني دون الاول، لانه لم يتعد. ولو اكترى لمائة رطل حديد، فحمل مائة من القطن أو التبن، أو بالعكس، أو مائة رطل حنطة، فحمل مائة رطل شعير أو عكسه، ضمن، لان الشعير أخف، ومأخذه من ظهر الدابة أكثر، والحنطة يجتمع ثقلها في موضع واحد، وكذا القطن والحديد. ولو اكترى لعشرة أقفزة حنطة، فحمل عشرة شعيرا، لم يضمن، لان قدرهما في الحجم سواء، والشعير أخف، وبالعكس يضمن. ولو اكترى ليركب بسرج، فركب بلا شئ أو عكسه، ضمن، لان الاول أضر بالدابة، والثاني زيادة على المشروط. ولو اكترى ليحمل عليها بالاكاف، فحمل بالسرج، ضمن، لانه أشق عليها، وبالعكس لا يضمن، إلا أن يكون أثقل، ولو اكترى ليركب بالسرج، فركب بالاكاف، ضمن، وبالعكس لا يضمن، إلا أن يكون أثقل، وقس على هذا أشباهه. فرع لو اكترى دابة لحمل مقدار سمياه، فكان المحمول أكثر، نظر، إن كانت الزيادة بقدر ما يقع من التفاوت بين الكيلين من ذلك المبلغ، فلا عبرة بها، وإن كانت أكثر، بأن كان المشروط عشرة آصع، والمحمول أحد عشر، فللمسألة ثلاثة أحوال. أحدها: إذا كال المستأجر الطعام، وحمله هو عليها، فعليه أجرة المثل لما زاد على المشهور، وفي قول: عليه أجرة المثل للجميع. وفي قول: يتخير بين(4/304)
المسمى وما دخل الدابة من نقص وبين أجرة المثل. وفي قول: يتخير بين المسمى وأجرة المثل للزيادة وبين أجرة المثل للجميع. فلو تلفت البهيمة بالحمل، فإن انفراد المستأجر جاليد، ولم يكن معها صاحبها، فعليه ضمانها، لانه صار غاصبا، وإن كان معها صاحبها، فهل يلزمه كل القيمة، أم نصفها، أم قسط الزيادة من جملة القيمة ؟ فيه أقوال. أظهرها: الثالث، ورجحه الامام وغيره. وعن الشيخ أبي محمد، أن الثاني أظهر. ولو تلفت الدابة بسبب غير الحمل، ضمن عند انفراده بايد، ولم يضمن اإذا لم ينفرد. وأما اإذا لم يحمل المستأجر الطعام بنفسه، ولكنه كاله وسلمه إلى المؤجر، فحمله المؤجر على البهيمة، فإن كان المؤجر جاهلا بالحال، بأن قال له هو عشرة كاذبا، وجب الضمان على المذهب، كما لو حمل بنفسه. وقيل: قولان، لاجتماع الغرور والمباشرة. وإن كان عالما بالزيادة، نظر، إن لم يقل له المستأجر شيئا، ولكن حمله المؤجر، فحكمه ما يأتي في الحال الثاني، لانه حمل بغير إذن صاحبه، ولا فرق بين أن يضعه المستأجر على الارض فيحمله المؤجر على البهية، وبين أن يضعه على ظهر الدابة وهى واقفة فيسيرها المؤجر. وإن قال المستأجر: احمل هذه الزيادة، فأجابه، قال المتوالى: هو مستعير للبهيمة في الزيادة، فلا أجرة لها، وإذا تلفت البهيمة بالحمل ب، فعليه الضمان. وفى كلام الائمة ما ينازعه في الاجرة والضمان جميعا. الحال الثاني: إذا كال المؤجر وحمله على البهيمة، فلا أجرة لما زاد، سواء غلط أو تعمد، وسواء جهل المستأجر الزيادة أو علمها وسكت، لانه لم يأذن في نقل الزيادة، فلا يجب عليه ضمان البهيمة، وله مطالبة المؤجر برد الزيادة إلى الموضع المنقول منه، وليس للمؤجر أن يردها دون رضاه. فلو لم يعلم المستأجر حتى عاد إلى البلد المنقول منه، فله مطالبة المؤجر بردها. والاظهر أو الاصح: أن له مطالبته ببدلها في الحال، كما لو أبق المغصوب من يد الغاصب. والثاني: لا يطالبه ببدلها، لان عين ماله باقية، وردها مقدور عليه. فإذا قلنا بالاول، فعرم البدل، فإذا ردها إلى ذلك البلد، استرد البدل وردها إليه.(4/305)
أما لو كال المؤجر، وحمله المستأجر على البهيمة، قال المتولي: إن كان المؤجر عالما بالزيادة، فهو كما لو كال بنفسه وحمل، لانه لما علم بالزيادة كان من حقه أن لا يحملها. وإن كان جاهلا، فوجهان مأخوذان مما لو قدم الطعام المغصوب إلى المالك فأكله جاهلا، هل يبرأ من الضمان ؟ الحال الثالث: إذا كال أجنبي وحمل بلا إذن، فعليه أجرة الزيادة للمؤجر، وعليه الرد إلى الموضع المنقول منه إن طالبه المستأجر، وضمان البهيمة على ما ذكرناه في حق المستأجر. وان تولى الحمل بعد كيل الاجنبي أحد المتكاريين، نظر، أعالم هو، أم جاهل ؟ ويقاس بما ذكرناه. هذا كله إذا اتفقا على الزيادة، وعلى أنها للمستأجر، فإن اختلفا في أصل الزيادة، أو قدرها، فالقول قول المنكر. وإن ادعى المؤجر أن الزيادة له، والدابة في يده، فالقول قوله. وإن لم يدعها واحد منهما، تركت في يد من هي في يده حتى يظهر مستحقها، ولا يلزم المستأجر أجرتها. فرع لو وجد المحمول على الدابة دون المشروط، نظر، إن كان النقص بقدر ما يقع من التفاوت بين الكيلين، فلا عبرة به، وإن كان أكثر، قال المتولي: إن كال المؤجر، حط من الاجرة بقسطه إن لم يعلم المستأجر. فإن علم، فإن كانت الاجارة في الذمة، فكذلك، لانه لم يف بالمشروط. وإن كانت إجارة عين، فالحكم كما لو كال المستأجر بنفسه ونقص، فلا يحط شئ من الاجرة، لان التمكين من الاستيفاء قد حصل، وذلك كاف في تقرر الاجرة. فرع إكترى إثنان دابة وركباها، فارتدفهما ثالث بغير إذنهما، فتلفت، ففيما يلزم المرتدف ثلاثة أوجه. أحدها: نصف القيمة. والثاني: ثلثها. والثالث: تقسط على أوزانهم، فيلزمه حصة وزنه. قلت: أصحها: الثاني. قال الشيخ أبو حامد وغيره: لو سخر رجلا مع بهيمته، فتلفت البهيمة في يد صاحبها، لم يضمنها المسخر، لانها في يد صاحبها. والله أعلم فصل إذا دفع ثوبا إلى خياط ليقطعه ويخيطه، فخاطه قباء، ثم اختلفا،(4/306)
فقال الخياط: أمرتني بقباء، وقال: بل أمرتك بقميص، أو سود الثوب بصبغ وقال: هكذا أمرتني، فقال: بل أمرتك بصبغة أحمر، ففيه خمسة طرق. أصحها وبه قال الاكثرون: في المسألة قولان. أظهرهما عند الجمهور: أن القول قول المالك. والثاني: القول قول الخياط والصباغ. والطريق الثاني: فيه ثلاثة أقوال. هذان، والثالث: أنهما يتحالفان. والطريق الثالث: قولان. تصديق المالك، والتحالف. والرابع: القطع بالتحالف، قاله أبو علي الطبري، وصاحب التقريب، والشيخ أبو حامد. والخامس: عن ابن سريج، إن جرى بينهما عقد، تعين التحالف، وإلا، فالقولان الاولان. فإ قلنا: القول قول الخياط، فإذا حلف، لا أرش عليه قطعا، ولا أجرة له على الاصح. والثاني: يجب له المسمى إتماما لتصديقه. والثالث: أجرة المثل. فإذا قلنا: لا أجرة له بيمينه، فله أن يدعي الاجرة على المالك، ويحلفه، فإن نكل، ففي تجديد اليمين عليه وجهان. قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: التجديد، وهذه قضية مسأنفة. والله أعلم وإن قلنا: القول قول المالك. فإذا حلف، فلا أجرة عليه، ويلزم الخياط أرش النقص على المذهب. وقيل: فيه وجهان كما في وجوب الاجرة تفريعا على تصديق الخياط. والفرق على المذهب: أن القطع يوجب الضمان، إلا أن يكون بإذن، وهو غير موجب إلا بإذن. ثم في الارش الواجب وجهان. أحدهما: ما بين قيمته(4/307)
صحيحا ومقطوعا. والثاني: ما بين قيمته مقطوعا قميصا ومقطوعا قباء. وعلى هذا إن لم ينقص، فلا شئ عليه. وعلى الثاني: في استحقاقه الاجرة للقدر الذي يصلح للقميص من القطع، وجهان. قال ابن أبي هريرة: نعم، وبه قطع البغوي، وضعفه ابن الصباغ، لانه لم يقطعه للقميص. قلت: المنع أصح، ونقله صاحب البيان عن نص الشافعي رضي الله عنه. والله أعلم وإذا قلنا: يتحالفان، فحلفا، فلا أجرة للخياط قطعا، ولا أرش عليه على الاظهر. وإذا أراد الخياط نزع الخيط، لم يمكن منه حيث حكمنا (له) بالاجرة، سواء كان الخيط للمالك أو من عنده، لانه تابع للخياطة. وحيث قلنا: لا أجرة، فله نزع خيطه كالصبغ. وحينئذ لو أراد المالك أن يشد بخيطه خيطا ليدخر في الدروز إذا خرج الاول، لم يكن له إلا برضى الخياط. وأما كيفية اليمين، فقال في الشامل: إن صدقنا الخياط، حلف بالله: ما أذنت لي في قطعه قميصا، ولقد أذنت لي في قطعه قباء، قال: وإن صدقنا المالك، كفاه عندي أن يحلف: ما أذنت له في قطعه، ولا حاجة إلى التعرض، لان وجوب الغرم وسقوط الاجرة يقتضيهما نفي الاذن في القباء. وإن قلنا بالتحالف، جمع كل واحد في يمينه بين النفي والاثبات كما سبق في البيع. (قال ابن كج: والكلام في البداءة بمن ؟ هو كما سبق في البيع)، والمالك هنا في رتبة البائع. قلت: وقال الشيخ أبو حامد: إذا صدقنا الخياط، حلف: لقد أذنت لي في قطعه قباء فقط. فإن لم نثبت للخياط أجرة، فهذا أصح من قول صاحب الشامل لان هذا القدر كا ف في نفي الغرم عنه وإن اثبتناها، فقول صاحب الشامل هو الصواب. والله أعلم(4/308)
فرع قال للخياط: إن كان هذا الثوب يكفيني قميصا فاقطعه، فقطعه فلم يكفه، ضمن الارش، لان الاذن مشروط بما لم يوجد. وإن قال: هل يكفيني قميصا، فقال: نعم، فقال: أقطعه، فقطعه فلم يكفه، لم يضمن، لان الاذن مطلق. فصل اختلاف المتكاريين في الاجرة أو المدة أو قدر المنفعة، هل هي عشرة فراسخ، أم خمسة، أم كل الدار، أم بيت منها ؟ يوجب التحالف، فإذا تحالفا، فسخ العقد، وعلى المستأجر أجرة المثل لما استوفاه.
الباب الثالث : في الطوارئ الموجبة للفسخ
فالفسخ والانفساخ، يثبت بخلل يعرض في المعقود عليه، وهو ثلاثة أقسام. إحداها: ما ينقص المنفعة. ومتى ظهر بالمستأجرة نقص تتفاوت به الاجرة، فهو عيب مثبت للفسخ، وذلك كمرض العبد والدابة، وانقطاع ماء البئر وتغيره بحيث يمنع إلشرب، وانكسار دعائم الدار واعوجاجها، وانهدام بعض جدرانها، لكن لو بادر المؤجر إلى الاصلاح، وكان قابلا للاصلاح في الحال، سقط خيار المستأجر كما سبق. وسواء كان العيب سابقا للعقد أو القبض، أو حادثا في يد المستأجر. ثم إن ظهر العيب قبل مضي مدة لها أجرة، فإن شاء فسخ ولا شئ عليه، وإن شاء أجاز بجميع الاجرة. وإن ظهر في أثناء المدة، فالوجه ما ذكره المتولي وهو انه إن أراد الفسخ في جميع المدة، فهو كما لو اشترى عبدين فتلف أحدهما، ثم وجد بالباقي عيبا وأراد الفسخ فيهما. وإن أراد الفسخ فيما بقي من المدة، فهو كما لو أراد الفسخ في العبد الباقي وحده، وحكمهما مذكور في البيع. وأطلق الجمهور القول بأن له الفسخ، ولم يذكروا هذا التفصيل. ومتى امتنع الفسخ، فله الارش، فيعرف أجرة مثله سليما ومعيبا، ويعرف التفاوت بينهما. هذا كله في إجارة العين. أما إذا وجد في إجارة الذمة بالدابة المسلمة عيبا، فلا فسخ، بل يردها ويلزم المؤجر إبدالها. فصل لا تنفسخ الاجارة بالاعذار، سواء كانت إجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتا لحرفة فندم أو هلكت آلات تلك(4/309)
الحرفة، أو حماما فتعذر الوقود، وكذا لو كان العذر للمؤجر، بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وأهله مسافرون، فعادوا واحتاج إلى الدار، أو تأهل، فلا فسخ في شئ منها، إذ لا خلل في المعقود عليه. ولو اكترى أرضا للزراعة، فزرعها، فهلك الزرع بجائحة من سيل أو شدة حر أو برد أو كثر مطر ونحوها، فليس له الفسخ ولا حط شئ من الاجرة، لان الجائحة لحقت زرع المستأجر، لا منفعة الارض، فصار كما لو اكترى دكانا لبيع البز فاحترق بزه، لا تنفسخ الاجارة. فلو فسدت الارض بجائحة أبطلت قوة الانبات في مدة الاجارة، انفسخت الاجارة في المدة الباقية. ثم إن كان فساد الارض بعد فساد الزرع، فهل يسترد شيئا من الاجرة ؟ فيه احتمالان للامام. أصحهما عند الغزالي: المنع، لانه لو بقيت صلاحية الارض، لم يكن للمستأجر فيها نفع بعد فوات الزرع. والثاني وبه قطع بعض أصحاب الامام: يسترد، لان بقاء الارض على صفتها مطلوب. فإذا زال، ثبت الانفساخ. وإن كان فساد الزرع بعد فساد الارض، فأصح الاحتمالين بالاتفاق: الاسترداد. القسم الثاني: فوات المنفعة بالكلية حسا، فمن صوره موت الدابة والاجير المعين، فإن كان قبل القبض أو عقبه قبل(4/310)
مضي مدة لمثلها أجرة، انفسخ العقد. وإن كان في خلال المدة، انفسخ العقد في الباقي وفي الماضي الطريقان فيما إذا اشترى عبدين، فقبض أحدهما وتلف الثاني قبل القبض، هل ينفسخ البيع في المقبوض ؟ فإن قلنا: ينفسخ في الماضي، سقط المسمى ووجب أجرة المثل لما مضى. وإن قلنا: لا ينفسخ فيه، فهل له خيار الفسخ ؟ وجهان. أصحهما عند الامام والبغوي: لا، لان منافعه استهلكت. والثاني: نعم، وبه قطع ابن الصباغ وآرون، لان جميع المعقود عليه لم يسلم. فإن قلنا: له الفسخ، ففسخ، رجع إ لى أجرة المثل. وإن قلنا: لا فسخ، أو أجاز، وجب قسط ما مضى من المسمى، والتوزيع على قيمة المنفعة وهي أجرة المثل، لا على نفس الزمان، وذلك يختلف، فربما تزيد أجرة شهر على أجرة شهرين، لكثرة الرغبات في ذلك الشهر. وإن كدنت مدة الاجارة سنة، ومضى نصفها، وأجرة المثل فيه مثلا أجرة المثل في النصف الباقي، وجب من المسمى ثلثاه. وإن كانت بالعكس، فثلثه. وإذا أثبتنا الخيار بعيب، ففسخ العقد في المستقبل، ففي الانفساخ في الماضي الطريقان. فإن لم ينفسخ، فطريق التوزيع ما بيناه. وإن أجازه، فعليه الاجرة المسماة بتمامها، كما لو رضي بعيب المبيع، لزمه جميع الثمن. وسواء حصل التلف بآفة سماوية، أم بفعل المستأجر، بل لو قتل العبد أو الدابة المعينة، كان حكم الانفساخ والاجرة ما ذكرناه، ويلزمه قيمة ما أتلف. وعن ابن أبي هريرة: أنه تستقر عليه الاجرة المسماة بالاتلاف كما يستقر الثمن على المشتري بإتلافه. والصحيح الاول، لان البيع ورد على العين، فإذا أتلفها صار قابضا، والاجارة واردة على المنافع، ومنافع الزمن المستقبل معدومة لا يتصور ورود الاتلاف عليها، وعلى هذا لو عيب المستأجر الدار، أو جرح العبد، فهو كالتعيب بآفة سماوية في ثبوت الخيار. فرع نص أن انهدام الدار يقتضي الانفساخ، ونص فيما إذا اكترى أرضا(4/311)
للزراعة ولها ماء: معتاد فإنقطع، أن له فسخ العقد، وفيهما ثلاثة طرق. أحدها: تقرير النصين، لان الدار لم تبق دارا، والارض بقيت أرضا، ولان الارض يمكن زراعتها بالامطار. والثاني: القطع بعدم الانفساخ. وأصحها: قولان في المسألتين. أظهرهما: في الانهدام الانفساخ، وفي انقطاع الماء: ثبوت الخيار، وإنما يثبت الخيار إذا انقطعت الزراعة. فإن قال المؤجر: أنا أسوق إليها ماء من موضع آخر، سقط الخيار كما لو بادر إلى إصلاح الدار. فإن قلنا بالانفساخ، فالحكم كموت العبد، وإلا، فله الفسخ في المدة الباقية. وفي الماضي الوجهان. فإن منعناه، فعليه قسط ما مضى من المسمى، وإن أجاز، لزمه المسمى كله، وقيل يحط للانهدام وانقطاع الماء ما يخصه. فرع لو غصب العبد المستأجر أو أبق، أو ندت الدابة، فإن كانت الاجارة في الذمة، فعلى المؤجر الابدال. فإن امتنع، استؤجر عليه. وإن كانت إجارة عين، أو غصبت الدار المستأجرة، فللمستأجر الخيار. فإن كان ذلك في أثناء المدة، فإن اختار الفسخ، فسخ في الباقي. وفي الماضي الخلاف السابق. وإن لم يفسخ وكان قد استأجر مدة معلومة فانقضت، بني على الخلاف فيما إذا أتلف أجنبي المبيع قبل القبض، هل ينفسخ البيع، أم لا ؟ إن قلنا: ينفسخ، فكذلك الاجارة، ويسترد الاجرة. وإن قلنا: لا ينفسخ، فكذلك(4/312)
الاجارة، ويتخير بين أن يفسخ ويسترد الاجرة، وبين أن يجيز ويطالب الغاصب بأجرة المثل. والذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه والاصحاب، انفساخ الاجارة وإن كان البناء المذكور يقتضي ترجيح عدم الانفساخ، لكن المذهب الانفساخ. وعلى هذا، لو عاد إلى يده وقد بقي بعض المدة، فللمستأجر أن ينتفع به في الباقي، وتسقط حصة المدة الماضية، إلا إذا قلنا: إن الانفساخ في بعض المدة يوجب الانفساخ في الباقي، فليس له الانتفاع في بقية المدة. وإن كان استأجره لعمل معلوم، فله أن يستعمله فيه متى قدر عليه. وإذا بادر المؤجر إلى الانتزاع من الغاصب، ولم تتعطل منفعة على المستأجر، سقط خياره كما سبق في إصلاح الدار. فرع إذا أقر المؤجر بالمستأجرة للغاصب من المستأجر أو لغيره، ففي قبول إقراره في الرقبة قولان. أظهرهما: القبول. فإن قبلناه، ففي بطلان حق المستأجر من المنفعة أوجه. أصحها: لا يبطل. والثاني: يبطل. والثالث: إن كانت العين في يد المستأجر تركت في يده إلى انقضاء المدة. وإن كانت في يد المقر له، لم تنزع منه، فإن قلنا بالبطلان، فهل يحلف المؤجر ؟ فيه الخلاف المذكور في أن المرتهن، هل يحلف الراهن إذا أقر بالمرهون وقبلناه ؟ فرع للمؤجر مخاصمة من غصب المستأجرة أو سرقها، وليس للمستأجر المخاصمة على الاصح المنصوص كالمودع والمستعير، ويجري الوجهان في أن المرتهن هل يخاصم لان له حقا ؟
فصل الثوب المعين للخياطة، إذا تلف، ففي انفساخ العقد خلاف سبق. الاصح عند الامام وجماعة: لا ينفسخ، وعن العراقيين والشيخ أبي علي: أنه ينفسخ لتعلقه بذلك الثوب، وبه قطع ابن الحداد، وفيما إذا اكترى دواب في الذمة لحمل خمسة أعبد معينين، فمات إثنان منهم وحمل ثلاثة، فقال: له ثلاثة أخماس الكراء وسقط خمساه، والصورة فيما إذا تساوت أوزانهم، ويشهد له نص الشافعي رضي الله عنه حيث قال: إذا نكحها على خياطة ثوب معين فتلف قبل الخياطة، لها مهر المثل. قال الشيخ أبو علي: والخلاف فيما إذا ألزم ذمته خياطة(4/313)
ثوب بعينه، أو حمل متاع بعينه، أو عبد، فإن العقد وإن كان في الذمة، فمتعلق بعين الثوب والمتاع. أما إذا استأجر دابة بعينها مدة لركوب أو حمل متاع، فهلكا، فلا ينفسخ العقد، بل يجوز إبدال الراكب والمتاع بلا خلاف. فإن قلنا: لا ينفسخ، فأتى بثوب مثله، فذاك. وإن لم يأت لعجزه، أو امتنع مع القدرة حتى مضت مدة إمكان العمل، ففي استقرار الاجرة وجهان. قلت: أصحهما: لا تستقر. والله أعلم فإن قلنا: تستقر، فللمستأجر فسخ العقد على الاصح، لانه ربما لا يجد ثوبا آخر، أو لا يريد قطعه. فرع موت الصبي المعين للتعليم، كتلف الثوب المعين للخياطة، وكذا الصبي المعين للارضاع إن لم يكن ولد المرضعة. فإن كان ولدها، فخلاف مرتب، وأولى بالانفساخ، لان درور اللبن على ولدها أكثر من الاجنبي، فلا يمكن إقامة غيره مقامه. فرع لو بدأ له في قطع الثوب المعين وهو باق، قال الامام: المتجه أنه لا يجب عليه الاتيان به، لكن تستقر عليه الاجرة إذا سلم الاجير نفسه ومضى مدة إمكان العمل إن قلنا: تستقر الاجرة بتسليم الاجير نفسه وليس للاجير فسخ الاجارة، وإن قلنا: لا تستقر، فله فسخها، وليس للمستأجر الفسخ بحال، لان الاجارة لا تنفسخ بالاعذار.
فصل لا تنفسخ الاجارة بموت المتعاقدين، بل إن مات المستأجر، قام(4/314)
وارثه في استيفاء المنفعة مقامه. وإن مات المؤجر، ترك المال عند المستأجر إلى انقضاء مدة الاجارة، فإن كانت الاجارة على الذمة، فما التزمه، دين عليه. فإن كان في التركة وفاء، استؤجر منها لتوفيته، وإلا، فالواراث بالخيار، إن شاء وفاه واستحق الاجرة، وإن أعرض فللمستأجر فسخ الاجارة. ولو أوصى بداره لزيد مدة عمر زيد، فقبل الوصية، وأجرها زيد مدة، ثم مات في خلالها، انفسخت الاجارة، لانتهاء حقه بموته. فصل إذا أكرى جمالا فهرب، فتارة يهرب بها، وتارة يهرب ويتركها عند المستأجر، فإن هرب بها، نظر، فإن كانت الاجارة في الذمة، إكترى الحاكم عليه من ماله. فإن لم يجد له مالا، اقترض عليه من بيت المال أو من المستأجر أو غيره واكترى عليه. قال في الشامل: ولا يجوز أن يكل أمر الاكتراء إلى المستأجر، لانه يصير وكيلا في حق نفسه. وإن تعذر الاكتراء عليه، فللمستأجر الفسخ كما لو انقطع المسلم فيه عند المحل. فإن فسخ، فالاجرة دين في ذمة الجمال وإن لم يفسخ، فله مطالبة الجمال - إذا عاد - بما التزمه. وإن كانت إجارة عين، فللمستأجر فسخ العقد، كما أذا ندت الدابة. وأما إذا تركها عند المستأجر، فإن تبرع بالانفاق عليها، فذاك، وإلا، راجع الحاكم لينفق عليها وعلى من يقوم بتعهدها من مال المؤجر إن وجده، وإلا، استقرض عليه كما ذكرنا، ثم إن وثق بالمستأجر، سلم إليه ما اقترضه لينفق عليها، وإلا، دفعه إلى من يثق به. وإذا لم يجد مالا آخر، باع منها بقدر الحاجة لينفق عليها من ثمنه، ولا يخرج على الخلاف في بيع المستأجرة، لانه محل ضرورة، ويبقى في يد المستأجر إلى انتهاء المدة. ولو لم يقترض الحاكم من المستأجر، ولكن أذن له في الانفاق ليرجع، جاز على الاظهر، كما لو اقترض منه ثم دفعه إليه. والثاني: المنع، ويجعل متبرعا.(4/315)
وعلى الاول، لو اختلفا في قدر ما أنفق، فالصحيح: أن القول قول المنفق. وقيل: قول الجمال. قلت: قال أصحابنا: إنما يقبل قول المستأجر إذا ادعى نفقة مثله في العادة. والله أعلم. ولو أنفق المستأجر بغير إذن الحاكم مع إمكانه، لم يرجع. وإن لم يكن حاكم، فعلى ما ذكرناه في عامل المساقاة إذا هرب. قال الامام: ولو كان هناك حاكم، وعسر إثبات الواقعة عنده، فهو كما إذا لم يكن حاكم. وإذا أثبتنا الرجوع فيما إذا أنفق بغير مراجعة الحاكم، فاختلفا في قدره، فالقول قول الجمال، لان إنفاقه لم يستند إلى ائتمان من جهة الحاكم، قال: وفيه احتمال، لان الشرع سلطة عليه. وإذا انقضت مدة الاجارة ولم يعد الجمال، باع الحاكم منها ما يقضي بثمنه ما اقترضه وحفظ باقيها. وإن رأى بيعها لئلا تأكل نفسها، فعل. فصل إذا اكترى دابة أو دارا مدة، وقبضها وأمسكها حتى مضت المدة، انتهت الاجارة واستقرت الاجرة سواء انتفع بها في المدة، أم لا، وليس له الانتفاع بعد المدة، فإن فعل، لزمه أجرة المثل مع المسمى. ولو ضبضت المنفعة بالعمل دون المدة، بأن استأجر دابة ليركبها إلى بلد، أو ليحمل عليها إلى موضع معلوم، وقبضها وأمسكها عنده حتى مضت مدة يمكن فيها السير إليه، استقرت عليه الاجرة أيضا، وسواء تخلف المستأجر لعذر أم لغيره، حتى لو تخلف لخوف الطريق أو عدم الرفقة، استقرت الاجرة عليه، لان المنافع تلفت في يده، ولانه يمكنه السفر عليها إلى بلد آخر واستعمالها في البلد تلك، وليس للمستأجر فسخ العقد بهذا السبب، ولا أن يلزم المؤجر استرداد الدابة إلى تيسر الخروج، هذا في إجارة العين، فإن كانت على الذمة وسلم دابة بالوصف المشروط، فمضت المدة عند المستأجر، استقرت الاجرة أيضا، لتعين حقه بالتسليم وحصول التمكن. ولو كانت الاجارة فاسدة، استقرت فيها أجرة المثل بما يستقر به المسمى في الاجارة الصحيحة، سواء(4/316)
انتفع، أم لا، وسواء كانت أجرة المثل أقل من المسمى أو أكثر. فرع أجر الحر نفسه لعمل معلوم، وسلم نفسه، فلم يستعمله المستأجر حتى مضت المدة، أو مدة يمكن فيها ذلك العمل، استقرت الاجرة على الاصح، ويجري الخلاف فيما إذا ألزم ذمة الحر عملا، فسلم نفسه مدة إمكان ذلك العمل ولم يستعمله، وطرد المتولي الخلاف فيما إذا التزم الحر عملا في الذمة وسلم عبده ليستعمله فلم يستعمله، ووجهه بما يقتضي إثبات خلاف في كل إجارة على الذمة. ثم إن قلنا: لا تستقر، فللاجير أن يرفع الامر إلى الحاكم ليجبره على الاستعمال. فرع أكرى عينا مدة، ولم يسلمها حتى مضت المدة، انفسخت الاجارة، لفوات المعقود عليه، فلو استوفى منفعة المدة، فطريقان. أحدهما: أنه كاتلاف البائع المبيع قبل القبض. والثاني: القطع بالانفساخ. ولو أمسكها بعض المدة، ثم سلمها، انفسخت الاجارة في المدة التي تلفت منافعها. وفي الباقي الخلاف فيما إذا تلف بعض المبيع قبل القبض، فإن قلنا: لا ينفسخ، فللمستأجر الخيار، ولا يبدل زمان بزمان. ولو لم تكن المدة مقدرة، واستأجر دابة للركوب إلى بلد فلم يسلمها حتى مضت مدة يمكن فيها المضي إليه، فوجهان، أحدهما: تنفسخ الاجارة، وهو اختيار الامام. وأصحهما وبه قطع الاكثرون: لا تنفسخ، لان هذه(4/317)
الاجارة متعلقة بالمنفعة لا بالزمان، ولم يتعذر استيفاؤها. فعلى هذا، قال الاصحاب: لا خيار للمستأجر، كما لا خيار للمشتري إذا امتنع البائع من تسليم المبيع مدة ثم سلمه. وشذ الغزالي فقال في الوسيط: له الخيار، لتأخر حقه. والمعروف، ما سبق. ولو كانت الاجارة في الذمة ولم يسلم ما تستوفى المنفعة منه حتى مضت مدة يمكن فيها تحصيل تلك المنفعة، فلا فسخ ولا انفساخ بحال، لانه دين تأخر إيفاؤه. القسم الثالث: فوات المنفعة شرعا، كفواتها حسا في اقتضاء الانفساخ، لتعذر الاستيفاء، فإذا استؤجر لقلع سن وجعة، أو يد متأكلة، أو لاستيفاء قصاص في نفس أو طرف، فالاجارة صحيحة على الاصح كما سبق، فإذا زال الوجع، أو عفي عن القصاص، فقد أطلق الجمهور أن الاجارة تنفسخ، وفيه كلامان. أحدهما: أن المنفعة في هذه الاجارة مضبوطة بالعمل دون الزمان، وهو غير مأيوس منه، لاحتمال عود الوجع، فليكن زوال الوجع كغصب المستأجرة حتى يثبت خيار الفسخ دون الانفساخ. والثاني: حكى الشيخ أبو محمد وجها أن الاجارة لا تنفسخ، بل يستعمل الاجير في قلع مسمار أو وتد، ويراعى تداني العملين، وهذا ضعيف، والقوي ما قيل أن الحكم بالانفساخ جواب على أن المستوفى به لا يبدل، فإن جوزناه، أمره بقلع سن وجعة لغيره. فصل إذا آجر الوقف البطن الاول، ثم مات في أثناء المدة، فوجهان. أحدهما: تبقى الاجارة بحالها كما لو آجر ملكه فمات. وأصحهما: المنع، لان المنافع بعد موته لغيره، ولا ولاية له عليه، ولا نيابة، ثم عبارة الجمهور بالانفساخ وعدمه، ففي وجه: ينفسخ. وفي وجه: لا ينفسخ، واستبعدها الصيدلاني والامام وطائفة، لان الانفساخ يشعر بسبق الانعقاد، وجعلوا الخلاف في أنا هل نتبين البطلان لانا تبينا أنه تصرف في غير ملكه ؟ ثم إن أبقينا الاجارة، فحصة المدة الباقية من الاجرة تكون للبطن الثاني، فإن أتلفها الاول، فهي دين في تركته، وليس كما لو أجر ملكه ومات في المدة، حيث تكون جميع الاجرة تركة تقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه، لان التصرف ورد على خالص ملكه، والباقي له بعد الاجارة رقبة مسلوبة المنفعة في تلك المدة، فتنتقل خلى الوارث كذلك. وإن قلنا: لا تبقى الاجارة،(4/318)
فهل تبطل فيما مضى ؟ قال ابن الصباغ: يبنى على الخلاف في تفريق الصفقة. فإن قلنا: لا تفرق، كان للبطن الاول أجرة المثل لما مضى. أما إذا أجر الوقف متولية، فموته لا يؤثر في الاجارة على الصحيح، لانه ناظر للجميع. وقيل: تبطل الاجارة كما سيأتي في ولي الصبي إن شاء الله تعالى. فرع للولي إجارة الطفل وماله، أبا كان أو وصيا أو قيما، إذا رأى المصلحة فيها، لكن لا يجاوز مدة بلوغه بالسن. فلو أجره مدة يبلغ في أثنائها، بأن كان ابن سبع سنين، فأجره عشر سنين، فطريقان. قال الجمهور: يبطل فيما يزيد على مدة البلوغ، وفيما لا يزيد قولا تفريق الصفقة. والثاني: القطع بالبطلان في الجميع، وهو الاصح عند البغوي. قلت: واختاره أيضا ابن الصباغ. والله أعلم ويجوز أن يؤجره مدة لا يبلغ فيها بالسن وإن احتمل بلوغه بالاحتلام، لان الاصل بقاء الصبا فلو انفق في الاحتلام في اثنائها، فوجهان، اصحهما عند الصاحب ولان المهذب والروياني: بقاء الاجارة. وأصحهما عند الامام والمتولي: لا تبقى. قلت: صحح الرافعي في المحرر الثاني. والله أعلم ثم التعبير عن هذا بالانفساخ أو تبين البطلان، كما ذكرنا في مسألة الوقف.(4/319)
وإذا قلنا: لا تبقى الاجارة، جاء فيما مضى خلاف تفريق الصفقة. وإذا قلنا: تبقى، فهل له خيار الفسخ إذا بلغ ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو زوجها ثم بلغت. فرع أجر الولي مال المجنون، فأفاق في أثناء المدة، فهو كبلوغ الصبي بالاحتلام. فصل لو أجر عبده ثم أعتقه، نفذ، لان إعتاق المغصوب والآبق نافذ، فهذا أولى، ولا تنفسخ الاجارة على الصحيح، ولا خيار للعبد على الاصح، ولا يرجع على السيد بأجرة المثل للمدة الواقعة بعد العتق على الاظهر الجديد. وقيل: على الاصح. فإن قلنا: يرجع، فنفقته في تلك المدة على نفسه، لانه مالك لمنفعة نفسه. وإن قلنا: لا يرجع، فهل هي على سيده لادامة حبسه ؟ أم في بيت المال لانه حر عاجز ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. قلت: فإن قلنا: النفقة على السيد، فوجهان. أحدهما: تجب بالغة ما بلغت. وأصحهما: يجب أقل الامرين من أجرة مثله وكفايته. والله أعلم ولو ظهر بالعبد عيب بعد العتق، وفسخ المستأجر الاجارة، فالمنافع للعتيق إن قلنا: يرجع بمنافعه على السيد، وإلا، فهل هي له، أم للسيد ؟ وجهان. قلت: الاصح: كونها للعتيق. والله أعلم ولو أجر عبده ومات، وأعتقه الوارث في المدة، ففي انفساخ الاجارة ما سبق. فإن قلنا: لا انفساخ، لم يرجع هنا على المعتق بشئ بلا خلاف. ولو أجر أم ولده ومات في المدة، عتقت. وفي بطلان الاجارة، الخلاف المذكور إذا أجر البطن الاول الوقف ومات، وكذا الحكم في إجارة المعلق عتقه(4/320)
بصفة. قال البغوي: وإنما تجوز إجارته مدة لا تتحقق الصفة فيها، فإن تحققت، فهو كإجارة الصبي مدة يتحقق بلوغه فيها. قلت: هذا الذي قاله البغوي ظاهر إن منعنا بيع العين المستأجرة، فإن جوزناه فينبغي أن يقطع بجواز إجارته هنا، لانه متمكن من بيعه، وإبقاء الاجارة إلى انقضاء مدتها، بخلاف مسألة الصبي، لكن قد يقال: وإن تمكن فقد لا يفعل. والله أعلم فرع كتابة العبد المكرى جائزة عند ابن القطان، باطلة عند ابن كج. قلت: الثاني: أقوى. والله أعلم فإن جوزناها، عاد الخلاف في الخيار وفي الرجوع على السيد. قلت: ومن مسائل الفصل، ما ذكره ابن كج، وهو خارج عن القواعد السابقة: أنه لو أكرى دارا لعبد ثم قبض العبد وأعتقه، فانهدمت الدار، رجع على المعتق بقدر ما بقي في المدة من قيمة العبد. والله أعلم.
فصل إذا باع العين المستأجرة، فله حالان. الحال الاول: البيع للمستأجر، وهو صحيح قطعا. ثم في الاجارة وجهان. أحدهما: تنفسخ، قاله ابن الحداد، ويعبر عنه بأن الاجارة والملك لا يجتمعان. وأصحهما: لا تنفسخ. فعلى الاول، يرجع المستأجر على المؤجر بقية المدة على الاصح. وقال ابن الحداد: لا يرجع. ولو فسخ المستأجر البيع بعيب، لم يكن (له) الامساك بحكم الاجارة، لانها قد انفسخت بالشراء.(4/321)
ولو تلفت العين، لم يرجع على البائع بشئ، لان الاجارة غير باقية عند التلف، وعلى الوجه الثاني الاصح، وهو أن الاجارة لا تنفسخ بالشراء، ففي صورة فسخ البيع بالعيب له الامساك بحكم الاجارة، ولو فسخ عقد الاجارة، رجع على البائع بأجرة بقية المدة. وفي صورة التلف تنفسخ الاجارة بالتلف، وحكمه ما سبق، وتتخرج على الخلاف في أن الاجارة والملك هل يجتمعان ؟ مسائل. إحداها: أوصى لزيد برقبة دار، ولعمرو بمنفعتها، وأجرها لعمرو، ففي صحة الاجارة الوجهان. الثانية: مات المستأجر ووارثه، المؤجر ففي انفساخها الوجهان. الثالثة: أجر المستأجر العين المستأجرة للمالك، جاز على الصحيح المنصوص، كما يجوز أن يبيعه ما اشتراه منه، ومنعه ابن سريج، لاجتماع الملك والاجارة. الرابعة: أجر داره لابنه، ومات الاب في المدة ولا وارث له غير الابن المستأجر، وعليه ديون مستغرقة، بني أولا على أن الوارث هل يملك التركة وهناك دين مستغرق ؟ إن قلنا: لا يملك، بقيت الاجارة بحالها. وإن قلنا: يملك، وهو الصحيح، فعلى الاصح: لا تنفسخ الاجارة. وعلى قول ابن الحداد: تنفسخ، لان الملك طرأ على الاجارة. وادعى الروياني أن هذا أصح. وإذا انفسخت الاجارة، قال ابن الحداد: الابن غريم يضارب بأجرة بقية المدة للغرماء، ووافقه بعضهم، وخالفه المعتبرون، لانه خلاف ما سبق عنه في الشراء: أنه لا يرجع، وضعفوا الفرق. ولو مات الاب المؤجر عن ابنين، أحدهما المستئجر، فعلى الاصح: لا تنفسخ الاجارة في شئ من الدار، ويسكنها المستأجر إلى انقضاء المدة، ورقبتها بينهما بالارث. وقال ابن الحداد: تنفسخ الاجارة في النصف الذي يملكه(4/322)
المستأجر، وله الرجوع بنصف أجرة ما انفسخ العقد فيه، لان مقتضى الانفساخ في النصف الرجوع بنصف الاجرة، لكنه خلف ابنين والتركة في يدهما، والدين الذي يلحقها يتوزع، فيخص الراجع الربع، ويرجع بالربع على أخيه، فإن لم يترك الميت سوى الدار، بيع من نصيب الاخ المرجوع عليه بقدر ما يثبت به الرجوع، وهذا بعيد عند الائمة، لان الابن المستأجر ورث نصيبه بمنافعه، وأخوه ورث نصيبه مسلوب المنفعة، ثم قد تكون أجرة مثل الدار في تلك المدة مثلي ثمنها، فإذا رجع على الاخ بربع الاجرة، إحتاج إلى بيع نصيبه، فيكون أحدهما قد فاز بجميع نصيبه، وبيع نصيب الآخر وحده في دين الميت. قال الشيخ أبو علي: ولو لم يخلف إلا الابن المستأجر، ولا دين عليه، فلا فائدة في الانفساخ، ولا أثر له، لان الكل له، سواء (أخذ) بالارث، أو أخذ مدة الاجارة بالاجارة وبعدها بالارث، وسواء أخذ بالدين أم بالارث. فرع أجر البطن الاول الوقف للبطن الثاني، ومات المؤجر في المدة، فإن قلنا: لو أجر أجنبيا بطلت الاجارة، فهنا أولى، وإلا، فوجهان، لانه طرأ الاستحقاق في مدة الاجارة. قال الامام: وهذا أولى بارتفاع الاجارة. الحال الثاني: البيع لغير المستأجر، وهو صحيح على الاظهر عند الاكثرين. ويجري القولان سواء أذن المستأجر، أم لا. وإذا صححنا، لم(4/323)
تنفسخ الاجارة، كما لا ينفسخ النكاح ببيع المزوجة، ويترك في يد المستأجر إلى انقضاء المدة، وللمشتري فسخ البيع إن كان جاهلا. وإن كان عالما، فلا فسخ له، ولا أجرة لتلك المدة، وكذا لو كان جاهلا وأجاز، ذكره البغوي، ويشبه أن يكون على الخلاف في مدة بقاء الزرع إذا باع أرضا مزروعة. ولو وجد المستأجر به عيبا، وفسخ الاجارة، أو عرض ما تنفسخ به الاجارة بمنفعة بقية المدة، لمن يكون ؟ وجهان. قال ابن الحداد: للمشتري. وقال أبو زيد: للبائع، لان المشتري لم يملك منافع تلك المدة. وبناهما المتولي على أن الرد بالعيب يرفع العقد من أصله، أم من حينه ؟ إن قلنا بالاول، فهي للمشتري وكأن الاجارة لم تكن. وإن قلنا: من حينه، فللبائع، لانه لم يوجد عند الرد ما يوجب الحق للمشتري. قال: ولو تقايلا الاجارة، فإن قلنا: الاقالة بيع، فهي للبائع. وإن قلنا: فسخ، فكذلك على الصحيح، لانها ترفع العقد من حينها قطعا. وإذا حصل الانفساخ، رجع المستأجر بأجرة بقية المدة على البائع. قال ابن كج: ويحتمل أن يرجع على المشتري. فرع القولان في صحة بيع المستأجر يجريان في هبته، وتجوز الوصية به قطعا. فرع لو باع عينا واستثنى منفعتها لنفسه سنة أو شهرا، فطريقان. أحدهما يحكى عن ابن سريج: أنه على قولي بيع المستأجر. والمذهب: القطع ببطلان العقد.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالباب الأول إحداها: قال: ألزمت(4/324)
ذمتك نسج ثوب صفته كذا على أن تنسجه بنفسك، لم يصح العقد، لانه غرر، فأشبه السلم في شئ معين. الثانية: يصح استئجار الارض بما يستأجر به الثوب والعبد من الدراهم والطعام وما تنبت الارض وغيرها، إذا عين أو وصف. الثالثة: إذا استأجر دابة ليركبها إلى بلد بعشرة دنانير، وجب نقد بلد العقد. ولو كانت الاجارة فاسدة، فالاعتبار في أجرة المثل بموضع إتلاف المنفعة نقدا أو وزنا. الرابعة: تجوز إجارة المصحف والكتب لمطالعتها والقراءة منها. الخامسة: لا يجوز أن يستأجر بركة ليأخذ لنها السمك. فلو استأجرها ليحبس فيها الماء حتى يجتمع فيها السمك، جاز على الصحيح. السادسة: يصح من المستأجر إجارة ما استأجره بعد قبضه، سواء أجر بمثل ما استأجر، أم بأقل، أم بأكثر. وفي إجارته قبل القبض وجهان. قال ابن سريج: يجوز، والاصح: المنع. فعلى هذا، في إجارته المؤجر وجهان، كبيع المبيع للبائع قبل قبضه. قلت: الاصح: صحة إجارته للمؤجر. والله أعلم السابعة: المستعير لا يكري. فلو استعار ليكريه، لم يصح على الاصح. وقيل: يجوز كما لو استعاره ليرهنه. الثامنة: أجر ناظر المسجد حانوته الخراب، بشرط أن يعمره المستأجر بماله، ويكون ما أنفقه محسوبا من أجرته، لم تصح الاجارة، لانه عند الاجارة غير منتفع به. التاسعة: لا تجوز إجارة الحمام بشرط أن تكون مدة تعطله بسبب العمارة(4/325)
ونحوها محسوبة على المستأجر، ولا على المؤجر، لا بمعنى انحصار الاجارة في المدة في الباقي لان المدة تصير مجهولة، ولا بمعنى استيفاء مثلها بعد المدة لان آخر المدة يصير مجهولا. العاشرة: استأجره ليبيع له شيئا معينا، جاز، لان الظاهر أنه يجد راغبا، ولشراء شئ معين لا يجوز، لان رغبة مالكه في البيع غير مظنونة، ولشراء شئ موصوف يجوز، ولبيع شئ معين لا يجوز. الحادية عشرة: لو أراد استئجاره للخروج إلى بلد السلطان، والتظلم للمستأجر، وعرض حاله في المظالم، قال القفال في الفتاوى: يستأجر مدة كذا ليخرج إلى موضع كذا ويذكر حاله في المظالم ويسعى في أمره عند من يحتاج إليه، فتصح الاجارة، لان المدة معلومة وإن كان في العمل جهالة، كما لو استأجره يوما ليخاصم غرماءه، قال: ولو بدا للمستأجر، فله أن يستعمله فيما ضرره مثل ذلك. الثانية عشرة: حكى ابن كج عن نص الشافعي رضي الله عنه، أنه لا تصح إجارة الارض حتى ترى لا حائل دونها من زرع وغيره، وفي هذا تصريح بأن إجارة الارض المزروعة لا تصح، توجيها بأن الزرع يمنع رؤيتها، وفيها معنى آخر وهو تأخر التسليم والانتفاع عن العقد، ومشابهته إجارة الزمان المستقبل، ويقرب منه ما لو أجر دارا مشحونة بطعام وغيره وكان التفريغ يستدعي مدة، ورأيت للائمة فيما جمع من فتاوى القفال جوابين فيه. أحدهما: أنه إن أمكن التفريغ في مدة ليس لمثلها أجرة، صح العقد، وإلا، فلا، لانه إجارة مدة مستقبلة. والثاني: أنه إن كان يذهب في التفريغ جميع مدة الاجارة، لم يصح. وإن كان يبقى منها شئ، صح ولزم قسطه من الاجرة إذا وجد فيه التسليم. وخرجوا على(4/326)
الجوابين، ما إذا استأجر دارا ببلد آخر، فإنه لا يتأنى التسليم إلا بقطع المسافة بين البلدين، وما إذا (باع) جمدا وزنا وكان ينماع بعضه إلى أن يوزن. قلت: الصحيح من الجوابين هو الاول، بل قد تقدم في الشرط الثالث من الركن الرابع من الباب الاول وجه: أنه لا تصح إجارة المشحونة بالقماش وإن أمكن تفريغها في الحال. وتقدم هناك، أن المذهب صحة إجارة الارض المستورة بالماء للزراعة، وليس هو مخالفا للمذكور هنا، لان التعليل هناك بأن الماء من مصالحها مفقود هنا. والاصح عندي، فيما إذا استأجر دارا ببلد آخر، الصحة، وفي الجمد المنع، لامكان بيعه جزافا. والله أعلم الثالثة عشرة: إذا استأجر للخدمة، وذكر وقتها من الليل والنهار، وفصل أنواعها، صح. وإن أطلق، فقد حكي عن النص المنع، والمذهب الجواز، ويلزم ما جرت العادة به. وفصل القاضي أبو سعد بن أبي يوسف أنواعها فقال: يدخل في هذه الاجارة، غسل الثوب وخياطته، والخبز والعجن وإيقاد النار والتنور، وعلف الدابة وحلبها، وخدمة الزوجة، والغرس في الدار، وحمل الماء إلى الدار للشرب، وإلى المتوضئ للطهارة. وعن سهل الصعلوكي: أن علف الدابة وحلبها، وخدمه الزوجة، لا تدخل إلا بالتنصيص عليها، وينبغي أن يكون الحكم كذلك في خياطة الثوب وحمل الماء إلى الدار، ويجوز أن يختلف الحكم فيه بالعادة. وذكر بعض شراح المفتاح أنه ليس له إخراجه من البلدة، إلا أن يشرط عليه مسافة معلومة من كل جانب، وأن عليه المكث عنده إلى أن يفرغ من صلاة العشاء الآخرة. قلت: المختار في هذا كله، الرجوع إلى عادة الخادم في ذلك البلد وذلك الوقت، ويختلف ذلك باختلاف مراتب المستأجرين، وباختلاف الاجراء، وفي(4/327)
الذكورة والانوثة من الطرفين، وغير ذلك، فيدخل ما اقتضه العادة دون غيره. والله أعلم الرابعة عشرة: استأجره على القيام على ضيعة، قام عليها ليلا ونهارا على المعتاد. الخامسة عشرة: استأجره للخبز، بين أنه يخبز أقراصا، أو أرغفة غلاظا أو رقاقا، وأنه يخبز في تنور أو فرن، وآلات الخبز على الاجير إن كانت إجارة على الذمة، وإلا، فعلى المستأجر، وليس على الاجير إلا تسليم نفسه، والقول فيمن عليه السادسة عشرة: قال بعض شراح المفتاح: لو اكترى الحطب كالحبر في حق الوراق دابة ليركبها فرسخين، لم يجز حتى يبين شرقا أو غربا، فإذا بين فأراد العدول إلى غيرها، فللمكري منعه، لان المعين قد يكون أسهل، أو له فيه غرض، وهذا يخالف ما سبق، فليجعل وجها.
فصل في مسائل تتعلق بالباب الثاني إحداها: استأجره لعمل مدة، يكون زمن الطهارة والصلوات - فرائضها وسننها الرواتب - مستثنى، ولا ينقص من الاجرة، وسواء فيه الجمعة وغيرها. وعن ابن سريج، جواز ترك الجمعة بهذا السبب، حكاه أبو الفضل بن عبدان. والسبوت في استئجار اليهودي مستثناة إن أطرد عرفهم، قال الغزالي ف الفتاوى. الثانية: استأجر مرضعة لتعهد الصبي، فالدهن على أبيه، فإن جرى عرف البلد بخلافه، فوجهان. الثالثة: استأجره لحمل حطب إلى داره وهي ضيقة الباب، هل عليه إدخاله الدار ؟ فيه قولان للعرف، ولا يكلف صعود السطح به.(4/328)
الرابعة: استأجره لغسل ثياب معلومة، فحملها إليه حمال، فإن شرطت أجرته على أحدهما، فذاك، وإلا، فعلى الغسال، لانه من تمام الغسل. الخامسة: استأجره لقطع أشجار بقرية، لم تجب عليه أجرة الذهاب والمجئ، لانهما ليسا من العمل، ذكر هذه المسائل الاربع أبو عاصم العبادي. السادسة: إستأجر دابة ليركبها ويحمل عليها كذا رطلا، فركب وحمل وأخذ في السير، فأراد المؤجر أن يعلق عليها مخلاة أو سفرة أو نحوهما من قدام القتب أو من خلفه، أو أن يردف معه رديفا، فللمستأجر منعه. السابعة: إستأجر دابة ليركبها إلى موضع معلوم، فركبها (إليه)، فعن صاحب التقريب أن له أن يردها إلى الموضع الذي سار منه، إلا أن ينهاه صاحبها. وقال الاكثرون: ليس له ردها، بل يسلمها إلى وكيل المالك إن كان، وإلا، فإلى الحاكم هناك. فإن لم يكن حاكم، فإلى أمين، فإن لم يجد أمينا، ردها أو استصحبها إلى حيث يذهب، كالمودع يسافر بالوديعة للضرورة. وإذا جاز له الرد، لم يجز له الركوب، بل يسوقها أو يقودها، إلا أن يكون بها جماح لاتنقاد إلا بالركوب، وبمثله لو استعار للركوب إليه. قال العبادي: له الركوب في الرد، لان الرد لازم له، فالاذن تناوله بالعرف، والمستأجر لا رد عليه. الثامنة: إستأجر دابة للركوب إلى مكان، فجاوزه، لزمه المسمى للمكان، وأجرة المثل للزيادة، ويصير ضامنا من وقت المجاوزة. فإن ماتت، لزمه أقصى القيم من حينئذ إن لم يكن معها صاحبها، ولا يبرأ عن الضمان بردها إلى ذلك الموضع. وإن كان معها صاحبها، فإن تلفت بعدما نزل وسلمها إليه، فلا ضمان عليه. وإن تلفت وهو راكب، نظر، إن تلفت بالوقوع في بئر ونحوه، ضمن جميع القيمة. وإن لم يحدث سبب ظاهر، فقيل: تلزم كل القيمة أيضا، والاصح: لا يلزمه الكل جل النصف في قول. ومقتضى التوزيع عل المسافتين في قول كما سبق، فيما إذا حمل أكثر من(4/329)
المشروط، لان الظاهر حصول التلف بكثرة التعب وتعاقب السير. حتى لو قام في المقصد قدر ما يزول فيه التعب، ثم خرج بغير إذن المالك، ضمن الكل. وإذا استأجر ليركب ويعود، فلا يلزمه لما جاوز أجرة المثل، لانه يستحق قطع قدر تلك المسافة ذهابا ورجوعا، بناء على أن يجوز العدول إلى مثل الطريق المعين. قلت: ولا يجوز أن يركبها بعد المجاوزة جميع الطريق راجعا، بل يركبها بقدر تمام مسافة الرجوع. والله أعلم ثم إن قدر في هذه الاجارة مدة مقامه في المقصد، فذاك، وإلا، فإن لم يزد على مدة المسافرين، انتفع بها في الرجوع. وإن زاد، حسبت الزيادة عليه. التاسعة: إستأجر دابة للركوب إلى عشرة فراسخ، فقطع نصف المسافة، ثم رجع لاخذ شئ نسيه راكبا، انتهت الاجارة واستقر جميع الاجرة، لان الطريق لا تتعين، وكذا لو أخذ الدابة وأمسكها يوما في البيت ثم خرج، فإذا بقي بينه وبين المقصد يوم، استقرت الاجرة، ولم يجز له الركوب بعده، وكذا لو ذهب في الطريق لاستقاء ماء أو شراء شئ يمينا وشمالا، كان محسوبا من المدة، ويترك الانتفاع إذا قرب من المقصد بقدره. العاشرة: دفع إليه ثوبا ليقصره بأجرة، ثم استرجعه، فقال: لم أقصره بعد، فلا أرده، فقال صاحب الثوب: لا أريد أن تقصره فأردده إلي، فلم يرد وتلف الثوب عنده، لزمه ضمانه. وإن قصره ورده، فلا أجرة له، وعلى هذا قياس الغزل عند النساج ونظائره. قلت: صورة المسألة، إذا لم يقع عقد صحيح. والله أعلم الحادية عشرة: استأجره ليكتب صكا في هذا البياض، فكتبه خطأ، فعليه نقصان الكاغد، وكذا لو أمره أن يكتب بالعربية فكتب بالعجمية أو بالعكس. قلت: ولا أجرة له، ويقرب منه ما ذكره الغزالي في الفتاوى: أنه لو استأجره لنسخ كتاب، فغير ترتيب الابواب، قال: إن أمكن بناء بعض المكتوب بأن كان عشرة أبواب، فكتب الباب الاول آخرا منفصلا، بحيث يبنى عليه، استحق بقسطه من الاجرة وإلا، فلا شئ له. والله أعلم(4/330)
الثانية عشرة: استأجر دابة لحمل الحنطة من موضع كذا إلى داره يوما إلى الليل مترددا مرات، فركبها في عوده، فعطبت الدابة، ضمن على الاصح، لانه استأجرها للحمل لا للركوب. وقيل: لا يضمن، للعر ف، ذكرهما العبادي. الثالثة عشرة: العامل في المزارعة الصحيحة، لو ترك السقي متعمدا، ففسد الزرع، ضمن، لانه في يده وعليه حفظه. الرابعة عشرة: تعدى المستأجر بالحمل على الدابة، فقرح ظهرها وهلكت منه، لزمه الضمان وإن كان الهلاك بعد الرد إلى المالك.
فصل في مسائل تتعلق بالباب الثالث إحداها: في المنثور للمزني، أنه لو استأجر لخياطة ثوب، فخاطه بعضه، واحترق الثوب، استحق الاجرة لما عمل. وإن قلنا: ينفسخ العقد، استحق أجرة المثل، وإلا، فقسط المسمى. ولو استأجره لحمل جرة إلى موضع، فزلق في الطريق فإنكسرت، لا شئ له من الاجرة. والفرق أن الخياطة تظهر على الثوب، فوقع العمل مسلما بظهور أثره، والحمل لا يظهر على الجرة. الثانية: أجر أرضا فغرقت بسيل أو ماء نبع منها، فإن لم يتوقع الخسارة في مدة الاجارة، فهو كانهدام الدار. وإن توقع، فللمستأجر الخيار كما لو غصبت. فإن أجاز، سقط من الاجرة بقدر ما كان الماء عليها. وإن غرق نصفها وقد مضى نصف المدة، انفسخ العقد فيه. والمذهب: أنه لا ينفسخ في الباقي، بل له الخيار فيه في بقية المدة. فإن فسخ وكانت أجرة المدة لا تتفاوت، فعليه نصف المسمى للمدة الماضية. وإن أجاز، فعليه ثلاثة أرباع المسمى، فالنصف للماضي، والربع للباقي.(4/331)
الثالثة: تعطل الرحى لانقطاع الماء، والحمام لخلل في الابنية، أو لنقص الماء في بئره ونحوه، كانهدام الدار، وكذا لو استأجر قناة فإنقطع ماؤها. فلو نقص، ثبت الخيار ولم ينفسخ. ولو استأجر طاحونتين متقابلتين، فنقص الماء، وبقي ماء تدور به إحداهما ولم يفسخ، قال العبادي: تلزمه أجرة أكثرهما. الرابعة: قال في التتمة: لو دفع غزلا إلى نساج واستأجره لنسج ثوب طوله عشرة في عرض معلوم، فجاء بالثوب وطوله أحد عشر، لا يستحق شيئا من الاجرة، وإن جاء به وطوله تسعة، فإن كان طول السدى عشرة، استحق من الاجرة بقدره، لانه لو أراد أن ينسج عشرة لتمكن منه. وإن كان طوله تسعة، لم يستحق شيئا، لمخالفته. ولو كان الغزل المدفوع إليه مسدى، استأجره كما ذكرنا، ودفع إليه من اللحمة ما يحتاج إليه، فجاء به أطول في العرض المشروط، لم يستحق للزيادة شيئا. وإن جاء به أقصر في العرض المشروط، استحق بقدره من الاجرة. وإن وافق في الطول، وخالف في العرض، فإن كان أنقص، نظر، إن كان ذلك لمجاوزته القدر المشروط من الصفاقة، لم يستحق شيئا من الاجرة، لانه مفرط لمخالفته. وإن راعى المشروط في صفة الثوب رقة وصفاقة، فله الاجرة، لان الخلل والحالة هذه من السدى. وإن كان زائدا، فإن أخذ بالصفاقة، لم يستحق شيئا، وإلا، استحق الاجرة بتمامها، لانه زاد خيرا. الخامسة: مهما ثبت الخيار لنقص، فأجاز، ثم أراد الفسخ، فإن كان (ذلك) السبب بحيث لا يرجى زواله، بأن انقطع الماء، ولم يتوقع عوده، فليس له الفسخ، لانه عيب واحد وقد رضي به. وإن كان بحيث يرجى زواله، فله الفسخ ما لم يزل، لان الضرر يتجدد، كما لو تركت المطالبة بعد مدة الايلاء، أو الفسخ بعد ثبوت الاعسار، فلها العود إليه. وكذا لو اشترى عبدا فأبق قبل القبض وأجاز، ثم أراد الفسخ، فله ذلك ما لم يعد العبد. فصل لو أراد المستأجر أن يستبدل عن المنفعة، فان كانت الاجارة في الذمة، لم يجز. وإن كانت إجارة عين، قال البغوي: هو كما لو أجر العين المستأجرة للمؤجر، وفيه وجهان. أصحهما: الجواز وإن جرى بعد القبض. فصل لو ضمن رجل العهدة للمستأجر، ففي الفتاوى أنه يصح ويرجع(4/332)
عليه عند ظهور الاستحقاق. وعن ابن سريج: أنه لا يصح. قلت: ومما يتعلق بكتاب الاجارة، مسائل. إحداها: إذا توجه الحبس على الاجير، قال الغزالي في الفتاوى: إن أمكن العمل في الحبس، جمع بينهما. وإن تعذر، فإن كانت الاجارة على العين، قدم حق المستأجر كما يقدم حق المرتهن، ولان العمل مقصود في نفسه، والحبس ليس مقصودا في نفسه، ثم القاضي يستوثق (عليه مدة العمل) إن خاف هربه على ما يراه. وإن كانت الاجارة في الذمة، طولب بتحصيله بغيره. فإن امتنع، حبس بالحقين. الثانية: لا يلزم المؤجر أن يدفع عن العين المستأجرة الحريق والنهب وغيرهما، وإنما عليه تسليم العين ورد الاجرة إن تعذر الاستيفاء. وأما المستأجر، فإن قدر على ذلك من غير خطر، لزمه كالمودع. الثالثة: إذا وقعت الدار على متاع المستأجر، فلا شئ على المؤجر، ولا أجرة تخليصه. الرابعة: استأجره لبناء درجة، فلما فرغ منها انهدمت في الحال، فهذا قد يكون لفساد الآلة، وقد يكون لفساد العمل، والرجوع فيه إلى أهل العرف. فإن قالوا: هذه الآلة قابلة للعمل المحكم وهو المقصر، لزمه غرامة ما تلف. الخامسة: إذا جعل غلة في المسجد وأغلقه، لزمه أجرته، لانه كما يضمن المسجد بالاتلاف يضمن منفعته، ذكر هذه المسائل الخمس الغزالي في الفتاوى، وتقييده في المسجد بما إذا أغلقه، لا حاجة إليه، بل لو لم يغلقه، ينبغي أن تجب الاجرة، للعلة المذكورة. السادسة: استأجر بهيمة إلى بلد لحمل متاع، ثم أراد في أثناء الطريق بيعه والرجوع، وطلب رد بعض الاجرة، فليس له شئ، لان الاجارة عقد لازم، بل إن باعه، فله حمل مثله إلى المقصد المسمى. السابعة: في فتاوى القاضي حسين: أنه لو أكره الامام رجلا على غسل(4/333)
ميت، فلا أجرة له، لان غسله فرض كفاية، فإذا فعله بأمر الامام، وقع عن الفرض، ولو أكرهه بعض الرعية، لزمه أجرة المثلانه مما يستأجر عليه، هذا كلام القاضي حسين، ووافقه جماعة. قال إمام الحرمين: هذا إذا لم يكن للميت تركة، ولا في بيت المال سعة. فإن كان له تركة، فمؤنة تجهيزه في تركته، وإلا، ففي بيت المال إن اتسع، فيستحق المكره الاجرة. قال الرافعي في أوائل كتاب السير: هذا التفصيل حسن، فيحمل عليه إطلاقهم. الثامنة: أجرت نفسها للارضاع، هل عليها الفطر في رمضان إذا احتاج الرضيع إليه ؟ فيه كلام سبق واضحا في كتاب الصيام. التاسعة: استأجر ابنة الذي بلغ سنا يعمل مثله فيه ليسقط نفقته عن نفسه عليه وينفق عليه من أجرته، جاز، كما يشتري ماله، ذكره في فتاوى القاضي حسين. والله أعلم(4/334)
كتاب الجعالة
هي أن يقول: من رد عبدي الآبق، أو دابتي الضالة، ونحو ذلك، فله كذا، وهي عقد صحيح للحاجة، وأركانه أربعة.
أحدها : الصيغة الدالة على الاذن في العمل بعوض يلتزمه، فلو رد آبقا أو ضالة بغير إذن مالكها، فلا شئ له، سواء كان الراد معروفا برد الضوال، أم لا.(4/335)
ولو قال لزيد: رد آبقي ولك دينار، فرده عمرو، لم يستحق شيئا، لانه لم يشرط له. ولو رده عبد زيد، استحق زيد لان يد عبده يده. ولو قال: من رده فله كذا، فرده من لم يبلغه نداؤه، لم يستحق شيئا، لانه متبرع. فإن قصد التعوض لاعتقاده أن مثل هذا العمل لا يحبط، لم يستحق شيئا على المذهب، ولا أثر لاعتقاده. وعن الشيخ أبي محمد، تردد فيه. ولو عين رجلا فقال: إن رده زيد فله كذا، فرده زيد غير عالم بإذنه، لم يستحق شيئا. ولو أذن في الرد ولم يشرط عوضا، فلا شئ للراد على المذهب وظاهر النص، وفيه الخلاف السابق فيمن قال: اغسل ثوبي ولم يسم عوضا. فصل لا يشترط أن يكون الملتزم من يقع العمل في ملكه. فلو قال غير المالك: من رد عبد فلان فله كذا، استحقه الراد على القائل. ولو قال فضولي: قال فلان من رد عبدي فله كذا، لم يستحق الراد على الفضولي شيئا، لانه لم يلتزم. وأما المالك، فإن كذب الفضولي عليه، فلا شئ عليه. وإن صدق، قال البغوي: يستحق عليه. وكأن هذا فيما إذا كان المخبر ممن يعتمد قوله، وإلا، فهو كما لو رد غير عالم بإذنه. قلت: لو شهد الفضولي على المالك بإذنه، قال: فينبغي أن لا تقبل شهادته، لانه متهم في ترويج قوله. وأما قول صاحب البيان: مقتضى المذهب قبولها، فلا يوافق عليه. والله أعلم فرع سواء في صيغة المالك قوله: من رد عبدي، وقوله: إن رده إنسان، أو إن رددته، أو رده ولك كذا.
الركن الثاني : المتعاملان. فأما ملتزم الجعل، فيشترط أن يكون مطلق التصرف. وأما العامل، فيجوز أن يكون شخصا معينا، وجماعة، ويجوز أن لا(4/336)
يكون معينا ولا معينين، وقد سبق بيانه في الركن الاول. ثم إذا لم يكن العامل معينا، فلا يتصور قبول العقد وإن كان لم يشترط قبوله، كذا قاله الاصحاب، وهو المذهب. وقال الامام: لا يمتنع أن يكون كالوكيل في القبول، ويشترط عند التعيين أهلية العمل في العامل.
