. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
هذا، وإذا كانت المرأة موسرة لا تخدم نفسها أو كان الزوج ذا جاه وقدر بحيث لا يصح لامرأته أن تخدم نفسها، فإنه يفرض عليه خادم لها إذا كان ذا سعة يستطيع ذلك، وإلا فإنها تلزم بخدمة المنزل من طبخ وعجن وكنس وغير ذلك، وعليه أن يساعدها بنفسه في أوقات فراغه من عمله، ولا تلزم بخدمة غير منزلية كخياطة وتطريز ونحوها، وإذا كان للزوج خادم وكان لها خادم، وأبت إلا استخدامه قضي لها بخادمها، إلا إذا وجدت ريبة ثابتة بشهود.
أما المسكن فإنه يشترط فيه أن يكون مشتملاً على المنافع اللازمة، ثم إن الزوجة إذا كانت وضيعة لا قدر لها، أي ذات صداق قليل لها الامتناع عن السكنى مع أقاربه ومثلها الشريفة ذات الصداق الكثير إذا اشترط عليها السكنى معهم عند الزواج، فإنها تعامل به بشرطين: الأول أن يكون للزوجة محل خاص بها بحيث لا يمكن أحد من أقاربه الاطلاع على عورتها التي تريد إخفاءها عنهم. الثاني: أن لا يثبت ضررها بإساءتهم إياها، ولو لم يطلعوا على عوراتها، فإذا تخلف أحد هذين الشرطين، فإن لكل من الوضيعة والشريفة التي اشترط عليها أن تسكن معهم الامتناع من السكنى، أما الشريفة ذات المهر الكثير التي لم يشترط عليها السكنى مع أهله، فإن لها أن تمتنع عن السكنى معهم بدون شروط حتى ولو رضيت أن تسكن معهم في أول أمرها، ولو لم يثبت تضررها بمشاجرة ونحوها.
وإذا كان مع أحد الزوجين ولد صغير فإن الآخر أن يمتنع من إسكانه معه، إلا إذا دخل بعد علمه بالصغير، فإذا علم به قيل البناء ثم بنى، فلا حق له في الامتناع، سواء كان للولد حاضن آخر أو لا، أما إذا لم يعلم به قبل الدخول فإن له الامتناع من اسكانه معه بشرط أن يكون له حاضن آخر، وإلا فلا.
هذا، وقد تقدم في صحيفة 159 أن المالكية يقولون: إن الزوجة ملزمة بأن تجهز نفسها من المهر المقبوض جهازاً يناسب مثلها لمثل زوجها، وعلى هذا إذا قبضت المرأة صداقها بالشروط المفصلة هناك، فإنها ملزمة بأثاث المنزل وحاجاته وللزوج الحق في الانتفاع بهذه الأشياء من فرش وغطاء ولباس وآنية، فيستعمل من ذلك ما يجوز له أن يستعمله، وإذا امتنعت قضي له بذلك وليس لها بيع جهازها إلا بعد مضي أربع سنين وهو بين زوجها يستمتع به فإذا خلق الجهاز فإن الزوج لا يلزمه ببدله، إلا الغطاء والفرش، فإنه يلزمه لأنه ضروري، فإذا جدد شيئاً من جهازها وطلقها فإنها لا يقضى لها بأخذه.
هذا إذا قبضت الصداق، أما إذا لم تقبضه وتجهزت من مالها فله الانتفاع به حتى يبلى ولكن ليس له منعها من بيعه، نعم له الحجر عليها في التبرع بما زاد على الثلث.
الشافعية - قالوا: يفرض على الزوج المعسر لزوجته في فجر كل يوم مد من الطعام والمد عند الشافعية بالوزن مائة وأحد وسبعون درهماً وثلاثة أسباع درهم، أما منزلة المد من القدح المصري، فهو نصف قدح إلا عشرة دراهم وخمسة أسداس درهم، لأن القدح المصري مدان إلا ثمن، فالمد نصف قدح إلا قليلاً، ومن أراد الاحتياط فليقل: نصف قدح.. والقدح ثمن كيلة مصرية.(4/490)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فزوجة المصري لها نصف قدح من غالب قوت أهل بلدها وحد العسر هو من لا مال له أصلاً أو له مال ولكن لا يكفيه لو وزع على عمره الذي يعيش إليه غالباً، فإن وصل إلى السن الذي يعيش فيه أمثاله غالباً، فإنه يكون معسراً إذا لم يكفه سنة، مثلاً يوزع ما يملكه عليه هو ومن تلزمه نفقاته كل يوم، فإن زاد عنده مد ونصف لم يكن معسراً بل متوسطاً، فيقضى لها بمد ونصف، وكذا إذا زاد عنده بعد التكاليف مدان، فإنه يكون موسراً.
والحاصل أن المعسر عندهم من لا يقدر إلا على مد واحد بعد توزيع ماله عليه وعلى من تجب عليه نفقته العمر الغالب، إن كان عنده مال، فإن لم يكن عنده مال فكذلك، فالمد أقل نفقة تجب على الزوج المعسر، فإن زاد الفاضل عنده على مد ولكنه لم يبلغ مدين فإنه يكون متوسطاً فيقضى عليه بمد ونصف، فإن بلغت الزيادة مدين فإنه يكون موسراً، ويقضى عليه بمدين، أي قدح مصري إلا ثمن تقريباً.
الشافعية - يعتبرون تقدير النفقة بهذا الاعتبار، ولا يعتبرونها بكفاية الزوجة، لأن الزوجة قد تكون مريضة أو لا تستطيع أن تأكل لأمر ما، فلها هذا القدر وهي تتصرف فيه كما تحب، إلا إذا اتفقت على أن تأكل معه، فإن نفقتها تسقط في هذه الحالة، ولا بد أن يدفع لها الحب، فلا يجزءه أن يدفع الدقيق أو القيمة أو الخبز، ولا بد أن يكون الحب سليماً من السوس ونحوه، فإذا بذل غير الحب فإنها لا تلزم بقبوله، فإذا تجمد لها نفقة ماضية، فإن لها أن تأخذ من الزوج ومن غيره، ممن ينيبه عنه عوضاً نقوداً وثياباً ونحو ذلك، أما النفقة المستقبلة فليس لها أن تأخذ عوضاً نقوداً لا من الزوج ولا من غيره أما النفقة الحاضرة، وهي نفقة اليوم، فإنه يجوز لها أن تأخذ عوضها نقوداً إلا من الزوج خاصة، بحيث لو فعله فيها غيره فإنه لا يصح، إلا إذا كان العوض رباً فإنه لا يجوز على أي حال، كخبز عن بر، أو دقيق عن حب.
ويجب عليه الطحن والعجن والخبز، ولو اعتادته بنفسها فإنه لا يلزمها، ثم يفرض عليه بعد ذلك اللحم المناسب لحاله، والأدم المعتاد من خضر وخبز وسمن وعسل ونحوها، ثم إن كان اللحم يكفي فذاك، وإلا وجب عليه أن يكمل لها الأدم، وتجب الفاكهة لمن اعتادتها زيادة على الأدم ومثل الفاكهة ما اعتيد فعله في أيام الموسم من كعك ونقل وسمك وحلوى في عاشوراء ونحو ذلك، وكذا يجب عليه ثمن القهوة والدخان إن اعتادتهما الزوجة، وكذا ما يلزمها وهي وحمى، كما إذا وحمت على ملوحة ونحوه ويجب أن يملكها إياه بحيث لو فاتها ترجع عليه به، ويجب عليه، الماء اللازم للشرب والنظافة والاغتسال منه، أما الاغتسال بسبب غيره، كالحيض والاحتلام فلا يجب عليه، وتجب عليه الآلات اللازمة للطبخ والشرب بحسب ما يناسب حال كل زمان، وكذا يجب عليه آلة تنظيف، كمشط ودهن وصابون ونحو ذلك، وعليه أجرة الحمام المعتاد لأمثالها في كل شهر أو في كل جمعة حسب العادة، أما الخضاب والزينة" التولت" فإنها لا تجب عليه، لأن ذلك تابع له، فما يراه زينة لها فإنها تلزم به، ولا يلزمه دواء مرض ولا أجرة طبيب وحاجم وفاصد ونحو ذلك.(4/491)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
هذا ما يتعلق بالطعام والشراب وما يتبع ذلك، أما الكسوة فتقدر لها منها كفايتها في كل فصل من فصول السنة، وهي تختلف باختلاف طولها وقصرها، واختلاف حال الزوج من اعسار ويسر، واختلاف عادة الناس، واختلاف الحر والبرد وهكذا، ويتبع الكسوة فرش المسكن بما هو معتاد من حصر وبساط وغطاء، وكل ذلك يتبع القاضي في تقديره عادة المحل، حتى ولو كانت ممن لا تفرش دارها لا يفرش لها، وتعطى الكسوة كل ستة أشهر مرة، فإن تلفت، ولو بلا تقصير، فلا حق لها في غيرها.
ويجب لها مسكن يليق بحالها لا بحاله هو، ولو كان معدماً، سواء كان مملوكاً أو مكترى، ويجب عليه أن يأتيها بخادم ولو كان معسراً، بشرط أن يكون مثلها ممن يخدم وإن لم يخدم بالفعل، وأن تكون حرة، وإلا فلا يجب عليه الخادم إلا إذا كانت مريضة أو هرمة، فإنه يجب لها خادم وإن لم تكن ممن يخدم عادة، ويشترط أن يكون الخادم ممن يحل نظره للزوجة من أمة أو صبي أو ممسوح، وعليه إطعام الخادم مما يليق به، فله مد وثلث على الموسر. ومد واحد على متوسط ومعسر.
الحنابلة - قالوا: أما الطعام والشراب وما يتعلق بهما فإنه يجب عليه أن يدفع لها الخبز والأدم الكافي لمثلها، فلا تلزم بالحبوب ولا بالبدل، فإذا تراضيا على شيء فإنه يصح، ويجب عليه عند طلوع شمس كل يوم، وإن اتفقا على تعجيله أو تأجيله مدة خاصة، فإنه يصح، وإذا أكلت الزوجة معه عادة سقطت نفقتها.
وإن رضيت بالحبوب لزمته أجرة طحنها وخبزها، وعليه أدم الخبز المناسب لها وجرت عادة أمثاله بأكله من أرز ولبن وغيرهما، وإن سئمت أدماً خاصاً عليه أن ينقلها إلى غيره، وعليه أدوات الطبخ والوقود. ويفرض لها اللحم في كل أسبوع مرتين. في كل مرة رطل عراقي، وهو 129 درهماً تقريباً، فهو أقل من الرطل المصري. لأن الرطل المصري 144 درهماً، وعليه تبييض النحاس عند الحاجة. ويجب عليه أن يجلب لها الماء اللازم لنظافتها وغسلها ووضوئها وشربها، وما تحتاج إليه من إنارة ودهن أو سمن أو زيت للطبخ حسب عادة قومها. وإذا طلبت مكان الخبز حباً أو نقوداً فإنه لا يلزمه ذلك، وكذا إذا أعطاها بدله فلا يلزمها أخذه إلا إذا تراضيا على أخذه، ومع هذا فلكل منهما الرجوع بعد التراضي.
وعليه مؤنة نظافتها من صابون ودهن لرأسها ومشط، ولا تجب عليه أدوات الزينة، كالحناء والخضاب وشراء الحلي" التواليت" ونحو ذلك، وكذا لا يجب عليه ثمن الدواء وأجرة الطبيب، وإذا أراد منها الزينة وجب عليه أن يحضر لها ما تتزين به، وكذا إذا كره منها شيئاً كرائحة ونحوها فإنه يجب عليه أن يحضر لها الدواء الذي يزيلها.
وإن كانت الزوجة ممن لا يخدم مثلها نفسه فإنه يجب عليه أن يحضر لها خادماً يخدمها بكراء أو شراء، بشرط أن تكون حرة، فلا خادم للأمة، ولا يصح أن يكون الخادم ممن يحرم نظره إليها، فلا(4/492)
مبحث هل تفرض النفقة بحسب حال الزوج أو الزوجة أو حالهما؟
-في هذا المبحث تفصيل المذاهب (1) .
__________
يحل له أن يأتيها بخادم بالغ شاب، بل ينبغي أن يكون الخادم صغيراً أو ممسوحاً أو امرأة، وإذا قال لها: أنا أخدمك بنفسي فإنها لا تلزم بقبوله، وللزوج تبديل الخادم بغيره بدون اعتراض ولو كانت خادمة ألفتها الزوجة، ويلزمه نفقة الخادم وكسوته بحسب ما يليق بالخادم.
وأما الكسوة فإنها تفرض لها بحسب حالها أيضاً، فإن كان مثلها يلبس حريراً فرض لها الحرير، وإلا فالقز والقطن حسب حالها، وتقدر حسبما اعتاده الناس، ويلاحظ فصل الشتاء فيزداد فيه ما يقيها البرد، وينبع الكسوة فرش المنزل من حصر وبساط ولحاف ومخدة ومرتبة ونحو ذلك فإنه يلزمه ويفرض عليه، وينظر في كل ذلك لما جرت به عادة أمثالها، ولا يلزمه أن يأتيها بالثياب التي تتزين بها عادة، كبذلة العيد والفرح ونحو ذلك، وعليه ما تغطي به رأسها أو تلبسه في رجلها، أما الإزار التي تخرج به "الحبرة" أو "البالطو" فإنه لا يلزمه. وأما المسكن فإنه يفرض لها حسب حالها، بحيث يكون مشتملاً على الأدوات المطلوبة من آنية وفرش على الوجه المتقدم) .
(1) (الحنفية - قالوا: إذا كان الزوجان موسرين أو معسرين فلا خلاف في أمرهما، فتقدر في حال اليسر بنفقة اليسار، وفي حالة العسر بنفقة الإعسار، أما إذا كان أحدهما موسراً والآخر معسراً، ففيه رأيان مصححان:
الرأي الأول: تقدر النفقة بحسب حالهما معاً، بمعنى أنها تجب لها نفقة الوسط، فإذا كان الزوج موسراً وهي فقيرة، وجبت لها نفقة الوسط بحيث تكون زائدة عن حالها ناقصة عن حاله، وهذا لا إشكال فيه، أما إذا كانت هي غنية وهو فقير، فقد يقال: إن النفقة الزائدة عن حاله يعجز عن أدائها، ويجاب: بأنه تجب عليه نفقة الوسط، ولكن لا يكلف إلا بدفع نفقة الفقير، والباقي يبقى ديناً في ذمته.
الرأي الثاني: اعتبار حال الزوج فقط، فإن كان غنياً وهي فقيرة، فرضت عليه نفقة الموسرين وإذا كان فقيراً وهي غنية، فرضت عليه نفقة المعسرين وكلا القولين مصحح، ولا يخفى أن الثاني هو المنضبط في باب الأحكام، وحيث كان صحيحاً فينبغي الأخذ به، وإن كانت المتون على الأول.
المالكية - قالوا: ينظر في تقدير النفقة إلى حال الزوجين معاً، سواء كانا غنيين، أو فقيرين، أو أحدهما غنياً والآخر فقيراً، فإذا تساويا غنى وفقراً فالأمر ظاهر، وإن اختلفا بأن كان أحدهما غنياً والآخر فقيراً فاللازم حالة وسطى بين الحالتين، فإذا كان فقيراً وهي غنية، قدر لها نفقة أكثر مما لو(4/493)
مبحث هل تقدر النفقة بالحبوب والقماش أو بقيمتهما نقداً؟
-في تقدير النفقة بالنقود، أو غيرها تفصيل المذاهب (1) .
__________
كانت فقيرة تحت فقير، وهذا هو المعتمد، أما اعتبار حال الزوج وحدها فلم يقبل بها المالكية فالمالكية متفقون على الرأي الأول عند الحنفية.
الشافعية - قالوا: قد عرفت أن النفقة ثلاثة أنواع: إطعام، وكسوة، ومسكن، فأما الإطعام والكسوة فيقدران بحسب حال الزوج إعساراً ويساراً، فلا نظر فيهما لحال الزوجة، وقد عرفت حق الزوج الموسر والمعسر، وأما المسكن فيفرض لها بحسب حالها هي لا بحسب حاله هو، وذلك لأن الإطعام والكسوة يعتبر فيهما التمليك، بمعنى أن الزوج يملكها إياهما، وهو لا يملك إلا ما يقدر عليه، أما المسكن فالمعتبر فيه المتعة، إذ الزوج لا يملك زوجته المسكن وهو ملزم بأن يمتعها حسب حالها.
الحنابلة - قالوا: أن المعتبر حال الزوجين معاً، يسراً وعسراً، عند التنازع لا عند العقد، فإن كان أحدهما غنياً والآخر فقيراً، فرضت نفقة الوسط، وإن كانا موسرين، فرض لها نفقة الموسرين، وهكذا.
وبهذا تعلم أن المالكية، والحنابلة والحنفية في أحد الرأيين متفقون على أن المعتبر هو حال الزوجين، ولكن عرفت أن للحنفية رأياً آخر صحيحاً، وهو اعتبار حال الزوج، أما الشافعية فيوافقون على هذا الرأي إلا في المسكن) .
(1) (الحنفية - قالوا: ذلك موكول للقاضي، فإنه يجب عليه أن ينظر إلى حال الزوج أو إلى حالهما معاً، على التفصيل المتقدم، ثم ينظر إلى حال الزوجة، فإن كان من مصلحتها أن يفرض لها أصنافاً من حبوب وقماش وآنية ونحو ذلك فعل، وإن كان من مصلحتها النقود فرض لها نقوداً بعد ما ينظر إلى سعر البلد، وينظر إلى ما هما عليه من عادة وعرف، وينظر إلى الأصناف اللازمة لها، ولا يجب في تقدير النفقة نقود معينة، بحيث لا تقل عنها، فإن لكل زمان ما يناسبه من ذلك، ويفرض لها كل يوم، أو كل شهر، أو كل سنة، حسبما يرى المصلحة في الصرف، فإذا كان موظفاً ينقد راتباً شهرياً، فرض لها كل شهر، وإذا كان عاملاً ينقد كل أسبوع فرض لها أسبوعياً، وإذا كان زراعياً يأتيه المحصول سنوياً، فرض لها النفقة عليه سنوياً لتأخذ قوت السنة دفعة واحدة، وهكذا بحسب الحال.
هذا، وإذا اشترط في عقد الزواج أن ينفق عليها تمويناً، وأن يأتي لها في الشتاء بكسوة وفي الصيف بكسوة، فإن هذا الشرط لا يعمل به، ولها بعد ذلك أن تطلب تقدير النفقة لتتقرر وتصير ديناً في ذمته، فلا تسقط بعد ذلك.
المالكية - قالوا: تفرض النفقة أصنافاً من إطعام وكسوة ولوازمها، على الوجه الذي تقدم بيانه، وللزوج أن يعطيها الثمن المناسب لسعر البلد إذا رضيت بذلك، وإلا فلها الحق في الأصناف وتفرض(4/494)
مبحث وجوب شروط النفقة
-يشترط لوجوب النفقة على الزوج شروط مفصلة في المذاهب (1) .
__________
على الزوج بحسب ما يجد، فإذا كان موظفاً له راتب شهري، قدرها شهرياً وإن كان عاملاً ينقد راتباً أسبوعياً أو يومياً، قدرها كذلك، وإن كان زارعاً يملك المحصول سنوياً أو كل نصف سنة مرة، قدرها كذلك وإذا كان عليها دين له وطلبه، فإن له خصمه من النفقة، إذا لم يضر ذلك بها.
الشافعية - قالوا: لا بد من تقدير النفقة أصنافاً، على الوجه المتقدم، وقد عرفت أنها لا تلزم بأخذ ثمنه وليس لها أن تأخذ ثمن النفقة المستقبلة، لأنها لم تجب لا من الزوج ولا من غيره، أما النفقة المتجمدة فلها أن تأخذ عوضها منه أو من غيره، وأما النفقة اليومية فلها أن تأخذ بدلها نقداً أو غيره، إذا لم يكن رباً من الزوج وحده.
الحنابلة - قالوا: لا بد من تقدير النفقة أصنافاً، على الوجه المتقدم، وإذا أراد الزوج أن يعطيها ثمنها نقداً أو عوضاً آخر، فإنه لا يلزمها أخذه، وكذا إذا طلبت منه نقوداً، فإنه لا يلزم بها إلا إذا تراضيا على ذلك، فإنه يصح، ومع ذلك فلكل منهما أن يرجع بعد الرضا، كما تقدم) .
(1) (الحنفية - قالوا: يشترط لوجوب النفقة على الزوج شروط: أحدهما أن يكون العقد صحيحاً، فلو عقد عليها فاسداً أو باطلاً وأنفق عليها، ثم ظهر فساد العقد أو بطلانه فإن له الحق في الرجوع عليها بما أنفقه، وذك لأن النفقة إنما تجب على الرجل في نظير حبس المرأة وقصرها عليه، والمعقود عليها عقداً فاسداً لا حبس له عليها، فإن قلت: إنه إذا وطئها بعقد فاسد فإنها تعتد منه، وتكون - وهي في العدة - محبوسة عليه، فهل تجب لها نفقة العدة في نظير ذلك الحبس؟ الجواب: كلا فإن حبسها في هذه الحالة لم يكن بسبب العقد، وإنما ثبت لتحصين الماء والمحافظة على الولد، فلا تجب لها نفقة على أي حال، ومن ذلك ما إذا غاب عنها زوجها فتزوجت بزوج آخر ودخل بها، ثم حضر زوجها الغائب، فإن نكاحها الثاني يكون فاسداً، ويفرق القاضي بينهما، وتجب عليه العدة بالوطء الفاسد، ولا نفقة لها على الزوج الثاني، وإذا تزوجت برجل، وهي معتدة من غيره، ودخل بها، ثم فرق القاضي بينهما، كان لها نفقة العدة على الزوج الأول.
الشرط الثاني: أن تكون الزوجة مطيقة للوطء منه أو من غيره، ولا يشترط لذلك سن خاص، بل يقدر بحسب حال الزوجة، إذ قد تكون صغيرة بدينة تطيق، وقد تكون كبيرة هزيلة لا تطيق، فإذا كانت صغيرة تطيق الوطء وسلمت نفسها فإن النفقة تجب على الزوج، ولو كان صغيراً لا يعرف الوطء، ثم إن النفقة في هذه الحالة تجب في مال الصغيرة لا في مال الأب، فإن لم يكن للصغير مال، فإن الأب لا يلزم بالإنفاق على زوجته، ولكن يلزم بالاستدانة والإنفاق، ثم عند بلوغ الصغير ويساره يرجع عليه بما أنفق، على أنه لا يصح للأب أن يزوج ابنه الصغير الذي لا يشتهي، إذا كان معروفاً بسوء الاختيار، وقد تقدم في مباحث الولي تحرير هذا. في صحيفة 33، فارجع إليه، ويجب لها النفقة أيضاً إذا كانت(4/495)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تشتهى للمباشرة والتلذذ بها في غير الفرج، ولو لم تطق الجماع في الفرج، كما إذا كانت رتقاء أو قرناء، فإذا لم تطق الوطء ولم تصلح للاستمتاع بها، فإذا كانت تصلح للخدمة والاستئناس بها، وأمسكها في بيته، فإن النفقة تجب لها.
الشرط الثالث: أن تسل نفسها، وإلا كانت ناشزة، فلا تجب لها نفقة.
والناشزة، هي التي تخرج من بيت زوجها بدون إذنه بغير حق، أو تمتنع من تسليم نفسها إليه، فلا تدخل داره، أما إذا لم تطاوعه في الجماع، فإن هذا، وإن كان حراماً عليها، ولكن لا تسقط به نفقتها، لأن الحبس الذي تستحق به النفقة موجود. وإن كانت في منزل مملوك لها ومنعته من الدخول عليها، فإنها تكون ناشزة بذلك، فإذا خرجت بغير إذنه، أو سافرت بغير إذنه، ثم عادت ثانياً، فإن النفقة تعود لها وقولنا: بغير حق خرج به ما إذا خرجت أو منعت نفسها بحق، وذلك فيما إذا لم يقبضها جميع صداقها المقدم. أو خرجت لزيارة أبويها ونحو ذلك، مما هو موضح في مباحث المهر، بصحيفة 143.
الشرط الرابع: أن لا تكون مرتدة، فإذا ارتدت سقطت نفقتها، كما بيناه في مباحث الردة صحيفة 202 وهذا بخلاف ما إذا كانت ذمية تحت مسلم، فإنها تجب لها النفقة، سواء كانت نفقة زوجية أو عدة فإذا تابت المرتدة وأسلمت، وهي في العدة فإن نفقتها لا تعود بخلاف الناشزة، وذلك لأن ردتها ترتب عليها فرقة جاءت من قبلها، فأبطلت نفقتها، ومتى بطلت النفقة بالفرقة فإنها تعود، بخلاف النشوز فإنه أمر عرضي يوقف النفقة ولا يبطلها. فإذا كانت مطلقة وخرجت بدون إذنه وهي في العدة. فإن نفقتها لم تبطل بالنشوز، فإذا عادت إلى الطاعة عادت لها النفقة، وإذا طلق امرأته وارتدت وهي في العدة سقطت نفقة عدتها، ولو عادت وأسلمت فإن نفقتها لا تعود.
الشرط الخامس: أن لا تفعل ما يوجب حرمة المصاهرة فلو طاوعت ابن زوجها، أو أب زوجها، ومكنته من نفسها، أو لمسته بشهوة، فإنها تبين منه ولا نفقة لها عليه، لما علمت بأنها فعلت ما يوجب الفرقة، فكانت فرقة من قبلها مبطلة للنفقة فإن كانت مطلقة وفعلت ذلك في العدة. فإن كانت معتدة عن طلاق رجعي، فإن نفقتها تسقط، أما إذا كانت معتدة عن طلاق بائن، أو عن فسخ بدون طلاق، فإن لها النفقة والسكنى
الشرط السادس: أن لا تكون معتدة عدة وفاة، كما يأتي في نفقة العدة.
الشرط السابع: إذا كانت أمة يشترط فيها أن تكون مبوأة، ومعنى هذا أنه إذا تزوج شخص أمة مملوكة للغير، فإن نفقتها لا تجب على الزوج إلا إذا بوأها السيد بيتاً خاصاً بها وبزوجها بمعنى أنه أعد لها مكاناً خاصاً بها هي وزوجها، ولم يستخدمها فيه، فلو طلقها زوجها فاستولى عليها سيدها، فإن نفقة عدتها تسقط.
والحاصل أنه لا نفقة لإحدى عشرة امرأة:(4/496)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
- (1) الناشزة (2) المرتدة (3) مطاوعة ابنه أو أبيه أو مقبلته بشهوة أو نحو ذلك، مما يوجب حرمة المصاهرة (4) معتدة الوفاة (5) المعقود عليها عقداً فاسداً، والموطوءة بشبهة (6) الصغيرة التي لا تطيق الوطء (7) المسجونة، ولو ظلماً إذا حيل بينه وبينها (8) المريضة إذا لم تزف، فإذا تزوج امرأة ولم يدخل بها، ثم مرضت مرضاً لا تستطيع منه الانتقال إلى دار زوجها على أي حال لانعدام تسليم نفسها في هذه الحالة، أما إذا مرضت في دار زوجها مرضاً شديداً، فإن عليه نفقتها (9) المغصوبة، فلو غصب شخص زوجة الآخر لا تجب على الزوج نفقتها على التحقيق (10) الحاجة فإذا خرجت لحج الفريضة مع محرم فإن لها ذلك، ولو بدون إذنه، لكن لا نفقة لها عليه لعدم احتباسها، إلا إذا خرج معها حاجاً، فإن عليه نفقة الحضر لا السفر، فيجب عليها أن تنفق أجرة الجمال والبواخر وغير ذلك، ويجب عليه إطعامها وكسوتها وما يتعلق بذلك، ولا يحل لها أن تسافر مع غير محرم (11) الأمة التي لم تبوأ مكاناً خاصاً بها هي وزوجها.
وبهذا تعلم أن مدار شروط النفقة على حبس المرأة بمنزل زوجها بالفعل أو بالقوة، فلا يشترطون لوجوب النفقة الدخول، كما لا يشترطون مطالبة الزوج بالدخول. إنما الشرط أن لا تمتنع عن تسليم نفسها عند طلبه ما دامت قبضت جميع مقدم صداقها، وأيضاً لا يشترطون تمكينه من الوطء عند طلبه ما دامت محبوسة في داره، فلا تخرج إلا بإذنه، ولا يشترطون أن لا يكون لها مانع يمنع الوطء كرتق ونحوه، كما إذا كانت عجوزاً غير صالحة للوطء، ومثلها المجنونة إذا سلمت له نفسها ومنعته من الوطء، وكذا لا يشترطون كون الزوج بالغاً.
المالكية - قالوا: تنقسم شروط وجوب النفقة للزوجة على زوجها إلى قسمين: شروط لوجوبها قبل الدخول وشروط لوجوبها بعد الدخول، فيشترط لوجوبها قبل الدخول أربعة شروط:
الأول: أن تدعوه الزوجة أو وليها المجبر إلى الدخول فلم يدخل، فإذا لم تدعه إلى الدخول فلا حق لها في النفقة.
الثاني: أن تكون مطيقة للوطء، فإذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء فإنه لا تجب عيها نفقتها إلا إذا دخل بها، ولا يجب عليه الدخول إذا دعته ولا يجبر عليه، راجع صحيفة 142: وما بعدها. الثالث: أن لا تكون مريضة مرضاً شديداً بحيث أصبحت في حالة النزع أو كان هو مريضاً كذلك، وإلا فلا نفقة لها.
الرابع: أن يكون الزوج بالغاً، فلو كان الزوج صغيراً فإن نفقتها لا تجب عليه ولو كان قادراً على وطئها، فهذه الشروط إنما تشترط لوجوب النفقة على الزوج قبل الدخول، أما بعد الدخول فإن النفقة تجب عليه، سواء كانت الزوجة تطيق الوطء أو لا، وسواء كانت مريضة مرض الموت أو لا وسواء كان بالغاً أو لا، وهذا هو الظاهر، وبعضهم يقول: انها شروط لوجوب النفقة مطلقاً، فلا تجب على الصغير ولو دخل بها ووطئها، وكما لا تجب على الكبير إذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء، ومثل ذلك المريضة التي بلغت حد النزع، فإنه لا نفقة لها في هذه الحالة، ويشترط لوجوبها بعد الدخول أن تمكنه من(4/497)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الوطء، بحيث إذا طلبه منها لا تمتنع، وإلا فلا حق لها في النفقة، وأن تكون سليمة من عيوب النكاح، كالرتق ونحوه، فإذا كانت كذلك فلا حق لها في النفقة، إلا إذا تلذذ بها بغير الوطء وكان عالماً بالعيب، فإن النفقة تجب عليه في هذه الحالة.
الشافعية - قالوا: يشترط لوجوب النفقة على الزوج شروط: أحدها أن تمكنه من نفسها، وذلك بأن تعرض نفسها عليه، كأن تقول: إني مسلمة نفسي إليك. فإن لم يكن حاضراً عندها بعثت إليه تقول: إنني مسلمة نفسي إليك، فاختر وقتاً أجيء فيه إليك أو تجيء إلي أو نحو ذلك، فإن لم يكن حاضراً في البلد أنذرته بواسطة، فإن لم يحضر بعد ذلك كان لها الحق في النفقة.
والحاصل أن عليها أن تخطره بأنها مستعدة لاجتماعها به ودخوله عليها كما يشاء، فإذا لم تخطره بذلك فإنها لا حق لها في النفقة حتى ولو كانت لا تمتنع إذا طلبها، فالشرط في وجوب النفقة أن تخطره بأنها مستعدة لتمكنه من نفسها متى شاء، ويجب أن تمكنه من نفسها في أي وقت يحب، فإذا كان لها عمل بالنهار لا يتمكن منها فيه فإن نفقتها لا تجب عليه، فإذا كانت صغيرة أو مجنونة عرضها لوليها.
ثانيها: أن تكون مطيقة للوطء، فإذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء فإنها لا تستحق النفقة سواء كان زوجها بالغاً يريد الوطء أو صغيراً لا يطأ، وإذا كان صغيراً فإن النفقة لا تجب عليه إلا إذا سلمت الزوجة لوليه، وكذا إذا كان مجنوناً، فإن النفقة لا تجب عليه إلا إذا سلمت زوجته للولي فلو استمتع المجنون بها بدون أن يستلمها وليه فلا نفقة عليه بذلك وبعضهم يقول: إذا كان الزوج صغيراً لا يطأ مثله، وكانت الزوجة صغيرة لا تطيق الوطء فإن نفقتها تجب، وذلك لأن المانع منهما معاً لا من الزوجة وحدها، بخلاف ما إذا كان الزوج كبيراً وهي صغيرة لا تطيق الوطء فإن المانع من جهتها وحدها فلا تستحق. ثالثها: أن لا تكون ناشزة أي خارجة عن طاعة زوجها، وله صور: منها أن تمنعه من الاستمتاع بها من لمس وتقبيل ووطء، ونحو ذلك، فإذا منعته سقطت نفقتها في اليوم الذي منعته فيه وذلك لأن النفقة تجب يوماً فيوماً، فإذا منعته في أول اليوم سقطت نفقتها فيه، فإذا عادت ومكنته فإن نفقتها لا تعود ما لم يستمتع بها بالفعل، على أن نشوز يوم واحد يسقط كسوة الفصل كلها، وذلك لأن الكسوة تقدر لكل فصل بحسب ما يناسب، فإذا كانت في فصل الشتاء ونشزت في يوم من الأيام سقطت كسوتها في هذا الفصل ولو عادت للطاعة ولا تكون ناشزة إذا منعته من الوطء لعذر كما إذا كان ضخم الآلة بحيث لا تطيقه، أو كانت مريضة مرضاً يضره الوطء، ومثل ذلك ما إذا كانت حائضاً أو نفساء، ومنها أن تخرج من المسكن بدون إذنه، فإذا خرجت بدون إذنه فلا تجب عليها نفقتها، إلا إذا خرجت(4/498)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لعذر كخوف من انهدام مسكن أو لعيادة أهلها ونحو ذلك، مما لا يغضب أمثاله عرفاً، ومنها أن تسافر لقضاء حاجة لغير زوجها ولو بإذنه، فإن نفقتها تسقط بذلك أما إذا سافرت لقضاء حاجة له بإذنه فإن نفقتها لا تسقط.
ومثل ذلك ما إذا سافرت معه ولو بدون إذنه، لأنها في هذه الحالة تكون في قبضته، ولكن لا يحل لها أن تخرج معه بدون إذنه، فإن منعها من الخروج فأبت وتغلبت عليه سقط حقها في النفقة وإذا أحرمت بحج أو عمرة وهي موجودة معه في داره فإن نفقتها لا تسقط بمجرد الإحرام، لأن له الحق في تحليلها إن لم يأذن لها، فهي في قبضته ما لم تخرج للسفر فإن خرجت سقطت نفقتها لأنها تكون خارجة لحاجتها.
هذا، وللزوج أن يمنع زوجته من صيام النفل، وقضاء الفرض الموسع، وعليها أن تمتثل فإن أبت فإن نفقتها تسقط.
الحنابلة - قالوا: يشترط لوجوب نفقة الزوجية على الزوج شروط:
أحدها: أن تسلم له نفسها تسليماً تاماً في أي بلدة أو مكان يليق بها، فإذا امتنعت عن تسليم نفسها في بلد دون بلد فإن نفقتها تسقط.
ثانيها: أن تكون ممن يوطأ مثلها، أي بأن تكون صالحة للوطء، وقيده بعضهم بشرط أن تكون بنت تسع سنين، فإذا كانت ضخمة تطيق الوطء، وهي دون تسع، فإنها لا نفقة لها على هذا القيد وظاهر كتب الحنابلة أنه لا تجب لها النفقة، وهي دون تسع على أي حال فإن كانت صغير تطيق الوطء فإن على وليها أن يقول لزوجها: تعال استلم زوجتك، فمتى سلمت الزوجة نفسها أو أسلمها وليها، وكانت تطيق الوطء وجبت نفقتها على الزوج، وسواء كان صغيراً أو كبيراً. وسواء كان يمكنه الوطء أو لا، كما إذا كان مجبوباً أو عنيناً، لأن النفقة تجب في مقابل الاستمتاع، فمتى سلمت نفسها وجبت عليه نفقتها، سواء استمتع بالفعل أو لا وإذا تعذر وطؤها لمرض أو حيض أو نفاس أو رتق أو قرن، أو هزال، فإنه لا يمنع نفقتها، وإنما المدار على تسليم نفسها ما دامت بلغت تسع سنين؛ سواء حدث لها ذلك قبل الدخول، أو حدث لها وهي عنده فإذا كانت صحيحة وبذلت نفسها ليستمتع بها بغير الوطء، فإنها لا حق لها في النفقة، فإذا امتنعت عن تسليم نفسها للجماع سقطت نفقتها، فإذا عرض لها عارض يمنع من الوطء سلمت نفسها بعد ذلك فإن نفقتها لا تعود ما دامت مريضة عقوبة لها على منع نفسها وهي صحيحة، وإذا ادعت أن ذكره كبير لا تطيقه، أو ادعت أن بها آلاماً لا تطيق معها الوطء، فإن قولها يقبل إذا عرضت نفسها على امرأة ثقة - طبيبة - وأقرت دعواها، ولا تسقط نفقتها.
وإذا كان الزوج صغيراً فالنفقة تلزمه كالكبير ويجبر وليه على الإنفاق عليها من ماله، الصبي ومثله السفيه والمجنون فإذا كانت الزوجة صغيرة دون تسع، فإنها لا نفقة لها، ولو سلمت نفسها أو سلمها وليها، وإذا اشترطت في العقد أن لا تسلم نفسها إلا في بلد كذا أو مكان كذا فإنه يعمل بهذا الشرط، فإذا عقد شخص على امرأة ولم تبذل له نفسها، فإن النفقة لا تجب عليه ولو مكثت على ذلك سنين(4/499)
مبحث هل تثبت النفقة قبل المطالبة بها؟
-إذا سلمت الزوجة نفسها للزوج فتركها بدون نفقة، فهل تلزمه نفقتها من وقت تسليم نفسها أو تلزمه بمجرد العقد؟ وإذا لزمته، فهل تكون ديناً في ذمة الزوج لها المطالبة به؟ أو لا؟ وفي ذلك تفصيل المذاهب (1) .
__________
وإن كان الزوج غائباً وجب اعلانه بمعرفة الحاكم، بأن تقول له: إنني تحت طاعتك أو مستعدة لتسليم نفسي لك في أي وقت تحب. وبذلك تجب لها النفقة.
ثالثها: أن لا تكون ناشزاً وللنشوز صور منها أن تخرج من منزله بدون إذنه ومنها أن لا تمكنه من وطئها ومنها أن تسافر بدون إذنه ومنها أن تتطوع بحج أو بصوم نفل أو تحرم بحج منذور في الذمة ولو بإذنه فإنها إن فعلت ذلك ودعاها للفراش فأبت سقطت نفقتها، فإن له أن يبطل صوم التطوع ونحوه ومنها أن لا تبيت معه في فراشه، ومنها أن تمنعه من الاستمتاع بها بغير الوطء، كالتقبيل ونحوه، ومنها أن لا تسافر بغير إذنه لحاجته، فإن سافرت لحاجته بإذنه فلها حق النفقة، ومثل ذلك ما إذا سافرت لحج الفريضة، فإن نفقتها لا تسقط، ولها ذلك مع محرم ولو بدون إذنه، كصيام رمضان، ومثلاً سنن الصلاة المكتوبة، وكذا إذا طردها من منزله، فإن لها النفقة، أما إذا سافرت لحاجتها أو لحجة التطوع، ولو بإذنه، فلا نفقة لها.
رابعها: أن لا تلزمها عدة بوطء غيره، كما إذا وطئها شخص بشبهة فاعتدت منه، فلا نفقة لها عليه، ولا فرق في النشوز بين قدرة الزوج على ردها أو لا، فإن عادت عن النشوز وسلمت له نفسها عادت لها النفقة، وإذا أسلمت المرتدة عادت لها نفقتها، وإذا أطاعته نهاراً وعصته ليلاً كان لها نصف نفقة مثلها. خامسها: أن لا يحول بينه وبينها حائل، كما إذا حبست ولا يستطيع الوصول إليها، فإن حقها يسقط في النفقة، وكذا إذا حبست الزوج من أجل نفقتها أو صداقها، فإنها لا نفقة لها إلا إذا كان الزوج موسراً مماطلاً وحبسته، فإن نفقتها لا تنقطع، لأنه يكون في هذه الحالة ظالماً) .
(1) (الحنفية - قالوا: لا نفقة للزوجة بمضي المدة قبل القضاء، فإذا لم ينفق عليها، بأن كان غائباً عنها أو كان حاضراً وامتنع، فإنه لا يطالب بما مضى، بل تسقط بمضي المدة، إلا إذا كانت مدة قليلة، وهي ما دون الشهر، فإن نفقتها لا تسقط، أما بعد القضاء فإنها تصبح ديناً، ولا تسقط إلا بموت أحدهما أو طلاقها أو نحو ذلك، مما يأتي، وذلك لأن المرأة تملك النفقة بعد القضاء، ولها أن تتصرف فيها بما لا يضر جمالها وصحتها، فإذا لم تأكل ونحفت، فإن له الحق في إجبارها على الإنفاق على نفسها كي لا تهزل، فإذا أنفقت على نفسها بعد القضاء من مالها أو من مال غيرها، ولو بلا أمر قاض، فإن لها أن ترجع على زوجها بما فرضه عليه القاضي، ومثل ذلك ما إذا اصطلحا على نفقة، فإنها تلزمه(4/500)
مبحث ما تسقط به النفقة
-تسقط النفقة بأمور مفصلة في المذاهب (1) .
__________
وتصبح ديناً في ذمته، وترجع بها عليه، حتى ولو لم يقل القاضي: حكمت، وذلك لأن طلب تقدير النفقة بشروطه، وهي شكوى مطل الزوج، وكونه غير صاحب مائدة، وعدم غيابه دعوى، فإذا قدر القاضي النفقة كان ذلك حكماً، فلا تسقط بعد ذلك، وإذا فرض لها كل يوم أو كل شهر كان ذلك قضاء، ما دامت الزوجية قائمة، فإذا أبرأته عن النفقة قبل فرضها بالقضاء أو بالتراضي، فإنه لا يصح الإبراء، لأنها لا تصير ديناً قبل الفرض، فلا معنى للإبراء من، أما بعد الفرض فإنه يصح، ولكن يستثنى من ذلك ما إذا خالعها على أن تبرئه من نفقة العدة، فإنه يصح. لأنه إبراء في نظير عوض. وهو ملكها لنفسها وهو استيفاء قبل الوجوب، فيصح، بخلاف إبرائه لا في نظير عوض، فإنه إسقاط للشيء قبل وجوبه فلا يصح، فإذا أبرأته من النفقة بعد تقديرها، فإن الإبراء يصح من المتجمد الماضي ومن شهر في المستقبل.
المالكية - قالوا: تجب نفقة الزوجية في ذمة الزوج الموسر متى تحققت الشروط المتقدمة. ولها حق الرجوع عليه في المتجمد وإن لم يفرضه عليه الحاكم، فإن أعسر الزوج بعد يسر سقط عنه زمن العسر فقط، أما المتجمد زمن اليسر فهو باق في ذمته. ترجع به عليه إذا أيسر. الشافعية - قالوا: متى سلمت نفسها أو آذنه وليها بتسليمها إن كانت صغيرة واستوفت الشروط المتقدمة، فإنه يجب عليه وجوباً موسعاً أن يدفع لها عند فجر كل يوم النفقة المتقدم بيانها فإن طالبته وماطل، فإنه يأثم، على أنه يجب أن يملكها النفقة اللائقة بحاله، وإلا فإنها ترجع عليه بها) .
(1) (الحنفية - قالوا: تسقط النفقة بموت أحد الزوجين، بشرط أن لا يأمرها القاضي بالاستدانة، فإن أمرها القاضي بالاستدانة تقررت بذلك النفقة، كما لو استدان الزوج نفسه، ولا شك أن موته أو موت زوجته لا يسقط دينه، أما إذا لم يأمرها القاضي بالاستدانة فإنها تسقط بالموت، لأنها صلة.
أما سقوط النفقة المتجمدة بالطلاق، ففيه خلاف، والصحيح أنها لا تسقط بالطلاق، فأما الطلاق الرجعي فظاهر، وأما الطلاق البائن، فإن النفقة المتجمدة إذا سقطت به اتخذه الرجال ذريعة لإسقاط حقوق النساء، وظاهر كتب الحنفية أن الطلاق الرجعي لا يسقط النفقة على الصحيح لظهور جعله حيلة لتضييع حق الزوجة، ثم يراجعها بعد ذلك، أما الطلاق البائن فعلى القاضي أن يتأمل في الحالة قبل الحكم بإسقاط المفروض، فإذا ظهر له من قرائن الأحوال أن الغرض من الطلاق إسقاط النفقة وتضييع حق الزوجة، فإنه لا يعتبر، وإلا اعتبره مسقطاً، وتسقط النفقة المتجمدة بالنشوز إذا لم تكن مأمورة(4/501)
مبحث نفقة العدة
-ليس للمعتدة عدة وفاة نفقة، حاملاً كانت، أو حائلاً، وأما المعتدة بطلاق أو فسخ، ففي عدتها تفصيل المذاهب (1) .
__________
بالاستدانة، وإلا فإنها لا تسقط على أي حال، وإذا رضيت أن تأكل تمويناً فإن فرض النفقة السابقة يبطل، وكذا إذا كانت له مائدة فإن لها أن تأكل منها بدون إذنه، وتسقط أيضاً بالردة، وبمطاوعتها لابن زوجها أو لأبيه أو نحو ذلك، كما تقدم في الشروط.
المالكية - قالوا: تسقط النفقة بأمور: الأول: عسر الزوج، سواء كانت الزوجة مدخولاً بها أو لا، فإذا أيسر الزوج فليس لها الحق في الرجوع عليه بالنفقة مدة إعساره، ولو كانت مفروضة بحكم حاكم مالكي، ولا حق لها في مطالبته بالنفقة ما دام معسراً، الثاني: أن تأكل معه فتسقط ولو كانت مقررة، ولا فرق في ذلك بين الطعام أو الكسوة، فإذا كساها معه سقطت كسوتها، الثالث: أن تمنعه من الوطء أو الاستمتاع بها، فتسقط نفقتها في اليوم الذي منعته فيه، الرابع: أن تخرج من محل طاعته بدون إذنه، ولم يقدر على ردها بنفسه أو رسوله أو حاكم، ولم يقدر على منعها ابتداء من الخروج، فإن قدر على ردها إلى طاعته، أو على منعها من أول الأمر، وخرجت وهو حاضر فإن نفقتها لم تسقط، لأن خروجها في هذه الحالة كخروجها بإذنه، إلا إذا حملت منه وخرجت فإن نفقتها لم تسقط، لأن النفقة تكون للحمل لا لها. الخامس: أن لا يطلقها طلاقاً بائناً بخلع أو بتات، فإن طلقها بائناً سقطت النفقة، إلا إذا كانت حاملاً فإن لها نفقة حملها، كما سيأتي بيانه في نفقة العدة، أما الطلاق الرجعي فإنه لا يسقط النفقة على أي حال، ولا تسقط نفقتها إذا حبست في دين عليه أو حبسته هي في دين عليه لها لاحتمال أن معه مالاً أخفاه، وكذا لا تسقط بخروجها إلى حجة الفرض ولو بغير إذنه، ولها نفقة الحضر في حال سفرها بشرط أن تكون مساوية لها، فإذا كانت نفقة السفر أقل، فإنها لا تستحق سواها.
وتسقط كذلك بالوفاة، بمعنى أن النفقة تسقط بوفاة أحد الزوجين، وسيأتي بيان ذلك في نفقة العدة.
الحنابلة - قالوا: تسقط النفقة بالنشوز المتقدم بيانه، بمعنى أن اليوم الذي تنشز فيه لا تستحق نفقتها، فإذا عادت إلى طاعته عادة لها النفقة، أما النفقة التي تقررت فلا تسقط، ولا تنقطع النفقة بالطلاق الرجعي، أما البائن فإن كانت حاملاً، فإن نفقتها لا تنقطع، ولها السكنى والكسوة، وإلا انقطعت نفقتها، وتنقطع نفقتها بموته، ولو كانت حاملاً، وسيأتي في نفقة العدة.
ومن ترك الإنفاق على زوجته مدة لعذر أو لغير عذر، فإن نفقتها تبقى ديناً في ذمته، فلا تسقط، لأنها دين، سواء فرضها حاكم أو لم يفرضها، لأن المعول في وجوبها على الشرائط المتقدمة، فمتى تحققت وجبت ديناً في ذمته، ولا تسقط) .
(1) (الحنفية - قالوا: الفرقة الواقعة بين الزوجين إما أن تكون بالطلاق الرجعي أو البائن أو تكون بفسخ العقد الصحيح أو الفاسد، أو تكون بالموت، فإذا كانت بالطلاق الرجعي فقد عرفت أن لها(4/502)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
النفقة بجميع أنواعها، فإذا مات زوجها انتقلت عدتها إلى عدة الوفاة، وسقطت نفقة عدتها المفروضة، إلا إذا كانت مأمورة بالاستدانة واستدانت بالفعل فإنها لا تسقط، وكذا إذا كان الطلاق بائناً ولو بالثلاث، فإن عدتها بجميع أنواعها، سواء كانت حاملاً أو حائلاً، بشرط أن لا تخرج من البيت التي أعده لها لتقضي عدتها.
فإذا خرجت بدون إذنه كانت ناشزة وسقطت عدتها، ومثل الطلاق فسخ العقد الصحيح، كما تقدم في مبحث فرقة الطلاق، أما الفرقة بفسخ العقد الفاسد ووطء الشبهة، كما إذا فرض وتزوجت بغيره وهي في العدة، ودخل بها ثم فرق بينهما لبطلان العقد، إنك قد عرفت أن عليها عدتين تبدأهما من وقت التفريق على أن يدخل فيها ما انقضى قبل وطئه. فإن كانت من ذوات الحيض فعليها انتظار ثلاث حيض عدة الوطء الثاني. ثم إن كان حاضت حيضة مثلاً قبل وطئه إياها حسبت من عدة الزوج الأول. وحسب لها حيضتان من عدة الوطء الثاني. وبذلك تعلم أن العدتين تداخلتا. بمعنى أن الحيضتين حسبتا من عدة الثاني مرة ومن عدة الأول مرة أخرى، كما تقدم، ولكن النفقة تكون على الزوج الأول، لأن الوطء بنكاح فاسد، وإن كان يوجب العدة، ولكن لا يوجب نفقة العدة، ومثله الوطء بشبهة، فإنه لا يوجب نفقة العدة على الواطئ وإنما تجب العدة على الزوج الأول، بشرط أن لا تخرج من البيت الذي اعتدت فيه، وإلا سقطت نفقتها.
ويتفرع على هذا أن الرجل إذا غاب عن زوجته وظنته قد مات، وتزوجت غيره ودخل بها، ثم حضر زوجها يفرق بينها وبين الثاني، واعتدت منه، فلا نفقة لها في عدتها لا من الأول ولا من الثاني، لأن الأول لم يطلقها، فلا عدة له عليها، ونكاح الثاني فاسد يوجب العدة، ولا يوجب النفقة، وأما إذا كانت الفرقة بموت الزوج فإنها لا نفقة لها في العدة، سواء كانت حاملاً أو حائلاً، ولا يستثنى من هذه أم الولد، على المعتمد، فإذا كانت تحته أمة وطئها بملك اليمين فحملت منه ثم مات عنها فإنها لا نفقة لها، لأنه قد وطئها بغير العقد، فهو بمنزلة الوطء بالعقد الفاسد وإذا كانت الحامل بالوطء بصحيح العقد لها فالموطوءة بملك اليمين من باب أولى، وإذا ادعت المطلقة أن طهرها قد امتد ولم تر الحيض، فالقول قولها بيمينها، وتستمر نفقتها إلى أن يثبت أن عدتها قد انقضت، بأن يأتي ببينة تشهد بأنها أقرت بانقضاء عدتها، وإن ادعت أنها حامل فلها النفقة إلى سنتين منذ طلقها، فإذا مضت سنتان، ثم تبين أنها غير حامل، فليس له الرجوع عليها بما أنفقه وتسقط نفقة العدة إذا انقضت، ولم تطالب بها، أما إذا فرضت بالقضاء أو الصلح، فإن المختار أنها لا تسقط ولو انقضت العدة وإذا كانت مستدانة بأمر القاضي، فإنها تتقرر ولا تسقط. بلا خلاف، ويصح الصلح على نفقة العدة، بشرط أن تكون بالأشهر لا بالحيض، بأن يعطيها نفقة ثلاثة أشهر أو أربعة مثلها، لا نفقة ثلاث حيض، لأن الحيض مجهول.
المالكية - قالوا: المطلقة رجعياً تجب لها نفقة العدة حاملاً كانت أو حائلاً ولا تسقط نفقتها إذا خرجت من بيت العدة بدون إذن، سواء قدر على منعها من الخروج أو لم يقدر، فإذا مات زوجها(4/503)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
انتقلت إلى عدة الوفاة وسقطت نفقتها، كما لو مات عنها وهي في عصمته، ولكن يبقى لها حق السكنى حتى تنقضي عدتها، وهي أربعة أشهر وعشراً، بشرط أن يكون المنزل الذي تسكنه مملوكاً له، أما إذا كان بالأجرة فإن حقها في السكنى يسقط أيضاً، أما المطلقة طلاقاً بائناً فإنها لا نفقة لها إلا بالسكنى، فإنها تجب لها حتى تنقضي عدتها.
هذا إذا كانت غير حامل، أو طلقها بائناً وهي حامل، فإن النفقة بأنواعها الثلاثة من طعام وكسوة ومسكن تجب للحمل لا للمطلقة حتى يولد، ولا تسقط بخروجها من بيت العدة، لأنها ليست لها، وتثبت لها الكسوة، سواء أبانها في أول الحمل أو في أثنائه، فإذا طلقها بعد مضي أربعة أشهر حسبت كسوتها التي تستحقها كلها، ثم يخصم منها مدة الأشهر التي انقضت، وتعطى قيمة ما نابها في الأشهر الباقية نقوداً، وإنما تجب لها الكسوة إذا كانت تستحقها، بأن حل موعدها التي تجب فيه، وإلا فلا كسوة لها، وإذا مات زوجها قبل وضع الحمل سقطت نفقتها وبقي لها حق السكنى إلى أن تضع الحمل، سواء كان المنزل ملكه أو بأجرة، وسواء نقد كراءه أو لا، ومثلها البائن الحائل، فإن حق السكنى في المنزل الذي أبانها فيه يستمر إلى انقضاء عدتها، سواء كان ملكه أو لا، وسواء نقد أجرته أو لا، تدفع أجرته من رأس مال التركة.
وبهذا تعلم أن المتوفى عنها زوجها، وهي في عصمته لا نفقة لعدتها. سواء كانت حائلاً أو حاملاً ولكن لها السكنى إذا كانت في منزل مملوك للمتوفى، ومثلها المطلقة طلاقاً رجعياً إذا مات عنها وهي في العدة. أما المطلقة طلاقاً بائناً حاملاً كانت أو حائلاً، فإنه إذا مات عنها وهي في العدة فإن لها حق السكنى مطلقاً. سواء كانت في ملكه أو في منزل مستأجر والفرق بينهما أن المطلقة طلاقاً بائناً قد كسبت حق السكنى قبل موته فهو حق تعلق بذمته. فلا يسقط بالموت أما الإطعام فإنه يجب يوماً فيوماً، وكذلك الكسوة لا تجب قبل حلول فصلها، فلم تتعلق بذمته، ولذا سقطت بالموت، ولا نفقة للمطلقة بائناً بادعاء الحمل، بل لا بد من ظهوره بتحركه، فتجب لها النفقة بظهوره بالحركة، وهو لا يظهر إلا بعد أربعة أشهر، فتحاسب على النفقة من أول ظهور الحمل، وبعضهم يرى أن النفقة لا تؤدى لها إلا بعد وضع الحمل، فتحاسب عليها من أوله بعد الوضع.
وقد عرفت أن المطلقة طلاقاً بائناً لا نفقة لها، فلا معنى لادعائها امتداد الطهر، كما يقول أما الرجعية فقد عرفت ما تنقضي به عدتها في مباحث العدة، ومع ذلك فهي بمنزلة الزوجة فإذا رأى تلاعبها في العدة فله أن يطلقها باتاً ولا ضرر عليه من ادعائها.
الشافعية - قالوا: أن نفقة العدة تجب للزوجة المطلقة رجعياً، حرة كانت أو أمة حائلاً أو حاملاً، فلو أنفق عليها على ظن أنها حامل، ثم بان غير ذلك فإنه يسترد ما أنفقته، أما المطلقة طلاقاً بائناً وهي غير حامل فلا نفقة لها، لأنه لا سلطان للزوج عليها، أما إذا كانت حاملاً فإنها تجب لها النفقة حتى تضع الحمل وتسقط نفقة الحامل إذا خرجت من مسكن العدة لغير حاجة وكذا لا تجب النفقة للمتوفى عنها زوجها ولو حاملاً، ولكن تجب لها السكنى إلا إذا أبانها وهي حامل ثم توفي عنها، فإن عدتها(4/504)
مبحث الحكم بالنفقة على الغائب وأخذ كفيل بالنفقة
-1 - هل للزوجة الحق في النفقة من زوجها الغائب؟
- 2 - وإذا كان، فهل تصرف لها بدون كفيل، أو لا بد من كفيل حتى إذا ظهر أنه قد مات ترد ما أخذته؟
- 3 - هل للزوجة أن تطلب كفيلاً بالنفقة؟ في الجواب عن هذه الأسئلة تفصيل المذاهب (1) .
__________
تبقى على ما هي عليه، ونفقتها لا تنقطع، وذلك لأن عدتها لا تنتقل إلى عدة الوفاة إلا إذا كانت رجعية، كما تقدم. هذا، والمراد بالنفقة ما يشمل الإطعام والكسوة والمسكن، وبهذا تعلم أن المطلقة طلاقاً بائناً لا نفقة لها، فلا معنى لادعائها امتداد الطهر وعدم الحيض، وإذا كانت حاملاً فلها نفقة الحمل، فإذا ادعت أنها حامل، ثم تبين أنها غير حامل فإنه يرجع عليها بما أنفقه، فلا فائدة لها من الادعاء كذباً، ولا نفقة لحامل معتدة عن وطء شبهة أو نكاح فاسد.
الحنابلة - قالوا: المطلقة رجعياً تجب لها النفقة بجميع أنواعها، كمل لو كانت زوجة، إلا فيما يلزم لنظافتها، لأنها غير مستعدة للاستمتاع بها، أما المطلقة طلاقاً بائناً، فإن كانت حاملاً فلها النفقة وإن لم تكن حاملاً فلا نفقة لها، وتقدر لها كل يوم قبل الوضع، فإذا قطع عنها النفقة، ثم تبين أنها حامل فإن عليه نفقة ما مضى، وإذا أنفق عليها يظنها حاملاً، ثم ظهرت أنها ليست بحامل، فإنه يرجع إليها بما أخذته، وإن ادعت الحمل صبر لها ثلاثة أشهر، فإن لم يظهر حملها قطع عنها النفقة، إلا إن حاضت قبل ذلك، فإنه يقطعها ولو كانت مقررة بحكم حاكم، أما المتوفى عنها زوجها فلا نفقة لها، سواء كانت حاملاً، أو حائلاً) .
(1) (الحنفية - قالوا: إذا غاب الزوج عن زوجته فإن في ذلك رأيين:
الرأي الأول: أنه لا يفرض لها إلا بشروط: الشرط الأول: أن يكون لها مال مودع عند شخص، أو دين عليه، وفي هذه الحالة يفرض لها النفقة في ذلك المال. الشرط الثاني: أن لا يفتقر ذلك المال إلى بيع كأن يكون نقوداً أو طعاماً حبوباً ونحوها، أما إذا افتقر إلى بيع كأن كان عرض تجارة أو عقاراً أو نحوهما، فإنه لا يفرض لها فيه شيء، لأن مال الغائب لا يصح بيعه.
الشرط الثالث: أن يقر الشخص بأن عليه دين للغائب أو عنده وديعة له.(4/505)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشرط الرابع: أن يقر ذلك الشخص بأنها زوجته، فإن أنكر المال أو الزوجية أو هما معاً فإنها لا تقبل لها عليه بينة، لا على المال، لأنها ليست بخصم في إثبات الملك للغائب، ولا على الزوجية، لأن الشخص المنكر ليس بخصم في إثبات النكاح على الغائب، ولا يمين عليهما، لأنه لا يستحلف إلا بالخصم، ولا خصومة.
ولو أقر بأنه كان عنده وديعة للغائب. أو كان عليها دين فأوفاه إياه، فلا يمين عليه لأنها ليست خصماً في ذلك، وكذا إذا ادعى أن عنده وديعة أو دين، ولكن الزوج أعطاها النفقة أو طلقها وانقضت عدتها، قبل قوله في منع ما تحت يده فقط، إلا إذا ادعت ضياع ما دفعه لها. أو أنه لم يكفها وبرهنت،
ويغني عن هذه الشروط علم القاضي بالمال المودع، أو الدين، وعلمه بالزوجية، فإذا علم بأحدهما احتيج إلى الإقرار بالآخر، ولا يمين ولا بينة، ولا يرد أن القاضي لا يقضي بعلمه، لأن هذا ليس من باب القضاء، وإنما هو إعانة وفتوى.
الشرط الخامس: أن تحضر كفيلاً يكفلها بحيث لو ظهر أنه طلقها وانقضت عدتها أو أنها ناشزة رجع عليها هي وكفيلها.
الشرط السادس: أن تحلف على أنه لم يعطها النفقة. وأنها غير ناشزة. وأنه لم يطلقها وتنقضي عدتها، فإذا لم تتحقق هذه الشروط، بأن لم يترك الزوج مالاً يباع ويقر به من عنده المال كما يقر بالزوجية، أو يعلم القاضي بالمال وبالزوجية، فإنه لا يفرض لها عليه نفقة، ومع ذلك فلا بد من أن ينضم ذلك الكفيل والحلف المذكوران.
الرأي الثاني: أنها إذا أقامت بينة على الزوجية فإنها يقضي لها بالنفقة لا بالنكاح، فإن كان له مال حاضر ومودع عند شخص يقر به، أو يعلمه القاضي، فإنها تأخذ منه. وإلا أمرها بالاستدانة وهذا الرأي هو الذي عليه الفتوى، وهو المعمول به، أما الرأي الأول فمعناه القضاء على المرأة وعلى عفافها. فإن كثيراً من الناس يتركون نساءهم بدون نفقة أو منفق انتقاماً منهن ويختفون عن أعينهن في المدن أو في قرية من القرى، فإذا عمل بالرأي الأول مع هؤلاء الأشرار كثر شر الرجال وعذبت النساء عذاباً شديداً، فالحق الذي لا شك فيه ظاهر في الرأي الثاني. وهل للزوجة أن تطالب بكفيل يكفل لها النفقة جبراً عنه؟ والجواب: أن لها أن تطلب كفيلاً بشهر واحد إذا كان زوجها يغيب عنها. وهذا هو المعتمد، إلا إذا أثبتت أنه يغيب أكثر من شهر، فلها المطالبة بكفيل مدة غيبته. أما إذا تراضيا على إحضار كفيل يكفل لها النفقة ما دامت زوجته أو أقل أو أكثر فإنه يصح بشرط أن يحدد مبلغ النفقة الذي يكفل فيه. كأن يتفقا على نفقة شهرية قدرها خمسة جنيهات مثلاً. ثم يكفل فيها ما دامت الزوجية قائمة بينهما أو أبداً فإذا لم يصرح بكلمة أبداً ولا بوقت فقيل: تحمل على شهر واحد. وقيل: بل على التأبيد. وهو الصحيح المفتى به.
والحاصل أنهما إذا تراضيا على نفقة معينة وكفلها شخص فإنه يلزم بها. فإذا لم يتفقا على شيء(4/506)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
معين، وأتى الزوج بكفيل فقال: إنه ضمن النفقة. فقيل: يصح وتعتبر الكفالة فيما ثبت على الزوج منها. لأن النفقة إن لم تجب بعد في الحال فإنها تجب بعد. وقيل لا يصح والمفتى به أنه في حال الغيبة تصح. ولكن لا يلزمه إلا المدة التي غاب فيها. وكذا في حال الحضور. المالكية - قالوا: الغائب كالحاضر في وجوب النفقة عليه. بشرط أن تمكنه من نفسها. وذلك بأن تدعوه للدخول هي أو وليها ولو لم يكن بواسطة حاكم، فإن كان حاضراً فالأمر ظاهر وكذا إذا كان غائباً غيبة قريبة، أما إذا كان غائباً غيبة بعيدة فيكفي في وجوب النفقة لها عليه أن لا تمتنع من التمكين بأن يسألها القاضي هل يمكنه من البناء بها إذا حضر؟ فمتى قالت: نعم وجبت لها النفقة. فيعرض لها القاضي على زوجها الغائب نفقة مثلها، ويقوم مقام القاضي في ذلك عند عدمه جماعة المسلمين. وتؤخذ من مال المودع عند أحد من الناس. ومن دينه الذي له على الناس سواء كان حالاً أو مؤجلاً. فإن كان مؤجلاً اقترضت وأنفقت وسدت قرضها من ذلك الدين. وإذا أنكر المدين أن لزوجها ديناً. أو أنكر المودع عنده وديعة زوجها. فلها أن تقيم البينة على إثباته. ولها إثباته بشاهد واحد تحلف معه على دعواها بعد أن تحلف بأنها تستحق على زوجها الغائب النفقة. وأنه لم يترك لها مالاً ولا أقام لها وكيلاً ينفق عليها ولا تطالب بكفيل يصرف ما لها من نفقة، على أن للزوج الحق في إثبات إسقاط نفقتها بعد عودته، فإذا أثبت أنها ناشزة ولا تستحق النفقة فإنه يرجع عليها بما أخذت. ولا يشترط أن يكون المال نقداً أو طعاماً. بل يباع عليه داره وعقاره في نفقتها بعد ثبوت ملكه وأنها لم تخرج عن حوزته. وإن ادعى أنه أرسل لها النفقة أو تركها لها.
فإن كانت قد رفعت أمرها إلى الحاكم وأذن لها في الإنفاق على نفسها كان القول بيمينها من وقت رفع الأمر للحاكم لا من وقت سفره. وللزوجة أن تطالب زوجها بأن يدفع لها النفقة مقدماً عند عزمه على السفر كل مدة غيبته إلى قدومه. هذا إذا ادعى أنه يريد أن يسافر السفر المعتاد. أما إذا اتهم في أنه يريد سفراً طويلاً غير معتاد فإن لها أن تطالبه بأن يدفع لها معجلاً نفقة السفر المعتاد، ويأتيها بكفيل يكفل لها ما زاد على السفر المعتاد ليعطيها ما كان ينفقه عليها زوجها بحسب حالهما، وإن كان كل جمعة أو كل شهر أو كل يوم أو كل سنة، والكفيل في هذه الحالة حق من حقوقها يجيز عليه الزوج، أما إذا تراضيا على كفيل في زمن الحضر يكفل لها النفقة المقررة فإنه يصح ويلزم بها.
الشافعية - قالوا: متى سلمت نفسها إن كانت رشيدة، أو سلمها وليها إن كانت صغيرة فإن نفقتها تجب على زوجها بالشرائط المتقدمة، فإن كان غائباً عن بلدها فإن عليها أن ترفع الأمر إلى القاضي وتظهر له التسليم، يعني استعدادها لتسليمه نفسها في أي وقت يحب، وعلى القاضي أن يعلنه في البلد الذي هو بها، وتنتظر مضي زمن إمكان الوصول إليه، فإن منعه عذر من الحضور أو من التوكيل انتظرت زوال العذر، فإن زال ولم يحضر فرضها عليه القاضي.
ويقوم مقام ذلك في زماننا الإعلان الرسمي. بأن تعلنه بأنها في طاعته ومستعدة للدخول وتسليم نفسها، وتنتظر وصول الإعلان إليه، فإن لم يجبها فرض لها القاضي النفقة، فإن كان له مال أخذتها من(4/507)
مبحث إذا عجز الزوج عن النفقة على زوجته
-إذا عجز الزوج عن الإنفاق على زوجته فلها الحق في طلب طلاقها منه، على تفصيل المذاهب (1) .
__________
ماله، فإن لم يكن له مال أذنها بالاقتراض لتنفق ثم ترجع عليه، فإن لم تعرف له مكاناً بحث عنه القاضي بما وسعه، فإن لم يظهر فرضها في ماله الحاضر، وأخذ منها كفيلاً بما يصرف لها لجواز أن يكون قد مات أو طلقها طلاقاً بائناً، والشافعية لا يجوزون الكفالة في هذه الحالة، لأنه يشترط أن يكون المكفول فيه ديناً واجباً، والنفقة المستقبلة لم تجب على الزوجة حتى تأتي بكفيل يكفلها فيها، فكيف يؤخذ عليها كفيل؟! والجواب: أن هذا ليس كفالة دين وإنما هو كفالة إحضار، بمعنى أن الكفيل يحضرها إذا تبين عدم استحقاقها.
ومن هذا تعلم أن النفقة المتجمدة يصح للزوجة أن تطالب بكفيل لها، وأما النفقة المستقبلة فإنه لا يصح فيها الكفالة إلا على وجه الإحضار لأنها لم تجب.
الحنابلة - قالوا: إذا كان الزوج غائباً فإنه لا تفرض عليه نفقة زوجية إلا إذا أعلنه الحاكم الشرعي بأنها مستعدة لتسليم نفسها، فإن جاء الزوج واستلمها بنفسه أو أرسل وكيلاً عنه يحل له استلامها فاستلمها، فإن النفقة تفرض عليه، وإن لم يحضر لا هو ولا وكيله فإن القاضي يفرضها عليه من الوقت الذي يمكن الوصول إليها وتسلمها، فإن مكنته من نفسها ثم غاب عنها لزمته النفقة على أي حال، ويصح ضمان النفقة المتجمدة الماضية كما يصح ضمان النفقة المستقبلة بلا خوف عندهم، ولو لم تقدر، فإذا قال: ضمنت نفقتها ما دامت زوجة لزمه ضمان نفقة مثلها، على الوجه السابق) .
(1) (الحنفية - قالوا: إذا عجز الزوج عن النفقة بأنواعها الثلاثة فإنه لا يفرق بينهما بهذا العجز، وكذا إذا غاب عنها وتركها بدون نفقة، ولم كان موسراً، وإنما يفرض القاضي عليه النفقة ويأمرها بالاستدانة، وفائدة أمرها بالاستدانة أن نفقتها لا تسقط بالموت ولا بغيره، متى استدانت، وأيضاً يكون لها الحق في أن تحيل عليه رب الدين الذي يستدين منه، بمعنى أنها إذا استدانت تقول لرب الدين: إن هذا الدين على زوجي، ثم إذا كان موسراً فإن لها الحق في بيع ماله في نفقتها، فإن لم تجد ماله تحبسه حتى ينفق، ولها الحق في بيع كل شيء يمكنها أن تستوفي منه حقها، سوى ثيابه التي تكفيه لتردده في قضاء حوائجه، فإذا كان معسراً، وله ابن من غيرها موسراً أو عم، أو لها هي أخ موسر أو عم، فنفقتها على زوجها ولكن يؤمر ابنه الموسر أو أخوه الموسر أو عمه أو أخوها أو عمها هي بأداء النفقة، فإن امتنع حبس حتى ينفق، فإذا أيسر الزوج دفع إليه ما أنفقه، ومثل ذلك ما إذا كان له أولاد صغار، وهو معسر، وله ابن موسر أو أخ موسر، فإن على واحد من هؤلاء الموسرين الإنفاق، ثم يرجع(4/508)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
على الأب إذا أيسر، وتجبر الأم على إرضاع ولدها إن لم يقبل ثدي غيرها، أو كان أبوه عاجزاً عن مرضعة سواها، ولها أجرة مثلها تأخذها عند يساره.
المالكية - قالوا: إذا لم ينفق الزوج على زوجته، فلها طلب الفسخ، والحاكم يطلق عليه رجعية بشروط:
الشرط الأول: أن يعجز عن النفقة من إطعام أو كسوة في الحال أو في المستقبل، أما العجز عن النفقة المتجمدة الماضية، فإنه لا يجعل لها الحق في طلب الفسخ، لأنه يصبح ديناً في ذمته.
الشرط الثاني: أن لا تعلم عند العقد فقره وعدم قدرته على الإنفاق، فإن علمت ورضيت فلا حق لها في طلب الفسخ. فإذا كان شحاذاً وقبلته على ذلك، ثم ترك مهنة الشحاذة، فإن لها حق طلب الفسخ، لأنها رضيت بمهنة فتركها.
الشرط الثالث: أن يدعي العجز عن النفقة ولم يثبت عجزه فإنه في هذه الحالة يطلق عليه القاضي حالاً على المعتمد. أما إذا أثبت أنه معسر عاجز ضرب له القاضي مدة باجتهاده رجاء أن يزول عسره، فإن مضت المدة ولم ينفق طلق عليه. فإن مرض في أثناء المدة أو سجن زاد له القاضي فيها. فإن ادعى أنه موسر ولكنه امتنع عن الإنفاق فقيل: يحبس حتى ينفق، وقيل يطلق عليه. فإذا لم يجب عليه بشيء طلق القاضي عليه فوراً. وهذا كله إذا لم يكن له مال ظاهر، وإلا أخذ من ماله جبراً، وإن ادعى الفقر، فإذا قدر على ما يمسك الحياة فقط، فإنه لا يكفي ويطلق عليه، أما إذا قدر على القوت كاملاً ولو خشناً وقدر على ما يواري جميع بدنها، فإنه لا يطلق عليه، ولو كانت غنية، أما ما تقدم من مراعاة حالهما، فإنه في تقدير النفقة، وما هنا في فسخ العقد، فإن كان غائباً في محل قريب وعرف محله فإنه يجب أن يعذر إليه أولاً، بأن يرسل له، إما أن ينفق أو يطلق عليه القاضي، أما إذا لم يعرف محله ولم يكن له مال معروف وثبت عسره، فإن القاضي يمهله مدة باجتهاده لعله يحضر فيها وينفق على زوجته، فإن لم يحضر طلق عليه، سواء دخل بها أو لم يدخل على المعتمد، وسواء دعته للدخول بها أو لا.
الشافعية - قالوا: إذا عجز الزوج فلم يستطع الإنفاق على زوجته أقل النفقة المتقدمة بأنواعها الثلاثة، من إطعام، وكسوة، ومسكن، ولو كان المسكن غير لائق بالمرأة، فإن صبرت على ذلك، كأن أنفقت على نفسها من مالها صارت النفقة المقررة لها ديناً في ذمته تأخذها منه متى أيسر، ما عدا المسكن والخادم فإنها يسقطان، لأنهما ليس بتمليك، بل امتاع للمرأة، ويشترط في بقاء النفقة ديناً عليه، أن تمكنه من نفسها، فلم تمنعه عن التمتع بها تمتعاً مباحاً، وإن لم تصبر فلها فسخ الزواج، بشرط أن ترفع الأمر إلى القاضي، وعلى القاضي أن يمهله ثلاثة أيام ليتحقق فيها من إعساره، ثم يفسخ العقد في صبيحة اليوم الرابع، أو يأمرها هي بفسخه، ومثل القاضي المحكم، فإذا لم يكن في جهتها قاض ولا محكم أمهلته ثلاثة أيام، وفسخت العقد في صبيحة الرابع بنفسها. فإن سلمها النفقة قبل مضي المدة فلا فسخ.(4/509)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ويشترط للفسخ أن يثبت عجزه عن أقل الطعام، وهو مد، فإن قدر على أن يأتيها كل يوم بمد من الحب وعجز عما عداه من أدم ولحم. أو عجز عن الإتيان بما تقعد عليه أو تنام عليه أو تتغطى به أو عجز عن آنية الأكل والشرب وآلة الطبخ وآلة التنظيف وعجز عن الأخدام فلا فسخ لها بشيء من ذلك. لأن المطلوب في هذه الحالة أن يأتي لها بما يقوم حياتها. ومثل العجز عن مد الطعام العجز عن أقل مسكن يأويها فيه ولو لم يكن لائقاً بها. وكذلك العجز عن أقل كسوة وقد بحث بعضهم في بعض هذه الأمور وقال: إن النوم على البلاط وبدون غطاء مضر بالحياة، فينبغي أن يأتي لها بأقل ما يحفظ لها صحتها، وإلا كان لها حق الفسخ، فإذا لم يثبت عجزه بالبينة أو بإقراره أمام القاضي، فلا فسخ.
فإن كان موسراً أو متوسطاً أو معسراً قادراً على نفقة المعسرين، ولكنه امتنع عن الإنفاق عليها، فلا فسخ، لأنها يمكنها أن تأخذ نفقتها منه جبراً بالقضاء. وإذا كان الزوج غائباً ولم يثبت إعساره ببينة يكون كالحاضر الممتنع، فليس لها طلب فسخ نكاحه، سواء انقطع خبره أو لم ينقطع. على المعتمد، ولو لم يترك لها شيئاً في غيبته ولو غاب مدة طويلة، لأن الشرط ثبوت عجزه عن أقل نفقة، وعلى الوجه الذي ذكرناه، وإلا كان موسراً يمكنه أن تأخذ منه نفقتها جبراً، سواء كان حاضراً أو غائباً، وإذا كان الزوج حاضراً وله مال بعيد عنه، فإن كان المال في جهة تبعد أقل من مسافة القصر فلا حق لها في الفسخ ويؤمر بإحضار نفقتها حالاً، إن سهل إحضارها، وإلا فلها الفسخ، أما إن كان في جهة بعيدة فوق مسافة القصر، فإن لها الفسخ على أي حال لتضررها.
وهذا الكلام إنما هو بالنسبة للزمن الماضي، حيث لم توجد مواصلات سريعة، أما في زماننا فقد يكون للرجل مال في أسوان وهو في مصر ومع ذلك فإنه يمكنه أن يحضره في أقل من مسافة القصر، وعلى هذا يصح أن يقال: إن كان له مال في جهة لا يتمكن فيها من الحصول عليه بسهولة يكون في حكم المعسر وإلا فلا. والحاصل أن شروط الفسخ أربعة، أحدها: أن يعجز عن أقل نفقة، وهي نفقة المعسرين، فإن قدر عليها لم يكن معسراً، وأولى إن قدر على المتوسط، ثانيها: أن يكون عاجزاً، عن النفقة الحاضرة أو المستقبلة، أما العجز عن النفقة المتجمدة فلا فسخ به، ثالثها: أن يكون عاجزاً عن نفقة الزوجة، فإذا عجز عن نفقة خادمها فلا فسخ. رابعها: أن يكون عاجزاً عن الطعام أو الكسوة أو المسكن، أما العجز عن الأدم وتوابعه من آنية وفرش وغطاء ونحو ذلك فلا فسخ به.
هذا، وقد تقدم أن الفسخ في هذه الحالة فرقة لا طلاق في مبحثه، ولا يشترط عدم علمها بفقره عند العقد، فإذا علمت ورضيت به ثم عجز عن الإنفاق كان لها حق الفسخ، لأن النفقة ضرورية للحياة، ورضاها به على أمل أنه يتكسب ويشق له طريقاً في الحياة لا يسقط حقها في النفقة، حتى ولو قالت: رضيت، لأن الوعد في هذه الحالة بالرضا لا يصدر إلا على أمل أن يأتي لها بأقل النفقة.(4/510)
مبحث نفقة الأولاد
-في نفقة الأولاد على والدهم، صغاراً كانوا أو كباراً، عاطلين ذكوراً، أو إناثاً، تفصيل المذاهب (1) .
__________
هذا، ولا يرفع إعساره أن يكون مالكاً لعقار أو عرض لا يتيسر بيعه في مدة قريبة. كما لو ملك فداناً ولم يسلمه لها وتوقف بيعه على نزع ملكيته في المحاكم. فإن هذا لا يمكنها بيعه إلا بعد أزمة طويلة، بل ربما عجزت عن نزع ملكيته ومثل ذلك ما إذا كان له غلة لا يتيسر لها الحجز عليها أو يتمكن هو من استردادها بالطرق المعروفة في المحاكم الأهلية، فإنه في كل هذه يعتبر معسراً، فلها الحق في فسخ الزواج بالطريقة المذكورة، وهذا الكلام حسن في زماننا، ويجب العمل به مع الأزواج المماطلين في الإنفاق على زوجاتهم.
الحنابلة - قالوا: إذا عجز الرجل عن أقل نفقة، وهي نفقة المعسر المتقدمة بجميع أنواعها من إطعام أو كسوة أو سكنى، خيرت المرأة بين الفسخ من غير إمهاله ثلاثة أيام ونحوها. وبين المقام معه على النكاح ولا يلزمها أن تختار حالاً، بل تختار كما تشاء، فتخييرها على التراخي لا على الفور، وإذا اختارت أن تبقى معه، فلها أن تمكنه من نفسها، وتكون نفقة المعسر ديناً في ذمته، ولكن لا يجب عليها أن تمكنه من نفسها، كما لا يجب عليها أن تحبس له نفسها، فليس له منعها من الخروج والتكسب ولو كانت موسرة، وإذا اختارت المقام معه، ثم بدا لها أن تختار الفسخ فإن لها ذلك، وإذا كان الزوج صانعاً أو تاجراً، وتعذر عليه الكسب أياماً يسيرة وجب عليها أن تنتظر ولا يكون لها حق الفسخ إلا إذا طالت مدة عسرته. ومثل ذلك ما إذا كان مريضاً مرضاً يرجى برئه في أيام يسيرة. أما إذا طال مرضه فلها حق الفسخ، ولا يشترط عدم علمها بفقره، فلو تزوجته وهي عالمة بفقره ثم عجز عن النفقة المذكورة فلها حق الفسخ، حتى ولو رضيت أو اشترطت في العقد عدم الإنفاق عليها، فإن ذلك لا يعتبر ولها حق خيار الفسخ وإذا كان غائباً وله مال حاضر أعطيت منه نفقتها، فإن كان عقاراً يمكن بيعه فإن الحاكم يبيعه ويعطيها منه نفقة يوم بيوم، فإن لم يوجد له مال أو وجد وتعذر بيعه، فلها فسخ النكاح، فإذا ظهر له مال بعد الفسخ فإنه لا يعتبر على المعتمد.
هذا، وإذا عجز عن دفع النفقة المتجمدة الماضية وقدر على أن ينفق عليها من الآن، فلا حق لها في الفسخ، وكذا إذا عجز عن ثمن الأدم، وأمكنه أن يأتي بالخبز فإن العقد لا يفسخ، ويبقى ثمن الأدم ديناً في ذمته، وإذا كان له دين متمكن من استيفائه، فإنه يكون به موسراً ولا فسخ أما إذا لم يكن متمكناً من استيفائه فإنه يكون معسراً، وإن كان للزوج عليها دين وأراد أن يحسبه من النفقة، فإنه يصح إن كانت موسرة، وإلا فلا) .
(1) (الحنفية - قالوا: لا يخلو إما أن يكون الولد ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً، فإن نفقته تجب على أبيه بثلاثة شروط، الشرط الأول: أن يكون فقيراً لا مال له، الشرط الثاني: أن لا يبلغ الحلم، فإن بلغ ولم يكن به عاهة تمنعه من التكسب كان عليه أن يتكسب وينفق على نفسه، وإلا(4/511)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
استمرت نفقته على أبيه، ومع هذا فللأب أن يؤجر ابنه الذي لم يبلغ في عمل أو حرفة ليكتسب وينفق عليه من كسبه ما دام يمكنه ذلك، إلا إذا كان طالب علم مستقيم، فإن نفقته تجب على أبيه، ولو كبيراً، وليس له منعه من طلب العلم. الشرط الثالث: أن يكون الولد حراً، فإن كان له ولد مملوك للغير، فإن نفقته لا تجب عليه، بل تجب على المالك.
أما إذا كان الولد أنثى، فإن نفقتها تجب على والدها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بشرطين:
الشرط الأول: أن تكون فقيرة، لو كان لها مال وجب أن ينفق عليها من مالها، وليس للأب أن يؤجر بنته الفقيرة في عمل لتكتسب بخلاف ما إذا كانت ذكراً. كما عرفت، على أن له أن يدفعها إلى امرأة تعلمها حرفة الخياطة أو التطريز أو النسيج أو نحو ذلك، فإذا تعلمت وكان لها من ذلك كسب فإن نفقتها تكون في كسبها، فالذي يمنع منه الأب تأجير ابنته للخدمة. لأن المستأجر ينفرد بها وذلك لا يجوز شرعاً.
الشرط الثاني: أن تكون حرة، فلو كانت مملوكة كانت نفقتها على مالكها، وتقدر لها نفقة الكفاية، بحيث يرى القاضي ما يكفيهم ويقدره لها، فإذا اصطلحوا على نفقة معينة فإن كانت زائدة عن كفايتهم، فللأب أن يطلب إنقاص الزائد، وإذا نقصت عن الكفاية فلهم طلب الكفاية، وعلى كل حال فيصح أن يصطلحا على ما يدخل تحت التقدير، بأن يقدر بعضهم كفايتهم بعشرة، وبعضهم يقدرها بتسعة فيصطلحا على تسعة، أما إذا اصطلحا على خمسة عشرة فلم يدخل تحت التقدير، فللأب انقاصه، وكذا إذا اصطلحا على سبعة، فلها طلب الزيادة، والصبي الغني، هو الذي له مال حاضر، سواء كان عقاراً أو نقوداً أو ثياباً، فإن للأب أن يبيع ذلك وينفق عليه منه القدر اللازم لسكناه وحاجته الضرورية، فإن كان للصبي مال بعيد عنه لا يمكنه الحصول عليه حالاً كانت النفقة على أبيه إلى أن يحضر ماله.
فإذا كان للصبي استحقاق في وقف لا يأتيه إلا في نهاية العام وجب على أبيه أن ينفق عليه، لأن هذا بمنزلة المال البعيد عنه، ولا يرجع الأب على الصغير بما أنفقه إلا إذا أشهد على أنه ينفق عليه ديناً، ويرجع عليه بعد حضور ماله، أو أذنه القاضي بالإنفاق، فإن لم يشهد ولم يأذنه القاضي، ولكن أنفق عليه بنية الرجوع، فإنه لا يصدق قضاء، وله الرجوع ديانة، فإذا كان الأب موسراً وامتنع عن النفقة على أولاده حبس في نفقتهم، ولا يحبس الوالد في دين ولده إلا دين النفقة، وإن كان معسراً فإنه يكلف بالتكسب والإنفاق، فإن عجز عن التكسب والإنفاق، وجب الإنفاق على أقارب الأولاد، وأقربهم إليهم أمهم، فإن كانت موسرة أمرت بالإنفاق عليهم، على أن يكون ما تنفقه ديناً على الأب، إذا أيسر لها حق الرجوع عليه بما أنفقته، فإن لم تكن لهم أم موسرة وكان لهم جد موسر فإن نفقتهم تجب على جدهم، ثم إن كان أبوهم زمناً - به عاهة تمنعه من التكسب - سقطت عنه النفقة نهائياً فلا يرجع عليها والده بشيء، لأن نفقة الكبير الزمن على أبيه، وكذلك أولاده نفقتهم على جدهم، ولا يرجع بها كما لو كان أبوهم ميتاً، أما إذا لم يكن زمناً، فإن النفقة تكون ديناً عليه، فإن لم يكن لهم جد موسر، وكان لهم عم أو أخ موسر وجبت النفقة على واحد منهما، فللأم أن تطالب أحدهما بالإنفاق(4/512)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بدون تقديم لأحدهما على الآخر.
فإذا طالبت أحدهما فرض عليه بالإنفاق، ويحبس إن امتنع، وإلا وجب الإنفاق على الأقرب فالأقرب، وعلى كل حال، فالصحيح أن المنفق يرجع بما أنفقه على الأب إذا أيسر إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان المنفق الجد، وكان الأب زمناً، فإنه في هذه الحالة يكون كالميت فتسقط عنه النفقة، فإن لم يكن له قريب موسر وكان يستطيع التكفف، فإنه يؤمر بالتكفف لإطعام أولاده الصغار، فإن لم يستطع وجبت نفقتهم في بيت المال، كي لا يضيعوا.
المالكية - قالوا: يجب على الأب نفقة أولاده بشروط:
أحدها: أن يكونوا فقراء لا مال لهم، فلو كان للولد مال، أو صنعة رائجة يمكنه أن يتكسب منها فلا نفقة له على أبيه، وكذا إذا كان له مال ونفد قبل بلوغه فإنه يكون له الحق في النفقة على أبيه ثانيها: أن يكون بالغاً عاقلاً قادراً على الكسب، فإذا بلغ على هذه الحال فإن نفقته تسقط عن أبيه ولا تعود ثانياً إن طرأ عليه جنون أو عجز عن الكسب، أما إذا بلغ مجنوناً أو ذا عاهة تمنعه من الكسب فإن نفقته تستمر على أبيه. ثالثها: أن لا يكون الولد مملوكاً لغير أبيه، فإن كان مملوكاً وجبت نفقته على سيده. رابعها: أن يكون الأب موسراً فإن كان معسراً فإن نفقة الولد تسقط عنه، ولا يجبر الأب المعسر أن يكسب بصنعة أو غيرها لينفق على ولده المعسر ولو كان لذلك الأب صنعة، كما لا يجبر الولد على ذلك للإنفاق على أبيه، كما يأتي.
وإذا كانت أنثى حرة فإن نفقتها تجب على أبيها حتى يدخل بها زوجها، أو يدعى للدخول بها وهي مطيقة، فإن النفقة في هذه الحالة تجب على الزوج، كما تقدم، فإذا كانت زمنة فقيرة واستمرت بها الزمانة، ثم طلقها زوجها أو مات عنها عادت نفقتها على أبيها، ومثل ذلك ما إذا عادت إلى أبيها صغيرة أو بكراً، أما إذا عادت ثيباً بالغة صحيحة فإن نفقتها لا تعود على أبيها. فتحصل أن النفقة لا تعود على أبيها إذا عادت له بالغة صحيحة، أما إذا عادت زمنة فإن نفقتها تلزمه مطلقاً، على التحقيق، سواء كانت بالغة أو لا، وسواء دخل بها الزوج زمنة أو صحيحة ثم زمنت عنده.
وتسقط نفقة الأولاد بمضي المدة، فلو أطعمهم أحد غير أبيهم زمناً، فليس لهم المطالبة بخلاف الزوجة فإن نفقتها لا تسقط بمضي المدة، كما تقدم، نعم إذا خاصم أحد عن الأولاد أمام قاض لا يرى سقوطها بمضي المدة، فقضى بالنفقة الماضية المتجمدة، فإنها تتقرر ولا تسقط، ومثل ذلك ما إذا أنفق على الأولاد شخص غير متبرع، فإن له الحق في الرجوع على أبيهم الموسر بما أنفق، بخلاف ما إذا أنفق شخص غير متبرع على والدي شخص آخر، فإنه لا يرجع عليه إلا بقضاء الحاكم، وتقدر لهما النفقة فيما يفضل عن قوته وقوت زوجته بما فيه كفايتهم.
ولا تلزم الأم بالإنفاق على أولادها، ولو موسرة، وإنما تلزم بالرضاع بدون أجر، إلا إذا كانت عظيمة لا يرضع مثلها، فإنها لا تلزم إلا إذا أبى الطفل أن يقبل غير ثديها، فإنها في هذه الحالة تلزم بإرضاعه.(4/513)
مبحث النفقة على الآباء والأقارب
-في النفقة على الآباء والأقارب تفصيل المذاهب (1) .
__________
الشافعية - قالوا: تجب للولد على أبيه النفقة بأحد شروط ثلاثة: الأول: أن يكون صغيراً، فإذا كان بالغاً فلا تجب له على أبيه نفقة، إلا إذا كان مجنوناً، أو زمناً لا يستطيع التكسب. ثانيها: أن يكون فقيراً، فإذا كان الصغير غنياً، أو الزمن أو المجنون غنيين فإن نفقتهم لا تجب على أبيهم، والمراد بالغنى ما يملك كفايته. ثالثها: أن يكون حراً، فإن كان مملوكاً فنفقته على مالكه.
وإذا كانت أنثى فإن نفقتها تجب على أبيها إلى أن تتزوج وتصبح النفقة واجبة على الزوج، بالتفصيل المتقدم، فإذا كانت تقدر على الزواج وامتنعت، فقيل: تسقط نفقتها عن أبيها، لأن هذا ضرب من ضروب الكسب، والولد يجب عليه التكسب متى كان قادراً، وقيل لا تسقط، لأن التكسب بمثل هذا عيب لا يليق، وهو المشهور، وتقدر نفقة الأولاد بما فيه كفايتهم من قوت وأدم وكسوة، ولا بد من إشباعهم بدون مبالغة، وتجب لهم الكسوة بما يليق به لدفع الحاجة، وعليه شراء الأدوية وأجرة الطبيب والخادم، إن احتاجوا إليه لزمانة أو مرض، وإذا فاتت النفقة وتجمدت، فإنها لا تصير ديناً إلا إذا اقترض النفقة قاض بنفسه، أو أذن النفق عليهم بالاقتراض، أما مجرد فرض القاضي فإنه لا يكون كاف في تقرير النفقة وجعلها ديناً وبعضهم يرى أنه يكفي، فإذا فرض النفقة قاض ولم يأمر بالاقتراض، أي الاستدانة، فإنها تصير ديناً في ذمة الأب ولا تسقط.
وليس على الأم نفقة، إنما عليها أن ترضعه في أول ولادته مدة يسيرة، لأن الولد لا يعيش غالباً إلا إذا شرب اللبن في أول مرة، ومع ذلك فإن لها طلب الأجرة عليه، إن كان لمثله أجرة، فإذا وجدت أجنبية ترضعه فلا تجبر أمه على إرضاعه وإذا رغبت في إرضاعه كانت أولى من الأجنبية، ولو بأجرة المثل.
الحنابلة - قالوا: تجب النفقة للأولاد على أبيهم بشروط: أحدها: أن يكونوا فقراء فمتى كانوا موسرين فلا يجب الإنفاق عليهم، ويسارهم يكون بقدرتهم على الكسب والإنفاق على أنفسهم، أو يكون لهم مال. ثانيها: أن يكون الأب، أو من تجب عليه النفقة له مال ينفق عليهم منه زائداً على نفقته ونفقة زوجته وخادمه. ثالثها: أن يكونا حرين، فإن كان الأب رقيقاً أو الابن رقيقاً، فلا تجب لأحدهما نفقة على الآخر.
وإذا كان الأب معسراً وله ولد موسر فإن عليه أن ينفق على أبيه المعسر، وعلى إخوته الصغار. وعلى زوجة أبيه) .
(1) (الحنفية - قالوا: نفقة الآباء واجبة على أبنائهم وإن علوا. فعلى الولد الإنفاق على أبيه، وجده لأبيه، وجده لأمه أيضاً، بشرط الإعسار، ولا يلزم الأب بالتكسب، كما يلزم الابن، ومثل الأب الأم. فإذا كان يقدر على إحضار قوت أحدهما قدمت الأم على الأب، فإذا ادعى الابن أن أباه موسر(4/514)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
كان عليه أن يثبت بالبينة، فإن لم تكن له بينة فالقول للأب، فإذا كان للأب ابن وبنت موسرين قسمت نفقته بينهما بالسوية، على المعتمد، وكذا إذا كان له ابنان فإنها تقسم بالسوية بينهما، ولو كان أحدهما أكثر غنى من الآخر، نعم إذا كان التفاوت بينهما كثيراً فإنه ينبغي أن يخص الغني بقسط أوفر من الإنفاق على والده، وعلى الابن الموسر نفقة زوجة أبيه، وعليه تزويجه، ولو له زوجات، وعليه نفقة واحدة فقط يسلمها لأبيه.
أما نفقة الأقارب فإنه لا ينظر فيها إلى الإرث، وإنما ينظر فيها إلى القرب والجزئية، فمن كان جزءاً بسبب الولادة كالبنوة، والأبوة، كان مستحقاً للنفقة إذا كان معسراً، عليه النفقة إذا كان موسراً، ويقدم بعد الجزئية الأقرب فالأقرب، مثلاً إذا كان له ولدان ذكر وأنثى لزمتها نفقته بالسوية، لأنهما جزء منه وأقرب الناس إليه، وإن اختلف نصيبها في الإرث. وإذا كان له ابن وابن ابن قدم الابن على ابنه لكونه أقرب إليه من ابن الابن. وإذا كان له بنت وابن ابن كانت نفقته على البنت لقربها، وإذا كان له بنت وأخت شقيقة كانت نفقته على البنت فقط لقربها وجزئيتها، وإذا كان له ابن نصراني وأخت، فنفقته على ابنه وإن لم يرث، وكذا إذا كان له ابن بنت وأخ شقيق، كانت نفقته على ابن البنت. مع كون ابن البنت لا يرث مع الأخ الشقيق. وإذا كان له أب وابن، وهما مستويان في القرابة والجزئية، رجح الابن بحديث" أنت ومالك لأبيك" ومثلهما أم وابن، وإذا كان له جد وابن قسمت النفقة بينهما أسداساً، فعلى الجد السدس، وعلى ابن الابن الباقي، وذلك لأن نسبتهما إليه في القرابة واحدة، فكلاهما يدلي إليه بواسطة، لأن بينه وبين جده أباه، وبينه وبين ابن ابنه ابنه، ولا مرجح يرجح بينهما، فتقسم النفقة بحسب ما يخص كل واحد منهما من الميراث، فإذا كان له ابن وابن ابن، كانت النفقة على ابنه لكونه أقرب إليه من ابن ابنه.
والحاصل أنه يقدم الأقرب فالأقرب من الأصول والفروع، ثم بعد ذلك ينظر إلى الحواشي، فيقدم الوارث: على أنك قد عرفت أن الموسر يلزم بالإنفاق مع وجود الأقرب المعسر.
والحاصل أنه ينظر أولاً إلى الأصول والفروع، ويعبر الفقهاء عنها بعمود النسب، أو سلسلة النسب، فيقدم الأقرب فالأقرب، على الوجه الذي بيناه، فإن استووا في درجة القرابة، كجد وابن ابن، ولا مرجح، وزعت النفقة عليهما بقدر ما يستحقان من ميراث، وإن وجدا مرجح قدم الأرجح، كما إذا اجتمع للمعسر أب وابن، فإن درجة القرابة واحدة، ولكن يرجح الابن على الأب، بحديث" أنت ومالك لأبيك" فإن كان الأقرب معسراً انتقلت النفقة إلى من يليه، وقد عرفت مما مضى أن الزوجة إذا كان زوجها معسراًن وكان لها أخ أو عم، أو كان لزوجها ابن من غيرها أو أخ، فإن لها أن تأخذ نفقتها من واحد منهما، على أن يرجع الزوج بما أخذته متى أيسر، وكذا إذا كان لها أطفال، ولهم أخ من غيرها أو لهم عم - أخ أب - فإن لها أن تأخذ من أيهما بدون ترتيب، ذلك لأن النفقة في هذه الحالة على الزوج، على المعتمد، وهؤلاء كمقرضين، فللزوجة أن تقترض ممن تراه موافقاً لها بخلاف ما هنا، فإن الكلام فيمن تفرض عليه النفقة، ولا تفرض النفقة للأقارب إلا بشرط أن يكون المنفق(4/515)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
موسراً، أما الزوجة والأولاد فتفرض لهم النفقة، ولو كان الأب أو الزوج معسراً، فلا يشترط اليسار في هذه الحالة. وقد اختلفت آراء أئمة الحنفية في حد اليسار الذي تجب به النفقة على الوالدين والأقربين، فقدره بعضهم بأن يكون الولد مالكاً لنصاب الزكاة.
وبعضهم قال: الشرط أن يكون مالكاً لما يحرم عليه به أن يأخذ الزكاة زائداً على حاجته الأصلية فلا يضر النقص عن نصاب الزكاة. وفصل بعضهم فقال: إن كان الولد مزارعاً أو تاجراً يمكنه أن يدخر مالاً، فإن يساره يعتبر بأن يكون مالكاً لنفقة شهر على نفسه وعلى عياله وما زاد يعطى لأهله، وإن كان من أهل الحرف الذين يكسبون يوماً فيوماً فإن يساره يعتبر بأن يكون لديه نفقة يومه وعياله، زائداً عليها ما يعطيه لأقاربه، مثلاً إذا كان يعمل بعشرة ويكفيه هو وعياله يومياً سبعة، وجب عليه أن يعطي الثلاثة لأبويه، وقد رجح المحققون هذا الرأي في الكسوب الذي يحصل على قوته يوماً فيوماً، فإن كان الولد فقيراً وعنده عيال، وله أب قادر على الكسب، فإنه لا يحكم على الولد بنفقة، أما إذا كان الأب عاجزاً، فإنه يحكم عليه بضمه إلى عياله ليأكل معهم، فإنه لا يرهقه في هذه الحالة، والأم حكمها دائماً حكم الأب العاجز عن الكسب.
وكما تجب النفقة للأصول والفروع والأقارب العصب، كذلك تجب لذوي الأرحام، بشرطين:
أحدهما: أن يكون طالب النفقة صغيراً فقيراً، إذا كان ذكراً وفقيراً، إذا كان أنثى ولو كبيرة، فإذا كان ذكراً كبيراً قادراً على الكسب فلا تجب له نفقة، نعم إذا كان عاجزاً عجزاً يمنعه عن الكسب أو كان طالب علم مستقيم فإن له النفقة، وإذا كانت أنثى غنية، أو لها صناعة تتكسب منها، كأن تكون معلمة أو قابلة، أو نحو ذلك فلا نفقة لها، وكذا إذا كان لا يحسن الكسب أصلاً لعدم معرفته حرفة أو عنده عته، قيل: وكذا إذا كان من أسرة شريفة، فلا يستطيع أن يخدم أو يحترف بحرفة دنيئة، وقد رد هذا بعض الفقهاء بأن المرء مكلف بتحصيل قوته، بصرف النظر عن كل اعتبار، وقد رأينا كبار الصحابة ينزلون الأسواق ويبيعون الزبد واللبن ليحصلوا على قوتهم، ولا معنى أن يقال: إن هذا لم يكن عيباً في وقتهم، فإن الواقع أن هذا هو الشرف لا البقاء عالة على الناس، فالصحيح أنه لا يصح الحكم للقوي القادر على الكسب على رحمه، بل يؤمر بالعمل في الحياة كي يحصل على قوته، وربما ظفر بثروة بسبب جده واجتهاده. وحد الفقير المعسر الذي تجب له النفقة أن يكون ممن تحل له الصدقة. ثانيهما: أن يكون المنفق موسراً، فلا تجب نفقة ذوي الأرحام إلا على القادر الموسر، وقد عرفت أن اليسار شرط لوجوب نفقة الأقارب جميعهم إلا الأولاد الصغار والزوجة، ويجبر المنفق على دفع النفقة لأقاربه ويحبس من أجلها على المعتمد.
فإذا كان للفقير أقارب متعددة من أرحامه توزع عليهم نفقته بحسب ميراثهم مثلاً إذا كان له أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم، كان عليه نفقتهن حسب ميراثهن منه بعد موته، وهو أن الأخت الشقيقة لها النصف، والأخت لأب لها السدس، والأخت لأم لها السدس، فالمسألة من ستة، لأن فيها السدس: لأخته الشقيقة ثلاثة ولأخته لأمه سهم ولأخته لأبيه سهم، وبقي سهم يرد عليهن، فعلى هذا(4/516)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تلزم أخته الشقيقة بثلاثة أخماس والأخت لأم بخمس والأخت لأب بخمس، فإذا كان له أخ شقيق وأخ لأم وأخ أب، فعلى الأخ لأم السدس، والباقي على الأخ الشقيق، ولا شيء على الأخ لأب، لأنه لا يرث، فهو محجوب بالأخ الشقيق، فإذا كان مع إخوته أو أخواته ابن معسر فإنه لا يعتبر مانعاً لهم من الإرث، بل يعتبر كالميت، إلا إذا كان قادراً على الكسب فإنه يؤمر بالتكسب لينفق على نفسه وعلى أبيه، على ما تقدم، فإذا عجز الولد عن الكسب كانت نفقته على عمته الشقيقة، أو عمه الشقيق، وذلك لأن الأب المعسر كالميت، فيعتبر الوارث له عمه، أو عمته، ولو كان مع إخوته أو إخوانه بنت كانت النفقة على الأشقاء فقط، وذلك لأن البنت ترث من عمتها الشقيقة، ومع عمها الشقيق، ويسقط بها غير الشقيق، وإنما لم تعتبر البنت كالميت، لأن الذي يعتبر كالميت هو الذي يأخذ كل الميراث، كالابن، أما البنت فلا تأخذ الكل فتعتبر وارثة مع غيرها. وإذا كان لمستحق النفقة أم موسرة، وأخت شقيقة موسرة، وأخت لأب معسرة، وأخت لأم معسرة، كان ميراثهن كالآتي: للأخت الشقيقة النصف، وللأم السدس، وللأخت لأب السدس، وللأخت لأم السدس، فنصيب الأم، والشقيقة أربعة، فتقسم النفقة بينهما أرباعاً: ربعها على الأم، وثلاثة أرباعها على الأخت الشقيقة، وعلى هذا القياس.
واعلم أن الذي تجب عليه النفقة من ذوي الأرحام يشترط أن يكون رحماً قريباً محرماً، فابن العم لا تجب عليه لأنه وإن كان رحماً لكنه غير محرم، وأرحام الرضاع ليسوا بأقرباء، فلا تجب عليهم ولا لهم نفقة.
هذا، ولا تجب نفقة الأقارب مع الاختلاف في الدين، فلا تجب النفقة على المخالف في الدين إلا لزوجته وأصوله وفروعه، فلو تزوج ذمية وجبت عليه نفقتها، وكذا إذا كان له والد مسلم وهو ذمي وبالعكس، فإن نفقة كل منهما تجب للآخر.
المالكية - قالوا: تجب نفقة الوالدين على أولادهم بشروط: الشرط الأول: أن يكون الولد حراً، فلا تجب على الرقيق. الثاني: أن يكونا معسرين، أي لا يقدرا على كفاية أنفسهما، فإن قدرا على بعضها وجب عليه أن يكمل لهما. الثالث: أن لا يكونا عاجزين عن الكسب، أما إذا كانا قادرين على الكسب فإن نفقتها لا تجب على الولد، وأجبرا على الكسب. الرابع: أن يكون الولد موسراً بالفعل، فإن كان موسراً بالقوة أي قادراً على التكسب فإنه لا يجبر على التكسب لينفق على والديه، كما لا يجبر الوالد على التكسب لينفق على ولده. الخامس: أن يثبت فقرهما بشهادة عدلين، فلا يكفي عدل واحد ويمين، كما لا يكفي عدل وامرأتان، وإذا ادعى الولد الفقر فهل عليه إثباته بالبينة، أو عليهما هما إثباته؟ تردد فبعضهم قال: إن على الولد الإثبات، وبعضهم قال: إن الإثبات عليهما. السادس: أن يفضل من قوته وقوت زوجاته وأولاده ودابته وخادمه المحتاج إليهما، فإن لم يفضل منه شيء فلا تجب عليه نفقتهما، ولا يشترط الإسلام، فتجب نفقة الأب الكافر على ابنه المسلم، وبالعكس.
هذا ويجب على الولد الموسر نفقة خادم والديه وإن لم يحتاجا إليه، بخلاف خادم الولد، فلا(4/517)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تجب على الوالد نفقته، وكذا يجب عليه نفقة خادم زوجة أبيه إن كانت أهلاً للخادم، وكذا يجب على الولد إعفاف أبيه بزوجة أو أكثر، إن لم تعفه الواحدة، والقول في ذلك للأب، ويجب عليه الإنفاق على من يعفه من الزوجات، ولو تعددت، أما إذا كانت تعفه واحدة وتزوج بأكثر فإن الولد لا تجب عليه إلا نفقة واحدة فقط، والقول للأب فيمن ينفق عليها الابن إن لم تكن إحداهما أمة، أما إن كانت أمة فإنها تتعين، ولو كانت غنية، ولا تجب النفقة بالقرابة سوى للوالدين ولا يجب على الولد نفقة جده، ولا جدته، لا من جهة الأب، ولا من جهة الأم، كما لا تجب على الجد نفقة ابن الابن، ولا بنت الابن، وهلم جرا، وإذا تزوجت الأم من فقير فإن نفقتها لا تسقط عن الولد، وإذا تعدد الأولاد الموسرون وزعت النفقة عليهم بحسب حال كل منهم في اليسر.
الشافعية - قالوا: يجب للوالدين على ولدهم النفقة بشروط: الأول أن يكونا معسرين، بحيث لم يملكا قوتاً وأدماً ومسكناً يليق بهما، ولا تجب المبالغة في الإشباع. الثاني: أن يكون الولد موسراً، ولو بكسب يليق به، ذكراً كان أو أنثى. الثالث: أن يكون لدى الولد ما يفضل عن مؤنته ومؤنة زوجته وأولاده يوماً وليلة، وإلا فلا تجبن ولا يشترط أن يكون الوالدان عاجزين عن الكسب، كما لا يشترط الإسلام، فلو كانا كافرين والولد مسلم، أو العكس، فإن النفقة تلزمه، ويجب على الولد إعفاف أبيه بتزويجه والإنفاق على زوجته، ولا يجب على الوالد تزويج ابنه بشرط أن يكون الولد موسراً حراً، وأن يكون الوالد حراً عاجزاً عن إعفاف نفسه، وإن تكون له حاجة إلى الزواج، والقول قول الأب في الحاجة بلا يمين، ولكن لا يحل له أن يطلب التزويج إلا إذا كانت له رغبة صادقة في التزوج، بحيث يضر به تركه، فإذا كان حاله يدل على ضعفه، كأن كان به شلل، أو به استرخاء، فإنه لا يجاب إلى طلبه أو يحلف بأنه في حاجة إلى النساء ويصح للابن أن يعطيه أمة، أو يعطيه ثمنها أو يعطيه مهر حرة، فإن كان له أولاد متعددون يوزع عليهم إعفافه والإنفاق عليه حسب إرثهم منه، على المعتمد، فإذا كانوا ذكوراً وإناثاً كان على الذكر ضعف ما على الأنثى من مؤنته وإعفافه، فإذا استووا في الإرث كانت نفقته عليهم بالسوية، سواء تفاوتوا في اليسار، أو لا، ولو كان أحدهما موسراً بمال، والآخر موسراً بكسب. فإذا غاب أحدهم أخذا ما عليه من ماله، فإن لم يكن له مال اقترض من نصيبه من غيره إن أمكن، فإن لم يمكن اقتراضه، أمر الحاكم أحد الحاضرين بالإنفاق بقصد الرجوع على الغائب، أو على ماله إن وجد، وتجب النفقة على أصله وإن علا، كجده، وجد جده، كما تجب النفقة على ابنه وإن سفل.
الحنابلة - قالوا: تجب النفقة على الولد لوالديه وإن علو كما تجب على الوالد نفقة ولده وإن سفل بحسب ما يليق بهم عرفاً بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون المنفق عليهم فقراء لا مال لهم وكسب يستغنون به عن الإنفاق فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يكفيهم فلا نفقة لهم، فإن كان لديهم ما يكفيهم بعض حاجتهم وجب عليه تكملة ما يكفيهم.(4/518)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الثاني: أن يكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم منه، بشرط أن يكون زائداً عن نفقة نفسه وزوجته، إما من ماله أو من كسبه فمن لا يفضل عنده شيء لا تجب عليه نفقة.
الثالث: أن يكون المنفق وارثاً للمنفق بفرض أو بعصب، إن كان من غير عمود النسب، أما عمود النسب فإنها تحجب ولو لم يرث، فعلى الولد أن ينفق على أبيه المعسر، وعلى زوجة أبيه وعلى إخوته الصغار وإن تعدد المنفق كانت النفقة عليهم بقدر إرثهم، فإذا كانت له أم وجد لأب، كانت النفقة على الأم الثلث، والباقي على الجد لأن الأم في هذه الحالة ترث الثلث، والباقي لجده لأبيه، وإذا كانت له جدة وأخ شقيق أو لأب كانت نفقته على الجدة السدس، والباقي على الأخ، وإذا كانت له أم وبنت قسمت النفقة عليهما أرباعاً، على الأم الربع، وعلى البنت الباقي، وذلك لأن البنت لها النصف فرضاً، وللأم السدس فرضاً، ثم يرد عليهما الباقي، فيكمل للأم منه الربع، وتأخذ البنت الباقي وعلى هذا القياس، إلا الأب فإنه ينفرد بالنفقة وحده، ولا نفقة لذوي الأرحام، كما لا نفقة عليهم) .(4/519)
مباحث الحضانة
تعريفها - مستحقها
-الحضانة - بفتح الهاء وكسرها - والفتح أشهر، معناها لغة، مصدر حضنت الصغير حضانة تحملت مؤنته وتربيته، مأخوذة من الحضن - بكسر الحاء - وهو الجنب، لأن الحضانة تضم الطفل إلى جنبها، وفي الشرع حفظ الصغير، والعاجز، والمجنون والمعتوه، مما يضره بقدر المستطاع، والقيام على تربيته ومصالحه، من تنظيف وإطعام، وما يلزم راحته أما مستحق الحضانة، ففيه تفصيل المذاهب (1) .
__________
(1) (الحنفية - قالوا: الحضانة تثبت للأقارب من النساء والرجال، على الترتيب الآتي: فأحق الناس بالحضانة الأم، سواء كانت متزوجة بالأب، أو مطلقة، ثم من بعدها أمها، وأم أمها، وهكذا. ولا بد أن تكون أم الأم صالحة للحضانة، وليس لأم الأم الحق في أن تحتضن ابن بنتها المتزوجة في بيت زوجها، لأنه عدو له، فللأب في هذه الحالة أن يأخذه منها، فإذا ماتت أم الأم، أو تزوجت بغير محرم الصغير انتقل حق الحضانة لأم الأب، وإن علت، أما إذا كانت متزوجة بمحرمه، كما إذا كانت جدة متزوجة بجده، فإن حضانتها لا تسقط، فإن ماتت أو تزوجت انتقل الحق للأخت الشقيقة، فإن ماتت أو تزوجت انتقل إلى الأخت لأب. ثم من بعدها الأخت الشقيقة، ثم من بعدها بنت الأخت لأم.
وهذا الترتيب لا خلاف فيه عند الحنفية، واختلفوا فيما وراءه، كما إذا اجتمعت خالة وأخت لأب، فقيل: الأخت لأب أولى، وقيل: الخالة أولى، أما بنت الأخت لأب مع الخالة، فإن الصحيح أن الخالة أولى، وتقدم الخالة لأب وأم، هي شقيقة الأم ثم من بعدها الخالة لأم، ثم من بعدها الخالة للأب، وبنات الإخوة أولى من العمات، وتقدم العمة الشقيقة، ثم العمة لأب، ثم هؤلاء يدفع إلى خالة الأم الشقيقة، ثم إلى خالتها لأم، ثم لأب، ثم إلى عمة الأم، على هذا الترتيب.
وبالجملة فجهة الأمهات مقدمة على جهة الآباء، أما بنات العم، وبنات الخال، وبنات العمة، وبنات الخالة، فلا حق لهن في الحضانة.
فإذا لم يكن للصغير امرأة من أهله المذكورات تستحق الحضانة، انتقلت الحضانة إلى عصبته من الرجال، فيقدم الأب، ثم أبو الأب، وإن علا، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، وكذا أبناء أبنائهم، وإن سفلوا، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق ثم ابن العم لأب، بشرط أن يكون المحضون ذكراً، أما الأنثى فلا تدفع إلى أبناء(4/520)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الأعمام، لأنها ليست محرماً بالنسبة لهم، فإذا لم يكن للصغيرة إلا أبناء الأعمام فالنظر في ذلك للقاضي، فإن شاء دفعها إليهم، وإلا دفعها عند امرأة أمينة.
وإذا كان الصغيرة عدة أخوال، فإنها تدفع للأصلح منهم، وإن تساووا في الصلاحية فإنها تدفع للأسن، وكذا إذا كان لها عدة أعمام، فإذا لم يكن لها عصبة، فإن حضانتها تكون للأخ لأم، ثم من بعده ابنه، ثم للعم لأم، ثم للخال لأب وأم، ثم للخال لأب، ثم للخال لأم، وإذا كان لها جد لأم كان أولى من الخال ومن الأخ لأم.
المالكية - قالوا: يستحق الحضانة أقارب الصغيرة من إناث وذكور على الترتيب الآتي ذكره، فأحق الناس به أمه، ثم أمها، يعني جدته لأمه وإن علت، ثم الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم خالة الأم، ثم عمة الأم، ثم أم الأب، ثم أم أمه، وأم أبيه، والقربى منهن نقدم على البعدى. والتي من جهة أمه تقدم على التي من جهة أبيه، ثم بعد الجدة من جهة الأب تنتقل الحضانة إلى الأب، ثم إلى الأخت، ثم إلى عمة الصغير أخت أبيه، ثم إلى عمة أبيه - أخت جده - ثم إلى خالة أبيه، ثم بنت الأخ الشقيق، ثم لأم، ثم لأب، ثم إلى بنت الأخت كذلك وإذا اجتمع هؤلاء يقدم منهن الأصلح للحضانة، وبعضهم رجح تقديم بنات الأخ على بنات الأخت، ثم بعد هؤلاء تنتقل الحضانة إلى الوصي سواء كان ذكراً أو أنثى ثم الأخ الصغير، ثم أبن الأخ، ويقدم عليه الجد من جهة الأم، ثم العم ثم ابنه، ويقدم الأقرب على الأبعد ثم المعتق أو عصبته نسباً. الشافعية - قالوا: للمستحقين في الحضانة ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يجتمع الأقارب الذكور مع الإناث. الحالة الثانية: أن يجتمع الإناث فقط، الحالة الثالثة: أن يجتمع الذكور فقط. فأما الحالة الأولى: فتقدم الأم على الأب، ثم أم الأم، وإن علت، بشرط أن تكون وارثة، فلا حضانة لأم أبي أم، لأنها غير وارثة، ثم بعدهن الأب، ثم أمه، ثم أم أمه وإن علت، إذا كانت وارثة، فلا حضانة لأم أبي أم أب، لأنها لا ترث، فإذا عدمت هذه الأربعة وهي الأم وأمهاتها والأب وأمهاته.
وإذا اجتمع ذكور وإناث، قدم الأقرب فالأقرب من الإناث ثم الأقرب من الذكور، مثلاً إذا اجتمع إخوة وأخوات، وخالة وعمة، قدمت الأخوات الإناث، لأنهن أقرب وأولى بالتقديم من الذكور، ثم الإخوة الذكور، لأنهم أقرب من الخالة والعمة، ثم العمة، وعند الاستواء في القرابة والذكورة والأنوثة، كأخوات بنات وإخوة ذكور، فإنه يقرع بين البنات، فمن خرجت القرعة عليه قدم على غيره.
وأما الحالة الثانية، وهي اجتماع الإناث فقط، فتقدم الأم، ثم أمهاتها، ثم أمهات الأب، ثم الأخت، ثم الخالة، ثم بنت الأخت، ثم بنت الأخ، ثم العمة، ثم بنت الخالة، ثم بنت العمة، ثم بنت العم، ثم بنت الخال، وتقدم الشقيقات على غير الشقيقات، وتقدم من كانت لأب على من كانت لأم.
أما الحالة الثالثة، وهي ما إذا اجتمع الذكور فقط، فيقدم الأب، ثم الجد ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم الأخ لأم، ثم ابن الأخ الشقيق أو لأب، ثم العم لأبوين، ثم العم لأب ثم ابن العم(4/521)
شروط الحضانة
-يشترط لاستحقاق الحضانة: منها أن يكون عاقلاً، فلا حضانة لمجنون. ولا لمعتوه ومنها أن يكون بالغاً، فلا حضانة لصغير، ومنها غير ذلك. مما هو مفصل في المذاهب (1) .
__________
كذلك ولكن لا تسلم له مشتهاة لأنه غير محرم، وإنما تسلم لثقة يعينها هو، كبنته فإن كانت مجنونة كبيرة، ولها بنت فإنها تقدم بعد الأم على الجدات، وإن كانت صغيرة لها زوج، فإنه يقدم في الحضانة على كل هؤلاء، بشرط أن تكون مطيقة للوطء.
الحنابلة - قالوا: أحق الناس بالحضانة الأم، ثم أمها، ثم أم أمها، وهلم جرا، ثم الأب، ثم أمهاته وإن علت، ثم الجد ثم أمهاته ثم أخت لأبوين، ثم أخت لأم، ثم أخت لأب، ثم خالة لأبوين، ثم خالة لأم، ثم خالة لأب، ثم عمة لأبوين، ثم عمة لأم ثم عمة لأب، ثم خالات أمه، وتقدم الشقيقة، ثم التي لأم، ثم التي لأب، ثم خالات أبيه كذلك، ثم عمات أبيه كذلك ثم بنات إخوته، ثم بنات أخواته، ثم بنات أعمامه، ثم بنات عماته، ثم بنات أعمام أمه وبنات أعمام أبيه كذلك، فتقدم في ذلك كله الأشقاء، ثم الذين لأم، ثم الذين لأب، ولا حضانة عليها لمحرم، كابن العم، وابن عم الأب، وكذا لا حضانة عليها لمحرم برضاع) .
(1) (الحنفية - قالوا: يشترط في الحضانة أمور: أحدها أن لا ترتد، فإن ارتدت سقط حقها في الحضانة، سواء لحقت بدار الحرب أو لا. فإن تابت رجع لها حقها.
ثانيها: أن لا تكون فاسقة غير مأمونة عليه، فإن ثبت فجورها بفسق، أو بسرقة، أو كانت محترفة حرفة دنيئة، كالنائحة، والراقصة، فإن حفها يسقط. ثالثها: أن لا تتزوج غير أبيه، فإن تزوجت سقط حقها، إلا أن يكون زوجها رحماً للصغير، كأن يكون عماً له، فإن تزوجت أجنبياً سقط حقها، فإن طلقها الزوج الثاني عاد لها حقها في الحضانة. رابعها: أن لا تترك الصبي بدون مراقبة، خصوصاً إذا كانت أنثى تحتاج إلى رعاية، فإن كانت أمها من النساء اللاتي يخرجن طول الوقت وتمهل في تربيتها، فإن حقها يسقط بذلك. خامسها: أن لا يكون الأب معسراً، وامتنعت الأم عن حضانة الصغير إلا بأجرة، وقالت عمته: أنا أربيه بغير أجرة، فإن لها ذلك، ويسقط حق أمه في الحضانة. سادسها: أن لا تكون أمة أو أم ولد، فإنه لا حضانة لها. ولا يشترط الإسلام فإن كان متزوجاً بذمية فإن لها أن تحضن ابنها منه، بشرط أن يأمن عليه الكفر والفساد، فإذا لم يأمن، كأن رآها تذهب به إلى الكنيسة، أو رآها تطعمه لحم الخنزير، أو تسقيه الخمر، فإن للأب أن ينزعه منها، فإذا ماتت الأم الحاضنة، أو لم يتوفر فيها شرط من هذه الشروط انتقلت الحضانة إلى من يليها، حسب الترتيب المتقدم، أما العقل فهو شرط مجمع عليه.
الشافعية - قالوا: يشترط للحضانة سبع شروط: أحدها: أن يكون عاقلاً، فلا حضانة لمجنون، إلا إذا كان جنونه قليلاً نادراً، كيوم واحد في السنة كلها. ثانيها: الحرية، فلا حضانة لرقيق. ثالثها: الإسلام، فلا حضانة لكافر على مسلم، أما حضانة الكافر للكافر، والمسلم للكافر، فإنها ثابتة.(4/522)
مدة الحضانة
-في مدة الحضانة تفصيل المذاهب (1) .
__________
رابعها: العفة، فلا حضانة لفاسق، ولو تارك صلاة، أو تاركة صلاة. خامسها: الأمانة فلا حضانة لخائن في أمر من الأمور. سادسها: الإقامة في بلد المحضون إذا كان مميزاً، وسيأتي بيانه قريباً. سابعها: أن لا تكون أم الصغير متزوجة بغير محرم، فإن تزوجت بمحرم، كعمه فإن حضانته لم تسقط إذا رضي الزوج بضمه.
الحنابلة - قالوا: يشترط للحضانة. أولاً: أن يكون الحاضن عاقلاً، فلا حضانة لمجنون. ثانيها: أن لا يكون رقيقاً. ثالثاً: أن لا يكون عاوزاً، كأعمى، لعدم حصول المقصود به، ومثل الأعمى ضعيف البصر. رابعاً: أن لا يكون أبرص، أو أجذم، وإلا سقط حقه في الحضانة، خامساً: أن لا تكون متزوجة بأجنبي من الطفل، فإن كان غير أجنبي كجده وقريبه، فإن لها الحضانة.
المالكية - قالوا: يشترط في الحاضن ذكراً كان أو أنثى شروط. الأول: العقل، فلا حضانة لمجنون، ولو يفيق في بعض الأحيان، ولا لمن به خفة عقل وطيش. الثاني: القدرة على القيام بشأن المحضون، فلا حضانة للعاجز، كامرأة بلغت سن الشيخوخة، أو رجل هرم إلا أن يكون عندهما من يمكنه القيام بالحضانة تحت إشرافهما، ومثلهما الأعمى، والأصم، والأخرس، والمريض، والمقعد. الثالث: أن يكون للحاضن مكان يمكن حفظ البنت فيه التي بلغت حد الشهوة من الفساد، فإذا كان في جهة غير مأمونة، فإن حضانته تسقط. الرابع: الأمانة في الدين، فلا حضانة لفاسق يشرب الخمر، ومشتهر بالزنا، ونحو ذلك. الخامس: أن لا يكون الحاضن مصاباً بمرض معد يخشى على الطفل منه، كجذام، وبرص. السادس: أن يكون الحاضن رشيداً فلا حضانة لسفيه مبذر، لئلا يتلف مال المحضون: إن كان له مال. الشرط السابع: الخلو عن زوج دخل بها، إلا إذا تزوجت بمحرم، أو علم من له حق الحضانة بعدها يتزوجها وسكت مدة عام بلا عذر فإن حضانته تسقط بذلك. ولا يشترط في الحاضن أن يكون مسلماً، ذكراً كان أو أنثى. فأن خيف على الولد من أن تسقيه خمراً، أو تغذيه بلحم خنزير ضمت حضانته إلى مسلمين ليراقبوها ولا ينزع منها الولد، ولا فرق في ذلك بين الذمية والمجوسية، وإن كان الحاضن ذكراً فيشترط أن يكون عنده من يحضن من الإناث، كزوجة، أو سرية، أو خادمة ولا يصح أن يحضن غير محرم بنتاً مطيقة للوطء، كابن عمها - إلا إذا تزوج بأمها - ولو كان مأموناً) .
(1) (الحنفية - قالوا: مدة الحضانة للغلام قدرها بعضهم بسبع سنين، وبعضهم بتسع سنين، قالوا: والأول هو المفتى به، ومدتها في الجارية، فيها رأيان: أحدهما: حتى تحيض. ثانيهما: حتى تبلغ حد الشهوة، وقدر بتسع سنين، قالوا: وهذا هو المفتى به، فإذا كان الولد في حضانة أمه فلأبيه أن يأخذه بعد هذا السن، فإذا بلغ الولد عاقلاً رشيداَ كان له أن ينفرد ولا يبقى في حضانة أبيه إلا أن يكون(4/523)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فاسد الأخلاق، فلأبيه ضمه وتأديبه، وإذا لم يكن له أب، فلأحد أقاربه أن يضمه إليه ويؤدبه متى كان مؤتمناً، ولا نفقة للبالغ إلا أن يتبرع والده بها، وإلا أن يكون طالب علم، كما تقدم في مباحث النفقة.
أما الأنثى فإن كان بكراً ضمنها الأب إلى نفسه، ومثل الأب الجد، فإن لم يكن لها أب ولا جد، فإن كان لها أخ ضمها إليه بشرط أن لا يكون مفسداً، وإلا فإن كان لها عم غير مفسد ضمها إليه. وإلا فإن كان لها عصبية في رحم محرم ضمها إليه، وإن لم يكن وضعها القاضي عند امرأة ثقة، إلا إذا كانت مسنة عجوز، ولها رأي، فإنها تكون حرة، فتسكن حيث أحبت أما إذا كانت ثيباً فليس له ضمها، إلا إذا لم تكن مأمونة على نفسها، وفي هذه الحالة يكون للأب والجد ضمها جبراً، فإن لم يكن لها أب ولا جد، ولها أخ، أو عم، فله ضمها ما لم يكن مفسداً فإن كان مفسداً ضمها القاضي عند امرأة ثقة.
المالكية - قالوا: مدة حضانة الغلام من حين ولادته إلى أن يبلغ، فإن كان له أم حضنته حتى يبلغ، ثم تسقط حضانتها، ولو بلغ مجنوناً، ولكن تستمر نفقته على الأب إذا بلغ مجنوناً، ومدة حضانة الأنثى حتى تتزوج، ويدخل بها الزوج بالفعل.
الشافعية - قالوا: ليس للحضانة مدة معلومة، فإن الصبي متى ميز بين أبيه وأمه، فإن اختار أحدهما كان له، وكذا يخير بين أم وجد أو غيره، أو بين أب وأخت له من أم أو خالة، وله بعد اختيار أحدهما أن يتحول للآخر وإن تكرر منه ذلك، وللأب إذا اختارته بنته أن يمنعها من زيارة أمها، وليس له أن يمنع أمها من زيارتها على العادة، وإذا زارت لا تطيل المكث، وإذا مرضت كانت أمها أولى بتمريضها في منزله إذا رضي، وإلا مرضتها في منزلها ويعودهما، بشرط أن لا يخلو بها في الحالتين، وإن اختارها ذكر مكث عندها الليل وعند أبيه النهار كي يقوم بتعليمه، أما إذا اختارتها أنثى فتستمر عندها دائماً، وإن اختارهما معاً أقرع بينهما، وإذا سكت ولم يختر أحداً كان للأم.
الحنابلة - قالوا: مدة الحضانة سبع سنين للذكر والأنثى، ولكن إذا بلغ الصبي سبع سنين واتفق أبواه أن يكون عند أحدهما فإنه يصح، وإن تنازعا خير الصبي، فكان مع من اختار منهما، بشرط أن لا يعلم أنه اختار أحدهما لسهولته وعدم التشدد عليه في التربية وإطلاق العنان له فيشب فاسداً، فإذا علم أن رغبة الولد هكذا فإنه يجبر على البقاء عند الأصلح، فإن اختار أباه كان عنده ليلاً ونهاراً، ولا يمنع من زيارة أمه، وإن مرض الغلام كانت أمه أحق بتمريضه في بيتها، أما إذا اختار أمه فإنه يكون عندها ليلاً، ويكون عند أبيه نهاراً ليعلمه الصناعة والكتابة ويؤدبه، فإذا عاد واختار الآخر نقل إليه، وهكذا أبداً، فإن لم يختر أحدهما، أو اختارهما معاً أقرع بينهما، ثم إن اختار غير من أصابته القرعة رد إليه، ولا يخير إلا إذا كان أبواه من أهل الحضانة، فإن كان أحدهما غير أهل وجب أن يحضنه الكفء، وقيل سبع سنين يكون عند صاحب الحق في الحضانة، وعلى الوجه المتقدم، فإذا زال عقل الصبي كان من حق أمه، أما الأنثى فإنها متى بلغت سبع سنين فأكثر كانت من حق أبيها - بلا كلام - إلى البلوغ، ثم إلى الزفاف ولو تبرعت الأم بحضانتها، لأن الغرض من الحضانة الحفظ، والأب أحفظ(4/524)
مبحث هل للحاضن أن يسافر بالمحضون؟
-في جواز سفر الحاضن بالمحضون وعدمه، تفصيل المذاهب (1) .
__________
لعرضه وإذا كانت عند الأب، كانت عنده دائماً ليلاً ونهاراً، ولا تمنع أمها من زيارتها، وكذا إذا كانت عند الأم فإنها تكون عندها ليلاً ونهاراً، ولا يمنع الأب من زيارتها، وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيت الأب، بشرط أن لا يخلو الأب بها) .
(1) (الحنفية - قالوا: لهذه المسألة ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن تكون الحاضنة إما مطلقة وأن يكون الأب موجوداً وتريد الأم أن تنتقل بابنها إلى بلدة أخرى، وفي هذه الحالة لا يجوز لها الانتقال إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن تكون مطلقة طلاقاً بائناً، أو طلاقاً رجعياً، وقد انقضت عدتها، أما إذا لم تنقض عدتها فإنها لا يجوز لها الانتقال ولا الخروج حتى تنقضي العدة.
الشرط الثاني: أن لا تكون البلدة التي تريد الانتقال إليها بعيدة ليس بينها وبين البلدة القائم بها أبوه تفاوت، بحيث يمكنه أن يزور ولده ويرجع في يومه، بصرف النظر عن سرعة المواصلات ويجوز لها أن تنتقل إلى بلدة بعيدة بشرطين:
أحدهما: أن يكون قد عقد عليها في هذا البلد.
ثانيهما: أن تكون هذه البلدة وطناً لها.
الصورة الثانية: أن يكون الأب موجوداً، وتكون الحاضنة غير الأم، فالجدة، والخالة، ونحوهما من الحاضنات، وهؤلاء لا يجوز لهن الانتقال بالولد المحضون عن البلدة التي بها أبوه بدون إذنه مطلقاً، لأنك قد عرفت أن الذي برر انتقال الأم إلى وطنها عقد الزوج عليها فيه، لأن رضاه بالعقد فيه، رضا بالإقامة، وكذا يمنع الأب من إخراج الولد من بلدة الأم ما دامت حضانتها قائمة، فإذا تزوجت غيره فللأب أن يسافر بابنه ما دامت متزوجة، فإذا عاد لها حقها رجع، وبعضهم يقول: لا يجوز له الخروج بولده إلا إذا انتهت مدة حضانتها.
الصورة الثالثة: أن يكون أبوه متوفى، وهي في عدة الوفاة، وفي هذه الحالة لا يجوز لها الخروج به إلا بإذن وليه الذي حل محل أبيه، أما بعد انقضاء عدتها فقد توقف المفتون في المسألة، وبعضهم قال: للأولياء منعها، والظاهر أنه ينبغي أن يترك الأمر في هذه الحالة لاجتهاد القاضي ليرى ما فيه مصلحة الصغير، فإن كان من مصلحته عدم الانتقال منعها، وإلا فلا.
المالكية - قالوا: ليس للحاضنة أن تسافر بالمحضون إلى بلدة أخرى ليس فيها أب المحضون أو وليه إلا بشروط:
الأول: أن تكون المسافة أقل من ستة برد، فإن كانت أقل فإنه يصح لها أن تستوطن فيها، ولا يسقط حقها في الحضانة، والبريد: أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال: فالمجموع - 72 ميلاً -(4/525)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقدر الميل: بأربعة آلاف ذراع، بذراع الإنسان المعتدل، فللحاضنة أن تنتقل به إلى بلد دون ذلك، وليس له نزعه منها.
الثاني: أن يكون السفر للإقامة والاستيطان، كما ذكرنا، أما إذا كان للتجارة أو لقضاء حاجة، فإن لها أن تسافر به ولا يسقط حقها في الحضانة، بل تأخذه معها، وللولي أن يحلفها بأنها ما أرادت بالسفر الانتقال والاستيطان، وإنما أرادت سفر التجارة مثلاً، وإنما يصح أن تسافر به مسافة قليلة بشرط أن تكون الطريق مأمونة، وأن يكون المكان الذي تريد السفر إليه مأموناً، أما الولي، فإنه إذا أراد السفر من بلدة إلى بلدة أخرى ليقيم بها وينتقل إليها مستوطناً إياها، فإن له أن يأخذ المحضون من حاضنته، ولو كان طفلاً، متى قبل ثدي مرضعة غير حاضنته، ويسقط حق الحاضنة في الحضانة إلا إذا رضيت أن تسافر معه، فإن حضانتها لا تسقط بانتقاله، وإنما يكون له حق أخذ المحضون منها، ويسقط حقها في الحضانة بشرطين: أحدهما: أن يكون الولي قاصداً السفر إلى بلد تبعد عن بلد الحاضنة مسافة ستة برد فأكثر، أما إذا كانت دون ذلك فليس له أخذه منها، لأنه يمكنه أن يشرف على الصغير في هذه الحالة. الشرط الثاني: أن يكون قاصداً الانتقال والاستيطان، أما إذا كان قاصداً التجارة، ونحوها، فإنه لا يأخذه منها ولا يسقط حقها في الحضانة، ولها أن تحلفه على أنه أراد سفر الانتقال لا سفر التجارة.
الشافعية - قالوا: إذا أراد الحاضن أو الولي سفراً لحاجة أو لتجارة، بقي الولد بيد المقيم حتى يرجع من سفره، ثم إن كان مميزاً يخير في البقاء مع أيهما شاء، على الوجه المتقدم، أما إذا أراد سفر نقلة واستيطان، فإن الولد يتبع العاصب من أب أو غيره، سواء كان مسافراً أو مقيماً، بشرط أن لا يكون ببلدة الحاضن عاصب آخر مقيم، وإلا خير الولد المميز في الإقامة مع أيهما شاء، ولا حق للعاصب المسافر في أخذه، مثلاً إذا انتقل الأب من بلدة الأم الحاضنة إلى بلدة أخرى ليقيم بها، ولكن جده لا يزال مقيماً مع الحاضنة فليس للأب أخذه معه، وكذا إذا كان جد وأخ وسافر الجد وأقام الأخ، أو سافر الأخ، وأقام العم فإنه يبقى مع المقيم، ويشترط للسفر بالصغير أن تكون الطريق مأمونة، وأن يكون المكان المسافر إليه مأموناً، وإلا فأمه أحق به.
الحنابلة - قالوا: إذا أراد أحد الأبوين السفر إلى بلدة أخرى، فإن الولد يبقى مع الأب، سواء كان هو المسافر أو المقيم، بشروط. أحدها: أن تكون المسافة بين البلدين مسافة قصر فأكثر. ثانيها: أن تكون الطريق مأمونة، وتكون البلدة المنقول إليها كذلك. ثالثها: أن يكون السفر سفر نقلة واستيطان، فإن كان لتجارة أو حج كان الولد من حق المقيم. رابعها: أن لا يريد بالسفر مضارة الآخر وانتزاع الولد من يده، فإن أراد ذلك فلا يجاب إلى طلبه، وإذا انتقلا جميعاً إلى بلدة واحدة فالأم باقية على حضانتها، وإذا أخذه الأب لافتراق بلدتين، ثم عادت الأم عادت لها الحضانة) .(4/526)
مبحث أجرة الحضانة
-في أجرة الحضانة تفصيل المذاهب (1) .
__________
(1) (الحنفية - قالوا: أجرة الحضانة ثابتة للحاضنة، سواء كانت أماً أو غيرها، وهي غير أجرة الرضاع، وغير نفقة الولد، فيجب على الأب، أو من تجب عليه النفقة ثلاثة: أجرة الرضاع، وأجرة الحضانة، ونفقة الولد، فإذا كان للولد المحضون مال أخذه من ماله، وإلا فعلى من تجب عليه نفقته، كما ذكرنا، وهل تشمل أجرة الحضانة النفقة بجميع أنواعها، حتى المسكن أو لا مسكن لها؟ والجواب: أن الحاضنة إذا كان لها مسكن ويسكن الولد تبعاً لها، فلا يقدر لها أجرة مسكن، وإن لم يكن لها مسكن قدر لها أجرة مسكن، لأنها مضطرة إلى إيوائه وهذا هو الذي ينبغي العمل به، وإذا احتاج الصغير إلى خادم، فإنه يقضى له به على أبيه الموسر.
وإنما تثبت أجرة الحضانة للأم إذا لم تكن الزوجية قائمة، أو لم تكن معتدة، فإن كانت زوجة أو معتدة لأب الطفل فإنه لا حق لها في أجرة الرضاع، ولا في أجرة الحضانة، أما حال قيام الزوجية بينهما، فالأمر ظاهر، لأن نفقتها واجبة عليه بطبيعة الحال، وأما حال العدة فكذلك، لأن لها نفقة العدة، فهي في حكم الزوجة، فإذا انقضت عدتها كان لها الحق في طلب أجرة الحضانة، ولا تجب الأجرة على أبيه إلا إذا كان الطفل فقيراً لا مال له، وإلا فمن ماله.
هذا كله إذا لم يوجد متبرع يتبرع بحضانته مجاناً، فإن وجد متبرع، وكان أجنبياً عن الصغير، وكان للصغير مال، فإنه لا يعطى للأجنبي، ولكن يعطى لمن هو أهل للحضانة بأجرة المثل من ماله. أما إن كان المتبرع من أقارب الصغير، كالعمة مثلاً فإن الأم في هذه الحالة تخير بين إمساكه مجاناً، وبين أخذه منها وإعطائه لعمته لتحضنه مجاناً، إلا إذا كان الأب موسراً. ولا مال للصغير فإن الأم أوى بحضانته بالأجرة، أما إذا كان الأب معسراً، والصغير موسر، أو كان الأب موسراً، والصغير موسر، فإنه يعطى لعمته مجاناً، وذلك لأن نفقة أمه في هذه الحالة تكون من مال الصغير، وهو ضرر عليه، كما لا يخفى، وإذا امتنعت الأم عن حضانة الصغير، فهل تجبر على حضانته أو لا؟ والجواب: أنه إذا كان للصغير ذي رحم محرم صالح لحضانته غيرها لا تجبر على الصحيح، وإلا أجبرت، كي لا يضيع الولد، أما الأب فإنه يجبر على ضمه بعد بلوغ مدة الحضانة.
المالكية - قالوا: ليس للحاضن أجرة على الحضانة، سواء كانت أماً أو غيرها، بقطع النظر عن الحاضنة، فإنها إذا كانت فقيرة ولولدها المحضون مال فإنه ينفق عليها من مال ولدها لفقرها إلا للحضانة أما الولد المحضون فله على أبيه النفقة والكسوة والغطاء والفرش، والحاضنة تقبضه منه وتنفقه عليه، وليس له أن يقول لها: أرسليه ليأكل عندي ثم يعود، وتقدر النفقة على والده باجتهاد الحاكم حسب ما يراه مناسباً لحاله، كأن يقدر له شهرياً، أو كل جمعة، أو نحو ذلك، مما تقدم في باب النفقة، وهل للحاضنة السكنى؟ والجواب: أن الصحيح تقدير السكنى باجتهاد الحاكم، فينظر إلى(4/527)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حال الزوجين، فإن كانت موسرة، فلا سكنى لها على الأب، وإن كانت معسرة وجب عليه لها السكنى.
الشافعية - قالوا: أجرة الحضانة ثابتة للحاضن حتى الأم، وهي غير أجرة الرضاع، فإذا كانت الأم هي المرضعة وطلبت الأجرة على الرضاع والحضانة أجيبت، ثم إن كان للصغير مال كانت الأجرة في ماله، وإلا فعلى الأب، أو من تلزمه نفقته، ويقدر لها كفايتها بحسب حاله.
الحنابلة - قالوا: للحاضنة طلب أجرة الحضانة، والأم أحق بحضانته ولو وجدت متبرعة تحضنه مجاناً، ولكن لا تجبر الأم على حضانة طفلها، وإذا استؤجرت امرأة للرضاع والحضانة لزماها بالعقد، وإن ذكر في العقد الرضاع لزمتها الحضانة تبعاً، وإن استؤجرت للحضانة لم يلزمها الرضاع، وإذا امتنعت الأم سقط حقها، وانتقل إلى غيرها، على الوجه المتقدم) .(4/528)
الجزءُ الخَامِس
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
في آخر الجزء الرابع من موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة، وعد العالم الجليل الموسوعة الشيخ عبد الرحمن الجزيري. ان يقدم إلى القراء الجزء الخامس، وهو "كتاب الحدود".
ولكن الأجل لم يمهله - رحمة اللَّه - فانتقل إلى جوار ربه، راضياً مرضياً، قبل أن يودع المطبعة أصول الكتاب.
ولما كانت "المكتبة التجارية الكبرى" قد اشترت حق طبع الموسوعة كلها، فقد حرصت - خدمة المسلمين - على أن تكملها بطبع الجزء الخامس وتيسير الحصول علبه. فسعت لدى أسرة المغفور له الشيخ الجزيري حتى حصلت على أصول "كتاب الحدود".
ومن توفيق اللَّه أن وجدنا مباحث الكتاب كلها تكاد تكون كاملة: كل مبحث مخطوط في "كراسة" لا ينقصها - إلا التنسيق وبعض الحواشي والتعليقات.
وقد عهدنا بهذه المهمة إلى عالم قدير متبحر في فقه المذاهب، وهو الأستاذ الشيخ علي حسن العريضي، من علماء الأزهر الشريف. وقد رحب العلم الفاضل بالمهمة، ابتغاء مرضاة اللَّه، فتولي تنسيق مباحث الكتاب وفقاً لمنهج المؤلف في الأجزاء السابقة، ثم تفضل - مشكوراً - فأضاف ما اقتضاه السياق من حواش وتعليقات، وأشرف على الكتاب في أثناء الطبع، مرجعة وتصحيحاً، حتى خرج "كتاب الحدود" - بعون اللَّه - مترسماً النهج، وافياً بالغرض.
و"المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة" ترجو - هذا الكتاب الكبير - خدمة لدين اللَّه ونفع المسلمين، ووفاء بعهد عالم من علمائنا الأفاضل وقف حياته لدين اللَّه، وتبيان عباداته ومعاملاته وشرح أحكانه وحدوده، ليعمل المسلمون بمتضاها، ويهتدوا بهديها، فيسعدوا في الدنيا والأخرة.
واللَّه ولي التوفيق.(5/3)
كتاب الحدود المقدمة في تعريف الحدود الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن السيدة عائشة رضي اللَّه عنها "أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ؟ ثم قالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فكلمه أسامة. فقال رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "يا أسامة أتشفع في حد من حدود اللَّه! ثم قام فاختطب. فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم اللَّه لو أن فاطمة بنت مُحَمَّد سرقت لقطعت يدها".
رواه البخاري ومسلم وغيرهما (1) .
ويتعلق بشرح هذا الحديث أمور:
-1 - بيان معناه.
-2 - بيان الحدود الشرعية، وما في معناها، وحكمة مشروعيتها.
-3 - إذا لم يوجد في الشريعة نص على حكم من الأحكام فماذا يكون العمل؟.
-
__________
(1) (هذه الرواية لمسلم وفيها زيادة "يا أسامة". وفي رواية للبخاري "فتلون" (أي تغير غيظاً) وجه رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فقال له: (أتشفع في حد من حدود اللَّه تعالى؟) فقال أسامة لما رأى إنكار الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وغضبه عليه مما أتاه: (استغفر لي يَا رَسُولَ اللَّهِ) أي لتمحي تلك الخطيئة ويغفر لي ربي. (قَالَ: ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها) . زاد البخاري في رواية عنده عن عائشة رضي اللَّه عنها (ثم تابت بعد وتزوجت) فكانت تأتي لعائشة فترفع حاجتها الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ. وأسم المرأة التي سرقت فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد. وكان هذا الحادث يوم فتح مكة.
والمراد بالذين هلكوا من قبلهم بنو إسرائيل، حيث صرح بذلك الإمام البخاري في روايته فقال: إن بني إسرائيل كانوا إذا سرف فيهم الشريف تركوه محاباة، ومراعاة لشرفه، فأهلكهم اللَّه للمداهنة(5/5)
المعنى
-معنى هذا الحديث ظاهر، وهو أن امرأة من علية القوم اسمها فاطمة، غلبت عليها رزيلة خلقية، مرة واحدة في حياتها، وهي سرقة شيء يستوجب إقامة الحد عليها بقطع يدها، فعز على قريش أمرها، لما لها من علو المنزلة، ولكنهم كانوا يعلمون شدة استمساك الرسول صلوات اللَّه عليه بإقامة حدود اللَّه، وتنفيذها على العظيم والضعيف، والغني والفقير، بنسبة واحدة. فوقفوا بإذاء ذلك حائرين، ولكنهم ظنوا أن أسامة بن زيد يستطيع أن يشفع لها عند رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، لأنه كان محبوباً عند الرسول، كما كان أبوه زيد من قبل، ولذا كان يلقب بالحب بن الحب. فأجابهم أسامة إلى طلبهم، ومضى إلى رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وسأله العفو عن السارقة. فأنكر عليه الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه هذه الشفاعة، وقال له: (أتشفع في حد من حدود اللَّه تعالى! أي ما كان يليق بك أن تجرؤ على هذا العمل) .
__________
والنفاق، وترك لإقامة الحدود الشرعية (وإذا سرق فيهم الضعيف) أي الفقير الذي لا جاه له ولا مال معه، ولا حسب يحميه، ينفذون عليه الحكم (وأيم اللَّه) أقسم الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لتأكيد كلامه، حيث أن المقام يقتضي ذلك. وهو قسم بالنية لا مطلقاً، إذ لا يعرفه إلا الخواص (ولو أن فاطمة بنت محمد صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سرقت) أعذها اللَّه من ذلك.
قَالَ صاحب دليل الفالحين: ففي الحديث ثبوت قطع يد السارق، رجل كان أو امرأة. وفيه جواز الحلف من غير استحلف، وهو مستحب، إذا كان فيه تعظيم الأمر المطلوب كما في الحديث الذي معنا. وفيه المنع من الشفاعة في الحدود، وهو مجمع عليه بعد بلوغه للإمام، أما قبله فجائز عند أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه ذا شر، وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه. أما المعاصي التي لا حد فيها فتجوز الشفاعة فيها بشرطه السابق، وإن بلغت الإمام لأنها أهون. وفيه مساواة الشريف وغيره في أحكام اللَّه تعالى وحدوده وعدم مراعاة الأهل، والأقارب في مخالفة الدين، اه.
وذلك كما أمرنا اللَّه تعالى في كتابه العزيز فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء للَّه، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن كان غنياً أو فقيراً فاللَّه أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن اللَّه كان بما تعملون خبيراً} فقد أمرنا اللَّه تعالى بالمبالغة في العدل في الأحكام وإقامة القسط في الحدود وفي جميع الأمور مجتهدين في ذلك حق الإجتهاد، ولو كان هذا الحد على غني أو فقير أو قريب أو غريب، فإن اللَّه تعالى أولى بجنس الغني والفقير. ونهانا عن اتباع الهوى والجور في الأحكام والعدول عن الحق لغرض في نفوسنا مجاملة للغني، أو محاباة للقريب. ثم خوفنا اللَّه تعالى من عقابه وعذابه في الدنيا بالهلاك وفي الأخرة بالعذاب الأليم فقال تعالى: {فإن اللَّه كان بما تعملون خبيراً} فيجازيكم لا محالة على الظلم وعدم العدل في إقامة الحدود وغيرها من الأعمال، فهو وعيد محض من اللَّه تعالى للظلمة الجائرين.(5/6)
ويظهر من هذا أن أسامة بن زيد كان يعلم أنه لا يصح الشفاعة في حدود اللَّه تعالى بعد أن يصل أمر الجريمة إلى ولي الأمر، ولهذا أنكر عليه الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، ولو كان يجهل الحكم لعلمه إياه. ولعل اعتقاد أسامة في فاطمة المخزومية، من كون هذه الخلة ليست عادة لها، وأنها زلة، قد لا تعود إليها، هو الذي دفعه إلى الشفاعة فيها.
والواقع أن فطمة المخزومية هذه قد أصبحت بعد تنفيذ الحد عليها من الصالحات التائبات القانتات، فلو تؤثر عنها أية رزيلة خلقية بعد ذلك.
على أن الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه لم يقتصر على الإنكار على أسامة بن زيد، بل جمع الناس وخطب فيهم مبيناً لهم أن الإستهانة بمعاقبة الجناة إذا كانوا من العظماء، والتشدد في معاقبة الضعفاء، لا نتيجة له إلا هلاك الأمة وفنائها، وقد هلك بسببه بعض الأمم الذين خلوا من قبل.
وأقسم رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه لا يتأخر عن تنفيذ حدود اللَّه تعالى على بنته نفسها.
__________
ولقد كان المسلمون حديثي عهد بالإسلام فظنوا أن الشفاعة عند الحاكم تنفع وترفع العار عن هذه المرأة وأسرتها ومن ينتمي إليها من جراء قطع يدها. ولكن الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه أهمه هذا الأمر وأراد أن يثبت لهم وللإنسانية كلها أن الإسلام لا يفرق في تنفيذ الحدود بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير، بل الكل أمام القانون سواء، كلكم لآدم وآدم من تراب، {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} .
ولهذا قام فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه ثم خطب فيه هذه الخطبة الجامعة التي وضعت قواعد العدل، وثبتت دعائم الإنصاف، وأقسم الرَسُول صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ للمسلمين بهذا القسم القوي حتى لاتشك النفوس بعد ذلك في أن هناك مانعاً يقف أمام تنفيذ حدود اللَّه تعالى، ولو على أعز الناس، وأشرفهم، وأقربهم إلى اللَّه عز وجل. فضرب المثل بابنته وأحب الناس إلى قلبه، وأشرف مخلوقة في الأمة المحمدية كلها، وهي السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه الغضب الشديد حين سمع أسامة بن زيد يخاطبه في هذا الشأن، وهوالوساطة في تعطيل حد من حدود الله تعالى، نهره وقال له: (يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى!)
وأسامة من أحب الناس إلى قلب رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بعد ابنته فاطمة رضي اللَّه عنها. عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما: أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (أحب الناس إلي أسامة ما خلا فاطمة، ولا غيرها) . وروي عن هشام بن عروة عَنْ أَبِيِهِ أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (إن أسامة بن زيد لأحب الناس إلي، أو من أحب الناس إلي، وأنا أرجوا أن يكون من صالحيهم فاستوصوا به خيراً) .
بل بلغ من حب الرَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأسامة، وعلو منزلته في نفسه أنه أخر الإفاضة من عرفة في الحج من أجله. فقد روي عن هشام بن عروة عَنْ أَبِيِهِ أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أخر الإفاضة من عرفة من أجل أسامة بن(5/7)
وذلك حق لا ريب فيه، إذ لا معنى لهذا إلا إبطال القانون السماوي، والقضاء على العدل والنظام فلو لم ينفذ القانون على القوي والضعيف بنسبة واحدة، لكان ذلك تحريضاً للقوي على انتهاك حرمات الضعيف، والعدوان عليه، وهو. أمن من العقاب. فإذا فرض وقوي الضغيف كان من حقه أن ينتقم لنفسه، ومن أمن من وقوع العقاب عليه ويعتدي على غيره وهو آمن أيضاً، وهلم جرا. وذها هو عين الفوضى المقوضى لدعائم العمران، الموجبة لهلاك الأمم وفنائها.
ما يؤخذ من الحديث
-ويؤخذ من هذا الحديث، أنه لا يحل لحاكم أن يقبل الشفاعة في حد من حدود اللَّه تعالى (الآتي بيانها) كما لا يحل لأحد أن يشفع عن مجرم في حد وصل إلى الحاكم. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.
أما قبل وصول الأمر إلى الحاكم. فإن الشفاعة تصح كما يصح العفو، بشرط أن يكون مستحق العقوبة غير معروف بالجرائم، أما إذا كان من المعتادين على إذاء الناس، أو كان من الأشرار الذين لا يصلحهم العفو، فإنه يجب أن يرفع أمره إلى الحاكم ليوقع عليه الحد الذي يزجره عن ارتكاب الجريمة. فإن سرق شخص من آخر ولم تكن فيه عادة له من قبل، وظن الشفيع أن العفو عنه لا يغريه، فإن له أن يشفع فيه، وللمعتادى عليه أن يعفو عنه، وإلا فلا يحل له العفو عنه.
__________
زيد ينتظره. فجاء غلام أسود أفطس، فقال أهل اليمن: إنما حسبنا من أجل هذا؟ قَالَ: فلذلك كفر أهل اليمن من أجل هذا. قَالَ يزيد بن هارون: (يعني ردتهم أيام أبي بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه) .
ولقد كان سيدنا عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة يعرفون مكانة أسامة بن زيد عند رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، ولما فرض عمر بن الخطاب للناس فرض لأسامة خمسة آلاف، ولإبن عمر ألفين، فقال ابن عمر: فضلت علي أسامة، وقد شهدت ما لم يشهد؟ فقال: إن أسامة كان أحب الناس إلى رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عليه وعلى آله، من أبيك) .
ومع هذه المكانة الرفيعة التي كانت لأسامة بن زيد في نفس الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه رد شفاعته، ولم يقبلها، بل غضب عليه، وظهر أثر الغضب على وجهه صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، كعادته عند انتهاك حرمات اللَّه تعالى، حتى ظن سيدنا أسامة رضي اللَّه عنه أنه قد ارتكب ذنباً يعاقبه اللَّه عليه بسبب هذه الشفاعة، فتضرع إلى الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أن يستغفر له مما وقع فيه من الإثم عسى أن يغفر اللَّه له ويرحمه، كما ورد في الرواية الثانية.
كل هذه الأدلة والبراهين التي وردت في الحديث تدل دلالة صريحة على مقدار حرص(5/8)
وقد وردت أحاديث بهذا المعنى: منها ما رواه الدارقتني: عن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ: (اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا اللَّه عنه) هذا في الحدود.
وأما في القصاص فإن الشفاعة فيه تجوز، لأنه حق العبد وله أن يعفو على أي حال.
وأما التعذير، فقد قَالَ الفقهاء: إن الشفاعة تحل فيه ولكن الظاهر المعقول أن عقوبة التعذير إن توقف عليها تأديب الجناة، والمحافظة على النظام العام. لفإن الشفاعة لا تحل فيه.
كما لا يحل للحاكم أن يعفو، وإلا فإن العفو يصح والشفاعة تجوز. وذلك لأن الشريعة الإسلمية مبنية على جلب المصلحة، ودرء المفسدة، فعلى الحاكم أن ينظر في هذا إلى ما فيه المصلحة، ودفع المفسدة.
__________
الرَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على تنفيذ حكم اللَّه تبارك وتعالى، وتوقيع الحد على من يستحق العقوبة، مهما كانت منزلته بين القوم. ولا توجد قوة تمنعه من إقامة حدود اللَّه عز وجل على الشريف والضعيف، والعظيم والحقير، من غير تمييز واستثناء، لأن في إقامة الحدود حماية للمجتمع من الفساد، وحفظاً للأمة من الدمار والهلاك، ودواماً لسعادتها وهنائها، وعزها وبقائها، وسبباً لاستتباب الأمن والنظام بين ربوعها، وتثبيتاً للعدالة بين أفرادها.
ويؤخذ من الحديث النهي عن الشفاعة في الحدود. وقد ترجم البخاري - بباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان. ويؤيد هذا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث فإنه صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ لأسامة لما تشفع: (لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة) . وأخرج أبو داود حديث عمرو بن شعيب عَنْ أَبِيِهِ عن جده يرفعه (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) وصححه الحاكم.
وأخرج أبو داود والحاكم، وصححه من حديث ابن عمر، قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول: (من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضاد اللَّه في أمره) .
وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قَالَ: (لقي الزبير سارقاً فشفع فيه فقيل: (حتى يبلغ الإمام) فقال: إذا بلغ الإمام فلعن اللَّه الشافع والمشفع) . فلا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز الشفاعة فيه إذا وصل الأمر إلى الحاكم.
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن الجارود، والحاكم، عن صفوان بن أمية رصي اللَّه تعالى عنه: أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به) ؟.
قالوا: وتسن الشفاعة الحسنة إلى ولاة الأمور من أصحاب الحقوق ما لم يكن في حد، أو أمر(5/9)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لا يجوز تركه، كالشفاعة إلى ناظر يتيم، أو وقف في ترك بعض الحقوق التي في ولايته، فهذه شفاعة محرمة شرعاً.
الشافعية - قالوا: إن الشفاعة الحسنة قيل أن يصل الأمر إلى الحاكم جائزة بقوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها} وبما في الصحيحين عن أبي موسى أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ "كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه، وقال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي اللَّه على لسان نبيه ما شاء") .
-(5/10)
بيان الحدود الشرعية وما في معناها (1)
-معنى الحد في اللغة: المنع، ويطلق على العقوبة التي وضعها الشارع لمرتكب الجريمة، وذلك لأنها سبب في منع مرتكب الجريمة من العودة إليها، وسبب في منع من له ميل إلى الجريمة عن ارتكابها.
وكذلك يطلق على المعاصي. ومنه قوله تعالى: {تلك حدود اللَّه فلا تقربوها} أي تلك المعاصي التي نهى اللَّه عنها، فلا يحل لكم قربانها.
ويطلق أيضاً على ماحده اللَّه وقدره من أحكام، ومنه قوله تعالى: {ومن يتعدى حدود اللَّه فقد ظلم نفسه} .
-
__________
(1) (معنى الحدود: الحد في اللغة المنع، ومنه الحداد للبواب، لمنع الناس من الدخول، وحدود العقاب موانع من وقوع الإشتراك، وأحدت المعتدة، إذا ما نعت نفسها من الملاذ والتنعم على ما عرف. وسمي اللفظ الجامع المانع حداً، لأنه يجمع معاني الشيء، وبمنع دخول غيره عليه.
وحدود الشرع موانع، وزواجر عن ارتكاب أسبابها. والحد في اصطلاح الفقهاء: عقوبة مقدرة وجبت حقاً للَّه تبارك وتعالى، وفيها المعنى اللغوي كما بيناه.
والحدود في الإسلام ثابتة بآيات القرآن الكريم مثل آية الزنا، وآية السرقة، وآية قذف المحصنات، وآية المحاربة، وآية تحريم الخمر، وغير ذلك.
كمل أنا ثابتة بالأحاديث النبوية الواردة في الحدود، وفعل رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مثل حديث ماعز، وحديث الغامدية، وحديث العسيف، وحديث نعيمان، وغيرها من الأحاديث الثابتة. وثايتة بفعل الصحابة رضي اللَّه عنهم، وعليه إجماع الأمة. كما أن العقل السليم يقرها ويؤيدها، لأن الطباع البشرية، والشهوة النفسانية، مائلة إلى قضاء الشهوة، واقتناص الملاذ، وتحصيل مطلوبها ومحبوبها، من الشرب، والزنا، والتشفي بالقتل، وقطع الأطراف، وأخذ مال الغير، والاستطالة على الناس بالسب والشتم، خصوصاً من القوي على الضغيف، ومن الكبير على الصغير. فاقتضت الحكمة شرع هذه الحدود حسماً لهذا الفساد أن يستشري، وزجراً عن ارتكابها، حتى يبقى العالم على طريق الاستقامة والأمان. فإن عدم وجود الزواجر في العالم يؤدي إلى انحرافه، وفيه من الفساد ما لا يخفى) .
-(5/11)
العقوبات الشرعية
-ونحن الآن بصدد بيان الحدود الشرعية بمعنى العقوبات وما في معنى الحدود من قصاص، وتعذير.
وإليك البيان.
إن الشريعة الإسلامية قسمت العقوبات إلى ثلاث أقسام.
القسم الأول
الحدود: وقد عرف الفقهاء الحد، بأنه عقوبة مقدرة حقاً للًّه تعالى - فمتى علم الحاكم بمجرم استحق عقوبة الحد، فإنه يجب عليه التنفيذ. ولا يملك العفو عنه.
والجرائم التي تستوجب الحد هي (1) :
أولاً: الزنا. ومثله اللواط. على خلاف ستعرفه.
ثانياً: السرقة.
ثالثاً: القذف.
رابعاً: شرب الخمر. على خلاف ستعرفه.
أما حد الذين يسعون في الأرض فساداً فلا يخرج عن حد السرقة، أو القصاص، أو التعذير.
__________
(1) (الشافعية - قالوا: إن الجنايات الموجبة للحد سبعة أقسام وهي:
الأول: كتاب الجراح - ويشمل القصاص في النفس والأطراف، والديات، وغيرها.
الثاني: كتاب البغاة - الثالث: كتاب الردة.
الرابع: كتاب الزنا.
الخامس: كتاب حد القذف.
السادس: كتاب قطع السرقة.
السابع: كتاب الأشربة المحرمة.
الحنفية - قالوا: إن الحدود ما ثبتت بالقرآن الكريم وهي خمسة فقط.
الأول: حد الزنا وهو ثابت بآية {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللَّه إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر} الآية.(5/12)
القسم الثاني
القصاص: وهو معاملة الجاني بمثل اعتدائه، فإن القصاص معناه المماثلة، ومنه قص الحديث، إذا أتى به على وجهه، ولا يسمى القصاص حداً، لأنه حق للعبد، له أن يعفو عنه.
كما يأتي.
القسم الثالث
التعذير: وهو تأديب على ذنب لا حد فيه، ولا كفارة له، كما ستعرفع بعد. ثم إن المتفق عليه من الحدود ثلاثة:
الأول: حد الزنا. وإن قَالَ بعضهم: إنه لا رجم فيه.
الثاني: حد القذف.
الثالث: حد السرقة.
__________
الثاني: حد السرقة وهو ثابت بقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم} آية 38 من المائدة.
الثالث: حد شرب الخمر، وهو ثابت بقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} .
الحد الرابع: حد قطاع الطريق وهو ثابت بقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون اللَّه ورسوله ويسعون في الأؤض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} . آية 33 من المائدة.
والخامس: حد القذف، وهو ثابت بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} آية 4 من النور.
وقالوا: إن القصاص لا يسمى حداً لأنه حق العباد، وكذا التعذير لا يسمونه حداً لأنه ليس بمقدر. وعد بعضهم عقوبة السحر من الحدود.
المالكية - قالوا: 1 - باب الجناية على النفس أو على ما دونها.
-2 - باب - حد البغي.
-3 - باب - الردة وأحكامها.
-4 - باب حد الزنا.
-5 - باب - حد القذف.
-6 - باب - حد السرقة.
-7 - باب - ذكر الحرابة وما يتعلق بها.
-8 - باب - حد الشرب وأشياء توجب الضمان) .
-(5/13)
القسم الأول
حد شرب الخمر
أما حد شرب الخمر، فجمهور الأئمة والعلماء على أنه حد. وبعضهم قال: إنه من باب التعزير.
ومع ذلك فقد اختلفوا في مقداره:
المالكية، والحنفية، والحنابلة - يقولون: إنه ثمانون جلدة، لأن عمر رضي الله تعالى عنه قدره بثمانين جلدة، ووافقه عليه الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
كتاب الأشربة
الأشربة جمع شراب بمعنى مشروب - والشروب هو المولع بالشراب المدمن عليه. وشربها من كبائر المحرمات. بل هي أم الكبائر كما قَالَ سيدنا عمر للخطاب. وسيدنا عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنهما وكان تحريمها في السنة الثانية من الهجرة بعد غزوة أحد.
والأصل في تحريمها كما ذكره المفسرون: نزل في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى. {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثم إن سيدنا عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل، ونفراً من الصحابة قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل ومسلبة للمال. فنزل قوله تعالى: {ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} الآية. فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا، فقام بعضهم يصلي فقرأ: {قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون} فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} ، فقل من يشربها. ثم دعا عثمان بن عفان مالك جماعة من الأنصار، فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر: اللَّهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزل قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} إلى قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} فقال عنمر: انتهينا يا رب.
والحكمة في تحريم الخمر على هذا الترتيب أن اللَّه تعالى علو أن القوم ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فكان من الحكمة أن يحرمها بالتدريج والرفق.
وذكر بعض العلماء أن آية البقرة تدل على تحريم الخمر من ثلاثة وجوه.(5/14)
الشافعية - يقولون: إنه أربعون جلدة، لنه هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد، والنعال أربعين".
ويكفي هذا الحد ولو تكرر منه الشرب.
أما ما فعله سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقد كان من باب التعزير، حيث رأى أن الخمرة قد فشت في بعض الجهات، فشدد العقوبة لزجر الشاربين.
-
__________
الأول: أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم، والإثم حرام لقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر.
الثاني: أن الإثم قد يراد به العقاب، وقد يراد ما يستحق به العقاب من الذنوب، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم.
الثالث: أنه تعالى قَالَ: {وإثمهما أكبرمن نفعهما} صرح برجحان الإثم والعقاب، وذلك يوجب التحريم.
والخمر من أفحش الذنوب. وأعظمها خطراً على المجتمع الإنساني كله، بذبك حرمها الشارع، وشدد في تحريمها وأنزل فيها عدة أحكام عالج فيها حالة العرب التي كانت تدمن الخمر، وتعدها من علامات الشهامة والمروءة ثم أنزل فيها آية التحريم {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} فوصف اللَّه تعالى الخمر بأنه رجس: أي قذر تنفر منه العقول السليمة، وهو لفظ يدل على منها القبح والخبث، والميسر، هو قمارهم في الجذور، والأنصاب هي ألهتهم التي يعبدونها، والأزلام سهام مكتوب عليها شر وخير، وقد قرن اللَّه تعالى الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام وهي من أعمال الوثنية والشرك فكأنه قريب من هذه المنكرات، وقد وصف اللَّه هذه الأقسام الأربعة بوصفين: الأول قوله {رجس} ، وهو كل ما استقذر من عمل، والثاني قوله {من عمل الشيطان} وه مكمل لكونه رجساً لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر {إنما المشركون نجس} والخبيث لا يدعوا إلا إلى خبيث.
وقد روى ابن ماجة عن ابي هُرَيْرَة رضي اللَّه عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (مدمن الخمر كعابد وثن) . وقال صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه) . وجعلها اللَّه تعالى وأخواتها من عمل الشيطان لما ينشأ عنها من الشرور والأضرار، وما يترتب عليها من الكبائر والمصائب، وكل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد به المبالغة في كمال قبحه قَالَ تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه قَالَ هذا من عمل الشيطان} بل وصف الرَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الخمر بأنها أم الخبائث، فقال صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (الخمر أم الخبائث) .(5/15)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وروى الطبراني في الكبير من حديث بن عمر رضي اللَّه عنهما (الخمر أم الخبائث، وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه، وعمته) .
وقد جعل اللَّه تعالى النهي عنها بلفظ الإجتناب فقال {فاجتنبوه} أي كونوا جانباً منه وهو أبلغ من لفظ التحريم والترك لأنه يفيد الأمر بأن يكون التارك في جانب بعيد عن الشيء، لخطورته وفظاعته، أي ابتعدوا عنه، وخذوا حذركم منه فليعتبر أولئك الفسقة الذين يقولون: إنما الخمر لم ينزل فيها نهي في القرآن، أي لم يصرح القرآن بأنها حرام، والحق أنه نهى عنها بأبلغ عبارة التحريم، ثم جعل اللَّه تعالى اجتنابها والبعد عنها يوصل للفلاح، ويقرب إلى الفوز والسعادة الدنيوية والآخروية، فقال تعالى {لعلكم تفلحون} وفيه إشارة أن شربها يقرب من الخسران والخيبة، وفساد الدين والدنيا معاً، وضياع الصحة والعقل والمال.
ولما أمر اللَّه تعالى باجتناب هذه الموبقات الأربع ذكر نوعين من أكبر المفاسد الخطرة في الخمر والميسر، الأول: ما يتعلق بالدنيا وهو قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} أما في الخمر فلأن الغالب أن من يقبل على شرب الخمر، إنما يشربها مع أصحابه ويكون قصده من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه، ويسر بمحادثتهم ومكالمتهم، فأن غرضه من ذلك الإجتماع تأكيد الإلفة والمحبة، إلا أنه ينقلب في كثير من الأحيان إلى ضد مقصوده لأن الخمر يزيل العقل، وإذا ذهب العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة والمشاحنة بين المجتمعين، وربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد، والميسر، يجر صاحبه إلى الفقر والمسكنة حتى يصل به الحال أن يقامر على جسده وأهله، وولده بعد فقدان ماله فيصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا يلاعبونه.
فظهر أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة، والبغضاء بين الناس، وتقطيع أوصال المجتمع، ولاشك أن العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة، من الهرج والمرج والفتن، وفساد المجتمع الإنساني كله.
النوع الثاني - المفاسد المتعلقة بالدين، وإليه الإشارة بقوله عز وجل {ويصدكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة} وهما روح الدين وعماده.
أما أن الخمر تمنع عن ذكر اللَّه فظاهر لأن شرب الخمر يورث الطرب، واللذة الجسمانية، والنفس إذا استغرقت في الملذات، غفلت عن ذكر اللَّه تعالى وأعرضت عن طاعته عز وجل.
وأما الميسر، فلأن إستغراق الشخص في العب مانع من أن يخطر بباله شيء سواه، وهي تصد اللاعب عن ذكر اللَّه، وتصرفه عن الصلاة، وتنسيه طاعة مولاه.
ولما بين اللَّه تعالى اشتمال شرب الخمر ولعب الميسر على هذه المفاسد الخطيرة في الدنيا(5/16)
__________
والدين. قَالَ تعالى: {فهل أنتم منتهون} هذا اللفظ وإن كن استفهاماً في الظاهر، إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيق، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وبين قبحها لعباده، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها، لم يسع المخاطب إلا الإقرار باترك. فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه؟ فصار قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} جارياً مجرى تنصيص اللَّه تعالى على وجوب الإنتهاء، مقروناً بإقرار المكلف بوجوب الإنتهاء بدافع من تفسه.
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه:
أحدها: تصدير الجملة بلفظ {إنما} وذلك لأنه للحصر، فكأنه تعالى قَالَ: لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة.
وثانيها: أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان، حتى أصبح مثله، كما قَالَ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (شارب الخمر كعابد الوثن) .
وثالثها: أنه تعالى أمر بالإجتناب، وظاهر الأمر الوجوب.
ورابعها: أنه تعالى قَالَ: {لعلكم تفلحون} جعل الإجتناب من الفلاح، وإذا كان الإجتناب فلاحاً كان الإرتكاب خيبة.
وخامسها: أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة عنها في الدنيا والدين، وهي وقوع التعالدي، والتباغض بين الخلق وحصول الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى وعن الصلاة.
وسادسها: قوله تعالى {فهل أنتم منتهون} وهو من أبلغ ما ينتها به، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح، فهل أنتم منتهون من هذه الصوارف، أم أتنم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ.
وسابعها: أنه تعالى قَالَ بعد ذلك {وأطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واحذروا} فظاهره أن المراد، وأطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالإجتتناب عن الخمر والميسر، وقوله {واحذروا} أي احذروا عن مخالفتهما في هذه التكاليف.
وثامنها: قوله تعالى: {فإن تويلتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين} وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم اللَّه عز وجل - وبيانه - يعني أنكم إذا توليتم فالحجة قائمة عليكم، والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ، والإعزار والإنذار، فأما ما(5/17)
__________
وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى اللَّه تعالى. ولا شك أنه تهديد شديد فصار كل واحد من هذه الوجوه الثمانية، دليلاً قاطعاً وبرهناً ساطعاً في تحريم الخمر.
حد الشرب
اتفق الأئمة على أن الذي يوجب هذا الحد، إنما هو شرب الخمر، دون إكراه، قليلها، وكثيرها.
واتفق الأئمة: على أنه يثبت الحد بشهادة عدلين، أو الإقرار بذلك.
واتفق الأئمة: على أنه لاتقبل شهادة النساء وحدهن، ولا مع الرجال في إثبات حد الشرب. لأن فيها شبهة البدلية، وتهمة الضلال والنسان. فالبينة تكون ناقصة، والأصل براءة الذمة.
واتفق الأئمة الأربعة: على أن الإقرار في شرب الخمر يثبت الحد، ولو مرة واحدة.
وقال أبو يوسف من الحنفية: يشترط أن يكون الإقرار مرتين، ويقول: شربت الخمر، أو شربت ما يسكر، ولا يحد باليمين المردودة في الأصح.
واختلفوا في تعريف السكران.
الحنفية قالوا: السكران هو الذي لا يعرف منطقاً لا قليلاً ولا كثيراً، ولا يعرف الأرض من السماء ولا يعرف المرأة من الرجل، فيزول تمييزه بالكلية، ويصبح بحالة يدرك الأشخاص ولكن يجهل الأوصاف.
المالكية، والشافعية، والحنبابلة، والصاحبان من الحنفية - قالوا: السكران هو الذي يهذي ويخلط كلامه ويستوي عنده الحسن والقبيح، لأنه هو السكران في العرف.
واتفق الأئمة الأربعة: على أن الخمر نجسة، وعلى تحريم بيعها على المسلمين، وإهدار ماليتها، فمن كسر دن خمر عند مسلم، لا يعاقب بالضمان لقول رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها، وأكل ثمنها) فهي ليست بمال، فلا يصح دفعها مهراً، ولا أجراً.
واتفق الأئمة الأربعة: على أن عصير العنب إذا اشتد، وغلى، وقذف بالزبد، فهو خمر من غير خلاف بينهم على حرمة شربه، وإقامة الحد على شاربه.(5/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حكم شرب الأنبذة
واختلف العلماء في حكم شرب الأنبذة.
الحنفية قالوا: الحد في غير الخمر من أنواع الأنبذة إنما يتعلق بالسكر فقط، فنقيع التمر والزبيب إذا غلي واشتد كان محرماً قليله وكثيره، ويسمى نبيذاً لا خمراً، فإن أسكر ففي شربه الحد، ويكون نجساً نجاسة مغلظة، لثبوتها باليل القطعي، قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (الخمر من هاتين الشجرتين، وأشار إلى الكرم، والنخلة) فإن طبختا، أو كانا في طبيخ حل منهما ما يغلب على ظن الشارب منه أنه لا يسكر، من غير طرب. فإن اشتد غليانهما حرم الشرب منهما.
أما نبيذ الحنطة، والتين، والأرز، والشعير، والذرة، والعسل. فإنه حلال عند الحنفية. نقيعها، ومطبوخها، وإنما يحرم المسكر منه، ويحد فيه إذا أسكر كثيره، وكذا المتخذ من الألبان إذا اشتد.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: كل شراب يسكر كثيره فشرب قليله حرام، ويسمى خمراً، وفي شربه الحد سواء أكان من عنب، أو زبيب، أو حنطة، أو شعير، أو تين، أو ذرة، أو أرز، أو عسل، أو لبن، ونحو ذلك. نيئاً كان أو مطبوخاً. لأن اسم الخمر لغة - ما خامر العقل - وروي أن الرَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (كل مسكر خمر) فاخمر حقيقة لغوية في عصير العنب المشتد، وحقيقة شرعية في غيره مما يسكر من الأشربة، أو قياس في اللغة - وروي في الصحيحين من حديث عمر رضي اللَّه عنه أنه قَالَ: (نزل تحريم الخمر وهي خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خمر العقل) متفق عليه ووجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت، وهي تتخذ من الحنطة والشعير، كما أنها تتخذ من العنب، والتمر، وهذا يدل على أنهم يسمونها كلها خمراً.
وثانيها: أنه قَالَ: حرمت الخمر يوم حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمسة وهذا كالتصريح بأن الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة.
وثالثها: أن عمر رضي اللَّه عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب، ولا شك أن عمر رضي اللَّه عنه كان عالماً باللغة، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل بتغيره.
واحتجبوا ثانياً - بما روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً) والاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أن هذا الحديث صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر، فتكون داخلة تحت الآية على تحريم الخمر.
وثانيهما: أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم(5/19)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الثابت في الخمر ثابت فيها. والحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب فوجب أن يكون ثابتاً في هذه الأشربة المذكورة.
قال الخطابي رحمه اللَّه: وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا في الأشياء الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان، فكل ما يكون في معناه من ذرة، أو سلف، أو عصارة شجرة. فحكمها حكم هذه الخمسة. كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها.
وحجتهم الثالثة:
روى أبو داود أيضاً عن نافع عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) .
قَالَ الإمام الخطابي: قوله عليه الصلاة والسلام، (كل مسكر خمر) . دل على وجهين:
أحدهما: أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر كان مسمى مجهولاً للقوم، أو يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة.
وحجتهم الرابعة:
روى أبو داود عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: سئل رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن البتع فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) .
والبتع شراب يتخذ من العسل، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة. وإفساد قول من قَالَ: إن القليل من المسكر مباح لأنه عليه السلام سأل عن نوع واحد من الأنبذة. فأجاب عنه بتحريم الجنس، فيدخل فيه القليل والكثير منها، ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولم يهمله.
وحجتهم الخامسة: ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ورواه أحمد وابن ماجة، والدارقطني وصححه عن ابن عمر، وكذا أحمد والنسائي من حديث عمرو.
وحجتهم السادسة: ما روي عن القاسم عن أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه تعالى عنهما قَالَت: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول: (كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام) رواه أحمد، والفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً، وفي رواية الإمام أحمد في الأشربة بلفظ (فالأوقية منه حرام) وذكر ملء الكف والأوقية في الحديث على سبيل التمثيل، وإلا فهو شامل للقطرة الواحدة. لما روي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ: (حرمت الخمر قليلها وكثيرها. والسكر من كل شراب) أخرجه النسائي.
وحجتهم السابعة: ما رواه أبو داود عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي اللَّه عنها أنها قالت: (نهى رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن كل مسكر ومفتر) والمفتر كل شراب يورث الفتور في الجسم والخمول في الأعضاء، وهذا ل شك متناول لجميع أنواع الأشربة المسكرة والمفترة لأعضاء الجسم.(5/20)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وما رواه النسائي والدارقطني عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه: (أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نهى عن قليل ما أسكر كثيره) .
وما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أتى برجل قد سكر من نبيذ تمر فجلده أي أقام عليه حد الخمر، فهذا دليل صريح في أن نبيذ الخمر إذا أسكر أخذ حكم الخمر المصنوع من العنب.
وما روي عن ابن هُرَيْرَة رضي اللَّه عنه عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (الخمر من هاتين الشجرتين النخل) رواه الجماعة إلا البخاري وما روي عن انس رضي اللَّه تعالى عنه قَالَ: (إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر والتمر) متفق عليه.
وما روي عن جابر رضي الله عنه (أن رجلأمن جيشان، وجيشان من اليمن - سأل الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، فقال: أمسكر هو؟ قال: نعم. فقال: كل مسكر حرام. إن على اللَّه عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال - قالوا: يارسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، فهذا يدل على تحريم كل مسكر ولو كان من غير عصير العنب فإن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (كل مسكر حرام) ولم يذكر نوع الشراب ولم يحدده. فهذه الأحاديث التي ذكرناها وغيرها ممن لم نذكره دالة على أن كل مسكر فهو حرام.
النوع الثاني من الأدلة على أن كل مسكر حرام سواء أكان من عصير العنب أم من غيره من أنواع الأنبذة، التمسك بكلام أهل اللغة. فقد قالوا: إن الخمر ما خامر العقل - أي غطاه وخالطه فلم يتركه على حاله - والعقل هو الجوهرة التي كرم اللَّه بها بني لآدم على جميع خلقه، وسلطه بسببها على ما في الأرض والتمتع بها، والتمكن من الصناعات وغيرها. وقوة الإدراك بها العلوم والمعارف. ولشرفها ومكانتها حرم اللَّه تعالى الخمر التي تغطيها وتخامرها، قَالَ ابن الأنباري: سميت خمراً لأنها تخامر العقل، أي تخالطه. كما سميت مسكراً لأنها تسكر العقل، أي تحجزه، وتمنع وصول نوره إلى الأعضاء.
قَالَ الراغب في كتابه "مفردات القرآن". سمي الخمر لكونه خامراً للعقل، أي ساتراً له. وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر. وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة. وعند بعضهم المتخذ من العنب والتمر, وعند بعضهم لغير المطبوخ، رجح أنه اسم لكل شيء ستر العقل. وكذا قَالَ غير واحد من أهل اللغة، منهم الدينوري، والجوهري.
قَالَ صاحب الهداية من الحنفية: الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة، وأهل العلم. قَالَ: وقيل هو اسم لكل مسكر لقوله صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (كل مسكر خمر) ولأنه من مخامرة(5/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
العقل، وذلك موجود في كل مسكر، قَالَ: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ماعدا المتخذ من العنب ظني، قَالَ: وإنما يسمى الخمر خمراً لتخمره، لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصاً فيه كما في النجم فإنه مشتق من الطهور ثم هو خاص بالثرايا، اه.
قَالَ في الفتح والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمراً، وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمراً، عرب فصحاء فلو لم يكن هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه.
وقال ابن عبد البر: قَالَ الكوفيون: الخمر من العنب لقوله تعالى: {أعصر خمراً} فقالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعصر لا ما ينبذ، قَالَ: ولا دليل فيه على الحصر. قَالَ أهل المدينة وسائر الحجازيين، وأهل الحديث كل مسكر خمر، وحكمه حكم ما اتخذ نم العنب، فيكفر مستلها، وتصير نجسة، ولا قيمة لها في حق المسلم، ولا يجوز بيعها ولا الانتفاع بها.
وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها يبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كانت من غيره فلا تسمى خمراً، ولا يتناولها اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، والسنة الصحيحة، وللصحابة الفصحاء، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كا مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب، وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما، ولم يتوقفوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن الكريم، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا الأمر، فلما لم يفعلوا ذلك، بل بادروا إلى إتلاف الجميع علمنا أنهم فهموا التحريم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
وقد ذهب إلى التعميم الإمام علي كرم اللَّه وجهه، وسيدنا عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمر، وأبو موسى الأشعري، وأبو هُرَيْرَة، وابن عباس، والسشيدة عائشة رضوان اللَّه عليهم أجمعين. وذهب إلى التعميم من التابعين، الإمام ابم المسيب، وعروة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأخرون، وهو قول مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن مبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث رحمهم اللَّه تعالى.
قَالَ في الفتح: ويمكن الجمع بين القولين بأن من أطلق ذلك على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية.(5/22)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقد أجاب بهذا ابن عبد البر، وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي.
وقد تقرر أن نزول القرآن بتحريم الخمر وهي من البسر ذاك، فيلزم من قَالَ: إن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، أن يكون إطلق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم بلغتهم تحريم الخمر أراقوا كل ما يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازاً، وهو ذلك فصح أن الكل خمر حقيقة، وانفكاك عن ذلك.
وذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لآية تحريم الخمر ما نصه: (واعلم أن من أنصف، وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام، وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله: {أنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة} ، قَالَ بعده: {فهل أنتم منتهون} فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد، ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر، وهذا يفيد القطع بأن القطع علة قوله {فهل أنتم منتهون} هي كون الخمر مؤثرة في الإسكار، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام، ومن أحاط عقله بهذا التقدير، وبقي مصراً على قوله، فليس لعناده علاج.
الحنيفية - احتجوا على قولهم: بأن نبيذ الحنطة، والتين، والأرز، والشعير، والذرة، والعسل وغيره، حلال، نقيعاً ومطبوخاً إذا لم يسكر، ولا يحد شاربه حتى يسكر منه، ولا يكفر مستحله مثل الخمر، واحتجوا على رأيهم هذا بأدلة.
أحدها - قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} فقد من اللَّه تعالى على عباده باتخاذ السكر من النخيل والأعناب، وما نحن فيه سكر ورزق حسن، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.
ثانيها - ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أتى السقاية عام حجة الوداع، فاستند إليها وقال: (اسقوني، فقال العباس: ألا أسقيك مما نبذ في بيوتنا؟ فقثال: ما تقي الناس، فجاءه بقدح من النبيذ، فشمه فقطب وجهه ورده فقال العباس: يَا رَسُولَ اللَّهِ أفسدت على أهل مكة شرابهم، فقال الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: ردوا علي القدح، فردوه عليه، فدعا بماء زمزم، وصب عليه وشرب، وقال: إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا غلمتها بالماء) .
ووجه الاستدلال بهذا الحديث، أن التقطيب لا يكون إلا من التغير الشديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع هذه الشدة، وشربه لها دليل حلها بالنص.
ثالثها - التمسك بآثار الصحابة رضوان اللَّه علهيم، وأن اسم الخمر المحرم شربه إنما هو من عصير العنب والتمر إذا غلي واشتد وقذف بالربد وهو محرم بالدليل القطعي بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، والتواتر وبحكم بفسق من استحل ما عدا خمر الشجرتين وتحريم سائر المسكرات بالسنة والقياس فقط.(5/23)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والراجح من هذه الأقوال:
أن كل شراب يسكر كثيره، فشرب قليله حرام، ويسمى خمراً، وفي شربه الحد سواء أكان الشراب من عصير العنب، أو التمر، أو الزبيب، أو الحنطة، أو الشعير، أو التين، أو الذرة، أو الأرز، أو العسل، أو اللبن، أو غيرها، نيئاً كان أو مطبوخاً، وسواء أتعاطاه شراباً او غيره. وسواء جامده، أو مائعه، وسواء تناوله معتقداً تحريمه، أم إباحته. لضغف أدلة الإباحة. وذلك القول هو المعول عليه عند أكثر العلماء، خصوصاً في هذا الزمان الذي فسدت فيه النفوس - وضعف الوازع الديني وكثرت فيه أنواع المشروبات الروحية المسكرة وسموها بأسماء براقة. مثل "البيرة" ومثل "البوظة" "القات" ومثل "التنكة" ومثل "العرقي" وغير ذلك مما يستحله أهل هذا العصر وهو حرام لأن كثيره يسكر، وهو وخمرٍ، وصدق رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حينما أخبر بما سيحدث في هذا الزمان حيث قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما روي عن أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه أنه سمع الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول: (ليشربن أناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه) رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وقال: تشرب مكان تستحل.
وعن أبي أمامة رضي اللَّه عنه أنه قَالَ: (قال رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: لاتذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها) رواه ابن ماجة رحمه اللَّه تعالى.
وعن ابن محيريز عن رجل من أصحاب الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (يشرب ناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير أسمائها) رواه النسائي رحمه اللَّه تعالى.
فهذه الأحاديث وغيرها من الأدلة القاطعة بصدق نبوة الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه لأنه أخبر بما يحدث في المستقبل، وهو لا ينطق عن الهوى. وظهر ما أخبر عنه الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من أنواع المشروبات في هذا الزمان.
حكم شرب العصير قبل أن يشتد
اختلف العلماء في حكم العصير. إذا مضى عليه ثلاثة أيام وهو نئ ولم يغلي ولم يشتد ويقذف بالزبد.
الحنفية، والمالكية، والشافعية - قالوا: إذا مضى على العصير لاثلاثة أيام أو أقل. ولم يغلي، ولم يشتد. ولم يقذف بالزبد، لا يصير خمراً، وحل شربه إنه في هذه الحالة يكون غير مسكر.
وحجتهم في ذلك ما روي عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: (كنا ننبذ لرَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في سقاء يوكى (يوكى: أي يشد بالوكاء، وهو الرباط) . وله عزلاء (وله عزلاء: بفتح العين المهملة وإسكان الراء: وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة والقربى) . ننبذه غدوة فيشربه عشياً، وننبذه عشياً فيشربه غدوة) رواه الإمام(5/24)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أحمد ومسلم، وأبو داود، والإمام الترمذي رحمهم اللَّه تعالى.
وما روي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قَالَ: (كان رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ينبذ له أول الليل، فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإذا بقي شيء سقاه الخدم، أو أمر فصب) رواه الإمام أحمد، ومسلم رحمهم اللَّه تعالى.
وفي رواية (كان ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فسقى الخادم، أو يهراق) رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، ومعنى (فيسقى الخادم) محمول على أن النبيذ لم يكن في هذه الحالة قد بلغ إلى حد السكر، لأن الخادم لا يجوز أن يسقى الشراب الذي يسكره، كما لا يجوز له شربه، بل يجب إراقته، بعد عصر اليوم الثالث لأنه يتغير ويصير مسكراً، فيحرم شربه، ويكون نجساً فيراق. وأخرج ابن أبي شيبة، والنسائي من طريق سعيد بن المسيب والشعبين والنخعي، (اشربوا العصير ما لم يغلي) . وعن الحسن البصري رضي اللَّه تعالى عنه (اشربوا العصير ما لم يتغير) وهذا قول كثير من السلف: إن العصير يشرب مالم بيدو فيه التغير قبل مضي ثلاثة أيام، أما إذا ظهر فيه التغير فيحرم شربه، وعلامة ذلك أن يأخذ في الغليان، وهذا يختلف باختلاف نوع العصير، واختلاف الجو الذي يكون فيه، فإذا كان في منطقة حارة فإنه يتسرب إليه الفساد سريعاً، أما إذا كان في وقت الشتاء أو في منطقة باردة فإن الفساد لا يسرع إليه، فجواز شربه مقيد بعدم البدء بالغليان - أما إذا بدأ فيه الغليان فإنه يحرم.
الحنابلة - قالوا: إذا مضى على العصير ثلاثة أيام، يصير خمراً، ويحرم شربه ويجب إراقته، وإن لم يغل، ويشتد، ويقذف بالزبد. وذلك لنها إنما سميت خمراً لأنها تركت حتى اختمرت، أي تغير ريحها ولما روي عن ابي هُرَيْرَة رضي اللَّه تعالى عنه أنه قَالَ: (علمت أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش، فقال: أضرب بهذا الحائط، فإن هذا الشراب من لا يؤمن باللَّه واليوم الأخر) رواه أبو داود، والنسائي رحمهما اللَّه تعالى.
وبما روي عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قَالَ في العصير: (اشربه ما لم يأخذه شيطانه، قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قَالَ: في ثلاث. حكاه أحمد وغيره. وأورد الشوكاني في نيل الأوطار وقوله (فتحينت فطره) أي انتظرته وقت فطره. وقوله (صنعته في دباء) أي في إناء قرع. وقوله (ينش) بفتح الياء وكسر النون، أي (غلي) يقال: نشت الخمر تنش نشيئاً إذا غلت. والحاصل أنه يجوز شرب الأنبذة ما دامت حلوة، ولم تأخذ في التغير، أما إذا اشتد النبيذ وأسرع إليه التغير في زمان الحر، حرم شربه، بإجماع الآراء
حكم العصير المغلي
الحنفية - قالوا: العصير إذا طبخ فذهب ثلثه، يسمى الطلاء، وإذا ذهب نصفه يسمى المنصف. وإن طبخ أدنى طبخ فالباذق - والكل حرام إذا غلي واشتد وقذف بالزبد، لأنه رقيق لذيذ، مطرب يجتمع(5/25)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الفساق عليه، فيحرم شربه دفعاً لما يتعلق به من الفساد، أما إذا طبخ حتى إذا ذهب ثلثاه فهو حلال وإن اشتد إذا قصد به التقوى. وإن قصد به التلهي فهو حرام وذلك لما أخرجه النسائي عن طريق عبد اللَّه بن يزيد الخطمي قَالَ: كتب عمر: اطبخوا شرابكم حتى يذهب نصيب الشيطان اثنين، ولكم واحد، وصحح هذا الحافظ في الفتح.
وأخرج الإمام مالك رحمه اللَّه في الموطأ من طريق محمود بن لبيد الأنصاري، أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض، وثقلها، وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب. فقال عمر: اشربوا العسل، قالوا ما يصلحنا العسل، فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن تجعل من هذا الشراب شيئاً لا يسكر؟ فقال: نعم، فطبخوا حتى ذهب منه الثلثان، وبقي الثلث، فأتوا به عمر، فأدخل فيه إصعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط، فقال: هذا الطلاء مثل طلاء الإبل، فأمرهم عمر أن يشربوه، وقال: اللَّهم إني لا أحل لهم شيئاً حرمته عليهم، وورد من طريق سعيد بن المسيب، أن عمر أحل من الشراب ما يطبخ ثلثاه، ويبقى ثلثه.
قَالَ في الفتح: وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور، أبو موسى، وأبو الدرداء، أخرجه النسائي عنهما. والإمام علي كرم اللَّه وجهه، وأبو أمامة، وخالد بن الوليد، وغيرهم، أخرجه ابن أبي شيبة، وغيره.
ومن التابعين ابن المسيب، والحسن، وعكرمة، ومن الفقهاء، الثوري والليث.
المالكية والشافعية، والحنابلة - قالوا: العصير المطبوخ يمتنع شربه إذا صار مسكراً، قليلاً أو كثيراً سواء غلي أم لا، لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار، بأن يغلي، ثم يسكن غليانه بعد ذلك. فشرط تناوله عندهم ما لم يسكر.
فقد أخرج الإمام مالك بإسناد صحيح (أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قَالَ: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شرب الطلاء، وإني سائل عما شرب، فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحد تاماً) وفي السياق حذف، والتقدير، فسأل عنه فوجده يسكر فجلده وأخرج سعيد بن منصور عنه نحوه.
وفي هذا رد على من احتج بأن عمر بن الخطاب جوز شراب المطبوخ إذا ذهب منه ثلثاه ولو أسكر. وقال أبو الليث السمرقندي: شارب المطبوخ إذا كان يسكر أعظم ذنباً من شارب الخمر، لأن شارب الخمر يشربها وهو عالم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالاً. وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام، وثبت قوله صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (كل مسكر حرام) ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر.
الشافعية والمالكية والهادوية - قالوا: يحرم شرب كل مسكر سواء كان من عصير أو نبيذ، ولا يجوز تناوله مطلقاً وإن قل ولم يسكر إذا كان في ذلك الجنس صلاحية الإسكار.(5/26)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
النهي عن تخليل الخمر
الحنفية - قالوا: إن الخمر خل الخمر حلال سواء تخللت، أو خللت لقوله صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (نعم الادم الخل مطلقاً) وقوله صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (خير خلكم خل خمركم) ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد ويثبت وصف الصلاحية، لأن فيه مصلحة قمع الصفراء والتغذي، ومصالح كثيرة، وإذا زال المفسد الموجب للحرمة حلت، كما إذا تخللت بنفسها، وإذا تخللت طهر الإناء أيضاً، لأن جميع ما فيه من أجزاء الخمر يتخلل، إلا ما كان منه خالياً عن الخل، فقيل يطهر تبعاً.
الشافعية - قالوا: إذا كان التخليل بالنقل من الشمس إلى الظل أو نحو ذلك فأصح وجه عندهم أنها تحل وتطهر.
المالكية - تروى عنهم ثلاث روايات أصحها أن التخليل حرام فلو خللها عصى وطهرت. وذلك لما روي عن أنس (أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سئل عن الخمر يتخذ خلاً فقال: لا) رواه أحمد ومسلم وأبو داود رحمهما اللَّه وفيه دليل للجمهور على لأنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل، وذلك بوضع شيء فيها.
حكم دردي الخمر
واختلف العلماء في حكم شرب (دردي) الخمر، وهو ما أسفل وعاء الخمر من عكر.
الشافعية - قالوا: يحرم شرب دردي الخمر، وإذا شرب يقام الحد عليه، وكذلك دردي باقي المسكرات ولا يحد بشربها إذا استهلكت فيه، وذلك بأكل خبز عجن دقيقه بها، لأن عين الخمر أكلتها النار، وبقي الخبز نجساً، ولا يحد بأكل معجون هي فيه، لاستهلاكها. ولا يأكل لحم طبخ بها، بخلاف مرقه إذا شربه، أو غمس فيه، أو صنع بها ثريداً فإنه يحد، لبقاء عينها، ولا يحد بحنقه بها، بأن أدخلها مع سائل في دبره.
ويحد بالسعوط، بأن أدخلها في أنفه، لأنه قد يطرب به، ولأنه يحصل الإفطار بهما للصائم أثناء صومه،
وقيل: لا يحد، إذا احتقن بها، أو أدخلها في أنفه، لأن الحد للزجر، ولا حاجة إليه هنا، فإن النفس لا يدعو إليه، وذكر البلقيني بأنه يحد في السعوط، دون الحقنة، لأنه قد يطرب منه، بخلاف الحقنة.
النفية - قالوا: يكره شرب دردي لاخمر، والامتشاط به، لأنه من أجزاء الخمر، ولا يحد شاربه، ما لم يسكره، لأنه ناقص، إذ الطباع السليمة تكرهه وتنبو عنه، وقليله لا يدعو إلى كثيره، فصار كغير الخمر، فلا يأخذ حكمه.(5/27)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حكم بيع الخمر
اتفق العلماء على أن الخمر يكفر مستحلها لثبوت حرمتها بدليل قطعي، وإجماع الأمة على حرمتها، وتواتر الأدلة. وأنها نجسة نجاسة مغلظة لثبوتها بالدليل القطعي، ولا قيمة لها في حق لامسلم، فلا يجوز له بيعها ولا يضمن غاصبها، ولا متلفها، لأن ذلك دليل عزتها، وتحريمها دليل إهانتها. وقد روي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ: (إن الذي حرم شربها، حرم بيعها، وأكل ثمنها) وكذلك يحرم الانتفاع بها لنجستها، ولأن في الانتفاع بها تقريبها واللَّه عز وجل يقول.. {فاجتنبوه} .
وأفتى علماء الإسلام بأنه لا يجوز تمكين غير المسلمين من بيع الخمور ظاهراً في أمصار المسلمين وبلادهم. لأن إظهار بيع الخمر إظهار للفسق، فيمنعون من ذلك، نعم لهم أن يبيعوا الخمر بعضهم لبعض سراً، كبيع لحم الخنزير، لأنها أموال معتبرة عندهم.
فائدة
يحد شارب الخمر، وإن لا يسكر منها حسماً لمادة الفساد، كما تقبيل الأجنبية والخلوة بها لإفصائه إلى الوطء المحرم. وللحديث الذي رواه الحاكم (من شرب الخمر فاجلدوه) ولم ينص على السكر وغيره. ولو فرض شخص لا يسكره الخمر، لأنه مدمن عليها، وقد تشرب دمه بها، حرم عليه شربها للنجاسة لا للإسكار، ويحد بشربها.
وإذا وجدت الخمر في دار إنسان، وعليها قوم جلسوا مجالس من يشربها. ولم يرهم أحد يشربونها، ولم تظهر رائحتها عليهم، ولم يقروا بشربها. عزرهم الإمام، لأنهم ارتكبوا أمراً محظوراً، وجلسوا مجلساً منكراً. أو وجدوا في يحملها، أو يحتفظ بها في داره عزر، لأنه ارتكب محظوراً.
من وجد ريح الخمر توجد منه
ومن شرب الخمر طواعية من غير إكراه. فأخذ وريحها موجودة، أو جاؤوا به إلى الحاكم وهو سكران من غير الخمر من النبيذ أو غيره من أنواع الأنبذة المعروفة، فشهد عليه شاهدان بالشراب، فإنه يقام عليه الحد. ولو أخذ وريحها توجد منه، فلما وصل إلى الحاكم انقطعت الرائحة لبعد المسافة يحد من غير خلاف أما إذا ذهب ريحها منه، وكانت المسافة قريبة فقد اختلف العلماء فيه.
الحنفية - قالوا: لا يقام عليه الحد، لأن الحد لا يقام إلا بشهادة الشهود مع وجود الرائحة.
أبو مُحَمَّد من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وفي رواية عن الحنابلة - قالوا: يقام عليه الحد بالشهادة مع عدم وجود وجود الرائحة فلا يشترط وجود مع البينة، أو الإقرار، حيث أنه لا حاجة إليها. ومن وجد منه ريح الخمر، ولم يقر، ولم تقم عليه الشهادة اختلف فيه.
الحنفية، والشافعية، وجمهور أهل العراق، وعلماء لابصرة - قالوا: لا يثبت الحد عليه(5/28)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بالرائحة، لأن جناية الشرب لم تثبت، حيث أن رائحة الخمر تلتبس بغيرها، فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها، ولا بذهابها، وهي شبهة تدرأ الحد.
المالكية، والحنابلة، وجمهور أهل الحجاز - قالوا: يجب إقامة الحد بوجود الرائحة، إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان. تشبيهاً لها بالشهادة على الخط، والصوت، لأن الرائحة من أقوى الدلائل على ثبوتها، وهي ل تلتبس على ذوي المعرفة، ويدل عليه ما في الصحيحين. عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه (أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد اللَّه: واللَّه لقد قرأتها على رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فقال: أحسنت، فبينا هو يكلمه، إذ وجد منه رائحة الخمر فقال: أتشرب الخمر، وتكتب بالكتاب؟ فضربه الحد - وهذا يدل على أن ابن مسعود إنما أقام عليه الحد لوجود رائحة الخمر منه. ولم تقم الشهادة، ولم يقر بالشرب) .
وأخرج الدارقطني بسند صحيح عن السائب بن يزيد، عن عمر بن الخطاب (أنه ضرب رجلاً وجد منه رائحة شراب) .
الإقرار بالشرب
ومن أقر بشرب الخمر، ولم يوجد منه رائحة الخمر، فقد اختلفوا فيه.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، والإمام مُحَمَّد من الحنفية - قالوا: يقام الحد عليه بلإقراره، لأن الإنسان لا يتهم على نفسه في التقادم، ولأن التقادم في الإقرار بحد الزنا لا يبطله بالإتفاق.
الحنفية - قالوا: لا يقام الحد على المقر بالشرب لإلا عند وجود الرائحة وقت لإقراره. لأن حد الشرب ثابت بإجماع الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة في لإقامة الحد، وهو ما روي عن أبي ماجد الحنفي قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد اللَّه بن مسعود فقال عبد اللَّه بن مسعود: ثرثروه، ومزمزوه، واستنكهوه. ففعلوا، فرده إلى السجن، ثم عاد به من الغد، ودعا بسوط، ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين، حتى صارت درة، ثم قَالَ للجلاد: اجلد ورجع يدك، واعط كل عضو حقه، فالحديث يفيد أنه أقام عليه الحد بظهور رائحة الخمر منه، بالثرثرة، والمزمزة - والثرثرة هي التحريك، والمزمزة - هي التحريك بعنف وأن ما فعله لأجل ظهور الرائحة منه. لأن التحريك يظهرها من المعدة حيث كانت خفيفة ثم تظهر، وهو مذهبه، فلم يقبل قيام الحد عليه بالشهادة، إلا إذا كان معها الرائحة، لأجل زوال الشبهة.
متى يقام الحد على السكران
اتفق الأئمة على أنه لا يقام الحد على السكران حتى يزول عنه السكر، ويصحو منه حتى يتألم من الضرب - ويحصل الإنزجار، والردع له. لأن غيبوبة العقل، وغلبة الطرب تخفف الألم عن السكران.(5/29)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إقرار السكران
-اتفق الأئمة: على أنه لا يقام الحد على السكران بإقراره على نفسه وهو في حالة الذهول والسكر، بالحدود الخالصة للَّه تعالى - كحد الزنا، والشرب، والسرقة، إذا اعترف بها وهو سكران، إلا أنه يضمن قيمة المسروق الذي أقر به. لأنه حق العبد فيثبت عليه.
وقيد بالإقرار، لأنه لو زنا وهو سكران، وقامت عليه البينة بالشهود، فإنه يقان عليه حد الزنا وذلك بعد أن يفيق من السكر.
وإذا سرق وهو سكران وقامت عليه البينة يقام عليه احد، وتقطع يده بعد الصحو من السكر، وإنما لا يصح إقراره في حقوق اللَّه تعالى لأنع يصح رجوعه عنه، ومن المعلوم أن السكران لا يثبت على شيء، ولا يستمر على حال.
قَالَ العلماء: إن السكران إذا أقر بحق من حقوق العباد فإنه يقتص منه عقوبة له، لأنه أدخل الآفة على نفسه، فإذا أقر بقذف رجل أو امرأة من المسلمين، وهو سكران يحبس حتى يصحو، فيحد حد القذف، ثم يحبس حتى يخف عنه ألم الضرب، فيحد مرة ثانية حد شرب الخمر.
وذكر العلماء: أنه يؤاخذ بلإقراره بسبب القصاص، والديات، وسائر لاحقوق من المال، والطلاق، والعتاق وغيرها.
ولكن لا يرتد السكران، ولا تبين منه زوجته، لأن الكفر باب الاعتقاد أو الاستخفاف وباعتبار الاستخفاف حكم بكفر الهازل، مع عدم اعتقاده لما يقوله، ولا اعتقاد للسكران، ولا استخفاف منه لعدم الإدراك. وهما فرع قيام الإدراك، ولذا لا يحكم العلماء بكفر السكران بتكلمه، حيث أنه رفع القلم عنه.
حكم من تكرر منه الشرب
روي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه) .
إلى أن قَالَ: (فإن عاد الرابعة فاقتلوه) أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث معاوية.
وأخرج النسائي في سننه الكبرى عن مُحَمَّد بن إسحاق عن مُحَمَّد بن المنكدر مرفوعاً من شرب الخمر فاجلدوه إلخ إلخ قَالَ: ثم أتي الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ برجل قد شرب الخمر في الرابعة فجلده، ولم يقتله، فإنهم قالوا إن القتل قد نسخ وزاد في لفظ فرأ المسلمون أن الحد قد وضع، وأن القتل قد ارتفع.
وعن معاوية عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ في شارب الخمر (إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الثالثة فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه، أخرجه أحمد وهذا لفظه - والأربعة رحمهم اللَّه.
واختلفت الروايات في قتل شارب الخمر، هل يقتل إن شرب المرة الرابعة، أو يقتل بعد شرب(5/30)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الخامسة؟. أخرج أبو داود من رواية أبان القصار، وذكر الجلد ثلاث مرات بعد الأولى، ثم قَالَ: (فإن شربوا فاقتلوهم) وأخرج من حديث ابن عمر من رواية نافع عنه أنه قَالَ: وأحسبه قَالَ في الخامسة (فإن شربها فاقتلوه) وإلى قتله فيها ذهب الظاهرية، واستمر عليه ابن حزم، واحتج له بأحايث ورادة عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وادعى عدم الإجماع على نسخه.
ولكن حمهور العلماء على أن حكم قتل الشارب بعد الرابعة منسوخ بعد أن أمر به الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في بعض أحاديث عنه. ولكن لم يفعله رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مرة واحدة طول حياته. وكذلك لم يفعله أحد من الصحابة رضوان اللَّه عليهم وهذا يدل على نسخه بالإجماع. فقد أخرج الإمام الترمذي من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قَالَ: ثم إذا شرب في الرابعة. قَالَ: فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به قد شرب فجلده، ثم أتي به شرب فجلده، ثم أتي به الرابعة فجلده، فرفع القتل عن الناس، فكانت رخصة) أي أن فعل الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من جلد الشارب بعد الرابعة رخصة من الشارع في رفع القتل عنه، ونسخ الحكم الذي سبق أن ذكره ولم ينفذه.
وقال الإمام الشافعي: هذا (يريد نسخ القتل) مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم، ومثله قَالَ الترمذي وقال جابر بن عبد اللَّه: فرأى المسلمون أن الحد قد وضع، وأن القتل قد ارتفع، واللَّه تعالى أعلم.
قَالَ ابن رسلان: أجمع المسلمون على وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلاً أو كثيراً ولو قطرة واحدة، قَالَ: وأجمعوا على أنه لا يقتل شاربها وإن تكرر.
كيفية إقامة الحد
قَالَ العلماء: حد الشرب أخف من حد الزنا، لأن حد الزنا ثابت بالقرآن الكريم، وحد الشرب ثايت بالسنة. ولأن حد الزنا فيه اعتداء على الغير، وحد الشرب الشرب فيه اعتداء على نفسه، وجناية الزنا أفحش وأكبر خطراً من الشرب وحد الشرب أشد من حد القذف. لأن جريمة الشرب متيقن منها، بلا خلاف جريمة القذف لفإنها تحتمل الصدق والكذب واختلفوا في تجريده من ثيابه عند إقامة الحد عليه.
الأئمة الأربعة - قالوا: يجرد من جميع ثيابه عند إقامة حد الشرب عليه، إلا إزار يستر عورته، كسائر الحدود، لتحقق جريمته، حتى يشعر بالألم، ويحصل اتلمقصود من إقامة الحد وهو الزجر عن إرتكاب مثلها.
الإمام مُحَمَّد بن الحسن - قَالَ: يقام عليه حد الشرب وعليه ثيابه مثل حد القذف، ولا ينزع منه إلا الفرو والحشو، والجلد، وذلك لأن حد الشرب، حد القذف، كما قَالَ الإمام علي كرم اللَّه وجهه. إذا شرب هذا وإذا هذا افترى، وحد المفترين في كتاب اللَّه تعالى ثمانون جلدة.(5/31)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ما جاء في ضرب شارب الخمر
الشافعية - قالوا: يتعين الضرب بالجريد، أو النعال، أو أطراف الثياب، ويجوز الجمع بين الجريد والنعال. ويجوز أن يضرب بالجريد والنعال، والثياب، والأيدي، ويجوز الضرب بالسوط أيضاً، وذلك لما روي أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، متفق عليه. - وعن عقبة بن الحارث رضي اللَّه عنه أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أتى بنعيمان، أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال وكنت ممن ضربه رواه البخاري.
وروي عن السائب بن يزيد قَال: (كنا نؤتى بالشارب في عهد رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وفي أمرتي أبي بكر وصدراً من امرتي عمر، فنقوم إليه، نضربه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان صدراً من امرة عمر فجلد فيها أربعين حتى عتو فيها وتشفوا، جلد ثمانين) رواه أحمد والبخاري واللفظ له.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ برجل قد شرب فقال أبو هريرة: منا الضارب بيده، والضارب بعله، الضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: اخزاك الله. قال: لا تقول كذلك، لا تعينوا عليه الشيطان، رواه الإمام أحمد والبخاري، وأبو داود.
والمراد بالجريد سعف النخل، والمراد من الضرب بأطراف الثياب، إنما هى بعد أن نفتل حتى تؤلم المضروب.
الحنفية والمالكية - قالوا: وان كانت السنة الضرب بالثياب، والنعال، والجريد، لكن الأفضل الضرب بالسوط. لفعل الصحابة رضوان الله عليهم من غير نكير، والسوط يأتى بالمقصود من الحد وهو الزجر.
وقال بعض التأخرين: انه يتعين الضرب بالسوط للمتمردين، وأطراف الثياب، والنعال للضعفاء، ومن عداهم بحسب مايليق بهم.
قَالَ ابن الصلاح: السوط هو المتخذ من المتخذ من جلود سيور تلوى وتلف، سمي بذلك لأنه يسوط اللحم بالدم، أي يخلطه.
واختلفوا في حد الشرب.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وأحد قولي الشافعية - قالوا: إنه يجب الحد على السكران ثمانين جلدة.
قالوا: لقيام الإجماع عليه من الصحابة رضوان اللَّه عليهم من غير نكير حين شاورهم سيدنا عمر بن الخطاب في حد الشرب.
فقد أخرج أبو داود، والنسائي (أن خالد بن الوليد كتب إلى عمر: ان الناس قد انهمكوا(5/32)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
في الخمر، وتحاقروا العقوبة. قَالَ: وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين) .
الشافعية في المشهور عنهم - قالوا: إن حد الشرب أربعون، لأنه الذي روي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فعله، ولأنه الذي استقر عليه الأمر في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه، ومن تتبع ما في الأحاديث الواردة، واختلاف رواياتها علم أن الأحوط الأربعين سوطاً، ولا يزاد عليه. وأما ما فعله سيدنا عمر من الزيادة إلى الثمانين فهو من باب التعزير لا من الحد. فالحد أربعون، وله أن يعزره إلى ثمانين سوطاً.
ويتولى الضرب الرجال، لأن الجلد من شأن المرأة، والخنثى من المرأة. وإن كان المضروب من ذوي الهيئات يستحب ضربه في الخلوات حتى لا يفضحه، وإن كان من عامة الناس ضرب في الملأ، ولا يحد في المساجد لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (لا تقام الحدود في المساجد) رواه الترمذي، والحاكم، وأخرجه ابن ماجة، لاحتمال أن يتلوث المسجد من دمه، أو من نجاسة تخرج منه، ويوالي الضرب عليه بحيث يحصل زجر، وخوف وتنكيل، ولا يجوز أن يفرق الضرب في موضع واحد، لما روي البيهقي عن علي كرم اللَّه وجهه أنه قَالَ للجلاد: أعط كل عضو حقه، واتق الوجه والمذاكير.
الشافعية - قالوا: إن تفريق الضرب على الأعضاء واجب، لأن الضرب على موضع واحد يؤلمه، وبالموالاة، قد يؤد إلى الهلاك.
ويتقي المواضع التي يسرع اليها بلضرب كالقلب وثغرة النحر، والفرج ولا يضرب الوجه لقول رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) ولأنه مجمع المحاسن، فيعظم أثر شينه، ولا يضرب الرأس، لشوفه كالوجه، وقال بعضهم يجوز أن يضرب الرأس، لما روي ابن شيبة عن أبي بكر رضي اللَّه عنه أنه قَالَ للجلاد: اضرب الرأس، فإن الشيطان في الرأس، ولا يجوز شديد المضروب، بل تترك مطلقة يتقي بها الضرب. ولا يربط ولا يمد ويجلد الرجل قائماً، والمرأة تشد عليها ثيابها، ولا تجرد إلا من الفرو والحشو، وتضرب جالسة ستراً لها.
شرب الخمر عند الضرورة
الحنفية - قالوا: يجوز عند غصة الطعام، أو عند شدة العطش بقدر ما يقع به الي، إذا لم يجد غيرها. ولا يصح التداوي بها، لأن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نهى عن التداوي بها فقال: (أنها ليست بدواء، ولكنها داء) وقال صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن اللَّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) .(5/33)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أما شرب الخمر لشدة العطش لعدم وجود الماء، أو لزوال شرق الطعام، ففيه بقاء الروح وهو واجب على المسلم، فمن خاف على نفسه الهلاك من العطش، بأن كان في صحراء قاحلة، أو على ظهر سفينة في البحار والمحيطات المالحة، ولم يجد ما ينقذ به حياته إلا الخمر، فيجوز له أن يشرب منها ما يأمن به من الموت، لأن اللَّه تعالى أباح للمضطر أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر مثهلا في التحريم، فتكون مثلها في الإباحة عند الاضطرار، فإذا أمن على نفسه، زالت الضرورة، وهو خوف الهلاك، عاد التحريم لما روي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (إن اللَّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام) رواه أحمد ومسلم.
المالكية، والشافعية في إحدى رواياتهم، والحنايلة - قالوا: يجب شرب الخمر لزوال هلاك النفس في حالة شرق الطعام، ويجوز التداوي به إذا لم يوجد غيره للمريض، بشرط إخبار طبيب مسلم عدل موثوق بقوله أو معرفته للتداوي به، كالتداوي بنجس كلحم ميتة، أو بول آدمي.
الشافعية في رواية أخرى - قالوا: الأصح تحريم تناول الخمر لمكلف - لدواء، أو عطش، أما تحريم الدواء بها، فلأنه صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما شئل عن التداوي بها قَالَ: (إنه ليس بدواء ولكنه داء) والمعنى أن اللَّه تعالى قد سلب الخمر منافعها عندما خرمها، فقد روي أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (إن اللَّه لما حرم الخمرة سلبها المنافع) ولأن تحريمها مقطوع به، وحصول الشفاء بها مظنون، فلا يقوى على إزالة المقطوع به، وذلك إذا لم ينته الأمر به إلى الهلاك. أما إذا وصل الأمر إلى الهلاك فيجوز. وأما تحريمها للعطش عند الضرورة، فلأنها لا تزيله، بل تزيده، لأن طبعها حار يابس، كما قَالَ أهل الطب ولهذا يحرص شارب الخمر على الماء البارد، وقيل: يجوز التداوي بها دون شربها، وشربها لدفع الجوع كشربها لدفع العطش، ومثله من تأثر من البرد وكاد يهلك، ولم يجد ما يدفع به الهلاك سوى جرعة أو كوب من خمر، وكذلك من أصابته نوبة ألم في قلبه كادت تقضي على عليه وقد علم أنه لا يدفع عنه الخطر سوى شرب مقدار من الخمر.
يكره لعن شارب الخمر
روى البخاري رحمه اللَّه تعالى في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: أن رجلاً على عهد رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان اسمه عبد اللَّه، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وكان الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأقر به فجلد، فقال رجل من القوم، اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (لا تلعنوه، فواللَّه ما علمت إلا أنه يحب اللَّه ورسوله) . وفي رواية (ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) . فقد نهى الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن لعنة من أقر بالشرب، وأقيم عليه الحد حيث أن الحد قد طهره من عقوبة الذنب، فنهى عن ذلك خشية أن يوقع الشيطان في قلب العاصي، أن من لعن في حضرته صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولم ينهه، فقد أقره على ذلك، فيحصل له تأثير نفسي.
وقد ذكر العلماء أنه لا ينبغي تعيير أهل المعاصي، ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يلعن في(5/34)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الجملة من فعل فعلهم، ويكون ذلك رادعاً، وزاجراً عن ارتكاب شيء منها، وحتى يفتح أمام المذنب باب التوبة، والقبول، فإن من قبل اللَّه توبته يكتبها له طاعة من الطاعات، ويجعلها محاءة للذنوب.
وقد روي أن سيدنا عمر رضي اللَّه تعالى عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له: تتابع في هذا الشراب - أي شرب الخمر - فقال سيدنا عمر عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد اليك اللَّه الذي لا إله إلا هو، بسم اللَّه الرحمن الرحيم: {حم تنزيل الكتاب من اللَّه العزيز العليم، غفر الذنب قابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير} ثم ختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني اللَّه أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يؤددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع، وحسنت توبته، فلما بلغ سيدنا عمر أمره قَالَ: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه، ووقفوه، وادعوا اللَّه أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه.
ولا شك أن هذه سياسة حكيمة من سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين في معالجة المنحرفين والمرتكبين.
الخمر ملعونة
إن الخمر ملعونة على لسان رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، بل لعن كل من له صلة بالخمر من قريب أو بعيد. ومعنى اللعن - هو الطرد من رحمة اللَّه تعالى، والحرمان من رضوانه عز وجل، وذلك نهاية الشقاوة والحرمان، فقد روى ابن ماجة، والترمذي، عن ـنس بن مالك رضي اللَّه عنه قَالَ: (لعن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وأكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له) وقال صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (أتاني جبريل فقال: يا مُحَمَّد إن اللَّه لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها) وهو عن ابن عباس رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وروى أبو داود وابن ماجة عن عمر حديثاً بمعناه وليس فيه ذكر جبريل.
والعلماء يقولون: إن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإن كان قد نهى عن لعنة المسلم الذي أقر بالشرب، وأقام عليه الحد. إلا أنه أجاز أن يلعن الناس المدمن للخمر الذي لا يتوب منها، بل يداوم عليها سواء لعن في الجملة مع غيره، أو لعن بالتعين، لأنه مستهتر ماجن، فأجازوا لعنه عسى أن يزجر، ويلوم نفسه، ويرجع عن غيه، ويتوب عن ذنبه. ويقلع عن تعاطي الخمر مخافة ملامة الناس. أما غير المدمن فلا يجوز لعنه، وتعييره. إذا أقيم عليه الحد لأنه كفارة له.
حكم شرب البيرة والحشيش والمخدرات
لقد زعم بعض الفساق أن البيرة حلال شربها، لأنها من ماء الشعير، وكذلك نقيع البلح(5/35)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
"العرق" وخمير خبز الشعير "البوظة" ونبات "القات" و"الحشيش" و "الفتكة" ... زعموا أن هذه المشروبات وغيرها من المخدرات حلال شربه، بحجة أن هذه المشروبات لم تكن في عصر رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، ولم يرد نص في تحريمها.
وقد اجتمعت كلمة العلماء على تحريم هذه المشروبات وغيرها من المخدرات المحدثة مثل الحشيش والأفيون وغيرهما.
وقد صدرت فتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر مفتي الديار المصرية، نشرت في مجة الأزهر في عدد شعبان سنة 1360 هـ، نلخصها هنما لعموم الفائدة حتى ينتفع بها الجميع ويقتنع بها من في قلبه شك أو ريب في حرمتها، فنقول: إنه لا يشك شاك، ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام، لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة ومفاسد كثيرة، فهي تفسد العقل، وتفتك بالبدن، إلى غير ذلك من المضار والمفاسد الخطيرة. فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة، وأخف ضرراً، ولذك قَالَ بعض علماء الحنفية: (إن من قَالَ بحل الحشيش زنديق مبتدع) . وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها، ووضوحها، وأنه لما كان الكثير من المواد يخامر العقل ويعطيه، ويحدث من الطرب واللذة وعند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها، كان داخلة فيما حرمه اللَّه تعالى في كتابه العزيز، وعلى لسان رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، من الخمر، والسكر.
قَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) ما خلاصته: إن الحشيشة حرام يحد متناولها، كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل، والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث، ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر، المسكر لفظاً أو معنى _ قال ابو موسى الأشعري رضي الله عنه: يارسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر، وهومن الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال: (كل مسكر حرام) رواه البخاري، ومسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن من الحنطة خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً، وأنا أنهي عن كل مسكر) رواه أبو داود وغيره. وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) وفي رواية (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) رواهما مسلم.
وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) قَالَ الترمذي: حديث حسن - والفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً، ومعناه ما أسكر كثيره فقليله حرام.
وروى أهل السنن عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من وجوه أنه قَالَ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وصححه الحفاظ، وعن جابر رضي اللَّه تعالى عنه (أن رجلاً سأل الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن شراب يشربونه بأرضهم من(5/36)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الذرة - يقال له: أمسكر هو؟ قَالَ: نعم، فقال كل مسكر حرام، إن على اللَّه عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال: قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما طينة الخبال؟ قَالَ: عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار) رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (كل مخمر، وكل مسكر حرام) رواه أبو داود.
والمخمر ما يغطي العقل، والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة. جمع رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل، وأسكر، ولم يفرق بين نوع، ونوع، ولا عبرة لكونه قد تذاب بالماء وتشرب. فالخمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تؤكل، وتشرب، وكل ذلك حرام، وحدوثها بعد عصر الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، والأئمة لم يمنع من دخولها في عموم كلام رَسُول اللَّهِ عن المسكر، فقد حدثت أشربة مسكرة، بعد الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب، والسنة.
وقد تكلم الإمام ابن تيمية رحمه اللَّه عن الحشيشة غير مرة في فتاوة فقال ما خلاصته: (هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبة لسخط اللَّه تعالى وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة اللَّه، تشتمل على ضرر في دين المرء، وخلقه، وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلفاً كثيراً مجانين، وتورث من مهانة آكلها، ودناوة نفسه، وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد، ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى، وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل مرتداً، لا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإن القليل منها حرام أيضاً، بالنصوص الدالة على تحريم الخمر، وتحريم كل مسكر) وقد تبعه تلميذه الإمام المحقق ابن القيم رحمه اللَّه فقال في كتابه (زاد المعاد) ما خلاصته:
(إن الخمر يدخل فيها كل مسكر، مائعاً كان، أو جامداً، عصيراً، أو مطبوخاً، فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور - ويعني بها الحشيشة - لأن هذا كله خمر بنص رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الصريح، الذي لا مطعن في سنده، ولا إجمال في متنه. إذ صح عنه قوله: (كل مسكر خمر) وصح عن أصحابه رضي اللَّه عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه، ومراده، بأن الخمر ما خامر العقل، على أنه لو لم يتناول لفظه صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (كل مسكر) لكان القياس الصحيح الصريح، الذي استولى فيه الأصل والفرع من كل وجه، حاكماً بالستوية بين أنواع المسكر، فالتفرقة بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه) .
وقال صاحب (سبل السلام شرح بلوغ المرام) : (إنه يحرم ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكن مشروباً كالحشيشة) .
ونقل عن الحافظ ابن حجر (أن من قَالَ: إن الحشيشة لا تسكر، وإنما هي مخدر، سكاير، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة) ....(5/37)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ونقل عن ابن البيطار من الأطباء: (إن الحشيشة التي توجد في مصر مسكرة جداً، إذا تناول الإنسان منها قدر درهم، أو درهمين) .
وقبائح خصالها كثيرة، وقد عد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية، ودنيوية، وقبائح خصالها موجودة في الأفيون، وفيه زيادة مضار.
وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما من العلماء هو الحق الذي يسوق إليه الدليل وتطمئن به النفس، وإذ قد تبين أن النصوص من الكتاب والسنة تتناول الحشيش، فهي تتناول أيضاً الأفيون الذي بين العلماء أنه أكثر ضرراً، ويترتب عليه من المفاسد، ما يزيد على مفاسد الحشيش. وتتناول أيضاً ساءر المخدرات التي حدثت، ولم تكن معروفة من قيل، إذ هي كالخمر من العنب مثلاً في أنها تخامر العقل، وتغطيه، وفيها ما في هذه الخمر، من مفاسد، ومضار، وتزيد عليها بمفاسد أخرى، كما في الحشيش، بل أفظع، وأعظم، كما هو مشاهد ومعلوم ضرورته، ولا يمكن أن تبيح الشريعة الإسلامية شيئاً من المخدرات.
ومن قَالَ بحل شيء منها فهو من الذي يفترون على اللَّه الكذب، أو يقولون على اللَّه ما لا يعلمون. وقد سبق أن قلنا أن بعض علماء الحنفية قَالَ: (إن من قَالَ بحل الحشيشة زنديق مبتدع) وإذا كان من يقول بحل الحشيشة زنديقاً مبتدعاً. فالقائل بحل شيء نت هذه المخدرات الحادثة التي هي أكثر ضرراً، وأكبر فساداً، زنديق مبتدع أيضاً. بل أولى بأن يكون كذلك.
وكيف تبيح الشريعة الإسلامية شيئاً من هذه المخدرات التي يلحق ضررها البليغ بالأمة أفراداً وجماعات، مادياً، وصحياً، وأدبياً، حيث أن مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح الخاصة أو الراجحة، وعلى درء المفاسد، والمضار كذلك؟ وكيف يحرم اللَّه سبحانه وتعالى العليم الحكيم الخمر من العنب مثلاً كثيرها وقليلها. لما فيها من المفسدة، ولأن قليلها داع إلى كثيرها، وذريعة إليه ويبيح من المخدرات ما فيه هذه المفسدة، ويزيد عليها، بما هو أعظم منها، وأكثر ضرراً للبدن والعقل، والدين، والخلق، والمزاج؟. هذا الحكم لا يقوله إلا رجل جاهل بالدين الإسلامي، أو زنديق مبتدع كما سبق القول به. فتعاطي هذه المخدرات على أي وجه من وجوه تعاطي من أكل، أو شرب، أو شم، أو احتقان حرام، بإجماع الأمة. اه.
إن أعداء الإسلام يروجون الحشيش وغيره من المخدرات بقصد إضعاف شباب الأمة الإسلامية وضياع مالها، ورجولتها، وقتل شهامتها، وإفساد عقول رجالها، حتى تستمر في التأخر عن مصاف الأمم المتقدمة، ويتغلب عليها الأجانب، ويقهرها الأعداء، ويستعمرون بلادهم. كما تفعل إسرائيل من ترويج الحشيش والأفيون بين البلاد العربية بقصد هلاكها.
وقد أكثر من الكلام في هذا الموضوع لما سئلت كثيراً عن حكم الحشيش والبيرة،(5/38)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والويسكي، والفنكي، وغيرها، ولما رأيت من انتشار هذه المخدرات بين كثير من الأوساط التي جرّت عليهم ضياع الصحة، وفساد الأسرة، وتبدد الثروة. ولما تبذله الحكومة من مجهود جبار في محاربة المهربين، والحشاشين، ولو أن هذه الأمور الطائلة التي تنفقها الحكومة في هذا الصدد، صرفت في مشاريع خيرية، ومصانع وشركات، لعادت على الأمة بالخير الكثير، والفائدة العظمى. ولو أن الناس فهموا هذا الحكم الشرعي ووعوده، وعملوا به، وأعرضوا عن تعاطي هذه المخدرات، وتلك المسكرات، لحفظنا على الأمة شبابها، وقوتها، وعزمها، وكرامتها، وحريتها، واستقلالها، ولوأنصفت الحكومات الإسلامية لأصدرت تشريعاً مشدداً، وحكماً رادعاً قاسياً حتى يردع كثيراً من الذي يتعاطون هذه المهلكات، ويفسدون عقولهم وأجسامهم، وأموالهم، ولو أدى ذلك إلى إصدار حكم الإعدام على المهربين، وكبار المشتغلين بتجارته.
حكم الاتجار بالمخدرات
لقد اشتغل بعض المسلمين بتجارة المخدرات من الخمور، والحشيش والأفيون، والكوكايين، لما تدر عليهم تجارة هذه الأشياء من الربح الطائل، من أسهل الطرق ويصلون إلى الغنى الفاحش في أقرب وقت. مع أن الشريعة الإسلامية تحرم هذه الأرباح، وتعتبر أن عيشة أصحابها من الحرام.
وقد ورد عن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أحاديث كثيرة في تحريم بيع الخمور. منها ماروى البخاري ومسلم وعن جابر رضي اللَّه عنه أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (إن اللَّه حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام) .
ووردت عنه أحاديث كثيرة تفيد أن ما حرم اللَّه الإنتفاع به، يحرم بيعه وأكل ثمنه، فيتناول التحريم بيع هذه المخدرات، لما يترتب على ترويجها من المفاسد، والمضار بين أفراد الأمة. فهو كالمتسبب في هلاكها، ودمارها، بل إنه يقتل الأنفس، ويضيع الأموال، فهي وإن كانت تجارة في ظاهرها كما يظن بعض الناس، لكنها تجارة بأرواح الناس، وفساد الشباب، وضياع الأخلاق، وهلاك الأمة.
فلا شك في حرمة الإتجار بها، ولإنها تعين على معصية. واللَّه تعالى قد نهانا عن التعاون على الإثم والعدوان. فقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فالتجارة في هذه الأشياء لا شبهة في حرمتها لدلالة القآن الكريم على تحريمها، وبهذا قَالَ جمهور العلماء: أن هذه المخدرات لا قيمة لها في حق المسلم فلا يجوز بيعها، ولا يضمن غاصبها، ولا متلفها، لأن ذلك دليل على عزتها، وتحريمها دليل إهانتها. وقد روي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ: (إن الذي حرم شربها، حرم بيعها وأكل ثمنها) .
حرمة زراعة الحشيش
اتفق الأئمة على تحريم زراعة الحشيش، والخشخاش، لإستخراج المادة المخدرة منها لتعاطيها أو الإتجار فيها، وحرمة زراعتهما من وجوه:
أولاً: ماروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (إن من حبس العنب أيام(5/39)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار) فهذا دليل على حرمة زراعتهما بطريق دلالة النص.
ثانياً: إن زراعتها لهذا الغرض رضاً من الزارع تعاطي الناس لها، وإتجارهم فيها والرضا بالمعصية معصية، وذلك لأن إنكار امنكر بالقلب، الذي هو عبارة عن كراهية القلب وبغضه المنكر، فرض على كل مسلم في كل حال.
بل ورد في صحيح مسلم عن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (أن من لم ينكر المنكر بقلبه - بالمعنى الذي بينا - ليس عنده من الإيمان حبة خردل) وفيه مخالفة لولي الأمر الذي نهى عنها بالقوانبن التي وضعت لذلك، وفيه مخالفة لولي الامر الذي نها عنها بالقوانين التي وضعت لذلك، لوجوب طاعة ولي الامر فيما ليس لمعصية لله ولرسوله بإجماع المسلمين.
حرمة الربح والناتج من هذه التجارة
لقد علم أن بيع هذه المخدرات حرام، فيكون الثمن الناتج من هذه التجارة حراماً، لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أي لا يؤخذ ولا يتبادل ببعضكم مال بعض بالباطل، وذلك من وجهين:
الأول: أخذه على وجه الظلم، والسلب، والسرقة، والنهب، والخيانة، والتدليس وما جرى مجرى ذلك.
الثاني: أخذه من وجهة محظورة، كأخذه بالعب القمار، أو بطريق غير مشروع، كالعقود المحرمة كما في المعاملة بالربا، وبيع ما حرم اللَّه الإنتفاع بهن كالخمر المتناول للمخدرات المذكورة. فإن هذا كله حرام مثل السرقة سواء بسواء، وإن كان بطيبة نفس من مالكه.
ولما ورد من الأحاديث النبوية التي تنص على تحريم ثمن ما حرم اللَّه الإنتفاع به، كقوله صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن اللَّه إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) رواه ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عن ابن عباس.
وقد جاء في كتاب (زاد المعاد) ما نصه: (قال جمهور الفقهاء: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً حرم أكل ثمنه. لخلاف ما إذا بيع لمن يأكله، وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلماً حرم أكل ثمنه. وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل اللَّه فثمنه من الطيبات. وكذلك ثياب الحرير إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه لبسها حرم أكل ثمنها، بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها) ا. هـ.
وإذا كانت الأعيان التي يحل الإنتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها في معصية اللَّه على رأي جمهور الفقهاء - وهو الحق - يحرم ثمنها لدلالة ما ذكرنا من الأدلة وغيرها عليه، كان ثمن العين التي لا يحل الإنتفاع بها كالمخدرات حراماً من باب أولى.
وإذا كان ثمن هذه المخدرات حراماً، كان خبيثاً، وكان إنفاقه في القربات، كالصدقات وبناء(5/40)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المساجد، وحج بيت اللَّه الحرام غير مقبول أي لا يثاب المنفق عليه، فقد روى مسلم عن أبي هُرَيْرَة رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن اللَّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن اللَّه تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: " يا أيها الرسل كل من الطيبات واعملوا صالحاً" الآية. وقال تعالى: " يا أيها الذين أمنو كلوا من طيبات ما رزقناكم وأشكروا الله أن كنتم أياه تعبدون"، ثم ذكر الرجل يطل السفر أشعث أغبر يمد يده الى السماء، يارب، يارب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب ذلك؟.
وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي مسعود رضي اللَّه عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده في النار، إن اللَّه لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث) .
وروي عن أبي هُرَيْرَة عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (من كسب مالاً حراماً فتصدق به لم يكن له أجر، وكان اصره - يعني اثمه وعقوبته - عليه) .
وما في مراسيل القاسم بن مخيمرة قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (من أصاب مالاً من مأثم، فوصل به رحمه، أو تصدق به أو أنفقه في سبيل اللَّه، جمع ذلك جميعاً، ثم قذف به في نار جهنم) .
وروي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ: (أنه إذا خرج الحاج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز - أي الركاب - وقال: لبيك، ناداه ملك من السماء: لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك) .
فهذه الأحاديث التي يشد بعضها بعضاً تدل على أنه لا يقبل اللَّه صدقة، ولا حجة، ولا قربة آخرى من القربات من مال حرام، من أجل ذلك نص علماء الحنفية على أن الإنفاق على الحج من المال الحرام حرام.
ونستطيع أن نلخص ما ذكرناه فيما يأتي:
أولاً: تحريم تعاطي الحشيش والأفيون والقات، وغيرها من المخدرات المسكرة والمفطرة.
ثانياً: تحريم الإتجار فيها واتخاذها حرفة تدر الربح.
ثالثاً: حرمة تهريبها، ومساعدة التجار على رواجها، والتدليس عليها.
رابعاً: حرمة زراعتها لإتخاذ المادة المخدرة لتعاطيها، أو الإتجار بها.
خامساً: إن الربح الناتج من الإتجار في هذه المواد حرام خبيث، وإن إنفاقه في الطاعات غير مقبول.
هذا وقد أطلت القول في شرح هذا الموضوع وإقامة الأدلة عليه، تبياناً للحق، وكشفاً للصواب، ليزول ما قد عرض من شبهة عند الجاهلين الذين يفتون بحل هذه المخدرات، وليعلم أن القول بحل هذه المخدرات من أباطيل المبطلين، وأباضاليل المضلين، وحتى أضع حداً لهذه المخدرات(5/41)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
التي شاعت في هذا الزمان، وانتشرت بين جميع الأوساط والطبقات، حتى كادت تودي بالأمة الإسلامية، وتطيح بكرامتها وعزتها. واللَّه ولي التوفيق.
مضار البيرة
لقد أعلن البروفيسير ايت موترين مدير جامعة لاما في "كندا" أمام المؤتمر العالمي لأمراض القلب المنعقد في لندن - أنه قام بالدراسة تبين منها أن 48 رجلاً وامرأتين كانوا يعانون من أعراض تشبه مرض "البري بري" اتضح فيما بعد أنهم مصابون بمرض في القلب بسببه أحد مكونات أنواع معينة من "البيرة". وقال: (إن هؤلاء المرضى كانوا يحتسون يومياً 11. 3 ليتراً من البيرة، وأن سبب المرض هو مادة "الكبريتات والكربات" التي تستخدم لزيادة تأثيرات المادة المسكرة في أنواع معينة من البيرة وأثبتت التجارب أنها تسبب تضخماً في القلب وتمدداً في الصمامات.
وقد ذكر الإمام مُحَمَّد رشيد رضى في تفسيره، بعد تفسير آية الخمر التي في المائدة وقد اطنب فيها ما نصه: أطلنا هذه الإطالة في بيان حقيقة الخمر، لأنه قد ظهر في الناس من عهد بعيد مصداق ما ورد في الحديث من استحلال الناس لشرب الخمر بتسميتها بغير اسمها، وقد اخترع الناس بعد زمن التنزيل أنواعاً كثيرة من الخمور أشد من خمرة العنب ضرراً في الجسم والعقل باتفاق الأطباء، وأشد إيقاعاً في العداوة والبغضاء، وصداً عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة. والقول بأنه لا يحرم منها قطعاً إلا ما كان من عصير العنب، وأنه إنما يحرم من غيرها القدر المسكر فقط، يجرئ الناس على شرب القليل من تلك السموم المهلكة، والقليل يدعو إلى الكثير، فابلإدمان فالإهلاك، وفي هذا القول مفسدة عظيمة، وليس في تضغيفه، وترجيح قول السلف والخلف عليه إلا المصلحة الراجحة، وسد ذرائع شرور كثيرة، اه.
هذا وإن حوادث العداوة والبغضاء التي تنشأ عن السكر، ما يحدث بين السكارى من القتل والضرب، والعداوة والسلب، والفسق والفحش، والتجرؤ على ارتكاب المحرمات، والإقدام على الزنا، ومن إفشاء أسرار الأسر والعائلات، وهتك الأستار المخبئة، وخيانة الحكومات، والأوطان - ما زالت حديث الناس في كل زمان ومكان وكثيراً ما يلجأ بعض الجواسيس إلى إسكار كبار القادة، وعظماء الساسة، لكي يسلب منه أسرار الجيوش، وسياسة الشعوب. ورب جرعة خمر من رئيس أضاعت أمة بأجمعها، وأهلكت شعباً بأكمله، وكانت سبباً في هزيمة جيش جرار. ولهذا شدد الدين الإسلامي في تحريم شرب الخمر، وذكرها في ثلاث آيات من كتاب اللَّه تعالى، وشدد رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في النهي عنها فقال صلوات اللَّه وسلامه عليه: (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الأخرة) رواه البخاري وأصحاب السنن، وزاد اٌاما مسلم في رواية (فلم يسقها) ومعناها أن اللَّه حرم عليه الجنة فلا يدخلها فيشربها فيها، وقيل معناه: لا يشربها فيها وإن مات مؤمناً ودخل الجنة، لأنه استعجل شيئاً فجزي بحرمانه، إلا أن يعفو اللَّه عنه.(5/42)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وروى أحمد والبخاري وملسم وأبو داود والترمذي والنسائي، عن أبي هُرَيْرَة رضي اللَّه تعالى عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قيل النفي لكمال الإيمان، وقيل هو خبر بمعنى النهي، وقيل: إن الإيمان يفاق مرتكب هذه الكبائر مدة ملابسته لها، وقد يعود إليه بعدها. وإذا مات وهو مرتكبها مات على غير الإيمان.
ومن العجيب أننا نرى جميع المتعلمين مذنباً في العصر. وأكثر الناس في البلاد المتحضرة الراقية التي تنتشر فيها الجرائد والمجلات العلمية يعتقدون أن الخمر شديدة الضرر في الجسم، والعقل، والمال، والصحة العامة، وأداب الإجتماع، ولم نر هذا الإعتقاد باعثاً على التوبة منها والإقلاع عنها، حتى أن الأطباء منهم - وهم أعلم الناس بمضارها - كثيراً ما يعاقرونها، ويدمنونها مع علمهم أن السكر يحدث الأمراض، والأدواء، ويؤدي بصاحبه إلى الجنون، ويفسد عليهم شبابهم، وعفتهم، وبيوتهم، وثروتهم، ولكن ضعف الإرادة عند هؤلاء، وغريزة حب التقليد للأصحاب والخلان، ما يحدثه الخمر من لذة النشوة، والذهول عن المكدرات، ومجاملة الأخوان، جعلهم يدمنون عليه، ويقدمون على شربه، ويغضبون رب العالمين.
(وقد لخص العلماء أضرار الخمور فيما يأتي:)
أولاً: تنتزع من الشارب الخمر أنواع الإيمان حين شربه.
ثانياً: استحق لعنة اللَّه وطرده من رحمته، لمخالفته أمره تعالى.
ثالثاً: شرب الخمر يدعو إلى جلب الهموم، وتضييق الأرزاق وإنتشار الأزمة والسخف والمسخ، ويسبب التخنث.
رابعاً: لا يقدم على شرب لاخمر إلا الفاجر العاصي، الذي لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر.
خامساً: شرب الخمر يجر إلى الوقوع في ارتكاب المعاصي كلها، لأنها أم الخبائث.
سادساً: يعذب اللَّه شارب الخمر يوم القيامة، بشربه القذارة الخارجة من فروج الزناة. - والعياذ باللَّه -.
سابعاً: حرم اللَّه تعالى الجنة على شارب الخمر، فلا يشم رائحتها.
ثامناً: عقاب شارب الخمر، كعقاب عابد الوثن والصنم.
تاسعاً: يحشر اللَّه شارب الخمر شديد الظمأ، كثير العطش.
عاشراً: لا يقبل اللَّه عبادة شارب الخمر أربعين يوماً، ولا يجيب له دعاء.
الحادي عشر: يستحق شارب الخمر الإهانة والإزدراء، والتحقير كما قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (لا تسموا على شربة الخمر) .(5/43)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الثاني عشر: شارب الخمر حل عليع غضب اللَّه، ولو مات في هذه الحالة حرم من ثواب اللَّه تعالى ورحمته.
الثالث عشر: السكران إن مات على حالته يعذبه اللَّه بسكره، ويذوق مرارة فعله هذا في غيره. ويموت على غير اٌيمان.
الرابع عشر: شارب الخمر تنبع له عين في نار جهنم تمده باقيح والصديد وأنواع الأذى (يجري منها القيح والدم) .
الخامس عشر: شارب الخمر مسكين، مضيع فاقد الخير، (فكأنما ملك الدنيا، وسلبها) .
السادس عشر: شرب الخمر إحدى الخصال المدمرة التالفة، المذهبة للثروة، المضيعة للعقل المهلكة للأمة.
السابع عشر: شرب الخمر يفسد الصحة، ويحرم صاحبها من التمتع بعافيته، ويجلب له النقم والهلاك والدمار.
الثامن عشر: إن أضرارها تنتقل من الرجل إلى أولاده وذريته، فيولدون مرضى.
التاسع عشر: شارب الخمر لا يقبل اللَّه منه صرفاً ولا عدلاً، ولا فرضاً ولا نفلاً.
العشرون: من فارق الدنيا وهو سكران، يدخل القبر سكران، ويبعث من قبره سكران، ويزج في النار سكران، ويؤمر به إلى حبل يقال له سكران فيه عين يجري منها القيح والصديد وهو طعامهم وشرابهم، مادامت السموات والأرض، كما أخبر بذلك رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الحديث الشريف (ملخص من شرح الترغيب والترهيب) .
الآيات الواردة في تحريم الخمر في كتاب اللَّه تعالى
-1 - قَالَ اللَّه تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما} : آية 219 من سورة البقرة.
-2 - قَالَ اللَّه تعالى: {يا أيها الذين آمنو إنما الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} . آية 90 من سورة المائدة.
-3 - قَالَ تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن اللَّه يحب المحسنين} . آية 195 من سورة البقرة.
-4 - قَالَ تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} . آية 2 من سورة النساء.
-5 - قَالَ تعالى: {يا أيها الذين آمنو كلوا من طيبات ما رزقناكم} . آية 172 من سورة البقرة.
-6 - وقال تعالى: {وكلوا مما رزقناكم حلالاً طيباً} . آية 88 من سورة المائدة.
-7 - قَالَ تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن اللَّه كان بكم رحيماً} . آية 29 من سورة النساء.(5/44)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
-8 - قَالَ تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} . آية 51 من سورة المؤمنون.
-9 - قَالَ تعالى: {يا أيها الذين آمنو لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} . آية 43 من سورة النساء.
إقامة الحد في الحرب
اتفق الأئمة على أن الحدود لا تقام في حال الغزو، ولا في دار الحرب.
مع أن الشريعة اٌسلامية تأمر أتباعها من الضباط، والجند، والقادة، بالمحافظة على طاعة اللَّه تعالى، والتمسك بأوامر الشارع الحكيم، والتحلي بالتقوى حتى يكتب اللَّه لهم النصرة على الأعداء حيث يقول اللَّه تعالى: {ولينصرن اللَّه من ينصره إن اللَّه لقوي عزيز} .
ويقول تبارك وتعالى: {إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبت أقدامكم} ولهذا كان الأمراء والقادة يوصون الجند والضباط، بالمحافظة على الصلاة في ميدان القتال. ويأمرونهم بالبعد عن ارتكاب المعاصي والذنوب، حتى ينصرهم اللَّه تعالى على أعدائهم، {وما النصر إلا من عند اللَّه} .
وقد ثبت أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أرسل إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قائد جيش المسلمين في حرب الفرس بالقادسية فأرسل إليه يوصيه وجنده ويقول له: أوصيك ومن معك بتقوى اللَّه تعالى على كل حال، فإن تفوى اللَّه من أفضل العدة على العدو، ومن أقوى المكيدة في الحرب. وأمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخطر عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بطاعتهم للَّه تعالى وإيمانهم به ومعصية عدوهم له، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة.
ومع كل هذا فإذا وقع أحد المسلمين المجاهدين في ذنب يوجب الحد، فلا يقام عليه الحد في دار الحرب، والدليل على ذلك ما فعله سيدنا سعد بن أبي وقاص مع أبي مجحن الثقفي. فقد كان من الشجعان الأبطالفي الجاهلية والإسلام، ومن أولي البأس والنجدة. وكان شاعراً مطبوعاً كريماً، إلا أنه كان منهمكاً في الشراب، لا يكاد يقلع عنه، ولا يردعه حد ولا لوم لائم، وقد جلده عمر بن الخطاب في "الخمر" مراراً، ونفاه إلى جزيرة في البحر، وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية وهو يحارب الفرس، وكان قد هم بقتل الحارث الذي بعثه معه عمر، فأحس الرجل بذلك فخرج فاراً ولحق بعمر، وأخبره خبره. فكتب سيدنا عمر إلى سعد بن أبي وقاص بحبس أبي محجن فحبسه. فلما كان (قس) الناطف بالقادسية والتحم القتال سأل أبو محجن امرأة سعد أن تحل قيده، وتعطيه فرس سعد، وعاهدها أنه إذا سلم عاد إلى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا تبعة غليه، فخلت سبيله وأعطته الفرس. فقاتل أيام القادسية، وأبلى فيها بلاءً حسناً ثم عاد إلى محبسه، وكان نصر المسلمين على يده، فترك سعد بن أبي وقاص إقامة الحد عليه حيث أن الحدود(5/45)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لا تقام في حال الغزو. والتعزير يرجع إلى الاجتهاد وقد رأى سيدنا سعد عدم إقامة حد الشرب على أبي محجن ولا تعزيره بعد أن بذل نفسه في سبيل اللَّه تعالى، وأبلى ما أبلى. ولا مطهر من الذنب أقوى من هذا، فقد ضمن اللَّه للمجاهد إن مات أن يدخله الجنة، وإن رجع يرجعه بما نال من أجر وغنيمة مغفور له، وقد أثر هذا العفو في نفس أبي محجن فتاب إلى اللَّه تعالى توبة نصوحة، وأقلع عن الشرب بعد ذلك. وهكذا يكون المؤمن قوي الإيمان، قوي العزيمة. يقلع عن الذنب بعد الادمان عليه، إذا خاف ذنبه. ورجع إلى ربه.
وقد روي أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (نهى أن يقام حد في أرض العدو) أخرجه ابن أبي شيبة رحمه اللَّه تعالى) .
-(5/46)
. .
. . .
. . .
. . .
. . .
. . .
القسم الثاني
الحدود المتفق عليها
حد الزنا - تعريفه
__________
الحدود
الحد لغة: المنع - ولهذا يقال للبواب حداد، لمنع الناس عن الدخول. قال في النهاية: الحد يطلق على الذنب، ومنه قله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها) ويطلق على العقوبة التي قرنها الشارع بالذنب ومنه قولهم: اقمت عليه الحد. واصل الحد: المنع والفصل بين الشيئين. قال في المصباح: ومنه الحدود المقدرة بالشرع، لأنها تمنع من الإقدام على الذنب، اه.
وشرعا: هو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى كما ذكر في القرآن الكريم فقال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) وقال تعالى: (والحافظون لحدود الله) .
وثمرته: رفع الفساد الواقع في المجتمع، وحفظ النفوس من الهلاك، وحفظ والأعراض، والأنساب من الاختلاط، وحفظ الاموال سالمة عن الابتذال والانتهاك.
قال تعالى: (ولاتفسدوا في الآرض بعد اصلاحها) معناه: ولا تفسدوا شيئاً غي الارض فيدخل فيه المنع عن إفساد العقول بسب شرب المسكراة، والنهي عن إفساد النفوس بالقتل، وقطع الاعضاء، والمهي عن إفساد الأنساب بسبب الزنا، واللواط، والقذف. والنهي عن إفساد الاموال بالغصب، والسرقة، ووجوه الحيل في المعاملات. والنهي عن إفساد الدين بالكفر، وذلك لأن والمصلح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة: (1) النفوس (2) العقول (3) الأعراض (4) الأديان (5) الأموال.
وفائدته: الامتناع عن الفعال الموجبة للفساد في العالم. ففي حد الزنا منع ضياع الذرية وإماتتها معنوياً بسبب اشتباه النسب، ولذا ندب الشارع عموم الناس إلى حضور حده، فقال تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) . وفي باقي الحدود، زوال العقل في الخمر، وإفساد الأعراض في القذف، وأخذ أموال الناس في السرقة. وقبح هذه الأمور في العقول، وثابت في الغرائز عند الجميع. ولذا لم تبح الأموال ولا الأعراض، ولا الزنا، ولا السكر، في الملل السابقة.
ولما كان فساد هذه الأمور عاماً في الإنسانية كلها، وخطراً من أشد الأخطار عليها لما ينجم(5/47)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
منها. كانت الحدود التي تمنع منها حقوق اللَّه على الخلوص. فإن حقوقه سبحانه وتعالى دائماً تفيد مصالح عامة للمجتمع كله.
مبحث حكمة مشروعية الحدود
وحكمة مشروعيته هو الزجر عما يتضرر به العباد. من إفساد الفرش، وإضاعة الأنساب، وهتك الأعراض، وإتلف الأموال، وزهاق الأنفس، واضطراب الامن. والحدود دواء شاف وعلاج ناجح، لما يصيب المجتمع من الأمراض الاخلاقية الخطيرة، ولأمراض النفسية الفتاكة. التة تهلك المجتمع وتنخر في جسده، وتمزق اوصاله، وتودة به الى الهاوية.
إنما الامم الاخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت إخلاقهم ذهبوا
فالإسلام ينظر إلى الإنحراف على أنه خروج عن الفطرة السليمة التي قفطر اللَّه الإنسان عليها. وعصيان على الطبيعة، وتمرد عليها، ويحاول العلاج لمن انحرف عن طبعه، وغذا تعذر العلاج، ولم يفد الإصلاح كان موقف الإسلام أشد صلابة في ردع المجرم، والقسوة في الحكم عليه حتى لا يكون بقاء الفساد قضاء على المجتمع كله.
وبهذه الطريقة يحارب الإسلام الإنحرافات، ويضع لها الحدود الرادعة، التي تناسب خطورة الذنب، وقاية للجماعة الإنسانية من الضياع والفساد. كالعضو الذي أصيب بمرض فتاك. فإذا لم يمكن علاجه اضطر إلى بتره حماية للجسد كله.
حد الزنا
الزنا عبارة عن وطء مكلف في فرج امرأة مشتهاة، خال عن الملك وشبهته، ويثبت به حرمة المصاهرة، نسباً ورضاعة.
ولما كانت جريمة الزنا من ابشع الجرائم التي ترتكب ضد الشرف والأخلاق، والفضيلة، والكرامة، وتؤدي إلى تفويض بناء المجتمع، وتفتيت الأسر، واختلاط الأنساب، وقطع العلاقات الزوجية، وسوء تربية الأولاد، بل تقضي إلى ضياع الطفل الذي هو قتل له معنى. فإن ولد الزنا، ليس له من يربيه، والأم بمفردها لا تستضيع تربية والقيام بشؤونه، لقصور يدها. فيشب على أسوأ الأحوال، ويصير عضواً فاسداً في جسد المجتمع الإنساني، ينشر الحقد، والبغضاء. ويبث الفساد، والإجرام، لأنه ثمرة الجريمة البشعة المنكرة.
فجريمة الزنا من أخطر أمور الحياة كلها، بل أشدها تعلقاً بنظامها، ودوام سعادتها، وهنائها. وتمسكها، وترابطها، ولذلك اهتم الشارع الحكيم بهذا الحد أكبر اهتمام، صوناً للحياة المنزلية من الانهيار، وحفظاً للروابط الأسرية مما يتهددها من بلاء وأطار، فذكر غقاب من لا يحفظ فرجه، وبينه أعظم بيان، وجعله من أشد العقوبات، وأفظعها، وأوجب أن لا تأخذنا شفقة، ولا رحمة. بالجناة.(5/48)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأن يشهد إقامة الحد جماعة من المؤمنين فقَالَ تَعَالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} . آية رقم /2 / من النور.
ثم بين ما يجب علينا أن نراعيه في حفظ الفروج، وما تحتاج إليه لصيانتها من الضياع، وما يجب للإبضاع من الحرمة والصون، والإحتياط والمحافظة. فأمرنا بغض النظر إلى الأجنبيات، لأن النظر يريد الزنا. وأمرنا بصون أجساد النساء من التبذل، والظهور أمام الأجانب، وحث المرأة على حفظ جسدها بالإحتشام والتستر، والبعد عن مواطن الريبة، وبؤر الفساد، وعن الإختلاط بالرجل الأجنبي حتى لا تقع في محرم، ولا يجرها الإختلاط والتبذل إلى الوقوع في الذنب، وتستوجب إقامة الحد عليها. قَالَ تَعَالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} فقد خاطب اللَّه تعالى أمهات المؤمنين ونساء النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم وهن الصالحات القانتات، الائي تربين في مدرسة النبوة، ونشأن في أعظم جامعة إسلامية. وتأدبن بأداب النبوة، وتخلقن بأخلاق الرسول صَلَوَات اللَّهِ وسَلاَمهُ عَلَيْه، وقد كن لا يخرجن من بيوتهن إلا لعذر شرغي، كحج أو عمرة، أو زيارة أبوين، أو صلة أرحام، أو عيادة مريض، أو نحو ذلك. وإذا خرجن لا يبدين زينتهن، ولا يظهرن شيئاً من محاسنهن، ولا يلبسن ثياب براقة، فإذا كان اللَّه تَعَالى قد أمرهن هذا الأمر، وهن على هذا الحال، فغيرهن من سائر النساء أولى أن يخشى عليهن، لو خرجن ومشين في الطرقات على أعين الناس، وفيهم من في قلبه مرض من العصاة الفجرة، والمجرمين الفسقة، الذين لا يخشون اللَّه، ولا يخافونه، عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قَالَ: (إن المرأة عورة. فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وإن أقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في عقر بيتها) .
واتفقت كلمة الفقهاء على أن خروج المرأة من بيتها قد يكون كبيرة. إذا تحققت منه المفسدة، كخروجها متعطرة متزينة. سافرة عارية. مبدية محاسنها للرجال الأجانب، كما هو حاصل في هذا الزمان، مما يوجب الفتنة. ويكون الخروج من المنزل حراماً، وليس كبيرة إذا ظنت وقوع الفتنة، ويصد عنها المفسدين المعتدين.
وتبرج الجاهلية الأولى - وهي التي كانت قبل الإسلام، التبختر في تثن مع إظهار المحاسن، والزينة، وما يجب ستره من العنق، والصدر، والشعر، والقفا، والظهر، والذراعين، والساقين.
ومما يدمي قلب الحر المؤمن الغيور، ما نشاهده في هذا الزمان من تبرج النساء، والفتيات، وخروجهن متبذلات، كاسيات عاريات. مائلات مميلات. عاريات الشعور والظهور، من غير حياء ولا مبالاة. حتى صرن أكثر تبذلاً، وانحلالاً من أهل الجاهلية التي كانت قبل الإسلام. وإثم ذلك راجع إليهن أولاً وإلى أولياء أمورهن ثانياً، من الأزواج والآباء، والأخوة. لعنهن اللَّه، ولعن من يرضى بذلك(5/49)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
منهن، ولعن من ينظر إليهن، ومن يوافقهن من الرجال. وصدق رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم إذ يقول: (صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا) وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قد حدث عما يحدث في المستقبل، وأخبر عن المغيبات التي حصلت بعد حياته صَلَوَات اللَّهِ وسَلاَمهُ عَلَيْه بتسعين وثلاثمائة وألف عام.
فتشريع حد الزنا من أهم الحدود التي تعالج مرضاً قوي الاستحكام في النفوس، قوي التأثير فيها، والتمكن منها، وهو سلطان الشهوة في الإنسان، وقوة طغيانها على العقل، لأنه تَعَالى ركبها في البشرية بهذه القوة الجامحة لعمارة الكون، ودوام الجنس البشري، ولكنها قد تخرج بصاحبها عن حدود الفضيلة. فسن الشارع لها الحد حتى يردعها من غيها، ويرجعها إلى طريق الصواب.