الركن الثالث : العمل، فما لا تجوز الاجارة عليه من الاعمال لكونه مجهولا، تجوز الجعالة عليه للحاجة، وما جازت الاجارة عليه، جازت الجعالة أيضا على الصحيح. وقيل: لا، للاستغناء بالاجارة. ولو قال: من رد مالي فله كذا، فرده من كان في يده، نظر، إن كان في رده كلفة كالآبق، استحق الجعل. وإن لم يكن، كالدراهم والدنانير، فلا، لان ما لا كلفة فيه لا يقابل بالعوض. ولو قال: من دلني على مالي فله كذا، فدله من المال في يده، لم يستحق شيئا، لان ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا. وان كان في يد غيره، فدله عليه، استحق، لان الغالب أنه يلحقه مشقة بالبحث عنه. وما يعتبر في العمل لجواز الاجارة، يعتبر في الجعالة، سوى كونه معلوما. قلت: فمن ذلك أنه لو قال: من أخبرني بكذا، فأخبره به إنسان، فلا شئ له، لانه لا يحتاج فيه إلى عمل، كذا صرح به البغوي وغيره. والله أعلم(4/337)
الركن الرابع : الجعل المشروط، وشرطه أن يكون معلوما كالاجرة، لعدم الضرورة إلى جهالته. فإن شرط مجهولا، بأن قال: من رد آبقي فله ثوب أو دابة، أو إن رددته فعلي أن أرضيك أو أعطيك شيئا، فسد العقد. وإذا رد، استحق أجرة المثل، وكذا لو جعل الجعل خمرا أو خنزيرا. ولو جعل الجعل ثوبا مغصوبا، قال الامام: يحتمل أن يكون فيه قولان كما لو جعل المغصوب صداقا، فيرجع في قول بأجرة المثل، وفي قول بقيمة المسمى. قال: ويحتمل القطع بأجرة المثل. ولو قال: من رد عبدي فله سلبه أو ثيابه، قال المتولي: إن كانت معلومة، أو وصفها بما يفيد العلم، استحق الراد المشروط، وإلا، فأجرة المثل. ولو قال: فله نصفه أو ربعه، فقد صححه المتولي، ومنعه أبو الفرج السرخسي. فصل لو قال: من رد لي عبدي من بلد كذا فله دينار، بني على الخلاف في صحة الجعالة في العمل المعلوم، فإن صححناها، فمن رده من نصف الطريق، استحق نصف الجعل، ومن رده من ثلثه، استحق الثلث. وإن رده من مكان أبعد، لم يستحق زيادة. ولو قال: من رد لي عبدين فله كذا، فرد أحدهما، استحق نصف الجعل. ولو قال: إن رددتما عبدي فلكما كذا، فرده أحدهما، استحق النصف، لانه لم يلتزم له أكثر من ذلك. وإن قال: إن رددتما لي عبدين، فرد أحدهما أحدهما، استحق الربع. فصل قال: من رد عبدي فله دينار، فاشترك جماعة، فالدينار مشترك بينهم. ولو قال لجماعة: إن رددتموه، فردوه، فكذلك، ويقسم بينهم على الرؤوس. ولو قال لزيد: إن رددته فلك دينار، فرده هو وغيره، فلا شئ لذلك الغير، لانه لم يلتزم له. وأما زيد، فإن قصد الغير معاونته إما بعوض وإما مجانا،(4/338)
فله تمام الجعل، ولا شئ للغير على زيد، إلا أن يلتزم له أجرة ويستعين به. وإن قال: عملت للمالك، لم يكن لزيد جميع الدينار، بل له نصفه على الصحيح الذي قاله الاصحاب. ورأى الامام التوزيع على العمل أرجح. ولو شاركه إثنان في الرد، فإن قصدا إعانة زيت، فله تمام الجعل، وإن قصدا العمل للمالك، فله ثلثه. وإن قصد أحدهما إعانته، والآخر العمل للمالك، فله الثلثان. فان قيل: هل للعامل المعين أن يوكل بالرد غيره كما يستعين به ؟ وهل إذا كان النداء عاما يجوز أن يوكل من سمعه غيره في الرد ؟ قلنا: يشبه أن يكون الاول كتوكيل الوكيل، والثاني كالتوكيل بالاحتطاب والاستقاء. قلت: ولو قال: أول من يرد آبقي فله دينار، فرده إثنان، استحقا الدينار، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في آخر الطرف الثالث من الباب السادس في تعليق الطلاق. والله علم فرع قال لرجل: إن رددته فلك كذا، ولآخر: إن رددته فلك كذا، ولثالث: إن رددته فلك كذا، فاشتركوا في الرد، قال الشافعي رضي الله عنه: لكل واحد ثلث ما جعل له، اتفقت الاجعال أم اختلفت. قال المسعودي: هذا إذا عمل كل منهم لنفسه. أما لو قال أحدهم: أعنت صاحبي عملت لهما، فلا شئ له، ولكل منهما نصف ما شرط له. ولو قال إثنان: عملنا لصاحبنا، فلا شئ لهما، وله جميع المشروط. وقول الشافعي رضي الله عنه: لكل واحد الثلث، تصريح بالتوزيع على الرؤوس، فلو رده إثنان منهم، فلكل منهما نصف المشروط له، وإن أعان الثلاثة رابع في الرد، فلا شئ له. ثم إن قال: قصدت العمل للمالك، فلكل واحد من الثلاثة ربع المشروط له. وإن قال: أعنتهم جميعا، فلكل واحد منهم ثلث المشروط له كما لو لم يكن معهم غيرهم. وإن قال: أعنت فلانا، فله نصف(4/339)
المشروط له، ولكل واحد من الآخرين ربع المشروط له. وعلى هذا القياس لو قال: أعنت فلانا وفلانا، فلكل واحد منهما ربع المشروط له وثمنه، وللثالث ربع المشروط له. ولو قال لواحد: إن رددته فلك دينار، وقال لآخر: إن رددته فلك ثوب، فرداه، فللاول نصف دينار، وللثاني نصف أجرة المثل. قلت: ولو قال المعين للثلاثة مثلا في الصورة السابقة: أردت أن آخذ الجعل من المالك، لم يستحق شيئا، وكان لكل من الثلاثة ربع المشروط له. والله علم.
فصل في أحكام الجعالة فمنها : الجواز، فلكل واحد من المالك والعامل فسخها قبل تمجم العمل، فأما بعد تمام العمل، فلا أثر للفسخ، لان الدين لزم. ثم إن اتفق الفسخ قبل الشروع في العمل، فلا شئ للعامل. وإن كان بعده، فان فسخ العامل، فلا شئ له، لانه امتنع باختياره ولم يحصل غرض المالك. وإن فسخ المالك، فوجهان. أحدهما: لا شئ للعامل كما لو فسخ بنفسه. والصحيح، أنه يستحق أجرة المثل لما عمل، وبهذا قطع الجمهور، وعبروا عنه بأنه ليس له الفسخ حتى يضمن للعامل أجرة مثل ما عمل. ولو عمل العامل شيئا بعد الفسخ، لم يستحق شيئا إن علم بالفسخ. فان لم يعلم، بني على الخلاف في نفوذ عزل الوكيل في غيبته قبل علمه. فرع تنفسخ الجعالة بالموت، ولا شئ للعامل لما عمله بعد موت المالك. فلو قطع بعض المسافة، ثم مات المالك فرده إلى وارثه، استحق من المسمى بقدر عمله في الحياة. فرع ومن أحكامها: جواز الزيادة والنقص في الجعل، وتغير جنسه قبل الشروع في العمل. فلو قال: من رد عبدي، فله عشرة. ثم قال: من رده فله(4/340)
خمسة أو بالعكس، فالاعتبار بالنداء الاخير. والمذكور فيه هو الذي يستحقه الراد، لكن لو لم يسمع الراد النداء الاخير، قال الغزالي: يحتمل أن يقال: يرجع إلى أجرة المثل. وأما بعد الشروع في العمل، ففي كلام صاحب المهذب وغيره تقييد جواز الزيادة والنقص بما قبل العمل، وفي كلام الغزالي قبل الفراغ. فالظاهر، أنه في أثناء العمل يؤثر في الرجوع إلى أجرة المثل، لان النداء الاخير فسخ للاول، والفسخ في أثناء العمل يقتضي أجرة المثل. فرع ومن أحكامها، توقف استحقاق الجعل على تمام الجعل على تمام العمل. فلو سعى في طلب الآبق، فرده فمات في باب دار المالك قبل أن يسلمه إليه، أو هرب، أو عضب، أو تركه العامل فرجع، فلا شئ للعامل، لانه لم يرد. قلت: ومنه لو خاط نصف الثوب فاحترق، أو تركه، أو بنى بعض الحائط فانهدم، أو تركه، فلا شئ للعامل، قاله أصحابنا. والله أعلم فرع إذا رد الآبق، لم يكن له حبسه لاستيفاء الجعل، لان الاستحقاق بالتسليم، ولاحبس قبل الاستحقاق. فرع قال: إن علمت هذا الصبي، أو إن علمتني القرآن، فلك كذا، فعلمه البعض، وامتنع من تعليم الباقي، فلا شئ له، وكذا إن كان الصبي بليدا لا يتعلم، لانه كمن طلب العبد فلم يجده. ولو مات الصبي في أثناء التعليم، استحق أجرة ما علمه، لوقوعه مسلما بالتعليم، بخلاف رد الآبق، وإن منعه أبوه من التعلم فله أجرة المثل لما علمه.(4/341)
فصل إذا جاء بآبق وطلب الجعل، فقال المالك: ما شرطت جعلا، أو شرطته على عبد آخر، أو ما سعيت في رده بل هو جاء بنفسه، فالقول قول المالك، لان الاصل عدم الشرط وبراءته. ولو اختلفا في قدر المشروط، تحالفا، وللعامل أجرة المثل. وكذا لو قال المالك: شرطته على رد عبدين، فقال الراد: بل الذي رددته فقط. فرع قال: من رد عبدي إلى شهر، فله كذا، قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، لان تقدير المدة يخل بمقصود العقد، فربما لا يجده فيها فيضيع عمله ولا يحصل غرض المالك، كما لا يجوز تقدير مدة القراض. فرع قال: بع عبدي هذا، أو إعمل كذا، ولك عشرة دراهم، ففي بعض التصانيف أنه إن كان العمل مضبطا مقدرا، فهو إجارة. وإن احتاج إلى تردد، أو كان غير مضبوط، فهو جعالة. فرع لم أجده مسطورا يد العامل على ما يقع في يده إلى أن يرده يد أمانة. فلو رفع يده عن الدابة وخلاها في مضيعة، فهو تقصير مضمن، ونفقة العبد والدابة مدة الرد، يجوز أن تكون كما ذكرنا في مستأجر الجمال إذا هرب الجمال وخلاها عنده، ويجوز أن يقال: ذاك للضرورة، وهنا أثبت العامل يده مختارا، فليتكلف المؤنة، ويؤيد هذا العادة. قلت: عجب قول الامام الرافعي في نفقة المردود: لا أعلمه مسطورا، وأنه يحتمل أمرين، وهذا قد ذكره القاضي ابن كج في كتابه التجريد وهو كثير النقل عنه، فقال: إذا أنفق عليه الراد، فهو متبرع عندنا. وهذا الذي قاله، ظاهر جار على القواعد. وقول الرافعي: وخلاها في مضيعة، لا حاجة إلى التقييد بالمضيعة، فحيث خلاها، يضمن. والله أعلم فرع قال: إن أخبرتني بخروج زيد من البلد، فلك كذا، فأخبره، ففي فتاوى القفال: أنه إن كان له غر ض في خروجه، استحق، وإلا، فلا، وهذا(4/342)
يقتضي كونه صادقا، وينبغي أن ينظر، هل يناله تعب، أم لا ؟ قلت: ومما يتعلق بالباب، وتدعو إليه الحاجة، ما ذكره القاضي حسين وغيره، وهو مما لا خلاف فيه، أنه لو كان رجلان في بادية ونحوها، فمرض أحدهما، وعجز عن السير، لزم الآخر المقام معه، إلا أن يخاف على نفسه، فله تركه. وإذا أقام، فلا أجرة له. وإذا مات، أخذ هذا الرجل ماله وأوصله إلى ورثته، ولا يكون مضمونا، قال القاضي: وكذا لو غشي عليه، قال: وأما وجوب أخذ هذا المال، فإن كان أمينا، ففيه قولان كاللقطة. وعندي، أن المذهب هنا الوجوب. ومنها: ما ذكره ابن كج، قال: إذا وجدنا عبيدا أبقوا، فالمذهب أن الحاكم يحبسهم انتظارا لصاحبهم. فان لم يجئ لهم صاحب، باعهم الحاكم وحفظ ثمنهم. فإذا جاء صاحبهم، فليس له غير الثمن. وإذا سرق الآبق، قطع كغيره. والله علم(4/343)
كتاب إحياء الموات
إحياء الموات مستحب، وفيه ثلاثة أبواب.
الباب الأول : في رقاب الأرضين، وهي قسمان.
أحدهما : أرض الاسلام، ولها ثلاثة أحوال. أحدها: أن لا تكون معمورة في الحال، ولا من قبل، فيجوز تملكها بالاحياء، سواء أذن فيه الامام، أم لا، ويكفي فيه إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاحاديث المشهورة، ويختص ذلك بالمسلمين. فلو أحياها الذمي بغير إذن الامام، لم يملك قطعا، ولو أحيا بإذنه، لم يملك أيضا على الاصح، وقال الاستاذ أبو طاهر: يملك. فإذا قلنا بالصحيح، فكان له فيها عين مال، نقلها. فإن بقي بعد النقل أثر عمارة، قال ابن كج: إن أحياء رجل باذن الامام، ملكه، وإن لم يأذن، فوجهان. قلت: لعل أصحهما: الملك، إذ لا أثر لفعل الذمي. والله علم.(4/344)
ولو ترك العمارة متبرعا، تولى الامام أخذ غلتها وصرفها في مصالح المسلمين، ولم يجز لاحد تملكها. فرع للذمي الاصطياد والاحتطاب والاحتشاش في دار الاسلام، لان ذلك يخلف، ولا يتضرر به المسلمون، بخلاف الارض، وكذا للذمي نقل التراب من موات دار الاسلام إذا لم يتضرر به المسلمون. فرع المستأمن كالذمي في الاحياء وفي الاحتطاب ونحوه، و الحربي ممنوع من جميع ذلك. الحال الثاني: أن تكون معمورة في الحال، فهي لملاكها، ولا مدخل فيها للاحياء. الحال الثالث: أن لا تكون معمورة في الحال وكانت معمورة قبل، فإن عرف مالكها، فهي له أو لوارثه، ولا تملك بالعمارة. وإن لم يعرف، نظر، إن كانت عمارة إسلامية، فهي لمسلم أو لذمي، وحكمها حكم الاموال الضائعة. قال الامام: والامر فيه إلى رأي الامام. فإن رأى حفظه إلى أن يظهر مالكه، فعل، وإن رأى بيعه وحفظ ثمنه، فعل، وله أن يستقرضه على بيت المال. هذا هو المذهب، وفيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا.(4/345)
وإن كانت عمارة جاهلية، فقولان. ويقال: وجهان. أحدهما: لا تملك بالاحياء، لانها ليست بموات. وأظهرهما: تملك كالركاز. وقال ابن سريج وغيره: إن بقي أثر العمارة أو كان معمورا في جاهلية قريبة، لم تملك بالاحياء، وإن اندرست بالكلية وتقادم عهدها، ملكت. ثم إن البغوي وآخرين عمموا هذا الخلاف، وفرعوا على المنع أنها إن أخذت بقتال فهي للغانمين، وإلا، فهي أرض للفيئ، قال الامام: موضع الخلاف إذا لم يعلم كيفية استيلاء المسلمين عليه ودخوله تحت يدهم، فأما إن علم، فإن حصلت بقتال، فللغانمين، وإلا، ففئ، وحصة الغانمين تلتحق بملك المسلم الذي لا يعرف. وطرد جماعة الخلاف، فيما إذا كانت العمارة الاسلامية ولم يعرف مالكها، وقالوا: هي كلقطة لا يعرف مالكها. والجمهور فرقوابين الجاهلية والاسلامية كما سبق.
القسم الثاني : أرض بلاد الكفار، ولها ثلاثة أحوال. أحدها: أن تكون معمورة، فلا مدخل للاحياء فيها، بل هي كسائر أموالهم فإذا استولينا عليها بقتال أو غيره، لم يخف حكمه. الحال الثاني: أن لا تكون معمورة في الحال ولا من قبل، فيتملكها الكفار بالاحياء. وأما المسلمون، فينظر، إن كان مواتا لا يذبون المسلمين عنه، فلهم تملكه بالاحياء، ولا يملك بالاستيلاء، لانه غير مملوك لهم حتى يملك عليهم. وإن ذبوا عنه المسلمين، لم يملك بالاحياء كالمعمور من بلادهم. فان استولينا عليه، ففيه أوجه. أصحها: أنه يفيد اختصاصا كاختصاص المتحجر، لان(4/346)
الاستيلاء أبلغ منه. وعلى هذا فسيأتي إن شاء الله تعالى خلاف في أن التحجر (هل) يفيد جواز البيع ؟ إن قلنا: نعم، فهو غنيمة كالمعمور. وإن قلنا: لا، وهو الاصح، فالغانمون أحق بإحياء أربعة أخماسه، وأهل الخمس أحق بحياء خمسه. فإن أعرض الغانمون عن إحيائه، فأهل الخمس أحق به. ولو أعرض بعض الغانمين، فالباقون أحق. وإن تركه الغانمون وأهل الخمس جميعا، ملكه من أحياه من المسلمين. قلت: في تصور إعراض اليتامى والمساكين وابن السبيل، إشكال، فيصور في اليتامى أن أولياءهم لم يروا لهم حظا في الاحياء، ونحوه في الباقين. والله أعلم والوجه الثاني: أنهم يملكونه بالاستيلاء كالمعمور. والوجه الثالث: لا يفيد ملكا ولا اختصاصا، بل هو كموات دار الاسلام، من أحياه ملكه. الحال الثالث: أن لا تكون معمورة في الحال وكانت معمورة، فإن عرف مالكها، فكالمعمورة، وإلا، ففيه طريقة الخلاف وطريقة ابن سريج السابقتان في القسم الاول. فرع إذا فتحنا بلدة صلحا على أن تكون لنا ويسكنوا بجزية، فالمعمور منها فئ، ومواتها الذي كانوا يذبون عنه، هل يكون متحجرا لاهل الفئ ؟ وجهان. أصحهما: نعم. فعلى هذا، هو فئ في احال، أم يحبسه الامام لهم ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وإن صالحناهم على أن تكون البلدة لهم، فالمعمور لهم، والموا ت يختصون بإحيائه تبعا للمعمور، وعن القاضي أبي حامد وصاحب(4/347)
التقريب: أنه إنما يجب علينا الامتناع عن مواتها إذا شرطناه في الصلح، والاول أصح. فرع قال البغوي: البيع التي للنصارى في دار الاسلام، لا تملك عليهم. فإن فنوا، فهو كما لو مات ذمي ولا وارث له، فتكون فيئا. فرع حريم المعمور لا يملك بالاحياء، لان مالك المعمور يستحق مرافقة، وهل نقول: إنه يملك تلك المواضع ؟ وجهان. أحدهما: لا، لان الملك بالاحياء ولم يحيها، وأصحهما: نعم، كما يملك عرصة الدار ببناء الدار، ولان الاحياء تارة يكون بجعله معمورا، وتارة بجعله تبعا للمعمور. ولو باع حريم ملكه دون الملك، لم يصح، قاله أبو عاصم، كما لو باع شرب الارض وحده. قال: ولو حفر اثنان بئرا على أن يكون نفس البئر لاحدهما وحريمها للآخر، لم يصح وكان الحريم لصاحب البئر، وللآخر أجرة عمله. فرع في بيان الحريم وهو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع، كالطريق ومسيل الماء ونحوهما، وفيه صور. إحداها: ذكرنا في الحال الثالث: إذا صالحنا الكفار على بلدة، لم يجز إحياء مواتها الذي يذبون عنه على الاصح، فهو من حريم تلك البلدة ومرافقها. الثانية: حريم القرى المحياة: ما حولها من مجتمع أهل النادي، ومرتكض الخل، ومناخ الابل، ومطرح الرماد والسماد، وسائر ما يعد من مرافقها. وأما مرعى البهائم، فقال الامام: إن بعد عن القرية، لم يكن من حريمها. وإن قرب ولم يستقل مرعى، ولكن كانت البهائم ترعى فيه الخوف من الابعاد،(4/348)
فعن الشيخ أبي علي، خلاف فيه، والاصح عند الامام: أنه ليس بحريم. وأما ما يستقل مرعى وهو قريب، فينبغي أن يقطع بأنه حريم. وقال البغوي: مرعى البهائم حريم للقرية مطلقا. فرع المحتطب كالمرعى. الثالثة: حريم الدار في الموات: مطرح التراب والرماد والكناسات والثلج، والممر في الصوب الذي فتح إليه الباب، وليس المراد منه استحقاق الممر في قبالة الباب على امتداد الموات، بل يجوز لغيره إحياء ما في قبالة الباب إذا أبقي الممر له، فان احتاج إلى انعطاف وازورار، فعل. فرع عد جماعة منهم ابن كج فناء الدار من حريمها. وقال ابن الصباغ: عندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم. فلو أراد محي أن يبني بجنبها، لم يلزمه أن يبعد عن فنائها، لكن يمنع مما يضر الحيطان كحفر بئر بقربها. الرابعة: البئر المحفورة في الموات، حريمها الموضع الذي يقف فيه(4/349)
النازح، وموضع الدولاب ومتردد البهيمة إن كان الاستقاء بهما، ومصب الماء، والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزروع من حوض ونحوه، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه، وكل ذلك غير محدود، وإنما هو بحسب الحاجة، كذا قاله الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم. وفي وجه: حريم البئر: قدر عمقها من كل جانب، ولم ير الشافعي رضي الله عنه التحديد، وحمل اختلاف روايات الحديث في التحديد، على اختلاف القدر المحتاج إليه. وبهذا يقاس حريم النهر المحفور في الموات. وأما القناة فأبارها لا يستقى منها حتى يعتبر به الحريم، فحريمها: القدر الذي لو حفر فيه لنقص ماؤها، أو خيف منه انهيار وانكباس، ويختلف ذلك بصلابة الارض ورخاوتها. وفي وجه: أن حريمها حريم البئر التي يستقى منها، ولا يمنع من الحفر إذا جاوزه وإن نقص الماء، وبهذا الوجه قطع الشيخ أبو حامد ومن تابعه. والقائلون به، قالوا: لو جاء آخر وتنحى عن المواضع المعدودة حريما، وحفر بئرا ينقص ماء الاول، لم يمنع منه، وهو خارج عن حريم البئر. والاصح: أنه ليس لغيره الحفر حيث ينقص ماءها، كماليس لغيره التصرف قريبا من بنائه بما يضر به، بخلاف ما إذا حفر بئرا في ملكه، فحفر جاره بئرا في ملكه فنقص ماء الاول، فانه يجوز. قال ابن الصباغ: والفرق أن الحفر في الموات ابتداء تملك، فلا يمكن منه إذا تضرر الغير، وهنا كل واحد متصرف في ملكه. وعلى هذا، فذلك الموضع داخل في حريم البئر أيضا. واعلم أن ما حكمنا بكونه حريما، فذلك إذا انتهى الموات إليه. فان كان هناك ملك قبل تمام حد الحريم، فالحريم إلى حيث ينتهي الموات. فرع كل ما ذكرناه في حريم الاملاك، مفروض فيما إذا كان الملك محفوفا بالموات، أو متاخما له من بعض الجوانب. فأما الدار الملاصقة للدار، فلا حريم لها، لان الاملاك متعارضة، وليس جعل موضع حريما لدار، أولى من جعله حريما لاخرى، وكل واحد من الملاك يتصرف في ملكه على العادة، ولا ضمان عليه إن أقضى إلى تلف. فإن تعدى، ضمن. والقول في تصرف المالكين المتجاوزين(4/350)
بما يجوز وما لا يجوز، وبماذا يتعلق الضمان، منه ما سبق في كتاب الصلح، ومنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في خلال الديات. فرع لو اتخذ داره المحفوفة بالمساكن حماما، أو اصطبلا، أو طاحونة، أو حانوته في صف العطارين حانوت حداد أو قصار على خلاف العادة، ففيه وجهان. أحدهما: يمنع، للاضرار. وأصحهما: الجواز، لانه متصرف في خالص ملكه، وفي منعه إضرار به. وهذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده، فإن فعل ما الغالب فيه ظهور الخلل في حيطان الجار، فالاصح: المنع، وذلك مثل أن يدق الشئ في داره دقا عنيفا تتزعزع منه الحيطان، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر منه النداوة إلى حيطان الجار. ولو اتخذ داره مدبغة، أو حانوته مخبزة حيث لا يعتاد، فان قلنا: لا يمنع في الصورة السابقة، فهنا أولى، وإلا ففيه تردد للشيخ أبي محمد. واختار الروياني في كل هذا، أن يجتهد الحاكم فيها، ويمنع إن ظهر له التعنت وقصد الفساد. قال: وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر. فرع لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر جاره، فهو مكروه، لكن لا يمنع منه، ولا ضمان عليه بسببه على الصحيح، وخالف فيه القفال. فرع لا يمنع من إحياء ما وراء الحريم، قرب، أم بعد، وسواء أحياه أهل العمران، أم غيرهم. فرع موات الحرم يملك بالاحياء، كما أن معموره يملك بالبيع والهبة. وهل تملك أرض عرفات بالاحياء كسائر البقاع، أم لا، لتعلق حق الوقوف بها ؟ وجهان. إن قلنا: تملك، ففي بقاء حق الوقوف فيما ملك وجهان. إن قلنا: يبقى، فذاك مع اتساع الباقي، أم بشرط ضيقه على الحجيج ؟ وجهان. واختار(4/351)
الغزالي، الفرق بين أن يضيق الموقف فيمنع، أو، لا، فلا. والاصح: المنع مطلقا، وهو أشبه بالمذهب، وبه قطع المتولي، وشبهها بما تعلق به حق المسلمين عموما وخصوصا، كالمساجد والطرق والرباطات، ومصلى العيد خارج البلد. قلت: وينبغي أن يكون الحكم في أرض منى ومزدلفة، كعرفات، لوجود المعنى. والله علم.
فصل الشارع في إحياء الموات متحجر ما لم يتمه، وكذا إذا أعلم عليه علامة للعمارة، من نصب أحجار، أو غرز خشبات، أو قصبات، أو جمع تراب، أو خط خطوط، وذلك لا يفيد الملك، بل يجعله أحق به من غيره. وحكى ابن القطان وجها: أنه يملك به، وهو شاذ ضعيف، والتفريع على الصحيح. قلت: قال أصحابنا: إذا مات المتحجر، انتقل حقه إلى ورثته. ولو نقله إلى غيره، صار الثاني أحق به. والله أعلم وينبغي للمتحجر أن لا يزيد على قدر كفايته، وأن لا يتحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته. فإن خالف، قال المتولي: فلغيره أن يحيي ما زاد على كفايته، وما زاد على ما يمكنه بعمارته. وقال غيره: لا يصح تحجره أصلا، لان ذلك القدر غير متعين. قلت: قول المتولي أقوى. والله أعلم وينبغي أن يشتغل بالعمارة عقيب التحجر. فان طالت المدة ولم يحي، قال له(4/352)
السلطان: أحي أو ارفع يدك عنه. فان ذكر عذرا واستمهله، أمهله مدة قريبة يستعد فيها للعمارة. والنظر في تقديرها إلى رأي السلطان، ولا تتقدر بثلاثة أيام على الاصح، فإذا مضت ولم يشتغل بالعمارة، بطل حقه. وليس لطول المدة الواقعة بعد التحجر حد معين، وإنما الرجوع فيه إلى العادة. قال الامام: وحق المتحجر يبطل بطول الزمان وتركه العمارة وإن لم يرفع الامر إلى السلطان ولم يخاطبه بشئ، لان التحجر ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر عن التحجر إلا بقدر تهيئة أسبابها، ولهذا لا يصح تحجر من لا يقدر على تهيئة الاسبا ب، كمن يتحجر ليعمر في السنة القابلة، وكفقير يتحجر ليعمر إذا قدر، فوجب إذا أخر وطال أن يعود مواتا كما كان، هذا كلام الامام. وحكى الشيخ أبو حامد مثله عن أبي إسحق، ثم قال: عندي أنه لا يبطل إلا بالرفع إلى السلطان ومخاطبته. فرع لو بادر أجنبي قبل أن يبطل حق المتحجر، فأحيا ما تحجره، ملكه المحيي على الاصح المنصوص، لانه حقق سبب الملك وإن كان ظالما، كما لو دخل في سوم أخيه واشترى. والثاني: لا يملك، لئلا يبطل حق غيره. والثالث: أنه إن انضم إلى التحجر إقطاع السلطان، لم يملك المحيي، وإلا، فيملك. والرابع: إن أخذ المتحجر في العمارة، لم يملك المبادر، وإلا، فيملك. وشبهوا المسألة الخلاف فيما إذا عشش الطائر في ملكه وأخذ الفرخ غيره، هل يملكه ؟ قلت: والاصح أيضا أنه يملكه. وكذا لو توحل ظبي في أرضه، أو وقع الثلج فيها، ونحو ذلك، وقد سبقت مسائل تتعلق بهذا في كتاب الصيد. والله أعلم فرلو باع المتحجر ما تحجره، وقلنا بالصحيح: إنه لا يملك، لم يصح بيعه عند الجمهور. وقال أبو إسحق وغيره: يصح، وكأنه يبيع حق الاختصاص. وعلى هذا لو باع فأحياه في يد المشتري رجل، وقلنا: يملك، فهل يسقط الثمن، أم لا، لحصول التلف بعد القبض ؟ وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. وإذا قلنا: لا يصح البيع، فأحياه المشتري قبل(4/353)
الحكم بفسخ البيع، فهل يكون له، أم للبائع ؟ فيه وجهان حكاهما الشاشي، والصحيح: الاول. والله أعلم فرع لا قطاع الامام مدخل في الموات، وفائدته مصير المقطع أحق باحيائه كالمتحجر. وإذا طالت المدة، أو أحياه غيره، فالحكم كما سبق في المتحجر، ولا يقطع إلا لمن يقدر على الاحياء، وبقدر ما يقدر عليه.
فصل في بيان الإحياء
قال الاصحاب: المعتبر ما يعد إحياء في العرف، ويختلف باختلاف يقصد به. وتفصيله بمسائل. إحداها: إذا أراد المسكن، اشترط التحويط بالآجر أو اللبن أو الطين أو القصب أو الخشب بحسب العادة، ويشترط أيضا تسقيف البعض ونصب الباب على الصحيح فيهما. الثانية: إذا أراد زريبة للدواب، أو حضيرة فيها الثمار أو يجمع فيها الحطب أو الحشيش، اشترط التحويط، ولا يكفي نصب سعف وأحجار من غير بناء، لان المتملك لا يقتصر على مثله في العادة، وإنما يفعله المجتاز. ولو حوط البناء في طرف، واقتصر للباقي على نصب الاحجار والسعف، حكى الامام عن القاضي، أنه (يكفي)، وعن شيخه: المنع. ولا يشترط التسقيف هنا. وفي تعليق الباب، الخلاف السابق. أحدها: جمع التراب. الثالثة: إذا أراد مزرعة، اشترط أمور حواليه لينفصل المحيا عن غيره. وفي معناه: نصب قصب وحجر وشوك، ولا حاجة إلى التحويط. وقال الشيخ أبو حامد: عندي إذا(4/354)
صارت الارض مزرعة بماء سيق إليها، فقد تم الاحياء وإن لم يجمع التراب حولها. الثاني: تسوية الارض بطم المنخفض وكسح المستعلي وحراثتها وتليين ترابها، فان لم يتيسر ذلك إلا بماء يساق إليها، فلا بد منه لتتهيأ للزراعة. الثالث: ترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر، أو بحفر بئر أو قناة وسقيها، هل يشترط ذلك ؟ أطلق جماعة اشتراطه، والاصح ما ذكره ابن كج وغيره: أن الارض إن كانت بحيث يكفي لزراعتها ماء السماء، لم يشترط السقي وترتيب ماء على الصحيح. وإن كانت تحتاج إلى ماء يساق إليها، اشترط تهيئة ماء من عين أو بئر أو غيرهما. وإذا هيأه، نظر، إن حفر له الطريق ولم يبق إلا إجراء الماء، كفى، ولم يشترط الاجراء، ولا سقي الارض. وإن لم يحفر بعد، فوجهان. وأما أرض الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليها ولا يصيبها إلا ماء السماء، فمال صاحب التقريب إلى أنه لا مدخل للاحياء فيها، وبه قال القفال وبنى عليه: أما إذا وجدنا شيئا من تلك الارض في يد إنسان، لم نحكم بأنه ملكه، ولا نجوز بيعه وإجارته. ومن الاصحاب من قال: يملك بالحراثة وجمع التراب على الاطراف، واختاره القاضي حسين. ولا تشترط الزراعة، لحصول الملك في المزرعة على الاصح، لانها استيفاء منفعة وهو خارج عن الاحياء، وكما لا يشترط في الدار أن يسكنها. المسألة الرابعة: إذا أراد بستانا أو كرما، فلا بد من التحويط، والرجوع فيما يحوط به إلى العادة، قاله ابن كج. وقال: فان كانت عادة البلد بناء جدار، اشترط البناء. وإن كان عادتهم التحويط بالقصب والشوك وربما تركوه أيضا كما في البصرة وقزوين، اعتبرت عادتهم، وحينئذ يكفي جمع التراب حواليه كالمزرعة. والقول في سوق الماء إليه كما سبق في المزرعة. ويعتبر غرس الاشجار على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: لا يعتبر إذا لم يعتبر الزرع في المزرعة. والفرق عل المذهب، أن اسم المزرعة يقع على الارض قبل الزرع، بخلاف البستان قبل الغرس، ولان الغرس يدوم فألحق بأبنية الدار، بخلاف الزرع.(4/355)
فرع طرق الاصحاب متفقة على أن الاحياء يختلف باختلاف ما يقصده المحيي من مسكن وحظيرة وغير هما. وذكر الامام شيئين. أحدهما: أن القصد إلى الاحياء هل يعتبر لحصول الملك ؟ فقال: ما لا يفعله في العادة إلا المتملك كبناء الدار واتخاذ البستان، يفيد الملك وإن لم يوجد قصد. وما يفعله المتملك وغيره، كحفر البئر في الموات، وكزراعة قطعة من الموات اعتمادا على ماء السماء، إن انضم إليه قصد، أفاد الملك، وإلا، فوجهان. وما لا يكتفي به المتملك، كتسوية موضع النزول، وتنقيته عن الحجارة، لا يفيد الملك. وإن قصده شبه ذلك بالاصطياد بنصب الاحبولة في مدارج الصيود يفيد ملك الصيد. وإغلاق الباب إذا دخل الصيد الدار على قصد التملك، يفيد الملك. ودونه وجهان. وتوحل الصيد في أرضه التي سقاها، لا يفيد الملك وإن قصده. الشئ الثاني: إذا قصد نوعا وأتي بما يقصد به نوع آخر، أفاد الملك، حتى إذا حوط البقعة يملكها وإن قصد المسكن، لانه مما يملك به الزريبة لو قصدها. قال الامام الرافعي رحمه الله تعالى: أما الكلام الاول، فمقبول لا يلزم (منه) مخالفة الاصحاب، بل إن قصد شيئا اعتبرنا في كل مقصود ما فصلوه، وإلا، نظرنا فيما أتى به وحكمنا بما ذكره. وأما الثاني، فمخالفته لما ذكره الاصحاب صريحة، لما فيه من الاكتفاء بأدنى العمارات أبدا. فرع إذا حفر بئرا في الموات للتملك، لم يحصل الاحياء ما لم يصل إلى الماء. وإذا وصل، كفى إن كانت الارض صلبة، وإلا، فيشترط أن تطوى. وقال الامام: لا حاجة إليه. وفي حفر القناة، يتم الاحياء بخروج الماء وجريانه. ولو حفر نهرا ليجري الماء فيه على قصد التملك، فإذا انتهى رأس النهر الذي يحفره إلى النهر القديم، وجرى الماء فيه، ملكه، كذا قاله البغوي وغيره. وفي التتمة: أن الملك لا يتوقف على إجراء الماء فيه، لانه استيفاء منفعة كالسكون في الدار. قلت: هذا الثاني، أقوى. والله أعلم(4/356)
فصل في الحمى هو أن يحمي بقعة من الموات لمواش بعينها، ويمنع سائر الناس الرعي فيها، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمي لخاصة نفسة، ولكنه لم يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما حمى النقيع لا بل الصدقة ونعم الجزية وخيل المجاهدين. قلت: النقيع بالنون عند الجمهور، وهو الصواب. وقيل: بالباء الموحدة، وبقيع الغرقد بالباء قطعا. والله أعلم وأما غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليس للآحاد الحمى قطعا، ولا للائمة لانفسهم، وفي حماهم لمصالح المسلمين، قولان. أظهرهما: الجواز. وقيل: يجوز قطعا. فإذا جوزناه، فهل يختص بالامام الاعظم، أم يجوز أيضا لولاته في النواحي ؟ وجهان حكاهما ابن كج وغيره. أصحهما: الثاني. وسواء حمى لخيل المجاهدين، أم لنعم الجزية والصدقة، والضوال، ومال الضعفاء عن الابعاد في طلب النجعة، ثم لا يحمي إلا الاقل الذي لا يبين ضرره على الناس ولا يضيق الامر عليهم، ثم ما حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نص فلا ينقض ولا يغير بحال، هذا هو المذهب. وقيل: إن بقيت الحاجة التي حمى لها، لم يغير. وإن زالت، فوجهان. أصحهما: المنع، لانه تغيير المقطوع بصحته باجتهاد. وأما حمى غيره - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ظهرت المصلحة في تغييره، جاز نقضه ورده إلى ما كان على الاظهر رعاية للمصلحة. وفي قول: لا يجوز كالمقبرة والمسجد. وقيل: يجوز للحامي نقض حماه، ولا يجوز لمن بعده من الائمة، وإذا جوزنا نقضه، فأحياه رجل باذن الامام، ملكه وكان الاذن في الاحياء نقضا. وإن استقل المحيي، فوجهان. ويقال: قولان منصوصان. أصحهما: المنع، لما فيه من الاعتراض على تصرف الامام وحكمه.(4/357)
قلت: بقيت من الحمى مسائل مهمة. منها: لو غرس أو بنى أو زرع في النقيع، نقضت عمارته، وقلع زرعه وغرسه، ذكره القاضي أبو حامد في جامعه. منها: أن الحمى ينبغي أن يكون عليه حفاظ من جهة الامام أو نائبه، وأن يمنع أهل القوة من إدخال مواشيهم، لا يمنع الضعفاء، ويأمره الامام بالتلطف بالضعفاء من أهل , الماشية، كما فعل عمر رضي الله عنه. قال القاضي أبو حامد: فان كان للامام ماشية لنفسه، لم يدخلها الحمى، لانه من أهل القوة. فان فعل فقد ظلم المسلمين. ومنها: لو دخل الحمى من هو من أهل القوة، فرعى ماشيته، قال أبو حامد: فلا شئ عليه، ولا غرم ولا تعرير، ولكن يمنع من الرعي، ونقل ابن كج أيضا عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه لا غرم عليه، وليس هذا مخالفا لما ذكرناه في كتاب الحج، أن من أتلف شيئا من شجر النقيع أو حشيشه ضمنه على الاصح. ومنها: أن عامل الصدقات إذا كان يجمعها في بلد، هل له أن يحمي موضعا لا يتضرر به أهل البلد ليرعاها فيه ؟ قال أبو حامد: قيل: له ذلك، ولم يذكر خلافه. وقال ابن كج: إن منعنا حمى الامام، فذا أولى، وإلا، فقولان. ومنها: لا يجوز للامام أن يحمي الماء المعد لشرب خيل الجهاد وإبل الصدقة والجزية وغيرها بلا خلاف، ذكره الشيخ نصر في تهذيبه. قال أصحابنا: إذا حمى الامام، وقلنا: لا يجوز حماه، فهو على أصل الاباحة، من أحياه، ملكه. ومنها: أنه يحرم على الامام وغيره من الولاة أن يأخذ من أصحاب المواشي عوضا عن الرعي في الحمى أو الموات، وهذا لا خلاف فيه، وقد نص عليه الماوردي في الاحكام وقاله آخرون. والله أعلم(4/358)
الباب الثاني : في المنافع المشتركة وغيرها بقاع الارض إما مملوكة، وإما محبوسة على الحقوق العامة كالشوارع والمساجد والمقابر والرباطات، وإما منفكة عن الحقوق العامة والخاصة، وهي الموات. أما المملوكة، فمنفعتها تتبع الرقبة. وأما الشوارع، فمنفعتها الاصلية: الطروق. ويجوز الوقوف والجلوس فيها لغرض الاستراحة والمعاملة ونحوهما، بشرط أن لا يضيق على المارة، سواء أذن فيه الامام، أم لا، وله أن يظلل على موضع جلوسه بما لا يضر بالمارة من ثوب وبارية ونحوهما. وفي بناء الدكة، ما ذكرناه في كتاب الصلح. ولو سبق اثنان إلى موضع، فهل يقرع بينهما، أم يقدم الامام أحدهما ؟ وجهان. أصحهما: الاول. وفي ثبوت هذا الارتفاق لاهل الذمة وجهان حكاهما ابن كج، وهل لاقطاع فيه مدخل ؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: نعم، وهو المنصوص، لان له نظرا فيه، ولهذا يزعج من أضر جلوسه. وأما إذا تملك شئ من ذلك، فلا سبيل إليه بحال. وحكي وجه في الرقم للعبادي، وشرح مختصر الجويني لابن طاهر، أن للامام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق، والمعروف الاول.(4/359)
قلت: وليس للامام ولا غيره من الولاة أن يأخذ ممن يرتفق بالجلوس والبيع ونحوه في الشوارع عوضا بلا خلاف. والله علم فرع من جلس في موضع من الشارع، ثم قام عنه، إن كان جلوسه لاستراحة وشبهها، بطل حقه. وإن كان لحرفة ومعاملة، فان فارقه على أن لا يعود لتركه الحرفة، أو لقعوده في موضع آخر، بطل حقه أيضا. وإن فارقه على أن يعود فالمذهب ما ضبطه الامام والغزالي: أنه إن مضى زمن ينقطع فيه الذين ألفوا معاملته، بطل. وإن كان دونه، فلا. وسواء فارق بعذر سفر ومرض، أو بلا عذر، فعلى هذا لا يبطل حقه بالرجوع في الليل إلى بيته، وليس لغيره مزاحمته في اليوم(4/360)
الثاني، وكذا الاسواق التي تقام في كل أسبوع، أو في كل شهر مرة، إذا اتخذ فيها مقعدا، كان أحق به في النوبة الثانية. وقال الاصطخري: إذا رجع ليلا، فمن سبقه أحق. وقال طائفة منهم القاضي وابن الصباغ: إن جلس باقطاع الامام، لم يبطل بقيامه. وإن استقل وترك فيه شيئا من متاعه، بقي حقه، وإلا، فلا. وإذا قلنا بالاول، فأراد غيره الجلوس فيه مدة غيبته القصيرة إلى أن يعود، فان كان لغير معاملة، لم يمنع قطعا، وإلا، لم يمنع أيضا على الاصح. قلت: وإذا وضع الناس الامتعة وآلات البناء ونحو ذلك في مسالك الاسواق والشوارع ارتفاقا لينقلوها شيئا بعد شئ، منعوا منه إن أضر بالمارة إضرارا ظاهرا، وإلا، فلا، ذكره الماوردي في الاحكام السلطانية. والله أعلم فرع يختص الجالس أيضا بما حوله بقدر ما يحتاج إليه لوضع متاعه ووقوف معامليه، وليس لغيره أن يقعد حيث يمنع رؤية متاعه أو وصول المعاملين إليه، أو يضيق عليه الكيل أو الوزن والاخذ والعطاء. قلت: وليس له منع من قعد لبيع مثل متاعه إذا لم يزاحمه فيما يختص به من المرافق المذكورة. والله أعلم فرع الجوال الذي يقعد كل يوم في موضع من السوق، يبطل حقه بمفارقته.
فصل وأما المسجد، فالجلوس فيه يكون لاغراض. منها: أن يجلس ليقرأ عليه القرآن أو الحديث أو الفقه ونحوها، أو ليستفتى. قال أبو عاصم العبادي والغزالي: حكمه كمقاعد الاسواق، لان له غرضا في ملازمته ذلك الموضع ليألفه الناس. وقال الماوردي: متى قام بطل حقه وكان السابق أحق به، والاول أشبه بمأخذ الباب. قلت: هذا المنقول عن الماوردي، حكاه في الاحكام السلطانية عن(4/361)
جمهور الفقهاء. وعن مالك رضي الله عنه: أنه أحق، فمقتضى كلامه: أن الشافعي وأصحابه، من الجمهور رضي الله عنهم. والله أعلم ومنها: أن يجلس للصلاة، فلا اختصاص له في صلاة أخرى. وأما الصلاة الحاضرة، فهو أحق. فان فارق بغير عذر، بطل حقه فيها أيضا. وإن كان بعذر، فإن فارق لقضاء حاجة، أو تجديد وضوء، أو رعاف، أو إجابة داع ونحوها، لم يبطل اختصاصه على الصحيح، للحديث الصحيح، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قام أحدكم من مجلسه - في المسجد - فهو أحق به إذا عاد إليه، ولا فرق على الوجهين بين أن يترك إزاره، أم لا، ولا بين أن يطرأ العذر بعد الشروع في الصلاة، أو قبله، وإن اتسع الوقت. ومنها: الجلوس للبيع والشراء والحرفة، وهو ممنوع منه. قلت: ومنها: الجلوس للاعتكاف، وينبغي أن يقال: له الاختصاص بموضعه ما لم يخرج من المسجد إن كان اعتكافا مطلقا. وإن نوى إعتكاف أيام، فخرج لحاجة جائزة، ففي بقاء اختصاصه إذا رجع احتمال، والظاهر بقاؤه، ويحتمل أن يكون على الخلاف فيما إذا خرج المصلي لعذر. ومنها: الجالس لاستماع الحديث والوعظ، والظاهر أنه كالصلاة فلا يختص فيما سوى ذلك المجلس ولا فيه إن فارقه بلا عذر، ويختص إن فارق بعذر على المختار. ويحتمل أن يقال: إن كان له عادة بالجلوس بقرب كبير المجلس، وينتفع الحاضرون بقربه منه لعلمه ونحو ذلك، دام اختصاصه في كل مجلس بكل حال. وأما مجلس الفقيه في موضع معين حال تدريس المدرس في المدرسة أو المسجد،(4/362)
فالظاهر فيه دوام الاختصاص، لاطراد العرف، وفيه احتمال. والله أعلم فرع يمنع الناس من استطراق حلق القراء والفقهاء في المسجد توقيرا لها. فرع قال الامام: لا شك في انقطاع تصرف الامام وإقطاعه عن بقاع المسجد، فإن المساجد لله تعالى، ويخدشه شيئان. أحدهما: ذكر الماوردي، أن الترتب في المسجد للتدريس والفتوى كالترتب للامامة، فلا يعتبر إذن الامام في مساجد المحال، ويعتبر في الجوامع وكبار المساجد إذا كانت عاد البلد فيه الاستئذان، فجعل لاذن الامام أثر. الثاني: عند الشيخ أبو حامد وطائفة رحاب المسجد مع مقاعد الاسواق فيما يقطع للارتفاق بالجلوس فيه للبيع والشراء، وهذا كما يقدح في نفي الاقطاع، يخالف المعروف في المذهب في المنع من الجلوس في المسجد للبيع والشراء، إلا أن يراد بالرحاب: الافنية الخارجة عن حد المسجد. قلت: قال الماوردي في الاحكام: إن حريم الجوامع والمساجد، إن كان الارتفاق به مضرا بأهل المساجد، منع منه، ولم يجز للسلطان الاذن فيه، وإلا، جاز. وهل يشترط فيه إذن السلطان ؟ وجهان. والله أعلم.
فصل الرباطات المسبلة في الطرق وعلى أطراف البلاد، من سبق إلى موضع منها صار أحق به، وليس لغيره إزعاجه، سواء دخل باذن الامام، أم بغيره، ولا يبطل حقه بالخروج لشراء طعام ونحوه، ولا يشترط تخليفه نائبا له في الموضع، ولا أن يترك متاعه، لانه قد لا يجد أمينا. فان ازدحم اثنان ولا سبق، فعلى ما سبق في مقاعد الاسواق. وكذا الحكم في المدارس والخوانق إذا نزلها من هو (من) أهلها. وإذا سكن بيتا منها مدة، ثم غاب أياما قليلة، فهو أحق إذا عاد. وإن طالت غيبته، بطل حقه. قلت: والرجوع في الطول إلى العرف. ولو أراد غيره النزول فيه في مدة غيبة الاول على أن يفارقه إذا جاء الاول، فينبغي أن يجوز قطعا، أو يكون على الوجهين(4/363)
السابقين في الموضع من الشارع. ويجوز لغير سكان المدرسة من الفقهاء والعوام دخولها، والجلوس فيها، والشرب من مياهها، والاتكاء والنوم فيها، ودخول سقايتها، ونحو ذلك مما جرى العرف به. وأما سكنى غير الفقهاء في بيوتها، فان كان فيه نص من الواقف بنفي أو إثبات، اتبع، وإلا، فالظاهر منعه، وفيه احتمال في بلد جرت به العادة. والله أعلم فرع النازلون في موضع من البادية، أحق به وبما حواليه بقدر ما يحتاجون إليه لمرافقهم، ولا يزاحمون في الوادي الذي سرحوا إليه مواشيهم، إلا أن يكون فيه كفاية للجميع، وإذا رحلوا، بطل اختصاصهم وإن بقي أثر الفساطيط ونحوها. قلت: ولو أرادت طائفة النزول في موضع من البادية للاستيطان، قال الماوردي: إن كان نزولهم مضرا بالسابلة، منعهم السلطان قبل النزول أو بعده. وإن لم يضر، راعى الاصلح في نزولهم ومنعهم ونقل غيرهم إليها. فان نزلوا بغير إذنه، لم يمنعهم، كما لا يمنع من أحيا مواتا بغير إذنه، ودبرهم بما يراه صلاحا لهم، وينهاهم عن إحداث زيادة إلا بإذنه. والله أعلم.
فصل المرتفق بالشارع والمساجد، إذا طال مقامه هل يزعج ؟ وجهان. أصحهما: لا، لانه أحد المرتفقين وقد سبق. والثاني: نعم. لتميز المشترك من المملوك. وأما الربط الموقوفة، فإن عين الواقف مدة المقام، فلا مزيد عليها، وكذا لو وقف على المسافرين. وإن أطلق الواقف، نظر إلى الغرض الذي بنيت له، وعمل بالمعتاد فيه، فلا يمكن من الاقامة في ربط المارة إلا لمصلحتها، أو لخوف يعرض، أو أمطار تتواتر، وفي المدرسة الموقوفة على طلبة العلم، يمكن من الاقامة إلى إتمام غرضه. فإن ترك التعلم والتحصيل، أزعج. وفي الخانقاه، لا يمكن هذا الضبط، ففي الازعاج إذا طال مقامه ما سبق في الشوارع.(4/364)
الباب الثالث : في الاعيان الخارجة من الارض فيه طرفان.
الطرف الأول : في المعادن، وهي البقاع التي أودعها الله تعالى شيئا من الجواهر المطلوبة، وهي قسمان، ظاهرة، وباطنة. فالظاهرة: هي التي يبدو جوهرها بلا عمل، وإنما السعي والعمل لتحصيله. ثم تحصيله قد يسهل، وقد يكون فيه تعب، وذلك كالنفط وأحجار الرحى، والبرام، والكبريت، والقطران، والقار، والمومياء، وشبهها، فلا يملكها أحد بالاحياء والعمارة، وإن زاد بها النيل. ولا يختص بها أيضا المتحجر، وليس للسلطان إقطاعها، بل هي مشتركة بين الناس كالمياه الجارية، والكلا، والحطب. ولو حوط رجل على هذه المعادن وبنى عليها دارا أو بستانا، لم يملك البقعة، لفساد قصده. وأشار في الوسيط إلى خلاف فيه. والمعروف، الاول. وإذا ازدحم اثنان على معدن ظاهر، وضاق المكان، فالسابق أولى. ثم قال الجمهور: يقدم بأخذ قدر حاجته، ولم يبينوا أنها حاجة يوم أو سنة. قال الامام: والرجوع فيه إلى العرف، فيأخذ ما تقتضيه العادة لامثاله. وإذا أراد الزيادة على ما يقتضيه حق السبق، فهل يزعج أم يأخذ ما شاء ؟ وجهان أصحهما عند الاصحاب: يزعج. فأما إذا جاءا معا، فالاصح أنه يقرع بينهما. والثاني: يجتهد الامام ويقدم من(4/365)
يراه أحوج وأحق. والثالث: ينصب من يقسم الحاصل بينهما. وقال العراقيون: الاوجه فيما إذا كانا يأخذان للحاجة. فإن كانا يأخذان للتجارة، يهايأ بينهما. فإن تشاحا في الابتداء، أقرع بينهما. والاشهر: إطلاق الاوجه. وعلى مقتضى قول العراقيين: إذا كان أحدهما تاجرا والآخر محتاج، يشبه أن يقدم المحتاج. فرع من المعادن الظاهرة، الملح الذي ينعقد من الماء، وكذا الجبلي إن كان ظاهرا لا يحتاج إلى حفر وتنحية تراب، والجص، والمدر، وأحجار النورة. وفي بعض شروح المفتاح عد الملح الجبلي من المعادن الباطنة. وفي التهذيب عد الكحل والجص منهما، وهما محمولان على ما إذا أحوج إظهارهما إلى حفر. ولو كان بقرب الساحل بقعة، لو حفرت وسيق الماء إليها ظهر فيها الملح، فليست هي من المعادن الظاهرة، لان المقصود منها يظهر بالعمل، فللامام إقطاعها، ومن حفرها وساق الماء إليها، وظهر الملح، ملكها كما لو أحيا مواتا. القسم الثاني: المعادن الباطنة، وهي التي لا يظهر جوهرها إلا بالعمل والمعالجة، كالذهب، والفضة، والفيروزج، والياقوت، والرصاص، والنحاس، والحديد، وسائر الجواهر المبثوثة في طبقات الارض. وتردد الشيخ أبو محمد، في أن حجر الحديد ونحوه، من الباطنة، أم الظاهرة، لان ما فيها من الجوهر باد ؟ والمذهب أنه باطن، لان الحديد لا يستخرج منه إلا بعلاج، وليس البادي على الحجر عين الحديد، وإنما هو في مخيلته. ولو أظهر السيل قطعة ذهب، أو أتى بها، التحقت بالمعادن الظاهرة. إذا ثبت هذا، فالمعدن الباطن هل يملك بالحفر والعمل ؟ قولان، لتردده بين الموات والمعدن الظاهر، أظهرهما: لا، رجحه الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم. فإن قلنا: يملك، فذاك إذا قصد التملك وحفر حتى ظهر النيل. فأما قبل الظهور، فهو كالمتحجر، وهذا كما إذا حفر بئرا في الموا ت على قصد التملك، ملكها إذا(4/366)
وصل إلى الماء. وإذا اتسع الحفر ولم يوجد النيل إفي الوسط، أو في بعض الاطراف، لم يقصر الملك على موضع النيل، بل يملك أيضا مما حواليه مما يليق يحريمه، وهو قدر ما يقف فيه الاعوان والدواب. ومن جاوز ذلك وحفر، لم يمنع وإن وصل إلى العروق. ويجوز للسلطان أن يقطعه كالموات. وإن قلنا: لا يملك، فالسابق إلى موضع منه أحق به، لكن إذا طال مقامه، ففي إزعاجه ما ذكرناه في المعادن الظاهرة. وقيل: لا يزعج هنا قطعا، لان هناك يمكن الاخذ دفعة فلا حاجة حلى الاطالة، وهنا لا يحصل إلا بمشقة فقدم السابق. ولو ازدحم اثنان، فعلى الاوجه التي هناك. وفي جواز إقطاعها على هذا القول، قولان. أحدهما: المنع كالمعادن الظاهرة. وأظهرهما: الجواز، ولا يقطع إلا قدرا يتأتى للمقطع العمل عليه والاخذ منه. وعلى القولين، يجوز العمل في المعدن الباطن والاخذ منه بغير إذن الامام، فإنه إما كالمعدن الظاهر، وإما كالموات. فرع لو أحيا مواتا، ثم ظهر فيه معدن باطن، ملكه بلا خلاف، لانه بالاحياء ملك الارض بأجزائها إن لم يعلم بها معدنا. فإن علم واتخذ عليه دارا، فطريقان. أحدهما: على القولين السابقين. والثاني: القطع بالملك. وأما البقعة المحياة، فقال الامام: ظاهر المذهب، أنها لا تملك، لان المعدن لا يتخذ دارا ولا مزرعة، فالقصد فاسد. وقيل: يملكها. وكأن ما ذكرناه من الخلاف في المعادن الظاهرة عن الوسيط مأخوذ من هذا. فرع مما يتفرع على القولين في المعدن الباطن، أنه إذا عمل عليه في الجاهلية، هل يملك ؟ وهل يجوز إقطاعه ؟ إن قلنا: يملك بالحفر والعمل، فهو ملك للغانمين، وإلا، ففي جواز إقطاعه القولان السابقان. فرع مالك المعدن الباطن، لا يصح منه بيعه على الصحيح، لان مقصوده النيل، وهو متفرق في طبقات الارض، مجهول القدر والصفة، فهو كبيع قدر مجموع من تراب المعدن وفيه النيل، وهو باطل. وحكى الامام وجها في جوازه،(4/367)
لان المبيع رقبة المعدن والنيل فائدته. فرع لو تملك معدنا باطنا، فجاء غيره واستخرج منه نيلا بغير إذنه، لزمه رده، ولا أجرة له. ولو قال المالك: اعمل فيه واستخرج النيل لي، ففعل، ففي استحقاقه الاجرة الخلاف فيمن قال: اغسل ثوبي فغسل. ولو قال: اعمل فما استخرجته فهو لك، أو قال: استخرج لنفسك، فالحاصل لمالك المعدن، لانه هبة مجهول. وكان يمكن تشبيهه بباحة ثمار البستان، ولكن المنقول الاول. وفي استحقاقه الاجرة، وجهان، لكونه عمل لنفسه، لكن لم يقع له، ولا هو متبرع، وبثبوتها قال ابن سريج. قلت: ثبوتها أصح. والله أعلم، ولو قال: اعمل فما استخرجته فهو بيننا مناصفة، أو قال: فلك منه عشرة دراهم، لم يصح، لان الاول أجرة مجهولة، والثاني: قد لا يحصل هذا القدر.
الطرف الثاني : في المياه، وهي قسمان. أحدهما: المباحة النابعة في موضع لا يختص بأحد، ولا صنع للآدميين في إنباطه وإجرائه كالفرات وجيحون وسائر أودية العالم والعيون في الجبال وسيول الامطار، فالناس فيها سواء، فإن حضر اثنان فصاعدا، أخذ كل ما ش اء. فإن قل الماء أو ضاق المشرع، قدم السابق. فإن جاءا معا، أقرع. وإن أراد واحد السقي وهناك محتاج للشرب، فالشارب أولى. قاله المتولي، ومن أخذ منه شيئا في إناء أو جعله في حوض، ملكه ولم يكن لغيره مزاحمته فيه، كما لو احتطب. وفي النهاية وجه: أنه لا يملكه، لكنه أولى به من غيره. والصحيح: الاول، وبه(4/368)
قطع الجمهور. وإن دخل شئ منه ملك إنسان بسيل، فليس لغيره أخذه ما دام فيه، لامتناع دخول ملكه بغير إذنه. فلو فعل، فهل يملكه، أم للمالك استرداده ؟ وجهان. أصحهما: الاول. فإذا خرج من أرضه، أخذه من شاء. فرع إذا أراد قوم سقي أرضيهم من مثل هذا الماء، فإن كان النهر عظيما يفي بالجميع، سقى من شاء متى شاء. وإن كان صغيرا، أو كان الماء يجري من النهر العظيم في ساقية غير مملوكة، بأن انخرقت بنفسها، سقى الاول أرضه، ثم يرسله إلى الثاني، ثم الثاني إلى الثالث. وكم يحبس الماء في أرضه ؟ وجهان، الذي عليه الجمهور: أنه يحبسه حتى يبلغ الكعبين. والثاني: يرجع في قدر السقي إلى العادة والحاجة. وقد قال الماوردي: ليس التقدير بالكعبين في كل الازمان والبلدان، لانه مقدر بالحاجة، والحاجة تختلف وباختلاف الارض، باختلاف ما فيها (من) زرع وشجر، وبوقت الزراعة، ووقت السقي. وحكي وجه عن الداركي: أن الاعلى لا يقدم على الاسفل، لكن يسقون بالحصص، وهذا غريب باطل. ولو كانت أرض الاعلى بعضها مرتفعا، وبعضها منخفضا، ولو سقيا معا لزاد الماء في المنخفضة على الحد المستحق، أفرد كل بعض بالسقي بما هو طريقه. قلت: طريقه أن يسقي المنخفض حتى يبلغ الكعبين، ثم يسده، ثم يسقي المرتفع. والله أعلم(4/369)
مإذا سقى الاول، ثم احتاج إلى السقي مرة أخرى، مكن منه على الصحيح فلو تنازع اثنان أرضاهما متحاذيتان، أو أرادا شق النهر من موضعين متحاذيين يمينا وشمالا، فهل يقرع، أو يقسم بينهما، أو يقدم الامام من يراة ؟ فيه ثلاثة أوجه حفاها العبادي. قلت: أصحها: يقرع. والله أعلم ولو أراد رجل إحياء موات وسقيه من هذا النهر، نظر، إن ضيق على السابقين، منع، لانهم استحقوا أرضهم بمرافقها، والماء من أعظم مرافقها، وإلا، فلا منع. فرع عمارة حافات هذه الانهار، من وظائف بيت المال. فرع يجوز أن يبني عليها من شاء قنطرة لعبور الناس إن كان الموضع مواتا. وأما (ما) بين العمران، فهو كحفر البئر في الشارع لمصلحة المسلمين. ويجوز بناء الرحى عليها إن كان الموضع ملكا له أو مواتا محضا. وإن كان بين الارض المملوكة، وتضرر الملاك، لم يجز، وإلا، فوجهان. أحدهما: المنع كالتصرف في سائر مرافق العمارات. وأصحهما: الجواز، كاشراع الجناح في السكة النافذة.
فصل هذا الذي سبق، إذا لم تكن الانهار والسواقي مملوكة. أما إذا كانت مملوكة، بأن حفر نهرا يدخل فيه الماء من الوادي العظيم، أو من النهر المنخرق منه، فالماء باق على إباحته، لكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل ملكه، فليس لاحد مزاحمته لسقي الارضين. وأما للشرب والاستعمال وسقي الدواب، فقال الشيخ أبو عاصم والمتولي: ليس له المنع، ومنهم من أطلق أنه لا يدلي أحد فيه دلوا، ويجوز لغيره أن يحفر فوق نهره نهرا إن لم يضيق عليه. وإن ضيق، فلا، فان اشترك جماعة في الحفر، اشتركوا في الملك على قدر عملهم، فإن شرطوا أن يكون النهر بينهم على قدر ملكهم من الارض، فليكن عمل كل واحد(4/370)
على قدر أرضه. فإن زاد واحد متطوعا، فلا شئ له على الباقين. وإن زاد مكرها، أو شرطوا له عوضا، رجع عليهم بأجرة ما زاد، وليس للا على حبس الماء على الاسفل، بخلاف ما إذا لم يكن النهر مملوكا. وإذا اقتسموا الماء بالايام والساعات، جاز، ولكل واحد الرجوع متى شاء، لكن لو رجع بعدما استوفى نوبته وقبل أن يستوفي الشريك، ضمن له أجرة مثل نصيبه من النهر للمدة التي أجرى فيها الماء. وإن اقتسموا الماء نفسه، فعلى ما سنذكره في القناة المشتركة. ولو أرادوا قسمة النهر وكان عريضا، جاز، ولا يجري فيها الاجبار كما في الجدار الحائل. ولو أراد الشركاء الذين أرضهم أسفل توسيع فم النهر، لئلا يقصر الماء عنهم، لم يجز إلا برضى الاولين، لان تصرف الشريك في المشترك لا يجوز إلا برضى الشريك، ولانهم قد يتضررون بكثرة الماء. وكذا لا يجوز للاولين تضييق فم النهر إلا برضى الآخرين، وليس لاحد منهم بناء قنطرة أو رحى عليه، ولا غرس شجرة على حافته إلا برضى الشركاء. ولو أراد أحدهم تقديم رأس الساقية التي يجري فيها الماء إلى أرضه، أو تأخيره، لم يجز، بخلاف ما لو قدم باب داره إلى رأس السكة المنسدة، لانه يتصرف هناك في الجدار المملوك، وهنا في الحافة المشتركة. ولو كان لاحدهم ماء في أعلى النهر، فأجراه في النهر المشترك برضى الشركاء ليأخذه من الاسفل ويسقي به أرضه، فلهم الرجوع متى شاؤوا، لانه عارية، وتنقية هذا النهر وعمارته يقوم بها الشركاء بحسب الملك. وهل على كل واحد عمارة الموضع المتسفل عن أرضه ؟ وجهان. أحدهما: لا، وبه قطع ابن الصباغ، لان المنفعة فيه للباقين. والثاني: نعم، وهو الاصح عند العبادي، لاشتراكهم وانتفاعهم به. فرع كل أرض أمكن سقيها من هذا النهر، إذا رأينا لها ساقية منه ولم نجد لها شربا من موضع آخر، حكمنا عند التنازع بأن لها شربا منه. ولو تنازع الشركاء في النهر في قدر أنصبائهم، فهل يجعل على قدر الارضين لان الظاهر أن الشركة بحسب الملك، أم بالسوية لانه في أيديهم ؟ وجهان، وبالاول قال الاصطخري رحمه الله تعالى. قلت: هو أصحهما. والله أعلم فرع لو صادفنا نهرا تسقى منه أرضون، ولم ندر أنه حفر أم انخرق،(4/371)
حكمنا بأنه مملوك، لانهم أصحاب يد وانتفاع، فلا يقدم بعضهم على بعض. وأكثر هذه المسائل يشتمل عليها كتاب المياه للعبادي رحمه الله تعالى. القسم الثاني: المياه المختصة ببعض الناس، وهي مياه الآبار والقنوات. واعلم أن البئر يتصور حفرها على أوجه. أحدها: الحفر في المنازل للمارة. والثاني: الحفر في الموات على قصد الارتفاق لا للتملك، كمن ينزل في الموات فيحفر للشر ب وسقي الدواب. والثالث: الحفر بنية التملك. والرابع: الحفر الخالي عن هذه القصود. فأما المحفورة للمارة، فماؤها مشترك بينهم، والحافر كأحدهم، ويجو الاستقاء منها للشرب، وسقي الزروع، فان ضاق عنهما، فالشرب أولى. وأما المحفورة للارتفاق دون التملك، فالحافر أولى بمائها إلى أن يرتحل، لكن ليس له منع ما فضل عنه عن محتاج إليه للشرب إذا استقى بدلو نفسه، ولا منع مواشيه، وله منع غيره من سقي الزرع به. وفيه احتمال للامام، لانه لم يملكه، والاختصاص يكون بقدر الحاجة، وبهذا قطع المتولي، فحصل وجهان. قلت: الاول هو الصحيح المعروف. والله أعلم ويعتبر في الفاضل الذي يجب بذله، أن يفضل عن نفسه وماشيته وزرعه. قال الامام: وفي المزارع احتمال على بعد. قلت: المراد: الفاضل الذي يجب بذله لماشية غيره. أما الواجب بذله لعطش آدمي محترم، فلا يشترط فيه أن يفضل عن المزارع والماشية. والله أعلم وإذا ارتحل المرتفق، صارت البئر كالمحفورة للمارة، فان عاد، فهو كغيره.(4/372)
وأما المحفورة للتملك وفي ملك، فهل يكون ماؤها ملكا ؟ وجهان. أصحهما: نعم، وبه قال ابن أبي هريرة، وهو المنصوص في القديم، وحرملة، لانه نماء ملكه، كالثمرة واللبن، ويجري الخلاف فيما إذا انفجرت عين في ملكه. فإن قلنا: لا يملك، فنبع وخرج منه، ملكه من أخذه. وإن قلنا بالاصح: لا يملكه الآخذ، ولو دخل رجل ملكه وأخذه، ففي ملكه الوجهان. وسواء قلنا: يملك، أم لا، فلا يجب على صاحب البئر بذل الفاضل عن حاجته لزرع غيره على الصحيح، ويجب بذله للماشية على الصحيح. وللوجوب شروط. أحدها: أن لا يجد صاحب الماشية ماء مباحا. والثاني: أن يكون هناك كلا يرعى، وإلا، فلا يجب على المذهب. وقال المتولي: فيه وجهان. الثالث: أن يكون الماء في مستقره، فأما الماء الموجود في إناء، فلا يجب بذل فضله على الصحيح. ثم عابروا السبيل، يبذل لهم ولمواشيهم. وفيمن أراد الاقامة في الموضع وجهان، لانه لا ضرورة (به) إلى الاقامة. قلت: الاصح: الوجوب كغيره. وإذا وجب البذل، مكن الماشية من حضور البئر بشرط أن لا يكون على صاحب الماء ضرر في زرع ولا ماشية. فان لحقه ضرر بورودها، منعت، لكن يجوز للرعاة استقاء فضل الماء لها، قاله الماوردي. والله أعلم وهل يجب البذل للرعاة كما يجب للماشية ؟ وجهان حكاهما ابن كج. أصحهما: يجب، لان البذل لسقاة الناس رعاة كانوا أو غيرهم، أولى من البذل للماشية، على أن الامام نقل في المنع من الشرب على الاطلاق وجهين إذا قلنا: مملوك. وإذا أوجبنا البذل، هل يجوز أن يأخذ عليه عوضا كاطعام المضطر ؟ وجهان، الصحيح: لا، للحديث (الصحيح) ان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع فضل(4/373)
الماء. قلت: قال الماوردي: لو كان هناك ماءان مملوكان لرجلين، لزمهما البذل. فان اكتفت الماشية ببذل أحدهما، سقط الفرض عن الآخر، قال: وإذا لم توجد شروط وجوب البذل، جاز لمالكه أخذ ثمنه إذا باعه مقدرا بكيل أو وزن، ولا يجوز، بيعه مقدرا بري الماشية ولا الزرع. والله أعلم وأما المحفورة بلا قصد، ففيها وجهان. أصحهما: لا اختصاص له بمائها، والناس كلهم فيه سواء. والثاني: يختص بقدر حاجته، كما أن الاحياء يفيد الملك وإن لم يقصده.