مضار الزنا
أما مضار الزنا الشنيعة، وآثاره الممقوتة، فهي أكثر من أن تحصى، لأنها مضار أخلاقية، ودينية، وجسمانية، واجتماعية، وأسرية، وناهيك بجريمة يرتكبها صاحبها وهو جزلان مسرور، بينما يجني على نفسه بإغضاب ربه، وتعرضه لمقته وغضبه، وشديد عقابه. بل يتعرض لانتزاع الإيمان من قلبه، كما يخلع الإنسان قميصه من عنقه. فإن مات وهو متلبس بجنايته، مات على ملة غير ملة الإسلام. قَالَ رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) رواه البخاري وغيره.
أما الأضرار التي تعود على المرأة من جراء هذه الفاحشة. فهو هتك عرضها، وسلب شرفها، واقتراف جريمة من أفظع جرائم المجتمع، وهي لاهية مسرورة، بلحظات قليلة، وشهوة حقيرة.
ولا ننسى تدنس شرف أسرتها، وإلحاق العار بأهلها الأبرياء، نساء ورجالاً، بلا ذنب ولا جريرة ثم الجناية على الجنين الذي قد يولد من طريق الزنا، ويأتي ثمرة هذه الجريمة، فيتعرض للقتل وهو الغالب وإن عاش فالضياع، والفساد، والعار الملازم له طول حياته. واحتقار المجتمع له، ونفورهم منه، حتى يصبح الموت أفضل عنده من هذه الحياة. فإن من لم يثبت نسبه ميت حكماً.
والجناية على زوجها إن كان لها زوج، وهتك عرضه، وضياع شرفه وسمعته، وسقوطه بين أصحابه، وجيرانه ومعارفه، وملاحقة العار له مدة حياته، وبعد وفاته. والجناية على الأولاد والذرية من ذكور وإناث، جناية تعدل القتل، وسلب الروح من الجسد، فهذه الجريمة البشعة لا تنسى مع الزمن، ولا تخفى على أحد، لأن رائحتها الكريهة تزكم النفوس، وتنتشر انتشار الريح العاصف وقد قيل: إن الجريمة لها أجنحة تطير بها.
وإذا تصورت ما يترتب على هذه الجريمة حينما تدخل الزوجة على أولادها، وأسرة زوجها(5/50)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مولوداً ليس منهم، وتقحم عليهم شخصاً غريباً عنهم، يشاركهم بلا حق، في معيشتهم وشرفهم، وأسمهم وميراثهم وكل خواصهم، وما يتبع ذلك من أضرار جسيمة ما يعلمها إلا علام الغيوب. علمت فظاعة هذه الجريمة.
ثم إذا نظرت إلى الأضرار الصحية التي تترتب على فاحشة الزنا من أمراض الزهري، والسيلان، وغيرهما مما أثبته الطب من مضار الزنا، وأفردت له كتباً مؤلفة في هذا الشأن، أدركت حكمة تشديد الشرع في تحريمه.
وبعد فإن هذا البلاء الخطير متى وقع فيه الشخص مرة استمرأ، وتلذلذ به، ولا يستطيع الإقلاع عنه. وأحب التنقل فيه، بعد أن ذاق لذته، فيتفاقم شره، ويتزايد ضرره، ويصبح وباء للمجتمع الإنساني.
فلا غرابة إذاً في أن يكون الأسلوب الذي يعالج به مرتكب هذه الجريمة، أن يضرب بالسوط مائة جلده إن كان بكرة ويفتضح أمره على مرأى من أصحابه وجيرانه، حتى يحتقر في نفوسهم، وتسقط منزلته بينهم، ويأخذوا منه حذرهم، ويبتعد عن مصاحبته، لأنه أصبح كالمريض الأجرب، لخبث نفسه، وسوء سريرته، وشناعة فعله، وشددة خطره على الأفراد الذين يتصلون به. وهذه عقوبته الدنيوية، ولعذاب الأخرة إن لم يتب أشد وأبقى.
أما عقوبة الرجم بالحجارة للزاني المحصن، ففيه معنى إسقاط منزلة الزاني وتجريهما من الإنسانية الكاملة الفاضلة، وإلحاقهما بالعجماوات التي لا تفهم تأديب والزجر إلا بالضرب الشديد المؤلم. أو الموت الشنيع، حيث لا ينفع معهما ردع، ولا نصح، ولا يبقى له وسيلة تؤدبه إلا الضرب المبرح، فجعل الشارع الحيكم الجلد، أو الرجم، امام طائفة من امؤمنين ليكون الخزي والعار أبلغ وأكمل في حقهما، وليرتدع من تسول له نفسه الوقوع في ذلك الذنب بعد أن رأى عاقبته ونهايته.
فالشارع الحكيم قصد من تشريع عقوبة الزنا، الردع للمجتمع، والزجر والتخويف للغير أكثر من التنفيذ على الجاني، فإن العبد حينما يقارن بين ما سيحصله من اللذة المعارضة بالزنا وبين ما سيتبع هذه اللذة من العقوبات الشديدة، والخزي، والعار، والفضيحة أمام المجتمع في حياته أو بعد مماته أمتنع عن الوقوع فيها وفضل بعقله البعد عنها، والفرار منها صوناً لنفسه، وعرضه، وشرفه وكرامته.
وزيادة من الشارع في الإحتياط عن الوقوع في هذه الجريمة، وحفظ المجتمع منها حتى يعيش في سلام ومحبة. فليس هنا من يقطع أوصال المجتمع، وينشر العداوة بين أفراده وجماعته مثل جريمة الزنا. من أجل ذلك كله نهى الشارع المؤمنين من الإقتراب من الزنا والوقوع في مقدماته، وأسبابه، خوفاً من أن يقعوا في شركه كما ينهى النهندس المواطنين عن الإقتراب من موقع الخطر كتجمع الكهرباء، وحقول الألغام، ومخازن المفرقعات، حتى لا يدهمهم خطرهم، وهم لا يشعرون.
قَالَ تَعَالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} أي ولا تقتربوا من الزنا بمباشرة(5/51)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أسبابه القريبة أو البعيدة، فضلاً عن مباشرته، وإنما نهي الشرع عن قربانه لأن قربانه داعه إلى مباشرته {إنه كان فاحشة} لأن فعله ظاهر القوى، متجاوز عن الحد، {وساء سيبلاً} أي بئس طريقة طريقاً فإنه غضب الإضياع المؤد إلى اختلال أمر الأنساب، وهيجان الفتن، وفساد المجتمع، كيف لا وقد عده اللَّه تَعَالى بعد الشرك والقتل فقال تعالى: {والذين لا يدعون مع اللَّه إلهاً آخراً، ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون، ومن يفل ذلك يلق أثاماً. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً} وبين لبرسول صَلَوَات اللَّهِ وسَلاَمهُ عَلَيْه بعض أضراره ومساوئه فقال صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (إياكم والزنا فإن فيه ستة خصال، ثلاثة في الدنيا، وثلاثة في الأخرة، وأما التي في الدنيا: فذهاب البهاء، ودوام الفقر، وقصر العمر. وأما التي في الأخرة: فسخط اللَّه تَعَالى، وسوء الحساب، والخلود في النار) ، ورواه أبوحذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ.
وقال صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه الظلة، فإذا انقطع رجع إليه) ..
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت بالنهي عن الزنا والأسباب التي تقرب منه.
عورة المرأة
اختلف العلماء فيما يباح للمرأة كشفه من أعضائها أمام الرجل الأجانب، وما لا يباح كشفه تبعاً لإختلافهم في فهم المراد من قوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} الآية. والمراد بغض البصر يعني كف النظر إلى المحرم، والمراد بحفظ الفروج حفظها من النظر إليها، ومن لمسها، ومن وطئها إلا على زوجها، قَالَ تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} - {ولا يبدين زينتهن} أي لا يظهرن محل زينتهن {إلا ما ظهر منها} ، وقد اختلف العلماء في تحديد العورة على مذاهب.
الشافعية في إحدى روايتين والحنابلة قالوا: جميع بدن الحرة عورة، ولا يصح لها أن تكشف أي جزء من جسدها أمام الرجال الأجانب إلا إذا دعت لذلك ضرورة، كالطبيب للعلاج والخاطب للزواج، والشهادة أمام القضاء، والمعملة في حالة البيع والشراء، واستثنوا من ذلك الوجه والكفين لأن ظهورهما لضرورة، أما القدم فلا جرم اختلفوا فيه هل هو عورة أم لا؟ فيه وجهان، والأصلح أنه عورة.
الحنفية والرأي الثاني للشافعية والمفتي به عند المالكية، قالوا: جميع بدن المرأة الحرة عورة إلا الوجه والكفين فيباح للمرأة كشف وجهها وكفيها في الطرقات، وأمام الرجل الأجانب ولكنهم قيدوا هذه الإباحة بشرط أمن الفتنة، أما إذا كان كشف لاوجه واليدين يثير الفتنة لجمالهما الطبيعي أو لما فيهما من الزينة وأنواع الحلي فإنه يجب عليها سترهما ويصيران عورة كبقية أعضاء جسدها، وذلك من باب سد الزرائع وقطع دابر الفتنة وصيانة الأداب وحفظ الأعراض والأناب، فإن النظرة رسول الشهوة وبريد الزنا ورائدة الفجور وسهم مسموم يصب في القلوب، ورد نظرة كانت بذرة لأخبث شجرة.(5/52)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: مكتوب في التوراة: النظرة تزرع في القلب الشهوة ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً.
وروي عن أم سلمة: أنها كانت عند النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم وميمونة، إذ أقبل ابن متكوم فدخل عليهما، فقال عليه الصلاة والسلام احتجبا منه. فقلت يَا رَسُولَ اللَّه أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟.
حكم صوت المرأة
اختلف العلماء في صوت المرأة فقال بعضهم إنه ليس بعورة، لأن نساء النبي كن يروين الأخبار للرجال، وقال بعضهم إن صوتها عورة، وهي منهية عن رفعه بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذا كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها، وقد قَالَ اللَّه تَعَالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} فقد نهى اللَّه تَعَالى عن استماع صوت خلخالها لأنه يدل على زينتها، فحرمة رفع صوتها أولى من ذلك، ولذلك كره الفقهاء أذان المرأة لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأة منهية عن ذلك، وعلى هذا فيحرم رفع صوت المرأة بالغناء إذا سمعها الأجانب سواء أكان الغناء على آلة لهو أو كان بغيرها، وتزيد الحرمة إذا كان الغناء مشتملاً على أوصاف مهيجة للشهوة كذكر الحب والغرام وأوصاف النساء والدعوة إلى الفجور وغير ذلك.
مبحث حكم الغناء
اختلف العلماء في حكم الغناء، واستماعه.
الحنفية - قالوا: الغناء إما أن يكون من امرأة أو رجل، فإن كان من امرأة وكان بصوت غير مرتفع بحيث لا يسمعه الناس فلا مانع منه، أما إذا كان الغناء بصوت مرتفع يسمعه الأجانب فهو حرام، وخصوصاً إذا كان مشتملاً على كلام مهيج للشهوة، ومثير للفتنة كتحسين الخمور وأوصاف النساء أو دعوة إلى الحب والغرام إلى غير ذلك.
أما الرجل فإن كان غناؤه لدفع الوحشة عن نفسه، أو كان لحماس الجند أو الحث على العمل والجهاد فهو جائز، أما إذا كان الغناء مشتملاً على ذكر الحب والغرام، ويخشى أن تفتتن به امرأة أجنبية تسمعخ فيكون في هذه الحالة حراماً، كما هو حاصل في الإذاعة والسينمات ودور الملاهي والتمثيل. وكذلك غناؤه في حادث سرور مباح إذا كان بغير آلة ولم تكن فيه عبارات مهيجة ولم تحصل منه فتنة، وكان الاجتماع غير محذور لا تختلط فيه النساء مع الرجال وكان الغناء على غير آلة لهو، ولم يكن سبباً لمحرم، أما إذا لم يستوف هذه الشروط فغناؤه حرام، كما هو الحال في الأغاني التي يذيعها المطربون والمغنون.
المالكية - قالوا: الغناء حرام على النساء وسماعه حرام. إلا إذا كانت الأغاني من الرجال بعبارات حماسية يف لاحرب أو تسلية للإبل على السير في الصحراء ولم تصحبه آلة لهو وطرب.
وقد سئل الإمام مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إن ما(5/53)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يفعله عندنا الفساق، فقد روي عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) . وعن يزيد بن الوليد أنه قَالَ: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن لاخمر ويفعل ما يفعله السكر.
الشافعية - قالوا: إن الغناء الماجن مع آلات الطرب واللهو حرام على النساء والرجال، وسماعه حرام، فقد نقل عن الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل، من استكثر منه فهو سفيه وترد شهادته.
الحنابلة - قالوا: الغناء حرام سواء أكان من النساء أم من الرجال إذا كان القول يثير الشهوة، لمن استمع إليه، أو أدى إلى اختلاط الرجال بالنساء، أو خروج عن حشمة ووقار.
والاستماع يأخذ حكمه، فإن الشخص إذا سمع وصف الخمر والصدر والخد والشدي وذكر وتحتد وباعث الشر، وتستيقظ دوافع الفتنة، وتنبه الآعضاء إلى لذة الفاحشة، وذلك نصر لحزب الشيطان، وتخذيل للعقل المانع منه، الذي هو حزب الرحمن، فهو يؤدي إلى حرام وما أدى إلى حرام فخو حرام، كالنظر إلى الأجنبية بشهوة أو لمسها أو الخلوة بها.
الزنا معطل للنسل الصالح
إن الإسلام بتشريعه حد الزنا، وعنايته التامة بإقامته واهتمامه الزائد بتنفيذ أمام طائفة من عباد اللَّه المؤمنين، ونزول الآبات الكثيرة بشأنه والنهي عن اقتراف مقدماته وأسبابه والاقتراب منه، وتحريم الأشياء المقربة منه، كالاختلاط والغناء والرقص وخلافه، واعتباره من أعظم الفواحش ومن أكبر الذنوب ومقارنته بالشرك باللَّه تعالى وقتل الأنفس، ووصفه في القرآن الكريم بأنه يكون سبباً في مضاعفة العذاب يوم القيامة والخلود في نار جهنم، وأنه يسبب المقت والمهانة، ويجلب على صاحبه العار والفضحية ويجرفه إلى أسوأ السبيل، وقول النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (بأنه يخلع الإيمان من قلب الزاني والزانية كما يخلع الرجل قميصه من عنقه) ، وتشريع ضرب الزاني المحصن بالحجارة حتى يموت، هو أشنع عقاب وأشد عذاب في التشريع.
فالإسلام يقصد من وراء ذلك كله إلى صيانة الأعراض أيما وحفظها من التلوث والدخالة، لأن الأعراض الطاهرة تستوجب الطمأنينة السعيدة في الأسرة، وتنبت ذرية قوية صالحة، وأفراداً شرفاء فضلاء، وأشبالاً أشداء أقوياء، ترفع الإنسانية وتسمو بها، وتعلي من قدرها، وما من شك في أن الأسرة المتهدمة والعائلة المتفرقة، لا تكون أمة نبيلة ولا شعباً كريماً، لأن بناء المجتمع الصالح إنما يكون من لبنات متينة قوية متماسكة. والشعوب التي يفشو فيها الزنا وتظهر فيها الفاحشة وتنتشر بينها المفاسد يسارع إليها الخراب المادي والأدبي، وينتشر فيها الفساد الخلقي انتشار النار في الهشيم، وينخر فيها المنكر كنخر السوس في الخشب، ويستحيل أهلها إلى شراذم متهدمة لا تناصر بينهم ولا تعارف ولا(5/54)
مبحث حد المحصن
-أما حد الزنا فقد فرقت الشريعة فيه بين الذي تزوج والذي لم يتزوج، فشددت العقوبة
__________
محبة ولا تآلف لعدم وجود عاطفة القرابة ورابطة الأخوة والدم فتتنافر وتتشاحن وتتفرق، وتذهب قوتها وهيبتها وتضيع كرامتها.
وقد أشار ذلك الرسول صَلَوَات اللَّهِ وسَلاَمهُ عَلَيْه حيث قَالَ: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، أوشك أن يعمهم اللَّه بعقابه) .
فالزنا من الأسباب التي تقوض دعائم الأمم وتهدم مجدها، وتجلب لها الذل والاستعمار لأنه معطل للنسل القوي الصالح المتناصر، وقاتل للنخوة والشهامة ومميت للجرأة والشجاعة، وقاطع للرحم التي تربط بين الناس، والتي على نظامها وتقديرها تبنى كافة الروابط الإنسانية، من الأبوة والنبوة والآخوة وسائر القرابات.
ولهذا كان النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم يفتخر بحسبه ونسبه وأن اللَّه حفظ أصله وآباءه من هذا الوباء، فقال صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (ولدت من نكاح، ولم أولد من سفاح) وولد الزنا لا يغار على وطن ولا إلى أهل، وكان من قول الخنساء رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وهي تنصح أولادها الأربعة في حرب القادسية وتحرضهم على الثبات والجلد والقتال: (أي بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حشبكم ولا غيرت نسبكم) فهي تشير إلى أمر مهم في القتال وهو أنهم قد ولدوا من بطن طاهر ومن أصل طاهر ومن حسب نقي ومن أبوين عفيفين غير ملوثين) .
-
تعريف المحصن
-1 - اتفق الأئمة على أن من شرائط الإحصان.
-2 - الحرية.
-3 - البلوغ.
-4 - العقل.
-4 - أن يكون متزوجاً بامرأة محصنة مثل حاله بعقد صحيح.
-5 - وأن يكون دخل بها ووطئها في حالة جاز فيها الوطء، وهما على صفة الإحصان.
فلا يقام الحد على عبد، ولا على صبي، ولا مجنون، ولا غير متزوج زواجاً صحيحاً كما وصفنا، ولو وطئ زوجته في الدبر فليس بمحصن أو وطئ جاريته في القبل فليس بمحصن، أو وطئ في نكاح فاسد كأن تزوجها بلا ولي أو بلا شهود فليس بمحصن، أو وطئ زوجته وهو عبد ثم عتق، أو كان صبياً ثم بلغ، أو كان مجنوناً ثم أفاق.(5/55)
على الأول لأنه عرف معنى الزوجية، وقدر قيمة العدوان على العرض حق قدره، فكان جزاؤه الإعدام (1) .
__________
وانما اشترط الوطء في نكاح صحيح لأنه به قضي الواطئ والموطوءة شهوتهما فحقه ان يمتنع عن الحرام _ واعتبر وقوعه حال الكمال لأنه مختص بأهل الحالات وهو النكاح الصحيح فاعتبر حصوله من كامل حتى لا يرجم من وطيء وهو ناقص ثم زنا وهو كامل، بل يرجم من كان كاملاً في الحالين.
واختلف الفقهاء في شرط الاسلام في الاحصان.
الحنفية والمالكية - قالوا: ان الاسلام من شروط الإحصان لأن الاحصان فضيلة ولا فضيلة مع عدم الاسلام، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من اشرك بالله فليس بمحصن) ولأن إقامة الحد طهارة من الذنب والمشرك لا يطهر إلا في نار جهنم _ والعياذ بالله.
الشافعية والحنابلة - قالوا: إن الاسلام ليس بشرط في الإحصان لأن الرَسُول صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم رجم
اليهودية واليهودي اللذين زنيا في عهده حينا رفع اليهود امرهم اليه كما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو حديث متفق عليه.
اتفق الفقهاء على وجوب شروط الإحصان في المرأة المزني بها مثل الرجل في الاتفاق، والخلف، فإذا توفرة شروط الاحصان في احد الزوجين دون الاخر ففيه خلاف.
الحنفية والحنابلة - قالوا: لا يثبت الإحصان لواحد منهما فلا يرجمان بل يجلدان.
الشافعية والمالكية - قالوا: يثبت الإحصان لمن تتوافر فيه الشروط فيرجم ويسقط الإحصان عمن لاتتوافر فيه هذه الشروط، فإن زنيا كان الجلد في حق من لم يثبت له الإحصان الرجم إلى من يثبت له الإحصان واستدلوا على مذهبهم بما خرجه أهل الصحاح عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهمي انهما قلا إن رجلاً من اهل الأعراب اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله أنشدك الله إلاقضيت لي بكتاب اللَّه، فقال الخصم، وهو أفقه منه: نعم اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم فقال النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: قل، فقال إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنا بامرأته وإني اخبرت أن على ابني الرجم فافتديه بمائة شاة ووليذة، فسأت اهل العلم فأخبروني انما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم فقال رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس - امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها أنيس اعترفت فأمر النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم بها فرجمت)
إقامة الحد على المحصن
(1) اتفق الأئمة على ان من كملت فيه شروط الإحصان ثم زنا بامرأة قد كملت غيها شروط الإحصان بأن كانت حرة بالغة عفلة مدخولاً بها في نكاح صحيح وهي مسلمة_ فهما زانيان محصنان(5/56)
ولا ريب أنه جزاء يناسب هذه الجريمة مناسبة تامة، لأن العدوان على العرض بهذه الصورة الشنيعة كالعدوان على النفس، بل ربما فضل الغيور على عرضه، قتله على الزنا بحليلة أو محرمة (1) .
__________
يجب على كل واحد منهما الرجم حتى الموت لقول الرَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البته نكالا من الله حديث متفق عليه.
وقل النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) كما ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهما.
ولما روي عن النبي أنه قال: (إن الرجم حق في كتاب الله إلى من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، او كان الحمل، او الإعتراف) حديث متفق عليه
ولأن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم رجم ماعزاً، ورجم الخامدية وغيرهما، ولإن الخلفاء الراشدون أقاموا حد الرجم بلإجماع من غير نكير من واحد منهم، فحد الرجم ثابت بالأحاديث المتواترة، وفعل الرَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم وإجماع الأمة. وثابت بالكتاب على رأي من يقول ان حديث الردم كان آية من القرآن ثم نسخت وبقي حكمها ,
كيفية اقامة حد الرجم
(1) وإذا وجب إقامة حد الرجم على الزاني أو الزانية بإقرار، أو شهادة شهود، أو بينة فيرجم بحجارة معتدله، لابحصيات خفيفة لئلا يفوت التنكيل المقصود من اقامة الحد، بل يضرب بحجر ملء الكف وينفى ضرب الوجه لما روي مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال (نهى رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم فيه، وهو الكي بالنار، ولأن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم لما أمر برجم الغامدية أخذ حصاة ورماها بها ثم قال للناس ارموا واتقوا الوجه.
والرجل الزاني وقت الحد لا يربط، ولا يقيد، ولا يحفر له حفرة، أما المرأة فيجوز أن يحفر لها حفرة عند رجمها إلى صدرها حتى لا تنكشف عورتها وتشد عليها ثيابها وقت إقامت الحد عليها كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم ايام رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم.
واتفق الفقهاء على ان حد الرجم يقام على الزاني في الحر او البرد الشديدين ويقام على المريض، لأن النفس مستوفاة به فلا يؤخر حده إلى البرء بخلاف الجلد.
واتفقوا على ان حد الرجم لا يقام على المرأة الزانية اذا كانت حبلى ويؤخر إلى أن تلد ويرضع الطفل حتى يأكل، كما فعل النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم في حد الغامدية، ولأن إقامة الحد على الحامل فيه قتل للجنين(5/57)
مبحث حد غير المحصن
أما غير المتزوج فقد قدرت له مائة جلدة، لما عرفت من أنه لم يعرف معنى الغيرة على الزوجة، فكان له حق في التخفيف (1)
-
__________
الذي في بطنها وهو قتل لنفس بريئة من غير وجه حق واتفقوا: على انه إذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. كما فل الرَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فيمن مات بالحد.
زنا العاقل بالمجنون
إذا مكنت امرأة مسلمة بالغة عاقله مجنونا أجنبياً عنها من نفسها فزنى بها، أو زنى عاقل بالغ بمجنونة اختلف الفقهاء في حكمهما.
الحنفية - قالوا: لو زنى الرجل العاقل البالغ بصبية لا تعقل أو مجنونة مسلوبة العقل يقام الحد عليه، وهو خاص بالرجل.
وإذا أطاعت المرأة العاقلة البالغة صبيا غير بالغ، أو مجنونا ومكنته من نفسها فلا يجب عليها إقامة الحد ولا على من واقعها، لأن الحد يجب على الرجل بفعل الزنا ويجب على المرأة بالتمكين من الزنا والمأخوذ في حد الزنا الحرمة المحضة وذلك غير موجود في فعل الصبي لعدم التكليف فلا يكون معها تمكيناً من الزنا فلا يجب عليها الحد وفعل البالغ العاقل تمحص حراماً فيوجب الحد.
أبو يوسف، ومحمد، وزفر - قالوا: يجب على المرأة العاقلة التي مكنت منها صبياً أو مجنوناً وزنت به لأنها عاقلة مكلفة فتسأل عن أفعالها وذلك هو الراجح) .
-
جلد غير المحصن
(1) اتفق الفقاء على ان البكرين الحرين العاقلين البالغين المسلمين إذا زنيا فعلى كل واحد منهما الجلد مائة جلدة، وذلك ثابت في كتاب الله تعالى حيث قال الله عز وجل (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من الؤمنين)
قال المفسرون خصصت هذه الآية بلأحاديث الواردة في رجم المحصن وبقيت في حكم غير المحصن.
كيفية قانون حد الجلد
قال الفقهاء: ضرب التعزير أشد من ضرب الزنا، وضرب الزنا أشد من ضرب شارب الخمر وفي حالة الجلد لا يضرب بسوط جديد حتى لا يزيد الألم، ولا بسوط قديم بال حتى لا يؤلمه الضرب،(5/58)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإنما يضرب بسوط وسط مصنوع من الجلد، قالوا: ولا يمد المضروب ولا يشد ولا يبالغ الجلاد في الضرب ولا يجرد من جميع ثيابه فيترك عليه قميص يستر عورته ويرفع عنه الفرو وثياب الجلد ويفرق الضرب إلى جميع الأعضاء حتى يعطى كل عضو حظه من الضرب لأنه قد ذاق اللذة في كل عضو، ولأن جمع الجلدات في عضو واحد ربما يؤدي إلى الإتلاف، والإتلاف غير مستحق فيرق الضرب على الأعضاء كي لا يؤدي إلى الإتلاف المنهي عنه بقول النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، زنا بعد إحصان، وارتداد بعد إسلام، ومقتل نفس بغير نفس) رواه الترمذي عن سيدنا عثان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ويتقي في الضرب المقاتل، كثغرة النحر والفرج والوجه لأنه يجمع بين المحاسن ولقول النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) وما روي عن سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ للجلاد دق الرأس فإنه فيه شيطاناً، ويضرب الرجل قائماً.
أما المرأة فتضرب جالسة مستورة ولا تجرد من ثيابها لأنه عورة مستورة وكشف العورة حرام، إلا أنه ينزع عنه الحشو والفرو، والجلد، ليخلص الألم إلى جسدها حتى يحصل المطلوب من إقامة الحد وهو الشعور بالألم لتتزجر وتقلع عن الذنب، وإنما تضرب وهي قاعدة. لقول سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يضرب الرجل قائماً والمرأة قاعدة، ولأن مبنى حال الرجل على الانكشاف والظهور حتى يعتبر به غيره، ومبنى حال المرأة على الستر والخفاء.
جلد المريض
إذا كان المطلوب جلده نحيفاً، أو هزيلاً شديد الهزال، أو مريضاً خبيثاً لا يرجى برؤه، كالمسلول والمجذوم، والمصاب بالسرطان، وغير ذلك من الأمراض الفتاكة الخطيرة، يجلد بمكتال النخل، أي (عرجون عليه غصن) وبه مائة غصن أو خمسون ففي المائة يضرب به مرة واحدة، وفي الخمسين يضرب به مرتين مع ملاحظة مس الاغصان لجميع جسمه، أو يضرب بطرف ثوب مفتول، او يضرب بالنعال، كما حدث أيام الرَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فقد روي البخاري رحمه الله وأبو داود، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: أتي النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه، منا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم أخزاك الله فقال عليه الصلاة والسلام: (ولا تقولواهكذا لاتعينوا عليه الشيطان)
فيفهم من الحديث جواز الضرب في حالة الحد بكل شئ يؤلم، فيستعمل هذا في حالة المرض الشديد تيسيراً من الله على المرضى.
أما في حالة الصحة فلا يجوز استعمال هذه الآلات. حيث انه لا يؤدي الخرض المطلوب، من(5/59)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إقامة الحد، وهو التألم والانزجار عن الوقوع في الجلد، فيتعين الضرب بسوط الجلد حتى يحصل المقصود.
واتفق الفقهاء على انه لا يجوز جلد الزاني في حالة الحر الشدي، ولا في حالة البرد الشديد، بل يجب تأخيره الى اعتدال الجو.
واتفق الأئمة على ان الزاني غير المجصن اذا كان مريضاً بمرض يرجى برؤه لا يقام عليه الحد، بل يؤخرويسجن حتى يبرأ منه كي لا يهلك اجتماع الضرب مع المرض.
حد النفساء والحامل
اتفق الفقهاء على ان الرأة لاتجلد في حالة الحمل بل تؤخر حتى تضع الجنين، تزول ألم اولادة وتبرأ من النفاس حفظاً للجنين والمرأة لئلا يهلكا باجتماع الجلد وألم الولادة ومرض النفاس، لما روي عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه خطب المسلمين فقال: أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بالنفاس، فخشيت إن جلدتها قتلتها، فذكرت ذلك للنَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فقال: (أحسنت) .
وروى الخمسة غير البخاري عن عمران بن حصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن امرأة من جهينة أتت رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم وهي حبلى من الزنا. فقالت: يا نبي اللَّه أصبت حداً فأقمه عليّ، فدعى نبي اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم وليها فقال: (أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل، فأمر بها النَبِي اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال عمر: تصلي عليها يا نبي اللَّه وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها للَّه تعالى؟) .
فيؤخذ من الحديث إقامة الحد على العبد والأمة، من ككان محصن أو غير محصن، كما يؤخذ من الحديث تأخير الحد عن النفساء حتى تصح ويتم نفسها وترضع طفلها، حتى يستغنى عنها رحمة بالجنين وهذا من يسر الإسلام.
الجمع بين الجلد والرجم
المالكية، والشافعية، والحنفية - قالوا: لا يجوز الجمع بين الجلد والرجم على المحصن، لأن حد الرجم نسخ حد الجلد ورفعه، ولأن الحد الأصغر ينطوي تحت الحد الأكبر، ولا تحصل منه الفائدة المرجوة، وهو الزجر والإقلاع عن الذنب حيث أن الجاني سيموت.
الحنبلة قالوا: إن المحصن يجلد في اليوم الأول ثم يحد بالرجم في اليوم الثاني، لما روي عن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم أنه جلد رجلاً يوم الخميس ورجمه يوم الجمعة.
ولكن الراجح هو قول الجمهور لأن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم رجم ماعزاً، ورجم امرأة من جهينة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه جلد واحداً منهما قبل رجمه.(5/60)
مبحث من قتل الرجل الذي زنى بامرأته
وكثيرا ما نرى الناس يقتل بعضهم بعضاً من جراء الزنى، ولذلك نجد القوانين في كل الشرائع قد رفعت القصاص عن قاتل الزاني بامرأته، لأنها ترى أن هذه الخيانة تستوجب قتل مرتكبها (1) .
__________
قَالَ الإمام الشافعي رحمه اللَّه فدلت السنة على أن الجلد ثابت على البكر ساقط عن الثيب. وكل الأئمة عندهم رجم بلا جلد.
الجمع بين الجلد والتغريب
اختلف الفقهاء في ذلك.
المالكية - قالوا: يجب تغريب البكر الحر الزاني غير المحصن، بعد اقامة الحد عليه، بعيداً عن موطنه الذي يقيم فيه مسافة قصر، ولمدة عام، لتقبيح الزنا في عين الزاني، ورحمة به لبعده عن المكان الذي حصل فيه الزنا، لانه يحصل له اذى وخزي كلما رآه اهل بلده وجيرانه ويحتقرونه في المساجد والمجتمعات، ويحصل لهم الاثم، من تعييره، فتغريبه أفضل له ولهم.
وأما المراة الزانية فلا تغريب عن بلدها خوفاً من شيوع الفتنة وإنتشار الفساد، ولإنها عورة وفي تغريبها تضييع لها وقد نهى الشارع أن تسافر المرأة بغير ذي رحم محرم معها، والواجب عليها الجلوس في عقر بيتها والبعد عن المجتمع، وهو الامساك في البيوت.
الحنفية - قالوا: لا يجوز الجمع بين الجلد والتغريب، لان التغريب لم يذكر في آية النور، فهو زيادة على النص، التغريب ثابت بخبر واحد فلا يعمل به، ولا يكون من تمام الحد، وإنما يترك الرأي للإمام، ويكون من باب التعزير فإن رأي الإمام فيه فائدة غربه، وإن ير فيه فائدة فلا يبغده عن وطنه، وقال الإمام أبو حنيفه في هذا المقام حكمته الشهورة: (كفى بالنفي فتنه) . وما فعله بعض الصحابة كان باجتهاده.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إنه يجمع في حق الزانيين البكرين الحرين العاقلين، بين الجلد والتغريب إلى حد قصر فيه الصلاة، حتى يحصل لهما الوحشة بالبعد عن الاهل والوطن، فيحصل فيه زجر عن الوقوع في الخطيئة. وبه حكم ابو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والإمام علي رضي الله عنهم حتى قال بعضهم: وأرى فيه الإجماع لما ثبت ان عمر غرب الى الشام وعثمان غرب إلى مصر وعلي غرب الى البصره. وما روي أن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث العسيف (على ابنك جلد مائة وتغريب عام) ويغرب الذكر والانثى على السواء مع ملاحظة ان يكون مع الزاني ذو رحم محرم على نفقتها في حالة غربتها، يرافقها ويقيم معها.
-
(1) اختلف العلماء في حكم من وجد مع امرأة رجلا، وتحقق وجود الفاحشة منهما. فقتله هل يقتل ام لا؟ .(5/61)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الجمهور - قالوا: لا يصح ان يقدم الرجل على قتل رجل وجده عند زوجته، وتحقق من ارتكابه الفاحشة لما روى البخاري عن ابي هريرة رضي الله عنه: (ان سعد بن عبادة رضي اله عنه قال: يارسول الله أرأيت ان وجدة مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (نعم فإن قتله يقتص منه، إلا أن يأتي ببينة على ارتكابه جريمة الزنا وهومحصن أو يعترف القتول بذلك، أما اذا قتلهما أو أحدهما، ولم يستطع ان يأتي بالبينة وإحضار الشهداء على الزنا، او الإعتراف. فإنه يطالب بالقود، والقصاص، أو الدية لأنه يجوز لرجل أن يدعو رجلاً آخر لدخول بينه لعمل شيء ثم يقتله لضغن في نفسه ويقول: وجدته مع امرأتي كذباً.
ويجوز ان يقتل الرجل زوجته ليتخلص منها لشيء في نفسه، ثم يدعي عليها زوراً، أنه وجد معها رجلاً يزني بها، لذلك احتاط الشارع في هذا حفظاً للأرواح بأنه يجب على القاتل إقامة البينة على دعواه، فإن استطاع إقامة البينة فلا شيء عليه) .
وذهب بعض السلف: إلى انه لا يقتل أصلاً، ويعذر فيما فعله، إذا ظهرت أمارات صدقه، بكشف الطبيب الصادق عليهما، أو وجود شبهات سابقة على سوء سلوك الزوجة، أو اشتهار المقتول بالزنا أو غير ذلك.
الحنابلة، والمالكية -: قالوا: إن أتى بشاهدين إلى انه قتله بسبب الزنا، وكان القتول محصناً فلا شيء عليه.
الهادوية - قالوا: يجوز للرجل أن يقتل من وجده مع زوجنه. أو أمته، أو ولده حال الفعل، ولا شيء عليه، وأما بعد انتهاء الفعل فيأتي ببينة أو يقتص منه إن كان بكراً.
الشافعية - قالوا: إذا وجد الرجل مع امرأته رجلاً فادعى أنه ينال ينال منها ما يوجب الحد، وهما ثيبان فقتلهما. أو أحدهما، ولم يأت بالبينة كان عليه القود أيهما قتل، إلا أن يشاء أولياء الدم أخذ الدية، أو العفو.
ولو ادعى على أولياء المقتول منهما أنهم علموه قد نال منها ما يوجب عليه القتل إن كان الرجل، أو ميلاً من المرأة إن كانت المرأة المقتولة، اكن على أيهما ادعى ذلك عليه أن يحلف أنه ما علم.
وهكذا لو وجد رجلاً يتلوط بابنه، أو يزني بجاريته، لا يختلف الحكم. ولا يسقط عنه القود، والقتل إلا إذا أتى ببينة على الفعل.
ولو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً ينال منها ما يوجب حد الزاني فقتلهما والرجل محصن والمرأة غير محصنة بأن كانت غير مسلمة، أو أن العقد بغير شهود فلا شيء في الرل، وعليه القود في المرأة، وإذا كان الرجل غير محصن والمرأة محصنة كان عليه القود في الرجل، ولا شيء عليه في المرأة، إذا استطاع أن يأتي بابينة على ارتكابهما الزنا.
فقد روي عن ابن المسيب أن رجلاً بالشام وجد مع امرأته رجلاً فقتله وقتلها، فكتب معاوية إلى(5/62)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أبي موسى الأشعري بأن يسأل له عن ذلك علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فسأله فقال علي كرم اللَّه وجهه: (أنا أبو الحسن إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته) . أي يقتل.
وروي عن سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ أنه أهدر دم المقتول، وقال: هذا قتيل اللَّه، واللَّه لا يودى أبداً.
وهذا الذي صدر عن سيدنا عمر، لأن البينة قامت عنده على أن المقتول ارتكب الزنى وهو محصن، أو على أن ولي القمتول أقر عنده بما وجب به أن يقتل المقتول.
وقد قَالَ: إن كان القاتل معروفاً بالقتل فاقتلوه، وإن كان غير معروف بالقتل فذروه ولا تقتلوه ...
وأما الأديان السابقة، فقد أجمعت على تحريم الزنا، كما ثبت ذلك في الكتب المزلة من السماء.
موقف القوانين الوضعية من هذه الجريمة
لقد انقسمت القوانين الوضعية في معلجتها لهذه الجريمة البشعة إلى ثلاثة أقسام:
-1 - قوانين لا تعاقب على جريمة الزنا إطلاقاً، بل تبيحها كالقانون الإنكليزي.
-2 - قانون يعاقب على الجريمة بالتساوي دون التفرقة بين الزوج والزوجة، كالقانون الألماني.
-3 - قانون يعاقب على الجريمة، ولكنه يفرق بين الزوج والزوجة، كالقانون الفرنسي، وهو الذي، تسير عليه القوانين الحالية في محاكم الجمهورية العربية.
مقارنة بين القانون السماوي والقانون الوضعي
إن الدين الإسلامي يعتبر كل اتصال جنسي محرم بي رجل وامرأة. أو بين رجل ورجل جريمة زنا، سواء أكان الرجل محصناً، أم غير محصن، أم غير محصن إذا كان مميزاً، بالغاً، عقلاً، غير مكوه، ولا دخل للمكان فيه.
أما القانون الوضعي: فلا يعتبر هذه الجريمة زنا إلا إذا كان الفعل بين رجل متزوج، وامرأة متزوجة، أو كان أحدهما متزوجاً، ووقعت الجريمة بالشروط، والأوضاع التي بينها القانون.
فبالنسبة للرجل، لا تتحقق الجريمة إلا في منزل الزوجية، فلو وقعت في غير هذا المكان لا تعد حناية، ولا يعاقب عليها، وبالنسبة للمرأة، فإن الجريمة تقع منها متى ارتكبتها في أي مكان، ما دامت مقترنة بزوج.
ويتضح الفرق في القانون الوضعي بين الزوج، والزوجة فيما يأتي:
-1 - يثبت الزنا على الزوجة إذا ارتكبته في أي مكان، أما الزوج فلا يثبت عليه الزنا إلا إذا ارتكبه في منزله - المادة (274 - 277) من القانون.
-2 - تعاقب الزوجة بالحبس إذا ضبطت متلبسة بالجريمة، مدة لا تزيد عن سنتين، أما الزوج فيحبس لمدة ستة أشهر.(5/63)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
-3 - لا يجوز للزوجة أن تسامح زوجها بعد الحكم النهائي عليه، وإن كانت تستطيع أن تسامحه قبل صدور الحكم عليه. أما الزوج فيستطيع أن يعفو عن زوجته حتى بعد صدور الحكم النهائي عليها، لأنه تنازل عن حقه - المادة (274) .
-4 - يخفف القانون عقوبة الزوج الذي تعفو عنه زوجته، إذا ضبط متلبساً بجريمة الزنا، بينما هي لا تستفيد من هذا التخفيف.
-5 - من فاجأ زوجته حال تلبسها بجريمة الزنا فقتلها، وقتل من يزني بها يعاقب بالحبس مدة متناسبة بدلاً من العقوبات المقررة في المادتين (234 - 236) في شأن من قتله رجل آخر.
وقد جرى قانون النقض في المحاكم المصرية على أن القتل في هذه الحالة يعتبر جريمة جنحة، فلا يعاقب على الشروع فيه لعدم النص.
مبحث دفاع الرجل عن ماله وحريمه
اتفق الفقهاء: على أن الرجل إذا هجم عليه رجل يريد أخذ ماله، أو قتله في مصر فيه غوث، أو كان في صحراء لا غوث فيها، أو أريد هتك حريمه في واحد منهما، فالإختيار له، أن يكلم المجرم، الذي يريده ويستغيث بالمسلمين، أو الجند، فإن منع أو امتنع وتركه ورجع عنه لم يكن له قتاله، وإن أبى أن يمتنع وهجم عليه يطلب ماله، أو يريد قتله، أو قتل بعض أهله، أو دخول على حريمه، زوجة، أو بنت، أو أخت، أو أم، أو إحدى المحارم، أو خادمة، أو أمة، أو صبي. أو قتل اللص الحامية التي من خارج الدار، حتى يتمكن من الدخول على النساء لإرتكاب الفاحشة، أو اغتصاب إحداهن، كرهاً فيجب على رب الأسرة أن يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، وسلاح، فإذا لم يستطع رده إلا بالضرب، باليد، أو العصا، أو السلاح، أو غيره، فله ضربه في هذه الحالة، ولكن ليس له تعمد قتله من أول وهلة، بل يضربه في غير مقتل. فإن ضربه دفاعاً عن نفسه، أو ماله، أو عرضه، ومات المعتدي، فلا عقل عليه، ولا قود، ولا دية، ولا كفارة، ولا إثم يوم القيامة، ولا تعزيز من الحاكم، ويكون دمه هدراً، وإن قتل الرجل المدافع بسلاح اللص الظالم فهو شهيد، وله أجر مجاهد في سبيل اللَّه عز وجل.
روى الترمذي وغيره عن سعد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) قَالَ: وهو حديث حسن.
وروى مسلم عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ قَالَ: (جاء رجل إلى رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قَالَ: لا تعطه مالك، قَالَ أرأيت إن قاتلني؟ قَالَ: قالته، قَالَ: أرأيت إن قتلني؟ قَالَ: فأنت شهيد، قَالَ: أرأيت إن قتلته؟ قَالَ: هو في النار) . ويقاس عليه من دافع عن نفسه، وعرضه، ودينه كما سبق في الحديث الشريف.(5/64)
مبحث رأي المعتزلة والخوارج
-ولم يخالف في هذا الحد إلا بعض المعتزلة، والخوارج، فإنهم قالوا: إن عقوبة الرجم كانت موجودة في صدر الإسلام، ثم نسخت بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} فالزانيان يستحقان الجلد سواء كلنا محصنين أو لا. ولكن دليلهم هذا لا يتم إلا إذا ثبت أن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم لم يرجم أحداً بعد نزول هذه الآية.
ولكن الجمهور قالوا: إن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قد رجم بعد نزول هذه الأية، بدليل أن أبا هريرة حضر الرجم، وهو لم يسلم ب سنة سبع، وسورة النور نزلت سنة ست أو خمس، وقد رجم الخلفاء الراشدون بعد النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، وصرجوا بأن الرجم حد، وقد نازع هؤلاء بأن الكتاب لا يصح نسخه بالسنة.
وأجيب بأن السنة المشهورة تخصص الكتاب بلا خلاف، وهنا خصصت السنة. الزاني، بغير المحصن، وهذا الخلاف لا يترتب عليه فائدة كبيرة عملية (1)
__________
ضرب المرأة لتأديبها
اتفقت كلمة فقهاء المسلمين على جواز ضرب الزوجة إذا نشزت، أو خالفت أمره، أو ارتكبت فاحشة.
لقوله الله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجرونهن في المضاجع، واضربوهن} أي ضرباً مؤلماً غير مبرح فلا يكسر عضواً، ولا يسيل دماً، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم لستم تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نشائكم حقاً، ولنشائكم عليكم حقاً فحقكم عليهن أن لا يوطئن، فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا غليهن، وكسوتهن وطعامهن" رواه الترمذي رحمه الله.
-
(1) (حكي في البحر عن الخوارج أن الرجم غير واجب عندهم، وكذلك حكاه عنهم أيضاً ابن العربي رحمه اللَّه تعالى، وحكاه أيضاً عن بعض المعتزلة، كالنظام وأصحابه، ولا مستند لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن الكريم، وهذا باطل، فإن الرجم قد ثبت بالسنة المتواترة المجمع عليها، وأيضاً هو ثابت بنص القرآن لحديث عمر بن الخطاب عند الجماعة أنه قَالَ: (كان مما أنزل على رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم آية الرجم، فقرأناها، وحفظناها، ووعيناها، ورجم رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم ورجمنا بعده) ونسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم، كما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُما، وقد أخرج أحمد والطبراني(5/65)
مبحث الشهادة في الزنا
-لأن حد الزنا منوط في الوقع بلإقرار الزاني، فإذا لم يقر الزاني، فإنه لا يمكن إثباته عليه بالبينة، لأنه لا يثبت إلا بأربعة شهود عدول، يرون الإيلاج بالفعل، وذلك إن لم يكن محالاً، فهو متعذر (1) .
__________
في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء: أن فيما أنزل اللَّه من القرآن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة) .
وعن ابي هريرة، وزيد بن خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنمها قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فقال: يا رسول اللَّه أنشدك اللَّه الا قضيت لي بكتاب اللَّه، وقال الخصم الآخر، وهو أفقه منه نعم، فاقض بيننا بكتاب اللَّه وائذن لي، فقال رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَم قل، قَالَ: إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته - وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللَّه، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها قَالَ: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فرجمت) رواه الجماعة.
وعن عبادة بن الصامت قَالَ: (قال رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم خذوا عني خذوا عني قد جعل اللَّه لهن سيبلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، وعن جابر بن عبد سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم رجم ماعز بن مالك رواه أحمد. وقد أجمعت الأمة على وجوب حد الرجم على الزاني المحصن) .
-
(1) (اتفقت كلمة الفقهاء على أن جريمة الزنا تثبت بالشهادة، أو الإقرار، واتفقوا على أن عدد الشهود في هذه الجريمة المنكرة، أربعة، بخلاف سائر الحقوق، لقوله تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} وقوله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم للذي قذف امرأته (ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك - وإلا فحد في ظهرك) واجماع الأمة على ذلك.
وافق الأئمة على أن صفة الشهود أن يكونوا عدولاً، وأن يكونوا ذكوراً، غير محدودين.
واتفقوا على أن من شروط هذه الشهادة أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها، وأن تكون الشهادة بالتصريح، لا بالكناية لأن في اشتراط العدد بالأربعة يتحقق معنى الستر على عباد اللَّه تعالى، الذي دعا إليه الشارع، ولأن الشيء كلما كثرت شروطه قل وجوده، وذلك قصد الشارع.
واختلف الفقهاء في اشتراط عدم تعدد المجلس.(5/66)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية والمالكية، والحنابلة - قالوا: إنه يشترط في أداء الشهادة. أن يشهدوا بالزنا في مجلس واحد، وإلا فهم فسقة، ويقام عليهم حد القذف، وذلك لأن الشارع طلب التحقيق في إقامة الحدود، وأداء الشهادة في مجالس متفرقة شبهة تمنع قبول شهادة الشهود وتقبل شهادتهم إذا ادوها في مجالس متفرقة، وذلك للمبادرة إلى تطهير المسلم من الذنوب إذا كمل النصاب في الشهود بحسب اجتهاد الحاكم، وما يراه من المصلحة للمسلمين في دينهم ودنياهم.
اتحاد المكان والزمان
واختلف الفقهاء في اشتراط أن تكون الشهادة من الأربعة في مكان واحد، وفي زمان واحد.
الحنفية، والمالكية - قالوا: يشترط أن تكون شهادة الأربعة في مجلس واحد، واشترطوا كذلك أن يحضر الشهود الأربعة مجتمعين في زمان واحد. فإن جاؤوا متفرقين واجتمعوا في مجلس واحد، لا تقبل شهادتهم، ويقام عليهم حد القذف لوجود شبهة في أداء الشهادة. وهي عدم اتحادهم في الحضور، لأن الشاهد الأول لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فوجب عليه الحد.
الشافعية - قالوا: لا يشترط اتحاد الشهود في الزمان، ولا في المكان، بل متى شهدوا بالزنا، ولو كانوا متفرقين واحداً بعد واحد، قبلت شهادتهم، ويقام الحد عليهما لهذه الشاهدة.
وذلك لأن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين أو متفرقين، فالآتي بهم متفرقين يكون عاملاً بالنص. ولأن كل حكم يثبت بشهادة الشهود إذا جاؤوا مجتمعين، يثبت إذا جاؤوا متفرقين كسائر الأحكام، بل هذا أولى لأنهم إذا جاؤوا متفرقين كان أبعد عن التهمة، وعن أن يتلقن بعضهم من بعض، ولأنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة.
الحنابلة - قالو: المجلس الواحد شرط في اجتماع الشهود، وفي أداء الشهادة. فإذا جمعهم مجلس واحد، وأدوا الشهادة سمعت شهادتهم، وإن جاؤوا متفرقينـ قبل أداء الشهادة، لأن الشبهة إنما تظهر في اختلاف المكان فقط.
اختلاف الشهود في مكان الحادث
واختلف الفقهاء في اشتراط عدم اختلاف اغلشهود في تحديد الماكن الذي وقعت فيه الفاحشة. كأن شهد اثنان من الشهود أنه زنا بها في هذه الزاوية من المنزل. وشهد اثنان آخران أنه زنا بها في زاوية أخرى من نفس المنزل.
الحنفية، والحنابلة - قالوا: إن هذا الخلاف لا يضر في أداء الشهادة. بل تقبل ويقام الحد.
المالكية، والشافعية - قالوا: لا تقبل الشهادة في هذه المسألة، ولا تجب إقامة الحد لأن اختلاف(5/67)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشهود في تحديد المكان شبهة تدرأ الحد عن الزنا، فيشترط أن يأتي الأربعة في وقت واحد، يشهدون على وطء واحد، في موضع واحد، بصفة واحدة، بهذا تتم الشهادة.
اختلافهم في البلد
وإن شهد اثنان على رجل بأنه زنى بها في الكوفة، وشهد آخران بأنه زنى بها في البصرة مثلاً، فلا تقبل الشهادة، ولا يقام عليهما الحد بالإجماع، ويحد الشهود حد القذف.
إذا ظهر أن الزانية بكر
وإن شهد أربعة من الرجال العدول على امرأة بالزنا بآخر ثم وجدت بعد ذلك بكراً. فإن الشهادة ترد ولا تقبل بالإجماع، ويدرأ الحد عنها لوجود الشبهة، ولا يحد الشهود. فإن وجود البكارة دليل على عدم وقوع الزنا.
عدم التقادم في أداء الشهادة
وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم من إقامته بعدهم عن الإمام الحاكم اختلف فيه الفقهاء.
الحنفية - قالوا: إنه لا تقبل شهادتهم في هذه الحالة لوجود شبهة التقادم في أداء الشهادة لأن الأصل عندهم أن الحدود الخالصة للَّه تعالى تبطل بالتقادم، لأن الشاهد مخير بين حسبتين إحداهما أداء الشهادة، وثانيتهما: التسر على المسلم، فالتأخير في أداء الشهادة لاختيار الستر، فالاقدام على الأداء بعد ذلك لوجود ضعينة هجيتهم، أ, لعداوة حركتهم بعد السكوت، فيتهمون في شهادتهم - إلا إذا وجد عذر لهم.
أما إذا كان التأخير لغير سبب يصير الشاهد فاسقاً، فترد شهادته لتيقنا بالمانع.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إن الشهادة في الزنا، وفي حد القذف، وشرب الخمر، تسمع بعد مضي زمان طويل من الواقعة. وذلك لأن الحد بعد الشهادة أصبح حقاً. ولم يثبت لنا ما يبطله، وقد يكون عندهم عذر، منعهم من أداء الشهادة في وقت وقوع الفاحشة. بأن الفتنة كانت قائمة لم تخمد إللا ذلك الوقت الذي يقام الحد فيه، فيعذرون في تأخيرهم.
اختلاف الشهود في الاستكراه
إذا شهد اثنان على رجل بالزنا، وقالا: استكراهاً، وقال آخران: بل كان الزنا طواعية. فقد اختلف الفقهاء في ذلك.
الإمام أبو حنيفة، والمالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: لا حد عليهما في هذه الحالة وترد شهادة الشهود لوجود شبهة تدرأ الحد، وهي تضارب الشهود في أقوالهم.
وقال الصاحبان رحمهما اللَّه تعالى: يحد الرجل خاصة، لأن الشهود الأربعة شهدوا، واتفقوا على أنه(5/68)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
زنى، ولكن اختلفوا في هل هو مكره، أم لا؟ فيقام الحد عليه. أما المرأة فلا يقام عليها الحد لأنها في هذه الحالة مكرهة، بشهادة الشهود، والمكرهة على الزنا لا تحد إجماعاً. ويجب على الزاني دفع صداقها، ويلحق به ولدها إن حملت منه.
شهادة الزوج
وهل يجوز أن يكون الزوج من الشهود الأربعة في شهادة الزنا على زوجته؟
المالكية - قالوا: يجوز كون الزوج من الشهود على زوجته بالزنا، لأن الزوج يلحقه العار من هذا الأمر، خصوصاً إذا كان له منها أولد، فلا يكون متهماً في أداء الشهادة. فتقبل شهادته وتحد الزوجة.
الحنفية، والشافعية والحنابلة - قالوا: لا يجوز شهادة الزوج مع شهود الزنا على زوجته لأنه متهم في أداء هذه الشهادة. فلا تقبل شهادته.
سؤال الشهود
وإذا حضر الشهود في مجلس الحاكم لأداء الشهادة على حصول الزنا، سألهم الحاكم عن الزنا ماهو؟، وكيف هو؟، وأين زنا؟، وبمن زنا؟، وكيف زنا؟، فإن اتفقوا جميعاً في هذه الأمور وقالوا: رأينا إيلاج الذكر في الفرج، كالميل في المكحلة، بالتفصيل لأنه لا يكفي الإجمال في هذه الحالة فيجب على الحاكم لإقامة الحد على الزانيين، فربما يكون لمسها، أو يكون النى في دار الحرب، أو في الصبا، أو في زمان متقادم.
المالكية - قالوا: إنما تصح الشهادة إذا اتحد الزنا عندهم في صفته. من اضطجاع، أو قيام، أو قعود، أو هو فوقها، أو تحتها، في مكان كذا، في وقت كذا، ولا بد من ذكر ذلك كله للحاكم على انفرادهم بعد تفرقهم قبل الأداء بأمكنة، ور, يا، في وقت واحد لا متفرقين في أوقات، ولا بد في التشديد عليهم، وطلباً للستر ما أمكن، فإن تخلخل واحد منهم في أداء الشهادة، أو لم يوافق غيره ردت شهادتهم، وحدوا للقذف.
شهادة الأعمى على الزنا
المالكية - قالوا: تقبل شهادة المسلم العدل وإن كان في الأقوال فقط سواء تحملها قبل العمى، أم بعده، وذلك لضبط الأقوال بسمعه، وكذلك بالحس، كما إذا تحسس على الفاعلين.
الحنفية - قالوا: لا تقبل شهادة الأعمى على الزنا، لنه لا يتمكن من تمييز الزاني والزانية.
والحدود لا بد فيها من التحقيق واليقين.
الحنابلة والشافعية - قالوا: إذا تحمل الشهادة قبل العمى. بأن رأى الفعل وهو مبصر ثم طرأ عليه العمى قبلت شهادته، أما إذا كانت بعد العمى فلا تقبل شهادته.(5/69)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إنكار الإحصان
إذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر أنه محصن، وله زوجة قد ولدت منه، فإنه يرجم ولا يقبل قوله، لبيان كذبه، بوجود الزوجة والولد.
وإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فأنكر الاحصان، فشهد عليه رجلان بأنه تزوج امرأة ودخل بها في نكاح صحيح، ثبت الاحصان عليه، ويرجم.
اعتراض ما يخرج الشاهد عن أهليته للشهادة
أجمع العلماء على أنه يسقط الحد باعتراض ما يخرج الشاهد عن أهليته للشهادة. كما لو ارتد عن الإسلام - والعياذ باللَّه تعالى - أو عمي أحد الشهود، أو خرس، أو فسق، أو أقيم عليه حد القذف، لا فرق في ذلك بين كونه قبل القضاء أو بعده قبل إقامة الحد، وكذلك موت الشهود أو موت أحدهم مسقط للحد.
اشتراط أن يبدأ الشهود بالرجم
الحنفية - قالوا: يجب أن يبدئ الشهود برجم الزاني أولاً ويجبرهم الإمام على ذلك، ثم الإمام، أو نائبه، ثم الناس بعد وهذا شرط لا بد منه في إقامة الحد، حتى لو امتنع الشهود عن رجم الزني يسقط الحد عن المشهود عليهما، ولا يحد الشهود حد القذف، لأن امتناعهم ليس صريحاً في رجوعهم، ولكنه شبهة في درء الحد. لأن امتناع الشهود عن رجم الزاني دليل على الرجوع في أقوالهم، فإن الشاهد ربما يتساهل في الأداء أولاً. ولكن عند مباشرة الفعل يتعاظم ذلك عليه، ويرق قلبه، ويرجع عن شهادته. فيرتفع الحد عن المتهمين، وفيه تثبيت وزجر، لما روي من حديث أبي بكرة أن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم رجم امرأة، وكان هو أول من رماها بحصاة مثل الحمصة، ثم قَالَ: (ارموها واتقوا الوجه) .
روي عن عامر الشعبي قَالَ: كان لشرحة زوج غائب بالشام، وأنها حملت فجاء بها مولاها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ، فقال: إن هذه زنت واعترفت فجلدها يوم الخميس مائة، ورجمها يوم الجمعة، وحفر لها إلى السرة، وأنا شاهد، ثم قَالَ: إن الرجم سنة سنها رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، ولو شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد، يشهد ثم يتبع شهادته حجره، ولكنها أقرت فأنا أول من رماها بحجر، ثم رمى الناس وأنا منهم، فكنت واللَّه فيمن قتلها.
أبو يوسف من علماء الحنفية - قال: إن بداءة الشهود مستحبة، وليست مستحقة، فإذا امتنعوا أو غابوا، أو ماتوا - يقيم الإمام الحد، ولا يتركه، لأنه ثبت بالشهادة. فيجب إقامته.
الشافعية - قالوا: يبدأ بالرجم الإمام، أو نائبه، ولا يشترط أن يبدأ الشهود، وليس له أن يرجم نفسه لأن من فعل موجب القتل لا يصح له أن يقتل نفسه - بل ذلك للإمام، أو نائبه -.(5/70)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنابلة - قالوا: يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر. وكذا الشهود لأن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم أمر برجم ماعز، ولم يحضر رجمه.
رجوع الشهود
إذا شهد أربعة على رجل بالزنا بفلانة، وأربعة غيرهم شهدوا بالزنا بامرأة أخرى، فرجم، ثم رجع الفريقان. في شهادتهم ضمنوا ديته إجماعاً، وحدوا للقذف جميعاً، عند الإمام أبي حنيفة، وأبي يوسف.
والإمام مُحَمَّد بن الحسن - قال: يضمنون الدية، ولكن لا يقام عليه حد القذف.
الحنفية - قالوا: إذا رجع الشهود بعد الرجم حد الراجع وحده وغرم ربع الدية، وإذا رجع واحد منهم قبل إقامة الحد حدوا جميعاً، لأنه كان سبباً في قتل المتهم ظلماً.
إذا تبين عدم عدالة الشهود
اختلف الفقهاء فيما إذا حكم القاضي على الزاني بالجلد فمات أو جرح ثم تبين له أن الشهود غير عدول. بل هم ممجرحون. أو تبين أنهم فسقة، أو عبيد، أو غير مسلمين. أو أحدهم محدود في قذف أو أعمى: فإنهم يحدون باتفاق العلماء:
أبو حنيفة - قال: لا ضمان على القاضي فيما حكم به، ولا على الشهود ولا على بيت المال، وقال الصاحبان: الأرش والدية على بيت المال.
المالكية - قالوا: إن قامت البينة على فسقهم لا يضمن القاضي، وإن قامت البينة على الرق والكفر يضمن، وعليه الدية لعائلة الذي أقيم عليه الحد، لتفريطه. في التأكد من عدالة الشهود.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: يجب على القاضي ضمان الدية فيما يحصل من أثر الضرب في حالة الجلد، أو الأرش في حالة الجرح.
واتفق العلماء على أنه إذا كان الحد الرجم. فرجم ثم ظهر أحد الشهود على ما ذكرنا. فديته على بيت المال، ويقام الحد على الشهود.
إذا مات الجاني من الجلد
المالكية - قالوا: إذا سرى الموت إلى الجاني بسبب الجلد أو الضرب. إن كان الحاكم قد ظن السلامة من فعله فلا إثم ولا دية عليه. وإذا شك في السلامة ضمن ما سرى على نفس، أو عضو، أي ضمن الدية، وهي على العلاقة وهو يدفع كواحد منهم، فإن ظن عدم السلامة، فعليه القصاص، ويعلم ظن السلامة، أو عدمها، أو الشك، من إقرار الحاكم، ومن قرائن الأحوال، وذلك في حالة التأديب على المعاصي التي ليست فيها حدود، أما المعاصي التي يجب فيها إقامة الحد مثل جلد البكر بالزنا،(5/71)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أو شرب الخمر، أو حد القذف، وضربه ضرباً عادياً غير منفذ فلا يجب عليه شيء إذا مات من أثر ذلك.
فقد روي أن سيدنا عمر بن الخطاب بعث إلى امرأة في شيء بلغه عنها ففزعت منه فأسقطت فاستشار سيدنا عمر علياً كرم اللَّه وجهه في سقطها، فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عليه الدية للجنين الذي مات من السقط. فأمر علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن يضرب بها على قومه. ففعل.
فقد ذهب الصحابة رضوان اللَّه عليهم إلى أن الإمام وإن كانت له الرسالة العظمى، فعليه أن لا يتلف بها أحداً من غير إقامة حد، فإن تلف ضمن. وكان المأثم مرفوعاً عنه. لأنه مأذون في التأديب على الذنوب التي لا حد فيها، وفي حالة إقامة الحد يكون الضرب مؤلماً غير جارح ولا مهلك.
الحنفية - قالوا: لا ضمان على الشهود لأن الواجب بشهاداتهم هو الضرب غير المهلك، ولا على القاضي لأنه لم يقض بالضرب المهلك، بل يقتصر على الجلاد إلا إنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح، لأنه لم يتعمده، وإذا لا يجب الضمان أصلاً.
خطأ الإمام في إقامة الحدود
واختلف العلماء فيما إذا حصل خطاء في حكم القاضي في الحدود والقصاص.
الحنفية - قالوا: ارش الخطأ والدية تكون في بيت مال المسلمين في حالة الخطأ، ولا غرامة على القاضي لأنه اجتهد فأخطأ، فلا ذنب عليه - روي أن الإمام علياً كرم اللَّه وجهه قَالَ: ما أحد يوت في حد فأجد في نفسي منه شيئاً، لأن الحق قتله، إلا من مات في حد الخمر فإنه شيء رأيناه بعد النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، فمن مات فيه فديته إما على بيت المال، وأما على الإمام - شك من الرواي -.
المالكية - قالوا: إذا مات الشخص في حد من حدود اللَّه فدمه هدر، ولا ضمان فيه على أحد.
الشافعية والحنابلة - قالوا: روايتان عنهما - إحداهما - أن الضمان في هذه الحالة على بين المال ولا شيء على عائلة القاضي. والرواية الثانية: أن ضمان الدية تكون على القاضي وعائلته، ولا يذهب ماله هدراً، لأن القاضي مكلف بالمحافظة على أرواح الناس في حالة إقامة الحد، مثل قطع اليد في السرقة، فيجب عليه ألا يتعدى المكان، وأن يحسم الدم بأن يغمس في الزيت المغلي، ولا يضرب المجلود ضرباً مبرحاً يفضي إلى التلف، ولذلك يجب عليه الدية. لأن عمله أفضى إلى الموت فهو متسبب كالذي ضرب صيداً، فأصاب إنساناً. فتجب عليه الدية لأنه أخطأ في ضرب سهمه.
رجوع شهود الزنا والإحصان
إذا شهد أربعة بالزنا على رجل، وشهد اثنان بالإحصان، فأقام الحاكم الحد عليه ثم رجع الجميع في شهادتهم، شهود الزنا - وشهود الإحصان.
الحنفية - قالوا: تجب الدية على شهود الزنا الأربعة فقط، ولا ضمان على شهود الإحصان.(5/72)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعية - قالوا: الدية تجب أثلاثاً - الثلثان على شهود الزنا، والثلث على شهود الإحصان.
الحنابلة - قالوا: الدية تجب عليهم نصفان، على شهود الزنا النصف، وعلى شاهدي اٌحصان النصف الآخر لأن الحد إنما تم بشهادتهم جميعاً، فلو شهدوا بالزنا ولم يشهد عليه بالإحصان جلد، فشهادة الإحصان هي التي تسببت في قتله ظلماً من غير وجه حق. فيضمون معاً مناصفة.
المالكية - قالوا: فيه روايتان - أظهرهما أن الدية على شهود الزنا فقط، مثل الحنفية، وفي رواية عنهم: الدية مناصفة مثل قول الحنابلة.
فائدة
اتفقت كلمة العلماء على أن غير الإمام لا يجوز له أن يقيم الحد لقوله تعالى: {فاجلدوهم} فقد أجمعت الأمة على أن المخاطب بذلك هو الإمام، ثم احتجوا بهذا على وجوب نصب الإمام، لأنه سبحانه أمر بإقامة الحد، وأجمعوا على أنه لا يتولى إقامته إلا الإمام واجباً.
وإذا فقد الإمام فليس لآحد الناس إقامة هذه الحدود، بل الأولى أن يعينوا واحداً من الصالحين للحكم، يقوم به.
الشهادة على الشهادة
الحنفية والمالكية والحنابلة، وفي رأي عند الشافعية - قالوا: إذا شهد أربعة على شهادة أربعة رجل بالزنا لم يحد لما فيها من زيادة شبهة لتحققها في موضعين، تحميل الأصول، وفي نقل الفروع، وإن كان الشرع اعتبر الشهادة على الشهادة، وألزم القضاء بموجبها في المال لكنها ضعيفة، ولا يلزم من اعتبارها في الجملة، اعتبارها في كل موضع كشهادة النساء، فإنها معتبرة صحيحة في ذلك وليست معتبرة في الحدود ولزيادة شبهة فيها، فالشهادة مع زيادة مثل تلك الشبهة معتبرة إلا في الحدود، وسببه أن يحتاط في درئها، فكان الاحتياط رد ما كان كذلك ولأنها بدل، واعتبار البدل في موضع يحتاط في إثباته، لا فيما يحتاط في إبطاله.
الشافعية، وفي رأي آخر - قالوا: إن الشهادة على الشهادة تقبل ويقام الحد بها، إذا تكاملت شروطها.
مبحث رجوع أحد الشهود بعد الشهادة
الحنفية - قالوا: إذا رجع واحد من الشهود بعد القضاء، وقبل إقامة الحد حدوا جميعاً حد القذف، لن الامضاء من القضاء، فكان رجوعه قبل الإمضاء كرجوعه قبل القضاء، وتظهر ثمرة كون(5/73)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الإمضاء من الإمضاء من القضاء، فيما إذا اعترضت أسباب الجرح في الشهود، أو سقوط إحصان المقذوف، أو عزل القاضي يمتنع استيفاء حد القذف وغيره.
ولو رجع واحد من الشهود في شهادته قبل القضاء حدوا جميعاً، لأن كلامهم قذف في الأصل، وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به، ولم يتصل به لأن رجوعهم منع من ذلك فبقي قذفاً، فيحدون حد القذف.
أما إذا امتنع الرابع عن أداء الشهادة فإنه يحد الثلاثة ولا يحد الرابع، ولا يكون الحد بسبب سكوت الرابع بل يقول الثلاثة انه زنى ولا ننظر إلى سكوت الرابع، فكل واحد يؤاخذ بذنبه لا بذنب غيره، لأنهم قذفة.
إذا كان الشهود خمسة
الحنفية والمالكية والحنابلة - قالوا: إذا كان عدد الشهود خمسة فرجع أحدهم بعد رجم الزاني المشهود عليه لا شيء عليه من الحد والغرامة، لأنه بقي بعد رجوعه من يبقى بشهادته كل الحق، وهو شهادة الأربعة.
الشافعية - قالوا: عليه الغرامة، أي خمس الدية.
رجوع اثنين من الشهود
الحنفية والمالكية والحنابلة - قالوا: إذا كان الشهود في حد الزنا خمسة ورجم المشهود عليه ثم رجع اثنان من الشهود حد كل منهما حد القذف وغرما ربع الدية لورثة المرجوم، أما الرجم فلأن الشهادة تنقلب قذفاً للحال، لعدم بقاء تمام الحجة من رجوع الثاني، وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، والمعتبر في قدر لزوم الغرامة، بقاء من بقي لا رجوع من رجع.
الشاقعية - قالوا: إن قَالَ الشهادان اللذان رجعا في شهادتهما أخطأنا، وجب عليهما قسطهما من الدية، وفيه وجهان، في وجه خمساها وفي وجه آخر ربعها، كما قَالَ الأئمة الثلاثة.
أما إذا قالا: تعمدنا الكذب والشهادة فإنهما يبطلان بالرجوع، حداً.
رجوع المزكين للشهود
اتفق الأئمة على أنه: إن شهد أربعة على رجل بالزنا وزكوا، بأن قَالَ المزكون هم أحرار مسلمون عدول، أما لو اقتصروا على قولهم عدول، فلا ضمان على المزكين إن ظهروا عبيداً، فإذا زكوا كما ذكرنا فرجم ثم ظهر بعضهم كافراً أو عبداً فإما أن يستمر المزكون على تزكيتهم قائلين هم أحرار مسلمون فلا شيء عليهم اتفاقاً، وإن قالوا: أخطأنا في ذلك فلا يضمنون لظهور كفر أحدهم، فربما طرأ الكفر بعد أداء التزكية.(5/74)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية - قالوا: إذا قَالَ المذكون: تعمدنا فقلنا هم أحرار مسلمون مع علمنا بخلاف ذلك منهم فيضمنون، وتكون الدية على المزكين، وخالف الصاحبان في ذلك فقالا على بيت المال.
المالكية والشافعية والحنابلة - قالوا: في هذه الصورة السابقة لا ضمان على المذكين بل الدية على بيت المال، لأنهم لو ضمنوا لكل ضمان عدوان، والضمان يكون بالمباشرة أو التثبت، وعدم المباشرة ظاهر، وكذلك التسبب، لآن سبب الإتلاف الزنا وهم لم يثبتوه، وإنما اثنوا على الشهود خيراً، فصار كما لو أثنوا على المشهود عليه بالإحصان فكما لا يضمن شهود الإحصان بعد رجم المشهود عليه به، إذ ظهر أنه غير محصن لأنه لم يثبت السبب، كذلك لا يضمن المذكون.
وحجة الإمام أبي حنيفة في وجوب الضمان عليهم، أن الشهادة بالزنا إنما تصير حجة موجبة للحكم بالرجم على الحاكم، بالتزكية، فكانت التزكية في معنى علة العلة للإتفلاف وعلة العلة كالعلة في إضافة الحكم إليها، على ما عرف بخلاف الإحصان فإنه ليس موجباً للعقوبة، ولا لتغليظها، بل الزنا هو الموجب، فعند الإحصان يوجبها غليظة لأن كفران نعمة اللَّه، فلم تضف العقوبة إلى نفس الإحصان الذي هو النعمة، بل إلى كفران النعمة، فكانت الشهادة به شهادة بثبوت علامة على إستحقاق تغليظ العقوبة، والسبب هو وضع الكفران في موضع الشكر.
وقالوا: لا يسقط لفظ الشهادة في التزكية، ولا يشترط مجلس القضاء، ولا يشترط العدد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال الإمام محمد: يشترط في التزكية الإثنين في سائر الحقوق، والأربعة في الزنا، ويجوز شهادة رجل وامرأتين، في الإحصان، ثم لا يحد الشهود حد القذف، لأنه قذفوا حياً فمات، ولا يورث استحقاق حد القذف، وإذا ظهروا عبيداً ورجعوا وجب تعزيزهم بالإتفاق.
من قتل المحكموم عليه بالرجم
الحنفية - قالوا: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، فأمر القاضي برجمه فقتله رجل عمداً، أو خطأ بعد الشهادة قلب التعديل، يجب القود على القاتل في العمد، والدية في الخطأ على عاقلته، وكذا إذا قتله بعد التزكية قبل بالرجم، أما إذا حكم القاضي برجمه فقتله رجل عمداً، أو خطأ فلا شيء عليه، وإن قتله بعد القضاء ثم وجد الشهود عبيداً، أو كفاراً، أو محدودين في قذف، فالقياس أن يجب القصاص، لأن قتل نفساً محقونة الدم عمداً، لكنه لما ظهر أن الشهود عبيد تبين أن القضاء لم يصح، ولم يصر مباح الدم، وقد قتله بفعل لم يؤمر به، إذ المأمور به الرجم، وقد حزر رقبته، فلم يوافق أمر القاضي ليصير قتله منقولاً إليه مقصوراً عليه.
وفي الإستحسان تجب الدية لأن قضاء القاضي بالرجم نفذ من حيث الظاهر، وحين قتله كان القضاء صحيحاً. فأورث شبهة الإباحة، وهذا لأنه لو نفذ ظاهراً وباطناً تثبت حقيقة الإباحة، فإذا نفذ من وجه دون وجه تثبت شبهة الإباحة بخلاف ما لو قتله قبل القضاء لأن الشهادة لم تصر حجة فيقتص منه في العمد، فصار كمن قتل إنساناً على ظن أنه حربي وعليه علامتهم، ثم ظهر أنه مسلم فعليه الدية(5/75)
مبحث الإقرار بالزنى
-ومن يتبع أحاديث الرجم الذي وقع في زمن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، وزمن الخلفاء الراشدين، فإنه يجد أن مرتكب الجريمة هو الذي كان يذهب بنفسه ويعترف بأنه زنى، وكان مع هذا يناقش مناقشة تذل على عدم الرغبة في توقيع العقوبة، فكأن هذه العقوبة لا تنفذ إلا على من أراد أن يطهر نفسه من هذه الفاحشة، ومن إثم الإعتداء على عرض غيره (1)
__________
في ماله لأنه عمد، والعاقلة لا تعقل العمد، وتجب في ثلاث سنين، لأنه وجب بنفس القتل، وما يجب بنفس القتل يجب مؤجلاً كالدية، بخلاف ما وجب بالصلح عن القود حيث يجب حالاً، لأنه مال وجب بالعقد لا بنفس القتل، أم إذا رجمه ذلك الرجل حتى قتله رجماً، ثم وجدوا أن الشهود عبيد تجب الدية في بيت المال لأنه نفذ حكم القضاء.
حكم نظر الشهود إلى فرجي الزانين
اتفق الأئمة الأربعة على أنه إذا شهد أربعة بالزنا، وقالوا: تعمدنا النظر إلى فرجيهما قبلت شهادتهم لأنه لضرورة ثبوت القدرة على إقامة الحسبة، والنظر إلى العورة عند الحاجة لا توجب فسقاً، كنظر القابلة والحاضنة والختلن والطبيب والإحتقان والبكارة في العنة والرد بالعيب، والمرأة في حق المرأة أولى، وإن لم توجب ستر ما وراء موضع الضرورة.
أما إذا قَالَ الشهود: تعمدنا النظر إلى فرجيهما للتلذذ بالنظر، فإنه لا تقبل شهادتهم بالإجماع.
إذا كان الشهود أقل من أربعة
وإذا شهد على الزنا أقل من أربعة لا يثبت الزنا، ولا يجب إقامة الحد، واختلفوا في حد الشهود، قَالَ بعضهم: لا يجب على الشهود حد القذف، لأنه جاؤوا مجيء الشهود، قَالَ ولآنا لو حددنا لانسد باب الشهادة على الزنا، لأن كل واحد لا يأمن أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحد.
الحنفية - قالوا: يجب حد القذف على الشهود، إذا كانوا أقل من أربعة، لأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فوجب عليه الحد لقوله تعالى {والذين يومون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} ، ولما روي أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة، ونافع ونفبع، وقال زياد وهو رابعهم رأيت استاً تنبو ونفساً يعلو ورجلاها على عاتقه كأذني حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر؟ لأنه تبين أنه كان نأئماً مع زوجته.
-
(1) (اتفق الأئمة الأربعة: على أن الزنا يثبت بالإقرار، سواء أكان المقر ذكراً أم أنثى، وسواء أكان محصناً، أم غير محصن، وسواء أكان حراً أم عبداً، بشرط أن يكون بالغاً عاقلاً مميزاً، غير مستكره على إقراره.(5/76)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
اشتراط العدد في الإقرار
الحنفية والحنابلة، وابن أبي ليلى - قالوا: يشترط العدد في الإقرار بالزنا، ولا يثبت إلا بإقراره أربع مرات على نفسه، مرة بعد مرة، مع وجود العقل والبلوغ، لأن الشرط طلب التثبيت في إقامة الحدود، فإن اللَّه تعالى يحب بقاء العالم أكثر من ذهابه، كما أشار إليه بقوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللَّه} أي اترك القتل، إذا ركن أعدائك إلى السألة وعدم الحروب، وقال اللَّه تبارك وتعالى {من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} ولأن إزهاق الأرواح من الكبائر لا يصح الإقدام عليه إلا بعد التثبت والتأكد من الأسباب الدافعة عليه.
ولأنهم اعتبروا الإقرار مثل الشهادة، فكأنما أوجب الشارع في الشهادة على الزنا أربعاً على خلاف المعتاد في جميع الحقوق، فكذلك يعتبر إقراره أربعاً، إنزالاً بكل لإقرار بمنزلة شهادة واحدة، وقد ورد الإقرار أربعاً في حديث ماعز وغيره.
المالكية والشافعية - قالوا: يكفي في وجوب الحد عليه إقراره بالزنا مرة واحدة، ولا يشترط العدد، كغيره من سائر الأحكام كالقتل والسرقة وشرب الخمر وغيرهم، وبه قَالَ داود والحسن البصري والطبري وجماعة من العلماء المحققين في الفقه، وحجتهم ما جاء في حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وزيد بن خالد من قول النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم في حديث العسيف (واغد يأنس على امرأة هذا، فإذا اعترفت فارجمها) فغدا عليها أنيس فاعترفت فأمر النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم بها فرجمت، ولم يذكر العدد ولأن الإنسان إذا أقر على نفسه بما يوجب الجلد أو الرجم دل هذا على صدقه في قوله، فلا يحتاج إلى التكرار عدة مرات، بل يكفي مرة واحدة فإن هذا الإعتراف، لا يقع إلا من أهل الإخلاص في اليقين، وأصحاب الإيمان الصادق، وقليل ماهم.
فلما رأيناه شهد على نفسه، حملناه على كمال الإيمان وصدق اليقين بالعذاب وأنه ما طلب التطهير بلإقامة الحد عليه إلا لتحققه في نفسه أنه وقع في الزنا، وخاف من عذاب اللَّه يوم القيامة، فيقبل اعترافه، ولو مرة واحدة، ولا حاجة للتكرار والعدد وإنما رد النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم ماعزاً عدة مرات، لأنه شك في أمره، لذلك قَالَ له: (أبك جنون) ، وسأل أهله عنه.
الإقرار في مجالس مختلفة
والذين قالوا باشتراط العدد في الإقرار اختلفوا في كونه في أربعة مجالس.
الحنابلة وابن ليلى - قالوا: يكتفي بالإقرار أربع مرات ولو في مجلس واحد.
الحنفية - قالوا: يشترط كون الإقرار أربع مرات في أربعة مجالس من مجالس المقر واستدلوا على مذهبهم بما روي في صحيح مسلم عن أبي بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن ماعز بن مالك أتى النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فرده، ثم أتاه الثانية من الغد فرده، ثم أرسل إلى قومه فسألهم هل تعلمون بعقله بأساً؟ فقالوا: ما نعلمه(5/77)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إلا وفي العقل من صالحنا، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فأخبروه بأنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابة حفر له حفرة فرجمه.
وما روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جاء الأسلمي النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة، فقال: (أنكتها؟ قَالَ: نعم، قَالَ: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قَالَ: نعم، قَالَ: كما يغيب المرود في المكحلة وكما يغيب الرشاء في البئر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فهل تدري ما الزنا؟ قَالَ: نعم، أتيت منها حراماً مثل ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً قَالَ: فما تريد بهذا القول؟ قَالَ: أريد أن تطهرني. فأمر به فرجم فسمع النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر اللَّه عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما ثم سار ساعة، حتى مر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا نحن ذان يَا رَسُولَ اللَّه فقال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: ومن يأكل من هذا يَا رَسُولَ اللَّه؟ فقال: فما نلتما آنفاً أشد من الأكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها) .
فقد صرح الحديث بتعداد المجيء في مجالس متفرقة، وتعدد الافراد كل مرة بعد رده.
ويؤيده ما روي من أحاديث أخرى بأن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم لم يقبل من المقر بالزنا إقراره مرة واحدة بل طلب تكرار الإقرار منه حتى يتأكد له أنه صادق في إقراره، مصر على إقامة الحد، روي البخاري رحمه اللَّه تعالى عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أتى رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم رجل من الناس وهو في المسجد فناداه يَا رَسُولَ اللَّه إني زنيت، فأعرض عنه النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال: يَا رَسُولَ اللَّه إني زنيت، فأعرض عنه فجاء لشق وجه النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فقال: (أبك جنون؟ قَالَ: لا يَا رَسُولَ اللَّه، فقال: أحصنت؟ قَالَ: نعم يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: اذهبوا به فارجموه) .
فهذا نص صريح على تعداد الإقرار أربع مرات، عسى أن يرجع المقر عن إقراره ستراً له.
وروي في مسند الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى عن أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ لماعز بن مالك بحضرته صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: إن اعترفت الرابعة رجمك.
وما روي عن أبي داود والنسائي أنه قَالَ: كان أصحاب رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم يتحدثون أن الغامدية، وماعز بن مالك، لو رجعا عن اعترافهما لم يطلبهما بعد الرابعة.
وأجابوا عن حجة الشافعية والمالكية بأن ما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثاً، فهو تقصير من الراوي، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ.
وأما قولهم في حديث العسيف، فإن اعترفت فارجمها، فمعناه الاعتراف المعهود في حد الزنا، بناء على لأنه كان معلوماً بين الصحابة، خصوصاً لمن كان قريباً من خاصته صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، وعلم أن حكم الإقرار أربعاً مثل "أنيس" رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ.(5/78)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مناقشة المقر
وإذا أقر الزاني، أربع مرات، سأله القاضي عن الزنا ما هو؟ وكيف هو؟ وأين الزنا،؟ وبمن زنى؟ فإذا بين ذلك كله وصرح به لزمه الحد، لتمام الحجة عليه، ولم يشترط السؤال عن الزمان، كما اشترط في شهادة الشهود لأن تقادم العهد يمنع قبول الشهادة دون الإقرار.
وقيل: لو سأله عن الزمان لجاز، لاحتمال أن يكون قد وقع في الزنا في صباه، أو قبل إسلامه.
إقرار الرجل بأنه زنا بامرأة لا يعرفها
ومن أقر أربع مرات في أنه زنى بامرأة لا يعرفها يقام عليه الحد بإجماع العلماء.
وكذا إذا أقر أنه زنى بفلانة، وهي غائبة عن البلد الذي يقيم فيه، يجب عليه الحد لحديث العسيف، لأن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم أقام عليه الحد حين اعترف أمامه بالزنا ثم أرسل إلى المرأة بعد ذلك، ولأنه أقر بالزنا ولم يذكر ما يسقط كون فعله زنا، ولم توجد شبهة ترد عنه الحد، بل إن إقراره قد تضمن أنه لا ملك له في المرأة المزنى بها، لأنه لو كان له ملك فيها لعرفها، ولو كان عنده شبهة لذكرها، لأن الإنسان لا يجهل زوجته، أو أمته.
الإقرار بالزنا لا يتعدى صاحبه
ومن أقر أنه زنى بفلانة، وكذبته، وقالت: لا أعرفه اختلف العلماء في حكمه.
الإمام أبو حنيفة - قال: لا يقام الحد على الرجل، ولا على المرأة، لوجود شبهة تدرأ الحد، وهو الإنكار، ويقام عليه حد الفرية فقط "ثمانين جلدة" وأجيب عن ذلك بأنه لا يبطل إقراره.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبان - قالوا: يقام الحد على الرجل فقط وهو حد الزنا، ولا يؤخذ إقراره حجة على المرأة التي زنى بها، ولا يقام عليه حد القذف.
فقد روى الإمام أحمد في صحيحه، وأبو داود، عن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن رجلاً جاء إلى النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فأقر بالزنا بامرأة سماها، فأرسل رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم في طلبها، فسألها عما قال: فأنكرت، فأقام الحد عليه، وتركها، ولم يقم عليها الحد.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما (أن رجلاً من بكر بن ليث أتى النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فأقر أربع مرات أنه زنى بامرأة، فجلده مائة جلدة وكان بكراً، ثم سأله البينة على المرأة فقالت: كذب يا رسول اللَّه، فجلده حد القذف ثمانين) .
وهذا من يسر الدين الإسلامي، وسماحته ودقته في تحري الحقائق، ودرء الحدود.
وقال بعضهم: يحد الرجل حد القذف، وحد الزنا، وفاء بحق الخالق، والمخلوق.(5/79)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إقرار المرأة بالزنا
إذا أقرت المرأة بالزنا أربع مرات عند الحاكم، وقالت: مع فلان وذكرت اسمه، وكذبها الرجل. وقال: ما زنيت بها، ولا أعرفها.
الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه - قال: لا يقام الحد على المرأة، ولا على الرجل، وذلك لأن الحد انتفى في حق المنكر بدليل موجب للنفي عنه، فأوردت شبهة الانتفاء في حق المقرة. حيث إن الزنا فعل واحد فيما بينهما، فإن تمكنت فيه الشبهة تعدت إلى طرفيه.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبان - قالوا: يقام الحد على المرأة المقرة بالزنا لأن الإقرار حجة فيما في حق المقر، وعدم ثبوت الزنا في حق الغير، لا يورث شبهة العذم في حق المقر، كما لو كان غائباً عن البلد وسمته، وادعت عليه، وهو الراجح.
الإقرار على الأخرس أو الخرساء
ومن أقر بأنه زنى بامرأة خرساء، لا تنطق، أو أقرت بأنها زنت برجل أخرس.
الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه - قال: لا يقام الحد على واحد منهما لوجود الشبهة التي تعدت إلى طرفه الآخر.
الأئمة الثلاثة والصاحبان - قالوا: يقام الحد على المقر، دون الأخرس، أو الخرساء وذلك لإتمام الإقرار على نفسه، فيثبت الحد عليه، دون الآخر، لعدم إقراره.
مبحث إقرار الأخرس
اتفق الأئمة على أن الأخرس إذا أقر بالزنا بكتابة، أو إشارة، ولو كانت مفهومة، لا يقام عليه الحد، للشبهة بعدم الصراحة في الإقرار، وهي تدرأ الحد عن الزاني.
واتفقوا كذلك: على أن الشهادة على الأخرس بالزنا لا تقبل، لاحتمال أن يدعي شبهة على الشهادة. بخلاف الأعمى.
فقد اتفق العلماء: على أنه يصحإقرار الأعمى بالزنا، ويقام عليه الحد، وتصح الشهادة عليه وتقبل.
الرجوع في الإقرار
ومن أقر بالزنا ثم رجع في إقراره اختلف الأئمة في حكمه.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا رجع المقر بالزنا في قوله، يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد. ويترك سواء وقع عليع بعض الحد، أو لم يقع، لأنه ثبت أن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قرر ماعزاً، ورده مرة بعد مرة، لعلهيرجع في إقراره، ولا يعود إليه، وفي ذلك ستر عليه وهو خير، وورد أن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قَالَ(5/80)
مبحث الشبهات في الزنى
-على أنه إذا وجد مع امرأة لا زوج لها فإن له أن يدعي أنه تزوجها، وذلك شبهة تدرأ الحد في بعض المذاهب (1) .
__________
للغامدية بعد إقرارها، لعله قبلك أو كذا، وفيه إشارة إلى قبول رجوعها بعد الإعتراف، وقول الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه (ادرؤوا الحدود بالشبهات) ورجوع المقر فيه شبهة.
وخالفهم في ذلك ابن ليلى، وعثمان البتي وقالا: لا يقبل رجوعه، ويقام عليه الحد.
المالكية - قالوا: إن رجع عن الإقرار بشبهة قبل رجوعه، ولا يقام عليه الحد، أما إذا رجع في إقراره من غير وجود شبهة، فلا يقبل لإقراره. وقيل: يقبل وهو الراجح.
ورى الخمسة والترمذي واللفظ له قَالَ: جاء ماعز رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فقال: انه قد زنى فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الآخر، فقال إنه زنى فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الآخر، فقال: إنه قد زنى، فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة، فلما وجد مس الحجارة فر يشتد، فلقيه رجل معه لحي جمل فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك للنَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم فقال: (هلا تركتموه، وفي رواية قَالَ له: أبك جنون؟ قَالَ: لا - وفي أخرى، ليعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت؟ فقال: لا. قَالَ: أحصنت؟ قَالَ: نعم، فأمر برجمه) .
وقوله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (هلا تركتموه يشير إلى يقوط الحد بالفرار، وقوله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم في الرواية الثالثة لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت، تعريض من رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم له بالرجوع عن الإعتراف، والستر على نفسه، ولكنه لم يرجع حتى قَالَ له تبكيتاً، هلا نكتها؟ قَالَ: نعم. فأمر برجمه) .
فكل هذه الروايات وغيرها تفيد بأن المقر بالزنا إذا رجع في إقراره قبل منه، وكان ذلك توبة له، ولا يقام عليه الحد، حيث ان الإسلام يحب الستر، ويكره إشاعة الفاحشة) .
-
(1) (الشبهة: هي ما يشبه الثابت وليس بثابت، وقد وقع خلاف بين الفقهاء في بعض الأفعال: هي شبهة صالحة للدرء أم لا؟ وكون الحد يحتال في درئه بالاستفسار عنه حتى يتضح قصد الزاني. أأخطأ في التهم أم لا، أكانت عنده شبهة الحل وقت أن وقع في الخطأ أم لا؟ ومن المعلوم أن هذه المناقشات وهذه الاستفسارات المفيدة لقصد الاحتيال للدرء كانت بعد الثبوت، لأنه كان بعد صريح الإقرار لقوله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (ادرؤوا الحدود بالشبهات) .
الحنفية قالوا: الشبهة عندهم قسمان، شبهة الفعل، وهي واقعة في ثمانية مواضع وهي:
- 1 - أن يطأ جارية أبيه، وأمه، أو جده، أو جدته، وإن علا، لشبهة الملك.
- 2 - أن يطأ جارية زوجته، لشبهة أن مال الزوجة ملك للزوج.
- 3 - أن يطأ المطلقة ثلاثاً وهي في العدة، لزوال الملك المحلل من كل وجه فتكون الشبهة(5/81)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
منطقية لقوله تعالى {وإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} ولإجماع الأمة على حرمة الزوجة بعد الطلاق الثلاث.
ولكن يرفع الحد إذا قَالَ ظنت أنها تحل له لأن الظن في موضعه حيث أن أثر الملك قائم له في حق النسب، فإن ولدها يثبت له إذا جاءت به لأقل من سنتين. وله حسبها عن الخروج، ويجب عليه نفقتها، ويحرم نكاح أختها في هذه العدة، ويحرم عليه زواج أربعة سواها، وتمنع شهادة كل منهما لصاحبه. فأمكن أن نقيس حل الوطء على بعض هذه الأحكام فنجعل الاشياء عليه عذراً في سقوط الحد عنه.
- 4 - أن يطأ المطلقة طلاقاً بائناً على مال. لثبوت الحرمة بالإجماع.
- 5 - أن يطأ زوجته "المنخلعة" أي التي خلعت نفسها من زوجها، وردت إليه المهر الذي دفعه لها. وذلك لوقوع الخلاف بين الصحابة رضوان اللَّه عليهم، في كون الخلع، يكون فسخاً للعقد، أم طلاقاً بائناً.
- 6 - أن يطأ أم ولده التي أعتقها، وهي في العدة، لشبهة بقاء ملكه لها، ولثبوت نسب ولدها منه.
- 7 - أن يطأ العبد جارية مولاه، لأن بين العبد وبين سيده انبساطاً في الانتفاع فيظن أن من هذا الانبساط جواز الاستمتاع بجواريه. فكان شبهة.
- 8 - والمرتهن يطأ الجارية المرهونة عنده، لأن عقد الرهن لا يفيد ملك المتعة بحال، فقيامه لا يورث شبهة حكمية قياساً على الإجارة، فإنها لا تفيد ملك المتعة بحال. فما أورث قيامها في المحل شبهة حكمية، وعلى هذا كان يجب عليه الحد اشتبه أو لم يشتبه، كما في الجارية المستأجرة للخدمة، إلا أنه لا يجب عليه الحد إذا اشتبه عليه، وقال ظننت الحل، لأنه موضع اشباه، لأن ملك المال في الجملة سبب لملك المتعة، وإن لم يكن سبب ملك المتعة بحال. فقد اشتبه عليه ما لا يشتبه، فيجب عليه الحد ظن الحل أم لا؟
ففي هذه المواضع وما أشبهها لا يقام الحد على الزاني إذا قَالَ: إني فعلت ذلك العفل وأنا أعتقد في قرارة نفسي أنها حلال لي، ولا حرمة في هذا العمل - ولو علمت حرمته لما فعلته.
أما إذا قَالَ: عملت هذا العمل وأنا أعلم أنها علي حرام، وأنها لا تحل لي، فيجب أن يقام عليه الحد - أما إذا ادعى أحدهما ظن الحل، والآخر لم يدع، فلا حد عليهما أيضاً حتى يقرا معاً أنهما كانا يعلمان الحرمة، وذلك لأن الشبهة إذا ثبتت من أحد الجانين تعدت إلى الآخر بالضرورة.
والشبهة الثانية عند الأحناف - تكون في المحل - وهي ست مواضع:
- 1 - إذا وطأ جارية ابنه، أو ابن ابنه، وإن سفل وإن كان حياً، وذلك لقول الرسول صلوات اللَّه(5/82)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
عليه وعلى آله وسلم للولد الذي شكا إليه أباه (أنت ومالك لأبيك) ولأنه يثبت نسب ولد الجارية من سيدها، ومن والد سيدها وجده، وإن كان الولد الذي هو سيد الأمة حياً.
- 2 - إذا وطأ زوجته المطلقة بائناً بالكنايات كأن قَالَ لها: أنت خلية، أو أمرك بيدك، فاختارت نفسها، ونحوها، ثم وطئها في العدة. وذلك لاختلاف الصحابة رضوان اللَّه عليهم في الكناية، فمذهب سيدنا عمر أن الكنايات رجعية، وكذا مذهب ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. ففي مصنف عبد الرزاق، حدثنا الثوري عن منصور حدثني إبراهيم عن علقمة، والأسود، أن ابن مسعود جاء إليه رجل، فقال: كان بيني وبين امرأتي كلام فقالت: لو كان الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، قَالَ: فقلت لها، قد جعلت أمرك بيدك. فقالت أنا طالقة ثلاثاً، قَالَ ابن مسعود: أراها واحدة، وأنت أحق بالرجعة. وسألنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال: ماذا قلت؟ قَالَ: قلت أراها واحدة، وهو أحق بها قَالَ: وأنا أرى ذلك، وزاد من طريق آخر ولو رأيت غير ذلك لم تصب.
وأخرج ابن أبي شيبة عنهما في مصنفه أنهما قالا: في البرية، والخلية، هي تطليقة واحدة، وهو أملك برجعتها.
ومن مذهب الإمام علي كرم اللَّه وجهه في خلية، وبرية، أنها ثلاث على ما أخرجه عنه ابن أبي شيبة.
- 3 - والجارية المرهونة في حق المرتهن، وفي رواية، لأنه انعقد له فيها سبب الملك، لأنه بالهلاك يصير مستوفياً حقه من وقت الرهن، وإذا كان كذلك فقد انعقد له فيها سبب الملك في الحال، ويحصل حقيقة الملك عند الهلاك.
- 4 - إذا وطأ الجارية المشتركة بينه وبين غيره. لأنه وطأ جارية انعقد له فيها سبب الملك لأن الشراء سبب لملك المتعة، فقد دفع له فيها شبهة تمنع عنه وجوب الحد.
- 5 - إذا وطأ البائع جاريته المبيعة قبل تسليمها إلى المشتري.
- 6 - إذا وطأ الجارية المجعولة مهراً قبل أن يسلمها إلى زوجته، لأن الملك فيها لم يستقر للزوجة ولا للمشتري. والمالك كان مسلطاً على وطئها بتلك اليد مع الملك.
وملك اليد ثابت، والملك الزائل مزلزل، فهي شبهة في حقيقة الملك بحكم الشرع.
ففي جميع هذه المواضع التي ذكرناها لا يجب إقامة الحد على الواطئ، وإن قَالَ: علمت أنها علي حرام. لأن المانع من إقامة الحد هو الشبهة، وهي هنا قائمة في نفس الحكم، أي الحرمة القائمة فيها شبهة أنها ليست بثابتة نظراً إلى دليل المحل. والزنا أمر محظور، فلا يثبت بالظن، ولا مع الشبهة القوية، بل لابد فيه من التحقيق، والتثبت من غير شك ولا ريبة، وقد أوصانا رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم بالتثبت في هذا الحكم، حتى لا تزهق الأرواح البريئة بغير حق فقال صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (ادرؤوا الحدود بالشبهات) وقد قَالَ بعض الفقهاء هذا الحديث متفق عليه، وقد تلقته الأمة بالقبول.(5/83)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
واسند ابن أبي شيبة عن ابراهيم النخعي قَالَ: قَالَ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لأن أعطل الحدود بالبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات) . وهو الحريص على إقامة شعائر الإسلام.
وأخرج عن معاذ بن جبل، وعبد اللَّه بن مسعود، وعقبة بن عامر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد فادرأه.
وبما روي في البخاري من قول رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى اللَّه تعالى، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ومعناه أن من جهل حرمة شيء وحله، فالورع أن يمسك عنه، ومن جهل وجوب أمر وعدمه، فلا يوجبه، ومن جهل أوجب الحد أم لا؟ وجب أن يقمه، وسواء أكان هذا قبل ثبوت الحد، أم بعد ثبوته، لأن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قَالَ لماعز، لما أقر بالزنا: (لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت) كل ذلك يلقنه أن يقول: نعم بعد إقراره بالزنا بين يديه. وشؤال أهله عنه أهو عاقل أم به جنون؟ وسؤاله عن كيفية الفعل، حتى قال: أنكتها؟ قَالَ نعم كما يكون الميل في المكحلة: وليس لذلك فائدة إلا كونه إذا قالها تركه، وإلا فلا فائدة ولم يقل لم أعترف عنده بدين - لعله كان وديعة عندك فضاعت. ونحو ذلك.
وكذلك قوله للسارق الذي جيء به إليه أسرقت؟ ما أخاله سرق، وقوله للغامدية حينما جاءت واعترفت له بالزنا وهي حامل مثل ذلك، وردها من مجلسه حتى تلد، عسى أن لا ترجع إليه بعد طول هذه المدة، وأن لا تطالبه بإقامة الحد عليها.
وطذلط ما روي عن الصحابة رضوان اللَّه عليهمفي درء الحدود، فقد روي أن الإمام علياً كرم اللَّه وجهه قَالَ لشراحة التي أقرت بالزنا وظهر الحمل عليها لعله وقع عليك وأنت نائمة، لعله استكرهك، لعل مولاك زوجك منه، وأنت تكتمينه، الخ..
وذكلك قول سيدنا عمر بن الخطاب للمرأة، التي جاءت إلى الراعي وطلبت منه لبناً، فلم يعطها حتى مكنته من نفسها، فلم يقم عليها الحد، بل قَالَ: دفع إليها مهرها واعتبر ذلك شبهة تدرأ الحد عنها وعنه.
ولم يكن من سنة رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم أن يأخذ بالظنة، ولا يقيم الحد إلا بعد التأكد.
فقد روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما (أن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم لاعن بين العجلاني وامرأته، فقال شداد بن الهاد، هي المرأة التي قَالَ رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: لو راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها، قَالَ: لا. تلك مرأة كانت قد أعلنت في الإسلام) متفق عليه.
والمعنى أنها كانت تعلن بالفاحشة بين المسلمين، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة ولا إقرار. فلم يقم عليها الحد، بالاشاعة.
وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (لو كنت راجماً أحداً بغير(5/84)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بينة رجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها) رواه ابن ماجة وقد احتج به من لم يحد المرأة بنوكها عن اللعان.
وقوله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (لو كنت راجماً بغير بينة لرجمتها) فيه دليل واضح وصريح على أنه لا يجب إقامة الحد بالتهم، لأن إقامة الحد إضرار كبير بمن لا يجوز الإضرار به، وإلحاق العار والفضيحة به وبأهله. وهذا قبيح عقلاً وشرعاً، فلا يجوز إلا ما أجازه الشارع الحكيم كالحدود والقصاص. وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين، ورفع الشك والشبهة، من قلب الحاكم، لأن مجرد الحدس والتخمين لا ينفع في إقامة الحدود وإزهاق الأرواح، والتهمة، والشك مظنة الخطأ والغلط. وما كان كذلك فلا يستباح به إيذاء المسلم، وإلحاق الضرر به وإيلامه، وتشويه سمعته، وإهدار كرامته.
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين، ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العقو، خير من أن يخطئ في العقوبة) رواه الترمذي.
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: ادرؤوا الحدود بالشبهات، وادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم.
وروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قبل عذر رجل زنى في بلاد الشام، وادعى الجهل بتحريم الزنا، ولم يقم عليه الحد لهذه الشبهة، التي يستطيع أن يتذرع بها كل أحد.
وروي أيضاً عنه وعن سيدنا عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنهما عذرا جارية زنت وهي أعجمية، وادعت أنها لم تكن تعلم تحريمه.
وقد روي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، لما لاعن بين هلال بن أمية وبين زوجته حين اتهمها بشريك بن السحماء قَالَ رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم (اللهم بين) .
قَالَ أنس: فوضعت شبيها بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، ومع هذا الدليل لم يقم رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم الحد، لأن البينة لم تقم. ولم يحصل منها اعتراف، ومجرد ظهور الحمل عليها لا يقوم دليلاً على إقامة الحد، وقد درأ عنها وقال صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم: (لولا الإيمان لكان لي ولها شأن) . ولم يلحق الولد بالرجل الذي اتهم بأنه كان عندها.
فهذا الأمر الخطير الذي يفضي إلى هلاك النفوس لابد فيه من البينة أو الإقرار حتى يثبت على فاعله.
اتفق الأئمة الأربعة: على أن الحدود تدرأ بالشبهات، ولكنهم اختلفوا في هذه الشبهات.
من وجد على فراشه امرأة فوطئها
الحنفية قالوا: إذا وجد الرجل على فراشه امرأة فظن أنها امرأته فوطئها ثم تبين له أنها أجنبية عنه، يحد الرجل في هذه الحال، لأنها ليست بشبهة حيث أنه يمكن معرفة زوجته بكلامها، وجسمها،(5/85)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وحركتها، ولمسها، ومس جلدها، فلا تكون هناك شبهة تدرأ عنه الحد، وإذا ادعى أنه ظن ذلك صدق بيمينه.
وكذلك الأعمى إذا دعا زوجته إلى فراشه فأجايته امرأة أجنبية، ولم تقل له أنا فلانة ثم جامعها، وتبين له بعد ذلك أنها أجنبية عنه، يقام عليه الحد، ولا يعتبر هذا شبهة فقد يكون الأعمى، والظان فطناً، حاذقاً، لا يخفى عليه زوجته من غيرها.
فأراد علماء الأحناف سد هذا الباب، حتى لا يكون وسيلة إلى انتشار الفساد في المجتمع. شفقة على دين الأمة حتى لا يتجرأ المفسدون على فعل ذلك عمداً، ويزعمون أنه لا يجب عليهم الحد، لوقوع هذه الشبهة عندهم، فمجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند إلى الظن.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، قالوا: لا يقام الحد في هاتين الحالتين، لوجود شبهة لهما، وقيام العذر المجوز للإقدام على الوطئ في الجملة، لوجودها على فراشه، وإجابة طلبه وقياسه على "المزفوفة" لجامع الحل في كل.
إذا وعد جاريته فأتته غيرها
الحنفية، والمالكية، والحنابلة، قالوا: إذا تواعد رجل مع جاريته، فجائته جارية أجنبية في المكان والموعد المحدد، فوطئها من غير علم بها، ثم ظهر له أنها أجنبية بعد جماعها. فلا يقام عليهما الحد لوقوع هذه الشبهة، حيث سبق أن ضرب لها موعداً، وحدد لها مكاناً.
الشافعية - قالوا: يقام الحد على المرأة في هذه الحال لأنها زنت وهي تعلم، وكذلك الرجل، لما روي أن رجلاً كان قد واعد جارية له مكاناً في خلاء، فعملت جارية أخرى بذلك، فأتته فحسبها جاريته فوطئها ثم علم بها بعد ذلك. فأتى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال له: ائت علي بن أبي طالب فسأل علياً كرم اللَّه وجهه، فقال له: أى أن تضرب الحد في خلاء، وتعتق رقبة، وعلى المرأة حد الزنا.
من زفت إليه غير امرأته
اتفق الأئمة الأربعة: على أن الرجل إذا زفت إليه، غير امرأته ليلة الدخول بها، وقال له النسوة: هي امرأتك. فوطئها ثم تبين له أنها ليست زوجته، وأنه غرر به عليه الحد لوجود هذه الشبهة، ويجب عليه المهر، وعلى المزفوفة العدة ويثبت النسب، ولا يحد قاذفه، بذلك حكم سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ولأن الرجل لا يرف امرأته أول مرة إلا بإخبار النساء له، فقد اعتمد دليلاً شرعياً، مبيحاً للوطء، ولأن الملك ثابت له من حيث الظاهر بإخبارهن، ولأن قول الشاهد الواحد مقبول ويعمل به المعاملات.(5/86)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ظهور الحمل على امرأة لا زوج لها
الحنفية - قالوا: إذا ظهر على المرأة الحرة حمل، ولا زوج لها، أو كانت أمة لا زوج لها ولا سيد. يسألونها، فإذا قالت: استكرهت على الزنا، أو وطئت بشبهة، يقبل قولها ولا يقام عليها الحد، لأنها بمنزلة من أقر ثم ادعى الاستكراه.
واحتجوا على ذلك بما جاء في حديث شراحة، أن الإمام علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لها: لعله استكرهك؟ قالت: لا. قَالَ لعل رجلاً أتاك في نومك؟ وهكذا.
ولأن الشرع يحب الستر في الحدود.
وروي أن سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قيل له: إن امأة ادعت أنها ثقيلة النوم وأن رجلاً استكرهها ثم تركها فمضى عنها، ولم تدر من هو بعد. فلم يقم عليها الحد، وقبل عذرها، لهذه الشبهة.
ولا خلاف بين أهل الإسلام في أن المستكرهة، لاحد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب الصداق لها.
وسبب الخلاف هو: هل الصداق عوض عن البضع، أو نحلة؟
فمن قَالَ: هو عوض عن البضع أوجبه في البضع الحلال والحرام.
ومن قَالَ: إنه نحلة خص اللَّه به الأزواج، لم يوجبه إلا على الزوج خاصة.
الشافعية - عندهم روايتان أظهرهما، أنها لا تجب عليها الحد، وإن لم تأت في دعوى الاستكراه بأمارة تدل على صدقها، ولم تأت في دعوى الزوجية ببينة، لأن الحد لا يثبت إلا بشهود أو لإقرار، ولم يثبت هنا، ولأن الحدود تقسط بالشبهات، وهذه شبهة فمجرد الحنل لا يثبت به الحد. بل لا بد من الاعتراف، أو البينة.
المالكية - قالوا: إن كانت المرأة مقيمة بالحي، وليست طارئة، فإنه يقام عليها الحد، ولا يقبل قولها إلا ان يظهر ذلك، بأن تأتي بأمارة على استكراهها أو تقيم البينة على زواجها، أو شيء مما يظهر به صداقها، لأن الحد ثبت بالحمل، فلا يرفع إلا ببينة.
أما إذا كانت المرأة طارئة، قبل قولها، لوجود شبهة، وعدم التوثق في ثبوت حدها.
زنا المحصن بغير المحصنة
إذا زنا رجل محصن، حر، ببكر، أو بأمة، أو بمستكرهة.
قَالَ جمهور جمهور العلماء: على المحصن في هذا كله الرجم، لعدم وجود شبهة تدرأ الحد، وعلى المرأة البكر الجلد، مائة جلدة، وعلى الأمة، خمسون جلدة. وليس على المستكرهة شيء.(5/87)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إكراه السلطان
ومن أكرهه السلطان حتى زنا بامرأة، فلا حد عليه، لأن السبب الملجئ إلى الفعل قائم، وهو قيام السيف، وكذا المرأة المكرهة، لا تحد بالإجماع.
فإن حصل الإكراه من غير السلطان. اختلف فيه.
الحنفية - قالوا: يقام عليه الحد، لأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بعد انتشار الآلة فيه، وهذه علامة الطواعية، والرضا.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة، - والصاحبان - قالوا: لا يقام الحد على المكره بغير السلطان.
استكراه الرجل المرأة على الزنا
الشافعية - قالوا: إذا استكره الرجل المرأة على الزنا، أقيم عليه الحد، ولا يقام عليها، لأنها مستكرهة، مغلوبة على أمرها، ولها مهر مثلها، حرة كانت أو أمة، ويثبت النسب منه إذا حملت المرأة وعليها العدة.
فإذا كانت أمة نقصت الإصابة من ثمنها شيئاً، قضى عليه مع المهر بما نقص من ثمنها.
وأما إذا كانت حرة فجرحها جرحاً له أرش، قضي عليه بأرش الجرح.
وكذلك لو ماتت من وطئه كانت عليه دية الحرة. وقيمة الأمة، والمهر.
استئجار المرأة للزنا
الحنفية - قالوا: إذا استأجر الرجل امرأة للزنا - قبلت، ووطئها، فلا يقام الحد عليهما ويعزران بما يرى الإمام، وعليهما إثم الزنا يوم القيامة. لما روي أن امرأة طلبت من راعي غنم في الصحراء أن يسقيها، لبناً - فأبى أن يعطيها اللبن حتى تمكنه من نفسها، ونظراً لضرورتها وحاجتها إلى الطعام قبلت المرأة. ووطئها الراعي - ثم رفع الأمر إلى سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فدرأ الحد عنهما وقال: ذلك مهرها، وعد هذا استئجار لها. ولأن الإجارة تمليك المنافع، فأوردت شبهة عندهما. ولأن اللَّه تبارك وتعلى قد سمى المهر أجراً في كتابه العزيز فقال تعالى: {فأوتوهن أجورهن فريضة} فهو كمن قَالَ: أمهرك كذا فهو نكاح فاسد.
وسواء كان المؤجر لها، وليها، أم سيدها، حرة كانت، أو أمة، إذا لم تكن في عصمة رجل.
ولأن عقد الإجارة عنده شبهة تدرأ الحد عنه، مع أنه يحرم الإقدام على ذلك.
الصاحبان قالا: يجب إقامة الحد عليهما. لأن منافع البضع لا تملك بالإجارة فأصبح وجود الإجازة، وعدمها سواء، فلا تعد شبهة تدرأ الحد عنهما. وصار الرجل كأنه وطأها، من غير شرط، وذلك الرأي هو الراجح المعمول به في المذاهب.(5/88)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: يقام الحد عليهما، ولا يصير الاستئجار شبهة تدرأ الحد عنهما، لأن حد الإجارة لا يستباح به الفرج شرعاً، وعرفاً، فصار كما لو استأجرها، للطبخ ونحوه من الأعمال، ثم زنا بها، فإنه يقام عليه الحد في هذه الحال. من غير خلاف من أحد من العلماء.
من زنا بكراً ومحصناً
الحنفية، والمالكية، والشافعية - وفي رواية عن الحنابلة - قالوا: لو زنا رجل وهو بكر، ثم زنا بعد ذلك، وهو محصن، قبل إقامة الحد عليه فلا يجمع عليه الجلد والرجم وإنما يجب عليه إقامة حد الرجم خاصة، لأنه لا فائدة في الجلد مع وجوب قتله ورجمه، حيث لا يحصل منه الانزجار.
الحنابلة - قالوا: في رواية عنهم: إنه يجب الجمع بين الجلد أولاً، والرجم بعد ذلك تنفيذاً للحدين، حتى يكون عبرة لغيره. وحتى نأخذ لكل فعل حده.
العقد على المرأة في عدتها
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا عقد رجل على امرأة وهي في عدة زوجها الأول ودخل عليها، فإنه يجب عليه إقامة الحد. فإن كان بكراً جلد مائة جلدة وإن كان محصناً رجم بالحجارة.
ولا يكون هذا العقد شبهة تدرأ الحد عنهما.
الحنفية - قالوا: لا يجب عليهما إقامة الحد، وإنما يجب عليهما التعزير حيث ان العقد شبهة مقبولة تدرأ الحد عنها، والحدود تدرأ بالشبهات.
العقد على الخامسة
المالكية - قالوا: إذا عقد رجل على امرأة خامسة ومعه أربع نسوة. فإن كان يعلم بحرمتها أقيم عليه الحد، أما إذا جرى العقد ولم يعلم بتحريمها فلا يقام عليه الحد، ويكون عدم علمه شبهة تدرأ الحد عنه.
ولا يعمل بقول الخوارج الذين قالوا: إنه بجوز العقد على تسع نسوة، مستدلين، بجمع النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم لثمان نسوة ولا يكون ذلك خصوصية له، لأنه قدوة لنا نقتدي به، ويحتجون بقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} .
والرد عليهم، بأن الزيادة على الأربع من خصوصيات الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه وبأن حرف "الواو" في الآية بمعنى "أو" التي للتخير لا للجمع.
وبما روي أن رجلاً أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره النبي أن يمسك أربعاً ويفارق الباقي.
العقد على المحارم
المالكية، والشافعية، والخنابلة، وأبو يوسف، والإمام محمد من الحنفية - قالوا: إذا عقد رجل على امرأة لا يحل له نكاحها، بأن كانت من ذوي محارمه، كأمه وأخته، مثلاً، أو محرمة من نسب أو(5/89)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
رضاع، ثم وطأها في هذا القعد، وهو عالم بالتحريم، فإنه يجب عليه إقامة الحد، لأن هذا العقد لم يصادف محله، لأنه لا شبهة فيه عنده، ويلحق به الولد.
الإمام أبو حنفية - قال: لا يجب عليه إقامة الحد، وإن قَالَ: علمت أنها علي حرام، لكن يجب عليه بذلك المهر، ويلحق به الولد، ويعاقب عقوبة هي أشد ما يكون من أنواع النعزير سياسياً لا حد مقدراً شرعاً، إذا كان عالماً بذلك.
فإذا كان يجهل الحكم ولم يعلم بالحرمة، فلا حد، ولا عقوبة، تعزير. والقول الراجح قول الجمهور.
وعلى هذا الخلاف كل محرمة برضاع أو مصاهرة. ومحل الخلاف أن هذا العقد يوجب شبهة أم لا؟.
فعند الجمهور لا. وعند الإمام أبي حنيفة وسفيان الثوري وزفر نعم، يوجب شبهة. ومدار كونه يوجب شبهة على أنه ورد على ما هو محله أولا. فعند الجمهور لم يرد على محله، لأن محل العقد لا يقبل حكمه، وحكمه الحل، وهذه من المحرمات في سائر الحالات فكان الثابت صورة العقد، لا انعقاده، لأنه لا انعقاد في غير المحل، كما لو عقد على ذطر مثلاً.
والفتوى على قول الأئمة الثلاث والصالحين، لأنه الراجح.
قَالَ العلماء: والعقد ليس شبهة وإنما هو جناية توجب العقوبة، انضمت إلى الزنا.
الزنا بالمحارم
ومن زنا بالمحارم سواء أكان بالمصاهرة، أو بالقرابة، أو بالرضاع، قَالَ سيدنا جابر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: يضرب عنقه، ويضم ماله إلى بيت المال عقوبة له على ما فعل وزجراً لغيره، عن الوقوع في هذه الجناية الخطيرة.
ونقل عن الإمام أحمد وإسحاق: وجوب قتله سواء أكان بكراً أم محصناً، إذا كانت المفعول بها امرأة أبيه، لحديث البراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حيث قَالَ: لقيت خالي ومعه راية. فقلت له: (أين تريد؟ فقال: بعثني رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم إلى رجل نكح امرأة أبيه، أن أضرب عنقه، وآخذ ماله) رواه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن.
وروى ابن ماجة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم قَالَ: (من وقع على ذات محرم منه، فاقتلوه) لأنه اعتبر مسنحلاً لما حرم اللَّه، مرتداً عن الإسلام فحل قتله، وضم ماله إلى بيت مال المسلمين. وذلك لازم للكفر.
والحديث الشريف يشمل كل ناكح، وكل زان بمحرمه، وقد أجمع العلماء على أن من نكح محرماً، بأي نوع من أنواع المحارم المؤبدة، فإنه يقتل حيث انه خرج عن الفطرة الإنسانية وانحط(5/90)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إلى درجة الحيوان الأعظم. وأصبح ساقط فاقد الكرامة عديم الشرف والشعور فيقتل جزاء هذا الفعل الشنيع الذي تنفر منه العقول السليمة.
وقد روي عن معاوية بن قرة عن أبي أن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم بعث جدَّ "معاوية" إلى رجل عرس بامرأة ابنه. (أن يضرب عنقه ويخمس ماله) وهذا دليل على أنه استحل ذلك الفعل. فارتد بسببه عن الإسلام، ولأنه وطئ في فرج محرم، مجمع على تحريمه من غير ملك، ولا شبهة ملك. والواطئ أهل للحد، عالم بالتحريم، فيجب إقامة الحد عليه.
إذا وطئ السيد أمته المتزوجة
الحنفية، والمالكية، والشاقعية - قالوا: إذا وطئ السيد أمته المتزوجة برجل آخر، فإنه لا يجب عليه إقامة الحد، لوجود شبهة الملك السابق، فيدرأ عنه الحد.
الحنابلة - قالوا: يجب إقامة الحد عليه، ولا يقبل عذره، لعدم قيام شبهة الملك. حيث أنها تزوجت، وخرجت عن ملكه، وأصبحت في عصمة غيره، وصارت محرمة عليه بيقين، ولا قيام بشبهة عنده بعد أن خرجت من ملكه، وحرمت عليه بالإجماع من غير خلاف.
جهل الرجل بحالة المرأة
الشافعية - قالوا: لو أن رجلاً أخذ مع امرأة أجنبية عنه، وكانا في خلوة فاعترف أنه نكحها، وقال انه لا يعلم أن لها زوجاً، أو أنها في عدة من زوج، أو أنها قريبة له ذات محرم، أو أنها أخته من الرضاع، أو أنها أم زوجته، فإنه يحلف على ذلك، فإذا حلف اليمين يدرأ عنه الحد، ولا يقام عليه لوجود هذه الشبهة التي ادعاها، ويلزمه دفع المهر. وكذلك المرأة إذا ادعت الجهالة بأن لها زوج، أنها في عدة، أحلفت وبعد اليمين تقبل دعواها، ويدرأ عنها الحد وإن نكلت عن حلف اليمين حدت.
أما إذا قَالَ الرجل: أنا أعلم أن لها زوجاً، أو أنها في عدة من زوج، أو أنها ذات محرم وأعلم أنها محرمة علي، ففي هذه الحالة يجب أن يقام عليه حد الزنا، ويلزمه مهرها، وإذا اعترفت المرأة بأنها تعلم أنها متزوجة، وفي عصمة زوجها، أو أنها لم تنقض عدتها، وغير ذلك أقيم عليها حد الزنا لعدم وجود الشبهة.
المالكية - قالوا: يجب الحد عليه إذا وطئ معتدة منه بعد العدة، أو في عدة من غيره، وإذا وطئ أختاً تزوجها على أختها فإنه يؤدب إلا إذا قَالَ: لا أعلم الحكم فإنه يعذر بجهله، واختلف في إقامة الحد عليه إذا أكره على الزنا بامرأة وكانت طائعة ولا زوج لها ولا سيد، والشمهور أنه يحد، أما إذا كان لها زوج أو سيد فإنه يحد انفاقاً لحق الزوج والسيد.
من وطئ جارية زوجته
الحنفية - قالوا: إذا وطئ الرجل جارية زوجته بإذان منها: فإن قَالَ: ظننت أنها علي حلال قبل(5/91)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قوله، وصار شبهة فلا يقام الحد عليه، لأن مال الزوجة فيه شبهة الملك للزوج خصوصاً إذا اذنت له الزوجة في نكاحها. فكأنها أعطته حق الملك.
أما إذا قَالَ الرجل علمت التحريم، فإنه يقام عليه الحد، لعدم وجود شبهة تدرأ الحد عنه.
المالكية، والشافعية - قالوا: يقام الحد عليه فيجلد إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصناً. لأنه وطء دون ملك تام، ولا شركة ملك، ولا شبهة نكاح، فوجب عليه الحد.
الحنابلة - قالوا: يجلد مائة جلدة وإن كان محصناً، ولا يرجم لوجود الشبهة، فيخفف عنه الحد ولكن لا يرفع الحد كما قَالَ الأحناف، لما رواه أصحاب السنن بسند حسن: أن رجلاً وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول اللَّه (إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة. وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك) .
زنا الحربي
الحنفية - قالوا: إذا زنى الحربي - غير المسلم - بذمية، والمكره إذا زنا بمطاوعة، تحد الذمية والمطاوعة، ولايحد الحربي، ولا المكره، لحديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) . وإذا دخل الحربي دار الإسلام، فأسلم ثم زنى، وقال: ظننت أن الزنا حلال فلا يلتفت إلى قوله، ويقام عليه الحد، وإن كان قد فعله في أول يوم دخل فيه الدار، لأن الزنا محرم في جميع المذاهب والأديان.
زنا المجاهد
إذا وطئ الجندي المسلم المجاهد جارية من إماء المغنم قبل القسمة فلا يقام عليه الحد لوجود شبهة حيث لا يقام حد في أرض الحرب، ولا في حال الغزو، حتى لا يلحق بالعدو.
زنا أهل الكتاب
إذا زنا المشركان وهما ثيبان وثيت الزنا بالشهود أو الإقرار اختلف رأي الفقهاء فيه.
الحنفية، والمالكية - قالوا: لا يرجم واحد منها لعدم وجود الإحصان في المشرك، وإنما يعزران.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا تحاكم إلينا أهل الكتاب، وقبلوا أن نحكم بينهم في قضاياهم التي عرضوها علينا، وثبت الزنا على أحدهم يقام عليه الحد، ويرجم إن اكن محصناً، ويجلد البكر مائة جلدة، وينفى سنة كاملة بعيداً عن وطنه مسافة قصر، فقد روى نافع عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم أنه رجم يهودياً، ويهودية بالمدينة المنورة - وقعا في الزنا - ثم احتكما اليه، وهذا(5/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
معنى قول اللَّه تبارك وتعالى للنَبِيه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم {وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقوله تعالى {وإن احكم بينهم بما أنزل اللَّه} فلا يجوز أن يحكم بينهم في شيء من أمور الدنيا إلا بحكم المسلمين، لأن حكم اللَّه واحد بين عباده جميعاً لا يتغير.
عدم العلم بحرمة الزنا
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا:
يشترط في إقامة حد الزنا أن يكون الزاني عالماً بحرمة الزنا، فلو قَالَ الشهود عليه بالزنا، وقت إقامة الحد عليه: إنه لا يعلم بتحريم الزنا، ولا علم له بحكمه، وحلف اليمين على ذلك، قبل قوله، لا يقام عليه الحد، لوجود شبهة تدرأ الحد عنه، لما روي أن النَبِي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم سأل الذي أقر عنده بالزنا، بقوله (فهل تدري ما الزنا؟) .
المالكية - قالوا: من قَالَ حين أقيم عليه الحد: لا أعلم تحريم الزنا شرعاً ولا دراية لي بحكمه وكان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة عن العلماء، لا يقام الحد عليه، لاحتمال صدقه في ذلك القول، وهو شبهة تدرأ الحد عنه.
وإن لم يكن كذلك، بأن كان قد مضى عليه زمن في الإسلام، يمكنه من التعليم والمعرفة أو نشأ ببادية قريبة من أهل العلم، واختلط بأهل الحضر المسلمين وسمع منهم عليه الحد حينئذ، ولا يقبل عذره بالجهل لظهور كذبه فيما ادعاه بعد إقراره بالزنا أمام المحاكم، أو بعد ثبوت الزنا عليه بشهادة الشهود.
وطء الأجنبية فيما دون الفرج
اتفق الأئمة على أن من وطئ امرأة أجنبية فيما دون الفرج بأن أولج ذكره في مغابن بطنها، ونحوه، بعيداً عن القبل، والدبر، لا يقام عليه الحد، ولكنه يعزر، لأنه أتى فعلاً منكراً يحرمه الشرع، وقد حكم الإمام علي كرم اللَّه وجهه على من وجد مع امرأة أجنبية مختلياً بها، ولم يقع عليها، بأن يضرب مائة جلدة تعزيراً له، لأنه من الأسباب التي توقع في الزنا ومن زنا بامرأة ميتة لا يقام عليه الحد، وإنما يعزر حسب ما يراه الإمام رادعاً له لأن النفوس البشرية تنفر منه لبشاعته، وهي لذة ناقصة فلا يقام عليه الحد.
إفساد المرأة على زوجها
إن الدين الإسلامي يحرم السعي بالفساد بين الزوجين، ويعتبره من أكبر الكبائر عند اللَّه وقد اختلف الفقهاء في حكم من أفسد امرأة على زوجها حتى طلقها.
المالكية - قالوا: إن من أفسد زوجة غيره ليتزوجها بعده، تحرم عليه تحريماً مؤبداً، معاملة له بنقيض قصده. وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رَسُول اللَّه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَم أنه قَالَ (من خبب على امرئ زوجته، أو مملوكه فليس منا) ومعنى - خبب - أي خدع، وأفسد.(5/93)
تشديد الشريعة في إثبات جريمة الزنا
-ولعل قائلا يقول: إن هذا لا يجعل للحد كبير فائدة لأن إثباته منوط بأربعة شهداء، والشهود الذين يعلمون أن من ورائهم حد القذف، وهل ترى أنه إذا وجد الزوج أجنبياً مع امرأته يتركها على هذه الحالة، ويخرج يتلمس الشهود، حتى إذا جاؤوا وجدوا الرجل قد قضى وطره من المرأة، وضاع حق الزوج؟.
والجواب: أن هذه الجريمة الشنيعة، والفاحشة المنكرة، لم يقتصر ضررها على الزانية والزاني وحدهما، بل يتعداهما إلى الأسرة بتمامها، فتهدم شرف قوم غافلين لا ذنب لهم ويعرضهم للمهانة والعار، وتسقطهم عن مرتبتهم المحترمة بين الناس.
فحرصا على كرامة الأسرة وصيانة لأعراض الناس شددت الشريعة الإسلامية في إثبات هده الجريمة، كي لا يجرؤ الناس على اتهام بعضهم بعضا بدون مبالاة.
وفي الوقت نقسه جعل لها أقصى عقوبة (إذا كان فاعلها محصنا) تقديرا لفظاعتها، وإشعارا للناس بأنها تساوي جريمة القتل.
وبذلك يزدجر المؤمنون الذين يخافون الله تعالى، ويخشون غضبه وبطشه ويحسبون لغيرته على عباده حساباً.
فالمؤمن الذي يقرأ قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه كجهنم خالدا فيها، وغضب الله علي ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} .
ويعلم أن حد الزنا يساوي القتل، فإنه يدرك عظم المسؤولية إذ افلت من عقوبة الزنا.
__________
الحنفية، والشافعية - قالوا: إن إفساد الزوجة على زوجها لا يحرمها على من أفسدها، بل يحل له زواجها، ولكن هذا الإنسان يكون من أفسق الفساق وعمله يكون من أنكر أنواع العصيان، وأفحش الذنوب عند الله عز وجل يوم القيامة.
روى الطبراني في الصغير والأوسط من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أفسد امرأة على زوجها فليس منا" أي ليس على هدينا، ولا على شريعتنا لأنه ارتكتب عملا مشينا، لا يقره الإسلام) .(5/94)
ولهذا ذهب بعض المؤمنين حقا" إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه واعترف بجريمة الزنا الموجبة للقتل، لينجو من عذاب الآخرة بالحد الدنيوي (1)
مبحث اللعان
-أم حق الزوج فإن الشارع لم يهمله في هذه الحالة بل جعل له حداً معقولاً، يدفع عنه أذى الغضب والغيظ من جهة، ويشكك الناس في أمر الزوجة فلا تتأذى أسرتها بشرها من جهة أخرى.
وبيان ذلك أن الأجنبي إذا رمى امرأة عفيفة، أو رجلا عفيفا بالزنا، ولم يأت بأربعة شهداء كان جزاؤه أن يحد حد القذف، (ثمانين جلدة) .
أما الزوج فإنه إذا ادعى أن امرأته قد زنت، فان الشارع لم يكلفه الإثبات كالأجنبي إذ لا مصلحة للزوج العاقل في قذف زوجته واتهامها بالزنا جزافا"، فان عار ذلك - وان لم يلحقه هو دائما لإمكانه أن يتخلص منها - لكنه يلحق أبناءه فانه، فإنه لم يكن له منها أبناء وبنات، فانه يضن بكرامته عن الامتحان بين الناس مؤقتا، ولهذا لم يسو الله عز وجل بين الزوج وبين الأجنبي، إذا اتهم زوجته، فشرع لهما في هذا الحالة (اللعان) وهو أن يقول الزوج أما القاضي: اشهد بالله أنني صادق فيما رمينها به من الزنا، ويكرر ذلك أربع مرات، ثم يقول بعد ذلك: لعنة الله عليه، إن كان من الكاذبين.
وتقول الزوجة: اشهد بالله بأنه لكاذب فيما يرميها به من الزنا، وتكرر ذلك أربع مرات، ثم تقول: أن غضب الله عليها أن كان من الصادقين (2) .
__________
(1) (أخرج أبو داود والنسائي وعبد الرزاق في مصنفه عن آبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: جاء الأسلمي، نبي الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه انه أصاب امرأة حراما، أربع مرات كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة فقال انكحتها؟ قال: نعم. قال حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم. قال: كما يغيب المرود في المكحلة، وكما يغيب الرشاء في بئر؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رجم. وكذلك جاء إليه ماعز بن مالك واعترف بالزنا وجاءت إليه الغامدية واعترفت بالزنا - وذلك يدل على خوفها من الله تعالى ومن عذابه) .
-
(2) (قال الفقهاء: يسن للإمام أن يقوم بوعظ المتلاعنين قبل اللعان تحذيراً لهما من الكذب، وتخويفا لهما من الوقوع في المعصية، كما فعل النبّي صلى الله عليه وسلم حينما قذف هلال بن أمية زوجته بالزنا مع شريك بن السحماء، فتلا عليه آيات الله تعالى، ووعظه، وذكره بعقاب الله تعالى، واخبره بأن عذاب(5/95)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال الرجل: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعا المرأة فوعظها وخوفها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، ثم تلاعنا بعد ذلك وكان هذا أول لعان وقع في الإسلام.
واتفق الأئمة على أن من السنة أن يبدأ الإمام بالرجل في اللعان كما حكاه الإمام المهدي في البحر ولكنهم اختلفوا في الوجوب.
الشافعية، وأشهب من المالكية، والحنابلة - قالوا: يجب على الإمام أن يبدأ في اللعان بالرجل، ولا يصح له أن يبدأ بالمرأة لأنه هو الذي اتهمها، ورفع الأمر إلى الحاكم، وطلب وقوع اللعان، فهو صاحب الدعوة.
وقد بدأ الله تعالى، بذكر الزوج في آيات اللعان قبل الزوجة، فقال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} الآيات. ولان اللعان شرع لدفع الحد عن الرجل الذي قذفها بالزنا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للهلال بن أمية: (البينة وإلا حد في ظهرك) ، فلو بدأ اللعان بالمرأة لكان دفعا لأمر لم يثبت بعد.
الحنفية والمالكية وابن القاسم - قالوا: يسن الابتداء في اللعان بالرجل، ولكن لا يجب فلو وقع الابتداء بالمرأة قبل الزوج صح اللعان، واعتد به كالابتداء بالرجل، لأنه لم يترك واجبا، ولأن الله تعالى عطف آيات اللعان في القرآن بحرف الواو وهو لا يقتضي الترتيب، وصفة اللعان أن يبدأ الإمام بأزواج فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا، وإن كان القذف بالزنا ونفي الولد يقول: فيما رميتك به من الزنا ونفي الولد، وإن كان اللعان بنفي الولد فقط يقول فيما رميتك به من نفي الولد، لأنه المقصود باليمين، ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة: أشهد بالله أنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، أو من نفي الولد، وتقول في الخامسة، غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا، وفي نفي الولد تذكره كذلك.
أول لعان في الإسلام
ذكر الجمهور أن قصة هلال بن أمية هي السبب في مشروعية اللعان في الدين الإسلامي لأنه أول رجل لاعن في الإسلام.
وقد حكى الماوردي أن قصة هلال بن أمية أسبق من قصة عويمر العجلاني وزوجته خولة بنت عاصم.
وقال الخطيب، والنووي، وتبعهما الحافظ، يحتمل أن يكون هلال قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا،(5/96)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ثم سأل بعده عويمر العجلاني فنزلت الآيات في شأنهما معا وقال أبن الصباغ في الشامل، قصة هلال بن أمية نزلت فيها الآيات الكريمة.
واختلف العلماء في الوقت الذي وقع فيه اللعان، فجزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان أنه كان في شهر شعبان سنة تسع من الهجرة.
وقيل: كان في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وقع في البخاري عن سهل بن سعد أنه شهد قصة الملاعنة وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: كانت القصة سنة عشر ووفاته صلوات الله وسلامه عليه كانت في سنة إحدى عشر وروي عن ابن عمر قال: (فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني عجلان وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ثلاث) متفق عليه.
والمراد بقول: أخوي - الرجل وامرأته، قال ابن منده في كتاب الصحابة: واسم الرجل عويمر من بني بكر واسم المرأة: خولة بنت قيس، وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم.
تعريف اللعان
اللعان في اللغة: الأبعاد، يقال: لعنه الله أي أبعده من رحمته، وهو مصدر لاعن يلاعن ملاعنة، وفي الشرع هو مختص بملاعنة تجري بين الزوجين بسبب مخصوص، بصفة مخصوصة.
واللعان شعيرة من شعائر الإسلام، وهو في حقه كحد القذف، فإن كان الزوج كاذباً التحق به كالحج، حتى لا تقبل شهادته بعد اللعان أبدا، وهو في حق الزوجة كحد الزنا وبهذا لا يثبت اللعان بالشهادة على الشهادة ولا بكتاب القاضي ولا بشهادة النساء كالحدود سواء بسواء، ولابد من طلبها، لأن الحق لها كما في حد القذف.
واللعان: خصلة من خصال الدين الحنيف، وحكم من أحكام الشريعة، ومن خصوصيات الأمة المحمدية، وقد كان موجب القذف الحد في الأجنبية والزوجة معا"، بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة ابد" وأولئك هم الفاسقون} [آية 4 من سورة النور] .
ثم نسخ هذا الحكم في شأن الزوجات، ونقل إلى اللعان بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [آيات 6، 7، 8، 9 من سورة النور] .(5/97)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وسبب نزول هذه الآيات الشريفة ما روي عن ابن عباس رحمهما الله تعالى أنه قال: لما نزل قول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} قال عاصم بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه: (إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته، فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال: وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ) ، اللهم افتح وكان لعاصم هذا ابن عم يقال عويمر، وله امرأة يقال لها: خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذاك؟) فقال: أخبرني عويمر ابن عمي بأنه رأى شريك بن السحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عاصم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعا وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسم بالله أني رأيت شريكا على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر، وأنها حبلى من غيري، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله، ولا تخبري إلا بما صنعت) ، فقالت: يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور، وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث معي، فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر: (قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثانية قل: أشهد بالله أني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة قل: أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة قل: أشهد بالله أنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة قل: لعنة الله على عويمر - يعني نفسه - إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال اقعد، وقال لخولة قومي فأقمت وقال: أشهد بالله ما أنا زانية، وإن زوجي عويمرا لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: أشهد بالله أني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله. ففرق رسول الله بينهما) .
واعلم أنه إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة والتغرير إن لم تكن محصنة كما في رمي الأجنبية لا يختلف موجبهما، غير أنهكا يختلفان في المخلص، ففي قذف الأجنبي لا يسقط الحمد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف، أو ببينة تقوم على الزنا وفي قذف الزوجة يسقط عنه الحد بأحد هذين الأمرين أو باللعان، وإنما اعتبر الشرع اللعان على هذه الصورة دون الأجنبيات لوجهين:
الأول: أنه لا معرة عليه في زنا الأجنبية والأولى له الستر عليها، أما إذا وقع الزنا على زوجته(5/98)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فيلحقه العار والنسب الفاسد، فلا يمكنه الصبر عليه، وتوقيفه على البينة كالمعتذر، فلا جرم خص الشرع هذه الصورة باللعان.
الثاني: أن الغالب في المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة، فإذا رماها نفس الرمي يشهد بكونه صادقاً، إلا أن شهادة الحال ليست بكاملة قضم إليها ما يقومها من الإيمان، كشهادة المرأة لما ضعفت قويت بزيادة العدد والشاهد الواحد يتقوى باليمين على قول كثير من الفقهاء.
إذا نكل الزوج أو الزوجة عن اللعان
الشافعية والمالكية والحنابلة - قالوا: إذا قذف الزوج زوجته، فالواجب هو الحد، ولكن المخلص منه باللعان، كما أن الواجب في قذف الأجنبية الحد، والمخلص منه بالشهود، فإذا امتنع الزوج عن اللعان يلزمه الحد للقذف، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأهل بن أمية حين قذف زوجته: (إما البينة وإما إقامة الحد عليك) ، فإذا لاعن الزوج وامتنعت الزوجة عن اللعان يلزمها حد الزنا، وإذا صدقته يقام عليها حد الزنا أيضا، لأن الزاني يحد عندهم بالإقرار مرة واحدة، وإن القرآن الكريم ذكر أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الجلد، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد ولإن قوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} يدل على أنه الحد، ثبت أنها لو لم تلاعن لحدت وأنها بالإتيان باللعان دفعت عنها الحد، وهو العذاب، وكأن المرأة تقول: إن كان الرجل صادقاً فحدوني، وإن كان كاذباً فخلوني، فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله ص، ولا في إجماع الأمة ولا في القياس.
ولأن الزوج قذفها ولم يأت بالمخرج من شهادة غيره أو شهادة نفسه، فوجب عليه الحد لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} وإذا ثبت ذلك في حق الرجل ثبت في حق المرأة، لأنه لا قائل بالفرق، ولأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال لخولة حينما رماها زوجها بالزنا: (فالرجم أهون عليك من غضب الله تعالى) .
الحنفية - قالوا: إذا امتنع الرجل عن اللعان حبس حتى يلاعن، لأنه إذا كذب نفسه فيما رماها به من الزنا، سقط اللعان، وإذا سقط اللعان وجب عليه الحد، لأن القذف لا يخلو من موجب، فإذا سقط اللعان صرنا إلى حد القذف، إذا هو الأصل في الباب.
وإذا لاعن الرجل وجب على المرأة اللعان بنص القرآن الكريم، فإذا امتنعت عن اللعان وعن الإقرار حبست حتى تلاعنه، أو تصدقه فلا حاجة إلى اللعان، ولا يجب عليها حد الزنا، لأن من شرطه أن يقر الزاني أربع مرات مثل الشهادة، ولأنها ما فقلت شيئا" سوى أنها تركت اللعان، وهذا الترك ليس ببينة على الزنا، ولا إقراراً منها به، فوجب ألا يجوز رجمها لقول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل رجم امرئ إلا بإحدى(5/99)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ثلاث) الحديث. وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصنة لأنه لا قائل بالفرق، ولأن النكول ليس بصريح في الإقرار فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا ولغيره.
من يصح لعانه
الشافعية والمالكية والحنابلة - قالوا: من صح يمينه صح لعانه، فيجري اللعان بين الحرين، والعبدين، والعادلين، والفاسقين، والذميين، والمحدودين، أو أحدهما رقيقاً، أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية!.
وحجة الأئمة الثلاثة في ذلك قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} فهو يتناول الكل، ولا معنى للتخصيص ولأن القياس طاهر من وجهين:
الأول: أن المقصود من اللعان دفع العار عن النفس ومدفع ولد الزنا عن النفس، وكما يحتاج غير المحدود - أي العدل - إليه، فيجوز له اللعان.
والثاني: أجمعنا على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة فكذلك أقول في غيرهما، والجامع هو الحاجة إلى دفع عار الزنا.
الحنفية - قالوا: إذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة بأن كان عبداً، أو محدوداً في قذف، أو كافراً، لا يصح لعانه، وكذلك الزوجة إذا كانت ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا كان أجنبيا"، نحو أن تكون الزوجة مملوكة، أو ذمية، أو محدودة في قذف، أو صبية، أو مجنونة، أو زانية، فلا حد عليه ولا لعان لان المانع من جهتها، فصار كما إذا صدقته في قوله الذي رماها به.
وعلى الحاكم أن يعزر الزوج في هذه الحالة لأنه ألحق الشين بها، ولم يجب الحد عليه لذا العذر فوجب عليه التعذير حسما لهذا الباب، وحفظا للأعراض.
وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة كما ذكرنا، ورمى زوجته بالزنا، فيجب أن يقام عليه حد القذف لآن اللعان امتنع من جهته فيرجع إلى الموجب الأصلي.
وان لم يكونا من أهل الشهادة، بأن كانا محدودين في قذف حد الزوج لأن اللعان امتنع من جهته.
واحتج الأحناف بما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من النساء ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة: اليهودية والنصرانية تحت المسلم، والحرة تحت المملوك، والمملوكة تحت الحر) .
ولأن الواجب على الذي يقذف الزوجة أو الأجنبية الحد بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} ثم نسخ ذلك الحكم عن الأزواج قائما مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي.(5/100)
وقوع الفرقة باللعان
-وبذلك تبين منه مؤبداً - أي تطلق منه - وهذا المعنى يسجل غضب الله ولعنته على الكاذب حقاً (1)
__________
ولأن اللعان شهادة، فوجب أن لا يصح إلا من أهل الشهادة، إنما قال الأحناف: إن اللعان شهادة لوجهين: الأول قوله تعالى: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} فسمى الله تعالى لعانهما شهادة، كما قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} ، وقال تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} .
الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام حين لاعن بين زوجين آمرهما باللعان بلفظ الشهادة، ولم يقتصر على لفظ اليمين، إذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر، أما الإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة أو لأنه لا قائل بالفرق فقد أجاب الشافعية بأن اللعان ليس شهادة في الحقيقة، بل هو يمين لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسهن ولأنه لو كان اللعان شهادة كما قال الأحناف لكانت المرأة تأتي في اللعان بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولأنه يصح اللعان من الأعمى والفاسق بالإجماع ولا تجوز شهادتهما، فإن قيل: الفاسق والفاسقة قد يتوبان قلنا وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته، ثم أكد الشافعي رحمه الله ذلك الرأي بأن العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال، أما الفاسق إذا تاب فلا تقبل شهادته في الحال، ثم ألزم أبا حنيفة رحمه الله بأن شهادة أهل الذمة مقبولة بعضهم على بعض، فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية.
الشافعية - قالوا: إن الحدود تختلف بمن وقعت له، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن فنصف حد القذف عليه لرقه، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وعدم إحصانها، وحريتها ورقها.
الشافعية - قالوا: يتعلق باللعان خمسة أحكام: درء الحد، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبد، ووجوب الحد عليهما، وكلها تثبت بمجرد لعانه، ولا يفتقر فيه إلى لعان الزوجة، ولا إلى حكم الحاكم، فإن حكم الحاكم به كان تنفيذا منه لا إيقاعا للفرقة لأن الفرقة حصلت بمجرد أن انتهى الزوج من شهادته وقسمه، ولا يتوقف ذلك على صدور حكم الحاكم بالفرقة، فأن اللعان طلاق بائن لما رواه الجماعة عن نافع عن ابن عمر (أن رجلاً لاعن بامرأته، وانتفى من ولدها ففرق النبّي بينهما وألحق الولد بالمرأة) .
-
(1) (اختلف الفقهاء في وقوع الفرقة باللعان.
الحنفية والحنابلة - قالوا: لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، ولا تقع الفرقة قبل صدور الحكم.(5/101)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعية - قالوا: إذا اكمل الزوج الشهادة والا لتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبداً التعنت أو لم تلتعن وذلك لقوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج، ولأن لعان الزوج وحده مستقل بنفي الولد، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها، ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه فيعتبر نفي الزوج لا إلحاق المرأة، ولهذا إذا أكذب الزوج نفسه ألحق به الولد، وما دام يبقى مصراً على اللعان فالولد منفي عنه وإذا ثبت أن لعانه مستقل بنفي الولد وجب أن يكون مستقلاً بوقوع الفرقة، لأن الفرقة لو لم تقع لم ينتف الولد وجب أن يكون مستقى بوقع الفرقة، لآن الفرقة لو لم تقع لم ينتف الولد لقوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش) فما دام يبقى الفراش التحق به، فلما انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يزول الفراش عنه بمجرد لعانه.
المالكية، والليث، وزفر - قالوا: إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بعد لعانها خاصة وإن لم يفرق الحاكم بينهما، وقد احتج الحنفية على مذهبهم بما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني، مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً، وبما روي في قصة عويمر أنهما لما فرغا (قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، هي طالق ثلاثاً) فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله الله صلى اللله عليه وسلم، والاستدلال بهذا الخبر من وجوه:
(أحدها) : أنه لو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله (كذبت عليها إن أمسكتها) لأن إمساكها غير ممكن.
(وثانيها) : ما روي في هذا الخبر أنه طلقها ثلاث تطليقات فأنفذه رسول الله الله صلى اللله عليه وسلم، وتنفيذ الطلاق إنما يمكن إذا لم تقع الفرقة بنفس اللعان.
(وثالثها) : ما قال سهل بن سعد في هذا الخبر (مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً) ولو كانت الفرقة واقعة باللعان استحال التفريق بعدها، وعن ابن عباس أن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: (المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً) .
وقد قال أبو بكر الرازي: قول الشافعي خلاف الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين.
ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم فوجب ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم، ولأن اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي بالبينة، فلما لم يجز أن يستحق المدعي ما ادعاه إلا بحكم الحاكم وجب مثله في استحقاق المرأة نفسها. ولأن أكثر ما فيه أنها زنت، ولو قامت البينة على زناها، أو هي أقرت بذلك فذلك لا يوجب التحريم، فكذا اللعان، وإذا لم يوجد فيها دلالة على التحريم وجب ألا تقع الفرقة به، فلا بد من إحداث التفريق بين الزوجين إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم.(5/102)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأما حجة المالكية فلأنهما لو تراضيا على البقاء على النكاح بعد اللعان لم يخليا، بل يفرق بينهما، فدل ذلك على أن اللعان قد أوجب الفرقة إن لم يفرق الحاكم بينهما.
اجتماع الزوجين بعد اللعان
الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وأبو يوسف والثوري - قالوا: المتلاعنان لا يجتمعان أبداً بعد الفرقة، وهو قول علي وعمر وأبن مسعود لما روي عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنه قال للملاعن بعد اللعان: (لا سبيل لك عليها) ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان الإكذاب غاية لهذه الحرمة لردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية، كما قال في المطلقة بالثلاث (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره) .
ولآن اللعان فسخ فيكون التحريم مؤبداً كالرضاع، فلا تحل له أبداً وفي الحديث (المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً) . ولما روي عن الإمام علي كرم الله وجهه، وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم أنهم قالوا: لا يجتمع المتلاعنان أبداً.
وما رواه الزهري عن سهل بن سعد في قصة العجلاني (مضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً، فدلت هذه الروايات كلها على أن تحريم الزوجة على زوجها مؤبد.
الحنفية - قالوا: إذا أكذب الرجل نفسه وأقيم عليه الحد، زال تحريم العقد، وحلت له بنكاح جديد، فهو تحريم مؤقت احتجوا على ذلك بقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وقوله تعالى: {فأنكحوا ما طاب لكم من النساء} فاللعان طلاق ثلاثا، لا يتأبد به التحريم.
إذا أتى أحدهما ببعض كلمات اللعان
الحنفية - قالوا: أكثر كلمات اللعان تعمل عمل الكل إذا حكم به الحاكم.
الشافعية - قالوا: لو أتى أحدهما ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم فإنها لا تدرأ العذاب عن نفسها إلا بتمام ما ذكره الله تعالى.
اتفق الفقهاء: على أن اللعان كالشهادة فلا يثبت إلا عند الحاكم. وقالوا: يشترط في اللعان أن يكون من الزوج سواء دخل بها أم لا، وأن يكون بالغاً عاقلاً، مسلماً.
وقالوا: يشترط حضور جماعة للعان لا تقل عن أربعة عدول ذكور، لا احتمال نكول الزوج، أو إقرارها. ويشترط أن تكون الزوجة في عصمته، بنكاح صحيح، دون الفاسد أو تكون في العدة. ويصح لعان الأخرس إذا كان يحسن الكتابة، ويشترط أن يكرر الكتابة خمس مرات قبل الشهادة.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: أن اللعان يمين.
الحنفية، والمالكية - قالوا: أن اللعان شهادة مؤكدة بالأيمان، موثقة باللعن، والغضب، وذلك(5/103)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لقوله تعالى: {فشهادة أحدهما أربع شهادات بالله} ولقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه (فجاء هلال فشهد ثم جاءت فشهدت) كما رواه أبن عباس رضي الله عنهما.
وقيل: أن اللعان شهادة شائبة بيمين.
اللعان على الحمل
الشافعية والمالكية - قالوا: يصح اللعان على الحمل قبل الوضع مطلقاً، ويصح كذلك نفي الحمل.
إلا أن المالكية اشترطوا أن يكون استبراؤها بثلاث حيضات أو بحيضة واحدة على خلاف بينهم. واستدلوا بالحديث السابق، وأن اللعان وقع والزوجة حامل، ولأن الحمل قرينة قوية يتأكد منها وجوده، ولحصول الريبة بمجرد الحمل، فيصح اللعان لأجله مبادرة للخلوص من العار الذي يلحقه من جراء ذلك.
الحنفية والحنابلة - قالوا: لا يصح اللعان، النفي قبل الوضع لعدم التيقن لاحتمال أن يكون الحمل ريحاً.
الحنفية - قالوا: لا يصح نفي الولد بعد الإقرار بهن لأنه لو صح الرجوع بعد الإقرار لصح في كل إقرار، لا يمكن أن يتقرر حق من الحقوق، والثاني باطل بالإجماع وقد روي أن رجلاً اعترف بولده في بطنها ثم أنكره بعد ولاجتها فجلده عمر رضي الله تعالى عنه وألحق به الولد.
اتفق الفقهاء على أن المرأة المفسوخة باللعان لا تستحق في مدة العدة. نفقة ولا سكنى، لأن النفقة إنما تستحق في عدة الطلاق، لا في عدة الفسخ، وكذلك السكنى ومن قال أن اللعان طلاق كأبي حنيفة يقول بوجوب النفقة والسكنى.
حكم الأخرس
الحنفية - قالوا: لا يصح قذف الأخرس، ولا لعانه، لوجود شبهة تذرا الحد عنه.
المالكية والشافعية والحنابلة - قالوا: يصح قذف الأخرس، ويصح لعانه لزوجته، إذا كانت له إشارة مفهومة توضح قصده ويعلم ما يقوله أو كان يحسن الكتابة، ويلزمه الحد في هذه الحال، لأن من كتب أو أشار إلى القذف إشارة يفهمها الناس فقد رمى المحصنة وألحق العار بها، فوجب أدراجه تحت الظاهر، وعول معاملة الناطق.
ولد المتلاعنين
ذكر الفقهاء أن ولد المتلاعنين ينسب إلى أمه، فيرث منها إذا ماتت، وترثه إذا مات قبلها، ولا يصح لأحد أن يرمي المرأة بالزنا، بالرجل الذي اتهمها به زوجها، ومن قذفها بالزنا يحد حد القذف، وذلك لأنه لم يتبين صدق ما قاله الزوج فهي محصنة، والأصل عدم الوقوع في المحرم،(5/104)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ومجرد وقوع اللعان لا يخرجها من العفاف، والأعراض محمية عن الثلب ما لم يحصل اليقين، ولا يصح لأحد أن يرمي ولد المتلاعنين بأنه أبن زنا، ومن دعاه ولد الزنا يجلد ثمانين جلدة، وقرابة الولد المنفي قرابة أمه، لما روي عن أبن عباس رضي الله عنهما (وقضى أنه ليس عليه قوت ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها) وقول (وألحق الولد بالمرأة) وفي رواية (فكان الولد ينسب إلى أمه) أي صيره لها وحدها ونفاه عن الزوج فلا توارث بينهما، وعصبة أمه تصبر عصبة له، وروي أن النبّي صلى الله عليه وسلم قال في حديث اللعان (ومن رماها به جلد ثمانين جلد) وفي رواية (وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولها فعليه الحد) .
لا يصح للملاعن أن يسترد مهره
قال الفقهاء: إذا تم اللعان فإن الزوجة يفسخ عقدها، وتستحق المال الذي صار إليها من المهر بما استحل الزوج من فرجها في المدة السابقة للعان فقد روي أن هلال بن أمية بعدما لاعن امرأته قال: يا رسول الله (مالي) أي الصداق الذي سلمه أتليها يزيد أن يرجع به عليها فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا سبيل لك عليها) وإنها قد استحقته بذلك السبب وأوضح له استحقاقها له على فرض صدقه وعلى فرض كذبه، لأنه مع الصدق قد استوفى منها ما يوجب استحقاقها له، وعلى فرض كذبه كذلك مع كونه قد ظلمها برميها بما رماها به، وهذا الرأي مجمع عليه في المدخول بها عن أبن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله للمتلاعنين: حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها قال يا رسول الله مالي، قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها متفق عليه.
أما في الزوجة التي لم يدخل بها زوجها فذهب الجمهور إلى أنها تستحق نصف الصداق كغيرها من المطلقات قبل الدخول، وقال حماد والحكم أنها تستحق جميعه، وقال الزهري ومالك: لاشيء لها.
مخالفة لون الابن لأبيه
الحنفية والمالكية - قالوا: لا يجوز للأب أن ينفي ولده بمجرد كونه مخالفاً له في اللون.
الشافعية - قالوا: إذا لم ينضم إلى المخالفة في اللون قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح.
الحنابلة - قالوا: يجوز نفي الولد الذي جاء لونه مخالفاً للون أبيه مع القرينة مطلقاً، وأما بدون القرينة فلا. فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولدت امرأتي غلاماً أسود وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه، فقال له النبّي الله صلى اللله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما لونها؟ قال لونها؟ قال: حمر، قال هل فيها أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى أتاها(5/105)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعة عرق، قال: فهذا عسى أن يكون نزعة عرق، ولم يرخص له في الانتفاء منه، رواه الجماعة. ولأبي داود في رواية (إن امرأتي ولدت غلاماً اسود وإني أنكره) .
وروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجزراً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض) . رواه الجماعة وذلك أن الناس كانوا قد ارتابوا في زيد بن حارثة وابنه أسامة - وكان زيد ابيض وأسامة اسود، فتكلم في ذلك بقول كان يسوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمع قول المدلجي فرح به، وسري عنه، لأنه رفع التهمة عن سيدنا زيد، وأثبت صدق نسب أسامة منه، وذلك حق، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يظهر السرور إلا بما هو حق عنده، وأسامة قد ثبت فراش أبيه شرعاً، ولما وقعت القالة بسبب اختلاف اللون، كان قول المدلجي دافعاً لمقالة السوء.
حكم طلاقها بعد القذف
الحنفية - قالوا: لو طلق الرجل زوجته التي رماها بالزنا، بعد القذف ثلاثاً، أو بائناً فلا لعان بينهما، ولا حد بذلك القذف، ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً (يا زانية) فعليه الحد دون اللعان، لأنه قذف امرأة أجنبية عنه ولو قال: يا زانية أنت طالق ثلاثاً، فلا حد ولا لعان، لأنه طلقها ثلاثاً بعد وجود اللعان، فسقط عنه بالبينونة.
ولو قذف أربع نسوة له لاعن مع كل زوجة منهن، ولو قذف أربع أجنبيات حد لهن حداً واحداً، والفرق في ذلك أن المقصود في المسألة الثانية الزجر، وهو يحصل بحد واحد أما الأول فالمقصود باللعان هو دفع العار عن المرأة المتهمة، وإبطال نكاحها عليه، وذلك لا يحصل بلعان واحد، ولو قال لها: ليس حملك مني، فلا لعان، لأنه لم يتيقن بقيام الحمل، لم يعد قاذفاً، ولو نفى ولد زوجه الحرة فصدقته، فلا حد ولا لعان، لأنه لم يتيقن بقيام الحمل، فلم يعد قاذفاً، ولو ننفى ولد زوجه الحرة فصدقته، فلا حد ولا لعان، وهو ابنهما لا يصدقان على نفيه، لأن النسب حق الولد، والأم لا تملك إسقاط حق ولدها، فلا ينتفي بتصديقها، وإنما لم يحسب الحد واللعان لتصديقها، لأنه لا يجوز لها أن تشهد إنه لمن الكاذبين بعد ذلك، وقد قالت إنه لمن الصادقين، وإذا تعذر اللعان لا ينتفي النسب ولو طلقها بعد القذف طلاقاً رجعياً وجب اللعان لقيام الزوجية، ولو تزوجها بعد الطلاق البائن فلا لعان ولا حد بذلك القذف.
نفي الولد بعد الولادة
واتفق العلماء على أن الزوج لو نفى الولد عقب الولادة انتفى، وإذا لم ينفه حتى حالت المدة بعد الوضع لم يكن له نفيه، لأنه قبل التهاني بالولادة وابتاع حاجات الولادة، وقبل هدايا الأصدقاء، فإذا فعل ذلك، ومضت مدة عليه وهو ممسك كان فعله اعترافاً ظاهراً بالولد، فلا يصح نفيه بعده وقد روي عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال (قضى عمر بن الخطاب في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها، ثم اعترف به وهو في بطنها حتى إذا ولج أنكره، ف - أمر به عمر فجلد ثمانين جلدة لفريته عليها ثم ألحق به ولدها) . وورد في حديث أبن عباس رضي الله عنهما (أن النبّي صلى الله عليه وسلم لاعن بين هلال بن أمية وامرأته،(5/106)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وفرق بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ويرمى ولدها، ورماها، أو رمى ولدها فعليه الحد) قال عكرمة رضي الله عنه: (فكان ذلك الولد بعد ذلك أميراً على مصر من الأمصار، وما يدعى لأب) رواه أحمد وإذا كان الزوج غائباً في بلد نائية، علم بولادة زوجته عند حضوره من سفره، فكأنها ولدت حال علمه. فيصح له نفيه عقب علمه بولادته، فإذا مكث مدة بعد العلم، فلا يصح له أن ينفيه، لأنه رضي به.
واتفق الفقهاء: على أنه لا ينفى نسب الحمل قبل الولادة لأنه حكم عليه، ولا حكم على الجنين قبل الولادة، كالإرث، الوصية، وإنما يؤجل الحكم عليه حتى تلد.
الحنفية - قالوا: من ولدت ولدين في بطن واحد فاعترف بالأول ونفى الثاني، ثبت نسبهما، ولاعن وإن عكس فنفى الأول، واعترف بالثاني ثبت نسبهما وأقيم عليه الحد، أما ثبوت النسب فلأنهما توأمان خلقا من ماء واحد فمتى ثبت نسب أحدهما باعترافه ثبت نسب الآخر ضرورة، ولأنه لما نفى الثاني لم يكن مكذباً نفسه فيلاعن، ولما نفى الأول صار مكذباً نفسه باعترافه بالثاني، فيحد.
من قذف زوجته برجل سماه
الحنفية والمالكية رحمهم الله - قالوا لو قذف رجل زوجته برجل بعينه وسماه، فقال: زنى بك فلان، لاعن للزوجة، وحد للرجل الذي قذفه إن طلب الحد، ولا يسقط حد القذف باللعان.
الشافعية في أرجح أقوالهم - قالوا: أنه يجب عليه حد واحد لهما، والرأي الثاني - لكل منهما حد عليه، فإن ذكر القذف في لعانه، سقط الحد عنه.
الحنابلة - قالوا: عليه حد واحد لهما، ويسقط بلعانها.
روي عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه (أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعن في الإسلام قال: فلاعنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبصروها فإن جاءت به ابيض سبطاً، فضيء العينين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحل، جعداً، حمش الساقين، فهو لشريك بن سحماء، قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل، جعداً، حمش الساقين) رواه أحمد، ومسلم، والنسائي والسبط - هو المسترسل من الشعر: وقوله (فضيء العينين) هو فاسد العينين - والأكحل الذي في عينيه سواد - والجعد من الشعر خلاف السبط. أو القصير منه، وقوله (حمش الساقين) أي رقيق الساقين، وفي رواية فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل، مصفراً، قليل الشعر، سبطه، وكان الذي ادعى عليه أنه وجد عند أهله خدلاً، آدم، كثير اللحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بين) فوضعت شبيهاً بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.
حكم اللعان من غير رؤية
المالكية - قالوا: لو قال لزوجته - يا زانية - وجب عليه الحد إن لم يثبته، وليس له أن يلاعن حتى يدعي رؤيته بعينه، لأن الرؤية شرط في اللعان عندهم.(5/107)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية، والشافعية - قالوا: إن للزوج أن يلاعن زوجته، ولو لم يذكر رؤيته، لأنها ليست بشرط عندهم.
إذا رآها في العدة تزني
المالكية - قالوا: إذا بانت زوجته منه، ثم رآها تزني في أيام العدة، فله أن يلاعنها، ولو ظهر بها حمل بعد طلاقه، وقال: كنت استبرأتها بحيضة فله أن يلاعنها أيضاً.
الشافعية - قالوا: إن كان هناك حمل، أو ولد فله أن يلاعن، وإلا فلا حق له.
الحنفية، والحنابلة - قالوا: ليس له أن يلاعن أصلاً، لأنها صارت أجنبية له بعد طلاقها.
من طلق امرأته عقب العقد وأتت بولد
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: لو تزوج امرأة ثم طلقها عقب العقد مباشرة من غير أماكن وطئها وأتت بولد لستة أشهر من العقد، لم يلحق به، كما لو أتت به لأقل من ستة أشهر، للتأكد من أنه حملت به قبل إجراء العقد.
الحنفية - قالوا: إنه يلحقه إذا عقد عليها بحضرة الحكم، ثم طلقها عقب العقد، وأتت به لستة أشهر لا قل ولا أكثر منها، فإن الولد حينئذ يلحقه لحدوثه قبل الطلاق وبعد العقد.
من تزوج بامرأة وغاب عنها
الحنيفية - قالوا: لو تزوج رجل بامرأة، وغاب عنها سنتين، فأتاها خبر وفاته، فاعتدت منه، ثم تزوجت وأتت بأولاد من الزوج الثاني، ثم قدم الأول. وحجتهم في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) رواه الجماعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي لفظ للبخاري (الولد لصاحب الفراش) فقد صارت فراشاً له بالعقد، فأولده بنص الشارع، إذ الإحكام يرجع وضعها إليه ولو لم يقبلها بعض العقول.
وقد اختلف العلماء في معنى (الفراش) .
الحنفية - قالوا: إن الفراش في الحديث الشريف اسم للزوج وأنشد أبن الأعرابي مستلا على هذا المعنى قول جرير: باتت تعانقه، وبات فراشها.
وقوله (وللعاهر الحجر) العاهر الزاني - يقال: عهر أي زنى - قيل، ويختص ذلك بالليل، ومعنى(5/108)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
له الحجر، الخيبة، أي لاشيء له في الولد، وقيل: أن المراد بالحجر، أنه يرجم بالحجارة إذا زنى وكان محصناً.
روى الجماعة عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله أبن أخي عتبة بن أبي وقاس، عهد إلي أنه ابنه، اظهر إلى شبهه، وقال عبد الله بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولج على فارش أبي فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهاً بيناً بعتبة، فقال: هو لك يا عبد الله بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة قال: لم ير سودة قط) رواه الجماعة، وسودة هي أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالحنفية يثبتون النسب بمجرد العقد، وقالوا: إن مجرد المظنة كافية، بل قالوا: لو أن رجلاً تزوج امرأة بالمغرب وهو بالمشرق لستة اشهر كان الولد ملحقاً به، ورد بمنع حصولها بمجرد العقد، بل لابد من إمكان الوطء، ولا شك أن اعتبار مجرد العقد في ثبوت الفراش مجرد ظاهر، وذهب أبن تيمية إلى أنه لابد من معرفة الدخول المحقق: وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسب من لم يبن بامرأته، ولا دخل بها، ولا اجتمع بها، بمجرد إمكان ذلك؟
أجاب الأحناف على ذلك بأن معرفة الوطء المحقق متعسرة، فاعتبارها يؤدي إلى بطلان كثير من الأنساب وهو يحتاط فيها، واعتبار مجرد الإمكان يناسب ذلك الاحتياط.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: في هذه المسألة أن الأولاد يكونون للزوج الثاني للتأكد من أنه تزوج المرأة ووطأها، وهي فارشه وذلك هو المعقول.
ولابد في ثبوت الولد أن تأتي المرأة به بعد مضى أقل مدة الحمل وهو ستة اشهر من وقت إمكان الوطء في النكاح الصحيح أو الفاسد عند الأئمة الثلاثة أو تأتي به من وقت العقد وإن لم يجتمع لها عند الحناف، أو معرفة الوطء المحقق عند أبن تيمية، وهذا مجمع عليه فولدت قبل مضي المدة لقطعنا بأن الولد من قبل العقد، فلا يلحق بأحد. وقالوا: لا يجوز إلحاق الولد بأكثر من رجل واحد.
رأي الخوارج
قال الخوارج: إن الزنا والقذف كفر، ورد عليهم أهل السنة بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآيات واحتجوا بالآية من وجهين:
الأول - أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف فلا بد على قولهم من وقوع الكفر من أحدهما، وذلك يكون ردة: فيجب على هذا أن تقع الفرقة، ولا لعان أصلاً. وأن تكون فرقة الردة حتى لا يتعلق بذلك توارث البتة.
الثاني - أن الكفر إذا ثبت عليها لعانه - كما قالوا - فالواجب أن تقتل، لا أن تجلد، أو ترجم، لأن عقوبة المرتد مباينة للحد في الزنا.(5/109)
مبحث حرص الشريعة على محو الرذائل الخلقية
-لأن الشريعة الإسلامية حريصة على محو الرذائل الخلقية، والضرب على أيدي العابثين بالأخلاق؛ التي عليها قوام الأمم، وسعادتها. حريصة على كرامة الناس، وأنسابهم، فلم يبق أمام الأمة إلا أن تمسك بالصيانة، والحياء، ولا تجاهر بالفواحش، وإلا أوشك الله أن سلط عليها من لا يرحمها (1)
__________
وقال أهل السنة: إن الآية دالة على بطلان قول من يقول: إن وقوع الزنا يفسد النكاح. وذلك لأنه يجب إذا رماها بالزنا أن يكون قوله هذا كأنه معترف بفساد النكاح حتى يكون سبيله سبيل من يقر بأنها أخته من الرضاع، أو بأنها كافرة، ولو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بنفس الرمي، من قبل اللعان، وقد ثبت بالإجماع فساد ذلك الرأي.
رأي المعتزلة
المعتزلة - قالوا: دلت آية اللعان على أن القاذف مستحق للعن الله تعالى إذا كان كاذبا، وأنه قد فسق، وكذلك الزاني والزانية، يستحقان غضب الله تعالى وعقابه، وإلا لم يحسن منهما أن يلعنا أنفسهما. كما لا يجوز أن يدعو أحد ربه أن يلعن الأطفال، والمجانين، وإذا صح ذلك فقد استحق العقاب، والعقاب يكون دائما كالثواب، ولا يجتمعان، فثوابهما أيضا محبط، فلا يجوز إذا لم يتوبا أن يدخلا الجنة، لأن الأمة مجمعة على أن من دخل الجنة من المكلفين فهو مثاب على طاعاته، وذلك يدل على خلود الفساق في نار جهنم.
الأئمة - قالوا: لا نسلم أنه كونه مغضوبا عليه بفسقه يتأتى كونه مرضيا عنه لجهة إيمانه، ثم لو سلمناه، لم نسلم أن الجنة لا يدخلها إلا مستحق الثواب، والإجماع ممنوع، وقيل: إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخيلائها وأطماعها، ولذلك كانت في مقدمة آية الجلد) .
-
(1) لقد نهى الشارع الحكيم عن الزنا ونفر من النكاح الحرام وجعله من الذنوب التي تحبط الأعمال وتدخل فاعلها النار فقال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً، وساء سبيلاً} الآية 22 من النساء.
وقال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق إثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً} فقد قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس التي حرم الله وهما من أفحش الذنوب وأكبر الكبائر التي حرمها الله تعالى، فدل ذلك على عظم حرمة الزنا، وأنه من أعظم الذنوب وأفحشها، حيث عقب الله تعالى على ذكر هذا الذنب، بأن فاعله يرتكب إثماً عظيماً، ويضاعف الله له العذاب في نار جهنم، ويمكث فيه مدة طويلة محتقراً مهاناً كأنه مخلد فيها. وقال الله تعالى: {قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن} .(5/110)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الآية 33 من سورة الأعراف. وقال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين} آية 2 و 3 من سورة النور.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه، والمفارق للجماعة) . رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي رحمهم الله تعالى.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا بغايا العرب! يا بغايا العرب، إن أخوف عليكم الزنا، والشهوة الخفية) رواه الطبراني.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان) رواه أبو داود واللفظ له.
وفي رواية للبيهقي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء، فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان، فإن تاب رد عليه) .
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر!) رواه مسلم والنسائي، - ورواه الطبراني في الأوسط ولفظه: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى الشيخ الزاني، ولا العجوز الزانية) .
وروي عن بريدة رضي الله عنه عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: (إن السموات السبع، والأرضيين السبع ليلعن الشيخ الزانين وإن فروج الزناة ليؤذي أهل لنار نتن ريحها) رواه البزار.
حد العبد
اتفق الأئمة الأربعة، رحمهم الله تعالى: على أن العبد والأئمة إذا زنيا، فلا يكمل حدهما، وأن حد كل واحد منهما خمسون جلدة، وأنه لا فرق بين الذكر والأنثى منهم.
واتفقوا على أنهما لا يرجمان وإن أحصنا، بل يجلدان، لأنهم اشترطوا في شروط الإحصان الحرية، فإن العبد ليس بمحصن، وإن كان متزوجاً، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) والحد لا يمكن أن ينصف.
الشافعية، والمالكية - قالوا: إن الرقيق إذا زنى يجلد خمسين جلدة، ويغرب نصف سنة، لما روي عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكما فتبين زناها، فليجلها الحد، ولا يثرب عليها - أي(5/111)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لا يوبخها - ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فلبيعها، ولو بحبل من شعر) رواه الخمسة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وروي عن عبد الله بن أحمد في المسند، عن أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه. قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد، قال: فوجدتها في دمها، فأتيت النبّي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال لي: إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين) .
وروي عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: (أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد المارة خمسين خمسين في الزنا) رواه الإمام مالك في كاتبه الموطأ.
فالذكر من العبيد إذا زنى يجلد مائة جلدة، والأمة إذا ثبت عليها الزنا تجلد خمسين جلدة. واحتج الأئمة الأربعة على أن الأمة غير المتزوجة يقام عليها الحد بحديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنهم (أن النبّي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة زنت، ولم تحصن فقال: (إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو يضفير - أي بحبل مضفور - قال أبن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة، أو الرابعة، متفق عليه) .
وقال أبن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: إن العبد والأمة إذا لم يحصنا فلا يقام عليهما الحد وإنما يجب عليهما التعزير بحسب ما يرى الحاكم وإذا أحصنا فحدهما خمسون جلدة بالتساوي. وسبب اختلافهم - الاشتراط الذي في اسم الإحصان في قوله تعالى: {فإذا أحصن} فمن فهم من الإحصان التزوج والإسلام وقال بدليل الخطاب قال لا يجلد غير المتزوجة، ومن فهم من لفظ الإحصان الإسلام، جعله عاماً في المتزوجة، وغير المتزوجة وهو الرجح.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: لا يجب التغريب في زنا العبد، والأمة، لأن العبد دنيء فلا يتأثر بالتغبير من الناس مثل الحر، ولا العار بعظم الشرف والنسب، والعبد مجرد منهما.
الشافعية - قالوا في أصح أقوالهم: أن العبد والأمة إذا ثبت الزنا على واحد منهما يغرب نصف عام، لأنه على النصف من الحر، في كثير من الأحكام.
حق السيد في إقامة الحد على عبيده
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: للسيد أن يقيم الحد على عبده وأمته إذا قامت البينة عنده، أو أقر بين يديه، لا فرق في ذلك بين الزنان والقذف، وشرب الخمر، وغير ذلك. لن العبد معدود من مال السيد فله تفويت المنفعة فيه على نفسه. إيثاراً لحق الله تعالى.
المالكية في بعض آرائهم، والحنابلة - قالوا: يستثنى من ذلك حد السرقة، فلا يجوز للسيد أن يقطع في حد
السرقة بدون إذن الإمام أو نائبه.
الحنفية - قالوا: ليس للسيد إقامة الحد على إمائه في كل الأحول التي يجب فيها الحد بل يجب أن يرده إلى الإمام، لأن إقامة الحدود بالأصالة من منصب الإمام الأعظم ومن خصوصياته، وإنما جعل(5/112)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشارع إقامة الحدود إلى الإمام الأعظم، أو نائبه، دون كل من قدر على إقامتها من المتغلبة ونحوهم، دفعاً للفساد في الأرض، وعدم إشاعة الفوضى في المجتمع، لغلبة عدم قدرة الرعية على رد نفوسهم عن تنفيذ غضبهم في بعضهم بعضاً حمية جاهلية، لا نصرة للإسلام ولا شريعة بخلاف الإمام الأعظم، فإنه ليس له غرض عند أحد دون أحد في غالب الأحوال لقوة إرادته. ولأنه يقدر على تنفيذ حكمه في غيره، ولا عكس، فإذا قتل الإمام شخصاً في حد، ولو ظلماً فلا يقدر عصبته أن يقتلوا الإمام لأجله عادة، لأنه متحصن بالقانون، ولأن قوة الجند والشرطة في يده.
حد الذمي
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا زنى الذمي يقام عليه الحد مثل المسلم.
المالكية - قالوا: لا يقام الحد عليه لأنه غير محصن، لأن الإحصان شرف يختص به المسلم فقط.
حد اليهودي
الشافعية والحنابلة - قالوا: يقام الحد على اليهودي كغيره من النصارى والذميين والمستأمنين وذلك لأنهم مخاطبون بفروع الشريعة خصوصاً إذا رفعت دعواهم إلينا، ولأن إقامة الحد يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، ولأن السنة أثبتت أن النبّي صلى الله عليه وسلم قد أقام حد الزنا على اليهودي واليهودية التي رفع يهود المدينة أمرهما إليه صلوات الله وسلامه عليه. فقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن اليهود أتوا النبّي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: تسخم وجوههما - أي تسود - ويخزيان. قال: كذبتم: (إن فيهما الرجم فأتوا التوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) فجاؤوا بالتوراة، وجاؤوا بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح فقال، أو قالوا: يا محمد إن فيها الرجم ولكننا كنا نتكاتم بيننا فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فلقد رأيته يجنأ عليها ويقيها الحجارة بنفسه) ومعنى يجيأ (ينحني) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم ورجلاً من اليهود وامرأة) .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (مر على النبّي صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحريم والجلد مكان الرجم. فقال النبّي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أول من أحيا أمك إذ أماتوه) ، فأمر به فرجم فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا: آمنا بأفواههم إلى قوله:(5/113)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إن أوتيتم هذا فخذوه} يقولون: ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} وقلوه تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} قال: هي في الكفار كلهم رواه أحمد مسلم، وأبو داود، فهذه الحاديث تدل على أنه يحد الذمي كما يحد المسلم.
الحنفية والمالكية - قالوا: لا يقام الحد على اليهودي، ولا المسيحي، ولا الذمي، ولا المستأمن لأنهم اشترطوا في الإحصان، الإسلام فغير المسلم لأي يكون محصناً فلا يرجم وإنما يجلد ولأن الرجم تطهير من الذنب والذمي وغير المسلم ليس من أهل التطهير، بل لا يطهر أبداً إلا بحرقه بنار جهنم، ولأنه ليس مخاطباً بفروع الشريعة، بل هم مخاطبون بأصولها أولاً وقبل كل شيء وما روي من حديث أبن عمر مرفوعاً، وموقوفاً (من أشرك بالله فليس بمحصن) ورجح الدر قطني وغيره الوقوف، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده على الوجهين.
وقد أجاب الحنفية، والمالكية، عن الحاديث التي تدل على جواز رجم غير المسلم، بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمضى حكم التوراة على أهلها، ولم يحكم عليهم بحكم الإسلام. وقد كان ذلك عند مقدمة المدينة، وكان إذ ذاك مأموراً بأتباع حكم التوراة ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} فقد شرع الله هذا الحكم الوارد في الآية الشريفة بالنسبة إلى نساء المسلمين فقط.
قال الشوكاني: - ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف، ونصب فعله في مقابلة أحاديث الباب من الغرائب، وكونه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك عند معدمه المدينة لا ينافي ثبوت الرعية، فإن هذا حكم شرعه الله لهل الكتاب، وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طريق لنا إلى ثبوت الحكام التي توافق أحكام الإسلام إلا بمثل هذا الطريق، ولم يتعقب ذلك في شرعنا ما يبطله، ولا سيما وهو مأمور بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ومنهي عن اتباع أهوائهم كما صرح بذلك القرآن الكريم. وقد أوه صلى الله عليه وسلم، يسألونه عن الحكم، ولم يأتوه ليعرفهم شرعهم فحكم بينهم بشرعه ونبههم على أن ذلك ثابت في شرعهم كثبوته في شرعه، ولا يجوز أن يقال: إنه حكم بينهم بشرعهم مع مخالفته لشرعه، لأن الحكم منه عليهم بما هو منسوخ عنده لا يجوز على مثله، وإنما أراد إلزامهم الحجة.
غيرة المسلم على عرضه
إن الإسلام قد حارب الزنا من أول وهلة فدعا الناس إلى العفاف والتمسك بالطهر والفضيلة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عفوا تعف نساؤكم) ورغب في التزوج بالنساء المصونات الصالحات العفيفات الحافظات لفروجهن فقال تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} وقال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} وقال صلى الله عليه وسلم: (خير النساء الودود الولود التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنه حفظتك في مالك وعرضها) .(5/114)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولما ظهرت حادثة الإفك واتهم الناس السيدة عائشة رضي الله عنها وهي الطاهرة البريئة أنزل الله تبارك وتعالى براءتها في الفران الكريم ودافع عنها بخمسة عشرة آية في سورة النور حتى يطهر ساحتها ويظهر للعالم براءتها من هذه الفاحشة المنكرة، ودافع الله عز وجل عن السيدة مريم أم سيدنا عيسى من تهمة الزنا في عدة آيات من كتاب الله تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها} وقال تعالى: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} وقال تعالى: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} ودافع الله تعالى عن التهمة التي قالها بنو إسرائيل على سيدنا موسى فقال تعالى: {فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً} حتى تظل ساحتها طاهرة وشرفه محفوظاً أمام قومه.
وقد نهى النبّي صلى الله عليه وسلم عن السكوت عن المنكر إذا علم به المرء في زوجته أو أهل بيته أو شك في سلوكهن فإن السكوت على المنكر من أفظع الأمور التي تضيع كرامة المرء في الدنيا وتوجب العقاب الشديد في الآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) والديوث هو الذي انعدمت شهامته وغيرته على عرضه فأصبح لا يبالي بمن يدخل على أهل بيته ومن يخرج ولا يهمه سلوك نسائه وبناته بك يسكت على المهانة ويرضى بالدون ويقر الخطيئة في أهله فهذا من أبغض الناس عند الله يوم القيامة ولن تنفعه عبادة، ولا طاعة ولا قربة يتقرب بها إلى الله ما دام فيه هذا الداء الخطير.
روى الإمام أحمد واللفظ له والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة، مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث الذي يقر في آهل الخبث) . وروى الطبراني بسند صحيح قال الحافظ المنذذري: لا أعلم فيه مجرحاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي بمن يدخل على أهله. قيل: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال) .
كل هذه القضايا التي ذكرناها في هذا الباب والتي تركناها ولم نذكرها خوفاً من الإطالة والملل لنقيم الدليل على أن جريمة الزنا من أفحش الأمور ومن أخطر الجرائم على الأفراد والأسر والجماعات، وعلى أنها سبب في ضياع الأموال وانتشار الخمور وقتل الأنفس وفساد المجتمع، وأنها توقع العداوة والبغضاء بين صفوف المؤمنين وتوهن من قوتهم وتضعف من عزيمتهم وتسلبهم العزة والكرامة والمروءة أركانه، فلا تتعجب من اهتمام الشارع بهذه الجناية وتحريم مقدماتها من النظرة المريبة ولمس المرأة الأجنبية وسماع صوتها، والخلوة بها وغير ذلك حتى يسد الباب عن الوقوع في الزنا.
ولا تتعجب من سن الشارع هذا الحد الرادع من جلد مائة جلدة، وضرب المحصن(5/115)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بالحجارة حتى يموت، وعدم الشفقة والرحمة بهم، وتشريع اللعان وتحريم القذف، وإقامة الحد على القاذف، حتى تحفظ على الناس أعراضهم ويبقى المجتمع في أمن وسلام وسعادة واطمئنان، ولا تنس أن أول جناية قتل حصلت في الوجود بعد أن خلق الله الأرض وعمرها سيدنا آدم إنما هي من جراء شهوة الفرج ومن أجل النساء وهي قضية قابيل وهابيل.
فائدة
قال الله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} قال المفسرون: يحتمل أن يكون المراد أن لا تأخذكم رأفة بأن يعطل الحد أو ينقص منه، والمعنى لا تعطلوا حدود الله، ولا تتركوا إقامتها للشفقة والرحمة، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير.
وقيل: يحتمل أن لا تأخذكم رأفة بأن يخفف الجلد، ويحتمل كلا الأمرين، والأول أولى لأن الذي تقدم ذكره في الآية الشريفة، الأمر بنفس الجلد، ولم يذكر صفته، فما يعقبه يجب أن يكون راجعاً إليه، وكفى برسول الله أسوة في ذلك حيث قال: (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) . ونبه بقوله: (في دين الله) على أن الدين إذا أوجب أمراً لم يصح استعمال الرأفة في خلافه.
وأما قوله تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} فهو من باب التهييج والتهاب الغضب لله تعالى ولدينه. قال الجبائي تقدير الآية: {إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود} وهذا يدل على أن الاشتغال بأداء الوجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة. والجواب عليهم: أن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه أن الأولى أن لا تقام تلك الحدود - كما ظن بعض الجهلة - وحينئذ يكون منكراً للدين فيخرج عن الإيمان بهذا الفهم الخاطىء، ورد في الحديث (يؤتى بوال نقص من الحد سوطاً، فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم مني، فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطاً، فيقال له: لم فعلت ذلك؟ فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيقول أنت أحكم بهم مني، فيؤمر به إلى النار) .
وجوب الستر على من وقع في هذه الجريمة
اتفقت كلمة العلماء على أن الجريمة التي لم يصل خبرها إلى الحاكم، لا يقام من أجلها حد، وأن الجريمة التي علم بها الحاكم، ولم تثبت لديه بالإقرار، او بشهادة الشهود لا يقام الحد عليها، لما روي عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت راجماً أحداً بغير بينة رجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها، ومن يدخل عليها) رواه أبن ماجة، ومعنى (ظهر منها الريبة) أي أنها كانت تعلن بالفاحشة، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة أو إقرار.
وفي قصة هلال بن أمية حين لاعن زوجته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أتت به على الصفة الفلانية فهو لشريك بن السحماء، وإن أتت به على الصفة الفلانية، فهو لزوجها هلال بن أمية) ولما أتت بالولد على الوجه المكروه قال صلى الله عليه وسلم: (لولا الإيمان لكان لي ولها شأن) .(5/116)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
واتفقت كلمة الأئمة على أن من أقر بحد من الحدود أمام الحاكم، ولم يفسرهن فلا يطالب بتفسيره وبيانه ولا يقام عليه الحد، إن لم يثبت ويتعين، لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، فلم يسأله، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقم في كتاب الله قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم. قال فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو حدك) قال النووي في شرح مسلم، هذا الحديث معنا أنه فعل معصية من المعاصي الموجبة للتعذير، وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة، ولو أنها موجبة لحد أو غيره لم تسقط بالصلاة، فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الوجبة للحدود، لا تسقط حدودها بالصلاة. وحكى القاضي عياض عن بعضهم أن المراد الحد المعروف قال: وإنما لم يحده لأنه لمس يفسر موجب الحد ولم يستفسره النبي صلى الله عليه وسلم إيثاراً للستر، بل استحب تلقين الرجل صريحاً.
لأن الإسلام أمر بالستر على الأعراض حتى لا تشيع الفاحشة بين المجتمع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من ستر عورة مسلم، ستر الله عورته يوم القيامة) وقال: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا مؤودة) رواه أبو داود. وقد جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده بالزنا، واعترف بجنايته فرده النبي (أربع مرات عسى أن يتوب، ويستر نفسه، ولا يرجع إليه) .
وروي عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم يقال له: هزال - وقد جاء يشكو رجلا، بالزنا - وذلك قبل نزول حج القذف -: (يا هزال لو سترته بردائك كان خيراً لك) وذلك كناية عن عدم إذاعة هذه الفاحشة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة) .
أخرج الحاكم والبيهقي في صحيحيهما: أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ارتحل من المدينة المنورة إلى عقبة بن عامر - أمير مصر - في ذلك الوقت، فخرج إليه فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر مؤمناً في الدنيا على عورة ستره الله يوم القيامة) فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم قفل راجعاً إلى المدينة. والشاهد إذا رأى الجريمة بعينه فهو مخير في أداء الشهادة حسبة لله تعالى وغيرة على حدوده، ومحارمه أن تنتهك فقد ورد في الحديث الشريف (الحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً) أو ترك الشهادة رغبة في الستر على أخيه الممن وعدم إشاعة الفاحشة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة) ولآن الله يحب الستر على عباده، ويكره إشاعة الفاحشة وفضيحة المسلمين، بل نفر من شيوع خبرها والحديث عنها، والميل إلى(5/117)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إشاعتها، فقال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} .
ستر المسلم على نفسه
إن الإسلام قد أوجب على المسلم إذا وقع في ذنب من هذه الكبائر، أن يقلع عن الذنب ويتوب إلى الله تعالى، ويستر على نفسه، ولا يفضحها بالتحدث بالذنب أما الناس، والتجاهر بالمعصية. وقد روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى) ذلك لأن المجاهرة بهذه الفاحشة تبجح في عصيان الله تعالى، واستهتار بمحارمه، وجليل على انهيار المجتمع وانحلالهن وضياع الحياء من أفراده، لأن المخطئ لابد أن يكون عنده بقية من حياء يمنعه من الإعلان عن خطئه بين الناس، وحجبه عن المجاهرة بذنبه في المجتمع الذي يعيش فيه، وخلع برقع الحياء مع الله عز وجل، فالإنسان إذا فقد الحياء من الله وأما الرأي العام كان خطراً على نفسه وعلى الناس جميعاً لأنه فقد أعز شيء لديه، ولن في المجاهرة بالمعصية إشاعة للفساد وتحرضاً عليه، وحملا، للغير على اقترافه، كالمريض الذي يخالط الصحيح، فلا شك أن يعديه وينقل أثر المرض إليه، ولهذا ندبنا الشارع الحكيم، وعلمنا رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عله أن الواحد منا إذا وقع في معصية أن يكتم على الخبر، ويعتصم بالستر، ويطلب من الله المغفرة، ولا يحدث أحداً عما وقع منه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى من هذه القاذورات (المنكرات) فليستتر بستر الله عز وجل) ، وقد شدد الإسلام النكير على المتجاهرين بالمعصية، وجعلهم من المحرومين من مغفرة الله وعفوه ورحمته.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل العبد عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا, قد بات ستره الله عز وجلن ويصبح يكشف ستر الله عليه عنه) . أما أرباب الحياء والدب من الله تعالى الذين يتركون الذنوب ويكتمون على أنفسهم، ولا يحدثون الناس بهفواتهم ويندمون عما حدث منهم من المعاصي (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس وقرره بذنوبه فيقول أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) رواه الإمام أحمد.
الحدود كفارات لأصحابها
اتفقت كلمة العلماء على أن الحدود كفارات لأربابها، لأن في إقامتها كسراً لشوكة الظالمين وإخافة لهل الشر والمفسدين، وحفظاً للمجتمع من الدمار، والهلاك، والفساد، والضياع لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استحلت أمتي خمساً فعليهم الدمار، إذا ظهر(5/118)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
التلاعن، وشربوا الخمر، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيان، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء) رواه الترمذي، والبيهقي.
فإقامة الحدود على من وقع فيها تكفر ذنبهن وترفع عنه العقاب في الدار الآخرة، لأن الله تعالى لا يجمع على عبده عقابين على ذنب واجد، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن المرأة الغامدية التي وقعت في الزنا ثم ندمت واعترفت بين يديهن وأقيم الحد عليها (لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أنها جادت بنفسها لله تعالى) .
وكما روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه أقسم على ماعز بن مالك السلمي الذي أقر بالزنا وندم على ذنبه، وأقيم عليه الحد وجم بالحجارة، بأن الله غفر له ذنبهن وأدخله الجنة، وتاب عليه توبة صادقة، وان إقامة الحد عليه كان فارة له فقال صلى الله عليه وسلم لمن اعترض عليه (والذي نفس بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها) . وروى عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه، ,إن شاء عذبه) زاد في رواية (فبايعناه على ذلك) رواه الخمسة إلا أبا داود.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم (فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له) صريح في أن الحدود كفارة الذنوب. وجوابر للمحدود لا زاجرات فقط، وقد ورد في رواية للترمدذي رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة) قال الإمام الشافعي رحمه الله لم أسمع في الحدود حديثاً أبين من هذا، وقد روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (وما يدريك لعل الحدود نزلت كفارة للذنوب) فهذه الرواية تشبه الحديث السابق وتؤيده في معناه. فإقامة الحدود مطهرات للنفوس من الذنوب والخطايا، وللمجتمع من الفساد والضياع، وهذا هو رأي جمهور العلماء من السلف، وعليه الأئمة الأربعة رحمهم الله تبارك وتعالى وذهب بعضهم إلى أن الحدود زواجر فقط، وعليه العقاب يوم القيامة. ولكن الراجح هو الرأي الأول وهو اللائق بالكرم الإلهي، والفيض الرباني، وهو الذي أخبر به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
التحريم بالمصاهرة
الحنفية - قالوا: إن حرمة المصاهرة تثبت بواحد من الأمور الآتية وهي:
- 1 - العقد الصحيح
- 2 - الوطء الحلال
- 3 - الوطء بالنكاح الفاسد، وكذا الوطء بشبهة.(5/119)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
- 4 - اللمس بينهما بشهوة.
- 5 - النظر إلى بشهوة، ولا يثبت بالنظر إلى سائر الأعضاء، أو الشعر ولو بشهوة.
- 6 - وتثبت الحرمة بالزنا، أو اللمس، أو النظر بشهوة بدون نكاح، والمراد بالشهوة هو، يشتهي بقلبه، ويعرف ذلك بإقراره، وقيل: يصحب ذلك تحرك الآلة وانتشارها والدليل على ذلك ما روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (من نظر إلى فرج امرأة لم تحل أمها ولا بنتها) وفي رواية (حرمت عليه أمها، وبنتها) . وبما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ملعون ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها) فمن زنا بامرأة أو وطئها بشبهة حرمت عليه أصولها، وفروعها، وتحرم الموطوءة على أصول الواطىء وفروعه، وكذلك اللمس بشهوة من الجانبين، والنظر إلى الفرج من الجانبين، والمعتبر إنما هو لنظر إلى فرجها الباطن، دون الظاهر، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {ولاتنكحوا لما نكح آباؤكم من النساء} والحمل على الوطء أولى، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من نظر إلى فرج امرأة بشهوة، أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، وحرمت على ابنه وأبيه) وحرمة ماء الزنا كحرمة الماء الحلال سواء بسواء في النكاح. المالكية - قالوا: إن الزنا بالبنت لا يحرم أمها على الزاني، كما أن الزنا في الأم لا يحرم بنتها عليه، والبنت المخلوقة من ماء الزنان لا تحرم على من خلقت من مائه، ولا على أصوله وفرعه، سواء كانت أمها المزني بها مطاوعة، أم كرهاً، وسواء تحقق الرجل أنها من مائه، أم لا، فهي أجنبية عنه، ولا حرمة لماء الزنا، ولكن يكره للزاني أن يتزوجها من باب الاحتياط فقط، وتحري الحلال في النكاح، وإنجاب الذرية الصالحة.
الحنابلة - قالوا: إن الوطء الحرام كالوطء الحلال كلاهما تثبت به حرمة المصاهرة، فمن زنى بامرأة حرمت على أبويه، وحرمت عليه أمها وبناتها، ولو وطئ أم امرأته حرمت عليه ابنتها، ووجب مفارقتا، وكذلك لو وطئ بنت زوجته حرمت عليه أمها (وهي زوجته) وقالوا: بحرمة نكاح الرجل ابنته من الزنا مثل الحنفية. روي أن رجلاً سأل النبي عن امرأة كان زنا بها في الجاهلية: أينكح الآن ابنتها؟ فقال: (لا أرى ذلك ولا يصلح لك أن تنكح امرأة تتطلع على ابنتها على ما اطلعت عليه منها) فقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم زواجها، وهذا نص في الباب
فالذكر من العبيد إذا زنى يجلد مائة جلدة، والأمة إذا ثبت عليها الزنا تجلد خمسين جلدة. واحتج الأئمة الأربعة على أن الأمة غير المتزوجة يقام عليها الحد بحديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنهم (أن النبّي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة زنت، ولم تحصن فقال: (إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو يضفير - أي بحبل مضفور - قال أبن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة، أو الرابعة، متفق عليه) .(5/120)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أحكام بنت الزنا
قال العلماء: البنت المتولدة من الزنا أجنبية عن الزانين فلا ترثه إن مات قبلها، ولا تنسب إليه، ولا يجب عليه الإنفاق عليها، ولا يجوز له أن يختلي بها، ولا يملك عليها ولاية التزوج، أي لا يكون ولياً عليها، ولا يصح له أن يرثها إن ماتت قبله وتركت مالاً، فهي في المحرمات والميراث أجنبية عنه، وفي حكم الزواج والمصاهرة، قريبة منه، لا يصح زواجها ولا مصاهرتها، ولا نكاح أصولها وفروعها، ولا يصح لها أن تتزوج منه ولا من أصوله وفرعه، وذلك هو القول الراجح، وساء تأكد إنا من مائه، أو شك في ذلك ما دام قد زنى بأمها، وجاء الحمل بها في أثناء الاتصال بالزنا، فترجح كفة أنها خلقت من ماء الزنا.
أضرار الزنا
لقد لخص العلماء أضرار الزنا بعد فهم الآيات والأحاديث الواردة في هذا الشأن بما يأتي:
أولاً: أن الزنا يذهب نور الإيمان من قلب الزاني (حين يزني) ، ومات ولم يتب من ذنبه.
ثانياً: أن فاحشة الزنا اشد من القتل والسرقة وغيرهما، ولذلك أبيح قتل مرتكبها إن كان محصناً.
ثالثاً الزنا نذير الرعب والفزع - ولا يستجيب الله دعاء الزاني المدمن على الزنا.
رابعاً: تشتعل نار جهنم في وجهه يوم القيامة عقوبة له.
خامساً: يرمي الله الزاني في داخل فرن مشتعلة في وسط نار جهنم يصهر جسمه، ويحرق بدنه.
سادساً: رائحتهم في وسط نار جهنم تكون نتنة قذرة مثل المراحيض - حتى يتأذى منها أهل النار.
سابعاً: يمحو الله اسم الزاني من سجل الطاهرين الأبرار، ويطرد من حظيرة المؤمنين الخيار.
ثامناً: لا ينظر الله عز وجل يوم القيامة إلى الزناة نظرة رحمة ورضا، وإنما ينظر إليهم نظرة غضب.
تاسعاً: يحرم الله الجنة على الزاني الذي استحل الزنا ومرن عليهن واستمرأه ولم يتب منه، فلا يشم رائحة الجنة.
عاشراً: انتشار الزنا يسبب وجود ذرية فاسدة مخزية تؤذي المجتمع وتهدمه وتجلب له الدمار.
الحادي عشر: إذا ظهر الزنا في قرية فإن الله تعالى أنذرهم بالخراب والهلاك والدمار كما فعل بقوم لوط.
الثاني عشر: الزنا يكون سبباً في الفضيحة والعار في الدنيا والآخرة
الثالث عشر: الممتنع عن الزنا خوفاً من عذاب الله تعالى، يظلله الله في ظله يوم القيامة، ويعفو عنه ويسامحه، وينجيه من الأهوال.(5/121)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الرابع عشر: البعد عن ارتكاب فاحشة الزنا، خشية من الله تعالى، يزيد في الرزق، ويجلب الخير، ويجعل في وجه المؤمن مهابة، وبهاء، ونوراً والله تعالى أعلم.
حكم المخنث
المخنث: هو الذي يشبه في كلامه النساء تكسراً وتعطفاً، أو الذي يتشبه بالنساء في ثيابهن وزينتهن، كما يفعل بعض الشبان في هذا العصر، من ترك الشعور، وإرخاء السوالف ولبس حلي النساء، وبعض ثيابهن، وترقيق أصواتهم في التحدث وغير ذلك، وقد اتفقت كلمة العلماء على أن المخنث يجب نفيه من بلاد المسلمين إلى مناطق نائية مسيرة قصر، عقاباً لهم حتى يشعر الواحد بالوحشة والحسرة لبعده عن أهله وقرناء السوء، فقد قال العلماء: لا ينفى إلا ثلاثة، بكر زان، ومخنث، ومحارب. أما إذا كان المخنث يؤتى من الخلف فإنه يحد رجماً بالحجارة حتى يموت. ولا ينفع فيه النفي إذا ثبت عليه، فقد روي عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء. وقال: أخرجوهم من بيوتكم واخرج فلاناً واخرج عمر بن الخطاب فلاناً رواه البخاري رحمه الله.
وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال هذا؟ فقالوا يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى البقيع، قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: إن نهيت عن قتل المصلين) رواه أبو داود.
فقال العلماء: يجوز للإمام أن يعزر المخنث بما يراه رادعاً له وزاجراً عن الوقوع في الذنب ويجوز له نفيه إلى بلج لآخر مسيرة سفر، وذلك إذا لم يثبت عليه اللواطة باعتراف، أو شهادة شهود، كما ثبت في الحديث النبوي الشريف. وروي أن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، كتب إلى أبي بكر أني وجت رجلاً في تبعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم وسألهم في هذا الشأن فكان من أشدهم في ذلك قولاً سيدنا على بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه. فقال: هذا ذنب لم يعص به إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما علمتم، نرى أن نحرقه بالنار. فاجتمع رأي الصحابة على ذلك فأمر سيدنا أبو بكر خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار، وذلك بعد رجمه وإقامة الحد عليه، وموته، لأن التحريق بالنار لا يجوز لمخلوق. والنبي صلى الله عليه وسلم حرم التعذيب بالنار حتى في الحيوان الأعجم. روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: (إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش سماهما، فأحرقوهما بالنار، ثم قال رسول الله ين أردنا الخروج: إن كنت(5/122)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أمرتكم أن تحرقوا فلاناً، وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما) . رواه البخاري رحمه الله.
حكم نكاح الزانية
الحنفية، والشافعية - قالوا: إذا زنى رجل بامرأة يجوز له أن يتزوجها، بعد ذلك بعقد صحيح وذلك لآن ماء الزنا لا حرمة له، ولما روي أن رجلاً زنى بامرأة في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة، لأنهما كانا غير مصنين، ثم زوج أحدهما من الآخر، ونفاهما سنة، وروي مثل ذلك عن عمر، وأبن مسعود، وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم، وقال أبن عباس رضي الله عنهما في هذا الحكم: أوله سفاح، وآخره نكاح والنكاح مباح فلا يحرم السفاح النكاح، ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة، فما سرق حرام، وما اشترى حلال.
المالكية - قالوا: إذا زنى الرجل بالمرأة فلا يصح له أن ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، لأن النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح، فيختلط الحلال بالحرام ويمتزج ماء المهانة بما بماء العزة، ولأن الله تعالى يقول: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} ثم قال {وحرم ذلك على المؤمنين} . وقد وري عن أبن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً) فإن الله تعالى يقول: {وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} فأباح نكاح غير المسافحين وأبطل نكاح غيرهما. واتفقوا على أنه إذا عقد عليها، ولم يدخل بها حتى أستبراها من مائه الحرام فإن ذلك جائز، وروي عن عائشة رضي الله عنهما أنها سئلت عن رجل زنى بامرأة ثم تزوجا، فكرهته.
الحكم إذا زنت الزوجة أو الزوج
احتج جماعة من العلماء بقول الله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} . فقالوا: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها، ووجب عليه أن يفارقها. وقال بعضهم: لا يفسد النكاح بذل ولا ينفسخ العقد بالزنى من أحدهما ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا وقعت الزوجة في الزنا، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية التي اشتهرت بذلك ولا يجوز التزوج من الزاني الذي يتظاهر بالفاحشة، واشتهر بها، إلا إذا ظهرت التوبة الصادقة عليه.
وقالوا: من كان معروفاً بالزنى أو بغيره ن الفسوق معلناً به، مستهتراً بمحارم الإسلام، فتزوج(5/123)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
من أهل بيت محافظين، وغرهم من نفسه، ثم علموا بذلك فلهم الخيار في البقاء معه، أو فراقه، وأصبح ذلك كعيب من العيوب التي تفسخ العقد، واحتجوا بقول صلى الله عليه وسلم (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله) أما من لم يشتهر بالفسق فلا يصح أن يفرق بينه وبين زوجه. وقال بعضهم: إذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الرجل لم فسد نكاحه مع زوجته. وقالوا إن الآية منسوخة - وروي أن رجلاً سأل الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال: طلقها، فقال: إني أحبها، فقال: أمسكها) ,
حكم نكاح المتعة
المتعة - كما في كتب الإمامية - هي النكاح المؤقت بأمد معلوم، أو مجهول، وغايتاً إلى خمسة وأربعين يوماً، ويرتفع النكاح بانقضاء المؤقت في المنقطعة الحيض وبحيضتين في الحائض، وبأربعة أشهر وعشر في المتوفى عنها زوجها، وحكمه: أنه لا يثبت لها مهر غير المشروط ولا يثبت لها نفقة ولا توارث ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر، ولا يثبت به نسب، إلا أن يشترط، وتحرم بسببه المصاهرة. وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في نكاح المتعة في صدر الإسلام للضرورة ثم نهى عنها، واستمر النهي، ونسخت الرخصة، وإلى نسخها ذهب الجماهير من السلف والخلف. قال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين، فكانت المتعة مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس، ثم حرمت تحريماً مؤبداً، والى هذا التحريم ذهب أكثر الأمة. روي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها) . رواه مسلم. وعن علي رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر) متفق عليه. قال الإمام البخاري: بين على رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ، وأخرج أبن ماجة عن عمر بإسناد صحيح أنه خطب فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، والله لا أعلم أحداً تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة، وقال أبن عمر: (نهانا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كنا مسافحين) إسناده قوي.
وقال الصنعاني: والقول بأن إباحتها قطعي، ونسخها ظني غير صحيح، لأن الراوين لإباحتها، رووا نسخها، وذلك إما قطعي في الطرفين، أو ظني في الطرفين جمعياً، وفي نهاية المجتهد: إنها تواترت الأخبار بالتحريم اهـ) .
-(5/124)
مبحث حد اللواط
-أما اللواط فإنه من الجرائم الخلقية التي لا تليق بالنوع الإنساني، وفطرته التي فطره الله عليها. فاللواط فيه عدوان ظاهر على الإنسانية، وخروج عن سنن الله الطبيعية، ولهذا سماه الله فاحشة كالزنى، قال تعالى: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} : فمن ارتكب هذا الفعل الشائن فقد اختلفت فيه آراء الأئمة: فمنهم من قال: إنه يعاقب عقوبة الزاني وهي الإعدام. إن كان محصناً، أما الموطوء فعقوبته الجلد كالبكر، لأنه لا يتصور فيه إحصان. ومنهم من يقول: إن عقاب اللائط من باب التعزير، لا من باب الحد، فعلى القاضي أن يحبسه، أو يجلده، بما يراه رادعاً له عن الجريمة، فإذا تكررت منه، ولم يزدجر عزر بالإعدام (1)
__________
(1) (اتفق الأئمة عليهم رضوان الله تعالى، على تحريم اللواط في نظر الشرع، وعلى أنه من الفواحش العظام، بل إنه لأفحش من جريمة الزنا، وإنه كبيرة من الكبائر، وذلك للأحاديث المتواترة في تحريمه، ولعن فاعله. ولكنهم اختلفوا في تحديد البينة على إثبات جريمته.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إن البينة على اللواط مثل البينة على إثبات الزنا، فلا يثبت إلا بشهادة أربعة من الرجال العدول، ليس فيهم امرأة، يرون الميل في المكحلة.
الحنفية - قالوا: إن بينة اللوط غير بينة الزنا، لأن ضرره أخف منه، وجنايته اقل من جنايته، حيث لا يترتب على اللواط اختلاط النساب، ولا هتك الأعراض.. فثبتت البينة بشاهدين فقط، فلا يلحق بالزنا إلا بدليل، ولم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة فبقي الحكم على الأصل مثل باقي الأحكام والشهادات.
واختلف الأئمة في اللواط هل يوجب الحد أم التعزيز؟
المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: إن اللواط إذا ثبت يوجب الحد لكنهم اختلفوا في صفة الحد، قياساً على حكم الزنا، بجامع إيلاج فرج محرم، في فرج محرم.
المالكية، والحنابلة، وفي رواية عند الشافعية - قالوا: إن حد اللوط الرجم بالحجارة حتى يموت، الفاعل والمفعول به، بكراً كان أو ثيباً، ولا يعتد فيه بالإحصان وشرائطه المذكورة في حد الزنا، أو يقتلان بالسيف حداً، واحتجوا على رأيهم بأن التلوط نوع من أنواع الزنا، لأنه إيلاج فرج في فرج بشهوة ولذة، فيكون اللائط والملوط به داخلين تحت عموم الأدلة الواردة في الزاني المحصن والبكر الزاني.(5/125)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه (اقتلوا الفاعل والمفعول به) وقول صلى الله عليه وسلم (اقتلوا الأعلى والأسفل) وبما أخرجه البيهقي من حديث سعيد بن جبير، ومجاهد عن أبن عباس رضي الله عنهم أنه سئل عن البكر يوجد في اللواط، قال: (يرجم) وقال صلى الله عليه وسلم (اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أم لم يحصنا) رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وروى حماد بن إبراهيم، عن إبراهيم - يعني النخعي - قال: لو كان يستقيم أن يرجم مرتين لرجم اللوطي) وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى الرجل الرجل فهم زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) .
وقالوا: إن هذا الفعل زنا، يتعلق به حد الزنا بالنص، فأما من حيث الاسم فلأن الزنا فاحشة، وهذا الفعل فاحشة بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى في شأن قوم لوط {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} ومن حيث المعنى - إن الزنا فعل معنوي له غرض، وهو إيلاج الفرج في الفرج على وجه محظور لا شبهة فيه، لقصد اللذة، وسفح الماء وقد وجد ذلك كله في اللواطه، فإن القبل والدبر كل واحد منهما فرج يجب ستره شرعاً، وهو عورة في الصلاة وخارجها، ويحرم النظر إلى واحد منهما، ولك واحد منهما مشتهى طبعاً، متلذذ بلمسه، ورؤيته، ونكاحه، حتى إن من لا يعرف الشرع لا يفصل بينهما. وقد نشرت الجرائد في العام الماضي أن مجلس الشيوخ الإنكليزي أصدر قانون يجيز زواج الرجل بالرجل، وإجراء العقد عليه، ومعاشرته معاشرة الزوجة، ونشرت صورة تثبت عقداً أجري في الكنيسة لذلك، وهذا من سخرية القدر وانحطاط النفوس - والعياذ بالله تعالى -. والمحل إنما يصير مشتهى طلباً لمعنى الحرارة واللين، وذلك لا يختلف بلا قبل والدبر، ولهذا أوجب الشارع الاغتسال بنفس الإيلاج في الموضعين، ولا شبهة في تمحيص الحرمة هنا، لأن المحل باعتبار الملك، ويتصور هذا الفعل مملوكاً في القبل، ولا يتصور الملك في الدبر، فكان تمحيص الحرمة هنا أبين وأظهر، حيث لا توجد شبهة ملك بحال، وكذلك معنى سفح الماء هنا أبلغ منه في قبل المرأة، لأن المحل هناك ينبت الولد، فيتوهم أن يكون الفعل حرثاً، وإن لم يقصد الزاني ذلك، ولا توهم في اللواطة، فكان تضييع الماء هنا أبين، وليس هذا القول على سبيل القياس، فالحد في القياس لا يثبت، ولكن هذا إيجاب الحج بالنص، وما كان اختلاف اسم المحل إلا كاختلاف اسم الفاعل.
الشافعية في رواية - قالوا: حده مثل حد الزنا فيعتبر فيه الإحصان، وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة، والنخعي، والثوري، والأوزاعي، وأبو طالب، والإمام يحيى، رحمهم الله قالوا يجلد البكر ويغرب، ويرجم المحصن منهما حتى يموت لأنه نوع من الزنا.
الحنفية - قالوا: لا حد في اللواط، ولكن يجب التعزير حسب ما يراه الإمام، رادعاً للمجرم، فإذا تكرر منه الفعل، ولم يرتدع، أعدم بالسيف تعزيراً، لا حداً، حيث لم يرد فيه نص صريح. قال الشوكاني رحمه الله في التعليق على هذا الرأي: ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة(5/126)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المذكورة، في خصوص اللواط، والدلة الواردة في الزاني على العموم، من الآيات والحاديث المتواترة في ذلك. أبو يوسف، والإمام محمد من الحنفية - خالفوا الإمام الأعظم في هذا الرأي، فقالوا: إن اللواطه فضاء للشهوة. وربما وصلت عند تعض الرجال إلى شهوة النساء من غير تفريق، فهي شهوة في محل مشتهى على وجه الكمال. لذلك يجب إقامة حد الزنا عليهما فيجلد البكر، ويرجم الثيب المحصن المستوفي لشروط الإحصان، وأن الله تعالى سمى قوم لوط لارتكابهم هذه الفعلة الشنيعة (مفسدين) والمفسد عقابه القتل والعذاب الأليم، قال تعالى: {قال رب انصرني على القوم المفسدين} آية 30 من سورة العنكبوت. قال الصاحبان: اتفق الصحابة رضوان الله عليهم أنه لا يسلم لهما أنفسهما، وإنما اختلفوا في كيفية تغليط عقوبتهما، فأخذنا بقولهم فيما اتفقوا عليه، رجحنا قول الإمام علي رضي الله عنه، بما يوجب عليهما من الحد
رأي الصحابة في عقوبة اللواط.
لقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية حد اللواط بعد اتفاقهم على إقامته. أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - قال: يقتلان بالسيف حداً ثم يحرقان بالنار، زجراً لهما، وتخويفاً لغيرهما، وهو رأي الإمام علي كرم الله وجهه، وكثير من السحابة رضي الله عنهم. قال الحافظ المنذري: حرق اللوطية بالنار أبو بكر، وعلي، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم، وهشام بن عبد الملك، وذلك بعد قتلهما بالسيف أو الرجم بالحجارة. وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيباً يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يصلي من العقوبة بما يكون في اشدن، والشناعة مشابهاً لعقوبتهم، وقد خسق الله بهم القرى وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، واستأصل بذلك العذاب بكرهم ومحصنهم، وصغيرهم، وكبيرهم، ونسائهم وجالهم جزاء ارتكابهم هذه الفاحشة وسماهم القرآن ظلمة، ظلموا أنفسهم وظلموا الإنسانية كلها بهذا العمل الشنيع، فقال تعالى في كتابه العزيز: {فما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها، وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عنند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} . آية 81، 83 من هود.
وروي عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ينكان من مان مرتفع مثل جبل شاهق، أو بناء مرتفع ويهدم عليهما الجدار ويتبعان بالأحجار حتى يموتا، كما حصل لقوم لوط.
وروي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه أنه قال: يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا.(5/127)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولكن الراجح من هذه الآراء أن حده الرجم مطلقاً، بكراً أو ثباً.
فإن الله تعالى شرع فيه الرجم على الأمم السابقة فقال تعالى في شأن قوم لوط: {لنرسل عليهم حجارة من طين} ولأن القرآن الكريم سماهم فسقة خارجين عن حدود الدين، وتعاليم الشارع الحكيم فقال تعالى: {بل أنتم قوم مسرفون} وقال تبارك وتعالى: {إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} آية 33 من العنكبوت ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اللائط، وأخبر عنه بأنه مطرود من رحمة الله تعالى فقد روى النسائي رحمه الله تعالى في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من عمل عمل قوم لوط) واللعن هو الطرد من رحمته، ولأن هذا المنكر من الفواحش التي تقوض دعائم الأمم، وتعلك المجتمع، وتفسد شبابه ونساءه، ولهذا كان الحد فيه مشدداً عن غيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مانقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت) وروى الترمدذي بسند صحيح أن غريب، وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استحلت أمتي خمساً، ععليهم الدمار: إذا ظهر التلاعن، وشربوا الخمر، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيان، والكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء) رواه البيهقي في صحيحه، ومثل هذا الحد ينطبق على من أى امرأة اجنبية في دبرها روى أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الذي عمل عمل قوم لوط فارجموا العلى، والأسفل، وارجموهما جميعاً) .
ولأن الله تعالى بين في قوم لوط أنهم خرجوا عن مقتضى الفطرة الإنسانية، وما اشتملت عيه من الغريزة الجنسية من الحكمة التي يثصدها الإنسان العاقلن والحيوان العجم، فسجل عليهم أنهم يتقون من عملهم هذا الشهون، ويقصدون اللذة وحدها، بل إنهم أخس درجة من العجماوات، وأصل سبيلاً، فإن ذكورها تطلب أناثها بدافع الشهوة لأجل النسل الذي يحفظ به نوع كل منه، فهو قصد شريف فإذا حملت النثى فلا يقربهان ولا ينزو الذكر على الذكر ابداً. ولهذا وصفهم الله تعالى بأنهم مسرفون، وأنهم مجرمونن وأنهم ظالمون، وانهم مرنوا على عمل السيئاتن قال تعالى: رأتأتون الذكران من العالمينن وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم، بل أنتم قوم عادون} آية 165، 166 من الشعراء وقال تعالى: {قال رب انصرني على القوم المفسدين، ولماجاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين} آية 30 و 31 من العنكبوت وقال تعالى: رإنانزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} آية 34 من العنكبوت وقال تعالى: {ولوطا اذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطراً، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} [آيات 80، 81، 82، 83، 48، من سورة الأعراف] .(5/128)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فإن عاقبة المجرمين لا تكون إلا وبالاً عليهم، ويستحقون أشد العذاب جزاء ما ارتكبوا هذه الفاحشة الشنيعة، روى الطبراني في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ظلم أهل الذمة، كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا، كثر السباء، واذاكثر اللواط رفع الله يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا) رواه جابر بن عبد الله النصاري رضي الله عنهما. فاللواط من السباب التي تودي بالأمم، وتهلك الشعوب، وتجعل أهلها محرمين من معونة الله وعنايته، لآنه يدعهم إلى انفسهم ويتركهم في شهواتهم يعمهون، ويرفع عنهم ولايته ومعونته، وتأييده ونصره. وروى الترمذي عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله عز وجل إلى رجل أتى رجلاً، أو امرأة في دبرها) رواه النسائي. وروى الطبراني في الوسط عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لاتقبل لهم شهادة أن لا إله إلا لله: الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر) .
اللواط يستوجب لعنة الله حقاً إن اللواط يستوجب لعنة الله وغضبه، ولعنة الملائكة، والناس أجمعين، لآنه فعل شاذ ينتافى مع العقل السليم، والذوق المستقيم ويدل على أن صاحبه قد خلع جلباب الحياء والمروءة، وتخلى عن سائر صفات أهل الشهامة، وتجرد حتى من عادات البهائم، بل أقبح وأفظع من العجماوات، فناهيك برذيلة تتعفف عنها الكلاب والحمر والخنازوير، فكيف يليق فعلها ممن هو في صورة كبيرة، أو غني أو عظيمن كلان بل هو اسف من قدره، وأشأم من خبةه ,انت، من الجيفة القذرة، وأحق بالشرور، وأولى بالفضيحة من غيره، وأهل للخزي والعار، فإن القاتل، والسارق، والزاني، لا يكون في نظر المجتمع مثل الائط بل يكونون أحسن منه حالاً، واشرف بالنسبة له لأنه خائن لعهد الله تعالى وما له من المانة فبعداً وسحقاً، وهلاكاً في جهنم ورئس المصير، ولهذا شدد علماء الإسلام في البعد عن هذه الجريمةن من إطالة النظر إلى الغلام الأمرد ولا سيما إن كان صاحب صورة جميلة. وبعضهم اشترط في تحريمها أن تكون بشهوة لأنها ذريعة للفاحشة، ومهيجة للشهوة الكامنة. عن الحسن بن ذكوان رحمه الله أنه قال: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صوراً جميلة كصورة النساء، وهم أشد فتنة من النساء. وعن النجيب بن السدي رحمه الله أه قال: كان يقال: (لايبيت الرجل في بيت مع الأمرد) ، وعن أبن سهل أنه قال: سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون، وهم على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل.(5/129)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وعن مجاهد أنه قال: لو أن الذي يعمل ذلك العمل (يعني عمل قوم لوط) اغتسل بكل قطرة نزلت من السماء، وكل قطرة في باطن الأرض، لم يزل نجساً حتى يتوب من ذنبه. وجاء رجل إلى مجلس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ومعه صبي حسن الوجهن جميل الصورة فقال له الإمام، من هذا منك؟ قال: أبن أختي، قال له، لا تجىء به هنا مرة ثانية، ولا تمشي معه في الطريق، لئلا يظن بك من لا يعرفك، ويعرفه. وجخل سفيان الثوري رحمه الله، الحمام العام، فدخل عليه صبي حسن الوجه، عاري الجسد، فصرخ، أغمض عينيه وقال: أخرجوه، فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً وأرى مع كل صبي أرد بضعة عشر شيطاناً. وذلك كله لأن ضرر هذه الفعلة الشنيعة من أخطر الأضارار على الرجال والنساء، بل على الفرد والمجتمتع، والإنسانية كلها، فنسأل الله الحفظ والعصمة أنه سميع الدعاء.
حرمة المصاهرة باللواط
الحنفية، والشافعية، المالكية - قالوا: بعدم تحريم المصاهرة بسبب اللواطة.
الحنابلة - قالوا: تثبت حرمة المصاهرة باللواطة مثل الزنان فمن لاط بولد يطيق الجماع، أو لاط برجل، حرم كل منهما على أم الآخر وابنته نصاً، لأنه وطء في فرج مشتهى ينشر الحرمة كوطء المرأة فتثبت حرمة المصاهرة عقاباً لهما. وقد لخص العلماء مضار اللواط فيما يأتي.
أولاً - جناية على الفطرة البشرية السليمة، لآن النفوس السليمة تستفحشه وتراه أقبح من الزنا لقذارة المحل.
ثانياً - مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوة، لأنها تنال بسهولة.
ثالثاً - تذل الرجال بما تحدثه فيهم من داء - الأبنة - ولا يستطيع أن يرفع رأسه بعد أن وضع نفسه.
رابعاً - تفسد النساء اللواتي تنصرف أزواجهن عنهن بسبب حبهم للواطة، فيقصورا فيما يجب عليهم من إحصانهن، وإشباع شهواتهن، فيعرضهن ذلك للتهاون في أعراضهن.
خامساً - قلة النسل، بانتشار هذه الفاحشة، لأن من لوازمها الرغبة عن الزواج والإعراض عن النساء.
سادساً - الرغبة في إتيان النساء في أدبارهن، وفي ذلك الفساد كل الفساد.
سابعاً - من يتعود هذه الفاحشة يميل إلى استمناء اليد، وإتيان البهائم، وهما جريمتان فبيحتان، شديدتا الضرر في الأبدان، مفسدتان للأخلاق، مضعيتان للصحة البدنية وهما محرمتان كاللواطة، والزنا، في جميع الملل والأديان، لما لهما من الأضرار الخطيرة المهلكة.(5/130)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ثامناً - إفساد الحياة الزوجية، وتفكك العائلات والأسر، وغرس العداوة والبغضاء.
تاسعاً - يحمل الشبان على الإضراب عن الزواج وتحمل مسؤولية الأسرة، وفي ذلك ما فيه من المفاسد المقوضة لدعائم المجتمع، لأن الحيان الزوجية فيها إحصان كل من الزوجين.
عاشراً - تسبب أضراراً خطيرة للفاعل مثل مرض الزهري والسيلان وغيرهما، وأضراراً للمفعول به، فتنزل منه الأشياء الكريهة من غير أن يستطيع إمساكها. وعلى العموم فإن أضرار هذه الفاحشة لا نستطيع حصرها لكثرتها وشناعتها، وخطورتها على الفرد والمجتمع.
فإنها نذير الرعب، وداعي الخيبة، ودليل السقوط، وسبب الدناءةن وفقدان الشهامة والنجدة، وتدعو إلى انتشار الأوبئة، والأمراض الخبيثة الفتاكةن وتجلب السل والصفرة وترفع رحنة الله، وتحل غضبه، وتوجب اللعنة والعقاب على الفاعلين والمفعولين، وتوجد الصغار في نفس اللائط، وترفع الحياء من الوجوه، وترد شهادة الفاعل والمفعول به، وتوجب عليهما اشد العقاب في الدنيا والدار الآخرة. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنفي المخنث من المدينة حتى لا يفسد مجتمعها واهتم الشارع الحكيم بالنهي عنها، وفرض العقاب الرادع لها. ووردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفر المسلمين من الوقوع فيها وتحذرهم من عواقبها الوخيمةن وتهول من شناعتهان وتبين لهم فظاعتها وخطرها الجسيم. عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله سبعة من خلقه من فوق سبع سمواته، وردد اللعنة على كل واحد منهم ثلاثاً، ولعن كل واحد منهم لعنة تكفيه، قال: ملعةن من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من أتى شيئاً من البهائم، ملعون من عق والديه، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غير حدود الأرض، ملعون من ادعى إلى غير مواليه) .
حرمة اتيان النساء في أدبارهن
اتفقت كلمة علماء المسلمين على أن من أتى امرأته، أو أمته، في دبرها وترك القبل فلا يقام عليه حد، حيث لم يرد من الشارع الحكيم حد في هذه الحالات.
ولكنهم قالوا: بأن من يعمل هذا العمل الشنيع يكون آثماً، مستوجباً للعقاب الأخروي حيث ارتكب فعلاً ممنوعاً شرعاً، غير مسموح بهن بل منهي عن الوقوع فيه والالتجاء إليه، فقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول المعصوم صولات الله وسلامه عليه تحرم إتيان النساء في أدبارهنن روى خذيمة بن ثابت، وأبو هريرة، وعلي بن طلق رحمهم الله تعالى كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تأتوا النساء في أدبارهن) .(5/131)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وروي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هي اللوطة الصغرى) يعني إتيان النساء في أدبارهن. وروى حماد بن سلمة عن حكيم بن الثرم عن أبي تميم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه، فقد كفر بما نزل على محمد) رواه الترمذي والإمام أحمد. وحدد القرآن مكان النكاح وهو القبل لأنه محل الحرث، والمكان الذي ينبت منه الولد، وحرم غيره، روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن اليهود قالوا للمسلمين فيمن أى امرأة وهي مدبرة - في قبلها. جاء ولده أحول، فأنزل الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا انكم ملاقوه وبشر المؤمنين} آية: 223 من البقرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مقبلة ومدبرة ما كان في المخرج) .
وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه. فقد روي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا إن الله لا يستحي من الحق، لا يحل لكم أن تأتوا النساء في حشوشهن) وروى الإمام أحمد عن خذيمة بن ثابت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها) (ومن طريق أخرى) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن) رواه النسائي وأبن ماجة من طريق خذيمة وروى الترمذي والنسائي عن أبن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى رجل أى رجلاً، أو امرأة في الدبر) ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وقال عبد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر بن طاوس عن ابيه أن رواه النسائي عن طريق أبن المبارك عم عمر به نحوه - وقال عبد ايضاً في تفسيره: حدثنا إبراهيم عن الحاكم عن ابيه عن عكرمة قال، جاء رجل إلى أبن عباس وقال: كنات آتي أهلي في دبرها وسمعت قول الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فظننت أن ذلك لي حلال فقال: يا وكيع إنما قوله: {فأتوا حرثم أنى شئتم} قائمة، وقادعدة، ومقبلة، ومدبرة في أقبالهن لا تعدو ذلك إلى غيره، وروى الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا همام حدثنا قتادة، عن عمرو بن شعيبن عن أبيه عند جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطة الصغرى) .
وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ويقول: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل، والمفعول به، والنكاح يده وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، وجامع بين امرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، ومؤذي جاره حتى يلعنه) .
وروى الإمام أحمد قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سهيل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا يظر الله إليه) .(5/132)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ملعون من أتى امرأته في دبرها) وفي رواية أخرى: (ملعون من أت النساء في أدبارهن) . قال النسائي: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة قال: (إتيان الرجال النساء في ادبارهن كفر) ثم رواه عن بندار عن عبد الرحمن به قال: من أتى امرأة في دبرها وتلك كفر) هكذا رواه النسائي من طريق الثوري عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى شيئاً من الرجال والنساء في ادبارهن فقد كفر) والمراد بالكفر في الحديث إنما هو كفر النعمة وهي النساء اللاتي احلهن الله عز وجل. وروى أبن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: (محاش النساء حرام) . وقال الثوري عن الصلت بن بهرام عن أبي المعتمر عن أبي جويرية قال: سأل رجل علياً عن إتيان المرأة في دبرها فقال: سفلت سفل الله بك الم تسمع قول الله عز وجل: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} قال الإمام أبن كثير في تفسيره وقد تقدم قول أبن عباس، وأبن مسعود، وأبي الدرداي، وابي هريرة، وعبد الله بن عمرو، في تحريم ذلك، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما انه يحرمه، فقد روي إنه سئل عن ذلك فقال: وهل يفعل ذلك احد من المسلمين؟ وروي أن رجلاً سأل الإمام مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن قال: ما أنتم إلا قوم عرب هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟، لا تعدوا الفرج. قال: يا أبا عبد الله إنهم يقولن إنك تقول ذلك، قال يكذبون
علي) فهذا هو الثابت عنه رحمه الله تعالى. فقد اتفقت كلمة الأئمة جميعاً الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والمالكية من غير خلاف منهم، على تحريم هذا الفعل وشناعته وعدم جوازه بحال من الأحوال، في الزوجة والأمة وغيرهما، وهو قول سعيد بن المسيب، وابي سلمة، وعكرمةن وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن البصري وغيرهم من السلف جميعاً أنكروا ذلك الفعل اشد الإنكار ومنهم من يطلق على فعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماءز ومما يدل على تحريم هذا العمل قول الله تعالى: {وقدموا لأنفسكم} فإن معناه من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات التي نهيتكم عنها. لذلك قال: {واتقوا الله واعلموا انكم ملاقوه} أي اتقوا الله في اتيان نسائكم، فلا تأتوهن إلا في موضع الحرث وهو الفرج، فهو سيحاسبكم على اعمالكم جميعاً ومن جملتها هذا العمل المشين وقول الله تعالى: {وبشر المؤمنين} أي المطيعين لله تعالى فيما أمرهم، التاركين ما عنه زجرهم.
فإن قيل: قول الله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين} يقتضي إباحة وطء النساء في أدبارهين، لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة بشيء، ولا مخصوصة بمكان دون آخر.(5/133)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فالجواب على ذلك: أنه قال الله تعالى: {فأتوهن من حيث أمركم الله} ثم قال تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} فأبانت هذه الآية الموضع المأمور به شرعاً، وهو موضع الحرث الذي يأتي منه الولد ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد، فهو مقصور عليه، دون غيره، وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى: {إلا على أزواجهم} فكانت هذه الآية مرتبة على ما ذكر من حكم الحائض، فالآية التي في البقرة تدل على أن إباحة الوطء مقصورة على الجماع الجائز في الفرج دون غيره، لأنه موضع الحرث الذي نصت عليه الآية الكريمة حيث قال: {فأتوا حرثكم} وهو موضع الولد، قال أبو بكر الرازي الحصاص في كتابه (أحكام القرآن) عند ذكر إتيان النساء في أدبارهن: كان أصحابنا يحرمون ذلك، وينهون عنه، أشد النهي. وعن علي بن طلق رحمه الله أنه قال: سمعت رسول للث صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تأتوا النساء في أستاههن، فإن الله لا يستحي من الحق) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. من هذا يتضح أن إتيان النساء في أدبارهن عمل شنيع، وجرم فظيع، لا يقره شرع، ولا يرضى به عاقل. ومفاسده لا تعد، ولا تحصى. بل ربما كان أخطر على الفرد والسر؟؟، والجماعات، من أي جناية أخرى غيرها من أنواع المحرمات، فليتق الله هؤلاء السفلة الذين يأتون نساءهم في أدبارهن، ويعملون عمل قوم لوط، ويظنون أنه جائز في الإسلام. نسأل الله تعالى الحفظ والعصمة عن الزلل.
حرمة وطء البهيمة
اختلف الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم في حد وطء البهيمة، بعد اتفاقهم على حرمتها وشناعتها.
الحنفية - قالوا: لا حد في هذه الفاحشة حيث إنه لم يرد شيء عن ذلك في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه. ولم يثبت ان الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحد على من وقع في هذه الفاحشة. ولكن يجب عليه التعزير بما يراه الحاكم، من الحبس أو الضرب أو التوبيخ أو غير ذلك مما يكون زاجراً له ولغيره، عن ارتكابه.
المالكية - قالوا: إن حده كحد الزنا، فيلج البكر، ويرجم المحصن، وذلك لأنه نكاح فرج محرم شرعاً مشتهى طبعاً، مثل القبل، والدبر، فأوجب الحد كالزنا.
الشافعية - قالوا: عندهم ثلاثة آراء: أهرها، الحد كما قال المالكية، فحكمه مثل الزنا, القول الثاني: إنه يقتل بكراً، أو ثيباً، وذلك لما روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (منوقع على بهيمة فاقتلوهن واقتلوا البهيمة) رواه غلإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن أبن عباس رقد روى هذا الحديث أبن ماجة في سننه، من حديث إبراهيم بن اسماعيل عن داود بن(5/134)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحصين عن عكرمة، عن أبن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه، ومن وقع على بهيمة فاقتله، واقتلوا البهيمة) . القول الثالث: إنه يعزر، ولا حد فيه، حسب ما يراه الإمام موافقة لمذهب الحنفية.
الحنابلة - قالوا: يجب عليه الحد، وفي صفة الحد عندهم روايتان، إحداهما كاللواطة وثانيهما أنه يعزر، وهو الراجح عندهم، مثل قول الحنفية. ولعل هذه الأحكام تختلف باختلاف أحوال الناس في الدين، والورع كمالاً، ونقصاً، شباباً، وكهول، فيخفف عن الآراذل والشبان، وويشدد العقاب على أشراف الناس وكبارهم، بالحد أو القتل، على قاعدة - كل من عظمت مرتبته، عظمت صغيرته، وزاد عقابه جزاء فعله لآن حسنات الارار سيئات المقربين. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله، قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، والذي يأتي البهيمة، والذي يأتي الرجال) رواه الطبراني رحمه الله.
حكم البهيمة الموطوءة
واختلف الأئمة في حكم البهيمة الموطوءة.
المالكية - قالوا: لا يجب قتلها سواء أكانت مما يؤكل لحمها، أم لا، وذلك لأنه لم يرد في الشرع شيء صريح في الأمر بذبحها وما ورد في رواية أبن عباس في المر بقتلها رواية ضعيفة ولا يعمل بها.
الحنفية - قالوا: إن كانت البهيمة ملكه يجب قتلها، وذلك حتى لا يتكلم الناس عليه كلما رأوها ذاهبة، وراجعة، فيقولون هذه التي فعل بها فلان، فيقعون في إثم الغيبة، وتسقط مكانة الفاعل عندهم، وبما يكون قد تاب من ذنبه، ولأن الرجل إذا رآها يميل إلى مواقعتها مرة ثانية، فكان من الأحوط قتلها. ولما أخرجه البيهقي عن أبن عباس رضي الله عنهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ملعون من وقع على بهيمة) وقال في رواية أخرى: (اقتلوه واقتلوها معه، لا يقال هذه التي فعل بها كذا وكذا) ومال اليهقي إلى تصحيحه لما رواه أبو يوسف بإسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه أتي برجل وقع على بهيمة، عزره بالضرب، وأمر بلابهيمة فذبحت، وأحرقت بالنار. وإنما قتلها حتى لا تأتي بولد مشوه، ولا تؤكل بعد ذبحها لأن لحمها قد تنجس منه. وقد روي أن راعياً أتى بهيمة فولدت حيواناً مشوه الخلقة.
أما إذا كانت البهيمة ملكاً لغيره فلا يجب ذبحها.
الشافعية - عندهم روايتان - إحدهما: إن كانت البهيمة مما يؤكل لحمها ذبحت، وإلا فلا، لأن في قتلها إتلاف المال من غير فائدة، وذلك أمر منهي عنه.(5/135)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والرواية الثانية عندهم: ان البهيمة تعدم مطلقاًن سواء أكانت مما يؤكل لحمها أم لا، وذلك قطعاً للإشاعات، وستراً للفضيحن لن الله تعالى أمر بالستر على المسلم، فمن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة.
الحنابلة - قالوا: يجب ذبح البهيمة سواء أكانت ملكه أم لا، وسواء أكانت مما يؤكل لحمها أم لا، ويجبيب عليه ضمان قيمتها فيما إذا كانت البهيمة ملكاً لغيره، لأنه تسبب في إتلافها، ومن أتلف شيئاً فعليه ثمنه، عقوبة له وذلك خيفة الفضيحة على صاحب البهيمة، وعلى الفاعل فيها، لنه كلما رأوها ذكرتهم بهذه الفعلة الشنيعة.
حكم البهيمة بعد ذبحها
واختلف الأئمة في جواز أكل لحم البهيمة الموطوءة بعمد ذبحها.
الحنفية والحنابلة - قالوا: إن البهيمة إن كانت مما يؤكل لحمها، تحرق بالنار ولا يجوز أكلها.
المالكية - قالوا: يجوز الأكل منها بعد ذبحها فيأكل منها هو وغيره، من غير تحرج، لأنه لم يرد في الشرع دليل يحرم أكلها، فيبقى الحكم على الأصل، وهو الجواز.
الشافعية - عندهم روايتان: إحداهما جواز الأكل منها هو وغيره موافقة للمالكية رحمهم الله تعالى. الرواية الثانية عندهم: أنه يحرم أكلها عليه، وعلى غيره موافقة للحنفية والحنابلة وعلى الفاعل أن يضمن قيمتها لصاحبها إن كانت ملكاً للغير تأديباً له، وعقوبة على فعله المذموم شرعاً، وعقلاً.
الاستمناء باليد
ومن نكح يده - وتلذذ بها، أو إذا أتت المرأة المرأة وهو - السحاق، فلا يقام حد في هذه الصور بإجماع العلماء، لأنها لذة ناقصة، وإن كانت محرمة، والوجاب التعزير على الفاعل حسب ما يراه الإمام زاجراً له عن المنكر. والاستمناء باليد ذنب كبير، وإثم عظيم نهى عنه الشارع، وحذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم لما يترتب عليه من الأمراض الصحية والاجتماعية، وقد ورد أن صاحبه يأتي يوم القيامة ويده حبلى إذا مات ولم يتب من ذنبه.
قال تعالى في كتابه العزيز {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} فهذا بيان في ذكر حفظهم لفروجهم إلا على أزواجهم، أو ما ملكت أيمانهم من الإماء، وهذا يفيد تحريم ما سوى الأزواج وما ملكت الايمان، ويبن الله تعالى أن نكاح الازواج وما ملكت اليمن من شأن الآدمي، دون البهائم، ثم أكد ذلك بقوله تعال: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} فلا يحل اتعمل بالذكر، إلا في الزوجة أو في ملك اليمين، ولا يحل الاستمناء لأنه تعد على الفطرة فهذا يفيد حرمة الاستمناء باليد لأنه من شأن العادين على حدود الله تعالى الخارجين عن(5/136)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الفطرة الإنسانية، وقال تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} أي ليصبروا على الشهوة وكبح جماحها حتى يغنيهم الله من فضله ويسهل لهم طرق النكاح المشروع، فهي عادة قبيحة محرمة بالكتاب والسنة. وإن كان ذنبها أقل من الزنا، حيث أنه لم يترتب عليها ما يترتب على الزنا من الفساد واختلاط الأنساب.
المالكية - استدلوا على تحريم الاستمناء باليد بقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن له وجاء) رواه أبن مسعود رضي الله تعالى عنه. وقالوا: لو كان الاستمناء باليد مباحاً في الشرع لأرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أسهل من الصوم، ولكن عدم ذكره دل على تحريمه قال صاحب كتاب - سبل السلام - وقد أباح الاستمناء بعض الحنابلة، وبعض علماء الحنفية، إذا خاف على نفسه في الوقوع في الزنا - وهو رأي ضعيف لا يعتد به)
-(5/137)
كتاب حد السرقة
-أما حد السرقة (1) فقد بينه الله تعالى بقوله في كتابه العزيز فقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهم جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم} آية - 37 - من سورة المائدة.
__________
(1) (حد السرقة من الحدود الثابتة بالكتاب والسنة، واجماع الأمة، فذكر الله تعالى حده في الآية الكريمة. وأمر بقطع يد السارق ذكراً كان، أو أنثى، عبداً، أو حراً، مسلماً، أو غير مسلم. صيانة للأموال وحفظاً لها. ولقد كان قطع يد السارق معمولاً به في الجاهيلة قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أقره وزاد عليه شروطاً معروفة كالقسامة، والدية، وغيرهما من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه في الجاهلية، وزيادات هي من تمام المصالح للإنسانية. ويقال: إن أول من قطع في الجاهلية اهل قريشن قطعوا رجلاً يقال له (دويك) مولى لبني عليج بن عمرو بن خزاعة لأنه سرق كنز الكعبة المشرفة، فحكموا عليه بقطع يده. وأول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال، الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء - مرة بنت سفينان بن عبد الأسد، من بني مخزوم، وقطع سيدنا أبو بكر يد (اليمنى) الذي سرق العقد، من أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق وكان اقطع اليد اليمنى، فقطع أبو بكر رضي الله عنه، يده اليسرى. وقطع سيدنا عمر بن الخطاب يد - أبن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة، ولا خلاف في ذلك.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السارق الذي يبذل اليد الثمينة الغلية في الشياء الرخيصة المهينة، وقد اعترض بعضهم على هذا الحكم، وقال: كيف يحكم بقطع يد قيمتها في الدية خمسمائة دينار، في ثلاثة دراهم؟ وأجابوا عليه: بأن اليد لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت - وقالوا: إن ذلك من أسرار أحكام الشريعة الغراء لأن الشارع جعل قيمة اليد في باب الجنايات بخمسمائة دينار، حتى تحترم فلا يجنى عليها، اما في باب السرقة فلما خانت الأمانة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموالز ولهذا علل الله تعالى قطع اليد في السرقة بقوله عز وجل {جزاء بما كسبا نكالاً من الله} أي تقطع مجازاة على صنيعها السيء في أخذها أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع العضو الذي استعانا به على ذلك (نكالاً من الله) أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك الفعل، وعبرة لغيرهما، فإن قطع اليد يفضح صاحبه طول حياته، ويجلب له الخزي والعار، ويسقطه في نظر المجتمع وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة، وتأمين الناس على أموالهم، وأرواحهم، وأعراضهم.(5/138)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ومعى الآية الكريمة - أن كلاً من السارق السارقة يجب قطع أيديهمان فإذا سرق الذكر حراً، أو عبداً تقطع يده، وإذا سرقت الأنثى تقطع يدها، لأن كلاً من الذنبين يقع من كل منهما، فأراد الله زجر كل منهما (والله عزيز) لا يغالب ولا يقهر (حكيم) فيما يفعله ويشرعه، فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة، وتطهر المجتمع من المنكرات والمفاسد، وتجلب له السعادة والأمان.
وذكر الله تعالى حد السرقة في كتابه العزيز ونص عليه ووضحه، كما ذكر حد الزنا أيضاً لأهمية كل منهما للمجتمع، ونص على ذكر الذكر والأنثى فيهما، وإن كانت الأحكام الشرعية مشتركة بينهما عند الإطلاق، وتغليب وصف الذكورة، وضمائرها في الكلام، إلا ما خص الشرع به الرجال، كالإمامة، والقتال للتأكيد، وحتى لا يظن ظان أن السرقة، والزنا، كما كان في الرجال أظهر كان الحد على الرجال دون النساء وإنما بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر السارق، في هذه الآية قبل ذكر السارقة، وفي آية الزنى بدأ بذكر الزانية قبل الزاني، لأن حب المال عند الرجال أقلب من النساء، والسرقة تقع من الرجال أكثر من النساء، لذلك بدأ بذكر الرجال في حد السرقة ولما كانت شهوة الاستمتاع على النساء أغلب، فصدرها تقليظاً لتردع شهوتها، وإن كانت قد ركب فيها الحياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله، ولأن الزنى في النساء أعز، وهو لأجل الحبل أضرن ولأن العار في النساء ألحق اذ موضعهن الحجب في البيوت، والصيانة في المنازل. فقد ذكرهن في آية الزنى تغليظاً، واهتماماً. وقد جعل الله تعالى حد السرقة قطع اليد وهو العضو الذي يتناول المال، وياخذه عقوبة له، ولم يجعل حد الزنى، قطع الذكر، مع أنه العضو الذي باشر الفاحشة به واتصل بالأنثى لآنه يوجد للسارق مثل اليد التي قطعت، فإن انزجر بها اعتاض بالثانية، ووجد عوضاً عنها، ولكن لا يوجد للزاني مثل ذكره، فإذا قطع لا يعتاض بغيره، ولا يجد عضواً يسد مسده. وأيضاً، لأن قطع الذكر فيه إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله. فضرره على المجتمع أخطر، وقوله تعلى {فاقطعوا} القطع معناه الإبانة والإزالة، ولا يجب القطع إلا بوجود أوصاف تعتبر في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته. فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف:
البلوغ - فلا يقطع الصبي إذا سرق لنه غير مكلف في نظر الشريعة.
العقل - فلا يقطع المجنون، لأن القلم مرفوع عنه حتى يفيق.
أن يكون غير مالك للمسروق منه، فلا يقطع الأب إذا سرق من مال ولده، ولا الولد إن سرق من مال أبيه.
وأن لا يكون له عليه ولاية، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده، وكذلك السيد إن أخذ من مال عبده لا قطع بحال، لأن العبد وماله لسيده، ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده، لأنه آخذ لماله.(5/139)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأن لا يكون محارباً في دار الحرب - وأن يكون مختاراً غير مكره كالمجاهد إن سرق من مال الغنيمة، وقد روي أن عبداً من مال الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه، وقال: (مال الله سرق بعضه بعضاً) ولا تقام الحدود في ميدان الجهاد.
وأما ما يعتبر في الشيء المسروق، فأربعة أوصاف:
- 1 - وهي النصاب. على اختلاف بين العلماء في مقداره، فلا يقطع من سرق أقل من النصاب.
- 2 - وان يكون مما يتمول، ويتملك، ويحل بيعه، فلا يقطع من سرق الخمر، والخنرير، وآلات اللهو والطرب.
- 3 - وأن لا يكون للسارق ملك، كمن سرق ما رهنه، أو ما استأجره، ولاشبهة ملك. كالذي يسرق من المغنم، أو من بيت المال، لأن له فيها نصيباً، وروي عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه، أنه أتي برجل سرق مغفراً من الخمس، فلم ير عليه قطعاً وقال: له فيها نصيب.
أن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير، والأعجمي الكبير، لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح، فإنه لا يقطع فيه.
وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منهن فوصف واحد. وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق، وجملة القول فيهن أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزهن فالدور، والمنازل، والحوانيت حرز لما فيها، غاب عنها أهلها، أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئاً، وإن كان قبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الإمام، وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية، الا ترى أن الإمام قد يجوز ان يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح، ولا يفرقه في الناس أو يفرقه في بلد دون بلد آخر، ويمنع منه قوماً دون قوم ففي التقدير أن هذا السارق مما لا حق له فيه، فيقطع إذا سرق منه. وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع، وإن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله، ام لا، سرقت بليل، أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق، مربوطة، أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة كان معها أصحابها، أم لا، فإن كانت الدابة بباب المسجد، أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ، ومن ربطها بفنائها، أو اتخذ موضعاً مربطاً لدوابه، فإنه حرز لها.
والسفينة حرز لما فيها من المتاع والمال، سواء كانت سائبة أم مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة، إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه، فربطها حرر، وهكذا، إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة، كالدابة التي بباب المسجد ومعها حافظ لها. إلا أن ينزلوا بالسفينة منزلاً في سفرهم فيربطوها فهو حرز لها كان معها صاحبها، ام لا. والساكنون معاً في دار واحدةن كالفنادق التي يسكن كل رجل بيته على حدة، أو عمارة الطلاب(5/140)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
التي يسكن فيها كل طالب منهم في حجرة مستقلة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا ضبط وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار، وإن لم يدخل بها بيته، ولا خرج بها من الدار. أما من سرق منهم من قاعة الدر شيئاً قيمته نصاب فلا يقطع فيه، وإن أدخله بيته، أو أخرجه من باب الدار، لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء، إلا أن تكون دابة في مربطها، أو دراجة مربوطة، أو ما يشبهها من المتاعن فإنه يقطع فيها في هذه الحال
تعريف السرقة وأركانها.
واركان السرقة ثلاثة، لا بد منها، سارق، ومسروق، وسرق، ولكل منهم شروط كما سبق. والسرقة: أخذ العاقل، البالغ نصاباً محرزاً، أو ما قيمته نصاب، ملكاً للغير، لا ملك له فيه ولا شبهة ملك على وجه الخفية، مستتراً من غير أن يؤتمن عليهن وكان السارق مختاراً غير مكره، سواء أكان مسلماً، أم ذمياً، أو مرتداً، ذكراً، أو أنثى، حراً، أو عبداً. إذا وجدت هذه الشروط وجب إقامة الحد، وهو قطع يد السارق اليمنى إن كانت سليمة، فاما إن كانت مقطوعة' أو مشلولة، فإنه تقطع اليد اليسرى، وذلك فإجماع آراء علماء الأمة من غير خلاف منهم، وذلك لأن المال محبوب إلى النفوس، تميل إليه الطباع البشريةن خصوصاً عند الضرورة، والحاجة، ومن الناس من لا يردعهم عقل، ولا يمنعهم الحياء ولا تذجرهم الديانة، ولا تردهم المروءة والأمانة، فلولا الزواجر الشرعيةن من القطع والصلب ونحوهما، لبادروا إلى اخذ الأموال مكابرة من أصحابها على وجه المجاهرة أو خفية على وجه الاستمرار، وفيه من الفساد ما لا يخفى، فناسب شرع هذه الزواجر في حق المستمر والمكابر، في سرقتي الصغرى، والكبرى، حسماً لباب الفساد، وأصلاحاً لأحوال العباد. والعبد والحر في القطع سواء، لإطلاق النصوص، ولأن القطع لا يتنصف، فيكمل في العبد صيانة لموال الناس.
مقدار النصاب
الحنفية - قالوا: نصاب حد السرقة، دينار، أو عشرة دراهم، مضروبة غير مغشوشة، أو قيمة احداهما، وقيل: إن غير الدراهم تعتبر قيمته بالدراهم وإن كان ذهباً ويشترط ان تكون رائجة، واستدلوا على ذلك بما نقل عن أبن عباس، وأبن أم أيمن رضي الله عنهما، قالا: كانت قيمة الممجن الذي قطع فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم - وما رواه عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده أه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن) وكان ثمن المجن عشرة دراهم، قالوا: فهذا أبن عباس، وعبد الله بن عمرون قد خالفا أبن عمر في ثمن الممجن، فالاحتياط الأخذ بالأكثر، لأن الحدود تدرأ بالشبها، وفي الأقل شبهة عدم الجنايةن وعلى هذا فالأخذ بالأكثر أولى، وهة أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال، وشرف العضو.(5/141)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المالكية - قالوا: نصاب حد السرقة ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى سرقها، أو مما يبلغ ثمنها فما فوق من العروض والحيوان وجب إقامة الحد عليه، وقطع يده، واحتجوا على ذلك بما روي عن نافع عن أبن عمر رضي الله تعالى عنهم، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، كما اخرجه الصحيحان البخاري، ومسلم - قال الإمام مالك رحمه الله: وقطع عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، في أترجة قومت بثلاثة دراهم، وهو أحب ما سمعت في ذلك، وهذا الأثر عن سيدنا عثمان رضي الله عنه قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابيه، عن عروة بنت عبد الرحمن، أن سارقاً سرق في زمن سيدنا عثمان، أترجة فأمر بها عثمان ان تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثن عشر درهماً بدينار، فقطع عمان يده، قال المالكية: ومثل هذا الصنع يشتهر، ولم يكر فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي، قالوا وفيه دليل على جواز القطع في الثمار، وعلى اعقبار ثلاثة دراهم في نصاب حد السرقة، فإن لم يساوها ولو ساوى ربع دينار لا يقطع.
الشافعية - قالوا: نصاب السرقة ربع دينار، أو ما يساويه من الدراهم، والأثمان، والعروض، فصاعداً، فالأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار، وهو الأصل ايضاً في الدراهم فلا يقطع في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار، واستدل الشافعية على مذهبهم بما أخرجه الشيخان، البخاري، ومسلم، عن طريق الزهري، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقطع يد السارق في ربع ديار فصاعداً) متفق عليه ولمسلم عن طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقطع يد السارق، إلا في ربع دينار فصاعداً) قال الشافعية: فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع الدينار، لا ماسواه، قالوا: وحديث ثمن المجن، وإن كان ثلاثة دراهم. لا ينافى هذا، لأنه اذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطريق، ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، وبه يقول عمرو بن عبد العزيز، والليث بن سعد، والأوزعي، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. قالوا: والراجح من الآراء ان قيمة المجن ثلاثة دراهم لما ورج من حديث أبن عمر المتفق عليه عند المحدثين، ولأن باقي الأحاديث المخالفة له، لا تساويه في الصحة. وقال أبن العربي: ذهب سفيان الثوري، مع جلالته في الحديثن إلى أن القطع في حد السرقة، لا يكون إلا في عشرة دراهم - كما هو مذهب الحنفية - وذلك ان اليد محرمو بالإجماع، فلا تستباح إلا بما أجمع عليه العلماء، والعشرة متفق على القطع بها عند الجميع، فيستمسك به، ما لم يقع الاتفاق على دون ذلك.
الحنابلة - قالوا: إن كل واحج من ربع الدينار، والثلاثة دراهم مراد شرعي، فمن سرق واحداً منهما، أو ما يساويه قطع، عملاً بحديث أبن عمرن وعملاً بحجيث عائشة رضي الله تعالى عنهما، ووفع في لفظ عن الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله عنها، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اقطعوا في ربع(5/142)
أي اقطعوا اليد من كل واحد سرق، سواء كان رجلاً أو امرأة (1)
__________
دينار، ولاتقطعوا فيما هو أدنى من ذلك) وكان ربع الدينار يومئذ يساوي ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهماً وفي لفظ للنسائي: (لا تقطع يد السارق، فيما دون ثمن المجن) قيل لعائشة رضي الله عنها وما هو ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار) فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله تعالى أعلم.)
(1) (محل القطع. اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى، على أن السارق إذا وجب عليه القطع، وكان ذلك اول سرقة له، وأول حد يقام عليه بالسرقة، وكان صحيح الأطراف فإنه يبدأ بقطع يده اليمنى، مع مفصل الكف، ثم تحسم بالزيت المغلي، وذلك لأن السرقة تقع بالكف مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معها البدن، والعقاب إنما يقع على العضو المباشر للجريمة، وإنما تقطع اليمنى أولاً لأن التناول يكون بها في غالب الأحوال، إلا ما شذ عند بعض الأفراد. ولأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه فعل ذلك حينما قطع يد المخزومية، وغيرها ممن أقام عليهم حد السرقة، وقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه تبين الإجمال في آية السرقة، وتوضح المراد من الأيدي، فإنه قرأ، (فاقطعوا أيمانهما) وهذا الحكم بإجماع المة من غير خلاف منهم. فإن عاد وسرق مرة ثانية، ووجب عليه القطع، تقطع رجله اليسرى، من مفصل القدم ويكوى محل القطع بالنار لينقطع نزيف الدم، أو يغمس العضو المقطوع في الزيت المغلي، كما أمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وكما فعل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم امر بقطع يد السارق من الزند، وقال لأصحابه (فاقطعوه واحسموه) ولأنه إذا لم يحسم العضو يؤدي إلى التلف، لأن الدم لا ينقطع إلا به، والاحد زاجر غير متلف، ولهذا لا يقطع وقت الحر الشديد، لأنه يؤذي السارق، ثم اختلف الأئمة فيما إذا عاد وسرق مرة ثالثة، أيقطع ام لا؟
الحنفية - قالوا: فإن عاد وسرق بعد أن قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى يقف إيقاع الحد ولا يجب عليه القطع في المرة الثالثة، بل يضمن السرقة، ويحبس ويضرب حى يتوب عن السرقة، والأصل أن حد السرقة شرع زاجراً لا متلفاً، لأن المحدود شرعتم للزجر عن ارتكاب الكبائر، لا متلفة للنفوس المحترمة، فكل حد يتضمن إتلاف النفس من كل وجه، أو من وجه واحد لم يشرع حداً، وكل قطع يؤدي إلى إتلاف جنس المنفعة كان إتلافاً للنفس من وجه، فلا يشرع، وقطع اليد اليسرى في المرة الثالثة، والرجل اليمنى في المرة الرابعة يؤدي إلى إتلاف جنس منفعة البطش والمشي، فلا يشرع(5/143)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حداً، وإليه الإشارة بقول علي رضي الله تعالى عنه: إني استحي من الله أن لا أدع له يداً يأكل بها، ويستنجي بها، ورجلاً يمشي عليها (وبهذا حاج بقية الصحابة فحجهم فانعقد اجماعاً - جماعاً) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه أي برجل أقطع اليد، والرجل قد سرق يقال له (سدوم) فأراد أن يقطعه، فقال له على بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنما عليه قطع يد ورجل، فحبسه عمر رضي الله تعالى عنه ولم يقطعه، ففتوى على، ورجوع عمر رضي الله عنهما إليه من غير نكير، ولا مخالفة من غيرهما دليل على إجماعهم عليه، أو أنه كان شريعة عرفوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف القصاص، لأنه حق العبد، فيستوفى جبراً لحقه - ولأنه نادر الوجود، فيندر أن يسرق الإنسان بعد قطع يده، ورجله، والحد لا يشرع إلا فيما يغلب. وما روي من الحديث في قطع اربعة السارق، طعن في الطحاوي رحمه الله تعالى - أو نقول: لو صح لا حتج به الصحابة، على الإمام على رضي الله عنه، ولرجع إليهم، وحيث أنه قد حجهم ورجعوا إلى قوله من غير معارضة منهم، جل على عدم صحته.
فإن كانت يده اليمنى ذاهبة، أو مقطوعة، تقطع رجله اليسرى من المفصل، وإن كانت رجله اليسرى مقطوعة، فلا قطع عليه، لما فيه من الاستهلاك، على ما بينا، وضمن السرقة، ويحبس حتى يتوب. وإن كان اقطع اليد اليسرى أو امثلها، أو ابهامها، أو إصبعين سواها، وفي رواية ثلاث أصابع، أو اقطع الرجل المينى، أو اشلها، أو بها عرج يمنع المشي عليها فلا تقطع يده اليمنى ولا رجله اليسرى. والحاصل: أنه متى كان بحال لو قطعت يده اليمنى لا ينتفع بيده اليسرى، أو لا ينتفع برجله اليمنى لآفة كانت قبل القطع، لا يقطع، لأن فيه تفويت جنس المنفعة بطشاً، أو مشياً، وقوام اليد بالإبهام فعدمها أو شللها كشلل جميع اليد، ولو كانت اصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة، أو شلاء، قطع، لان قوات الواحدة لا يوجب نقصاً ظاهراً، في البطش، بخلاف الأصبعين لأنهما كالإبهام في البطش، ولو كانت اليد اليمنى شلاء شللاً جزئياً، أو ناقصة الأصابع يقطع في ظاهر الراوية.
المالكية والشافعية - قالوا: إذا سرق السارق أولاً قطعت يده اليمنى من مفصل الكف، ثم حسمت بالنار أو الزيت المغلي، فإذا سرق الثانية، قطعت رجله اليسرى، من المفصل، ثم حسمت بالنار، ثم إذا سرق الثالثة قطعت يده اليسرى، من مفصل الكف، ثم حسمت بالنار، فإذا سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى من المفصل، ثم حسمت بالنار، ثم إذا سرق الخامسة، حبس، وعزر، ويعزر كل من سرق إذا كان سارقاً من حيث يدرأ عنه القطع، فإذا درأ عنه القطع لشبهة، عزر حسب مايراه الإمام زاجراً له عن ارتكاب الجريمة وكيفية القطع، ان يجلس ويضبط ثم تمد يدخ بخيط حتى يبين مفصله، ثم تقطه بحديدة حادة(5/144)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ثم يحسم، وإن وجد ارفق، وأمكن من هذا قطع به، لأنه إنما يراد به غقامة المحد، لا التلف، ولهذا لا يقطع السارق، ولا يقام حد، دون القتل على امرأة حبلى، ولا مريض دنف، ولا بين المرض، ولا في يوم مفرط البرد، ولا في يوم شديد الحر، ولا في أسباب التلف - ومن أسباب التلف الي يترك إقامة الحد فيها إلى البرء، ان تقطع يد السارق فلا يبرأ حتى يسرق فيؤخر حتى تبرأ يده، ومن ذلك ان يجلد الرجل فلا يبرأ جلده حتى يصيب حداً، فيترك حتى يبرأ جلده، وكذلك كل قرح أو مرض أصابه. وحجتهم في جواز القطع في المرة الثالثة والرابعة ما روي من محديث جابر بن عبد اله رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم أي بعبد سرقن فقطع يده اليمنى، ثم أي به في الثانية فقطع رجله، ثم أتي به في الثالثة، فقطع يده اليسرى، ثم أتي به في الرابعة فقطع رجله اليمنى. وأخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: (إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله) .