فصل حكم القنوات حكم الآبار في ملك مياهها وفي وجوب البذل وغيرهما، إلا أن حفرها لمجرد الارتفاق لا يكاد يقع ومتى اشترك المتملكون في الحفر، اشتركوا في الملك بحسب اشتراكهم في العمل أو الارتفاق كما ذكرنا في النهر المملوك، ثم لهم قسمة الماء بأن تنصب خشبة مستوية الاعلى والاسفل في عرض النهر، ويفتح فيها ثقب متساوية، أو متفاوتة على قدر حقوقهم، ويجوز أن تكون الثقب متساوية مع تفاوت الحقوق، إلا أن صاحب الثلث يأخذ ثقبة، والآخر ثقبتين، وسوق كل واحد نصيبه في ساقية إلى أرضه، وله أن يدير رحى بما صار له، ولا يشق أحد منهم ساقية قبل المقسم، ولا ينصب عليه رحى، وإن اقتسموا بالمهايأة، جاز أيضا. وقد يكون الماء قليلا ينتفع به إلا كذلك، ولكل واحد الرجوع كما ذكرنا في البئر، هذا هو الصحيح المعروف. وقيل: تلزم المهايأة ليثق كل واحد بالانتفاع. وقيل: لا تصح القسمة بالمهايأة، لان الماء يقل ويكثر، وتختلف فائدة السقي بالايام. قلت: لو أراد أحدهم أن يأخذ نصيبه من الماء ويسقي به أرضا ليس لها رسم شرب من هذا النهر، منع منه، لانه يجعل شربا لم يكن. والله أعلم(4/374)
فرع الذين يسقون أضهم من الاودية المباحة، لو تراضوا بمهايأة، وجعلوا للاولين أياما، وللآخرين أياما، فهذه مسامحة من الاولين بتقدم الآخرين، وليست بلازمة والظاهر: أن من رجع من الاولين، مكن من سقي أرضه.
فصل في بيع الماء أما المحرز في إناء أو حوض، فبيعه صحيح على الصحيح، وقد سبق فيه الوجه، وليكن عمق الحوض معلوما، ولا يجوز بيع ماء البئر والقناة فيهما لانه مجهول، ويزيد شيئا فشيئا فيختلط فيتعذر التسليم. وإن باع منه آصعا، فإن كان جاريا، لم يصح، إذ لا يمكن ربط العقد بمقدار. وإن كان راكدا وقلنا: إنه غير مملوك، لم يصح. وإن قلنا: مملوك، فقال القفال: لا يصح أيضا، لانه يزيد فيختلط المبيع. والاصح: الجواز كبيع صاع من صبرة. وأما الزيادة، فقليلة، فلا تضر، كما لو باع القت في الارض بشرط القطع، وكما لو باع صاعا من صبرة وصب عليها صبرة أخرى، فإن البيع بحاله، ويبقى البيع ما بقي صاع من الصبرة. ولو باع الماء مع قراره، نظر، إن كان جاريا فقال: بعتك هذه القناة مع مائها، أو إن لم يكن جاريا وقلنا: إن الماء لا يملك، لم يصح البيع في الماء، وفي القرار قولا تفريق الصفقة، وإلا، فيصح. ولو باع بئر الماء وأطلق، أو باع دارا فيها بئر ماء، جاز. ثم إن قلنا: يملك، فالموجود حال البيع يبقى للبائع، وما يحدث، للمشتري. قال البغوي: وعلى هذا لا يصح البيع حتى يشترط أن الماء الظاهر للمشتري، لئلا يختلط الماءان. وإن قلنا: لا يملك، فقد أطلقوا أن المشتري أحق بذلك الماء. وليحمل على ما نبع بعد البيع، فأما ما نبعقبله، فلا معنى لصرفه إلى المشتري. قلت: هذا التأويل الذي قاله الامام الرافعي فاسد، فقد صرح الاصحاب بأن المشتري على هذا الوجه أحق بالماء الظاهر، لثبوت يده على الدار، وتكون يده كيد البائع في ثبوت الاختصاص به. والله أعلم ولو باع جزءا شائعا من البئر أو القناة، جاز، وما ينبع مشترك بينهما، إما اختصاصا مجردا، وإما ملكا.(4/375)
فرع سقى أرضه بماء مملوك لغيره، فالغلة لصاحب البذر وعليه قيمة الماء. ولو استحل صاحب الماء، كان الطعام أطيب. قلت: ومما يتعلق بالكتاب، ما ذكره صاحب العدة: أنه لو أضرم نارا في حطب مباح بالصحراء، لم يكن له منع من ينتفع بتلك النار، فلو جمع الحطب، ملكه، فإذا أضرم فيه النار، فله منع غيره منها. والله أعلم(4/376)
كتاب الوقف
فيه بابان.
الباب الأول : في أركانه وشروطه، وفيه طرفان.
الطرف الأول : في أركانه، وهي أربعة.
الركن الأول : الواقف، ويشترط كونه صحيح العبارة، أهلا للتبرع.(4/377)
الركن الثاني : الموقوف، وهو كل عين معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل منها فائدة أو منفعة تستأجر لها. احترزنا بالعين، حق المنفعة، وعن الوقف، الملتزم في الذمة، وبالمعينة، عن وقف أحد عبديه، وبالمملوكة، عما لا يملك، وبقبول النقل، عن أم الولد والملاهي. وأردنا بالفائدة: الثمرة واللبن ونحوهما، وبالمنفعة: السكنى واللبس ونحوهما. وقولنا: تستأجر لها، احتراز من الطعام ونحوه. ونوضحه بمسائل. إحداها: يجوز وقف العقار والمنقول، كالعبيد، والثياب، والدواب، والسلاح، والمصاحف، والكتب، سواء المقسوم والمشاع، كنصف دار ونصف بد، ولا يسري الوقف من نصف إلى نصف.(4/378)
فرع وقف نصف عبد، ثم أعتق النصف الآخر، لم يعتق الموقوف. الثانية: يجوز وقف ما يراد لعين تستفاد منه، كالاشجار للثمار، والحيوان للبن والصوف والوبر والبيض، وما يراد لمنفعة تستوفى منه، كالدار، والارض. ولا يشترط حصول المنفعة والفائدة في الحال، بل يجوز وقف العبد والجحش الصغيرين، والزمن الذي يرجى زوال زمانته، كما يجوز نكاح الرضيعة. الثالثة: لا يصح وقف الحر نفسه، لان رقبته غير مملوكة، وكذلك مالك منافع الاموال دون رقابها، لا يصح وقفه إياها، سواء ملك مؤقتا، كالمستأجر، أم مؤبدا، كالموصى له بالمنفعة. الرابعة: لا يصح وقف أم الولد على الاصح. فإن صححنا فمات السيد، عتقت. قال المتولي: لا يبطل الوقف، بل تبقى منافعها للموقوف عليه، كما لو أجرها ومات. وقال الامام: تبطل، لان الحرية تنافي الوقف، بخلاف الاجارة، وهذا مقتضى كلام ابن كج، ويجري الوجهان في صحة وقف المكاتب، ويصح وقف المعلق عتقه بصفة. فإذا وجدت الصفة، فإن قلنا: الملك في الوقف للواقف، أو لله تعالى، عتق وبطل الوقف. وإن قلنا: للموقوف عليه، لم يعتق ويبقى الوقف بحاله. ويجوز وقف المدبر، ثم هو رجوع إن قلنا: التدبير وصية، فإن قلنا: تعليق بصفة، فهو كالمعلق عتقه. الخامسة: لا يصح وقف الكلب المعلم على الاصح. وقيل: لا يصح(4/379)
قطعا، لانه غير مملوك. السادسة: في وقف الدراهم والدنانير وجهان، كاجارتهما، إن جوزناها، صح الوقف لتكرى، ويصح وقف الحلي لغرض اللبس. وحكى الامام أنهم ألحقوا الدراهم ليصاغ منها الحلي بوقف العبد الصغير، وتردد هو فيه. السابعة: لا يصح وقف ما لا يدوم الانتفاع به، كالمطعوم والرياحين المشمومة، لسرعة فسادها. الثامنة: وقف ثوبا أو عبدا في الذمة، لم يصح كما لو أعتق عبدا في الذمة. ولو وقف أحد عبديه، لم يصح على الصحيح كالبيع. وقيل: يصح كالعتق. التاسعة: يجوز وقف علو الدار دون سفلها. العاشرة: يصح وقف الفحل للضراب، بخلاف إجارته، لان الوقف قربة يحتمل فيها ما لا يحتمل في المعاوضات. الحادية عشرة: لا يصح وقف الملاهي. فرع أجر أرضه ثم وقفها، صح على المذهب، وبه قطع الشيخ أبو علي، لانه مملوك بشرائطه، وليس فيه إلا العجز عن صرف منفعته إلى جهة الوقف في(4/380)
الحال، وذلك لا يمنع الصحة، كما لو وقف ماله في يد الغاصب. وفي فتاوى القفال: أنه على الخلاف في الوقف المنقطع الاو. وقيل: إن وقفه على المسجد صح، لمشابهته الاعتاق، وإن وقف على إنسان، فخلاف. فرع استأجر أرضا ليبني فيها، أو يغرس، ففعل، ثم وقف البناء والغراس، صح على الاصح. ولو وقف هذا أرضه، وهذا بناءه، صح بلا خلاف، كما لو باعاه. وإذا قلنا بالصحة، ومضت المدة، وقلع مالك الارض البناء، فان بقي منتفعا به بعد القلع، فهو وقف كما كان. وإن لم يبق، فهل يصير ملكا للموقوف عليه ؟ أم يرجع إلى الواقف ؟ فيه وجهان، وأرش النقص الذي يؤخذ من القالع، يسلك به مسلك الوقف. قلت: الاصح: صحة وقف ما لم يره، ولا خيار له عند الرؤية. والله أعلم.
الركن الثالث : الموقوف عليه، وهو قسمان. القسم الاول: أن يكون شخصا معينا، أو جماعة معينين، فشرطه أن يمكن تمليكه، فيجوز الوقف على ذمي من مسلم وذمي، كما تجوز الوصية له، ولا يصح الوقف على الحربي والمرتد على الاصح، لانهما لا دوام لهما. فرع لا يصح الوقف على من لا يملك، كالجنين، ولا يصح على(4/381)
العبد نفسه، قال جماعة: هذا تفريع على قولنا: لا يملك. فان ملكناه، صح الوقف عليه. وإذا عتق، كان له دون سيده، وعلى هذا قال المتولي: لو وقف على عبد فلان وملكناه، صح وكان الاستحقاق متعلقا بكونه عبد فلان، حتى لو باعه أو وهبه، زال الاستحقاق. ولك أن تقول: الخلاف في أنه هل يملك مخصوص بما إذا ملكه السيد ؟ فأما إذا ملكه غيره، فلا يملك بلا خلاف، وحينئذ إذا كان الواقف غير السيد، كان الوقف على من لا يملك. أما إذا أطلق الوقف عليه، فهو وقف على سيده. كما لو وهب له، أو أوصى له، وإذا شرطنا القبول، جاء خلاف في استقلاله به، كالخلاف في أنه هل يستقل بقبول الهبة والوصية، وقد سبق في باب معاملات العبيد. فرع لو وقف على مكاتب، قال الشيخ أبو حامد: لا يصح كالوقف على القن. وقال المتولي: يصح في الحال وتصرف الفوائد إليه، ونديم حكمه إذا عتق إن أطلق الوقف. وإن قال: تصرف الفوائد إليه ما دام مكاتبا، بطل استحقاقه. و إعجز، بأن لنا أن الوقف منقطع الابتداء. فرع وقف على بهيمة وأطلق، هل هو كالوقف على العبد حتى يكون وقفا على مالكها ؟ وجهان. أصحهما: لا، لانها ليست أهلا بحال. ولهذا لا تجوز الهبة لها والوصية. والثاني: نعم. واختار القاضي أبو الطيب أنه يصح وينفق عليها منه ما بقيت، وعلى هذا، فالقبول لا يكون إلا من المالك. وحكى المتولي في قوله: وقفت على علف بهيمة فلان، أو بهائم القرية، وجهين كصورة الاطلاق، قال: والخلاف فيما إذا كانت البهيمة مملوكة. فلو وقف على الوحوش، أو علف الطيور المباحة، فلا يصح بلا خلاف.(4/382)
فرع في وقف الانسان على نفسه وجهان. أصحهما: بطلانه، وهو المنصوص. والثاني: يصح، قاله الزبيري. وحكى ابن سريج أيضا، وحكى عنه ابن كج: أنه يصح الوقف، ويلغو شرطه، وهذا بناء على أنه إذا اقتصر على قوله: وقفت، صح، وينبغي أن يطرد في الوقف على من لا يجوز مطلقا. ولو وقف على الفقراء، وشرط أن تقضى من غلة الوقف زكاته ديونه، فهذا وقف على نفسه وغيره ففيه الخلاف. وكذلك لو شرط أن يأكل من ثماره، أو ينتفع به ولو استبقى الواقف لنفسه التولية، وشرط أجرة، وقلنا: لا يجوز أن يقف على نفسه، ففي صحة هذا الشرط وجهان كالوجهين في الهاشمي هل يجوز أن يأخذ سهم العاملين إذا عمل على الزكاة. قلت: الارجح هنا جوازه. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: ويتقيد ذلك بأجرة المثل، ولا يجوز الزيادة إلا من أجاز الوقف على نفسه. والله أعلم ولو وقف على الفقراء، ثم صار فقيرا، ففي جواز أخذه وجهان إذا قلنا: لا يقف على نفسه، لانه لم يقصد نفسه وقد وجدت الصفة، ويشبه أن يكون الاصح الجواز، ورجح الغزالي المنع، لان مطلقة ينصرف إلى غيره. وأعلم أن للواقف أن ينتفع بأوقافه العامة كآحاد الناس، كالصلاة في بقعة(4/383)
جعلها مسجدا، والشرب من بئر وقفها ونحو ذلك. قلت: ومن هذا النوع، لو وقف كتابا على المسلمين للقراءة فيه ونحوها، أو قدرا للطبخ فيها، أو كيزانا للشرب بها ونحو ذلك، فله الانتفاع معهم. والله أعلم فرع لو قال لرجلين: وقفت على أحدكما، لم يصح، وفيه احتمال عن الشيخ أبي محمد. القسم الثاني: الوقف على غير معين، كالفقراء والمساكين، وهذا يسمى وقفا على الجهة، لان الواقف يقصد جهة الفقر والمسكنة، لا شخصا بعينه، فينظر في الجهة، إن كانت على المعصية، كعمارة الكنيسة وقناديلها وحصرها، وكتب التوراة والانجيل، لم يصح، سواء وقفه مسلم أو ذمي، فنبطله إذا ترافعوا إلينا. أما ما وقفوه قبل المبعث على كنائسهم القديمة، فنقره حيث نقر الكنائس. ولو وقف لسلاح قطاع الطريق، أو لآلات سائر المعاصي، فباطل قطعا. وإن لم تكن جهة معصية، نظر، فإن ظهر فيه قصد القربة، كالوقف على المساكين، وفي سبيل الله تعالى، والعلماء والمتعلمين، والمساجد والمدارس والربط والقناطر، صح الوقف. وإن لم يظهر القربة، كالوقف على الاغنياء، فوجهان، بناء على أن المرعي بالوقف على الموصوفين جهة القربة، أم التمليك ؟ فحكى الامام عن المعظم: أنه القربة، ولهذا لا يجب استيعاب المساكين، بل يجوز الاقتصار على ثلاثة منهم. وعن القفال أنه قال: التمليك كالوصية وكالوقف على المعين، وهذا الوجه اختيار الامام وشيخه، وطرق العراقيين توافقه، حتى ذكروا أن الوقف على المساجد والربط، تمليك المسلمين منفعة الوقف. فإن قلنا بالاول، لم يصح(4/384)
الوقف على الاغنياء واليهود والنصارى والفساق، والاصح: الجميع. ويجوز أن يخرج على هذا الاصل، الخلاف في صحة الوقف على قبيلة كالعلوية وغيرهم ممن لا ينحصر فيهم. في صحته قولان كالوصيته هلهم فإن راعينا القربة، صح، وإلا، فلا، لتعذر الاستيعاب، والاشبه بكلام الاكثرين ترجيح كونه تمليكا، وتصحيح الوقف على هؤلاء. ولهذا صحح صاحب الشامل الوقف على النازلين في الكنائس من مارة أهل الذمة وقال: هو وقف عليهم، لا على الكنيسة، لكن الاحسن توسط لبعض المتأخرين، وهو تصحيح الوقف على الاغنياء، وإبطاله على اليهود والنصارى وقطاع الطريق وسائر الفساق، لتضمنه الاعانة على المعصية.
فصل في مسائل تتعلق بهذا الركن إحداها: يجوز الوقف على سبيل الله، وهم المستحقون سهم الزكاة. الثانية: إذا وقف على سبيل البر، أو الخير، أو الثواب، صح، ويصرف إلى أقارب الواقف. فان لم يوجدوا، فإلى أهل الزكاة. وقال في التهذيب: الموقوف على سبيل البر أو الخير أو الثواب، يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر، وسد الثغور، ودفن الموتى وغيرها، وقال بعض أصحاب الامام: إن وقف على جهة الخير، صرف (في) مصارف الزكاة، ولا يبنى به مسجد ولا رباط. وإن وقف على جهة الثواب، صرف إلى أقاربه. والذي قطع به الاكثرون، ما قدمناه. قالوا: ولو جمع بين سبيل الله تعالى، وسبيل الثواب، وسبيل الخير، صرف الثلث إلى الغزاة، والثث إلى أقاربه، والثلث إلى الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل وفي الرقاب، وهذا يخالف ما سبق.(4/385)
الثالثة: يصح الوقف على أكفان الموتى، ومؤنة الغسالين والحفارين، وعلى شراء الاواني والظروف لمن تكسرت عليه. الرابعة: يصح الوقف على المتفقهة - وهم المشتغلون بتحصيل الفقه - مبتدئهم وهنتهيهم، وعلى الفقهاء، ويدخل فيه من حصل منه شيئا وإن قل. الخامسة: الوقف على الصوفية، حكي عن الشيخ أبي محمد أنه باطل، إذ ليس للتصوف حد يعرف، والصحيح المعروف صحته، وهم المشتغلون بالعبادة في أغلب الاوقات، المعرضون عن الدنيا. وفصله الغزالي في الفتاوى فقال: لا بد في(4/386)
الصوفي من العدالة وتر ك الحرفة، ولا بأس بالوراقة والخياطة وشبههما إذا تعاطاها أحيانا في الرباط لا في الحانوت، ولا تقدح قدرته على الكسب، ولا اشتغاله بالوعظ والتدريس، ولا أن يكون له من المال قدر لا تجب فيه الزكاة، أو لا يفي دخله بخرجه، وتقدح الثروة الظاهرة والعروض الكثيرة، ولا بد أن يكون في زي القوم، إلا أن يكون مساكنا، فتقوم المخالطة والمساكنة مقام الزي، قال: ولا يشترط لبس المرفعة من شيخ، وكذلك ذكر المتولي. السادسة: وقف على الارقاء الموقوفين لسدانة الكعبة وخدمة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صح على الاصح. السابعة: لو وقف على دار أو حانوت، قال الحناطي: لا يصح إلا أن يقول: وقفت على هذه الدار على أن يأكل فوائده طارقوها، فيصح على الاصح. الثامنة: وقف على المقبرة لتصرف الغلة في عمارة القبور، قال المتولي: لا يصح، لان الموتى صائرون إلى البلى، فلا تليق بهم العمارة. التاسعة: وقف ضيعة على المؤن التي تقع في قرية كذا من جهة السلطان، ففي فتاوى القفال: أنه صحيح، وصيغته أن يقول: تصدقت بهذه الضيعة صدقة محرمة على أن تستغل، فما فضل عن عمارتها صرف إلى هذه المؤن. العاشرة: في فتاوى القفال، أنه لو قال: وقفت هذه البقرة على الرباط الفلاني ليشرب من لبنها من نزله، أو ينفق من نسلها عليه، صح، فان اقتصر على قوله: وقفتها عليه، لم يصح وإن كنا نعلم أنه يريده، لان الاعتبار باللفظ. وقد بقيت مسائل من هذا الفصل تأتي منثورة في آخر الباب إن شاء الله تعالى.
الركن الرابع : الصيغة، فلا يصح الوقف إلا بلفظ، لانه تمليك للعين(4/387)
والمنفعة، أو المنفعة، فاشبه سائر التمليكات، لان العتق مع قوته وسرايته لا يصح إلا بلفظ، فهذا أولى. فلو بنى على هيئة المساجد أو على غير هيئتها، وأذن في الصلاة فيه، لم يصر مسجدا، وكذا لو أذن في الدفن في ملكه، لم يصر مقبرة سواء صلي في ذاك ودفن في ذا، أم لا. وألفاظ الوقف على مراتب. إحداها: قوله: وقفت كذا، أو حبست، أو سبلت، أو أرضي موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه: كل هذا كناية، وفي وجه: الوقف صريح، والباقي كناية، وفي وجه: التسبيل كناية والباقي صريح. الثانية: قوله: حرمت هذه البقعة للمساكين أو أبدتها، أو داري محرمة أو مؤبدة، كناية على المذهب، لانها لا تستعمل إلا مؤكدة للاولى. الثالثة: تصدقت بهذه البقعة، ليس بصريح، فان زاد معه شيئا، فالزيادة لفظ أو نية، فأما اللفظ، ففيه أوجه. أصحها: إن قرن به بعض الالفاظ السابقة، بأن قال: صدقة محرمة، أو محبسة، أو موقوفة، أو قرن به حكم الوقف فقال: صدقة لا تباع ولا توهب، التحق بالصريح، لانصرافه بهذا عن التمليك المحض. والثاني: لا يكفي قوله: صدقة محرمة أو مؤبدة، بل لا بد من التقييد بأنها لا تباع ولا توهب، ويشبه أن لا يعتبر هذا القائل في قوله: صدقة موقوفة مثل هذا التقييد. والثالث: لا يكون صريحا بلفظ ما، لانه صريح في التمليك المحض. وأما النية، فإن أضاف إلى جهة عامة بأن قال: تصدقت به على المساكين ونوى الوقف، فوجهان: أحدهما: أن النية لا تلتحق باللفظ في الصرف عن صريح(4/388)
الصدقة إلى غيره. وأصحهما: تلتحق فيصير وقفا. وإن أضاف إلى معين فقال: تصدقت عليك، أو قاله لجماعة معينين، لم يكن وقفا على الصحيح، بل ينفذ فيما هو صريح فيه وهو التمليك المحض، كذا قاله الامام. ولك أن تقول: تجريد لفظ الصدقة عن القرائن اللفظية، يمكن تصويره في الجهات العامة، ولا يمكن في معينين إذا لم نجوز الوقف المنقطع، فإنه يحتاج إلى بيان المصارف بعد المعينين، وحينئذ فالمأتي به لا يحتمله غير الوقف، كما أن قوله: تصدقت به صدقة محرمة أو موقوفة، لا يحتمل غير الوقف. فرع لو قال: جعلت هذا المكان مسجدا، صار مسجدا على الاصح، لاشعاره بالمقصود واشتهاره فيه. وقطع الاستاذ أبو طاهر والمتولي والبغوي، بأنه لا يصير مسجدا، لانه لم يوجد شئ من ألفاظ الوقف. قال الاستاذ: فإن قال: جعلته مسجدا لله تعالى، صار مسجدا. وحكى الامام خلافا للاصحاب في استعمال لفظ الوقف فيما يضاهي التجريد، كقوله: وقفت هذه البقعة على صلاة المصلين وهو يريد جعلها مسجدا، والاصح صحته.
فصل إذا كان الوقف على جهة، كالفقراء، وعلى المسجد والرباط، لم يشترط القبول. ولو قال: جعلت هذا للمسجد، فهو تمليك لا وقف، فيشترط قبول القي وقبضه كما لو وهب شيئا لصبي. وإن كان الوقف على شخص أو جماعة معينين، فوجهان. أصحهما عند الامام وآخرين: اشتراط القبول. فعلى هذا، فليكن متصلا بالايجاب كما في البيع والهبة. والثاني: لا يشترط كالعتق، وبه قطع البغوي والروياني. قال الروياني: لا يحتاج لزوم الوقف إلى القبول، لكن لا يملك عليه إلا بالاختيار، ويكفي الاخذ دليلا على الاختيار. وخص المتولي الوجهين بقولنا: ينتقل الملك في الموقوف إلى الموقوف عليه، وإلا، فلا يشترط قطعا.(4/389)
قلت: صحح الرافعي في المحرر الاشتراط. والله أعلم وسواء شرطنا القبول، أم لا، لو رده بطل حقه كالوصية والوكالة، وشذ البغوي فقال: لا يبطل بالرد كالعتق. فعلى الصحيح: لو رد ثم رجع، قال الروياني: إن رجع قبل حكم الحاكم برده إلى غيره، كان له. وإن حكم به لغيره، بطل حقه. هذا في البطن الاول، أما البطن الثاني والثالث: فنقل الامام والغزالي، أنه لا يشترط قبوله قطعا، لان استحقاقهم لا يتصل بالايجاب، ونقلا في ارتداده بردهم وجهين، لان الوقف قد ثبت ولزم فيبعد انقطاعه، وأجرى المتولي الخلاف في اشتراط قبولهم وارتداده بردهم بناء على أنهم يتلقون الحق من الواقف، أم من البطن الاول ؟ إن قلنا بالاول، فقبولهم وردهم كقبول الاولين وردهم، وإلا، فلا يعتبر قبولهم وردهم كالميراث، حسن، ولا يبعد أن لا يتصل الاستحقاق بالايجاب مع اشتراط القبول، كما في الوصية.
الطرف الثاني : في شروط الوقف، وهي أربعة.
الأول : التأبيد، بأن يقف على من لا ينقرض، كالفقراء والمساكين، أو على من ينقرض ثم على من لا ينقرض، كقوله: وقفت على ولدي ثم على الفقراء، أو على زيد ثم عقبه. ثم الفقراء والمساجد والربط والقناطر، كالفقراء والمساكين، فان عين مساجد أو قناطر، فوجهان. وفي معنى الفقراء العلماء على الصحيح، وفي(4/390)
فتاوى القفال خلافه، لانهم قد ينقطعون. فصل لو قال: وقفت هذا سنة، فالصحيح الذي قطع به الجمهور، أن الوقف باطل. وقيل: يصح وينتهي بانتهاء المدة. وقيل: الوقف الذي لا يشترط فيه القبول، لا يفسد بالتوقيت كالعتق، وبه قال الامام ومن تابعه. وفي مطلق الوقف قول آخر سنحكيه في الهبة إن شاء الله تعالى. فصل إذا وقف وقفا منقطع الآخر، بأن قال: وقفت على أولادي، أو قال: وقفت على زيد ثم على عقبه ولم يزد، ففي صحته ثلاثة أقوال. أظهرها عند الاكثرين: الصحة. منهم القضاة: أبو حامد، والطبري، والروياني، وهو نصه في المختصر. والثاني: البطلان، وصححه المسعودي والامام. والثالث: إن كان الموقوف عقارا، فباطل. وإن كان حيوانا، صح، لان مصيره إلى الهلاك، وربما هلك قبل الفوقوف عليه. فإن صححنا، فإذا انقرض المذكور، فقولان. أحدهما: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف، أو إلى ورثته إن كان مات. وأظهرهما: يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه. أصحها وهو نصه في المختصر: يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور.(4/391)
والثاني: إلى المساكين. والثالث: إلى المصالح العامة مصارف خمس الخمس. والرابع: إلى مستحقي الزكاة. فإن قلنا: إلى أقرب الناس إلى الواقف، فيعتبر قرب الرحم، أم استحقاق الارث ؟ وجهان. أصحهما: الاول، فيقدم ابن البنت على ابن العم، لان المعتبر صلة الرحم. وإذا اجتمع جماعة، فالقول في الاقرب كما سيأتي في الوصية للاقرب. وهل يختص بفقراء الاقارب، أم يشاركهم اغنياؤهم. قولان. أظهرهما: الاختصاص. وهل هو على سبيل الوجوب، أم الاستحباب ؟ وجهان. وإن قلنا: يصرف إلى المساكين، ففي تقديم جيران الواقف وجهان. أصحهما: المنع، لانا لو قدمنا بالجوار، لقدمنا بالقرابة بطريق الاولى. فرع قال: وقفت هذا على زيد شهرا، على أن يعود إلى ملكي بعد الشهر، فباطل على المشهور. وفي قول: يصح، فعلى هذا هل يعود ملكا بعد الشهر، أم يكون كالمنقطع حتى يصرف بعد الشهر إلى أقرب الناس إلى الواقف ؟ قولان حكاهما البغوي.
الشرط الثاني : التنجيز. فلو قال: وقفت على من سيولد لي، أو على مسجد سيبني، ثم على الفقراء أو قال: على ولدي ثم على الفقراء ولا ولد له، فهذا وقف منقطع الاول، وفيه طريقان. أحدهما: القطع بالبطلان. والثاني: على القولين في منقطع الآخر. والمذهب هنا البطلان، وهو نصه في المختصر، فان صححنا، نظر، إن لم يمكن انتظار من ذكره كقوله: وقفت على ولدي ولا ولد له، أو على مجهول أو ميت، ثم على الفقراء، فهو في الحال مصروف إلى الفقراء، وذكر الاول لغو. وإن أمكن، إما بانقراضه كالوقف على عبد، ثم على الفقراء، وإما بحصوله، كولد سيولد (له)، فوجهان. أحدهما: تصرف الغلة إلى الواقف حتى ينقرض الاول. وعلى هذا، ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان.(4/392)
والثاني وهو الاصح: تنقطع الغلة عن الواقف. وعلى هذا أوجه. أصحها: تصرف في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف، فإذا انقرض المذكور أولا، صرف إلى المذكور بعده وعلى هذا، فالقول في اشتراط الفقر وسائر التفاريع على ما سبق. والثاني: يصرف إلى المذكورين بعده في الحال. والثالث: أنه للمصالح العامة. فرع وقف على وارثه في مرض الموت، ثم على الفقراء، وقلنا: الوقف على الوارث باطل، أو صحيح، فرده باقي الورثة، فهو منقطع الاول. وكذا لو وقف على معين يصح الوقف عليه، ثم على الفقراء، فرده المعين، وقلنا بالصحيح: إنه يرتد بالرد، فمنقطع الاول. فرع إذا علق الوقف فقال: إذا جاء رأس الشهر، أو قدم فلان، فقد وقفته، لم يصح على المذهب. وقيل: على الخلاف في منقطع الاول، وأولى بالفساد. فرع وراء منقطع الاول فقط أو الآخر فقط صور. إحداها: أن يكون متصل الاول والآخر والوسط، فصحيح. الثانية: أن يكون منقطعها جميعا، فباطل قطعا. الثالثة: متصل الطرفين منقطع الوسط، بأن وقف على أولاده، ثم رجل مجهول، ثم الفقراء، فان صححنا منقطع الآخر، فهذا أولى، وإلا، فوجهان. اصحهما الصحة، ويصرف عند توسط الانقطاع إلى أقرب الناس إلى الواقف، أو إلى المساكين، أو المصالح، أو الجهة العامة المذكورة آخرا ؟ فيه الخلاف السابق. الرابعة: أن ينقطع الطرفان دون الوسط، وقف بأن على رجل مجهول، ثم على أولاده فقط، فان أبطلنا منقطع الاول، فهذا أولى، وإلا، فالاصح بطلانه أيضا. فان صححنا، ففيمن يصرف إليه الخلاف السابق.
الشرط الثالث : الإلزام. فلو وقف بشرط الخيار، أو قال: وقفت بشرط أني أبيعه، أو أرجع فيه متى شئت، فباطل، واحتجوا له بأنه إزالة ملك إلى(4/393)
الله سبحانه وتعالى، كالعتق، أو إلى الموقوف عليه، كالبيع والهبة، وعلى التقديرين، فهذا شرط مفسد. لكن في فتاوى القفال أن العتق لا يفسد بهذا الشرط، وفرق بينهما بأن العتق مبني على الغلبة والسراية. وعن ابن سريج، أنه يحتمل أن يبطل الشرط، ويصح الوقف. ولو وقف على ولده أو غيره بشرط أن يرجع إليه إذا مات، فهو باطل على المذهب. وعن البويطي، أنه على قولين أخذا من مسألة العمرى. ولو وقف وشرط لنفسه أن يحرم من شاء، أو يقدم أو يؤخر، فالشرط فاسد على الاصح. هذا إذا أنشأ الوقف بهذا الشرط، فلو أطلقه ثم أراد أن يغير ما ذكره بحرمان أو زيادة، أو تقديم أو تأخير، فليس له قطعا. فان صححنا شرطه لنفسه، فشرطه لغيره، ففاسد على الاصح. وإن أفسدناه، ففي فساد الوقف خلاف مبني على أن الوقف كالعتق، أم لا ؟ هذا مجموع ما حضرني من كتب الاصحاب. والذي قطع به جمهورهم، بطلان الشرط والوقف في هذه الصور كلها، وشذ الغزالي فجعل هذه الصور ثلاث مرابب. الاولى: وقفت بشرط أن أرجع متى شئت، أو أحرم المستحق وأحول الحق إلى غيره متى شئت، ففاسد. الثانية: بشرط أن أغير قدر المستحق للمصلحة، فهو جائز. الثالثة: يقول: أغير تفصيله، فوجهان، وهذا الترتيب لا يكاد يوجد لغيره، ثم فيه لبس، فان التحويل المذكور في الاولى هو التغير المذكور في الثانية، والمذهب ما ذكره الجمهور.(4/394)
فصل لو شرط الواقف أن لا يؤجر الوقف، فأوجه. أصحها: يتبع شرطه كسائر الشروط. والثاني: لا، لتضمنه الحجر على مستحقي المنفعة. والثالث: إن منع الزيادة على سنة، اتبع، لانه من مصالحه، وإن منع مطلقا، فلا. فان أفسدنا الشرط، فالقياس فساد الوقف به. وقال الشيخ أبو عاصم: إذا شرط أن لا يؤجر أكثر من سنة، لم يخالف. وقيل: إن كان الصلاح في الزيادة، زيد، وهذا تصحيح للوقف مع فساد الشرط. قلت: ليس هذا فسادا للشرط مطلقا، بخلاف مسألتنا. والله أعلم فصل إذا جعل داره مسجدا، أو أرضه مقبرة، أو بنى مدرسة، أو رباطا، فلكل أحد أن يصلي ويعتكف في المسجد، ويدفن في المقبرة، ويسكن المدرسة بشرط الاهلية، وينزل الرباط، وسواء فيه الواقف وغيره. ولو شرط في الوقف اختصاص المسجد بأصحاب الحديث، أو الرأي، أو طائفة معلومين، فوجهان. أحدهما: لا يتبع شرطه. فعلى هذا قال المتولي: يفسد الوقف لفساد الشرط. والثاني: يتبع ويختص بهم رعاية للشرط وقطعا للنزاع في إقامة الشعائر، ويشبه أن تكون الفتوى بهذا وإن كان الغزالي اقتصر على الاول في الوجيز. قلت: الاصح اتباع شرطه، وصححه الرافعي في المحرر. والمراد بأصحاب الحديث: الفقهاء الشافعية، وبأصحاب الرأي: الفقهاء الحنفية، هذا عرف أهل خراسان. والله أعلم(4/395)
ثم الوجهان، فيما إذا قال: على أصحاب الحديث، فإذا انقرضوا فعلى عامة المسلمين، أما إذا لم يتعرض للانقراض، ففيه خلاف. قلت: يعني اختلفوا في صحة الوقف لاحتمال انقراض هذه الطائفة، والاصح أو الصحيح الصحة. والله أعلم ولو شرط في المدرسة والرباط الاختصاص، اختص قطعا. ولو شرط في المقبرة الاختصاص بالغرباء، أو بجماعة معينين، فالوجه أن يرتب على المسجد. فان قلنا: يختص، فالمقبرة أولى، وإلا، فوجهان، لترددها بين المسجد والمدرسة، وإلحاقها بالمدرسة أصح، فان المقابر للاموات كالمساكن للاحياء، وهذا كله إذا شرط في حال الوقف. أما إذا وقف مطلقا، ثم خصص المدرسة أو المسجد أو غيرهما، فلا اعتبار به قطعا.
الشرط الرابع : بيان المصرف، فلو قال: وقفت هذا واقتصر عليه، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما عند الاكثرين: بطلان الوقف كقوله: بعت داري بعشرة، أو وهبتها، ولم يقل لمن، ولانه لو قال: وقفت على جماعة، لم يصح، لجهالة المصرف. فإذا لم يذكر المصرف، فأولى أن لا يصح. الثاني: يصح، وإليه ميل الشيخ أبي حامد، واختاره صاحب المهذب والروياني، كما لو نذر هديا أو صدقة ولم يبين المصرف، وكما لو قال: أوصيت بثلثي، فانه يصح ويصرف إلى المساكين. وهذا إن كان متفقا عليه، فالفرق مشكل. قلت: الفرق، أن غالب الوصايا للمساكين، فحمل المطلق عليه، بخلاف الوقف، ولان الوصية مبنية على المساهلة، فتصبح بالمجهول والنجس وغير ذلك، بخلاف الوقف. والله أعلم فإن صححنا، ففي مصرفه الخلاف في منقطع الآخر إذا صححناه. وعن ابن(4/396)
سريج، يصرفه الناظر فيما يراه من البر كعمارة المساجد، والقناطر، وسد الثغور، وتجهيز الموتى وغيرها.
فصل في مسائل تتعلق بالباب
الأولى : وقف على رجلين، ثم على المساكين، فمات أحدهما، ففي نصيبه وجهان. أصحهما وهو نصه في حرملة: يصرف إلى صاحبه. والثاني: إلى المساكين، والقياس: أن لا يصرف إلى صاحبه ولا إلى المساكين، بل صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط. قلت: معناه: يكون صرفه مصرف منقطع الوسط، لانه يجئ خلاف في صحة الوقف. والله أعلم الثانية: وقف على شخصين ولم يذكر من يصرف إليه بعدهما، وصححنا الوقف، فمات أحدهما، فنصيبه للآخر، أم حكمه حكم نصيبها إذا ماتا ؟ فيه وجهان. الثالثة: وقف على بطون، فرد البطن الثاني وقلنا: يرتد بردهم فهذا وقف منقطع الوسط، وسبق بيانه، وفيه قول أو وجه: أنه يصرف إلى البطن الثالث. الرابعة: يصح الوقف على أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جوزنا الوقف على قوم غير محصورين، ولا يكون كصرف الزكاة إليهم. الخامسة: قال: وقفت داري على المساكين بعد موتي، قال الشيخ أبو محمد: أفتى الاستاذ أبو إسحاق بصحة الوقف بعد الموت، ووافقه أئمة عصره، وهذا كأنه وصية. يدل عليه أن في فتاوى القفال، أنه لو عرض الدار على البيع، صار راجعا فيه. السادسة: قال: جعلت داري هذه خانقاه للغزاة، لم تصر وقفا بذلك. ولو قال: تصدقت بها صدقة محرمة، ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ولم يزد عليه، ففي صحة هذا الوقف وجهان. فان صح، ففي الفاضل عن المقدار أوجه. أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. والثاني: إلى المساكين والثالث: يكون ملكا للواقف.(4/397)
السابعة: قال: جعلت داري هذه للمسجد، أو سلم دارا إلى قيم المسجد وقال: خذها للمسجد، أو قال: إذا مت فأعطوا من مالي ألف درهم للمسجد، أو فداري للمسجد، لا يكون شيئا، لانه لم توجد صيغة وقف ولا تمليك، ولك أن تقول: إن لم يكن صريحا في التمليك، فلا شك أنه كناية. الثامنة: قال: وقفت داري على زيد وعلى الفقراء، بني على ما إذا أوصى لزيد وللفقراء، فان جعلناه كأحدهم، صح الوقف ولا يحرم زيد. وإن قلنا: له النصف، صح الوقف في نصيب الفقراء. وأما النصف الثاني، فمنقطع الآخر، فان لم يصح، جاء تفريق الصفقة. وهذه المسألة مع المسألتين قبلها منقولة في فتاوى القفال. التاسعة: في فتاوى القفال: أنه لو قال: وقفتها على المسجد الفلاني، لم يصح حتى يبين جهته فيقول: وقفت على عمارته، أو وقفت عليه ليستغل فيصرف إلى عمارته أو إلى دهن السراج ونحوهما، ومقتضى إطلاق الجمهور صحته. قلت: وقد صرح البغوي وغيره بصحته. والله أعلم العاشرة: في فتاوى القفال: أنه لو وقف على رباط أو مسجد معين، ولم يذكر المصرف إن خرب، فهو منقطع الآخر. وفصل صاحب التتمة فقال: إن كان في موضع يستبعد في العادة خرابه، بأن كان في وسط البلدة، فهو صحيح، وإن كان في قرية أو حارة، فهو منقطع الآخر. قلت: ومما يتعلق بهذا الباب.
الباب الثاني : في أحكام الوقف الصحيح إذا صح الوقف، ترتب عليه أحكام. منها: ما ينشأ من اللفظ المستعمل في الوقف ويختلف باختلاف الالفاظ.(4/398)
ومنها: ما يقتضيه المعنى، فلا يختلف باختلاف اللفظ، ويجمع الباب طرفان.
الطرف الأول : في الاحكام اللفظية، والاصل فيه، أن شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف، وفيه مسائل. المسألة الاولى: قال: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، فلا ترتيب، بل يسوى بين الجميع. ولو زاد فقال: ما تناسلوا، أو بطنا بعد بطن، فكذلك، ويحمل على التعميم على الصحيح. وقال الزيادي: قوله: بطنا بعد بطن، يقتضي الترتيب. ولو قال: على أولادي ثم على أولاد أولادي، ثم على أولاد أولاد أولادي ما تناسلوا أو بطنا بعد بطن، فهو للترتيب، ولا يصرف إلى البطن الثاني شئ ما بقي من الاول واحد، ولا إلى الثالث ما بقي من الثاني أحد، كذا أطلقه الجمهور. والقياس فيما إذا مات واحد من البطن الاول، أن يجئ في نصيبه الخلاف السابق فيما لو وقف على شخصين أو جماعة ثم على المساكين فمات واحد، فالى من يصرف نصيبه ؟ ولم أر تعرضا إليه إلا لابي الفرج السرخسي، فانه سوى بين(4/399)
الصورتين، وحكى فيهما وجهين. أحدهما: أن نصيب الميت لصاحبه. والثاني: أنه لاقرب الناس إلى الواقف، وكذا ذكر صاحب الايضاح ان يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. قلت: الصحيح: ما أطلقه الجمهور، لان من بقي بعد موت بعض الاولاد يسمون أولادا، بخلاف ما إذا مات أحد الشخصين. ثم إن مراعاة الترتيب لا تنتهي عند البطن الثالث والرابع، بل يعتبر الترتيب في جميع البطون، فلا يصرف إلى بطن وهناك أحد من بطن أقرب، صرح به البغوي وغيره. والله أعلم ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي الاعلى فالاعلى، أو الاقرب فالاقرب، أو الاول فالاول، أو يبدأ بالاعلى منهم، أو على أن لا حقص لبطن وهناك أحد فوقهم، فمقتضاه الترتيب أيضا. ولو قال: فمن مات من أولادي فنصيبه لولده، اتبع شرطه. فرع قال: على أولادي، ثم على أولاد أولادي، وأولاد أولاد أولادي، فمقتضاه الترتيب بين البطن الاول ومن دونهم، والجمع بين من دونهم. ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي، ثم على أولاد أولاد أولادي، فمقتضاه الجمع أولا، والترتيب ثانيا. فرع قال: على أولادي وأولاد أولادي ومن مات منهم فنصيبه لاولاده، فمات واحد، فنصيبه لاولاده خاصة، ويشاركون الباقين فيما عدا نصيب أبيهم.(4/400)
المسألة الثانية: إذا وقف على الاولاد، ففي دخول أولاد الاولاد ثلاثة أوجه، أصحها: لا يدخلون. والثاني: يدخلون. والثالث: يدخل أولاد البنين دون أولاد البنات، وهذا الخلاف عند الاطلاق، وقد يقرن باللفظ ما يقتضي الجزم بخروجهم، كقوله: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا فلاحفادي الثلث، والباقي للفقراء. ولو وقف على الاولاد، ولم يكن له إلا أولاد الاولاد، حمل اللفظ عليهم، قاله المتولي وغيره. ولو وقف على أولاده وأولاد أولاده، ففي دخول أولاد أولاد أولاده الخلاف. الثالثة: الوقف على الاولاد، يدخل فيه البنون والبنات والخنثى المشكل. الرابعة: الوقف على البنين، لا يدخل فيه الخنثى، وفي دخول بني البنين والبنات الاوجه الثلاثة. الخامسة: الوقف على البنات، لا يدخل فيه الخنثى، وفي بنات الاولاد الاوجه. السادسة: وقف على البنين والبنات، دخل الخنثى على الاصح. وقيل: لا، لانه لا يعد من هؤلاء، ولا من هؤلاء. السابعة: وقف على بني تميم، وصححنا مثل هذا الوقف، ففي دخول نسائهم وجهان. أحدهما: المنع، كالوقف على بني زيد. وأصحهما: الدخول، لانه يعبر به عن القبيلة. الثامنة: وقف على أولاده وأولاد أولاده، دخل فيه أولاد البنين والبنات. فان قال: على من ينتسب إلي من أولاد أولا دي، لم يدخل أولاد البنات على الصحيح. فرع المستحقون في هذه الالفاظ، لو كان أحدهم حملا عند الوقف، هل(4/401)
يدخل حتى يوقف له شئ ؟ فيه وجهان حكاهما المتولي. أحدهما: نعم كالميراث، ويستحق الغلة في مدة الحمل. والصحيح: لا، لانه قبل الانفصال لا يسمى ولدا. وأما غلة ما بعد الانفصال، فيستحقها قطعا. وكذا الاولاد الحادث علوقهم بعد الوقف، يستحقون إذا انفصلوا. هذا هو الصحيح المقطوع به في الكتب. وفي أمالي السرخسي خلافة. قلت: ومما يتفرع على الصحيح أنه لا يستحق غلة مدة الحمل: أنه لو كان الموقوف نخلة، فخرجت ثمرتها قبل خروج الحمل، لا يكون له من تلك الثمرة شئ، كذا قطع به الفوراني والبغوي، وأطلقاه. وقال الدرامي في الاستذكار: في الثمرة التي أطلعت ولم تؤبر، قولان، هل لها حكم المؤبرة فتكون للبطن الاول، أو لا فتكون للثاني ؟ وهذان القولان يجريان هنا. والله أعلم فرع المنفي باللعان، لا يستحق شيئا، لانقطاع نسبه، وخروجه عن كونه ولدا. وعن أبي إسحاق: أنه يستحق، وأثر اللعان مقصور على الملاعن. قلت: فلو استلحقه بعد نفيه، دخل في الوقف قطعا، ذكره البغوي. والله أعلم التاسعة: قال: وقفت على ذريتي أو عقبي أو نسلي، دخل فيه أولاد البنين والبنات، قريبهم وبعيدهم. ولو حدث حمل، قال المتولي: يوقف نصيبه قطعا، لانه من نسله وعقبه قطعا. ولو وقف على عترته، قال ابن الاعرابي وثعلب: هم ذريته. وقال القتيبي: هم عشيرته، وهما وجهان للاصحاب. أصحهما: الثاني، وقد روي ذلك عن زيد بن أرقم. قلت: هذان المذهبان، مشهوران لاهل اللغة، غير مختصين بالمذكورين، لكن أكثر من جعلهم عشيرته، خصهم بالاقربين. قال الازهري: قال بعض أهل اللغة: عترته: عشيرته الادنون. وقال الجوهري: عترته: نسله ورهطه الادنون. وقال الزبيري: عترته: أقرباؤه من ولد وغيره، ومقتضى هذه الاقوال أنه يدخل ذريته عشيرته الادنون، وهذا هو الظاهر المختار. والله أعلم العاشرة: قال: على عشيرتي، فهو كقوله: على قرابتي. وإذا قال: على(4/402)
قرابتي أو أقرب الناس إلي، فعلى ما سنذكره في الوصية إن شاء الله تعالى. وقال المتولي: قوله: على قبيلتي أو عشيرتي، لا يدخل فيه إلا قرابة الاب. ثم إذا كانوا غير محصورين، ففيهم الخلاف السابق. ثم من حدث بعد الوقف يشاركون الموجودين عند الوقف على الصحيح، وعن البويطي منعه. الحادية عشرة: اسم المولى يقع على المعتق ويقال له: المولى الاعلى، وعلى العتيق ويقال له: المولى الاسفل، فإذا وقف على مواليه وليس له إلا أحدهما، فالوقف عليه. وإن وجدا جميعا، فهل يقسم بينهما، أم يختص به الاعلى، أم الاسفل، أم يبطل الوقف ؟ فيه أربعة أوجه. أصحها في التنبيه الاول. وفي الوجيز الرابع. قلت: الاصح، الاول، وقد صححه أيضا الجرجاني في التحرير وحكى الدارمي وجها خامسا، أنه موقوف حتى يصطلحوا، وليس بشئ. والله أعلم.
فصل يرعى شرط الواقف في الاقدار، وصفات المستحقين، وزمن الاستحقاق. فإذا وقف على أولاده وشرط التسوية بين الذكر والانثى، أو تفضيل أحدهما، اتبع شرطه. وكذا الوقف على العلماء بشرط كونهم على مذهب فلان، أو على الفقراء بشرط الغربة أو الشيخوخة، اتبع. ولو قال: على بني الفقراء، أو على بناتي الارامل، فمن استغنى منهم، وتزوج منهن، خرج عن الاستحقاق. فان عاد فقيرا، أو زال نكاحها، عاد الاستحقاق. قلت: ولم أر لاصحابنا تعرضا لاستحقاقها في حال العدة، وينبغي أن يقال: إن كان الطلاق بائنا، أو فارقت بفسخ أو وفاة، استحقت، لانها ليست بزوجة في زمن العدة. وإن كان رجعيا، فلا، لانها زوجة. والله أعلم قال العبادي في الزيادات: لو وقف على أمهات أولاده إلا على من تزوج منهن، فتزوجت، خرجت، ولا تعود بالطلاق، والفرق من حيث اللفظ، أنه أثبت الاستحقاق لبناته الارامل وبالطلاق صارت أرملة، وهنا جعلها مستحقة إلا أن تتزوج، وبالطلاق لا تخرج عن كونها تزوجت. ومن حيث المعنى أن غرضه أن تفي له أم ولده فلا يخلفه عليها أحد، فمن تزوجت لم تف ولو طلقت.(4/403)
فرع لو شرط صرف غلة السنة الاولى إلى قوم، وغلة السنة الثانية إلى آخرين، وهكذا ما بقوا، اتبع شرطه. فرع قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولادي وأولاد أولادي، فعلى الفقراء، فهذا وقف منقطع على الوسط الصحيح، وحكمه ما سبق، لانه لم يجعل لاولاد الاولاد شيئا، وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق الفقراء. وقيل يستحقون بعد انقراض أولاد الصلب. فرع وقف على بنيه الاربعة، على أن من مات منهم وله عقب، فنصيبه لعقبه، ومن مات ولا عقب له، فنصيبه لسائر أصحاب الوقف، ثم مات أحدهم عن ابن، وآخر عن ابنين، وثالث ولا عقب له، فنصيب الثالث بين الرابع وابن الاول الاول وابني الثاني بالسوية. ولو قال: وقفت على بني الخمسة ومن سيولد لي على ما افصله، ثم فصل فقال: ضيعة كذالابني فلان، وحصة كذا لفلان، إلى أن ذكر الخمسة، ثم قال: وأما من سيولد لي، فنصيبه أن من مات من الخمسة ولا عقب له يصرف حقه إليه، فمات واحد من الخمسة ولا عقب له، وولد للواقف ولد، يصرف إلى المولود نصيب الميت، وليس له شئ آخر بقوله أولا: وقفت على بني ومن سيولد لي، لان التفصيل المذكور آخرا بيان لما أجمله أولا، وقد جرت عادة الشروطيين بمثله. فرع قال: وقفت على سكان موضع كذا، فغاب بعضهم سنة ولم يبع داره، ولا استبدل دارا، لا يبطل حقه، ذكره العبادي. فرع وقف على زيد بشرط أن يسكن موضع كذا، ثم بعده على الفقراء والمساكين، فهذا (وقف) منقطع، لان الفقراء إنما يستحقون بعد انقراضه، واستحقاقه مشروط بشرط قد يتخلف.
فصل الصفة والاستثناء عقيب الجمل المعطوف بعضها على بعض يرجعان إلى الجميع. مثال الصفة: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين منهم. ومثال الاستثناء: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي، إلا أن يفسق واحد(4/404)
منهم، هكذا أطلقه الاصحاب. ورأى الامام تقييده بقيدين. أحدهما: أن يكون العطف بالواو، فان كان ب ثم اختصت الصفة والاستثناء بالجملة الاخيرة. والثاني: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل. فان تخلل، كقوله: على أن من مات منهم وله عقب، فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الانثيين، وإن لم يعقب، فنصيبه للذين في درجته، فإذا انقرضوا، فهو مصروف إلى إخوتي إلا أن يفسق أحدهم، فالاستثناء يختص بالاخوة. والصفة المتقدمة على جميع الجمل، كقوله: وقفت على فقراء أولادي وأولاد أولادي وإخوتي، كالمتأخرة عن جميعها، حتى يعتبر الفقر في الكل. فرع البطن الثاني هل يتلقون الوقف من الواقف، أم من البطن الاول ؟ فيه وجهان. أصحهما: من الواقف.
الطرف الثاني : في الأحكام المعنوية، فمنها اللزوم في الحال، سواء أضافه إلما بعد الموت، أم لم يضفه، وسواء سلمه، أم لم يسلمه، قضى به قاض، أم لا.(4/405)
قلت: وسواء في هذا كان الوقف على جهة، أو شخص، وسواء قلنا: الملك في رقبة الوقف لله تعالى، أم للموقوف عليه، أم باق للواقف، ولا خلاف في هذا بين أصحابنا إلا ما شذ به الجرجاني في التحرير فقال: إذا كان على شخص وقلنا: الملك للموقوف عليه، افتقر إلى قبضه كالهبة، وهذا غلط ظاهر وشذوذ مردود، نبهت عليه لئلا يغتر به. والله أعلم وإذا لزم، امتنعت التصرفات القادحة في غرض الوقف وفي شرطه. وسواء في امتناعها الواقف وغيره. وأما رقبة الوقف، فالمذهب وهو نصه في المختصر هنا: أن الملك فيها انتقل إلى الله تعالى. وفي قول: إلى الموقوف عليه. وخرج قول: أنه باق على ملك الواقف. وقيل: بالاول قطعا. وقيل: بالثاني قطعا. وقيل: إن كان الوقف على معين، ملكه قطعا. وإن كان على جهة، انتقل إلى الله تعالى قطعا، واختاره الغزالي، ولا فرق عند جمهور الاصحاب. هذا كله إذا وقف على شخص أو جهة عامة. فأما إذا جعل البقعة مسجدا أو مقبرة، فهو فك عن الملك كتحرير الرقيق، فينقطع عنها اختصاصات الآدميين قطعا.
فصل فوائد الوقف ومنافعه، للموقوف عليه، يتصرف فيها تصرف الملاك في الاملاك. فإن كان شجرة، ملك الموقوف عليه ثمارها، ولا يملك أغصائها إلا فيما يعتاد قطعه كشجر الخلاف، فأغصانها كثمر غيرها، وإن كان الموقوف(4/406)
بهيمة، ملك صوفها ووبرها ولبنها قطعا، ويملك نتاجها أيضا على الاصح كالثمرة. والثاني: تكون وقفا تبعا لامه كولد الاضحية. وقيل: الوجهان في ولد الفرس والحمار، فأما ولد النعم، فيملكه قطعا، لان المطلوب منها الدر والنسل. وقيل: لا حق فيه للموقوف عليه، بل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، إلا أن يصرح بخلافه، وهذا الخلاف في نتاج حدث بعد الوقف. فإن وقف البهيمة وهي حامل، فان قلنا: الحادث وقف، فهذا أولى، وإلا، فوجهان بناء على أن الحمل هل له حكم، أم لا ؟ وهذا المذكور في الدر والنسل هو فيما إذا أطلق أو شرطهما للموقوف عليه. فلو وقف دابة على ركوب إنسان، ولم يشرط له الدر والنسل، قيل: حكمهما حكم وقف منقطع الآخر. وقال البغوي: ينبغي أن يكون للواقف، وهذا أوجه، لان الدر والنسل لا مصرف لهما أولا ولا آخرا. فرع قالوا: لو وقف ثور للانزاء، جاز، ولا يجوز استعماله في الحراثة. فرع لا يجوز ذبح البهيمة المأكولة الموقوفة، وإق خرجت عن الانتفاع، كما لا يجوز إعتاق العبد الموقوف، لكن لو صارت بحيث يقطع بموتها، قال المتولي: تذبح للضرورة. وفي لحمها، طريقان. أحدهما: يشترى بثمنه بهيمة من جنسها وتوقف. والثاني: إن قلنا: الملك فيها ينتقل إلى الله تعالى، فعل فيه الحاكم ما رآه مصلحة. وإن قلنا: للموقوف عليه أو للواقف، صرف اليهما. فرع إذا ماتت البهيمة الموقوفة، فالموقوف عليه أحق بجلدها. وإذا دبغه، ففي عوده وقفا وجهان. قال المتولي. أصحهما: العود.
فصل المنافع المستحقة للموقوف عليه، يجوز أن يستوفيها بنفسه، ويجوز أن يقيم غيره مقامه باعارة أو إجارة، والاجرة ملك له. هذا إن كان الوقف مطلقا، فان قال: وقفت داري ليسكنها من يعلم الصبيان في هذه القرية، فللمعلم أن يسكنها، وليس له أن يسكنها غيره بأجرة ولا بغيرها. ولو قال: وقفت داري على أن تستغل وتصرف غلتها إلى فلان، تعين الاستغلال، ولم يجز له أن يسكنها، كذا(4/407)
ذكرت الصورتان في فتاوى القفال وغيره. ولو كان الوقف مطلقا، فقال الموقوف عليه: اسكن الدار، فقال الناظر: أكريها لاصرف غلتها في مرمتها، فله أن يكري. فرع متى وجب المهر، فوطئ الموقوفة، فهو للموقوف عليه كاللبن والثمرة. فرع لا يجوز وطئ الموقوفة لا للواقف ولا للموقوف عليه، وإن قلنا: الملك فيها لهما، لانه ملك ضعيف. ولو وطئت فلها أحوال. أحدها: أن يطأها أجنبي. فإن لم يكن هناك شبهة، لزمه الحد، والولد رقيق. ثم هل هو ملك طلق، أم وقف ؟ وجهان كنتاج البهيمة، ويجب المهر إن كانت مكرهه. وإن كانت مطاوعة عالمه بالحال، فقيه خلاف سبق في الغصب وإن كان هناك شبهة فلا حد ويجب المهر والولد حر وعليه قيمته، ويكون ملكا للموقوف عليه إن جعلنا الولد ملكا، وإلا، فيشتري بها عبد ويوقف. الحال الثاني: أن يطأها الموقوف عليه. فان لم يكن شبهه، فقيل: لا حد لشبهة الملك، وبه قطع ابن الصباغ. والاصح: أنه يبنى على أقوال الملك، فان جعلناه له، فلا حد، إلا، فعليه الحد. ولا أثر لملك المنفعة، كما لو وطئ الموصى له بالمنفعة الجارية، وهل الولد ملك أو وقف ؟ فيه الوجهان. وإن وطئ(4/408)
بشبهة، فلا حد، والولد حر، ولا قيمة عليه إن ملكناه ولد الموقوفة، وإن جعلناه وقفا اشترى بها عبد آخر ويوقف، وتصير الجارية أم ولد له إن قلنا: الملك للموقوف عليه، فتعتق بموته وتؤدى قيمتها من تركته. ثم هل هي لمن ينتقل الوقف إليه بعده ملك، أم يشترى بها جارية وتوقف ؟ فيه خلاف نذكره في قيمة العبد الموقوف إذا قتل، ولا مهر على الموقوف عليه بحال، لانه لو وجب لوجب له. الحال الثالث: أن يطأها الواقف. فان لم يكن الوطئ بشبهة تفرع على الخلاف في الملك. فان لم نجعل الملك له، فعليه الحد، والولد رقيق. وفي كونه ملكا أو وقفا، الوجهان. ولا تكون الجارية أم ولد له. وإن جعلنا الملك له، فلا حد. وفي نفوذ الاستيلاد إن أولدها الخلاف في استيلاد الراهن، لتعلق حق الموقوف عليه بها، وهذا أولى بالمنع. وإن وطئ بشبهة، فلا حد، والولد حر نسيب وعلية قيمته، وفيما يفعل بها الوجهان. وتصير أم ولد له، إن ملكناه، تعتق بموته وتؤخذ قيمتها. من تركته وفيما يفعل بها الخلاف. فرع في تزويج الموقوفة، وجهان. أحدهما: المنع لما فيه من النقص، وربما ماتت من الطلق، فيفوت حق البطن الثاني. وأصحهما: الجواز، تحصينا لها وقياسا على الاجارة. فعلى هذا، إن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو الذي تزوجها ولا يحتاج إلى إذن أحد. وإن قلنا: لله سبحانه وتعالى زوجها السلطان ويستأذن الموقوف عليه، وكذا إن قلنا: وكذا إن قلنا: للواقف زوجها بإذن الموقوف عليه، هذا كلام الجمهور. وحكى الغزالي وجهين، في أن السلطان هل يستأذن الموقوف عليه، وفي أنه هل يستأذن الواقف أيضا ؟ ويلزم مثله في استئذان الواقف إذا زوج الموقوف عليه، والمهر للموقوف عليه بكل حال. وولدها من الزوج للموقوف عليه ملكا أو وقفا ؟ على الخلاف السابق.(4/409)
قلت: ولو طلبت الموقوفة التزويج، فلهم الامتناع. والله أعلم فرع ليس للموقوف عليه أن يتزوج الموقوفة إن قلنا: إنها ملكه، وإلا،. فوجهان. أصحهما: المنع احتياطا، وعلى هذا لو وقفت عليه زوجته انفسخ النكاح.