وبما روي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن ابيه ان رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل، قدم على أب بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فشكا إليه أن عامل اليمن، طلمه فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم افتقدوا حلياً لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر، فجعل الرجل يطوف معهم ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاء، فاعترف به الأقطع، أو شهد عليه، فأمر أبو بكر رضي الله عنه فقطعت يده اليسرى، وقا أبو ذر: (والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي من سرقته) . قال الشافعي رحمه الله: فبهذا نأخذ، فإذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى، من مفصل الكف، ثم حسمت بالنار، فإذا سرق الثانية قطعت رجله اليسرى من المفصل ثم حسمت بالنار، ثم إذا سرق الثالثة قطعت يده اليسرى من مفصل الكف ثم حسمت بالنار، فإذا سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى من المفصل ثم حسمت بالنارن فإذا سرق الخامسة، حبس وعزر، قال أبن المنذر: (ثبت عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا اليد بعد اليدن والرجل بعد الرجل) واحتج الحنفية على قولهم بعدم جواز القطع في الثالثةن وإنما يجب حبسه وتعزيره، وغرامتهن بما رواه اليهقي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال بعد أن قطع رجله وأتي به في المرة الثالثة: (بأي شيء يتمسح، وبأي شيء يأكل) لما قيل له يقطع يده اليسرى، ثم قال: أقطع رجله على أي شيء يمشي؟ إني لأستحي من الله عز وجل، ثم ضربه، وأدخله السجن) - وهو تكريم لابن آدم، وتعظيم لحرمته على حرمة المال. وقد أجاب المالكية والشافعية عن هذا الدليل: بأن هذا الرأي لا يقاوم النصوص، وإن كان المنصوص فيه ضعيف كما قال الحنفية، فقد عاضدته الروايات الأخرى، الواردة بهذا المعنى.(5/145)
قوانين المعاملات في الإسلام
-واعلم أن الشريعة الإسلامية قد وضعت قوانين المعاملات، وفصلتها أحسن تفصيل، فوضعت نظماً للبيع، والشراء، والرهن، والاجارة، والشركة والشفعة، ووعضت قوانين للاقتصاد، والتجارة، والزراعة، والصناعة، ولم تترك شيئاً إلا وضعت له نظاماً مبنياً على مصلحة النوع الإنساني، وترقية حاله، ورفع الخصومات من بين الناس وتوطيد علائق الثقة فيما بينهم، ونزع العداوة والبغضاء من قلوبهم، وحفظ حقوق الضعفاء، ورفع الحيف عنهم، وقد أخذ المجتهدون من النصوص التي جاء بها الكتاب الكريم، أو السنة الصحيحة، ما فيه مصالح الناس، التي اقتضتها حادثات الأزمنة المختلفة، فكان للمسلمين أعظم ثروة فقهية يمكنهم أن يجعلوها اصلاً لكل قانون صالح ينتفع به المجتمع، وتقوم عليه دعائم العمران، وتسعد به الشعوب والأمم سعادة حقيقية، ومع هذا فإنها لم تضع عقوبات خاصة لمن خالف قوانين المعاملات المالية، بل تركت أمر هذه العقوبات للحاكم، ليضع لها ما يناسب كل زمان ومكان، وهذا هو باب التعزير، فقد جعلت الشريعة للحاكم سلطة يضع بها العقوبات التي تليق بمن يخالف أمر الشريعة، أو نهيها، بحسب اليئات والزمنة، وبحسب ما يترتب على مخالفتها
__________
فإذا ذهب محل القطع من غير سرقة، بأن كانت اليد اليمنى شلاء، ينتقل القطع إلى اليد اليسرى، وقيل إلى الرجل اليمنى.
الحنابلة - قالوا: في إحدى الروايات عنهم ان السارق لا يقطع في الثالثة موافقة لمذهب الحنفية، مراعاة لحرمة المؤمن وأن منزلته أعظم من المال وتخفيفاً من الشرع على عباده. وفي رواية أخرى عنهم: أن السارق تقطع يده اليسرى في المرة الثاثلة فإن عاد تقطع رجله اليمنى في المرة الرابعة موافقة منهم لمذهب المالكية والشافعية، لأنهم يراعون حرمة المال والتشديد على المنحرفين، السارقين، المفسدين في الأرض. وقال بعض العلماء: إن السارق في المرة الخامسة يقتل، حتى يكون عبرة لغيره ولا يحبس ويغرم، واحتجوا على مذهبهم بحديث خرجه النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال: (اقتلوه) فقالوا: يا رسول الله إنما سرق قال: (اقتله) قالوا: يا رسول الله إنما سرق قال: (اقطعوا يده) 9 قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى عطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضاً (الخامسة) فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: (اقتلوه) ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه، فيهم عبد الله بت الزبير، رضي الله عنه وكان يحب الامارة، فقال: (أمروني عليكم فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه) وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة قال: (اقتلوه) فال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة)
-(5/146)
من الشر والفساد، ما عدا السرقة فإنها قد وضعت لها الحد الذي سمعته (1) .
__________
مايثبت به حد السرقة.
(1) اتفق الأئمة الربعة - على أن حد السرقة يثبت على السارق بشهادة رجلين شاهدين عدلين كشائر الحقوق، واتفقوا - على أنه يثبت أيضاً بإقرار الحر، واعترافه باقتراف الذني.
الحنفية، المالكية، والشافعية - قالوا: يثبت الحد، بإقرار البالغ مالعاقل ولو مرة واحدة، لأنه لا تهمة فيه، كسائر الحقوق التي تثبت بالإقرار مرة واحدة. فلا حاجة إلى الإقرار مرة ثانية كالقصاص، وحد القذف، والتنبيه في الشهادة منصوص عليه، فلا يقاس عليه الإقرار، ولأنه يفيد تقليل تهمة الكذب، ولا كذلك الإقرار، لأن المقر لا يتهم بالكذب على نفسه، واشترط الزيادة في الزنى على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص، على أن الإقرار الأول إما صادق فبالثاني لا يفيد شيئاً إذ لا يزداد صدقاً، وإما كاذب فبالثاني لا يصير صدقا"ً، فظهر أنه لا فائدة في تكراره.
الحنابلة، وأبو يوسف من الحنفية - قالوا: يثبت بلإقراره مرتين، والإقرار مرة واحدة لا يثبت الحد. واحتجوا بما روي عن أبي أمية المخزمي رض الله عنه أنه قال: أتي الرسول صولات الله وسلامه عليه بلص قد اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أخالك سرقت) قال: بلى يا رسول الله فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع، وجيء به فقال له: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم تب عليه ثلاثاً) أخرجه ا؛ مد والنسائي، وأبو داود واللفظ له، ورجله ثقات، ويجب على القاضي أن يلقن المقر الرجوع احتياطاً للدرء، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقال له: (أسرقت؟ مأخاله سرق) . وإذا رجع المقر عن إقراره صح في القطع، لأنه خالص حق الله تعالى فلا يكذب فيه، ولكن لا يصح الرجوع في المال، لأن صاحبه يكذبه، واشترطوا أن يكون الإقراران في مجلسين مختلفين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر الأخرى وهي الينة. واسند الطحاوي إلى سيدنا علي كرم الله وجهه أن رجلاً أقر عنده بسرقة مرتين، فقال له: قد شهدت على نفسك شهادتينن فأمر أن تقطع يده، فعلقها في عنقه. وأما المعنى فإلحاق الإقرار بها، بالشهادة عليها في العدد، فيقال: حد فيعتبر عدد الإقرار به بعدد الشهود، نظيره إلحاق الإقرار في حد الزنا في العدد، بالشهادة فيه. فلو شهد على السارق رجل وامرأتان ثبت عليه المال، فيجب أن يرده أو قيمتهن ولكن لا يجب القطع لعيه لأن شهادة النساء لا تقبل في الحدود.
كيفية الشهادة
قالوا: وينبغي للإمام أن يسأل الشاهدين عند أداء الشهادة عن كيفية السرقة، أي كيف سرق(5/147)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لاحتمال كونه سرق على كيفية لا يقطع معها، كأن نقب الجدار وادخل يده فأخرج المتاع، فإنه لا يقطع على طاهر المذاهب الثلاثةن أو أخرج بعض النصاب، ثم عاد وأخرج البعض الآخر، أو ناول رفيقاً له على الباب، ويسألهما عن ماهيتها، لأنهاتطلق في اللغة على استراق السمع، والنقص من اركان الصلاةن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته) ويسألهما أيضاً عن رمانها، لاحتمال التقادم، وعند التقادم إذا شهدوا يضمن المال، ولكن لا يقطع عليهن ويسألهما، عن المكان، لاحتمال أنه سرق في دار الحرب من مسلم - بخلاف ما لو كان ثبوت السرقة بالإقرار، حيث لا يسأل القاضي الشخص المقر، عن الزمان، لأن التقادم لا يبطل الإقرار، ولا يسأل المقر عن المكان، لكن يسأله عن باي الشروط من الحرز وغيره. وذلك باتفاق العلماء. وقال بعضهم، ويسأل المقر عن الشيء المسروق (إذ سرقة كل مال لا توجب القطع، كما في التمر، والكرم وغيره، ولا حتمال كون المسروق أقل من النصاب - ويسأله أيضاً عن المسروق منه، لأن السرقة من بعض الناس، لاتوجب القطع، كذي الرحم المحرم، والعبد من سيده، والزوج من زوجته، والوالد من مال ولده. ولاحتمال ان يهبه المسروق أو يملكه فيسقط القطع.
وقال بعضهم: لا حادة إلى السؤال عن المسروق منه، لأنه حاضر في المجلس يخاصم المذنب ويطالب بعقوبته، والشهود حضور يشهدون على السرقة منه، فلا حاجة إلى السؤال عنه، ولأن شهادتهم بأنه سرق من هذا الحاضر، وخصومة الحاضر، لا يستلزم بيانها، النية من السارق، ولا رفع الدعوى تستلزم أن يقول: سرق مالي وأنا مولاه، وينبغي أن يسأل عن هذه الأمور احتياطاً للدرء وإذا بينوا ذلك على وجه لا يسقط الحد، فإن كان القاضي عرف الشهود بالعدالة قطعه، وإن لم يكن يعرف حالهم حبس المشهود عليه حتى يدلوا، لأنه صار متهماً بالسرقة، والتوثيق بالتكفيل ممتنع، لأنه لا كفالة في الحدود. وإذا عدل الشاهدان والمسروق منه حاضراً، والشاهدان غائبان، لم يقطع ايضاً حتى يحضرا، لاحتمال رجوعهما في الشهادة، أو رجوع احدهما في شهادته، وكذلك الموت، وهذا في كل الحدود سوى حد الرجم. وقد أفتى العلماء: بأنه إذا كان لص معروف بالسرقة، ووجده رجل في منزله، يذهب في حاجة له غير مشغول بالسرقة، ولا ملتبس بها، فليس له أن يقتله، ولكن له ان يقبض عليه، ويأخذه، وللإمام أن يحبسه حتى يتوب، لأنه متهم بالفساد في الأرض، (والحبس للزجر عن التهمة مشروع وجائز) .
خطأ الشهود
الحنفية، المالكية، والحنابلة - قالوا: إذا أخطأ الشاهدان في أداء الشهادة على السارق، وقطعت يده، ثم ظهر كذبهما، بأن اعترف رجل آخر بأنه هو الذي سرق، أو قامت البينة على غيره، أو(5/148)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
اعترف الشاهدان بخطئهما في أداي الشهادة. فيجب على الإمام أن يغرمهما بدفع دية يد المقوع عقوبة لهما على خطئهما في أداء الشهادة عليه، أما إذا قال الشاهدان: إننا تعمدنا اداء الشهادة عليه نكاية به، فإنه يجب عليهما في هذه الحالة دفع دية يد المقطوع، ولا يجوز أن يقطع يديهما، بيد واحدة لنه جور وظلم. الشافعية - قالوا: إذا شهد رجلان على آخر بأنه سرق متاعاً من حرز قيمته نصاب، ثم تبين كذبهما، بعد قطع يده، فيقررهما الإمام، فإن قالا: أخطأنا في الشهادة عليه، فإنه يغرمهما دية يد المقطوع. وإن قالا: تعمدنا أن نشهد عليه بباطل، قطعت يداهما بيده قصاصاً له. وهذه أشبه بالقياس، لأنه إن كان يجوز أن يقتل اثنان بواحد، فلم لا تقطع يدان بيد؟ واليد أقل من النفس، وإذا جاز القليل فلم لا يجوز الكثير؟ واحتجوا على مذهبهم بما روي عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه، عن الشعبي. (أن رجلين أتيا الإمام علياً كرم الله وجهه فشهدا على رجل أنه سرق، فقطع الإمام يده، ثم أتياه بآخر فقالا: هذا الذي سرق، وأخطأنا على الول، فلم يجز شهادتهما على الآخر، وغرمهما دية يد الول، وقال لهما: لو أعلمكما تعمدتما، لقطعتكما) فهذا نص في الباب. وإذا شهد رجل وامرأتان على رجل بالسرقة، فإنه يضمن المال، ولا يقطع يده. وإذا أقر الرجل على نفسه بالسرقة أمام الحاكم ثم رجع في إقراره، فإنه يلزمه غرامة المال الذي أقر به ولا قطع عليه - ولا عكس - حتى لو قال المسروق منه، أريد قطع يده ولا أريد المال، لا تسمع خصومته، فإنما يصح حق القطع تبعاً للمال، وقد انتفى المال، فانتفى القطع.
خطأ الحداد
الحنفية والحنابلة - قالوا: إذا قال الحاكم للحداد - الذي يقيم الحد - اقطع يمين هذا في سرقة سرقها، فقطع يساره خطأ، أو عمداً، فلا شيء عليه، ولكن يعزره الإمام، لأنه اخطأ في اجتهاده، وخطأ المجتهد موضوع بالإجماع، وهذا موضع اجتهاد لأن ظاهر النص يسوي بين اليمين واليسار، ولأنه وإن أتلف بلا حق ظلماً، لكنه أخلف من جنسه ما هو خير له، وهو اليد اليمنى، فإنها لا تقطع بعد قطع اليسرى، وهي خير لأن قوة البطش بها أتم، والعمل بها أكثر، فلا يضمن شيئاً، وعلى هذا، لو قطع اليد غير الحدتد لا يضمن أيضاًن عمداً، أو خطأ، لن اليمين كانت على شرف الزوال، فكانت كالفائتة فأخلفها إلى خلف استمرارها، وبقائها. الصاحبان من الحنفية - قالا: إذا أخطأ الحداد، وقط اليد اليسرى، بعد أن أمره الحاكم بقطع اليمنى، فلا ضمان عليه في حالة الخطأ. أما إذا كان متعمداً، فإنه يجب عليه أن يضمن أرش اليد اليسرى.(5/149)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعية، والمالكية، - قالوا: إذا كان الحداد أخطأ فلا شيء عليه، أما إذا كان فعل هذا الفعلن وعطع اليسرى بعد أن امره الحاكم بقطع اليمنى فإنه يجب عليه القصاص، وتقطع يده اليسرى، وذلك قياساً على ما إذا قطع رجل يد السارق، بعد الشهادة قبل القضاء بالقطع في انتظار التعديل، ثم عدلت، فلا تقطع على السارق لفوات محله، وبحيث أن المسروق، لو كان أتلفه، لن سقوط الضمان باستيفاء القطع حقاً لله تعالى، ولم يوجد، وكذا لو قطع يده اليسري يقتص له، ويسقط عنه قطع اليمنى.
والخطأ في الاجتمها معناه أن يقطع اليسرى بعد قول الحاكم: اقطع يمينه، عن اجتهاد في أن قطعها يجزىء عن قطع السرقة، نظراً إلى إطلاق النصن وهو قوله تعالى {فاقطعوا أيديهما} أما الخطأ في معرفة اليمين من الشمال فلا يجعل عفواً، لآنه بعيد يتهم فيه مجعيه، وعلى هذا فالقطع في الموضعين عمد، وإنما يكون معنى العمد حينئذ أن يتعمد القطع لليسار، لا عن اجتهادفي اجزائها. أما إذا قال الحاكم للحداد: اقطع يد هذا، ولم ينص على اليمنى - فقطع اليسار فلا يضمن اتفاقاً وإذا قطع رجل يسار السارق، بعد حكم القاضي بقطع يمينه، من غير إذن الإمام في قطعها فإذا كان متعمداً وجب عليه القصاص، فتقطع يده، وفي الخطأ الدية بالاتفاق وسقط القطع عن اليمنى.
إذا سرق رجل من السارق
الحنفية، والحنابلة، والشافعية في قول - قالوا: إن قطع سارق بسرقة، ثم سرقت منه، لم يكن له ولا لرب المال أن يقطع السارق الثاني، لن المال لما لم يجب على السارق ضمانه كان ساقط التقوم في حقه، وكذا في حق المالك، لعدم وجوب الضمان له، فيد السارق الول ليست يد ضمان، ولايد أمانة، ولا يد ملك، فكان المسروق مالاً غير معصوم، فلا تقطع فيه، وأصبح كأنه مال ضائع، ولا قطع في أخذ مال ضائع، وإذا ظهر هذا الحال عند القاضي فإنه لا يرد الحال إلى الأول، ولا إلى الثاني إذا رجه، لظهر خيانة كل منهما، بل يرجه من يد السارق الاثني إلى المالك إن كان حاضراً، وإلا حفظه في بيت المال، كما يحفظ أموال الغيب. المالكية والشافعية في قول آخر - قالوا: تقطع يد السارق الثاني بخصومة المالك، لأنه سرق نصاباً محرزاً من حرز لا شبهة فيه، فيقطع بخصومة الول، لأن سقوط التقوم ضرورة القطع، ولم يوجد، فصارت يده كيد الغاصب.
الحنفية - قالوا: إذا قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبها له المالك، وسلمها إليه أو باعها منه، فلا يقطع.
الشافعية، المالكية، والحنابلة - قالوا: يقطع في هذه الحالة، لأن السرقة قد تمت انعقاداً بفعلها بلا شبهة وظهوراً عند الحاكم، وقضي عليه بالقطع، ولا شبهة في السرقة فيقطع، واحتجوا(5/150)
عناية الشريعة بالسرقة دون غيرها
-ولقائل أن يقول: لماذا عنيت الشريعة الإسلامية بالسرقة دون غيرها من الأنواع المؤذية للمجتمع، فتركت الغاصب، والمختلس، والخائن، كما تركت الذي ينفق أمواله في الشهوات الضارة المفسدة، أو في إيذاء المجتمع، أو نحو ذلك؟ والجواب: أن الذي جاءت به الشريعة الإسلامية من ذلك هو تقدير العزيز الحكيم، وهو غين الحكمة والصواب. بيان ذلك: أن السرقة هي أخذ مال الغير خفية من حرز (أي محل محفوظ فيه) (1) ولا ريب أن الذي يقدم على هذا الفعل خطره يطرد في كل زمان، ومكان، لأنه لا يبالي في سبيل الوصول إلى غرضه بارتكاب اية جريمة يتوفق عليها الحصول على ما يرج، فهو ينقض الدرا، ويكسر القفل، ولا يتأخر عن قتل من يقف في سبيله، أو التمثيل به، فهو مهدد للناس في حياتهم واموالهم، واعراضهم، فإذا لم يضرب على يد السارق من أول الأمر وذا لم تشدد عليه العقوبة، كان شره عظيماً، وخطره تشديداً، وقد عرفتنا الحوادث أن السارقين، قد قتلوا أنفساً كثيرة في سبيل وصولهم إلى سرقة المال، واعتدوا على أعراض كثيرة.
__________
بما ورد في حديث صفوان أنه قال: يا رسول الله لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة فقال عليه الصلاة والسلام: (فهلا قبل أن تأتيني به) رواه أبو داود، وأبن ماجة، زاد النسائي في رواية: (فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم))
-
(1) (صفة الحرز: الحنفية - قالوا: إن صفة الحرز الذي يقطع من سرق منه، هو أن يكون حرزاً لشيء من الأموال، فكل ما كان حرزاً لشيء منها، كان حرزاً لجميعها، ثم حرز كل شيء على حسب ما يليق به، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا آواه الجرين (موضع التمر اليذي يجفف فيه) - يعني اليدر - ففيه القطع) وقال صلوات الله وسلامه عليه: (لا قطع في حريسة (أي المحروسة به، فليس بالجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز، وقيل الحريسة: الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مأواها) الجبل، وما آواه المراح (هو المكان الذي تأوي إليه الماشية ليلاً للمبيت فيه) ففيه القطع) . والحرز ما يكون به المال محروزاً من أيدي اللصوص ويكون بالحافظ كمن جلس بالصحراء، أو في المسجد، أو في الطريق العام وعنده متاعه، فهو محرز به، وسواء كان نائماً، أو مستيقظاً وذلك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء (صفوان) مت تحت رأسه، وهو نائم في المسجد(5/151)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وسواء كان المتاع تحته، أو عنده، لأنه يعد حافظاً له في ذلك كله عرفاً، فيقطع من يسرق، ماله، أو متاعه. والحرز بالمكان: هو ما أعد للحفظ، كالدور، والبيوت، والحانوت، والصندوق، فهي حرز لما فيها غاب صاحبها أو حضر فلا يعتبر فيه الحافظ، لأنه محرز بدونته، وهو المكان الذي اعد للحفظ، إلا أن القطع لا يجب من الأخذ بالحرز بالمكان، إلا بالإخراج منه، لأنن يد المالك قائمة ما لم يخرجه السارق، والمحرز بالحافظ يجب القطع لما أخذه، لان يد المالك زالت بمجرد الأخذ، فتمت السرقة، ولو كان باب الدار مفتوحاً فدخل نهاراً، واخذ متاعاً، لم يقطع لآنه مكابرة، وليس بسرقة لعدم الاستسرار على ما بينا.
ولو دخل ليلاً قطع لأنه مكان بني للحرز ولو خل بين المغرب والعشاء، والناس منتشرون فهو بمنزلة النهار، ولو علم صاحب الدار باللص، واللص لا يعلم، أو بالعكس قطع لأنه مستخف، وان علم كل واحد منهما بلآخر لا يقطع السارق لأنه مكابرة. وإذا سرق من الحمام ليلاً قطع، وبالنهار لا يقطع لأنه مأذون بالدخول، وهو الدواب حرز لما حملت، وافنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موفق البيع، وغن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله، ام لا، سرقت ليلاً، أو نهاراً، وكذلك موفق عربات الباعة المتجولين في السواق، وموفق الشاة في اسوق مربوطة، أو غير مربوطة حرز، والدواب على مرابطها في الحقول والخلاء محرزة، كان معها اصحابها أم لا فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ، ومن ربطها بفنائه، أو اتخذ موضعاً مربطاً لدوابه، فإنه حرز لها، ولو سرق لؤلؤة من الاصطبل لم يقطع، لأنه ليس حرزاً لها، والسفينة حرز لما فيها، سواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة، إن كان معها احد حيثما كانت فهي حرز كالدابة بباب المسجد معها حافظ، ولوسرق ثوباً على شاة لم يقطع لان الشاة لا تحرز إلا أن ينزلوا لها، كان صاحبها معها ام لا.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، - قالوا: (إن الحرز يختلف باختلاف الامال المحفوظة فيه وقيمتها، والعرف معتبر في ذلك، لأنه لا ضابط له لغة ولا شرعاً، وهو يختلف باختلاف المال ونوعه وثمنه، ويختلف باختلاف البلاد، ويكون بحسب عدل السلطان وجوره، وما كان كذلك فمرجعه العرف والعادة، فالدور والحوانيت حرز، ومرابط الدواب حرز لها، وكذلك الأوعية، وما على ظهور الدواب، والسيارات، تكون حرزاً لما فيها، وما على الإنسان من الملابس، فالإنسان حرز لكل ما عليه، أو هو عنده، نائماً أو مستيقظاً ولا يقطع سارق ما على الصبي من الحلي وغيره، إلا أن يكون معه حافظ يحفظه، كما في الدواب وغيرها.
السرقة في المدن الجامعية والفنادق: اتفق الأئمة؛ على أن الساكنين في دار واحدة - كالعمارات، والفنادق، والمدن الجامعية، وأروقة المساكن، التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة وعليه باب يغلق، يقطع من سرق منهم من بيت(5/152)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
صاحبه إذا أخذه، وخرج بسرقته إلى قاعة الدار، وغن لم يدخل بها بيته، ولا خرج بها من الدار، لأن الإخراج إلى صحن الدار كالإخراج إلى السكة العمومية، واتفقوا: على أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئاً، وإن أدخله في بيته، أو أخرجه من الدار، لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء كالطريق العام إلا أن تكون دابة في مربطها، أو مايشبهها من المتاع: كالدراجة وغيرها. واتفق الأئمة الأربعة: على أن باب البيت وغلقه حرز، وحرز الثياب، والنقود، والجواهر، الصناديق المقفلة، وحرز الأمتعة للبياعين، الدكاكين المقفلة عليها، وبوجود حارس لها ليلاً، وحرز الدواب الثمينة الإصطبل، وحرز الأواني، والأوعية، وثياب البذلة، مدخل البيت وعرضه، واختلفوا في الدار المشتركة بينهم. المالكية والفقهاء - قالوا: تقطع يد السارق من الدرا المشتركة بينهم في السكن إذا اخرج المتاع من الحجرة التي هو فيها لأنه حرز له. الصاحبان من الحنيفة - قالوا: لا قطع عليه إلا إذا اخرج المال من الدار، لأنه مأذون له في دخولها ولن الدار مع جميع بيوتها حرز واحد، فلا بد من الإخراج.
سرقة الحوانيت: الشافعية - قالوا: لو ضم العطار، أو البقال ونحوه المتهة وربطها بحبل على باب الحانوت للعرض. أو ارخى عليها شبكة أو خالف لوحين على باب حانوته، كانت محرزة بذلك في النهار، لأن الجيران والمارة ينظرونها، وفيما فعل ما ينبهم إذا قصدها السارقن فإن لم يفعل شيئاً من ذلك وترك البضاعة مهملة، أو ترك الباب مفتوحاً، فلا تقطع يد السارق لأنها ليس محرزة. وأما في الليل فمحرزة لذلك لكن مع وجود الحارس، ولا يقطع فيما إذا ترك ثقباً بالحانوت يدخل منه السارق يده، وليس له حارس، والبقل ونحوه كالفجل والكرات، والجرجير، إن ضم بعضه إلى بعض، وترك على باب الحانوت، وطرح عليه حصير أو نحوها فهو حرز بحارس. والأمتعة النفيسة التي تترك على الحوانيت في ايام العياد ونحوها، لتزيين الحانوت وتستر بنطع ونحوه، وكذلك لمبات الكهرباء التي على أبواب الحوانيت والمنازل ليالي الأفراح تكون محرزة بحارس، ولأن أهل السوق يعتادون ذلك فيقوى بعضهم ببعض، بخلاف سائر الليالين والثياب الموضوعة على باب حانوت القصار للعرض، كأمتعة العطار الموضوعة على باب حانوته كما مر. والحانوت المغلق بباب وقفل، بلا حارس حرز لمتاع البقال، وذهب الجواهرجي وفضته، وساعات التاجر، وغيرها من الأمتعة الثمينة التي توضع في بترينة الحوانيت بقصد البيع، ليلاً ونهاراً، ولو بلا حارس في زمن المن، بخلاف الحانوت المفتوح المأذون في دخوله للعامة، لا يقطع في سرقته، وكذلك المغلق زمن الفتنة والخوف، والأرض حرز للبذور، والزرع للعادة وقيل: ليست حرزاً إلا بحارس.(5/153)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والتحويط بسور بلا حارس لا يحرز الثمار، وإن كانت على الأشجار إلا ان اتصلت بجيران يراقبونها، أما اشجار أفينة الدور فهي محرزة بلا حارس، بخلافها في البرية.
والثلج في الثلجة، والجمدة في المجمدة، والتين في المتين، والحنطة في المطامير، والفول المطمور في باطن الرض، كل منها في الصحراء غير محرز، إلا بحارس. وأبواب الدور، والبيوت التي فيها، والحوانيت بما عليها من مغاليق، وحلق، ومسامير، محرزة بتركيبها ولو كانت مفتوحة. أو لم يكن في الدور والحوانيت أحد يحرسها، ومثلها سقوف الدرا والرخاف، والاصطبل - حرز لما به من الدواب الثمينة وغيرها إن كانت متصلة باور والمنازل، اما إذا كانت موجودة في الصحراء بعيداً عن العمران، فلا تكون حرزاً إلا بوجود حارس قوي عليها يلاحظها.
سرقة ما يسرع إليه الفساد: الحنفية - قالوا: لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد، كاللبن، واللحم، والفواكه الرطبة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (قطع فيما يتسارع في ثمر، ولا كثر) والكثر الجمار (الكثر - الجمار - وهو شجر النخل، وهو شيء أبيض يقطع من رؤوس النخل، ويؤكل) ، وقيل: الودي (الودي - صغار النخل) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في الطعام) والمراد به - والله أعلم - ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للأكل منه، مثل الخبز، واللحم، والتمر، والفواكه الرطبة، لأنه يقطع في سرقة الحنطة، والسكر بالإجماع، إذا لم يكن العام عام مجاعة، وقحط، اما إذا كان كذلك فلا قطع سواء كان مما يتسارع إليه الفساد، أو لا. ووجهتهم الاحتياط في قطع عضو المسلم. والشافعية والمالكية، والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية - قالوا: يجب القطع فيما يسرع فساده، إذا بلغ المسروق الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة، للأحتياط في إبراء الذمة من حقوق العباد، ولأنه مال متقوم عند الجميع، واحتجوا على مذهبهم بما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه سئل عن التمر المعلق فقال: (من أصاب بقية من ذي حاجة غير متخذ خبنة (الخبنة - ما تحمله في حضنك) فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد ان يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع) أخرجه أبو داود والنسائي.
وفي رواية ان رجلاً من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحريسة، التي تؤخذ من مراتعها، فقال: (فيها ثمنها مرتين، وضرب، ونكال، ومال أخذ من اجرانه ففيه القطع) رواه أحمد، والنسائي، وفي لفظ: (ما ترى في التمر المعلق فقال: ليس في شيء من التمر المعلق قطع إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه، وجلدات،(5/154)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ونكال رواه الحاكم بهذا المتن والجرين: هو الموضع الذي يلقى فيه الرطب ليجف، وجمعه جرن يقتضي أنه يكون فيه الرطب في زمان وهو اول وضعه، واليابس وهو الكائن في آخر حاله فيه، وما روي (ان سارقاً سرق اتوجة في زمان عثمان بن عفان فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاث دراهم فقطع عثمان يده) . والجواب: أنه معارض بإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في ثمر، ولا كثر) وقوله: (لا قطع في الطعام) وبما روي أن غلام سرق ودياً من حائط، فرفع إلى مراوان، فأمر بقطعه. فقال رافع بن خديج: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قطع في ثمر، ولا كثر) وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول. فقد تعارضا في الرطب الموضوع في الجرين، وفي مثله من الحدود يجب تقديم ما يمنع الحدود، درأ للحد، ولأن ما تقدم متروك الظاهر، فإنه لا يضمن المسروق بمثلي قيمته، وإن نقل عن الإمام أحمد، فقلماء المة على خلافه، لأنه لا يبلغ قوة ثبوت كتاب الله تعالى' وهو قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فلا يصح عنه عليه الصلاة والسلام ذلك. وقد روي عن عبد بن عبد الرحمن بن أبي حسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل) (والحريسة قيل: هي التي ترعى وعليها حرس، وقيل هي السيارة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مأواها)
الحنفية - قالوا: لا قطع فيما يوجد تافهاً مباحاً في دار الاسلام كالخشب، والحشيش، والقصي، والسمك، والطير، والصيد، لما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه) أي الحقير، وما يوجد جنسه مباحاً في الأصل بصورته، غير مرغوب فيه حقير، تقل الرغبات فيه، والطباع لا تضن به إذا أحرز حتى إنه قلما يوجد اخذه على كره من المالك، ولا ينسب إلى الخيانة، على أن الضنه بها تعد من الخساسة، وما هو كذلك لا يحتاج إلى شرع الزواجر فيه، ولأن الحرز ناقص يهذه الأشياء، فالطير من شأنه أن يطير، وبذلك تقل الرغبات فيه، وكذلك وجود الشركة العامة التي كانت في الصيد قبل الإحراز بقول صلى الله عليه وسلم: (الصيد لمن أخذه) وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (الناس شركاء في ثلاثة في الكلأ، والماء والنار) فهذه الشركة تورث شبهة بعد الإحراز فيمتنع القطع، والحدود تدرأ بالشبهات، ويدخل في السمك، المالح، والطري، ويدخل في الطير جميع أنواعه، والدجاج، البط، والحمام، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في الطير) . والشافعية، والمالكية، والحنابلة، وأبو يوسف من الحنفية - قالوا: يجب القطع في كل شيء أحرز وبلغ النصاب إلا في الماء، والتراب، والطين، والحصى، والمعازف، والنبيذ، وما سوى هذه أموال متقومة محرزة، فصارت كغيرها، والإباحة الأصلية قد زالت، وزال أثرها بالإحراز بعد التملك،(5/155)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولعموم الأدلة من الكتاب والسنة، ولا أثر لكونها مباحة الأصل، وكذلك التبن والحطب وغيرها من الأشياء التي يباح أصلها متى أحرزت.
سرقة التمر المعلق على الشجر
الشافعية والحنفية - قالوا: لا قطع في أكل الفاكهة على الشجر، والزرع الذي لم يحصد لعدم الإحراز، ولا الجمار، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في ثمر، ولا كثر) قال محمد: الثمر ما كان على رؤوس النخل، والكثر: الجمار. وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لا أقطع في الطعام) وذكره عبد الحق، ولم يعد بغير الإرسال وهو ليس بعلة عندهم.
المالكية - قالوا: يجب القطع في الفاكهة المعلقة على الشجر إذا كان له حرز لما روي أن سيدنا عثمان بن عفان قطع من سرق ثمرة (أترجة) ووافقه الصحابة على ذلك ولآنه مال متقوم، وكذلك الثمر الرطب إذا كان محرزاً، مراعان لحرمة المال.
الحنابلة - قالوا: يجب أن يقوم قيمته مرتين - والأئمة الثلاثة قالوا: يجب على السارق قيمة الثمار فقط. الشافعية - قالوا: لا يقطع في الثمر الرطب إذا كان غير محرز اما إذا كان الثمر في بيت أو في حرز فإنه يقطع فيه.
سرقة الإشربة المحرمة
اتفق الأئمة بأنه لا يجب القطع في سرقة الأشربة المسكرة مثل الخمر والأنبذة والخل وغيرها، ولأن السارق يتأول في تناولها قصد الاراقة، ولأن بعضها ليس بمال مقوم فتتحقق شبهة عدم المالية، فلا يقطع، ولا يقطع في سرقة مال غير محترم مثل الخنزير، وجلد الميتة قبل دبغها، وآلات الطرب ولو كانت لمشرك ولو بلغ ثمنها نصاباً، وبعد كسرها، وكذلك لا يقطع فيها، وأما بعد ذبحها فلا قطع لخروجها لله بالزبح، ولو سرق قدر نصاب من لحمها أو جلدها الذي ملكه الفقير بصدقة أو هبة، فإنه يقطع فيه.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: من سرق الخمر أو الخنزير لا يغرم بقيمتها لنها ليست بمال وإن كانت ملكاً لكافر، أو مسلم لأن مسلم لأن العلماء اختلفوا في تقومه، ولأن السارق يحمل حاله على أنه يتأول فيها الإراقة، فتثبت شبهة الإباحة بإزالة المنكر، ولأنه مما لا يتمول. المالكية - قالوا: إذا سرق الخمر أو الخنزير، إن كان مالكها ذمياً فإن السارق يغرم بدفع قيمتها إليه، أو ورد عينها إن كانت قائمة، لأنه مال متقوم عندهم وأما إن كانت لمسلم فلا.(5/156)
مبحث أحكام غير السارق
-غير السارق كالخائن والغصب، وغيرهما فإنه يقابل رب المال وجهاً لوجه، غايته أنه خدعه، أو عشه، أو أخذ منه المال بقوته على مرأى من الناس، وكل هؤلاء يمكن اتقاء شرهم، والضرب على ايديهم قبل ان يستفحل امرهم، فهذا ترك الشارع أمر تأديبهم للحاكم، كي يعزرهم، بما يراه زاجراً لهم بحسب ما يناسب البيئة، ويتفق مع نظام الأمن العام.
__________
المالكية، والشافعية، والحنابلة، - قالوا: إن سرق آلات الطرب، فلا قطع عليه ولا غرامة سواء كانت ملكاً، لمسلم، أو غير مسلم، لأنها غير متمولة ومنهي عن حيازتها واستعمالها. الحنفية - قالوا: إن آلات الطرب لا يضمن قيمتها إن كانت تستعمل للهو، اما إذا كانت هذه الآلات والمعازف لا تستعمل في اللهو، فإنه يضمن قيمتها لصاحبها، لأنه يجوز استعمال أصله، وقال بعضهم: إن كان مما يجوز اتخاذ اصله وبيعه، فصنع منه ما لا يجوز استعماله كالطنبور، والملاهي، والعود والمزمار وماشبهه من آلات الطرب واللهو، فينظر فيها، فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها، وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر يقطع السارق، وكذلك الحكم في أواني الذهب، والفضة، التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها، فإنما يقوم ما فيها منذهب، أو فضة دون صنعة، وكذلك سرقة الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصاباً قطع فيه، وإلا فلا، وكذلك حكم سرقة النرد، والشطرنج، وآلات الميسر المحرمة.
سرقة المصاحف وكتب العلم والأدب:
الحنفية - قالوا: إذا سرق المصحف لا يقطع فيه وإن كانت قيمته تبلغ نصاباً، وإن كان محلى بالذهب لأنه يتأول فيه القراءة، ولأن الإحراز لأجل المتكتوب ولا مالية له، وما وراءه تبع له كالجلد والورق والحلية. ولا عبرة للتبع - لأن الأصل أنه متى اجتمع ما يجب فيه القطه، وما لا يجب لا يقطه، لأنه اجتمع فيه دليلاً القطع وعدمه فأورث شبهة، وكذلك لا يقطع في سرقة كتب العلم والدين لنه يتأول قراءتها، لن المقصود منها ما فيها من العلم وهو ليس بمال، ولو سرق الجلد، والورق قبل الكتابة قطع لأنه سلعة مقومة بمال. واما كتب الشعر والأدب، ودفاتر الحساب، فإن كان ما فيها من الجلد والكواغد تبلغ نصاباً قبل الكتابة قطع وإلا فلا. الشافعية - قالوا: يقطع سارق المصحف، وكتب العلم الشرعي وما يتعلق به، لأنه مال متقوم حتى يجوز بيعه وتجارته، وحيازته، وكذلك كتب الأدب والشعر النافع، فإن لم يكن نافعاً مباحاً، قوم الورق والجلد، فإن بلغا نصاباً قطع، وإلا فلا، وبه قال أبو ثور، وأبن القاسم، وأبن المنذر، لأنه مال له اعتبار.(5/157)
على أن الحوادث التي من هذا القبيل قد يتفاوت سببها، وقد تكون عظيمة وحقيرة، فيجب أن يترك تقدير عقوبتها للحاكم، ليقدر لها مل يناسبها، بخلاف السرقة، فإنها جناية ترتكب في الخفاء، وآثارها المترتبة عليها لا تختلف غالباً، فهي تهدد الناس في كل زمان، ومكان.
__________
وقال أبو يوسف من الحنفية: إذا كان المصحف محلى بذهب وبلغت الحلية نصاباً، فإنه يقطع لآنها ليست من المصحف.
هل يقطع النباش: وقد اختلف الأئمة في قبر الميت أهو حرز للكفن ام لا؟. الحنفية - قالوا: إن القبر ليس بحرز لغير الكفن، فلا يكون حرزاً لكفن، فلا يقطع النباش، لأن السارق أخذ مالاً من غير حرز، معرضاً للتلف، لا مالك له، لأن الميت لا يملك، وهو قول أبن عباسن والثوري، والأوزاعي، ومكحول، والزهري، وذللك لأن القبر حفرة في الصحراء مأذون للعموم في المرور به ليلاً ونهاراً، ولا غلق عليه، ولا حارس متصد لحفظه، فلم يبق إلا مجرد دعوى أنه حرز تسمية ادعائية بلا معنى، وهو ممنوع، ولزوم التضييع لو لم يكن حرزاً ممنوع، بل لو لم يكن مصروفاً إلى حاجة الميت. والصرف إلى الحاجة ليس تضييعاً فلذا لا يضمن، ولو سلم فلا ينزل عن ان يكون في حرزيته شبهة، وبه ينتفي القطع، ويبقى ثبوت الشبهة في كونه مملوكاً، وفي ثبوت الخلل في المقصود منشرعية الحد، فكل منهما يوجب الدرء، أما الأول فلأن الكفن غير مملوك لأحد، لاللميت، ولذا يقطع بسرقة التركة المستغرقة، لنها ملك للغريم، حت كان له أن يأخذها بحقه، فإن صح ما قلنا: من أه لا ملك فيه لحد لم يقطع، وإلا فتحققت شبهة في مملوكيته بقولنا، فلا يقطع به أيضاً، وأما الاستدلال بتسميته بيتاً فابعد، لأن إطلاقه إما مجازاً، فإن البيت ما يحوطه أربع حوائط توضع للبيت، وليس للغبر كذلك، على أن حقيقة البيت لا يستلزم الحرز، فقد بصدق مع عدم الحرز أصلاً كالمسجد. والشافعية، المالكية، والحنابلة، والإمام أبو يوسف - قالوا: يجب القطع على الذي يسرق أكفان الموتى، وهو مذهب عمر، وأبن مسعود، وعائشة رضي الله تعالى عنهم ومنالعلماء أبو ثور، والحسن، والشعبي، وقتادة، وحماد، والنخعي.
ثم قالوا: إن الكفن الذي يقطع به ماكان مشروعاً، فلا يقطع في الزائد على كفن السنة، وكذا ما ترك معه من طيب أو مال، أو ذهب، وغيره لأنه تضييع وسفه فليس محرزاً. واحتجوا على مذهبهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نبش قطعناه) وهو حديث منكر وإنما أخرجه البيهقي.(5/158)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (لا قطع على المختيفي) قال: وهو النباش بلغة أهل المدينة، أي بعرفهم. وأما الآثار، فقال أبن المنذر: روي عن أبن الزبير أنه قطع نباشاً، وهو ضعيف. وما روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، أنه وجد قوماً يختفون القبور باليمن على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب فيهم إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر أن اقطع ايديهم. وما روي عن الزهري أنه قال: أتي مروان بقوم يختفون - أي ينبشون القبور - فضربهم، ونفاهم، والصحابة متوافرون رضوان الله عليهم. وما روي عن الزهري أيضاً قال: أخذ نباش في زمن معاوية، وكان مروان على المدينة، فسأل من بحضرته من الصحابة، والفقهاء، فأجمع رأيهم على أن يضرب، ويطاف. وام من جهة المعنى فلأن الكفن مال متقوم محرز يحرز مثله، فإن القبر حرز للميت، وثيابه تبع له، فيكون حرزاً له أيضاً، فيقطع من يسرقه، ولأنه لا يجوز ترك الميت عارياً، فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حرز. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم القبر بيتاً في حديث أبي ذر حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنت إذا أصاب الناس موت، يكون الموت فيه بالوصيف - يعني القبر - قلت: الله ورسوله أعلم، أو ما خار الله لي ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: عليك بالصبر) .
وقد بوب أبو داود عليه قال: باب قطع النباش، قال أبن المنذر: واستدل به أبو داود لأنه سمى القبر بيتاً، والبيت حرز، والسارق من الحرز يقطع بلا خلاف، ولأنه حرز مثله، لأن حرز كل شيء ما يليق به، فحرز الدواب بالإصطبل، وحرز الدرة بالحق والصندوق، والخزينة، والشاة بالحظيرة، فلا يقطع، فكان أخذا الكفن من القبر عين السرقة، ولأن الله تعالى جعل الأرض للإنسان ليسكن فيها حياً، ويدفن فيها ميتاً، وهذا إذا كان القبر في صحراء، أما إذا كان القبر داخل بيت عليه باب مفاق كما هو الحال في أموات القاهرة، وأن كل أسرة تختص بمكان متسع مبني يقال له: (حوش) وبداخله قبور الموتى، ويغلق عليهم، فقال بعض العلماء: يقطع السارق لأكفان الموتى من دار هذا المبنى، لوجود الحرز وهو الباب والغلق. الحنفية - قالوا: لا يقطع ايضاً في هذه الحال، وإن كان الحرز موجوداً، للموانع الأخرى، من نقصان المالية، وعدم الملوكية، ولأن المال ما يجري فيه الرغبة والضنة به، والكفن ينغر عنه كل من علم أنه كفن به ميت، إلا نادراً من الناس، ولن شرع الحد للأنزجار، والحاجة إليه، لما يكثر وجوده، فأما ما يندر فلا يشرع فيه، وكذلك الخلاف، إذا سرق من تابوت في القافلة، وفيه الميت.(5/159)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية - قالوا: لو اعتاد لص سرقة أكفان الموتى، فللإمام أن يقطعه سياسة لا حداً، وهو محمول على ما رووه من الأحاديث والآثار، إن صحت. اتفق الأئمة على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع من المال. فإذا جمع الثايب في البيت ثم ضبط قبل أن يحملها، فلا قطع عليه، وكذلك إذا شعر به أهل الدار فترك المتاع بعد حزمه، وهرب، ثم ضبط خارح الدار ولم يكن معه مسروقان، فلا قطع عليه لأن الدار كلها حرز واحد ولكن للحاكم أن يعزره في هذه الحال بما يراه، من السجن، والغرامة، والضرب، وغير ذلك.
إذا سرق مسلم من مستأمن
الحنفية - قالوا: لو سرق مسلم نصاباً من مال مستأمن فلا يجب على السارق القطع، لأن هذا المال في الأصل ملك للحربي، ومال الحربي غنيمة لا يقطع بسرقته. الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إذا سرق مسلم مقدار نصاب من مال ملك لرجل مستأمن يجب القطع على السارق، لأنه مال محرز مملكوك للمستأمن، فتجري عليه أحكام أهل الذمة، وأهل الإسلام ما دام في بلادنا.
إذا سرق مستأمن أو معاهد
المالكية، والحنابلة - قالوا: إذا سرق مستأمن، أو معاهد من مال مسلم أو ذمي وجب عليهما القطع. الحنفية - قالوا: أنه لا يجب القطع عليهما، فإنه ربما يكون لنا أسرى في بلاد الحرب عند الأعداء، فينتقمون منهم بسبب قطعنا للمعاهد، والمستأمن، فيترك القطع مراعاة للمصلحة العامة، ولن شريعة الإسلام لا تطبق عليهم. الشافعية - قالوا: إذا سرق معاهد، أو مستأمن مال مسلم أو ذمي أو معاهد، فأرجح الأقوال: ان شرط عليه في عهده قطعه بالسرقة، يجب القطع لا لتزامه، وإلا فلا يقطع لعدم التزامه. وقالوا: إن الأظهر عند الجمهور، أنه لا يجب القطع عليهما بالسرقة.
إذا سرق مسلم مال ذمي
الأئمة رحمهم الله قالوا: يقطع المسلم إذا سرق من مال ذمي على المشهور لأنه معصوم بذمته، وقيل: لا يقطع كما أنه لا يقتله. وأما الذمي، فأنه يقطع إذا سرق نصاباً من مال مسلم، أو مال ذمي مثله، لا لتزامه الأحكام الإسلامية، سواء أرضي بحكمنا، أم لا، لن الدين أمرنا بذلك. واتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أنه - لا يجب القطع على الفقير الذي سرق طعاماً من مسلم(5/160)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أو ذمي، وذلك في زمن القحط والبؤس وانتشار الغلاء، لأنه عذر يمنع القطع، ولا يقطع صبي، ولا مجنونن ولا مكره - إذا سرق واحد منهم مقدار نصاب من حرز لرفع القلم عنهم، ولا على حربي لعدم التزامه بأحكامنا، ولا على أعجمي جهل التحريم.
سرقة آلات اللهو
الحنفية، والمالكية قالوا: لا يجب القطع على من سرق صليباً من الذهب والفضة، ولا على من سرق تمثالاً من الذهب أو الفضة أيضاً، ولا على من سرق الشطرنج، ولو كانت قطعة من الذهب، ولا على من سرق النرد، ولا الطاولة، ولو بلغ ثمنها نصاباً، ولا على من سق آلات الطرب واللهو، إذا كانت تستعمل للهو والرقص والمنكر، ولا على من سرق آلات القمار، ولعب الميسر، لأن الشرع قد أباح للمسلم أخذها للكسر، لأنه مطالب بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فصارت شبهة تمنع إقامة الحد عليه، والكن يجب عليه ضمان مافيه من المالية، وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة الي لا يجوز استعمالها، ويؤمر كسرها. وقال أبو يوسف: إن كان الصليب في معابد النصارى لا يجب عليع القطع بسرقته، لعدم الحرز، لأنه بيت مأذون في دخوله، وإن كان في يد رجل في حرز لا شبهة فيه، يقطع، لأنه قد سرق مالاً ملكاً للغير محرزاً على الكمال من غير وجود شبهة تدرأ الحد. المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: لا قطع على من سرق آلات الطرب مثل الطنبور والمزمار، والعود، والكما، وغيرها، ولا عقطع على من سرق الصليب والصنم، ولو كانا من ذهب أو فضة، وكذلك سرقة الشطرنج، وآلات لعب القمار والميسر، لأن الشرع الحكيم حث الناس على كسرها، وإتلافها محاربة للمنكر، ووسائله. ولأن التوصل إلى إزالة المعصية مندوب إليه، فصار شبهة في درء الحد، كإراقة الخمر.
الشافعية في الرأي الثاني قالوا: إن بلغ ما كسره نصاباً قطع، لأنه سرق نصاباً من حرزه، وكذلك إذا سرق ما لا يحل الانتفاع به من الكتب فإنه يقطه إذا كان الجلد والقرطاس يبلغ ثمنه نصاباً، وكذلك الزيت النجس، إن كانت قيمته على نجاسته نصاباً قطع فيه، وذكروا أن محل الخلاف إذا لم يعصد المسلم التغيير، أما إذا كان يقصد بعمله وإخراجه التغيير، ومحاربة المنكرات فلا قطع عليه قطعاً، لأن الشرع أباح له ذلك. ولا قطع إذا كانت هذه الأشياء ملكاً لمسلم لأنه منهي بالشرع عن إحرازها، فإن كانت ملكاً لذمي يجب القطع قطعاً إذا بلغ ثمنه نصاباً.
ولو كسر إناء الخمر، أو الطنبور ونحوه في الحرز، ثم أخرجه منه مكسراً وجب القطع إن بلغ نصاباً، لأنه قصد السرقة من غير شبهة في ذلك وهو مال مقوم محرز)
-(5/161)
مبحث المخالفات المالية
-ومثل الخيانة والغصب سائر المخالفات المالية، فإنه لا يمكن ضبط عقوبة مضطردة لها، لأن آثارها تختلف اختلافاً كبيراً (1) مثلاً شخص بذر ماله في المباحات، والزخارف حتى نفد ماله، فإن عمله هذا في نظر الشريعة الإسلامية لا يجوز، ولكن ضرره يختلف، فإذا كان في بيئة صالحة مستقيمة، بحيث لا يتأثر به أحد، كان الضرر مقصوراً عليه وحده، اما إذا كان في بيئة سريعة التقليد، فإن ضرر عمله يتعداه للغير، فيكون قدوة سيئة، ولذا يجب أن يترك تقدير تأديبه للحاكم. ولذا ولذا قال بعض الأئمة: إذا كان بذر ماله في مباح، فإن ذلك التبذير لا يوجب الحجر، عليه، ولكن الجمهور يقولون: إن التبذير لا يوجب الحجر، والحجر نوع من أنواع التعزير، فإن فيه اعلاناً بأن الرجل لا يحسن التصرف، ولا يوثق له في باب الأموال، وذلك توبيخ مستمر لا يرضاه عاقل. أما التبذير في الشهوات المحرمة، فإنه يوجب الحجر باتفاق.
__________
(1) (المختلس
الشافعية والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن جاحد العارية يقطع، إذا بلغت قيمة ذلك نصاباًن وذلك لأن جعل العارية عنده، كجعلها في حرز، بجامع أنه استأمنه على حفظها، فكان جحده لها كفتح الحرز وأخذها، لاسيما ما ورد في الحديث، من أنها ضمونة، ولما روي (أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعها) . الحنفية قالوا: من استعار شيئاً من غيره، ولما طلبه صاحبه أنكر المال ولم يرده وكانت قيمته نصاباً أو أكثر، وثبت ذلك عليه. فلا قطع عليه، وذلك لأن المعتبر هو المفرط في إعارة من لا يؤمن منه الجحد، فما استأمنه أولاً، كان من المعروف عدم قطعه ثانياً، إذا عرضت له الخيانة، ولأن الحرز قاصر هنا، لأنه قد كان في يد الخائن وحرزه، لا حرز المالك على الخلوص، وذلك حرزه وإن كان حرز المالك، فإنه أحرزه بإيداعه عنده، لكنه حرز مأذون للسارق في دخوله.
وقد أجاب الحنفية عن حديث السيدة عائشة رضي الله عنها الذي احتج به الأئمة الثلاثة في وجوب القطع على الخائن والخائنة، بأن القطع الذي حدث كان عن سرقة، لا عن جحد عارية، أو خيانة، بعد أن كانت المرأة متصفة، مشهورة بجحد العارية، فعرفتها عائشة بوصفها المشهور، فالمعنى أن امرأة كان وصفها جحد العارية، فسرقت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعها، بدليل أن في قصتها، أن أسامة بن زيد شفع فيها الحديث إلى أن قال: فقام عليه الصلاة السلام خطيباً فقال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، واذاسرق فيهم الضعيف قطعوه) وهذا بناء على أنها(5/162)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حادثة واحدة، لا مرأة واحدة، لأن الصل عدم التعدد، وللجمع بين الحديثين، خصوصاً وقد تلقت المة الحديث الآخر بالقبول، والعمل به، فو فرض انها لم تسرق كان حديث جابر مقدماً، ويحمل القطع بجحد المتاع، وأخرى بالسرقة، يحمل على نسخ القطع بالعارية بما قلنا، فقد روي في سنن أربعة من حديث جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ليس على خائن، ولا متهب، ولا مختلس، قطع) رواه الخمسة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع على مختلس ولا منتهب ولا خائن.
جاحد الوديعة.
الحنفية، والشافعية، والمالكية قالوا: إن جاحد الوديعة لا يقطع، ولو ثبت ذلك عليه، وكان المال المودع نصاباً فأكثر، وذلك لأن المودع هو المفرط في إيداع ماله، لمن لا يحفظهن ويرده إليه سالماً، واستدلوا على ذلك بأن القرآن والسنة أوجباً القطع على السارق والجاحد للوديعة، ليس بسارق. الحنابلة، وإسحاق، وزفر، والخوارج قالوا: يجب أن يقام حد السرقة على جاحد العارية، ويعقطع، لأنهم لم يشترطوا في القطع، ان يكون من حرز، ولأن جاحد الوديعة داخل في اسم السرقة، لأنه هو والسارق لا يمكن الاحتراز منهما، بخلاف المختلس، والمنتهب، كما قال أبن القيم رحمه الله تعالى. واستدلوا على مذهبهم بما روي عن أبن عمر قال: (كانت مخزومية، تستعير المتعاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها) رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود.
وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن الجحد للعارية وإن كان مروياً فيها عن طريق عائشة، وجابر، وأبن عمر، وغيرهم، لكنه ورد التصريح في الصحيحين وغيرهما بذكر السرقة، وفي رواية من حديث أبن مسعود (أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخرجه أبن ماجة، والحاكم، وصححه، (ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت أنها سرقت حلياً) قالوا: والجمع ممكن بأن يكون الحلي في القطيفة، فتقرر أن المذكورة قد وقع منها السرقة، فذكر الجحد للعارية لا يدل على أن القطع كان له فقط، ويمكن أن يكون ذكر الجحد لقصد التعريف بها، ويمكن أن يجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل ذلك الجحد منزلة السرقة، فيكون دليلاً لمن قال: أنه يصدق اسم السرقة على جحد الوديعة.
قال الشوكاني: ولا يخفى أن الظاهر من أحاديث الباب أن القطع كان لأجل ذلك الجحد كما يعشر به قوله في حديث أبن عمر بعد وصف القصة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، ولا ينافي ذلك وصف المرأة في بعض الروايات بأنها سرقت، فالحق: قطع جاحد الوديعة، ويكون ذلك مخصصاً للأدلة الدالة على اعتبار الحرز، ووجهه أن الحاجة ماسة بين الناس إلى العارية، فو علم المعير، أن المستعير إذا جحد العرية لا شيء عليه، لجر ذلك إلى سد باب العارية، وهو خلاف المشروع. اهـ.(5/163)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المنتهب والخائن
الحنفية، والمالكية، واشافعية قالوا: لا يقطع المنتهب لأنه مجاهر بقعله والخائن لقصور في الحرز والمختلس لأنه ليس بسارق والعرب أطلقت عليه أسماً آخرغير اسم (السارق) والآية والأحاديث نصت على أن القطع على السارق فلا يقاس عليه غيره، والمراد بالخائن، وهو من يأخذ المال خفية، ويظهر النصح للمالك، والمتهب: هو من ينتهب المال على جهة القهر، والغلبة، وأما المختلس، فهو الذي سلب المال على طريقة الخلسة، وقال في النهاية: هو من يأخذ المال سلباً، ومكابرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المختلس، ولا على الخائن قطع) .
الحنابلة والإمام زفر قالوا: أنه يجب القطع على المختلس، والمنتهب، والخائن، لعدم اعبارهم الحرز، ولأنه نوع من السرقة، وأرى أن الاختلاسات في هذا العصر من الوزارات، والشركاتق قد تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات فيجب إقامة الحد على هؤلاء، فقد نشرت الجرائد أن أحد الموظفين اختلس 2 مليون جنيه في سنة واحدة. فيجب الضرب بشدة على أيدي هؤلاء حتى تحمي أموال الدولة.
إذا تغير الشيء المسروق
اتفق الأئمة، على أنه إذا سرق انسان عيناً عبثاً فقطع فيها ثم ردها إلى مالكها، بأن كانت قائمة، ثم تغيرت عن حالتها، مثل أن يكون المسروق الذي قطع به غزلاً ثم نسج، أو قطناً فاصبح غزلاً، ثم عاد فسرقه ثانية فإنه يقطع فيه، لأن العين قد تبدلت، ولهذا يملكه الغاصب، ويجب عليه ضمان قيمته، ولأن العين إذا تبدلت انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل، والقطع.
سرقة ما ليس بمال
واتفق الآئمة على أنه إذا سرق خمراً، أو خنزيراً، أو كلباً (ولو مقتنى للحراسة) ، أو جلد ميتة بلا دبغ، فلا يجب القطع، لأن هذه الأشياء ليست بمال، فإن بلغ إناء الخمر نصاباً قطع به، وكذلك إن شارك السارق غير مكلف كصبي، ومجنون، ومن سكر بحلال، فلا قطع لغير المكلف، وكيذلك إن شاركه والد صاحب المال فلا قطع لدخوله مع ذي شبهة قوية، ولا قطع على من سرق أضحية ذبحت وهي تساوي نصاباً لخروجها لله بالذبح، وكذلك الهدي في الحج، أما لو سرقت قبل الذبح فإنه يقطع سارقها، كما لو سرق قدر نصاب من لحمها، أو جلدها الذي ملكه الفقير بصدقة فيقطع، وإذا ملكه السارق بإرث، أو شراء، قبل إخراجه من الحرز، أو نقص عن مقدار نصاب بأكل وغيره لم يقطع بسرقته.
إذا ادعى السارق أنه ملكه
المالكية - قالوا: إن السارق إذا ادعى أن المسروق من الحرز ملكه بعد قيام بينة على أنه سرق(5/164)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
نصاباً من حرز قطع بكل حال، ولا تقبل دعواه المك، لقوة التهمة وغلبنة الكذب على مثل السارق، وهروبه مما يوجب قطع يده أو رجله، وضعف إيمانه،
الحنفية، والشافعية، والحنابلة في احدى رواياتهم قالوا: أنه لا يقطع، وسماه الإمام الشافعي السارق الفقيه، لأن قوله: هذا ملكي يحتمل الصدق، وهو شبهة يدرأ بها الحد، وإن لم يقم بينة.
الحنابلة في أحدى رواياتهم قالوا: إنه لا يقطع، وفي الرواية الأخرى: إنه يقبل قوله إذا لم يكن معروفاً بالسرقة، ويسقط عنه القطع، وإن كان معروفاً بالسرقة قطع، وهو الرجح لئلا يتخذ الناس ذلك دريعة لدفع الحد عنهم. واتفقوا: على أنه إذا ابتلع السارق في الحرز مالاً، لا يفسد بالابتلاع كالجواهر، قدر نصاب ثم خرج فإنه يقطع به. أما إذا ابتلع شيئاً يتلف بالابتلاع كاللحم، والعنب، ما يساوي نصاباً، فلا قطع عليه، بل يجب عليه الضمان فقط، وإذا أتلف شيئاً في الحرز بحرق أو كسر فإنه يضمنه، أما إذا أخرجه سالماً ثم تلف المال بعد الخروج من الحرز فإنه يقطع به، وإذا أشار إلى حيوان بعلف ونحوه، فخرج من الحرز إليه، ثم سرقه، فإنه يقطع به لأنه خرج من الحرز بعمله.
السرقة من الغنيمة وبيت المال
الحنفية قالوا: إن السارق من المغنم لا يقطع، لأن له قيه نصيباً، وهو مأثور عن الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه، درأ، وتعليلاً، رواه عبد الرزاق في مصنفه، أخبر الثوري رحمه الله تعالى عن سمالك بن حرب عن أبي عبيدة بن الأبرص، وهو زيد بن دثار، أنه قال: اتي الإمام علي برجل سرق من الغنيمة مفراً، قبل قسمتها فلم يقطعه.
الشافعية قالوا: من سرق من مال بيت المال أو الغيمة ان فرز لطائفة القربى والمساكين والمجاهدين وكان هو واحداً منهم، أو اصله، أو فرعه فلا قطع عليه، لأنه سرق من مال له فيه حق ثابت وإن فرز لطائفة ليس هو منهم فيجب القطع، إذ لا شبهة له في ذلك. أما إذا لم يفرز لطائفة فلا قطع. والأصح إن كان له حق في المسروق كمال مصالح بالنسبة لمسلم فقير جزماً، أو غني على الأصح، وكصدقة وهو فقير، أو غارم لذات البينن أو غاز فلا يقطع لاستحقاقه في المالن وإن لم يكن له فيه حق قطع، لانتفاء الشبهة.
المالكية قالوا: إن سرق من بيت المال مقدار نصاب، فإنه يقطع لأنه يقطع لأنه مال محرز ولا حق له فيه، وكذا الغنيمة بعد حوزها إن كثر الجيش أو قل واخذ فوق حقه نصاباً، وقيل: يقطع مطلقاً إن سرق من الغنيمة. الحنابلة قالوا: لا يقطع السارق من بيت المال، لأنه مال العامة، وهو منهم.
سرقة الخيمة
الشافعية قالوا: الخيمة إن كانت مضروبة بين العمائر فهي كمتاع بين يديه في السوق، وإن(5/165)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
كانت في الصحراء، وبم تشد أطنابها، وترخى أذيالها، فهي وما فيها كمتاع بصحراء، وإن شدت أطنابها، وأرخيت أذيالها، فهي حرز لما فيها، بشرط أن يوجد حافظ قوي، لو كان قائماً فيها، أو بقربها، فلو لم يكن فيها ولا بقربها احد، أو كان وهو ضعيف وبعيد عن الغوث، فليس حرزاً، فمن سرق منها متاعاً فلا يقطع. المالكية قالوا: الخيمة المنصوبة في سفر، أو حضر كا فيه أهله، أم لا فإنها حرز لما فيها، وحرز لنفسه أيضاً، فإذا أخذ شيئاً منها، أو أخذها هي، وكان المأخوذ يساوي نصاباً قطعت يد السارق.
الحنفية قالوا: الخيمة إذا كانت مضروبة وسرق منها شيئاً قطع، ولو سرقها لا يقطع لأنها ليست محرزة، بل ما فيها محرز بها.
سرقة الكعبة المشرفة
المالكية قالوا: من سرق شيئاً من داخل الكعبة المشرفة، فأن كان في وقت أذن له بالدخول فيه لم يقطع، لأنه لا حرز في حقه، وإلا قطع أن أخرجه لمحل الطواف، ومما فيه القطع ما عليها، وما علق بالمقام، ونحو الرصاص المسمر في الأطين. أفاده في حاشية الأصل. اهـ.
الشافعية قالوا: يقطع من سرق ستر الكعبة إن خيط عليها لآنه حينئذ محرز.
الحنابلة قالوا: إن من سرق شيئاً من أتار الكعبة، أو من داخلها وكان يساوي ثمنه نصاباً فإنه يجب عليه القطع، لأنه انتهك حرمة بيت الله تعالى فدل ذلك على ضعف إيمانه وعدم معرفته بعظمة حرمة الكعبة المشرفة، ونستبها إلى الله تعالى، فيجب أن يشدد عليه ويقطع بسرقته.
الحنفية قالوا: من سرق من أستار الكعبة ما يبلغ ثمنه مثدار نصاب فلا يجب عليه القطع، لأنه لا مالك له، ولأنه ريما قصد بها التبرك. وقيل: إن القطع في سرقة ستارة الكعبية على الخواص الذين قوي إيمانهم، وعرفوا عظمة حرمة بيت الله الحرام، ونسبة الكعبة إلى رب العزة تبارك وتعالى، لما ورد في الحديث من تغليظ العقوبة على السارق في الحرم، أما رعاع الناس وعوامهم الذين غلظ حجابهم وجهلوا كونهم في حضرة الله تعالى، وغابوا عن تتضيمها، فإنهم يعزرون، ولا يقطعون بسرقة بعض أستارها.
سرقة المسجد
الحنفية قالوا: لا يجب القطع في سرقة أبواب المسجد لعدم الحرز، لأنه باد للغادي والرائح ولا حافظ عنده. ولا قطع أيضاً بسرقة متاع المسجد كحصره، وقناديله، وشبابيكه، وبلاطه، وأستاره، لعدم وجود الحرز وإذا انتفى الحد.(5/166)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المالكية قالوا: المسجد حرز لبابه، وما فيه من البسط، والحصر، والقناديل حيث كانت تترك فيه فيقطع من سرقها إذا بلغ ثمنها نصاباً، ولا يشترط في قطع من سرق من المسجد أن يخرجه منه، بل ولو بإزالتها عن محلها إزالة بينة، وشمل بلاطه وسقفه. أما إذا كانت البسط تفرض نهاراً فقط، فتركت ليلة فسرق منها فلا قطع على سارقها.
الشافعية - قالوا: يقطع المسلم بسرقة باب المسجد، وجذعه، وتأزيره، وسواره، وسقوفه، وقناديله التي وضعت للزينة، لأن الباب للتحصين، والجذع ونحوه للعمارة ولعدم الشبهة في القناديل. ولا يقطع بسرقة حصره المعدة للاستعمال، وسائر ما يفرض فيه، ولا بسرقة قناديل تسرج فيه لن ذلك لمنفعة المسلمين فله فيه حق كمال بيت المال، وبلاط المسحد كحصره لا قطع فيها، أما حصر الزنة، والسجاجيد الغلية فيقطع بسرقتها، وكذلك ستر المنبر إن خيط عليه أما الذمي إذا سرق من المسجد فيقطع بكل ما ذكر لعدم وجود الشبهة.
من شق الجيب أو الكم
الحنفية قالوا: من شق صرة للنقود، أو الهميان أو الجيب، والمراد الموضع المشدود فيه دراهم من الكم وأخذ الدراهم لم يقطع، وإن أدخل يده في الكم قطه لأنه في الحالة الأولى الرباط من خارج فبالشق يتحقق الخذ من خرج فلا يوجد هتك الحرز وهو الكم. ولو حل الرباط ثم اخذ المال فإذا كان الرباط من خارج يقطع، وإن كان من داخل الكم لا يقطع لآنه اخذها من خارج الكم.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، وأبو يوسف - قالوا: يقطع على كل حال، لأن في صورة أخذه من خارج الكم، إن لم يكن محرزاً بالكم، فهو محرز بصاحبه، وإذا كان محرزاً بصاحبه، وهو نائم إلى جنبه، فلأن يكون محرزاً به وهو يظان، والمال يلاصق بدنه أولى فيقطع. وقد رد الحنفية عليهم: بأن الحرز هنا ليس إلا الكم لن صاحب المال يعتمد الكم أو الجيب لا قيام نفسه، فصار الكم كالصندوق، وهذا لن المشقوق كمه، أو جيبه أما في حال المشي أو في غيره، فمقصوده في الأول ليس إلا قطع المسافة لا حفظ المال.
وإن كان الثاني فمقصوده الاستراحة عن حفظ المال، وهو شغل قلبه بمراقبته، فإنه متعب للنفس فيربطه ليريح نفسه، فإنما اعتمد الربط، والمقصود هو المعتبر في هذا الباب، ألا ترى أن من شق جوالقاً على جمل يسير، فأخذ ما فيه قطه، لن صاحب المال اعتمد الجوالق، فكان السارق منه هاتكاً للحرز فيقطه، ولو أخذ الجوالق بما فيه لا يقطع، لأن الجوالق في مثل هذا حرز، لأنه يقصد بوضع المتعة فيه صيانتها من السرقة، كالكم والجيب، فوجد الأخذ من الحرز فيقطع. وكذلك من ثقب وعاء حنطةن أو وعاء زيت، فانصب مقدار نصاب قطع به، لأنه سرق منها، وان شق الحمل وأخذ منع قطع، خصوصاً في هذا الزمن الذي كثرت فيث سرقة الجيوب والنقود. اهـ.(5/167)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ويلغز العلماء بذلك فيقال: (شخص قطع بسرقة ولم يدخل حرزاً، ولم يأخذ منه مالاً) وهو الذي شق الكم أو الجيب أو الوعاء واخذ منه المال.
سرقة القطار
الحنفية قالوا: إن سرق من القطار وهو الإبل التي تقطر في السفر على نسق واحد فإن سرق من هذا القطار بعيراً، أو حملاً لم يقطع، لأنه ليس بحرز مقصود، فتتمكن فيه شبهة العدم، وهذا لن السائق، والراكب، والقائج، إنما يقصدون قطع المسافة، ونقل الأمتعة دون الحفظ، حتى لو كان مع الأحمال من يتعها بسلاحه للحفظ. قالوا: يقطع من سرق منها، وإن شق الحمل وأخذ منه قطع.
والشافعية، والمالكية، والحنابلة، - قالوا: القطار من الإبل أو البغال، يشد زمام بعضها خلف بعض على نسق واحد فتصير مقطورة يقودها قائد، ويشترط في إحرازها التفات قائدها، أو راكب أولها إليها كل ساعة، بحيث يراها جميعاً، لآنها تعد محرزة بذلك، وغن كان يسوقها سائق فمحرزة إن انتهى نظره اليها، وفي معناه الراكب لآخرها. فإن كان لا يرى البعض لحائل جبل، أو بناء فذلك البعض غير محرزن فإن ركب غير الأول والآخر فهو لما بين يديه كسائق، ولما في خلف كقائد، وقد يستغني بنظرة المارة عن نظره إن كان يسير في طريق عام أو سوق، ويشترط بلوغ الصوت لآخرها، كما يشترط أن لا يزيد قطار على تسعة، إذا كان القطار كذلك قطع سارقها، أما إذا كانت الإبل غير مقظورة كأن كانت تساق مفرقة فهي ليست محرزة في الأصح اهـ.
السرقة من الأقارب
الحنفية قالوا: من سرق من ابويه، وإن عليا، لا يقطع، لأنها في العادة تكون معها البسوطة في المال، والإذن في الدخول في الحرز، حتى يعد كل منهما بمنزلة الآخر. ولقوة حنان الأبوين على البناء وعطفهما عليهم، ولذا منعت شهادته شرعاً. وأما سرقة الب من مال الابن فلقوله صولات الله وسلامه عليه للولج: (أنت ومالك لأبيك) . وأما ذوو الأرحام وهم الخ، والأخت، والعم، والعمة، والخال، والخالة، فللإذن في الدخول في الحرز، فقد ألحقوا بقرابة الأولاد، لأن الشرع ألحقهم بهم في إثبات الحرمة وافتراض الوصل. ففي الحديث القدسي: (قال الله عز وجل أنا الله، وأنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) . ولهذا ألحقناهم بالأولاد في عدم القطع بالسرقة، ووجوب النفقة، ولأن الأذن بين هؤلاء إثبات الحرمة وافتراض الوصل. ففي النظر منها إلى مواضع الزينة الطاهرة والباطنة، كالعضد للدملوج، والصدر للقلادة، والساق للخلخال. وما ذاك إلا للزوم الحرج لو وجب سترها عنه، مع كثرة الدخول عليها، وهي مزاولة الأعمال وعدم احتشام أحدهما من الآخر، وايضاً فهذه الرحم المحرمة يفترض وصلها، ويحرم قطعها، وبالقطع يحصل القطعها؟؟، وبالقطع يحصل القطع، فوجب صونها بدرء القطع.(5/168)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ومما يدل على نقصان الحرز فيها قوله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكمن أو بيوت آبائكم، أبو بيوت أمهاتكم أو بيوت غخوانكم، أو بيوت أخواتكم، أو بيوت أعمامكم، أو بيوت عماتكم، أو بيوت أخوالكم، أو بيوت خالاتكم، أو ما ملكتم مفاتحه أوصديقكم} ورفع الجناح عن الكل من بيوت الأعمام أو العمات مطلقاً يؤنس إطلاق الدخول، ولو سلم فإطلاق الأكل مطلقاً يمنع قطع القريب.
قالوا: ولو سرق من بيت ذي الرحم المحرم متاع غيره لا يقطع، ولو سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره يقطع اعتباراً للحرز وعدمه. ولو سرق من أبويه وإخوته من الرضاع، لن الرضاع قلما يشتهر فلا بسوططة في الدخول من غير استئذان تحرزاً عن موقف التهمة، بخلاف القرابة من النسب فإنه يشتهر ويعرف.
المالكية قالوا: إذا سرق الأبوان أو الأجداد من أولادهما وأولاد اولادهما فلا قطع على واحد منهم. أما إذا سرق الفروع من الصول فإنه يقطع، لأنه لا حق للولد في مال والديه، ولذا يحد بالزنا بجاريتهما ويقتل بقتلهما، أما باقي القرابات من ذوي الرحام فيجب القطع على سرقة أواملهم من غير خلاف بينهم اهـ.
الشافعية قالوا: من شورط المسروق عدم شبهة فيه لحديث (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) سواء في ذلك شبهة الملك كمن سرق مشتركاً بينه وبين غيره، أو شبهة الفاعل كمن أخذ مالاً على صورة السرقة بظن أنه ملكه، أو ملك أصله، أو فرعه، أو شبهة المحل كسرقة الابن مال أصوله، أو احد الصول مال فرعه، فلا قطع بسرقة مال أصل للسارق وإن علا، وسرقة فرع له ,إن سفل، لما بينهما من الاتحاد، وإن اختلفت دينهما، ولن مال كل منهما مرصد لحاجة الآخر، ومنها أن لا تقطع يده بسرقة ذلك المالن بخلاف سائر القارب، من ذوي الرحام وغيرهم، فإنه يقطع بالسرقة منهم، فقد ألحقهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بالقرابة البعيدة، فيقطع.
الحنابلة قالوا: لا يقطع الوالدون، وإن علوا فيما سرقوه من أموال أولادهم، ولا يقطع الولد إذا سرق من مال أبويه، ووجه الولد غلبة رحمة الوالد على ولده عادة، حتى أنه لم يحصل أن والداً سعى في قطع ولده الذي سرق من ماله ابداً والحدود في الغالب إنما تقام تخليصاً لحقوق العباد من بعضهم بعضاً، والثاني لأن الولد وما ملكت يداه ملك لوالديه، استيفاء لما لهما من الحقوق، إذ إن حقهما بعد حق الله تعالى: {واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} . أما الأقارب من ذوي الأرحام فيقطع من سرق من أموالهم، لأنهم ألحقوا بغيرهم من سائر الناس.
سرقة الزوجين من الآخر
الحنفية قالوا: إذا سرق احد الزوجين من الآخر فلا يقطع واحد منهما سواء سرق من بيت خاص لأحدهما، أو من بيت يسكنان فيه جميعاً، لن كلاً من الزوجين متحد مع صاحبه كأنه هو، ولتبادل المنافع بينهما، ووجود الإذن في الدخول، فاختل الحرز بينهما، ولأن بينهما بسوطة في الأموال(5/169)
مبحث اعتراض الملاحدة
-وها هنا سؤال معروف، وهو أن قطع اليد فيه اتلاف لعضو من أعضاء الإنسان، وذلك لا يتناسب مع الجريمة، إذا كانت يسيرة، فإن اقل ما تقطع فيه اليد عشرة دراهم، فالعقوبة شديدة، وهذا الطلام منشؤه الغفلة عن معنى الجريمة، وعن الآثار الضارة المترتبة عليها،
__________
عادة ودلالة، فإنها لما بذلت نفسها، وهي أنفس من المال، كانت بالمال أسمح، ولن بينهما سبباً يوجب التوارث من غير حرمان كالوالدين، وقد ورد في موطأ عن عمر بن الخطاب أنه أتي بغلام سرق مرآة لامرأة سيده، فقال: ليس عليه شيء خادمكم سرق متاعكم، فإذا لم يقطع خادم الزوج، فالزوج أولى بهذه الرخصة، ولأن شهادة احدهما لا تقبل على الآخر لاتصال المنافع، فكذلك لا يقطع أحدهما بمال الآخر، ولو سرق احد الزوجين من الآخر ثم طلقها قبل الدخول بها فبانت من غير عدة فلا قطع على واحد منهما ولو سرق من أجنبية ثم تزوجها لا قطع عليه سواء كان التزوج بعد أن قضي بالقطع أو لم يقض.
وورد عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال: إذا كان التزوج بعد أن قضي عليه بالقطع يقطع ولو سرق من امرأته المبتوتة، أو المختلعة في العدة لا قطع، وكذلك إذا سرقت هي من الزوج في العدة. الشافعية في أرجح اقوالهم، والمالكية، والحنابلة في احدى رواياتهم قالوا: أنه يقطع من سرق من الزوجين من الآخر، من حرز خاص للمسروق منه. زاد مالك: ولا يقطع من سرق من بيت يسكنان فيه جميعاً، للإذن في الدخول.
الشافعية في القول الآخر، والحنابلة في الرواية الخرى قالوا: إنه لا يقطع احدهما بسرقة مال الآخر، لن كلا من الزوجين مع صاحبه متحد معه، ولوجود المودة والرحمة التي بينهما بالزواج. قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} .
الشافعية في قولهم الثالث قالوا: إنه يقطع الزوج خاصة، لأن المرأة لها حق النفقة عليه وحق الكسوة، فلا تقطع للشبهة في استحقاقها بعض ما سرقته، ولو بحكم الشيوع في ماله، بخلاف العكس، فإن الزوج لا حق له في مال الزوجة. والمرجح من مذهب الشافعية: أنه يقطع أحد الزوجين بسرقة مال الآخر، إن كان محرزاً عنه، والله تعالى اعلم.
مطالبة المسروق منه بالقطع
الحنفية، والحنابلة، وأصحاب الشافعي قالوا: إن القطع يتوفق على مطالبة من سرق منه ذلك المال، لأن الغلب في حد السرقة حق المخلوق، لأن الخصومة شرط لظهور السرقة، والخصم هو المسروق منه.(5/170)
فإنك قد عرفت أن هذه الجريمة من أشد الجرائم خطورة، فإذا فشت السرقة بين الناس، فقد هددوا في أموالهم، وأعراضهم، وانفسهم كما ذكرنا، واصبحت حياتهم مريرة لا فائدة منها، فإن السارق كالحيوان المفترس، الذي يفتك بكل ما يلاقيه، فجريمته يجب أن تقابل بالقسون المتناهية كي ينقطع دابرها من بين الناس بتاتاً، فإذا تخيل شخص أن العقوبة شديدة فإنه يجب ان يعلم أن فظاعة الجريمة وآثارها في المجتمع، أشد وأنكى، ثم ان العقوبات لم توضع إلا لزجر فاسدي الأخلاق، وهؤلاء لا ينزجرون بالرفق واللين بدون نزاع، فإذا لم تتمثل أمامهم شدة العقوبة، فإنهم لا ينزجرون ابداً.
__________
المالكية، والحنابلة في إحدى رواياتهم قولا: إن القطع لا يفتقر إلى مطالبة المسروق منه، بل ينف بدونه، لأن الغالب في حد السرقة، حق الخالق، لا حق المخلوق، ولعموم الآية الكريمة، وكما في حد الزنا.
اشتراك جماعة في السرقة
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى، على أنه لو اشترك جماعة من اللصوص في سرقة شيء من المال ونال كل واحد منهم نصاب السرقة، فإنه يجب اقامة الحد على كل واحد منهم، فتقطع يده، لودو السرقة من كل واحد منهمن لأن الأخذ وجد من الكل معنى لدخوله الحرز، وفعلا لمعاونته للآخرين في أخذ المال المسروق، فإن السراقة يعتادون ذلك، فينسب الفعل إلى الكل شرعاً، أما إذا سرقوا جميعاً ما قيمته نصاب واحد، دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصاباً فقد اختلفا فيه.
الحنفية، والشافعية قالوا: لا قطع عليهم بحال، لأن القطع يجب على كل واحد منهم بجنايته، فيعتبر كمالها في حقه، ولم يسرق واحد منهم ما قيمته نصاب القطع، فم تتم السرقة بشروطها، والقطع إنما علق بالنصاب لا بما دونه لمكان حرمة اليد، فلا تقطع ايد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة، مراعاة عظمة عضو الآدمي، وتحقير الدنيا ومتاعها، فلا قطع، والحديث (اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك) .
المالكية قالوا: إذا كان المال المسروق مما يحتاج إلى تعاون عليه قطعوا جميعاً. وإن كان مما يمكن للواحد الانفراد به، ففيه قولان، أحدهما يقام عليهم الحد جيمعاً، والثاني لا يقطعون، وإذا انفرد كل منهم بشيء أخذه لم يقطع واحد منهم بشيء أخذه لم يقطع واحد منهم، إلا أن يكون قيمة ما أخرجه نصاباً، ولا يضم إلى ما أخرجه غيره، فإن الله يقول: {ولاتزر وازرة أخرى} ولا قطع فيما دون النصاب.
الحنابلة قالوا: يجب عليهم القطع جميعاً سواء أكان المسروق من الأشياء الثقيلة التي تحتاج إلى معاونة، اولاً؟ وسواء اجتمعوا على إخراجه من الحرز، أو انفرد كل واحد بإخراج شيء أذا صار المال المسروق بمجموعه نصاباً، تعظيماً لحرمة الأموال. وتشديداً في المحافظة على حقوق العباد. ولأن العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق، أي إن هذا القدر من المال المسروق، هو الذي يوجب(5/171)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
القطع لحفظ المال، ومراعاة لحرمته، حتى نسد الباب أمام عصابات الإجرام التي تجتمع على نهب أموال الناس.
إذا دخل الحرز جماعة
الحنفية، والحنابلة قالوا: إذا دخل الحرز جماعة من اللصوص فتولى بعضهم الأخذ، ولم يخرج الباقون شيئاً، ولا أعانوا في الإخراج. وكان نصيب كل واحد منهم نصاباً قطعوا جميعاً، لأن الإخراج وإن قام به البعض ولكنه في المعنى حصل من الكل لتعاونهم جميعاً في السرقة، ولأن قدرة الآخذ إنما هي بهم جميعاً، فإن اللصوص يعتادون ذلك، فيتفرغ غير الحامل للدفع، فلو امتنع القطع أدى إلى سد باب الحد، وإن لم يمتنع لم يضر، فوجب التشديد على من ساعد في النقب، وإن لم يخرج متاعاً، ولم يعن في الحمل، وإنما اشترط دخول الكل، لنهم إذا اشتركوا واتفقوا على فعل السرقة لكن دخل واحد منهم، البيت، أو بعضهم، واخرجوا المتاع، ولم يدخل غيرهم، فالقطع على من دخل البيت وأخرج المتاع، إن عرف من بينهم، وإن لم يعرف الداخل، فيجب علينهم التعزير، وحبسهم إلى أن تظهر توبتهم، ولا يجب القطع على من لم يدخل الدار لأنه لم يتأكد معاونتهم بهتك الحرز بالدخول، فم يعتبر اشتراكهم لما أن كمال هتك الحرز إنما يكون بالدخول.
قالوا: وذلك إذا كان الداخل الحامل للمتاع ممن يجب عليه القطع عند الانفراد، بأن كان عاقلاً بالغاً، وأما إذا كان الأخذ الحامل للمال صبياً، أو مجنوناًن أو من ذوي أرحام صاحب الدار، فلا يقطع واحد منهم لن غير الحامل في هذا الفعل تبع للآخذ الحامل، فإذا لم يجب القطع على من هو اصل لا يجب على من هو تبع.
الشافعية، المالكية قالوا: لو دخل جماعة الحرز واتفقوا على السرقة واخرج بعضهم المتاع فلا قطع إلا على من أخرج المتاع من الحرز إذا بلغ نصيب كل واحد مقدار نصاب، وهو ثلاثة دراهم فأكثر، فالداخل الذي لم يخرج المتاع ولم يحله لا قطع عليه لأنه لم يسرق فعلاً، ولم تتم شورط السرقة في حقه، وكذلك إذا لم يباغ نصيب كل واحد مقدار نصاب، فلا يقطع واحد منهم، لأنه لا قطع في سرقة أقل من النساب ولو اشترك لصان مكلفان في إخراج نصابين فأكثر من حرز، فقعاً، لان كلا منهما سرق نصاباً، أما إذا كان المخرج اق من نصابين فلا قطع عليهما.
إذا ثقب اللص البيت
الحنفية رحمهم الله تعالى قالوا: إذا ثقب اللص البيت فدخل، وأخذ المال فتناوله آخر خارج البيت عند الثقب، أو على الباب، فلا يجب القطع عليهما، لاعتراض يد معتبرة على المال المسروق قبل خوج الداخل فوجدا شبهة في السرقة. حيث ان السرقة لم تتم من واحد منهما. وقال أبو يوسف: إن اخرج الداخل يده من النقب إلى الخارج فالقطع على الداخل، وإن ادخل الخارج يده فتناولها فعليهما القطع.(5/172)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أما إذا انفرد بفعله من غير تعاون فلا يقطع واحد منهما، وذلك إذا حصل أن خارجاً رأى ثقباً فأدخل يده فوقعت على شيء مما جمعه الداخل فأخذه، فلا يقطع واحد منهما.
وإذا نقب المنزل ثم ألقى بالمتاع في الطريق ثم خرج وأخذه فإنه يقطع. لأن هذه من حيل اللصوص، وإذا وضع الداخل المال عند النقب، ثم خرج وأخذه قيل: يقطع، والصحيح أنه لا يقطع.
ولو كان في الدار نهر جار فرمى المال في النهر ثم خرج فأخذه، فأن خرج بقوم الماء لا يقطع، لأنه لم يخرجه بفعله، وقيل: يقطع لأنه إخراج بسببه، لأن جري الماء به كان بسبب القائه فيه، فيضير، الإخراج مضافاً إليه، وهو زيادة حيلة منه، ليكون متكناً من دفع صاحب البيت، فلا يكون مسقطاً للقطع عنه، وإذا نقب الدار وألقى بالمال في الطريق، فأخذه غيره من الطريق، فلا قطع على واحد منهما، وإذا حمله على حمار من داخل فساقه فأخرجه، ثم أخذه فإنه يقطع، لأن سيره مضاف إليه يسوقه، وإذا علق المتاع في عنق كلب وزجره فخرج ثم أخذه منه فإنه يقطع، ولو خرج الكلب بلا زجره لا يقطع، لأن للدابة اختياراً، فما لم يفسد اختيارها بالحمل والسوق لا تنقطع نسبة الفعل إليها، ومن نقب البيت وأدخل يده فيه، وأخذ شيئاً من غير أن يدخل الدار، فلا يجب عليه القطع في هذه الحالة لن عنك الحرز يشترط فيه الكمال. تحرزاً عن شبهة عدم السرقة، وهي مسقطة، فإن الناقص يشبه العدم.
المالكية قالوا: ومن نقب الدار ثم دخلها، فتناول مقدار النصاب منه الخارج، بأن مد الخارج يده لداخل الحرز، وأخذه منه من غير أن يخرجه الداخل، فيجب القطع على الخراج فقط، لأنه هو الذي أخرجه من الحرز، والداخل لم يخرج المال فلا يجب عليه القطع.
ولو مد الداخل يده بالشيء إلى من هو خارج الحرز، وتناوله غيره من الخارج فالقطع على الداخل فقط. لأنه الذي اخرج المال من الحرز، والخارج لم يهتك بهتك الحرز، ولم يخرج المال فلا قطع عليه.
وإن التقيا، أي الداخل في الحرز، والخارج عنه بايديهما وسط النقب فأخرج الخارج الشيء بمناولة الداخل، أو ربطه الداخل بحبل ونحون فجذبه الخارج عن الحرز وجب القطع عليهما معاً. ومن جعل على ظهر غيره في الحرز شيئاً فخرج به، ولولا الجاعل ما قدر على حمله، يقطعان معاً، فإن كان الحامل يقدر على حمله دون الداخل، قطع الخارج بالمتاع وحده، لأنه هو الذي حمل المال.
الشافعية، والحنابلة قالوا: لو نقب شخص الدار، وأخرج غيره المال من النقب ولو في الحال، فلا قطع على واحد منهما، لأن الناقب لم يسرق ولآخذ اخذ من غير حرز، ويجب على الأول ضمان الجدار، وعلى الثاني ضمان المأخوذ، وهذا إذا لم يكن في الدار أحد، أما إذا كان فيها حافظ قريب(5/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
من النقب وهو يلاحظ المتاع فالمال محرز به، فيجلب القطع على الآخذ، وإن كان الحافظ نائماً فلا قطع على الأصح، كمن نام والباب مفتوح، ويشترط أن يكون المخرج مميزاً، أما لو ثقب الدار ثم امر صبياً غير مميز، أو مجنوناً فإخراج المال، فأخرجه قطع الأمر، وإن أمر مميزاً أو قرد فلا، لنه ليس آلة له.
ولو تعاون اثنان في الثقب ثم انفرد أحدهم بالإخراج لنصاب فأكثر، أو وضعه احد الناقبين بقرب النقب فأخرجه لآخر مع مشاركته له في النقب، وساوى ما أخرجه نصابه فأكثر وجب القطع على المخرج في الصورتين، لأنه هو السارق.
ولو وضعه الداخل بوسط النقب فأخذه شريكه الخارج، أو ناوله لغيره من فم النقب وهو يساوي نصابين فأكثر لم يقطعا في الأظهر، لأن كلاً منهما لم يخرج من تمام الحرز وهو الجار، ويسمى السارق الظريف والرأي الثاني: يقطعان لاشتراكهما في النقب والإخراج ولئلا يصير ذلك طريقاً إلى إسقاط الحد، ولو ربط المال لشريكه الخارج فجره قطع الخارج دون الداخل، وعليهما الضمان.
وقطع العمى بسرقة ما دل عليه الزمن، وإن حمله العمى ودخل به الحرز ليدله على المال، وخرج به، لأن الأعمى هو السارق.
ويقطع الزمن بما أخرجه، والأعمى حامل للزمن، لأن الزمن هو السارق، ولا يقطع العمى في هذه الصورة لأنه ليس حاملاً للمال، وفتح الباب، وكس الفقل أو غيره وتسور الحائط كالنقب فيما مر، ولو رمى المال المحرز خارج الحرز، أو وضعه بماء جار، أو راكد، أو عرضه لريح هابة فأخرجته منه قطع في هذه الصور كلها، لأن الإخراج في الجميع منسوب إليه، وسواء ماه من النقب أم من فوق الجار، وساء أخذه بعد الرمي أم لا، تلف، كأن رماه في نار، أم لا. ولو نقب اللص في ليلة ولم يسرقن وعاد ليلة أخرى قبل إعادة الحرز فسرق قطع في الأصح، كما لم نقب أول الليل ثم سرق في آخره. وقيل: لا يقطع.
سرقة الحر الصغير
الشافعية قالوا: من سرق حراً، فإن كان صغيراً، فلا يجب عليه القطع، لأن الحر ليس بمال. فإن قيل: روي عن الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم (أتي برجل يسرق الصبيان، ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر به فقطعت يده) فالجواب على ذلك أن الحديث ضعيف، وعلى تقدير صحته فمحمول على الأرقاء وحكمه: أنه سرق حراً صغيراً لا يميز، أو مجنوناً، أو اعجمياً، أو أعمى من موضع لا ينسب لتضييع لأنه محكم بقلادة، أو مال غيرهان يليق به عن حليته، وملابسه، وذلكنصاب، فلا يقطع سارقه في الأصح، لأن للحر يداً على ما معه، ولهذا لو وجد منفرداً، ومعه حلي حكم له به، فصار كمن سرق(5/174)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
جملاً وصاحبه راكبه. والرأي الثاني: يقطع لآنه أخذه لجل ما معه، أما لو سرق من موضع ينسب لتضييع كخلاء أو صحراء، فلا يقطع بلا خلاف، أو كان مامعه فوق مايليق به، واخذه من حرز مثله قطع بلا خلاف. أو من حرز يصلح للصبي دونه لم يقطع بلا خلاف.
هذا إذا كانت القلادة للصبي، فو كانت لغيره، فإن أخذه من حرز مثلها قطع وإلا فلا جزماً ولو أخرج الصبي من الحرز، ثم نزع القلادة عنه لم يقطع، لأنه لم يأخذها من حرز، ولو سرق قلادة مثلاً معلقة على صغير، ولو حراً أو كلب، محرزين أو سرقها مع الكلب قطع.
المالكية قالوا: لا يجب القطع على من اخذا ما على صبي حر غير مميز من حلي وثياب، أو معهه فيجيبه مثلاً أو في عنقه، بلا حافظ مع الصبي وليس الصبي بدار أهله، لأن غير المميز ليس حرزاً لما عليه، ومثل الصبي الممجنون ولو كان كبيراً.
أما إذا سرق الصبي الحرغير المميز وهو الذي يمشي، ولا يتكلم فإنه يجب عليه القطع لأنه كالمال المحترم، وذلك لأن الصبي إذا كان غير مميز يكون هو المقصود بالخذ دون ما عليه، وربما لا يكون عليه شيء، وإلا لأخذ ما عليه من الحلي، أو الثياب، وتركه، فيجب إقامة الحد عليه عقوبة له، لأنه أغلى من المال، ولما رواه الدارقطني عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يسرق الصبيان، ثم يخرج بهم فيبعهم في أرض أخرى، فأمر به قطعت يده) .
الحنفية قالوا: لا يجب القطع على سارق الصبي الحر، وغن كان عليه حلي يباغ نصاباً والحلي هو ما يلبس من ذهب، أو فضة، أو جوهر، وذلك لأن الحر ليس بمال وما عليه من الحلي تبع له، ولا قطع إلا بأخذ الما، فلا يقطع بسرقته، وغن كان إثمه وعقابه عند الله تعالى أشد من عقاب سارق المال، ففي الحديث القدسي عن رب العزة جل جلاله (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، وجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل أستأجر أجيراً فاستوفى منه عمله، ولم يوفه أجره) ، لكن القطع الذي هو العقوبة الدنيوية لم يثبت عليه شرعاً، لودود شبهة، وهة أن يتأول في أخذه الصبي اسكاته، أو حمله إلى مرضعته، والمراد بالصبي الصغير غير المميز، الذي لا يمشي ولا يتكلم فلو كان الصبي يمشي ويتكلم ويميز فلا يقطع اجماعاً، لأنه في نفسه، فكان أخذه خاعاً، ولا قطع في المكر والخداع، وروي عن أبي يوسف: أنه يجب القطع في سرقة الصبي الحر غير المميز والله أعلم.
الشافعية قالوا: لو نام عبد على بعير فقاده وأخرجه من القافلة قطع، وإن نام حر على بعير فأخرجه فلا قطع في الصح لأن البعير بيده.
إذا سرق الضيف
الحنفية قالوا: لا يجب القطع على الضيف إذا سرق اكثر من نصاب ممن اضافه فبيته لأن البيت لم يبق حرزاً في حقه، لكونه مأذوناً في دخوله، ولأنه بالاذن صار بمنزلة أهل الدار، فيكون فعله(5/175)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
خيانة لا سرقة، وكذلك إذا سرق من بعض بيوت (حجرات) الدار التي أذن له في دخولها وهو مقفل، أو من صندوق مقفل، لن الدار مع جيمع بيوتها حرز واحد، ولهذا إذا أخرج اللص المتاع من بعض بيوت الدار إلى الدرا لا يقطع ما لم يخرجه من الدار، وإذا كان الدار حرزاً واحداً فبالاذن بادخول في الدرا اختل الحرز في البيوت، وهي شبهة تدرأ الحد عن الضعيف السارق.
الشافعية، والحنابلة قالوا: لو سرق الضيف من مكان مضيفه، أو الجار من حانوت جاره، أو المغتسل من الحمام، وإن دخل ليسرق، لا يجب عليه القطع لآنه أخذ مالاً غير محرز لأن البيت لم يعد حرزاً له حيث أن صاحب الدار أذن له في دخول الحرز، لأنهم اشترطوا لوجود القطع في المسروق أموراً لابد من تحقيقها، وهي:
(الأول) كونه يساوي ربع دينار.
(الثاني) كونه ملكاً لغيره.
(الثالث) عدم وجود شبهة فيه.
(الرابع) كونه محرزاً بوجود ملاحظة، أو بحصانة موضعه، فإن فقط شرط من هذه الشروط فلا يجب القطع. وقد فقد هنا شرط وهو كون المال محرزا.
المالكية قالوا: لا يجب القطع على الضيف الذي أذن له في دخول الدر، إذا سرق منه مالاً يزيد عن النصاب، لأنه دخل بإذن رب الدار فيكون خائناً لا سارقاً.
ولا قطع على من سرق من بيوت ذي الإذن العام لجميع الناس كبيت الحاكم، والعادل، والكريم، (المضيفة) الذي يدخله الناس بدون إذن من أصحابها، فإذا أخرج المسروق من الباب فلا قطع عليه لأنه خائن لمن استأمنه، إلا إذا سرق ما حجز فيه، كحاصل، أو خزانة داخل البيت العام، فإن أخرجه من الحجز إلى باب الدار قطع، وإن اخرجه للحرش فلا يقطع لوجود الإذن عادة، أو قيقة ثم الدخول فاختل الحرز، لم تتم السرقة.
السرقة من دكاكين التجار والمحلات العامة والشركات
الحنفية، والمالكية قالوا: لا يجب القطع على اللص الذي سرق من حوانيت (دكاكين) التجار، والحانات، لأن أصحابها قد أذنوا للناس في دخولها للشراء، فاختل الحرز، فيثبت فيها حكم عدم القطع على السارق نهاراً، فإن التاجر يفتح حانوته صباحاً في السوق، ويرحب بالناس في الدخول لمعاينة البضائع والشراء منها، ويفرح لكثرة المترددين على حانوته، لأن في ذلك ربحه، ورواج تجارته فإذا سرق واحد منهم شيئاً فلا يجب عليه القطع، لوجود الإذن عادة، أو حقيقة من الدخول فاختل الحرز، إلا إذا سرق منها ليلاً، لأنها بنيت لاحراز الأموال، وإنما اختل الحرز في أثناء النهار للإذن وهو منتف بالليل، فيجب القطع في السرقة منها ليلاً، إذا بلغ ما سرقه نصاباً، ولو لم يكن حافظ.
الشافعية والحنابلة قالوا: لا قطع على من أذن له في الدخول إلى دار، أو حانوت، أو خان(5/176)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
للشراء لوجود شبهة عدم الحرز للاذن في الدخول إلى هذه الماكن عادة وعرفاً، فإنه قد أذن للناس، جميعاً دخول هذه الأماكن أثناء النهار لقضاء مصالحهم، وشراء حاجياتهم، من غير حرج ولا استئذان فأصبح المتاع الموجود منها غير محرز، وإن كانت في البناء، وموجود معها صاحبها، ولكن الإذن شبهة، والثياب الموضوعة على باب حانوت القصار للعرض، ولفت أنظار الزبائن، وأمتعة العطار الموضوعة على باب حانوته، والقدور التي يطبخ فيها في الحاونيت محرزة بسدد تنصب على باب الحانوت للمشقة في نقلها إلى بناء، واستحالة إغلاق باب عليها، كل ذلك إذا حدث نهاراً، وقت وجود الإذن في الدخول والحانوت المغلق بلا حارس حرز لمتاع البقال في زمن المن ليلاً، بخلاف الحانوت المفتوح ليلاً وليس فيه حارس، أو المغلق في زمن الخوف، وحانوت متاع البزار ليلاً، لأنه ليس مأذوناً بادخول فيه.
قالوا: وأبواب الدور، والبيوت التي فيها، والحوانيت بما عليها من مغاليق وحلق، ومسامير، محرزة بتركيبها ولو مفتوحة، أو لم يكن في الدور والحوانيت أحد، ومثلها سقوف الدور والحوانيت. شيء منه إلا بحل الرباط، أو بفتق بعض الغرائز حيث اعتيد ذلك، بخلاف ما إذا لم يعتد ذلك، فإنه يشترط أن يكون عليه باب مغلق، كا هو الحال في عصرنا الحالي وإذا ترك التاجر كوة أي نافذة في دكانه ليلاً، فأدخل اللص يده منها وأخذ شيئاً من المال مقدار نصاب فلا يجب عليه القطع لعدم هتك الحرز.
وقالوا: لو سرق اللص طعاماً زمن القحط، والغلاء الشديد، ولم يقدر عليه، لم يقطع رحمة بالناس. كما حصل في عام الرمادة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب.
السرقة من السفينة
المالكية قالوا: إن السرقة من السفينة تتكون من ست عشرة صورة تفصيلها كما يأتي. فيقطع في السرقة من الخن وما ألحق به في ثما،، وهي أخرجه منها أم لا، كان من الركاب أم لا، بحضرة رب المال أم لا، كان المال في الخن، أو م ألحق به، ويقطع في السرقة من غير الخن في خمس وهي إن كان بحضرة رب المال، أخرجه منها أم لا، أجنبياً أو من ركابها، والخامسة أجنبي أخرجه منها بغير حضرة ربه، وثلاث لا قطع فيها وهي ما إذا كان بغير حضرة صاحبه، وكان من ركابها، أخرجه أم لا، أو أجنبياً ولم يخرجه منها.
السرقة من الغريم
الحنفية، والمالكية رحمهم الله تعالى قالوا: إن السارق لا يجب عليه القطع إذا سرق نصاباً من(5/177)
أمثلة على ردع المجرمين
-ولنا على ذلك أمثلة ملموسة عملية، مثلاً: الكوكايين، والحشيش قد وضعت لهما الحكومة. في أول الأمر عقوبة خفيفة، فكانت مغرية لضعاف النفوس والأشرار على ارتكاب
__________
مال له فيه شركة، بأن يسرق أحد الشريكين من حرز الآخر مالاً مشتراكً بينهما، لأن للسارق فيه حقاً، وهو شبهة تدرأ الحد عن السارق، فلا يقطع. ومن له على رجل آخر دراهم، فسرق مثلها لم يقطع، لأن ما فعله استيفاء لحقه الثابت، والدين الحال والمؤجل في عدم القطع سواء استحساناً. لأن التأجيل لتأخير المطالبة، والقياس أن يقطع لأنه لا يباح له لاخذه قبل الأجل لأن ثبوت الحق، وإن تأخرت المطالبة يصير شبهة، ولا يقطع لو سرق أكثر من حقه لأن بالزيادة يصير شريكاً في ذلك المال بمقدار حقه، ولا فرق بين كون المديون المسروق منه مماطلاُ أو غير مماطل ولو اخذ من غير جنس حقه. فإن كان حقه دراهم، أو دنانير فأخذ عروضاً قطع لأنه ليس له أخذها. وإن كان دراهم فأخذ دراهم فأخذ دنانير، أو على العكس قيل: يقطع لأنها لا تصير قصاصاً بحقه، وإنما يقع بيعاً فلا يصح إلا بالتراضي فليس له أخذها، وقيل: لا يقطع للمجانسة بينهما من حيث الثمنية، ويقطع لو سرق حلياً من فضة ودينه دراهم.
ولو سرق من غريم أبيه، أو غريم ولده الكبير قطع لأن حق الأخذ لغيره، ولو سرق من غريم ابنه الصغير لا يقطع، لأن له حق الأخذ بالنيابة عن الصغير؟
الشافعية قالوا: إذا كان المديون المسروق منه مماطلاُ فلا يقطع به، وإن كان غير مماطل يقطع إذا سرق منه، أما إذا أخذه بقصد الاستيفاء لم يقطع، لأنه حينئذ مأذون له في أخذه، وغير جنس حقه كجنس حقه في ذلك.
إذا عاد فسرق المسروق
الحنفية قالوا: من سرق عيناً فردها، با، كانت قائمةن ثم عاد فسرقها وهي بحالها لم يقطع، وذلك لن القطع أوجب سقوط عصمة بقيت شبهة أنها ساقطة، نظراً إلى اتحاد الملك والمحل، وقيام الموجب للسقوط، وهو وانتفى السقوط بعد تحققه كان مع شبهة عدمه، فيسقط بها الحد، بخلاف ما لو سرقه غيره.
ولأن تكرر الجنابة بعد القطع نادر، والنادر وجوده لا يشرع فيه عقوبة دنيوية زارجة فأنها حينئذ تعرى عن المقصود، وهو تقليل الجناية. إذ هي قليلة بالفعل فلم تقع في محل الحاجة.
المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: من سرق شيئاً فقطع فيه ثم عاد فسرقه وهو بحاله فإنه يقطع فيه مرة ثانية، لما رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بطريق الواقدي عن(5/178)
الفعل، لا زاجرة لهم، فلم سنت قوانين صارمة، وأدرك هؤلاء الاشرار خطورتها، كفوا عن تعاطي هذه السموم، وهذه القوانين تقرها الشريعة الإسلامية، وتحبذها، لأن للحاكم أن يعزر بما يراه قاطعاً للجرائم، سواء كانت مقصورة على الشخص، أو تتقداه إلى المجتمع.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله اليسرى) الحديث، ولأن السرقة الثانية مثل الآولى في سببية القطع، بل أفحش لأن العود بعد الزاجر اقبح، وصار كما لو باعه المالك للسارق ثم اشتراه منه، ثم كانت السرقة فإنه يقطع اتفاقاً من غير خلاف، ولأن المتاع بعد رده على المسروق منه في حق السارق كعين أخرى في حكم الضمان، حتى لو غصبها السارق أو أتلفها كان ضامناً، فكذلك في حكم القطع، وعموم القرآن يوجب عليه القطع، ولأنه مال معصوم كامل المقدار اخذ من حرز لا شبهة فيه. وبهذه الوصاف لزمه القطع في المرة الولى، بكذلك في المرة الثانية.
هل يجتمع الغرم مع القطع
الحنفية، والحنابلة قالوا: إذا ثبتت الجناية على السارق فلا يجتمع عليه وجوب الغرم مع القطع، وإن تلف المسروق هلاكاً أو استهلاكاً فلا يضمن، فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم، أما إذا قطع السارق والعين قائمة في يده ردت على صاحبها، لبقائها على ملكهن من غير خلاف وللمسروق منه الخيار، فإن فاختار الغرم لم يقطع السارق، وإن اختارم القطع فلا غرامة عليه، لما رواه النسائي من حديث المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد) ففي الحديث دليل على أن العين المسروقة إذا تلفت في د السارق لم يغرمها بعد أن وجب عليه القطع سواء أتلفها قبل القطع أو بعده، ولأن هذا القطع جزاء، والجزاء هو الكافي، فدل ذلك على أن هذا القطع كان في جناية السرقة، ولأن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول، فصار القطع بدلاً من الغرم، ولذلك إذا تكرر من السارق، سرقة ما قطع به، لم يقطع فيه مرة ثانية، لشبهة اتحا المحل، والسبب.
ولأن وجوب الضمان ينافي القطع، لأن يتملكه بعد أداء الضمان مستنداً إلى وقت الأخذ فتبين أنه أخذ ملكه، ولا قطع في ملكه، لكن القطع ثاب قطعاً، فما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي والمؤدي إليه الضمان فينتفي الضمان.
المالكية قالوا: إن كان السارق موسراً وجب عليه القطع والغرم، وإن كان معسراً لم يجب عليه الضمان بل يقطع فقط. لأن له رائحة عذر لما ظهر عنده من الفاقة والحاجة، و {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}
الشافعية رحمهم الله تعالى قالوا: يجب القطع والغرم على السارق على أي حال موسراً أو معسراً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ولقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم(5/179)
رحمة الشريعة بالمفسدين
-وايضاً فقد رأينا في زمن من الأزمنة اضطراب حبل الأمن في البلاد المقدسة اضطراباً شديداً، فلما نفذ فيهم حكم الله تعالى وقطعت ايدي بعض السارقينن لم تلبث الجريمة أن اختفت، وحل محالها الأمن والطمأنينة.
على أن الذي يتأمل في المثالين المذكورين، يدرك أن شدة العقوبة، إنما هي في ظاهر المر، أما في الواقع فهي رحمة بالسارقين فاسدي الأخلاق، فإنهال قد زجرتهم فعلاً، وأوقفتهم عند حدهم، فتركوا هذه الجريمة المؤذية للمجتمع شر إيذاء.
__________
بالباطل} وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه) ولأنه اجتمع في السرقة حقان، حق الله تعالى، وحق للآدمي فاقتضى كل من حق موجبه، ولأنه اتفقت آراء العلماء على أنه إذا كان الشيء المسروق موجوداً بعينه رد إلى صاحبه، فيكون إذا لم يوجد في ضمانه، قياساً على سائر الأموال الواجبة. ولآنه أتلف مالاً مملوكاً عدواناً فيضمن مثل الغصب ولا منافاة هنا بين هذين الحقين لنهما بسببين مختلفين أحدهما حق الله، وهو النهي عن هذه الناية الخاصة، والآخر حق الفرد فيقطع حقاً لله، ويضمن حقاً للعبد، وصار كاستهلاك صيد مملوك في الحرم، فيجب الجزاء حقاً لله تعالى، ويضمن حقاً للعبد، وكشرب خمر الذمي، فإنه يحد حقاً لله، ويغرم قيمتها حقاً للذمي، ولما روي ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن التمر المعلق فقال: (من أصاب بغية من ذي حاجة غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه الغرامة والعقوبة) الحديث اهـ.
من وجد رجلاً داخل الدار
الحنفية رحمهم الله قالوا: لو وجد في داره أجينباً فقتله، ثم قال: إن هذا لص دخل على داري ليأخذ مالي، ولم أستطع رده إلا بقتله، ينظر في الرجل المقتول فإن كان معروفاً بالفساد واللصوصية فلا قود عليه، وكان على القاتل دفع الدية إلى اهله، وان لم يكن معروفاً بالفساد واللصوصية، فعلى القاتل القود، ولا يقبل دعولاه إلا ببينة.
المالكية، والشافعية والحنابلة رحمهم الله - قالوا: أنه يجب على القاتل القصاص، إلا أن يأتي ببينة على صدق دعواه، ولا ينظر إلى حالة الرجل المقتول وسلوكه، وذلك حتى نقفل باب الفساد من هذا الطريق، فإنها ثغرة يلجأ إليها ضعاف الايمان لإزهاق النقوس، فربما يطلب الشخص رجلاً لعمل شيء في داره، أو لضيافته ثم يعتدي عليه ويغتالهن لودو ضغينة في نفسه، ويدعي عليه أنه دخل الدار للسرقة فقتله. وقتل المؤمن من أكبر الكبائر عند الله تعالى فيجب أن يسد كل باب يكون سبباً في إزهاق روحه.
إذا ملك المسروق قبل القطع
الحنفية قالوا: إذا قضى الحاكم على رجل بالقطع في سرقة، فوهبها له المالك، وسلمها إليه،(5/180)
مبحث فائدة تحديد النصاب في القطع
ولعل قائلاً يقول: إن النظر إلى الجريمة في هذا الوجه يقتضي أن يد السارق تقطه، ولو سرق درهماً واحداً، فما فائدة تخصيص القطع بعشرة دراهم؟
والجواب: ان الشارع أراد أن يجعل سبب القطع مالاً له قيمة في الجملة، وهو ما يتضرر به صاحبه، فالعشرة دراهم قد تكون قوت أسرة فقيرة يومين، فاذاسرقت منها تضررت، أما ما دون ذلك، فإنه لا يودب القطع لهوانه غالباً، فإذا أفلت من القطع في هذه الحالة، فإنه لا يفلت من التعزير بالسجي، أو الضرب حتى لا يتعود.
ومثل ذلك ما إذا أراد ان يسرق فثقب المدار، أو تسور الجار، ثم منعه من السرقة مانع، فإنه يستحق في هذه الحالة عقوبة العتزير الرادعة عن العودة.
__________
أو باعها آياه، أو آلت إليه بإرث أو غيره، فإنه يدرأ الحد عنه ولا يقطع. وذلك لأن استيفاء الحد بالفعل من القضاء في باب الحدود، فما قبل الاستيفاء كما قبل الفضاء، ولو ملك المال المسروق قبل القضاء فلا يقطع اتفاقاً، فكذا قبل الاستيفاء، ولن المقصود من القضاء باللفظ ليس إلا إظهار الحق للمستحق، والمستحق هنا هو الله عز وجل، والحق ظاهر عنده غير مفترقر إلى الإظهار فلا حاجة إلى القضاء لفظاً، ولا يقيده سقوط الواجب عنه، إلا بالاستيفاء، وإذا كان كذلك والخصومة شرط، يشترط قيامها عند الاستيفاء كما عند القضاي، وهي منتفية بالهبة، أو البيع.
والشافعية، والحنابلة، المالكية، - قالوا: يجب القطع في هذه الحالة، لأن السرقة قد تمت انعقاداً بلا شبهة، وظهوراً عند الحاكم، وقضي عليه بالقطع، ولا شبهة في السرقة إلا لو صح اعتبار عارض الملك المتأخر متقدماً ليثبت اعتباره وقت السرقة، ولا موجب لذلك فلا يصح، فلا شبهة فيقطع ومما ينفي صحة ذلك الاعتبار ما ورد في حديث صفوان، أنه قال: يا رسول الله لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال عليه الصلاة والسلام: (فهل قبل أن تأتي به) رواه أبو داود وأبن ماجة، زاد النسائي في روايته: (فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف ما لو أقر له بالسرقة بعد القضاء، فإنه لا يقطع، لأن بالإقرار يظهر الملك السابق، فينتفي القطع.
إذا نقصت قيمة السرقة قبل القطع
الحنفية قالوا: في ظاهر المذهب إذا نقصت قيمة السرقة بعد القضاء، قبل الاستيفاء، عن العشرة لا يقطع لأن كمال النصاب لما كان شرطاً، يشترط كماله عند الإمضاء والقطع، لأنه من القضاء، وهو منتف في نقصان القيمة، بخلاف نقصان العين عند الاستيفاء، لأن ما استهله مضمون عليه، فكان الثابت عتد القطع نصاباً كاملاً بعضه دين، وبعضه عين، بخلاف نقصان السعر، فإنه(5/181)
وكذا من أقدم على السرقة، ولم تتوفر فيه الشروط التي ذكرها الفقهاء، فإن اشارع يوجب تعزيره كي لا يعود. ولعل فيما ذكرناه ما يقنع هؤلاء الذين يتخيلون شدة هذه العقوبة فيدركوا انها هي عين الرحمة للسارقين، وللمجتمع كله.
__________
لا يضمنه، لأنه يكون لفتور الرغبات، وذا لا يكون مضموناً على احد، فلم تكن العين قائمة حقيقة ومعنى، فلم يقطع والحديث يقول: (اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك) .
الشافعية، والمالكية، والحنابلة، - قالوا: إذا نقصت قيمة العين المسروقة بعد القضاء عن قيمة النصاب فإنه يجب القطع، اعبتاراً بالنقصان في العين، فإنه إذا كانت ذات العين ناقصة وقت الاستيفاء والباقي منها لا يساوي عشرة دراهم يقطع بالاتفاق. فكذا إذا كانت قيمتها وقت الاستيفاء كانت قيمتها وقت الاستيفاء كذلك، يجب القطع أيضاً، والله أعلم.
-
طعن الملاحدة
لقد أثار الملاحدة شبهة على حد الشرقة، وطعنوا في أحكام القرآن الكريم، وقالوا: لونفذنا حد السرقة لشوهنا نسف المجتمع، وقضينا على عدد كبير من أبناء البشرية الذين تشل حركتهم، ولرأينا جيشاً جراراًمن العاطلين والمشوهين الذين قطعت أطرافهم بحد السرقة، والرد على هذه الشبهة يسير جداً، وهو أن تقول لهم: انظروا إلى المجتمع الذي كان في عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وعهد الخلفاء الراشدين، والأمن الذي كان ينتشر فيه، والسعادة التي كانت ترفرف عليه حين كانوا ينفذون أحكام الشرعة بدقة من غير إهمال.
وقارنوا بينه وبين المجتمع الذي نحن فيه مع وجود المال، وانتشار الحضارة والمدنية في كل مكان. ولكن الأمن غير مستتب، والناس غير آمنين على أموالهم وأنفسهم، والفاسد قط عم كل مكان، والسرقات من الأفراد والجماعات والحكومات سراً وعلانية، بل إن العصابات تسطو على الناس في الشوارع والطرقات في الليل، ورابعة النهار، وفي الممحلات والسيارات والمركبات وذلك كله لعدم تنفيذ حدود الإسلام، والتمسك بأحكام الشريعة الغراء.
فتنفيذ حد السرقة هو العلاج الوحيد لهذه الفوضى التي نعيش فيها في هذا الزمان. كما أنهم طعنوا في أحكام الشريعة وقالوا جهلاً منهم إن اليد إذا اعتدي عليها تقوم في الدية بخمسمائة دينار من الذهب الخالص. فكيف تقطع في ثلاثة دراهم وهو مال حقير، وقد ذكروا أن ابا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه اورد إشكالاً على الفقهاء، في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً دل على جهله، وقلة عقله فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض حالنا إلا السكوت له * وأن نعوذ بمولانا من النار(5/182)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء، فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك بأجوبة كثيرة، وكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله تعالى أن قال: (لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت) ومنهم من قال: هذا مت تمام الحكمة والمصلحة وأسرار السريعة العظيمة، فإن باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار، لئلا يجنى عليها، إكراماً لبني آدم، وتعظيماً لمكانته، ورفعة لحرمته، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين كالحكمة عند ذوي العقول والألباب، ولهذا قال تعالى: {جزاء بما كسبا نكالاً من الله، والله عزيز حكيم} . أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك {نكالاً من الله} أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب هذا الجرم الشنيع الذي لا يلجأ إليه إلا النفوس الخبيثة التي رق دينها، ونسيت مراقبة الله لها، وباعت آخرتها بدنياها، فتعدت حدود الله من غير خوف ولا وجل، وتجرأت على أكل أموال الناس بالباطل. فكان من الحكمة، أن يقسو عليها الشرع في أحكامه حتى تردع عن غيها، وترجع عن إجرامها.
{والله عزيز} في انتقامه، لا يغالب، بل يقهر الجبارين المعتدين، {حكيم} في أمره' ونهيه وشرعه وقدره، وفيما يشرعه منأحكام لعباده، صيانة لمصالحهم، وحفظاً لأموالهم ,ارواحهم، وجلباً لسعادتهم في هذه الحياة وتطهيراً للمجتمع من المفسدين والعابثين، ولأن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين، ثم الحكمة الأولية حكمة فيها الاختصاص الذي هو الملك المك شرعاً، وبقيت الطماع متعلغة بها، والمال والحرز عن أكثرهم، فاذا أحرزها مالكها، فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان للإنسان، فإذا هنكا فشت الجريمة، فعظمت العقوبة، وإذا عنك احد الصورتين وهو المك. وجب الضمان والأدب، حتى يرتدع المعتدون، الذين لا يخافون الله واليوم الآخر، فلعنة الله على السارق الخائن، الذي يبذل الغالية الثمينة، في الأشياء المهينة.
قالوا: وقد بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل ذكر السارقة، وبدأ بذكر الزانية في آية الزنى قبل ذكر الزاني. لأن حب المال في قلوب الرجال أغلب منه في قلوب النساء فقد ذكر الرجال في السرقة، ولأن شهوة الاستمتاع باللذة على النساء أغلب منها على الرجال، فقد ذكر النساء في آية الزنى. والله أعلم.
وقد جعل الله تعالى حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر، مع واقعة الفاحشة به، لثلاثة معان، أحدهما: أن للسارق مثل يده التي قطعت، فإن انزجر بها اعتاض بالثانية، وقضى بها مآربه، ولكن ليس للزاني مثل ذكره، إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه، الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر يراه الناس بالعيان فيعتببرون به، أما قطع الذكر في الزنى، فهو باطن، فلا يراه أحد للعبرة.
الثالث: أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل، وليس في قطع اليد إبطاله، ثم قال الله تعالى: {ألم(5/183)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء واللًه على كل شيء قدير} فالآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره أي لا قرابة بين الله ولين أحد من خلقه توجب المحاباة، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد، وله أن يحكم بما يريد، ويفعل ما يشاء، لنه مالك الملك، فيعذب من يشاء بعدله، ويغفر لمن يشاء بجوده وكرمه، وهو على كل شيء قدير، والله اعلم.
توبة السارق
اتفق الأئمة على أن السارق إذا تاب عن السرقة توبة صالحة، وظهرت أماراتها، وندم على ما سقط منه، وعزم على عدم العود إلى السرقة مرة ثانية، فإن الله تعالى يقبل توبته لقوله تعالى في الآية الثانية بعد آية السرقة: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فأن الله يتوب عليه أن الله غفور رحيم} فإن الله تعالى يتجاوز عنه، ويغفر له خطيئته.
وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التوبة تجب ما قبلها) وقال صلوات الله وسلامه عليه. (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وإذا أقيم عليه الحد في الدنيا فإنه يكون كفارة له، ولا يعذب بهذا الذنب يوم القيامة، إذا رضي بالحد وقبله وتاب إلى ربه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أعدل أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة) ولكن القطع لا يسقط عنه بالتوبة، وصيرورته عدلاً، ولو طال زمن التوبة والعدالة. بعد السرقة الثابتة عليه. ومحل عدم سقوط القطع عنه إذا بلغ الأمر إلى الإمام بدليل ما روى أبو داود عن صفوان بن أمية قال: كنت نائماً في المسجد على خميصة لم ثمنها ثلاثون درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني) فأخذ الرجل فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: (فهلا كان هذا قبل أن تأتي به) . فإذا لم يصل الأمر إلى الإمام، فيسقط القطع بالعفو والشفاعة، وهيئة الشيء للسارق وذلك إذا لم يكن الرجل معروفاً بالفساد، وإلا فلا تقبل الشفاعة فيه، حتى يرتدع، ويشترط في التوبة أن تكون بينة صادقة، وعزيمة صحيحة خالية من سائر الأغراض الدنيوية. حتى لا يسرق المجرمون أتكالاً على الشفاعة عند القبض عليهم.
كما قال تعالى: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح} قبلها الله فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها اليهم كما قالل جمهور العلماء. وقد وقعت حوادث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاب أصحابها توبة نصوحاً، روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة، فقال: ما أخاله. سرق، فقال السارق. بلى يا رسول الله قال: (اذهبوا به فاقطعوه، ثم أحسموه، ثم أئتوني به) فقطع فأتي به فقال (تب إلى الله) فقال: (تاب الله عليك) .
وقد روى أبن ماجة من حديث أبن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة النصاري عن ابيه عن عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إنتي سرقت جملاً لبني فلان فطهرني، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا فأمر به(5/184)
باب حد القذف
-فأما حد القذف فقد بينه اله سبحانه وتعالى بقوله في كتابه العزيز {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} آية 4 من سورة النور (1) .
__________
فقطعت يده، وهو يقول الحمد الله الذي طهرني منك، اردت أن تدخلي (جسدي النار) فهد التوبة النصوح. وقال اب جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا موسى بن داود، حدثنا أبن لهيعة عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقطعوا يدها اليمنى) فقال المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت اليوم من خظئتك كيوم ولدتك امك) قال: فأنزل الله عز وجل: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فأن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} .
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبن لهيعة، حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقطعوا يدها) فقالوا نحن نفديها بخمسمائة دينار فقال: (اقطعوا يدها) فقطعت يدها اليمنى فقالت المرأة هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: (نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك امك) فأنزل الله في سور المائدة: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ان الله غفور رحيم} وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين كما سبق في أول الباب.
وروي عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قال عنها: إنها تابت وحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي التوبة الخالصة، التوبة النصوح التي تحمل صاحبها على الندم على ما وقع منه، وتشعره بالحسرة على ما فرط في جنب الله عز وجل ويجبره على الإقلاع عن الذنب.)
-
(1) (تعريفه
الحد شرعاً، عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله تعالى كما في عقوبة الزنا، أو وجبت حقاً لآدمي كما في حد القذف، وسميت العقوبات الشرعية حدوداً، لأن الله تعالى حدها، وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} .
وقيل: سميت بذلك لأن الحد في اللغة كالمنع، والحدود تمنع عن الإقدام على الفواحش،(5/185)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والحكمة في وجوب حد القذف دون التساب بالكفر، لأن المسبوب بالكفر قادر على أن ينفي عنه ذلك بالنطق بالشهادتين، بخلاف المتهم بالزنان فإنه لا يقدر على نفي التهمة عنه، والرمي، وهو الإلقاء بحجر أو سهم، أو نحوهما مما يؤذي ويضر، استعير للسب، وتوجيه العيوب لما في كل من الأذى والإضرار بالناس، فخرج اللسان مخرج اليد بالسنان، بل:
جراحات السهام لها التئام * ولا يلتام ما جرح اللسان
وقد اختار الله تعالى التعبير بالرمي فذكرها ثلاث مرات في ثلاث آيات خاصة بحد القذف، فقال تعالى: {والذين يرمون المحصنات} وقال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} وقال تعالى: روالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} وهو من بلاغة القرآن الكريم، فإن الكلمة متى أفلتت من لسان قائلها لم يتمالك زمامها، وانطلقت لا تلوي على شيء حتى تصيب من وجهت إليه بالضرر والأذى، فهي كالسهم يرمى به فلا تعود اليد قادرة على رده، فليحتفظ من يهم بالرمي والأمر في يده، حتى لا يندم حيث لا ينفع الندم.
مبحث حكمة التشريع
إن الله عز وجل لما بين في أول سورة {النور} ما في جريمة الزنا من عظيم الفحشن وكبير الشناعة مما لم يجتمع في جريمة أخرى، من كبير الإجرام، وتشتنيع الفعل، وأمر هذا شأنه يلحق العرض، من الرمي به ما ينكس الرأس، ويهدم الشرف، وكان من مقاصد الشرع الكريم، حفظ الأعراض، وصون الشرف لصاحبه، والاحتفاظ بالكرامة وعزة النفس، كان من متقضى حكمته جل شأنه هذا التشريع الزاجر للنفوس الجامحة، التي قد يدفها الغضب والحقد إلى أن تصيب الناس في كرامتهم، وتخدش شرفهم، وهو أعز عزيز لديهم، مستهينة بما اقترفت كما قال تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} آية النور: 15.
ففرض الله لنا فيما فرض من أحكام (حد القذف) الزاجر الرادع، الكفيل بصيانة الأعراض، وحفظ الكرامة والشرف، حتى تنزجر النفوس عن الإقدام على هذا الجرم الفظيع، وليتأدب عامة المؤمنين بطلب ظن الخير بالآخرين، وعدم المسارعة إلى سوء الظن بالناس، والدعوة إلى تطهير اللسان، وصون الآداب والتحرز عن الخوض في كبريات التهم بلا علم، وتقرير بينات التهمة بحسب فظاعتها حتى لا يتخذ الناس الكيد بالاتهام الكاذب ذريعة للخدش والنكاية بلا حق. وإنك لا تجد من أنواع الجرم، ما يقدم عليه صاحبه غافلاً عن عظيم خطره إلا جرم اللسان، وكأنه سهولة حركته بطبعه. ولذة التحدث بالأمور المستغربة، وحسبان أن الطلام لا ينقص من المتكلم فيه شيئاً محسوساً يذكر، مع اعتياد الناس التساهل في القول والسماع، كل ذلك جعل الناس يستهينون به، ويحسبونه هيناً وهو ذنب عند الله عظيم، لذلك اهتم الشارع بحد القذف أعظم اهتمام، فأنزل في حد السرقة آية واحدة، وفي حد الزنا آيتين، وفي حد قطاع الطريق آية، أما حد القذف فقد أنزل فيه آيتين ثم أتبعه بنوع آخر(5/186)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
منه وهو (اللعان) فأنزل فيه خمس آيات، ثم أردفه بذكر حديث الافك فأنزل فيه تسع آيات، ثم أتبع ذلك كله، فأنزل أربع آيات في النهي عن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، إلى أن قال: (أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} فكأن الله تعالى أنزل في حد (القذف) وأحكامه وأنواعه وبيان عقابه، وشرح الأضرار المترتبة عليه في المجتمع، والنهي عنه، والتحذير من الوقوع يه، وفظاعة الإقدام عليه، أنزل في ذلك (عشرين) آية في سورة النور.
ثم ذكر الله تعالى في ذكر هذه الآيات عقاب المجرم الذي يقذف الناسن ويهتك أعراضهم بأنه لم يستطيع إثبا البينة على قوله بأمور: أولاً: أن يجلد ثمانين جلدة. ثانياً: ترد شهادته طول حياته. ثالثاُ: يصبح من أهل الفسوق والإجرام وأصحاب الكبائر. رابعاً: يكون عند الله من الكاذبين، خامساً: أنه ملعون في الدنيا، ملعون في الآخرة، سادساً: ان له عذاباً عظيماً عند الله قد ادخره له يوم القيامة، سابعاً: تشهد عليه جوارحه زيادة في الخزي والعار على رؤوس الأشهاد. ثامناً: ان الله تعالى يوفيهم جزاء فعلهم، ويجزيهم حساب عملهم، من القدر المستحق من أنواع العذاب في نار جهنم، وقد أجمعت المة على أن القذف من أكبر الكبائر وأن حد القذف من أكبر الكبائر وأن حد القذف ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، أما الكاب فقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً. وأولئك هم الفاسقون} وقوله تعالى: {فإذا لم يأتوا باشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} .