فصل حق تولية أمر الوقف في الاصل للواقف، فإن شرطها لنفسه أو لغيره، اتبع شرطه، وأشار في النهاية إلى خلاف فيما إذا كان الوقف على معين، وشرط التولية لاجنبي، هل يتبع شرطه إذا فرعنا على أن الملك في الوقف للموقوف عليه ؟ والمذهب: الاول، وبه قطع الجمهور. وسواء فرض في الحياة أو أوصى، فكل منهما معمول به. وإن وقف ولم يشرط التولية لحد، فثلاثة طرق. أحدها: هل النظر للواقف، أم للموقوف عليه، أم للحاكم ؟ فيه ثلاثة أوجه. والطريق الثاني: يبنى على الخلاف في ملك الرقبة، فإن قلنا: هو للواقف، فالتولية له على الاصح. وقيل: للحاكم، لتعلق حق الغير به. وإن قلنا: لله تعالى، فهي للحاكم. وقيل: للواقف إذا كان الوقف على جهة عامة، فان قيامه بأمر الوقف من تتمة القربة. وقيل: للموقوف عليه إن كان معينا، لان الغلة والمنفعة له. وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فالتولية له. والطريق الثالث قاله كثيرون: التولية للواقف بلا خلاف. والذي يقتضي كلام معظم الاصحاب: الفتوى به أن يقال: إن كان الوقف على جهة عامة، فالتوالية للحاكم كما لو وقف على مسجد أو رباط. وإن كان على معين، فكذلك إن قلنا: الملك ينتقل إلى الله تعالى. وإن جعلناه للواقف، أو الموقوف عليه، فكذلك التولية. فرع لابد من صلاحية المتولي لشغل التولية، والصلاحية بالامانة،(4/410)
والكفاية في التصرف، واعتبارهما كاعتبارهما في الوصي والقيم، وسواء في اشتراطهما المنصوب للتولية والواقف إذا قلنا: هو المتولي عند الاطلاق، وسواء الوقف على الجهة العامة والاشخاص المعينين. وقيل: لا تشترط العدالة إذا كان الوقف على معينين ولا طفل فيهم. فإن خان، حملوه على السداد. والصواب المعروف هو الاول. حتى لو فوض إلى موصوف بالامانة والكفاية، فاختلت إحداهما، انتزع الحاكم الوقف منه. وقبول المتولي ينبغي أن يجئ فيه ما في قبول الوكيل والموقوف عليه. فرع وظيفة المتولي العمارة، والاجارة، وتحصيل الغلة، وقسمتها على المستحقين، وحفظ الاصول والغلات على الاحتياط، هذا عند الاطلاق. ويجوز أن ينصب الواقف متوليا لبعض الامور دون بعض، بأن يجعل إلى واحد العمارة وتحصيل الغلة، وإلى آخر حفظها وقسمتها على المستحقين، أو يشرط لواحد الحفظ واليد، ولآخر التصرف. ولو فرض إلى اثنين، لم يستقل أحدهما بالتصرف. ولو قال: وقفت على أولادي على أن يكون النظر لعدلين منهم، فإن لم يكن فيهم إلا عدل واحد، ضم إليه الحاكم عدلا آخر. فرع لو شرط الواقف للمتولي شيئا من الغلة، جاز، وكان ذلك أجرة عمله، فلو لم يشرط شيئا، ففي استحقاقه أجرة عمله الخلاف السابق فيما لو(4/411)
استعمل إنسانا ولم يذكر له أجرة. ولو شرط للمتولي عشر الغلة أجرة لعمله، ثم عزله، بطل استحقاقه. وإن لم يتعرض لكونه أجرة، ففي فتاوى القفال: أنه لا يبطل استحقاقه، لان العشر وقف عليه، فهو كأحد الموقوف عليهم، ويجوز أن يقال: إذا اثبتنا الاجرة بمجرد التفويض، أخذا من العادة، فالعادة تقتضي أن المشروط للمتولي أجرة عمله، وإن لم يصفه بأنه أجرة، ويلزم من ذلك بطلان الاستحقاق بالعزل. فرع ليس للمتولي أن يأخذ من مال الوقف شيئا على أن يضمنه. ولو فعل، ضمن. ولا يجوز ضم الضمان إلى مال الوقف. وإقراض مال الوقف حكمه حكم إقراض مال الصبي. فرع للواقف أن يعزل من ولاه، وينصب غيره، كما يعزل الوكيل، وكأن المتولي نائب عنه. هذا هو الصحيح، وبه قال الاصطخري، وأبو الطيب ابن سلمة. وفي وجه: ليس له العزل، لان ملكه زال فلا تبقى ولايته عليه، ويشبه أن تكون المسألة مفروضة في التولية بعد تمام الوقف دون ما إذا وقف بشرط أن تكون التولية لفلان، لان في فتاوى البغوي: أنه لو وقف مدرسة على أصحاب الشافعي(4/412)
رضي الله عنه، ثم قال لعالم: فوضت إليك تدريسها، أو اذهب ودرس فيها، كان له إبداله بغيره. ولو وقف بشرط أن يكون هو مدرسها، أو قال حال الوقف: فوضت تدريسها إلى فلان، فهو لازم لا يجوز تبديله، كما لو وقف على أولاده الفقراء، لا يجوز التبديل بالاغنياء، وهذا حسن في صيغة الشرط، وغير متضح في قوله: وقفتها وفوضت التدر يس إليه. قلت: هذا الذي استحسنه الامام الرافعي، هو الاصح أو الصحيح. ويتعين ن تكون صورة المسألة كما ذكر. ومن أطلقها، فكلامه محمول على هذا. وفي فتاوى الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: أنه ليس للواقف تبديل من شرط النظر له حال إنشاء الوقف وإن رأى المصلحة في تبديله، ولا حكم له في ذلك وأمثاله بعد تمام الوقف. ولو عزل الناظر المعين حالة إنشاء الوقف نفسه، فليس للواقف نصب غيره، فإنه لا نظر له بعد أن جعل النظر في حالة الوقف لغيره، بل ينصب الحاكم ناظرا. وفيها: أنه إذا جعل في حالة الوقف النظر لزيد بعد انتقال الوقف من عمرو إلى الفقراء، فعزل زيد نفسه قبل انتقاله إلى الفقراء، لم ينفذ عزله، ولا يملك الواقف(4/413)
عزل زيد في الحال ولا بعدها كما تقدم. وفيها: أنه ليس للناظر أن يسند ما جعل له من الاسناد قبل مصير النظر إليه. وفيها: أنه لو شرط النظر للارشد من أولاد أولاده، فكان الارشد من أولاد البنات، ثبت له النظر. وفيها: أنه إذا شرط النظر للارشد من أولاده، فأثبت كل واحد منهم أنه الارشد، اشتركوا في النظر من غير استقلال إذا وجدت الاهلية في جميعهم. فان وجدت في بعضهم، اختص بذلك، لان البينات تعارضت في الارشد، فتساقطت وبقي أصل الرشد، فصار كما لو قامت البينة برشد الجميع من غير تفصيل، وحكمه التشريك لعدم المزية. وأما عدم الاستقلال، فكما لو أوصى إلى شخصين مطلقا. وفيها: أنه لو كان له النظر على مواضع في بلدان، فأثبت أهلية نظره في مكان منها، ثبت أهليته في باقي الاماكن من حيث الامانة، ولا تثبت من حيث الكفاية، إلا أن تثبت أهليته للنظر في سائر الوقوف. والله أعلم فرع في فتاوى البغوي: أنه لا يبدل بعد موت الواقف القيم الذي نصبه، كأنه يجعل بعد موته كالوصي.
فصل نفقة العبد والبهيمة الموقوفين من حيث شرط الواقف، فإن لم يشرط، ففي الاكساب وعوض المنافع. فإن لم يكن العبد كاسبا، أو تعطل كسبه ومنافعه لزمانة أو مرض، أو لم يف كسبه بنفقته بني على أقوال الملك. فإن قلنا: الملك للموقوف عليه، لزمه النفقة. وإن قلنا: لله تعالى، ففي بيت المال كما لو أعتق من لا كسب له. وإن قلنا: للواقف، فهي عليه. فإذا مات، ففي بيت المال، قاله المتولي، لان التركة انتقلت إلى الورثة، والرقبة لم تنتقل إليهم، فلا يلزمهم النفقة. وقياس قولنا: أن رقبة الوقف الوقف للواقف، انتقالها إلى وارثه، وإذا مات، فمؤنة تجهيزه كنفقته. وأما العقار الموقوف، فنفقته من حيث شرط. فإن لم يشرط، فمن غلته. فإن لم يكن غلة، لم يجب على أحد عمارته كالملك الطلق، بخلاف الحيوان تصان روحه. فصل للواقف ولمن ولاه الواقف إجارة الوقف. وإذا لم ينصب الواقف(4/414)
للتولية أحدا، فالخلاف فيمن له التولية قد سبق، فإن قلنا: المتولي هو الحاكم، فهو الذي يؤجره، وإن قلنا: إنه الموقوف عليه بناء على أن الملك له، يمكن من الاجارة على الصحيح. فإن كان الموقوف عليه جماعة، اشتركوا في الايجار، فان كان فيهم طفل، قام وليه مقامه. والثاني: لا، لانه ربما مات في المدة فيكون تصرفه في نصيب غيره. فإن كان الواقف جعل لكل بطن منهم الاجارة، فلهم الاجارة قطعا. وإذا أجر الموقوف عليه بحكم الملك وجوزناه، فزادت الاجرة في المدة، أو ظهر طالب بالزيادة، لم يتأثر العقد به، كما لو أجر الطلق. ولو أجر المتولي بحكم التولية، ثم حدث ذلك، فكذلك الحكم على الاصح، لان العقد جرى بالغبطة في وقته، فأشبه ما إذا باع الولي مال الطفل ثم ارتفعت القيمة بالاسواق، أو ظهر طالب بالزيادة. والثاني: ينفسخ العقد، لانه بان وقوعه، بخلاف الغبطة في المستقبل. والثالث: إن كانت الاجارة سنة فما دونها، لم يتأثر العقد. وإن كانت أكثر، فالزيادة مردودة، وبه قطع أبو الفرج الزاز في الامالي.
فصل إذا اندرس شرط الواقف، ولم تعرف مقادير الاستحقاق، أو كيفية الترتيب بين أرباب الوقف، قسمت الغلة بينهم بالسوية. وحكى بعض المتأخرين أن الوجه: التوقف إلى اصطلاحهم، وهو القياس. ولو اختلف أرباب الوقف في شرط الوقف، ولا بينة، جعلت الغلة بينهم بالسوية. فإن كان الواقف حيا، رجع إلى قوله، كذا ذكره صاحبا المهذب. والتهذيب ولو قيل: لا رجوع إلى قوله، كما لا رجوع إلى قول البائع إذا اختلف المشتريان منه في كيفية الشراء، لما كان بعيدا. قلت: الصواب: الرجوع إليه، والفرق ظاهر. وقولهم: جعل بينهم، هو فيما إذا كان في أيديهم، أو لا يد لواحد منهم. أما لو كان في يد بعضهم، فالقول قوله. قال الغزالي وغيره. فإن لم يعرف أرباب الوقف، جعلناه كوقف مطلق لم(4/415)
يذكر مصرفه، فيصرف إلى تلك المصارف. والله أعلم.
فصل في تعطل الموقوف واختلال منافعه له سببان. السبب الاول: أن يحصل بسبب مضمون، بأن يقتل العبد الموقوف. فاما أن لا يتعلق بقتله قصاص، وإما أن يتعلق. الضرب الاول: ينظر فيه، هل القاتل أجنبي، أم الموقوف عليه، دم الواقف. الحال الاول: إذا قتله أجنبي، لزمه قيمته. وفي مصرفها طريقان. أحدهما: تخريجها على أقوال ملك الرقبة، إن قلنا: لله تعالى، اشترى بها عبدا يكون وقفا مكانه، فإن لم يوجد، فبعض عبد. وإن قلنا: للموقوف عليه أو الواقف، فوجهان. أصحهما: كذلك لئلا يتعطل غرض الواقف وحق باقي البطون. والثاني: يصرف ملكا إلى من حكمنا له بملك الرقبة، وبطل الوقف. والطريق الثاني: القطع بأنه يشترى بها عبد يكون وقفا. والاصحاب متفقون على أن الفتوى بأنه يشترى عبد. وإذا اشتري عبد وفضل شئ من القيمة، فهل يعود ملكا للواقف، أم يصرف إلى الموقوف عليه ؟ وجهان في فتاوى القفال رحمه الله تعالى. قلت: الوجهان معا ضعيفان، والمختار أنه يشترى به شقص عبد، لانه بدل جزء من الموقوف، والتفريع على وجوب شراء عبد. والله أعلم ثم العبد الذي يجعل بدلا، يشتريه الحاكم إن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى. وإن قلنا للموقوف عليه، فالموقوف عليه. وإن قلنا: للواقف، فوجهان، ذكره أبو العباس الروياني في الجرجانيات. ولا يجوز للمتلف أن يشترى العبد ويقيمه مقام الاول، لان من ثبت في ذمته شئ، ليس له استيفاؤه من نفسه لغيره. فرع العبد المشترى، هل يصير وقفا بالشراء، أم لا بد من وقف جديد ؟ وجهان جاريان في بدل المرهون إذا أتلف. وبالثاني قطع المتولي، وقال: الحاكم(4/416)
هو الذي ينشئ الوقف، ويشبه أن يقال: من يباشر الشراء يباشر الوقف. قلت: الاصح: أنه لا بد من إنشاء الوقف فيه، ووافق المتولي آخرون. والله أعلم فرع لا يجوز شراء عبد بقيمة الجارية، ولا عكسه. وفي جواز شراء الصغير بقيمة الكبير وعكسه، وجهان حكاهما في الجرجانيات. قلت: أقواهما: المنع، لاختلاف الغرض بالنسبة إلى البطون من أهل الوقف. والله أعلم الحال الثاني والثالث: إذا قتله الموقوف عليه أو الواقف، فإن صرفنا القيمة إليه في الحالة الاولى ملكا، فلا قيمة عليه إذا كان هو القاتل، وإلا، فالحكم والتفريع كالحالة الاولى. الضرب الثاني: ما يتعلق به القصاص، فإن قلنا: الملك للواقف أو الموقوف عليه، وجب القصاص ويستوفيه المالك منهما. وإن قلنا: لله تعالى، فهو كعبيد بيت المال. والاصح: وجوب القصاص، قاله المتولي، ويستوفيه الحاكم. فرع حكم أروش الاطرا ف والجنايات على العبد الموقوف فيما دون النفس حكم قيمته في جميع ما ذكرناه، هذا هو الصحيح. وفي وجه: يصرف إلى الموقوف عليه على كل قول كالمهر والاكساب. فرع إذا جنى العبد الموقوف جناية موجبة للقصاص، فللمستحق الاستيفاء. فإن استوفى، فات الوقف كموته. وإن عفا على مال، أو كانت موجبة للمال، لم تتعلق برقبته، لتعذر بيع الوقف، لكن يفدى كأم الولد إذا جنت. فان قلنا: الملك للواقف، فداه، وإن قلنا: لله تعالى، فهل يفديه الواقف، أم بيت المال، أم يتعلق بكسبه ؟ فيه أوجه. أصحها: أولها. وإن قلنا: للموقوف عليه، فداه على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقيل: على الواقف. وقيل: إن قلنا:(4/417)
الوقف لا يفتقر إلى القبول، فعلى الواقف، وإلا، فعلى الموقوف عليه. وحيث أوجبنا الفداء على الواقف، فكان ميتا، ففي الجرجانيات أنه أن ترك مالا، فعلى الوارث الفداء. وقال المتولي: لا يفدي من التركة، لانها انتقلت إلى الوارث. فعلى هذا (هل) يتعلق بكسبه، أم ببيت المال كالحر المعسر الذي لا عاقلة له ؟ وجهان. ولو مات العبد عقب الجناية بلا فصل، ففي سقوط الفداء وجهان. أحدهما: نعم، كما لو جنى القن ثم مات. وأصحهما: لا، وبه قال ابن الحداد. ويجري الخلاف، فيما إذا جنت أم الولد وماتت، وتكرر الجناية من العبد الموقوف كتكررها من أم الولد. قلت: وحيث أوجبنا الارش في جهة، وجب أقل الامرين من قدر قيمته والارش، كذا صرح به الاصحاب، منهم صاحبا المهذب والتهذيب. وأما قول صاحب البيان: إذا أوجبنا على الموقوف عليه تعين الارش، فشاذ باطل. والله أعلم السبب الثاني: أن يحصل التعطل بسبب غير مضمون. فان لم يبق شئ منه ينتفع به، بأن مات الموقوف، فقد فات الوقف. وإن بقي، كشجرة جفت، أو قلعتها الريح، فوجهان. أحدهما: ينقطع الوقف كموت العبد. فعلى هذا، ينقلب الحطب ملكا للواقف. وأصحهما لا ينقطع. وعلى هذا، وجهان. أحدهما: يباع ما بقي، لتعذر الانتفاع بشرط الواقف. فعلى هذا، الثمن كقيمة المتلف. فعلى وجه: يصرف إلى الموقوف عليه ملكا. وفي وجه: يشترى به شجرة، أو شقص شجرة من جنسها، لتكون وقفا. ويجوز أن يشترى به ودي يغرس موضعها. وأصحها: منع البيع. فعلى هذا، وجهان. أحدهما: ينتفع باجارته جذعا إدامة للوقف في عينه. والثاني: يصير ملكا للموقوف عليه، واختار المتولي وغيره الوجه الاول إن أمكن استيفاء منفعة منه مع بقائه، والوجه الثاني إن كانت منفعته في استهلاكه. فرع زمانه الدابة الموقوفة، كجفاف الشجرة.(4/418)
قلت: هذا إذا كانت الدابة مأكولة، فإنه يصح بيعها للحمها، فان كانت غير مأكولة، لم يجئ الخلاف في بيعها، لانه لا يصح بيعها إلا على الوجه الشاذ في صحة بيعها اعتمادا على جلدها. والله أعلم فرع حصر المسجد إذا بليت، ونحاتة أخشابق إذا نخزت، وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال، في جواز بيعها وجهان. أصحهما: تباع، لئلا تضيع وتضيق المكان بلا فائدة. والثاني: لا تباع، بل تترك بحالها أبدا. وعلى الاول، قالوا: يصرف ثمنها في مصالح المسجد. والقياس: أن يشترى بثمن الحصير حصير، ولا يصرف في مصلحة أخرى، ويشبه أن يكون هو المراد باطلاقهم. وجذع المسجد المنكسر إذا لم يصلح لشئ سوى الاحراق، فيه هذا الخلاف. وإن أمكن أن يتخذ منه ألواح أو أبواب، قال المتولي: يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف. ويجري الخلاف في الدار المنهدمة، وفيما إذا أشرف الجذع على الانكسار والدار على الانهدام. قال الامام: وإذا جوزنا البيع، فالاصح صرف الثمن إلى جهة الوقف. وقيل: هو كقيمة المتلف، فيصرف إلى الموقوف عليه ملكا على رأي، وإذا قيل به فقال الموقوف عليه: لا(4/419)
تبيعوها واقلبوها إلى ملكي، فلا يجاب على المذهب، ولا تنقلب عين الوقف ملكا، وقيل: تنقلب ملكا بلا لفظ. فرع لو انهدم المسجد، أو خربت المحلة حوله وتفرق الناس عنها فتعطل المسجد، لم يعد ملكا بحال، ولا يجوز بيعه، لامكان عوده كما كان، ولانه في الحال يمكن الصلاة فيه. ثم المسجد المعطل في الموضع الخراب، إن لم يخف من أهل الفساد نقضه، لم ينفض. وإن خيف، نقض وحفظ وإن رأى الحاكم أن يعمر بنقضه مسجدا آخر، جاز، وما كان أقرب إليه، فهو أولى، ولا يجوز صرفه إلى عمارة بئر أو حوض، وكذا البئر الموقوفة إذا خرب ت، يصرف نقضها إلى بئر أخرى أو حوض، لا (إلى) المسجد، ويراعي غرض الواق ف ما أمكن. فرع جميع ما ذكرناه في حصر المسجد ونظائرها، هو فيما إذا كانت موقوفة على المسجد. أما ما اشتراه الناظر للمسجد، أو وهبه له واهب، وقبله الناظر، فيجوز بيعه عند الحاجة بلا خلاف، لانه ملك، حتى إذا كان المشتري للمسجد شقصا، كان للشريك الاخذ بالشفعة. ولو باع الشريك، فللناظر الاخذ بالشفعة عند الغبطة، هكذا ذكروه. قلت: هذا إذا اشتراه الناظر ولم يقفه. أما إذا وقفه، فإنه يصير وقفا قطعا، وتجري عليه أحكام الوقف. والله أعلم فرع لوقف على ثغر، فاتسعت خطة الاسلام حوله، تحفظ غلة الوقف، لاحتمال عودة ثغرا.(4/420)
فرع قال أبو عاصم العبادي: لو وقف على قنطرة، فانخرق الوادي وتعطلت تلك القنطرة واحتيج إلى قنطرة أخرى، جاز النقل إلى ذلك الموضع. فرع إذا خرب العقار الموقوف على المسجد وهناك فاضل من غلته، بدئ منه بعمارة العقار. فرع قال ابن كج: إذا حصل مال كثير من غلة المسجد، أعد منه قدر ما لو خرب المسجد أعيدت به العمارة، والزائد يشترى به للمسجد ما فيه زيادة غلة. وفي فتاوى القفال: أن الموقوف لعمارة المسجد لا يشترى به شئ أصلا، لان الواقف وقف على العمارة.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالباب إحداها: وقف على الطالبيين، وجوزناه، كفى الصرف إلى ثلاثة، ويجوز أن يكون أحدهم من أولاد علي، والثاني من أولاد جعفر، والثالث من أولاد عقيل، رضي الله عنهم. ولو وقف على أولاد علي وأولاد عقيل وأولاد جعفر رضي الله عنهم، فلا بد من الصرف إلى ثلاثة من كل صنف. الثانية: وقف شجرة، ففي دخول المغرس وجهان، وكذا حكم الاساس مع البناء. الثالثة: وقف على عمارة المسجد، لا يجوز صرف الغلة إلى النقش والتزويق، وذكر في العدة أنه يجوز دفع أجرة القيم منه، ولا يجوز صرف شئ منه إلى الامام والمؤذن، والفرق أن القيم يحفظ العمارة. قال: ويجوز أن يشترى منه البواري، ولا يشترى الدهن على الاصح. والذي ذكره البغوي وأكثر من تعرض(4/421)
للمسألة: أنه لا يشترى منه الدهن ولا الحصير. والتجصيص الذي فيه إحكام، معدود من العمارة. وإذا وقف على عمارة المسجد، جاز أن يشترى منه سلم لصعود السطح، ومكانس يكنس بها، ومساحي لنقل التراب، لان ذلك كله لحفظ العمارة. ولو كان يصيب بابه المطر ويفسده، جاز بناء ظلة منه، وينبغي أن لا يضر بالمارة. ولو وقف على مصلحة المسجد، لم يجز النقش والتزويق، ويجوز شراء الحصر والدهن، والقياس جواز الصرف إلى الامام والمؤذن أيضا. والموقوف على الحشيش والسقف، لا يصرف إلى الحصير ولا بالعكس، والموقوف على أحدهما لا يصرف إلى اللبود ولا بالعكس. ولو وقف على المسجد مطلقا، وجوزناه، قال البغوي: هو كالوقف على عمارة المسجد. وفي الجرجانيات في جواز الصرف إلى النقش والتزويق في هذه الصورة وجهان. وفي فتاوى الغزالي: أنه يجوز هنا صرف الغلة إلى الامام والمؤذن، وأنه يجوز بناء منارة للمسجد، ويشبه أن يجوز بناء المنارة من الموقوف على عمارة المسجد أيضا. ولو وقف على النقش والتزويق، فوجهان قريبان من الخلاف في جواز تحلية المصحف. قلت: الاصح: لا يصح الوقف على النقش والتزويق، لانه منهي عنه. والله أعلم الرابعة: إذا قال المتولي: أنفقت كذا، فالظاهر قبول قوله عند الاحتمال. الخامسة: لا يجوز قسمة العقار الموقوف بين أرباب الوقف. وقال اب القطان: إن قلنا: القسمة إفراز، جاز، فإذا انقرض البطن الاول، انقضت القسمة، ويجوز لاهل الوقف المهايأة، قاله ابن كج. السادسة: لا يجوز تغيير الوقف عن هيئته، فلا تجعل الدار بستانا ولا حماما، ولا بالعكس، إلا إذا جعل الواقف إلى الناظر ما يرى فيه مصلحة للوقف. وفي فتاوى القفال: أنه يجوز أن يجعل حانوت القصارين للخبازين، فكأنه احتمل تغيير النوع دون الجنس. ولو هدم الدار أو البستان ظالم، أخذ منه الضمان وبني به أو غرس(4/422)
ليكون وقفا مكان الاول. ولو انهدم البناء وانقلعت الاشجار، استغلت الارض بالاجارة لمن يزرعها أو يضرب فيها خيامه، ثم تبنى وتغرس من غلتها، ويجوز أن يقرض الامام الناظر من بيت المال، أو يأذن له في الاقتراض أو الانفاق من مال نفسه على العمارة بشرط الرجوع، وليس له الاقتراض دون إذن الامام. السابعة: لو تلف الموقوف في يد الموقوف عليه من غير تعد، فلا ضمان عليه. قلت: ومن ذلك الكيزان المسبلة على أحواض الماء والانهر ونحوها، فلا ضمان على من تلف في يده شئ منها بلا تعد. فإن تعدى، ضمن، ومن التعدي، استعماله في غير ما وقف له. والله أعلم الثامنة: لو انكسر المرجل والطنجير الموقوفان، ووجد متبرع بالاصلاح، فذاك، وإلا، اتخذ منه أصغر وأنفق الباقي على إصلاحه. فان لم يمكن اتخاذ(4/423)
مرجل وطنجير، اتخذ منه ما يمكن من قصعة ومغرفة وغيرهما، ولا حاجة هنا إلى إنشاء وقفه، فإنه غير الموقوف. التاسعة: الوقف على الفقراء، هل يختص بفقراء بلد الواق ؟ فيه الخلاف المذكور فيما لو أوصى للفقراء. وهل يجوز الدفع (منه) إلى فقيرة لها زوج يمونها ؟ فيه خلاف سبق في أول قسم الصدقات. قلت: سبق هناك، أن الاصح أنه لا يدفع إليها ولا إلى الابن المكفي بنفقة أبيه، قال صاحب المعاياة: ولو كان له صنعة يكتسب بها كفايته ولا مال له، استحق الوقف باسم الفقر قطعا. وفي هذا الذي قاله احتمال. والله أعلم العاشرة: سئل الحناطي عن شجرة تنبت في المقبرة، هل يجوز للناس الاكل من ثمرها ؟ فقال: قيل: يجوز، وعندي الاولى أن تصرف في مصالح المقبرة. قلت: المختار: الجواز. والله أعلم قلت: وإن غرسها مسبلة للاكل، جاز أكلها بلا عوض، وكذا إن جهلت نيته حيث جرت العادة به، وسبق في كتاب الصلاة أنها تقلع. والله أعلم الحادية عشرة: قال الائمة: إذا جعل البقعة مسجدا، فكان فيها شجرة، جاز للامام قلعها باجتهاده. وبماذا ينقطع حق الواقف عن الشجرة ؟ قال الغزالي في الفتاوى: مجرد ذكر الارض لا يخرج الشجرة عن ملكه كبيع الارض، وحينئذ لا يكلف تفريغ الارض، ولك أن تقول: في استتباع الارض للشجر في البيع قولان. وإذا قال: جعلت هذه الارض مسجدا، فلا تدخل الشجرة قطعا، لانها لا تجعل مسجدا. ولو جعل الارض مسجدا، ووقف الشجرة عليها، فعلى هذه الصورة ونحوها ينزل كلام الاصحاب. الثانية عشرة: أفتى الغزالي بأنه يجوز وقف الستور لتستر بها جدران المسجد، وينبغي أن يجئ فيه الخلاف السابق في النقش والتزويق.(4/424)
الثالثة عشرة: لو وقف على دهن السراج للمسجد، جاز وضعه في جميع الليل، لانه أنشط للمصلين. قلت: إنما يسرج جميع الليل إذا انتفع به من في المسجد كمصل ونائم وغيرهما. فإن كان المسجد مغلقا ليس فيه أحد، ولا يمكن دخوله، لم يسرج، لانه إضاعة مال. والله أعلم(4/425)
كتاب الهبة
قسم الشافعي رضي الله عنه العطايا، فقال: تبرع الانسان بماله على غيره، ينقسم إلى معلق بالموت وهو الوصية، وإلى منجز في الحياة، وهو ضربان. أحدهما: تمليك محض، كالهبات والصدقات. والثاني: الوقف. والتمليك المحض: ثلاثة أنواع: الهبة، والهدية، وصدقة التطوع. وسبيل ضبطها أن نقول: التمليك لا بعوض هبة. فإن انضم إليه حمل الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب له إعظاما له أو إكراما، فهو هدية، وإن انضم إليه كون التمليك للمحتاج تقربا إلى الله تعالى، وطلبا لثواب الآخرة، فهو(4/426)
صدقة، فامتياز الهدية عن الهبة بالنقل والحمل من موضع إلى موضع، ومنه إهداء النعم إلى الحرم، ولذلك لايدخل لفظ الهدية في العقار بحال، فلا يقال: أهدى إليه دارا، ولا أرضا، وإنما يطلق ذلك في المنقولات كالثياب والعبيد، فحصل من هذا أن هذه الانواع تفترق بالعموم والخصوص، فكل هدية وصدقة هبة، ولا تنعكس. ولهذا لو حلف لا يهب، فتصدق، حنث، وبالعكس لا يحنث. واختلفوا في أنه هل يشترط في حد الهدية أن يكون بين المهدي والمهدي إليه رسول أو متوسط، أم لا ؟ فحكى أبو عبد الله الزبيري، فيما إذا حلف لا يهدي إليه، فوهب له خاتما أو نحوه يدا بيد، هل يحنث ؟ وجهين. والاصح: أنه لا يشترط، وينتظم أن يقول لمن حضر عنده: هذه هديتي أهديتها لك. وهذه الانواع الثلاثة مندوب إليها، وتفترق في أحكام، وتشترك في أحكام، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. قلت: قال أصحابنا: وفعلها مع الاقارب ومع الجيران أفضل من غيرهم. والله أعلم فرع ينبغي أن لا يحتقر القليل فيمتنع من إهدائه، وأن لا يستنكف المهدى إليه عن قبول القليل. قلت: ويستحب للمهدى إليه أن يدعو للمهدي، ويستحب للمهدي إذا دعا له المهدى إليه، أن يدعو أيضا له، وقد أوضحت ذلك مع بيان ما يدعو به في كتاب الاذكار. والله أعلم فصل ويشتمل الكتاب على بابين.
أحدهما : في أركان الهبة وشرط لزومها. أما أركانها فأربعة.
الركن الأول والثاني : العاقدان، وأمرهما واضح.
الركن الثالث : الصيغة. أما الهبة، فلا بد فيها من الايجاب والقبول باللفظ، كالبيع وسائر التمليكات.(4/427)
وأما الهدية، ففيها وجهان. أحدهما: يشترط فيها الايجاب والقبول، كالبيع والوصية، وهذا ظاهر كلام الشيخ أبي حامد والمتلقين عنه. والثاني: لا حاجة فيها إلى إيجاب وقبول باللفظ، بل يكفي القب ض ويملك به، وهذا هو الصحيح الذي عليه قرار المذهب ونقله الاثبات من متأخري الاصحاب، وبه قطع المتولي والبغوي، واعتمده الروياني وغيرهم، واحتجوا بأن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقبلها، ولا لفظ هناك، وعلى جرى ذلك الناس في الاعصار، ولذلك كانوا يبعثون بها على أيدي الصبيان الذين لا عبارة لهم. فإن قيل: هذا كان إباحة لا هدية وتمليكا، فجوابه أنه لو كان إباحة، لما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن ما قبله النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يتصرف فيه ويملكه غيره. ويمكن أن يحمل كلام من اعتبر الايجاب والقبول على الامر المشعر بالرضى دون اللفظ، ويقال: الاشعار بالرضى قد يكون لفظا وقد يكون فعلا. فرع الصدقة كالهدية بلا فرق فيما ذكرناه، وسواء فيما ذكرناه في الهدية الاطعمة وغيرها. فرع في مسائل تتعلق بما سبق إحداها: حيث اعتبرنا الايجاب والقبول، لا يجوز التعليق على شرط، ولا التوقيت على المذهب، وفيهما كلام سنذكره في العمرى إن شاء الله تعالى، وكذلك لا يجوز تأخير القبول عن الايجاب، بل يشترط التواصل المعتاد كالبيع، وعن ابن سريج جواز تأخير القبول كما في الوصية، وهذا الخلاف حكاه كثيرون في الهبة، وخصه المتولي بالهدية، وجزم بمنع التأخير في الهبة، والقياس التسوية بينهما. ثم في الهدايا التي يبعث بها (من) موضع إلى موضع، وإن اعتبرنا اللفظ والقبول على الفور، فاما أن يوكل الرسول(4/428)
ليوجب ويقبل المبعوث إليه، وإما أن يوجب المهدي ويقبل المهدى إليه عند الوصول إليه. الثانية: إذا كانت الهبة لمن ليس له أهلية القبول، نظر، إن كان الواهب أجنبيا، قبل له من يلي أمره من ولي ووصي وقيم. وإن كان الواهب ممن يلي أمره، فان كان غير الاب والجد، قبل له الحاكم أو نائبه. وإن كان أبا أو جدا، تولى الطرفين. وهل يحتاج إلى لفظي الايجاب والقبول، أم يكفي أحدهما ؟ وجهان كما سبق في البيع. قال الامام: وموضع الوجهين في القبول، ما إذا أتى بلفظ مستقل، كقوله: اشتريت لطفلي، أو اتهبت له كذا. أما قوله: قبلت البيع والهبة، فلا يمكن الاقتصار عليه بحال. فرع لا اعتبار بقبول متعهد الطفل الذي لا ولاية له عليه. الثالثة: إذا وهب لعبد غيره، فالمعتبر قبول العبد. وفي افتقاره إلى إذن سيده خلاف سبق. الرابعة: وهب له شيئا فقبل نصفه، أو وهب له عبدين، فقبل أحدهما، ففي صحته وجهان. والفرق بينه وبين البيع، أن البيع معاوضة. الخامسة: غرس أشجارا وقال عند الغراس: أغرسه لابني، لم يصر للابن. ولو قال: جعلته لابني وهو صغير، صار للجبن، لان هبته له لا تقتضي قبولا،(4/429)
بخلاف ما لو جعله لبالغ، كذا قاله الشيخ أبو عاصم، وهو ملتفت إلى الانعقاد بالكنايات، وإلى أن هبة الابلابنه الصغير يكفي فيها أحد الشقين. السادسة: لو ختن ابنه واتخذ دعوة، فحملت إليه هدايا ولم يسم أصحابها الاب ولا الابن، فهل تكون الهدية ملكا للاب، أم للابن ؟ فيه وجهان. قلت: قطع القاضي حسين في الفتاوى بأنه للابن، وأنه يجب على الاب أن يقبلها لولده، فإن لم يقبل، أثم. قال: وكذا وصي وقيم، يقبل الهدية والوصية للصغير. قال: فإن لم يقبل الوصي الوصية والهدية، أثم وانعزل لتركه النظر. وفي فتاوى القاضي: أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال: تكون ملكا للاب، لان الناس يقصدون التقرب إليه، وهذا أقوى وأصح. والله أعلم السابعة: بعث إليه هدية في ظرف، والعادة - في مثلها رد الظرف، لم يكن الظرف هدية. فان كان العادة أن لا يرد كقوصرة التمر، فالظرف هدية أيضا، وقد يميز القسمان بكونه مشدودا فيه وغير مشدود. وإذا لم يكن الظرف هدية، كان أمانة في يد المهدي إليه، وليس له استعماله في غير الهدية. وأما فيها، فان اقتضت العادة تفريغه، لزم تفريغه. وإن اقتضت التناول منه، جاز التناول منه، قال البغوي: ويكون عارية. الثامنة: بعث كتابا إلى حاضر أو غائب، وكتب فيه أن اكتب الجواب على ظهره، لزمه رده، وليس له التصرف فيه، وإلا، فهو هدية يملكها المكتوب إليه، قاله المتولي. وقال غيره: يبقى على ملك الكاتب، وللمكتوب إليه الانتفاع به على سبيل الاباحة.(4/430)
قلت: هذا الثاني حكاه صاحب البيان عن حكاية القاضي أبي الطيب عن بعض الاصحاب، والاول أصح. والله أعلم التاسعة: أعطاه درهما وقال: ادخل به الحمام، أو دراهم وقال: اشتر بها لنفسك عمامة ونحو ذلك، ففي فتاوى القفال: أنه إن قال ذلك على سبيل التبسط المعتاد، ملكه وتصرف فيه كيف شاء. وإن كان غرضه تحصيل ما عينه لما رأى به من الشعث والوسخ، أو لعلمه بأنه مكشوف الرأس، لم يجز صرفه إلى غير ما عينه. قلت: وقال القاضي حسين في الفتاوى: وهل يتعين ؟ يحتمل وجهين. وقال: ولو طلب الشاهد مركوبا ليركبه في أداء الشهادة، فأعطاه دراهم ليصرفها إلى مركوب، هل له صرفها إلى جهة أخرى ؟ وجهان. الصحيح المختار، ما قاله القفال. قال القاضي: ولو قال: وهبتك هذه الدراهم بشرط أنك تشتري بها خبزا لتأكله، لم تصح الهبة، لانه لم يطلق له التصرف. والله أعلم العاشرة: سئل الشيخ أبو زيد رحمه الله تعالى عن رجل مات أبوه، فبعث إليه رجل ثوبا ليكفنه فيه، هل يملكه حتى يمسكه ويكفنه في غيره ؟ فقال: إن كان الميت ممن يتبرك بتكفينه لفقه وورع، فلا، ولو كفنه في غيره، وجب رده إلى مالكه. الحادية عشرة: في فتاوى الغزالي: أن خادم الصوفية الذي يتردد في السوق ويجمع لهم شيئا يأكلونه، يملكه الخادم الصرف ولا يلزمه الصرف إليهم، إلا أن المروءة تقتضي الوفاء بما تصدى له، ولو لم يف، فلهم منعه من أن يظهر الجمع لهم والانفاق عليهم. وإنما ملكه لانه ليس بولي ولا وكيل عنهم، بخلاف هدايا الختان.(4/431)
قلت: ومن مسائل الفصل، أن قبول الهدايا التي يجئ بها الصبي المميز، جائز باتفاقهم، وقد سبق في كتاب البيع، وإنه يجوز قبول هدية الكافر، وأنه يحرم على العمال وأهل الولايات قبول هدية من رعاياهم. والله أعلم.
فصل في العمرى والرقبى أما العمرى، فقوله: أعمرتك هذه الدار مثلا، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو حييت، أو بقيت، وما يفيد هذا المعنى. ثم له أحوال. أحدها: أن يقول مع ذلك: فإذا مت، فهي لورثتك أو لعقبك وهي الهبة بعينها، لكنه طول العبارة فإذا مات. فالدار لورثته، فان لم يكونوا، فلبيت المال، ولا يعود إلى الواهب بحال. الثاني: يقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولم يتعرض لما سواه، فقولان. أظهرهما وهو الجديد: أنه يصح، وله حكم الهبة. والقديم: أنه باطل. وقيل: إن القديم: أن الدار تكون للمعمر حياته. فإذا مات، عادت إلى الواهب أو ورثته كما شرط. وقيل: القديم: أنها تكون عارية يستردها متى شاء، فإذا مات، عادت إلى الواهب.(4/432)
الثالث: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا مت عادت إلي أو إلى ورثتي إن كنت مت. فان قلنا بالبطلان في الحال الثاني، فهنا أولى. وإن قلنا بالصحة والعود إلى الواهب، فكذا هنا. وإن قلنا بالجديد، فوجهان. أحدهما: البطلان. والصحيح: الصحة، وبه قطع الاكثرون، ونسووا بينه وبين حالة الاطلاق، وكأنهم أخذوا باطلاق الاحاديث الصحيحة وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة. وأما الرقبى: فهو أن يقول: وهبت لك هذه الدار عمرك، على أنك إن مت قبلي عادت إلي. وإن مت قبلك استقرت لك، أو جعلت هذه الدار لك رقبى، أو أرقبتها لك. وحكمها حكم الحال الثالث من العمرى، وحاصله طريقان. أحدهما: القطع بالبطلان. وأصحهما: قولان. الجديد الاظهر: صحته، ويلغو الشرط. فالحاصل أن المذهب صحة العمرى والرقبى في الاحوال الثلاثة، فإذا صححناهما وألغينا الشرط، تصرف المعمر في المال كيف شاء. وإن أبطلنا العقد أو جعلناه عارية، فلا يخفى أنه ليس له التصرف بالبيع ونحوه وإن قلنا بصحة العقد والشرط، فباع الموهوب له ثم مات، فقد ذكر الامام احتمالين. أصحهما عنده: لا ينفذ البيع، لان مقتضى البيع التأبيد، وهو لم يملك إلا مؤقتا، فكيف يملك غيره ما لم يملكه ؟ والثاني: ينفذ كبيع المعلق عتقه على صفة، وبهذا قطع ابن كج وعلله بأنه ملك في الحال، والرجوع أمر يحدث، وشبهه برجوع نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول. فإذا صححنا بيعه، فيشبه أن يرجع الواهب في تركته بالغرم رجوع الزوج إذا طلق بعد خروج الصداق عن ملكها. قال الامام: وفي رجوع المال إلى ورثة الواهب إذا مات قبل الموهوب له، استبعاد، لانه إثبات ملك لهم فيما لم يملكه المورث، لكنه كما لو نصب شبكة فوقع بها صيد بعد موته، يكون ملكا للورثة. والصحيح: أنه تركة تقضى منها ديونه وتنفذ الوصايا. فرع قال: جعلت هذه الدار لك عمري أو حياتي، فوجهان. أحدهما: أنه كقوله: جعلتها لك عمرك أو حياتك، لشمول اسم العمرى. وأصحهما: البطلان، لخروجه عن اللفظ المعتاد، ولما فيه من تأقيت الملك، فانه قد يموت الواهب أولا، بخلاف العكس، فإن الانسان لا يملك إلا مدة حياته، فلا توقيت(4/433)
فيه. وأجري الخلاف فيما لو قال: جعلتها لك عمر فلان. وخرج من تصحيح العقد وإلغاء الشرط في هذه الصرة وجه: أن الشرط الفاسد لا يفسد الهبة، وطرد ذلك في الوقف. ثم منهم من خص الخلاف في هذه القاعدة بما هو من قبيل الاوقات، كقوله: وهبتك أو وقفتها سنة. ومنهم من طرده في كل شرط، كقوله: وهبتك بشرط أن لا تبيعه إذا قبضته ونحو ذلك، وفرقوا بين البيع والهبة والوقف، بأن الشرط في البيع يورث جهالة الثمن فيفسد البيع. والمذهب فساد الهبة والوقف بالشروط المفسدة للبيع، بخلاف العمرى، لما فيها من الاحاديث الصحيحة. فرع لو باع على صورة العمرى فقال: ملكتكها بعشر عمرك، قال ابن كج: لا يبعد عندي جوازه تفريعا على الجديد. وقال أبو علي الطبري: لا يجوز. فرع لا يجوز تعليق العمرى، كقوله: إذا مات أو قدم فلان أو جاء رأس الشهر فقد أعمرتك هذه الدار، أو فهي لك عمرك. فلو علق بموته فقال: إذا مت فهذه الدار لك عمرك، فهي وصية تعتبر من الثلث. فلو قال: إذا مت فهي لك عمرك، فإذا مت عادت إلى ورثتي، فهي وصية بالعمرى على صورة الحالة الثالثة. فرع جعل رجلان كل واحد منهما داره للآخر عمره، على أنه إذا مات قبله، عاد ت إلى صاحب الدار، فهذه رقبى من الجانبين. فرع قال: داري لك عمرك، فإذا مت فهي لزيد، أو عبدي لك عمرك، فإذا مت فهو حر، صحت العمرى على قوله الجديد، ولغا المذكور بعدها.
الركن الرابع : الموهوب، فما جاز بيعه، جازت هبته، وما لا، فلا، هذا(4/434)
هو الغالب. وقد يختلفان، فتجوز هبة المشاع سواء المنقسم وغيره، وسواء وهبه للشريك أو غيره، وتجوز هبة الارض المزروعة مع زرعها ودون زرعها وعكسه. فرع لو وهب لاثنين، فقبل أحدهما نصفه، فوجهان كالبيع. وقطع صاحب الشامل بالتصحيح. فرع لا تصح هبة المجهول، ولا الآبق والضال، وتجوز هبة المغصوب لغير الغاصب إن قدر على الانتزاع، وإلا، فوجهان. وأما هبته للغاصب، فقد ذكرناها في كتاب الرهن. وتجوز هبة المستعار لغير المستعير ثم إذا قبض الموهوب له بالاذن، برئ الغاصب والمستعير من الضمان، وتجوز هبة المستأجرة إذا جوزنا بيعها، وإلا، ففيها الوجهان. ثم قال الشيخ أبو حامد وغيره: ولو وكل الموهوب له الغاصب أو المستعير أو المستأجر في قبض ما في يده في نفسه، وقبل، صح. وإذا مضت مدة يتأنى فيها القبض، برئ الغاصب والمستعير من الضمان، وهذا يخالف الاصل المشهور في أن الشخص لا يكون قابضا مقبضا، وفي هبة المرهون وجهان. إن صححناها، انتظرنا، فإن بيع في الرهن، بأن بطلان الهبة. وإن فك الرهن، فللواهب الخيار من الاقباض. ويجري الوجهان في هبة الكلب، وجلد(4/435)
الميتة قبل الدباغ، والخمر المحترمة. والاصح من الوجهين في هذه الصور كلها البطلان، قياسا على البيع. والثاني: الصحة، لانها أخف من البيع. قال الامام: من صحح فيها، فحقه تصحيحها في المجهول والآبق كالوصية. فرع إذا وهب الدين لمن هو عليه، فهو إبراء، ولا يحتاج إلى القبول على المذهب. وقيل: يحتاج اعتبارا باللفظ. وإن وهبه لغير من هو عليه، لم يصح على المذهب. وقيل: في صحته وجهان، كرهن الدين. فإن صححنا، ففي افتقار لزومها إلى قبض الدين، وجهان. فإن قلنا: لا يفتقر، فهل يلزم بنفس الايجاب والقبول كالحوالة ؟ أم لا بد من إذن جديد ويكون ذلك كالتخلية فيما لا يمكن نقله ؟ وجهان. فرع رجل عليه زكاة وله دين على مسكين، فوهب له الذين بنية الزكاة، لم يقع الموقع، لانه إبراء بتمليك وإقامة الابراء مقام التمليك إبدال، وذلك لا يجوز في الزكاة، هكذ قال صاحب التقريب. ولك أن تقول: ذكروا وجهين في أن هبة الدين ممن عليه (الدين) تنزل منزلة التمليك، أم هو محض إسقاط ؟ وعلى هذا خرج اعتبار(4/436)
القبول فيها. فإن قلنا: تمليك، وجب أن يقع الموقع. ولو كان الدين على غير المسكين، فوهبه للمسكين بنية الزكاة، وقلنا: تصح الهبة ولا يعتبر القبض، أجزأه عن الزكاة، ويطالب المسكين والمديون.
فصل وأما شرط لزوم الهبة، فهو القبض، فلا يحصل الملك في الموهوب والهدية إلا بقبضهما، هذا هو المشهور. وفي قول قديم: يملك بالعقد كالوقف. وفي قول مخرج: الملك موقوف، فإن قبض، تبينا أنه ملك بالعقد. ويتفرع على الاقوال أن الزيادة الحادثة بين العقد والقبض، لمن تكون ؟ ولو مات الواهب أو الموهو ب له بعد العقد وقبل القبض، فوجهان. وقيل: قولان. أحدهما: ينفسخ العقد، لجوازه، كالشركة والوكالة. وأصحهما: لا ينفسخ، لانه يؤول إلى اللزوم. كالبيع الجائز، بخلاف الشركة. فعلى هذا، إن مات الواهب تخير الوارث في الاقباض. وإن مات الموهوب له، قبض وارثه إن أقبضه الواهب. ويجري الخلاف في جنون أحدهما وإغمائه. قلت: قال البغوي: ويقبض بعد الافاقة منهما، ولا يصح القبض في حال الجنون والاغماء. والله أعلم.(4/437)
فرع القبض المحصل للملك، هو الواقع باذن الواهب، فلو قبض بلا إذنه، لم يملكه، ودخل في ضمانه، سواء ض في مجلس العقد أو بعده. ولو كان الموهوب في يد الموهوب له، فحكمه ما سبق في كتاب الرهن. ولو أذن في القبض، ثم رجع عنه قبل القبض، صح رجوعه، فلا يصح القبض بعده. وكذا لو أذن، ثم مات الآذن أو المأذون له قبل القبض، بطل الاذن. فرع بعث هدية إلى إنسان، فمات المهدى إليه قبل وصولها إليه، بقيت الهدية للمهدي. ولو مات المهدي، لم يكن للرسول حملها إلى المهدي إليه، وكذا المسافر إذا اشترى لاصدقائه هدايا، فمات قبل وصولها إليهم، فهي له تركة. فرع كيفية القبض في العقار والمنقول، كما سبق في البيع. وحكينا هنا قولا، أن التخلية في المنقول قبض. قال المتولي: لا جريان له هنا، لان القبض هناك مستحق، وللمشتري المطالبة به، فجعل التمكين قبضا، وفي الهبة غير مستحق، فاعتبر تحقيقه ولم يكتف بالوضع بين يديه. قلت: فلو كان الموهوب مشاعا، فإن كان غير منقول، فقبضه بالتخلية، وإن كان منقولا، فقبضه بقبض الجميع. قال أصحابنا: صاحب الشامل وآخرون: فيقال للشريك ليرضى بتسليم نصيبه أيضا إلى الموهوب له، ليكون في يده وديعة حتى يتأتى القبض ثم يرده إليه. فإن فعل، (فقبض الموهوب الجميع، ملك. وإن امتنع، قيل للموهوب له: وكل الشريك في القبض لك. فإن فعل) نقله الشريك وقبضه له. فإن امتنعا، نصب الحاكم من يكون في يده لهما فينقله ليحصل القبض، لانه لا ضرر في ذلك عليهما. (والله أعلم) فرع لو أتلف المتهب الموهوب، لم يصر قابضا، بخلاف المشتري إذا أتلف المبيع، والفرق ما سبق في الفرع قبله. ولو أذن الواهب للموهوب له في أكل(4/438)
طعام الموهوب، فأكله، أو في إعتاق الموهوب، فأعتقه، أو أمر الموهوب له الواهب باعتاقه، فأعتقه، كان قابضا. فرع لو باع الواهب الموهوب قبل الاقباض، حكى الشيخ أبو حامد: أنه إن كان يعتقد أن الهبة غير لازمة، صح بيعه وبطلت الهبة. وإن اعتقد لزومها وحصول الملك بالعقد، ففي صحة بيعه قولان، كمن مال أبيه يظن أنه حي، فبان ميتا. فرع في مسائل محكية عن نص الشافعي رضي الله عنه لو قال: وهبته له وملكه، لم يكن إقرارا بلزوم الهبة، لجواز أن يعتقد لزومها وحصول الملك بالعقد، والاقرار يحمل على اليقين. ولو قال: وهبته له وخرجت إليه منه، فإن كان الموهوب في يد المتهب، كان إقرارا بالقبض، وإن كان في يد الواهب، فلا. ولو قيل له: وهبت دارك لفلان وأقبضته ؟ فقال: نعم، كان إقرارا بالهبة والاقباض.
الباب الثاني : في حكم الهبة في الرجوع والثواب فيه طرفان.
الطرف الأول : في الرجوع، فالهبة تنقسم إلى مقيدة بنفي الثواب، ومقيدة باثباته، ومطلقة. أما المقيدة بنفي الثواب، فتلزم بنفس القبض، ولا رجوع فيها إلا للوالد، فإنه يرجع فيما وهبه لولده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل ينبغي للوالد أن يعدل بين أولاده في العطية، فإن لم يعدل، فقد فعل مكروها، لكن تصح الهبة. والاولى في هذا الحال، أن يعطي الآخرين ما يحبه العدل. ولو رجع، جاز. وإذا أعطى وعدل، كره له الرجوع. وكذا لو(4/439)
كان ولدا واحدا، فوهب له، كره الرجوع إن كان الولد عفيفا بارا، فان كان عاقا أو يستعين بما أعطاه في معصية، فلينذره بالرجوع. فإن أصر، لم يكره الرجوع. فرع في كيفية العدل بين الاولاد في الهبة، وجهان. أصحهما: أن يسوي بين الذكر والانثى. والثاني: يعطي الذكر مثل حظ الانثيين. قلت: وإذا وهبت الام لاولادها، فهي كالاب في العدل بينهم في كل ما ذكرناه، وكذلك الجد والجدة، وكذا الابن إذا وهب لوالديه. قال الدارمي: فان فضل فليفضل الام. والله أعلم.
فصل للأب الرجوع في هبته لولده. وعن ابن سريج: أنه إنما يرجع إذا قصد بهبته استجلاب بر أو دفع عقوق فلم يحصل، فإن أطلق الهبة ولم يقصد ذلك، فلا رجوع والصحيح الجواز مطلقا وأما الام والاجداد والجدات من جهة الاب والام، فالمذهب أنهم كالاب. وفي قول: لا رجوع لهم. وقيل: ترجع الام. وفي غيرها، قولان. وقيل: يرجع آباء الاب، وفي غيرهم قولان. ولا رجوع لغير الاصول كالاخوة والاعمام وغيرهم من الاقارب قطعا. وسواء في ثبوت(4/440)
الرجوع للوالد كانا متفقين في الدين، أم لا. ولو وهب لعبد ولده، رجع. ولو وهب لمكاتب ولده، فلا. وهبته لمكاتب نفسه كالاجنبي. ولو تنازع رجلان مولودا، ووهبا له، فلا رجوع لواحد منهما. فإن ألحق بأحدهما، فوجهان، لان الرجوع لم يكن ثابتا ابتداء. قلت: أصحهما: الرجوع، وبه قطع ابن كج، لثبوت بنونه في الاحكام. والله أعلم فرع حكم الرجوع في الهدية حكمه في الهبة. ولو تصدق على ولده، فله الرجوع على الاصح المنصوص. قال المتولي: ولو أبرأه من دين، بني على أن الابراء إسقاط، أو تمليك ؟ إن قلنا: تمليك، رجع، وإلا، فلا. قلت: ينبغي أن لا يرجع على التقديرين. والله أعلم فرع وهب لولده، ثم مات الواهب، ووارثه أبوه لكون الولد مخالفا في الدين، فلا رجوع للجد. فرع الموهوب، إما أن لا يكون باقيا في سلطنة المتهب، وإما أن يكون. القسم الاول: أن لا يكون، بأن أتلف، أو زال ملكه عنه ببيع أو غيره، أو وقفه، أو أعتقه، أو كاتبه، أو استولدها، أو وهبه وأقبضه، أو رهنه وأقبضه، فلا(4/441)
رجوع له، ولا قيمة أيضا. وحكى الامام خلافا، في أن الرهن هل يمنع الرجوع، مبنيا على ما سبق من صحة هبة المرهون ؟ فإن قلنا: لا تصح، لم يصح الرجوع، وإلا، توقفنا. فإن فك الرهن، بان صحة الرجوع، وذكر أيضا ترددا في كتابة العبد بناء على صحة بيعه. ولا يمتنع الرجوع بالرهن والهبة إذا لم يقبضا، ولا بالتدبير وتعليق العتق بصفة، ولا بزراعة الارض وتزويج الامة قطعا، ولا بالايجار على المذهب، وبه قطع الاكثرون، وتبقى الاجارة بحالها كالتزويج. وقال الامام: إن صححنا بيع المستأجر، رجع، وإلا، فان جوزنا الرجوع في المرهون وتوقفنا، صح الرجوع هنا ولا توقف، بل الرقبة للراجع، ويستوفي المستأجر المنفعة إلى انقضاء المدة. وإن منعنا الرجوع في المرهون، ففي المستأجر تردد، وخرج على هذا، ترددا فيما إذا أبق العبد الموهوب من يد المتهب، هل يصح رجوع الواهب، مع قولنا: لا تصح هبة الآبق، لان الهبة تمليك مبتدأ والرجوع بناء فيسامح فيه ؟ ولو جنى وتعلق الارش برقبته، فهو كالمرهون في امتناع الرجوع. لكن لو قال: أنا أفديه وأرجع، مكن، بخلاف ما لو كان مرهونا فأراد أن يبذل قيمته ويرجع، لما فيه من إبطال تصرف المتهب. ولو زال ملك المتهب ثم عاد بإرث أو شراء، ففي عود الرجوع وجهان. وقال الغزالي: قولان. أصحهما: المنع. واحتج أبو العباس الروياني لهذا الوجه، بأنه لو وهب لابنه، فوهبه الابن لجده، فوهبه الجد لابن ابنه الذي وهبه، فإن حق الرجوع للجد الذي حصل منه هذا الملك، لا للاب، ولا يبعد أن يثبت القائل الاول الرجوع لهما جميعا.(4/442)
ولو وهب له عصيرا فصار خمرا، ثم صار خلا، فله الرجوع على المذهب. وحكى بعضهم وجهين في زوال الملك بالتخمر، ووجهين في عود الرجوع تفريعا على الزوال. وإذا انفك الرهن أو الكتابة بعجز المكاتب، ثبت الرجوع على المذهب. ولو حجر على المتهب بالفلس، فلا رجوع على الاصح كالرهن. وقيل: يرجع، لان حقه سابق، فانه يثبت من حين الهبة. قلت: ولو حجر عليه بالسفه، ثبت الرجوع قطعا، لانه لم يتعلق به حق غيره، قاله المتولي وآخرون. والله أعلم ولو ارتد وقلنا: لا يزول ملكه، ثبت الرجوع. وإن قلنا: يزول، فلا. فإن عاد إلى الاسلام، ثبت الرجوعلى المذهب. وقيل: على الخلاف فيما لو زال ملكه ثم عاد. ولو وهب الابن المتهب الموهوب لابنه، أو باعه له أو ورثه منه، فلا رجوع للجد على المذهب. قلت: ولو وهبه المتهب لاخيه من أبيه، قال في البيان: ينبغي أن لا يجوز للاب الرجوع قطعا، لان الواهب لا يملك الرجوع، فالاب أولى. ولا يبعد تخريج الخلاف لانهم عللوا الرجوع بأنه هبة لمن للجد الرجوع في هبته، وهذا موجود هنا. والله أعلم القسم الثاني: أن يكون باقيا في سلطنة المتهب، فإن كان بحاله، أو ناقصا، فله الرجوع، وليس على المتهب أرش النقص، وإن كان زائدا، نظر، إن كانت الزيادة متصلة، كالسمن وتعلم صنعة، رجع فيه مع الزيادة. وإن كانت منفصلة كالولد، والكسب، رجع في الاصل وبقيت الزيادة للمتهب. وإن وهب جارية أو بهيمة حاملا، فرجع قبل الوضع، رجع فيها حاملا. وإن رجع بعد الوضع، فإن قلنا: للحمل حكم، رجع في الولد مع الام، وإلا، ففي الام فقط. وإن وهبها حائلا ورجع وهي حامل، فإن قلنا: لا حكم للحمل، رجع فيها حاملا، وإلا، فلا يرجع إلا في الام، وهل له الرجوع في الحال، أم عليه الصبر إلى الوضع ؟ وجهان. ولو وهبه حبا فبذره ونبت، أو بيضا فصار فرخا، فلا رجوع، لان ماله(4/443)
قال البغوي: هذا إذا ضمنا الغاصب بذلك، وإلا، فقد وجد عين ماله فيرجع. ولو كان الموهوب ثوبا فصبغه الابن، رجع في الثوب، والابن شريك بالصبغ. ولو قصره، أو كانت حنطة فطحنها، أو غزلا فنسجه، فإن لم تزد قيمته، رجع ولا شئ للابن. وإن زادت، فإن قلنا: القصارة عين، فالابن شريك. وإن قلنا: أثر، فلا شئ له. ولو كان أرضا فبنى فيها أو غرس، رجع الاب في الارض، وليس له قلع البناء والغراس مجانا، لكنه يتخير بين الابقاء بأجرة، أو التملك بالقيمة، أو القلع. وغرامة النقص كالعارية. ولو وطئ الابن الموهوبة، قال ابن القطان: لا رجوع وإن لم تحبل، لانها حرمت على الاب، والصحيح: ثبوت الرجوع. فرع فيما يحصل به الرجوع يحصل بقوله: رجعت فيما وهبت، أو ارتجعت، أو استرددت المال، أو رددته إلى ملكي، أو أبطلت الهبة، أو نقضتها وما أشبه ذلك، هكذا أطلقوه. وحكى الروياني في الجرجانيات وجهين في أن الرجوع نقض وإبطال للهبة، أم لا ؟ فعلى الثاني: ينبغي أن لا يستعمل لفظ النقض والابطال، إلا أن يجعل كناية عن المقصود. وذكر الروياني هذا، أن اللفظ الذي يحصل به الرجوع، صريح وكناية فالصريح: رجعت. والكناية تفتقر إلى النية، كأبطلت الهبة وفسختها. فلو لم يأت بلفظ، لكن باع الموهوب، أو وهبه لآخر، أو وقفه، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يكون رجوعا. والثاني: رجوع وينفذ التصرف. والثالث: رجوع فلا ينفذ التصرف. ولو أتلف الطعام الموهوب، أو أعتق العبد، أو وطئ، لم يكن رجوعا على الاصح. والثاني: رجوع. وأشار الامام إلى وجه ثالث: أنه إن أحبلها بالوطئ وحصل الاستيلاد، كان رجوعا، وإلا، فلا. فعلى الاصح: يلزمه بالاتلاف القيمة ويلغو الاعتاق، وعليه بالوطئ مهر المثل، وباستيلاد القيمة. قلت: ولا خلاف أن الوطئ حرام على الاب وإن قصد به الرجوع، كذا قاله(4/444)
الامام، لاستحالة إباحة الوطئ لشخصين، ولا خلاف أن المتهب يستبيح الوطئ قبل الرجوع. لكن إذا جرى وطئ الاب الحرام، هل يتضمن الرجو ع ؟ فيه الخلاف. والله أعلم ولو صبغ الثوب الموهوب، أو خلط الطعام بطعام نفسه، لم يكن رجوعا، بل هو كما لو فعل الغاصب ذلك. فرع الرجوع في الهبة حيث يثبت، لا يفتقر إلى قضاء القاضي. وإذا رجع ولم يسترد المال، فهو أمنة في يد الولد، بخلاف المبيع في يد المشتري بعد فسخ البيع، لان المشتري أخذه على حكم الضمان. فرع لو اتفق الواهب والمتهب على فسخ الهبة حيث لا رجوع، فهل ينفسخ كما لو تقايلا، أم لا كالخلع ؟ فيه وجهان عن الجرجانيات. قلت: لا يصح الرجوع إلا منجزا. فلو قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد رجعت، لم يصح. قال المتولي: لان الفسوخ لا تقبل التعليق. والله أعلم.
الطرف الثاني : في الثواب، قد سبق أن الهبة مقيدة بنفي الثواب، وإثباته، ومطلقة، ومضى الكلام في المقيدة، وفرعناها على المذهب والذي قطع به الجمهور وهو صحتها. وقيل: إنها باطلة إذا أوجبنا الثواب في المطلقة، لانه شرط يخالف مقتضاها.(4/445)
وأما القسم الثاني: وهي المطلقة، فينظر، إن وهب الاعلى للادنى، فلا ثواب، وفي عكسه قولان. أظهرهما عند الجمهور: لا ثواب. والثاني: يجب الثواب، فعلى هذا، هل (هو) قدر قيمة الموهوب، أم ما يرضى به الواهب، أم ما يعد ثوابا لمثله في العادة، أم يكفي ما يتمول ؟ فيه أربعة أوجه. وقيل: أقوال. أصحها: أولها، والخيار في جنسه إلى المتهب. فعلى الاصح، لو اختلف قدر القيمة، فالاعتبار بقيمة يوم القبض على الاصح. وقيل: بيوم بذل الثواب. ثم إن لم يثب ما يصلح ثوابا، فللواهب الرجوع إن كان الموهوب بحاله. قلت: قال أصحابنا: ولا يجبر المتهب على الثواب قطعا. والله أعلم فإن زاد زيادة منفصلة، رجع فيه دونها. وإن زاد متصلة، رجع فيه معها على الصحيح. وقيل: للمتهب إمساكه وبذل قيمته بلا زيادة. وإن كان تالفا، فوجهان. وقيل: قولان منصوصان في القديم. أصحهما: يرجع بقيمته. والثاني: لا شئ له كالاب في هبة ولده. وإن كان ناقصا، رجع فيه. وفي تغريمه المتهب أرش النقصان الوجهان. وقيل: له ترك العين والمطالبة بكمال القيمة. قلت: وإن كانت جارية قد وطئها المتهب، رجع الواهب فيها، ولا مهر على المتهب، لانه وطئ ملكه. والله أعلم وأما إذا وهب لنظيره، فالمذهب القطع بأن لا ثواب. وقيل: فيه القولان. وعن صاحب التقريب طرد القولين في هبة الاعلى للادنى، وهو شاذ. قلت: وحكى صاحب الابانة والبيان وجها أنه إذا وهب لنظيره ونوى الثواب، استحقه، وإلا، فقولان. فإن اختلفا في النية، فأيهما يقبل قوله ؟ وجهان. والمذهب: أنه لا يجب الثواب في جميع الصور. قال المتولي: إذا لم يجب فأعطاه المتهب ثوبا، كان ذلك ابتداء هبة. حتى لو وهب لابنه فأعطاه الابن(4/446)
ثوابا، لا ينقطع حق الرجوع، ولا يجب في الصدقة ثواب بكل حال قطعا، صرح به البغوي وغيره، وهو ظاهر. وأما الهدية، فالظاهر أنها كالهبة. والله أعلم وأما القسم الثالث: فالمقيدة بالثواب، وهو إما معلوم، وإما مجهول. فالحالة الاولى: المعلوم، فيصح العقد على الاظهر، ويبطل على قول. فإن صححنا، فهو بيع على الصحيح. وقيل: هبة. فإن قلنا: هبة، لم يثبت الخيار والشفعة، ولم يلزم قبل القبض. وإن قلنا: بيع، ثبتت هذه الاحكام. وهل تثبت عقب العقد، أم عقب القبض ؟ قولان. أظهرهما: الاول. ولو وهبه حليا بشرط الثواب، أو مطلقا وقلنا: الهبة تقتضي الثواب، فنص في حرملة أنه إن أثابه قبل التفرق بجنسه، اعتبرت المماثلة. وإن أثابه بعد التفرق بعرض، صح، وبالنقد لا يصح، لانه صرف، وهذا تفريع ذلى أنه بيع. وفي التتمة أنه لا بأس بشئ من ذلك، لانا لم نلحقه بالمعاوضات في اشتراط العلم بالعوض، وكذا سائر الشروط، وهذا تفريع على أنه هبة. وحكى الامام الاول عن الاصحاب، وأبدى الثاني احتمالا. وخرج على الوجهين ما إذا وهب الاب لابنه بثواب معلوم. فإن جعلنا العقد بيعا، فلا رجوع، وإلا، فله الرجوع. وإذا وجد بالثواب عيبا وهو في الذمة، طالب بسليم. وإن كان معينا، رجع إلى عين الموهوب إن كان باقيا، وإلا، طالب ببدله. واستبعد الامام مجئ الخلاف أنه بيع أم هبة هنا، حتى لا يرجع على التقدير الثاني وإن طرده بعضهم. وإذا جعلناه هبة، فكافأه بدون المشروط إلا أنه قريب، ففي شرح ابن كج، وجهان في أنه هل يجبر على القبول لان العادة فيه مسامحة ؟ قلت: والاصح أو الصحيح: لا يجبر. والله أعلم الحالة الثانية: إذا كان الثواب مجهولا، فإن قلنا: الهبة لا تقتضي ثوابا، بطل العقد، لتعذر تصحيحه بيعا وهبة، وإن قلنا: تقتضيه، صح، وهو تصريح(4/447)
بمقتضى العقد، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الغزالي وجها: أنه يبطل بناء على أن العوض يلحقه بالبيع. فرع نص الشافعي رضي الله عنه أنه لو وهب لاثنين بشرط الثواب، فأثابه أحدهما فقط، لم يرجع في حصة المثيب، وأنه لو أثاب أحدهما عن نفسه وعن صاحبه ورضي به الواهب، لم يرجع الواهب على واحد منهما. ثم إن أثاب إذن بغير الشريك، لم يرجع عليه. وإن أثاب بإذنه، رجع بالنصف إن أثاب ما يعتاد ثوابا لمثله. فإن زاد، فمتطوع بالزيادة. فرع خرج الموهوب مستحقا بعد الثواب، رجع بما أثاب على الواهب. وإن جرج بعضه مستحقا، فله الخيار بين أن يرجع على الواهب بقسطه من الثواب، وبين أن يرد الباقي ويرجع بجميع الثواب. وقيل: تبطل الهبة في الكل. وقيل: لا يجئ قول الابطال هنا.(4/448)
فرع قال: وهبتك ببدل، فقال: بلا بدل، وقلنا: مطلق الهبة لا يقتضي ثوابا، فهل المصدق الواهب، أم المتهب ؟ وجهان، وبالاول قطع ابن كج. قلت: الثاني، أصح. والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالكتاب هبة منافع الدار، هل هي إعارة ؟ لها وجهان في الجرجانيات، ولا يحصل الملك بالقبض في الهبة الفاسدة. وهل المقبوض بها مضمون كالبيع الفاسد ؟ أم لا، كالهبة الصحيحة ؟ وجهان. ويقال: قولان. قلت: أصحهما: لا ضمان، وهو المقطوع به في النهاية والعدة والبحر والبيان، ذكروه في باب التيمم. قال المتولي: وإذا حكمنا بفساد الهبة، فسلم المال بعد ذلك هبة، فإن كان يعتقد فساد الاولى، صحت الثانية، وإلا، فوجهان بناء على من باع مال أبيه على أنه حي فكان ميتا. وهذه مسائل متعلقة بالكتاب. إحداها: قال لرجل: كسوتك هذا الثوب، ثم قال: لم أرد الهبة، قال صاحب العدة: يقبل قوله، خلافا لابي حنيفة رضي الله عنه، لانه يصلح للعارية، فلا يكون صريحا في الهبة. الثانية: قال: منحتك هذه الدار، أو الثوب، فقال: قبلت وأقبضه، فهو هبة، قاله في العدة. الثالثة: في فتاوى الغزالي: لو كان في يد ابن الميت عين، فقال: وهبنيها(4/449)
أبي وأقبضنيها في الصحة، فأقام باقي الورثة بينة بأن الاب رجع فيما وهب لابنه، ولم تذكر البينة ما رجع فيه، لا تنتزع من يده بهذه البينة، لاحتمال أن هذه العين ليست من المرجوع فيه. ويقرب من هذا، لو وهب وأقبض ومات، فادعى الوارث كون ذلك في المرض، وادعى المتهب كونه في الصحة، فالمختار أن القول قول المتهب. الرابعة: دفع إليه ثوبا بنية الصدقة، فأخذه المدفوع إليه ظانا أنه وديعة أو عارية، فرده على الدافع، لا يحل للدافع قبضه، لانه زال ملكه، فإن الاعتبار بنية الدافع. فإن قبضه، لزمه رده إلى المدفوع إليه، ذكره القاضي حسين. الخامسة: بر الوالدين مأمور به، وعقوق كل واحد منهما محرم معدود من الكبائر بنص الحديث الصحيح، وصلة الرحم مأمور بها، فأما برهما، فهو الاحسان إليهما، وفعل الجميل معهما، وفعل ما يسرهما من الطاعات لله تعالى وغيرها مما ليس بمنهي عنه، ويدخل فيه الاحسان إلى صديقهما، ففي صحيح(4/450)
مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من أبر البر، أن يصل الرجل أهل ود أبيه. وأما العقوق، فهو كل ما أتى به الولد مما يتأذى (به) الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين، مع أنه ليس بواجب. وقيل: تجب طاعتهما في كل ما ليس بحرام، فتجب طاعتهما في الشبهات. وقد حكى الغزالي هذا في الاحياء عن كثير من العلماء، أو أكثرهم. وأما صلة الرحم، ففعلك مع قريبك ما تعد به واصلا غير منافر ومقاطع له، ويحصل ذلك تارة بالمال، وتارة بقضاء حاجته أو خدمته أو زيارته. وفي حق الغائب بنحو هذا، وبالمكاتبة وإرسال السلام عليه ونحو ذلك. السادسة: الوفاء بالوعد، مستحب استحبابا متأكدا، ويكره إخلافه كراهة ديدة، ودلائله من الكتاب والسنة معلومة، وقد ذكرت في كتاب الاذكار فيه بابا، وبينت فيه اختلاف العلماء في وجوبه. والله أعلم(4/451)
كتاب اللقطة فيه بابان.
الباب الأول : في أركانها، وهي ثلاثة.
الركن الأول : الالتقاط، وفيه مسألتان. (المسألة) الاولى: في وجوب الالتقاط أربعة طرق أصحها وقول الاكثرين: أنه على قولين. أظهرهما: لا يجب كالاستيداع. والثاني يجب. والطريق الثاني: إن كانت في موضع يغلب على الظن ضياعها، بأن تكون في ممر الفساق والخونة، وجب الالتقاط، وإلا، فلا. والثالث: إن كان لا يثق بنفسه، لم يجب قطعا.(4/452)
وإن غلب على ظنه أمانة نفسه، ففيه القولان. والرابع: لا يجب مطلقا. فإذا قلنا: لا يجب، فإن وثق بنفسه، ففي الاستحباب وجهان. أصحهما ثبوته. وإن لم يثق وليس هو في الحال من الفسقة، لم يستحب له الالتقاط قطعا. قاله الامام. وحكى عن شيخه في الجواز وجهين. أصحهما: ثبوته، وسواء قلنا بوجوب الالتقاط أو عدمه، فلا يضمن اللقطة بالترك، لانها لم تحصل في يده. هذا حكم الامين، أما الفاسق، فقطع الجمهور أنه يكره له الالتقاط. وأما قول الغزالي: إن علم الخيانة، حرم الالتقاط، وقوله في الوسيط: الفاسق لا يجوز له الاخذ، فمخالف لما أطلقه الجمهور من الكراهة. المسألة الثانية: في وجوب الاشهاد على اللقطة وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: لا يجب لكن يستحب. وقيل: لا يجب قطعا. ثم في كيفية الاشهاد، وجهان. أصحهما عند البغوي: يشهد على أصلها دون صفاتها، لئلا يتوصل كاذب إليها. قال البغوي: ويجوز أن يذكر جنسها. والثاني: يشهد على صفاتها أيضا، حتى لو مات لا يتملكها الوارث، ويشهد الشهود للمالك. وأشار الامام إلى توسط بين الوجهين، وهو أنه لا ستوعب الصفات، بل يذكر بعضها ليكون في الاشهاد فائدة. قلت: الاصح، هذا الذي اختاره الامام. قال الامام: والوجه الاول ساقط، إذ لا فائدة فيه. وما ذكرناه من المنع من ذكر تمام الاوصاف، لا نراه ينتهي إلى(4/453)
التحريم. والله أعلم.
الركن الثاني : الملتقط وبناء الكلام فيه على أصل، وهو أن اللقطة فيها معنى الامانة والولاية والاكتساب، فالامانة والولاية أولا، والاكتساب آخرا بعد التعريف. وهل المغلب دلامانة والولاية لانها ناجزة، أم الاكتساب لانه مقصوده ولا يستقل الآحاد بالامانات ؟ فيه وجهان. ويقال: قولان. فإذا اجتمع في شخص أربع صفات: الاسلام، والحرية، والامانة والتكليف، فله أن يلتقط ويعرف ويتملك، لانه أهل للامانة والولاية والاكتساب، وإلا، ففيه مسائل. إحداها: يمكن الذمي من الالتقاط في دار الاسلام على الاصح. وقيل: قطعا، كالاصطياد والاحتطاب، وربما شرط فيه عدالته في دينه. فإن قلنا: ليس له الالتقاط فالتقط، أخذه الامام منه وحفظه إلى ظهور مالكه. وإن جوزناه، قال البغوي: هو كالتقاط الفاسق. قال: والمرتد إن قلنا: يزول ملكه، انتزعت(4/454)
اللقطة منه، كما لو احتطب، ينتزع من يده. وإن قلنا: لا يزول، فكالفاسق يلتقط. ولك أن تقول: إن أزلنا ملكه، فما يحتطبه ينتزع ويكون لاهل الفئ فإن كانت اللقطة كذلك، فقياسه أن يجوز للامام ابتداء الالتقاط لاهل الفئ ولبيت المال، وأن يجوز للولي الالتقاط للصبي. وإن قلنا: لا يزول ملكه، فهو بالذمي أشبه منه من الفاسق، فليكن كالتقاط الذمي، وبهذا قطع المتولي. الثانية: الفاسق أهل للالتقاط على المذهب، وبه قطع الجمهور، وهو ظاهر النص. وعن القفال، تخريجه على الاصل المذكور، إن غلبنا الاكتساب، فنعم، أو الامانة، فلا، وما يأخذه مغصوب. فعلى المذهب، هل يقر المال في يده ؟ قولان. أظهرهما: لا، بل ينتزع منه ويوضع عند عدل. والثاني: نعم، ويضم إليه عدل يشرف عليه. وعن ابن القطان وجه: أنه لا يضم إليه أحد. وسواء قلنا: ينتزع أو يضم إليه مشرف، ففي التعريف قولان. أظهرهما: لا يعتمد وحده، بل يضم إليه نظر العدل ومراقبته. والثاني: يكفي تعريفه. ثم إذا تم التعريف، فللملتقط التملك. اثالثة: التقاط العبد، وهو على ثلاثة أضرب. أحدها: التقاط لم يأذن فيه السيد ولا نهى عنه، وفيه قولان. أظهرهما: لا يصح والثاني: كاحتطابه ويكون الحاصل لسيده. فان قلنا: لا يصح التقاطه، لم يعتد بتعريفه. ثم إن لم يعلم السيد التقاطه، فالمال مضمون في يد العبد، والضمان متعلق برقبته، سواء أتلفه أو تلف بتفريط أو بغير تفريط، كالمغصوب. وإن علم، فله أحوال. أحدها: أن يأخذه من يده. ولهذا مقدمة، وهي أن القاضي لو أخذ المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك، هل يبرأ الغاصب من الضمان ؟ وجهان. أقيسهما: البراءة، لان يد القاضي نائبة عن يد المالك.(4/455)
فإن قلنا: لا يبرأ، فللقاضي أخذه منه. وإن قلنا: يبرأ، فإن كان المال معرضا للضياع، والغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس أو يغيب وجهي، فكذلك، وإلا، فوجهان أحدهما: لا يأخذ فانه أنفع للمالك. والثاني: يأخذ نظرا لهما جميعا. وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن معرضا للضياع، ولا الغاصب بحيث تفوت مطالبته ظاهرا. وإن كان كذلك، فوجهان. أصحهما: المنع، لان القاضي هو النائب عن الناس، ولانه قد يؤدي إلى الفتنة. والثاني: الجواز احتسابا ونهيا عن المنكر. فعلى الاول، لو أخذه ضمنه وكان كغاصب من غاصب. وعلى الثاني: لا يضمن، وبراءة الغاصب على الخلاف السابق، وأولى بأن لا يبرأ. قال الامام: ويجوز أن يقال: إن كان هناك قاض يمكن رفع الامر إليه، فلا يجوز، وإلا، فيجوز. إذا عرف هذا، فقال معظم الاصحاب: إذا أخذ السيد اللقطة من العبد كان أخذه التقاطا، لان يد العبد إذا لم تكن يد التقاط، كان الحاصل في يده ضائعا بعد، ويسقط الضمان عن العبد لوصوله إلى نائب المالك، فان كل أهل للالتقاط كأنه نائب عنه. وبمثله قالوا فيما لو أخذه أجنبي، إلا أن المتولي جعل أخذه الاجنبي على الخلاف فيما لو تعلق صيد بشبكة رجل فأخذه غيره، واستبعد الامام قولهم: إن أخذ السيد التقاط، لان العبد ضامن بالاخذ. ولو كان أخذ السيد التقاطا، لسقط الضمان عنه، فيتضرر به المالك، وهذا وجه ذكره ابن كج والمتولي، وحكيا تفريعا عليه أن السيد ينتزعه من يده ويسلمه إلى الحاكم ليحفظه لمالكه أبدا. وأما الامام فقال: إذا قلنا: إنه ليس بالتقاط، فأراد أخذه بنفسه وحفظه لمالكه، فوجهان مرتبان على أخذ الآحاد المغصوب للحفظ، وأولى بالمنع، لان السيد ساع لنفسه غير متبرع. ثم يترتب على جواز الاخذ حصول البراءة كما قدمنا. وإن استدعى من الحاكم انتزاعه، فهذه الصورة أولى بأن يزيل الحاكم فيها اليد العادية. وإذا أزال، فأولى أن تحصل البراءة لتعلق غرض السيد بالبراءة، وهو غير منسوب إلى عدوان حتى يغلظ عليه. الحال الثاني: أن يقره في يده ويستحفظه عليه ليعرفه. فإن لم يكن العبد أمينا، فهو متعد بالاقرار، وكأنه أخذه منه ورده إليه. وإن كان أمينا، جاز، كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه. وذكر الامام في سقوط الضمان وجهين.(4/456)
أصحهما عنده: المنع. وقياس كلام الجمهور سقوطه. الحال الثالث: أن لا يأخذه ولا يقره، بل يهمله ويعرض عنه. فنقل المزني أن الضمان يتعلق برقبة العبد كما كان، ولا يطالب به السيد في سائر أمواله، لانه لا تعدي منه ولا أثر لعلمه، كما لو رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه، ونقل الربيع تعلقه بالعبد وبجميع أموال السيد. وعكس الامام والغزالي، فنسبا الاول إلى الربيع، والثاني إلى المزني. والصواب المعتمد، ما سبق ثم فيهما أربعة طرق. أصحها وقول الاكثرين: المسألة على قولين. أظهرهما: تعلقه بالعبد وسائر أموال السيد، حتى لو هلك العبد، لا يسقط الضمان. ولو أفلس السيد، قدم صاحب اللقطة في العبد على سائر الغرماء. ومن قال به، لم يسلم عدم وجوب الضمان إذا رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه. والطريق الثاني: حمل نقل المزني على ما إذا كان العبد مميزا، ونقل الربيع على غير المميز. والثالث: القطع بنقل المزني في النقل. والرابع: القطع بنقل الربيع وبه قال أبو إسحاق، وغلطوا المزني في النقل هذا كله إذا قلنا: لا يصح التقاطه. فإن قلنا: يصح، صح تعريفه وليس له التعريف أن يتملكه لنفسه، وله التملك للسيد بإذنه، ولا يجوز بغير إذنه على المذهب. وقيل: وجهان كاتهابه وشرائه، فعلى المذهب قيل: لا يصح تعريفه بغير إذن سيده. والصحيح صحته كالالتقاط. قال الامام: لكن إن قلنا: انقضاء مدة التعريف توجب الملك، فيجوز أن يقال: لا يصح تعريفه، ويجوز أن يقال: يصح ولا يثبت الملك، كما لا يثبت إذا عرف من قصد الحفظ. ثم لا يخلو، إما أن يعلم السيد بالالتقاط، وإما أن لا يعلم. فإن لم يعلم، فالمال أمانة في يد العبد، لكن لو كان معرضا عن التعريف، ففي الضمان وجهان كالوجهين في الحر إذا امتنع من التعريف. ولو أتلفه العبد بعد مدة التعريف، أو تملكه لنفسه فهلك عده، فهل(4/457)
يتعلق الضمان بذمته كما لو اقترض فاسدا وأتلفه، أم برقبته كالمغصوب ؟ وجهان. وبالاول قطع الشيخ أبو محمد في الفروق. ولو أتلفه في المدة، أو تلف بتقصيره، فالمذهب تعلق الضمان برقبته، وبه قطع الجمهور، لانه خيانة محضة، إذ لم يدخل وقت التملك، بخلاف ما بعد المدة. وقيل: في تعلقه بالرقبة أو الذمة قولان. وإن علم به السيد، فله أخذه كأكسابه ثم يكون كالتقاطه بنفسه. فإن شاء حفظه لمالكه، وإن شاء عرف وتملك. فإن كان العبد عرف بعض المدة، احتسب به وبنى عليه. وإن أقره في يده وهو خائن، ضمن السيد بابقائه في يده. وإن كان أمينا، جاز، ثم إن تلف في يده في مدة التعري ف، فلا ضمان. وإن تلف بعدها، فإن أذن السيد في التملك فتملك، لم يخف الحكم، وإلا، فوجهان. أصحهما: يتعلق الضمان بالسيد، لاذنه في سبب الضمان، كم لو أذن له في استيام شئ فأخذه فتلف في يده. والثاني: لا كما لو أذن له في الغصب فغصب. فعلى الاول، يتعلق الضمان أيضا بذمة العبد، فيطالب به بعد العتق كما يطالب به السيد في الحال، وعلى الثاني، يتعلق برقبته كما يتعلق بمال السيد. وإن لم يأذن، فهل يتعلق الضامن بذمة العبد، أم برقبته ؟ وجهان. أصحهما: الاول، ولا يتعلق بالسيد قطعا. فإن أتلفه العبد بعد المدة، فعلى الخلاف السابق. فرع قال صاحب التقريب: القولان في أصل المسألة، فيما إذا نوى الالتقاط لنفسه، فإن نوى لسيده، فيحتمل أن يطرد القولان، ويحتمل أن يقطع(4/458)
بالصحة. وقال ابن كج: القولان إذا التقط ليدفع إلى سيده. فإن قصد نفسه، فليس له الالتقاط قطعا، بل هو متعد، وحكاه عن أبي إسحق والقاضي أبي حامد. الضرب الثاني: التقاط بإذن السيد، بأن يقول: متى وجدت لقطة فخذها وائتني بها، فطريقان. قال ابن أبي هريرة بطرد القولين، لان الاذن لا يفيده أهلية الولاية. وقطع غيره بالصحة، وإليه ميل الامام، كما لو أذن في قبول الوديعة ولو أذن له في الاكتساب مطلقا، ففي دخول الالتقاط وجهان. الضرب الثالث: التقاط نهاه عنه السيد، فقطع الاصطخري بالمنع، وطرد غيره القولين. قلت: طريقة الاصطخري أقوى، ولكن سائر الاصحاب على طرد القولين، قاله صاحب المستظهري. والله أعلم فرع إذا التقط ثم أعتقه السيد، فإن صححنا التقاطه، فهي كسب عبده يأخذها السيد ويعرفها ويتملكها. فإن كان العبد عرف، اعتد به، هذا هو المذهب. وقال ابن القطان: هل السيد أحق نظرا إلى وقت الالتقاط، أم العبد نظرا إلي وقت التملك ؟ وجهان. وإن لم نصحح التقاطه، قال ابن كج: للسيد حق التملك إذا قلنا: للسيد التملك على هذا القول. وقطع الجمهور بأنه ليس للسيد أخذها. فعلى هذا، هل للعبد تملكها وكأنه التقط بعد الحرية، أم يجب أن يسلمها إلى الحاكم لانه لم يكن أهلا ؟ وجهان. أصحهما: الاول. فرع في التقاط المكاتب طرق. أحدها: الصحة قطعا. والثاني: المنع(4/459)
قطعا، بخلاف القن، فإن السيد ينتزع منه، ولا ولاية للسيد على مال المكاتب مع نقصانه. والثالث وهو الاصح عند الجمهور: طرد القولين كالعبد، لكن الاظهر هنا باتفاق الاصحاب، صحة التقاطه. ثم المذهب أن هذه الطرق في المكاتب كتابة صحيحة. فأما الفاسدة، فكالقن قطعا. وقيل بطرد الخلاف في النوعين، ونقل الامام عن العراقيين، تفريعا على القطع بالصحة، أن في إبقاء اللقطة في يده قولين كما سبق في الفاسق، وكتبهم ساكتة عن ذلك إلا ما شاء الله تعالى. فإن صححنا التقاط المكاتب، عرفها وتملكها ويكون بدلها في كسبه. وفي تقدم المالك به على الغرماء وجهان في أمالي أبي الفرج الزاز. وإذا أعتق في مدة التعريف، أتم التعريف وتملك. وإن عاد إلى الرق قبل تمام التعريف، فالمنقول عن الاصحاب، أن القاضي يأخذها ويحفظها للمالك، وأنه ليس للسيد أخذها وتملكها، لان التقاط المكاتب لا يقع للسيد، فلا ينصرف إليه. وقال البغوي: ينبغي أن يجوز له الاخذ والتملك، لان الالتقاط اكتساب وأكساب المكاتب لسيده عند عجزه. قال: وكذا لو مات المكاتب أو العبد قبل التعريف، وجب أن يجوز للسيد التعريف والتملك، كما أن الحر إذا التقط ومات قبل التعريف، يعرف الوارث ويتملك. وإذا لم نصحح التقاطه فالتقط، صار ضامنا، ولا يأخذ السيد اللقطة منه، بل يأخذها القاضي ويحفظها، هكذا ذكروه. ولك أن تقول: ذكرتم تفريعا على منع التقاط القن، أن للاجنبي أخذها ويكون ملتقطا، ولم تعتبروا الولاية، وليس السيد في حق المكاتب بأدنى حالا من الاجنبي في القن. ثم إذا أخذها الحاكم برئ(4/460)
المكاتب من الضمان. ثم كيف الحكم ؟ ذكر الشيخ أبو حامد وغيره: أنه يعرفها، فذا انقضت مدة التعريف، تملكها المكاتب. والاصح: أنه ليس له التملك، فإن التفريع على فساد الالتقاط، لكن إذا (أخذها) حفظها إلى أن يظهر مالكها. فرع من بعضه حر وبعضه رقيق، هل يصح التقاطه قطعا، أم على القولين كالقن ؟ فيه طريقان. وقيل: يصح في قدر الحرية قطعا، وفي الباقي الطريقان، وبهذا قطع المتولي، وأبداه الشاشي احتمالا. قلت: المذهب المنصوص، صحة التقاطه. والله أعلم فإن قلنا: لا يصح، فهو متعد بالاخذ، ضامن بقدر الحرية في ذمته، ويؤخذ منه إن كان له مال، وبقدر الرق في رقبته. وهل ينتزع منه، أم يبقى في يده ويضم إليه مشرف ؟ وجهان حكاهما ابن كج. أصحهما: الانتزاع. وعلى هذا، هل يسلم إلى السيد، أم يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه ؟ وجهان. الصحيح: الثاني. فإن سلم إلى السيد، فعن أبي حفص بن الوكيل: أن السيد يعرفه ويتملكه. قال ابن كج: ويحتمل عندي أن يكون بينهما بحسب الرق والحرية. أما إذا قلنا: يصح التقاطه، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، فاللقطة بينهما يعرفانها ويتملكانها بحسب الرق والحرية كشخصين التقطا مالا. وقال ابن الوكيل: يختص بها السيد كلقطة القن، وليس بشئ. وإن كان بينهم مهايأة، بني على أن الكسب النادر هل يدخل في المهايأة ؟ فيه قولان. ويقال: وجهان ذكرناهما في زكاة الفطر. وميل العراقيين والصيدلاني هناك إلى ترجيح عدم(4/461)
الدخول ثم أنهم مع سائر الاصحاب، كالمتفقين على ترجيح عدم الدخول هنا، وهو نصه في المختصر. فعلى هذا، إن وقعت اللقطة في نوبة السيد، عرفها وتملكها. وإن وقعت في نوبة العبد، عرفها وتملك. والاعتبار بوقت الالتقاط، هذا هو الصحيح المعروف. وأشار الامام إلى وجه: أن الاعتبار بوقت التملك. وإن قلنا: النادر لا يدخل في المهايأة، فهو كما لو لم يكن مهايأة. قلت: ونقل إمام الحرمين في باب زكاة الفطر اتفاق العلماء على أن أرش الجناية لا يدخل في المهايأة، لانه يتعلق بالرقبة وهي مشتركة. والله أعلم فرع المدبر والمعلق عتقه بصفة، وأم الولد، كالقن في الالتقاط. لكن حيث حكمنا بتعلق الضمان برقبة القن، ففي أم الولد يجب على السيد، سواء علم التقاطها، أم لا، لان جنايتها على السيد. وفي الام أنه إن علم سيدها، فالضمان في ذمته، وإلا، ففي ذمتها، وهذا لم يثبته الاصحاب، وقالوا: هذا سهو من كاتب، أو غلط من ناقل، وربما حاولوا تأويله. المسألة الرابعة التقاط الصبي، فيه طريقان كالفاسق. والمذهب صحته كاحتطابه واصطياده، فإن صححناه فلم يعلم به الولي وأتلفه الصبي، ضمن. وإن تلف في يده، فوجهان. أصحهما: لا ضمان عليه كما لو أودع مالا فتلف عنده. وتسليط الشرع له على الالتقاط، كتسليط المودع. والثاني: يضمن لضعف أهليته، فإنه لا يقر في يده. فإن علم به الولي، فينبغي أن ينتزعه من يده ويعرفه. ثم إن رأى المصلحة في تملكه للصبي، جاز حيث يجوز الاستقراض عليه. وقال ابن الصباغ: عندي يجوز التملك له وإن لم يجز الاقتراض، لانه على هذا القول ملحق بالاكتساب. قلت: هذا الذي قاله ابن الصباغ، كما هو شذوذ عن الاصحاب، فهو ضعيف دليلا، فإنه اقتراض. والله أعلم وإن لم ير التملك له، حفظه أمانة، أو سلمه إلى القاضي. وإذا احتاج التعريف إلى مؤنة، لم يصرفها من مال الصبي، بل يرفع الامر إلى القاضي ليبيع جزءا من اللقطة لمؤنة التعريف. ويجئ وجه مما سنذكره إن شاء الله تعالى في(4/462)
التقاط الشاة: أنه يبيع بنفسه ولا يحتاج إلى إذن الحاكم. ولو تلفت اللقطة في يد الصبي قبل الانتزاع بغير تفريط، فلا ضمان. وإن قصر الول ي بتركها في يده حتى تلفت، أو أتلفها، لزم الولي الضمان من مال نفسه، وشبهوه بما إذا احتطب الصبي وتركه الولي في يده حتى تلف، أو أتلفه الصبي، يجب الضمان على الولي، لان عليه حفظ الصبي عن مثله. قال البغوي: ثم يعرف التالف، وبعد التعريف يتملك للصبي إن كان في التملك مصلحة، ويشبه أن يكون هذا فيما إذا وجد قبض من جهة القاضي ليصير المقبوض ملكا للملتقط، أو إفراز من جهة الولي إذا قلنا: إن من التقط شاة وأكلها يفرز بنفسه قيمتها من ماله. فأما الضمان في الذمة، فلا يمكن تملكه للصبي. أما إذا قلنا: لا يصح التقاط الصبي، فإذا التقط وتلفت في يده أو أتلفها، وجب الضمان في ماله، وليس للولي أن يقرها في يده، بل يسعى في انتزاعها، فإن أمكنه رفع الامر إلى القاضي، فعل، وإن انتزع الحاكم، ففي براءة الصبي عن الضمان الخلاف المذكور في انتزاع القاضي المغصوب من الغاصب، وأولى بحصول البراءة نظرا للطفل. إن لم يمكنه رفع الامر إلى القاضي، أخذه بنفسه، وتبنى براءة الصبي عن الضمان على الخلاف في براءة الغاصب بأخذ الآحاد. فإن لم تحصل البراءة، ففائدة الاخذ صون عين المال عن التضييع والاتلاف. قال المتولي: وإذا أخذه الولي، فان أمكنه التسليم إلى القاضي فلم يفعل حتى تلف، لزمه الضمان، وإلا، فقرار الضمان على الصبي. وفي كون الولي طريقا، وجهان.(4/463)
وهذا إذا أخذ الولي لا على قصد الالتقاط. أما إذا قصد ابتداء الالتقاط، ففيه وجهان، وليكونا كالخلاف في الاخذ من العبد على هذا القصد إذا لم نصحح التقاطه. ولو قصر الولي وترك المال في يده، قال المتولي: لا ضمان عليه إذا تلف، لانه لم يحصل في يده، ولا حق للصبي فيه حتى يلزمه حفظه، بخلاف ما إذا فرعنا على القول الاول. وخصص الامام هذا الجواب بما إذا قلنا: إن أخذه لا يبرئ الصبي. أما إذا قلنا: يبرئ، فعليه الضمان لتركه الصبي في ورطة الضمان، ويجوز أن يضمن. وإن قلنا: إن أخذه لا يبرئ الصبي لان المال في يد الصبي معرض للضياع، فحق أن يصونه. فرع المجنون كالصبي في الالتقاط، وكذا المحجور عليه بسفه، إلا أنه يصح تعريفه، ولا يصح تعريف الصبي والمجنون.(4/464)
الركن الثالث: الشئ الملتقط، وهو قسمان. مال وغيره، والمال نوعان، حيوان وجماد. والحيوان ضربان، آدمي وغيره. وغيره صنفان. أحدهما: ما يمتنع من صغار السباع بفضل قوته، كالابل والخيل والبغال والحمير، أو بشدة عدوه كالارانب والظباء المملوكة، أو بطيرانه كالحمام، فإن وجدها في مفازة، فللحاكم ونوابه أخذها للحفظ. وفي جواز أخذها للآحاد للحفظ وجهان. أصحهما عند الشيخ أبي حامد والمتولي وغيرهما: جوازه، وهو المنصوص، لئلا يأخذها خائن فتضيع. وأما أخذها للتملك، فلا يجوز لاحد. فمن أخذها للتملك ضمنها، ولا يبرأ عن الضمان بالرد إلى ذلك الموضع. فإن دفعها إلى القاضي، برئ على الاصح. وإن وجدها في بلدة أو قرية، أو في موضع قريب منها، فوجهان أو قولان. أحدهما: لا يجوز التقاطها للتملك كالمفازة. وأصحهما: جوازه، لانها في العمارة تضيع بتسلط الخونة. وقيل: يجوز قطعا. وقيل: لا يجوز قطعا. فإن منعنا، فالتقاطها بقصد التملك كما ذكرنا في التقاطها من الصحراء. وإن جوزناه، فعلى ما سيأتي في النصف الثاني إن شاء الله تعالى. هذا كله إذا كان زمان أمن. فأما في زمن النهب والفساد، فيجوز التقاطها قطعا. وسواء وجدت في الصحراء أو العمران، كما سيأتي فيما لا يمتنع، قاله المتولي. الصنف الثاني: ما لا يمتنع من صغار السباع، كالكسير والغنم والعجول والفصلان، فيجوز التقاطها للتملك، سواء وجدت في المفازة أو العمران. وفي وجه: لا يؤخذ ما وجد في العمران. والصحيح المعروف: أنه لا فرق. ثم إذا وجده في المفازة، فهو بالخيار بين أن يمسكها ويعرفها ثم يتملكها، وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم يتملك الثمن، وبين أن يأكلها إن كانت مأكولة ويغرم قيمتها. والخشلة الاولى أولى من الثانية، والثانية أولى من الثالثة. وإن وجدها في العمران، فله الامساك مع التعريف والتملك، وله البيع والتعريف وتملك الثمن. وفي الاكل قولان. أحدهما: الجواز كالمفازة. وأظهرهما عند الاكثرين: المنع، لان البيع في العمران أسهل هذا إذا كانت مأكولة، فأما الجحش وصغار(4/465)
ما لا يؤكل، فحكمها في الامساك والبيع حكم المأكول وفي جواز تملكها في الحال، وجهان. أحدهما: نعم، كما يجوز أكل المأكول. ولو لم يجوز ذلك لاعرض عنها الواجدون ولضاعت وأصححهما: لا يجوز تملكها حتى تعرف سنة كغيرها. ويتفرع على الخصال الثلاث مسائل. أحداها: إذا أمسكها وتبرع بالانفاق، فذاك. وإن الرجوع، فلينفق بإذن الحاكم. فإن لم يجد حاكما، أشهد كما سبق في نظائره. الثانية: إذا أراد البيع، فإن لم يجد حاكما، استقل به. وإن وجده، فالاصح أنه يجب استئذانه. وهل يجوز بيع جزء منمها لنفقة باقيها ؟ قال الامام: نعم، كما تباع جميعها. وحكى عن شيخه احتمالا أنه لا يجوز، لانه يؤدي إلى أن تأكل نفسها، وبهذا قطع أبو الفرج الزاز، قال: ولا يستقرض على المالك أيضا، لهذا المعنى، لكنه يخالف ما سبق في هرب الجمال ونحوه.(4/466)
قلت: الفرق بينه وبين هرب الجمال ظاهر، فان هناك لا يمكن البيع لتعلق حق المستأجر، وهن يمكن فلا يجو الاضرار بمالكها من غير ضرورة. والله أعلم. فرع متى حصلت الضالة في يد الحاكم، فإن كان هناك حمى، سرحها فيه ووسمها بسمة الضوال، ويسم نتاجها أيضا. وإن لم يمكن، فالقول في بيع كلها أو بعضها للنفقة على ما سبق، لكن لو توقع مجئ المالك في طلبها على قرب، بأن عرف أنها من نعم بني فلان، تأنى أياما كما يراه. الضرب الثاني: الآدمي، فإذا وجد رقيقا مميزا، والزمان آمن، لم يأخذه، ونه يستدل على سيده. وإن كان غير مميز أو مميزا في زمن نهب، جاز أخذه كسائر الاموال. ثم يجوز تملك العبد والامة التي لا تحل كالمجوسية والمحرم. وإن كانت ممن تحل، فعلى قولين كالاستقراض. فإن منعناه، لم يجب التعريف، كذا ذكره الشيخ أبو حامد. ويتفق على الرقيق مدة الحفظ من كسبه، وما بقي من الكسب حفظ معه. فإن لم يكن كسب، فعلى ما سبق في الصنف الثاني. وإذا بيع ثم ظهر المالك وقال: كنت أعتقته، فقولان. أظهرهما: يقبل قوله ويحكم بفساد البيع. والثاني: لا، كما لو باع بنفسه.(4/467)
النوع الثاني: الجماد، وينقسم إلى ما لا يبقى، بمعالجة، كالرطب يخفف، أو بغيرها، كالذهب والفضة والثياب، وإلى ما لا يبقى، كالهريسة، وكل ذلك لقطة يؤخذ ويملك، لكن فيما لا يبقى بمعالجة مزيد كلام نذكره في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. القسم الثاني: ما ليس بمال، ككلب يقتنى، فميل الامام والآخذين عنه، إلى أنه لا يؤخذ إلا على قصد الحفظ أبدا لان الاختصاص به ممتنع، وبلا عوض يخالف وضع اللقطة. وقال الاكثرون: يعرفه سنة ثم يختص وينتفع به فإن ظهر صاحبه بعد ذلك وقد تلف، فلا ضمان. وهل عليه أجرة المثل لمنفعة تلك المدة ؟ وجهان بناء على جواز إجارته. فصل يشترط في اللقطة ثلاثة شروط غير ما سبق. أحدها: أن تكون شيئا ضاع من مالكه لسقوط أو غفلة ونحوهما. فأما إذا ألقت الريح ثوبا في حجره أو ألقى إليه هارب كيسا ولم يعرف من هو(4/468)
مورثه عن ودائع وهو لا يعرف ملاكها فهو مال ضائع يحفظ ولا يتملك. ولو وجد دفينا في فالقول في أنه ركاز أو لقطة سبق في الزكاة. الثاني: أن يوجد في موات، أو شارع، أو مسجد. أما إذا وجد في أرض مملوكة، فقال المتولي: لا يؤخذ للتملك بعد التعريف، بل هو لصاحب اليد في الارض، فإن لم يدعه، فلمن كانت في يده قبله، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحيي، فإن لم يدعه، حينئذ يكون لقطة. الثالث: أن يكون في دار الاسلام، أو في دار الحرب وفيها مسلمون. أما إذا لم يكن فيها مسلم، فما يوجد فيها غنيمة، خمسها لاهل الخمس، والباقي للواجد، ذكره البغوي وغيره.
الباب الثاني : في أحكام الالتقاط الصحيح وهي أربعة.
الحكم الأول : في الامانة والضمان، ويخلتف ذلك بقصده. وله أحوال. أحدها: أن يأخذها ليحفطها أبدا، فهي أمانة في يده. فلو دفعها إلى الحاكم لزمهم القبول. وكذا من أخذ للتملك ثم بدا له ودفعها إلى الحاكم، لزمه القبول. وهل يجب التعريف إذا قصد الحفط أبدا ؟ وجهان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى. فإن يجب، لم يضمن بتركه. وإذا له قصد التملك، عرفها سنة من يومئذ، ولا يعتد بم عرف من قبل. وإن أوحبناه، فهو ضامن بالترك. حتى لو بدأ بالتعرف بعد ذلك، فهلك في سنة التعريف، ضمن. الثاني أن يأخذ بنية الخيانة والاستيلاى، فيكون ضامنا غاصبا. وفي براءته(4/469)
بالدفع ألى الحاكم. الوجهان في الغاصب، فلو عرف بعد ذلك وأراد التملك، لم يكن له ذلك على المذهب، وبه قطع الجمهور، كالغاصب، وقيل: وجهان، لوجود صورة الالتقاط. الثالث: أن يأخذها ليعرفها سنة ويتملكها بعد السنة، فهي أمانة في السنة، وأما بعد السنة، فإن قلنا: تملك بمضي السنة، فقد دخلت في ملكه وضمانه، وإلا، فقال الغزالي: تصير مضمونة عليه إذا كان غرم التملك مطردا، ولم يوافقه غيره، فالاصح ما صرح ابن الصباغ والبغوي: أنها أمانة ما لم يختر التملك قصدا، أو لفظا إذا اعتبرناه، كما قبل الحول، لكن إذا اختار وقلنا: لا بد من التصرف، فحينئذ يكون مضمونا عليه كالقرض. وإذا قصد الامانة ثم قصد الخياة، فالاصح أنه لا يصير مضمونا عليه بمجرد القصد، كالمودع لا يضمن بنية الخيانة على المذهب. والثاني: يصير، لانه لم يسلطه المالك. ومهما صار الملتقط ضامنا في الدوام، إما بحقيقة الخيانة أو بقصدها، ثم أقلع وأراد أن يعرف ويتملك، فله ذلك على الاصح. الحال الرابع: أن يأخذ اللقطة ولا يقصد خيانة ولا أمانة، أو يقصد أحدهما وينساه، فلا تكومضمونة عليه وله التملك بشرطه.
الحكم الثاني : التعريف، فينبغي للملتقط أن يعرف اللقطة ويعرفها. أما المعرفة، فيعلم عفاصها، وهو الوعاء من جلد وخرقة وغيرهما، ووكاءها، وهو الخيط الذي تشد به، وجنسها، أذهب أم عيره ؟ ونوعها، أهروية أم غيرها ؟ وقدرها، بوزن أو عدد وإنما يعرف هذه الامور لئلا تختلط بماله ويستدل بها(4/470)
على صدق طالبها، ويستحب تقييدها بالكتابة وأما التعريف، ففيه مسائل. إحداها: يجب تعريف اللقطة سنة، وليس ذلك بمعنى استيعاب السنة، بل لا يعرف في الليل، ولا يستوعب الايام أيضا، بل على المعتاد، فيعرف في الابتداء في كل يوم مرتين طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرتين أو مرة، ثم في كل شهر بحيث لا ينسى أنه تكرار للاول. وفي وجوب المبادرة بالتعريف على الفور وجهان. الاصح الذي يقتضيه كلام الجمهور: لا يجب، بل المعتبر تعريف سنة متى كان. وهل تكفي سنة مفرقة بأن يفرق شهرين مثلا ويترك شهرين، وهكذا ؟ فيه وجهان. أحدهما: لا، وبه قطع الامام، لانه لا تظهر فائدة التعريف. فعلى هذا، إذا قطع مدة، وجب الاستئناف. والثاني وبه قطع العراقيون والروياني: نعم. قلت: هذا الثاني أصح، ولم يقطع به العراقيون بل صححوه، لانه عرف سنة. والله أعلم الثانية: ليصف الملتقط بعض أوصاف اللقطة، فإنه أقرب إلى الظفر بالمالك. وهل هو شرط، أم مستحب ؟ وجهان. أصحهما: مستحب. فإن شرطناه، فهل يكفي ذكر الجنس بأن يقول: من ضاع منه دراهم ؟ قال الامام: عندي أنه لا يكفي، ولكن يتعرض للعفاص والوكاء ومكان لالتقاط وزمنه، ولا يستوعب الصفات ولا يبالغ فيها لئلا يعتمدها الكاذب. فإن بالغ، ففي مصيره ضامنا وجهان، لانه لا يلزمه الدفع إلا ببينة، لكن قد يرفعه إلى حاكم يلزمه الدفع بالوصف.(4/471)
قلت: أصحهما: الضمان. والله أعلم الثالثة: إن تبرع الملتقط بالتعريف، أو بذل مؤنته، فذاك، وإلا، فإن أخذها للحفظ أبدا، فإن قلنا: لا يجب التعريف والحالة هذه، فهو متبرع إن عرف. وإن قلنا: يجب، فليس عليه مؤنته، بل يرفع الامر إلى القاضي ليبذل أجرته من بيت المال، أو يقترض على المالك، أو يأمر الملتقط به ليرجع كما في هرب الجمال. وإن أخذها للتملك واتصل الامر بالتملك، فمؤنة التعريف على الملتقط قطعا. وإن ظهر مالكها، فهل هي على الملتقط لقصده التملك، أم على المالك لعود الفائدة إليه ؟ فيه وجهان. أصحهما: أولهما. ولو قصد الامانة أولا، ثم قصد التملك، ففيه الوجهان. الرابعة: ما ذكرناه من وجوب التعريف، هو فيما إذا قصد التملك، أما إذا قصد الحفظ أبدا، ففي وجوبه وجهان. أصحهما عند الامام والغزالي: وجوبه، لئلا يكون كتمانا مفوتا للحق على صاحبه. والثاني وبه قطع الاكثرون: لا يجب، قالوا: لان التعريف إنما يجب لتخصيص شرط التملك.(4/472)
قلت: الاول أقوى، وهو المختار. والله أعلم الخامسة: ليكن التعريف في الاسواق ومجامع الناس وأبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات، ولا يعرف في المساجد، كما لا تطلب اللقطة فيها، قال الشاشي في المعتمد: إلا أن الاصح جواز التعريف في المسجد الحرام، بخلاف سائر المساجد. ثم إذا التقط في بلدة أو قرية، فلا بد من التعريف فيها، وليكن أكثر تعريفه في البقعة التي وجد فيها، لان طلب الشئ في موضع ضياعه أكثر. فإن حضره سفر، فوض التعريف إلى غيره، ولا يسافر بها. وإن التقط في الصحراء، فعن أبي إسحق: أنه إن اجتازت به قافلة، تبعهم وعرف، وإلا، فلا فائدة في التعريف في المواضع الخالية، ولكن يعرف في البلدة التي يقصدها قربت أم بعدت. وإن بدا له الرجوع، أو قصد بلدة أخرى، عرف فيها ولا يكلف أن يغير قصده، ويعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع، حكاه الامام وتابعه الغزالي. ولكن ذكر المتولي وغيره: أنه يعرف في أقرب البلاد إليه، وهذا إن أراد به الافضل فذاك، وإلا، فيحصل في المسألة الوجهان. قلت: الاصح: أنه لا يكلف العدول. والله أعلم(4/473)
فرع ليس للملتقط تسليم المال إلى غيره ليعرفه إلا باذن الحاكم، فإن فعل، ضمن، ذكره ابن كج وغيره. فرع يشترط كون المعرف عاقلا غير مشهور بالخلاعة والمجون، وإلا، فلا يعتمد قوله، ولا تحصل فائدة التعريف. فصل إنما يجب تعريف اللقطة إذا جمعت وصفين، أحدهما: كون الملتقط كثيرا. فإن كان قليلا، نظر، إن انتهت قلته إلى حد يسقط تموله كحبة الحنطة والزبيبة، فلا تعريف، ولواجده الاستبداد به. وإن كان متمولا مع قلته، وجب تعريفه، وفي قدر تعريفه وجهان. أصحهما عند العراقيين: (سنة) كالكثير. وأشبههما باختيار معظم الاصحاب: لا يجب سنة. فعلى هذا أوجه. أحدها: يكفي مرة. والثاني: ثلاثة أيام. وأصحها: مدة يظن في مثلها طلب فاقده له، فإذا غلب على الظن إعراضه، سقط، ويختلف ذلك باختلاف المال، قال الروياني: فدانق الفضة يعرف في الحال، ودانق الذهب يعرف يوما، أو يومين، أو ثلاثة. وأما الفرق بين القليل والمتمول والكثير، ففيه أوجه. أصحها: لا يتقدر، بل ما غلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه ولا يطول طلبه له غالبا، فقليل، قاله الشيخ أبو محمد وغيره، وصححه الغزالي والمتولي. والثاني: القليل: ما دون نصاب السرقة. والثالث: الدينار قليل. والرابع: ما دون الدرهم قليل، والدرهم كثير. فرع قال المتولي: يحل التقاط السنابل وقت الحصاد إن أذن فيه المالك، أو كان قدرا لا يشق عليه أن يلتقط وإن كان يلتقط بنفسه لو اطلع عليه، وإلا، فلا(4/474)
يحل. الوصف الثاني: أن يكون شيئا لا يفسج. أما ما يفسد، فضربان. أحدهما: أن لا يمكن إبقاؤه كالهريسة، والرطب الذي لا يتتمر، والبقول. فإن وجده في برية، فهو بالخيار بين أن يبيعه ويأخذ ثمنه، وبين أن يتملكه في الحال فيأكله ويغرم قيمته. وإن وجده في بلدة أو قرية، فطريقان. أحدهما: على قولين. أحدهما: ليس له الاكل، بل يبيعه ويأخذ ثمنه لمالكه، لان البيع متيسر في العمران. والثاني وهو المشهور: أنه كما لو وجد في برية. والطريق الثاني: القطع بالمشهور. فإذا لم نجوز الاكل فأخذ للاكل، كان غاصبا. وإذا جوزناه فأكل، ففي وجوب التعريف بعده وجهان. أصحهما: الوجوب إن كان في البلد، كما أنه إذا باع يعرف. وإن كان في الصحراء، قال الامام: فالظاهر أنه لا يجب، لانه لا فائدة فيه. وهل يجب إفراز القيمة المغرومة من ماله ؟ وجهان. ويقال: قولان أصحهما: لا، لان ما في الذمة لا يخشى هلاكه، وإذا أفرز (كان المفرز) أمانة. والثاني: يجب أحتياطا لصاحب المال ليقدم بالمفرز لو أفلس الملتقط. وعلى هذا، فالطريق أنه يرفع الامر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال. فإن لم يجد حاكما، فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن يستنيب عنه ؟ فيه احتمال عند الامام. وذكر الامام والغزالي، أنه إذا أفرزها، لم تصر ملكا لصاحب المال، بل هو أولى بتملكها. ولو كان كما قالا، لم يسقط حقه بهلاك المفرز. وقد نصوا على السقوط، ونصوا أيضا على أنه لو مضت مدة التعريف، فله أن يتملك المفرز كما(4/475)
يتملك نفس اللقطة، وكما يتملك الثمن إذا باع الطعام، وهذا يقتضي صيرورة المفرز ملكا لصاحب اللقطة. ولو اختلفت قيمة يومي الاخذ والاكل، ففي بعض الشروح أنه إن أخذ للاكل اعتبرت قيمة يوم الاخذ. وإن أخذ التعريف، اعتبرت قيمة يوم الاكل. وإذا اختار البيع، ففي الحاجة إلى إذن الحاكم ما سبق في بيع الشاة. وإذا باع أو أكل، عرف المبيع والمأكول باتفاق الاصحاب، لا الثمن والقيمة، سواء أفرزها، أم لا. الضرب الثاني: ما يمكن إبقاؤه بالمعالجة والتجفيف. فإن كان الحظ لصاحبه في بيعه رطبا، بيع، وإلا، فإن تبع الملتقط بالتجفيف فذاك بيع بعضه وأنفق على تجفيف الباقي.
الحكم الثالث : التملك، فيجوز تملك اللقطة بعد التعريف، سواء كان الملتقط غنيا أو فقيرا، ومتى تملك ؟ فيه أوجه. أصحها: لا تملك إلا بلفظ، كقوله: تملكت ونحوه. والثاني: لا تملك ما لم يتصرف. وعلى هذا، يشبه أن يجئ الخلاف المذكور في القرض، في أن الملك بأي نوع من التصرف يحصل. والثالث: يكفيه تجديد قصد التملك بعد التعريف، ولا يشترط لفظ. والرابع: تملك بمجرد مضي السنة. فرع في لقطة مكة وحرمها وجهان. الصحيح: أنه لا يجوز أخذها للتملك، وإنما تؤخذ للحفظ أبدا. والثاني: أنها كلقطة سائر البقاع. قال هذا(4/476)
القائل: ولمراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل لقطتها إلا لمنشد أنه لا بد من تعريفها سنة كغيها، لئلا يتوهم أن تعريفها في الموسم كاف لكثرة الناس وبعد العود في طلبها من الآفاق. قلت: قال أصحابنا: ويلزم الملتقط بها الاقامة للتعريف، أو دفعها إلى الحاكم، فلا يجئ هنا الخلاف السابق فيمن التقط للحفظ، هل يلزمه التعريف ؟ بل يجزم هنا بوجوبه، للحديث. والله أعلم.
الحكم الرابع : رد عينها أو بدلها عند ظهور مالكها. فإذا جاء من يدعيها، فإن لم يقم بينة أنها له، ولم يصفها، لم تدفع إليه، إلا أن يعلم الملتقط أنها له، فيلزم الدفع إليه. وإن أقام بينة، دفعت إليه. وإن وصفها، نظر، إن لم يظن الملتقط صدقه، لم يدفع إليه على المذهب المعروف وحكى الامام ترددا في جواز الدفع أن ظن صدقة، جاز الدفع إليه، ولا يجب على المذهب، وبه قطع الجمهور. ونقل الامام في وجوبه وجهين. فعلى المذهب، لو قال الواصف: يلزمك تسليمها إلي، فله أن يحلف أنه لا يلزمه. ولو قال: تعلم أنها ملكي، فله أن يحلف أنه لا يعلم. ولو أقام الواصف شاهدا، فالمذهب أنه لا يجب الدفع، واختار الغزالي وجوبه. وإذا دفعها إلى الواصف بوصفه، فأقام غيره بينة أنها له، فإن كانت باقية، انتزعت منه ودفعت إلى الثاني. وإن تلفت عنده، فهو بالخيار بين أن يضمن الملتقط أو الواصف. فإن ضمن الواصف، لم يرجع على الملتقط. وإن ضمن الملتقط، رجع على الواصف إن لم يقر بالملك للواصف. وإن أقر، لم يرجع، مؤاخذة له. هذا إذا دفع بنفسه. أما إذا ألزمه الحاكم الدفع إلى الواصف، فليس لصاحب البينة تضمينه.(4/477)
فرع لو جاء الواصف بعد أن تملك الملتقط اللقطة وأتلفها، فغرمها الملتقط لظنه صدقه، فأقام آخر بينة بها، طالب الملتقط دون الواصف، لان الحاصل عند الواصف مال الملتقط، لا ماله. وإذا غرم الملتقط، هل يرجع على الواصف ؟ ينظر، هل أقر له بالملك أم لا كما سبق فرع أقام مدعي اللقطة شاهدين عدلين عنده وعند الملتقط، وهما فاسقان عند القاضي، لم يلزمه القاضي الدفع على الصحيح. وقيل: يلزمه، لاعترافه بعدالتهما. فرع إذا ادعاها اثنان، وأقام كل واحد بينة أنها له، ففيه أقوال التعارض.
فصل إذا ظهر المالك قبل تملك الملتقط، أخذ اللقطة بزوائدها المتصلة والمنفصلة. وإن ظهر بعد التملك، فللقطة حالان. أحدهما: أن تكون باقية عنده، فينظر، إن بقيت بحالها، فوجهان. أصحهما: له أخذها، وليس للملتقط أن يلزمه أخذ بدلها. والثاني: المنع، فلا شك أنه لو ردها الملتقط لزم المالك القبول، فعلى الاصح: لو باعها الملتقط فجاء المالك في مدة الخيار، فهل له فسخ البيع ؟ وجهان حكاهما الشاشي،(4/478)
ووجه المنع بأن الفسخ حق للعاقد، فلا يتمكن منه غيره بغير إذنه. وجعل ابن كج الوجهين في أنه يجبر الملتقط على الفسخ، ويجوز فرض الوجهين في الانفساخ. فإن زادت، فالمتصلة تتبعها، والمنفصلة تسلم للملتقط، ويرد الاصل وإن نقصت بعيب ونحوه وقلنا: لو بقيت بحالها لم يكن للمالك أخذها قهرا، رجع إلى بدلها سليمة. وإن قلنا: له أخذها قهرا فكذا هنا، ويغرمه الارش، لان الكل مضمون عليه. وقيل: لا أرش عليه، وبه قطع البغوي. ولو أراد بدلها، وقال الملتقط: أضم إليها الارش وأردها، أجيب الملتقط على الاصح. والثاني: يجاب المالك، فله الخيار بين البدل أو العين الناقصة مع الارش أو دونه كما سبق. الحالة الثانية: أن تكون تالفة، فعليه بدلها: المثل، أو القيمة. والاعتبار بقيمة يوم التمل ك. وقال الكرابيسي من أصحابنا: لا يطالب بالقيمة، ولا برد العين عند بقائها. والصحيح المعروف هو الاول. وعلى هذا، فالضمان ثابت في ذمته من يوم التلف. وعن أبي إسحق المروزي: أنه لا يثبت، وإنما يتوجه عند مجئ المالك وطلبه.
فصل في مسائل تتعلق بالكتاب إحداها: وجد رجلان لقطة، يعرفانها، ويتملكانها، وليس لاحدهما نقل حقه إلى صاحبه، كما لا يجوز للملتقط نقل حقه إلى غيره. الثانية: تنازعا، فأقام كل واحد بينة أنه الملتقط، فإن تعرضت بينة لسبق، حكم بها، وإلا، فعلى الخلاف في تعارض البينتين.(4/479)
الثالثة: ضاعت من يد الملتقط، فأخذها آخر، فالاول أحق بها على الاصح. وقيل: الثاني. الرابع: كانا يتماشيان، فرأى أحدهما اللقطة، وأخبر بها الآخر، فالآخذ أولى. فلو أراه اللقطة وقال: هاتها، فأجذها لنفسه، فهي للآخذ. وإن أخذها للآمر، أو له ولنفسه، فعلى القولين في جواز التوكيل بالاصطياد ونحوه. الخامسة: رأى شيئا مطروحا على الارض، فدفعه برجله ليعرف جنسه أو قدره ولم يأخذه حتى ضاع، لم يضمنه، لانه لم يحصل في يده، قاله المتولي. السادسة: دفع اللقطة إلى الحاكم وترك التعريف والتملك، ثم ندم وأراد أن يعرف ويتملك، ففي تمكينه وجهان حكاهما ابن كج. قلت: المختار المنع، لانه أسقط حقه. والله أعلم السابعة: قال في المهذب: لو وجد خمرا أراقها صاحبها، لم يلزمه تعريفها، لان إراقتها مستحقة. فإن صارت عنده خلا، فوجهان. أحدهما: أنها للمريق، كما لو غصبها فصارت خلا. والثاني: للواجد، لانه أسقط حقه، بخلاف الغصب، وهذا الذي ذكره تصويرا وتوجيها، إنما يستمر في الخمرة المحترمة، وحينئذ لا تكون إراقتها مستحقة. أما في الابتداء، فظاهر. وأما عند الواجد، فينبغي أن يجوز إمساكها إذا خلا عن قصد فاسد، ثم يشبه أن يكون ما ذكره(4/480)
مخصوصا بما إذا أراقها، لانه معرض. أما إذا ضاعت المحترمة من صاحبها، فلتعرف كالكلب. قلت: أما قول الامام الرافعي: يشبه أن يكون.. إلى آخره، فكذا صرح به صاحب المهذب فقال: وجد خمرا أراقها صاحبها. وأما قوله: إن الواجد يجوز له إمساكها، فغير مقبول، بل لا يجوز وإن خلا عن القصد الفاسد. والكلام فيما إذا لم يعلم الواجد أنها محترمة، وحينئذ فقول صاحب المهذب: الاراقة واجبة - يعني على الواجد - كلام صحيح، لان الظاهر عدم احترامها. والله أعلم الثامنة: قد سبق أن البعير وما في معناه، لا يلتقط إذا وجد في الصحراء، واستثنى صاحب التلخيص ما إذا وجد بعيرا في أيام منى مقلدا في الصحراء تقليد الهدايا، فحكى عن نص الشافعي رضي الله عنه: أنه يأخذه ويعرفه أيام منى. فإن خاف فوت وقت النحر، نحره، والمستحب أن يرفعه إلى الحاكم حتى يأمره بنحره. وحكى غيره قولا أنه لا يجوز أخذه. وبنوا القولين على القولين فيمن وجد بدنه منحورة قد غمس نعلها في دمها وضرب به صفحتها، هل يجوز الاكل منها ؟ فإن منعناه، منعنا الاخذ هنا. وإن جوزنا اعتمادا على العلامة، فكذا هنا التقليد علامة. والاضحية المعينة إذا ذبحت في وقت النحر، وقعت الموقع وإن لم يأذن صاحبها، قال الامام: لكن ذبح الاضحية إن وقع الموقع، لا يجوز الاقدام عليه من غير إذن، ولهذا الاشكال قال القفال تفريعا على (هذا) القول يجب رفع الامر إلى القاضي لينحره، وأول قول الشافعي رضي الله عنه: استحب. ثم لك أن تقول:(4/481)
الاستثناء غير منتظم وإن جوزناه الاخذ، لان الاخذ الممنوع إنما هو الاخذ للتملك، ولا شك أن هذا البعير لا يؤخذ للتملك. قلت: قد سبق في جواز أخذ البعير لآحاد الناس للحفظ وجهان. فإن منعناه، ظهر الاستثناء. وإن جوزناه وهو الاصح، ففائدة الاستثناء جواز التصرف فيه بالنحر. والله أعلم(4/482)
كتاب اللقيط
يقال للصبي الملقي الضائع: لقيط، وملقوط، ومنبوذ، وفيه بابان.
الباب الأول : في أركان الالتقاط الشرعي وأحكامه. أما الاركان، فثلاثة.
أحدها : نفس الالتقاط، وهو فرض كفاية. ومن أخذ لقيطا، لزمه الاشهاد عليه على المذهب لئلا يضيع نسبه. وقيل: في وجوبه قولان أو وجهان كاللقطة. وقيل: إن كان ظاهر العدالة، لم يلزمه. وإن كان مستورها، لزمه. فإن أوجبنا الاشهاد فتركه، قال في الوسيط: لا تثبت ولاية الحضانة، ويجوز الانتزاع، وهذا يشعر باختصاص الاشهاد الواجب بابتداء الالتقاط. وإذا أشهد، فليشهد(4/483)
على اللقيط وما معه، نص عليه.
الركن الثاني : اللقيط، وهو كل صبي ضائع لا كافل له، فيخرج بقيد الصبي البالغ، لانه مستغن عن الحضانة والتعهد، فلا معنى للالتقاط. لكن لو وقع في معرض هلاك، أعين ليتخلص. وفي الصبي الذي بلغ سن التمييز تردد للامام، والاوفق لكلام الاصحاب: أنه يلتقط، لحاجته إلى التعهد. والمراد بالضائع: المنبوذ. وأما غير المنبوذ، فإن لم يكن له أب ولا جد ولا وصي، فحفظه من وظيفة القاضي، فيسلمه إلى من يقوم به، لانه كان له كافل معلوم، فإذا فقد، قام القاضي مقامه. وقولنا: لا كافل له، المراد بالكافل: الاب والجد ومن يقوم مقامهما. والملتقط ممن هو في حضانة أحق هؤلاء، لا معنى لالتقاطه، إلا أنه لو حصل في مضيعة أخذ ليرد إلى حاضنه. قلت: معناه: يجب أخذه لرده إلى حاضنه. والله أعلم.(4/484)
الركن الثالث : الملتقط، ويشترط فيه أمور. أحدها: التكليف، فلا يصح التقاط الصبي والمجنون الثاني: الحرية، فالعبد إذا التقط ينتزع منه إن لم يأذن سيده. وإن أذن أو علم به فأقره في يده، جاز وكان السيد هو الملتقط، وهو نائبه في الاخذ والتربية، والمكاتب إذا التقط بغير إذن السيد، انتزع منه أيضا. وإن التقط باذنه، ففيه الخلاف في تبرعاته بالاذن، لكن المذهب الانتزاع، لان في الالتقاط ولاية وليس هو من أهلها. فإن قال له السيد: التقط لي صغيرا، فالسيد هو الملتقط. ومن بعضه حر إذا التقط في يومه، هل يستحق كفالته ؟ وجهان حكاهما في المعتمد. الثالث: الاسلام، فالكافر يلتقط الطفل الكافر دون المسلم لانه أولى به، وللمسلم التقاط الصبي المحكوم بكفره. الرابع: العدالة، فليس للفاسق الالتقاط. ولو التقط، انتزع منه، وأما من ظاهر حاله الامانة، إلا أنه لم يختبر، فلا ينتزع من يده، لكن يوكل القاضي به من يراقبه بحيث لا يعلم لئلا يتأذى. فإذا وثق به، صار كمعلوم العدالة. وقبل ذلك(4/485)
لو أراد المسافرة به، منع وانتزع منه، لانه لا يؤمن أن يسترقه. الخامس: الرشد، فالمبذر المحجور عليه، لا يقر اللقيط في يده. فرع لا يشترط في الملتقط الذكورة قطعا، ولا الغنى. وقيل: لا يقر في يد الفقير، والصحيح الاول.
فصل إذا ازدحم اثنان على لقيط، نظر، إن ازدحما قبل الاخذ، وطلب كل واحد أخذه وحضانته، جعله الحاكم في يد من رآه منهما أو من غيرهما، إذ لا حق لهما قبل الاخذ. وإن ازدحما بعد الاخذ، فإن لم يكن أحدهما أهلا للالتقاط، سلم اللقيط إلى الآخر. وإن كانا أهلين، قدم أسبقهما بالالتقاط. وهل يثبت السبق بالوقوف على رأسه بغير أخذ ؟ وجهان. أصحهما: لا. وإن لم يسبق واحد منهما، فقد يختص أحدهما بصفة تقدمه، وقد يستويان، والصفات المقدمة أربع. إحداها: الغنى، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا، فقيل: يستويان. والاصح تقديم الغني. وعلى هذا لو تفاوتا في الغنى، فهل يقدم أكثرهما مالا ؟ وجهان. قلت: الاصح لا يقدم. والله أعلم الثانية: البلد، فلو كان أحدهما بلديا والآخر قرويا أو بدويا، ففيه كلام نذكره إن شاء الله تعالى في فصل الاحكام. الثالثة: من ظهرت عدالته بالاختبار، يقدم على المستور على الاصح. الرابعة: الحر أولى من المكاتب وإن التقط بإذن سيده. ولو كان أحدهما عبدا التقط بإذن سيده، فالاعتبار بالسيد والآخر، ولا تقدم المرأة على الرجل، بخلاف الام في الحضانة، لان شفقتها أكمل، ويتساوى المسلم والذمي في اللقيط المحكوم بكفره، وقيل: يقدم المسلم، وقيل: الذمي، والاول أصح. وإذا استويا في(4/486)
الصفات وتشاحا، أقرع بينهما على الصحيح المنصوص وقول الجمهور. وقال ابن خيران: يقدم الحاكم من رآه منهما أصلح للقيط، فإن استويا أو تحير، أقرع. قال الاصحاب: ولا يخير الصبي بينهما، وإن كان ابن سبع سنين فأكثر، بخلاف تخييره بين الابوين، لان هناك يعول على الميل بسبب الولادة. وقال الامام: يحتمل أن يخير ويقدم اختياره على القرعة، وإذا خرجت القرعة لاحدهما، فترك حقه للآخر، لم يجز، كما ليس للمنفرد نقل حقه إلى غيره. ولو ترك حقه قبل القرعة، فوجهان. أصحهما: ينفرد به كالشفيعين والثاني: لا بل يرفع إلى الحاكم حتى يقره في يد الآخر إن رآه، وله أن يختار أمينا آخر فيقرع بينه وبين الآخر. وقال الامام تفريعا على الثاني: إن التارك لا يتركه الحاكم، بل يقرع بينه وبين صاحبه. فإن خرج عليه، ألزمه القيام بحضانته بناء على أن المنفرد إذا شرع في الالتقاط، لا يجوز له الترك، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل وأما أحكام الالتقاط.(4/487)
فمنها: أن الذي يلزم الملتقط حفظ اللقيط ورعايته. فأما نفقته، فلا تلزمه، وسيأتي بيان محلها إن شاء الله تعالى. فإن عجز عن الحفظ لامر عرض، سلمه إلى القاضي، وإن تبرم به مع القدرة، فوجهان بناء على أن الشروع في فرض الكفاية هل يلزم الاتمام ويصير الشارع متعينا ؟ وموضع ذكره كتاب السير، والاصح هنا: أن له التسليم إلى القاضي، واختاره ابن كج، ولا خلاف أنه يحرم عليه نبذه ورده إلى ما كان. واعلم أنهم يستعملون في هذا الباب لفظ الحضانة، والمراد منه الحفظ والتربية، لا الاعمال المفصلة في الاجارة، لان فيها مشقة ومؤنة كثيرة، فكيف تلزم من لا تلزمه النفقة ؟ وقد أوضحه البغوي فقال: نفقة اللقيط وحضانته في ماله إن كان له مال، ووظيفة الملتقط حفظه وحفظ ماله. فرع الملتقط البلدي، إذ وجد لقيطا في بلدته، أقر في يده، وليس له نقله إلى البادية إن أراد الانتقال إليها)، بل ينتزع منه لمعنيين. أحدهما: أن عيش البادية خشن، ويفوته العلم بالدين والصنعة. والثاني: تعريض نسبه للضياع. فلو كان الموضع المنتقل إليه من البادية في بياض البلدة يسهل عليه تحصيل ما يراد منها، فعلى المعنى الاول: ل يمنع. وعلى الثاني: إن كان أهل البلد يختلطون بهم، فكذلك، وإلا، منع. وكما ليس له نقله إلى البادية، فليس له نقله إلى قرية. ولو أراد نقله إلى بلدة أخرى، أو التقطه غريب في تلك(4/488)
البلدة وأراد نقله إلى بلدته، فعلى المعنى الاول: لا يمنع، وعلى الثاني: يمنع وينتزع اللقيط منه. والا ول هو المنصوص، وبه قال الجمهور. قال المتولي: ولا فرق بين سفر النقلة والتجارة والزيارة. ولو وجد القروي لقيطا في قريته أو قرية أخرى أو في بلدة، يقاس بما ذكرناه في البلدي. ولو وجد الحضري اللقيط في بادية، نظر، إن كان في مهلكة، فلا بد من نقله، وللملتقط أن يذهب به إلى مقصده. ومن قال في اللقطة: يعرفها في أقرب البلاد، يشبه أن يقول: لا يذهب به إلى مقصده رعاية للنسب. وإن كان في حلة أو قبيلة، فله نقله إلى البلدة والقرية على المذهب، وبه قطع الجمهور. وعن القاضي حسين: أنه على وجهين بناء على المعنيين. ولو أقام هناك، أقر في يده قطعا. أما البدوي، فإذا التقط في قرية أو بلدة وأراد المقام بها أقر في يده. وإن أراد نقله إلى البادية أو قرية أو بلدة أخرى، فعلى ما ذكرناه في الحضري. وإن وجده في حلة أو قبيلة في البادية، فإن كان من أهل حلة مقيمين في موضع راتب، أقر في يده، وإن كان ممن ينتقلون من موضع إلى موضع منتجعين، ففي منعه وجهان. قلت: أصحهما لا منع. والله أعلم فرع لو ازدحم على لقيط في البلدة أو القرية مقيم بها وظاعن، قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: المقيم أولى. قال الاصحاب: إن كان الظاعن يظعن إلى البادية أو إلى بلدة أخرى، وقلنا: ليس للمنفرد الخروج به إلى بلدة، فالمقيم أولى، وإن جوزناه له ذلك، فهما سواء. ولو اجتمع على لقيط في القرية قروي مقيم بها وبلدي، قال ابن كج: القروي أولى، وهذا يخرج على منع النقل من بلد إلى بلد. فإن جوزنا، وجب أن يقال: هما سواء. قلت: المختار الجزم بتقديم القروي مطلقا، كما قاله ابن كج، وإنما نجوز النقل إذا لم يعارضه معارض. والله أعلم(4/489)
ولو اجتمع حضري وبدوي على لقيط في البادية، نظر، إن وجد في حلة أو قبيلة، والبدوي في موضع راتب، فهما سواء. وقال ابن كج: البدوي أولى إن كان مقيما فيهم. وإن كان منتجعا، فإن قلنا: يقر في يده لو كان منفردا، فهما سواء، وإلا، فالحضري أولى. وإن وجد في مهلكة، قال ابن كج: الحضري أولى. وقياس قوله: تقديم البدوي أو من كان مكانه أقرب إلى موضع الالتقاط، أقرب. فرع اللقيط قد يكون له مال يستحقه بكونه لقيطا أو بغيره، فالاول: كالوقف على اللقطاء والوصية لهم، والثاني: كالوصية لهذا اللقيط والهبة له والوقف عليه، ويقبل له القاضي من هذا ما يحتاج إلى القبول. ومن الاموال التي يستحقها، ما يوجد تحت يده واختصاصه، فإن للصغير يدا واختصاصا كالبالغ، والاصل الحرية ما لم يعرف غيرها، وذلك كثيابه التي هو لابسها والمفروشة تحته والملفوفة عليه، وما غطي به من لحاف وغيره، وما شد عليه وعلى ثوبه، أو جعل في جيبه من حلي ودراهم وغيرها، وكذا الدابة التي عنانها بيده، أو هي مشدودة في وسطه أو ثيابه، والمهد الذي هو فيه، وكذا الدنانير المنثورة فوقه والمصبوبة تحته وتحت فراشه. وفي التي تحته، وجه ضعيف. ولو كان في خيمة أو دار ليس فيهما غيره، فهما له. وعن الحاوي وجهان في البستان. قلت: وطرد صاحب المستظهري الوجهين في الضيعة وهو بعيد، وينبغي القطع بأنه لا يحكم له بها. والله أعلم ولو كان بقربه ثياب وأمتعة موضوعة، أو دابة، فوجهان. أصحهما: لا تجعل له كما لو كانت بعيدة. والثاني: بلى، لان هذا يثبت اليد والاختصاص، ألا ترى أن الامتعة الموضوعة في السوق بقرب الشخص تجعل له. والمال المدفون تحت(4/490)
اللقيط لا يجعل له، لانه لا يقصد بالدفن الضم إلى الطفل، بخلاف ما يلف عليه ويوضع بقربه. فلو وجدت معه أو في ثيابه رقعة مكتوب فيها: إن تحته دفينا له، فوجهان. أصحهما عند الغزالي: أنه له بقرينة المكتوب. والثاني: لا أثر للرقعة، وهو الموافق لكلام الاكثرين. قال الامام: ومن عول على الرقعة ليت شعري ما يقول لو أرشدت الرقعة إلى دفين بالعبد منه، أو دابة مربوطة بالبعد منه. قلت: مقتضاه أن نجعله للقيط، فإن الاعتماد إنما هو على الرقعة، لا على كونه تحته. والله أعلم ولو كانت دابة مشدودة باللقيط وعليها راكب، قال ابن كج: هي بينهما. ثم إن ما سوى الدفين من هذه الاموال إذا لم يجعل للقيط، فهو لقطة، والدفين قد يكون لقطة وقد يكون ركازا كما سبق. فرع إذا عرف للقيط مال، فنفقته في ماله. فان لم يعرف، فقولان. أظهرهما: ينفق عليه الامام من بيت المال من سهم المصالح. والثاني: يستقرض له الامام من بيت المال أو بعض الناس. فإن لم يكن في بيت المال شئ ولم يقرض أحد، جمع الامام أهل الثروة من البلد وقسط عليهم نفقته وجعل نفسه منهم. ثم إن بان رقيقا، رجعوا على سيده. وإن بان حرا أو له مال أو قريب، فالرجوع عليه. وإن بان حرا لا قريب له ولا مال ولا كسب، قضى الامام حقهم من سهم الفقراء أو(4/491)
المساكين أو الغارمين كما يراه. قلت: اعتباره القريب غريب، قل من ذكره، وهو ضعيف، فإن نفقته القريب تسقط بمضي الزمان. والله أعلم أما إذا قلنا بالاظهر: إنه ينفق من بيت المال، فان لم يكن فيه مال، أو كان هناك ما هو أهم، كسد ثغر يعظم ضرره لو ترك، قام المسلمون بكفايته، ولم يجز لهم تضييعه. ثم هل طريقه طريق النفقة، أم طريق القرض ؟ قولان. أظهرهما والذي يقتضي كلام العراقيين وغيرهم: ترجيحه أنه طريق القرض. فإن قلنا: طريق النفقة، فقام به بعضهم، اندفع الحرج عن الباقين. وإن امتنعوا، أثموا كلهم، وطالبهم الامام. فإن أصروا، قاتلهم، وعند التعذر يقترض على بيت المال وينفق عليه، وإن قلنا: طريق القرض، يثبت الرجوع. وعلى هذا، إن تيسر الاقتراض، فذاك، وإلا، قسط الامام نفقته على الموسرين من أهل البلد، ثم إن ظهر عبدا، فالرجوع على سيده. وإن ظهر له مال أو اكتسب، فالرجوع عليه. فإن لم يكن له شئ، قضي من سهم المساكين أو الغارمين. وإن حصل في بيت المال مال قبل بلوغه ويساره، قضي منه. وإن حصل في بيت المال، أو حصل للقيط مال دفعة واحدة، قضي من مال اللقيط كما لو كان له مال وفي بيت المال مال. ولم يتعرض الاصحاب لطرد الخلاف، في أنه إنفاق أو إقراض، إذا كان في بيت المال مال وقلنا: نفقته منه، والقياس طرده. قلت: ظاهر كلامهم، أنه إنفاق، فلا رجوع لبيت المال قطعا، وهذا هو(4/492)
المختار الظاهر والله أعلم وحيث قلنا: يقسطها الامام على الاغنياء، فذاك عند إمكان الاستيعاب. فإن كثروا أو تعذر التوزيع عليهم، قال الامام: يضربها السلطان على من يراه منهم باجتهاده. فإن استووا في اجتهاد، تخير، والمراد أغنياء تلك البلدة أو القرية. فصل إذا كان للقيط مال، هل يستقل الملتقط بحفظه ؟ وجهان. أحدهما: لا، بل يحتاج إلى إذن القاضي، إذ لا ولاية للملتقط. وأرجحهما على ما يقتضيه كلام البغوي: الاستقلال. قلت: رجح الامام الرافعي أيضا في المحرر هذا الثاني. والله أعلم ولو ظهر منازع في المال المخصوص باللقيط، فليس للملتقط مخاصمته على الاصح، وسواء قلنا: له الاستقلال بالحفظ، أم لا، فليس له إنفاقه على اللقيط إلا بإذن القاضي إذا أمكن مراجعته. فإن أنفق، ضمن، ولم يكن له الرجوع على اللقيط كمن في يده مال وديعة ليتيم أنفقها عليه. وحكى ابن كج وجها أنه لا يضمن، (وهو شاذ)، وإذا رفع الامر إلى الحاكم، فليأخذ المال منه ويسلمه إلى أمين لينفق منه على اللقيط بالمعروف، أو يصرفه إلى الملتقط يوما يوما. ثم إن خالف الامين وقتر عليه، منع منه، وإن أسرف، ضمن كل واحد من الامين والملتقط الزيادة، والقرار على الملتقط إن كان سلم إليه، لحصول الهلاك في يده. وهل(4/493)
يجوز أن يترك المال في يد الملتقط ويأذن له في الانفاق منه ؟ تقدم عليه مسألة، وهي أنه إذا لم يكن للقيط مال واحتيج إلى الاقتراض له، هل يجوز للقاضي أن يأذن للملتقط في الانفاق عليه من مال نفسه (ليرجع) ؟ نص أنه يجوز، ونص في الضالة، أنه لا يأذن لواجدها في الانفاق من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال منه ويدفعه. إلى أمين، ثم الامين يدفع إليه كل يوم قدر الحاجة، فقال جمهور الاصحاب: المسألتان على قولين. أحدهما: المنع فيهما. وأظهرهما عند الشيخ أبي حامد: الجواز فيهما للحاجة، لكثرة المشقة، ويلحق الامين بالاب في ذلك، وسبق مثل هذا الخلاف في إنفاق المالك عند هرب عامل المساقاة والجمال، وأجراه أبو الفرج السرخسي في إنفاق قيم الطفل من مال نفسه. وقالت طائفة بظاهر النصين، وفرقوا بأن اللقيط لاولي له في الظاهر. رجعنا إلى إذن الحاكم للملتقط في الانفاق من مال اللقيط، فالاكثرون طردوا الطريقين في جوازه، والاحسن ما أشار إليه ابن الصباغ، وهو القطع بالجواز كقيم اليتيم يأذن له القاضي في الانفاق من ماله عليه، وينبغي أن يجري هذا الخلاف في تسليم ما اقترضه القاضي على الجمال الهارب إلى المستأجر، ولا ذكر له هناك. وإذا جوزناه، فبلغ اللقيط واختلفا فيما أنفق، فالقول قول الملتقط إذا ادعى قدر الايفاء في الحال، وقد سبق في هرب الجمال وجه: أن القول قول الجمال، والقياس طرده هنا. وإن ادعى زيادة على اللائق، فهو مقر بتفريطه، فيضمن، ولا معنى للتحليف. قال الامام: لكن لو وقع النزاع في عين، فزعم الملتقط أنه أنفقها، فيصدق لتنقطع المطالبة بالعين، ثم يضمن كالغاصب إذا ادعى التلف، هذا كله أذا أمكن مراجعة القاضي. فان لم يكن هناك قاض، فهل ينفق من مال اللقيط عليه بنفسه، أم يدفعه إلى أمين لينفق عليه ؟ قولان. أظهرهما: الاول. فعلى هذا، إن أشهد لم يضمن على الصحيح، وإلا، ضمن على الاصح.(4/494)
الباب الثاني : في أحكام اللقيط هي أربعة.