والمعنى: أن من قذف مسلماً أو مسلمة، ولم ستطع إقامة البينة المطلوبة لإثبات قوله، فهو كاذب عند الله، أي حكمه في شريعة الله تعالى حكم الكاذب يقيناً، فيقام عليه حد الكاذب، وقوله تعالى: {إن الذين يرمون الممحصنات الغافلات المؤمنات، لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذا بعظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانو ايعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين} آيات: 23، 24، 25 من سورة النور فقد بين الله تبارك وتعالى في هذه الآيات فظاعة تلك الجريمة، وعظيم أمرها، فشنع على من وقع فيها، وشرح عظم خطرها، وبين عقوبة مرتكبها، ونهاية أمر فاعلها، ووضح شديد وعيدها، وأي وعيد أشد من اللعنة في الدنيا من الناس والملائكة، والطرد من رحمة الله تعالى ورضوانه يوم القيامة، واستحقاق العذب العظيم، وتقرير ذنبه بشهادة جوارحه عليه في الآخرة أن القاذف مطالب في الجنيا لتصديق دعواه بأربعة شهداءن، فالقاذف يوم القيامة يقوم في وجهه لتكذيبه خمسة شهود من أعضائه وجوارحه: لسانه، ويداه، ورجلاه، تنكيلاً لهن وفضيحة لشأنه، جزاء وفاقاً على محاولته فضيحة المحصنات، الغلافلات المؤمنات.
وحسبك بختم الآية الكريمة بأن الله سيوفيه جزاءه الحق، ويعلم المفتري على الناس الكذب إن لم يكن قد علم أن قوله هوة الحق المبين، وقال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم(5/187)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولا تعلمون} والعذاب المتوعد به في الدنيا شامل لحد القذف وما يصيب المتعرض للأعراض غالباً، من مصائب الدهر، ولحوق المخزيات، وتسليط الألسنة على شرفه وعرضه تثير منه ما كمن، بالباطل وبالصحيح، ومن فتش عن عوراتهم فضحوه، ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في قعر بيته، وكما تجين تدانن وكما تفعل تجارى، والجزاء من جنس العمل، ومن زرع الحسرة حصد الندامة.
وأما عذاب الآخرة، فهو أشد وأبقى، وإذا كان هذا من شأن الذين يحبون بقلوبهم أن تنتشر الفاحشة، وتشيع في المؤمنين، فما بالك بمن يفترها، ويروجها بنفسه؟ وأما السنة فما رواه الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رشي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، الغافلات، المؤمنات) .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قذف مملوكه يقام عليه الحج يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال) متفق عليه. ففي الحديث دليل على أنه لا يحد المالك في الدنيا أذا قذف مملوكه، وإن كان جاخلاً تحت عموم آية القذف بناء على أنه لم يرد بالإحصان الحرية وكذلك فعل الرسول صلوات مالله وسلامه عليه، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، من قوله (ن الذين جاؤوا بالإفك) إلى آخر ثماني عشرة آية (فما نزل برجلين، وامراة فضربوا الحد) أخرجه أحمد والأربعة، وأشار أليه الإمام البخاري، والرجلان هما حان، ومسطح، وأما المرأة فهي حمنة بنت جحش فالحديث يدل على ثبوت حد القذف.
ما يبيح القذف
قال العلماء: إن القذف ينقسم الى لا محظور، ومباح، وواجب، فإذا لم يكن هناك ولد يريد نفيه فلا يجب وهل يباح أم لا؟ ينظر، وإن رآها بعينه تزني، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها، أو سمع ممن يثق بقوله أو لم يسمع، ولكنه استفاض فيما بين الناس ان فلاناً يزني بفلانة، وقد شاهده الزوح يخرج من بينها، أو رآها معه في بيت، فإنه يباح له القذف في مثل هذه الحالات لتأكد التهمة، ويجوز أن يمسكها، ويستر عليها إن تابت، أما إذا سمع الخبر ممن لا يوثق بقوله، أو استفاض من بين الناس، ولكن الزوج لم يره معها في خلوة، أو بالعكس لم يحل له قذفها، ولكن يجب عليه مراقبتها والتجسس عليها حتى يثبت له صدق الخبر، أو كذبه، حتى لا يكون (ديوثا) يقر الزنا في أهل بيته.
أما إذا كان ثم ولد يرد نفيه، نظر: فإن تيقن أنه ليس منه، بأن لم يكن وطئها الزوج، أو وطئها(5/188)
والقذف هو عبارة عن أن يتهم شخص آخر بالزنا صريحاً، كأن يقول: أنت زان، أو دلالة، كأن ينسب شخص آخر إلى غير أبيه، فمن صدر منه ذلك كان جزاءه أن يجلد ثمانين جلدة، ما لم يأت بأربعة شهداء يشهدون بأنهم رأوا، بأعينهم المتهم يزني في امرأة لا تحل له (1) .
__________
لكنها أتت به لأقل من ستة أهشر من وقت الوطء، أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه القذف، ونفي الولد باللعان، لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير، كما هو ممنوع من نفي نسبه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله، ولن يدخلها الله حنته،) فما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم كان الرجل أيضاً كذلك.
أما إن احتمل أن يكون منه بأن أتت به لأكثر من ستةة أشهر من وقت الوطء، ولدون أربع سنين، نظر، إن لم يكن قد استبرأها بحيضة، أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر، من وقت الاستبراء، لا يحل له القذف والنفي، وإن اتهمها بالزنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه يوم القيامة، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين) .
(1) (تعريفه شرعاً
القذف في اللغة الرمي، وفي اصطلاح الفقهاء: نسبة من أحصن إلى الزنا صريحاً أو دلالة وإنما سمي اتهام المسلم المحصن قذفاً، لأن الناطق بهذه الكلمة كالفاحشة (الزنا) يقذفها كما يقذف الحجر في حالة غضب لا يدري من أصابته في طريقها من محصنة بريئة، وأبيها، وأمها، وأختها، وأخيها، وزوجها، وبينها، وعشيرتها، وذويها، كل أولئك قد نالهم ضرر من قذيفته الطائشة، وهو ضاحك مسرور غافل لا يدري من آلام هؤلاء شيئاً، ويسمى (فرية) لأنه من الافتراء والكذب.
وقد وصف الله تعالى النساء بهذه الأوصاف الحميدة التي تناسب هذا المقام، فالمحصنات هن المصونات كأنه جعل عليهن حصن منيع، والغافلات: أي الخاليات الذهن عن التفكير في المنكر فضلاً عن التوجه إليه والمؤمنات اللاتي آمن بالقران الكريم، وأحكامه، والتزمن حدود الإمان.
واسم الإحصان يقع على المتزوجة، وعلى العفيفة وإن لم تتزوج لقوله تعالى في مريم: {والتي أحصنت فرجها} وهو مأخوذ منع الفرج، فإذا تزوجت منعته إلا من زوجها، وغير المتزوجة تمنعه على كل أحد.
وقد أتفق الأئمة رحمهم الله: على أن الحر البالغ، العاقل، المسلم، المختار، إذا قذف حراً عاقلاً، بالغاً، مسلماً، عفيفاً، لم يحمد في زنا، في سالف الزمان، أو قذف حرة، بالغة، عاقلة، مسلمة، عفيفة، غير متلاعنة، لم تحد في زنا، مطيقة للوطء، قذفها بصريح الزنا، أو كنايته، في غير دار الحرب، وطلب المقذوف بنفسه إقامة حد القذف لزمه ثمانون جلدة، إذا لم يستطع، إقامة البينة، لإثبات ما قاله، بأربعة شهداء عدول.(5/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإنما اعتبروا الإسلام شرطاً في الإحصان لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أشرك بالله فليس بمحصن) ، واعتبروا العقل، والبلوغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث) واعتبروا الحرية، لأن العبد ناقص الدرجة، فلا يعظم عليه التعيير بالزنا، واعتبروا العفة عن الزنا، لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف، فإذا كان المقذوف زانياً، فالقاذف صاق في القذف، وكذلك إن كان المقذوف وطىء امرأة بشبهة، أو نكاح فاسد، لآن فيه شبهة الزنا، كما فيه شبهة الحل، فكما إن احجى الشبهتين اسقطتت الحد عن الواطىء، فكذا الأخرى تسقطه عن قاذفه أيضاً، واعتبروا الاختيار، لأن المكره، لا يقام عليه الحد، بل يرفع عنه العقاب واعتبروا بها، من شروط المحصن، ان لا يحد في زنا في سالف الزمان، حتى يكون محصناً ظاهراً.
فلو زنا في عنفوان شبابه مرة، ثم تاب، وحسن حاله، وشاخ في الصلاح لا يحد قاذفه، وكذلك لو زنا كافر، أو رقيق، ثم أسلم، وعتق، وصلح حاله فقذفه قاذف لاحد عليه، بخلاف ما لوزنا في حال صغره، أو جنونه، ثم بلغ، أو أفاق فقذفه يحد، لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا، ولو قذف عنيناً أو مجبوباً، أو رتقاء أو صغيرة لا تطيق فلا حد عليه، ولو قذف محصناً فقبل ان يحد القاذف زنا المقذوف، سقط الحد عن قاذفه، لأن صدور الزنا يورث ريبة في حاله فيما مضى، لأن الله تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية. فبظهوره يعلم أنه كان متصفاً به من قبل روي أن رجلاً زنا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال الرجل: والله ما زنيت إلا هذه، فقال له عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة.
واتفق الأئمة على أن القذف الذي يجب به الحد هو أن يرمي القاذف المقذوف بالزنا أو اللواط، أو ينفيه عن نسبه، إذا كانت أمه حرة مسلمة، بصريح القول دون سائر المعاصي. وذلك لأن القذف بالزنا فيه من العار بدناءة النفس، وهتك الستر، وافتضاح السوءات، وانتهاك الحرمات، والدلالة على عدم الغيرة، الذي هو من سمات أخس الحيوانات، ما قرف به كل الموبقات، فإن كان المرمي به امرأة كان فيه من جلب العار على قومها، ما يؤدي إلى سفك الدماء. وقلما يغسل ذلك العار إلا بسفك الدماء، وإن كان المرمي به رجلاً، كان فيه الدلالة على أنه ليس للعرض في نظره كرامة، ولا للغيرة على نفسه سلطان، وكان أمارة على أنه لو أصيب بما أصاب به الناس لاعتبره أمراً عادياً، لاتثور للغيرة له نفسه، ولا يغلي له دمه، ولذلك قيل: لا يزني الغيور وكفى بهذا عاراً، وعيباً يلحق الأبناء، والأحفاد، وتبقى سيرته طوال الحقاب.
وقد أجمع الفقهاء على أن المراد بالرمي هنا في الآية الكريمة إنما هو الرمي بالزنا خاصة دون الرمي بالجرائم الأخرى. لعدة قرائن منها مجيء الآية بعد آية الزنا، ومنها التعبير بالمحصنات وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد بالرمي، ورميهن بضد الفقاف. ونها قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} يعني على صحة ما رموهن به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في(5/190)
لا فرق بين أن يكون القاذف والمقذوف، رجلاً أو امرأة، وإنما خص الله المقذوف من النساء بالذكر، حيث عبر المحصنات، لأن ضرر الزنا يتعدى المرأة إلى أسرتها فقذفها يصيبهم به معرة شديدة، بخلاف الرجل.
وكذلك خص الله القاذف من الرجال بالذكر حيث قال تعالى: {والذين يرمون} لأن النساء يغلب عليهن الحياء عادة، فلا يقذفن الرجال بالزنا.
وقد بينت السنة أنه لا فرق بين الرجال، والنساء في القذف، كما بينت الشروط اللازمة الاقامة حد القذف، من عقل، وحرية إلى آخر ما هو مبين في كتب الفقه.
__________
الزنا، ومنها انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنان فيجب أن يكون المراد بالرمي، في الآية، هو الرمي بالزنا خاصة، من بين سائر العيوب.
واتفق الفقهاء: على أنه لا يقام حد القذف على القاذف إلا إذا طلب المقذوف بنفسه إقامة حد القذف على قاذه. لآنه حقه من حيث دفع العار الذي لحقه، فلو عفا عنه وتركه، ولم يطلب إقامة الحد عليه، فلا يقام الحد عليه.
ألفاظ القذف
ألفاظ القذف تنقسم إلى ثلاثة أقسام، صريح، وكناية، وتعريض.
واتفق الفقهاء على أن الحد يقام بالقذف باللفظ الصريح، كأن يقول: يا زانية، أو زنيت، أو زنى قبلك، أو دبرك، ولو قال: زنى بدنك فيه وجهان، أحدهما كناية كقوله: زنت يدك، لأن حقيقة الزنا من الفرج، فلا يكون من سائر البدن إلا المعونة، والثاني: وهو الأصح أنه صريح لأن الفعل إنما يصدر من جملة البدن، والفرج آلة في الفعل وأما الكنايات فمثل أن يقول: يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو امرأتي لا ترد يد لامس، وبالعكس فهذا لا يكون قذفاً فلا يحد إلا أن يريده. فإن قال: لم أقصد به القذف بالزنا، وكذبه المقذوف، فالقول قوله مع يمينه، ويجب على الأمام أن يعزره بما يراه، لأنه قد آذاه بذلك وألحق به الشينن ولأن الحدود لا تثبت بالقياس أما التعريض فقد اختلف فيه الفقهاء رحمهم الله تعالى.
الحنفية، والشافعية في أحد آرائهم قالوا: لا يجب الحد في التعريض وإن نوى القذف، وذلك مثل أن يقول: يا أبن الحلال، أما فما زنيت أنا معروف النسب ليست أمي زانية ابحث عن أصلك، أنا عفيف الفرج لأن التعريض بالقذف محتمل للقذف وغيره فرجب أن لا يحد لأن الصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك وإنما يجب عليه التعزير فقط، لأن قذف غير المعين لا يحصل به كبير أذى للناس، لأن كل واحد يقول المراد بذل غيري، ولأن الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.(5/191)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المالكية قالوا: يجب إقامة الحد في التعريض مطلقاً، نوى به القذف، أو لم يقو، وذلك لأنه لا يخلو من قصد احد بذلك في نفسه، فنأخذ له حقه منه، وإن كنا لانعلم ذاته. تطهيراً لذلك القاذف من هذه العادة وتربية لنفسه الخبيثة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الحد في التعريض روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فجلده ثمانين جلدة. ولأن الكناية قد تقوم بعرف العادة مقام النص الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملاً في غير موضعه، والتعريض خاص بالأكابر من أهل الدنيا، الذين يراعون ناموسهم عند الخلق.
الشافعية في الرأي الثاني، والحنابلة في إحدى روايتهم قالوا: إن نوى بالتعويض القذف، وفسره به وجب إقامة حد القذف عليه، وإن لم ينو لا حد عليه، والقول قوله مع يمينه.
الحنابلة، في روايتهم الثانية قالوا: يجب الحد على الإطلاق، نوى أو لم ينون خصوصاً إذا كان في حالة غضب وثورة، لنها قرينة تفيد أنه يقصد إهانته، وإلحاق العار بالمقذوف.
عدم قبول شهادته
اتفق الأئمة على أن القاذف لا تقبل شهادته بعد إقامة الحد عليه، لأن الشارع قد رتب على قذف المحصن أو المحصنة ثلاثة أشياء، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة أبداً، والحكم عليه بالفسق، حيث قال تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} أما الجلد فللزجر، ولمقابلة الإيذاء بالإيذاء، وأما رد الهشادة فهي عقوبة لسانية تشبه قطع يد السارق، فكأنه روعي أن جزاء هذا اللسان الذي اقترف ذلك الإثم العظيم، أن يهدر ويقطع أثره، فلا يعتد بما يقوله، ويشهد به فيما بين الناس، فهو العدم سواء، وأما تفسيقه فهو مبالغة في الزجر، وإشارة إلى أن ما لقي من جزاء في الدنيا من الحد ورد الشهادة لم يعفه من اعتباره فاسقاً خارا"ً عن أمر ربه وطاعته تبارك وتعالى، وناهيك بهذه الجزاءات دلالة على عظم الخطب، وشدة الخطر، وإذا كان هذا في الرمي بالزنا والاتهام به، فكيف يكون حال مقترف هذا الجرم الفاحش الشنيع؟ فهذا الحكم مع دلالته على ما سبق له، يدل دلالة بالغة على تفظيع جرم تلك الفاحشة، وتشنيع أمرها، وعناية الشارع بالتنزيه عنها، والتنفير منها، حتى يتطهر المجتمتع من آثامها، وإذا حد الكافر في قذف لم تجز شهادته على أهل الذمة، فترد تتمة لحده.
إذا كانت أم المقذوف كافرة أو أمة
المالكية قالوا: يجب إقامة الحمد على القاذف، سواء كانت أم المقذوف حرة، أو أمة، مسلمة أو كافرة، لعموم لفظ الآية أو كان أبو المقذوف الحر المسلم عبداً، أو كافراً، على الراجح من المذهب.(5/192)
على أن الآية الكريمة قد أشارت إلى أهم شرط من هذه الشوط، وهو أن يكون المقذوف محصناً، ذكراً كان، أو أنثى، ومعنى إحصانه هنا، أن لا يكون قد ارتكب جريمة الزنا قبل قذفه، أو بعده قبل إقامة الحد، فإن ثبت عليه ذلك، فإنه لا يكون محصناً، ويسقط الحد عن القاذف.
__________
الحنفية، والشافعية قالوا: لا يجب إقامة الحد على القاذف إذا كانت أم المقذوف أمة، أو كانت كتابية، ويحد إذا كان أبو المقذوف الحر المسلم عبداً، أو كافراً، أو كان القاذف كافراً والعياذ بالله تعالى.
قبول شهادته قبل إقامة الحد عليه
الشافعية والليث بن سعد قالوا: إذا وجب الحد على شخص بطلب شهادته ولزمه صفة الفسق قبل إقامة الحد عليه، لأن الله تعالى رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة اموراً ثلاثة معظوفاً بعضها على بعض بحرف الواو، وهو لا يقتضي الترتيب، فوجب أن لا يكون بعضها مرتباً على البعض، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتباً على إقامة الحد، بل يجب أن يثبت رد الشهادة سواء أقيم الحد عليه أم لا اهـ.
الحنفية، والمالكية قالوا: إذا ثبت حد القذف على شخص، فإن شهادته تكون مقبول ما لم يحد، فلا يتسم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد، لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته، إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها.
وذلك لأن ظاهر الاية يقتضي ترتب وجوب الحد على مجموع القذف، والعجز عن إقامة الشهادة، فلو علقنا هذا الاحكم على القذف وحده، قدح ذلك في كونه معلقاً على الأمرين. ويذلك بخلاف زاهر الآية، وايضاً فوجوب الجلد حكم مرتب على مجموع أمرين فوجب أن لا يحصل بمجرد حصول أحدهما.
واتفق الأئمة على أن الحر لا يجلد في قذف عبده، لآنه ملك يمينه، فلا يعاقب بقذفه.
إذا قذف العبد حراً
اتفق الأئمة على أن العبد إذا قذف حراً يجلد اربعين جلدة نصف حد الحر، ذكراً، أو أنثى. وذلك لما رواه الثوري عن جعفر بن محمد عن ابيه أن علياً عليه السلام قال: (يجلد العبد في القذف أربعين) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أدركت أبا بكر وعمر، وعثمان، ومن بعدهم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين) ولان جميع حدود الأحرار تنشطر بالرق.
ولأن الله عز وجل قال: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} فنص على أن حد الأمة في الزنا نصف حد الحرة، ثم قاسوا العبد على الأمة، في تنصيف حد الزنا، ثم قاسوا تنصيف حد قذف العبد على تنصيف حد الزنا، في حقه، فرجع حاصل الأمر إلى(5/193)
ومن أتى امرأة بعقد فاسد، كأن تزوجها بغير شهود. أو أتى امرأة وهي نائمة ظناً منه أنها زوجته، وهي ليست كذلك، فإن حد الزنا يسقط عنه بهذه الشبهة، ولكن هل يرفع عنه فعله الاحصان، بحيث لو قذفه شخص بالزنا لا يجلد ثمانين جلدة؟ أو لا يزال محصناً يُحَدُّ قاذفه؟ خلاف بين العلماء.
فبعضهم يرى أن اقدام على هذا الفعل بدون حيطة يرفع الإحصان.
وبعضهم يقول: لا يرفع عن الإحصان إلا الزنا الموجب للحد، فهذا هو حد القذف.
__________
تخصيص عموم الكتاب، بهذا القياس، والعبرة بحال القذف ولو تحرر بعد القذف وقبل إقامة الحد عليه، لأنه كان رقيقاً في حال القذف.
لو قال له: يا فارسي
المالكية قالوا: لو قال لعربي، يا نبطي، أو يا رومي، أو يا بربري أو قال لفارسي: يا رومي، أو قال لرومي: يا فارسي ولم يكن في آبائه من هذه صفته فعليه الحد لأنه قذف في حقفه. ويلحقه به العار، لما فيه من رائحة الطعن في نسبه، وذلك لسد باب الأذى جملة، أو قال له أنا عفيف الفرج.
الحنفية والشافعية، والحنابة رحمهم الله تعالى قالوا: أنه لو قال له هذه الألفاظ فلا يجب عليه الحد، لندرة فهم القذف بالزنا من مثل ذلك اللفظ، والنادر لا حكم له غالباً، ولأنه يراج به التشبيه في الخلاق.
ولو قال لامرأة زنيت بحمار، أو ببعير، أو بثور فلا حد عليه، لأن الزنا ايلاج رجل ذكره في فرج الأنثى وما ذكره لا يعقل، ولو قال لها زنيت بناقة أو بقرة، أو ثوب، أو جرهم فإنه يقام عليه الحد إذا لم يأت بالبينة.
وذلك لأن معناه أنها زنت واخذت البدل، أو الجر من الزاني، ولو قال هذا الرجل فاسق، أو مخنث لا يحد، ولو قال لها: زنيت وأنت صغيرة أو جامعك فلان جماعاً حراماً، لا يجب عليه الحد، لعدم الصراحة في القول، إذ الجماع الحرام يكون بنكاح فاسد، ولا بقوله: أشهد في رجل بأنك زان، لأنه حال لقذف غيره، ومن قال لآخر يا زاني فقالك لاب أنت، فإنهما يحدان أذا طالب كل منهما الآخر، وأثبت ما طالب به عند الحاكم، لزمه حيئذ حق الله تعالى، وهو الحد، فلا يتمكن واحد منهما من إسقاطه فيحد كل واحد منهما، بخلاف ما إذا قا له مثلاً: يا خبيثن فقال له: بل أنت الخبيث تكافآ ولا يعزر كل منهما للآخر، لأن التعزير لحق الآدمي، وقد وجب له عليه ما وجب للآخر، فتساقطا.
ومن قال لمسلم: يا فاسق، أو يا خبيث، أو يا كافر، أو يا سارق، أو يا مخنث أو يا قاتل النفس، أو يا فاجرن أو يا تارك الصلاة، وغير ذلك من قذفه بعيوب غير الزنان فلا يقام عليه الحد في كل هذه(5/194)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الألفاظ، وإنما يعزره الحاكم، بما يراه تأديباً له وزجراً، من الضرب، والسجن، والتأنيب، وخلافه. لأن هذه اللفاظ لا تلحق من العار والمهانة كما يلحقه من القذف بالزنا، أو بنفي النسب.
الإقرار بالقذف
اتفق الأئمة على أنه لو أقر بالقذف، قبل قوله، ويقام عليه الحد، فإن رجع في إقراره قبل إقامة الحد عليه، فلا يقبل رجوعة، لأن للمقذوف حقاَ فيكذبه في الرجوع، بخلاف ماهو خاص بحق الله تعالى لأنه لا مكذب له فيه، فيقبل رجوعة.
وقيل لا يقبل رجوعه، لأنه ألحق الشين والعار بالغيرن وشوه سمعته، ويريد أن يبطل حق الغير في إقامة الحق ورد شرفه أما المجتمع ورفع العار عنه.
إذا أتى القاذف بالشهود
اتفق العلماء على القاذف إذا أتى بأربعة من الشهود العدول من الرجال العقلاء، يشهدون عليها بمارماها، لا يقام عليه الحدن ولا يعتبر قاذفاً ويثبت الزنا، لأنه صادق في قوله ويقام الحد على الزانيةن إذا تمت الشهادة عليها بشروطها كما سبق ذلك فيعتبر شاهداً.
مبحث كيفية الشهادة
اتفق الأئمة على أن الشهادة على الزنا لا تثبت إلا بأربعة شهداء بقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} وقال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} وبما روي عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله أرايت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء. قال: نعم) وإنما اشترطوا أربعة شهود لأنه فعل يغمض الاطلاع عليه، فاحتيط فيه باشتراط الأربعة ولأنه يمس الكرامة والشرف فوجب الاحتياط والقة في إثباته بخلاف الباقي فإذا شهدوا على فعل الزنا أمام القضي يجب عليهم أن يذكروا الزاني ومن زنا بها؟ فأنه قدر يراه على جارية فيظن أنها أجنبية ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنى لا يثبت، لأنهم ريما يرون المفاخذة زنا بخلاف ما لو قذف إنساناً فاعترف وقال: زنيت يجب الحد ولا يستفسر عن ذلك، ولو أقر على نفسه بالزنا هل يشترط أن يستفسر؟ فيه وجهان (أحدهما) نعم كالشهود (والثاني) لا يجب كما في الإقرار بالقذف.
الشافعية قالوا: لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين، لأن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين أو متفرقين، واللفظ الدال على ما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتيازن فالآتي بهم متفرقين يكون عاملاً بالنص، فوجب أن يخرج عن العهدة ولأن كل حكم يثبت بشهادة الشهود إذا جاؤوا مجتمعين يثبت إذا جاؤوا متفرقين كسائر الأحكام، بل هنا أولى لأنهم إذا(5/195)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
جاؤوا متفرقين كان أبعد عن التهمة، وعن أن يتلقن بعضهم من بعض، فلذلك قلنا إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ليظهر على عورة إن كانت في شهادتهم ولآنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة، بل إذا اجتمعوا عند القاضي وكان يقدم واحداً بعد لآخر ويشهد فإنه تقبل شهادتهم، فكذا إذا اجتمعوا على بابه ثم كان يدخل واحد بعد واحد.
الحنفية قالوا: إذا شهد الشهداء متفرقين فلا تقبل شهادتهم ويجب عليهم حد القذف، لأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا برابعة شهداء فاجلودهم ثماني جلدة} وأقصى ما في الباب أنهم عبروا عن ذلك القذف بلفظ الشهادة وذلك لا عبرة به لأنه يؤدي إلى إسقاط حد القذف رأساً، لأن كل قاذف لا يعجزه لقظ الشهادة، فيجعل ذلك وسلة إلى إساقط الحد عن نفسه وحصل مقصوده من قذف الأبرياءء الغافلين.
مبحث إذا قل الشهود عن أربعة
المالكية قالوا: إذا كان الشهداء أقل من أربعة أعتبروا قذفة، ويقام عليهم حد القذف، ويجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة، كما ورد في الآية الكريمة: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} .
الحنفية، والحنابلة، والشافعية في بعض أقوالهم قالوا: إذا كان الشهود أقل من أربعة فلا يعتبرون قذفة، ولا يقم عليهم حد القذف، لآنهم جاؤوا شاهدين، لا قاذفين، فلا ذنب لهم، ويسد باب الشهادة على الزنا.
الشافعية في قولهم الثاني قالوا: لو شهد في مجلس الحالكم دون أربعة من الرجال بزنا أحد الناس يقام عليهم الحد في الأظهر منمن المذهب. وذلك لآن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أقام الحد على الثلاثة الذي شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا رضي الله عنه، كما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه. ولم يخالفة أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، ولئلا يتخذ الناس صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في اعراض الناس، ولا يقام عليهم الحد، فهو من باب سد الذرائع.
ومحل الخلاف إذا شهدوا في مجلس القاضي، أما لو شهدوا في غير مجلسه فهم قاذفون جزماً وإن كانوا بلفظ الشهادة، لأنه تبين أنهم لا يقصدون أداء الشهادة، بل القذف والتشهير.
مبحث إذا جاء القاذف بشهود فسقة
الحنفية قالوا: إذا قذف رجلاً آخر، فجاء بأربعة فساق شهداء على المقذوف بالزنا فإنه يسقط الحد عن القاذف، ولا يقام الحد على الشهداء، وذلك لقوله تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وهذا قد أتى بأربعة شهداء، فلا يلزمه الحد، بالآية. ولأن الفاسق من أهل الشهادة، وقد(5/196)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وجدت شرائط شهادة الزنا، من اجتماعهم عند القاضي، إلا أنهم لم تقبل شهادتهم لجل التهمة، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه، فكذلك وجب أعبتارها في نفي الحد عنهم.
الشافعية في أحد اقوالهم قالوا: يقام الحد على لاشهود لأنهم غير موصوفين، بالشرائط المعتبرة في قبول الشهادة، فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين، فبقوا محض قاذفين، وقيل في قول آخر: إنه لا يقام عليهم الحد كمذهب الحنفية.
واتفق الأئمة: على أن حد القذف يثبت بإقراره مرة واحدة، وبشهادة رجلين، وقيل: بامرأة مرتين.
واتفقوا: على أن حد القذف لا يبطل بالتقادم والرجوع لتعلق حق العبد به فيكذبه في الرجوع.
صيغة المبالغة
الحنفية قالوا: من قال لرجل يا زانية، بتار التأنيث فلا يعد قاذفاً ولا يقام عليه الحد، لأنه رماه بمايستحيل منه، كما لو قذف مقطوع الذكر، أو اماة رتقاء فإنه لا يحد. ولا يحد في قذف الأخرس لاحتمال أن يصدقه في قوله لو نطق، وفي الولين كذبه ثابت بيقين فانتفى إلحاق الشين إلا بنفسه وكذا لو قال له: أنت أزنى من فلان، أو أنت أزنى الناس، أو أزنى الزناة، لأن أفعل في مثل يستعمل للترجيح في العلم، فكأنه قا: أنت أعلم به، فلا حد عليه لهذه الشبهة. ولو قال لامرأة، يا زاني وجب عليه الحدن لأن الترجيح شائع.
الشافعية قالوا: لو قال لرجل: يا زانية يحد، لأن قذفه على المبالغةن فإن التاء تزاد له، كما في لفظ علامة، ونسابة، ولا يحد إذا قذف المجبوب، أو الرتقاء، أو الخنثى المشكل إلا إذا رماه بأنه أتي من دبرهن فإنه يعد قاذفاً، ويقام عليه الحد، لأنه يلحقه شين مثل الزنا.
المالكية قالوا: لا يحد من رمى مقطوع الذكر، أو العنين، أو التي في فرجها عظم، لأنه ظهر كذبه في الواقع، ولا يلحقهم شين بهذا القول، لاستحالة الزنا من هؤلاءن ويقام الحد عليه إذا رمى واحداً من هؤلاء بأنه أتي في دبره، وكذلك المخنث والمشكل. لآن المالكية قالو: يزاد في شروط المقذوف السابقة المتفق عليها في القذف بالزنا، أربعة:
-1 - البلوغ في الذكر الفاعل.
-2 - والإطاقة في الأنثى، والذكر المفعول به.
-3 - والعقل، والعفة.
-4 - والآلة، ولو قال له: أنا عفيف الفرج فعليه الحد، أما إذا لم يرد (الفرج) فلا حد عليه بل يؤدب، لأن العفة تكون في الفرج وغيره كالمطعم، ولو قال لها: يا محبة، أو يافاجرة، أو ياعاهرة، أو يا صبية، لأنه يدل عرفاً على الزنا فيحد، ولو قال له: يا علق بكسر العين، أو يا مخنث وجب إقامة(5/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحد عليه، لأنهما يدلان على أنه مفعول به، فيحد قائل ذلك، حيث كان المقذوف مطيقاً للجماع، وطالب المقذوف بإقامة حد القذف على قاذفه.
مبحث إذا قذف شخصاً مراراً
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أنه إن قذف شخصاً واحداً مراراً كثيرة، في ملجس واحد، أو في مجالس مختلفة، وسواء كان القذف بكلمة واحدة، أو بكلمات، لواحد أو لجماعة. فلا يتكرر الجلد بتكرر القذف، بل يجب عليه حد واحد، ولو قذف قذفين لواحد فحد واحد أيضاً إلا أن يكرر القذف بعد إقامة الحد فإنه يعاد عليه الحد، ولو لم يصرح باللفظ، بأن قال بعد الحد، والله ما كذبت، أو لقد صدقت فيما قلت أو غير ذلك من الألفاظ التي تدل على الاتهما بجريمة الزنا، لأنه تعتبر حداً جديداً بعد الحد الول.
واتقوا على أنه إن - قذف واحداً، حد، ثم إن قذفه ثانية حد حداً ثانياً، وإن عاد وقذفه ثالثة حد أيضاً مرة ثالثة وهكذا.
مبحث إذا قذف جماعة
الحنفية، والمالكية قالوا: إن قذف جماعة في مجلس، أو مجالس مختلفة، بكلمة أو كلمات، مجتمعين أو متفرقين فعليه حد واحد، فإن قام بأحدهم وضرب له كان ذلك بكل قذف كان عليه ولا حد لمن قام منهم بعد ذلك، فإن الحد يجري في التداخل.
واحتجوا على ذلك بالقرآن الكريم فإن الله تعالى قال: {والذين يرمون المحصنات} والمعنى أن كل واحد يرمي المحصنات وجب عليه الجلد، وذلك يقتضي أن قاذف الجماهة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين جلدة، فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية الكريمة.
وأما السنة، فما روى عكرمة عن أبن عباس رضي الله عنهما: (أن هلال بن امية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم، بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إما البينة أو حد في ظهرك) لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على هلال إلا حداً واحداً مع قذفه لامرأته وقذفه لشريك بن سحماء إلى أن نزلت آية اللعان، فأقيم اللعان على الزوجات مقام الحد في الأجنبيات، وأما القياس،، فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد فيه مراراً لم يجب إلا حد كحد واحد كمن زنى مراراً، أو شرب الخمر مراراً أو سرق مراراً قبل إقامة الحد عليه، فيكفي حد واحد، والمعنى الجامع من إقامة الحد هو دفع الضرر، وقد حصل فإن قام بأحدهم وضرب له كان ذلك بكل قذف كان عليه، ولا حد لمن قام منهم بعد ذلك. ولو قال كلكم زان إلا واحداً يجب عليه الحد لأن القذف فيه موجب للحد، فكان لكل واحد أن يدعي.
الشافعية في أحد آرائهم قالوا: إنه يحد لكل واحد حداً على انفراد لاختلاف المقذوف. ولأن قوله تعالى في الآية الكريمة {والذين} صيغة جمع وقوله: {المحصنات} صيغة الجمع أيضاً،(5/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل (الفرد بالفرد) فيصير المعنى، كل من رمى محصناً واحداً، وجب عليه الحد وتمسك أيضاً بقول تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} فإن الآية تدل على ترتيب الجلد على رمي المحصن من حيث أن هذا المسمى يوجب الجلد، وإذا ثبت هذا فنقول: إذا قذف واحداً صار ذلك القذف موجباً للجلد، فإذا قذف الثاني وجب أن يكون القذف موجباً للحد أيضاً ثم موجب القذف الثاني لا يجوز أن يكون هو الموجب للحد الأول. لأن ذلك قد وجب بالقذف الول، وإيجاب الواجب محال فوجب أن يكون بالقذف الثاني حداً ثانياً، وأما القياس فإن حد القذف حق الآدمي، بدليل أنه لا حد إلا بمطالبة المقذوف.
وقوق الآدمي لا تتداخل بخلاف حد الزنا، فإنه حق لله تعالى، هذا كله إذا قذف جماعة كل واحد منهم بكلمة على حدة. أما إذا قذفهم بكلمة على حدة. أما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال: أنتم زناة، أو زنيتم ففيه قولان: (أصحهما) وهو قوله في الجديد يجب لكل واحد حد كالم لأنه من حقوق العباد فلا يتداخل، ولأنه أدخل على كل واحد منهم معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات، وفي القديم لا يجب للكل إلا حد واحد، اعتباراً باللفظ، فإن اللفظ واحد والأول أصح لأنه أوفق لمفهوم الآية فعلى هذا لو قال لرجل: يا أبن الزانيين يكون قذفاً لأبويه بكلو واحدة فيجب عليه حدان.
الحنابلة في أظهر روايتهم قالوا: إن قازفهم بكلمة واحدة يتم عليه حد واحد وإن قذفهم بكلمات فيجعل لكل واحد حد.
والثاني من روايتهم: أنهم قالوا: إن طلبوه متفرقين حد لكل واحد منهم حداً، وإن لم يطلبوه فيجب حد واحد للجميع.
المالكية قالوا: إن قذف شخصاً كان هو المقذوف الأول أو غيره، في اثناء الحد، ألغى ما مضى وابتدأ للمقذوفين حداً حداً، إلا أن يبقى من الأول اليسير وهو ماجون النصف، أو خمسة عشر فيكمل الأول، ثم يستأنف للثاني فيستوي له الحد، فالحد يجري فيه التداخل عندهم.
الحنفية قالوا: إن الحدود تتداخل فلو ضرب القاذف تسعة وسبعين سوطاً ثم قذف قذفاً آخر فلا يضرب إلا ذلك السوط الواحد للتداخلن لأنه اجتمع الحدان، لأن كما الحد الأول بالسوط الذي بقي وحكي أن أبن أبي ليلى سمع من يقول لشخص: يا ابن الزانيين، فحده حدين في المسجد في وقت واحد، فبلغ الإمام أبا حنيفة، فقال: "يا للعجب لقاضي بلدنا، أخطأ في مسألة واحدة في خمسة مواضع. الأول: أخذه بدون طلب المقذوف، والثاني: أنه لو خاصم وجب حد واحد، والثالث: أنه إن كان الواجب عنده حدين ينبغي أن يتربص بينهما يوماً، أو أكثر حتى يخف أثر الضر بالأول عن القاذف، والرابع: ضربه في المسجد، والخامس: ينبغي أن يتعرف أن والديه في الأحياء، أو لا؟ فإن كان حيين فالخصومة لهما، وإلا فالخصومة للابن".
وإذا قذف عبداً حراً فأعتق فقذف آخر فاجتمعا ضرب ثمانين سوطاً، ولو جاء الأول فضرب(5/199)
إجماع الشرائع على أن القذف اعتداء على الأعراض
-وقد اجمعت الشرائع والعقول، على أن القذف بهذا المعنى اعتداء على الأعراض التي، يقتضي النظام العام صيانتها خصوصاً إذا لوحظ، ما يترتب عليه من شر، وفاسدن لأن قذف المحصنات بالزنا يوجب لا محالة العداوة، والبغضاء بين الأسر، ويولد الضغائن والأحقاد، في نفوس الناس، وربما أفضى إلى الانتقام بقل النفس وذلك شر وبيل، يجب أن توضع له عقوبة تحذر الناس عنه، فلا يطلقون لألسنتهم العنان فيه، حذراً مما يترتب عليه من شر وفساد.
__________
أربعين ثم جاء به الآخر تمم له الثمانين، لأن الرعين وقع لهما، يبقى الباقي أربعين، ولو قذف آخر قبل أن يأتي به الثاني، تكون الثمانون لهما جيمعاً، ولا يضرب ثمانين مسأنفاً لأن ما بقي تمامه حد الأحرار، فجاز أن يدخل فيه الأحرار، وذلك لتداخل حد القذف.
الشافعية قالوا: إن اختلف المقذوف، أو المقذوف به وهو الزنا لا يتداخل لأن الغلب في حد القذف حق العبد عندهم، فإن قذف جماعة بكلمات، أو قذف واحداً مرات بزنا آخر يجب لكل قذف حد.
مبحث إذا قذف الصبي أو المجنون زوجته
إذا قذف الصبي أو المجنون امرأته، أو أجنبياً، فلا حد عليهما ولا لعان، لا في الاحال ولا بعد البلوغ، لسقوط التكليف عنهما لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث) ولكن يعزران للتأديب إن كان لهما تمييز، فلو لم تتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ يسقط عنه التعزير.
قذف الأخرس
الحنفية قالوا: لا يصح قذف الأخرس، ولا لعانه. ولا يقام عليه الحد، لأن إشارته غير مفهومة، وفيها شك وشبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
الشافعية قالوا: إن الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة، أو كتابة معلومة وقذف محصناً أو محصنة بالإشارة، أو بالكتابة لزمه الحد، وكذا يصح لعانه، وهو قول أقرب إلى ظاهر الآية الكريمة، لأن من كتب، أو أشار إلى القذف وفهم منه ذلك، فقد رمى المحصنة، وألحق العار بها، فوجب اندراجه تحت الظاهر، ولأنا نقيس قذفه ولعانه على سائر الأحكام.
قذف الكافر
اتفق الأئمة رحمهم الله على دخول الكافر تحت عموم الآية في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} لأن الاسم يتناوله ولا مانع، فللمسيحي واليهودي إذا قذف المسلم يجلد ثمانين سوطاً مثل المسلم.(5/200)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإذا دخل الحربي دارنا بامان فقذف مسلماً حداً، لأن فيه حق العبدن وقد التزم إيفاء حقوق العباد، ولأنه طمع في أن لا يؤذى، فيكون ملتزماً بالضرورة أن لا يؤذي.
قذف المجوسي بعد إسلامه
الحنفية قالوا: إذا قذف رجل مجوسياً تزوج بأمه، أو أخته، أو بنته، ثم أسلم ففسخ نكاحهما فقذفه مسلم في حال إسلامه يقام عليه الحد، بناء على أن انكحتهم لها حكم الصحة عندهم.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة، رحمهم الله تعالى قالوا: إذا قذف مسلم مجوسياً بعد إسلامه فلا يحد، لأن أنكحتهم ليس لها حكم الصحة عندهم، فلا يكون المجوسي محصناً.
الحكم إذا مات المقذوف
الحنفية قالوا: إن حد القذف لا يورث، بل يسقط بموت المقذوف قبل إقامة الحد على قاذفه، وإذا مات بعد ما اقيم عليه بعض الحد سقط الباقي لأنه حق لله تعالى ولم يثبت جليل من الكتاب والسنة علىلا أن الشرع جعل الوارث له حق المطالبة بحد القذف على الميتم المقذوف أو وصيه ولن حد القذف لو كان مورثاً لكان للزوج أو الزوجة فيه نصيب ولأنه حق ليس فيه معنى المال والوثيقة فلا يورث كالوكالة والمضاربة، ولا ينقلب مالاً عند سقوطه، ولا ستحلف عليه القاذف، ويتصف بالرق.
الشافعية والحنابلة قالوا: إن حد القذف يورث فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد فيقام الباقي، والعفو يثبت للوارث في حد القذف، وكذلك إذا كان الواجب بحقه التعزير فإنه يوؤث عنه، وكذا لو أنشأ القذف بعد المورث ثبت لوارثه طلبه الحد وذلك لأن حد القذف هو حق الآدمي لأنه يسقط بعفوه ولا يستوفى إلا بطلبه، ويحلف فيه المدعي إذا أنكر، وإذا كان حق الآدمي وجب أن يورث لقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن ترك حقاً فلورثته) ولا تبطل الشهادة بالتقادم ويجب على المأمن ولا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به.
وفيمن يرث ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعية:
الأول: وهو الأصح عند الشافعية أنه يرثه جميع الورثة كالمال لا فرق بين النساء والرجال.
الثاني: يرثه ذوو الأنساب فيخرج منه الزوجان لأن الزوجين يصح افتراقهما أو غبدال كل واحد بغير صاحبة، ولن الزوجية ترتفع بالموت، ولآن المقصود من الحد دفع العار عن النسب، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة، لبعد القرابة بينهما.
الثالث: إنه يرثه العصبات فقط دون النساء، لشدة ارتباط العصبة بعضهم ببعض، فكانوا أشد تعلقاً وارتباطاً بالمقذوف من مطلق الوثة وذلك مرجوح.
المالكية قالوا: للمقذوف حق المطالبة بحق قاذفه، وإن علم المقذوف على أن مارمي به منصف به، لأنه أفسد عليه عرضه، وليس للقاذف تحليف المقذوف على أنه بريء مما رماه به،(5/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وللوارث الحق بالقيام، والمطالبة بحق مورثه المقذوف قبل الموت، أو بعده، لأن المعرة تلحق الواث بقذف مورثهن خصوصاً، إذا كان الميت أوصاه بغقامة الحد فليس للوارث في هذه الحالة العفو، ولا المماطلة، بل يجب على الحاكم تنفيذه، وللأبعد من المورثة كابن الابن القيام بطلب حق مورثه من إقامة حد القذف، فيتقدم الابن، ثم ابنه الخ.. إن سكت الأب وقيل: يجوز للأب القيام بالمطالبة بحد القذف مع وجود الأقرب، وإن لم يسكت الأقرب، لأن المعرة تلحق الجميع لا فرق بين الأقرب، والبعد.
أما الزوجان، فليس لحدهما حق المطالبة بإقامة الحد للآخر، لأن أحدهما ليس ولياً للآخر، ولا تلحقه به معرة بعد موته، ما لم يكن أحدهما قد أوصى الآخر بالمطالبة بحقه في إقامة الحد على القاذف قبل وفاته، في أن يطالب بالحد لأنه يصبح ولياً مثل الوارث.
الحنفية قالوا: لو قال له: يا أبن الزانية، وأمه ميتة، محصنة، فطلب الابن بحده حد القاذف، لأنه قذف محصنة بعد موتها، ولا يصح أن يطالب بحق الميت في حد القذف إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه، ويلحقه العار به، وهو الوالد، وإن علا، والولد وإن سفل، لأن العار يلتصق بهما لمطانة الجزئية، فيكون القذف متناولاً لهم معنى، فلذلك يثبت لهم حق المطالبة.
مبحث من قذف ميتاً
وإذا كان المقذوف محصناً جاز لابنه الكافر، والعبد المطالبة بحد القذف، لأنه عيره بقذف محصن، فيأخذه بالحد، وذلك لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعبيراً، عن الكمال.
مطالبة العبد لسيده والولد لوالده
الحنفية، والشافعية، والحنابلة قالوا: ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها في حال موتها، بأن قال السيد لعبده: يا أبن الزانية وأمه ميتة وليس للابن أن يطالب أباه بقذف امه الحرة المسلمة التي قذفها في حال موتها، بأن قال له: با أبن الزانية لأن الب لا يعقاقب بسبب فرعه، ولهذا لا يقاد الوالد بولده، ولا يقطع بسرقته، لقوله تعالى: {فلا تقل لهما أفٍ} وقوله عليه الصلاة والسلام (لا يقاد الوالد بولده، ولا السيد بعبده) وللإجماع على كونه، لا يقاد به، فإن غهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق أولى، مع أن القصاص متيقن بسببه، والغالب فيه حق العبد، ولأن المولى لا يعاقب بسبب عبده وذلك، لأن حق عبده حقه، فلا يجوز أن يعاقب بسبب حق نفسه، ولقثول صلوات الله وسلامه عليه (لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده) ولان العبد من أموال السيد وملك له فلا حق له عليه.
المالكية في المشهور من المذهب قالوا: إذا قذف الوالد ابنه فقال له: يا أبن الزانية، بعد موت أمه الحرة المسلمة المحصنة، فإنه يجوز للابن أن يطالب أباه، بقذف أمه، ويقيم عليه الحد القذف كغيره من الجانب، وذلك لإطلاق الآية الكريمة {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء(5/202)
مبحث اعتراض الجهلة على حد القذف.
-إن بعض الناس يتخيل أن عقوبة الجلد شديدة، ولا تناسب المدنية الحاضرة. والجواب عن مثل هذا هو أن يقال: ينبغي لمن يتكلم بهذا أن يدرك اولاً معنى الجريمة، ومعنى ما يترتب عليها من الآثار التي تؤذي المجتمع الإنسانين ثم يقارن بينها وبين
__________
فاجلدوهم ثمانين جلدة} فالآية لم تفرق بين فرد وآخر، ولا بين قريب وبعيد، ولآنه حد هو حق الله تعالى، فلا يمنع من إقامته قرابة الأولاد.
وقال المالكية: إذا حد الب سقطت عدالة الابن لمبائرته سبب عقوبة أبيه، مع قول الله تعالى: {ولا تقل لهم أفٍ، ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً} .
وأجمع الأئمة على أنه إذا كان لزوجته الميتة التي قال لولدها، بعد موتها: يا أبن الزانية ولد آخر من غيره، كان له حق المطالبة، بحد القذف. لأن لكل منهما حق الخصومة، وظهر في حق أحدهما مانع، دون الآخر، فيعمل المقتضى عمله في الآخر، ولذا لو كان جماعة يستحقون المطالبة، فعفا ا؛ دهم، كان للآخر المطالبة به، بخلاف عقو أحد مستحقي القصاص فإنه يمنع استيفاء الآخر، لأن القصاص حق واحد للميت، موروث للوارثين فباسقاط أحدهما بالعفو لا يتصور بقاؤه، لأن القتل الواحد لا يتصور تجزئته، أما هنا فالحق في الحد لله تعالى.
قالوا: ومن قال لغيره: يا زاني، فقال: لا، بل أنت، فإنهما يحدان، لأن معناه، لا بل أنت زان، إذ هي كلمة عطف يستدرك بها الغلط فيصير الخبر المذكور في الأول، مذكوراً في الثاني.
قال لامرأته: يا زانية، فقالت: لا بل أنت، حدت المرأة خاصة، إذا ترافعا، ولا لعان، لنهما قاذفان، وقذف الرجل زوجته يوجب اللعان، وقذفها إياه يوجب الحد عليهما والأصل أن الحدين إذا اجتمعا، وفي تقديم أحدهما اسقاط للآخر، وجب تقديمه احتيالاً للدرء، واللعان قائم مقام الحد فهو في معناه، وبتقديم حد المرأة يبطل اللعان، لأنها تصير محدودة في قذف. واللعان لا يجري بين المحدودة في القذف، وبين زوجها لأنه شهادة، ولا شهادة للمحدود في القذف.
قالوا: ولو كانت قالت في جواب قوله: يا زانية زنيت بك فلا حد، ولا لعان، لوقوع الشك في كل منهما، لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح، فتكون قد صدقت في نسبتها إلى الزنان فيسقط اللعان، وقذفته حيث نسبته إلى الزنا، ولم سصدقها عليه، فيجب الحد دون اللعان، ويحتمل أنها ارادت زناء مان معك بعد النكاح، لآني ما مكنت أحداً غيرك. وهو المراد، في مثل هذن الحالة، وعلى هذا الاعتبار يجب اللعان دون الحد على المرأة، لوجود القذف منه، وعدمه منها، فعلى تقدير يجب الحد دون اللعان، وعلىم تقدير يجب اللعان دون الحد، والحكم بتعين أحد التقديرين فوقع الشك في كل من وجب اللعان والحد، فلا يجب واحد منهما بالشك) .
-(5/203)
العقوبة، ليعلم أن الغرض من العقوبة إنما هو زجر الناس عن كل فعل، أو قول يضر بالمجتمع، ويؤذي أفراده، وجماعته، فإذا فشت الجرائم بين الناس، وأصبح كل واحد غير آمن على عرضه، أو نفسه، أو ماله، فإنه لا يكون لهذا معنى الإ أن الإنسان الذي ميزه الله تعالى بالعقل مساوٍ للحيوان المفترس، الذي يعتدي فويه على ضعيفة، وذلك هو الهلاك، والفناء للأفراد والجماعات، فلا بد من زاجر يزجر المجرمين، فاسدي الخلاق، ويوقفهم عند الحد الذي يصلح للبقاي، ولا بد أن يكون ذلك الزاجر قاطعاً للدابر الجريمة، كي لا يكون لها أثر بين الناس، فمن مصلحة المجتمع، ومصلحة المجرمين أنفسهم، أن تكون العقوبة زاجرة، بصرف النظر عن تفاوت حال المجرمين في الرقة والخشونة، أو الذكورة والنوثة، فإن ذات الجريمة واحدن، وآثارها الضارة واحدة ولا يليق بعاقل مشرع أن يقول: إن المحرم الذي يهاجم أعراض الناس فيثلمها بلسانه كذباً وافتراء، لا يستحق عقوبة الضرب الموجعة.
بل الواجب أن يقول: إن هذه الجريمة لها اسوأ الأثر بين الأفراد والجماعات، فيجب أن توضع لها عقوبة تقلعها من أساسها، فالعقوبة التي وصفها الله تعالى لازمة ضرورية.
فعلى المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، أن ينزهوا ألسنتهم عن قذف الناس بهذه الفاحشة إن لم يكن خوفاً من العقوبة الدنيوية، فخوفاً من الله الذي وصفهم بأنهم (فاسقون) .
أما المستهترون الذين لا يبالون أمر الله عز وجل، ولا يخشونه، فإن هؤلاء أحط من الأنعام، فلا زاجر لهم إلا بما يؤذيهم، وإلاتمادوا في نهش أعراض الناس بدون حساب (1)
مبحث العفو عن القاذف
-الشافعية، والحنابلة قالوا: إن للمقذوف الحق في أن يقفو عن قاذفه، ويسقط بذلك العفو حد القذف، وفي ذلك سعة، فإذا سبق لسان أحد إلى قذف شخص بهذه الفاحشة، فإنه
__________
(1) (إن لله تعالى في طي كل مصيبة نعمة، وفي كل بلية رحمة، وإن لم يطلع على ذلك صاحبها، ففي إقامة الحدود تأديب للمؤمنين، وتربية لنفوسهم على الخير، والبعد عن مواطن الشر، وتطهير لألسنتهم، والتحفظ بها عن الخوض في أعراض الناس وحفظاً لهم من أن يقعوا في معصية الله تعالى، ويصبحوا من الفاسقين، وفي تشريع الحدود تطهير للمجتمع من الشرور والمفاسد، التي تهلكهم وتفرق بين صفوفهم، وإذا قارنا بين المجتمع الذي نعيش فيه، وبين المجتمع الذي كان في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم أدركنا الفرق الكبير والبون الشاسع بينهما. وذلك لإقامة الحدود في عهده وعهد الخلفاء الراشدين من بعده)
-(5/204)
يصح له أن يسترضيه، ويزيل ذلك الأثر من نفسه، فاذ عقفا عنه، فإن عفوه يصح، سواء كان قبل رفع الأمر للحاكم، أو بعده.
المالكية يوافقون على هذا الرأي إذا كان العفو قبل أن يرف الآمر للحاكم، أما بعد رفع الآمر للحاكم، فإن العفو يصح إذا كان المقذوغ يخاف على نفسه سوء السمعة، أما بعد رفع الأمر للحاكمن فإن العفو يصح إذا كان المقذوف يخاف على نفسه سوء السمعة، أما إذا كان مشهوراً، بالفعة، ولا تؤذيه إذاعة التهمة، فإن العفو لا يصح.
وعلى أي حال، فإن القول بصحة عقو المقذوف معقول، لأنه هو الذي وقع عليه ضرر القذف، ومتى عفا ذهب أثر الجريمة الضار، فإذا قذفه ثانياً بعد العفو، فإنه لا يحد، ولكن يعزر كي لا يعود إلى شتمه.
ويمكنك أن تقول: إن العفو يسقط حد القاذف عند الأئمة الثلاثة خلافاً للحنفية، ومع ذلك فإن الحنفية يقولون: أنه لا يقام إلا إذا رفع المقذوف الأمر للحاكم (1)
__________
(1) (الشافعية والحنابلة في أظهر روايتهم قالوا: إن حد القذف حق للمقذوف، وإن كان فيه حق الشرع، تقديماً لحق العبد باعتبار حاجته، وغنى الشرع، ولأن أكثر الأحكام تبنى عليه، والمعقول يشهد له وهة أن العبد ينتفع بحد القذف على الخصوص، مثل القصاص فلا يستوفى إلا بمطالبته، وله أن يسقطه عن القاذف معفو عنه، وله أن يبرىء منه، وهو يورث عن المذوف، وذلك لأن حق العبد في حد القذف غالب على حق الشرع، وظاهر عليه، لأن فيه صيانة أعراض الناس.
الحنفية قالوا: ليس للمقذول أن يسقط حد القذف عن القاذف، ولا أن يعفو عنه، ولا يمكنه أن يبرىء القاذف منه، لأن الغالب فيه حق الله تعالى، ولا خلاف أن فيه حق للعبد، وحق الشرع، ولأنه شرع لدفع العار عن المقذوف، وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه حق العبد، وفيه معنى الزجر، ولذلك يسمى حداً، والمراد بالزجر إخلاء المجامتع من الفساد وتطهيره من المنكر، وهذا علامة حق الشرع، إذا لم يختص به إنسان دون غيره، ولأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد شرعياً له، ولا كذلك عكسه، لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة، وهذا هو الصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها، كالإرث، لأنه يجري في حقوق العباد، لا في حقوق الشرع، فإن العبد يرث حق العبد بشرط كونه مالاً، والحد ليس شيئاً من أنواع الأموال، فيبل بالموت، إذا لم يثبت دليل سمعي على استخلاف الشرع وإرث جعل له حق المطالبة، أو وصية المطالبة التي جعلها شرطاً لظهور حقه، ومنها العفو، فإنه بعدما ثبت عند الحاكم القذف والاحصان، لو عفا المقذوف عن القاذف لا يصح منه، ويحد، فإن الحد لا يسقط بعد ثبوته عندهم إلا أن يقول المقذوف. لم يقذفني، أو كذب شهودي، وحينئذ يظهر أن القذف لم ينعقد موجباً للحد، بخلاف العفو عن القصاص فإنه يسقط بعد وجوبه، لأن القالب فيه حق العبد، ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه،(5/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ويجري فيه التداخل، حتى لو قذف شخصاً مرات، أو قذف جماعة كان فيه حد واحد، إذا لم يتخلل حد بين القذفين، ولو ادعى بعضهم فحدن ففي أثناء الحد ادعى آخرون، كما ذلك الحد فقط.
قالوا: وإنما لا يصح عفوه، لأنه عقو عما هو مولى عليه فيه، وهو الإقامة، ولأنه متعنت في العفو، لأنه رضي بالعار الذي لحقه من القذف، والرضا بالعار عار، وذلك هو الأظهر من جهة الدليل، والأشهر عند عامة المشايخ، ومن أصحابهم من قال: إن الغالب في حد القذف حق العبد.
المالكية قالوا: إن حد القذف الغالب فيه حق العبد، فلا يستوفى إلا بمطالبته، وإن له اسقاطه إذا لم يرفع الأمر إلى الحاكم، أما إذا رفع الأمر إلى الحاكم، ووصل إليه، فليس لأحد اسقاطه في هذه الحالة، لأن العلماء اجمعوا على أن الحد إذا رفع إلى الحاكم وجب الحكم بإقامة الحد عليه، وتحريم قبول الشفاعة في أسقاطه، إلا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه من كثرة اللغط فيه، وهو المشهور عندهم.
وقالوا: إن حد القذف لا يجوز الاعتياض عنه، وإنه يجري فيه التداخل، فلو قذف
قذفين أو أكثر لواحد، وجب حد واحد، ولو قذف جماعة في مجلس، أو مجالس بكلمة، أو كلمات فعليه حد واحد، ولو قذق جماعة في مجلس، أو مجالس بكلمة، أو كلمات فعليه حد.
واحد للجميع، فإن طالب أحدهم، وضرب له، كان ذلك بكل قذف كان عليه، ولا حد لمن طالب منهم بعد ذلك. فلا يتكرر الجلد بتكرر القذف، ولا بتعدد المقذوف، إلا أن يكرر القذف بعد إقامة الحد، فإنه يعاد عليه، ولو لم يصرح به.
مبحث من نسبه إلى عمه أو خاله
الحنفية قالوا: ومن نسب إنساناً إلى عمه أو خاله، أو إلى زوج أمه، فليس بقاذف لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أباً، فلأول وهو تسمية العم أباً لقول تعالى: {وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحاق} وإسماعيل كان عماً ليعقوب عليهم الصلاة والسلام، والثاني لقوله عليه الصلاة والسلام (الخال والد من لا والد له) والثالث للتربية، وقيل في قوله تعالى: {إن ابني من أهلي} أنه كان أبن امرأته، ومن قال لآخر: يازاني، فقال له الآخر: لا بل أنت، فإنهما يحدان إذا طالب كل منهما الآخر لأنهما قاذفان، وإذا طالب كل الآخر، واثبت ما طالب به عند الحاكم لزمه حينئذ حق الله تعالى وهو إقامة الحد، فلا يتمكن واحد منهما من ساقاطه، فيحد كل منهما، بخلاف ما لو قال له مثلا: يا خبيث، فقال له: بل أنت تكافآ، ولا يعزر كل منهما للآخر لأنه حق للآدمي فتساقطا.
مبحث إذا ظهر أن الشهود كفار أو عبيد
الشافعية قالوا: لو الزوج بزنا زوجته كان قاذفاً لها فيحد حد القذف، لأن شهادته بزناها غير مقبول عند القاضي للتهمة، وعلى هذا لو شهد عليها دون أربعة حدوا جميعاً لأنهم قذفة، وكذا لو كان شهد أربع نسوة، أو عبيد، أو كفرة، أو أهل ذمة، أو مستأمنين فإنهم في كل هذه المسائل يحدون حد القذف على المذهب، لأنهم ليسوا من أهل الشهادة. فلم يقصدوا بقوله إلا القذف.(5/206)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والطريق الثاني في حدهم إننا نزلنا نقص الصفة في هؤلاء الشهداء منزلة نقص العدد فيحدون، ومحل الخلاف إذا كانوا في مظاهر الحال بصفة الشهود، ثم باتوا كفاراً، أو عبيداً، وذلك لأن القاضي إذا علم حالهم من أول الأمر ردهم، ولا يصغي إليهم، فيكون قولهم قذفاً محصناً، قطعاً، من غير شك (لأنه ليس في تعرضه شهادة) ,
قالوا: لو شهد أربعة بالزنا، وردت شهادتهم بفسق، ولو مقطوعاً به كالزنا، وشرب الخمر، لم يحدوا، لعدم تمام شرائط الشهادة، وفارق ما مر في المسائل الأولى في نقص العدد، بأن نقص العدد متيقن، وفسقهم إنما يعرف بالظن والاجتهاد وهو شبهة، والحد يدرأ بالشبهات.
ولو شهد دون اربعة بالزنا فحدوا، وعادوا مع رابع لم تقبل شهادتهم كالفاسق ترد شهادته، ثم يتوب ويعيدها لم تقبل.
ولو شهد بالزنا عبيد فحدوا، ثم عادوا بعد العتق قبلت شهادتهم لعدم اتهمامهم، ولو شهد به خمسة، فرجع واحد منهم عن شهادته، لم يحد هو ولا غيره، لقاء النساب ولو رجع اثنان من الخمسة حدا، لأنهما ألحقا به العار، دون الباقينن لتمام النصاب عند الشهادة، مع عدم تقصيرهم، ولو رجع واحد من أربعة، حد وحده دون الباقين لما ذكر.
مسألة
قالوا: إذا قذف إنسان إنساناً آخر بين يدي الحاكم، أو قذف امرأته برجل يعينه والرجل غائب عن المجلس، فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف، ويخبره بأن فلاناً قذفه، وثبت لك حد القذف عليه، كما لو ثبت له مال على آخر، وهو لا يعلمه، يلزمه إعلامه بذلك وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً ليخبرها بأن فلاناً قذفها بابنه، ولم يبعثه الرسول ليبحث عن زناه، ويتحققه.
الشافعي رحمه الله قال: ليس للإمام اذارمي رجل بزنا، أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك. لأن اللع تعالى قال: {ولا تجسسوا} وأراد به إذا لم يكن القاذف معيناً مثل أن قال رجل: الناس يقولون إن فلاناً زنى.
من قذف زوجته برجل
الحنفية، والشافعية، والحنابلة ت قالوا: يجب اللعان بممجرد أن يقذف الرجل زوجته بالزنا إن طالبته بذلك لعموم قول تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم اربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} الخ الآيات ولم تخص الآية في الزنا صفة دون صفة، ويشترط أن يكون الزوج من اهل الشهادة، وأن تكون الزوجة ممن يحد قاذفها، وطالبته بذلك.
المالكية قالوا: لا يجوز اللعان بمجرد القذف، بل لابد أني يدعي رؤية الزنا.
وحجتهم في ذلك، ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: منها قوله في حديث(5/207)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
سعد بن عبادة "أرأيت لو أن رجلاً وحد مع امرأته رجلاً) وحديث أبن عباس رضي الله عنهما وفيه: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا رسول لقد رأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت الآية الكريمة: {والذين يرمون أزواجهم} الآية وايضاً فإن الدعوى يجب أن تكون مبينة كالشهادة سواء بسواء.
واتفق الأئمة: على أن من قذف زوجته بالزنا، واجعى الرؤية يجب أن يجرى اللعان بينهما.
مبحث نفي الولد
ومن أقر بولد ثم نفاه، فإنه يلاعن لأن النسب لزمه بإقراره، وبالنفي بعده صار قاذفاً لزوجته، فيلاعن، وغن نفاه ثم أقر به حد، لأنه قد أكذب نفسه وأبطل اللعان الذي كان وجب بنفيه الولد، لأن اللعان حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب بين الزوجين في زنا الزوجة، والأصل في اللعان أنه حد القاذف، لأنه قذفها بلزنا، فإذا بطل الصل، وهو بطلان التطاذب صير إلى الأصل فيحد الرجل. والولد ولده في حالة ما إذا أقر بالولد ثم نفاه، وما إذا نفاه أولاً ثم اقر به، لإقراره به سابقاً، فيثبت ولا ينفى بما بعده، أو لاحقاً فيثبت به بعد النفي.
وإن قال الزوج الذي جاءت زوجته بولد: ليس بابني، ولا بابنك، فلا حد ولا لعان، لأنه إذا أنكر أنه ابنها، أنكر الولاجة، فكما نفى كونه ابنه لنفي ولادتها إياه، وبنفي ولاتها لا يصير قاذفاً لأنه إنكار الزنا منه.
الحنفية قالوا: ومن وطىء وطأ حراماً في غير ملكة لم يحد قاذفه، لفوات شرط العفة في حقه، وهو من شروط الإحصان، ولأن القاذف صادق فيما قاله، فلا يقام عليه الحد لأنه غير قاذف.
الشافعية - قالوا: اذاسب إنسان إنساناً جاز للمسبوب أن يسب الساب بقدر ما سبه لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ولكن لا يجوز أن يسب أباه، وأمه، وإنما يجوز السب بما ليس كذباً، ولا قذفاً، كقوله: يا ظالم، يا أحمق، يا بليد، يا مغفل، لأن أحداً لا يكاد ينفك عن ذلك، وإذا انتصر بسبب خصمه، فقد استوفى ظلامتهن وبرىء الأول من حقه.
مبحث إذا نفى الزوج الحمل
التفق الفهاء على أن الزوج غاذ نفى الحمل ت بأن ادعى أنه استبرأها، ولم يطأها بعد الاستبراء اتفقوا على جواز الحمل وإقامة اللعان.
وأما إن نفى الحمل مطلقاً أختلف العلماء فيه.
المالكية في المشهور عندهم قالوا: إنه لا يجب اللعان بذلك.
الشافعية، والحنابلة قالوا: لا معنى لهذا، لأن المرأة قد تحمل برؤية الدم.(5/208)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقت نفي الحمل
المالكية - قالوا: اشترطوا أنه إذا لم ينفه وهو حمل، لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان وحجتهم في ذلك الآثار المتواترة عن حديث أبن عباس، وأبن مسعودن وأنس، وسهيل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال: (إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها) . فهذا يدل على أنها كانت حاملاً وقت اللعان.
الشافعية قالوا: إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يتلاعن لم يكن له حق أن ينفيه بعد الولادة.
الحنفية قالوا: لا ينفى الولد حتى تضع الزوجة وحجتهم في ذلك أن الحمل قد ينفش وقد يضمحل، فلا وجه للعان إلا علىلا يقينن ولا يأتي اليقين إلا بعد الوضع.
من قذف الملاعنة
الحنفية قالوا: من قذف امرأة وعنها أولاد لم يعرف لهم أب، أو قذف الملاعنة بولد، والولد حي أو قذفها بعد موت الولد، لا حد عليه لقيام امارة الزنا منها وهي ولادة ولد لا أب له، ففاتت العفة نظراً إليها وهي شرط الإحصان: أما لو قذف ولد الملاعنة نفسه، أو ولد الزنا فإنه يحدن لما رواه اما أحمد في حديث هلال بن أمية من قوله: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ومن رماها ورمى ولدها فعليه الحد.
ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد لعدم ثبوت الزنا وثبوت اماراته، ولو أنه بعد اللعان ادعى الولد فحد أو لم يحد حتى مات فثبت نسب الولد منه، فقذفها بعد ذلك قاذف غيره أو هو قبل موته حد، ولا يحد الذي قذفها قبل تكذيب نفسه.
وكذا لو قامت البينة على الزوج أنه ادعاه وهو ينكر، يثبت النسب منه ويحد، ومن قذفها بعد ذلك يحد لأنها خرجت عن صورة الزواني.
الشافعية قالوا: في أحد آرائهم، إن الملاعنة إذا قذفها أجنبي بذلك الزنا الذي لا عنت فيه، لا يحد.
واعترض عليهم: بأن مقتضاه أن لا يحد الزوج لو قذفها أجنبي بعد اللعان، ولكن المنصوص في الأصل أنه يحد، بل الحق أنها لم يسقط إحصانها يوجه وقولهم اللعان قائم مقام حد الزنا في حقها. إنما يقتضي، أن لا يحد قاذفها، ولو كان معناه أنه وجب عليها الحد، وجعل اللعان بدله، وليس كذلك، لأنه لا يجب الحد بمجرد دعوى الزنا عليه، مع العجز إن إثباته يسقط احصانها. وإنما هو ليتبين الصادق منهما.(5/209)
مبحث مراعاة الشريعة لحال المجرم.
-ومما ينبغي ملا حظته أن إقامة الحد بالجلد يجب أن يراعى فيها حال المجرم، واحتماله للعقوبة، فإذا كان جسمه ضعيفاً لا يحتمل، أو كان مريضاً، فإنه يؤخر إلى أن يقوى على احتمال العقوبة، فإذا كان ضعفه طبيعياً بحيث لا يرجى له قوة، فإنه يجمع له أعواد بقدر العقوبة، ويضرب بها مرة واحدة. وهذا هو رأي جماهير العلماء. ومن هذا كله يتضح لك أن الشدة في العقوبة إنما هي بالنسبة للفجار الأقوياء، الذين يؤذون الناس، بما يوجب حقدهم عليهم، وعدم الصفح عنهم، وهؤلاء شرهم على أنفسهم، وعلى المجتمع شديد، فلا ينبغي لأحد أن يرحمهم في أي زمان ومكان (1)
__________
مبحث إقامة الحد
ولا يستوفي حد القذف إلا بحضرة الإمام، أو نائبه، لاحتياجه إلى النظر، والاجتهاد في شأنه ومن تكرر منه السرقة منه السرقة، أو الزنا، أو الشرب، فحد فهو للكل، وتتداخل الحدود.
أما لو زنى، وسرق، وقذف وشرب، فإنه يحد على كل واحد منها حداً على حدة. لأنه لو ضرب لأحدهما فربما اعتقد أنه لا حد في الباقي، فلا ينزجر عنها. ولا كذلك إذا احدث الجناية.
اجتماع الحدود
وإذا اجتمع حد الزنا، والسرقة والشرب، والقذف، وفقء العين مثلاً يبدأ الحاكم بالفقء أولاً فإذا برىء يحد بالقذف، لما فيه من حق العبد، ويحبس حتى يبرأ لأنه لو جمع عليه بين حدين، ربما تلف، والتلف ليس بواجب على الضارب، فإذا برىء، فللإمام الخيار، إن شاء بدأ بالقطع، وإن شاء بحد الزنا لتساويهما في الثبوت. وآخرها حد الشرب لأنه ثبت بالسنة، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم واجماع الصحابة رضوان الله عليهم.
وإن كان الجاني محصناً بدأ الحاكم بالفقء، ثم حد القذف، ثم الرحم، ويسقط الباقي لأن القتل يأتي على النفس، فيؤدي إلى إسقاط بعض الحدود.
ومن حده الإمام، أو عزره فمات من أثر الجلد، فدمه هدر لأنه مأمور من جهة الشرع بإقامة الحد، فلا يقيد بالسلامة، ولأنه يسوف بحقه الله تعالى بأمره. فكأن الله تعالى أماته بغير سلطان، فلا يجب الضمان.
اتفق الفقهاء: على أن السكران إذا قذف انساناً بالزنا في حالة السكر، فإنه يحاسب على هذا القذف، ويعاقب عليه، ويقام عليه حد القذف بعد صحوه، إذا طلب المقذوف إقامة الحد) .
-
(1) (الحنفية، والشافعية، والحنابلة قالوا: إن حد القذف اخف من جميع الحدوده، لأن سببه(5/210)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وهو النسبة إلى الزنا غير مقطوع به، لجواز كونه صادقاً غير أنه عاجز عن البيان، بخلاف حد الزنا، لأن سببه معاين للشهود، أو للفرية، والمعلوم لهما هنا نفس القذفن وإيجابه الحد ليس بذاته بل باعتبار كونه كاذباً حقيقة أو حكماً بعد إقامة البينة قال تعالى: {فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} فالله تعالى منع من النسبة إلى الزنا إلا عند القدرة على الإثبات بالشهداء، لأن قائدة النسبة هناك تحصل، أما عند العجز فانما هو تشنيع، ولقلقة تقابل بمثلها بلا فائدة، ولذلك قالوا: إن القاذف لا يجر من ثيابه عند الجلد، ولا ينزع عنه إلا الفرو، والثياب المحشوة، لأنه يمنع من وصول الألم إليه، فلو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو فلا ينزع، والظاهر أنه إن كان فوق قميص ينزع لأنه يصير مع القميص إما محشواً، أو قريباً منه، ويمنع إيصال الألم الذي يصلح زاجراً.
المالكية قالوا: إن حد القذف مثل سائر الحدود، فيجب أن يجرد القاذف من ثيابه عند الجلد، ولا يبقى على حسده إلا ما يستر عورته فقط، ويجلد ثمانين جلدة، والعبد يضرب أربعين فقط.
قالوا: ويتعين الضرب بالسوط المصنوع من الجلد، وذلك للسليم القوي، أما نحيف الجسم والمريض فلا يصح ضربه بالسوط، لأنه يؤدي إلى إتلافه وهلاكه، ويفرق الشرب على جميع الأعضاء، لأن جمع الجلدات في عضو واحد ربما يؤدي إلى الإتلاف، وهو غير مستحق، ويتقى في الضرب المقاتل كثمرة التمر، والفرج، والوجه لأنه يجمع المحاسن ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) وروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال للجلاد: إياك أن تضرب الرأس والفرج، ويضرب الرجل قائماً، والمرأة جالسة مستورة، وكشف العورة حرام إلا أنه ينزع عنها الحشو، والفرو، ليخلص اللم إليها. فإن كان القاذف شديد الهزال، أو مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه كالمسلول والمجذوم جلد (بعثكل) وبه ثمانون غصناً يضرب به مرة واحدة، ولا يقام الحد في الأيام الشديد ة الحر ولا الشديدة البرد، ولا يقام الحد على النفساء والحامل حتى تضع وتبرأ من مرضها.
مبحث التوبة النصوح
لقد عبر الله تعالى في الأية الكريمة في جانب {الذين يرمون المحصنات} بصيغة المذكر (الذين) وعبر في جانب المرمي بصيغة المؤنث (المحصنات) ولا فرق بين الذكور والإناث عند جميع الفقهاء في الرامي، والمرمي فمن رمى غيره بالزنا، واستوفى شروط الحد وجب على الحاكم حده سواء أكان كل من الرامي والمرمي رجلاً أم امرأة، وإنما اختير هذا التعبير أما في الأول فمن باب تغليب الذكور على الإناث فإنهما متى اجامعا في حكم شرعي عبر بصيغة كالذكور تغليباً لهم عليهن قال تعالى: {وكانت من القانتين} وأيضاً في الغالب، أو المفروض إن الرمي في هذه الفاحشة بعيد لأن ألسنة النساء اللاتي ينبغي أن يحوطهن الحياء والأدب، فلا يكاد يقع منهن هذا البذاء. وأن الغالب في الرمي يكون من جانب الذكور.(5/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأما الثاني وهو اختيار صيغة المؤنث في جانب المرمي (المقذوف) فلأن أكثر ما توجه هذه التهمة الشنعية للنساء، فهي لهن آلم، وأوجع، ولا يرمي بها الرامي إلا للنيل من المرمي بآلم ما يستطيع وهذا لا ينافي مساواة الرجال لهن في لحوق العار، وإصابة الشرف، وتنكيس العزة، وضياع الكرامة، وعلى ذلك يكون قيد التأنيث في الآية المستفاد من صيغة الجمع بالألف والتاء لا مفهوم له، بل مثلهن في ذلك الذكور، وليس هذا من باب قياس الرجال على النساء، بل من باب إلغاء الفارق بين الفريقين. على أن الآية وردت في واقعة هي أن هلال بن أمية قد رمى زوجته بالزنا بشريك بن سحماء، فجاء التقييد على وفق سبب النزول، فإنها نزلت قي قصة هلال بن أمية، حثنما شكا للرسول صلى الله عليه وسلم زوجته فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) .
وقد رتب الشارع على قذف المحصن أو المحصنة ثلاثة أشياء، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة، والحكم عليه بالفسق.
وقد أردف جل شأنه ذلك الجزاء باستثناء التائبين فقال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم} .
والتوبة هي الرجوع إلى الله بعد الاعراض عنه تعالى، والإقبال عليه بعد الإدبار، وكفى بالمعصية إعراضاً وإدباراً بل فراراً من حظيرة قدسه، وساحة رحمته.
والتوبة الصادقة النصوح تنتظم في معان ثلاثة تؤدي إلى تطهير القلب، بل والجوارح أيضاً، من أدران الذنوب، وأوساخ الخطايا، وهذه المعاني الثلاثة هي معرفة ما في الذنب من الإضرار بالنفس، والابتعاد عن ساحة الرحمة، ومنزلة الرضوان، وإنه لا يقدم عليه إلا عدو نفسه، الذي غلبت عليه شهوته، فلا تحصل التوبة دون أن يتحقق هذا المعنى تحققاً يقيناً، وعلماً حضورياً يشبه علمك أن في هذا الطعام الذي اشتهيته سماً مهلكاً، قاتلاً يخبرك به الطبيب الثقة، فماذا يكون حالك وقد تورطت فأكلت الطعام اشتهاء أليس يدركك من الندم والحسرة ما ترتبك معه، وتخور له قواك، ألست تشعر حينئذ بحالة اكتئاب وحسرة على ما فرط منك، تغلب عليك لذتك ابتئاساً - وفرحتك حزناً، فهذا هو المعنى الثاني وهو الندم على ما وقع منك، وليس مجرد الندم والحسرة ويقف الشخص مبهوتاً غير مفكر إذا كان من أهل الصيرة كلا بل لا يسمى نادماً حقيقة، ويصدق في دعواه أنه ندم حتى يترتب على ندمه أثره الصحيح، وذلك فعل يتعلق بما مضى، وبما هو حاصل، وبما يستقبل من الزمان، فيقلغ عن الاستمرار في تناول ذلك الطعام الشهي حالاً، ويعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل، وعمل على تخليص معدته مما سبق منه إليها في الماضي، حتى يستريح باطنه من هذا السم القاتل، هكذا شأن التوبة من الذنوب والخطايا، ومقياس النندم أن يؤتي هذه الثمار الثلاث وهي:
اولاً الإقلاع فوراً عن الاستمرار في الذنب الحالي، ثانياًـ العزم على أن لا يعود في المستقبل أبداً، ثالثاً المبادرة إلى التخلص مما فرط منه في الماضي.(5/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ومن ذلك أن ترد الحقوق إلى اصحابها، وهذه هي التوبة الصحيحة المطهرة، المقبولة حاماً كما وعد الله جل شأنه، ووعده لا يخلف، وهذا معنى قولهم: التوبة تنتظم من علم، وحال، وعمل. والعمل يتعلق بالحال، والاستقبال، والماضي.
والإصلاح هو إزالة الخلل، والفساد الطارىء على الشيء، والمراد هنا في الآية إصلاح دات البين التي أفسدها بينه، وبين من قذفه، وذلك بأن يستسمحه مما فرط منه في حقه حتى يسامحه، وذلك شأن التوبة والتخلص من حقوق العباد.
وقال بعض العلماء: غنه من مضى مدة عليه في حسن الحال تقبل شهادته، وتعود ولايته، ثم قدورا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الحوال والطباع، كما يضرب للعنين أجل سنة. وأما قوله تعالى: {من بعد يذلك} فالتوبة لا تكون إلا بعد الذنب، فإن سره التهويل في المر وتفظيع ما وقع فيه وتكبيره.
مبحث قبول توبة القاذف
الحنفية قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب توبة صادقة وحسنت توبته لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} ولأن رد شهادته من تمام الحد، لكونه مانعاً فقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المردود في غير القذف لأن الرد للفسق، وقد ارتفع بالتوبة.
وأصله: أن الاستثناء إذا تعقب جملاً متعاطفة، هل ينصرف إلى الكل، أو إلى الجملة الأخيرة؟.
فالحنفية قالوا: إن الاستثناء ينصرف إلى الجملة الأخيرة فقط، وقد تقدم في الآية ثلاث جمل هي قوله تعالى: {فاجلدوهم} وقوله {ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً} وقوله تعالى {وأولئك هم الفاسقون} والظاهر من عظف، {ولاتقبلوا} أنه داخل في حيز الحد، للعطف مع المناسبة، وقيد التأبيد، أما المناسبة: فإن رد شهادته مؤلم لقلبه، مسبب عن فعل لسانه، كما أن آلم قلب المقذوف بسبب فعل لسانه، وكذا قيد التأبيد لا فائدة له إلا بأبيد الرج، وإلا لقال: ولا تقبلوا لهم شهادة {وأولئك هم الفاسقون} جملة مستأنفة لبيان تعليل عدم القبول، ثم استثنى الذين تابوا، وهذا لأن الرد على ذلك التقدير ليس إلا للفسق، ويرتفع بالتوبة، فلا معنى للتأبيد، على تقدير القبول بالتوبة.
وهو استثناء منقطع، لأن التائبين ليسوا داخلين في الفاسقين، فكأنه قيل: وأولئك هم الفاسقون، لكن الذين تابوا فإن الله غفور رحيم، أي يغفر لهم، ويرحمهم، وإذا كان الرد من تمام الحد، لكونه مانعاص، أي زاجراً يبقى بعد التوبة كأصله، أي كأصل الحد، فإنه لا يسقط بالتوبة فإن من تاب بعد ثبوت الحد عليه، لا يسقط عنه، بل يجب أن يحد مهما حسنت توبته بالإجماع واحتج الحنفية على أن حكم الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة بوجوه.(5/213)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(أحدها) أن الاستثناء من الاستثناء يختص بالجملة الآخيرة، فكذا في جميع الصور طرداً للباب.
(ثانيها) أن المقتضى لعموم الجمل المتقدمة قائم، والمعارض وهة الاستثناء يكفي في تصحيحه تعليقه بجملة واحدة، وهي الأخيرة، فقط.
(ثالثها) أن الاستثناء لو رجع إلى كل الجمل المتقدمة لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد، وهذا باطل بالإجماع، فوجب أن يختص الاستثناء بلجملة الأخيرة.
واحتج الأحناف على مذهبهم في المسألة بوجوه من الأخبار والأحاديث الشريفة.
(أحدها) ما روى أبن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجلد هلال، وتطل شهادته في المسلمين) فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقوع الجلد به يبطل شهادته عن غير شرط التوبة في قبولها.
(وثانيها) أن قوله عليه السلام (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف) ولم يشترط فيه وجود التوبة منه.
(وثالثها) ما روى عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة محدود في الإسلام) .
المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: تقبل شهادة المحدود في قذف إذا تاب وحسنت توبته، والمراد بتوبته الموجبة لقبول شهادته، أن يكذب نفسه في قذف. وهل يعتبر فيه إصلاح العمل أم لا؟
وقول يتعتبر لقوله تعالى {إلا الذين تابوا} وقيل: لا. لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابي بكرة: تب أقبل شهادتك.
وقد احتجوا على مذهبهم، بأن شهادة المحدود في قذف مقبولة بوجوه:
(أحدها) قوله عليه الصلاة والسلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ومن لا ذنب له مقبول الشهادة، فالتائب يجب أن يكون أيضاً مقبول الشهادة.
(وثانيها) أن الكافر يقذف فيتوب عن الكفر، ويدخل الإيمان، فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف المسلم إذا تاب عن القذف، وجب أن تقبل شهادته، لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر فإن قيل: المسلمون لا يألمون بسبب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم، والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر، من الشين والشنأن، وأيضاً فالتائب من الكفر لا يجب عليه الحد والتائب من القذف لا يسقط عنه الحد.
قلنا: هذا الفرق ملغى بقوله عليه الصلاة والسلام (أنبئهم أن لهم ما للمسلمين، عليهم ما على المسلمين) .(5/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(وثالثها) أجمعنا على أن التائب عن الكفر، والقتل، والزنا، والشرب، والسرقة، مقبول الشهادة. فكذا التائب عن القذف لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا. (ورابعها) أن ابا حنيفة رحمه الله تعالى يقبل شهادته إذا تاب قبل إقامة الحد عليه، مع أن الحد حق المقذوف، فلا يزول بالتوبة، فلأن تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد عليه. وقد حسنت حالته، وزال اسم الفسق عنه كان أولى.
(وخامسها) أن قوله تعالى {إلا الذين تابوا} استثناء مذكور عقيب جمل، فوجب عوده إليها كلها، ويدل عليه أمور.
(أحدها) أجمعنا على أنه لو قال: عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله، فإنه يرجع الاستثناء إلى الجميع فكذا فيما نحن فيه.
(وثانيها) أن الواو للجمع المطلق فقوله تعالى {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً، وأولئك هم الفاسقون} صار الجمع كأنه ذكر معاً لا تقدم للبعض على البعض، فلما دخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها اولى من رجوعه إلى الباقي، إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى البتة، فوجب رجوعه إلى الكل، ونظيره على قول أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} فإن فاء التعقيب ما دخلت على غسل الوجه، بل على مجموع هذه الأمور من حيث أن الواو لاتفيد الترتيب، فكذا ههنا كلمة إلا ما دخلت على واحد بعينه لأن حرف الواو لا يفيد الترتيبن بل دخلت على المجموع.
(وثالثها) أن قوله تعالى: {وأولئك هم الفاسقون} عقيب قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقاً، لات ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، لا سيما إذا كان الوصف مناسباً، وكونه فاسقاً يناسب ألا يكون مقبول الشهادة، إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقاً، ودل الاستثناء على زوال الفسق، فقد زالت العلمة فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة.
(ورابعها) أن مثل هذا الاستثناء موجود في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحربون الله ورسوله} إلى قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} ولا خلاف أن هذا الاستثناء إلى ما تقدم من أول الاية، وأن التوبة حاصلة لهؤلاء جميعاً.
وكذلك قوله تعالى: {لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى} إلى قوله تعالى: {فم تجدوا ماء فتيمموا} وصار التيمم لمن وجب عليه الاغتسال، كما أنه مشروع لمن وجب عليه الوضوء. والله تعالى أعلم.
كيفية التوبة عن القذف
الشافعية - قالوا: إن التوبة عن القذف تكون بإكذابه نفسه، واختلف أصحابه في معناه. فقال(5/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بعضهم: يقول كذبت قيما قلتت فلا أعود لمثله وقال أو إسحاق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله كذبت كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية اخرى، وإنما يقول القاذف بالملأ ندمتم على ما قلت، ورجعت عنه ولا أعود إليه وأما قوله تعالى: {فإن الله غفور رحيم} فالمعنى أنه لكونه غفوراً رحيماً يقبل التوبة، وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً، إذ لو كان واجباً لما كان في قبول غفوراً رحيماً، لأنه إذا كان واجباً فإنما يقبله خوفاً وقهراً، لعلمه بأنه لو لم يقبله لصار سفيهاً، ولخرج عن حد الإلهية) .
-(5/216)
القسم الثاني كتاب القصاص.
-وأما القصاص فهو أن يعاقب الجاني بمثل جنايته على أرواح الناس، أو عضو من أعضائهم فإذا قتل شخص آخر استحق القصاص، هو قتله كما قتل غيره (1)
__________
(1) ("تنبيه"
ذكر الشيخ رحمه الله تعالى في كتابه أن (القصاص) من باب الحدود، فعند ذكر كتاب الحدود - ذكر حد الشرب. ثم حد الزنا، ثم حد السرقة، ثم حد القذف، ثم القصاص، ثم حد التعيزر، وبعد أن انتهى من باب الحد ذكر حكم المفسدين في الرض والخوارج، ثم حكم البغاة وقطاع الطرق وهذا نمط لم يدرج عليه الفقهاء الذين سبقوه في التأليفن فإن علماء السلف الصالح اللذي ألفوا في الفقه على اختلاف مذاهبهم لم يذكروا القصاص في كتاب الحدود على الشرب، والزنا، والسرقةن والقذف، والتعزير.
الحنفية قالوا: في كتاب (الاختيار شرح الممختار) تأليف عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي "كتاب الحدود" ثم ذكر حد الزنا والقذف، والشرب، والسرقة، وقطاع الطرق، وفي كتاب السير ذكر حكم المرتد، وحكم الخوارج والبغاة من المسلمين، وبعد ذلك ذكر كتاب الجنايات بفصوله ثم ذكر "كتاب الديات" بفصوله وفروعه. ثم قال في أول كتابه الجناية، كل فعل محظور يتضمن ضرراً ويكون تارة على نفسه، وتارة على غيره، ويقال: جنى على نفسه، وجنى على غيره، فالجناية على غيره تكون على النفس، وعلى الطرفن وعلى العرض، وعلى المال، والجناية على النفس تسمى قتلاً، أو صلباً، أو حرقاً، والجناية على الطرف تسمى قطعاً، أو كسراً، أو شجاً، وهذا الباب لبيان هاتين الجنايتين، وما يجب بهما، والجناية على العرض نوعا قذف وموجبه الحد. وقد بيناه، وغيبة، وموجبها الإثم وهو من أحكام الآخرة، والجناية على المال. تسمى نصباً أو خيانة أو سرقة، وقد بيناها، وموجبها في كتاب السرقة، ثم القصاص مشروع ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى} الآية 178 من سورة البقرة.
وقوله تعالى: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} آية 33 من الإسراء والسنة، قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتلناه) وقوله عليه الصلاة والسلام (كتاب الله(5/217)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
القصاص) وعليه الإجماع والعقل، والحكمة تقتضي شرعيته أيضاً. فإن الطباع البشرية، والأنفس الشريرة تميل إلى الطلم والاعتداء، وترغب في استيفاء الزائد علىى الابتداء، سما البوادي، واهل الجهلن العادين عن سنن العقل والعدلن كما نقل عن عاداتهم في الجاهلية، فلو المتشرع الأجزية الزاجرة عن التعدي والقصاص من غير زيادة ولا انتقاص، لتجرأ ذوو الجهل والحمية، والنفس الأبية على القتل والفتك في الابتداء، وإضعاف ما جنى علهم في الاستيفاء، فيؤدي ذلك إلى التفاني، وفيه من الفساد ما لا يخفى، فاقتضت الحكمة شرع العقوبات الزاجرة عن الابتداء في القتل والقصاص المانع من استيفاء الزائد على المثل فورد الشرع ببذلك لهذه الحكمة حسماً عن مادة هذا الباب، قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} .
الشافعية - قالوا: في كتاب (مغنى المحتاج) كتاب البغاة كتاب الرجة، كتاب الزنا، كفارة حد القذف، كتاب قطع السرقة، باب قطع الطريق، كتاب الأشربة، فصل في التعزير. وقبل هذا ذكر كتاب الجراح وفصوله - ثم ذكر كتاب الديات، وفصوله.
وكذلك كتاب (الام) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى فذكر أولاً كتاب أهل البغي وأهل الردة. وبعده كتاب الحدود، وصفة النفي ثم ذكر كتاب السرقة، وكتاب الزنا، وكتاب الخمر، وكتاب قاطع الطريقن وكتبا المرتد، وكتاب الأشربة.
وأما كتاب مختصر المزني للإمام الشافعين فقد ذكر في كتاب الحدود، باب حد الزنا، باب حد القذف، كتاب السرقة، باب قطاع الطريق، باب الأشربة، قتال أهل الردة، وقبل ذلك ذكر كتاب القتل، وكتاب القسامة.
المالكية قالوا: في كتاب حاشية الشيخ الصاوي على الشرح الصغير باب في أحكام الجناية على النفس أو على ما دونها، ثم باب (تعريف البغي) ثم بابب تعريف (الردة) باب ذكر حد الزنا، وباب حد القذف، وباب أحكام السرقة، باب ذكر الحزابة، باب حد الشارب ولم يذكر القصاص، في باب الحدود، وذكر أحكام الجنايات أولاً لأنه أوكد الضروريات التي يجب مراعاتها، وأما صاحب كتاب الميزان للشيخ عبد الوهاب الشعراني فذكر كتاب الجنايات، كتاب الجيات. باب القسامة، باب كفارة القتل، كتاب حكم الحر والساحر، كتاب الحدود السبعة المترتبة على الجنايات، باب الردة، باب حكم البغاة، باب الزنا، باب حد القذف، باب السرقة، باب قطاع الطريق، باب حد شرب المكر، باب التعزير.
وكذلك كتاب (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) . للشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي الشافعي، الشافعين ومراعاة لأمانة العلم سنأسير في الكتاب على حسب ما سر فضيلة المؤلف رحمه الله تعالى وأذكر كتاب القصاص، والجناياتن في باب الحدود، تحقيقاً لرغبته، وإن كانت طريقته تخالف جميع المؤلفين في علم الفقه.(5/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقد أردت التنبيه على ذلك حتى يكون المطلع على علم بسير المؤلف في كتابه، وحتى لا يكون هناك لبس في ذكر الأبواب، وإدخال بعضها في البعض الآخر، وإن كنت أنا أميل الى تنظيم المؤلفين في كتب الفقه، وإخراج القصاص من كتاب الحدود.
مبحث تعريف القصاص
القصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، والأخبار، وقص الشعر أثره، فكأن القاتلس سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها، ومشى على سبيله في ذلك، ومنه قوله تعالى: {فارتدا على آثارهما قصصاً} .
وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه، أو بقتله به، يقال: أقص الحاكم فلاناً من فلان، وأباده به فامتثل بهن أي اقتص منه.
حكم القصاص
والقصاص ثابت في الشرع بالكتاب، والسنة، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ركم ورحمة، فمن أعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} آيتي 178، 179 من سورة البقرة
وقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعينن والأنف بالأنف، والأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} آية 45 من سورة المائدة.
وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد فيه نسخ من الشارع الحكيم، ولم يرد نسخ ذلك وقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلموماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل أنه كان منصوراً} آية 33 من سورة الإسراء أي أتينا لوليه سلطنة القتل.
وقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} ووجه التمسك به أن الله تعالى ذكر في هذه الآية حكم القتل الخطأ، فتعين أن يكون القصاص واجباً وثابتاً فيما هو ضد الخطأ، وهو العمد، ولم تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا تلزم الزيادة على النص بالرأي، ولأن الله تعالى قال: {كتب عليكم القصاص في القتلى} ومعناه، فرض، وأثبت، كما قال تعالى: {كتب عليكم الصيام} وقال: {وكتب عليكم القتال} وقال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} ومعناه الفرض الثابت.
وقيل: إن ما (كتب) في الآيات هنا، إخبار عماكتب في اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء(5/219)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أزلا، وصورته أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله تعالى، والانقياد لقصاصه المشروعن وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليهن وترك المعتدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل. وهو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة، ثلاثة رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية) والذحول هو العداوة، والحقد.
قال الشعبي وقتادة وغيرهما، إن اهل الجاهلية كان فيهم بغين وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعه، فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين، قالوا: لا نقتل به إلا شريفاًن ويقولون: القتل أوقى للقتل) بالواو والقاف، ويروى (أبقى) بالباء والقاف، ويروى (أنفى) بالنون والقاء، فنهاهم الله عن البغي فقال: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد} الآية {ولكم في القصاص حياة} .
وروى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس رضي الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيه الدية) فقال الله لهذه الأمة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد، بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو أن يقبل الدية في العمد، {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} يبتع بالمعروف، ويؤدي بإحسان {ذلك تخفيف من ركم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} أي قتل بعد قبول الدية، هذا لفظ الإمام البخاري: في سبب نزول الآية.
وظاهر الآية الكريمة يوجب القود بالقصاص أينما يوجد القتل، ولا يفصل بين العمد والخطأ، إلا أنه تقيد بوصف العمدية، بالحديث النبوي المشهور، الذي تلقته الأمة بالقبلو، وهو قوله عليه الصلاة ولاسلام (العمد قود) أي موجبة قود. لأن الحديث لو لم يكن يوجب تقييد الآية لم يكن القود موجب العمد فقط، فلا يكون لذكر لفظ العمد فقط، فلا يكون لذكر لفظ العمد فائدة.
قالوا: ولن الجناية بالعمدية تتكامل، وحكمة الزجر عليها تتوفر، والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك.
وأما السنة فقوله صلوات الله وسلامه عليه: (من قتل قتلناه) وقوله لعيه الصلاة والسلام: (كتاب الله القصاص) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) واتفق عليه.
وروي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال، زان فيرجم، ورجل قتل مسلماً متعمداً فيقتل، وجل يخرج عن الإسلام، فيحارب(5/220)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الله ورسوله، فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض) رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم، والأحاديث في ذلك كثيرة.
وعليه إجماع الأمة من غير مخالف منه، ويؤيده العقل السليم، لأن المال لا يصلح موجباً في القتل العمد، لعدم المماثلة، لأن الآدمي مالك مبتذل، والمال مملوك مبتذل، فأنا يتماثلان، بخلاف القصاص، فإنه يصلح موجباً للتماثلن وفيه زيادة حكمة وهي مصلحة الحياء زجراً للغير إن وقوعه فيه، وجبرأً للورثة فيتعين، وإنما جب المال في الخطأ أولاً، ضرورة صون الدم عن الهدار فإنه لما لم يكن الاقتصاص فيه، هدر الدم لو لم يجب المان والآدمي مكرم لا يجب إهدار دمه، على أن ذلك ثابت بنص القرآن الكريم.
والقصاص شرع لمعنى النظر للولي على وجه خاص، وهو الانتقام، وتشفي الصدر، فإنه شرع زجراً عما كان عليه أهل الجاهلية من إفناء قبيلة بواحد، لا لأنهم كانوا يأخذون أموالاً كثيرة عند قتل واحدا منهم، بل القاتل وأهله لو بذلوا ما ملكوه وأمثاله، ما رضي به أولياء المقتول، فكان إيجاب المال في مقابلة القتل العمد تضييع حمة القصاص، وإذا ثبت أن الصل هو القصاص لم يجز المصير إلى غيره بغير ضرورة مثل أن يفقد احد الاولياء. فإنه تعذر الاستيفاء حينئذ، أو أن يكون محل القصاص. ناقصاً بأن تكون يد قاطع اليد أقل اصبعاً، وأمثال ذلك.
من يقيم القصاص
لا خلاف بين الأئمة في أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، الذين فرض عليهم النهوض بالقصاصن وإقامة الحدود. وغير ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى خاطب الجميع المؤمنين بالقصاص قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب علكم القصاص في القتلى} ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً، أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا مالسلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود، وليس القصاص بلازم، إنما اللازم إلا يتجاوز القصاص وغيره من الحدودالى الاعتداءن فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية، أو عفو فذلك مباح، فلا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان الذي أعطاه الله هيذه السلطة، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما يكون ذلك للسلطان، أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.
السلطان يقتص من نفسه
واجمعم العلماء على أن على السطان أن يقتص من نفسه أن تعدى على احد من رعيته ظلماً، غذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص منه، وليس بين السلطان وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل، لقوله جل ذكره: {كتب عليكم القصاص في القتلى} وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملاً "أي حاكماً" قطع يده بغير حق: لئن كنت صادقاً لأقيدنك منه.(5/221)
مبحث عناية الشريعة بدماء الناس
-وقد عنيت الشرعة الإسلامية بالمحافظة على دماء الناس عناية تامة، فددت الجناة الذين يعتدون على دماء الناس تهديداً شديداً (1)
ويكفي في زجر المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعدّ له عذاباً عظيماً} فإن في هذه الآية من الشدة ما تقشعر له جلود العتادة، إن كانوا مسلمين.
__________
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول الله بعرجون كان معه، فصاح الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعال فاستقد) قال: بل عفوت يا رسول الله، وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: إلا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يأمير المؤمنين، لئن أدب الرجل منا رجلاً من أهل رعيته، لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه) ؟
ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه) وذكر الحديث بمعناه) .
-
(1) (لقد جعل الله عقوبة قتل النفس من أفظع العقوبات، وجعل القضاء بها من أعظم المظالم فيما يرجع إلى العباد، وجعل الحساب عليها أول القضاء يوم القيامة. فعن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) ، رواه البخاري ومسلم، أي في الأمر المتعلق بالدماء.
وقتل النفس من الموبقات المهلكات، ومن أكبر الكبائر، فقد روى أبو هريرة الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات: قيل يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسمحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
واعتبر الشارع أن للمسلم لا يزال في سعة منشرح الصدر، فإذا أراق دم امرىء مسلم صار منحصراً ضيقاً لما أوعد الله عليه مالم يوعد على غيره من دينه، فيضيق عليه دينه بسبب الوعيد لقاتل النفس عمداً بغير حق.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دماً حراماً) ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله) رواه البخاري رحمه الله.(5/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقد ثبت في الشرع النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بقتل المرء الصالح، عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق) رواه ابن ماجه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله، ودمه) رواه ابن ماجة واللفظ له.
وعن أبي سعيد وابي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار) . رواه الترمذي
بل جعل الشارع الذنب على من أعان على قتل مؤمن بمال، أو سلاح، أو ساعده ولو بكلمة، أو بنصف كلمة.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي الله مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله) رواه ابن ماجة.
وقد جعل الله تعالى جناية قتل النفس بعد الشرك والعياذ بالله تعالى وقرنه به حتى تدرك النفوس فظاعة هذه الجريمة، وعظم خطرها، وشدة عقابها يوم القيامة، فقال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً} الآية 19 من سورة الفرقان.
وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً} آية 29، 30 من سورة النساء.
وقد جعل الله تعالى وزر من قتل نفساً بغير حق حرمها الله تعالى، مثل من قتل الناس جميعاً، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن حرم قتلها واعتقد ذلك، فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، وكأنه أحيا الناس جميعاً، فقد سلم الناس منه بهذا الاعتبارن قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} .
قال قتادة في قوله: {من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً} هذا تعظيم لتعاطي القتل. ثم قال: عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها، وقال الحسن البصري، فكأنما قتل الناس جميعاً، قال: وزراً {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} ، قال: أجراً
وقال الله تعالى فيما أوصى به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي ذكر الأمور التي حرمها الله تعالى على عباده في الأرض، {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس(5/223)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} آية 151 من الأنعام. فقد نص الله تعالى على النهي عن قتل النفس التي حرمها تأكيداً واهتماماً بشأنها وتعظيماً لحرمتها، وإلا فهو ذكر حرمتها في أول المنهيات. بالنهي عن قتل الأولاد، فهو نهى عن قتل النفس كلها، ثم النهي عن قتل النفس داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فكأن الله تعالى نهى عن قتل النفس التي حرمها في هذه الآية ثلاث مرات متوالية.
روي عن أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو محصور في داره بالمدينة. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منه، بعد أن هداني الله، ولا قتلت نفساً فبم تقتلونني) رواه الإمام أحمد والترمذي، وابن ماجة.
وقد بين الله تعالى حكم القتل العمد، فذكر تهديداً شديداً، ووعيداً أكيداً لمن أقدم على هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في الآية؟؟ من كتاب الله عز وجل، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثرة جداً، ونكتفي بما ذكرناه سابقاً.
وقد قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالد فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً} آية 93 من النساء.
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا المغيرة بن النعمان، قال سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت إلى ابن عباسن فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية {ومن يقتل مؤمناً، متعمداً فجزاؤه جهنم} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء وكذا رواه هو أيضاً ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به.
قالوا: إن لقاتل العمد أحكاماً في الدنيا، وأحكاماً في الآخرةن فأما في الدنيا فتسلط اولياء المقتول عليه قال تعالى: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لولنه سلطاناً} الآية ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوان أو ياخذوا دية مغلظة أثلاثاً ثلاثون حقه، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وأما في الآخرة فهو العذاب في نار جهنم، والخلود فيها، وغضب الله تعالى عليه، والطرد من رحمته ولعنه، والعذاب العظيم المضاعف، كما ذكرت الآية الشريفة التي معنا.
ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه أن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون ذلك معارض من أعمال صالحة، تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، وبتقدير دخول القاتل النار إن مات ولم يتب، ولم تكن له أعمال صالحة، فعلى قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا توبة له. أي لا يقبل الله توبته، وأما على قول جمهور العلماء، حيث لا عمل له صالحاً ينجو به، فليس بمخلد فيها ابداً، بل المراد بالخلود المذكور في الآية الكريمة، هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن(5/224)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثال ذرة من إيمان) وأما حديث معاوية (كل ذنب عسى الله أن يغفر إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) فعسى للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين انتفى وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل، لما ذكرنا من الأدلة، وأما من مات وهو كافر، فالنص أن الله تعالى لا يغفر له البتة، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة، فإنه حق من حقوق الآدميين، وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من رده إليهم، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه، والمقذوف، وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة.
فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تنقل إلى المقتول أو بعضهان ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعض الله المقتول بما شاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها، ونحو ذلك حتى يرضى عن القاتل وقيل: إن الخلود في النار يحمل على أنه جزاء القتل العمد بطريق الاستحلال والعياذ بالله، وهو مستلزم للردة، وقيل يؤول الخلود في الآية على أنه لو عامله بعدله، أو على معنى تطويل المدة مجازاً، فالمراد به المكث الطويل والله أعلم.
توبة القاتل
ذهبت طائفة من علماء السلف إلى أنه لا توبة للقاتل منهم عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمير، والحسن البصري، وقتادة، والضحالك بن مزاحم رضي الله عنهم. نقله ابن أبي حاتم.
حدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا: حدّثنا جرير عن يحيى الجابري، عن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ماترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال جزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه، واحد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تابن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً جاء يوم القيامة أخذه بيمنه أو بشماله، تشجب اوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله، وبيده الأخرى رأسه يقول: يارب سل هذا فيم قتلني، وأيم الذي نفس بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان) .
وفي الباب أحاديث كثرة، منه ما رواه الإمام أحمد حدّثنا صقر بن عيسى، حدّثنا ثور بن يزيد، عن أبي عون عن أبي إدريس، قال: سمعت معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) .
وذهب الجمهور من سلف الأمة وخلفها إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل. فإن تاب، وأتاب، وخشع، وخضع، وعمل عملاً صالحاً، بدل الله سيائته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته، وأرضاه عن ظلامته، قال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى قوله إلا من تاب(5/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وآمن وعمل عملاً صالحاً} الآية وهذا خبر لا يجوز نسخه، وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآية. وهذا عام في جميع الذنوب، من كفر وشرك، وشك ونفاق، وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب، أي من أي ذلك تاب الله عليهن وقال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك بالله، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية، وفيها لتقوية الرجاء في رحمة الله، والله أعلم.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالماً هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم ارشده إلى بلد يتعبد الله فيه فهاجر إليه. فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة وهذه الأمة أولى بالتوبة من بني إسرائيل.
الكفارة في قتل العمد
الحنفية، والمالكية، والحنابلة في إحدى روايتيهم قالوا: لا تجب الكفارة في قتل العمد، لأن الشارع شدد في أمر القاتل عمداً، بالقتل أو الدية إذا عفا الأولياء عن قتله إلى الدية، فلا يزاد على ذلك حيث ورج به النص، ولن قتل العمد كبيرة محضة، وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها، والكبائر لا تكون سبباً لما فيه معنى العبادة، والكفارة فيها ذلك فلا تجب، وموضوعه في أصول الفقه، وهو أن الكفارة لاتناط بماهو كبيرة محضة، ولأن الكفارة من المقادير وتعينها في الشرع لدفع الأدنى، وهو الخطأ، لا يدل لدفع الذنب الأعلى وهو العمد، فكم من شيء يتحمل الأدنى للقدرة عليه، ولا يتحمل الأعلى للعجز عنه.
قال صاحب العناية: فإن قال الشافعي قد دل الدليل على عد صفة العمدية وهو حديث وائلة بن الأسقع، قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد استوجب النار بالقتل فقال: اعتقوا عنه رقبة، يتق الله كل عضو منها عضو منه، من النار، وإيجاب النار إنما يكون بالقتل العمد قلنا: لا نسلم لجواز أن يكون استوجب النار بشبه العمد كالقتل بالحجر، أو العصا الكبيرين سلمناه لكنه لا يعارض إشارة قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} فإن الفاء تقتضي أن يكون المذكور كل الجزاء، فلو اوجبنا الكفارة لكان المذكور بعضه وهو خلف. اهـ.
ولأن الله تعالى ذكر الجزاء الدنيوي على القتل العمد وهو القصاص بقول تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} وذكر الجزاء الأخروي بقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} الآية. فلو قلنا: بوجوب الكفارة على القاتل عمداً، لزدنا على النص، وهو باطل ولأن القتل العمد أعظم من أن يكفر عنه، مثل الصلاة المتروكة عمداً، فإنهم اتفقوا على وجوب قضائها من غير كفارة.
الشافعية والحنابلة في روايتهم الثانية قالوا: أن الكفارة تجب في قتل العمد لأن العامد أغلظ(5/226)
مبحث عقاب قاتل النفس ظلماً.
-وقد قال بعض الأئمة المجتهدين: إن قاتل النفس خالد في النار كالكافر، بدون قرف، كما هو ظاهر هذه الآية: {ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} .
وساء صح هذا القول، أو لم يصح، فإنه يكفي أن يمكث القاتل معذباً في نار جهنم زمناً طويلا، ويكفيه غضب الله عليه، ولعنته إياه، ويكفيه أن الله أعد له عذاباً عظيماً، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولا شك أن من كان عنده مثقال ذرة من إيمان وسمع هذه الآية، فانهيفر من العدوان على دماء الناسن كما تفر الشاة من الذئبن فلو فرض، وقتل شخص آخر في جنح الظلام، وأفلت من القصاص في هذه الحياة الدنيا، فإن ذلك شر له، لا خير فيهن لأن العقوبة الأخروية الشديدة تنتظره، وغضب الله عليه، في هذه الحياة الدنيا ينتظرهن أما من اقتص منه في حياته الدنيا، فإنه يكون كفارة له في الآخرة على التحقيق، لأن الله أكرم من أن يعذب مرتينن وقد فعل به ما فعله بغيره جزاء وفاقاً (1)
__________
إثماً ممن كان قتله خطأ، فكانت الكفارة به أليق ممن كان قتله خطأ، وقد اتفقوا على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، فلأن تجب عليه في العمد أولى، فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس، الواجبة بانص، قال تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية.
واحتجوا على مذهبهم بما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن السقع قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم، فقالوا: إن صاحباً لنا قد اوجبـ يعني النار بالقتل قال: (فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضواً منه من النار) وإيجاب النار غنما يكون بالقتل العمد. فهذا دليل واضح على أن الكفارة تجب في قتل العمد) .
-
(1) (اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أن قاتل النفس المؤمنة متعمداً، يجب عليه ثلاثة أمور، الأول الإثم العظيم، لقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، واعد له عذاباً عظيماً} وقد وردت به أحاديث كثيرةن وانعقد عليه غجماع المة، الثاني يجب عليه القود ت لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} إلا انهتقيد بوسف العمدية لقول صلى الله عليه وسلم (العمد قود) أي موجب له.
الثالث يوجب حرمان القاتل من الميراث، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ميراث لقاتل) ولكن العلماء اشترطوا أموراً في القاتل الذي يقاد منه، وفي المقتول، وفي صفة القتل.
فقالوا: إن القاتل الذي يقتص منه في القتل العمد يشترط فيه أن يكون عاقلاً، فلا قصاص على(5/227)
مبحث جواز العفو في القصاص
-وقد عرفت أن القصاص يسقط بالعفو أو الصلح، بخلاف الحد فإنه لا يسقط بالعفو، لأنه حق الله تعالى، ولكن هذا هو رأي الحنفية.
أما غيرهم فإنهم يقولون: إن الذي لا يسقط بالعفو هو حد الزنا، وحد السرقة، بعد رفع الأمر إلى الحاكم، وأما حد القذف، فإنه يسقط بالعفو مطلقاً، وإذا كنت على ذكر مما بيناه لك سابقاً، من أن حد الزنا لا يقع إلا إذا شهد بالجريمة اربعة شهود، رأوا بأعينهم الفعل نفسه وذلكمتعذرن لا يمن تحقيقه عملياً، فإن تنفيذه يكون منوطاً بإقرار الجاني وحده.
أما حد الشرب فبعضهم يرى أنه من بابب التعزير.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الحد الذي يتصور وقوعه، ولا يسقط بالعفو هو حد السرقة بعد رفعه إلى الحاكم على الوجه الذي بيناه سابقاً (1)
__________
مجنون، وأن يكون بالغاص، فلا قصاص على صبي وأن يكون مختاراً، فلا قصاص على مكره، وأن يكون مباشراً للقتل، فلا قصاص على من قتل من غير مباشرة الفعل، وأن يكون غير مشارك فيه غيره وأن لا يكون اباً للمقتول، ولا سيداً له، على تفصيل فيما يأتي:
ويشترط في المقتول: أن يكون مكافئاً لدم القاتل والذي تختلف فيه النفوس هو الإسلام، والكفر، والحرية، والعبودية، والذكورة، والأنوثةن والواحد، والكثيرن وأن يكون معصوم الدم.
ويشترط في صفة القتل: أن يكون (عمداً) بلا جناية من القاتل قصاصاً، إلا أن يعفو الأولياء أو يصالحوا لأن الحق لهمن لكن اختلفوا.
الحنفية قالوا: إن القصاص واجب عيناً، وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل، لما ورج في الكتاب والسنة.
الشافعية قالوا: إن للولي حق العدول إلى المال من غير مرضاة القاتل لأنه تعين موقعاً للهلاك فيجوز بدون رضاه.
وفي قول: أن الواجب أحدهما لا بعينه وبتعين باختياره، لأن حق العبد شرع جابراً، وفي كل نو جبر فيتخير) .
-
(1) (اختلف العلماء في هل القصاص يكفر ذنب الجاني أم لا؟
فقال بعضهم: إن إقامة الحد على القاتل، والقصاص منه إذا رضي به وتاب، فإنه يكفر عنه(5/228)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ثم القتل لقول صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارات لأهلها) فعمم ولم يخصص فعلاً عن غيره، ولأن الله تعالى أكرم، وأرحم بعبده أن يعذبه مرتين، مرة في الدنيا بالقود، ومرة في الآخرة بالنار، وهو الراجح.
وقال بعضهم: إن القصاص لا يكفر الذنب، ولا يرفع عنه الإصم في الآخرة، لأن المقتول ظلماً، لا منفعة له في القصاص البتة، وإنما القصاص منفعته للأحياء فقط، لينتهني الناس عن القتل.
قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ولما روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة، آخذاً رأسه بيده الأخرى، فيقول: يارب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لكتون العزة لك، فيقول: فإنها لي، قال: ويجيء آخر متعلقاً بقاتله، يقول: رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له، بؤ بإثمه، فيهوي في النار سبعين خريفاً) وفي الباب أحاديث كثيرة، وأما الحديث الذي ورد في أن الحدود تكفر الذنوب، فإنه يختص بالحدود التي فيها حق الله تعالى.
المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: العمد إما يوجب القصاص جزاماً مثل قتل المرتد مرتداً، فإن الواجب فيه القود جزماً.
وإما أن يوجب الدية جزماً، كما أذا قتل الوالد ولده، أو إذا قتل المسلم الذمي فإن موجبه الدية قطعاً. أو التخيير بين القصاص والدية، فيجوز للولي العفو عن القود، على الدية بغير رضا الجاني، لما روى البيهقي عن مجاهد وغيره (كان في شرع موسى صلى الله عليه وسلم تحتم القصاص جزماً، وفي شرع عيسى صلى الله عليه وسلم الدية فقط، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة، وخيرها بين الأمرين) لما في الإلزام بأحدهما من المشقة، ولأن الجاني محكوم عليه فلا يعتبر رضاه كالمحال عليه والمضمون عنه، ولو عفا عن عضو من أعضاء الجاني سقط كلهن كما أن تطليق بعض المرأة تطليق لكلها، ولو عفا بعض المتستحقين سقط أيضاً، وإن لم يرض البعض الآخر وانتقل الأمر إلى الدية، لأن القصاص لا يتجزأ، ويغلب فيه جانب السقوط لحقن الدماء، ولا يؤثر فيه الجهل، فلو قطع عضو رقيق فعفا عنه سيده قبل معرفته بالعضو المعفو عنه، صح العفو لأن العفو مستحب، فقد رغب الشارع فيه وجعا إليه، قال تعالى: {فمن عفا واصلح فأجره على الله أنه لا يحب الظالمين} آية 40 من الشورى وقول الرسول: (من قتل له قتيل فأهله لين خيرتين: إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا اخذوا الدية) .
وروى البيهقي وغيره عن أنس رضي الله تعالىعنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ما رفعاليه قصاص قط إلا أمر فيه بالعفو) .
وعن عدي بن ثابت قال: هشم رجل فم رجل على عهد معاوية، فأعطى دينه، فأبى أن يقبل حتى أعطى ثلاثاً) ، فقال رجل: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تصدق بدم أو دونه، كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق) رواه أبو يعلى.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من(5/229)
محاسن التشريع الإسلامي
-وها هنا سؤال معروف وهو أن الشريعقة الإسلامية جعلت عقوبة القتل من باب القصاص الذي يصح سقوطه بالعفو، لكونه من أفظع الجرائم، وأشدها ضرراً بالمجتمع الإنساني، ومقتضى ذلك أن تجعله من باب الحدود التي لا تقبل السقوط بحال من الأحوال. كي يعلم الجاني أنه مقتول لا محالة، فلا يقدم على الجريمة.
والجواب: أن ذلك من محاسن التشريع السلامي وجقتع، وذلك لأن الغرض من العقوبة قد بينه الله تعالى في كتابه العزيز بقول: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألبابن لعلكم تتقون} آية [179 من البقرة] .
__________
رجل يجرح في جسده جراحة، فيتصدق بها إلا كفر الله تبارك وتعالى عنه مثل ما تصدقه) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
ولو أطلق الولي العفو عن القود، ولم يتعرض للدية بنفي ولا إثبات فالمذهب لا دية عليه، لأن القتل لم يوجب الدية على هذا القول والعفو إسقاط ثابت، لا إثبات معدوم.
وفي قول آخر، إن الدية تجب على القاتل في ماله لقوله تعالى: {فمن عفي له عن أخيه شيء فاتباع بالمعروف} أي اتباع المال وذلك يشعر بوجوبه بالعفو، ولأن الدية بدل عن القود عند سقوطه بعفو، أو غيره كموت الجاني مثلاصن فقد خير الشارع الولي بين أخذ المال، وبين القصاص.
الحنفية، والمالكية في روايتهم الثانية، والشافعية في أرجح روايتهم والحنابلة في القول الآخر: - قالوا: إن الواجب بالقتل العمد معين، وهو القود وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل لما ورد في الكتاب والسنة، ولأن المال لا يصلح موجباً في العمد، لعدم المماصلة والقصاص يصلح للتماصل، وفيه زيادة حكمة وهي ممصلحة الأحياء، زجراً للغير عن وقوعه فيه، وجبراً للورثة فيتعين، وقد شرع القصاص لمعنى النظر للولي على وجه خاص، وهو الانتقام وتشفى الصدورن فإنه شرع في الصل زجراً عما كان عليه أهل الجاهلية من إفناء قبيلة بواحد، لا لأنهم كانوا يأخذون أموالاً كثرة عند قتل واحد منهم، بل إن القاتل وأهله لو بذلوا كل ما ملكوه من الدنيا وأمثال ما رضي به أولياء المقتول، فكان إيجاب المال في مقالبلة القتل العمد تضييع حكمة القصاص، وإذا ثبت أن الأصل في العمد هو القصاص، لم يجز المصير إلى غيره بغير ضرورة، مثل أن يعفو أحد الأولياء، فإنه تعذر الاستيفاء حينئذ أو أن يكون محل القصاص ناقصاً، بأن تكون يد قاطع اليد أقل إصبعاً، أو أن يكون القاتل أباً أو أماً للمقتول فإنه يتعذر القصاص في أمثال هذه الحلات، فيعل عنها إلى الدية صوناً للدم من الهدر اهـ.
الشافعية، والحنفية، والحنابلة رحمهم الله - قالوا: إذا عفت المرأة سقط القصاص عن القاتل.(5/230)
وإذا كان الغرض من القصاص هو حقن الدماء، والكف عن العدوان على الأرواح، ليعيش الناس آمنين، فإن من الضروري أن ينظر الشرع في كل النواحي التي يترتب عليها حفظ الأرواح وصيانتها، فإذا كانت العقوبة تزجر فاسد الأخلاق الذي تميل نفسه إلى الجريمة فتمنعه عن قتل نفسه، وقتل غيره.
ولكن يجب النظر إلى ما يرفع الأحقاد، والضغائن من نفوس الأسرة، حقناً للدماء ومحافظة على الأرواح.
مبحث سلطان أولياء الدم على القاتل
-ولما كان من البدهي الذي لا ريب فيه أن القتل يحدث عند أولياء الدم حقداً شديداً، ويترك في أنفسهم لوعة لا تنطفىء إلا بالتشفي من القاتل، وتحكمهم فيه، فقد جعل الشارع
__________
المالكية قالوا: لا مدخل للنساء في الدم، مع قولهم في رواية أخرى: إن للنساء مدخلاً في الدم كالرجال إذا لم يكن في درجتهن عصبة، ومعنى أن لهن مدخلاً، أي في درجة الوقد والدية معاً وقيل: في القود جون العفو، وقيل: الاستيفاء للنساء بثلاثة شروط. إن كن وارثات ولم يساوهن عاصب في الدرجة، وكن عصبة لو كن ذكوراً.
الحنفية، والمالكية رحمهم الله تعالى قالوا: إن الولي إذا عفا عن القصاص، عاد إلى الدية بغير رضا الجاني، وليس له العدول إلى المال إلا برضا الجاني، وإن عفا ولم يقيد عفوه بديته، ولا غيرها فيقتضي العفو مجرداً عن الدية.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إن الولي مخير بين القود والدية والعفو بغير مال فللولي العدول إلى الدية مطلقاً، سواء رضي القاتل أم لم يرض، لأن الدية بدل عن القود، وقيل: إن الدية بدل عن النفس لا عن القود بدليل أن المرأة لو قتلت رجلاً، وجب عليها دية الرجل، فلو كانت بدلاً عن القود وجب عليها دية المرأة، وقال المتولي من علماء الشافعية: الواجب عند العفو دية المقتول لا دية القاتل، وجمع بعضهم بين الطلامين، بأن القود بد عن نفس المجني عليه وبدل البدل بدل.
قالوا: ولو عقا الولي عن القود على غير جنس الدية، الصالح غيره عليه، ثبت ذلك الغير أو المصالح عليه، وإن كان أكثر من الدية، إن قبل الجاني أن المصالح ذلك نسقط عنه القصاص، وإذا لم يقبل الجاني أو المصالح ذلك فلا يثبت لأنه اعتياض فاشترط رضاهما كعوض الخلغ، ولا يسقط عنه القود في الأصح إن امتنع عن دفعها لأنه رضي به على عوض، ولم يحصل له.
قالوا: ولو عفا عن القود على نصف الدية، فإنه يسقط عن القود الدية معاً اهـ.) .
-(5/231)
لأولياء الدم سلطاناً، على القاتل الذي يثبت عليه القتل، فإن شاؤوا عقوا عنه في نظير مال أو غيرهن وإن شاؤوا اقتصوا منه بالقتل بدون تمثيل أو تعذيب، وفي ذلك سلوى تذهب بها أحقادهم، فلا يمعنون في العدوان، ولا يسرفون في الانتقام بقتل الأبرياء من أسرة القاتل، فتصور ضغائن خصومهم فيقابلونهم بالمثل، ويترتب على ذلك إراقة الدماء البريئة باقبح معانيها.
فإن الحوادث قد جلت على أن كثيراً من جنايات القتل قد نشأت من إثمال رأي ولاة الدم، وحرصهم على أن ينتقموا بأنفسهم من القاتل، فهم يعمدون إلى اتهام غيره من أقاربه الأبرياء، ويكتمون أمره، كي يقتلوه عند سنوح الفرصة بأيديهم تشفياً، وبذلك تسود الفوضى بين الأسر، وتكثر فيهم حوادث القتل، بدون أن يكون للقانون أدنى بأثير على أنفسهم، أما لو كان لولي الدم رأي في القصاص من أول الأمر، فإنه يرى في تسلطه على القاتل، ما يطفىء لوعته ويرفع عنه المهانة، فتهدأ نفسهن فإن عفا عنه فذاك، وإلا اقتص منه وحده، ووقفت الفتنة عند هذا الحد (1)
__________
(1) (قال تعالى: {ومن قتل مظلوماً} بغير سبب يوجب القتل {فقد جعلنا لوليه} أي لمستحق دمه.
المالكية قالوا: الولي يجب أن يكون ذكراً لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكيرن فالآية تدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم ليس للنساء حق في القصاص لذلك، ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء.
الحنيفية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن المراد بالولي في الآية الوارث قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليا بعض} آية [71 سورة التوبة] ، فاقتضى ذلك إثبا القود لسائر الورثة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعلى المقتتلين أن ينجزوا الول فلأول وإن كان امرأة (سلطاناً) أي تسليطاً إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء اخذ الدية) وقال الإمام مالك: السلطان أمر الله تعالى، ابن عباس قال: السلطان، الحجة.
قالوا: وقوله عالى: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً} تفسير لقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} وطاهر الآية أنه لاسبب لحل القتل إلا قتل المظلوم، ولكن الأحاديث تقتضي ضم شيئين آخرين إليه، وهما: الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، ودلت آية اخرى على حصول سبب رابع وهو قطع الطريق، قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا} ودلت الآية على حصول خامس وهو الكفر، قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر} واختلف الفقهاء في أشياء اخرى منها ترك الصلاة واللواط، والقتل بالسحر، {فلا يسرف في القتل} إنه لما حصلت عليه استيفاء القصاص أو(5/232)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الدية، فلا يقدم على استيفاء القتل. بلك يكتفي بأخذ الدية، أو يميل إلى العفو، أي فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل.
وصير معنى الآية، والترغيب في العفو، والاكتفاء بالدية، كما قال تعالى: {وإن تعفوا أقرب للتقوى} .
وقيل: الإسراف في القتل هو أن الولي يقتل القاتل وغير القاتل، وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحداً من قبيلة شريفة، فأولياء ذلك المقتول كان يقتلون خلقاً من القبيلة الدنيئة، ولا يكتفون بقتل القاتل، فنهى الله تعالى عنه وامر بالاقتصار على قتل القاتل وحده من غير تعد، وقيل الإسراف في القتل، هو أن لا يرضى بقتل القاتل، فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل، ثم كانوا يقتلون منهم قوماً معينين، ويتركون القاتل الساقط.
وقيل الإسراف: هوان لا يكتفي بقتل القاتل. بل يمثل به ويقطع أعضاءه، ويمزق جسده، قرأ الأكثرون (فلا يسرف) بالياء، ويكون الضمير للقاتل الظالم ابتداء أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم.
وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده أي لا تقتلوا غير القاتل: {أنه كان منصوراً} فيه ثلاثة أوجه.
الأول: كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم، لا تفعل ذلك، فإن ذلك المقتول يكون منصوراً في الدنيا والآخرة. أما نصرته في الدنيا فيقتل قالتله، وأما نصرته في الآخرة، فبكثرة الثواب له، وكثرة العقاب لقالتله.
الثاني: أن هذا الولي يكون منصوراً في قتل ذلك القاتل الظالم، فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصوراً فيه، ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منهن لأن من يكون منصوراً من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قلت لعلي كرم الله وجهه، (وايم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان) ، لأن الله تعالى يقول: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلانا لوليه سلطاناً} .
الثالث: أن هذا القاتل الظالم، ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص، وأن لا يطلب الزيادة عنه.
فإن قيل: وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه؟.
قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة، وباستيفائها أخرى وبمجموعها ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى، فالله نصره بوليه من بعده.
قال الضحاك: هذا اول ما نزل من القرآن في شأن القتل، وهي مكية، اهـ.
ويشترط لوجوب القصاصن أو الدية في نفس القتيل باو بدنه، أن يقصد القتل أو الشخص بما يقتل غالباً، أو قصدهما بما لا يقتل غالباً، أو تسبب فب قتله بفعل منه. ويشترط في القتيل كونه معصوماً، ويشترط في القاتل كونه مكلفاً.)
-(5/233)
مبحث حق السلطان على القاتل
-ولا يقال: إذا عفا أولياء الدم عن القاتل كان إطلاقه خطراً على الأمن؟ لأنا نقول: إن ولي الدم في الغلب مصر على القصاص، وإذا فرض وعفا عنه ولكن رأي الحاكم أن إطلاقه يهدد الامن العام، له أن يعزره بما شاء، وله أن يجعله تحت المراقبة، التي تحول بينه وبين العدوان حتى يتحقق، من حسن سلوكه.
فإن من محاسن الشريعة الإسلامية ودقتها، انها جعلت عقوبة القتل قصاصاً يقبل فيه الحاكم الصلح، أو العفو عن أولياء الدم بشروط وتفاصيل تطلب في في كتب الفقه، ولا يسعها المقام (1)
__________
(1) (اختلف العلماء في القاتل عمداً إذا عفا عنه أولياء الدم هل يبقى للسلطان فيه حق أو لا؟
المالكية، والحنيفية رحمهم الله قالوا: إن للحاكم حقاً على القاتل إذا عفا عنه اولياء الدم وله أن يجلده مائة جلدة، ويسجنه سنة كاملة، وبه قال أهل المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وروي ذلك عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
الشافعية، والحنابلة رحمهم الله - قالوا: لا يجب على الحاكم شيء من ذلك إلا أن يكون القاتل معروفاً بالشر والأذى، فيجوز للإمام أن يؤدبه على حب ما يرى بالحبس، أو الضرب، أو التأنيب، وحجتهم في ذلك طاهر الشرع.
قالوا: وليس لمحجور فلس عقو عن مال إن أوجبنا أحدهما لا بعينه، لأنه ممنوه من التبرع به، وإن أوجبنا القود عيناً فإن عفا عن الدية ثبتت كثيره، وإن اطلق العقو فلا يدة أيضاً، وإن عفا المحدور أو المفلس على أن لا مال أصلاً، فلا يجب شيء لأن القتل لم يوجب المال.