الأول : الاسلام، وإسلام الشخص قد يثبت بنفسه استقلالا، وقد يثبت تبعا. أما القسم الاول، فالبالغ العاقل، يصح منه مباشرة الاسلام بالنطق إن كان ناطقا، وبالاشارة إن كان أخرس. وأما المجنون والصبي الذي لا يميز، فلا يصح إسلامهما مباشرة بلا خلاف، ولا يحكم بإسلامهما إلا بالتبعية. وأما الصبي المميز، ففيه أوجه. الصحيح المنصوص: لا يصح إسلامه. والثاني: يتوقف. فإن بلغ واستمر على كلمة الاسلام، تبينا كونه مسلما من يومئذ. وإن وصف الكفر، تبينا أنه كان لغوا. وقد يعبر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرا لا باطنا. والثالث: يصح إسلامه حتى يفرق بينه وبين زوجته الكافرة ويورث من قريبه المسلم، قاله الاصطخري. وعلى هذا، لو ارتد، صحت ردته، لكن لا يقتل حتى يبلغ. فإن تاب، وإلا، قتل. قلت: الحكم بصحة الردة، بعيد، بل غلط. والله أعلم فإذا قلنا بالصحيح، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: يحال بينه وبين أبويه وأهله الكفار لئلا يفتنوه. فإن بلغ ووصف الكفر، هدد وطولب بالاسلام. فإن أصر، رد إليهم. وهل هذه الحيلولة مستحبة، أم واجبة ؟ وجهان. أصحهما: مستحبة، فليتلطف بوالديه ليؤخذ منهما. فإن أبيا، فلا حيلولة. هذا في أحكام الدنيا.(4/495)
فأما ما يتعلق بالآخرة، فقال الاستاذ أبو إسحاق: إذا أضمر الاسلام كما أظهره، كان من الفائزين بالجنة، ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرا. قال الامام: في هذا إشكال، لان من يحكم له بالفوز لاسلامه، كيف لا يحكم باسلامه ؟ ويجاب عنه بأنه قد يحكم بالفوز في الآخرة وإن لم يحكم بأحكام الاسلام في الدنيا، كمن لم تبلغه الدعوة.
فصل للتبعية في الإسلام ثلاث جهات. إحداها: إسلام الابوين أو أحدهما، ويتصور ذلك من وجهين. أحدهما: أن يكون الابوان أو أحدهما مسلما يوم العلوق، فيحكم بإسلام الولد، لانه جزء من مسلم، فإن بلغ ووصف الكفر، فهو مرتد. والثاني: أن يكونا كافرين يوم العلوق، ثم يسلما أو أحدنما، فيحكم باسلام الولد في الحال. قال الامام: وسواء اتفق الاسلام في حال اجتنان الولد أو بعد انفصاله، وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يفترق فيه هذان الوجهان بإسلامه. وفي معنى الابوين الاجداد والجدات، سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا، فإذا أسلم الجد أبو الأب، أو أبو الأم، تبعه الصبي إن لم يكن الاب حيا قطعا، وكذا إن كان على الاصح. ثم إذا بلغ هذا الصبي، فإن أفصح بالاسلام، تأكد ما حكمنا به. وإن أفصح بالكفر، فقولان. المشهور: أنه مرتد، لانه سبق الحكم باسلامه جزما، فأشبه من باشر الاسلام ثم ارتد، وما إذا حصل العلوق في حال الاسلام. والثاني: أنه كافر أصلي، لانه كان محكوما بكفره أولا وأزيل تبعا، فإذا استقل، زالت(4/496)
التبعية. ويقال: إن هذا القول مخرج، ومنهم من لم يثبته وقطع بالاول. فإن حكمنا بكونه مرتدا لم قص شيئا مما أقضيناه من أحكام الاسلام. وإن حكمنا بأنه كافر أصلي، فوجهان. أحدهما: إمضاؤها بحالها، لجريانه في حال التبعية. وأصحهما: أنا نتبين بطلانها، ونستدرك ما يمكن استدراكه، حتى يرد ما أخذه من تركه قريبة المسلم، ويأخذ من تركه قريبه الكافر ما حرمناه منه، ونحكم بأن إعتاقه عن الكفارة لم يقع مجزئا. هذا فيما جرى في الصغر. فأما إذا بلغ ومات له قريب مسلم قبل أن يفصح بشئ، أو أعتق عن الكفارة في هذا الحال، فإن قلنا: لو أفصح بالكفر كان مرتدا، أمضينا أحكام الاسلام ولا تنقض. وإن جعلناه كافرا أصليا، فإن أفصح بالكفر، تبينا أنه لا إرث ولا إجزاء عن الكفارة. وإن فات الافصاح بموت أو قتل، فوجهان. أحدهما: إمضاء أحكام الاسلام كما لو مات في الصغر. وأصحهما: نتبين الانتقاض، لان سبب التعبية الصغر وقد زال، ولم يظهر في الحال حكمه في نفسه، فيرد الامر إلى الكفر الاصلي. وعن القاضي حسين: أنه إن مات قبل الافصاح وبعد البلوغ، ورثه قريبه المسلم. ولو مات له قريب مسلم، فارثه عنه موقوف. قال الامام: أما التوريث منه، فيخرج على أنه لو مات قبل الافصاح، هل ينقض الحكم ؟ وأما توريثه، فإن أراد بالتوقف أنه يقال: لو أفصح بالاسلام، فهو قريب، ويستفاد به الخروج من الخلاف. وأما لو مات القريب، ثم مات هو، وفات الافصاح، فلا سبيل إلى الفرق بين توريثة والتوريث عنه. ولو قتل بعد البلوغ وقبل الافصاح، ففى تعلق القصاص بقتله قولان أحدهما: نعم كما لو قتل قبل البلوغ وأظهرهما: لا، للشبهة وانقطاع التبعية. وأما الدية، فالذي أطلقوه وحكوه عن نص الشافعي رضي الله عنه: تعلق الدية الكاملة بقتله، وقياس قولنا: إنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا، أن لا نوجب الدية الكاملة على رأي، كما أنه إذا فات الافصاح بالموت يرد الميراث على رأي. قلت: الصواب ما قاله الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم. والله أعلم فرع المحكوم بكفره إذا بلغ مجنونا، حكمه حكم الصغير، حتى إذا أسلم أحد والديه تبعه. وإن بلغ عاقلا ثم جن، فكذلك على الاصح. الجهة الثانية: تبعية السابي، فإذا سبى المسلم طفلا منفردا عن أبويه، حكم(4/497)
باسلامه، لانه صار تحت ولايته كالابوين. قلت: هذا الذي جزم به، هو الصواب المقطوع به في كتب المذهب، وشذ صاحب المهذب فذكر في كتاب السير في الحكم باسلامه وجهين، وزعم أن ظاهر المذهب: أنه لا يحكم به، وليس بشئ، وإنما ذكرته تنبيها على ضعفه لئلا يغتر به. والله أعلم فلو سباه ذمي، فوجهان. أحدهما: يحكم باسلامه، لانه من أهل دار الاسلام. وأصحهما: لا، لان كونه من أهل الدار لم يؤثر فيه ولا في أولاده، فغيره أولى. فعلى هذا، لو باعه الذمي لمسلم، لم يحكم باسلامه.(4/498)
ولو سبي ومعه أحد أبويه، لم يحكم باسلامه قطعا. فلو كانا معه ثم ماتا، لم يحكم بإسلامه أيضا، لان التعبية إنما تثبت في ابتداء السبي. قلت: معن سبي معه أحد أبويه، أن يكونا في جيش واحد وغنيمة واحدة، ولا يشترط كونها في ملك رجل. قال البغوي في كتاب الظهار: إذا سباه مسلم، وسبى أبويه غيره، إن كان في عسكر واحد، تبع أبويه. وإن كان في عسكرين، تبع السابي. والله أعلم فرع حكم الصبي المحكوم بإسلامه تبعا للسابي إذ بلغ، حكم المحكوم بإسلامه تبعا لابويه إذا بلغ. فرع المحكوم باسلامه تبعا لابيه أو للسابي إذا وصف الكفر، فإن جعلناه كافرا أصليا، ألحقناه بدار الحرب. فان كان كفره مما يقر عليه بالجزية، قررناه برضاه. وإن وصف كفرا غير ما كان موصوفا به، فهو انتقال من ملة إلى ملة، وفيه تفصيل وخلاف مذكور في كتاب النكاح. وأما تجهيزه والصلاة غلته ودفنه في مقابر المسلمين إذ فات بعد البلوغ وقبل الافصاح، فيتفرع على القولين في أنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا أو مرتدا ؟ ورأى الامام أن يتساهل في ذلك ويقام فيه شعار الاسلام. قلت: الذي رآه الامام هو المختار أو الصواب، لان هذه الامور مبنية على(4/499)
الظواهر، وظاهره الاسلام. والله أعلم الجهة الثالثة: تبعية الدار. فاللقيط يوجد في دار الاسلام أو دار الكفر. الحال الاول: دار الاسلام، وهي ثلاثة أضرب. أحدها: دار يسكنها المسلمون، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أ هل ذمة، تغليبا للاسلام. الثاني: دار فتحها المسلمون وأقروها في يد الكفار بجزية، فقد ملكوها، أو صالحوهم ولم يملكوها، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد فأكثر، وإلا، فكافر على الصحيح. وقيل: مسلم، لاحتمال أنه ولد من يكتم إسلامه منهم. الثالث: دار كان المسلمون يسكنونها، ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار، فإن لم يكن فيها من يعرف بالاسلام، فهو كافر على الصحيح. وقال أبو إسحاق: مسلم، لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه. وإن كان فيها معروف بالاسلام، فهو مسلم، وفيه احتمال للامام. وأما عد الاصحاب الضرب الثالث دار إسلام، فقد يوجد في كلامهم ما يقتضي أن الاستيلاء القديم يكفي لاستمرار الحكم، ورأيت لبعض المتأخرين تنزيل ما(4/500)
ذكروه على ما إذا كانوا لا يمنعون المسلمين منها، فإن منعوهن، فهي دار كفر. الحال الثاني: دار الكفر. فإن لم يكن فيها مسلم، فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره. وإن كان فيها تجار مسلمون ساكنون، فهل يحكم بكفره تبعا للدار، أو باسلامه تغليبا للاسلام ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، ويجريان فيما لو كان فيها أسارى، ورأى الامام ترتيب الخلاف فيهم على التجار، لانهم مقهورون. قال: ويشبه أن يكون الخلاف في قوم ينتشرون، إلا أنهم ممنوعون من الخروج من البلدة، فأما المحبوسون في المطامير، فيتجه أن لا يكون لهم أثر كما لا أثر لطروق العابرين من المسلمين، وحيث حكمنا بالكفر، فلو كان أهل البقعة أصحاب ملل مختلفة، فالقياس أن يجعل من أصونهم دينا. فرع الصبي المحكوم بإسلامه بالدار، إذا بلغ وأفصح بالكفر، فهو كافر أصلي على المذهب. وقيل: قولان كالمسلم تبعا لابويه أو السابي. أحدهما: أنه أصلي. والثاني: أنه مرتد. فإذا قلنا: أصلي، فهل نتوقف في حال صباه في الاحكام التي يشترط لها الاسلام ؟ وجهان. أصحهما: لا، بل نمضيها كالمحكوم باسلامه تبعا لابيه. والثاني: نتوقف حتى يبلغ فيفصح بالاسلام. فإن مات في صباه، لم يحكم بشئ من أحكام الاسلام، وهذا ضعيف. فرع اللقيط الموجود في دار الاسلام، لو ادعى ذمي نسبه وأقام عليه بينة،(4/501)
لحقه وتبعه في الكفر، وارتفع ما كنا نظنه. وإن اقتصر على مجرد الدعوى، فالمذهب أنه مسلم، وهو المنصوص، وبه قطع أبو إسحاق وغيره، وصححه الاكثرون. وقيل: قولان. ثانيهما: يحكم بكفره، لانه يلحقه بالاستحقاق. فإذا ثبت نسبه، تبعه في الدين كما لو أقام البينة. وحجة المذهب: أنا حكمناه باسلامه، فلا نغيره بمجرد دعوى كافر. وأيضا فيجوز أن يكون ولده من مسلمة، وحينئذ لا يتبع الدين النسب. وعلى الطريقين، يحال بينهما كما ذكرنا فيما إذا وصف المميز الاسلام. ثم إذا بلغ ووصف الكفر، فإن قلنا: يتبعه فيه، قرر، لكنه يهدد، ولعله يسلم، وإلا، ففي تقريره ما سبق من الخلاف. فرع سبق أن اللقيط المسلم، ينفق عليه من بيت المال إذا لم يكن له مال. فأما المحكوم بكفره، فوجهان. أصحهما: كذلك، إذ لا وجه لتضييعه. الحكم الثاني: جناية اللقيط، والجناية عليه. أما جنايته، فإن كانت خطأ، فموجبها في بيت المال، ولا نخرج ذلك على الخلاف في التوقف، كما لا نتوقف في صرف تركته إلى بيت المال. وإن كانت عمدا، نظر، إن كان بالغا، فعليه القصاص بشرطه. وإن جنى قبل البلوغ، فإن قلنا: عمد الصبي عمد، وجبت الدية مغلظة في ماله. فإن لم يكن له مال، ففي ذمته إلى أن يجد. وإن قلنا: خطأ، وجبت مخففة في بيت المال. ولو أتلف مالا، فالضمان عليه، فإن كان(4/502)
اللقيط محكوما بكفره، فالتركة فيئ، ولا تكون جنايته في بيت المال. وأما الجناية عليه، فإن كانت خطأ، نظر، إن كانت على نفسه، أخذت الدية ووضعت في بيت المال. وقياس من قال بالتوقف في أحكامه: أن لا يوجب الدية الكاملة، ولم أره. قلت: الصواب، الجزم بالدية الكاملة. والله أعلم وإن كانت على طرفه، فواجبها حق اللقيط يستوفيه القاضي، ويعود فيه القياس المذكور. وإن كانت عمدا، فإن قتل، وجب القصاص على الاظهر. وقيل: يجب قطعا، وهو نصه في المختصر، لانه مسلم معصوم. وإن قتل بعد البلوغ والافصاح بالاسلام، وجب قطعا. وقيل: على الخلاف، لان القصاص حق للمسلمين، ولا يتصور رضى كلهم باستيفائه. وإن قتل بعد البلوغ قبل الافصاح، فعلى الخلاف. وقيل: لا يجب قطعا، لقدرته على الافصاح الواجب. وإن كانت الجناية على الطرف، وجب القصاص على المذهب. وقيل: قولان. ثانيهما: يتوقف. فإن بلغ وأفصح، تبينا وجوبه، وإلا، فعدمه. وإن كان الجاني على النفس أو الطرف كافرا رقيقا، وجب على المذهب. وقيل: قولان، لانه حق للمسلمين، ولا يتصور رضاهم. فرع إذا أوجبنا له القصاص، فقصاص النفس يستوفيه الامام إن رآه مصلحة. وإن رأى العدول إلى الدية، عدل، وليس له العفو مجانا، لانه خلاف مصلحة المسلمين. وأما قصاص الطرف، فإن كان اللقيط بالغا عاقلا، فالاستيفاء إليه، وإلا، فليس للامام استيفاؤه. وقال القفال: يجوز في المجنون، لانه ليس لافاقته زمن معين، وهذا ضعيف عند الاصحاب. وأضعف وجه حكاه السرخسي في(4/503)
جواز الاقتصاص، حيث يجوز له أخذ الارش. والمذهب: المنع قطعا. وإذا لم يقتص، فهل له أخذ أرش الجناية ؟ نظر، إن كان المجني عليه مجنونا فقيرا، فله وإن كان صبيا غنيا، فلا، وإن كان مجنونا غنيا، أو صبيا فقيرا، فالاصح المنع. وحيث منعنا الارش، أو لم نر المصلحة فيه، يحبس الجاني إلى البلوغ والافاقة، وإذا جوزناه فأخذه، ثم بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأراد أن يرده ويقتص، ففي تمكنه وجهان شبيهان بما لو عفا الولي عن الشفعة للمصلحة فبلغ وأراد الاخذ، وهما مبنيان على أن أخذ المال عفو كلي وإسقاط للقصاص، أم سببه الحيلولة لتعذر الاستيفاء ؟ وقد يرجح الاول بأن الحيلولة إنما تكون إذا جاءت من قبل الجاني كا باق المغصوب. قلت: الراجح الاول. والله أعلم وما ذكرناه في أخذ الارش للقيط، جار في كل طفل يليه أبوه أو جده بلا فرق. وحكى الامام عن شيخه، أنه ليس للوصي أخذه، قال: وهذا حسن إن جعلناه إسقاطا. وإن قلنا: للحيلولة، فينبغي أن لا يجوز للوصي أيضا.
الحكم الثالث (1) : نسب اللقيط، وهو كسائر المجهولين، فإذا استلحقه حر مسلم، لحقه، وقد سبق في كتاب الاقرار ما يشترط الاستلحاق، ولا فرق في ذلك بين الملتقط وغيره، لكن يستحب أن يقال للملتقط: من أين هو لك ؟ فربما توهم أن الالتقاط يفيد النسب. وإذا ألحق بغير الملتقط، سلم إليه، لانه أحق من الاجنبي. واستلحاق الكافر، كاستلحاق المسلم في ثبوت النسب، لاستوائهما
__________
كذا بالأصل، ولم يتكلم على الحكم الثاني(4/504)
في الجهات المثبتة للنسب. وإن استلحقه عبد، لحقه إن صدقه السيد، وكذا إن كذبه على الاظهر. وقيل: لا يلحق قطعا. وقيل: يلحق قطعا إن كان مأذونا له في النكاح ومضى زمان إمكانه، وإلا، فقولان. والمذهب: للحوق مطلقا، ويجري الخلاف في إقرار العبد بأخ أو عم. وقيل بالمنع هنا قطعا، لان لظهور نسبه طريقا آخر، وهو إقرار الاب أو الجد، ويجري فيما لو استلحق حر عبد غيره وهو بالغ فصدقه، لما فيه من قطع الارث المتوهم بالولاء. وقيل: يثبت هنا قطعا، ويجري فيما لو استلحق المعتق غيره. والمنع هنا أبعد، لاستقلاله بالنكاح والتسري. وإذا صححنا استلحاق العبد، فلا يسلم إليه اللقيط، لانه لا يتفرغ لحضانته وتربيته، ولا نفقة عليه، إذ لا مال له. فرع استلحقته امرأة وأقامت بينة، لحقها ولحق زوجها إن أمكن العلوق منه، ولا ينتفي عنه إلا بلعان. هذا إذا قيدت البينة أنها ولدته على فراشه. فإن لم تتعرض للفراش، ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان. قلت: الاصح المنع. والله أعلم وإن لم تقم بينة واقتصرت على الدعوى، فهل يلحقها، أم لا ؟ أم يلحق الخلية دون المزوجة ؟ فيه أوجه. أصحها: الثاني. فإن ألحقنا ولها زوج، لم يلحقه على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. وباللحوق قال ابن سلمة. واستلحاق الامة كالحرة إن جوزنا استلحاق العبد، فإن أثبتناه، لم يحكم برق الولد لمولاها على المذهب، وبه قطع ابن الصباغ والمتولي، وذكر البغوي فيه وجهين.
فصل ادعى نسب اللقيط اثنان، ففيه صور. إحداها: ادعاه حر وعبد، فإن قلنا: يصح استلحاق العبد، فهما سواء، وإلا، فيلحق بالحر. الثانية: ادعاه مسلم وكافر، يستويان فيه. الثالثة: اختص أحدهما بيد، نظر، إن كان صاحب اليد هو الملتق، لم يقدم، لان اليد لا تدل على النسب، بل إن استلحقاه معا ولا بينة، عرض معهما(4/505)
على القافة كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وإن استلحقه الملتقط أولا، حكمنا بالنسب، ثم ادعاه الآخر، قال الشافعي رضي الله عنه: يعرض الولد مع الثاني على القائف، فإن نفاه عنه، بقي لاحقا بالملتقط باستلحاقه. وإن ألحقه بالثاني، عرض مع الملتقط عليه، فإن نفاه عنه، فهو للثاني، وإن ألحقه به أيضا، فقد تعذر العمل بقول القائف فيوقف. وإن كان صاحب اليد غير الملتقط، فإن كان استلحقه وحكم (له) بالنسب، ثم جاء آخر وادعى نسبه، لم يلتفت إليه. وإن لم يسمع استلحاقه إلا بعدما جاء الثاني واستلحقه، فهل يقدم صاحب اليد، أم يستويان ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. الرابعة: تساويا ولا بينة، عرض الولد على القائف، فبأيهما ألحقه لحق. فإن لم يوجد قائف، أو تحير، أو ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، ترك حتى يبلغ، فإذا بلغ، أمر بالانتساب إلى أحدهما، ولا ينسب بالنشهي، بل يعول فيه على ميل الطبع الذي يجده الولد إلى الوالد إلى القريب والقريب بحكم الجبلة. وقيل: لا يشترط البلوغ، بل يخير إذا بلغ سن التمييز كالتخيير بين الابوين في الحضانة. والصحيح اشتراطه. والفرق أن الاختيار في الحضانة لا يلزم، بل له الرجوع، وهنا يلزم، وعليهما النفقة مدة الانتظار. فإذا انتسب إلى أحدهما، رجع الآخر عليه بما أنفق. ولو لم ينتسب إلى واحد منهما، لفقد الميل، بقي الامر موقوفا. ولو انتسب إلى غيرهما وادعاه ذلك الغير، ثبت نسبه منه. وفيه وجه: أنه إن كان الرجوع إلى انتسابه بسبب إلحاق القائف بهما جميعا، لم يقبل انتسابه إلى غيرهما. والصحيح الاول. وإذا انتسب إلى أحدهما لفقد القائف، ثم وجد، عرضناه عليه. فإن ألحقه بالثاني، قدمنا قوله على الانتساب، لانه حجة أو حكم. وقال أبو إسحاق: يقدم الانتساب. قال: وعلى هذا، فمتى ألحقه القائف بأحدهما، فللآخر أن ينازعه ويقول: يترك حتى يبلغ فينتسب. ولو ألحقه القائف بأحدهما، وأقام الآخر بينة، قدمت البينة،(4/506)
لانها حجة في كل خصومة، وقيل: لا يغير ما حكمنا به ولا يعمل بالبينة. فرع ادعت امرأتان نسب لقيط أو مجهول غيره، ولا بينة، وقبلنا استلحاق المرأة، ففي عرض الولد معهما على القائف وجهان أحدهما: المنع. و الاصح المنصوص: العرض، لانه حكم أو حجة، فأشبه البينة، فإذا ألحقه بأحداهما وهي ذات زوج، لحق زوجها أيضا كما قامت البينة. وقيل: لا يلحقه، وهو ضعيف. الخامسة: أقام كل واحد بينة بنسبه، وتعارضتا، ففي التعارض في الاموال قولان. أظهرهما: التساقط. فعلى هذا تسقطان أيضا هنا على الصحيح، ويرجع إلى قول القائف. وقيل: لا تسقطان وترجح إحداهما بقول القائف، ولا يختلف المقصود على الوجهين. والقول الثاني: تستعملان بالوقف، أو القسمة، أو القرعة ؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة، ولا يجئ هنا الوقف للاضرار بالطفل ولا القسمة، فلا مجال لها في النسب، ولا تجئ القرعة أيضا على الاصح وقول الاكثرين، لانها لا تدخل النسب، وأثبتها الشيخ أبو حامد. ولو اختص أحدهما باليد، لم ترجح بينته بها. وفي الافصاح للمسعودي، وأمالي أبي الفرج الزاز: أنه لو أقام أحدهما بينة بأنه في يده من سنة، والثاني بينة أنه في يده من شهر، وتنازعا في نسبه، فصاحب السنة مقدم، لكن هذا كلام غير مهذب، فإن ثبوت اليد لا يقتضي ثبوت النسب. وإن فرض تعرض البينتين لنفس النسب، فلا مجال للتقدم والتأخر فيه. وإن شهدتا على الاستلحاق، فيبنى على أن الاستلحاق من شخص هل يمنع غيره من الاستلحاق بعد ؟ وقد سبق بيانه. فرع ادعاه امرأتان، وأقامتا بينتين، قال الشافعي رضي الله عنه: أريته القائف معهما، فبأيتهما ألحقه لحقها ولحق زوجها. فمن الاصحاب من قال: هذا تفريع على قول الاستعمال، وترجيح بقول القائف، كما يرجح في الاملاك بالقرعة، وهذا يوافق ما سبق عن الشيخ أبي حامد. وعلى هذا، يلحق الزوج قطعا، لان الحكم بالبينة. ومنهم من قال: هذا جواب على قول التساقط، وكأنه لا بينة، فيرجع إلى القائف. وعلى هذا، ففي لحوقه بالزوج الخلا ف السابق.(4/507)
فرع ألحقه القائف بأحدهما، ثم بالآخر، لم ينقل إليه، إذا الاجتهاد ينقض بالاجتهاد. فرع وصف أحد المتداعيين أثر جراحة أو نحوه أو بظهره أو بعض أعضائه الباطنة، وأصاب، لا يقدم.
فصل تنازعا في الالتقاط وولاية الحفظ والتعهد، فإن تنازعا عند الاخذ أو قبله، فقد سبق بيانه. وإن قال كل واحد: أنا الملتقط فلي حفظه، فإن اختص بيد، وقال الآخر: أخذه مني، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. فإن أقاما بينتين، قدمت بينة صاحب اليد. وإن لم يكن في يد واحد منهما، فهو كما لو وجداه معا وتشاحا في حفظه، فيجعله الحاكم عند من يراه منهما أو من غيرهما. وإن كان في يدهما، فإن حلفا أو نكلا، فحكمه كما سكرنا إذا ازدحما على الاخذ معا وهما متساويا الحال. وإن حلف أحدهما فقط، خص به. ولو أقام كل واحد بينة وهو في يدهما، أو لا في يد واحد منهما، فإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد، أو إحداهما مؤرخة والاخرى مطلقة، فهما متعارضتان. فإن قلنا بالتساقط، فكأنه لا بينة. وإن قلنا بالاستعمال، فلا يجئ الوقف ولا القسمة، وتجئ القرعة، فيسلم لمن خرجت قرعته. وإن قيدتا بتاريخين مختلفين، قدم السابق، بخلاف المال، فإنه لا يقدم فيه بسبق التاريخ على الاظهر، لان الاموال تنتقل، والملتقط لا ينتزع منه ما دامت الاهلية. فإذا ثبت السبق، لزم استمراره. هكذا فرق الاصحاب، قال أبو الفرج الزاز: هذا إذا قلنا: من التقط اللقيط ثم نبذه لا يسقط حقه. فإن أسقطناه، فهو على القولين في الاموال، لانه ربما نبذه الاول فالتقطه غيره، وهذا حسن. ويتفرع على تقديم البينة المصرحة بالسبق، ما إذا كان اللقيط في يد أحدهما وأقام من في يده البينة، وأقام الآخر بينة أنه كان في يده وانتزعه منه صاحب اليد، فتقدم بينة مدعي الانتزاع، لاثباتها السبق.
الحكم الرابع : الحرية والرق، وللقيط في ذلك أربعة أحوال.(4/508)
الاول: أن لا يقر على نفسه بالرق، ولا يدعي رقه أحد، فيحكم بحريته، لان ظاهر حاله الحرية، ولان غالب الناس أحرار، هذا هو المذهب، وقد سبق أن من الاصحاب من يتوقف في إسلامه. قال الامام: وذلك التردد يجري هنا وأولى، لقوة الاسلام واقتضائه الاستتباع للوالد والسابي، بخلاف الحرية. ثم ذكر الامام تفصيلا متوسطا فقال: يجزم بالحرية ما لم ينته الامر إلى إلزام الغير شيئا، فإن انتهى، ترددنا إن لم يعتر ف الملتزم بحريته، فنحكم له بالملك فيما نصادفه في يده جزما. وإذا أتلفه متلف، أخذنا منه الضمان وصرفناه إليه، لان المال المعصوم مضمون على المتلف، فليس التضمين بالحرية، وميراثه لبيت المال قطعا، وأرش جنايته الخطأ في بيت المال قطعا، قال الامام: ويحتمل أن يخرج على التردد المذكور، لان مال بيت المال لا يبذل إلا عن تحقق. ولو قتل اللقيط، فقد ذكرنا في وجوب القصاص خلافا، وينضم إليه التردد في الحرية، فمن لا يجزم القول باسلامه وحريته، لا يوجب القصاص على الحر المسلم بقتله، ويوجبه على الرقيق الكافر. ومن يجزم بهما، يخرج وجوب القصاص بكل حال على قولين - بناء على أنه ليس له وارث معين -، الاظهر: وجوبه. وإذا قتل خطأ، فالواجب الدية على الصحيح، أخذا بظاهر الحديث، وأقل الامرين من الدية والقيمة في الثاني، بناء على أن الحرية غير متيقنة. قال الامام: وقياس هذا أن نوجب الاقل من قيمته عبدا، ودية مجوسي، لامكان الحمل على التمجس، وقد يرتب القصاص على الدية فيقال: إن لم نوجب الدية، فالقصاص أولى، وإلا، فوجهان. الحال الثاني: أن يدعي شخص رقه ولا بينة. ومن ادعى رق صغير لا تتيقن حريته، سمعت دعواه، لامكانها. فإن لم يكن في يده، لم يقبل قوله إلا ببينة، لان الظاهر الحرية، فلا تترك إلا بحجة، بخلاف النسب، فإن قبوله(4/509)
مصلحة للصبي وثبوت حق له. وإن كان في يده وقد عرفنا استنادها إلى التقاطه، فقولان. أحدهما: يحكم له بالرق كيد غير الملتقط، وكما لو التقط مالا - بإدعاه ولا منازع، يقبل قوله ويجوز شراؤه منه. وأظهرهما: لا يقبل إلا ببينة، لان الاصل الحرية، ويخالف المال، فإنه مملوك وليس في دعواه تغيير صفة له، واللقيط حر ظاهرا، وفي دعواه تغيير صفة. وإن لم يعرف استنادها إلى الالتقاط، حكم لصاحبها بالرق الذي يدعيه على الصحيح الذي قطع به الجمهور، لان الظاهر ممن في يده يتصرف فيه تصرف المالكين، ولا معارض له، ولا سبب يحال عليه أنه ملكه، وسواء كان الصغير مميزا أو غيره مقرا أو منكرا على الاصح. والثاني: إن كان مميزا منكرا، احتاج المدعي إلى البينة. فعلى الاصح: يحلف المدعي، واليمين واجبة على الاصح المنصوص. وقيل: مستحبة. ثم إذا بلغ الصبي وأقر بالرق لغير صاحب اليد، لم يقبل. وإن قال: أنا حر، لم يقبل أيضا على الاصح، إلا أن يقيم بينة بالحرية، ولكن له تحليف السيد، قاله البغوي. والثاني: يقبل، قاله أبو علي الثقفي. فرع رأى صغيرا في يد إنسان يأمره وينهاه ويستخدمه، هل له أن يشهد له بالملك ؟ قال أبو علي الطبري: فيه وجهان. وقال غيره: إن سمعه يقول: هو عبدي، أو سمع الناس يقولون: إنه عبده، شهد له بالملك، وإلا، فلا. قلت: هذا أصح. والله أعلم فرع صغيرة في يد رجل يدعي نكاحها، فبلغت وأنكرت، يقبل قولها،(4/510)
وعلى المدعي البينة. وهل يحكم في صغرها بالنكاح ؟ قال ابن الحداد: نعم كالرق. والاصح: المنع. وفرق الاصحاب، بأن اليد في الجملة دالة على الملك، ويجوز أن يولد وهو مملوك والنكاح طارئ، فيحتاج إلى البينة. الحال الثالث: أن يدعي رقه مدع ويقيم عليه بينة حيث يحتاج مدعي الرق إلى بينة كما فصلناه. وهل يكفي إقامة البينة على الرق أو الملك مطلقا ؟ قولان. أحدهما: نعم كما لو شهد بملك دار أو ثوب وغيرهما، وهذا اختيار المزني، وهو نصه في الدعاوى وفي القديم. والثاني: لا، لاحتمال اعتماد الشاهد ظاهر اليد، ويكون يد التقاط. وإذا احتمل ذلك مع أن اللقيط محكوم بحريته بظاهر الدار، لم يزل ذلك إلا بيقين، وأمر الرق خطر، وهذا نصه (هنا)، وهو الاصح عند الامام والبغوي والروياني وآخرين، ورجح ابن كج وأبو الفرج الزاز الاول، ويؤيده أن من الاصحاب من قطع به، وحمل نصه هنا على الاحتياط، ولان البينة بمطلق الملك ليست بأقل من دعوى غير الملتقط رق الصغير في يده. قلت: كل من الترجيحين ظاهر، وقد رجح الرافعي في المحرر الثاني. والله أعلم ويجري القولان، سواء كان المدعي هو الملتقط أو غيره، هكذا ذكره الجمهور. وذكر الامام كلاما يتخرج منه ومما ذكره غيره قول: أن البينة المطلقة تكفي في غير الملتقط، ولا تكفي فيه. والمذه ب: أنه لا فرق. وإذا قلنا: لم يكتف بالبينة المطلقة، شرطنا تعرض الشهود لسبب الملك من الارث أو الثراء أو الالتهاب ونحوها. ومن الاسباب أن يشهدوا أن أمته ولدته مملوكا له. فإن اقتصروا على أن أمته ولدته، أو أنه ولد أمته، فطريقان. قال الجمهور: قولان. أظهرهما: يكفي. والثاني: لا. وقيل: يكفي قطعا، وهو نصه هنا. وإن شهدوا أنه ملكه ولدته مملوكته قال البغوي: يكفي قطعا، وهو نصه هنا. وإن شهدوا أنه ملكه ولدته مملوكته، قال البغوي: يكفي قطعا، وإن شهدوا بأن أمته ولدته في ملكه، قال الاصحاب: يكفي قطعا. وقال الامام: لا يكتفى به تفريعا على وجوب التعرض(4/511)
لسبب الملك، فقد تلد في ملكه حرا بالشبهة وفي نكاح الغرور، وقد تلد مملوكا لغيره بأن يوصي بحملها وتكون الرقبة للوارث، وهذا حق. ويشبه أن لا يكون فيه خلاف، ويكون قولهم: في ملكه، مصروفا إلى المولود - كقولك: ولدته في مشيمة - لا إلى الولادة، ولا إلى الوالدة، وحينئذ يكون قولهم: ولدته مملوكا له، ويكفي المدعي في دعواه قوله: هو ملكي، وإنما يشترط ذكر السبب إن شرطناه في صيغة الشهود. فرع تقبل هذه الشهادة من رجل وامرأتين على القولين، لان الغرض إثبات الملك. وإذا اكتفينا بالشهادة على أنه ولدته أمته، قبل من أربع نسوة أيضا، لانها شهادة على الولادة، ثم يثبت الملك في ضمنها كثبوت النسب في ضمن الشهادة على الولادة. ولو شهدن أنه ملكه ولدته أمته، قال القاضي حسين: ثبت الملك والولادة، وذكر الملك لا يمنع ثبوت الولادة، ثم يثبت الملك ضمنا لا بتصريحهن. فرع لو شهدت البينة لمدعي الرق باليد، قال في المهذب: إن كان المدعي الملتقط، لم يحكم له. وإن كان غيره، فقولان. والاصح ما ذكره صاحب الشامل وغيره: أن المدعي إذا أقام البينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط، قبلت وثبتت يده، ثم يصدق في دعوى الرق، لما سبق أن صاحب اليد على الصغير إذا لم يعرف أن يده عن التقاط، يصدق في دعوى الرق، وبمثله قطع البغوي فيما(4/512)
إذا أقام الملتقط بينة أنه كان في يده، قبل إن التقطه، لكن نقل ابن كج في هذه الصورة عن النص، أنه لا يرق حتى يقيم البينة على سبب الملك. الحال الرابع أن يقر على نفسه بالرق وهو بالغ عاقل، فينظر، إن كذبه المقر له، لم يثبت الرق. فلو عاد بعد ذلك فصدقه، لم يلتفت إليه، لانه لما كذبه ثبتت حريته بالاصل، فلا يعود رقيقا. وإن صدقه، نظر، إن لم يسبق الاقرار ما يناقضه، قبل على المشهور كسائر الاقارير. وفي قول حكاه صاحب التقريب: لا يقبل، لانه محكوم بحريته بالدار، فلا ينقض، كالمحكوم باسلامه بالدار، لو أفصح بالكفر، لا ينقض ما حكمنا به في قول، بل يجعل مرتدا. وإن سبقه ما يناقضه، ففيه صور. إحداها: إذا أقر بالحرية بعد البلوغ، ثم أقر بالرق، لا يقبل على المذهب، وبه قطع الاصحاب. ونقل الامام وجهين، ثانيهما القبول. الثانية: إذا أقر بالرق لزيد، فكذبه، ثم أقر لعمرو، لم يقبل على المذهب والمنصوص والذي قطع به الجمهور، بل يكون حرا، وعن ابن سريج قبوله. الثالثة: إذا وجدت منه تصرفات يقتضي نفوذها الحرية، كبيع ونكاح وغيرهما، ثم قامت بينة برقه، نقضت تصرفاته المقتضية للحرية، وجعلت صادرة عن عبد لم يأذن له سيده، ويسترد ما قبضه من زكاة أو ميراث وما أنفق عليه من بيت المال، وتباع رقبته فيها. فلو لم تقم بينة، لكن أقر بالرق، فإن قلنا بالقول الذي حكاه صححب التقريب فاقراره لاغ. لكن لو كان نكح، فاقراره اعتراف بتحريمها، فيؤاخذ به. وإن قلنا بالمشهور، ففيه طرق، حاصلها أنه تثبت أحكام الارقاء في المستقبل على المذهب. وقال ابن سلمة: قولان. ثانيهما: أنه يقى على أحكام الحرية مطلقا. وقيل: يبقى فيما يضر بغيره، وكلاهما شاذ ضعيف. وأما الماضي، فيقبل إقراره فيما يضر به من التصرفات السابقة قطعا، ولا يقبل فيما يضر بغيره على الاظهر. ويتفرع على القولين فروع. أحدها: إذا نكح قبل الاقرار، نظر، أذكر هو، أم أنثى، فإن كان أنثى فزوجها الحاكم على [ الحرية ثم أقرت بالرق. فإن قبلنا الاقرار فيما يضر غيره، فالنكاح فاسد، ولا شئ على الزوج إن لم يدخل بها، وإن دخل، فعليه مهر المثل(4/513)
للمقر له. فإن كان سلم المهر إليها، استرده إن كان باقيا، وإلا، رجع عليها بعد العتق، والاولاد منها أحرار، لظنه الحرية، وعلى الزوج قيمتهم للمقر له، ويرجع عليها بالقيمة إن كانت هي الغارة. وفي الرجوع بالمهر قولان معروفان. وفي العدة وجهان. أصحهما: يلزمها قرءان، لان عدة الامة بعد ارتفاع النكاح الصحيح قرءان، ونكاح الشبهة في المحرمات كالنكاح الصحيح، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد وصاحبا المهذب والشامل. والثاني: لا عدة عليها، إذ لا نكاح، ولكن تستبرئ بقرء بسبب الوطئ. قال الامام: ويجب طرد هذا الخلاف في كل نكاح شبهة على أمة. وإن قلنا: لا يقبل الاقرار فيما يضر غيره، فالكلام في أمور. أحدها: لا يحكم بانفساخ نكاحها، بل يبقى كما كان. قال الامام: سواء فرقنا بين الماضي والمستقبل، أم لا، ويصير النكاح كالمستوفى المقبوض، واستدرك ابن كج فقال: إن كان الزوج ممن لا يحل له نكاح الاماء، انفسخ نكاحه، لان الاولاد الذين يلدهم في المستقبل أرقاء كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فليس له الثبات عليه، وهذا حسن، لكن صرح ابن الصباغ بخلافه. قلت: الاصح: أنه لا ينفسخ كما قال ابن الصباغ، كالحر إذا وجد الطول بعد نكاح الامة. والله أعلم ثم أطلق الاصحاب أن للزو خيار فسخ النكاح، ونص عليه في المختصر. قال الشيخ أبو علي: هذا إذا نكحها على أنها حرة، فإن توهم الحرية ولم يجر شرطها، ففيه خلاف نذكره في النكاح إن شاء الله تعالى. الثاني: في المهر، ومتى ثبت للزوج الخيار، ففسخ قبل الدخول، فلا شئ عليه، وإن كان بعده، لزمه أقل الامرين من المسمى ومهر المثل. وإن أجاز، لزمه المسمى، قاله البغوي. فإن طلقها بعد الاجازة وقبل الدخول، لزمه نصف(4/514)
المسمى، وفيه إشكال، لان المقر له يزعم فساد النكاح، فإذا لم يكن دخول، وجب أن لا يطالب بشئ، وقد يشعر بهذا إطلاق الغزالي. قلت: الراجح: أنه لا يلزمه شئ لما ذكره. والله أعلم فإن كان الزوج أعطاها الصداق، لم يطالب به ثانيا. الثالث: أولادها، فالذين حصلوا قبل الاقرار أحرار، ولا يلزم للزوج قيمتهم. والحادثون بعده أرقاء، لانه وطئها عالما برقها. قال الامام: هذا ظاهر إن قبلنا الاقرار فيما يضر بالغير في المستقبل. فإن لم نقبله، فيحتمل أن يقال بحريتهم لصيانة حق الزوج، كما أدمنا النكاح صيانة له، ويحتمل أن يقال برقهم، وهو ظاهر ما أطلقه الاصحاب، لان العلوق الرابع: تردد الامام في أنا إذا متوهم فلا يجعل مستحقا بالنكاح، بخلاف الوطئ الرابع أدمنا النكاح، تسلم إلى الزوج تسليم الاماء، أم تسليم الحرائر ؟ فالظاهر: الثاني، وإلا، لعظم الضرر على الزوج واختلت مقاصد النكاح، ويؤيده قول الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لا أصدقها على فساد النكاح، ولا على ما يجب عليها للزوج. الخامس: في العدة. وأما عدة الطلاق، فإن كان رجعيا وطلقها، ثم أقرت، فعليها ثلاثة أقراء، وله الرجعة في جميعها، لانه ثبت ذلك بالطلاق. وإن أقرت ثم طلقها، فكذلك على الصحيح الذي قطع به الاكثرون، لان النكاح أثبت له الرجعة في ثلاثة أقراء. والثاني: تعتد بقرئين، لانه أمر يتعلق بالمستقبل كارقاق أولادها، وصححه أبو الفرج الزاز، وحكاه عن ابن سريج. وإن كان الطلاق بائنا، فهو كالرجعي على الاصح، لان العدة فيهما لا تختلف. والثاني: تعتد بقرئين مطلقا،(4/515)
لانها رقيقة وليست للزوج رجعة. وأما عدة الوفاة، فإنها بشهرين وخمسة أيام، عدة الاماء، نص عليه، سواء أقرت قبل موت الزوج أو بعده في العدة، لانها حق الله تعالى، فقبل في قولها انتقاضها، وليس فيها إضرار بأحد. وفي وجه: لا يجب عليها عدة الوفاة أصلا، لانها تزعم بطلان النكاح من أصله وقد مات الزوج، فعلى هذا، إن جرى دخول، لزمها الاستبراء. قال الامام: والقول في أنه بقرء، أم بقرئين، على ما سبق في التفريع على القول. فإن لم يجر دخول، فهل تستبرئ بقرء كما لو اشتريت من امرأة أو مجبوب، أم لا استبراء أصلا لانقطاع حقوق الزوج ؟ فيه احتمالان للامام، وبالثاني قطع الغزالي. هذا كله إذا كان المقر أنثى. فان كان ذكرا فبلغ ونكح ثم أقر بالرق، فإن قبلنا إقراره مطلقا، فهذا نكاح فاسد، فيفرق بينهما، ولا مهر إن لم يقع دخول، وإن وقع، فعليه مهر المثل، كذا قاله الجمهور. وقال في المهذب - وأبداه الامام احتمالا -: أن عليه الاقل من مهر المثل والمسمى. ثم متعلق الواجب ذمته، أم رقبته ؟ قولان أظهرهما: الاول. وإن قبلنا إقراره فيما يضره دون غيره، حكمنا بانفساخ النكاح، ولم نقبل قوله في المهر، فعليه نصف المسمى إن لم يدخل، وجميعه إن دخل، ويؤدي ذلك مما في يده أو من كسبه في الحال أو المستقبل، فإن لم يوجد، ففي ذمته إلى أن يعتق. الفرع الثاني: إذا كانت عليه ديون وقت الاقرار بالرق وفي يده أموال، فإن قبلنا إقراره مطلقا، فالاموال تسلم للمقر له، والديون في ذمته. وإن قبلناه فيما يضره دون غيره، قضينا الديون مما في يده. فإن فضل من المال شئ، فهو للمقر له، وإن بقي من الدين شئ، ففي ذمته إلى أن يعتق. الفرع الثالث: إذا باع أو اشترى بعد البلوغ، ثم أقر بالرق، فإن قبلنا الاقرار مطلقا، فالبيع والشراء باطلان، فإن كان ما باعه باقيا في يد المشتري، أخذه المقر له، وإلا، طالبه بقيمته. والثمن إن أخذه المقر وأتلفه، فهو في ذمته إلى أن يعتق، وإن كان باقيا رده، وما اشتراه إن كان باقيا في يده، رده إلى بائعه، وإلا، استرد الثمن من البائع، وحق البائع يتعلق بذمته، وإن قلنا: لا يقبل فيما يضر غيره، لم نبطلهما، ثم ما باعه إن لم يستوف ثمنه، استوفاه المقر له، وإن كان استوفاه، لم(4/516)
يطالب المشتري ثانيا، وما اشتراه إن كان وزن ثمنه، فقد تم العقد وسلم المبيع للمقر له. وإن لم يزن، فان كان في يده مال حين أقر بالرق، وزن الثمن منه، وإلا، فهو كافلاس المشتري، فيرجع البائع إلى عين ماله إن كان باقيا، وإلا، فهو في ذمة المقر حتى يعتق. الفرع الرابع: جنى ثم أقر بالرق، فان كانت الجناية عمدا، فعليه القصاص، سواء كان المجني عليه حرا أو عبدا. وإن كانت خطأ، فان كان في يده مال، أخذ ارش منه، كذا قاله البغوي، وهو خلاف قياس القولين، لان أرش الخطأ لا يتعلق بما في يد الجاني حرا كان أو عبدا، وإن لم يكن في يده مال، تعلق الارش برقبته على القولين. وقال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: لا يقبل إقراره فيما يضر غيره، فالارش في بيت المال. فلو زاد الارش على قيمة الرقبة، فالزيادة في بيت المال على هذا القول قطعا. الفرع الخامس: جني عليه فقطع طرفه، ثم أقر بالرق، فان كانت الجناية عمدا والجاني عبدا، اقتص منه. وإن كان حرا، فلا قصاص، ويكون كالخطأ. وإن كانت خطأ، فان قبلنا إقراره مطلقا، فعلى الجاني كمال قيمته إن صارت قتلا، وإلا، فما تقتضيه جراحة العبد. وإن قبلناه فيما يضره دون غيره وكانت الجناية قطع يد، فان لم يزد نصف القيمة على نصف الدية، فالواجب نصف القيمة، وإن زاد، فهل يجب نصف الدية، أم نصف القيمة ؟ وجهان. أصحهما: الاول. هذا كله تفريع على تعلق الدية بقتل اللقيط. وفيه وجه سبق أن الواجب الاقل من الدية والقيمة، وذلك الوجه مطرد في الطرف.(4/517)
فرع لا فرق في جميع ما ذكرناه، بين أن يقر بالرق ابتداء، وبين أن يدع رقه شخص فيصدقه، فلو ادعى رجل رقه، فأنكره، ثم أقر له، ففي قبوله وجهان، لانه بالانكار لزمه أحكام الاحرار. قلت: ينبغي أن يفصل، فان قال: لست بعبد، لم يقبل إقراره بعده، وإن قال: لست بعبد لك، فالاصح القبول، إذ لا يلزم من هذه الصيغة الحرية. والله أعلم فرع ادعى مدع رقه، فأنكر ولا بينة، فإن قبلنا إقراره بالرق، فله تحليفه، وإلا، فلا، إلا إذا جعلنا اليمين مع النكول كالبينة، فله التحليف.
فصل إذا قذف لقيطا صغيرا، عزر، وإن كان بالغا، حد إن اعترف بحريته. فان ادعى رقه، فقال المقذوف: بل أنا حر، فالقول قول المقذوف على الاظهر. وقيل: قطعا. ويجري الطريقان، فيما لو قطع حر طرفه وادعى رقه وقال: بل أنا حر. وقيل: يجب القصاص قطعا، لان الحد يغني عنه التعزير، لاشتراكهما في الزجر. فان لم نوجب القصاص، أوجبنا الدية في اليدين، ونصفها في إحداهما على الاصح. وعلى الثاني: القيمة أو نصفها. ولو قذف اللقيط واعترف بأنه (حر)، حد حد الاحرار. وإن ادعى أنه رقيق، وصدقه المقذوف، حد حد العبيد. وإن كذبه، فأي الحدين يحد ؟ قولان بناء على إقراره، إن قبلناه مطلقا، فحد العبيد، وإن منعناه فيما يضر غيره، فحد الاحرار. وحكى في المعتمد وجها: أنه إن أقر لمعين، قبل إقراره وحد حد العبيد، وإن لم يعين، حد حد الاحرار.
انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله: (كتاب الفرائض)(4/518)
روضة الطالبين
محيى الدين النووي ج 5(5/)
روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ على محمد معوض الجزء الخامس دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(5/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245 هائف: 366135 - 810073(5/2)
كتاب الفرائض (1)
الباب الأول : في بيان أسباب التوريث والورثة وقدر استحقاقهم فيه عشرة أبواب: الاول (2): في بيان أسباب التوريث والورثة وقدر استحقاقهم، وتقدم عليه أن يبدأ من تركة الميت بمؤنة تجهيزه بالمعروف ما لم يتعلق به حق غيره. فإن تعلق، كالمرهون، وما يتعلق به زكاة، والعبد الجاني، والمبيع إذا مات المشتري مفلسا، قدم حق الغير، ثم تقضى ديونه من تركته، وللورثة إمساك ما تركه، وغرامة ما(5/4)
عليه من مالهم كما سبق في كتاب الرهن، ثم تنفذ وصاياه من ثلث الباقي، ثم يقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله تعالى.
فصل أسباب التوريث أربعة : قرابة، ونكاح، وولاء، وجهة الاسلام. والمراد بجهة الاسلام: أن من مات ولم يخلف وارثا بالاسباب الثلاثة، وفضل عنه شئ، كان ماله لبيت المال، يرثه المسلمون بالعصوبة، كما يحملون ديته. هذا هو الصحيح المشهور. وفي وجه: أنه يوضع في بيت المال على سبيل المصلحة، لا إرثا، لانه لا يخلو عن ابن عم بعيد، فألحق ذلك بالمال الضائع الذي لا يرجى ظهور مالكه. وحكى ابن اللبان والروياني هذا قولا. قال المتولي: فإن جعلناه إرثا، لم يجز صرفه إلى المكاتبين والكفار. وفي جواز صرفه إلى القاتل وجهان. وجه الجواز: أن تهمة الاستعجال لا تتحقق هنا، لانه لا يتعين مصرفا لماله. قلت: الاصح أو الصحيح: المنع. والله أعلم. وفي جواز صرفه إلى من أوصي له بشئ، وجهان. أحدهما: لا، لئلا يجمع بين الوصية والارث، ويخير بينهما. والثاني: يجوز.(5/5)
قلت: الاصح: الجواز. والله أعلم. ولا خلاف أنه يجوز تخصيص طائفة من المسلمين، ويجوز صرفه إلى من ولد بعد موته، أو كان كافرا فأسلم بعد موته، أو رقيقا فعتق. قلت: قد ضم صاحب التلخيص إلى هذه الاسباب الاربعة سببا خامسا، وهو سبب النكاح، وهو غير النكاح، وذلك في المبتوتة في مرض الموت إذا قلنا بالقديم: إنها ترث. والله أعلم.
فصل في بيان المجمع على توريثهم الرجال الوارثون خمسة عشر: الابن، وابن الابن وإن سفل، والاب، والجد للاب وإن علا، والاخ للابوين، والاخ للاب، والاخ للام، وابن الاخ للابوين، وابن الاخ للاب، والعم للابوين، والعم للاب، وابن العم للابوين، وابن العم للاب، والزوج، والمعتق. والنساء الوارثات عشر: البنت، وبنت الابن وإن سفل، والام، والجدة للاب، والجدة للام - وإن علتا - والاخت للابوين، والاخت للاب، والاخت للام، والزوجة، والمعتقة. والمراد بالمعتق والمعتقة، من أعتق، أو عصبة أدلى بمعتق. ويدخل في لفظ العم، عم الميت، وعم أبيه، وعم جده إلى حيث ينتهي، وكذلك حيث أطلقنا لفظ العم في الورثة، بخلاف الاخ، فإن المراد به أخو الميت فقط.(5/6)
فرع: إذا اجتمع الرجال الوارثون، ورث منهم الابن، والاب، والزوج فقط. وإذا اجتمع النساء، فالبنت، وبنت الابن، والام، والزوجة، والاخت للابوين. وإذا اجتمع الصنفان غير أحد الزوجين، ورث خمسة: الابوان، والابن، والبنت، وأحد الزوجين. ومن انفرد من الرجال، حاز كل التركة، إلا الزوج والاخ للام. ومن قال بالرد، لا يستثني إلا الزوج. ومن انفردت من النساء، لم تحزها إلا المعتقة. ومن قال بالرد، يثبت لكلهن الحيازة إلا الزوجة. قلت: وليس في الورثة ذكر يدلي بأنثى فيرث، إلا الاخ للام، وليس فيهم من يرث مع من يدلي به إلا أولاد الام. قال صاحب التلخيص والقفال وغيرهما: ليس لنا من يورث ولا يرث، إلا الجنين في غرته، والمعتق بعضه على الاظهر: أنه يورث. والله أعلم.
فصل في ذوي الارحام : هم كل قريب يخرج عن المذكورين في الفصل السابق. وإن شئت قلت: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة. وأما تفصيلهم، فهم عشرة أصناف: أبو الأم، وكل جد وجدة ساقطين، وأولاد البنات،(5/7)
وبنات الاخوة، وأولاد الاخوات، وبنو الاخوة للام، والعم للام، وبنات الاعمام، والعمات، والاخوال، والخالات. ومنهم من يعدهم أحد عشر، ويفصل الجد عن الجدة. ومنهم من يزيد على ذلك، والمقصود لا يختلف، فهؤلاء لا يرثون بالرحم شيئا على الصحيح. وقال المزني وابن سريج: إن لم يخلف الميت إلا ذا فرض لا يستغرق، رد الباقي عليه، إلا الزوج والزوجة، فلا رد عليهما. فإن لم يخلف ذا فرض ولا عصبة، ورث ذوو الارحام. وقولنا: إن الصحيح أنهم لا يرثون ولا يرد، هو فيما إذا استقام أمر بيت المال، بأن ولي إمام عادل. أما إذا لم يكن إمام، ألم يكن مستجمعا لشروط الامامة، ففي مال من لا عصبة له ولا ذا فرض مستغرق وجهان. أصحهما عند أبي حامد وصاحب المهذب: لا يصرف إلى الرد، ولا إلى ذوي الارحام، لانه للمسلمين، فلا يسقط بفوات نائبهم. والثاني: أنه يرد ويصرف إلى ذوي الارحام، لان المال مصروف إليهم أو إلى بيت المال بالاجماع. فإذا تعذر أحدهما، تعين الآخر، وهذا اختيار ابن كج، وبه أفتى أكابر المتأخرين. قلت: هذا الثاني، هو الاصح أو الصحيح عند محققي أصحابنا، وممن صححه وأفتى به الامام أبو الحسن بن سراقة من كبار أصحابنا ومتقدميهم، وهو أحد أعلامهم في الفرائض والفقه وغيرهما، ثم صاحب الحاوي، والقاضي حسين، والمتولي، والخبري - بفتح الخاء المعجمة وإسكان الباء الموحدة - وآخرون، قال ابن سراقة: وهو قول عامة مشايخنا. قال: وعليه الفتوى اليوم في(5/8)
الامصار، ونقله صاحب الحاوي عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، قال: وغلط الشيخ أبو حامد في مخالفته، قال: وإنما مذهب الشافعي منعهم إذا استقام بيت المال. والله أعلم. فإن قلنا: لا يصرف إليهم ولا يرد، فإن كان في يد أمين، نظر، إن كان في البلد قاض بشروط القضاء مأذون له في التصرف في مال المصالح، دفع إليه ليصرفه فيها. وإن لم يكن قاض بشرطه، صرفه الامين بنفسه إلى المصالح، وإن كان قاض بشرطه غير مأذون له في التصرف في مال المصالح، فهل يدفعه إليه، أم يفرقه الامين بنفسه، أم يوقف إلى أن يظهر بيت المال ومن يقوم بشرطه ؟ فيه ثلاثة أوجه. قلت: الثالث، ضعيف والاولان حسنان. وأصحهما: الاول. ولو قيل: يتخير بينهما، لكان حسنا، بل هو عندي أرجح. والله أعلم. وعلى الثاني، وقوف مساجد القرى، يصرفها صلحاء القرية في عمارة المسجد ومصالحه. أما إذا لم يكن في يد أمين، فيدفع إليه ليفرقه. وإذا قلنا بالصرف إلى ذوي الارحام، فوجهان. أحدهما نقله ابن كج: أنه يصرف إلى الفقراء منهم، يقدم الاحوج فالاحوج. والصحيح الذي عليه الجمهور: يصرف إلى جميعهم. وهل هو إرث، أم شئ مصلحي ؟ فيه وجهان. أشبههما بأصل المذهب: أنه على سبيل المصلحة، واختاره الروياني، قال: ويصرف إليهم إن كانوا محتاجين، أو إلى غيره من أنواع المصالح. فإن خيف على رأس المال من حاكم الزمان، صرف إلى الاصلح بقول مفتي البلدة. قلت: الصحيح الذي عليه جمهور من قال من أصحابنا بتوريث ذوي الارحام: أنه يصرف إلى جميعهم على سبيل الميراث، على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثامن في كيفية توريثهم والرد. والله أعلم.(5/9)
فصل في بيان ما يستحقه كل وارث من المجمع عليهم : ونقدم عليه أن من له سهم مقدر في الكتاب أو السنة، فهو صاحب فرض. ومن ورث بالاجماع ولا فرض له، فهو عصبة. وقولنا: بالاجماع، احتراز من ذوي الارحام، فإن من ورثهم لا يسميهم عصبة. وأصحاب الفروض قسمان. منهم من لا يرث إلا بالفرضية، وهم: الزوجان، والام، والجدة، وولد الام. ومنهم من يرث بالتعصيب أيضا. ثم من هؤلاء من لا يجمع الجهتين دفعة، بل يرث إما بهذه، وإما بهذه، وهم البنات، وبنات الابن، والاخوات للابوين، والاخوات للاب. ومنهم من يرث بهما جمعا وانفرادا، وهما: الاب، والجد. أما العصبة، فضربان: عصبة بنفسه، وهو كل ذكر يدلي إلى الميت بغير واسطة، أو بتوسط محض الذكور، وهؤلاء يأخذ المنفرد منهم جميع المال والباقي بعد أصحاب الفروض، وربما سقطوا. قلت: هذا الذي قاله في حد العصبة، غير مطرد ولا منعكس، فإنه يقتضي دخول الزوج - فإن الغزالي وغيره عدوه ممن يدلي بنفسه - وخروج المعتقة، فينبغي أن يقول: هو كل معتق وذكر نسيب يدلي إلى آخره. والله أعلم. وعصبة بغيره، وهم البنات، وبنات الابن والاخوات للابوين وللاب، فيتعصبن باخوتهن، ويتعصب الاخوات من الجهتين بالبنات وببنات الابن.(5/10)
وقد يقال: العصبة ثلاثة. عصبة بنفسه، وبغيره، ومع غيره، على الترتيب المذكور. أما قدر المستحق، فللزوج نصف المال إذا لم يكن للميتة ولد ولا ولد ابن، وربعه إن كان لها ولد أو ولد ابن منه أو من غيره. وللزوجة الربع إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن، والثمن إن كان له ولد أو ولد ابن منها أو من غيرها. والزوجات يشتركن في الربع والثمن بالاجماع.
فصل وأما الام، فلها ثلاثة أحوال. حال ترث ثلث المال إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن، ولا اثنان من الاخوة والاخوات، وحال سدسه إذا لم يكن له ولد أو ولد ابن، أو اثنان من الاخوة والاخوات من أي جهة كانوا، وحال يكون معها زوج وأب، أو زوجة وأب، فلها ثلث ما يبقى على الصحيح المعروف في المذهب. وقال ابن اللبان: لها الثلث كاملا.