وقيل: إن المفلس يصح اقتصاصه. وإساطه، واحترز بمحجور عن المفلس قبل الحجر عليه فإنه كموسر، وبمفلس عن المحجور عليه بسلب عبارته كصبي ومجنون فعفوهما لغو المبذر حكمه بعد الحجر عليه بالتبذير في إساقط القود واستيفائه كرشيد، لأن الحجر عليه لحق نفسه لا لغيره فلا تجب الجية في صورتي عفو.
موت القاتل
الحنفية، والمالكية قالوا: من قتل آخر متعمداً، ووجب عليه القصاص ثم مات بعد ذلك بأجله من غير تعد، سقط حق ولي الدم عن القصاص والدية جميعاً، ولا شيء على ورثة القاتل لفوات محل الاستيفاء.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا مات القاتل عمداً بعد جنايتع، لا يسقط الحق عنه بل تبقى الدية(5/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
في تركته، وترد إلى ورثة المقتول، ولهم الحق في أخذها أو العفو عنها، وذلك لأن الوجاب احدهما عنهم، فإذا استحال تحقيق القود وجبت الدية، حتى لا يهدر دمه، كالوالد إذا قتل ولده أو عبده، وتعذر الاستيفاء بالقصاص، فإنه ينتقل إلى الدية. في تركته، وترد إلى المقتول، ولهم الحق في أخذها أو العفو عنها، وذلك لأن الواجب احدهما عندهم، فإذا استحال تحقيق القود وجبت الدية، حتى لا يهدر دمه، كالوالد إذا إذا قتل ولده أو عبده، وتعذر الاستيفاء بالقصاص، فإنه ينتقل إلى الدية.
اختلاف ورثة الدم في العفو
اتفق الفقهاء على أن المقتول عمداً، إذا كان مسلماً معصوم الدم، وكان القاتل مكلفاً عاقلاً، ولم يكن أباً ولا جداً للمقتول، وكان له أولاد ذكور كبار عقلاء، وحضروا مجلس القضاء وطالبوا بالقصاص، فإنه يجب على الحاكم تنفيذ الحكم من غير تأخير، إلا إذا كان الجاني امرأة حاملاص، فإنه يؤجل القود، حتى تضع حملها، وترضع مولودها.
وإن تنازلوا عن القصاص، وطلبوا الدية، وجبت لهم الدية، ولو بغير رضا الجاني، أما إذا اختلفوا في العفو فطلب بعضهم القصاص. وعفا البعض الآخر عن الجاني، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية في مال القاتل، وتقسم على الورثة، وإن لم يرض باقي الورثة، لأن القصاص لا يتجزأ، ويغلب فيه جانب السقوط لحقن الدماء، لحرمة دم الآدمي. لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذه شبهة في إقامة القصاص على القاتل، أما إذا كان الورثة نساء ورجالاً. واختلفوا في العفو، أو إقامة الحد والقصاص، أو أخذ الدية فقد اختلف فيه الأئمة رحمهم الله تعالى.
المالكية رحمهم الله تعالى قالوا: يسقط القصاص إن عفا رجل من المستحقين حيث كان العافي مساوياً في درجة الباقي من الورثة، والاستحقاق، كابنين، أو عمين، أو أخوين، وأولى، إن كان العافي أعلى درجة كعفو ابن مع اخ، فإن كان العافي انزل درجة من الباقين، لم يعتبر عفوه، كعفو أخ مع ابن للمقتول. وكذا، إن كان العافي لم يساو الباقي، في الاستحقاق كإخوة لام، مع إخوة لاب، لان الاستيفاء حق للغاصب الذكر، فلا دخل فيه لزوج ولا لأخ لأم، اوجد لها، ويقدم الأقرب فالأقرب، فيتقدم ابن فاينه، إلا الجد الأدنى، والاخوة فسيان في القتل والعفو، ولا كلام للجد الأعلى مع الإخوة.
أما إذا كان القائم بالدم نساء فقط، وذلك لعدم مساواة عاصب لهن في الدرجة، بأن لم يوجد أصلاً أو وجد، وكان أنزل. فالبنت، وبنت الابن، احق من الخت قي عفو وضده، فمتى طلبت القصاص الثابت ببينة أو اعتراف، أو العفو عن القتل فيها، ولا كلام للأخت، وإن كانت مساوية في الإرث ولا شيء لها من الدية، أما لو احتاج القصاص لقسامة، فليس لهما أن يقسما، لأن النساء لا يقسمن في العمد، بل العصبة فقط، فحيث اقسموا وأرادوا القتل، وعفت البنت فلا عفو لها، والقول للعصبة في القصاص، وإن عفوا، وأرادت القتل، فلا عفو لهم هم، والقول لها في طلب القصاص، فلا عفو بإجماع الجميع، أو بعض البنات، وبعض منهم.
وإن عفت واحدة من البنات، أو بنات ابن أو أخوات ولم يكن عاصب أو كان، ولا كلام،(5/235)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لكون البنت أعلى درجة منه والقتل ثابت بالبينة أو الإقرار، نظر الحاكم العد في الصواب، من إمضاء لعفو بعض البنات، أو رد لعفوهن لأنه بمنزلة العاصب، إذ يرث الباقي من التركة لبيت المال.
وفي اجتماع رجال ونساء أعلى درجه منهن ولم يحزن الميراث، لم يسقط القصاص إلا بعفو الفريقين، فمن أراد القصاص من الفريقين. فالقول قوله، أو ببعض من كل من الفريقين، ومهما عفا البعض من المستحقين للدمن، مع تساوي درجاتهم، بعد ثبوت الدم مطلقاً ببينة أو غيرها، فإنه يسقط القصاص، وإذا سقط فلمن بقي من الورثة ممن لم يعف، وله التكلم، في نصيبه من دية عمد، وكذا لو عقا جميع من له التكلم مرتباً سقط حقه من الدم، ومن الدية، وما بقي منها يكون لمن بقي ممن له التكلم، ولغيره من بقية الورثة، كالزوج أو الزوجة، أو الاخوة، وما بقي ممن لا تكلم له بأخذ نصيبه من الدية. كولدين، لأنه مال ثبت بعفو الأول، بخلاف لو عفا في فور واحد، فلا شيء لمن تكلم له، كما إذا اكان من له التكلم واحداً، وعفا، كإرثه للدم، كما لو قتل احد ولديه اباه، ثم مات غير القاتل، ولا وارث له سوى القاتل، فقد ورث القاتل دم نفسه كله، وكذا لو ورث القاتل بعض الدم، كما لو كان غير القاتل أكثر من واحد، مات أحدهم عن القاتل وغيره، فقد ورث القاتل بعض الدم، فيسقط القصاص. ولمن بقي من الورثة نصيبه من الدية، هذا إن استقل الباقي بالعفو، أما لو عفا من يستقل بالعفو فلا يسقط القود عمن ورث قسطاً، إلا بعفو الجميع, أو بعض من كل، كما لو قتل شقيق أخاه وترك المقتول بتات ثلاثة اخوة أشقاء غير القاتل فمات أحد الثلاثة، فقد ورث القاتل قسطاً، ولا يسقط القوج إلا بعفو الجميع، أبو بعض من كل.
الأئمة الثلاثة قاولا: كل وارث يعتبر قوله في اسقاط القصاص وغسقاط حقه من الدية، وفي أخذ حقه، والتمسك به.
وقال الشافعي: الغائب منهم والحاضر، والصغير والكبير، والذكر والأنثى سواء في الاستحقاق ولاية الدم عن المقتول عمداً، لأن الدم كالدية.
عفو المقتول عمداً المقتول عمداً عن دمه قبل موته
المالكية قالوا: إذا قال البالغ، العاقل، المعصوم الدم، لإنسان: إن قتلتني أبرأتك من دمي فقتله، فإنه لا يسقط القود عن قالتله، وكذا لو قال له بعد أن جرحه، ولم ينفذ مقتله: أبرأتك من دمي. فلا يسقط القصاص، لأنه أسقط حقاً قبل وجبوبه، بخلاف ما إذا أبرأه من دمه بعد إنفاذ مقتله، أو قال له: إن مت فقد أبرأتك، فإنه يبرأ، ولو كان قبل إنفاذ مقتله، ولكن لابد من كون البراءة بعد الجمرح، وللولي حق القصاص، أو العفو مجاباً، أو على الدية إن رضي الجاني بها، فإن لم يرض الجاني بالدية، خير الولي بين أن يقتص من القاتل، أو يعفو عنه بغير عوض، وإن عفا عن الجاني ولم يقيد عفوه بدية ولا غيرها، فيقضى بالعفو مجرداً عن الدية، إلا أن تظهر بقرائن الأحوال إرادتها مع الدية(5/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حال العفو، ويقول: إنما عفوت لأخذ المدية، فيصدق يمينه، ويبقى الولي بعد حلفه، على حقه في القصاص إن امتنع الجاني عن دفع الدية. وإلا دفعها، وتم العفو كما طلب الولي.
الشافعية قالوا: إن قال حر مكلف، رشيد، أو سفيه، لوجل آخر: اقطع يدي مثلاً ففعل الآجنبي فهو هدر، لا قصاص فيه ولا دية، للإذن فيه لأنه اسقط حقه باختياره، فإن سرى الجرح للنفس فمان أو قال له ابتداء: اقتلني، فقتله فهو هدر في الأظهر من المذهب للإذن في ذلك الفعل.
وقبل تجب الدية على القاتل، والخلاف مبني على أن الدية ثبتت لميت ابتداء في آخر جزء من حياته ثم يتلقاها الوارث، أو على أن الدية ثبتت للوارث ابتداء عقب هلاك المقتول؟ إن قلنا بالأول وهو الأصح لم تجب الدية في حال السراية، لأنه أذن فيما بملك وإلا وجبت، ففي صورة القطع تجب نصف الدية، لأنه الحادث بالسراية، وفي حالة الأمر بالقتل ابتداء تجب الدية، وعلى القول الأول تسقط الدية ولكن تجب الكفارة، فإن الكفارة تجب على الصح لحق الله تعالى والإذن لا يؤثر فيها، تجب على كل حال، ولو قال له: اقتلني وإلا قتلتك، فقتله، فلا قصاص ولا دية في الأظهر.
ولو قطع عضو من شخص يجب فيه القود، فعفا المقطوع عن قوده وإريه، فإن لم يسر القطع بأن اندمل فلا شيء من قصاص، أو أرش، لاسقاط الحق بعد ثبوته.
وإن سرى القطع للنفس، فلا قصاص في نفس ولا طرف، لأن السراية تولدت من معفو عنه، فصارت شبهة واقعة للقصاص. أما إذا سرى إلى عضو آخر فلا قصاص فيه وإن لم يعف عن الأول. وأما أرش العضو في صورة سراية القطع للنفس، فإن جرى من المقطوع في لفظ العفة عن الجاني، لفظ وصيته، كأن قال بعد عفوه عن القود، اوصيت له بأرش هذه الجناية فوصيته للقاتل، أو جرى لفظ إبراء أو إسقاطن أو جرى عفو عن القود، اوصيت له بأرش هذه الجناية فوصيته للقاتل، أو جرى لفظ إبراء أو إساقط، أو جرى عفو عن الجناية، سقط الأرش قطعاً، وقيل: ما جرى من هذه الثلاثة وصيته، لاعباره من الثاث، وتجب الزيادة على ارش العضو المعفو عنه أن كان إلى تمام الجية للسراية، سواء تعرض في عفوه لما يحدص منها، أم لا، وفي قول: إن تعرض في عفوه عن الجناية لما يحدث منها سقطت تلك الزيادة، والظهر عدم اسقوط، لأن إسقاط الشيء قبل ثبوته غير منتظم، فلمو سرى قطع العضو المعفو عن قوده وارشه كأصبع، إلى عضو آخر، كباقي الكف، فاندمل القطع، ضمن دية السراية فقط، لأنه إنما عفا عن موجب جناية موجودة فلا يتناول غيرها، ومن له قصاص نفس بسراية قطع طرف، كأن قطع يده فمات بسراية، لو عفا وليه عن النفس، فلا قطع له، لأن المستحق القتل، والقطع طريقه، وقد عفا عنه، أو عفا وليه عن الطرف، فله جز الرقبة في الأصح لأن كلاً منهما حقه، والثاني المنع، لأنه استحق القتل بالقطع الساري، وقد عفا عنه.
ولو قطعه الولي ثم عفا عن النفس مجاناً أو بعوض، فإن سرى القطع إلى النفس، ظهر بطلان العفو ووقعت السراية قصاصاً، لأن السبب وجد قبل العفو، وترتب عليه مقتضاه فلم يؤثر فيه العفو، وإن الم يسرق قطع الولي، بل وقت، فيصح عفوه، لأنه أثر في سقوط القصاص، ويستقر العفو المعفو عليه، إذ لم يستوف بالقطع تمام الدية، ولا يلزم الولي بقطع اليد شيء.(5/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولو وكل الولي غيره في استيفاء القصاص ثم عفا، فاقتص الوكيل جاهلاً بذلك، فلا قصاص عليه لعذره والأظهر وجوب الدية، لأنه بأن أنه قتله بغير حق، فتجب على الوكيل دية مغلظة، لورثة الجاني، لا للموكل، والأصح أن الوكيل لا يرجع بالدية على الثاني أمكن الموكل إعلام الوكيل بالعفو أم لا لأنه محسن بالعفو، ولو وجب قصاص عليها فنكحها عليه جاز وسقط، فإن فارق قبل الوطء، رجع بنصف الأرش، اهـ.
الحنفية، والحنابلة رحمهم الله تعالى قالوا: إذا عفا المقتول عن دمهن في القتل العمد جاز ذلك على الأولياء، وسقط القصاص عن القاتل، ولا يجب شيء لورثته من بعده. لأن الحق الذي جعل للولي إنما هو حق المقتول أولاً، فناب فيه الوارث منابه، وأقيم مقامه، فكان المقتول أحق بالخيار من الذي أقيم مقامه بعد موته.
وقد أجمع العلماء على قوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} أن المراذ في الآية الكريمة هة المقتولن يتصدق بدمه، وذلك في حالة إصابته قبل موته، وإنما اختلفوا على من يعود الضمير في قول تعالى: {فهو كفارة له} فقيل: يعود الضمير على القاتل لمن رأى به توبة.
وقيل: يعود الضمير على المقتول الذي تصدق على قالتله بدمه، أو القود من أطرافه في الجراحة، فيكون هذا التصدق كفارة لذنوبه وخطاياه، إذا فعا عن قاتله، أو عن جرحه.
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فمن تصدق به} يقول: فمن عفا عنه وتصدق عليهن فهو كفارة للمطلوب، وأجر للطالب.
وروي عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} للمجروح، فيهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به وهكذا، وروي عن الشعبي عن رجل من النصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فمن تصدق به فهو كفارة له} قالك (هو الذي تكسر سنه، أو تقطع يده، أو يقطع الشيء منه، أو بجرح في بدنه فيعفو عن ذلك) قال: (فيحط عنه خطاياه، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان الثلث، فثلث خطاياه، وإن كانت الدية، حطت عنه الخطايا كذلك) .
وروى الإمام أحمد قال: حدّثنا وكيع، حدّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال معاوية: انا سنرضيه، فألح الأنصاري فقال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس، فقال أو الدرداء: سمعت رسول الله يقول: (ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة، وحط به عنه خطية) فقال الأنصاري. فإني قد عفوت.
وروي عن عدي بن ثابت: أن رجلاً اهتم فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه، فأعطي دية، فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثة، فأبى، فحدث رجل من أصحاب(5/238)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له، من يوم أن ولد، إلى يوم يموت) والأحاديث في ذلك كثيرة.
الحنفية قالوا: من قطع يد رجل عفا المقطوعة يده عن القطع. ثم مات بعد ذلك، فعلى القاطع الدية في ماله، وإن عفا عن القطع وما يحدث منه، ثم مات من ذلك فهو عفو عن النفس، ثم إن كان خطأ فهو من الثلث، وإن كان عمداً فهو من جميع المال.
لأن العفو عن القطع والشجة والجراحة ليس لعفو عما يحدث منه، فإذا وقع شيء من ذلك وعفا المجني عليه عنه بعد الجرح، ثم سرى ومات بسببه، فعلى الجاني الدية في ماله خاصة. لأن سبب الضمان قد تحقق وهو قتل نفس معصومة مقومة، والعفو لم يتناوله بصريحه، لأنه عفا عن القطع، وهو غير القتل لا محالة، وبالسراية تبين أن الواقع قتل، لا قطع وحقه فيه، فما هو حقه لم يفع عنه، وما عفا عنه فليس بحقه، فلا يكون معتبراص، ألا ترى أن الولي لو قال بعد السراية: عفوتك عن اليدن لم يكن عفواً، ولو قال المجني عليه: عفوتك عن القتل، وأقتصد القطع لم يكن عفواً، فكذا إذا عفا عن اليد ثم سرى القطع، وإذا لم يكن معتبراً وجب الضمان.
والقياس يقتضي القصاص لأنه هو الموجب للعمد، إلا أنا تركناه لأن صورة العفو اورثت شبهة، وهي دارئة للقود، فتجب الدية في ماله.
وقال الصاحبان رحمهما الله تعالى: من قطع يد رجل فعفا المقطوعة يده عن القطع، ثم مات من ذلك القطع بسبب السراية، فهو عفو عن النفس أيضاًن فلا شيء على القاطع، لأن العفو عن القطع عفو عن موجبه، لأن الفعل عرض لا يبقى، فلا يتصور العفو عنه، فيكون العفو عنه عفواً عن موجبه، وموجبه أما القطع إذا اقتصر، ولم يسر، وإما القتل، إن سرى القطع ومات بسببه، فكان العفو، عفواً عنهما جميعاص، ولأن اسم القطع يتناول الساري والمقتصر فإن الاذن بالقطع به، وبما حدث منه، حتى إذا قال شخص لآخر: اقطع يدي فقطعه، ثم سرى إلى النفس، فإنه لم يضمن، والعفو إذن انتهاء، فيعتبر بإذن ابتداء، فصار كما إذا عفا عن الجناية، فإنه يتناول الجناية السارية، والمقتصرة.
وقال الإمام: لا نسلم أن الساري نوع من القطع، وإن السراية صفة له، بل السراية قتل من الابتداء، لأن القتل فعل مزهق للروح، ولما انزهق الروح به عرفنا أنه كان قتلاً، ولأن القتل ليس بموجب للقطع من حيث كونه قطعاً، فلا يتناوله العفو، بخلاف العفوعن الجناية لأنه اسم جنس، وبخلاف العفو عن الشجة وما يحدث منها، لأنه صريح في العفو عن السراية والقتل، ولو كان القطع خطاً فقد أجراه مجرى العمد، في العفو عن القطع مطلقاً، والعفو عن القطع وما يحدث منه، والعفو عن الشجة، والعفو عن الجناية، ولأن العفو عن القطع وما يحدث منه، والعفو عن الجناية عفو عن الدية بالاتفاق، والعفو عن القطع مطلقاً عفو عن الدية عن القطع مطلقاً عفو عن الدية عندهما إذا كان خطأ، وعند أبي حنيفة يكون عفواً عن أرش اليد لاغير، والعفو عن الشجة عفو عن الدية إذا سرت عندهما، وعنده عن أرش الشجة(5/239)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لا غير، والقطع إن كان خطأ وجبت الدية من ثلث المال، وإن كان عمداً فهو جميع المال عند أبي حنيفة رحمه الله اهـ.
الصلح في القتل عمداً على مال
اتفق الأئمة على أنه إذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص، ووجب المال، قليلاً كان أو كثيراً، زائداً على مقدار الدية، لقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} على ماقيل: إن الآية نزلت في الصلح وهو قول ابن عباس والحسن، والضحاك، ومجاهد وهو موافق للام، فإن لفظ (عفا) إذا استعمل باللام كان معناه البدل، أي فمن أعطى من جهة أخيه في الدين المقتول شيئاً من المال، بطريق الصلح، عن مجاملة وحسن معاملة.
ولأن القصاص حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفواً، فكذا تعويضاً، لاشتماله على إحسان الأولياء، وإحياء القاتل، فيجوز بالتراضي، والقليل والكثيرفيه سواء، لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما كالخلع وغيره، وإن لم يذكروا خالاً، ولا مؤجلاً فهو حال، لأنه مال واجب بالعقد، والأصل في أمثاله الحلول، مثل المهر، والثمن، بخلاف الدية، لانها ما وجبت بالعقد.
المالكية قالوا: يجوز صلح الجاني مع ولي الدم في القتل العمد، ومع المجني عليه في الجرح العمد، بأقل من الدية، أو أكثر منها، حالاً ومؤجلاً، بذهب أو فضة أو عرض.
عفو احد الشركاء في الدم
الحنفية قالوا: إذا عفا احد الشركاء في الجم، أو صالح عن حقه على عوض، سقط حق الباقين في القصاصن وكان لهم نصيبهم من الدية، لان الدية متجزئة، لكونها من قبيل الأموال في الجملة، بالاتفاق، فيجب أن يكونا للجميع حتى للزوجين، لأن وجوبهما اولاً للميت، ثم يثبت للورثة. ولا يقع للميت إلا بأن يسند الوجوب إلى سببه وهو الجرح، فكانا كسائر الأموال في ثبوتهما قبل الموت، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله دخلت دينه فهيا، وتعضى منه ديونه، وكان الإمام على رضي الله عنه يقسم الدية على من أحرز الميراثن وكفى به قدوة، وإذا ثبت ذلك، فكل من الورثة يتمكن من الاستيفاء، والعفو، والزوجية تبقى بعد الموت حكماً في حق الإرث، أو يثبت للورثة بعد الموت مستنداً إلى سببه وهو الجرح، وإذا سقط القصاص ينقلب نصيب الباقين مالاً، لأنه امتنع بمعنى راجع إلى القاتل، وليس للعافي شيء من المال، لأنه أسقط حقه بفعله ورضاه.
الشافعية، والمالكية - قالوا: إنه لا حظ للزوجين في القصاص والدية، ولاحق لهما فيهما،(5/240)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وذلك لأن الوراثة فيما يجب بعد الموت خلافة، وهي فيه بالنسب، لا السبب، لانقطاعه بعد الموت. والزوجية تنقطع بالموت ولأن المالكية يقولون: لاحظ للنساء في القصاص، والدية معاً.
والشافعية يقولون: لاحظ للناء في استيفاء القصاص، ولهن حق العفو فقط اه.
إذا اقتص من الجاني فمات
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: لو اقتص المجني عليه من الجاني، بالعطع مثلاً فمات من أثر القصاص، بسبب السراية، من العضو المقطوع، فلا شيء على المجني عليه، لأنه استوفى حقه وهو القطع، ولا يمكن التقيد بوصف السلامة لما فيه من سد باب القصاص، إذ الاحتراس عن السراية ليس في وسعه، فصار كالإمام، والبزاغ، والحجام، والمأمور قطع اليج، ولقوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه}
الحنفية قالوا: إذا اقتص المجني عليه من الجاني، فسرى القطع إلى الجسد، ومات بسببه تجب الدية للورثة على عاقلة المقتص له، لأنه قتل بغير حق، لأن حقه القطع، وهذا وقط قتلاً، ولهذا لو وقع ظلماً لكان قتلا ووجب فيه القصاص، ولأنه جرح أفضى إلى فوات الحياة في مجرى العادة، وهو مسمى القتل، إلا أن القصاص سقط للشبهةن فوجب المال، بخلاف الإمام وغيرهن لأنه ملكف فيها بالفعل إما تقلداً كالإمام، أو عقداً كما في غيره منها. فالقاضي إذا تقلد القضاء يجب عليه أن يحكم، فإذا قطع يد السارق فمات من ذلك فإنه لا شيء عليه، والواجبات لا تتقيد بوصف السلامة كالرمي إلى الحربي، وفيما نحن فيه من الاستيفاء لا وجوب، ولا التزام إذ هو مندوب إلى العفو، فيكون من باب الإطلاق والإباحة، قال تعالى: {وإن تعفوا اقرب للتقوى} ولو رمى صيداً فأصاب إنساناً ضمن، كذا هذا.
مبحث تأخير القصاص للولد الصغير
الحنفية، والمالكية قالوا: من قتل وله أولياء صغار وكبار، فللكبار أن يقتلوا القاتل. ولا ينتظرون حتى يدرك الصغار، لأن القصاص حق لا يتجزأ لثبوته بسبب لا يتجزأ، وهو القرابة يثبت لكل واحد كملاً كالولاية في النكاح. ولثبوت التفرقة بين الصغار، والكبار الغيب من حيث احتمال العفو في الحال وعدمه، فإن العفو من الغائب موهوم حال استيفاء القصاص، لجواز أن يكون الغائب عفا عن حقه في القصاص، والحاضر لا يشعر به، فلو استوفى كان استيفاء مع الشبهة وهو لا يجوز، وأما العفو في الصغير فميئوس منه حال استيفاء القصاص، لأنه ليس من أهل العفو، وإنما يتوهم العفو منه بعد بلوغه سن الرشد، والشبهة في المال لا تعتبر لأن ذلك يؤدي إلى سد باب القصاص، لاحتمال أن يقدم ولي المقتول على قتله، وكذلك إذا كان احد الاولياء مجنوناً يجب على القاضي تعجل القصاص، ولا ينتظر شفاءه من الجنون المطبع، وهو الذي لا يفيق.(5/241)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعية، والحنابلة في أظهر روايتهم والصاحبان من الحنفية قالوا: إذا كان أولياء الدم فيهم صغار وكبار فليس للكبار تعجيل القصاص بل ينتظر ويحبس القاتل ولا يخلى سبيله بكفيل، حتى يدرك الصغار، ويبرأ المجنون منهم، فيكون له الخيار بين القصاص وأخذ الديةن أو العفو عن الجاني، أو الصلح على مال. ذلك لأن القصاص مشترك بينهم، ولا يمكن استيفاء البعض لعدم التجزي، وفي استيفائهم الكل إبطال حق الصغير والمجنون، فيجب أن يؤخر القصاص إلى ادراكه، أو يفيق المجنون، كما إذا كان بين الكبيرينن وكان أحدهما غائباً، أو كان بين الموليين وليتفقوا على مستوف وإلا فقرعة يدخلها العاجز، وهذا الخلاف إذا لم يكن في الورثة اب للقتيل، أما إذا كان فيهم الب فلهم الاستيفاء بالاتفاق، ولا ينتظرون حتى يدرك الصغار، لأن الأب له الولاية على النفس.
ولو سبق أحدهم فقتله فالأظهر لا قصاص، وللباقين قسط الدية في تركته، وقيل: من المستوفى، وإن بادر بعد عفو غيره لزمه القصاص، وقيل: لا.
استيفاء الأب لولده الصغير
الحنفية، والمالكية قالوا: إذا قتل ولي الصغيرن أو المعتةه، فللأب وهو حد المقتول استيفاء القصاص، من القاتل نيابة عن المعتوه، والصغير، لأنه من الولاية على النفس، لأن القصاص شرع للتشفين وللأب شفقة كاملة، فيعد ضرر الولد ضرر نفسه، فجعل ما يحصل له من التشفي كالحاصل للابن، فالأب يلي القصاص كما يلي الإنكاح، سواء كان شريكه أم لا، وللأب أن يصالح لأنه أنظر في حق المعتوه والصغير، وليس له أن ينقص عن قدر الدية، فإن نقص المال المصالح عليه عن عدر الدية يجب كمال الدية، وليس له أن يعفو عن القاتل بغير مال، لأن فيه إبطال حقهن وكذلك إن قطعت يد المعتوه عمداً أو يد الصغير، فللأب أن يستوفي القصاص.
قتل الوالد بولده
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: لا يقتل الرجل بابنه لقول صلى الله عليه وسلم: (لا يقاد الوالد بولده) وهو حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول، فيصلح مخصصاً لعموم الآية الدالة على وجب القصاص في القتلى، وذلك مثل إخراج قتل المولى عبده أو عبد ولده، ولأن عمر قضى بالدية في قاتل ابنه ولم ينكر عليه أحد.
ولأن الأب لإحياء الولد، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه، ولهذا لا يجوز له قتله، وإن وجده في صف الأعداء مقاتلاً، أو زانياً وهو محصن، ويجب على الأب الدية للورثة، ويحرم منها.
المالكية قالوا: لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه ويذبحه، أو يحبسه حتى يموت، مما لا عذر له فيه ولا شبهة فإن حذفه بالسيف، أو بالعصا، أو بالحجر الكبير غير قاصد لقلته، فلا يقتل فيه، والجد(5/242)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
في ذلك عندهم مثل الأب، وحجتهم في ذلك عموم القصاص بين المسلمين، لا فرق بين الأب وغيره وقاسوه على الرجل إذا زنا بابنته وهو محصن، فإنه يرجم بالاتفاق، ولأن الآية في القصاص عممتن فلا تخصص بخبر الآحاد، فإذا ثبت العمد وجب عليه القصاص، ومن ورث قصاصاً على أبيه سقط لحرمة الأبوة اهـ.
مبحث شبه العمد
الحنفية قالوا: القتل على خمسة اوجه، عمد، وشبه عمد، وخطأ وما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب فالعمد، ما تعمد ضربه بسلاح، أو ما أجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب، وليطة القصب، والمروة المحددة، والنار.
وشبه العمد: أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح، ولا ما أجري محرى السلاح، سواء كان الهلاك به غالباً كالحجر والعصا الكبيرين، ومدقة القصار، أو لم يكن كالسوط والعصا الصغير، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن قتيل خطأ العمد، قتيل السوط، والعصا) رواه النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه، ووجه الاستدلال به، أنه عليه الصلاة والسلام جعل قتيل السوط والعصا مطلقاً شبه عمد، فتخصصه بالصغيرة إبطال للإطلاق، وهو غير جائز.
ولأن العصا الكبيرة، والصغيرة تساويا في كونهما غير موضوعتين للقتل، ولا مستعملتين له غالباً، إذ لا يمكن الاستعمال على غرة من المقصود قتله، وبالاستعمال على غرة يحصل القتل غالباص، وإذا تساويا، والقتل بالعصا الصغيرة شبه عمد بالاتفاق فكذا الكبيرة، فقصرت العمدية نظراً إلى الألة، فكان شبه عمد.
الشافعية، والحنابلة، والصاحبان من الحنفية - قالوا: شبه العمد، هو أن يتعمد الضرب بما لا يحصل الهلاك به غالباً، كالعصا الصغيرة، إذا لم يوال في الضربات، أما إذا والى فيها فهو عمد، وقيل: شبه عمد، وسمي هذا النوع شبه عمد، لاقتصار معنى العمد فيه، وإلا لكان عمداً، واقتصاره إنما يتصور في استعمال آلة لا يقتل بها غالباً كالعصا الصغيرة، فإن القصد باستعمالها غير القتل كالتأديب، ونحوه، فتجب الدية لا القصاص، أما إذا استعمل آلة يقتل بها، كالضرب بحجر عظيم، أو حشبة عظيمة، أو مدق القصار أو نحوه، فإنه لا يقصد باستعمال هذه الأشياء إلا القتل كالحديدة، والسيف، فكان قتلاً عمداً موجباً للقود، قالوا: وقد واققنا أو حنيفة بأن القتل بالعمود الحديد موجب للقود.
وموجب شبه العمد على القولين، الإثم لأنه قتل وهو قاصد الضرب، والكفارة لأنه خطأ نظراً إلى أن الآلة تدخل تحت قوله تعالى {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} الآية، ولأنه شبيه بالخطأ، ويجب فيه الدية مغلظة على العاقلة. وهي مائة من الإبلن اربعون منها في بطونها أولادها، وتجب في(5/243)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ثلاث سنين لقضية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقد روي عنه أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ووافقه الصحابة من غير نكير من واحد منهم، فكان كالمروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه مما لا يعرف بالرأي، ويتعلق به حرمان الميراث لأنه جزاء القتل، والشبهة تؤثر في إسقاط القصاص، دون حرمان الميراث، فقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد، قتيل السوط، أو العصا، فيه مائة من الإبل منها اربعون في بطونها أولادها) رواه الخمسة.
وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد، ولايقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون جماء في غير ضغينة، ولا حمل سلاح) .
المالكية قالوا: إن الضرب بالعصا، والحجر الصغيرين عمد، فإنهم قالوا: إننا لانعرف ماهو قتل شبه العمد، وإنما القتل عندهم نوعان فقط، عمد وخطأ، ما وقع بسبب من السباب أو من غير مكلف. أو غير قاصد للمقتول، أو القتل بما مثله لا يقتل في العادة به، كالسوط. وهذا لا قود فيه، وإنما تجب فيه الدية، وقتل العمد ما سواه: إذ لا واسطة بين العمد، والخطأ في سائر الأفعال، فكذا في هذا الفعل، وشبه الخطأ أن يتعمد القتل، ويخطىء القصد، أو يضربه بسوط لا يقتل مثله غالباً، أو يلكزه بيده، أو يلطمه لطماً بليغاً، فيجب القصاص في كل ذلك، فإن تعمد الجاني الضرب بقضيب أو سوط لا يقتل به غالباً أو مثقل، كحجر، أو خنق، ومنع من طعام حتى ماب، أو منع من شرب محتى مات فالقود أن قصد بذلك موته، فإن قصد مجرد التعذيب فالدية.
الشافعية قالوا: الفعل المزحق ثلاثة: عمد وخطأ، وشبه عمد، ولا قصاص إلا في العمد، وهو قصد مالفعل والشخص بما يقتل غالباً، جارح، أو مثقل.
فالأول وهو الواجب: قتل المرتد إذا لم يتب، والحربي إذا لم يسلم، أو يعط الدية.
والثاني وهو الحرام: قتل المعصوم بغير حق.
والثالث وهو المكروه: قتل الغازي قريبه الكافر إذا لم يسب الله، أو رسول صلى الله عليه وسلم.
والرابع وهو المندوب: قتل الغازي قريبه الكافر إذا حدث منه سب لله، أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
والخامس وهو المباح: قتل الإمام الأسير، وهو مخير فيه.
وأما قتل الخطأ، فلا يوصف بحرام ولا حلال، لأنه غير مكلف فيما أخطأ فهو كفعل المجنون والبهيمة، فإن فقد قصد أحدهما بأن وقع عليه فمات، أو رمى شجرة فأصابه فخطأ، وإن قصدهما بما لا يقتل غالباً فشبه عمد، ومنه الضرب بسوط، أو عصا، فلو غرز إبرة بمقتل فعمد، ولو غرز فيما لا يؤلم كجلدة عقب، فلا شيء بحال، ولو حبسه ومنعه الطعان والشراب والطلب حتى مات، فإن(5/244)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مضت مدة يموت مثله فيها غالباً جوعاً، أو عطشاً فعمد، وإلا فإن لم يكن به جوع، وعطش سابق فشبه عمد، وإن كان به بعض جوع أو عطش، وعلم الحابس الحال، وكانت مدة حبسه بحيث لو أضيفت لمدة جوعه، أو عطشه السابق بلغت المدة القاتلة فعمد، لظهور الإهلاك من الرجل الحابس، وأما إذا لم يبلغ مجموع المدنين ذلك فهو كما لو لم يكن به شيء سابق، وإن لم يعلم الحال فهو شبه العمد.
مبحث القال بمثقل، والإغراق، أو الإحراق بالنار
المالكية قالوا: إن حبس شخص آخر ومنعه الطعام، أو الشراب حتى مات بسبب ذلك أو خنقه بيده، فيجب عليه القود في كل ذلك إن قصد بذلك موتهن أو علم أنه يموت من ذلك.
ومن سقى غيره سماً في طعام، أو شراب فمات فعليه القود، فقد وري عنهم أن منع فضل مائه، مسافراص، عالماً بأنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم سقه قتل به، وإن لم يل قتله بيده، ومن ضرب غيره بمثقل كحجر، إن نفذ الضارب مقتله، أو لم ينفذه، ممات مغموراً مما ذكر، بأن ضربه فرفع مغموراً من الضربن أو الجرح حتى مات فيقتص منه بلا قسامة، كما لو رفع ميتاً مما ذكر، فإن لم ينقذ له مقتل، وأفاق بعد الضرب أو الجرح، ثم مات لمقتص إلا بالقسامة، وكذلك من طرح معصوماً غمر محسن للعوم في نهرن لعداوة، أو غيرها، أو طرح من يحسن العوم عداوة، فغرق في الحالين يجب القصاص وإلا لم يكن لعداوة، والدية في اللعب.
ومن تسبب في الإتلاف كحفر بئر، بأن حفرها ببينة فوقع فيها المقصود، أو وضع شيئاً مزلقاً، أو اتخذ كلباً عقوراً لمعين، وهلك المقصود بالبئر وما بعده فيجب القود من المتسبب، وإن هلك غير المقصود، أو قصد مطلق الضرر فهلك بها إنسان فتجب الدية في الحر المعصوم، والقيمة في غيره، وإن لم يقصد ضرراً بالحفر وما بعده، فلا شيء عليه، ويكون هدراً، وتقديم مسموم لمعصوم عالماً بأنه مسموم فتناوله غير عالم فمات يجب القصاص، فإن تناوله عالماً بسمه، فهو القاتل لنفسهن وإن لم يعلم المقدم فهو من الخطأ، ومن رمى على غيره حية، وهي حية فمات، وإن لم تلدغه فمات من الخوف فعليه القود، وإن كانت ميتة فتجب الدية، وكذا إن كان شأنها عدم اللدغ لصغرها، فإن كان على وجه اللعب فالديةن وإن كان على وجه العداوة فالقود.
ومن أشار على غيره بسلاح كسيف، ومدفع، وبندقة، وخنجر، فهرب المشار إليه خوفاً منه، وطلبه المشير في هروبه، لعداوة بينهما، فمات بلا سقوط، فيجب القود بلا قسامة، وإن لم يضربه بالقتل، وإن سقط حال هروبه فبقسامة، لا حتمال موته من سقوطه، واشارته فقط بلا عداوة ولا هرب يكون خطأ، فتجب الدية مخمسة على العاقلة، وكذا إن هرب ولا عداوة ومات فدية خطأ.
الشافعية، والحنابلة قالوا: يجب القصاص بالسبب، فلو شهدا بقصاص فقتل ثم رجعا وقالا:(5/245)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تعمدنا الكذب فيها، وعلمنا أنه يقتل، أو يقطع بشهادتنا لزمهما حينئذ القصاص، لآنهما تسبببا في إهلاكه، بما قتل غالباً، فأشبه ذلك الإكراه الحسي، إلا أن يعترف الولي بعلمه بكذبهما، فلا قصاص عليهما.
لأنهما لم يلجأ إلى قتله حساً ولا شرعاً، فصار قولهم شرطاً محصناً، فيجب على الولي القصاص، أما لو قال الولي عرفت كذبهما بعد القتل، فلا يسقط القصاص عنهما.
ولو ضيف بمسموم يقتل غالباً، أو ناوله صبياً غير مميز، أو مجنوناً فأكله فمات منه، وجب القصاص عليه أو ضيف به بالغاً عاقلاً، ولم يعلم الضيف بالسم حال الطعام، فدية ولا قصاص، لأنه تناوله باختياره من غير إلجاء، وقيل: يجب القصاص. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم امر بقتل المرأة اليهودية التي سمت له الشاة بخيبر، فمات منها بشر بن وائل بن معرور، أما إذا علم الضيف حال الطعام، فلا شيء على المضيف قطعاً لأنه المهلك نفسه، ولا يجب على المجني عليه معالجة الجناية بما يدفعها، فلو ترك المجروح علاج جرح مهلك له، فمات منه وجب القصاص، جزمماً على الجارح، لأن البرء غير موثوق به لو عولج، والجراحة في نفسها مهلكة، ولو ألقاه في ماء لا يعد مغرقاً كمنبسط فمكث فيه مضطجعاً حتى هلك فهدر أو ماء مغرق لا يخلص منه إلا بسباحة، فإن لم يحسنها، أو كان مكتوفاً، أو زمناً تعمد، وإن أمكنه التخلص بسباحة مثلاً، ولكن منع منها عارض، كريح، وموج، فهلك بسبب ذلك، فشبه عمد تجب دينه، وإن أمكنه التخلص بسباحة مثلاً، ولكن منع منها عارض، كريح، وموج، فهلك بسبب ذلك، فشبه عمد تجب دينه، وإن أمكنه التخلص من الغرق فتركها، فلا دية في الأظهر.
وإن ألقاه في نار يمكن معها الخلاص منها فمكث فيها حتى مات ففي الدية قولان، وقيل: تجب الدية في الإلقاء في النار، بخلاف الماء، لأن النار تحرق بأول ملاقاتها، وتؤثر قروحاً قاتلة، بخلاف الماء، ولو حفر بئراً فرداه فيها آخر، والتردية تقتل غالباً، أو ألقاه من شاهق، فتلقاه آخر فقده، فالقصاص على القاتل في الأول، والمردي في الثاني، والقاد في الثالث، ولو ألقاه في ماء مغرف لا يمكنه الخلاص منه كلجة البحر، فالتقمه حوت وجب القصاص في الأظهر، لأنه هلك بسببه، ولا نظر إلى جهة الهلاك، كما لو ألقاه في بئر مهلكة في أسفلها سكين لم يعلم بها الملقي فهلك بها.
قالوا: ومحل الخلاف ما لم يرفع الحوت رأسه ويلقمه، وإلا وجب القصاص قطعاً، ومحله أيضاً إذا كان لا يعلم بالحوت الذي في اللجة، فإن علم به وجب القود قطعاً. كما لو ألقاه على أسد في ريببته، أو أما قطار سريق.
أما إذا ألقاه في ماء غير مغرق، فالتقمه حوت وهو لا يعلم به الملقي فلا قصاً قطعاً، لأنه لم يقصد إهلالكه، ولم يشعر بسبب الإهلاك كما لو دفعه دفعاً خفيفاً، فوقع على سكين فمات ولم يعلم بها الدافع، فتجب في الحالتين دية شبه العمد، وإن شهر المجنون سلاحاً على غيره فقتله ذلك الغير فلا ضمان عليه لانع قتله دفاعاً عن نفسه، وكذلك لو شهر الصبي سلاحاً على غيره فقتله فلا ضمان، لأنه يصير محمولاً على قتله بفعله فأشبه المكره، وكذلك فعل الدابة لو هجمت على لإنسان فقتلها فلا ضمان لأنه دفاع عن النفس.(5/246)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية قالوا: من شهر على رجل سلاحاً ليلاً أو نهاراً، أو شهر عليه عصاً في المصر ليلاً، أو شهر عليه عصاً نهاراً في طريق غير المصر فتله المشهور عليه عمداً، وكان الشاهر عاقلاً مكلفاً، فلا شيء عليهن لقوله عليه الصلاة والسلام (من شهر على المسلمين سيفاً فقد أطل دمه) ولأنه يعد في نظر الشرع باغ، فتسقط عصمته ببغيه، ولأنه تعين طريقاً لدفع القتل عن نفسهن فجاز له قتله، لدفع الشر عن نفسه، وجعف الشر مباح أو واجب، ولأن السراح لا يلبث فيحتاج إلى دفعه بالقتل، والعصا الصغيرة، وإن كانت تلبث، وكن في الليل لا يلحقه الغوث، فيضطر إلى جفعه بالقتل، وكذلك في النهار في غير المصرن في طريق لا يلحقه الغوث، وفي الصحراء فإذا قتله كان دمه هدراً، ولا ضمان على قاتله.
وإن شهر المجنون على غيره سلاحاً فقتله المشهور عليه عمداً، فعليه الدية في مالهن لأنه قتل شخصاً معصوماً، أو أتلف مالاً معصوماً حقاً للمالك، وفعل الدابة لا يصلح مسقطاً وكذا فعلهما، وإن كانت عصمتهما حقهما لعدم اختيار صحيح، ولهذا لا يجب القصاص لتحقق الفعل منهما بخلاف البالغ العاقل، لأن له أختياراً صحيحاً، وإنما لا يجب القصاص مع القتل العمد بسلاح، لوجود المبيحن وهو دفع الشر عن نفسه، فتجب الجية حتى لا يهدر دم المسلم المعصوم.
ومن شهر على غيره سلاحاً في المصر، فضربه ثم قتله الآخر، فعلى القاتل القصاص لأنه ضربه فانصرف عنه، لأنه خرج من أن يكون محارباً بالانصراف، فعادت عصمته إليه، ومن دخل عليه غيره ليلاً، واخرج السرقة، فاتبعه صاحب الدار، وقتله ليخلص المتاع فلا شيء عليه، ودمه هدر، لقول صلى الله عليه وسلم: (قاتل دون مالك) ولأنه يباح له القتل دفاعاً للابتداء، فكذا استرداداً في الانتهاء، وذلك إذا كان لا يتمكن من استرداد ماله، إلا بالقتل.
ومن حفر بئراً في طريق المسلمين، أو وضع حجراً فتلف بذلك إنسان، فديته على عاقلته، وإن تلف به بهيمة، فضمانه في مالهن لأنه متعد فيه فيضمن ما يتولد منه، غير أن العاقلة تتحمل النفس دون المال، فكان ضمان البهيمة في ماله خاصة، وإلقاء التراب، واتخاذ الطين في الطريق بمنزلة إلقاء الحجر، والخشبة.
وإذا كنس الطريق أو رشها، فعطب احد بموضع كنسه أو رشه لا ضمان عليه، لأنه ليس بمتعد فإنه ما أحدث شيئاً فيه، وإنما قصد رفع الأذى عن الطريقن حتى لو جمع الكناسة في الطريق، وتعلق بها إنسان فإنه يضمن دينه، لتعديه بشغله الطريق بالكناسة.
ولو وضع حجراً، فنحاه غيره عن موضعه، فعطب به إنسان، فالضمان على لاذي نحاه، لأن حكم فعله قد انتسخ، والبالوعة يحفرها الرجل في الطريق، فإن امره السلطان بذلك، أو آخرجه عليه لم يضمن ما تلف به، لأنه غير متعد حيث فعل ذلك بأمر من له الولاية في حقوق العامة. وإن كان حفر(5/247)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
البالوعة، أو رفع غطاءها بغير امره فهو متعد، فيضم ما تلف به، إما بالتصرف في حق غيره، أو بالافتيات على رأي الإمام، أو هو مباح مقيد بشرط السلامة، وكذا كل ما فعل في طريق العامة، وإذا فر البئر في ملكه فلا يضمن لأنه غير متعد، وكذا إذا حفرها في فناء جارهن لأن له ذلك لمصلحة داره والفناء في تصرفه، ولو حفرها في الطريق ومات الواقع فيها جوعاً، أو غماً، لا ضمان على الحافر، لأنه مات لمعنى في نفسه، فلا يضاف إلى الحفر، والضمان إنما يجب إذا مات من الوقوع.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إن مات جوعاً فكذلك، وإن ماتغماً فاحافر ضامن له، لأنه لا سبب للغم سوى الوقوع، أما الجوع فلا يختص بالبئر.
وقال محمد: هو ضامن في الوجوه كلها، لأنه إنما حدث بسبب الوقوع إذ لولاه لكان الطعام قريباً منه، وإن استأجر أجراء فحفروها له في غير ملكه، فذلك على المستأجر فقط وإن علموا ذلك، فالضمان على الاجراء، لأنه لا يصح امره بما ليس بمملوك له، ولا غرس.
قالوا: ومن غرق صبياً، أو بالغاً في البحر فلا قصاص عليه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إلا أن قتيل خطأ العمد قتيل السوط، والعصا) وفيه، وفي كل خطأ أرش، ولأن الآلة غير مستعملة في القتل، ولا معدة له لتعذر استعماله، فتمكنت شبهة عدم العمدية، ولأن القصاص ينبىء عن المماثلة، ومنه يقال: اقتص أثره.
أما إذا بالنار حتى مات، فيجب فيه القصاص بالسيف، وكذلك الضرب بحديدة مدببة، أو خشبة محددة: أو حجر محدد، فإنه يجب فيه القصاص بالسيف، لأنه عمد.
قالوا: من شج نفسه، وشجه رجل، وعقره أسد، وأصابته حية، فمات من ذلك كله، فإنه يجب على الجنبي ثاث الدية، لأن فعل الأسد والحية جنس واحد لكونه هدر في الدنيا والآخرة، وفعله بنفسه هدر في الدنيا، معتر في الآخرة حتى يأثم عليه، فعند أبي حنيفة ومحمد يغسل ويصلى عليه، وعند أبي يوسف يغسل، ولا يصلى عليه، لأنه تعدى على نفسه بشجها، وفعل الأجنبي معتبر في الدنيا والآخرة، فصارت ثلاثة أجناس، فكأن النفس تلفت بثلاثة أفعال، فيكون الثالث بفعل كل واحد ثلثه، فيجب عليه ثلث الدية.
مبحث من مات متاثرا بجراحه
اتفق الأئمة: على أن من جرح رجلاً عمداً، فلم يزل صاحب الجرح ملازماً لفراشه حتى مات من أثر الجراح، فإنه يجب عليه القصاص، لوجود السبب، وهو سفك دم محقون على التأبيد عمداً، وعدم وجود ما يبطل حكمه من عفو، أو شبهة تدرأه، فأضيف إليه.
واتفقوا: على أنه إذا تكافأت الدماء، أن ينفذ القصاص في القتل العمد، فيقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، والرجل بالرجل، والذمي بالذمي، والمستأمن بالمستأمن.(5/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى} فقد جاءت الآية الكريمة مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قبل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال بينه قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} .
وبينه النبي صلى الله عليه وسلم حين قتل الرجل اليهودي بالمراة، في المدينة، وحين أمر بقتل المرأة اليهودية التي وضعت السم في الطعام في غزوة خيبر فمات بسببه صحابي من أصحابه رضوان الله عليهم.
مبحث قتل المؤمن بالكافر
المالكية قالوا: يقتل الأدنى صفة بالأعلى، كذمي قتل مسلماً، أو كحر كتابي يقتل بعبد مسلم، لأن الإسلام أعلى من الحرية.
ولا يقتل الأعلى بالأدنى، كمسلم بكافر، وكمسلم رقيق، بحر كتابي، ويقتل الذكر بالأنثى، حيث لم يكن القاتل زائداً حرية، أو إسلاماً، ويقتل الصحيح بالمرض، ولو كان مشرفاً على الهلاك أو محتضراً للموت. وقتل كامل الأعضاء والحواس بالناقص عضواص، كيد ورجل، أو الناقص حاسة كسمع وبصر، واحتجوا على مذهبهم بما روي من حديث الإمام على كرم الله وجهه، أنه سأله قيس بن عبادة والأشقر، هل عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً لم يعهده إلى الناس؟ قال: لا. إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتاباً من قراب سيفه، فإذا فيه (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، لو أحدث حدثاً، أو آوى محدثاث فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين) خرجه أبو دادو.
وما روي أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل مؤمن بكافر) . وما روي عن أبي جحيفة أنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه: (هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ قال: لا. والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يعطيه الله تعالى رجلاً في القرآن الكريم، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك ألأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري رحمه الله وأخرجه أبو داود، والنسائي. رحمهما الله تعالى.
واحتجوا أيضاً على مذهبهم، بإجماع العلماء على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن أي اخذ الامان.
قالوا: فلا يقتل المؤمن بالذمي إلا أن يضجعه فيذبحه، أو يقتله غيلة ويأخذ ماله، فلا يشترط فيه الشوط المتقدمة، بل يقتل ولا صلح ولا عفو.
الشافعية والحنابلة قالوا: يشترط عندهم في القاتل مكافأته، ومساواته للقتيل في الصفة بأن لم يفضله بإسلام أو أمان، أو حرية، أو أصلية، أو سيادة، ويعتبر حال الجناية، حينئذ، فلا يقتل مسلم،(5/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولو كان زانياً محصناً، أو تاركاً للصلا' متعمداً، بذمي، ولا كتابي، لخبر البخاري رحمه الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقتل مسلم بذمي) .
قال ابن المنذر: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارضه. ولأنه لا يقاد المسلم بالكافر فيما دون النفس بالإجماع، كما قال ابن عبد البر، فالنفس بذلك أولى، والحديث المذكور يقتضي عموم الكافر، فلا يجوز تخصص بإضمار (الحربي) ولأنه لو كان لامعنى كما قال الأحناف، لخلا عن الفائدة، لأنه يصير التقديرن لا يقتل المسلم إذا قتل كافراً حربياص، ومعلوم أن قتله عبادة، فكيف يعقل أنه يقتل به؟.
ويقتل ذمي بالمسلم لشرفه، وبالذمي وإن اختلفت ملتهما، كاليهوجي، بالمسيحي، فلو اسلم الذميي القاتل كافراً مكافئاً له، لم سقط القصاص. لتكافئهما حال الجناية. لأن الاعتبار بالعقوبات حال الجناية، ولا نظر لما يحدث بعدها.
قالوا: ويقتل رجل بامرأة وخنثى، كعكسه، وعالم بجاهل، وشريف بخسيس، وشيخ بشاب كعكسهما، لأنه صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن (إن الذكر يقتل بالأنثى) رواه النسائي وقوله صلوات الله وسلامه عليه (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) خرجه أبو داود.
ولو جرح ذمي، ذمياً، وأسلم الجارح، ثم مات المجروح بالسراية، فلا يسقط القصاص بالنفس للتطافؤ حالة الجرح المفضي إلى الهلاك، وذا أسلم المقتول عند إشرافه على القتل، أو بعد جرحه لا يقتص له وارثه الكافر، بل إنما يقتص له الحاكم بعد طلب الوارث، وإذا لم يطلب، فليس للإمان أن يقتص.
ولا يقتل حر بمن فيه رق، ويقتل قن، وعبد، ومكاتب، وأم ولد بعضهم ببعض.
لو قتل عبد عبداً، ثم عتق القاتل، أو عتق بعد الجرح، فكحدوث الإسلام، وهو عدم سقوط القصاص في القتل جزماص، ولا قصاص بين عبد مسلم، وحر وذمي لعلو الإسلام وشرفه.
الحنفية قالوا: يقتل المسلم بالذمي، لأن الله تعالى قال: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالانثى} فهو تخصيص بالذكر، وهو لا ينافي ما عده، كما في قوله، (والأنثى بالأنثى) فإنه لا ينافي الذكر بالأنثى، ولا العكس بافجماع، وفائدة التخصيص الرد على من اراد قتل غير القاتل بالمقتول، وذلك أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ري أن قبيلتين من العرب تدعي إحداهما فضلاً عن الأخرى، اقتتلتا فقالت: مدعية الفضل لا نرضى إلا بقتل الذكر منهم بالأنثى منا، والحر منهم بقتل العبد منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة، رداً عليهم فجاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حراً، وحكم العبد إذا قتل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال بينة قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس(5/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بالنفس} وقتل المسلم بالذمي نفس بنفس، وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد.
قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاصن وهي حرمة الدم الثابتة على التأييد والمسلم كذل:، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يقق ذلك: أن المسلم تقطع يده بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواتع لدمه، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه، وأجمع العلماء على أن العور والأشل إذا قتل رجلاً سالم الأعضاء، أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية، من أجل أنه قتل إذا عينين وهو أعور، وقت ل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل لى أن النفس مكافئة للنفس، ويكافىء الطفل فيها الكبير.
واحتجوا بما روى محمد بن الحسن عن إبراهيم رحمهما الله تعالى (أن رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (انا أحق من وفى بذمته، ثم أمر به فقتل) .
ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي ثابتة، نظراً إلى التكليف أو الدرا، ولأن المبيح للدم إنما هو كفر المحارب، قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} آية 29 من التوبة.
ولأن قتل الذمي بالذمي، دليل على أن كفر الذمي لا يورث الشبهة، إذ لو أورثها لما جرى القصاص بينهما، كما لا يجري بين الحربيين، ولأن الأسلام أعلى من حرية الذمي والأعلى لا يقتل بالأدنى، ولا يقتل المسلم بالمستأمن، لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذلك كفره باعث على الحرب لأنه على قصد الرجوع إلى داره، فصار كالحربي، ولا يقتل الذمي بالمستأمن، ويقتل المستأمن بالمستأمن، ويقتل الرجل بالمرأة، والكبير بالصغير، والصحيح بالعمى والزمن، وبناقص الطراف وبالمجنون، للآيات الدالة بعمومها على وجوب القصاص، ولأن في اعتبار التفاوت فيما وراء العصمة، امتنعاع القصاص، وظهر التقاتل، والتفاني بين أفراد المجتمع.
مبحث قتل الحر بالعبد
الحنفية قالوا: يقتل الحر بالحر، والحر بالعبدن لعموم الآيات الواردة في القصاص، ولآن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي بالدين، أو بالدار، والعبد والحر يستويان فيهما، فيجري القصاص بينهما، وحقيقة الكفر لا تمنع ممن جريان القصاص، لأنه لو صلح لما جرى بين العبدين، كما لا يجري بين المستأمنين وليس كذلك، ونص الآية فيه تخصيص بالذكر، وهو لا ينفي ما عداه، كما في قوله تعالى {والأنثى بالأنثى} فإنه لا ينفي أن يقتل الأنثى بالذكر، ولا العكس بالإجماع، وفائدة التخصيص الرد على من اراد قتل غير القاتل، أو الاسراف في القصاص، كأن يقتل العشرة بالواحد.(5/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل القاتل، وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا، واخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن الإمام علي، والحسن.
واحتجوا على مذهبهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) .
وما روي عن سمرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعنا) رواه أحمد والاربعة، وحسنه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري. فالحديث دليل على أن الحر يقاد بالعبد في النفس والكراف، والجدع قطع الأنف، واو الأذن، أو اليد، أو الشفة في القاموس.
ومن طريق المعنى قالوا: ولما كان قتل العبد محرماً كقتل الحر، وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر، وقال النخعي وجماعة: يقتل الحر بالعبد سواء كان عبد القاتل، أو عبد غير القاتل، واحتجوا، على هذا بعموم قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} وهو ضعيف.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: لا يقتل حر بعبد، ولأن مبنى القصاص على المساواة، وهي منتفية بين المالك، والمملوك، ولهذا لا يقطع طرف الحر بطرف العبد، بخلاف العبد بالعبد، لأنهما يستويان، وبخلاف العبد حيث يقتل بالحر لأنه تفاوت إلى نقصان، وهم يقتلون الادنى بالأعلى، دون العكس.
قال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد، والحرار، فيما دون النفوس، كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض.
وأيضاً: فالإجماع فيمن قتل عبداً خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ، لم شبهه في العمد.
وأيضاً: فإن العبد سلعة من السلع، يباع ويشترى، ويتصرف في الحر كما يشاء، فلا مساواة بينه، وبين الحر، ولا مقاومة.
واحتجوا بما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالىعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لايقتل مسلم بكافر) .
مبحث قتل الرجل بالمرأة
اتفقت كلمة فقهاء المسلمين على أنه يجوزقتل الرجل بالمرأة، والكبير بالصغير، والصحيح بالمريض لعموم الآيات الواردة في وجوب القصاص، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه امر بقتل الرجل اليهودي الذي اعترف بقتل المرأة المسلمة في المدينة، وبما روي عن على كرم الله وجهه، وعبد الله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمداً، فهو بهاقود، كما تقتل المرأة(5/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بالرجل ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف (المسلمون تتكافأ دماؤهم، فالمرأة تكافىء الرجل، وتدخل تحت الحديث، ولات اعتبار التفاوت فميا وراء عصمة الدم، يجعل القصاص ممتنعاً، ويظهر الفتنة، والتفاني بين العباد، وهذا نشر للفساد فلا يصح، وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم (أن الرجل يقتل بالمرأة) .
القصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: يجوز القصاص بين الرجال، والنساء فيما دون النفس، فقد اعتبروا الأطراف اخرى، واولى، ولقوله تعالى {والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن} روى على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، وبقطع الأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه احرار المسلمين فيما بينهما، رجالهم، ونساؤهم، إذا كان عمداً في النفس، وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم، ونساؤهم، إذا كان عمداً في النفس، وما دون النفس رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
الحنابلة في باقي قولهم: أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى اوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرجل.
الحنفية قالوا: لا قصاص بين الرجل والمرأة، فيما دون النفس، ولا بين الحر والعبد، ولا بين العبيد، لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال، فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة، والتفاوت معلوم قطعاً بتقويم الشرع، فإن الشرع قوم اليد الواحدة للحر بخمسمائة دينار قطعاً ويقيناً، ولا بتلغ يد العبد إلى ذلك، فإن بلغت كانت بالحرز والطن، فلا تكون مساوية ليد الحر يقيناً، فإذا كان التفاوت معلوماً قطعاً أمكن لنا اعتباره بخلاف التفاوت في البطش، لأنه لا ضابط له فاعتبر أصله.
وقد سلكنا بالأطراف مسلك الأموال، لانها خلقت وقاية للأنفس كالمال، فاواجب أن يعتر التفاوت المالي مانعاً مطلقاً.
والآية الكريمة، وإن كانت عامة في جميع الأطراف من غير تفاوت، لكن قد خص منها الحربي والمستأمن والنص العام إذا خص منه شيء يجوز تخصيصه بخبر الواحد، فخصصوه بما روي عن عمران بن حصين أنه قال: قطع عبد، لقوم فقراء، أذن عبيد لقوم أغنياء، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقض بالقصاص) .
وقيل: إن الآية المذكورة آية القصاص، {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى(5/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحر بالحر، والعبد بالعبد} والقصاص ينبىء عن المماثلة، فالمراد بما في الآية المذكورة، ما يمكن فيه المماثلة، لا غير اهـ.
مبحث قتل المكره
الشافعية قالوا: لو أكره إنسان شخصاً آخر على قتل شخص بغير حق فقتله، فيجب القصاص على المكره بالكسر لأنه أهلكه بما يقصد به الإهلاك غالباً، فأشبه بما لو رماه بسهم فقتله، وكذا يجب القصاص على المكره بفتح الراء في الأظهر لأنه قتله عمداً، عدواناً وظلماً، لا ستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله المضطر ليأكله، بل أولى، لأن المضطر علىم يقين من التلف، إن لم يأكل، بخلاف المكره بالفتح.
وقيل: القصاص على المكره بالكسر، أما المكره بالفتح فلا قصاص عليه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) ولأنه كالآلة في يد المكره، فصار كما لو ضربه به، أو مثل الذي يسقط من علو، أو الذي تحمله الريح من موضع إلى موضع فقتل غيره.
وقيل: لا قصاص على المكره بالكسر، بل القصاص واجب على المكره بالفتح لأنه مباشر للقتل، والمباشرة مققدمة، على غيرها، ولأنه يشبه من جهة المختار في فعله، ومن جهة المضطر المغلوب، وغلإكراه لا يتم إلا بالتخويف بالقتل، أو بإتلاف ما يخاف عليه التلف من الأعضاء، كالقطع والضرب الشديد، وقيل: يحصل الإكراه بما يحصل به الإكراه على الطلاق من أنواع التهديدات.
ولو قال له: اقتل هذا وإلا قتلت ولدك. وكان في مقدوره أن يقتل ولده، فليس بإكراه، وقال الروياني: الصحيح عندي أنه إكراه، لأن ولده كنفسه في الغالب، فما أصابه من الضرر، كأنما أصاب نفسه، بل بعض النفوس عندها، الولد أغلى من النفس، وهذا هو الظاهر.
وقال الشافعية: لا يجوز للمكره بالفتح الإقدام على القتل المحرم لذاته، وإن لم يوجب عليه القصاص، بل عليه الإثم يوم القيامة، إذا قتل نفساً محرمة، كما لا يباح له الزنا بالإكراه، ولكن يباح له شرب الخمر، والقذف، والإفطار في رمضان، على القول بإبطال الصوم، ويباح له الخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير، وضمن المال هو والمكره.
وإذا أكره إنسان على الإتيان بما هو كفر قولاً، أو فعلاً كالسجود لصنم، مع طمأنينة القلب بالإيمان وكراهية الكفر، فقيل: الفضل له الثبات على الإيمان، ولا يلفظ الكفر، والعياذ بالله.
وقيل: يجوز أن يلفظ به صيانة لنفسه أن تزهق، وقيل: إن كان من العلماء المقتدى بهم فالأفضل الثبات على الإيمان، مهما كان التخويف والوعيد، فإن قتل مات شهيداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون دينه قهو شهيد) وحتى يكون قدوة لغيره من الناس، كما ثبت أصحاب الأخدود، فإن كان المكره بالفتح لم يظن أن الإكراه يبيح له الإقدام على القتل، وجب عليه القصاص، أما إذا كان(5/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يعقد ذلك فلا قود عليه. وكذلك لا قصاص عليه، إذا كان ممن يخفى عليه تحريم الإقدام نعلى القتل بالإكراه، لأن القصاص يسقط بالشبهة، فإن وجبت الدية في حالة العفو عن القصاص وزعت عليهما بالسوية كالشريكين ويجوز للولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ نصف الدية من الآخر، هذا إذا كافأه، فإن ساوى المقتول أحدهما فقط، كأن كان المقتول ذمياً، أو عبداً، واحدهما كذلك، والآخر مسلم، أو حر، فالقصاص على المكافىء دون الآخر، بل يجبعليه نصف الدية، أو نصف القيمة لأولياء الدم، لأنهما مشتركان في الفعل، وشريك غير المطافىء يقتص منه، كشريك الأب، ولو أكره بالغ، عاقل، مراهقاً، أو عكسه، على قتل شخص فقتله، فعلى البالغ القصاص، لوجود مقتضيه، وهو القتل المحض والعدوان على الغير، هذا إن قلنا: عمد الصبي عمد، وهو الأظهر في المذهب، فإن قلنا خطأ فلا قصاص، لأنه شريك المخطىء ولا قصاص على الصبي بحال، لعدم تكليفه، حتى ولو كبر.
ولو أكره بالفتح مكلفاً، على رمي شبح علم المكره بالكسر، أنه رجل، وظنه المكره بالفتح صيداً أو حجراً فرماه فقتله، فالأصح وجوب القصاص على المكره بالكسر ت لأنه قتله قاصداً للقتل بما يقتل غالباً.
ولو أكرهه على رمي صيد فأصاب رجلاً، أو غيره فمات، فلا قصاص على اج منهما، ويجب على عاقلة كل منهما نصف الدية، ولو أكرهه على صعود شجرة، أو على نزول بئر، فزلق فمات، فشبه عمدن لأنه لا يقصد به القتل غالباً، وتجب الدية كاملة على عاقلة، المكره بالكسر وقال الغزالي هو عمد، وقيل: وهو خطأ محض، ولو أكره على قتل نفسه، بأن قال له: اقتل نفسك، أو اشرب هذا السم، وإلا قتلتك، فقتلها، فلا قصاص عليه، في الأظهر، لأن هذا ليس بإكراه حقيقة، لاتحاد المأمور به، والمخوف به، فصار كأنه مختار له.
وقيل: يجب القصاص، كما إذا أكرهه على قتل غيره. ويستثنى ما إذا كان المكره بالفتح غير مميز لصغر، أو جنون، فإنه في هذه الحال يجب القصاص على المكره جزماً ولو قال رجل لآخر: اقتلني وإلا قتلتك، فقتله ذلك الشخص، فالمذهب لا قصاص عليه لأن الإذن شبهة دارئة للحد.
وقيل: يجب عليه القصاص، لأن القتل لا يباح بالإذن، فأشبه ما لو أذن له في الزنا، بأمته، والأظهر عدم القصاص، ولو أمر السلطان شخصاً بقتل آخر، ظلماً بغير حق، والمأمور لا يعلم ظن السلطان، ولا خطأه، وجب القود أو الدية، والكفارة على السلطان فقط، ولا شيء على المأمور لأنه آلته، ولابد منه في السياسة، ولأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بحق، ولأن طاعته واجبة، فيما لا يعلم أنه معصية، وإن علم بظنه، أو خطئه وجب القود على المأمور إن لم يخف قهره بالبطش بما يحصل به الإكراه، لأنه لا يجوز طاعته حينئذككما جاء في الحديث الشريف، (طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فصار كما لو قتله بغير إذنه، فلا شيء على السلطان إلا الإثم فيما إذا كان ظالماً، نعم: إن اعتقد وجوب طاعته في المصيبة، فالضمان على الإمام لا عليه.
فإن خاف قهره، وبطشه، فالضمان بالقصاص، وغيره عليهما، وصار كالمكره ولو أمر شخص(5/255)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
عبده أو عبد غيره المميز بقتل أو إتلاف ظلماً فقتل أثم الآمر، واقتص من العبد البالغ، وتعلق الضمان برقبته، ولو كان للصبي أو المجنون تمييز وهو لا يعقتد وجوب طاعنه في كل أمره، فالضمان عليهما دون الأمر، وما أتلفه غير المميز بلا أمر، خطأ يتعلق بذمته إن كان حراً، وبرقبته.
المالكية، والحنابلة قالوا: إذا أكره رجل آخر فقتله فيجب القصاص على المكره بالكسر لتسببه ويجب القصاص على المكره بالفتح لمباشرته الفعل بنفسه، لأن المأمور لم يعذر بالإكراه، ولا يعذر الآمر لعدو المباشرة، فيجب القصاص عليهما معاً، واحتجوا في قتل المكره على القتل بالقتل، بإجماع الأئمة على أنه من أشرف على الهلاك من مخمصة، لا يجوز له أن يقتل إنساناً ليأكله، وينقذ نفسه من الهلاك، بل يجب عليه الصبر حتى يموت، ولو فعل كان آثماً.
فإنه يجب قتل المسبب مع المباشر، فيقتل السيد الذي يأمر عبده بقتل حر ففعل، ويقتل معه العبد إن كان كبيراً، وكذلك يقتل الأب إذا آمر ولده الصغير بقتل إنسان ففعل، فإن كان الولد كبيراً قتل معه، ويقتل المعلم الذي يعلم الصنعة، أو العلم أو القرآن إذا أمر تلميذه صغيراً غير مميز فيجب على عائلته نصف الدية مع القصاص من الأب أو المعلم، هذا إن لم يكره.
ويقتل شريك الصبي دون الصبي لأنه غير مكلف، إن تمالا معاً على قتل شخص، وعلى عائلة الصبي نصف الدية، لأن عمده كخطئه، فإن لم يتفقا على قتله، وتعمداه، فعليه الدية في ماله، وعلى عائلة الصغير نصفها وإن قتلاه، أو الكبير خطأ، فعلى عاقلة كل نصف الدية، هذا ما لم يدع أولياء المقتول أنه مات من فعل المكلف فانهم يقسمون عليه ويقتلونه، ويسقط نصف الدية عن عائلة الصبي لأن القسامة، إنما بها، ويستحق بها واحد.
وإنما يكون المأمور مكرهاً بالفتح إذا كان لا يمكنه المخالفة، كخوف قتل من الآمر، أو قطع عضو أو قتل ولد، فإن لم يخفف، اقتص منه وحده دون الآمر.
ومن قدم طعاماً مسموماً، وهو عالم بأنه مسموم لعصوم، فتناوله غير عالم به فمات، يجب عليه القصاص لأنه تسبب في قتله، فإن تناوله المعصوم، وهو عالم بسمه فهو القاتل لنفسه، ولا شيء على المقدم له، وإن كان متسبباً، وإن لم يعلم المقدم بكسر الدال ولا الآكل، فهو من قتل الخطأ، فيجب في الدية، على العاقلة، بعد أن يقسم أولياء المقتول عليه. اهـ.
الحنفية قالوا: من أكره إنساناً على قتل آخر وخوفه بالقتل، أو تلف بعض الأعضاء، فخاف منه وفعل القتل، فإنه يجب القصاص على الآمر دون المأمور، خصوصاً إذا كان للآمر سلطان على المأمور فإن المكره بالفتح يشبه من لا اختيار له، كالذي يسقط من ارتفاع، فقد اعتبروا تأثير(5/256)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع لكون المكره كالآلة، في د المكره بالكسر، ولحديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) .
ولكن يعاقب المكره بالفتح بأن يضرب مائة جلدة، ويحبس سنة كاملة، أو حسب رأي الحاكم.
وإذا أمر العبد المحجور عليه صبياً حراً بقتل رجل فقتله، فعلى عاقلة الصبي الدية، لأنه هو القاتل حقيقة، وعمده وخطؤه سواء، ولا شيء على الآمر.
للضرب للتأديب
المالكية قالوا: من ضرب آخر لقصد التأديب الجائز شرعاً، كالسلطان مثلاً، إذا ضرب إنساناً لارتكاب جريمة لا توجب الحد، أو أراد أن يعزره مثلاً، أو يجله في حد من الحدود، فمات بذلك السبب. أو قطع يد سارق، فسرع القطع إلى جسده فمات. فإن دمه يكون هدراً، ولا ضمان على الحاكم ولا في بيت آلما، لأنه فعل شيئاً آمره به الشرع، ونفذ حكماً طالبه به الإسلام، ولم يقصد بفعله القتل، ولا الانتقام، وكذلك الأب، أو آلم إذا ضرب أحدهما ولده بقصد التأديب، فمات، لا شيء عليهما، والمعلم، صنعة، أو علماً، أو قرآناً، إذا ضرب الذي يتعلم منه بقصد الحمل على التعليم، والاستفادة منه، فمات، بسبب هذا الضرب الذي يتعلم منه بقصد الحمل على ضرب الزوجة بقصد التربية، والنهي عن المنكر، والحث على الاستقامة، فماتت بسبب ضربه، لا شيء عليه، لأن الشرع وضع الزوجة أمانة في عنقه، يربيها، ويهذبها، ويكسوها، ويطعماه، أباح له الضرب إذا خرجت عن طاعته، أو خاف نشوزها قال تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن} الآية.
الشافعية، والحنابلة قالوا: إن الشرع قد أباح للأبوين أن يضربا أولادهما للتأديب، ولأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر، وكذلك أباح للزوج أن يضرب زوجته، لحفظ عرضها. وللمعلم أن يضرب من يتعلم منه. وللقاضي أن يضرب من ينحرف من المسلمين، أو يخرج عن طاعته، فلو مات شخص بسبب ضرب واحد من المذكورين، وكان ضربه ضرباً لا يهلك عادة، فإنه لا ضمان عليه، لأنه لم يقصد القتل ولم يفعل إلا بقصد المصلحة للمضروب، وأدى ما أمره به الشارع الحكيم.
قالوا: ولو ضرب واحد من هؤلاء مريضاً ضرباً لا يقتل الصحيح، وهو جاهل بالمرض لا يجب عليه القصاص، لأن ما أتى به ليس بمهلك عنده.
وقيل: يجب عليه القصاص، لأن جهله لا يبيح له الضرب القاتل، أما إذا ضربه وكان عالماً بمرضه، فإنه يجب عليه القصاص جزماً من غير خلاف منهم، لأنه تبين أنه يقصد إهلاكه بالضرب.
الحنفية قالوا: أن الواجبات لا تتقيد بوصف السلامة، فإذا ضرب الأب ابنه، أو ضرب المعلم(5/257)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الصبي بإذن الأب، فمات الصبي فلا قصاص عليه، بل يجب على الأب، أو المعلم الدية في مالهن في حالة القتل، ولا يرث الأب منها لأنه محروم من ميراثه.
مبحث إذا اشترك في القتل من يقام عليه الحد مع غيره.
المالكية قالوا: إذا شارك بالغ عاقل مسلم، صبياً في قتل رجل معصوم الدم على التأبيد فإنه يجب قتل الكبير دون الصبي، إن تمالأ معاً على قتله ويجب على عاقلة الصبي نصف الدية. لأن عمده كخطىء فإن لم يتمالآ على قتله، وتعمداه، أو الكبير فقط، فعليه نصف الدية، وعلى عاقلة الصغير نصفها، هذا ما لم يدع أولياء المقتول أنه مات من فعل المكلف فقط، فانهم يقسمون عليه، ويقتلونه قصاصاً، ويسقط نصف الدية عن عاقلة الصبي، لأن القسامة إنما يقتل بها ويستحق بها واحد، وإن قتلاه، أو الكبير خطأ، فعلى عاقلة كل نصف الدية.
قالوا: ولا يقتل شريك مخطىء ولا شريك مجنون، بل يجب عليه نصف الدية في ماله خاصة، وعلى عاقلة المخطئ أو المجنون نصفها، هذا أن تعمد وإلا فالنصف على عاقلته أيضاً، وإنما كان على عاقلة الصبي نصف الدية في عمده وخطئه، لأن عمده في نظر الشرع كخطئه.
ومن شارك سبعاً في قتل إنسان عمداً، كأن عقره سبع، ثم شجه رجل ومات بسببهما، ومن جرح نفسه جرحاً ينشأ عنه الموت غالباً، ثم طعنة قاتلة، ومات بسببهما معاً ومن شارك حربياً، في قتل رجل، من غير أن يتفق معه على قتله.
قالوا: يجب القصاص على هؤلاء المكلفين الذين شاركوا غير مكلفين، فإن عقر السبع غير معتبر في الدنيا ولا في الآخرة، وكذلك ضرب نفسه، وإن كان غير معتر في الدنيا فهو معتبر في الآخرة. وعليه الإثم، وكذلك الحري غير معتبر في الدنيا والآخرة,
وقيل: لا يقتص مما ذكرن بل إنما عليه نصف الدية، ويضرب مائة جلدة، ويحبس عاماً كاملاً، والقول بالقصاص يكون بقسامة، والقول بنصف الدية يكون بلا قسامة.
وإن تصادم المكلفان أو تجاذبا حبلاً، أو غيره، فسقطا. راكبين، أو ماشيين، أو مختلفين، قصداً، فماتا، فلا قصاص، لفوات محله، وإن مات أحدهما، فحكم القود يجري بينهما، أو حملاً على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ، عكس السفينتين إذا تصادمتا، وجهل الحال، فيحملان على عدم القصد، من رؤسائهما، فلا قود ولا ضمان، لأن جريهما بالريح ليس من عمل أربابهما كالعجز الحقيقي، بحيث لا يستطيع كل منهما أن يصرف دابته، أو سفينته عن الآخر، فلا ضمان بل هو هدر.
ولو قاد بصير أعمى فوقع البصير، ووقع الأعمى عليه فقتله، فتجب الدية على عاقلة الرجل الأعمى، ولو طلب غريقاً، فما أخذه ليخرجه، خشي على نفسه الهلاك منه، فتركه في البحر ومات،(5/258)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فلا شيء عليه، ولو سقط رجل من فوق دابته في الطريق، على رجل جالس فمات الرجل، فديته على عاقلة الساقط.
الشافعية، والحنابلة قالوا: إذا اشترك في قتل النفس عامد ومخطئ، أو مكلف، وغير مكلف، مثل عامد، وصبي، أو عاقل، ومجنون له نوع تمييز، في قتل من يكافئه، فإنه يجب قتل العاقل المكلف، وتجب نصف الدية على عاقلة الصبي والمجنون، وكذلك الحر والعبد إذا قتلا عبداً عمداً، فيجب على العبد القصاص، ويجب على الحر نصف القيمة من ماله، وكذلك الحل في المسلم والذمي، فإنه يقتل الذمي، وعلى المسلم نصف الدية في ماله، فيتحمل كل واحد جنايته على انفراد، وكأنه لم يشاركه آخر، وحجتهم في ذلك النظر إلى المصلحة العامة التي تقتضي التغليظ على القاتل لحرمة الدماء، فطأن كل واحد منهما انفرد بالقتل فله حكم نفسه، فيجب القصاص على من شارك أباً في قتل ولده، ويجب على الأب وإن سفل نصف الدية مغلظة في ماله، ولا يرث منها، وكذلك يجب قتل شريك حربي في قتل مسلم، وشريك قاطع قصاصاً أو قاطع حداً، كأن جرحه بعد القطع المذكور شخص غير القاطع، وات بسبب القطع، والجرح معاً، وكذا يقتل شريك من جرح نفسه، كأن جرح شخص نفسه جرحاً بالغا ثم جرحه آخر فمات بهما، وكذا يقتل شريك دافع الصائل، كأن جرحه شخص بعد دفع الحيوان الصائل، فمات بهما، وكذا يقتل شريك السبع والحية القاتلين غالباً في قتل من يكافئه، وكذا يقتل عبد شارك سيداً في قتل عبده أو عبد ولده، في الأظهر لظهور الزهوق فيما ذكر بفعلين عمدين، وامتناع القصاص على الآخر لمعنى يخصه، فصار كشريك الأب، ولو جرحه شخص خطأ ونهشته حية، وعقره سبع ومات من ذلك لزمه ثلاث الدية كما لو جرحه ثلاثة.
الحنفية قالوا: لا يجب القصاص على من شارك الأب في قتل ولده، ولا على شريك المولى، ولا على شريك الخاطئ، ولا على شريك الصبي، ولا على شريك المجنون، ولك من لا يجب القصاص بقتله، لأن القتل حصل بسببين، أحدهما غير موجب للقود، وهو لا يتجزأ فلا يجب، لأن الأصل في الدماء الحرمة، والنصوص الموجبة للقصاص مختصة بحالة الانفراد، وموضع يمكن القصاص، وهو غير ممكن هنا لعدم التجزيء فلا يتناوله النص، ثم من يجب عليه القصاص لو انفرد، يجب عليه نصف الدية في ماله، لأن فعله عمد، وإنما لم يجب القصاص لتعذر الاستيفاء، والعاقلة لا تعقل العمد، ونصف الدية الآخر على عاقلة الآخر إن كان صبياً أو مجنوناً أو خطأ، لأن الدية يجب فيه بنفس القتل، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ قال الإمام على رضي الله عنه، وإن كان الأب فتجب نصف الدية في ماله خاصة ويحرم من ميراثها، ولأن مشاركة من لا يجب عليه القصاص شبهة، فإن القتل لا يتبعض والحدود تدرأ بالشبهات، فيجب الدية.
قالوا: ومن شج نفسه وشجه رجل، وعقره أسد، ونهشته حية، فمات من ذلك كله، فيجب على الرجل الأجنبي ثلث الدية، لأن فعل الأسد والحية فعل واحد، لكونه هدر في الدنيا والآخرة،(5/259)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وفعله بنفسه هدر في الدنيا معتبر في الآخرة، حتى يأثم عليه، ويعاقب به يوم القيامة أمام الله تعالى، وعند الإمام أبي حنفية رحمه الله تعالى، والإمام محمد يغسل الميت، ويصلى عليه، وندع أمره إلى الله تعالى يحاسبه، وعند أبي يوسف رحمه الله، يغسل من شج نفسه، ولا تجب الصلاة عليه، لأنه قاتل نفسه.
فالشرع لم يجعل دمه هدراً مطلقاً كالمرتد مثلاً، وجعله جنساً آخر، وفعل الأجنبي معتبر في الدنيا والآخرة، فصارت ثلاثة أجناس، فكأن النفس تلفت بثلاثة أفعال، فيكون التالف بفعل كل واحد ثلثه، فيجب على الرجل الأجنبي ثلث الدية من ماله خاصة، ويسقط الباقي لأنه هدر.
مبحث قتل الجماعة بالواحد
الشافعية رحمهم الله تعالى قالوا: تقتل الجماعة بالواحد. سواء كثرت الجماعة، أم قلت: وسواء باشروا جميعاً القتل أم باشره بعضهم، وساء قتلوه بمحدد أم بغيره، كما لو ألقوه من شاهق جبل، أو في بحر خضم، أو هدموا عليه حائطاً، ولو تفاوتت جراحاتهم في العدد والفحش والأرش، لما روي أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قتل نفراً خمسة، وقيل: سبعة، برجل قتلوه غيلة أي جعلوه في موضع لا يراه أحد وقال كلمته المشهورة (لو تمالأ علي أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة الحاضرين في عصره، فصار ذلك إجماعاً، ولأن القصاص عقوبة تجب على الواحد، فيجب للواحد على الجماعة، كحد القذف وغيره، ولأنه شرع لحقن الدماء. فلو لم يجب عند الاشتراك لكان كل من أراد أن يقتل شخصاً استعان بآخرين على قتله، واتخذ ذلك ذريعة لسفك الدماء، لأنه صار آمناً من القصاص.
قالوا: وللولي العفو عن بعضهم على حصة من الدية، وعن جميعهم على الدية، ثم إن كان القتل بجراحات وزعت الدية باعتبار عدد الرؤوس، لأن تأثير الجراحات لا ينضبط، وقد تزيد نكاية الجرح الواحد على وزعت الدية باعتبار عدد الرؤوس، لأن تأثير الجراحات لا ينضبط، وقد تزيد نكاية الجرح الواحد على جراحات كثيرة، ولو ضربوه بالسياط مثلاً فقتلوه، وضرب كل واحد منهم لو انفرد يكون غير قاتل ففي القصاص أوجه:
أحدها: يجب على الجميع القصاص، كيلا يصير ذريعة إلى القتل، وسفك الدماء ظلماً.
ثانيها: لا يجب القصاص على واحد منهم، لأن فعل كل واحد شبه عمد، فتجب الدية.
ثالثها: وهو أصحها: يجب عليهم القصاص إن اتفقوا على ضربه تلك الضربات، وكان ضرب كل واحد منهم يؤثر في إزهاق الروح بخلاف ما إذا وقع اجتماعهم اتفاقا من غير تواطؤ، فإنه تجب عليهم الدية.
وإنما يعتد في ذلك بجراحة كل واحد منهم إذا كانت مؤثرة في زهوق الروح، فلا عبرة بخدشة خفيفة، والولي يستحق دم كل شخص بكماله، إذ الروح لا تتجزأن ولو استحق بعض دمه لم يقتل.(5/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: البعض بدليل أنه لو آل المر إلى الدية لم يلزمه شيء بالحصة، ولكن لا يمكن استيفاؤه إلا بالجميع، فاستوفي لتعذره، وأبطل الإمام القياس على الدية بقتل الرجل المرأة فإن دمه مستحق فيها، وديتها على النصف.
ومن اندملت جراحته قبل الموت لزمه مقتضاها دون قصاص النفس، لأن القتل هو الجراحة السارية.
الحنابلة قالوا: لا تقتلوا الجماعة بالواحد، لأن الله تعالى شرط المساواة في القصاص. ولا مساواة بين الجماعة والواحد، قال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} وقال تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد} الآية فيجب عليهم الدية حسب الؤوس، أو يقتل واحد منهم والدية على الباقين اهـ.
الحنفية قالوا: تقتل أنفس الجماعة بالنفس الواحدة. ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد، وذلك لأن مفهوم القتل إنما شرع لنفي القتل، فلو لم يقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة. سواء باشروا جميعاً القتل، أو باشره واحد منهم.
فقد روي (أن امرأة بصنعاء غاب زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها، غلاماً يقال له أصيل فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر، والمراة، وخادمها فقتلوه، ثم قطعوا أعضاءه وجعلوه فيعيبة، وطرحوه في ركية، في ناحية العزبة، ليس فيها ماء) .
وذكر القصة وفيها، فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب علي وهو يومئذ أمير على اليمن شأنهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكتب عمر بقتلهم جميعاً، وقال: (والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله، لقتلتهم أجمعين) وفي هذا دليل على أن رأي سيدنا عمر رضي الله عنه قتل الجماعة بالواحد، ووافقه الصحابة رضوان الله عليهم من غير مخالف منهم، وفي ذلك إجماع من الأمة على هذا الحكم.
ولأن القتل بطريق التغالب فساد غالب، وكل فساد غالب يحتاج إلى مزجرة للسفهاء،
فالقتل بطريق التغلب يحتاج إلى حكم زاجر، والحكم الزاجر في القتل العمد هو القصاص، فهو مزجرة للسفهاء، فيجب تحقيقاً لحكمة الأحياء.
قال صحاب النهاية: وهذا جواب الاستحسان، وفي القياس لا يلزمهم القصاص، لأن المعتبر في القصاص إنما هو المساواة، لما في الزيادة من الظلم على المعتدي، وفي النقصان، من البخس بحق المعتدي عليه، ولا مساواة بين العشرة والاحد، هذا شيء يعلم ببداهة العقل، فالواحد من العشرة يكون مثلاً للواحد فكيف تكون العشرة مثلاً للواحد؟ وايد هذا القياس قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس، ولكن تركنا هذا المقياس. لما روي أن(5/261)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به اهـ.
المالكية قالوا: يقتل الجمع كثلاثة فأكثر بواحد، إن تعمدوا الضرب له وضربوه، ولم تتميز ضربة كل واحد منهم، وسواء كان الموت ينشأ عن كل واحدة أو عن بعضهها، واذ انفذ احد الضاربين مقاتله، ولم يدر من أي الضربات فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية في أموالهم إذا لم يتمالؤوا على قتله، وكذلك يقتل الجميع إذا تساوت الضربات، وإن تميزت الضربات، كان بعضها أقوى شأنه إزهاق الروح، قدم الأقوى ضرباً في القتل دون غيره إن علم الضارب وإن لم علم الجميعن وإن قصد الجميع قتله وضربه وحضروا، وإن لم يباشره إلا احدهم، بحيث إذا لم يباشره هذا لم يتركه الآخر، سواء حصل القتل بآلة يقتل بها عادة.
والحاصل: أن الاتفاق يوجب قتل الجميع، وإن رقع الضرب من البعض، أو كان الضرب بنحو سوط، وأما تعمد الضربب بلا اتفاق فإنما يوجب قتل الجميع إذا لم تتميز الضربات، اوتميزت وتساوتن أو لم تتساو، ولم يعلم صاحب الأقوى، والأقدام، وعوقب غيره، وهذا الحكم إذا وقع المضروب ميتاً في جميع هذه الحالات، أو وقع منفوذ المقاتل، أو مغموراً فاقد الشعور حتى مات، وإلا فتجب فيه القصامة، ولا يقتل بها إلا واحد فقط، والله أعلم.
مبحث إذا قتل الواحد جماعة
الحنفية، والمالكية قالوا: إذا قتل الرجل الواحد جماعة، من المسلمين الحرار، مرة واحدة أو متعقبين، فليس عليه إلا القود، ولا يجب عليه شيء آخر بعد ذلك وإذا حضر أولياء المقتولين قتل لجماعتهم، ولا شيء لهم غير ذلك، فإن حضر واحد منهم إلى الحاكم قتل له، وسقط حق الباقين، لفوات محل الاستيفاء، ولأن كل واحد منهم قاتل بوصفالكمال في اعتبار الشرع تحقيقاً للمماثلة المعتبرة في القصاص، فجاء التماثل، اصله الفصل الأول، إذ لو لم يكن كذلك لما وجب القصاص، ولأنه وجد من كل واحد منهم جرح نافذ صالح للإزهاق، فيصاف إلى كل واحد منهم، إذ هو لا يتجزأ، والحكم حصل عقب علل لابد من الإضافة إليها، فإما إن يضاف إليها توزيعاً أو كملاً، والأول باطل لعدم التجزي، فتعين الثاني، ولهذا إذا حلف جماعة كل منهم أن لا يقتل فلاناً، فاجتمعوا على قتله حنثوا.
ولأن القصاص شرع مع المنافي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب) وتحقيق الاحياء قد حصل بقتل القاتل، فاكتفى به، ولا شيء لهم غير ذلك.
الشافعية قالوا: إن قتل الرجل جماعة من المسلمين المعصومة دماؤهم، قتل بالأول منهم ويجب(5/262)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
للباقين الديات من الموال، وإن قتلهم في حالة واحدة، كان هدم عليهم حائطاً وهم نيام فتلهم في وقت واحد، يقرع بين أولياء المقتولين، فمن خرجت قرعتع قتل له، وثبت للباقين الديات لا غير.
وقيل: قتل لهم، وقسمتم الديات بينهم، لتعذر القصاص عليهم، كما لو مات الجاني، فإن اتسعت التركة لجميعهم فذاك، وإلا قسمت التركة بين الجميع بحسب استحقاقهم في الديات، وذلك لأن الموجود من الواحد قتلات عدة، والذي تحقق في حقه قتل واحد فلا تماثل فيه، وهو القياس في الفصل الأول، إلا أنه عرف بالشرع، ولأن الدين شرع المماثلة في القصاص، لئلا يلزم الظلم على المعتدي على تقدير الزيادة، ولئلا يلزم البخص لحق المعتدى عليه، على تقدير النقصان، ولا شك أن الظلم والبخس إنما يندفعان بتحقق المماثلة، فلو قتله غير الأول من المستحقين، أو غير من خرجت القرعة له منهم عصى، لأنه قتل نفساً منع من قتلها.
ووجب على الحاكم أن يعذره لإبطال حق غيره، ووقع قتله قصاصاً لأن حقه يتعلق به، بدليل لو عفا الول، فإن الحكم ينتقل إلى من بعده من الولياء، ويجب للباقين الديات لتعذر القصاص عليهم بغير اختيارهم، ولو ضربوه كلهم حتى مات أساؤوا، ووقع القتل موزعاً لعيهم، ورجع كل منهم بالباقي له في الدية فلو كانوا ثلاثة، أخذ كل واحد منهم ثلث حقه وله ثلثا الدية، ولو قتله أجنبي وعفا الوارث على مال أختص بالدية وله القتيل الأول.
ولو طلبوا الاشتراك في القصاص والديات لم يجابوا لذلك، ولو أن ولي القاتل الأول، أو بعض أولياء القتلى، صبياص، أو مجنوناً، أو غائباً، حبس القاتل إلى بلوغة، وغقامته، وقدومه من السفر.
ولو ضربه واحد ضرباً ثقيلاً، كأن ضربه خمسي سوطاً، ثم ضربه الآخر سوطين أو ثلاثة، حال الألم من ضرب الأول، عالماً بضربه، اقتص منهما، لظهورقصد الإهلاك منهما، أو جاهلاً به فلا قصاص على واحد منهما، لأنه لم يظهر قصد الإهلاك من الثاني، والأول شريك، فعلى الأول حصة ضربه من دية العمد، وعلى الثاني حصة ضربه من دية شبه العمد، وإن ضرباه بالعكس فلا قصاص على واحد منهما، لأن ضرب الأول شبه عمد، والثاني شريكه، فيجب على الول حصة ضربه، من دية شبه العمد، والثاني حصة ضربه من دية العمد، ومن قتل جمعاً، أو قطع أطرافهم مثلاً مرتباًن قتل، أو قطع بأولهم، إن لم يعف لسبق حقهن وهذا الحكم سواء أكان القاتل حراً، أو عبداً.
وقيل: إن كان القاتل عبداً قتل بجمعهم، فإن عفا الول، قتل بالثاني، وهكذا والاعتبار في التقديم والتأخير بوقت الموت، لا بوقت الجناية.
الحنابلة قالوا: إذا قتل واحد جماعة، واحد بعد واحد، فحضر الأولياء قتل للأول ولا شيء للباقين، وإن قتلهم جميعاً ولم يعلم الأول منهم، وحضر أولياء المقتولين، وطلبوا من الحاكم القصاص، قتل لجماعتهم، ولا دية عليه.(5/263)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإن طلب بعضهم القصاص، وبعضهم الدية، قتل لمن طلب منهم القصاص، ولو كانوا أكثر من اثنين، ووجبت الدية في ماله لمن طلبها من الباقين.
وإن طلبوا جيمعاً الدية، كان لكل واحد منهم الدية كاملة من ماله خاصة، إذا كان القتل عمداً، ولاشيء على العاقلة، وإذا كانت التركة لا تسعهم جميعاً، قسمت بينهم بالسوية، كما يفعل مع الغرماء، فيأخذ كل منهم حصته من التركة حسب الرؤوس.
مبحث إذا قطع رجلان يد رجل واحد
الحنفية قالوا: إذا قطع رجلان يد رجل واحد عمداً، فلا يجب القصاص على واحد منهما بل يجب عليهما نصف الديةن لأن تعدد الجاني في الطراف ليس كتعدده في النفس عنهدهم فإذا قطعا يداً لرجل، أو امرأة، حر، أو عبداً فلا قصاص اصلاً، لأن كلاً منهما قاطع بعض اليد، سواء كان المحل متحداً، أو متخلفاً، لأن من انقطع يفعل أحدهما، لم ينقطع بفعل الآخر، وقاطع بعض اليد لا يقطع كل يده قصاصاً لانتفاء المماثلة، وهذا لأن المحل متجزىء، فإن قطع بعض، وترك بعض متصور ومعقول، فلا يمكن أن يجعل كل واحد فاعلا فعلا كاملا، بخلاف النفس، فإن الانزهاق لا يتجزأ، وقد مر ذلك في موضعه، ويجب عليهما نصف الدية مناصفة، لأنه دية اليد الواحدة، ثما قطعاها عمداً.
المالكية قالوا: إذا تعدد مباشر على ما دون النفس بلا تمالؤ منهم عليه وتميزت الجراحات، وعلم فعل كل واحد منهم، فيجب أن يقتص من كلو واحد منهم ما فعل حسب المساحة التي قطعها، ولا ينظر لتفاوت العضو بالرقة والغلظ، والطول والقصر.
فإن تمالؤوا اقتص من كل واحد منهم بقدر الجميع، تميزت الجراحات، أم لا، قياساً على قتل النفس، من أن الجميع عند التمالؤ يقتلون بالواحد، وأما إذا لم تتميز الجراحات عند عدم التمالؤ، فهل يلزمهم دية الجميع، ولا قصاص، أو يقتصر من كل بقدر الجميع؟ فإذا كانوا ثلاثة، خلع احدهم عينه، وقطع الثاني يدهن وقطع الثالث رجله، ولم يعلم من الذي فقأ العين، ومن قطع الرجل، ومن الذي قطع اليد، والحال أنه لا تمالؤ بينهم، اقتص من كل بفقء عينه، وقطع يده، ورجله، وفيه نظر إذا لم يقع من كل واحد وإلا ظهر من المذهب هو الأول.
الشافعية، والحنابلةـ قالوا: يشترط لقصاص الطرف والجرح ما شرط للنفس، من كون الجاني مكلفا ملتزماً، وكونه غير أصل للمجني عليه، ومون المجني عليه معصوماً ومكافئاً للجانين ولا يشترط التساوي في البدل، كما لا يشترط في قصاص النفس، فيقطع العبد بالعبد، والمرأة بالرجلن وبالعكس والذمي بالمسلم، والعبد بالحر، ولا عكس، ويشترط كون الجناية عمداً عدواناً، لأنه لا قصاص إلا في العمد، لا في الخطأ وشبه العمد، ومن صور الخطأ في الأطرافن أن يقصد أن يصيب حائطاً بحجر، فيصيب رأس إنسان فيوضحه، ومن صور شبه العمد، أن يضرب رأسه بطلمة، أو بحجر(5/264)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لا يشج غالباً لصغره، فيتورم الموضه، إلى أن يتضح العظم، وغير ذلك من أنواع الجنايات، وتقطع الأيدي الكثيرة باليد الواحدة، كما لو اشترك جمع في قطع، كأن وضعوا سيفاً على يده، وتحاملوا عليه دفعة واحدة، حتى قطعت اليد، وجب عليهم القصاص، فيقطعوا جميعاً إن تعمدوا القطع، كما في النفس.
فإن قيل: سرق رجلان نصابا واحداً لم يقطعا، فهلا كان هنا كذلك؟
أجيب بأن القطع في السرقة حق الله تعالى والحدود بالمساهلات أحق، بخلاف القصاص الذي هو حق العبد، لقصد الزجر، وحرمة دم الآدمي.
وإذا تميز فعل بعضهم عن بعض، كأن قطع كل منهم من جانب، والتقت الحديدتان، فإنه لا يجب القصاص على واحد منهما، لأن كلاً منهما لم يقطع إلا بعض اليد، فلا يقطع به كل يده، فتجب عليها نصف الدية.
وإذا قطع كل منهم بعض الطرف، أو تعاونوا على قطعه بمنشار مثلاً، جره بعضهم في الذهاب، وبعضهم في العود، قال الجمهور: لا يجب القصاص على أحد منهم، لتعذر المماثلة، لا شتمال المحل على اعصاب ملتفة، وعروق ضارية وساكنة، مع اختلاف وضعها في الأعضاء، فيجب على كل واحد منهم حكومة تليق بجنايته، بحيث يبلغ مجموع الحكومات دية اليد.
مبحث من اعتدى على رجلين
الحنفية قالوا: إذا قطع واحد يميني رجلين فحضرا فلهما أن يقطعا يده، ويأخذا منه نصف الدية بقسمانه نصفينن سواء قطعهما معاً، أو على التعاقب، لانهما استويا في سبب الاستحقاق، فيستويان في حكمه، كالغريمين في التركة، والقصاص ملك الفعل يثبت مع المنافي، فلا يظهر إلا في حق الاستيفاء، أما المحل فخلو عنه فلا يمنع ثبوت الثاني، بخلاف الرهن، لأن الحق ثابت في المحل، فصار كما إذا قطع العبد يمينيهما على العاقب فتستحق رقبو لهما، وإذا حضر واحد منهما فقطع يده، فلآخر عليه نصف الديةن لأن للحاضر أن يستوفي لثبوت حقه، وتردد حق الغائب، وإذا استوفي لم يبق محل الاستيفاء، فيتعين حق الآخر في الديةن لأنه اوفى به حقاً مستحقاً، يقضى فإذا قضى طرفه حقاً مستحقاً عليه، فيقضى للآخر بالأرش.
أما لو قطع يمين أحدهما، ويسار الآخر قطعت يداه، ولا يقال: تنتفي المماثلة حينئذ لأنه ما فوت على كل واحد منهما جنس المنفعة، وهما فوتاه عليه، لأن المعتبرفي حق كل واحد ما استوفاه، وليس في ذلك تفويت جنس المنفعة، ولا زيادة على حقه.
قالوا: وإن طلبا القصاص معاً قطع لهما ولا دية، وإن طلب أحدهما القصاص والثاني الدية قطع لمن طلب القصاص وأخذت الدية للآخر. اهـ.(5/265)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المالكية قالوا: من اعتدى على شخصين فعطع يمينيهما معاً أو متعاقبان، فإنه يجب عليه أن تقطع يمينه لهما، ولا دية عليه بعد ذلك، لا ستحالة الاستيفاء منه لانعدام المماثلة.
الشافعية، والحنابلة قالوا: إذا قطع رجل واحد يميني رجلين على التعاقب فإنه يجب عليه أن تقطع يمينه قصاصاً للأول، والدية للثاني، وإذا قطعهما معاُ مقترنين يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة قطع به، لأن اليد استحقها الأول، فلا يثبت الاستحقاق فيها للثاني كالرهن بعد الرهن، وفي القرآن، اليد الواحدة لا تفي بالحقين فترجح بالقرعة، ويغرم الدية، للثاني حتى لا يضيع عليه حقه، كما في النفس عمداً، وكذا إذا اشتبه الأمر.
إذا أمسك رجل رجلاً فقتله الآخر
الحنفية قالوا: لو أمسك رجل برجل، فقتله آخر فإنه يجب القصاص على القاتل دون الممسك، لأنه هو الذي باشر القتل، والممسك لم يباشره فلا قصاص عليه، بل يجب عليه التعزير، فيحبسه الإمام في السجن حتى يموت، فقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك) رواه الدارقطني. الشافعية قالوا: لو أمسك إنسان رجلاً، وقتله رجل آخر غيره فإنه يجب القصاص على القاتل، لأنه مباشر للفعل، ويعزر الذي أمسك القتيل حسب ما يراه الحاكم في طول المدة وقصرها، لأن الغرض تأديبه، وليس بمقصود استمراره للموت، واشترطوا في المسألة، أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أمسكه رجل وعرضه لمجنون، أو سبع ضار فافترسه، فالقصاص على الممسك قطعاً في الصورتين، ولو وضع صغيراً على هدف بعد الرمي لا قبله، فاصابه السهم من الرامي، لأنه المباشر للقتل، ويجب القصاص على من أردى آخر في البئر فمات، دون الحافر لأن حفره لا أثر له مع المباشر.
وقد روي عن الإمام علي كرم الله وجهه (أنه قضى في رجل قتل رجلاً متعمداً، وأمسكه آخر) ، قال: (يقتل القاتل، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت) رواه الإمام الشافعي رحمه الله.
المالكية قالوا: إذا أمسك رجلا وكان يقصد قتله، فقتله آخر، ولولا الامساك ما قدر القاتل على قتله، فيجب القود عليهما معاً، الممسك لتسببه، والقاتل لمباشرته القتل بنفسه، وهي أن يمسكه لاجل القتل، وأن يعلم أن الطالب قاصد قتله، وأن يكون لولا إمساكه ما أدركه القاتل، فإن أمسكه لاجل أن يضربه ضرباً معتاداً، أو كان لم يعلم أنه يقصد قتله، أو كان قتله لا يتوقف على امساك له، قتل المباشر وحده، وهو القاتل فعلاً وضرب الممسك مائة سوط، وحبس سنة كاملة، تأديباً له وتعزيراً.
الحنابلة قالوا: في احدى روايتهم: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت في جميع(5/266)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الأحوال وفي الرواية الأخرى قالوا: إنهما يقتلان جميعاً على الاطلاق القاتل لمباشرته القتل بنفسه، والممسك لأنه السبب في القتل، إذ لولا الامساك لما حصل القتل.
مبحث عفو المقتول خطأ عن الدية
المالكية، والحنفية، والشافعية وجمهور فقهاء الأمصار - قالوا: إن عفو المقتول عن ديته ينفذ في الثلث من الدية فقط، إلا أن يجيز الورثة هذا العفو، فتسقط الدية كلها عن القاتل خطأ لانهم تنازلوا عن حقوقهم في إرث المال وحجتهم في ذلك، أن المقتول واهب مالاً له بعد موته لأن الدية لا تجب إلا بعد ازهاق الروح، فتنقل الو الورثة، فلا يجوز العفو إلا في الثلث وأصله حكم الوصية، وهي لاتنفذ إلا في ثلث المال، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (الثلث، والثلث كثير) .
وقال الحسن وطاوس وجماعة من الفقهاء: يجوز أن يعفو القاتل عن الدية في قتل الخطأ، وتسقط عن القاتل وحجتهم في ذلك أن المقتول إذا كان له أن يعفو عن الدم فهو أحرى أن يعفو عن المال، والدية يستحقها المقتول أولاً، ثم تنتقل من بعده إلى الورثة.
المالكية قالوا: لو حصل عفو من كبير معه صغير فليس للصغير إلا نصيبه من الدية، ولا يسري عقو الكبير عليه، فلو كان للصغير ولي من أب ونحوه كوصي، واستحق الصغير قصاصاً بلا مشارك له فعلى وليه النظر بالمصلحة في القتل وأخذ الدية كاملة، ويخير إن استوت، ولا يجوز له أخذ بعض الدية مع يسر الجاني، فإن صالح على أقل من الدية، رجع الصغير بعد رشده على القاتل، فإن كان الجاني معسراً فله الصلح بأقل، من الدية، رجع الصغير بعد رشده على القاتل، فإن كان الجاني معسراً فله الصلح بأقل، أما لو قتل الصغير، فلا كلام لوليه، لانقطاع نظره بالموت، والكلام للعاصب، فإن قتل شخص عبد الصبي، أو جرحه، فالأولى للولي اخذ القيمة، والأرش دون القصاصن إذا لانفع للصبي ما لم يخش على الصبي من القاتل، وإلا تعين القصاص ومثله السفيه، والحكم كذلك في الأطراف اهـ.
مبحث صفة القصاص في النفس
المالكية رحمهم الله تعالى قالوا: يجب أن يقتل القاتل بما قتل به، ولو كان المقتول به ناراً، لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا ما عوقبتم به} قال المفسرون: إن هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، ويكون القصاص بالنار مستثنى من النهي عن التعذيب بها على المشهور.
قالوا: والمعنى أن الحق في القتل للولي بمثل ما قتل به الجاني، وذلك إذا ثبت القتل بالبينة، أو الاعتراف، أما لو ثبت بقسامة، فإنه يقتل بالسيف، وكذلك لو ثبت أن القتل بخمر فيتعين قتل الجاني بالسيف، وكذا لو أقر بأنه قتله لواطاً فلا يقتل بما قتل به، بأن يجعل له خشبة في دبره حتى(5/267)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يموت، بل يجب أن يقتل بالسيف، أما لو ثبت اللواط بأربعة شهود فيكون حده الرجم بالحجارة حتى يموت ولو كان غيرمحصن، وكذلك من قتل بالسحر وثبت عليه ذلك بالبينة أو إقرار، فيتعين قتله بالسيف، ولا يلزم بفعل السحر مع نفسه حتى يموت، لأن الأمر بالمعصية معصية.
قال بعضهم: أنه إذا أقر يؤمر بفعله لنفسه فا مات، وإلا فالسيف، وكذلك القتل بالسم، يقتل بالسيف في ظاهر المذهب، وكذلك إذا قتله بمنعه عن الطعام، أو الماء، أو قتله بكثرة الأكل والشراب، أو نخسه بإبرة حتى مات على الراجح، فلا يفعل بالجاني ذلك، بل يتعين قتله بالسيف.
قالوا: فإن صدر منه القتل بالغرف يفرق، وإن صدر منه القتل بالخنق، يخنق، وإن قتل بحجر، فإنه يقتل بضرب حجر، ويكون الضرب في موضع خطر حتى يموت بسرعة، وإذا قتل آخر بالضرب بعصا، فإنه يضرب عصا حتى يموت.
قالوا: ويمكن متسحق القصاص من السيف، ولو كان الجاني قتل بشيءأخف من السيف، لأن الحق له في القتل بمثل ما قتل به المجني عليه، فإذا طلب القصاص بالسيف فإنه يجاب إلى طلبه، لأن فيه تخفيفاً عن القاتل.
الشافعية، والحنابلة في إحدى روايتهم قالوا: يجب أن يقتص من القاتلن على الصفة التي قتل غيره بها، وبآلة تشبه الآلة التي استعملها في مباشرة القتل، حت يتحقق القصاص ويشعر بالألم الذي شعر به القتيل، إن كان قتله بفعل مشروع فإن مات بهذه الوسيلة التي استعملها، وإلا تحز رقبته بالسيف قتلاً، لأن مبنى القصاص لغة وشرعاً على المساواة، وذلك فيما ذكرنا، لأن فيه مساواة في اصل الوصف، والفعل المقصود به، فمن قتل غيره تغريقاُ، قتل تغريقاً بالماء، ومن قتل بضرب حجر قتل بمثل ذلك، إلا أن يطول تعذيبه بذلك فيكون السيف له أروح، فإن قطع يد رجل فمات بسبب السراية فعل به مثل ذلك، ويمهل تلك المدة التي مكثها المقتول، فإن مات، وإلا تحز رقبته بالسيف، وإن كان القتل بشي غير مسموح به شرعاً، كأن أكرهه على شرب الخمر حتى قتله بها، أو لاط بصغيرن فقتله، أو اعتدى على صغيرة وزنى بها فقتلها، فإنه يجب قتله في هذه الحالة بالسيف، لأن المماثلة ممتنعة لتحريم الفعل.
وحجتهم في ذلك قول تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} آية 126 من النحل وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} آية 194 من البغرة. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في التماثل في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللواطة، وإسقاء الخمر. وما روي عن انس بن مالك رضي الله تعالى عنه (أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع بك هذا؟ فلان؟ فلان. حتى ذكروا يهودياً، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بين حجرين، متفق عليه، واللفظ لمسلم.(5/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فالحديث دليل على أنه يجب القصاص بالمثقل، كالمحدد، وأنه يقتل الرجل بالمرأة، وأن القاتل يقتل بما قتل به، قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} .
وبما أخرجه البيهقي من حديث البراء رضي اللهتعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غرض غرضنا به، ومن حرق، حرقناه، ومن غرق غرقناه) ومعنى غرض أي اتخذه غرضاً للسهام، ولأن المقصود من القصاص التشفي، وإنما بكمل إذا قتل بمثل ما قتل، وحديث النهي عن المثلة محمول على من وجب قتله، لا على وجه المكافأة.
ويشترط أن تراعى المماثلة في طريق القتل، وتراعى في الكيفية والمقدار، ففي التجويع يحبس مثل تلك المدةن ويمنع عنه الطعام، وفي الإلقاء في الماء، أو النار يلغى في ماء، ونار مثلهما، ويترك تلك المدة، وتشد قوائمه عند الإلقاء في الماء، إن كان يحسن السباحة، وفي الخنق، يخنق بمثل ما خنق، بمثل تلك المدة، وفي الإلقاء من الشاهق يلقى من مثله، وتراعى صلابة الموضع، وفي الضرب بالمثقل يراعى الحجم، وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر، أو النار، أو على عدد الضربات، اخذ باليقين، وقيل: يعدل إلى السيف، هذا إذا عزم على أنه إن لم يمت بذلك قتله، فإن قال ولي الدم فإن لم يمت به عفوت عنه لم يمكنه لما فيه من التعذيب، وفي السحر، يقتل بالسف لأن عموم السحر حرام، لا شيء مباح فيشبهه، ولا ينضبط وفي الخبر (حد الساحر ضربه بالسيف) ولو قتله بمسموم من طعام أو آلة اقتص منه بمثلها إذا لم يكن مهرياً يمنع الغسل، ولو أنهشه حية، فإن كانت تلك الحية موجودة لم يعدل إلى غيرها، ولو كانت غير موجودة جاز العدول إلى حية غيرها لتنهشه، وكذلك لو ألقاه في زريبة أسد فافترسه، فإنه يلقى أمام الأسد ليفترسه كما فعل، ولو رجع شهود الزنا بعد رجم المشهود عليه، اقتص منهم بالرجم، وإن رجعوا بعد موته بالجلد، اقتص منهم وبالجلد، ولو جوع، كتجويعه فملم يمت في المدة الي جوع فيها المقتول، فإنه يزاد في المدة حتى يموت، ليكون قتله بالطريق التي قتل به، ولا يبالي بزيادة الإيلام، والتعذيب، كما لو ضرب رقبة إنسان بضربة واحدة ولم تنحز رقبته إلا بضربتين، لأن المماثلة قد حصلتن ولم يبق إلا تفويت الروح فيجب تفويتها بالأسهل.
ومن عدل من أولياء الدم عما تجوز فيه المماثلة، إلى الضرب بالسيف، فله ذلك، سواء ارضي الجاني، أم لا، فإنه أرحم واسهل، بل هو أولى للخروج من الخلافن أما إذا عدل إلى ذبحه كالبهيمة، لم يجز، لهتكه الحرمة، فإن كان الجاني قتل بالسيف، ويريد ولي المقتول قتل الجاني بغير السيف، فإنه لا يمكن من ذلك.
ولو قطع يدهن فسى قطعه للنفس، فمات، فللولي حز رقبته ابتداء، لأنه أسهل على الجاني من القطع، ثم الحز، وله القطه، للمماثلة، ثم الحز للرقبة حالاً للسراية، ولا يجاب الجاني إذا قال لولي المجني عليه: امهلني عليه بعد جنايتي، لثبوت حق القصاص ناجزاً، وإن شاء الولي(5/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أخر، وانتظر السراية، بعد القطع وليس للجاني أن يقول لولي المقتول ارحني بالقتل أو العفو، بل الخيرة في ذلك إلى المستحق، لأنه صاحب الشأن.
ولو مات بجائفة أو كسر عضو، أو نحو ذلك مما لا قصاص فيه. فللولي حز الرقبة بالسيف لا غير، لأن المماثلة لا تتحقق في هذه الحالة، بدليل عدم إيجاب القصاص في ذلك عند الاندمال فوجب السيف، فإن قال ولي المقتول: أجيفه، وأقتله أن لم يمت فله ذلك، وإن قال: أجيفه ثم أعفو لم يكن من ذلك.
ولو اقتص معطوع عضو فيه نسف الدية، من قاطعه، ثم مات المقطوع الأول بالسراية، فلوليه حز الرقبة وله عفو بنصف الدية في تركة الجاني، ولو قطعت يداه فاقتص المقطوع، ثم مات سراية فلوليه الحز لرقبة الجاني في مقابلة نفس مورثه، فإن عفا عن قتله، فلا شيء له، لأنه استوفى ما يقابل الدية، ولو مات الجاني سراية من قطع عضو منه قصاصاً، فنفسه هدر، لقوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} .
وقد روى البعقي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما: (من مات في حد، أو قصاص، فلا دية له، والحق قتله) ولأنه مات من قطع يستحق، فلا يتعلق بسرايته ضمان، كقطع يد السارق حداً,
قالوا: يأذن الإمام، أو نائبه لواحد من مستحقي القصاص في استيفائه بنفسه، في النفس إذا طلب ذلك ليكمل له التشفي.
الحنفية قالوا: لا يجوز أن يستوفى القصاص إلا بالسيف خاصة، في جميع الأحوال، سواء كان القتل به أم بغيره، واحتجوا على مذهبهم بما أخرجه البزار، وابن عدي، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قود إلا بالسيف) وواحتجوا بأن الشارع نهى عن المثلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا قود إلا بالسيف) نص على نفي استيفاء القصاص بغيره. ويلحق به ما كان سلاحاً من غير السيف، كالمدفع، والبندقة، وغيرهما، ولأن فيما ذهب الأئمة إليه استيفاء لزيادة، فلم يحصل المقصود بمثل ما فعل الجاني، فيجب التحرز عنه، كما في كسر العظم والجائفة، ولأن الآلة في الاغراق، والخنق، وإلاحراق، غير معدة للقتل، ولا مستعملة فيه لتعذر استعمالها، فتمكنت شبهد عد العمدية، ولأن القصاص مبني على المماثلة، ومنه يقال: اقتص أثره، ولا تماثل بين الجرح والدق، لقصور الثاني عن تخريب الطاهر، وكذا لا يتماثلان في حكمة الزجر، لأن القتل بالسيف غالب، وبالمثقل نادر.
وأما ما رواه الشافعية من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه، من قتل عبداً قتلناه) فهو غير مرفع لأنه يلزم على قولهم أنه يجوز التحريق بالتحريق، وهو منهي عنه شرعاً، فقد(5/270)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعذبوا أحداً بعذاب الله) أو أن الحديث محمول على السياسة، حيث اضافه صلى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال: (غرقنا) ولم يقل صلوات الله
وسلامه عليه (حرقوه أو غرقوه) وقد استدل الأحناف بهذا الحديث في وجوب القصاص، ولم يعملوا به، في الاستيفاء لقول صلى الله عليه وسلم: (لا قود إلا بالسيف) فهو أقوى من الحديث الثاني عند أهل الحديث وقد ذكر بعده، فنسخ حكمه.
مبحث من قتل ثم لجأ إلى الحرم
الشافعية قالوا: يقتص المستحق على الفور في النفس، وكذلك في الأطراف على المذهب لأن القصاص موجب الاتلاف، فيتعجل كقيم المتلفات، والتأخير لاحتمال العفو.
قالوا: ويقتص في الحرم، لأن الحرم لا يمنع من القصاص، كقتل الحية والعقرب داخل الاحرم، وسواء التجأ إليه أم لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عامم الفتح وسمع به عبد الله بن خطل التميمي الذي ارتد بعد إسلامه، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم في شعره ويلقنه لجاريتيه المغنيتين، فتتغنيان به، فخاف من الرسول وتعلق بأستار الكعبة ليستجير بها، وعند طواف النبي صلى الله عليه وسلم بها أخبر بحالته، فقال: (اقتلوه) فإن الكعبية لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب فقتل وكذلك الحويرث بن نقيد، فإنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بهجائه، فقتله الإمام على رضي الله تبارك وتعالى عنه بمكة المكرمة.
وكذلك المقيدس بن صبابة الكندي عبد أن ارتد ورجع إلى مكة، فامر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، واهدر دمه، فقتله ابن عمه نميلة بن عبد الله الليثي، وهو متعلق بأستار الكعبة، وقيل: بمحل آخر، ولأن القصاص على القور، فلا يؤخر.
فلو التجأ الجاني إلى الكعبة، أو المسجد الحرام، أو غيره من المساجد، أو إلى ملك إنسان فيخرج منه ثم يقتل صيانة للمسجد، ولأنه يمتنع استعمال ملك الغير بغير غذنه، فإن هذا التأخير يسير، وخوفاً من تلوث المسجد الحرام أو المساجد الأخرى، فيخرج منها، وكذا يقتل لو التجأ الجاني إلى مقابر المسلمين، ولم يمكن قتله إلا بإراقة الدم عليها، وإذا لم يخرج الجاني من الحرم، ومكث فيه جاز إقامة القصاص عليه وقتله فيه، فإن حرمة دم الآدمي أقوى من حرمة البيت.
المالكية قالوا: لو قتل شخص إنساناً في الحل ثم دخل الحرم بعد ارتكاب جنايته فلا يؤخر، بل يجب إخراجه من الحرم، ويقام عليه الحد خارج الحرم، ولو كان الجاني محرماً، ولا ينتظر لإتمامه ولا يجوز إقامة القصاص في الحرم عليه لئلا يؤدي إلى تنجسه بالدماء، وسواء فعل موجب القصاص في داخل الحرم، أم فعله خارجه ثم لجأ إليه، ليهرب من تنفيذ القصاص
وأما قوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} فهو إخبار عما كان عليه الناس في الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة، ودخل الحرم فيلقاه ابن القتول، فلا يهيجه حتى يخرج.(5/271)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا أبو يحيى التميمي عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} قال: (من عاذ بالبيت اعاذه البيت، ولكن لا يؤوى، ولا يطعم، ولا سقى، فإذا خرج أخذ بذنبه) .
وروي في الصحيحين، والفظ لمسلمعن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قال قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته اذناي، ووعاه قلبين وأبصرته عيناي حين تكلم به، أنه حمد الله، وأثنى عليه ثم قال: (مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دماً، أو يعيضد بها شجراً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له إن الله أذن لنبيه، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالآمس، فليبلغ الشاهد الغائب) فقيل لأبي شريح ما قاله لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح: إن الحم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بجزية، وقيل: الجملة إنشائية معنى أي آمناً من القتل، والظلم، إلا بموجب شرعي، وهذا هو الإثم الذي ذكره الله تعالى بقوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} . آية 25 من سور الحج.
الحنفية رحمهم الله تعالى قالوا: إذا قتل رجل إنساناً عمداً خارج الحرم، ثم لجأ إليه ليفر من القصاص وأقام بالحرم، أو وجب القتل عليه ردة، أو زنا وهو محصن، أو بسبب خروجه على جماعة المسلمين، ثم لجأ إلى الحرم بمكة المكرمة، فلا يجب قتله ما دام في الحرم، لحرمة القتل في الحرم، لقول تعالى: {ومن دخله كان آمنا} يعنى حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، فمن عاذ بالبيت أعاذه البيت، وورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتل فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها، فقال العباس: يا رسول الله إلا الأذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: (إلا الادخر) وقد ورد في تأمين من دخل الحرم عدة آيات منها قوله تعالى {واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} ومنه قوله تعالى {واذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً} آيتي 125، 126 من سور البقرة، وقال تعالى: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} آية 4 من سورة قريش فظاهر الآية الكريمة الإخبار عن كون من دخله آمناً، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر، فودب حمله على الأمر، أي آمنوا من دخل الحرم وترك العمل به في الجنايات التي دون النفس لأن الضرر فيها أخف من قتل النفس، وفيما إذا وجب على الجاني القصاص لجناية ارتكبها داخل الحرم، فإنه يجوز أن يقتل في الحرم في هذه الحالة، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فلا يحترم دمه، أما إذا ارتكب الجناية خارج الحرم ثم التجأ إليه فلا يستوفي فيه بل يجب أن يضيق عليه، فيمنع من
الطعام والشراب والكلام والمعاملة، حتى يخرج من الحرم(5/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فيستوفى منه القصاص ويقتل أو يموت داخل الحرم بالجوع والصد، وذلك تعظيماً لحرمة البيت الحرام. الحنابلة قالوا: لا يستوفى من الملتجىء إلى الحرم قصاصاً مطلقاً، سواء ارتكب الجناية خارج الحرم والتجأ إليه واحتمى به، أو ارتكب جنايته داخل الحرم واعتصم به، وسواء كان القصاص في النفس أو الأطراف، ولا يضيق عليه، حتى يخرج من الحرم، أو يموت، فإن خرج من الحرم، قتل بذنبه، ونفذ عليه القصاص الواجب عليه، وإلا ترك وشأنه في الحرم. وذلك لنص الآيات الواردة في في تأمين من دخل الحرم قال تعالى: {ومن دخله كان آمناً} تأكيداً لفضيلة الحرم، واحتراماً لقدسيته، لشدة حرمة الحرم في الكتاب والسنة الذي هو حضرة الله تعالى الخالصة، فيحمل هنا على حال الحاكم الذي غلبت عليه هيبة المولى عز وجل. وهيبة بيته الحرام، فانطوت فيها إقامة حدوده حرمة له، فأخر القصاص مدة عن الجاني حتى يخرج من الحرم.
مبحث ما لا يجب عليه القصاص في العمد
الحنفية قالوا: لا يجب القصاص على المسلم إذا قتل المستأمن لأنه غير محقون الدم على التأبيد، لأن كفره باعث على الحراب، لأنه على قصد الرجوع إلى داره، فكان كالحربي،
ولا يقتل الذمي بالمستأمن، لقيام المبيح، وعدم التكافؤ.
ولا يقتل الرجل بابنه، لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا يقاد الوالد بولده) وهو معلوم بكونه سبباً لإحيائه، فإن المحال أن يتسبب لفنائه، ويلحق بالأب الأم، وكذلك الجد والجدة من قبل الأب، والأم، وإن سفل.
ولا يقتل الرجل بعبده، ولا مدبره، ولا مكاتبه، ولا بعبد ولده، لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص، ولا يستوجب ولده على أبيه، إذا قتل الأب ولده عبده.
ولا يقتل الرجل بقتل عبد ملك بعضه. بهبة، أو ميراث، أو شراء، لأن القصاص لا يتجزأ.
ومن ورث قصاصاً على أبيه، مثل أن يقتل الرجل أم ابنه الكبير مثلاً، سقط القصاص عن الأب، لحرمة الأبوة.
وإن قتل عبد الرهن في يد المرتهن لم يجب القصاص حتى يجتمع الراهن والمرتهن، لأن المرتهن لا ملك له فلا يليه، والراهن لو تولاه لبطل حق المرتهن في الدين فيجب اجتماعهما، ليسقط حق المرتهن برضاه.
والعبد الذي أعتق بعضه إذا مات ولم يترك وفاء، فلا يجب القصاص على قاتله، لأن ملك المولى لا يعود بموته، ولا ينفسخ بالعجر ما عتق منه.(5/273)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ومن غرق صبياً، أو بالغاً في البحر فلا قصاص عليه، عن أبي حنيفة، وقال الصاحبان يجب عليه القصاص، ويستوفى منه القصاص بحز رقبته بالسيف.
ومن رمى رجلاً بسهم عمداً، فنفذ منه السهم إلى رجل آخر وأصابه وماتا معاً، فيجب عليه القصاص في الأول، وتجب الدية لورثة الثاني على عائلة الرجل القاتل. لأن الول عمد، والثاني احد فرعي الخطأ، فكأنه رمى صيداً فأصاب آدمياً، والقتل يتعدد بتعدد أثره، ولا قصاص على من قتل لصاً دخل عليه ليلاً وأخرج ماله، أو اعتدى على عرضه، ولا قصاص على صبي ولا مجنون، لانهما غير مكلفين: يجب الدية على العاقلة، ولا قصاص على مسلم قتل مسلماً ظن أنه مشرك عند التقاء الصغين من المسلمين والمشركين ولا قصاص على من قتل رجلاً باغياً، شهر سيفه على المسلمين في طريقهم ليعتدي عليهم.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: يشترط لوجوب القصاص في القتيل إسلامه لخبر مسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها) ويشترط أمان المقتول، إما بعقد ذمة، وإما بعهد، أو أمان مجرد لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} آية [6: من التوبة] .
فلا يجب القصاص على قاتل الحربي، لأنه مهدر الدم لعموم قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} آية [5: من التوبة] .
فلا قصاص على من قتل المرتد عن الإسلام والعياذ بالله تعالى لقوله صلوات الله وسلامه عليه. (من بدل دينه فاقتلوه) .
ويسقط القصاص عن الصبي والمجنون، لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاث) وإنما يسقط القصاص عن المجنون إذا كان جنونه مطبقاً لا يقيف منه، أما الجنون المتقطع فينظر إن كان في زمن إفاقته فهو كالعاقل الذي لا جنون به، وإن كان الحادث وقع في زمن جنونه، فهو كالمجنون الذي لا إفاقة له.
أما السكران، فالظاهر من المذهب وجوب القصاص عليه إن تعدى بسكره لأنه مكلف، ولئلا يؤدي إلى ترك القصاص، لأن من رام القتل لا يعجز أن يسكر حتى لا يقتص منه، وألحق به من تعدى بشراب دواء مزيل للعقل، فإنه يقتص منه.
أما السكران غير المعتدين فهو كالمعتوه فلا قصاص عليه.
ولو قال: كنت يوم القتل صبياً أو مجنوناً، وكذبه لي المقتول، صدق القاتل بيمينه، إن أمكن الصبا وقت القتل وعهد الجنون قبله، لأن الأصل بقؤهما، بخلاف ما إذا لم يمكن صباه، ولم يعهد جنونه فإنه يقتص منه.
ولو قال القاتل: أنا الآن صبي وأمكن فلا قصاص عليه، ولا يحلف أنه صبي لأن التحليف.(5/274)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لاثبات صباه، ولو ثبت لبطلت يمينه، ففي تحليف إبطال لتحليف، ولا قصاص على حربي قتل حال حرابته، ثم عصم بعد ذلك بإسلام، أو ذمة، لما تواتر من فعله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده. من عدم القصاص ممن أسلم، لأن الإسلام يجب ما قبله، وقد عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنه، ولا يقتل مسلم ولو كان زانياً محصناً، بقتل ذمي، للحديث الوارد في صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا لا يقتل مسلم بكافر) لأنهم اشترطوا في القاتل مكافأته للقتيل، بأن لم يفضله بإسلام، أو أما، أو جزية، أو أصلية، أو سيادة، ولهذا لا يقتل ذمي بمرتد، ولا يقتل حر بمن فيه رق، ولو قت الحر المسلم شخصاً لا يعلم أنه مسلم أو كافر، ولا أنه حر، أو عبد فلا قصاص للشبهة، ولا يقتل المكاتب إذا قتل عبده ولا قصاص على من بعضه حر وبعضه عبد، إذا قتل مثله، سواء ازدادت، حرية القاتل على حرية المقتول أم لا، لأنه لم يقتل بالبعض الحر البعض الحر، وبالرقيق الرقيق، بل قتله جيمعه بجيمعه حرية ورقا شائعاً، فيلزم قتل جزء حرية بجزء رق وهو ممتنع.
ولا قصاص بين عبد مسلم، وحر ذمي، لأن المسلم لا يقتل باذمي، والحر لا يقتل بالعبد، ولا تجبر فضيلة كل منهما بضعته. ولو قتل ذمي عبداً ثم نقض العهد واسترق لا يجوز قتله، وإن صار كفؤاً له، لأن الاعتبار بوقت الجناية، ولم يكن مكافئاً له. ولا قصاص بقتل ولد للقال، وإن سفل للحديث الوارد في الحاكم، والبيهقي وصححاه. إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقاد للابن من أبيه) ولرعاية حرمته، وكذا لا قصاص على الأم، والأجداد والجدات، وإن علوا من قبل الأم والأب لأن الحكم يتعلق بالولادة، فاستوى فيه من ذكر كالنفقة.
ولا قصاص للولد على الوالد، كأن قتل الرجل زوجة نفسه، وله منها ولد، فصار ولياً لدمها، أو قتل الأب زوجة ابنه، أو لزمه قود فورث بعضه ولده، كأن قتل أبا زوجته، ثم ماتت الزوجة، وله منها ولد فورث الدم عن أمه، لأنه إذا لم يقتل بجنايته على ولده، فلأن لا يقتل بجنايته على من له في قتله حق أولى. ويقتل الولد الحر المسلم، بالوالد الكافر.