فصل وأما الجدة، فترث أم الام وأمهاتها المدليات بمحض الاناث، وأم الاب وأمهاتها كذلك، وفي أم أب الاب، وأم من فوقه من الاجداد وأمهاتهن قولان. المشهور: أنهن وارثات. والثاني: لا، نقله أبو ثور. وأما الجدة المدلية بذكر بين أنثيين، كأم أب الام، فلا ترث، بل هي من ذوي الارحام كما سبق، فحصل في ضبط الجدات الوارثات على المشهور عبارتان. إحداهما: أن يقال: هي كل جدة أدلت بمحض إناث أو بمحض ذكور، أو بمحض الاناث إلى محض الذكور. الثانية: التي لا تدلي بمحض الوارثين غير وارثة، والباقيات وارثات. وعلى من قول أبي ثور: لا ترد جدة تدلي بغير وارث، ولا من وقع في آخر نسبها أبوان(5/11)
فصاعدا، وللجدة الواحدة السدس. وإن اجتمع جدتان فصاعدا وارثات، اشتركن في السدس، فلو أدلت إحداهما بجهتين، كامرأة تزوج ابن بنتها بنت بنتها الاخرى، فولد لهما ولد، فهذه المرأة أم أم أبيه، وأم أم أمه. فإذا مات الولد وخلف هذه، وجدة أخرى هي أم أبي أبيه، أو أدلت بثلاث جهات فأكثر، بأن نكح الولد في المثال المذكور بنت بنت أخرى لتلك المرأة، فولد لهما، فالمرأة جدة للولد الثاني من ثلاثة أوجه. فالصحيح: أن السدس بينهما سواء. والثاني: يوزع على الجهات، قاله ابن سريج، وابن حربويه. فرع في تنزيل الجدات لك أم وأب، وهما في الدرجة الاولى من أصولك، ولابيك أم وأب، وكذلك لامك، فالاربعة هم الواقعون في الدرجة الثانية من درجات أصولك، وهذه هي الدرجة الاولى من درجات الاجداد والجدات، ثم أصولك في الدرجة الثالثة ثمانية، لان لكل واحد من الاربعة أبا وأما، وفي الدرجة الرابعة ستة عشر، وفي الخامسة اثنان وثلاثون، والنصف من الاصول في كل درجة ذكور، والنصف إناث، وهن الجدات، ففي الدرجة الثانية من الاصول جدتان،(5/12)
وفي الثالثة أربع، وفي الرابعة ثمان، وفي الخامسة ست عشرة، وهكذا يتضاعف عددهن في كل درجة. ثم منهن وارثات وغير وارثات، فإذا سئلت عن عدد من الجدات الوارثات على أقرب ما يمكن من المنازل، فاجعل درجهن بعدد المسؤول عنه ومحض نسبة الاولى إلى الميت من أمهات، ثم أبدل من اخر نسبة الثانية أما بأب، وفي اخر نسبة الثالثة أمين بأبوين، وهكذا تنقص من الامهات وتزيد في الآباء حتى تتمحض نسبة الاخيرة آباء مثاله: سئلت عن أربع جدات، فقل: هن أم أم أم أم، وأم أم أم أب، وأم أم أبي أب، وأم أبي أبي أب، فالاولى من جهة أم الميت، والثانية من جهة أبيه، والثالثة من جهة جده، والرابعة من جهة أبي جده. وهكذا إذا أردت زيادة زدت لكل واحدة أبا. وإذا أردت معرفة من يحاذي الوارثات مع الساقطات، فإن كان السؤال عن جدتين على أقرب ما يمكن، فليس في درجتهما غيرهما. وإن كان السؤال عن أكثر، فألق من عدد الوارثات اثنين أبدا، وضعف الاثنين بعدد ما بقي منهن، فما بلغ فهو عدد الجدات في تلك الدرجة الوارثات والساقطات. فإذا عرفت الوارثات منهن، فالباقيات الساقطات. مثاله: خذ من الاربع اثنتين وضعفهما مرتين، لان الباقي اثنان، فيبلغ ثمانية، فهن الوارثات والساقطات، وإذا فرضت ثلاث جدات، فخذ من الثلاثة اثنتين، وضعفهما مرة، لان الباقي واحد، فيبلغ أربعة، فهو عددهن، في هذه الدرجة ثلاث وارثات، وواحدة ساقطة. واعلم أن الوارثات في كل درجة من درجات الاصول بعد تلك الدرجة، ففي الثانية ثنتان، وفي الثالثة ثلاث، وفي الرابعة أربع. وهكذا في كل درجة لا تزيد إلا وارثة واحدة وإن تضاعف عددهن في كل درجة، وسببه أن الجدات ما بلغن، فنصفهن من قبل الام، ونصفهن من قبل الاب، ولا يرث من قبل الام إلا واحدة، والباقيات من قبل الاب. فإذا صعدنا درجة، تبدلت لكل واحدة منهن بأمها، وزادت أم الجد الذي صعدنا إليه، ولا يفى أن معظم ما ذكرنا في تنزيل الجدات، تفريع على المشهور. فأما على منقول أبي ثور، فلا يرث إلا جدتان.
فصل وللأب ثلاثة أحوال،(5/13)
حال يرث بمحض الفرض، وهو إذا كان معه ابن، أو ابن ابن، فله السدس، والباقي للابن أو ابن الابن. وحال يرث بمحض العصوبة، وهو إذا لم يكن ولد ولا ولد ابن. وحال يرث بهما، وهو إذا كان معه بنت، أو بنت ابن، أو بنات، فله السدس فرضا، ولهن فرضهن والباقي له بالتعصيب. فصل الجد كالأب في الميراث، إلا في مسائل. إحداها: الاب يسقط الاخوة والاخوات مطلقا، والجد لا يسقط الاخوة والاخوات للابوين أو للاب. وسيأتي تفصيلهم إن شاء الله تعالى. الثانية: الاب يرد الام إلى ثلث ما يبقى في صورتي زوج وأبوين وزوجة وأبوين كما سبق. ولو كان بدله جد، كان للام الثلث كاملا. الثالثة: الاب يسقط أم نفسه وأم كل جد، والجد لا يسقط أم الاب وإن أسقط أم نفسه، وأبو الجد ومن فوقه كالجد، لكن كل واحد يحجب أم نفسه، ولا يحجبها من فوقه. الرابعة: سبق أن الاب يجمع بين الفرض والتعصيب، وفي الجد في مثل ذلك الحال وجهان. أحدهما: أنه مثله. والثاني: لا، بل يأخذ الباقي بعد البنت أو البنات بالتعصيب فقط، والجمع بينهما خاص بالاب. وهذا خلاف في العبارة فقط والمأخوذ لا يختلف. قلت: أصحهما وأشهرهما: الاول. والله أعلم.(5/14)
فصل في الأولاد فالابن الواحد يستغرق جميع المال بالاجماع، وكذا جماعة الابناء يستغرقونه، وللبنت النصف، وللبنتين فصاعدا الثلثان. فإن اجتمع الصنفان، فللذكر مثل حظ الانثيين. فرع إذا اجتمع أولاد الصلب وأولاد ابن أو بنين، فإن كان في أولاد الصلب ذكر، لم يرث أولاد الابن، وإلا، فإن كان ولد الصلب بنتا، فلها النصف، ثم ينظر، فإن كان ولد الابن ذكرا، فالباقي له. وإن كانوا ذكورا، أو ذكورا وإناثا، فالباقي بينهم للذكر مثل حظ الانثيين. وإن كان ولد الابن بنتا، فلها السدس، وإن كن بنات، فالسدس بينهن. وإن كان ولد الصلب بنتين فصاعدا، فلهن الثلثان، ولا شئ لبنات الابن. فإن كان معهن أو أسفل منهن ذكر، عصبهن في الباقي للذكر مثل حظ الانثيين. وسواء كان الذي في درجتهن أخاهن أو أخا بعضهن، أو ابن عمهن، وإنما يعصبهن إذا لم يكن لهن فرض كما ذكرنا. فلو خلف بنت صلب، وبنت ابن، وابن ابن ابن، وبنت ابن ابن، فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس فرضا، والباقي بين الاسفلين للذكر مثل حظ الانثيين، ولا يعصب ابن الابن من كان أسفل منه، بل يختص بالباقي. وأولاد ابن الابن مع أولاد الابن، كأولاد الابن مع أولاد الصلب في كل تفصيل، وكذا في كل درجة نازلة مع درجة عالية، حتى إذا خلف بنت ابن، وبنت ابن ابن، فللعليا النصف، وللسفلى السدس. ولو خلف بنتي ابن، وبنت ابن ابن، فلبنتي الابن الثلثان، ولا شئ للسفلى، إلا أن يكون في درجتها أو أسفل منها من يعصبها. فرع ليس في الفرائض من يعصب أخته وعمته وعمة أبيه وجده وبنات أعمامه وبنات أعمام أبيه وجده، إلا المستقل من أولاد الابن.
فصل في الإخوة والأخوات أما الاخوة والاخوات من الابوين إذا(5/15)
انفردوا، فكأولاد الصلب، للذكر جميع المال، وكذا للجماعة، وللاخت الفردة النصف، وللاختين فصاعدا الثلثان، فإن اجتمع الاخوة والاخوات، فللذكر مثل حظ الانثيين بنص القرآن. فرع الاخوة والاخوات للاب، عند انفرادهم كالاخوة والاخوات للابوين، إلا في المشركة، وهي زوج، وأم، وأخوان لام، وأخوان للابوين، فللزوج النصف، وللام السدس، وللاخوين للام الثلث يشاركهم فيه الاخوان للابوين. هذا هو المشهور والمذهب، وبه قطع الاصحاب. وحكى أبو بكر بن لال من أصحابنا في المسألة قولين. ثانيهما: سقوط الاخوين للابوين بحسب اختلاف الرواية عن زيد رضي الله عنه، والرواية عن زيد رضي الله عنه مختلفة كما ذكر، لكن لم أجد لغيره نقل قول للشافعي رضي الله عنه، لكن ذهب ابن اللبان وأبو منصور البغدادي، إلى الاسقاط، فعلى المذهب: للتشريك أربعة أركان. أن يكون في المسألة زوج، وأم أو جدة، واثنان فصاعدا من ولد الام، وأن يكون من أولاد الابوين ذكر، إما وحده، وإما مع ذكور أو إناث، أو كليهما، فإن لم يكن من الابوين ذكر، بل كان مع الاركان الثلاثة أخت أو أختان للابوين أو للاب، فلا تشريك، بل يفرض للواحد النصف، وللاثنين فصاعدا الثلثان، وتعال المسألة. ولو كان ولد الام واحدا، فله السدس، والباقي للعصبة من أولاد الابوين، أو الاب، ولو كان بدل أولاد الابوين إخوة أب، سقطوا بالاتفاق، لانه ليس لهم قرابة أم فيشاركون أولاد الام، فافترق الصنفان في هذه المسألة. وإذا شركنا في الثلث بين أولاد الام وأولاد الابوين، تقاسموه سواء، ذكرهم كأنثاهم، لانهم يأخذونه بقرابة الام. قلت: قد ذكرنا أنه لو عدم في المشركة ولد الابوين، وكان هناك أخت للاب، فلها النصف فرضا. فلو كان معها أخوها لاب أيضا، سقط وأسقطها، لانه لا يفرض لها معه، فلا تشريك. والله أعلم.(5/16)
فرع لو اجتمع أولاد الابوين وأولاد الاب، فهو كاجتماع أولاد الصلب وأولاد الابن، فأولاد الابوين كأولاد الصلب، وأولاد الاب كأولاد الابن. فإن كان في أولاد الابوين ذكر، حجب أولاد الاب، وإلا، فإن كانت أنثى فقط، فلها النصف، والباقي لاولاد الاب إن كانوا ذكورا، أو ذكورا وإناثا. وإن تمحضن إناثا، أو أنثى فقط، فلهن أو لها السدس تكملة الثلثين. وإن كان من أولاد الابوين ثنتان فأكثر، فلهما الثلثان، ولا شئ لاولاد الاب، إلا أن يكون فيهن ذكر، فيعصب الاناث. ولا يعصب الاخت إلا من في درجتها، بخلاف بنت الابن، فإنه يعصبها من هو أسفل منها. فلو خلف اختين لابوين، وأختا لاب، وابن أخت لاب، فللاختين الثلثان، والباقي لابن الاخ، وتسقط الاخت للاب. فرع الاخوة والاخوات للام، لواحدهم السدس ذكرا كان أو أنثى، وللاثنين فصاعدا الثلث يقسم بين ذكورهم وإناثهم بالسوية. قلت: أولاد الام يخالفون غيرهم في خمسة أشياء، فيرثون مع من يدلون به، ويرث ذكرهم المنفرد كأنثاهم المنفردة، ويتقاسمون بالسوية. والرابع: أن ذكرهم يدلي بأنثى، ويرث. والخامس: يحجبون من يدلون به، وليس لهم نظير. والله أعلم. فرع بنو الاخوة من الابوين أو الاب ينزل كل واحد منهم منزلة أبيه في(5/17)
حالتي الانفراد والاجتماع فيستغرق الواحد والجماعة للمال عند الانفراد، وما فضل عن أصحاب الفروض، وعند الاجتماع يسقط ابن الاخ للاب، لكنهم يخالفون الاخوة في أمور. أحدها: أن الاخوة يردون الام من الثلث إلى السدس، وبنوهم لا يردونها. الثاني: أن الاخوة للابوين وللاب يقاسمون الجد، وبنوهم يسقطون به. الثالث: لو. كان بنو الاخوة للابوين بدل آبائهم في المشركة سقطوا. الرابع: الاخوة للابوين ولاب يعصبون أخواتهم، وبنوهم لا يعصبون أخواتهم. قلت: ويخالفونهم في ثلاثة أشياء أخر. أحدها: الاخوة للابوين، يحجبون الاخوة للاب، وأولادهم لا يحجبونهم. والثاني: الاخ من الاب، يحجب بني الاخ من الابوين، ولا يحجبهم ابنه. الثالث: بنو الاخوة لا يرثون ما لاخوات إذا كن عصبات مع البنات. والله أعلم.
فصل الأخوات للأبوين وللأب، مع البنات وبنات الابن، عصبات كالاخوة. حتى لو خلف بنتا وأختا، فللبنت النصف، وللاخت الباقي. ولو خلف بنتين فصاعدا، أو أختا أو أخوات، فللبنات الثلثان، والباقي للاخت أو للاخوات. ولو كان معهن زوج، فللبنتين الثلثان، وللزوج الربع، والباقي للاخت أو الاخوات. ولو كان معهن أم، عالت المسألة، وسقطت الاخت والاخوات، كما لو كان معهن أخ. ولو خلف بنتا وبنت ابن وأختا، فلها النصف، والسدس لبنت الابن، وللاخت الباقي. وإذا اجتمعت الاخت للابوين والاخت للاب مع البنت وبنت الابن، فالباقي للاخت للابوين، وسقطت الاخت للاب. ولو خلف بنتا وأختا لابوين وأخا لاب، كان الباقي للاخت، وسقط الاخ بها كسقوطه بالاخ للابوين. ولو خلف بنتا، وأخا وأختا لابوين، فالباقي بينهما للذكر مثل حظ الانثيين.(5/18)
فرع خلف بنتا، وثلاث أخوات أو إخوة متفرقين، فللبنت النصف، والباقي للاخت أو للاخ للابوين، وسقط الباقون.
فصل العم للأبوين أو للأب، كالاخ من الجهتين، في أن من انفرد منهما يأخذ جميع المال، أو ما بقي بعد الفرض. وإذا اجتمعا، أسقط العم للابوين العم للاب.
الباب الثاني : في بيان العصبات وترتيبهم فالأقرب منهم يسقط الابعد. وجملة عصبات النسب: الابن والاب ومن يدلي بهما، ويقدم منهم الا بناء، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الاب، ثم الجدة والاخوة للابوين أو للاب، وهم في درجة، ولذلك يتقاسمون على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى. وأبو الجد وإن علا مع الاخ، كالجد مع الاخ، فيتقاسمان لقوة الجدودة، ووقوع الاسم في القريب والبعيد. هذا هو المنصوص والمذهب والمعروف. وقال الامام: الذي رأيته في ذلك - يعني للاصحاب - أن أبا الجد، يكون له السدس، والباقي للاخ. ثم قال: وفي القلب من هذا شئ، وأبدى المذهب المنصوص احتمالا. وإذا لم يكن أخ، فالمقدم الجد، ثم أبوه وإن علا، ويسقط ابن الاخ(5/19)
بالجد العالي سقوطه بالادنى، وفي النهاية وجه ضعيف: أن أبا الجد وابن الاخ يتقاسمان، والصحيح المعروف هو الاول، فانا إذا قدمنا نوعا على نوع، لا ننظر إلى القرب والبعد. ألا ترى أن ابن الاخ وإن سفل، مقدم على العم مع قربه. وإذا لم يكن جد، فالاخ من الابوين، ثم من الاب، ثم بنو الاخوة من الابوين، ثم من الاب، وكذلك بنوهم وإن سفلوا، ثم العم من الابوين، ثم من الاب، ثم بنو العم كذلك ثم عم الاب من الابوين، ثم من الاب، ثم بنوهما كذلك، ثم عم الجد من الابوين، ثم من الاب، ثم بنوهما كذلك، إلى حيث ينتهون. فإن لم يوجد أحد من عصبات النسب، والميت عتيق، فالعصوبة لمعتقه. فإن لم يكن المعتق حيا، فلعصباته، فإن لم يوجدوا، فلمعتق المعتق، ثم لعصباته إلى حيث ينتهون. فإن لم يكن عتيقا، وأبوه أو جده عتيق، ثبت الولاء عليه لمعتق الاب أو الجد على ما سيأتي في كتاب الولاء إن شاء الله تعالى. فإن لم يكن أحد منهم، فالمال لبيت المال. فرع البعيد من الجهة المقدمة، يقدم على القريب من الجهة المؤخرة. مثاله: ابن الابن وإن سفل، يقدم على الاب، وكذلك ابن الاخ وإن سفل، يقدم على العم، وكذلك ابن العم النازل، يقدم على عم الاب، وإذا اتحدت الجهة، قدم الاقرب. فإن استويا في القرب، قدم من يدلي بالابوين على من يدلي بالاب. مثاله: الاخ للابوين، يقدم على الاخ للاب، وابن الاخ للاب، يقدم على ابن ابن الاخ للابوين، وكذا القول في بني العم وبني عم الاب. فرع إذا اشترك اثنان في جهة عصوبة، واختص أحدهما بقرابة أخرى، كابني عم أحدهما أخ لام، نظر، إن أمكن التوريث بالقرابة الاخرى لفقد الحاجب، فالنص أنه يورث بهما، فالاخ للام يأخذ السدس، والباقي بينهما بالعصوبة. ونص فيما لو ترك ابني عم معتقه وأحدهما أخو المعتق لامه: أن جميع المال الذي هو أخوه لامه. وللاصحاب فيهما طريقان. أحدهما: جعلهما على قولين. أحدهما: ترجيح الاخ للام، فيأخذ جميع المال في الصورتين، لانهما استويا في العصوبة وزاد بقرابة الام، فأشبه الاخ من الابوين مع الاخ للاب. والثاني: لا ترجيح، لان مزيته بجهة تفرض لها، فلا يسقط(5/20)
من يشاركه في جهة العصوبة كابني عم أحدهما زوج. فعلى هذا، في النسب له السدس فرضا، والباقي بينهما بالعصوبة. وفي الولاء لا يمكن توريثه بالفرضية، فالمال بينهما سواء بالعصوبة. والطريق الثاني: وهو المذهب: القطع بالمنصوص في الموضعين. والفرق: أن الاخ للام في النسب يرث، فأعطي فرضه، واستويا في الباقي بالعصوبة، وفي الولاء لا يرث بالفرض، فرجح من يدلي بقرابة الام. وهذا كله تفريع على أن أخا المعتق من أبويه، يقدم على أخيه من أبيه، وفيه خلاف نذكره قريبا إن شاء الله تعالى. ويجري الطريقان، فيما لو ترك ابني عم أبيه وأحدهما أخوه لامه. فلو تركت المرأة ابني عم أحدهما زوجها، والآخر أخ لام، فعلى المذهب: للزوج النصف، وللآخر السدس، والباقي بينهما بالسوية. وإن رجحنا الاخ للام، فالباقي كله له. ولو تركت ثلاثة بني أعمام أحدهم زوج، والثاني أخ لام، فعلى المذهب، للزوج النصف، وللاخ السدس، والباقي بينهم بالسوية. وإن رجحنا الاخ للام، فللزوج النصف، والباقي للاخ. هذا كله إذا أمكن توريث المختص بتلك القرابة. أما إذا لم يكن لحاجب، بأن ترك بنتا وابني عم أحدهما أخ لام، فوجهان. أصحهما: للبنت النصف، والباقي بينهما بالسوية، لان إخوة الام سقطت بالبنت. والثاني: أن الباقي للاخ وحده، وبه قال ابن الحداد، واختاره(5/21)
الشيخ أبو علي، كما لو اجتمع مع البنت أخ لابوين وأخ لاب. وإذا قلنا بالاصح، فترك ابن عم لابوين، وآخر لاب وهو أخ لام، فللثاني السدس بالاخوة، والباقي للاول، وتسقط به عصوبة الثاني. ولو تركت ثلاثة بني أعمام متفرقين، والذي هو لام زوج، والذي هو لاب أخ لام، فللزوج النصف، وللاخ السدس، والباقي للآخر. ولو ترك أخوين لا، وترك سواهما أخوين لام أحدهما ابن عم، فلهما الثلث بالاخوة، والباقي لابن العم منهما بلا خلاف. ولو ترك ابني عم، أحدهما أخ لام، وترك سواهما أخوين لام أحدهما ابن عم، فالحاصل أنه ترك أخوين هما ابنا عم، وأخا ليس بابن عم، وابن عم ليس بأخ، فالثلث للاخوة الثلاثة، والباقي لبني الاعمام الثلاثة.
فصل في عصبات المعتق قد سبق أن من لا عصبة له من النسب، فماله أو ما يفضل عن الفروض لمعتقه إن كان عتيقا، سواء كان المعتق ذكرا أو أنثى. فإن لم يوجد المعتق، فالاستحقاق لعصباته من النسب الذين يتعصبون بأنفسهم دون من يعصبهم غيرهم، فلا ترث النساء بالولاء، إلا ممن أعتقن، أو أعتق من أعتقن، أو جر الولاء اليهن من أعتقن. وإن شئت قلت: لا ترث امرأة بولاء، إلا معتقها، أو منتميا إليه بنسب أو ولاء، لان الولاء أضعف من النسب البعيد. وإذا بعد النسب، ورث الذكور دون الاناث، فيرث ابن الاخ والعم وابنه، دون أخواتهم. فإذا لم ترث بنت الاخ، فبنت المعتق أولى، ثم الذين يتعصبون بأنفسهم، ترتيبهم في الولاء كترتيبهم في النسب، فيقدم ابن المعتق وابن ابنه على أبيه وجده، لكن يفترق الترتيبان في مسائل. إحداها: في الاخ للابوين مع الاخ للاب طريقان. المذهب: يقدم الاخ للابوين كما في النسب. والثاني: على قولين. ثانيهما: يتساويان، إذ لا مدخل لقرابة الام هنا. الثانية: في الجد والاخ قولان. أظهرهما عند الشيخ أبي حامد وأبي خلف الطبري والاكثرين: أن الاخ مقدم. والثاني: يتساويان كالنسب، ورجحه البغوي.(5/22)
فإن قلنا: يتساويان، فطريقان. أحدهما نقله الحناطي وغيره: فيه وجهان. أحدهما: للجد ما هو خير له من المقاسمة وثلث المال، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في النسب. وأصحهما: أنه يقاسم الاخوة أبدا، لانه لا مدخل للفرض والتقدير في الولاء. والطريق الثاني وهو المذهب وبه قطع الجمهور: القطع بالمقاسمة أبدا. ولو اجتمع مع جد المعتق إخوة لابوين، وإخوة لاب، فوجهان. أحدهما وهو اختيار ابن اللبان: يعد الاخوة من الاب على الجد، كما في النسب. وأصحهما وبه قال ابن سريج والاكثرون: لا يعدون، بل الجد والاخ للابوين يقتسمان، والفرق أن الاخوة للابقد يأخذون شيئا في النسب، كما إذا كان معهم أخت للابوين وجد، وهنا لا يأخذون شيئا بحال، لانه لا يرث هنا إلا ذكر، ولا يرث الاخ للاب مع الاخ للابوين، فيبعد أن يدخل في القسمة من لا يأخذ بحال. وعلى هذا القول الجد أولى من ابن الاخ على الاصح كالنسب. وقيل: يستويان. قال البغوي تفريعا على هذا القول: الاخ أولى من أبي الجد، وأبو الجد مع ابن الاخ يستويان. وإذا قلنا بالاظهر: إن الاخ مقدم على الجد، فابن الاخ مقدم أيضا كابن(5/23)
الابن، والقولان في الاخ والجد يجريان في العم مع أبي الجد، وفي كل عم اجتمع هو وجد إذا أدلى ذلك العم بابن ذلك الجد، ولا خلاف أن الجد أولى من العم. المسألة الثالثة: إذا كان للمعتق ابنا عم أحدهما أخ، فالمذهب والمنصوص: أنه مقدم كما سبق في الفصل قبله. فرع إذا لم يوجد أحد من عصبات المعتق، فالمال لمعتق المعتق، ثم لعصباته على النسق المذكور في عصبات المعتق، ثم لمعتق معتق المعتق. وعلى هذا القياس. والقول في معتق الاب والجد وقواعد أخر ومسائل عويصة نذكره إن شاء الله تعالى في كتاب الولاء.
الباب الثالث : في ميراث الجد مع الإخوة إذا كان مع الجد إخوة وأخوات من الابوين، أو من الاب، لم يسقطوا على(5/24)
الصحيح. وقال المزني: يسقطون، واختاره محمد بن نصر المروزي من أصحابنا، وابن سريج، وابن اللبان، وأبو منصور البغدادي. والتفريع على الصحيح، فنقول: إذا كان معه إخوة وأخوات من الابوين أو من الاب، فإن لم يكن معهم ذو فرض، فللجد الاوفر من مقاسمتهم وثلث جميع المال. فإن قاسم، كان كأخ. وإن أخذ الثلث، فالباقي بينهم للذكر مثل حظ الانثيين، وقد يستوي الامران، فلا يكون فرق في الحقيقة، ولكن الفرضيون يتلفظون بالثلث، لانه أسهل. وإنما تكون القسمة أوفر إذا لم يكن معه إلا أخ، أو أخت، أو أخ وأخت، أو أختان، أو أختان، أو ثلاث أخوات، فهي خمس مسائل. وإنما يستويان، إذا لم يكن معهم إلا أخوان أو أخ وأختان، أو أربع أخوات. وفيما عدا ذلك، الثلث أوفر. وضابطه أن الاخوة والاخوات، إن كانوا مثليه، فالقسمة والثلث سواء. وإن كانوا دون مثليه، فالقسمة أوفر. وإن كانوا فوق مثليه، فالثلث أوفر. وإن كان معهم صاحب فرض - وأصحاب الفروض الوارثون مع الجد والاخوة ستة: البنت، وبنت لابن، والام، والجدة، والزوج، والزوجة - فإما أن لا يبقى بعد الفروض شئ، كبنتين وأم وزوج، فيفرض للجد السدس، ويزاد في العول. وإما أن يبقى السدس فقط، كبنتين وأم، فيصرف إلى الجد. وإما أن يبقى دون السدس، كبنتين وزوج، فيفرض للجد السدس، وتعال المسألة. وعلى هذه التقديرات الثلاثة يسقط الاخوة والاخوات. وإما أن يكون الباقي أكثر من السدس، فللجد خير الامور الثلاثة، وهي مقاسمة الاخوة والاخوات، وثلث ما يبقى، وسدس جميع المال. أما إذا كان معه إخوة وأخوات لابوين ولاب، فللجد خير الامرين إن لم يكن هناك ذو فرض، وخير الامور الثلاثة إن كان، كما إذا لم يكن إلا أحد الصنفين، لكن هنا يعد أولاد الابوين أولاد الاب على الجد في القسمة. ثم إذا أخذ الجد حصته، نظر، إن كان ولد الابوين عصبة، إما ذكرا، وإما ذكورا، وإما ذكورا وإناثا، فلهم كل الباقي، ولا شئ لولد الاب. وإن لم يكن عصبة، بل أنثى، أو إناث، فالاثنتان فصاعدا يأخذون إلى الثلثين ولا يبقى شئ،(5/25)
فيسقط أولاد الاب، والواحدة تأخذ إلى النصف. فإن بقي شئ، فلاولاد الاب ذكورا كانوا أو إناثا للذكر مثل حظ الانثيين. فرع إذا كان الصنفان معه وكان غير القسمة خيرا له، بأن كان معه أخت للابوين، وأخوان، أو أربع أخوات فصاعدا للاب، فللجد الثلث. قال بعض الفرضيين: يجعل الباقي بين ولد الابوين وولد الاب، ثم يرد ولد الاب على ولد الابوين قدر فرضه. قال ابن اللبان: والصواب، أن يفرض للاخت للابوين النصف، ويجعل الباقي لاولاد الاب. فرع فرق فيما ذكرناه بين أن يتمحض مع الجد إخوة أو أخوات، أو يختلطوا، فالجد في الاحوال كلها كأخ، والاخوات معه كهن مع أخ، فلا يفرض لهن معه، ولا تعال مسألة بسببهن، بخلاف الجد حيث فرضنا له وأعلنا، لانه صاحب فرض بالجدودة، فرجع إليه لضرورة. وهذا أصل مطرد، إلا في المسألة الاكدرية، وهي زوج، وأم، وجد، وأخت للابوين أو للاب، فللزوج النصف، وللام الثلث، وللجد السدس، ويفرض للاخت النصف، وتعول من ستة إلى تسعة، ثم يجمع نصيب الاخت والجد، ويجعل بينهما أثلاثا. وتصح من سبعة وعشرين، للزوج تسعة، وللام ستة، وللاخت أربعة، وللجد ثمانية. ويمتحن بها فيقال: وراث أربعة، أخذ أحدهم ثلث المال، والثاني ثلث الباقي، والثالث ثلث الباقي، والرابع الباقي. ولو كان بدل الاخت أخ، سقط، إذ لا فرض له. ولو كانت أختان، فللزوج النصف، وللام السدس، وللجد السدس، والباقي لهما، ولاعول، وبالله التوفيق.
الباب الرابع : في الحجب هو نوعان، حجب نقصان - كحجب الولد الزوج من النصف إلى الربع،(5/26)
والزوجة من الربع إلى الثمن، والام من الثلث إلى السدس - وحجب حرمان، وهو المقصود بالذكر، فالورثة قمان قسم لا يتوسط بينهم وبين الميت غيرهم، وهم: الابوان، والزوجان، والاولاد، فهؤلاء لا يحجبهم أحد. وقسم يتوسط بينهم وبينه غيرهم، وهم ثلاثة أضرب. الضرب الاول: المنتسبون إلى الميت من جهة العلو، وهم الاصول. فالجد لا يحجبه إلا الاب، وكذلك كل جد يحجب من فوقه. وأما الجدات، فقد يحجبهن غيرهن، وقد يججب بعضهن بعضا. فأما الاول، فالام تحجب كل جدة، سواء كان من جهتها، أو من جهة الاب، كما يحجب الاب كل من يرث بالابوة، والاب يحجب كل جدة من جهته، وكذا كل جد يحجب أم نفسه وأم آبائه، ولا يحجب أم من دونه، والاب والاجداد لا يحجبون الجدة من جهة الام قريبة كانت أو بعيدة بالاجماع. وأما حجب بعضهن، فالقربى من كل جهة تحجب البعدى من تلك الجهة، وهذا من جهة الام لا يكون إلا والبعدى مدلية بالقربى، ومن جهة الاب قد يكون كذلك، فالحكم كمثل، وقد لا يكون، كأم الاب، وأم أب الاب، ففيه اختلاف عن الفرضيين، والذي ذكره البغوي وغيره: أن القربى تحجب البعدى أيضا. قلت: هذا هو الصحيح المعروف. والله أعلم. ولو كانت البعدى مدلية بالقربى، لكن البعدى جدة من جهة أخرى، فلا وتحجب.(5/27)
مثاله: لزينب بنتان، حفصة، وعمرة، ولحفصة ابن، ولعمرة بنت بنت، فنكح الابن بنت بنت خالته، فأتت بولد، فلا تسقط عمرة التي هي أم أم أمه أمها، لانها أم أم أبي المولود. فرع القربى من جهة الام، كأم الام، تحجب البعدى من جهة الاب، كأم أم الاب، كما أن الام تحجب أم الاب. والقربى من جهة الاب، كأم الاب، هل تحجب البعدى من جهة الام، كأم أم الام ؟ فيه قولان. أظهرهما: لا، لان الاب لا يحجبها، فأمه المدلية به أولى. وعلى هذا القياس نقل البغوي أن القربى من جهة أمهات الاب، كأم أم الاب، تسقط البعدى من جهة آباء الأب، كأم أم أبي الاب، وأم أبي أبي الاب، والقربى من جهة آباء الاب، كأم أبي الاب، هل تسقط البعدى من جهة أمهات الاب، كأم أم أم الاب ؟ فيه القولان الضرب الثاني: المنتسبون إليه من جهة السفل، فابن الابن لا يحجبه إلا الابن، وبنت الان يحجبها الابن، وكذا بنتا صلب، إلا أن يكون معها أو أسفل منها ذكر يعصبها، وكذا بنات ابن الابن يسقطهن ابن الابن، ويسقطن أيضا إذا استكمل بنات الابن الثلثين، إلا أن يكون معهن أو أسفل منهن من يعصبهن، وكذا إن كانت بنت صلب، وبنت ابن، أو بنات ابن، وعلى هذا القياس. الضرب الثالث: المنتسبون إليه على الطرف، فالاخوة والاخوات للام يحجبهم أربعة: الولد، وولد الابن، والاب، والجد. والاخ للابوين يحجبه الاب، والابن، وابن الابن بالاجماع، وقد سبق وجه: أن الجد أيضا يسقطه. والاخت للابوين، لا يحجبها أيضا إلا هؤلاء. والاخ للاب يحجبه هؤلاء والاخ للابوين. والاخت للاب يحجبها الاربعة. وكذلك إذا استكملت الاخوات للابوين الثلثين، سقطت الاخوات للاب، إلا أن يكون معهن معصب وابن الاخ للابوين يحجبه ستة: الابن، وابن الابن، والاب، والجد، والآخ للابوين، والاخ(5/28)
للاب. وابن الاخ للاب يحجبه هؤلاء، وابن الاخ للابوين. والعم للابوين يحجبه هؤلاء، وابن الاخ للاب. والعم للاب يحجبه هؤلاء، والعم للابوين. وابن العم للابوين يحجبه هؤلاء، والعم للاب. وابن العم للاب يحجبه هؤلاء، وابن العم للابوين. والمعتق يحجبه عصبات النسب. وكل عصبة يحجبه أصحاب الفروض المستغرقة. فرع جميع ما ذكرناه من الحجب، هو فيما إذا كان الحاجب وارثا من الميت. فإن لم يرث، نظر، إن كان امتناع الارث لنقص، كالرق وغيره من الموانع، فلا يحجب، لاحجب حرمان، ولا حجب نقصان. وإن كان لا يرث لتقدم غيره عليه، فقد يحجب غيره حجب نقصان، وذلك في صور. إحداها: مات عن أبوين وأخوين، فللام السدس، والباقي للاب، لانهما يسقطان به. الثانية: أم، وجد، وأخوان لام، للام السد س، والباقي للجد. الثالثة: أب، وأم أب، وأم أم، فتسقط أم الاب بالاب، وفيما ترثه أم الام وجهان. أصحهما: السدس. والثاني: نصف السدس. الرابعة: إذا ترك جدا، وأخا لابوين، وأخا لاب، ينقص بالاخ للاب نصيب الجد، ولا يأخذ شيئا. قلت: وصورة خامسة: أم، وأخ لابوين، وأخ لاب. والله أعلم.(5/29)
الباب الخامس : في بيان مانع الميراث هو خمسة. المانع الاول: اختلاف الدين، وفيه مسائل. الاولى: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ولا فرق بين النسيب والمعتق والزوج، ولا بين من يسلم قبل القسمة أم لا. الثانية: يرث الكفار بعضهم بعضا، كاليهودي من النصراني، والنصراني من المجوسي، والمجوسي الحربي من الوثني، وبالعكوس عن ابن خيران وغيره وجه: أنه لا ترث ملة منهم من أخرى. والصحيح المعروف، هو الاول. هذا إذا كان اليهودي والنصراني مثلا ذميين أو حربيين، سواء كان الحربيان مختلفي الدار أو متفقيها، كالروم والهند. فلو كان أحدهما ذميا، والآخر حربيا، فطريقان.(5/30)
المذهب وبه قطع الاكثرون: لا يتوارثان، لانقطاع الموالاة بينهما، وربما نقل الفرضيون الاجماع على هذا. والثاني: على قولين حكاهما الامام وغيره، ثانيهما: التوارث، لشمول الكفر. والمعاهد والمستأمن، هل هما كالذمي، أم كالحربي ؟ فيه وجهان. أصحهما وهو المنصوص: كالذمي، لانهما معصومان بالعهد والامان. فعلى هذا، يتوارث الذمي والمستأمن. وعلى الآخر: في التوارث بينهما الطريقان، ويتوارث هو والحربي. فرع مات يهودي ذمي عن ابن مثله، وابن نصراني ذمي، وابن يهودي معاهد، وابن يهودي حربي، فالمذهب: أن التركة لجميعهم، غير الحربي، ويجئ في الحربي وجه: أنه يرث، وفي الآخرين وجه بالمنع، سوى الاول. الثالثة: لا يرث المرتد أحدا، ولا يرثه أحد، وماله فيئ، سواء كسبه في الاسلام أو في الردة، وسواء في المرتد المعلن والزنديق والمستسر، ولا ينزل التحاقه بدار الحرب منزلة موته. المانع الثاني: الرق. فلا يرث رقيق وإن عتق قبل القسمة، ولا يورث رقيق، إذ لا ملك له، وإذا قلنا: يملك بتمليك السيد، فملكه غير مستقر، يعود إلى السيد إذا زال ملكه عن رقبته. وسواء في ذلك القن والمكاتب والمدبر وأم الولد، فلا يرثون ولا يورثون.(5/31)
فرع المعتق بعضه، لا يرث على الصحيح المنصوص الذي قطع به الاصحاب. وعن المزني وابن سريج: أنه يرث بقدر ما فيه من الحرية. وهل يورث ؟ قولان. القديم: لا، والجديد: نعم، لانه تام الملك. قلت: الجديد، هو الاظهر عند الاصحاب. والله أعلم. فعلى القديم: فيما ملكه بحريته، وجهان. أصحهما عند الاكثرين وهو نصه في القديم: أنه لمالك الباقي. والثاني: أنه لبيت المال، وهو منسوب إلى الاصطخري، ونقله الفرضيون عن ابن سريج وقالوا: هو الاصح. وعلى الجديد: يرثه قريبه أو معتقه. قلت: وزوجته. والله أعلم. وفي القدر الموروث، وجهان. أصحهما: جميع ما ملكه بنصفه الحر. والثاني أنه يقسط ما ملكه بحريته على مالك الباقي والورثة بقدر رقه وحريته. فإن كان نصفه حرا، فنصف ذلك للورثة، ونصفه لمالك باقيه، لان الموت حل جميع البدن، والبدن منقسم إلى رق وحرية. المانع الثالث: القتل، وهو ضربان. أحدهما: مضمون، وهو موجب للحرمان، سواء ضمن بقصاص أو دية أو كفارة، كمن رمى صف الكفار ولم يعلم فيهم مسلما، فقتل قريبه المسلم، تجب الكفارة، ولا دية، وسواء كان القتل عمدا أو خطأ. وحكى الحناطي قولا أن المخطئ يرث مطلقا، والمشهور الاول. وسواء كان الخطأ بمباشرة، كمن رمى صيدا فأصاب مورثه، أو بالسبب، كمن حفر بئرا عدوانا فسقط فيها مورثه، أو وضع حجرا في الطريق فتعثر به مورثه. وسواء قصد بالتسبب مصلحته، كضرب الاب والزوج والمعلم للتأديب، وكسقيه الدواء وبط جرحه للمعالجة إذا مات به الصبي أو(5/32)
غيره، أو لا يقصد. وفي بط الجرح وسقي الدواء وجه حكاه ابن اللبان وغيره: أنه لا يمنع. وعن صاحب التقريب وجه في مطلق القتل بالتسبب: أنه لا يمنع، والصحيح الذعليه الاصحاب الاول. وسواء صدر القتل من مكلف أو غيره، ويجئ في الصبي وجه يتخرج من القول الذي حكاه الحناطي في المخطئ إذا قلنا: عمد الصبي خطأ. وسواء فيه المكره والمختار، وفي المكره خلاف، والمذهب المنع. الضرب الثاني: قتل غير مضمون، وهو قسمان. مستحق مقصود، وغيره. والاول نوعان. أحدهما: ما لا يسوغ تركه. فإذا قتل الامام مورثه حدا بالرجم، أو في المحاربة، ففي منعه أوجه. الثالث: إن ثبت بالبينة، منع. وإن ثبت بالاقرار، فلا، لعدم التهمة. قلت: الاصح المنع مطلقا، لانه قاتل. والله أعلم. النوع الثاني: ما يسوغ تركه، كالقصاص، فيه خلاف مرتب على قتل الامام حدا، وأولى بالحرمان. ولو شهد على مورثه بما يوجب الحد أو القصاص، فقتل بشهادته، أو شهد على إحصانه، وشهد غيره بالزنا، أو زكى الشهود بالزنا على مورثه، فهو كما إذا قتله قصاصا. القسم الثاني: ما لا يوصف بأنه مستحق مقصود، كقتل الصائل والباغي، ففيه خلاف مرتب على القصاص، وأولى بالحرمان، والباغي أولى بالحرمان من العادل. والمذهب وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في الصور كلها: منع الارث. قال الروياني: لكن القياس والاختيار: أن ما لا ضمان فيه لا يمنع. فرع قد يرث المقتول من قاتله، بأن جرح مورثه ثم مات قبل المجروح. المانع الرابع: استبهام وقت الموت. فإذا مات متوارثان بغرق، أو حريق، أو تحت هدم، أو في بلاد غربة، أو وجدا قتيلين في معركة، فله خمس صور. إحداها: أن نعلم سبق موت أحدهما بعينه، وحكمه ظاهر.(5/33)
الثانية: أن نعلم التلاحق ولا نعلم السابق. الثالثة: أن نعلم وقوع الموتتين معا. الرابعة: أن لا نعلم شيئا، ففي هذه الصور الثلاث لا نورث أحدهما من صاحبه، بل نجعل مال كل واحد لباقي ورثته، لانا لا نتيقن استحقاق واحد منهما، ولانا إن ورثنا أحدهما فقط، فهو تحكم. وإن ورثنا كلا من صاحبه، تيقنا الخطأ. وقيل: إذا تلاحق الموتان، ولم يعلم السابق، أعطي كل وارث لهم ما يتيقن له، ويوقف المشكوك فيه، قاله ابن اللبان، وحكاه عن ابن سريج. والصحيح المعروف الاول، وهو أنه لا فرق، ويصرف الجميع إلى الورثة. الخامسة: أن يعلم سبق موته، ثم يلتبس، فيوقف الميراث حتى يتبين أو يصطلحا، لان التذكر غير مأيوس منه، هذا هو الصحيح الذي عليه الاصحاب. وفيه وجه: أنه كما لو لم يعلم السابق، وإليه ميل الامام. المانع الخامس: الدور، وهو أن يلزم من التوريث عدمه. ومثاله: أقر الاخ بابن لاخيه الميت، ثبت نسبه ولا يرث، وقد سبقت المسألة في كتاب الاقرار. ولو أوصى بعبده لابي العبد، فمات الاب قبل القبول، وقبلها أخوه، يعتق العبد ولا يرث، وسيأتي بيانها في كتاب الوصية إن شاء الله تعالى. ولو اشترى المريض أباه، عتق ولم يرث. ولو ادعى شخص نسبا على ورثه ميت، فأنكروا ونكلوا عن(5/34)
اليمين، حلف وورث معهم إن لم يحجبهم. وإن كان يحجبهم، فوجهان. أصحهما: لا يرث، وإلا، لبطل نكولهم ويمينه. ولو ملك أخاه، ثم أقفي مرض موته أنه كان أعتقه في الصحة، قال البغوي: ينفذ، ثم إن صححنا الاقرار للوارث، ورثه، وإلا، فلا، لان توريثه يوجب إبطال الاقرار بحريته. وإذا بطلت، بطل الارث.
الباب السادس : في أسباب تمنع صرف المال إليه في الحال للشك في استحقاقه هي أربعة: السبب الاول: الشك في الوجود، كمن مات وله قريب مفقود لا يعلم حياته ولا موته، وفيه مسألتان. إحداهما: في التوريث منه. فالمفقود: الذي انقطع خبره وجهل حاله في سفر أو حضر، في قتال أو عند انكسار سفينة أو غيرهما، وله مال - وفي معناه: الاسير الذي انقطع خبره - فإن قامت بينة على موته، قسم ميراثه، وإلا، فوجهان. أحدهما وهو اختيار أبي منصور وغيره: أنه لا يقسم ماله حتى يتحقق حاله. وأصحهما وبه قطع الاكثرون: أنه إذا مضت مدة يحكم الحاكم بأن مثله لا يعيش فيها، قسم ماله، وهذه المدة ليست مقدرة عند الجمهور. وفي وجه شاذ: تتقدر بسبعين سنة، ويكفي ما يغلب على الظن أنه لا يبقى إليه، ولا يشترط القطع بأنه لا يعيش أكثر منها على الصحيح. وقيل: يشترط. ويجوز أن يراد بهذا القطع غلبة الظن. ثم إن كانت القسمة بالحاكم، فقسمته تتضمن الحكم بالموت، وإن اقتسموا بأنفسهم، فظاهر كلام الاصحاب في اعتبار حكمه مختلف، فيجوز أن يقال: فيه خلاف، إن اعتبرنا القطع، فلا حاجة إلى الحكم، وإلا، فلا بدمنه، لانه في محل الاجتهاد. وإذا مضت المدة المعتبرة، وقسم ماله، فهل لزوجته أن تتزوج ؟ ففهوم كلام الاصحاب دلالة وصريحا: أن لها ذلك، وأن المنع على قوله الجديد مخصوص بما قبل هذه(5/35)
المدة. ألا ترى أنهم ردوا على القول القديم حيث قالوا: إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله وعتق أمهات أولاده، لم يجز الحكم به في فراق زوجته، فأشعر بأنهم رأوا الحكمين متلازمين. وعلى هذا، فالعبد المنقطع الخبر بعد هذه المدة، لا تجب فطرته، ولا يجزئ عن الكفارة بلا خلاف. وموضع القولين ما قبل ذلك. ثم إنا ننظر إلى من يرثه حين حكم الحاكم بموته، ولا يورث منه من مات قبيل الحكم ولو بلحظة، لجواز أن يكون موت المفقود بين موته وبين حكم الحاكم. وأشار العبادي في الرقم إلى أنه لا يشترط أن يقع حكم الحاكم بعد المدة، فقال: يضرب له الحاكم مدة لا يعيش في الغالب أكثر منها، فإذا انتهت، فكأنه مات ذلك اليوم. المسألة الثانية: في توريثه. فإذا مات له قريب قبل الحكم بموته، نظر، إن لم يكن له وارث إلا المفقود، توقفنا حتى يبين أنه كان عند موت القريب حيا أو ميتا. وإن كان له وارث غير المفقود، توقفنا في نصيب المفقود، وأخذنا في حق كل واحد من الحاضرين بالاسوإ، فمن يسقط منهم بالمفقود، لا يعطى شيئا حتى يبين حاله، ومن ينقص حقه بحياته، يقدر في حقه حياته، ومن ينقص حقه بموته، يقدر في حقه موته. ومن لا يختلف نصيبه بحياته وموته، يعطى نصيبه. مثاله: زوج مفقود، وأختان لاب وعم حاضرون، فان كان حيا، فللاختين أربعة من سبعة، ولا شئ للعم. وإن كان ميتا، فلهما إثنان من ثلاثة، والباقي للعم، فيقدر في حقهم حياته. أخ لاب مفقود، وأخ لابوين وجد حاضران، فإن كان حيا، فللاخ الثلثان،(5/36)
وللجد الثلث. وإن كان ميتا، فالمال بينهما بالسوية، فيقدر في حق الجد حياته، وفي حق الاخ موته. أخ لابوين مفقود، وأختان لابوين وزوج حاضرون، فإن كان حيا، فللزوج النصف، والباقي بينهم، فيكون للاختين الربع. وإن كان ميتا، فللزوج ثلاثة من سبعة، وللاختين أربعة من سبعة، فيقدر في الزوج موته، وفي حق الاختين حياته. ابن مفقود، وبنت وزوج، للزوج الربع كل حال. هذا الذي ذكرناه في كل الصور هو الصحيح وظاهر المذهب. وفي وجه: يقدر موته في حق الجميع، لان استحقاق الحاضرين معلوم، واستحقاقه مشكوك فيه. فان ظهر خلافه، غيرنا الحكم. وفيه وجه آخر: تقدر حياته في حق الجميع، لان الاصل حياته. فإن ظهر خلافه، غيرنا الحكم. السبب الثاني: الشك في النسب. فإذا أشكل نسب مولود، بأن وطئ اثنان فصاعدا امرأة بشبهة، فأتت بولد يمكن كونه من كل واحد، أو ادعى اثنان فصاعدا مجهولا، فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى: أنه لا يلحق إلا بواحد، بأن يعرض على القائف. فلو مات في زمن الاشكال، وقفنا من ماله ميراث أب. وإن مات أحد الواطئين، وقفنا من ماله ميراث المولود، وأخذنا في نصيب كل من يرث معه لو ثبت نسبة بالاسوإ، كما سبق في المفقود. السبب الثالث: الحمل، ونعني به كل حمل لو كان منفصلا، لورث منه، إما مطلقا، وإما على تقدير. وهذا الحمل، قد يكون من الميت ويرث لا محالة، وقد يكون من غيره، كما إذا كانت أمه حاملا من غير أبيه، أو من أبيه والاب ميت، أو ممنوع برق ونحوه، وكذا زوجة ابنه أو أخيه أو جده والحمل من غيره، قد لا يرث إلا على تقدير الذكورة، كحمل امرأة الاخ والجد، وقد لا يرث إلا على تقدير الانوثة، كما إذا ماتت عن زوج وأخت لابوين وحمل من الاب، وفيه فصلان. الفصل الاول: فيما بعد الانفصال، وإنما يرث بشرطين. أحدهما: أن يعلم وجوده عند الموت فإذا كان الحمل منه، وانفصل لما بين(5/37)
موته وبين أكثر مدة الحمل، ورث، لثبوت نسبه، وإن انفصل لما بعد ذلك، لم يرث. وإن كان من غيره، نظر، إن لم يكن لها زوج يطؤها، فالحكم كما لو كان منه قطعا. وإن كان زوج يطؤها، فان انفصل قبل تمام ستة أشهر من وقت الموت، فقد علم وجوده حينئذ. وإن انفصل لستة أشهر فأكثر، لم يرث، لاحتمال أن العلوق حصل بعده، إلا أن وعترف جميع الورثة بوجوده عند الموت. وإذا مات حر عن أب رقيق تحته حرة حامل، فان ولدت قبل ستة أشهر من يوم الموت، ورث المولود من أخيه، لان الاب رقيق لا يحجبه. وإن ولدت لستة أشهر فصاعدا، لم يرث، لاحتمال حدوث العلوق بعد الموت، إلا أن يتفقوا على وجوده يومئذ، وينبغي أن يمسك الاب عن الوطئ حتى يظهر الحال. قال الامام: ولا يحرم الوطئ. الشرط الثاني: أن ينفصل حيا، فان انفصل ميتا، فكأن لا حمل، سواء كان يتحرك في البطن، أم لا، وسواء انفصل ميتا بنفسه أو بجناية وإن كانت الجناية جوجب الغرة، وتصرف الغرة إلى ورثة الجنين، لان إيجاب الغرة لا يتعين له تقدير الحياة، ألا ترى إلى قول الاصحاب: الغرة إنما وجبت لدفع الجاني الحياة مع تهيؤ الجنين لها، وبتقدير أن يكون وجوب الغرة بتقدير الحياة، فالحياة مقدرة في حق الجاني فقط تغليظا، فتقدر في توريث الغرة فقط. واعلم أنه تشترط الحياة عند تمام الانفصال. فلو خرج بعضه حيا، ومات قبل تمام الانفصال، فهو كما لو خرج ميتا في الارث وسائر الاحكام. حتى لو ضرب بطنها بعد خروج بعضه، وانفصل ميتا، فالواجب الغرة دون الدية. هذا هو الصحيح الذي عليه الجماهير. وعن القفال وغيره: أنه إذا خرج بعضه حيا، ورث وإن انفصل ميتا، وبه قال أبو خلف الطبري من أصحابنا. ولو مات عقب انفصاله حيا حياة مستقرة، ورث، ونصيبه لورثته. وتعلم الحياة المستقرة: بصراخه، وكذا بالبكاء، أو العطاس، أو التثاؤب، أو امتصاص الثدي، لدلالتها على الحياة. وحكى الامام اختلاف قول في الحركة(5/38)
والاختلاج، ثم قال: وليس موضع القولين ما إذا قبض اليد وبسطها - فان هذه الحركة تدل على الحياة قطعا - ولا الاختلاج الذي يقع مثله لانضغاط وتقلص عصب فيما أظن، وإنما الاختلاف فيما بين هاتين الحركتين. والظاهر: كيفما قدر الخلاف: أن ما لا تعلم به الحياة، ويمكن أن يكون مثله لانتشار بسبب الخروج من المضيق أو لاستواء عن التواء، فلا عبرة به، كما لا عبرة بحركة المذبوح. فرع لو ذبح رجل، فمات أبوه وهو يتحرك، لم يرثه المذبوح على الصحيح. وحكى الروياني وجها: أنه يرث. وحكى الحناطي قريبا منه عن المزني. قلت: هذا الوجه غلط ظاهر، فان أصحابنا قالوا: من صار في حال النزع، فله حكم الميت، فكيف الظن بالمذبوح والله أعلم. الفصل الثاني: فيما قبل الانفصال، ومتى ظهرت مخايل الحمل، فلا بد من التوقف كما سنفصله إن شاء الله تعالى. وإن لم تظهر مخايله، وادعت المرأة الحمل، ووصفت علامات خفية، ففيه تردد للامام. والظاهر: الاعتماد على قولها. وطرد التردد فيما إذا لم تدعه لكنها قريبة عهد بالوطئ واحتمال الحمل قريب. إذا عرف هذا، فان لم يكن للميت وارث سوى الحمل المنتظر، وقفنا المال إلى أن ينفصل. وإن كان له وارث آخر، ففي وجه حكاه الفوراني، وحكاه الشيخ أبو خلف قولا عن رواية الربيع: أنه يوقف جميع المال. والصحيح المشهور: أنه لا(5/39)
يوقف الجميع، بل ينظر في الورثة الظاهرين، فمن احتمل حجبه بالحمل، لم يدفع إليه شئ ومن لا يحجبه الحمل بحال وله مقدر لا ينقص، دفع إليه. وإن أمكن العول، دفع إليه ذلك القدر عائلا. مثاله: زوجة حامل، وأبوان، يدفع إليها ثمن عائل، وإليهما سدسان عائلان، لاحتمال أن الحمل بنتان. وإن لم يكن له نصيب مقدر كالاولاد، فالصرف إليهم مبني علو أن أقصى عدد الحمل هل له ضبط ؟ وفيه وجهان. الاصح أو الصحيح: أنه لا ضبط له، وبه قال شيخا المذهب: أبو حامد، والقفال، والعراقيون، والصيدلاني، والقاضي حسين، لانه وجد خمسة في بطن واثنا عشر في بطن. والثاني: أن أقصى الحمل أربعة، وبهذا قطع ابن كج والغزالي، وجعله الفرضيون قياس قول الشافعي رضي الله عنه، وأرادوا أن الشافعي رضي الله عنه، يتبع في مثل ذلك الوجود، وأكثر الذي وجد أربعة، لكن هذا الذي قالوه مشكل بما نقله الاولون فعلى الاول: لو خلف ابنا وأم ولد حاملا، لم يصرف إلى الابن شئ. ولو خلف ابنا وزوجة حاملا، فلها الثمن، ولا يدفع إلى الابن شئ. وعلى الثاني: له الخمس أو خمس الباقي على تقدير أنهم أربعة ذكور. وعلى هذا، هل يمكن الذين صرف إليهم حصتهم من التصرف فيها ؟ وجهان. أصحهما: نعم، وإلا، لم يدفع إليهم. والثاني: المنع، قال القفال: لانه قد يهلك الموقوف للحمل، فيحتاج إلى الاسترداد، والحاكم وإن كان يلي أمر الاطفال، فلا يلي أمر الاجنة، فلا يمكن حمل ما جرى على القسمة. ثم الموقوف للحمل على الوجه الثاني، قد يكون بتقدير الذكورة أكثر، وقد يكون بتقدير الانوثة أكثر، بأن خلفت زوجا وأما حاملا من أبيها، فإن كان الحمل ذكرا، فله سدس المال. وإن كانوا ذكورا، فثلث المال. وإن كان أنثيين، عالت المسألة إلى ثمانية، فيدفع إلى الزوج ثلاثة من ثمانية، وإلى الام سهم، ويوقف أربعة. فرع مات كافر عن زوجة حامل، وقفنا الميراث للحمل، فأسلمت، ثم ولدت، ورث الولد وإن كان محكوما بإسلامه لانه كان محكوما بكفره يوم الموت. فرع مات عن ابن وزوجة حامل، فولدت ابنا وبنتا، فاستهل أحدهما ووجدا ميتين، ولم يعلم المستهل، أعطي كل وارث أقل ما يصيبه، ويوقف الباقي(5/40)
حتى يصطلحوا، أو تقوم بينة. السبب الرابع: الخنوثة سبق في كتاب الطهارة، بيان ما تعرف به ذكورته وأنوثته. فلو مات له مورث في مدة إشكاله، نظر، إن لم يختلف ميراثه بالذكورة والانوثة، كولد الام والمعتق، ورث. وإن اختلف، أخذ في حق الخنثى ومن معه من الورثة باليقين، ويوقف المشكوك فيه، فان كان يرث على أحد تقديري الانوثة والذكورة، دون الآخر، لم يدفع إليه شئ، ووقف ما يرثه على ذلك التقدير. وكذا من يرث معه على أحد التقديرين. وإن كان الخنثى يرث على التقديرين، لكن يرث على أحدهما أقل، دفع إليه الاقل، ووقف الباقي، وكذلك في حق من يرث معه على التقديرين، ويختلف قدر ما يأخذه. وإن كان من معه يرث على التقديرين، ولا يختلف حقه، دفع إليه حقه. ولنا وجه: أنه يؤخذ في حق الخنثى باليقين، ويصرف الباقي إلى باقي الورثة، حكاه الاستاذ أبو منصور، ونسبه ابن اللبان إلى تخريج ابن سريج. وحكى وجهين، في أنه هل يؤخذ من باقي الورثضمين ؟ فرع المال الموقوف بسبب الخنثى، لا بد من التوقف فيه ما دام الخنثى باقيا على إشكاله. فان مات، فالمذهب: أنه لا بد من الاصطلاح عليه. وحكى أبو ثور عن الشافعي رضي الله عنه: أنه يرد إلى ورثة الميت الاول. فرع لو اصطلح الذين وقف المال بينهم على تساو أو تفاوت، جاز،(5/41)
قال الامام: ولا بد أن يجري بينهما تواهب، وإلا لبقي المال على صورة التوقف، وهذا التواهب لا يكون إلا عن جهالة، لكنها تحتمل للضرورة. ولو أخرج بعضهم نفسه من البين، ووهبه لهم على جهل بالحال، جاز أيضا. فرع لو قال الخنثى في أثناء الامر: أنا رجل، أو قال: أنا امرأة، قطع الامام بأنه يقضى بقوله، ولا نظر إلى التهمة، فانه لا اطلاع عليه إلا من جهته. وحكى أبو الفرج السرخسي هذا عن نصه هنا، قال: ونص فيما إذا جني عليه واختلف الجاني والخنثى في ذكورة الخنثى: أن القول قول الجاني. ومنهم من نقل وخرج، ومنهم من فرق بأنا عرفنا هناك أصلا ثابتا، وهو براءة ذمة الجاني، فلا نرفعه بقوله، وهنا بخلافه. وإذا قبلنا قوله، حلفناه عليه. فرع في أمثلة مختصرة توضح مسائل الخنثى بنتان، وولد ابن خنثى، وأخ، للبنتين الثلثان، ويوقف الباقي. ولد خنثى، وأخ أو عم، للخنثى النصف، ويوقف الباقي. ولد خنثى، وابن، يعطى الابن النصف، والخنثى الثلث. ولد خنثى، وابنان، يعطى الخنثى الخمس، والابنان الثلثين. ولد خنثى، وبنت، وعم، يعطى الخنثى الثلث، وكذا البنت. زوج، وأب، وولد خنثى، للزوج الربع، وللاب السدس، وللخنثى النصف. زوج، وأم، وولد أب خنثى، للزوج النصف عائلا من ثمانية، وللام الثلث(5/42)
عائلا، وللخنثى سدس تام. وإذا اجتمع ولدان خنثيان، فلهما الثلثان ويوقف الباقي. ثلاثة أولاد خناثى، وعم، لكل واحد من الخناثى خمس المال لاحتمال أنه أنثى وصاحباه ذكران. ابن وخنثيان، يدفع إليه الثلث، وإلى كل واحد منهما الخمس. ولد خنثى، وولد ابن خنثى، وعم، فللولد النصف. بنت، وبنت ابن، وولد ابن خنثى، وعم، للبنت النصف، ولولدي الابن السدس بالسوية. ثلاثة أولاد ابن خناثى بعضهم أسفل من بعض، للاول النصف. والباقي في كل هذه الصور يوقف حتى يبين الحال.
الباب السابع : في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا والمجوس فيه ثلاثة فصول.
الفصل الأول : اللعان يقطع التوارث بين الملاعن والولد، لانقطاع النسب، وكذا يقطع التوارث بين الولد وكل من يدلي بالملاعن، كأبيه وأمه وأولاده. وفي السلسلة للشيخ أبي محمد وجه مخرج: أن اللعان لا يقطع(5/43)
التوارث بين الولد والملاعن، بناء على الوجهين في أن الملاعن هل له نكاح البنت التي نفاها باللعان إذا لم يدخل بأمها ؟ إن قلنا: له ذلك كنكاح بنت الزنا، فلا يرث، وإن منعناه لان نسبها يعرض الثبوت، بأن يكذب نفسه، ورث، ولا يعرف هذا الوجه لغيره. قلت: هذا الوجه غلط، لانه في الحال لا نسب. والله أعلم. وأما الولد مع الام، فيتوارثان ثوارث سائر الاولاد والامهات. والتوأمان المنفيان باللعان في توارثهما وجهان. الاصح: لا يتوارثان إلا بقرابة الام، لانقطاع نسب الاب. والثاني: يتوارثان بأخوة الابوين، لان اللعان يؤثر في حق المتلاعنين فقط، فإذا قلنا بالاول، فلا عصبة للمنفي إلا من صلبه، أو بالولاء بأن يكون عتيقا أو أمه عتيقة، فيثبت الولاء لمولاها عليه، وعصبة الام لا يكونون عصبة له. فرع إذا نفاه ثم استلحقه، لحقه. فان كان بعد موت الولد، فكذلك، وتنقض القسمة إن كانت تركته قسمت. حتى لو كان على أمه ولاء، فأخذ مولاها ميراثه، كان للمستلحق استرداده، ولا فرق في اللحوق بين أن يخلف الميت ولدا، أم لا.
الفصل الثاني : ولد الزنا كالمنفي باللعان، إلا في ثلاثة أشياء. أحدها: أن الوجه المنقول عن السلسلة، لا يجئ هنا قطعا. والثاني: أن ولد الزنا لا يلحق بالاستلحاق. الثالث: التوأمان من الزنا لا يتوارثان إلا بأخوة الام قطعا. وفي وجه حكاه الحناطي وصاحب الحاوي: يتوارثان بأخوة الابوين. قلت: هذا الوجه غلط فاحش، قال الامام: ولو علقت بتوأمين من واطئ بشبهة، ثم جهل الواطئ، توارثا بأخوة الابوين بلا خلاف. والله أعلم.
الفصل الثالث : فيما إذا اجتمع في شخص قرابتان، منع الشرع من مباشرة سبب اجتماعهما، كأم هي أخت، وذلك يقع في المجوس، لاستباحتهم نكاح(5/44)
المحارم، وربما أسلموا بعد ذلك، أو ترافعوا إلينا، وقد يتفق في المسلمين نادرا بغلط واشتباه، والحكم أنه لا توريث بالقرابتين، بل يورث بأقواهما. وفي وجه: يرث بهما إن كانتا بحيث لو كانتا في شخصين ورثا معا، وبه قال ابن سريج، وابن اللبان. والصحيح: الاول، ويعرف الاقوى بكل واحد من أمرين. أحدهما: أن تحجب إحداهما الاخرى، كبنت هي اخت لام، أن يطأ أمه فتلد بنتا. والثاني: أن لا تحجب إحداهما أصلا، أو يكون حجبها أقل، فالاول: كأم هي أخت. والثاني: كأم أم هي أخت، فترث بالامومة أو الجدودة، دون الاخوة، وعن ابن اللبان وجه: أنها ترث في الصورة الثانية بالاخوة، دون الجدودة، لان نصيب الاخت أكثر، وليجبر هذا في أخوات الصورة. والصحيح المعروف: الاول، ولا يرثون بالزوجية بلا خلاف، لبطلانها.
الباب الثامن : في الرد وذوي الأرحام أصل المذهب فيهما وما اختاره الاصحاب لضرورة فساد بيت المال، ذكرناه في أول الكتاب. فإذا قلنا بالرد، فمقصود الفتوى منه أنه إن لم يكن ممن يرد عليه من ذوي الفروض إلا صنف، فإن كان شخصا واحدا، دفع إليه الفرض، والباقي بالرد. وإن كانوا جماعة، فالباقي بينهم بالسوية. وإن اجتمع صنفان فأكثر، رد الفاضل عليهم بنسبة سهامهم. وأما الحساب وتصحيح المسائل، فيذكر إن شاء الله تعالى في باب الحساب. فصل وأما توريث ذوي الارحام، فالذاهبون إليه منا اختلفوا في كيفيته، فأخذ بعضهم بمذهب أهل التنزيل، وبه قطع ابن كج وصاحب المهذب والامام، لان القائلين ممن ورثهم من الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم أكثر،(5/45)
ومنهم من أخذ بمذهب أهل القرابة، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وبه قطع البغوي والمتولي، وسمي الاولون: أهل التنزيل، لتنزيلهم كل فرع منزلة أصله، وسمي الآخرون: أهل القرابة، لانهم يورثون الاقرب فالاقرب كالعصبات. قلت: الاصح الاقيس: مذهب أهل التنزيل. وللقائلين بتوريث ذوي الارحام، مذاهب غير هذين، لكن الذي اختاره أصحابنا منها هذان. والله أعلم. والمذهبان متفقان على أن من انفرد من ذوي الارحام، يحوز جميع المال ذكرا كان أو أنثى، وإنما يظهر الاختلاف عند اجتماعهم. وبيان ذلك في طرفين. الطرف الاول: فيما إذا انفرد صنف منهم، فمن الاصناف: أولاد البنات، وبنات ابنة الابن، فأهل التنزيل ينزلونهم منزلة البنات وبنات الابن، ويقدمون منهم من سبق إلى الوارث، فان استووا في السبق إلى الوارث، قدر كأن الميت خلف من يدلون به من الورثة واحدا كان أو جماعة، ثم يجعل نصيب كل واحد للمدلين به على حسب ميراثهم لو كان هو الميت، وقال أهل القرابة: إن اختلفت درجاتهم، فالاقرب إلى الميت أولى ذكرا كان أو أنثى، فتقدم بنت البنت على بنت بنت البنت، وعلى ابن بنت البنت. وإن لم تختلف، فان كان فيهم من يدلي بوارث، فهو أولى، فتقدم بنت بنت الابن على بنت بنت البنت. هذا إذا أدلى بنفسه إلى الوارث، أما إذا أدلى بواسطة، كبنت بنت بنت الابن مع بنت بنت بنت البنت، فلاصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، فيه اختلاف. والصحيح عندهم: أن لا ترجيح. ومقتضى ما ذكره أصحابنا، الترجيح، كما لو أدلى بنفسه. وإن استووا في الادلاء، ورثوا جميعا. وكيف يرثون ؟ اختلف فيه أبو يوسف ومحمد، فقال أبو يوسف:(5/46)
يعتبرون بأنفسهم. فإن كانوا ذكورا أو إناثا، سوي بينهم. فان اختلطوا، فللذكر مثل حظ الانثيين. وقال محمد: ينظر في المتوسطين بينهم وبين الميت من ذوي الارحام. فان اتفقوا ذكورة وأنوثة، فالجواب كذلك. وإن اختلفوا، فاما أن يكون الاختلاف في بطن واحد، وإما في أكثر. فان كان في بطن، قسمنا المال بين بطن الاختلاف، وجعلنا كل ذكر بعدد أولاده الذين يقسم ميراثهم ذكورا، وكل أنثى بعدد أولادها الذين يقسم ميراثهم إناثا، ويقسم المال بين الذكور والاناث الحاصلين من هذا التقدير للذكر مثل حظ الانثيين، ثم أصاب كل واحد من الصنفين، يقسم بين أولاده للذكر مثل حظ الانثيين. وإن كان الاختلاف في أكثر من بطن، قسم المال بين أعلى بطون الاختلاف كما ذكرنا، ثم ما أصاب كل واحد من الصنفين، قسم على أولاده الذين فيهم الاختلاف على النحو المذكور في البطن الاول، وهكذا يفعل حتى تنتهي القسمة إلى الاحياء. قال الناقلون: كل واحد من أبي يوسف ومحمد، يدعي أن قوله قول أبي حنيفة رضي الله عنه، والاكثرون صدقوا محمدا، لكن متأخروهم يفتون بقول أبي يوسف، وكذلك قال البغوي والمتولي: إنه أظهر الروايتين. والمذهبان متفقان على تفضيل الذكر على الانثى في القسمة. وفي التتمة وجه آخر: أنه يسوى بين الذكر والانثى، قال: وهو اختيار الاستاذ أبي إسحق الاسفراييني. فرع في أمثلة توضح الغرض بنت بنت، وبنت بنت ابن، المنزلون يجعلون المال بينهما أرباعا بالفرض والرد، كما يكون بين البنت وبنت الابن، وأهل القرابة يجعلون الجميع لبنت البنت، لقربها. بنت ابن بنت، وبنت بنت ابن، المال للثانية بالاتفاق. أما على التنزيل، فلان السبق إلى الوارث هو المعتبر. وأما على القرابة، فلانه المعتبر عند استواء الدرجة.(5/47)
بنت بنت، وابن، وبنت من بنت أخرى، المنزلون يجعلون المال من بنتي الصلب تقديرا بالفرض والرد، ثم يقولون: نصف البنت الاولى لبنتها، ونصف الاخرى لو لديها أثلاثا. وأهل القرابة يجعلون المال بين ثلاثتهم، للذكر مثل حظ الانثيين. ومحمد لا يخالف في هذه الصورة، وإنما يخالف فيما إذا اختلفت الاصول الذين هم من ذوي الارحام. ابن بنت، وبنت بنت أخرى، وثلاث بنات بنت أخرى، المنزلون يقولون: للابن الثلث، وللبنت الفردة كذلك، وللثلاث الثلث أثلاثا، وأهل القرابة يجعلون المال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين. بنت بنت بنت، وبنت ابن بنت، عند المنزلين وأبي يوسف: المال بينهما بالسوية، وعند محمد: ثلث المال للاولى، وثلثاه للثانية. بنتا بنت بنت، وثلاث بنات ابن بنت أخرى، عند المنزلين: للبنتين النصف بالسوية، وللثلاث النصف أثلاثا، وعند أبي يوسف: المال بين الخمس بالسوية، وعند محمد: يقسم المال بين الذكر والانثى المتوسطين، ويقدر الذكر ثلاثة ذكور بعدد فروعه، والانثى اثنتين بعدد فرعيها، فيكون المال على ثمانية، حصة الذكر ستة، وهي لبناته بالسوية، وحصة الانثى سهمان، هما لبنتيها. بنت بنت بنت، وبنت بنت ابن بنت، وابن ابن ابن بنت، عند أبي يوسف: المال بينهم على أربعة، وعند محمد: يقسم المال أولا بين أعلى بطني الاختلاف، وفيه ابنان وبنت، فكل واحد منهما يعد واحدا، لان الفروع آحاد، فيكون المال بينهم على خمسة، حصة البنت سهم هو لبنت بنتها، وحصة الذكرين أربعة أسهم تقسم على ولديهما للاختلاف، وهما ابن وبنت على ثلاثة، وأربعة لا تنقسم على ثلاثة، فتضرب ثلاثة في خمسة، تكون خمسة عشر، كان للبنت في القسمة الاولى سهم، فلها الآن ثلاثة، وكان لكل واحد من الابنين سهمان، فيكون ستة. فيجمع بينهما، فيكون اثني عشر، يقسم بين ولديهما للذكر مثل حظ الاثنيين. فإذا لبنت بنت البنت ثلاثة من خمسة عشر، وللاخرى أربعة من خمسة عشر، وللابن الثمانية الباقية.(5/48)
فصل ومن الاصناف، بنات الإخوة، وبنو الاخوة للأم، وأولاد الاخوات، فالمنزلون ينزلون كل واحد منزلة أبيه، أو أمه، ويرفعونهم عند التسفل بطنا بطنا، فمن سبق إلى وارث قدموه، فان استووا في الانتهاء إلى الوارث، قسم المال بين الاصول، فما أصاب كل واحد، قسم بين فروعه. وقال أهل القرابة: إن اختلفوا في الدرجة، قدم منهم الاقرب إلى الميت من أي جهة كان، حتى تقدم بنت الاخت للاب أو للام على بنت ابن الاخ من الابوين. وإن لم يختلفوا في الدرجة، فالاقرب إلى الوارث أولى من أي جهة كان، حتى تقدم بنت ابن الاخ من الاب على بنت ابن الاخت من الابوين. فان استووا فيه أيضا، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما: يقدم من كان من الابوين، ثم من كان من الاب، ثم من كان من الام، رعاية لقوة القرابة، ولا ينظر إلى الاصول ومن يسقط منهم عند الاجتماع ومن لا يسقط. وعند محمد: يقدم من كان من الابوين على من كان من الاب، ولا يقدم على من كان من جهة الام، اعتبارا بالاصول. فرع أولاد الاخوة والاخوات من الام، يسوى بينهم في القسمة عند الجمهور من المنزلين وأهل القرابة. قال الامام: وقياس المنزلين تفضيل الذكر، لانهم يقدرون أولاد الوارث كأنهم يرثون منه. وأما أولاد الاخوة والاخوات من الابوين ومن الاب، فيفضل ذكرهم عند المنزلين. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان. أظهرهما وبها قال أبو يوسف: أن الجواب كذلك. والثانية وبها قال محمد: إنه يقسم المال بين الاصول أولا، ويؤخذ عددهم من الفروع، فما يصيب كل واحد منهم يجعل لفروعه كما سبق في أولاد البنات. فرع في أمثلته بنت أخت، وابنا أخت أخرى، وهما من الابوين، أو من الاب، عند المنزلين: نصف المال للبنت، ونصفه للابنين. وقال أهل القرابة: المال بينهم على خمسة. ثلاث بنات إخوة متفرقين. قال المنزلون ومحمد: السدس لبنت الاخ من الام، والباقي لبنت الاخ من الابوين، اعتبارا بالآباء. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: المال كله لبنت الاخ من الابوين. ثلاث بني أخوات متفرقات. قال المنزلون ومحمد: المال بينهم على(5/49)
خمسة، كما يكون بين أمهاتهم بالفرض والرد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: المال كله لابن الاخت من الابوين. ولو كان بدلهم ثلاث بنات أخوات متفرقات، كان جواب الفريقين كذلك. ولو اجتمع البنون الثلاثة والبنات الثلاث. قال المنزلون: المال بين أمهاتهم على خمسة بالفرض والرد، فنصيب الاخت من الابوين لو لديها أثلاثا، ونصيب الاخت من الاب كذلك، ونصيب الثالثة لو لديها بالسوية. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: الكل لولدي الاخت من الابوين. وقال محمد: يجعل كأن في المسألة ست أخوات، اعتبارا بعدد الفروع، فيكون للاخت من الام الثلث بتقديرها أختين، وللاخت من الابوين الثلثان بتقديرها أختين، فحصة كل واحدة لو لديها، هذه بالتفضيل، وتلك بالسوية. قال الامام: قد نظر محمد هنا إلى الاصول الوارثين، وفي أولاد البنات لم ينظر إلى الوارثين، وإنما نظر إلى بطون الاختلاف من ذوي الارحام كما سبق. ابن أخت من الابوين، وبنت أخ، كذلك عند المنزلين ومحمد: الثلثان لبنت الاخ، والثلث لابن الاخت. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما بالعكس.
فصل ومن الاصناف، الاجداد الساقطون، والجدات الساقطات، فالمنزلون ينزلون كل واحد منهم منزلة ولده بطنا بطنا، ويقدمون منهم من انتهى إلى الوارث أولا. فان استويا في الانتهاء، قسم المال بين الورثة الذين انتهوا إليهم، وقسمت حصة كل وارث بين المدلين به. وقال أهل القرابة: إن اختلفت درجاتهم، فالمال للاقرب من أي جهة كان، حتى يقدم أو الام على أبي أم الاب. وأم أبي الام على أبي أبي أبي الام، فان استووا في الدرجة، لم يقدم هنا بالسبق إلى الوارث على المشهور من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. ومن أصحابه من قدم به، فان لم يقدم به، أو قدم واستووا في السبق إليه، نظر، إن كان الكل من جهة أبي الميت، فرواية الجوزجاني وهي الاظهر: أنه يجعل ثلثا المال لمن هو من جهة أبي الاب،(5/50)
وثلثه لمن هو من جهة أم الاب. ورواية عيسى بن أبان: كل المال لمن هو من أبيه، ويسقط به من هو من جهة الام. وإن كان الكل من جهة أم الميت، اطردت الروايتان في أنه يسقط من هو من جهة أمها، أم يجعل المال بين من هو من جهة أبيها ومن هو من جهة أمها أثلاثا ؟ وإن كان بعضهم من جهة أب الميت، وبعضهم من جهة أمه، قسم المال بين الجهتين أثلاثا، وجعل كل قسم كأنه كل التركة، وأهل كل جهة كأنهم كل الورثة، فتجئ فيهم الروايتان. ثم قسمة الثلثين على من هو من جهة الاب للذكر مثل حظ الانثيين، وقسمة الثلث على من هو من جهة الام كمثل ذلك، قاله البغوي في التهذيب. فرع في أمثلته أم أبي الام، وأبو أم الال. عند المنزلين: المال لابي أم أم الام، لانه أسبق إلى الوارث، وعلى رواية الجوزجاني: الثلثان لام أبي الام، والثلث لابي أم الام، وعلى رواية عيسى: الكل لام أبي الام. أب أم أب، وأبو أبي أم. عند المنزلين: المال للاول، وعلى رواية عيسى: للثاني، وعلى رواية الجوزجاني: الثلثان للثاني، والثلث للاول. أب أبي أم، وأبو أم أب، قال المنزلون: المال للثاني، وكذلك الجواب عند من رجح بالسبق إلى الوارث من أهل القرابة. وأما الظاهر عندهم، فالثلثان للثاني والثلث للاول. أبو أم أم، وأبو أم أب. عند المنزلين: المال بينهما نصفان، كما يكون بين أم الام وأم الاب فرضا وردا. وعند أهل القرابة: الثلث للاول، والثلثان للثاني. أبو أبي أم، وأم أبي أم، وأبو أم أم. عند المنزلين: المال للثالث، وعلى رواية عيسى: للاولين. وعلى رواية الجوزجاني: الثلثان بين الاولين للذكر مثل حظ الانثيين، والثلث للثالث.(5/51)
أبو أبي أم أب، وأم أبي أم الاب، وأبو أبي أبي أم، وأم أبي أبي الام، قال المنزلون: المال للاولين. وقال أهل القرابة: الاولان من جهة الاب، والآخران من جهة الام، فيجعل المال أثلاثا بين الجهتين، ثم على رواية الجوزجاني: الثلثان بين الاولين أثلاثا، والثلث بين الآخرين كذلك، وعلى رواية عيسى: الثلثان للاول من الاولين، والثلث للاول من الآخرين
فصل ومن الاصناف، الخالات والاخوال، والعمات والاعمام من الام، نزل المنزلون الاخوال والخالات منزل الام، وقسموا المال بينهم إذا انفردوا على حسب ما يأخذون من تركة الام لو كانت هي الميتة، واختلفوا في العمات والاعمام للام، فالاصح: أنهم كالاب. والثاني: أنهم كالعم، واختلف هؤلاء، فقيل: العمات من الجهات بمنزلة العم للابوين. وقيل: كل عمة بمنزلة العم الذي هو أخوها، ثم من جعل العمات كالاب أو كالعم من الابوين مع افتراقهن، قال: إذا انفردن، قسم المال بينهن على حسب استحقاقهن لو كان الاب هو الميت، ومن نزلهن منزلة الاعمام المفترقين، قدم العمة من الابوين، ثم العمة من الاب، ثم العمة من الام. وإذا اجتمعت العمات والخالات والاخوال، فالثلثان للعمات، والثلث للاخوال والخالات، ويعتبر في كل واحد من النصيبين ما اعتبر في جميع المال لو انفرد أحد الصنفين، وأما أهل القرابة، فقالوا: إذا انفردت الخالات، فان كن من جهة واحدة، قسم المال بينهن بالسوية. وإن اختلفت الجهة، فالخالة من الابوين مقدمة، ثم الخالة من الاب. والاخوال المنفردون، كالخالات. وإذا اجتمع الاخوال والخالات، فان كانوا من جهة، قسم المال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين وإن كانوا من جهة الام. وإن اختلفت الجهات، فمن اختص بقرابة الابوين أولى ثم من اختص بقرابة الاب. والعمات المنفردات كالخالات. وإذا اجتمع العمات من الام، والاعمام من الاب، فالمال بينهم للذكر الثلث، مثل حظ الانثيين وإذا اجتمعت العمات والخالات فللعمات الثلثان، وللخالات سواء اتفقت جهة العمات والخالات، أو اختلفت على المشهور عندهم. وعند أبي يوسف: أنه إذا اختلفت الجهة، فالمال لاقوى الصنفين جهة. ثم إذا قسم المال أثلاثا، اعتبر في كل واحد من النصيبين ما يعتبر في جميع المال عند انفراد الصنف المصروف إليهم.(5/52)
فرع في أمثلته ثلاث خالات متفرقات. عند المنزلين: المال بينهن على خمسة، كما لو ورثن من الام. وعند أهل القرابة: هو للخالة من الابوين، وبمثله قالوا في ثلاثة أخوال متفرقين. وعند المنزلين: للخال من الام السدس، والباقي للخال من الابوين. ولو اجتمع الاخوال المتفرقون، والخالات المتفرقات، قال أهل القرابة: المال كله للخال والخالة من الابوين للذكر مثل حظ الانثيين. وقال المنزلون: ثلثا المال لهما كذلك، وثلثه للخال والخالة للام كذلك. قال الامام: وتفضيل الخال من الام على الخالة من الاب مشكل مخالف للتسوية بين الذكور والاناث من أولاد الاخ للام. ثلاثة أخوال متفرقون، وثلاث عمات متفرقات. عند المنزلين: ثلث المال بين الخال للابوين والخال للام على ستة، واحد للثاني، والباقي للاول: وقسمة الثلثين تخرج على الخلاف في تنزيل العمات. إن جعلن كالاعمام، فالثلثان للعمة من الابوين. وإن نزلن منزلة الاب، فالثلثان بينهن على خمسة، كما يرثن من الاب. وقال أهل القرابة: الثلثان للعمة من الابوين، والثلث للخال من الابوين. فرع أولاد الاخوال والخالات والعمات والاعمام للام عند المنزلين كآبائهم وأمهاتهم عند الانفراد والاجتماع، ومن تسفل منهم رفع بطنا بطنا. فان سبق بعضهم إلى وارث، قدم. وإن استووا فيه، قسم المال بين الذين يدلي بهم هؤلاء على حسب استحقاقهم من الميت فما أصاب كل واحد منهم قسم بين المدلين به على حسب استحقاقهم منه لو كان هو الميت. وقال أهل القرابة: الاقرب يسقط الابعد بكل حال. فان استووا في الدرجة، نظر، إن انفرد أولاد الاخوال والخالات، بأن اختلفت الجهة، قدم الذين هم من الابوين، ثم الذين هم من الاب، ثم يأخذ الذين هم من الام، وإن لم يختلف، ورثوا جميعا. ثم النظر عند أبي يوسف إلى أبدانهم. وعند محمد: إلى آبائهم وأجدادهم كما سبق في أولاد الاخوات وبنات الاخوة. وأولاد العمات عند الانفراد كأولاد الخالات والاخوال، فان اجتمع(5/53)
الصنفان، فثلثا المال لاولاد العمات، وثلثه لاولاد الاخوال والخالات على ما ذكرنا في آبائهم، ويعتبر في كل واحد من النصيبين ما يعتبر في جميع المال. وإذا اجتمع مع هؤلاء جنات الاعمام من الابوين، أو من الاب، ولم تختلف الدرجة، فبنات الاعمام أولى، لسبقهن إلى الوارث. فرع أخوال الام وخالاتها عند المنزلين بمنزلة الجدة أم الام، وأعمامها وعماتها بمنزلة الجد أبي الام. وأخوال الاب وخالاته بمنزلة الجدة أم الاب، وعماته عند من تنزل عمة الميت منزلة أبيه بمنزلة الجد أبي الاب. وعند من نزل عمة الميت منزلة عمة بمنزلة عم الاب فيقسم المال بينهم. وما أصاب كل واحد منهم، يجعل للمدلين به على حسب استحقاقهم لو كان هو الميت، وعلى القياس: يجعلون كل خال وخالة بمنزلة الجدة التي هي أختهما، وكعم وعمة بمنزلة الجد الذي هو أخوهما. وأما أهل القرابة، فيعتبرون في أخوال الميتة وخالاتها ما اعتبروه في أخوال الميت وخالاته، وكذلك في عماتها إذا انفردن. وإن اجتمع أعمامها وعماتها، فالمال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين على المشهور عندهم. وفي رواية: إن كانوا من الابوين أو من الاب، قدم الاعمام. ولو اجتمع أعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها، فالثلث للاخوال والخالات، والثلثان للاعمام والعمات، وخؤولة الاب وعمومته، كخؤولة الام وعمومتها عند الانفراد والاجتماع. ولو اجتمع القرابتان، فلقرابة الا ب الثلثان، ولقرابة الام الثلث، ثم يقسم كل نصيب بينهم، كما يقسم جميع المال لو انفردوا، فثلثا الثلثين لعمات الاب، وثلثه لخالاته وأخواله، وكذلك الثلث. وسواء كان قرابة الاب من جنس قرابة الام، أم لم يكن، حتى لو ترك عم أمه وخالة أبيه، كان الثلثان للخالة، والثلث للعم. ولو ترك ثلاث عمات متفرقات، وثلاث خالات متفرقات لابيه، ومثلهن لامه، فعلى الصحيح من قول أهل القرابة: ثلثا الثلثين لعمة الاب من الابوين، وثلثها لخالة الاب من الابوين، وثلث الثلث لعمة الام من الابوين، وثلثه لخالة الام من الابوين، ويسقط البواقي. وعند المنزلين: نصف سدس المال بين خالات الاب، ومثله بين خالات الام، لنزولهن منزلة الجدتين، والباقي لعمات الاب دون عمات الام، لان(5/54)
عمات الاب كأب الاب، وعمات الام كأبي الام. هذا تمام الطرف الاول.
الطرف الثاني : في ترتيب الاصناف. قال المنزلون: كل واحد من ذوي الارحام، ينزل منزلة الوارث الذي يدلي به، ثم ينظر في الورثة لو قدر اجتماعهم، فان كانوا يرثون، يرث المدلون بهم، وإن حجب بعضهم بعضا، جرى الحكم كذلك في ذوي الارحام. وقال أهل القرابة: ذوو الارحام وإن كثروا يرجعون إلى أربعة أنواع. المنتمون إلى الميت، وهم أولاد البنات وأولاد بنات الابن، والمنتمي إليهم الميت، وهم الاجداد والجدات الساقطون، والمنتمون إلى أبوي الميت، وهم أولاد الاخوات وبنات الاخوة، والمنتمون إلى أجداده وجداته، وهم العمومة والخؤولة. ومذهبهم: الظاهر تقديم النوع الاول، ثم الثاني، ثم الثالث، فما دام يوجد أحد من فروع الميت وإن سفل، فلا شئ لاصوله من ذوي الارحام وإن قربوا، وعلى هذا القياس. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه رواية بتقديم النوع الثاني على الاول. وقدم أبو يوسف ومحمد النوع الثالث على الثاني، واتفقوا على أن من كان من العمومة والخؤولة وأولادهم ومن ولد جد أو جدة أقرب إلى الميت، فهو أولى بالميراث وإن بعد ممن هو من ولد جد أو جدة أبعد منه. وإذا اجتمع الاجداد والجدات من ذوي الارحام مع الخالات والاخوال والعمات، فعند أبي حنيفة رضي الله عنه: تقدم الجدودة. وعند صاحبيه: إن كانت العمومة أو الخؤولة من ولد جد أو جدة، تساوى الجد والجدة الموجودين، أو أبعد، فالاجداد والجدات أولى. وإن كانا من أصل أقرب منهما، فهم أولى. وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه: تقديم الخال على ذوي الارحام. وفي الباقين مذهبه مذهب أهل التنزيل في كل فصل.
فصل قد يجتمع في الشخص من ذوي الارحام قرابتان بالرحم، كبنت بنت بنت هي بنت ابن بنت، وكبنت أخت الاب هي بنت أخ الام، وكبنت خالة هي بنت عمة، فالمنزلون ينزلون وجوه القرابة. فان سبق بعض الوجوه إلى وارث، قدم به، وإلا قدروا الوجوه أشخاصا ورثوا بها على ما يقتضيه الحال. وأما أهل القرابة: فمحمد يورثه بجهتي القرابة. وقال أبو يوسف: إن كان ذلك في أولاد البنات، جعلت الوجوه كوجه ولم يورث بها. وإن كان في أولاد الاخوة والاخوات، ورث(5/55)
بأقوى الجهتين. وإن كان في أولاد العمومة والخؤولة، ورث بالقرابتين، لانهما مختلفتان، وهذا أظهر عندهم. وعلى هذا، لو خلف بنت أخ لام هي بنت أخت لاب، وبنت أخت أخرى، أو بنت أخ أخرى، ورثت بأقوى القرابتين، وهي كونها بنت أخت لاب. ولو خلف بنت خال هي بنت عمة، وبنت عمة أخرى، فالثلث لبنت الخال، والثلثان بينهما بالسوية. ولو كان معها بنت خال، فالثلثان للاولى لانها بنت عمة، والثلث بينهما بالسوية. فصل إذا كان مع ذوي الارحام زوج أو زوجة، قال أهل القرابة: يخرج نصيبه، ويقسم الباقي على ذوي الارحام كما يقسم الجميع لو انفردوا، وللمنزلين مذهبان. أصحهما: كذلك. والثاني: أن الباقي يقسم بينهم على نسبة سهام الذين يدلي بهم ذوو الارحام من الورثة مع الزوج أو الزوجة، ويعرف القائلون بالاول: بأصحاب اعتبار ما بقي، والقائلون بالثاني: أصحاب اعتبار الاصل. مثاله: زوجة، بنت بنت، وبنت أخت من الابوين. عند أهل القرابة: للزوجة الربع، والباقي لبنت البنت. وأصحاب القول الاول من المنزلين، جعلوا لها الربع، والباقي بين بنت البنت وبنت الاخت بالسوية. ومن قال بالثاني قال: إذا نزلناهما، فكأن في المسألة زوجة وبنتا وأختا، ولو كان كذلك، لكانت المسألة من ثمانية، نصيب الزوجة منها واحد، يبقى سبعة يخرج منها تمام نصيب الزوجة، يبقى ستة تقسم بينهما أسباعا. ولو خلفت زوجا وبنت بنت، وخالة، وبنت عم. عند أهل القرابة: للزوج النصف، والباقي لبنت البنت، وعلى القول الاول للمنزلين: للزوج النصف، ولبنت البنت نصف الباقي، وللخالة سدس الباقي، ولبنت العم الباقي. وعلى القول الثاني: إذا نزلنا، حصل مع الزوج بنت وأم وعم، وحينئذ يكون من اثني عشر، يخرج نصيب الزوج، يبقى تسعة، ثم يخرج تمام النصف للزوج، يبقى ستة يقسمها على التسعة وبالله التوفيق.
الباب التاسع : في حساب الفرائض فيه مقصودان. أحدهما: تصحيح المسائل. والثاني: قسمة التركات.(5/56)
المقصود الاول : التصحيح، وفيه فصول.
الفصل الاول : في مقدماته، وهن أربع. إحداها: الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وقد سبق بيان مستحقيها. فالنصف فرض خمسة: الزوج، والبنت، وبنت الابن، والاخت للابوين، والاخت للاب. والربع فرض الزوج، والزوجة أو الزوجات. والثمن فرض الزوجة والزوجات. والثلثان فرض أربعة وهن الاناث التي لواحدتهن النصف. والثلث فرض ثلاثة: الام وأولادها، والجد. والسدس فرض سبعة: الام، والجدة، والاب، والجد، وبنت الابن، مع بنت الصلب، والاخت للاب مع الاخت للابوين، وواحد أولاد الام. (المقدمة) الثانية: كل عددين، فهما متماثلان، أو متداخلان، أو متوافقان، أو متباينان. فالمتماثلان، كثلاثة وثلاثة. والمتداخلان، كثلاثة وستة، أو تسعة. فالثلاثة داخلة في الستة والتسعة. والمتوافقان، كأربعة وستة، لكل واحد منهما نصف صحيح، وستة وتسعة لهما ثلث صحيح، وثمانية واثني عشر لهما ربع صحيح ولاحد وعشرين وخمسة وثلاثين سبع صحيح، ولاثنين وعشرين وثلاثة وثلاثين جزء من أحد عشر.(5/57)
والمتباينان، كثلاثة وأربعة. وطريق معرفة المداخلة، أن تسقط الاقل من الاكثر مرتين فصاعدا، أو زد على الاقل مثله مرة فصاعدا. فان فني الاكثر بالاقل، أو تساويا بزيادة الامثال، فمتداخلان، وإلا، فلا. وطريق الموافقة والمباينة، أن تسقط الاقل من الاكثر ما أمكن، فما بقي، فأسقطه من الاقل، فان بقي منه شئ، فأسقطه مما بقي من الاكثر، ولا يزال يفعل ذلك حتى يفنى العدد المنقوص منه آخرا، فان فني بواحد، فمتباينان. وإن فني بعدد، فمتوافقان بالجزء المأخوذ من ذلك العدد. وإن فني باثنين، فبالنصف، أو بثلاثة، فبالثلث، أو بعشرة، فبالعشرة، أو بأحد عشر، فبأجزاء أحد عشر. وعلى هذا القياس. مثاله: أحد وعشرون، وتسعة وأربعون، تسقط الاقل من الاكثر مرتين، يبقى سبعة، تسقطها من الاقل ثلاث مرات، يفنى بها، فهما متوافقان بالاسباع. المقدمة الثالثة: في أصول المسائل، أصلها العدد الذي يخرج منه سهامها. ومسائل الفرائض نوعان. أحدهما: أن يكون كل الورثة عصبات، بأن كانوا ذكورا، أو نسوة أعتقن عبدا بينهن بالسوية، فالقسمة بينهم بالسوية. وإن كانت العصبة ذكورا وإناثا، قدرنا كل ذكر اثنين، وأعطينا كل ذكر سهمين، وكل أنثى سهما، فعدد الرؤوس في هذا النوع هو أصل المسألة.(5/58)
النوع الثاني: المسائل التي ورثتها أصحاب فروض أو بعضهم ذو فرض. فالاصول في هذا النوع سبعة عند المتقدمين، ومن المتأخرين من يقول: تسعة. فالسبعة المتفق عليها: اثنان، وثلاثة، وأربعة، وستة، وثمانية، واثنا عشر، وأربعة وعشرون، فكل مسألة فيها نصف وما بقي. كزوج وأخ، أو نصفان، كزوج وأخت، فهي من اثنين وما فيها ثلثان وما بقى، كبنتين وعم، أو ثلث وما بقى، كأم وأخ: أو ثلثان وثلث، كأختين لاب وولدي أم، فمن ثلاثة، وما فيها ربع وما بقي، كزوج وابن، أو ربع ونصف وما بقي كزوج وبنت وأخ، فمن أربعة. وما فيها سدس وما بقي، كأم وابن، أو سدس ونصف وما بقي، كأم وبنت أخ، أو سدس وثلث ما بقي، كأم وولد أو وعم، أو نصف وثلثان، كزوج وأختين، أو نصف وثلث وما بقي، كزوج وأم وأخ، فمن ستة. وما فيها ثمن وما بقي، كزوجة وابن، أو ثمن ونصف وما بقي، كزوجة وبنت وأخ، فمن ثمانية. وما فيها ربع وثلثان وما بقي، كزوج وابنتين وأخ، أو ربع وثلث وما بقي، كزوجة وأم وأخ، فمن ستة، أو ربع وسدس وما بقي، كزوج وأم وابن، فمن اثني عشر. وما فيها ثمن وثلثان وما بقي، كزوجة وبنتين وأخ، أو ثمن وسدس وما بقي، كزوجة وأم وابن، فمن أربعة وعشرين. قلت: ومن هذا الاخير، ثمن وسدسان وما بقي، كزوجة وأبوين وابن. والله أعلم. وأما الاصلان المزيدان، فثمانية عشر، وستة وثلاثون في مسائل الجد والاخوة حيث يكون الثلث خيرا له. فالاول: في كل مسألة فيها سدس وثلث ما بقي وما يبقى، كجدوأم وإخوة.(5/59)
والثاني: في كل مسألة فيها ربع وسدس وثلث ما بقي وما يبقى، كزوجة وأم وجد وإخوة، ومن لم يقل بالزيادة يصحح المسألتين بالضرب. فالاولى: من ستة، للام سهم، يبقى خمسة، يضرب مخرج الثلث في الستة، يبلغ ثمانية عشر. والثانية: من اثني عشر، يخرج بالفرضين خمسة، ثم يضرب مخرج الثلث في اثني عشر، تبلغ ستة وثلاثين، واستصوب الامام والمتولي صنيع المتأخرين، لان ثلث ما يبقى والحالة هذه، مضموم إلى السدس والربع، فلتكن الفريضة من مخرجها. واحتج المتولي بأنهم اتفقوا في زوج وأبوين أنها من ستة، ولولا جعلها من ئلنصف وثلث الباقي، لكانت من اثنين، للزوج سهم، يبقى سهم، فيضرب مخرج الثلث في اثنين، تبلغ ستة. واعلم أنه قد يتفق في صور الجد نصف وثلث ما بقي، كبنت وجدوا إخوة، فيحتمل أن تكون من ستة قطعا، كما ذكر في زوج وأبوين، ويحتمل أن يطرد فيه الخلاف. قلت: الاحتمال أصح، والمختار أن الاصح الجاري على القاعدة: طريق المتأخرين، كما اختاره الامام، لما سبق، ولكونها أخصر. والله أعلم. المقدمة الرابعة: في العول.(5/60)
إذا ضاق المال عن الفروض، فتعال المسألة، أي: ترفع سهامها ليدخل النقص على كل واحد بقدر فرضه، كأصحاب الديون والوصايا إذا ضاق المال. والذي يعول من الاصول التسعة ثلاثة، وهي: ستة، واثنا عشر، وأربعة وعشرون، فتعول الستة أربع مرات إلى سبعة، كزوج، وأختين لاب، وإلى ثمانية، كهؤلاء، وأم، وإلى تسعة، كهؤلاء، وأخ لام، وإلى عشرة، كهؤلاء، وأخ آخر لام، وتسمى هذه الاخيرة: الشريحية، لان شريحا القاضي رحمه الله تعالى، قضى فيها، وتسمى: أم الفروخ، لكثرة سهامها. ومتى عالت إلى أكثر من سبعة، لا يكون الميت إلا امرأة. وأما اثنا عشر، فتعول ثلاث مرات إلى ثلاثة عشر، كزوجة وأم وأختين لاب، وإلى خمسة عشر، كهؤلاء وأخ لام. وإلى سبعة عشر، كهؤلاء وأخ آخر لام. ومن صورها: أم الارامل، وهي ثلاث زوجات وجدتان، وأربع أخوات لام، وثمان لاب، فهن سبع عشرة أنثى أنصباؤهن سواء. ولا يعول هذا الاصل إلى سبع عشرة إلا والميت رجل. وأما أربعة وعشرون، فتعول مرة فقط إلى سبعة وعشرين، كزوجة وبنتين وأبوين، وتسمى: المنبرية، لان عليا رضي الله عنه سئل عنها وهو على المنبر، فقال ارتجالا: صار ثمنها تسعا. ولا يكون هذا العول إلا والميت رجل، بل لا تكون المسألة من أربعة وعشرين إلا وهو رجل.
الفصل الثاني : في طريق التصحيح، وفيه نظران. أحد هما: في تصحيح فريضة الميت الواحد. والثاني: في التصحيح إذا مات وارثان فأكثر قبل القسمة، وتعرف: بالمناسخات. أما النظر الاول: فان كانت الورثة كلهم عصبات، فأمر القسمة سهل، وقد بينا أنه من عدد رؤوسهم. وإن كانوا أصحاب فروض، أو فيهم صاحب فرض،(5/61)
وعرفت المسألة بعولها إن كانت عائلة، فانظر في السهام وأصحابها، فان انقسمت عليهم جميعا، حصل الغرض وحاجة إلى الضرب، كزوج وثلاث بنين، هي من أربعة، لكل واحد سهم. وكزوجة وبنت وثلاثة إخوة، من ثمانية، للزوجة سهم، وللبنت أربعة، ولهم الباقي. وإن لم تنقسم، فاما أن يقع الكسر على صنف، وإما على أكثر. القسم الاول: على صنف، فينظر في سهامهم وعدد رؤوسهم، وإن كانا متباينين، ضربت عدد رؤوسهم في أما المسألة بعولها، إن عالت وإن كانا متوافقين ضربت جزء للوفق من عدد رؤوسهم من أصل المسألة بعولها، ثم الحاصل على التقديرين، تصح منه المسألة. مثال التباين زوج وأخوان، هي من اثنين، له سهم، يبقى سهم لا يصح عليهما، ولا موافقة فيضرب عددهما في أصل المسألة تبلغ أربعة منها تصح. مثال التوافق، أم وأربعة أعمام، هي من ثلاثة، يبقى اثنان يوافق عددهم بالنصف، فتضرب وفق عددهم في المسألة، تبلغ ستة منها تصح. وإذا أمكنت الموافقة بأجزاء، ضربنا أقلها. القسم الثاني: الكسر على أكثر من صنف، فيمكن أن يقع على صنفين أو ثلاثة أو أربعة، ولا تتصور الزيادة، لان الوارثين في الفريضة لا يزيدون على خمسة أصناف كما ذكرنا في أول الكتاب عند اجتماع من يرث من الرجال والنساء، ولا بد من صحة نصيب أحد الاصناف عليه، لان أحد الاصناف الخمسة، الزوج(5/62)
والابوان، والواحد يصح عليه نصيبه قطعا، فلزم الحصر. فإن وقع الكسر على صنفين، نظرنا في سهام كل صنف وعدد رؤوسهم. والاحوال ثلاثة. أحدها: أن لا يكون بين السهام والرؤوس موافقة في واحد من الصنفين، فتترك رؤوس الصنفين بحالها. الثاني: أن تكون موافقة فيهما، فترد رؤوس كل صنف إلى جزء الوفق. الثالث: بأن يكون الوفق في أحد الصنفين، فترد رؤوسه إلى جزء الوفق، وتترك رؤوس الآخر بحالها. ثم الرؤوس - مردودين أو أحدهما أو غير مردودين - إما أن يتماثلا، فتضرب أحدهما في أصل المسألة بعولها، وإما أن يتداخلا، فتضرب أكثرهما في أصل المسألة بعولها، وإما أن يتوافقا، فتضرب جزء الوفق من أحدهما في جميع الآخر، فما بلغ ضربته في أصل المسألة بعولها، وإما أن يتباينا، فتضرب أحدهما في الآخر، فما حصل ضربت في أصل المسألة، فما بلغ صحت منه. ويخرج من هذه الاحوال اثنا عشرة مسألة، لان في كل واحد من الاحوال الثلاثة أربع حالات، والحاصل من ضرب ثلاثة في أربعة، اثنى عشر. وإن وقع الكسر على ثلاثة أصناف أو أربعة، نظرنا أولا في سهام كل صنف وعدد رؤوسهم، فحيث وجدنا الموافقة، رددنا الرؤوس إلى جزء الوفق. وحيث لم نجد، بقيناه بحاله. ثم يجئ في عدد الاصناف الاحوال الاربعة، فكل عددين متماثلين، نقتصر منهما على واحد. وإن تماثل الكل، اكتفينا بواحد وضربناه في أصل المسألة بعولها، وكل عددين متداخلين نقتصر على أكثرهما، وإن تداخلت كلها، اكتفينا بأكثرها وضربناه في أصل المسألة بعولها، وكل متوافقين نضرب وفق أحدهما في الآخر، فما بلغ ضربناه في أصل المسألة. وإن توافق الكل، ففيه طريقان للفرضيين. قال البصريون: نقف أحدهما ونرد ما عداه إلى جزء الوفق، ثم ننظر أجزاء(5/63)
الوفق، فنكتفي عند التماثل بواحد، وعند التداخل بالاكثر، وعند التوافق، نضرب جزء الوفق من البعض في البعض. وعند التباين، نضرب البعض في البعض، ثم نضرب الحاصل في العدد الموقوف، ثم ما حصل في أصل المسألة بعولها. وقال الكوفيون: نقف أحد الاعداد ونقابل بينه وبين آخر، ونضرب وفق أحدهما في جميع الآخر، ثم نقابل الحاصل بالعدد الثالث، ونضرب وفق أحدهما في جميع الآخر، ثم نقابل الحاصل بالعدد الرابع ونضرب وفق أحدهما في جميع الآخر ثم نضرب الحاصل في أصل المسألة بعولها، وتسمى صورة توافق الاعداد: المسائل الموقوفات. وإن كانت الاعداد متباينة، ضربنا عددا منها في آخر، ثم ما حصل في ثالث، ثم ما حصل في الرابع ثم ما حصل في أصل المسألة بعولها. وإن شئت ضربت أحدها في أصل المسألة بعولها، ثم ما يحصل في الثاني، ثم في الثالث، ثم في الرابع. وإذا لم يكن بين السهام وعدد الرؤوس، ولا بين أعداد الرؤوس موافقة، سميت المسألة: صماء، ولا فرق في الاعداد المتوافقة بين عدد وعدد، فتقف أيها شئت، والعدد الذي تصح منه المسألة بعد تمام العمل لا يختلف. فإن حصل اختلاف، فاستدل به على الغلط، وإن وافق أحد الاعداد الثلاثة الآخرين والآخران متباينان، لم يجز ان نقف إلا الذي يوافقهما، ويسمى هذا الموقوف: المقيد. فرع هذا الذي ذكرناه، بيان التصحيح. فإذا فرغت منه وأردت أن تعرف نصيب كل واحد من الصنف، مما حصل من الضرب، فله طرق. أشهرها وأخفها: أن تضرب نصيب كل صنف من أصل المسألة في العدد المضروب في المسألة، وبعرف بعدد المنكسرين، فما بلغ، فهو نصيب ذلك(5/64)
الصنف، فتقسمه على عدد رؤوسهم، فالخارج بالقسمة هو نصيب كل واحد من ذلك الصنف. مثاله: زوجتان، وأربع جدات، وست أخوات لاب، هي من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، ويرجع عدد الجدات بالموافقة إلى اثنين، والاخوات إلى ثلاث، فيحصل اثنان واثنان وثلاثة، تسقط أحد المتماثلين، وتضرب الآخر في ثلاثة، تبلغ ستة، تضربها في أصل المسألة بعولها، تبلغ ثمانية وسبعين، كان للزوجين من أصل المسألة ثلاثة، فتضرب في ستة، تبلغ ثمانية عشر، فهو نصيبهما. وإذا قسم ذلك على رؤوسهما، خرج تسعة، وكان للجدات سهمان، تضربهما في ستة، تبلغ اثني عشر، لكل واحدة ثلاثة، وكان للاخوات ثمانية، تضرب في ستة، تبلغ ثمانية وأربعين، لكل واحدة ثمانية. الطريق الثاني: تقسم سهام كل صنف من أصل المسألة على عدد رؤوسهم، فما خرج من القسمة، يضرب في المضروب في أصل المسألة، فما حصل، فهو نصيب كل واحد من الصنف. ففي المثال المذكور، يقسم نصيب الزوجتين على عدد رؤوسهما، يخرج بالقسمة سهم ونصف، يضرب في الستة المضروبة في المسألة، تبلغ تسعة، وهو نصيب كل زوجة، ويقسم نصيب الجدات عليهن، يخرج نصف سهم، تضربه في الستة، تكون ثلاثة، فهو نصيب كل جدة، وعلى هذا فقس الاخوات. الطريق الثالث: تقسم العدد المضروب في المسألة على عدد رؤوس كل صنف، فما خرج تضربه في نصيب ذلك الصنف، فما بلغ فهو نصيب الواحد من ذلك الصنف، ففي المثال المذكور تقسم الستة على عدد رؤوس الزوجتين، يخرج ثلاثة، تضربها في نصيبهما من أصل المسألة وهو ثلاثة، تبلغ تسعة، وهو نصيب كل زوجة. وعلى هذا القياس. الطريق الرابع: تقابل بين نصيب كل صنف وعدد رؤوسهم، وتضبط النسبة(5/65)
بينهما وتأخذ بتلك النسبة في العدد المضروب في المسألة، فهو نصيب كل واحد من ذلك الصنف، ففي المثال المذكور، نصيب الزوجتين ثلاثة وهما اثنان. والثلاثة مثل الاثنين ومثل نصفهما، فتأخذ مثل العدد المضروب في المسألة، ومثل نصفه، يكون تسعة، وهو نصيب كل زوجة، ونصيب الاخوات ثمانية، وعددهن ستة، والثمانية مثل الستة، ومثل ثلثها، فلكل أخت مثل العدد المضروب. ومثل ثلثه تكون ثمانية، ونصيب الجدات اثنان مثل نصف عددهن، فلكل جدة نصف العدد المضروب. الطريق الخامس: ويعرف به نصيب كل واحد من الورثة قبل الضرب والتصحيح. إن كان الكسر على صنف، فانظر إن لم يوافق سهامهم عددهم، فنصيب كل واحد منهم بعدد سهام جميع الصنف من أصل المسألة، ونصيب كل واحد من الاصناف الذين لا كسر عليهم، بعدد رؤوس المنكسر عليهم إن كان لكل واحد منهم سهم واحد. وإن كان أكثر من سهم، ضرب ما لكل واحد منهم من أصل المسألة في عدد المنكسر عليهم، فما حصل، فهو نصيب كل واحد منهم. وإن وافق سهامهم عددهم، فنصيب كل واحد من المنكسر عليهم بعدد وفق سهامهم من أصل المسألة، ونصيب كل واحد ممن لم ينكسر عليهم وفق عدد الرؤوس المنكسر عليهم على ما ذكرناه. مثاله: زوج، وأخوان لام، وخمس أخوات لاب، تعول من ستة إلى تسعة، وتصح من خمسة وأربعين، ونصيب كل أخت بعدد سهام جميعهن من أصل المسألة، وهو أربعة، ونصيب كل أخ خمسة بعدد رؤوس الاخوات المنكسر عليهن، ونصيب الزوج خمسة عشر، لانه كان له أكثر من سهم، وهو ثلاثة، فتضرب في عدد رؤوسهن. ولو كان عدد الاخوات عشرة، وافق سهامهن عددهن بالنصف، وترد عددهن إلى النصف، ويكون نصيب كل أخت بعدد نصف ما لجميعهن من أصل المسألة، وهو اثنان، ويكون لكل أخ خمسة نصف عدد رؤوس الاخوات، وللزوج ثلاثة مضروبة في نصف عدد رؤوسهن. أما إذا كان الكسر على صنفين، ولم يكن بين الرؤوس والسهام موافقة، أو كانت، ورددت الرؤوس إلى(5/66)
وفقها، فانظر في عدد الرؤوس، ولهما احوال. أحدها: أن يكونا متباينين، فالحاصل من ضرب كل صنف في سهام الصنف الآخر من أصل المسألة هو نصيب كل واحد من الصنف المضروب في سهامهم، والحاصل من ضرب عدد أحد الصنفين في الآخر، إذا ضربته في نصيب الواحد من الذين لا كسر عليهم، كان المبلغ نصيب ذلك الواحد من ذلك الصنف. مثاله: خمس بنات، وأربع زوجات، وأربع جدات، وأخ لاب، هي من أربعة وعشرين، وتصح من أربعمائة وثمانين، والكسر في البنات والزوجات، ولا موافقة. فإذا ضربت رؤوس البنات في سهام الزوجات، حصل خمسة عشر، فهو نصيب كل زوجة. وإذا ضربت الزوجات في سهام البنات، حصل أربعة وستون، فهو نصيب كل بنت. وإذا ضربت البنات في الزوجات، حصل عشرون. فإذا ضربته في نصيب كل واحد من الجدات، كان عشرين، لان لكل واحدة واحدا، فهو نصيب كل جدة. وكذلك نصيب الاخ. ولو كان بدل الاربع جدتان، ضربت العشرين في اثنين، فالحاصل نصيب كل جدة. الحال الثاني: إذا كان عدد الرؤوس متوافقا، سواء تداخلا، أم لا، فإذا ضربت وفق أحد العددين في سهام الآخر، كان الحاصل نصيب كل واحد من الصنف المضروب في سهامهم. وإذا ضربت وفق أحدهما في جميع الآخر ولا تداخل بينهما، وضربت ما حصل في نصيب الواحد ممن لا كسر عليهم، كان الحاصل نصيب الواحد من ذلك الصنف، وإن تداخلا، ضربت أكثرهما في النصيب، فما حصل، فهو نصيب الواحد منهم. مثاله: زوج، وتسعة إخوة لام، وخمسة عشر أختا لاب، هي من ستة، وتعول إلى تسعة، وتصح من أربعمائة وخمسة، تضرب وفق عدد الاخوة في سهام الاخوات، تبلغ اثني عشر، فهو نصيب كل أخت، ووفق عدد الاخوات في نصيب الاخوة، تبلغ عشرة، فهو نصيب كل أخ، ووفق أحدهما في جميع الآخر، تبلغ خمسة وأربعين، تضربه في سهام الزوج، وهي ثلاثة، تبلغ مائة وخمسة وثلاثين،(5/67)
فهو نصيب الزوج. فان كان عدد الاخوة اثني عشر، وعدد الاخوات ست عشرة، فالسهام توافق الاعداد، فترجع الاخوة إلى ستة، والاخوات إلى أربعة، للموافقة بالربع، وبين العددين موافقة بالنصف، فتصح المسألة من مائة وثمانية. وإذا ضربت وفق الراجع من عدد الاخوة، وهو ثلاثة، في وفق سهام الاخوات، وهو واحد، كان الحاصل ثلاثة، وهو نصيب كل أخت. وإذا ضربت وفق الراجع من عدد الاخوات، وهو اثنان، في وفق سهام الاخوة، وهو واحد، كان الحاصل اثنين، وهو نصيب كل أخ. وإذا ضربت وفق أحد الراجعين في جميع الآخر، حصل اثنا عشر، فإذا ضربته في سهام الزوج من الاصل، حصل ستة وثلاثون، وهو نصيب الزوج. الحال الثالث: إذا كان عدد الرؤوس متماثلا، فنصيب كل واحد من كل صنف بعدد ما كان لجميعهم من أصل المسألة، ونصيب كل واحد ممن لا كسر عليهم، هو الحاصل من ضرب ما كان له في عدد أحد الصنفين المنكسر عليهم. مثاله: خمس بنات، وخمس جدات، وأخ، هي من ستة، وتصح من ثلاثين، ونصيب كل بنت مثل ما كان لهن، وهو أربعة، ونصيب كل جدة مثل ما كان لهن، وهو واحد، ونصيب الاخ هو الحاصل من ضرب ما كان له في خمسة، وهو خمسة. أما إذا كان الكسر على ثلاثة أصناف، فانظر، إن كانت أعداد الرؤوس متباينة، فاعزل الصنف الذين تريد أن تعرف نصيبهم، واضرب عدد أحد الآخرين في الآخر، فما بلغ فاضربه في نصيب الصنف الذين عزلتهم، فما بلغ فهو نصيب كل واحد منهم، واضرب عدد رؤوس الاصناف الثلاثة بعضه في بعض، فما بلغ فاضربه في نصيب من انقسم عليهم نصيبهم من أصل المسألة، فما بلغ فهو نصيب كل واحد منهم. مثاله: أربع زوجات، وثلاث جدات، وخمس بنات، وأخت لاب، هي من أربعة وعشرين، وتصح من ألف وأربعمائة وأربعين. فإذا أردت أن تعرف نصيب الزوجات، فاعزلهن واضرب البنات في الجدات، تبلغ خمسة عشر، اضربه في نصيب الزوجات في الاصل، تبلغ خمسة وأربعين، فهو نصيب كل زوجة. وعلى هذا القياس حكم البنات. واضرب لمعرفة نصيب الاخت عدد الاصناف المنكسر(5/68)
عليهم بعضهم في بعض، تبلغ ستين، اضربه في نصيبها من أصل المسألة، وهو واحد، تبلغ ستين، فهو نصيبها. وإن كانت الاعداد متوافقة أو متماثلة، فالعمل على قياس ما ذكرنا في الكسرين. وصورة التماثل هينة، وأما التوافق، فكتسع بنات، وست جدات، وخمسة عشر أخا، هي من ستة، وتصح من خمسمائة وأربعين. فإذا أردت معرفة نصيب البنات، فاعزلهن واضرب وفق أحد الصنفين من الجدات والاخوة في وفق الآخر، تبلغ عشرة، تضرب في نصيب البنات، تبلغ أربعين، فهذا نصيب كل بنت. وكذا تعزل الجدات وتضرب وفق أحد الصنفين الآخرين في وفق الثاني، تبلغ خمسة عشر، تضربها في نصيب الجدات، تبلغ خمسة عشر، فهو نصيب كل جدة. وتعزل الاخوة، وتضرب وفق أحد الآخرين في وفق الثاني، تبلغ ستة، تضربها في نصيبهم، تبلغ ستة، فهو نصيب كل أخ. النظر الثاني: في المناسخات. فإذا مات عن جماعة، ثم مات أحدهم قبل قسمة التركة، فللمسألة حالان. أحدهما: أن تنحصر ورثة الميت الثاني في الباقين، ويكون إرثهم من الثاني مثل الارث من الاول، فتجعل الميت الثاني كأن لم يكن، وتقسم التركة على الباقين، ويتصور ذلك إذا كان الارث عنهما بالعصوبة، كمن مات عن إخوة وأخوات من الاب، ثم مات أحدهم عن الباقين، أو عن بنين وبنات، ثم مات أحدهم عن إخوته وأخواته. وفيما إذا كان الارث عنهما بالفرض في بعض الصور، كمن ماتت عن زوج، وأم، وأخوات مختلفات الآباء، ثم نكح الزوج إحداهن، فماتت عن الباقين. وفيما إذا ورث بعضهم بالفرض وبعضهم بالعصوبة، كمن مات عن أم، وإخوة لام، ومعتق، ثم مات أحد الاخوة عن الباقين. ولا فرق بين أن يرث كل الباقين من الثاني أو بعضهم، كمن مات عن زوجة وبنين، وليست أمهم، ثم مات أحد البنين عن الباقين. الحال الثاني: أن لا يكون كذلك، بأن لا ينحصروا، إما لان الوارث غيرهم، وإما لان غيرهم يشركهم، وإما لاختلاف مقادير استحقاقهم، فنصحح مسألتي الاول والثاني جميعا، وننظر في نصيب الثاني من مسأل الاول. فان انقسم نصيبه على مسألته، فذاك، وإلا، فنقابل نصيبه بمسألته المصححة، إن كان بينهما موافقة، ضرب أقل جزء الوفق من مسألة الثاني في جميع مسألة الاول. وإن لم(5/69)
يكن، ضرب جميع مسألته في جميع مسألة الاول، فما بلغ، صحت منه المسألتان. وإذا أردت معرفة نصيب كل واحد من الورثة مما حصل من الضرب، فقل: كل من له شئ من المسألة الاولى، يأخذه مضروبا فيما ضربته في المسألة الاولى، وهو جميع المسألة الثانية أو وفقها. ومن له شئ من الثانية، يأخذه مضروبا في نصيب الميت الثاني من المسألة الاولى، أو في وفق النصيب إن كان بين مسألته ونصيبه وفق. مثاله: زوج، وأختان لاب، ماتت إحداهما عن الاخرى وعن بنت، المسألة الاولى من سبعة، والثانية من اثنين، ونصيب الميت الثاني من الاول اثنان. زوجة، وثلاث بنين، وبنت، ثم ماتت البنت عن أم وثلاثة إخوة، وهم الباقون من ورثة الاول، فالاولى من ثمانية، والثانية تصح من ثمانية عشر، ونصيب الميتة من الاول سهم لا يوافق، فتضرب الثانية في الاولى، تبلغ مائة وأربعة وأربعين، للزوجة سهم مضروب في ثمانية عشر، ولكل ابن سهمان في ثمانية عشر، تبلغ ستة وثلاثين، وللام من الثانية ثلاثة مضروبة في سهم الميتة وهو واحد، ولكل أخ خمسة، فحصل للام من المسألتين أحد وعشرون، ولكل أخ أحد وأربعون. جدتان، وثلاث أخوات متفرقات، ثم ماتت الاخت للام عن أخت لام، وهي الاخت للابوين في المسألة الاولى. وعن أختين لابوين، وعن أم أم وهي إحدى الجدتين، فالاولى من اثني عشر، والثانية من ستة، ونصيب الميتة من الاولى سهمان، ونصيبها ومسألتها يتوافقان بالنصف، فتضرب نصف مسألتها في الاولى، تبلغ ستة وثلاثين، كان للجدتين سهمان، تضربهما في ثلاثة، تبلغ ستة، وكذا الاخت للاب، وكان للاخت من الابوين ستة، تضربها في ثلاثة، تبلغ ثمانية عشر، ولها من الثانية سهم مضروب في وفق نصيب الميتة وهو سهم، وللاختين للابوين أربعة مضروبة في سهم، وللجدة سهم في سهم، فحصل للاخت الوارثة في المسألتين تسعة عشر، وللجدة الوارثة فيهما أربع. فرع لو مات ثالث قبل قسمة التركة، فلك طريقان. أحدهما: تصحح المسائل الثلاث، وتأخذ نصيب الميت الثالث من الاولين، وتقابله بما صحت منه(5/70)
مسألته، فان انقسم نصيبه على مسألته، فذاك، وإلا، فان توافقا، ضربت وفق مسألته فيما صحت منه الاوليان. وإن تباينا، ضربت مسألته فيه. وعلى هذا القياس تعمل إذا مات رابع وخامس قبل القسمة. ثم من كان له شئ من المسألتين الاوليين، أو من احداهما، أخذه مضروبا في الثالثة، أو في وفقها، ومن كان له شئ من الثالثة، أخذه مضروبا في نصيب الثالث من المسألتين الاولين، أو في وفقه. الطريق الثاني: أن تصحح كل مسألة برأسها، وتقابل نصيب كل ميت بمسألته، فمن انقسم نصيبه على مسألته، فلا اعتداد بمسألته. ومن لم ينقسم، حفظت مسألته بتمامها إن لم توافق نصيبه، أو وفقها إن توافقا، وفعلت بها ما تفعل باعداد الاصناف المنكسر عليهم سهامهم من المسألة الواحدة، فما حصل ضربته في المسألة الاولى، فما حصل قسمته، فتضرب ما لكل واحد من الاولى في العدد المضروب فيها، فما خرج فهو له إن كان حيا، ولورثته إن كان ميتا. مثاله: زوجة، وبنت، وثلاثة بني ابن، ثم ماتت البنت عن زوج، وأخ لام، وأم وهي الزوجة، ثم مات أحد ابني الابن عن زوجة، وبنت، وابن ابن، وجدة، وهي الزوجة في المسألة الاولى، ثم مات آخر عن هذه الجدة، وعن خمسة بنين وخمس بنات، فالاولى، من ثمانية، والثانية، من ستة، والثالثة، من أربعة وعشرين، والرابعة، من ثمانية عشر، ونصيب البنت يوافق مسألتها بالنصف، فترد مسألتها إلى ثلاثة، فإذا معنا ثلاثة، وثمانية عشر، وأربعة وعشرون، والثلاثة داخلة في أربعة وعشرين، فتقتصر عليها، وهي توافق ثمانية عشر بالسدس، فتضرب سدس أحدهما في جميع الآخر، تبلغ اثنين وسبعين، تضربها في مسألة الميت الاول وهي ثمانية، تبلغ خمسمائة وستة وسبعين، ومنها تصح المسائل، فمن له شئ من الاولى، يضرب نصيبه في اثنين وسبعين ويقسم على ورثته. زوجة وثلاثة إخوة، ثم مات أحدهم عن ابنين، والثاني عن ابنين وبنت، والثالث عن ابن وبنت، فالاولى من أربعة، والثانية، من اثنين، والثالثة، من خمسة، والرابعة، من ثلاثة، والسهام لا توافق المسائل فتضرب المسائل الثلاث بعضها في بعض، تبلغ ثلاثين، تضربه في المسألة الاولى، تبلغ مائة وعشرين،(5/71)
للزوجة منها سهم في ثلاثين، ولكل أخ كذلك. فما للاول لابنيه، لكل واحد خمسة عشر. وما للثاني لابنيه وبنته، لكل ابن اثنا عشر، وللبنت ستة. وما للثالث بين ابنه وبنته، له عشرون، ولها عشرة. فرع هذا الذي ذكرنا، تصحيح المناسخات. قال الفرضيون: وقد يمكن اختصار الحساب بعد الفراغ من عمل التصحيح، وذلك إذا كانت أنصباء الورثة كلها متماثلة، فترد المسألة إلى عدد رؤوسهم، وكذلك إذا كانت متوافقة بجزء صحيح، فيؤخذ ذلك الوفق من نصيب كل واحد، يقسم المال بينهم على ذلك العدد، كزوجة، وبنت، وثلاثة بنين منها، ثم مات أحد البنين عن الباقين، فالمسألة الاولى، من ثمانية، والثانية، من ستة، ونصيب الميت الثاني سهمان يوافقان مسألته بالنصف، فتضرب نصف مسألته في الاولى، تبلغ أربعة وعشرين، للزوجة ثلاثة، وللبنت ثلاثة، ولكل ابن ستة، ومن نصيب الثاني، للام سهم، وللاخت سهم، ولكل أخ سهمان، فمجموع ما للام أربعة، وللاخت كذلك، ولكل أخ ثمانية، فالانصباء متوافقة بالربع، فتأخذ ربع كل نصيب، يبلغ المجموع ستة، فتقسم المال عليها اختصارا. أما إذا لم يكن بين الانصباء موافقة، أو وافق بعضها فقط، فلا يمكن الاختصار.
المقصود الثاني : قسمة التركات، وله أصل وفروع متشعبة. أما الاصل، فإن كانت التركة دراهم أو دنانير أو غيرهما مما ينقسم بالاجزاء، كالمكيلات والموزونات، قسمت عينها بين الورثة. وإن كان مما لا ينقسم بالاجزاء، كالعبيد والجواري والدواب، قوم ثم قسم بينهم بالقيمة، فما أصاب كل واحد من القيمة فله بقدرها من المقوم. وطريقه: أن ينظر في التركة، أهي عدد صحيح من الدراهم وغيرها، أم عدد وكسر ؟ فان كان الاول، قابلت التركة بالمسألة بعولها إن عالت. فان تماثلا، فلا إشكال، وإلا، فان تباينا، فاضرب نصيب كل وارث من أصل المسألة بعولها، أو مما صحت منه المسألة في عدد التركة، فما بلغ فاقسمه على أصل المسألة بعولها، أو على ما صحت منه المسألة، فما خرج من القسمة، فهو نصيب ذلك الوارث.(5/72)
وإن شئت قسمت التركة أولا على أصل المسألة بعولها، أو على ما صحت منه، فما خرج بالقسمة، فاضربه في سهم كل وارث، فما بلغ فهو نصيبه. وإن كانا متوافقين، فان عملت كما عملت في المتباينين، حصل الغرض، وإن أردت الاختصار، فخذ وفقهما، واضرب سهم كل وارث في وفق التركة، فما بلغ فاقسمه على وفق المسألة، فما خرج فهو نصيبه من التركة. وإن شئت فاقسم وفق التركة على وفق المسألة، فما خرج فاضربه في سهم كل وارث، فما بلغ فهو نصيبه. وإذا فرغت من العمل، امتحنت صحته، بأن تجمع ما أصاب كل واحد من الورثة، وتنظر هل المجموع مثل التركة، أم لا ؟ الامثلة: زوج، وأم، وأختان لاب، وأخوان لام، والتركة ستون دينارا، فالمسألة من ستة، وتعول إلى عشرة. فان شئت ضربت سهام الزوج في ستين، تبلغ مائة وثمانين، تقسمها على المسألة، يخرج ثمانية عشر، فهو نصيب الزوج، وتضرب نصيب الام في ستين، يكون ستين، تقسمه على المسألة، يخرج ستة، فهو نصيبها. وتضرب نصيب الاخوين فيها يكون مائة وعشرين، تقسمه على المسألة يخرج اثنا عشر، فهو نصيبهما وتضرب نصيب الاختين، يكون مائتين وأربعين، تقسمها على المسألة، يخرج أربعة وعشرون، فهو نصيبهما. وإن شئت قسمت التركة على المسألة، يخرج ستة، تضربها في سهام كل وارث، يخرج ما ذكرنا. زوج، وأم، وأخت لاب، والتركة أربعة دراهم. المسألة تعول إلى ثمانية، تضرب نصيب الزوج في التركة، يكون اثني عشر، تقسمه على سهام المسألة، يخرج للسهم درهم ونصف، وكذلك نصيب الاخت. وتضرب نصيب الام وهو سهمان في أربعة، تبلغ ثمانية تقسم على المسألة، يخرج واحد، فهو نصيبها. ثلاث زوجات، وأربعة إخوة لام، وخمس أخوات لاب، والتركة خمسة وسبعون دينارا. المسألة تعول إلى خمسة عشر، وتوافق التركة بأجزاء خمسة عشر، فتردهما إلى جزء الوفق، فتعود التركة إلى خمسة، والمسألة إلى واحد، ثم إن شئت ضربت سهام الزوجات، وهي ثلاثة، في وفق التركة، وهو خمسة، تبلغ خمسة(5/73)
عشر، فهو للزوجات. وضربت سهام الاخوة، وهي أربعة، في الخمسة، تبلغ عشرين، فهو نصيبهم، وسهام الاخوات، وهي ثمانية، في الخمسة، تبلغ أربعين، فهو نصيبهن. وإن شئت قسمت وفق التركة، وهو خمسة، على وفق المسألة وهو واحد، يخرج خمسة، تضرب في سهام كل وارث، يكون على ما ذكرنا. فرع فإن كانت التركة عددا وكسرا، نظر، إن كان الكسر واحدا، ضربت مخرج ذلك الكسر في الصحاح، فما خرج فرد عليه الكسر، واقسم المجموع على الورثة كما تقسم الصحاح، ثم اجعل ما خرج بالقسمة بعدد فخرج ذلك الكسر واحدا صحيحا، وأضف إليه الباقي. مثاله: زوج وأختان، والتركة عشرة دراهم ونصف، تضرب مخرج النصف، وهو إثنان، في العشرة، تبلغ عشرين، وتزيد على النصف واحدا، فكأن التركة أحد وعشرون صحاحا، تعمل بها عملك بالصحاح، فيخرج للزوج تسعة أنصاف هي أربعة دراهم ونصف، ولكل أخت ستة أنصاف وهي ثلاثة دراهم. ولو كانت المسألة بحالها، والتركة ثمانية وثلاثة أرباع، ضربت مخرج الربع، وهو أربعة، في الثمانية، تبلغ اثنين وثلاثين، تزيد عليه الكسر، وهو ثلاثة، تبلغ خمسة وثلاثين، تقسم كقسمة الصحاح، يخرج للزوج خمسة عشر، وهو ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع درهم، ولكل أخت عشرة، وهي درهمان ونصف. وإن كان مع الصحاح كسران، كربع وسدس، أخذت مخرج مجموعهما، وهو إثنا عشر وضربته في الصحاح، وتممت العمل كما ذكرنا.(5/74)
فصل وأما الفروع المتشعبة، فتتنوع أنواعا كثيرة، نذكر منها مسائل إن شاء الله تعالى. مسألة: أخذ بعض الورثة قدرا معلوما من التركة، وأردت معرفة جملتها، فأقم سهام المسألة بعولها إن عالت، ثم إن شئت ضربت المأخوذ في سهام المسألة، فما بلغ قسمته على سهام الآخذ، فما خرج بالقسمة فهو جملة التركة. وإن شئت قسمت المأخوذ على سهام الآخذ، وضربت الخارج من القسمة في سهام المسألة، فما بلغ فهو التركة. مثاله: زوج، وأم، وأختان لاب، وأخذ الزوج بحقه ثلاثين دينارا، إن شئت ضربت الثلاثين في سهام المسألة وهي ثمانية، يكون مائتين وأربعين، تقسم على سهام الزوج، وهي ثلاثة، يخرج ثمانون، فهو التركة. وإن شئت قسمت الثلاثين على سهامه، يخرج عشرة، تضربها في سهام المسألة تبلغ ثمانين. ولك طريق آخر، وهو أن تنظر فيما بين سهام الآخذ وسهام الباقين من النسبة، وتزيد على المأخوذ مثل نسبة سهامهم من سهامه، فهو جملة التركة. ففي المثال المذكور، سهام باقي الورثة مثل سهام الزوج، ومثل ثلثيها، فتزيد على الثلاثين مثلها ومثل ثلثيها، تبلغ ثمانين. مسألة: زوجة، وأم، وثلاث أخوات متفرقات، والتركة ثلاثون درهما وثوب، أخذت الزوجة الثوب بنصيبها برضى الورثة، كم قيمة الثوب وجملة التركة ؟ فالطريق فيها وفي أخواتها، أن تقيم أصل المسألة بعولها إن عالت، وهذه المسألة تعول إلى خمسة عشر. ثم لك طريقان. أحدهما: أن تضرب سهام الزوجة من المسألة في عدد الدراهم فتبلغ تسعين، فتقسم التسعين على ما بقي من سهام المسألة بعد سهام الزوجة، وهي اثنا عشر، يخرج سبعة ونصف، فهو قيمة الثوب. وإن شئت قسمت الدراهم على باقي سهام الورثة، وهي اثنا عشر، يخرج درهمان ونصف، تضربه في سهام الزوجة، تبلغ سبعة ونصفا. وإن شئت نسبت سهامها إلى سهام الباقين، فإذا هي ربع سهام الباقين، فتأخذ ربع الثلاثين، وهو سبعة ونصف، فهذه ثلاثة أوجه. الطريق الثاني: طريق الجبر، تقول: إذا أخذت بخمس التركة ثوبا، فجملة(5/75)