ولو تداعيا قتيلاً مجهولاً نسبه فقتله أحدهما، قبل تبين حاله، فلا قصاص في الحال، لأن أحدهما أبوه، وقد اشتبه الأمر، فهو كما لو اشتبه طاهر بنجس لا يستعمل أحدهما بغير اجتهاد بل يعرض الأمر على القائف، فإن ألحقه القائف بالآخر، اقتص الآخر لثبوت أوته، وانقطاع نسبه عن القاتل، وإن لم يلحقه القائف بالآخر، فلا يقتص لعدم ثبوت الأبوة.
ولو أشتركا في قتله، وألحقه الفائف بأحدهما، اقتص من الآخر (الأجنبي) لأنه شريك الأب. ولا قصاص على مسلم إذا رمى مسلماً. ثم ارتد والعياذ بالله تعالى وهو مجروح بالرماية ثم مات بسبب السراية، مرتداً لأنه لو قتل حينئذ مباشرة لم يجب فيه شيء.
المالكية قالوا: يسقط القصاص عن الصبي، وعن المجنون الذي ارتكب الجناية حال جنونه،(5/275)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أما إذا ارتكب الجناية حال إفاقته، فإنه يقتص منه، فإن جن انتظر حتى يفيق، فإن لم يفق فالدية في ماله ولا قصاص، على السكران، وإن كان سكره بحلال، لأنه كالمجنون، فتجب الدية على عاقلته، كالمخطئ وإن كان سكر بحرام فهو مكلف، ولا يقتل الحبي قصاصاً بل يهدر دمه، لأن العصمة تكون بإيمان، أو أمان، ولا يقتل حر بذمي، ولا يقتل مسلم بذمي حر، لأن الإسلام أعلى من حرية الذمي، والأعلى لا يقتل بالأدنى، لأنه يشترط عندهم أن لا يكون القاتل زائداً حرية، أو إسلاماً عن المجني عليه، ولا قصاص علىقاتل الحربي، والمرتد لعدم العصمة عندهما.
مبحث في تغير حال المجروح من الجرح إلى الموت
الشافعية، والحنابلة - قالوا: في شأن تغيير حال المجروح من وقت الجرح إلى الموت بعصمة، أو حرية أو إهدار، أو غيره إذا جرح مسلم، أو ذمي، حربياً، أو مرتداً، أو عبد نفسه، فأسلم الحربي، أو المرتد، أو أمن الحربي، وعتق العبد، ثم مات بسراية الجرح، فلا ضمان بمال، ولا قصاص، لأن الجرح السابق غير مضمون.
وقيل: تجب دية مخففة اعتباراً بحال استقرار الجناية، والمراد دية حر مسلم، لأن كل جرح أوله غير مضمون لا ينقلب مضموناً بتغير الحال في الانتهاء، وإن كان مضموناً في أوله فقط فالنفس هدر، ويجب ضمان تلك الجناية، وإن كان مضموناً في الحالتين اعتبر في قدر الضمان الانتهاء، ويتبر في القصاص المكافأة عن الفعل إلى الانتهاء، وحينئذ فلو رمى مسلم، مرتداً، أو حربياً، أو عبد نفسه، فأسلم الحربي، أو المرتد، أو أمن الحربي، أو عتق العبد، ثم أصابه السهم، فلا قصاص قطعاً، لعدم المكافأة من أول أجزاء الجناية. والمذهب، وجوب دية مسلم اعتباراً بحال الإصابة، لانها حالة اتصال الجناية والرمي كالمقدمة التي تيسبب بها إلى الجناية، كما لو حفر بئراً، وهناك حربي، أو مرتد فأسلم ثم وقع فيها فإنه يضمنه، وإن كان عند السببب مهدراً، وعبد نفسه، اولى بالضمان منهما. لأنه معصوم مضمون بالكفارة.
والأصح في المذهب وجوب الدية مخففة، مضروبة على العاقلة، لانها دية خطأ، كما لو رمى إلى صيد فأصاب آدمياً، وقيل: دية شبه عمد، وقيل: عمد.
وعكس هذا، كما لو جرح حربي مسلماً ثم أسلم الجارح، أو عقدت له ذمة، ثم مات المجروح فلا ضمان على الصحيح، ولو ارتد المسلم المجروح والعياذ بالله ثم مات بالسراية مرتداً، وجارحه غير مرتد، فالنفس هدر، لا قود فيها، ولا دية، ولاكفارة، سواء أكان الجارح الإمام، أم غيره. لأنه لو قتل حينئذ مباشرة، لم يجب فيه شيء فكذا بالسراية، أما إذا كان جارحه مرتداً، فإنه(5/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يجب عليه القصاص، ولكن قصاص الجرح، إن كان مما يوجب القصاص، كالموضحة، وقطع الطرف، في الأظهر، لأن القصاص في الطرف منفرد عن القصاص في النفس فهو كما لو لم يسر.
وقيل: لا قصاص عليه، لأن الجراحة صارت نفساً، وهي مهدرة، فكذا الطرف أما لو قطع يد مسلم ثم ارتد، واندملت يده فله القصاص، وإن مات قبل استيفائه، يستوفيه، قريب المسلم لأن القصاص للتشفي، حتى ولو كان القريب ناقصاً، النظروا كماله ليستوفي حقه.
وقيل: يستوفي الإمام، لأن المرتد لا وارث له فيستوفيه الإمام، كما يستوفي قصاص من لا وارث له، وعلى الأول يجوز أن يعفو قريبه على مال، ياخذه الإمام لبيت المال فإن اقتضى الجرح للمرتد مالا كقطع طرف خطأ، وجب أقل الأمرين، من أرش الجرح، ودية النفس، لأنه المتيقن، فإن كان الأرش أقل كجائفة، لم يزد بالسراية في الردة شيء وإن كانت دية النفس أقل، كأن قطع يديه ورجليه، ثم ارتد ومات، لم يجب أكثر منهما لأنه لو مات مسلماً بالسراية لم يجب أكثر منهما.
وقيل: وجب ارشه بالغاً ما بلغ، ولو زاذ على الدية، ففي قطع يديه، ورجليه ديتان، وقيل: هذا الجرح هدر، فلا ضمان فيه، لأن الجراحة إذا سرت صارت قتلاً، وصارت الأطراف تابعة للنفس، والنفس مهدرة، فكذلك ما يتبعها.
هذا كله إذا طرأت الردة بعد الجرح، فلو طرأت بعد الرمي وقبل الإصابة. فلا ضمان بالاتفاق. أنه حين جنى عليه كان مرتداً.
ولو ارتد المجروح، ثم اسلم فمات بالسراية، فلا قصاص في الصح مطلقاً، لأنه انتهى إلى حالة لو ما فيها لم يجب القصاص، فصار شبهة دارئة للقصاص.
وقيل: إن قصرت الردة، بأن لم يض في الردة زمن يسري فيه الجرح، وجب القصاص، لانها إذا قصرت لم يظهر فيها أثر السراية، فإن طال الزمن، لم يجب القصاص قطعاً، وعلى القول الأول تجب الدية في ماله بكمالها لوقوع الجرح، والموت في حالة العصمة.
وقيل: يجب عليه نصفها، توزيعاً على حالتي العصمة والإهدار.
ولو جرح مسلم ذمياً، فاسلم، أو جرح عبداً لغيره فعتق، ومات بالسراية فلا قصاص على الجارح في الصورتين، لأنه لم يقصد بالجناية من يطافئه، فكان شبهة، وتجب دية حر مسل، لأنه كان مضموناً في الابتداء، وفي الانتهاء حر مسلم، فإن كان العبد كافراً وجب دية حر كافر، فإن اندمل الجرح، وبرئ ثم مات، فإنه يجب عليه ارش الجناية، ويكون الواجب في العبد لسيده، ودية العتيق إن مات بالسراية، ولم يكن لجرحه عليه أرش الجناية الواقعة في ملكه، ولا يتعين حقه فيها، بل للجاني العدول لقيمتها، وإن كانت الدية موجودة، فإذا تسلم الدراهم أجبر السيد على قبولها، فإن زادت دية العبد على قيمته، فالزيادة تكون لورثته، لأنها وجبت بسبب الحرية، ولو كان لجرحه أرش مقدر كأن قطع يد(5/277)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
عبد أو فقأ عينهن فعتق ثم مات بسراية، ووجب كمال الدية، فللسيد الأقل من الدية الواجبة، ومن نصف قيمته، وهو أرش العضو الذي تلف في ملكه لو اندملت الحراحة. لأن السراية لم تحصل في الرق، حتى يعتبر في حق السيدن فإن كانت الدية أقل فلا واحب غيرها، وإن كان نصف القيمة أقل فهو أرش الجناية الواقعة في ملكه.
وقيل: للسيد الأقل من الدية، ومن قيمته، ولو قطع يد العبد شخص فعتق، فجرحه آخران مثلاً كأن قطع أحدهما يده الأخرى والآخر إدى رجليه، ومات بسرايتهم فلا قصاص على الأول إن كان حراً لعدم المكافأة حال الجناية، ويجب على الآخرين قصاص الطرف قطعاً، وقصاص النفس على المذهب اهـ.
الحنفية: من رمى مسلماً، فارتد المرمي إليه والعياذ بالله ثم وقع السهم عليه، فيجب على الرامي الدية عند أبي حنيفة، وقال الصاحبان، لا شيء عليه، لأنه بالارتداد أسقط تقوم نفسه، وذلك ابراء للضامن، لأن من أخرج المتقوم عن التقوم سقط كالمغصوب منه، إذا اعتق المغصوب، فإنه صار مبرئاً للغاصب عن الضمان بإسقاط حقه، وصار به مبرأ، كما إذا أبرأه الرامي عن الجناية، أو حقه بعد الجرح، أي انعقاد سببه، وهو الرمي قبل أن يصيبه السهم.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى، أن الضمان يجب بفعله وهو الرمي إذ لافعل منه بعد: وماهو كذلك، فالمعتبر فيه وقت الفعل كالغضب، فيعتبر حالة الرامين والمرمي إليه فيها متقوم. واستوضح اعتبار وقت الرمي، بما إذا رمى صيداً ثم ارتد والعياذ بالله ثم أصاب، فإن ردته بعد الرمي لاتحرم، لأن فعله ذكاة شرعاً، وقد تم موجباً للحل بشرطهن وهو التسمية، وبما إذا كانت الجناية خطأ، فكفر بعد الرمي. قبل الإصابة فإنه صحيح، والفعل وإن كان عمداً، فالقود يسقط بالشبهة الناشئة من اعتبار حالة الإصابة. وجبت الدية في ماله، ولو كانت المسألة بالعكس، فلا شيء في قولهم جميعاً، وكذا إذا رمى حربياً فأسلم، ثم وقع به السهم، لأن الرمي ما انعقد موجباً للضمان لعدم تقوم المحل، فلا ينقلب موجباً لصيرورته متقوماً بعد ذلك.
وإن رمى عبداً فأعتقه مولاه ثم وقع السهم به فعليه قيمته للمولى عند أبي حنيفة وابي يوسف.
وقال محمد: عليه فضل ما بين قيمته مرمياً إلى غير مرمي، حتى لو كانت قيمته قبل الرمي ألف درهم، وبعده ثمانمائة درهم لزمه مائتا درهم، لأن العتق قاطع للسراية لاشتباه من له الحق، لأن المستحق حال ابتداء الجناية المولى، وحال الإصابة العبدن لحريته، فصار العتق بمنزلة البرء، كما إذا قطع يد عبد، أو جرحه، ثم أعتقه المولى، ثم سرى فإن العتق يقطع السراية، حتى لا يجب بعد العتق شيء من الدية والقيمة، وإنما يضمن النقصان، وغا انقطع بقي مجر الرمي وهو جناية ينتقص بها قيمة المرمي إليه، بالإضافة إلى ما قبل الرمي، فيجب ذلك.
ولهما: أنه يصير قتلاً من وقت الرمي لأن فعله الرمي وهو مملوك في تلك الحالة فتجب قيمته،(5/278)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بخلاف القطع والجرح، لأنه اتلاف بعض المحل، وأنه يوجب الضمان للمولى. وبعد السراية لو وجب شيء، لوجب للعبد فتصير النهاية مخالفة للبداية.
أما الرمي قبل الإصابة ليس بإتلاف شيء منه، لأنه لا أثر له في المحل، وإنما قلت الرغبات فيه فلا يجب به ضمان، فلا تتخالف البداية والنهاية، فتجب قيمته للمولى، ومن قضي عليه بالرجم فرماه رجل ثم رجع احد الشهود، ثم وقع به الحجرن فلا شيء على الرامي، لأن الممعتبر حالة الرمي وهو مباح الدم فيها اهـ.
المالكية قالوا: من رمى شخصاً مسلماً، فارتد المرمي والعياذ بالله ثم أصابه السهم، فلا شيء على الرامي، بل يكون دمه هدراً، ولا قصاص ولا دية عليه، لأن التلف حصل في محل لا عصمة له، فيكون هدراً، كما لو جرحه ثم ارتد ثم مات، وكما لو أبرأه بعد الجرح عن الجنايةن أو عن حقه، وكما لو أبرأه عن الجناية ثم اصابه السهم، وكما لو اعتق المالك العبد المغصوب يصير مبرئاً للغاصب عن الضمان لأنه يشترط في المجني عليه العصمة من وقت الضرب، أو الرمي بالسهم للموت، ولأنه بالارتداد أسقط تقوم نفسه، فيكون مبرئاً للرامي عن موجبه، كما إذا أبرأه عن حقه بعد القطع وقبل الموتن فإنه يكون هدراً ولا ضمان له، ولأن عدم وجب الضمان باعتبار أن الارتداد قاطع للسراية كالعتق، لا باعتبار أنه صار مبرئاً، وكذا تعتبر العصمة حالة الرمي، فمن رمى غير معصوم، أو أنقص منه برق أو كفر، فأسلم قبل الإصابة، أو عتق الرقيق، لم يقتص من الرامي، وأما من قطع يد معصوم مثلاًفارتد المقطوع، ثم مات من القطع مرتداً، فإنه يثبت القصاص في القطع فقط، لأنه كان معصوماً حال القطع.
مبحث في حكم الفعلين
الحنفية قالوا: ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمداً قبل أن تبرأ يده أو قطع يده عمداً ثم قتله خطأ، أو قطع يده خطأ فبرأت يده، ثم قتله خطأ، أو قطع يده عمداً فبرأت، ثم قتله عمداً، فإنه يؤخد بالأمرين جميعاً، فإن الصل فيه: أن الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن تتميماً للأول، لأن القتل في الأعم يقع بضربات متعاقبة، وفي اعتبار كل ضربة بنفسها بعض الحرج، إلا أن لا يمكن الجمع فيعطى كل واحد حكم نفسه، وقد تعذر الجمع فيهذه الصور، في الأولين، لاختلاف حكم الفعلين وضعاً موجباً، لأن احد الفعلين خطأ، والثاني عمد، وفي الآخرين متعذر الجمع أيضاً لتخلل البرء، فلا جمع اصلاً، لأن الفعل الأول قد انتهى، فا البرء قاطع للسراية، فيكون القتل بعده ابتداء، فلا بد من اعتبار كل واحد منهما، حتى لو لم يتخلل وقد تجانسا، بأن كانا خطأين، فإنه يجمع بين الأمرين بالإجماع، لإمكان الجمع، واكتفى بدية واحدة، حيث انفى المانع من الجمع، وهو تخلل البرء، والاختلاف.
وإن تجانسا عمداً، بأن كان قطع يده عمداً، ثم قتله عمداً، قبل أن تبرأ يده، فقد اختلف فيه.(5/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: الولي بالخيار بين أن يقطع ثم يقتل، وبين أن يكتفي بالقتل، وبين أن يكتفي بالقتل.
وقال الصاحبان: يقتل ولا تقطع يده لأن الجمع ممكن لتجانس الفعلين، وعدم تخلل البرء بينهما فيجمع بينهما.
وقال أبو حينفة: أن الجمع متعذر إما للاختلاف بين الفعلين هذين، لأن الموجب القود، وهو يعتمد المساواة في الفعلنوذك بأن يكون القتل بالقتل، والقطع بالقطع، وهو متعذر، أو لأن الحر يقطع إضافة السراية إلى القطع، حتى لو صدر من شخصين يجب الوقد على الحاز، فصار كتخلل البرء، بخلاف ما إذا قطع وسرى لأن الفعل وواحد، وبخلاف ما إذا كانا خطأينن لأن الموجب الدية، وهي بدل النفس، من غير اعتبار المساواة.
قال الإمام أبو حنيفة: ولأن أرش اليد إنما يجب عند استحكام أثر الفعل، وذلك بالحز القاطع للسراية، فيجتمع ضمان الكل، وضمان الجزء في حالة واحدة، وهي حالة الحز، وفي ذلك تكرار دية اليد، لأن ضمان الكل يشملها، والتكرار غير مشروع، فلا يجتمعان، أما القطع والقتل قصاصاَ يجتمعان لأن مبنى القصاص المساواة، وهي إنما تتحقق باجتماعهما، لأن العمد مبناه على التغليظ والتشديد، ولهذا تقتل العشرة بالواحد، وفي مراعاة صورة الفعل معنى التغليظ فيجوز اعتباره فيه، وأما الخطأ فمبناه على التخفيف ألا ترى أن الدية لا تتعدد بتعدد القاتلين، فاعتبار التغليظ فيه لا يكون مناسباً.
ومن ضرب رجلاً مائة سوط فبرأ من تسعين، ومات من عشرة، ففيه دية واحدة، لأنه لما برأ منها لا تبقى معتبرة في حق الأرش، وإن بقيت معتبرة في حق التعزير، فبقي الاعتبار للعشرة أسواط، وكذلك كل جراحة اندملت، ولم يبق لها أثر على أصل أبي حنيفة، وعند أبي يوسف في مثله حكومة عدل، وعن محمد أنه تجب أجرة الطبيب. وإن ضرب رجلا مائة سوط، وجرحته، وبقي له أثر تجب حكومة العدل لبقاء الثر والأرش إنما يجب باعتبار الأثر في النفس، بأن لم يبرأ وليس ذلك بموجود، بل الأثر هو الموجود، فإن لم يجرح في الابتداء فلا يجب شيء باتفاقن وإن جرح واندمل ولم يبق لها أثر فكذلك كما هو رأي أبي حنيفة رحمه الله، لأنه لم يكن إلا مجرد الألم، وهو لا يوجب شيئاً، كما لو ضربه ضرباً مؤلماً.
الشافعية، والحنابلة رحمهم الله - قالوا: إذا قطع الرجل يد شخص، ثم بعد القطع قتل الشخص القاطع، الشخص المقطوعة يده، فإنه يجب أن تقطع يد القاطع اولاً، ثم بعد القطع يجب أن يقتل حداً طلباً للمماثلة، قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .
وإن قطع رجل يد شخص آخر، فمات المقطوعة يده من ذلك القطع بسبب السراية، فقطع يد الرجل القاطع، فإن مات الجاني الذي قطعت يده بسبب السراية فالأمر ظاهر، وهو المطلوب من مراعاة القصاص، وإن لم يمت بقطع يده، قتل لتحقق الممالثلة بالقصاص.(5/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: ويجوز للولي أن ينتظر للولي أن ينتظر بعد القطع هل يموت سرايةن أم لا؟ فله بعد ذلك المبادرة إلى حز بقبته بالسيف قصاصاً، ويجوز له حزها ابتداء كما في المسألة الولى لا ستحقاقه له.
قالوا: لو جرح إنسان شخصاً جراحة واحدة، وجرحه شخص آخر بعد مائة جراحة، ومات بسبب الواحدة والمائة، وكانت تلك الجراحة الواحدة، والجراحات المائة لو انفردت كل منهما لقتلت، لزم صاحب الجراحة الواحدة، وصاحب المائة جراحة، القصاص مطلقاً سواء تواطآ على قتله معاً، أم لا؟ إذ رب جرح له نكاية في الباطن، اخطر من جروح متعددة، فإن كان فعل كل واحد منهما لا يقتل لو انفرد عن الآخر، لكنه له دخل في القتل. ففيه تفصيل، فإن تواطآ قتلا وإلا فلا يقتلان، وتجب عليهما الدية لأنه شبه عمد. وإن كان جرح أحدهما يقتل لو انفرد وجرح الآخر لا يقتل لو انفرد، لكن له دخل في القتل، فلك حكمه، فصاحب الأول يقتل مطلقاً والثاني يقتل إن كان متفقاً على قتله، وإن لم يكن متفقاً فلا يقتل، وتجب عليه حصته من الدية.
وأما إذا كان ضرب أحدهما خفيفاً، بحيث لا يؤثر في القتل اصلاً، كالضرب بطرف الثوب مثلاً، أو الضرب بسوط صغير، فإنه لا شيء على صاحبه، فلا دخل له في قصاص، ولا دية وموته موافقة قدر.
وأما إذا قطع الجاني الثاني بجنايته، جناية الأول، بأن يقطع الأول من المجني عليه يده، أو رجله مثلاً، ويقطع الثاني رقبته، أو يقده نصفين، فالأول جارحن عليه قصاص اليد أو الرجل، أو ديتها، والثاني قاتل، لأنه قطع جناية الأول، وأزهق روحه فيجب عليه القصاص دون الأول.
قالوا: إذا وجد من شخصين مجتمعين في زمن واحد فعلانن مزهقان للروح، بحيث لو انفرد كل منهما لامكن إحالة الإزهاق عليه، وهما مسرعان للقتل، كحز للرقبة، وقد للجثة، أو غير مسرعين للقتل، كقطع عضوين، وما منهما، فهما قاتلان في هذه الأحوال المذكورةن فيجب عليهما القصاص، وكذلك يجب عليهما الدية إذا وجبت لوجود السبب منهما، وإن لم يوجد الفعلان معاً في وقت واحد: بل ترتبا، بأن أنهاه رجل مثلاً، إلى حركة مذبوح وهي التي لم يبق معها ابصار، ولا نطق اختياري، ولا حركة اختيار، ويقطع بموته بعد يوم أو ايام، وتسمى حالة اليأس، وهي التي اشترط وجودها في حالة إيجاب القصاص وهي التي لا يصح فيها إسلام، ولا ردة، ولا شيء من التصرفات، وينتقل فيها ماله لورثته الحاصلين حينئذ، لا لمن حدث. ولو مات له قريبلم يررثه دون الحياة المستمرة، وهي التي لو ترك معها لعاش، ثم جنى ضخص آخر على المجني عليه، بعد الانتهاء لحركة مذبوح، فالأول منهما قاتل قطعاً، فيجب عليه القصاص أن كان القتل عمداً، والدية أن كان القتل خطأ، لأنه صيره إلى حالة الموت، والثاني يجب تقريره بما يراه الإمام، لهتكه حرمه الموت، كما لو قطع عضواً من شخص بعد موته.
وإن جنى الثاني منهما قبل الانتهاء إلى درجة مذبوح، بأن جرحه، أو قطع عضواً منه، فجاء الثاني بعده وحز رقبته، أو قعطه نصفين، وأزهق روحه، فالثاني قاتل بالاتفاق، ويجب عليه القصاص،(5/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لأن الجرح إنما يقتل بالسراية، وحز الرقبة، وقد الجثة بقعط اثنينن فتعين القتل منه ولا فرق أن يتوقع البرء من الجراحة السابقة، أو يتيقين الهلاك بها بعد يوم أو أيام، أيام، لأنه له في الحال حياة مستقرة، وقد عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوم إصابته، وهو في هذه الحالة الخطرة، وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بعده الذي عاهدهم به، ووصاياه التي أوصاهم بها، ويجب على الجاني الأول قصاص العضو المقطوع، أو مال بحسب الحال من عمد أو غيره، وإن لم يزفف الثاني أيضاً أي لم يصل به إلى الهلاك كأن قطع الأول يده من الكوع مثلاً، والثاني قطعهما من المرفق، ثم مات المجني عليه بسبب سراية القطعين فهما قاتلان بسبب السراية.
ولا يقال: أن أثر القطع الثاني أزال أثر القطع الأول، لأن الموت حدث بهما معاً.
قالوا: ولو قتل مريضاً وهو في حالة النزع الأخير، وعيشه عيش مذبوح، فإنه يجب عليه القصاص بقتله، لأنه يجوز أن يمد الله في أجله ويعيش، فإن موته غير محقق، لأن الآجال لا يعلمها إلا الله تعالى.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ولو انتهى المريض إلى سكرات الموت وبدت مخايله، فلا يحكم له بالموت. وإن كان يظن أنه في حالة المقدود.
وقرقوا بأن انتهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به، وقد يظن موته ثم يشفى، بخلاف المقدود ومن في معناه، ولأن المريض لم يسبق فيه فعل بحال القتلى وأحكامه عليه، حتى يهدر الفعل الثاني.
ولو جرح واحد شخصاً جرحين عمداً وخطأ، ومات بهما لم يجب عليه القصاص، لاختلاف وصف الفعلين، حيث أن أحد الجرحين عمد، والآخر خطأ، فاختلفا، أو جرحه جرحين مضموناً، وغير مضمون. كمن جرح حربياً، أو مرتداً، أو عبد نفسه، أو صائلاً، ثم اسلم المرتد، أو أمن الحربي، أو عتق العبد المجروح، أو رجل الحيوان الصائل، وجرحه الجاني بعد ذلك ثانياً ومات بالجرحين، فلا يجب عليه القصاص، في هذه الصور، أو جرح شخصاً بحق كقصاص، وسرقة، ثم جرحه بعد ذلك مرة ثانية عدواناً، أو جرح حربياً ثم أسلم، ثم جرحه ثانياً فمات بالسراية، لا يجب قتله في مثل هذه الأحوال.
أما في الحالة الأولى عمداً وخطأ فلأن الزهوق لم يحصل بالعمد المحض، فيجب عليه نصف الدية المغلظة في ماله خاصة، ويجب نصف الدية المخففة على عاقلته في الخطأ، وأما في باقي الصور، فلأن الموت حصل بمضمون وغير مضمون فغلب عليه مسقط القصاص، وثبت موجب الجرح الثاني من قصاص وغيره ولو وقعت إحدى الجراحتين بأمره للصبي غير المميز، أو المجنون الذي لا يفيق فلا يجب عليه القصاص، بل تجب نصف الدية على العاقلة، لأن عمد الصبي والمجنون خطأ، ولأن غير المميز يصبح كالآلة.(5/282)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولو داوى المجروح جرحه بسم قاتل في الحال، كأن شربه، أو وضعه على الجرح فلا قصاص، ولا دية على جارحه في لنفس، لأن المجروح قتل نفسه، فصار كما لو جرحه إنسان فذبح هو نفسه، أما الجرح الحادث، على الجارح ضمانه، سواء علم المجروح حال السم، أو لا.
وإن قتل غالباً، وعلم المجروح حاله، فشريك جارح نفسه، في أصح الطريقين، ويكون عليه القود في أظهر المذاهب، تنزيلاً لفعل المجروح منزلة العمد.
وقيل: هو شريك مخطئ، لأنه قصد التداوي فأخطأ، فلا قود على شريكه، أما لو قصد قتل نفسه بالسم ليستريح من الألم مثلاً، فهو شريك قاتل نفسه قطعاً، فلا قصاص، ولا دية، وإذا كان المجروح لا يعلم بالسم، فلا قصاص جزماً، لأنه شريك مخطئ، ولو خاط المجروح جرحه في لحم ولو تداويا خياطة تقتل غالباً ففي القصاص الطريقان، بخلاف ما لو خاطه في لحم ميت فإنه لا اثر له ولا للجلد كما فهم بالأولى، لعدم الإيلام المهلك، فعلى الجارح القصاص أو كمال الدية، ولو خاطه غيره بلا أمر منه، اقتص منه ومن الجارحن وإن كان الذي خاط الجرح حكماً لتعديه مع الجارح فإن خاطه الطبيب لصبي أو مجنون لمصلحة فلا قصاص عليه، ولو قصد المجروح أو غيره الخياطة في لحم ميت فوقع في لحم حي، فالجارح وشريك مخطئ، وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فوقع في اللحم، والكي فيما ذكر كالخياطة فيه، ولا أثر لدواء لا يضر، ولا نظر للقروح.
المالكية قالوا: إن تعدد مباشر على ما دون النفس بلا اتفاق منهم، وتميزت الجراحات، وعلم فعل كل واحد منهم، فيقتص من كل بقجر ما فعل، ولا ينظر لتفاوت العضو بالرقة والغلظ، وإذا اتفقوا فيجب أن يقتص من كل بقدر الجميع سواء تميزت الجراحات أم لا، قياساً على قتل النفس، فإن الجميع عند الاتفاق يقتلون بالواحد، أما إذا لم تتميز الجراحات عند عدم الاتفاق، فهل يلزمهم دية الجميع ولا قصاص؟ أو يقتص من كل بقدر الجميع، فإذا كانوا ثلاثة قلغ أحدهم عينه، والثاني قطع يده، والثالث قطع رجله، ولم يعلم من الذي فقأ العين، وقطع الرجل، وقطع اليد، والحال أنه لا تمالؤ بينهم، اقتص من كل بفقء عينه وقطع يده، وقطع رجله، وفيه نظر، فالأظهر الأول. إذا لم يقع الفعل من كل واحد.
وتندرج الأطراف في النفس، كقطع يد الطرف، ثم قتله فقط، أما إن كانت فإنه يندرج في النفس، أن تعمد الجاني قطع النفس، بل يجب عليه الدية للطرف، ثم الجناية على الطرف خطأ، فلا تندرج في يد أو رجل، أو فقء عين من شخص، ثم قتله القصاص.
هذا إذا كان الطرف المقطوع من المقتول.(5/283)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أما إذا كان الطرف لغير المقتول، كقطع يد شخص، وفقء عين آخر، وقتل رجل ثالث عمداً، فتندرج الأطراف في النفس، ولا تقطع يده، ثم يقتل.
قالوا: ومحل اندراج طرف المقتول في النفس إذا لم يقصد الجاني المثلة بالمجني عليه المقتول، فإن قصد المثلة به، فإنه يقتص منه للطرف، ثم يقتل بعد ذلك. وأما طرف غير المقتول، فإنه يندرج في القتل، ولو قصد الجاني المثلة بهم، على الرأي الراجح من المذهب.
قالوا: وكما تندرج الأطراف في النفس تندرج الأصابع إذا قطعت عمداً في قطع اليد عمداً بعدها، ما لم يقصد المثلة به، سواء كانت من يد من قطعت أصابعه، أو يد غيره، فإذا قطع اصابع شخص عمداً، ثم قطع كفه عمداً بعد ذلك، فقطع الجاني من الكوع.
ولو قطع أصابع رجل، ويد رجل آخر من الكوع، ويد ثالث من المرفق، قطع لهم من المرفق، إن لم يقصد المثيل به، فإن قصد المثلة بفعله السابق، لم يندرج في الصورتين بل تقطع أصابعه أولاً، ثم كفه بعد ذلك في الصورة الأولى.
وفي الصورة الثانية، تقطع أصابعه أولاً، ثم تقطع يده من الكوع للجناية الثانية، ثم تقطع يده من المرفق للجناية الثالثة، حتى يشعر بالألم الذي تسبب فيه لغيره، وتحصل المماثلة في القصاص.
قالوا: ويؤخر القصاص فيما دون النفس لعذر، كبرد، أو حر يخاف منه الموت على الجاني، لئلا يموت فيلزم اخذ نفس بدون نفس، وكذا يؤخر الجاني إذا كان مريضاً حتى يبرأ، ويؤخر القصاص فيما دون النفس حتى يبرأ الجروح، لاحتمال أن يموت بسبب السراية، فيكون الواجب القتل بقسامة، كدية الجرح الخطأ، فيؤخر إلى برء المجروح خوف أن يسري على النفس، فتؤخذ الدية كاملة، فإن برىء الجرح على غير شين، فلا دية، ولا أدب، لأنه لا يعتمد في الشرع، وإن برىء الجرح المقطوع على شين، فتجب حكومة عدلين، لهما معرفة بهذه الأشياء، فيقوم على فرض أنه رقيق، سالماً بعشرة مثلاً، ثم معيباً بتسعة مثلاً، فالتفاوت بين القيمتين هو العشر في المثال، فقد نقصت الجناية العشر، فيلزم الجاني بنسبة ذلك من الدية، كمائة دينار، وقيل: يجتهدان بالفكر فيما يستحقه المجني عليه، من الجاني.
مبحث إذا قطعت المرأة يد الرجل فتزوجها على الأرش
الحنفية قالوا: إذا قطعت المرأة يد رجل فتزوجها على أرش يده، فإما أن يقتصر القطع، أو يسرين فإن كان الأول صحت التسمية، ويصير الأرش وهو خمسة آلاف درهم مهراً لها بالإجماع، سواء كان القطع عمداً أم خطأ، وسواء تزوجها على القطع فقط أو عليه وعلى ما يحدث منه، لأنه لما برأ تبين أن موجبها الأرش دون القصاص لأنه لا يجري في الأطراف، بين الرجل، والمراة، والأرش يصلح صداقاً، وإن كان الثاني، ومات الرجل بسبب السراية، فإما أن يكون القطع خطأ، أو عمداً فإن(5/284)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
كان الأول فله مهر مثلها، والدية على العاقلة، وإن كان الثاني فلها ذلك، والدية في مالها عند أبي حنيفة حمه الله، لأن العفو عن اليد، إذا لم يكن عفواً عما يحدث منه عنده فالتزوج على اليد لا يكون تزوجاً على ما يحدث منه، فيكون ما لها من المهر غير ما عليها مما يحدث منه، ثم القطع إذا كان عمداً كان التزوج تزوجاً على القصاص في الطرف، وهو ليس بمال فلا يصلح مهراً، لا سيما على تقدير سقوط القصاص، فإنه إذا لم يصلح مهراً على تقدير ثبوته، لا يصلح على تقدير سقوطه بطريق الأولى، والقصاص يسقط ها هنا، إما بقبولها التزوج، لأن سقوطه متعلق بالقبول، فلما قبلت سقط، وإما بتعذر الاستيفاء، فإنه لما جعل القصاص مهراً جعل لها ولاية الاستيفاء ولا يمكن استيفاء القصاص عن نفسها، وإذا لم يصح القصاص ولا بدله مهراً، يجب مهر المثل وعليها الدية في مالها، لأن التزوج وإن كان يتضمن العفو، فتجب الدية، وتجب في مالها لأنه عمد، وإذا وجب لها مهر المثل وعليها الدية تقطع المقاصة إن كانا على السواء، وإن كان في الدية زيادة ترده على الورثةن وإن كان في المهر فضل يرده الورثة عليها، وإذا كان القطع خطأ يكون هذا تزوجا على أرش اليد، وإذا سرعى إلى النفس تبين أنه لا أرش لليد، وأن المسمى معدوم فيجب مهر المثل،
كما إذا تزوجها على ما في اليد، ولا شيء فيها، ولا يتقاصان لأن الدية تجب على العاقلة في الخطأ، والمهر حق لها، ولو تزوجها على اليد وما يحدث منها، أو على الجناية ثم مات من ذلك والقطع عمد، فلها مهر مثلها، لأن هذا تزوج على القصاص وهو لا يصلح مهراً. فيجب مهر المثل، وصار كما إذا تزوجها على خمر، أو خنزير، ولا شيء له عليها، لأنه لما جعل القصاص مهراً فقد رشي بسقوطه بجهة المهر، فيسقط أصلاً، وأن كان القتل خطأ يرفع عن العاقلة مهر المثل من جميع المال، لأنه مريض مرض الموت، والتزوج من الحوائح الأصلية، ولا يصح في حق الزيادة على مهر المثل، لأنه محاباة فيكون وصية، فيرفع عن العاقلة، لانهم يتحملون عنها فمن المحال أن ترجع عليهم بموجب جنايتها.
الشافعية رحمهم الله قالوا: لو وجب لرجل قصاص على امرأة، فنكحها على هذا القصاص. بأن جعله صداقاً لها صح النكاح، والصداق، أما النكاح فواضح، لأنه تام بأركانه وشروطه، وأما المهر، فلآنه عوض مقصود، وقيل: لا يصح، ويجب لها مهر مثلها.
وسقط القصاص، لتضمن ذلك العفو، لأنها ملكت قصاص نفسهأ فإن فارقها الرجل قبل الدخول بها، رجع عليها بنصف الأرش لتلك الجناية، لأنه بد ل ما وقع العقد به، كما إذا اصدقها تعليم سورة من القرآن الكريم، فعلمها ثم طلقها قبل الدخول بها، فإنه يرجع بنصف أجرة التعليم.
وفي قول نص عليه في كتاب (الأم) يرجع عليها بنصف مهر مثلها، بناء على القول الثاني. هذا في حالة ما إذا وجب عليها القصاص.(5/285)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أما إذا اوجبت الجناية مالاً، كالخطأ فنكحها على أرش الجناية التي ارتكبتها، فإن النكاح يصح دون الصداق، للجهل بالدية.
مبحث حكم دم من عليه قصاص
الشافعية، والحنابلة - قالوا: من وجب عليه قصاص فهو معصوم الدم على غير المستحق، كغيره من المسلمين، فإذا اعتدى عليه وقتله غير المستحق اقتص منه، لقوله تعالى في كتابه العزيز {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل} آية [33 من سورة الإسراء] فخص وليه بقتله، فدل على أن غير وليه لا سلطان له عليه، وذلك فيمن لم يتحتم فقله. أما إذا تحتم قتله لقطع طريق، فإن الصحيح أنه يقتل قصاصاً، ولو قتله المستحق لا يقتل له.
والزاني المسلم المحصن، إن قتله ذمي قتل به، لأنه لا تسلطله على المسلم، وإذا كان الذمي يقتل به، فالمرتد والمعاهد والمستأمن بالأولى، وإذا قتله مسلم غير زان محصن، فلا يقتل به في الأصح، لاستيفائه حد الله تعالى.
والرأي الثاني، أنه يجب عليه القصاص، لأن الاستيفاء للإمام، فأشبه ما لو قتل من عليه القصاص غير مستحقه، وعلى الأول لا فرق بين أن يقتله قبل أمر الإمام بقتله أم لا، ولا بين أن يثبت زناه بالبينة أم لا، ولا بين أن يكون قبل رجوعه عن الإقرار أم لا.
أما المسلم الزاني المحصنن إذا قتله فإنه يقتل بهن وتارك الصلاة عمداً بعد امر الحاكم بها، حكمه كالزاني المحصن.
المالكية رحمهم الله قالوا: إذا أتلف مكلف معصوماص، فالقصاص واجب لولي الدم عليه، لا لغير ولي الدم، لأن دم القاتل معصوم بالنسبة لغير ولي الدم، فإذا قتل غير ولي الدم قاتلاً لمعصوم، فإنه يقتص منه، لأن القود ثابت للولي فقط.
وليس للولي: تنفيذ القصاص إلا بإذن الإمام أو نائبه، وإن اقتص ولي الدم من القاتل بغير إذن الحاكم أدب لا فتياته على الإمام.
وقال علماء المالكية أيضاً: يجب على القاتل عمداً، إذا كان بالغاً عاقلاً ولم يقتص منه، لنحو فقو، أو صلح، ذكراً، أو أنثى، حراً، عبداً مسلماً، أو غير مسلم، يجب عليه جلد مائة، وحبس سنة كاملة، من غير تغريب واختلف في المقدم منها، فقيل يقدم الجلد، وقيل: الحبس، ولم يشطروها بالرق لعظم الخطر في القتل.
مبحث فيما يثبت موجب القصاص
الحنفية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله تعالى - قالوا: يثبت موجب القصاص من قتل، أو(5/286)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
جرح عمد، بإقرار أو شهادة رجلين، قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [آية 282] من البقرة. وقال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} آية [2 من سورة الطلاق] وقال عليه اصلاة والسلام (شاهداك، أو يمينه) ولا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص، قال الزهري: مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهداة النساء في الحدود والقصاص) .
وألحقوا به علو القاضي، ونكول المدعى عليه، وحلف المجعي فإنه يثبت بهما أيضاً، ويثبت موجب المال من قتل، أو جرح خطأ، أو شبه عمد، بغلإرار، وشهادة عدلين، وعلم القاضي، أو برجل وامرأتين أو برجل ويمين، لا بامرأتين، ويمين لقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} آية [282 من البقرة] .
وإنما يثبت المال برجل وامرأتين إذا اجعى به عيناً، فلوا ادعى القصاص فشهد له رجل، وامرأتان لم يثبت القصا، ولا تثبت الديةن لانها خاصة بالرجالن ولو عفا مستحق القصاص في جناية توجيه عن القصاص ليقبل المال وشهد له رجل وامرأتان، أو رجل ويمين، لم يحكم له بذلك، لأن المال إنما يثبت بعد ثبوت القصاص، ولم يثبت القصاص ليعتبر العفو.
وقيل: يقبل لأن القصد المال، ومحل الخلاف إن أنشأ الرجل الدعوى، والشهادة بعد العفو.
أما لو ادعى العمد، وأقام رجلاً وامرأتين ثم عفا عن القصاص على مال، وقصد الحكم له بتلك الشهادة، لم يحكم له بها قطعاص، لانها غير مقبول حين أقيمت فلم يجز العمل بها، كما لو شهد صبي، أو عبد بشيء، ثم بلغ الصبي، أو عتق العبد.
قالوا: لو شهد رجل وامرأتان بهاشمة قبلها إيضاحها لم يجب أرشها، لأن الهشم المشتمل على الايضاح جناية واحدة، وإذا اشتملت ما يوجب القصاص احتيط لها، فلا يثبت ألا بحجة كاملة، وهي رجلان.
ويجب على الشاهد أن يصرح بالمدعى به (بفتح العين) فلو قال الشاهد: ضرب المجنى عليه بسيف فجرحه فمات، لم يثبت هذا القتل المدعى به، لاحتمال أن يكون ما بسبب لآخر، حتى يقول الشاهد: فمات من جرحه، أو يقول: فقتله أو أنهر دمه، أو نحو ذلك، كضربه فمات مكانه، لينتفي الاحتمال المذكور، ولو قال الشاهد: ضرب الجاني رأس المجنى عليه فأدماه، أو ضرب رأسه مثلاً فأسال الضرب دمه، ثبتت بذلك دامية عملاً بقوله الذي قطعه، بخلاف ما لو قال: فسال دمه لم تثبت لاحتمال حصول السيلان بسبب آخر.
قالوا: ويشترط في الشهادة بالموضحة. أن يقول الشاهد: ضربه فأوضح عظم راسه لأنه لا شيء يحتمل بعده، وقيل: يكفي فأوضح راسه من غير تصريح بإيضاح العظم، ويجب على الشاهد بيان محل الموضحة وقدرها بالمساحة، أو بالإشارة اليها ليمكن فيها القصاص، وذلك إذا كان على(5/287)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
رأسه مواضح، فإن لم يكن برأسه إلا موضحة واحدة، وشهد الشاهد بأنه اوضح رأسه لم يثبت القصاص لجواز أنه كان على رأسه موضحة صغيرة، فوسعها غير الجاني.
قالوا: وثبت القتل بالسحر، بالإقرار من الساحر، فإن قال قتلته بسحري وهو يقتل غالباً يكون عمداً وعليه القصاص، وإن قال يقتل نادراً فشبه عمد، وإن قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه، فيكون خطأ، ويجب في هاتين الصورتين دية في مال الساحر لا على العاقلة، لأن إقراره لا يلزمهم، إلا أن تصدقه العاقلة، فتكون الدية عليهم.
المالكية رحمهم الله قالوا: يثبت الحق في القصاص، والجرح بالإرار، أو بشهادة رجلين عدلين، لأن كل ما ليس بمال، ولا آيل إلى المال لا يكفي فيه إلا عدلان، كالعتق، والعفة عن القصاص، وكشرب خمر، وقذف، وقتل، وجرح، وغير ذلك.
واشترطوا في صحة الشهدة عند الحاكم العدالة - والعدل، هو الحر، المسلم، البالغ، العاقل، بلا فسق، ولا حجر، ولا بدعة، ولا تأول، وأن يكون صاحب مروءة بترك شيء غير لائق من لعب بحمام، وشطرنج، وترك سماع غناء وترك سفاهة من القول، وترك صغيرة، وإن كان أعمى في القول، أو أصم في العقل، وشرط قبول شهادته، أن يكون فطناً، جازماً في شهادته بما أدى، غير متهم فيها.
فانرحع الشاهدان قبل الحكم، بعد الأداء تبطل الشهادة، ولا يعمل بها، ويؤدبان، أما إذا رجعا بعد الحكم، والاستيفاء في القتل فلا تبطل، بل يغرم الشاهدان دفع الدية، للمشهود عليه ويضمنان الدية، والعقل في القصاص في أموالها.
وقال أشهب: يقتص من الشاهدين إذا رجعا بعد الحكم والاستيفاء في القتل العمد لأنهما تسببا في قتل النفس بلا شبهة فيقتلان.
ويحكم بنقض الحكم بنقض الحكم إن ثبت كذبهم بعد الحكم، وقبل الاستيفاء، في القتل، والقطع، والحد، وإن علم الحاكم كذبهما في شهادتهما، وحكم بما شهدا به، من قتل، أو قصاص، اودية، سواء باشر الدم، أو لا، فإنه يقتص من الحاكم في هذه الحالة، ويجب على الحاكم دفع الدية من ماله خاصة، دون العاقلة.
فإن لم علم كذبهما، فلا ضمان عليه، وإن علم بقادح منهما.
قالوا: وسبب القسامة التي توجب القصاص في العمد، والدية في الخطأ، قتل الحر المسلم، سواء كان بالغاً، أو صبياً، قتل بجرح، أو ضرب، أو سم، بلوث - بفتح اللام، وسكون الواو - الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بأنه قتله، وذلك كوجود شاهدين عدلين على قول حر، مسلم، بالغ: قتلني، أو جرحني، أو ضربني فلان، وذكر اسم القاتل، حراً، أو عبداً، بالغاً، أو صبياً، ذكراً أو أنثى، أو قال: دمي عنده، سواء كان قول المسلم قتلني عمداً، أو خطأ، ففي العمد يستحقون بالقسامة(5/288)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
القصاص وفي الخطأ الدية، ولو كان القائل: قتلني فلان، فاسقاً، على اعدل أهل زمانه، واورعهم، فيقسمون ويقتل فيه.
أو ادعى الولد على أبيه أنه ذبحه، أو شق جوفه، أو رماه بحديد قاصداً قتله، فيقسمون ويأخذون الدية مغلظة.
وإن أطلق المقتول، ولم يبين بعمد ولا خطأ، بين أولياؤه أنه عمد، أو خطأ، وأقسموا على ما بينوا، وتبطل القسامة إن قالوا: لانعلم هنل القتل عمد أو خطأ، أو لانعلم من قتله، أو اختلفوا بأن قال بعض الأولياء قتله عمداً، وقال بعضهم: لا نعلم هل قتله عمداً، أو خطأ، فيبطل الدم، لانهم لم يتفقوا على أن وليهم قتل عمداً حتى يستحقوا القود، ولا على من قتله، فيقسمون عليه.
أو شهد عدلان على معاينة الضرب، أو معاينة الجرح خطأ أو عمداً، وتأخر موت المضروب، أما إذا لم يتأخر، فانهم يستحقون الدم، أو الدية بدون قسامة، لكونها شهادة على معاينة القتل، فيقسم أولياؤه لمن ضربه، أو جرحه، من الضرب مات، أو إنما مات منه، أو بشهادة عدل بمعاينة الضرب أو الجرح، عمداً أو خطأ، تأخر الموت أو لم يتأخر، يقسم الأولياء خمسين يميناً: لقد جرحه، أو ضربه، ومات من الجرح، أو الضرب، أو شهد عدل بإقرار المقتول، الحر، المسلم، البالغ العاقل، أن فلاناً جرحنين أو ضربني عمداً أو خطأ فشهادته لوث، يحلف الأولياء خمسين يميناً، لقد قتله أو شهد عدل برؤية المقتول يتحرك في دمه، والشخص المتهم بالقتل قريب منه، وعليه اثر القتل، ككون الآلة بيده ملطخة بدم أخارجاً من مكان المقتول وليس فيه غيره، فتكون شهادة العدل على ماذكر لوثاً، يحلف الأولياء، ويستحقون القود، أو الدية اهـ.
الشافعية - قالوا: لو أقر بعض الورثة لو كان فاسقاً، بعفو بعض منهم عن القصاص، سواء عينه، املا، سقط القصاص لأنه لا يتبعض، ولو أعترف بسقوط حقه منه، فيسقط حق الباقين، بخلاف الدية فإنها لا تسقط، وإن لم يعين العافي، فللورثة كلهم الدية، وإن عينه فأنكر فكذلك ويصدق بيمينه إنه لم يعف وإن أقر بالعفو مجاناً، أو مطلقا سثط حق من الدية، وللباقين حصتهم منها.
ويشترط لا ثبات العفو من بعض الورثة عن القصاص - لا عن حصته من الدية - شاهدان عدلان، لأن القصاص ليس بمال، وما لا يثبت بحدة ناقصة لا يحكم بسقوطه، اما إثبات العفو عن حصته من الدية، فيثبت بالحجة الناقصة أيضاً، من رجل وأمرأتين، أو رجل ويمين، لأن المال يثبت بذلك، فكذا أسقاطه، وخرج بقوله أقر، ما لو شهد، فإنه إن كان فاسقاً، أو لم يعين العافي فكالإقرار، وإن كان عدلاً، وعين العافي وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعاً بعد دعوى الجاني قبلت شهادته في الدية، ويحلف الجاني مع الشاهد الن العافي عفا عن الدية لا عنها وعن القصاص، لأن القصاص سقط بالإقرار فيسقط من الدية حصة العافي، وإن شهد بالعفو عن الدية فقط لم يسقط قصاص الشاهد.
ولو اختلف شاهدان في زمان القتل: كأن قال أحدهما قتله في الليل، وقال الآخر: قتله بالنهار، فاو اختلفا في مكان القتل: كأن قال أحدهما: قتله في المسجد، وقال الآخر: قتله في الدار، أو اختلفا.(5/289)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
في آلة القتل: كأن قال أحدهما: قتل بالسيف، وقال الآخر: قتله بالرمح، أو اختلفا في هيئة القتل: كأن قال أحدهما: قطع رقبته، وقال الآخر: شقه نصفين، سقطت شهاتهما في هذه الصورن ولا لوث بها، لأن كل واحج ناقض صاحبه.
وقيل: هذه الشهادة - لوث - فيقسم الولي، وتثبت الدية لا تفاقهما على أصل القتل، والاختلاف في الصفة بما يكون غلطاً أو نسياناً.
فإن قيل: لم لم يحلف على الأول مع من وافقه منهما، أو يأخذ البدل كنظيره من السرقة.
أجيب: بأن باب القسامة، أمره أعظم، ولهذا غلظ فيه بتكرير الأيمان.
هذا إذا شهد على الفعل، فلو شهد على الإقرار لم يضر اختلافهما في الزمان ولا في المكان، لأنه لا أختلاف في القتل وصفته: بل الاختلاف في الإقرار.
نعم: إن عينا يوماً، في مكانين متاعدين بحيث لا يصل المسافر من أحدهما إلى الآخر في الزمان الذي عيناه، كأن شهد أحدهما بأنه أقر بالقتل بمكة يوم كذا، والآخر أقر، بأنه قتله بمصر في تاريخ ذلك اليوم، فتلغو الشهادة ولا تقبل.
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا: من قتل وله ابنان حاضر وغائب، فأقام الحاضر البينة على القتل، ثم قدم الغائب فإنه يجب عليه أن يعيد البينة عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن استيفاء القصاص حق الوارث عنهده، ولأن القصاص طريق الخلافة دون الوراثة ألا ترى أن ملك القصاص يثبت بعد الموت، والميت ليس من أهله، بخلاف الدين، والدية، لأن الميت من أهل الملك في الأموال، كما إذا نصب شبكة في حياته فتعلق بها صيد بعد ممانه فإنه يملكه، وإذا كان طريقه الإثبات ابتداء لا ينتصب أحدهما خصماً عن الباقين، فيعيد البينة بعد حضوره، احتيالاً للدرء.
وقال الصاحبان: إذا حضر الغائب فلا يعيد إقامة البينة، لأن استيفاء القصاص حق المورث، فإن القصاص طريقه طريق الوارثة، كالدين، وهذا لأنه عوض عن نفسه، فيكون الملك فيه لمن له الملك في المعوض، كما في الدية، ولهذا لو انقلب مالاً يكون للميت، ويسقط بعفوه بعد الجرح قبل الموت، فينتصب احد الورثة خصماً عن الباقين، فلا يعيد البينة بعد حضوره. أما إذا كان القتل خطأ، وحضر الغائب فلا يجب عليه إعادة البينة بالاجماع، فإن أقام القاتل البينة أن القائب قد عفا عن القصاص، فالشاهد من اولياء الدم خصم له، ويسقط القصاص، لأنه ادعى على الحاضر سقوط حقه في القصاص، إلى مال، ولا يمكنه إثباته إلا بإثبات العفو من الغئب، فينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، وكذلك عبد بين رجلين قتل عمداً، واحد الرجلين غائب فهو على هذا، فإن كان الأولياء ثلاثة، فشهد اثنان منهم على الآخر اه قد فقا، فشهادتهما باطلة، وهو عفو منهما، لانهما يجران بشهادتهما إلى أنفسهما مغنماً، وهو انقلاب القود مالاً، فإن صدقهما القاتل فالدية بينهم أثلاثاً، لأنه لما صدقهما وحده، فقد أقر بثلثي الدية لهما، فصح إقراره إلا أنه يدعي سقوط حق المشهود عليه، وهو(5/290)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ينكر فلا يصدق، ويغرم نصيبه، وأما إن كذبهما القاتل فلا شيء لهما، وللغائب ثلث الدية، لانهما اقرا على أنفسها بسقوط القصاص فقبل، وادعيا انقلاب يصيبهما مالاً، فلا يقبل إلا بحجة، وينقلب نصيب المشهود عليه مالاً، لأن دعواهما العفو عليه، وهو ينكر بمنزلة ابتداء العفو منهما في حق المشهود عليه، لأن سقوط القود مضاف إليهما، وإن صدقهما المشهود عليه وحده غرم القاتل ثلث الدية للغائب المشهود عليه، لإقراره له ذلك.
قالوا: وإذا شهد الشهود أنه ضربه فلم يزل صاحب فراش حتى مات فيجب عليه القوج إذا كان القتل عمداً، لأن الثابت بالشهادة كالثاب معاينة، وفي ذلك القصاص - إذا شهدوا أنه ضربه بشيء جارح قصداً، - والشهادة على قتل العمد تتحقق على هذا الوجه، لأن الموت بسبب الضرب إنما يعرف إذا صار باضرب صاحب فراش حتى مات.
وإذا اختلف شاههدا القتل في الأيام بأن قال أحجهما: إنه قتله يوم السبت، وقال الآخر بأن القتل كان يوم الخميس.
أو اختلفا في البلد، بأن قال أحدهما: إن القتل كان في مكة، وقال الآخر بأنه ومع في الكوفة، أو اختلفا في الآلة التي كان بها القتل، بأن قال أحدهماك ضربه بسيف، وقال الآخر: ضربه بعصا. فالشهادة باطلة، ولا يعمل بها، لأن القتل لا يعاد ولا يكرر - والقتل في زمان، أو في مكان غير القتل في زمان أو مكان آخر - والقتل بالعصا غير القتل في زمان، أو في مكان غير القتل في زمان أو مكان آخر - والقتل بالعصا غير القتل بالسلاح، لأن الثاني عمد بالاتفاق، والاول شبه عمد، وتختلف أحكامهما، فكان على كل قتل شهادة فرد، وكذا إذا قال أحدهما: فإن المطلق يوجب الدية في ماله، والمقيد بالعصا يوجب الدية على العاقلة.
قالوا: وإن شهدا أنه قتله، وقالا: لا ندري باي شيء قتله، ففيه الدية استحساناً، والقياس أن لا تقبل هذه الشهادة لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، فجهل المشهود يسقط الشهادة لأن قولهم: لا ندري بأي شيء قتله، إما صادقون أو كاذبون، لعدم الواسطة بين الصدق والكذب وعلى كلا التقديرين يجب أن لا تقبل شهادتهما، لأنهما إن صجقا امته القضاء بها لاختلاف موجب السيف والعصا، وإن كذبا فكذلك لانهما صرا فسقة.
ووجه الاستحسان، انهم شهدوا بقتل مطلق، والمطلق ليس بمحمل فيجب اقل موجبه وهو الدية، ولأنهم جعلوا عالمين بأنه قتله بالسيف، لكنهم بقولهم: لا ندري، اختاروا حسبة الستر على القتل وأحسنوا إليه بالإحياء، وجعل كذبهم هذا معفواً عند الله لما جاء في الحديث الشريف (ليس كذاباً من يصلح بين اثنين) فبتأويلهم كذبهم بهذا لم يكونوا فسقة، فتقبل شهادتهم، فلا يثبت الاختلاف بالشك، وتجب الدية في مال، لأن الأصل في الفعل العمد، فلا يلزم العاقلة.
وإذا اقر رجلان كل واحد منهما بأنه قتل فلاناً، فقال الولي: قتلتماه جيمعاً، فله أن يقتلهما، وإن(5/291)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
شهدوا على رجل أنه قتل فلاناً، وشهدوا آخرون على آخر بقتله، وقال الولي: قتلتماه جيمعاً، بطل ذلك كله، والفرق أن الإقرار والشهادة يتناول كل واحد منهما وجوب كل القتل، ووجوب القصاص قد حصل التكذيب فيهما، غير أن تكذيب المقر له في بعض ما أقر به لا يبطل شهادته أصلاً، لأن التكذيب تفسيق، وفسق الشاهد يمنع القبل اهـ.
مبحث شهادة الشهود
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى: على أن الشخص لو شهد لمورثه بجرح قبل الاندمال لم تقبل شهادته للتهمة، لأنه لو ماب مورثه كان الأرش له، فكأنه شهد لنفسه، وهي شهادة غير مقبولة شرعاً، قالوا: إلا أن يكون على المجروح دين يستغرق تركته فتقبل شهادته لأنه لا يجر بذلك لنفسه نفعاً، وفيه نظر لأن الدين لا يمنع الإرث وبما يبرأ منه، ولا حتمال ظهور مال لمورثه، مخفياً.
قال الرافعي: وشهادتهم بتزكية الشهود كشهادتهم بالجرح.
والمراد بالشاهد الوارث غير اصله وفرعه، لأن شهادتهما لا تقبل مطلقاً للبعضية، قالوا: ولو شهد لمورثه بمال في مرض موته تقبل في الأصح موته تقبل في الأصح عند أكثر العلماء.
وقيل: لا تقبل كالجرح، وقد فرق (القارقي) بينهما بأنهما إذا شهدا بالمال لم يحصل لهما نفع حال وجوبه، لأن الملك يحصل للمشهودل له، وينفذ تصرفه فيه، في ملاذه وشهواتهن وإذا شهدا له بالجراحة كان النفع حال الوجوب لهما، لأن الدية قبل الموت لم تجب وبعده تجب لهما.
وفرق غيره، بأن الجرح سبب الموت الناقل للحق، فإذا شهد بالجرح فكأنه شهد بالسبب الذي ثبت به الحق، ههنا بخلافه.
قالوا: ولا تقبل شهادة العاقلة بفسق شهود قتل، أو قطع طرف خطأ، أو شبه عمد يحملونه وقت الشهادة، لأنهم يدفعون عن أنفسهم الغرم، فإن كانوا لا يحملونها وقت الشهادة نظرت، فإن كانوا من فقراء العاقلة فالنص ردها أيضاً، أو من أباعدهم، وفي الأقربين وفاء بالواجب، فالنيص قبولها، والفرق أن المال غاد ورائح، والغنى غير مستبعد، فتحصل التهمة، وموت الغريب كالمستبعد في الاعتقاد، فلا تحقق التهمة لمثله.
بخلاف ما إذا شهدوا بفسق بينة القتل العمد، وبينة الإقرار بالقتل، فإنها تكون مقبولة في هذه الحالة لعدم التهمة، إذ لاتحمل.
قالوا: ويشترط في الشهادة السلامة من التكاذب، فلو شهد اثنان على اثنين بقتل شخص، فشهد المشهود عليهما مبادرة على الأولين، أو غيرهما بقتله، فإن صدق الولي الأولين حكم بهما، لسلامة شهادتهما عن التهمة وسقطت شهادة الآخرين، لانهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما القتل(5/292)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الذي شهد به الأولان، والدافع متهم في شهادته ولو صدق الولي الآخرين، أو صدق الجميع، أو كذب الجميع بطلت الشهادتان في المسائل الثلاثة المذكورة - أما الأول فلآن في تصديق الآخرين تكذيب الأولين، وعداوة الآخرين لهما، وأما في الثانية، فلآن في تصديق كل فريق تذكيباً للآخر، وأما الثالثة فالأمر فيهما ظاهر، حيث كذب الطرفين.
قالوا: ولو أقر بعض الورثة - ول كان فاسقاً - بعفو بعض منهم عن القصاص، سواء عينه أو لا؟ سقط القصاص عن الجاني، لأنه لا يتبعض، ولو اعترف بسوقط حقه منه فيسقط حق الباقي في القصاص، أما الدية فإنها باقية لا تسقط، بل وإن لم يعين العافي، فللورثة كلهم الدية، وإن عينه، فأنكر فكذلك لا تسقط الدية، ويصدق بيمينه أنه لم عف، وإن أقر بالعفو مجاناً، أو مطلقاً سقط حقه من الدية، وثبت للباقين من الورثة حصتهم منها.
ويشترط لإثبات العفو من بعض الورثة عن القصاص، لا عن حصته من الدية شاهدان عدلان من الرجال، لأن القصاص ليس بمال، وما لا يثبت بحجة ناقصة لا يحكم بسقوطه، أما إثبات العفو عن حصته من الدية، فيثبت بالحجة الناقصة أيضاً، من رجل وامرأتين، أو رجل ويمين، لأن المال يثبت بذلك، فكذا إسقاطه.
وإذا شهد بعض الورثة بعفو بعضهم عن القصاص، فإن كان فاسقاً أو لم يعين العافي منهم فهو كالإقرار.
وإن كان عدلاً وعين العافي، وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعاً بعد دعوى الجاني قبلت شهادته في العفو عن الديةن ويحلف الجاني مع الشاهد، أن العافي عقا عن الدية لا عنها وعن القصاص، لأن القصاص سقط بالإقرار، فيسقط من الدية حصة العافي، وإن شهد بالعفو عن الدية، فسقط لم يسقط قصاص الشاهد.
قالوا: وإذا رجع شهود القصاص ضمنوا الدية، ولا قصاص عليهم، لأنه لم يوجد منهم القتل مباشرة، والتسبيب لا يوجب القصاص، كحافر البئر، بخلاف الإكراه، لأن المكره فيه مضطر إلى ذلك فإنه يؤثر حياته، وكذلك الولي فإنه مختار، والاختيار يقطع التسبيب، وإذا امتنع القصاص وجبت الدية، لأن القتل بغير حق لا يخلو عن أحد الموجبين، ولو شهدا بالعفو عن القصاص ثم رجعا لم يضمنا، لأن القصاص ليس بمال.
قالوا: وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا، لأن التلف اضيف إليهم، فإنهم الذين ألجؤوا القاضي، إلى الحكم، وإن رجع شهود الأصل، وقالوا: لم نشهد شهود الفرع، لم يضمنوا، لانهم أنكروا التسبيب، وهو الاشهاد والقضاء ماض لأنه خبر محتمل.
ولو قالوا: أشهدناهم وغلطنا، فلا ضمان عليهم، لأن القضاء وقع بما عابثه من الحجة وهي شهادة الفروع فيضاف إليهم اهـ.
-(5/293)
مبحث الجناية على الأطراف.
-أما الجناية على الأطراف من يد، أو عين، أو سن، فقد جعلت الشريعة الإسلامية، عقوبتها القصاص أيضاً، بمعنى أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل جزاء وفاقاً، ولكن يشترط المماثلة بين العضوين، فلا تفقأ عين عوراء، في نظير عين سليمة، ولا يقطع لسان أخرس، في لسان متكلم، ولا تقطع يد عاطلة بيد عاملة، ونحو ذلك مما هومبين في محله (1) وهذا هو العدل المطلق، فإن الذي يعتدي على إتلاف عضو إنسان لا جزاء له إلا أن يتلف منه ذلك العضو، كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} آية [40 من سورة الشورى] .
__________
(1) (اتفق الأئمة الأربعة: على أن من أتلف نفساً فعليه دية كاملة، وفي مارن الأنف وهو ما لأن دون العظم، ويسمى أرنبة الأنف تجب دية كاملة، لأن فيه جمالاً ومنفعة، وهو مشتمل على الطرفين المسمييين بالمنخرين، وعلى الحاجز بينهما، وتندرج حكومة قصبته في ديته فلا يزاد على دية واحدة، لأنه عضو واحد، وفي قطع اللسان الدية لفوات منفعة مقصودة، وهو النطق ولو كان اللسان لألكن، وهو من في لسانه لكنة، أو أعجم، ول لسان أرت، ولو لسان ألثغ - بمثلثة - ولو لسان طفل لم ينطق، ولأن فيه جمالاً ومنفعة يتميز بها الإنسان عن البهائم في البيان والعبارة، عما في الضمير، وفيه ثلاث منافع: الكلام، والذوق، والاعتماد في أكل الطعام، وإدارته في اللهوات حتى يستكمل طحنه بلأضراس، فتجب فيه دية كاملة، وفي إبطال الصوت مع إبقاء اللسان دية كاملة.
وقيل: شرط الدية في قطع لسان الطفل الصغير، ظهور أثر نطق بتحريكه لبكاء، أو مص للثدي، لانها أمارات طاهرة على سلامة اللسان، فإن لم يظهر فحكومة، لأن سلامته غير متيقنة، والأصل براءة الذمة، ولو قطع نصف لسانه فذهبب ربع كلامه أو عكس فنصف الدية، وإن شل اللسان فديتان، وقيل: دية.
وإذا كان اللسان المقطوع عديم الذوق، أو كان أخرساً، تجب فيه حكومة عدل، وتجب الدية كاملة إذا قطع بعض اللسان، ومنع الكلام، لتفويت منفعة مقصودة، وإن كانت الآلة قائمة، ولو قدر على التكلم ببعض الحروف. قيل: تقسم على عدد حروف الهجاء، وقيل على عدد حروف تتعلق باللسان فبقدر ما لا يقدر عليه تجب ديته.
وربما يقال: إن ذلك الجزاء تكثير لرباب العاهات بين أفراد الأمة، فبعد أن كان الناقس، هو المعتدي ناقصاً مثله، وذلك ضار بقوة الأمة وبهيبتها.
وقيل: إن قدر على أداء أكثرها تجب حكومة عدل لحصول الإفهام مع الاختلال، وإن عجز عن أداء الأكثر يجب كل الدية، لأن الظاهر أنه لا تحصل منفعة الكلام، وقد روي أن رجلاً قطع طرف(5/294)
والجواب: أن في هذا القصاص تقليلاً لأرباب العاهات - لا تكثيراً - بل في القصاص قضاء على الجريمة، من أصلها، كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} آية [179 من سورة البقرة] .
لأن الذي يوقن بالجزاء المماثل، ويعلم أنه إذا اعتدى على عضو من أعضاء بدن غيره قطع مثله منه، فإنه يحجم عن ارتكاب الجريمة بتاتاً، وبذلك يرتفع العدوان، فلا يوجد ذو عاهة أصلاً، لا معتد، ولا معتدى عليه.
__________
لسان رجل في زمان الإمام على كرم الله وجهه فأمره أن يقرأ - ا، ب، ت، ث - فكلما قرأ حرفاً أسقط من الدية بقدر ذلك، ومالم يقرأ أوجب من الدية بحسبانه، وحروف اللسان ثمانية عشر حرفاً في لغة العرب، وحروف الحلق وهي ستة، وحروف الحلق وهي ستة، وحروف الشفة وهي أربعة.
وفي قطع الذكر تجب الدية كاملة، وكذلك الحشفة، وهي رأس الذكر إذا قطعها عليه دية كاملة ولو كان الذكر لصغير، وشيخ كبير، وخصي، وعنين، لإطلاق الحديث الوارد في ذلك.
وعند أكثر الفقهاء: أن في ذكر الخصي والعنين حكومة.
والأصل فيه ما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال (في النفسن الدية، وفي اللسان الدية، وفي المارن الدية) وهكذا في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه (روى أبو داود في المراسيل عن ابن شهاب قال: قرأت في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، رواه النسائي) . ولأن ذكر الخصي سليم وهو قادر على الإيلاج، وإنما الفائت الإيلاد، والعنة عيب في غير الذكر، لأن الشهوة في القلب والمني في الصلب، وليس الذكر بمحل لواحد منهما: فكان سليماً من العيب، والحشفة كالذكر، لأن ما عداها من الذكر كالتابع لها، كالكف مع الأصابع، لأن معظم منافع الذكر وهو لذة المباشرة تتعلق بها، وأحكام الوطء تدور عليها، من قطع بعضها يجب بقسطه منها، لأن الدية تكمل بقطعها فقسطت على أبعاضها.
وقيل: يجب بقسطه مع كل الذكر، لأنه المقصود بكمال الدية، أما الذكر الأشل ففيه حكومة عدل، وذكر الخنصى ففيه نصف دية، ونصف حكومة.
والأصل في الأطراف أنه إذا فوت جنس منفعة على الكمال، أو أزال جمالاً مقصوداً في الآدمي على الكمال، يجب كل الدية، لإتلافهكل النفس من وجه، وهو ملحق بالإتلاف من كل وجه تعظيماً للآدمي، فإن كان جنس المنعفة، أو الكمال قائماً بعضو واحد فعند إتلافه يجب كمال الدية، وإن كان قائماً بعضوين، ففي كل واحد منهما نصف الدية، وإن كان قائماً بأربعة أعضاء ففي كل واحد منها ربع الدية، وإن كان قائماً بعشرة أعضاء، ففي كل واحد منها عشر الدية، وإن كان قائماً بأكثر ففي كل واحد منها نصف عشر الدية، كقطع أنملة إبهام الأصبع مثلاً.(5/295)
أما الذي يعلم أن نتيجة عدوانه عقوبة بالسجن القليل، فإنه لا يبالي بتكرار فعله مع كثيرين، فيزيد أرباب العاهات والمجرمون معاً، على أن السجن إذا طال أمده فإنه يكون من شر الآفات التي تقضي على حياة المجرم، فإنه يصبح عاطلاً مستهتراً بالجرائم، كما هو مشاهد في كثير من متعودي الإجرام والسجون فمتى أمكن القصاص بالتساوي بين العضوين، كان من العدل أن يقتص من الجاني بمثل جنايته، وإن لم يمكن كان للحاكم أن يعزره بما يراه زاجراً له عن العودة، ورادعاً للأشرار عن ارتكاب الجرائم. على أنك قد عرفت أن القصاص في نظر الشريعة الإسلامية حق المعتدى عليه، فله أن يصطلح مع خصمه على مال أو غيره، أو يعفو عنه.
فإذا رأى الحاكم أن العفو يترتب عليه ضرر بالأمن، فله أن يتخذ الوسائل التي يراها لصيانة الأمن.
__________
وفي قطع الذكر فاتت على الشخص منفعة الوطء، والإيلاد، واستمساك البول، والرمي به عن جسده، وفق الماء، والإيلاج الذي هو طريق الاعلاق عادة، وغير ذلك، وإن شق الذكر طولاً، فأبطل منفعته وجبت فيه دية كاملة، كما لو ضربه على ذكره فأشله، وإن تعذر بضربه الجماع به، لا الانقباض والانبساط فتجب حكومة عد، لأنه ونفعته باقيان والخلل في غيرهما، فلو قطعه قاطع بعد ذلك، فعليه القصاص، أو كمال الدية.
وفي العقل إذا ذهب بالضرب عمداً، أو خطأ دية كاملة، وقد قضى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بذلك، ولفوات منفعة الإدراك إذ به ينتفع بنفسه في معاشه ومعاده، وذلك إذا لم يرج عوده بقول أهل الخبرة في مدة يظن أنه يعيش إليها، كما جاء في خبر عمرو بن حزم.
وقل أبن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على ذلك، لأن العقل أشرف المعاني، والأعضاء، وبه يتميز الإنسان عن البهائم، ويعقله عن الوقوع في الدنايا، والمراد العقل الغريزي الذي به التكليف دون المكتسب الذي به حسن التصرف، ففيه حكومة، فإن رجي عوده في المدة المذكورة انتظر، فإن عاد فلا ضمان، كما في سن من لم ينفر، وفي إزالة بعضه بعض الدية بالقسط إن ضبط بزمان كأن كان يجن يوماً، ويفيق يوماً، أو بغيره، كأن يقابل صواب قوله، وفعله بالمختل منهما، وتعرف النسبة بينهما، فإن لم ينضبط فحكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، فإن ما في أثناء المدة المقدر عوده فيها وجبت ديته كاملة، ولا يجب القصاص فيه للاختلاف في محله، فقيل محله - القلب - وقيل: الدماغ وقيل: مشترك بينهما، والأكثرون على الأول، وقيل: مسكنه الدماغ وتدبيره القلب، ويسمى عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ولا يراد شيء على دية العقل أن زال بما لا أرش له، كأن ضرب رأسه، أو لطمه لكن يجب تعذيره في الأصح.
فإن زال العقل الغريزي بجرح له أرش مقدر كالموضحة، أو حكومة كالباضعة، وجبت الدية(5/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والأرش، أو الدية والحكومة معاً، ولا يندرج ذلك في دية العقل لأنها جناية أبطلت منفعة غير حالة في محل الجناية، فكانت كما لو أوضحه فذهب سمعه، أو بصره، وكما لو انفردت الجناية عن زوال العقل، وعلى هذا لو قطع يديه وجليه، فزال عقله بذلك لزمه ثلاث ديات.
ولو ادعى ولي المجنون زوال عقل المجني عليه، وأنكره الجاني، ونسبه إلى التجانن، اختبر في عقله، فإن لم ينتظم قوله، وفعله في خلواته فتجب له دية بلا يمين، وهذا في المجنون المطبق، أما المجنون المنقطع فإنه يحلف في زمن إفاقته، فإن انتظم قوله وفعله حلف الجاني، لاحتمال صدور المنتظم اتفاقاً، أو جرياً على العادة، والاختيار لا يقدر بمدة، بل إلى أن يغلب على الظن صدقه، أو كذبه، ولا بد في سماع دعوى الزوال، من كون الجناية تحتمل زوال العقل. وإلا لم تسمع الدعوى، كحصول الموت بصعقة خفيفة وفي إزالة السمع تجب دية كاملة، لخبر البيهقي (في السمع الدية) ونقل أبن المنذر فيه الإجماع ولأنه من اشرف الحواس، فكان كالبصر، بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء، لأن به يدرك الفهم، ويدرك من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من جهة المقابلة، وبواسطة من ضياء أو شعاع، وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر عليه، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات، والبصر يدرك الأجسام والألوان، والهيئات فكان أشرف منه، ولا بد في وجوب الدية من تحقق زوال السمع، فلو قال أهل الخبر: يعدو وقدروا له مدة لا يستبعد أن يعيش إليها انتظرت، فإن استبعد ذلك، أو لم يقدروا مدة أخذت الدية في الحال. وإن قالوا: لطيفة السمع باقية في مقرها، ولكن انسد منفذ السمع، والسمع باق وجبت فيه حكومة.
وقيل: يعتبر في طريق معرفة السمع الدلائل الموصلة إلى ذلك، فإن لم يحصل العلم بذلك يعتبر في الدعوى والإنكار، فطريق معرفة السمع أن يتغافل وينادى عليه، فإن أجاب على أنه يسمع، ولا دية له.
حكى الناطفي عن أبي حازم القاضي أن امرأة تطارشت في مجلس حكمه، فاشتغل بالقضاء عن النظر إليها، ثم قال لها فجأة، غطي عورتك، فاضطربت وتسارعت إلى جمع ثيابها وظهر مكرها، وفي إزالة السمع من أذن واحدة يجب نصف الدية، وفي قطع الأذنين الشاخصتين الدية لأن فيهما تمام الجمال، ولو أزال أذنيه وسمعه فتجب ديتان، لأن محل السمع غير محل القطع فلم يتداخلا، لو ادعى المجني عليه زوال السمع من أذنيه، وكذبه الجاني، وانزعج للصياح في قوم، وغفلة فكاذب، لأن ذلك يدل على التصنع ولا بد من تحليف الجاني، وإن سمعه لباق، لاحتمال أن يكون انزعاجه اتفاقاً من غير سمع، وإن لم ينزعج المجني عليه بالصياح ونحوه، فصادق في دعواه، وتجب له الدية كاملة.
وإن نقص سمع المجني عليه فقسط النقص من الدية إن عرف قدر ما ذهب، بأن كان يسمع من مكان كذا فصار يسمع من قدر نصفه مثلاً، وطريق معرفة ذلك أن يحدثه شخص ويتباعد إلى أن يقول: لا أسمع فيعلي الصوت قليلاً، فإن قال: أسمع عرف صدقه، ثم يعمل كذلك من جهة أخرى، فإن اتفقت المسافتان ظهر صدقه، ثم ينسب ذلك من مسافة سماعه قبل الجناية إن عرف، ويجب بقدره من(5/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الدية، فإن كان التفاوت نصفاً وجبت الدية، وإن لم يعرف قدره بالنسبة، فتجب فيه حكومة عدل، باجتهاد قاض.
ولو قال المجني عليه: أنا أعرف قدر ما ذهب من سمعي، صدق بيمينه، لأنه لا يعرف إلا من جهته، وإن نقص سمع المجني عليه من أذن واحدة سدت هذه الناقصة، وضبط منتهى سماع الآخرين ثم عكس. ويؤخذ قسط التفاوت من الدية، فإن كان بين مسافة السمعية، والأخرى النصف فله ربع الدية، لأنه أذهب رع سمعه، وإن كان الثالث، فيجب عليه سدس الدية، وهكذا.
فإن لم ينضبط فالواجب حكومة عدل.
وفي ذهاب بصر كل عين، صغيرة، أو كبيرة، حادة، أو كحلة، صحيحة أو عليلة، عمشاء أو حولاء، من شاب، أو شيخ أو طفل، حيث البصر سليم يجب نصف الدية، وفي العينين الدية كاملة لأن البصر من المنافع المقصودة في الحياة، وقد روي أن عمر رضي الله عنه قضي بأربع ديات في ضربة واحدة ذهب بها العقل والكلام والسمع والبصر، وإن ادعى المجني عليه زوال بصره، أنكر الجاني، سئل أهل الخبرة بذلك عدلان منهم مطلقاً، أو رجل وامرأتان أن كان خطأ، أو شبه عمد، فانهم إذا أوقفوا الشخص في مقابلة عين الشمس، ونظروا في عينه عرفوا أن الضوء ذاهب أو موجود، بخلاف السمع لا يراجعون فيه، إذ لا طريق لهم إليه، أو يمتحن المجني عليه بتقريب عقرب، أو حديدة محماة، أو نحو ذلك من عينه بغتة، ونظر هل ينزعج أم لا؟ فإن انزعج صدق الجاني بيمينه، وإلا فالمجني عليه بيمينه، وإن نقص ضوء المجني عليه، فحكمه كنقص السمع، فإن عرف قدر النقص بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصفها مثلاً، فقسطه من الدية، وإلا فحكومة عدل، فإن نقص بعض ضوء عينه عصبت ووفق شخص في موضع يراه، ويؤمر أن يتباعد حتى يقول: لا أراه، فتعرف المسافة ثم تعصب الصحيحة، وتطلق العليلة، ويؤمر الشخص بأن يقرب راجعاً إلى أن يراه، فيضبط ما بين المسافتين، ويجب قسطه من الدية، فإن أبصر بالصحيحة من مائتي ذراع مثلاً، وبالأخرى من مائة فالنسف، نعم لو قال أهل الخبرة، أن المائة الثانية تحتاج إلى مثلي ما تحتاج إليه المائة الأولى لقرب وبعد الثانية، وجب ثلثا دية العليلة، وإن أعشاه لزمه نصف دية، وإن أعمشه، أو أخفشه،، أو أحوله، أو أشخص بصره، فالواجب حكومة، ومن بعينه بياض لا ينقص الضوء ففي قلعها نصف دية.
(حادثة) .
سئل أبن الصلاح عن رجل أرمد أتى امرأة بالبادية تدعي الطب لتداوي عينه، فكحلته فتلفت عينه، فهل يلزمها ضمانها؟ فأجاب: إن ثبت أن ذهاب عينه بتداويها فعلى عاقلتها ضمانها، فإن لم يكن لها عاقلة، فإن تعذر فعليها في مالها، إلا أن يكون الرمد أذن لها في المداواة بهذا الدواء المعين فلا تضمن، ويقاس على هذا حالة المريض مع الأطباء في هذا الزمان.
ومن أزال الشم من المنخرين بجناية على رأسه تجب عليه دية كاملة، كما جاء في خبر عمرو بن(5/298)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حزم، لأنه من الحواس النافعة، فتكمل فيه الدية كالسمع، وفي إزالة شم منخر واحد نصف الدية، ولو نقص الشم وجب بقسطه من الدية، إذا أمكن معرفته، وإن لم يمكن فالحكومة.
ولو أنكر الجاني زوال الشم من المجني عليه، امتحن في غفلاته بالروائح الحادة، فإن هش للطيب، وعبس لغيره حلف الجاني لظهور كذب المجني عليه، ولا يستحق ضماناً، وإن لم يهش للطيب، ولم يتأذ من الكريه، حلف المجني عليه لظهور صدقه مع أنه لا يعرف إلا منه، وفي إبطال حاسة الذوق، الذي هو وقوة في اللسان يدرك بها الطعم، تجب دية كاملة، لأنه أحد الحواس الخمس، فأسبه الشم، واختلف في محله هل هو في طرف الحلقوم، أو في اللسان؟ ذهب أكثر أهل العلم إلى القول الثاني، وقالوا: إنه المشهور وعليه الحكماء، لكنهم يقولون: هو قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم بمخالطة اللعابية التي في الفم بالمطعوم ووصولها للعصب، وقال أهل السنة: إن الإدراك المذكور بمشيئة الله تعالى - يعني أن الله تعالى يخلق ما ذكر عند المخالطة المذكورة، وعلى هذا القول فينبغي أن يكون كالنطف مع اللسان، فتجب فيه دية واحدة للسان، لأن الذوق يدرك به حلاوة، وحموضة، ومرارة، وملوحة، وعذوبة، وتوزع الدية على هذه الأنواع الخمسة، فإذا أبطل إدراك واحدة منهن وجب فيها خمس الدية، وهكذا.
وإن نقص الإدراك نقصاً لا تقدر، بأن يحس بمذاق الأنواع الخمس لكن لا يدركها على كمالها فتجب في ذلك النقص حكومة عدل. وتختلف بقوة النقصان وضعفه، وإن عرف قدره فقسطه من الدية.
ولو اختلف الجاني والمجني عليه في ذهاب الذوق امتحن بالأشياء المرة ونحوها كالحامض الحاد. الذي لا يصبر عليه عادة. فإن ادعى النقص صدق بيمينه، وإن تألم وعبس صدق الجاني بيمينه.
قالوا: وتجب الدية في إبطال المضغ كأن يجني على أسنانه فتخدر، وتبطل صلاحيتها، للمضغ، وتفسد اللثة، لأنه المنفعة العظمى للأسنان وفيها الدية، فكذا منفعتها كالبصر مع العين، والبطش مع اليد.
وتجب الدية فإبطال قوة الإمناء بكسر صلب، لقوات المقصود، وهو النسل، بخلاف انقطاع اللبن بالجناية على الثدي، فإن فيه حكومة، لأن الرضاع يطرأ ويزول، وقيل فيه الدية كاملة، واستعداد الطبيعة للإمناء صفة لازمة للفحول، ولأن إبطال قوة الامناء موت للرجل أدبياً ومعنوياً. فتجب الدية.
وتجب الدية في إبطال قوة الحبل من المرأة لقوات النسل، فيكمل فيه ديتها لانقاطع النسل، وتجب الدية في إبطال قوة الحبل من الرجل أيضاً بأن يجني على صلبه، فيصير منيه فاسداً لا يحبل، وتجب الدية في ذهاب جماع من المجني عليه، بجناية على صلبه مع بقاء مائه، وسمة ذكره، فيطل التلذذ بالجماع لأن ذلك من المنافع المقصودة. وقد ورد الأثر فيه عن الخلفاء الراشدين، وإن ضربه(5/299)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ضربة شديدة على صلبه فأبطل إنعاظه فتجب الدية، ولا تندرج فيه دية الصلب وإن كانت قوة الجميع فيه، فلو كسر صلبه، فأبطل إنعاظه فعليه ديتان، لأن كل جناية غير الأخرى، وفي إفضاء المرأة بجناية عمداً أو شبه عمد، أو خطأ بوطء أو بغيره، من الزوج، أو غيره، تجب ديتها كاملة، لفوات المنفعة الجماع أو اختلالها، لأنه يقطع التناسل منها، ويسبب لها العقم، لأن النطفة لا تستقر في محل العلوق لا متزاجها في البول، فأشبه قطع الذكر، والإقضاء حاجز ما بين مدخل ذكر، ودبر، فيصير سبيل جماعها وغائطها واحداً، إذ به تفوت المنفعة الكلية.
وقيل: الإفضاء: رفع ما بين مدخل ذكر، وجبر، فيصير سبيل جماعها وبولها واحداً، لأن ما بين القبل والدبر قوي لا يرفعه الذكر، وبينهما عظم لا يتأتى كسره.
المالكية - قالوا: يجب في الإفضاء حكومة، بأن يقوم ما عليها عند الأزواج بأن يقال: ما صداقها على أنها غير مفضاة، وما صداقها على أنها مفضاة، فيغرم النقص، ثم إن كان الفعل من الزوج فيلحق بالخطأ. لأذن الشارع في الفعل بالجملة، فإن بلغ الثالث على العاقلة، وإلا ففي ماله خاصة ولا يندرج الإفضاء تحت مهر، بل يغرم الحكومة مع الصداق زوجاً، أو أجنبياً غصبها ووطئها، بخلاف إزالة البكرة من الزوج، أو الغاصب فإنه لا يغرم للبكارة شيئاً زائداً على الصداق الذي دفعه، لأنه لا يمكن الوطء إلا بإزالتها، فهي من لواحق الوطء، بخلاف الإفضاء، فإنه منهي عنه، إلا إذا أزال البكارة بإصبعه، فإن الحكومة فيها لا تندرج في المهر، زوجاً، أو أجنبياً، فيجب على الأجنبي حكومة، ولو لم يطأها، وهي مع المهر إن وطئ، أما الزوج فيلزمه أرش البكارة التي أزالها بالإصبعه مع نصف الصداق، إذا طلقها قبل البناء بها، فإن دخل بها وطلقها بعد البناء فتدرج في المهر، فإن أمسكها فلا شيء عليه، وإزالة البكارة بالإصبع جرم فيؤدب الزوج عليه.
قالوا: وتجب الدية إذا فعل فعلاً أحدث في بدنه جذاماً - وهو داء يأكل الأعضاء، أو احدث تبريصة - وهو نوع من البرص - أو تسويد جسده، بعد أن كان غير اسود، أو أحدث به سواداً وبياضاً وهو نوع من البرص يحث في الجلد، فتجب دية كاملة في كل هذه الصور، لأنه فوت عليه منفعة الجمال والكمال، فإن سود جسمه، وجذمه بسبب ضربة واحدة، وجب عليه ديتان، لأن كلاً منهما منفصل عن الآخر.
قطع الأذنين الظاهرتين.
المالكية - قالوا: لا تجب الدية في قطع الأذنين الشاخصتين، إذا بقي اسمع سليماً، بل تجب حكومة عدل.
الأئمة الثلاثة - قالوا: تجب في الأذنين دية كاملة، وفي قطع إحداهما نصف الدية، لقوات منفعة الجمال، وجمع الهواء للسمع.(5/300)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قطع عين الأعور
المالكية، والحنابلة - قالوا: إن عين العور السليمة إذا قلعت، أو ذهب بصرها يجب فيها دية كاملة، لأن بصر الذاهبة انتقل إليها.
والفرق بين عين العور، والعضو الواحد من كل زوج، أن العين تقوم مقام العينين في معظم الغرض وهي من أعظم الجواهر مكانة.
الحنفية والشافعية - قالوا: إذا قلع عين الأعور، تجب نصف الدية، مثل إحدى اليدين والرجلين، وباقي الأعضاء المزدوجة.
ذهاب شعر الرأس واللحية والحاجب
الحنفية - قالوا: قالوا: إن الجناية على اللحية وشعر الرأس إذا حلقت ولم تنبت تجب في كل منهما الدية لأنه يفوت به منفعة الجمال غير أنه لو حلق رأس إنسان بطريقة لا تجعلها تنبت، أو شعر لحيته لا يطالب بدفع الدية حالاً، بل يؤجل سنة لتصور الإنبات فإن مات المجني عليه قبل مضي سنة، ولم ينبت الشعر فلا دية عليه، لاحتمال ظهورها لو عاش حياً، بل تجب حكومة وشعر الرجل، والمرأة، والصغير، والكبير في ذلك سواء، وذلك لأن شعر اللحية جمال بالنسبة للرجال في وقتها، وفي حلقها تفويث لمنعة الجمال والكمال، فقد ورد أن الملائكة تقول (سبحان من زين الرجال باللحى، والنساء بالذوائب) فتجب الدية، وكذلك شعر الرأس بالنسبة للمرأة من أعظم زينتها وتمام جمالها، وبالنسبة للرجال زينة وجمال أيضاً، ألا ترى أن من عدم الشعر حلقه، أو سقط شعر رأسه، أو كان أقرع، فإنه يتأذى من ذلك ويتكلف ستر رأسه، ويستحي من كشفها أمام الناس، ويعتقد أن ذلك نقص في جماله وكماله وخلقه، وبعض رجال العرب يطلقون شعورهم ضفيرة للزينة، وشعر الشارب فيه حكومة إذا حلق لأنه تابع للحية، فصار كبعض أطرافها، وأما لحية العبد فيجب فيها كمال القيمة، لأن المقصود به المنفعة بالاستعمال، دون الجمال، بخلاف الحر.
قالوا: ولحية الكوسج إن كان على ذقنه شعرات معدودة، فلا شيء في حلقه، لأن وجودها يشينه، ولا يزينه، وإن كان أكثر من ذلك، وكان على الخد والذقن جميعاً لكنه غير متصل ففيه حكومة عدل، لأن فيه بعض الجمال، وإن كان الشعر متصلاً ففيه كمال الدية مثل غيره، لأنه ليس بكوسج وفيه معنى الجمال للرجل، هذا كله إذا فسد المنبت، فإن نبتت حتى استوى الشعر كما كان، فلا يجب شيء من الضمانات، لأنه لم يبق أثر الجناية، ويؤدب على ارتكابه ما لا يحل، وإن نبتت بيضاء فعند أبي حنيفة أنه لا يجب عليه شيء في الحر، لأنه يزيده جمالاً، وفي العبد تجب حكومة عل، لأنه ينقص قيمته، وعندهما تجب حكومة عدل لأنه في غير أوانه يشنه، ولا يزينه، ويستوي العمد والخطأ على هذا، فكما تجب الدية في حلق الرأس واللحية خطأ، فكذلك إذا حلقهما عمداً.(5/301)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: وفي الحاجبين الدية، وفي أحدها نصف الدية، لأن بهما يحصل الجمال للإنسان.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: في حلق شعر اللحية، وشعر الرأس تجب فيهما حكومة عدل، لأن ذلك زيادة في الآدمي، ولهذا يحلق شعر الرأس كله، ويحلق شعر اللحية بعضهم في بعض البلاد، وصار كشعر الصدر والساق، ولهذا يجب في شعر العبد نقصان القيمة بالإجماع.
قالوا: وفي إزالة شعر الحاجب تجب حكومة واحداً أو متعدداً، لأن في العشر جمالاً، وسواء كان إزالة العشر عمداً أم خطأ، وكذلك الهدب، وهو الشعر النابت على شفر العين، تجب حكومة إذا لم ينبت، وإلا فإن نبت فف يعمده الأدب والخطأ لا شي فيه.
دية اليدين والرجلين
واتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى: على أن في اليدين تجب الدية كاملة، وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الأنثيين في قطعهما، أو سلها، أو رضهما دية كاملة، وفي الواحدة من هذه الأشياء نصف الدية، وفي قطع الأنثيين مع الذكر ديتان، كذا روي في حديث سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن في تفويت الاثنين من هذه الأشياء تفويت جنس المنفعة، أو كمال الجمال، فيجب كل الدية وفي تفويت أحدهما تفويت النصف، فيجب نصف الدية.
قالوا: وفي ثديي المرأة الدية، لما فهي من تفويت جنس المنفعة، وذلك إذا قطعهما من أصلهما سواء أبطل اللبن، أو لا، شابة أو عجوزاً، بخلاف ثديي الرجل حيث تجب حكومة عدل، لأنه ليس فيه تفويت جنس المنفعة، و (الجمال) وفي قطع الحلمتين إن أبطل اللبن دية كاملة، ومثل إبطال اللبن لإفساده، فالدية القطع اللبن، ولفوات جنس منفعة الإرضاع، وإمساك اللبن، وقيل الدية لقطع اللبن فحكومة عدل، فلو قطع حلمتي صغيرة فينتظر بها لزمن الإياس من اللبن، وتمام سنة، فإن أيس فدية كاملة، وإن حصل اللبن في مدة الإياس ففيهما حكومة، وفي قطع إحدى الحلمتين يجب نصف الدية.
مبحث جناية جفن العين والأهداب
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: في قطع كل جفن - بالفتح - من أجفان العين، وهو غطاء العين يجب ربع دية، سواء الأعلى أو الأسفل، ففي الأربعة دبة كاملة، ولو كان لأعمى، وبلا هدب لأن فيها جمالاً ومنفعة، وقد اختصت عن غيرها من الأعضاء بكونها رباعية، وتدخل حكومة الأهداب في دية الأجفان، بخلاف ما إذا انفردت الأهداب ولم تنبت، فإن فيها حكومة إذا فسد منبتها كسائر الشعور، لأن الفائت بقطعها الزينة والجمال، دون المقاصد الأصلية، وإلا فالتعزير، وفي قطع الجفن المستحشف حكومة، وفي أحشاف الجفن الصحيح ربع دية جزماً، وفي بعض الجفن الواحد قسطه من(5/302)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الربع، فإن قطع بعضه فتقلص باقيه، فلا تكمل الدية، ول قطع الأجفان الأربعة، والعينين لزمه ديتان، لخبر عمرو بن حزم بذلك ولأن العين من أعظم الجوارح نفعاً.
الحنفية - قالوا: إذا قطع الأشفار العينين، عمداً أو خطأ يجب أن يدفع الدية، وفي قطع أحدهما ربع الدية، والأشفار جمع (شفر) بالشم وهي الأهداب مجازاً.
وقالوا: إن الأشفار هي منابت الشعر، وهي حروف العينين، وأطرافهما، وغطاؤهما، والشعور التي عليها تسمى الأهداب، وهذا لأنه يفوت الجمال على الكمال، وجنس المنفعة، وهي منفعة دفع الأذى عليها تسمى الأهداب، وهذا لأنه يفوت الجمال على الكمال، وجنس المنفعة، وهي منفعة دفع الأذى والقذى عن العين إذ هو يندفع بالهدب، وإذا كان الواجب في الكل كل الدية، وهي أربعة، كن في أحدها ربع الدية، وفي ثلاثة منها ثلاثة أرباعها، وإذا كان المراد بالأشفار منبت الشعر فالحكم فيه هكذا. ولو قطع الجفون بأهدابها ففيه دية واحدة، لأن الكل شيء واحد، وصار كالمارق مع القصية.
مبحث قطع أصابع اليدين أو الرجلين
واتفق الفقهاء: على أنه يجب في قطع أصبع من أصابع اليدين، والرجلين خطأ عشر الدية سواء كان إبهاماً، أو خنصراً من أنثى أو ذكر، صغير أو كبير، مسلم أو كافر، والإبل مخمسة، ومربعة، لقوله عليه الصلاة والسلام (في كل اصبع عشر من الإبل) ولأن في قطع الكل تفويت جنس المنعفة، وفيه دية كاملة، وهي مائة من الإبل، فتنقسم الدية عليها، والأصابع كلها سواء، في أصل المنفعة، فلا تعتبر الزيادة فيه كاليمين مع الشمال، وكذا اصابع القدمين حيث يفوت بقطع كلها منفعة المشي، فتجب الدية كاملة، ثم فيهما عشر أصابع فتنقسم الدية عليها أعشاراً، وعشر الدية الواجب بإزاء كل أصبع إنما هو بمقابلة مفاصلها، وفي كل اصبع فيها ثلاثة مفاصل، ففي كل منها ثلث دية الأصبع، وما فيها مفصلان ففي أحدهما نصف دية الأصبع، وهو نظير انقسام دية اليد على الأصابع، ففي كل مفصل من الصبع ثلاثة وثلث بعير من الإبل، إلا في الإبهام من يد أو رجل فتجب في أنملته نصف دية الأصبع، وهو خمس من الإبل أو خمسون ديناراً.
قالوا: وفي كل سن خمس من الإبل، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (وفي كل سن خمس من الإبل) والأسنان والأضراس والأنياب كلها سواء لإطلاق الحديث، لأن السن اسم جنس يدخل تحته اثنان وثلاثون سناً، فإذا ضرب رجل رجلاً حتى سقطت أسنانه كلها. وكان الضرب خطأ، فإنه يجب عليه دية وثلاثة أخماس الدية وهي من الدراهم ستة عشر الضرب عمداً، وجب القصاص على الجاني، حيث يمكن المماثلة، وسواء قلعت السن من أصلها، أو لم يبق إلا المغيب في اللحم، وسواء بعد أن كانت السن بيضاء فصار بالجناية عليها سوداء، لأنه اذهب جمالها، ولها إذا اسودت ثم انقلعت، أو تغيرت بحمرة أو صفرة بعد بياضها إن كانت الحمرة(5/303)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والصفرة في العرف كالسوداء في إذهاب جمالها، وفي قلع سن المرأة الحرة المسلمة بعيران ونصف، والذمي بعير وثلثان، ولمجوسي ثلث بغير، ولرقيق نصف عشر قيمته وهكذا، ومن ضرب عضواً فأذهب منفعته ففيه دية كالمة، كاليد إذا شلت، والعين إذا ذهب ضوءها، لأن المتعلق توفيت جنس المنفعة، لا فوات الصورة، فإنه إذا قطع اليد الشلاء فإنه تجب عليه حكومة عدل لا الدية، لأن المقصود باليد كمال المنفعة ولما كانت النفعة غير كاملة لم تتكامل الجناية، من حيث تفويت الجمال، فإن كان بها نفع تام فكالسليمة في وجوب القصاص، أو الدية.
ومن ضرب صلب غيره فأحدبه، وقوص ظهره تجب عليه دية كاملة، لأنه فوت جمالاً على الكمال، وهو استواء القامة، فلو زالت الحدوبة، لا شيء عليه، لزوالها لا عن أثر، وفي شفري المرأة، وهما اللحمان المحيطان بالفرج المغطيان العظم، تجب دية كاملة إن بدا العظم من دية المرأة فإن لم يظهر العظم فحكومة، وفي أحد الشفرين إن بدا العظم نصف دية، لأن فيهما جمالاً ومنفعة إذ بهما يقع الالتذاذ بالجماع وبهما تمسك البول والدم، وهما من كمال جمالها.
وقي قطع قضيب الذكر إلى ليس فيه حشفة لقطعها قبل حكومة، وفي قطع الحشفة وهي رأس الذكر دية كاملة، وفي قطع بعضها بحسابها من الحشفة، فتقاس الحشفة لا الذكر، فإن قطع ربع الحشفة فعليه ربع دية، وإن قطع ثلثها فعليه ثلث دية، وإن قطع نصفها فعليه نصف الدية وهكذا.
قالوا: وتتعدد الدية بتعدد الجناية، فإذا قطع يديه، فزال عقله بسببها تجب عليه ديتان، دية اليدين ودية للعقل، ولو زال من ذلك القطع بصره أيضاً، تجب عليه ثلاث ديات، واحدة لليدين، وثانية للعقل، ودية ثالثة للبصر، لأن كل واحدة منهم منفعة مقصودة، وقد زالت، وهكذا وقد روي أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قضى بأربع ديات في ضربة واحدة، ذهب بها العقل، والكلام، والسمع، والبصر، مع بقاء الرجل حياً، واخذ أربع ديات، وذلك لعظم حرمة أعضاء الآدمي.
قالوا: وفي كسر عظم اللحيين عليه دية. لأن فيهما جمالاً ومنفعة، فوجب فيهما الدية وفي كسر أحدهما نصف الدية كالأذنين، وهما عظمتان تثبت عليهما السنان السفلى وملتقاهما الذقن، أما العليا فمنبتها عظم الرأس.
وقد استشكل بعض العلماء في إيجاب الدية في اللحيين، بأن لم يرد فيهما خبر عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: والقياس لا يقتضيه لأنهما من العظام الداخلة، فيشبهان الترقوة، والضلع، وأيضاً فإنه لا دية في عظم الساعد، والعضد، والساق، والفخذ، وهي عظام فيها جمال ومنفعة، فجب فيها حكومة عدل حسب خطورتها.
وأجيب: بأنهما لما كانا من الوجه كانا أشرف من غيرهما، فوجب فيهما الدية.
قالوا: ولا يدخل أرش الأسنان في دية فك اللحيين في الأصح، لأن كلاً منهما مستقل برأسه، وله بدل مقدر، واسم يخصه، فلا يدخل أحدهما في الآخر، كالأسنان واللسان.(5/304)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: يدخل أرش الأسنان في دية الفك كما تدخل حكومة الكف في دية الأصابع، ورد عليه، بأن اسم اليد يشمل الكف والأصابع، ولا يشمل اسم اللحيين والأسنان، وبأن اللحيين كاملا الخلق قبل الأسنان، بدليل الطفل، بخلاف الكف مع الأصابع، لأنهما كالعضو الواحد.
الأئمة الثلاثة قالوا: في الأليتين وهما الناتئان عن البدن عن استواء الظهر والفخذ، إذا قطعا خطأ تجب الدية كاملة، لما فيهما من الجمال والمنفعة، في الركوب والعقود، وفي قطع أحدهما نصف الدية، وفي البعض بقسطه إن عرف قدره، وإلا فالحكومة، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، ولا نطر إلى اختلاف البدن الناتئ، واختلاف الناس فيه كاختلافهم في سائر الأعضاء، ولا يشترط في وجوب الدية بلوغ الحديد إلى عظم الفخذ، ولو نبت ما قطع لم تسقط الدية على الطاهر، أما إذا قطعتا عمداً فيجب القصاص فيهما أو في أحدهما.
المالكية - قالوا: في إحدى روايتهم: في أليتي المرأة إذ قطعا خطأ حكومة قياساً على اليتي الرجل وعمداً القصاص.
الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى - قالوا: في سلخ الجلد تجب دية المسلوخ منه، إن لم ينبت إن في الجلد جمالاً ومنفعة ظاهرة، وذلك إن بقيت فيه حياة مستقرة. لأن إيجاب الدية فيه إنما يظهر إن فرضت الحياة المذكورة بعد سلخ المجني عليه، وإن مات بسبب آخر غير السلخ كأن قطع غير السالخ رقبته بعد حودث السلخ، فيجب على الجاني القصاص لأنه أزهق روحه، ويجب على السالخ الدية، ومثل حز غير السالخ ما لو انهدم عليه حائط، أو دهمه قطار، أو نحو ذلك.
فإن مات المجني عليه بسبب سلخ جلده، أو لم يمت لكن حز السالخ رقبته بعد ذلك فالواجب حينئذ دية النفس إن عفا عن القود، وإلا فيجب القصاص.
قالوا: وفي كسر الترقوة. وهو بفتح التاء: العظم المتصل بين المنكب، وثغرة النحر تجب فيه حكومة، كسائر العظام.
وقيل: الواجب فيها جمل لما روي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قضى بذلك، ووافقت الصحابة عليه، من غير نكير من واحد منهم وحمله الأول على أن الحكومة كانت في الواقعة قدر جمل، ولكل إنسان ترقوتان يميناً، ويساراً.
قالوا: وفي إبطال البطش من يدي المجني عليه بجناية عليهما فشلتا دية، لزوال منفعتهما، وفي إبطال المشي من الرجلين بجناية على صلب تجب فيه دية كاملة، لفوات المنفعة المقصودة منهما، وفي إبطال بطش، أو مس يد، أو رجل، أو إصبع ديتها.
ولا تؤخذ الدية حتى يندمل الجرح فإن انجبر وعولج وعاد بطشه، أو مسه، أو قدرة المشي على الرجلين فلا تجب الدية، وإن بقي شين بعد البرء، فتجب حكومة عدل، وفي نقص كل من البطش والمشي، إن لم ينضبط حكومة، لما فات من المنفعة والجمال، ويختلف بحسب النقص قلة وكثرة،(5/305)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وسواء احتاج في مشيه لعصا يتوكأ عليها، أم لا فإن انضبط النقص وجب القسط من الدية، كالسمع، والبصر، والكلام وغيرهما. ولو كسر صلب المجني عليه فذهب مع سلامة الرجل، والذكر، مشيه، وجماعه، أو ذهب عنه مشيه، ومنيه، فتجب له ديتان، واحدة للرجلين والثانية لذهاب منهي، لأن كل واحد منهما مضمون بالدية عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع، ومنفعة كل منهما مستقلة.
وقيل: تجب دية واحدة لأن الصلب محل المني، ومنه يبتدي المشي، وينشأ الجماع واتحاد المحمل يقتضي اتحاد الدية، ورد الأول بعدم اتحاد المحل. وهو الراجح.
وعلى الرأي الأول، لو ضربه فشلت رجلاه، وكسر صلبه، وانقطع منيه، وجب عليه ثلاث ديات واحدة للرجلين، وثانية للصلب، وثالثة لانقطاع المني، وإن شل ذكره أيضاً، وجب عليه أربع ديات، الثلاثة السابقة، والرابعة لشلل الذكر وعدم القدرة على الجماع.
قالوا: في الشفتين الدية، وفي قطع إحداهما نصف الدية، لما ورد في كتاب عمرو بن حزم: (وفي الشفتين الدية) ولما فيهما من الجمال والمنفعة، إذ الكلام يتميز بهما، ويمسكان الريق والطعام. ويمنعان الحشرات والأتربة من دخول البطن، والإشلال كالقطع. اهـ.
مبحث القصاص فيما دون النفس.
اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى: على أن من قطع يد غره من المفصل عمداً قطعت يده من المفصل، وإن كانت يده أكبر من اليد المقطوع،، لقوله تعالى: {والجروح قصاص} (آية 45 من سورة المائدة) وهو ينبئ عن المماثلة فكل ما أمكن رعايتها فيه يجب فيه القصاص، وما لا يمكن رعاية المماثلة فيه، فلا يجب فيه القصاص، وقد أمكن رعاية المماثلة في القطع من المفصل، فاعتبر، ولا معتبر بكبر اليد وصغرها لأن منفعة اليد لا تختلف بذلك، وكذلك قطع الرجل، وقطع مارن الأنف، وقطع الأذن الظاهرة، لإمكان رعاية المماثلة، فإن قطع الأصابع ثم قطع الكف هو أو غيره، بعد الاندمال أو قبله وجب حكومة في الكف، وكذلك إن قطع فوق الكف، ومن ضرب عين رجل بحديدة عمداً فقلعها لا قصاص عليه لامتناع المماثلة في القلع، أما إن كانت العين قائمة فذهب ضوءها فعليه القصاص، لإمكان المماثلة، بأن تحمى له المرآة ويجعل على وجهه قطن رطب، وتقابل عينه بالمرآة، فيذهب ضوءها، وهو مأثور عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كانت عين أحول، أو أعمش أو أعور، أو عين أخفش، أو عين أعشى، لأن المنفعة باقية بأعين من ذكر.
قالوا: وفي السن يجب القصاص لقوله تعالى: {والسن بالسن} (آية 45 من سورة المائدة) وإن كان سن من يقتص منه أكبر من سن الآخر، لأن منفعة السن لا تتفاوت بالصغر والكبر، ولا قصاص في عظم إلا في السن(5/306)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وهذا للفظ مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا قصاص في العظم) والمراد غير السن، لأن اعتبار المماثلة في غير السن متعذر، لاحتمال الزيادة والنقصان، بخلاف السن لأنه يبرد بالمبرد، ولو أقلع من أصله بقلع الثاني فيتماثلان، (وقد روي أن الربيع عمة أنس بن مالك رضي الله عنه كسرت ثنية جارية من الأنصار بلطمة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص) .
قالوا: وليس فيما دون النفس شبه عمد، إنما هو عمد أو خطا، لأن شبه العمد يعود إلى الآلة، والقتل هو الذي يختلف باختلافها دون الأطراف، لأنه لا يختلف إتلافها، باختلاف الآلة فلم يبق إلا العمد والخطأ - ولأن شبه العمد إذا حصل فيما دون النفس وأمكن فيه القصاص جعل عمداً، وإن لم يمكن القصاص جعل خطأ.
قالوا: ومن قطع يد رجل من نصف الساعد، أو جرحه جائفة فبرأ منها، فلا قصاص عليه، لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، إذ الأول كسر العظم، ولا ضابط فيه، وكذا البرء نادر فيفضي الثاني إلى الهلاك ظاهراً، - ولو قطع اليد من وسط الذراع، أو قطعها من وسط العضد، اقتص منه من الكف، فيقطع من الكوع في الصورة الأولى، لأنه أقرب موضع من محل الكسر، وتجب في الباقي حكومة، وهو جزء مقدر من الدية، لتقدر القصاص فيها، وله أن يعفو في المسألتين، أو يعدل إلى المال، ولو طلب أن يقطع من الكوع في المسألة الثانية يمكن.
مبحث قطع اليد الشلاء بالصحيحة
ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى: أنه إذا كانت يد المقطوع صحيحة، ويد القاطع شلاء، أو ناقصة الأصابع، فالمقطوع بالخيار إن شاء قطع اليد المعيبة، ولا شيء له غيرها وإن شاء أخذ الأرش كاملاً لأن استيفاء الحق كاملاً متعذر، فله أن يتجوز بدون حقه، وله أن يعدل إلى العض، كالمثلي إذا انصرم عن أيدي الناس بعد الإختلاف، ثم إذا استوفاها ناقصاً فقد رضي به، فيسقط حقه كما إذا رضي بالرديء مكان الجيد.
قالوا: ومن شج رجلاً فاستوعبت الشجة ما بين قرني الشاج، فالمشجوج بالخيار، إن شاء اقتص بمقدار شجته، يبتدئ من أي الجانبين شاء، وإن شاء أخذا الرش لأن الشجة موجبة لكونها مشينة فقطن فيزداد الشين بزيادتها، وفي استيفاء ما بين قرني الشاج زيادة على ما فعلن ولا يلحقه من الشين باستيفائه قدر حقه ما يلحق المشجوج، فينتقص، فيخير، كما في الشلاء والصحيحة، وفي عكسه يخير أيضاً، لأنه يتعذر الاستيفاء كاملاً للتعدي إلى غير حقه، وكذا إذا كانت الشجة في طول الرأس، وهي تأخذ من جبهته، إلى قفاه، ولا تبلغ إلى قفا الشاج، فهو بالخيار لأن المعنى لا يختلف.(5/307)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: ولا قصاص في اللسان، ولا في الذكر، لأنه ينقبض، وينبسط فلا يمكن اعتبار المساواة، إلا أن تقطع الحشفة، لأن موضع القطع معلوم كالمفصل، ولو قطع بعض الحشفة أو بعض الذكر، فلا قصاص فيه، لأن البعض لا يعلم مقداره. بخلاف الأذن إذا قطع كله، أو بعضه، لأنه ينقبض ولا ينبسط وله حد يعرف، فيمكن اعتبار المساواة، والشفة إذا استقصاءها بالقطع يجب القصاص، لإمكان اعتبار المساواة فيها، بخلاف ما إذا قطع بعضها، لأنه يتعذر اتبار المساواة فيها، لأنها تنقبض وتنبسط.
الشافعية - قالوا: يقتص من الذكر إذا قطع من أصله، واللسان، ومارن الأنف، والأنثيين وشفرتي الفرج، إذا أمكن استيعاب القصاص في هذه الأعضاء، من غير جيف، بأن لا يزيد على اخذ الواجب، وإن لم يكن القصاص إلا بإجافة الجاني فلا قصاص سواء أجافه الجاني أم لا، نعم إن مات المجني عليه بسبب قطع عضو من هذه الأعضاء، قطع الجاني ثم انتظر حتى يموت بسب السراية، وإذا مضت المدة المحددة ولم يمت تحز رأسه قصاصاً.
قالوا: ولا يؤخذ يمين من يد، أو رجل، أو عين، أو منخر، أو أنثيين، أو شفرتين، أو أليتين، بيسار منها، ولا يؤخذ أعلى من جفن، أو أنملة من إصبع يد، أو رجل، أو سن بأسف من المذكورات، والمساواة في جميع ذلك، لاختلاف المنافع باختلاف المحال ولا يؤخذ صحيح كل من الأعضاء بعضو أشل منها، وإن رضي الجانيين لأن العضو الشل مسلوب المنفعة، وهو الذي لا عمل له مثل الحدقة البصيرة، لا تؤخذ بيسار من هذه الأشياء المذكورة بيمين، ولا أسفل بأعلى لانتفاء الاشتراك، والمماثلة، والمساواة في جميع ذلك، لاختلاف المنافع باختلاف المحال ولا يؤخذ المحال ولا يؤخذ صحيح كل من الأعضاء بعضو البصيرة، لا تؤخذ بالعمياء، وغير ذلك ويستثنى من ذلك الأنف، والأذن، فيؤخذ الصحيح منها بالمستحشف لبقاء منفعتها من جمع الصوت والريح، والزينة - وإن قطع ذكره من أصله، وأنثياه يجب للحر فيه ديتان كاملتان. ويجوز أن يقطع الأضعف من الأعضاء بالأقوى منها، فتقطع العمياء بالصحيحة، لأنها دون حقه بشرط انقطاع الدم، فإن لم ينقطع فلا قصاص، لما فيه من استيفاء النفس بالطرف، وهو إجحاف بالجاني، ولا قصاص في كسر عظم، لعدم الوثوق بالمماثلة فيه، لأنه لا ينضبط، مثل عظام الأضلاع، والظهر، والساعد، والساق، والفخذ، والعضد،
قالوا: ويجب القصاص في كل جرح انتهى ووصل إلى عظم من غير كسر، وذلك مثل الموضحة في الوجه والرأس، وهي التي تصل إلى العظم وتضحه بعد حرف الجلد، حيث أنه يتيسر ضبطها، واستيفاء مثلها من جسم الجاني، وكذلك جرح العضد، وجرح لحم الساق، وجرح الفخذ، فهذه الثلاثة يجب القصاص فيما ينتهي من الجرح إلى عظم، وذلك لتيسر استيفائها، وإن خالفت هذه الجروح في سائر البدن الموضحة، في الوجه والرأس، فإنهما فيهما ارش مقدر من الشارع بخمسة أبعرة. وأما في غيرهما ففيهما حكومة عدل مثل غيرها من باقي الجروح - أما العين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس، واليد المشلولة، والرجل المشلولة، والذكر المشلول، والأنثيان المخصيتان، ففي كل هذه حكومة فقط.(5/308)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مبحث سقوط يد الجاني أو قطعها
الحنفية - قالوا: إذا كانت يد المقطوع صحيحة، ويد القاطع شلاء وخيره الحاكم بين قطع اليد الشلاء، ولا أرش له، وبين أن يأخذ الأرش كاملاً، فسقطت اليد المريضة قبل اختيار المجني عليه، أو قطعت ظلماً، في مدة الاختيار، سقط حقه في هذه الحالة، ولا شيء له عند الجاني، وذلك لأن حقه متعين في القصاص، وإنما ينتقل إلى المال باختياره، فيسقط بفواته بخلاف ما إذا قطعت يده بحق عليه من قصاص، أو سرقة، فإنه يجب عليه الأرش وهو نصف الدية، لأنه أوفى به حقاً مستحقاً، فصارت سالمة له معنى. ولو عولج الجاني وزال الشلل من يده قبل أن يستوفي الأرض لم يكن له إلا القصاص، لأن حقه متعين فيه عندهم.
الشافعية - قالوا: إن الواجب أحد الشيئين، أما القصاص، أو الأرش فإذا تعذر أحدهما، لفوات محله - كما في هذه الصورة - تعين الآخر وهو الأرش.
مبحث في اجتماع ديات في شخص واحد
قال الأئمة الأربعة: إذا اجتمعت ديات كثيرة في شخص واحد بجراحات متعددة، بقطع أطراف، وإبطال منافع مختلفة، وهي كثيرة عده بعضهم إلى عشرين أو أكثر، وقيل: أربعة عشر شيئاً، منها - عقل، سمع، بصر، شم، نطف، صوت، ذوق، مضغ، أمناء، إحبال، جماع، إفضاء بطش، مشي، ذهاب شعر، أو جلد، وغير ذلك وتضاف إليها المواضح، وسائر الشجاج، والجوائف، والحكومات، والكسور فيجتمع شيء كثير من الجنايات على الإنسان. قد لا ينحصر.
فإذا أزال الجاني أطرافاً من المجني عليه تقتضي ديات متعددة، كقطع أذنين، ويدين، ورجلين، وكذلك لطائف تقتضي ديات عدة، كإبطال سمع، وإبطال بصر، وإبطال شم، وإبطال ذوق، وتعطيل، نسل، وغير ذلك. فإذا حصل شيء من هذا ومات المجني عليه بسبب السراية منها، أو من بعضها، ولم يندمل البعض، فتجب على الجاني دية واحد، وتتداخل الديات، ويسقط بدل ما ذكر. لأنها صارت نفساً، أما إذا مات المجني عليه بسراية بعضها، بعد اندمال بعض آخر منها لم يدخل ما اندمل في دية النفس قطعاً، وكذا الحكم له جرحه جرحاً خفيفاً لا مدخل للسراية فيه، ثم أجافة فمات بسراية الجائفة، قبل اندمال ذلك الجرح، فلا يدخل أرشه في دية النفس، أما ما لا يقدر بالدية، فيدخل أيضاً، وكذا لو قطع الجاني عنق المجني عليه قبل اندماله من الجراحة يلزمه دية واحدة للنفس في الأصح، لأن دية النفس وجبت قبل استقرار ما عداها - فيدخل فيها بدله كالسراية.
وقيل: تجب ديات ما تقدم من أنواع الجراحة، لأن السراية قد انقطعت بالقتل فأشبه أنقطاعها بالاندمال، لأن الآدمي مضمون مقدر، ولأن الثابت في ضمانه التقيد.(5/309)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فإن كان الفعل مختلفاً. كأن حز الرقبة عمداً، والجنايات الحاصلة قبل الحز حصلت خطأ، أو شبه عمد، أو عكسه، كأن حزه خطأ، والجنايات وقعت عمداً، أو شبه عمد، فلا تداخل لشيء مما دون النفس، فيها، في الأصح من المذاهب، بل يجب دية الطرف والنفس لاختلافهما، واختلاف من تجب عليه، فلو قطع يديه، ورجليه خطأ، أو شبه عمد، ثم قطع رقبته عمداً، أو قطع هذه الأطراف عمداً، ثم حز الرقبة خطأ أو شبه عمد، وعفا الأول في العمد على ديته، وجبت في الصورة الأولى دية خطأ، أو شبه عمد، ودية عمد: وفي الصورة الثانية ديتا عمد، ودية خطا، وقيل: تسقط الديات فينهما.
ولو حز الرقبة غير الجاني المتقدم تعددت الديات، لأن فعل الإنسان لا يدخل في فعل غيره، فيلزم كل منهما ما أوجبه، فالذي اعتدى بجناية الجراحات يدفع دياتها، والذي قتله يدفع ديته. اهـ.
مبحث ما تجب فيه الحكومة.
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى: على أن الشيء الذي يوجب مالاً. لا مقدر فيه من الدية، ولم تعرف نسبته من مقدر، مثل الضلع، والصدر، والفخذ، والزند، وغيرها، أما إذا عرفت نسبته منه كأن كان بقرب موضحة، أو جائفة، فيجب أكثر من قسطه، وحكومة، وهي جز من الدية، نسبته إلى دية النفس في الأصح، وقيل: نسبته إلى عضو الجناية، نسبة نقص الجناية من قيمة المجني عليه، لو كان رقيقاً بصفاته التي هو عليها، وذلك مثل جرح يده، فيقال: كم قيمة المجني عليهً بصفاته التي هو عليها، بغير جناية لو كان عبداً رقيقاً؟ فإذا قيل: مائة دينار، فيقال: كم قيمته بعد حصول الجناية عليه؟ فإذا قيل: تسعون، فيكون التفاوت العشر، فيجب في هذه الحالة عشر دية النفس وهو عشر من الإبل إذا كان المجني عليه حراً، ذكراً، مسلماً، لأن الجملة مضمونة بالدية المقدرة من الشارع الحكيم، فتضمن الأجزاء بجزء منها، كما في نظيره من عيب المبيع.
والقول الثاني: أن تنسب إلى عضو الجناية، لا إلى دية النفس، فيجب في هذه الصورة عشر دية اليد التي وقعت عليها الجناية، وهو خمس من الإبل، فإن كانت الجناية على إصبع واحد، وجب بعير، أو الجناية وقعت على أنملة من إصبع وجب ثلث بعير في غير الإبهام، ويقاس على ذلك ما أشبهه من القضايا.
وللحاجة في معرفة الحكومة إلى تقدير الرق.
قال الأئمة: العبد اصل الحر في الجنايات التي لا يتقدر أرشها، كما أن الحر أصل العبد، في الجنايات التي قدر الشارع أرشها، وتجب الحكومة إبلاً كالدية، أو تجب نقداً، فطلاً من الأمرين جائز، حسب الظروف المناسبة للمتقاضين، لأنه يوصل إلى الغرض المطلوب، وهو دفع الضمان، وتعويض المجني عليه عما أصابه، ومحل الخلاف إذا كانت الجناية على عضو له ارش مقدر، فإن كانت الجناية على عضو ليس له أرش مقدر مثل الصدر، أو الفخذ، أو نحو ذلك اعتبرت الحكومة من(5/310)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
دية النفس قطعاً، وتقدر لحية امرأة أزيلت ففسد منبتها، لحية عبد كبير يتزين بها، ومثلها الخنثى ولو قلع سناً، أو قطع إصبعاً زائدة، ولم ينقص بذلك شيء، قدرت زائدة لا أصلية خلفها، ويقوم له المجني عليه منصفاً بذلكن ثم يقوم مقطوع الزائد، فيظهر التفاوت بذلك لأن الزائدة تشد الوجه، ويحصل بها نوع جمال، ويستثنى من اعتبار النسبة لو قطع أنملة لها طرف زائد، فيجب فيها مع دية أنملة حكومة، يقدرها القاضي باجتهاده، ولا يعتبر النسبة لعدم إمكانها فإن كانت الحكومة لأجل طرف له أرش مقدر، كاليد، والرجل مثلاً، اشترط فيها أن لا تبلغ تلك الحكومة مقدر الطرف، لئلا تكون الجناية على العضو مع بقائه مضمونة بما يضمن به العضو نفسه، فينقص حكومة الأنملة بجرحها، أو قطع ظفرها عن يدها، وحكومة جراحة الإصبع بطوله عن ديته، ولا يبلغ بحكومة ما دون الجائفة من الجراحات على البطن، أو نحوه أرش الجائفة، فإن بلغته نقص القاضي منه شيئاً باجتهاده لئلا يلزم المحذور السابع، ولا يكفي أقل متمول كما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
أو كانت الحكومة لطرف لا تقدير فيه، ولا يتبع مقدراً، كفخذ، وساعد ليد، وظهر، وكف يدن فالشرط أن لا تبلغ حكومته دية نفس، وهو معلوم إنها لا تصل إلى ذلك لأن الكل أكثر من الجزء، بل المراد أن لا يصير بلوغها أرش عضو مقدر، وإن زادت عليه فإن تبع مقدراً، كالكف فإنه يتبع الأصابع، فالشرط فيه أن لا يبلغ ذلك دية المقدر وإن بلغ بحكومة الكف دية إصبع واحد جاز، لأن منفعتها رفعاً، واحتواشاً تزيد على منفعة إصبع، كما أن حكومة اليد الشلاء، لا تبلغ دية اليد السلمية، ويجوز أن تبلغ دية الإصبع، ويجوز أن تزيد عليها، وإنما لم يجعل الساعد كالكف حتى لا يبلغ بحكومة جرحه دية الأصابع، لأن الكف هي التي تتبع الأصابع لقربها، دون الساعد، لبعده عن الأصابع، ولهذا لو قطع من الكوع لزمه ما يلزمه في لفظ الأصابع، ولو قطعت اليد من المرفق لزمه مع نصف الدية حكومة الساعد.
قالوا: ويقوم لمعرفة الحكومة، المجني عليه بغرض رقه، لكن بعد اندمال الجروح لا قبله، لأن الجراحة قد تسري إلى النفس فتزهقها، أو تسري إلى إتلاف ما يكون واجبه مقدراً من الأعضاء، فيكون ذلك هو الواجب لا الحكومة. فإن لم يبق بعد اندمال الجروح نقص في المنفعة، ولا نقص في الجمال، ولا تأثرت به القيمة، اعتبر فيه أقرب نقص، من حالات نقص فيه، إلى الاندمال، وهكذا، وذلك لئلا تحيط الجناية على المعصوم، فإذا لم يظهر النقص إلا حال سيلان الدم، اعتبرنا القيمة حينئذ، واعتبرنا الجراحة دامية.
وأما إذا كانت الجراحة خفيفة لا تؤثر في حال سيلان الدم فإنه يعزر الجاني، إلحاقاً لهما، باللطمة، والضربة التي لم يبق لها أثر للضرورة، لانسداد باب التقويم الذي هو عمدة الحكومة.
وقيل: يقدر النقص المذكور، قاض، باجتهاده، لئلا تكون الجناية إن غير غرم.
وقيل: لا غرم حينئذ، بل الواجب التعزير كالضربة، والصفعة التي لم يبق لها أثر، والجرح المقدر أرشه، كموضحة، يبتعه الشين الكائن حواليه، ولا يفرد بحكومة، والجرح الذي لا يتقدر أرشه كدامية، يقدر الشين حواليه بحكومة عن حكومة الجرح، لضعف الحكومة عن الاستتباع اهـ.(5/311)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المالكية رحمهم الله - قالوا: يشترط في القصاص من جراح الجسد غير الرأس اتحاد
المحل. فلا يجوز أن يقتص من جرح عضو أيمن في عضو أيسر، ولا عكسه، ولا يجوز أن تقطع سباية مثلاً بإبهام، ولو كان المجني عليه طويلاً، وعضو الجاني قصيراً فلا يكمل بقية الجرح من عضوه الثاني.
ويقتص من الطبيب الذي يباشر القصاص من الجاني إذا زاد على المساحة المطلوبة عمداً فيقتص منه بقدر ما زاد، أما لو نقص عن المطلوب عمداً أو خطأ فلا يقتص ثانياً، فإن مات المقتص منه من اثر القصاص لتعديه ما أمر به.
وإذا لم يتحد المحل، أو لم يتعمد الطبيب الزيادة بل أخطأ، تجب الدية على الجاني، فإذا قطع الجاني خنصراً مثلاً، ولا خنصر له، فلا يجب القصاص لعدم اتحاد المحل، وتعين العقل، فإن كانت الجناية عمداً، أو أقل من ثلث الدية وجبت في مال الجاني، وإن كانت الجناية خطأ، ولكنها أكثر من ثلث الدية فتجب الدية على العاقلة، وذلك كحدقة عين أعمى جنى عليها صاحب عين سالمة واقتلعها، فإن السالمة لا تؤخذ بالعين التالفة، لعدم المماثلة، فلا يجب القصاص، ولا تجب نصف الدية، بل يلزمه حكومة عدل بالاجتهاد، في قيمة خسارة العين العمياء.
أما إذا كان الجاني رجلاً اعمى، وفقأ عين رجل سليمة، فلا يجب القصاص، فإنه لا تؤخذ السليمة بالعمياء، بل تجب نصف الدية على الجاني ولو كانت الجناية عمداً، وكذلك لسان الأبكم الذي لا يتكلم لا يقطع بالناطق، ولا عكسه، بل يجب في اللسان الناطق الدية، وتجب في اللسان الأبكم حكومة، كما قيل في العين العمياء، والعين البصيرة.
ولا قصاص في ضربة على الخد إذا لم ينشأ عنها جرح، ولا ذهاب منفعة ولا عقل منها ولا قصاص من ضربة بيد، أو رجل بغير وجه، كصفع بقفا، لم ينشأ عنها جرح ولا ذهاب منفعة كاللطمة، ولا قصاص من إزالة شعر اللحية، ولا من إزالة شفر عين، بضم الشين المعجمة، وسكون الفاء، وهو الهدب، ولا من إزالة شعر حاجب، فعمد هذه المذكورات كالخطأ عدم القصاص والعقل، وإنما يجب الأدب في عمدها دون خطئها، وتجب حكومة في شعر اللحية، وشعر العين، وشعر الحاجب إن لم ينبت كما كان اولاً، لأن الأهداب والحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين ضروري في الخلقة، أما إذا نشأ من هذه الضربات جرح، أو ذهاب منفعة، فإنه يجب فيها القصاص. أما الضرب بالسوط فيجب في عمدها القصاص، وإن لم ينشأ عنه جرح، ولا ذهاب منفعة، لأن الضرب بالسوط عهد للأدب والحدود، وليس فيه متألف في العادة.
ولا قصاص أن عظم الخطر في الجراحات التي في الجسد غير المثقلة، والآمة، فإنه لاقصاص فيها من غير قيد بعظم الخطر، لأن شأنهما عظم الخطر، فلا قصاص في كسر عظم الصدر، وكسر(5/312)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
عظم الصلب، ورض الأنثيين، وفيها العقل كاملاً بعد البرء، وذلك بخلاف ما إذا قطعهما، أو جرحهما فإنه يجب القصاص على الجاني، لأنه ليس من المتالف.
وأن جرحه جرحاً في القصاص كموضحة مثلاً، فذهب بسببه نمو بصره، أو شلت يده، اقتص منه، ويجب أن يفعل بالجاني بعد تمام برء المجني عليه مثل ما فعل من الجناية، فإن حصل للجاني مثل الذاهب من المجني عليه، أو زاد الذاهب من الجاني، بأن ذهب بسبب الموضحة شيء آخر مع الذاهب، بأن أوضح فذهب بصره وسمعه، فلا كلام لذلك الجاني الذي اقتص منه، لأنه ظالم يستحق القصاص بالوجه الذي فعل به، والزيادة أمر من الله تعالى، وإذا لم يحصل للجاني مثل الذاهب من المجني عليه، بأن لم يحصل شيء أصلاً، أو حصل غيره، فيجب عقل ما ذهب من المجني عليه في مال الجاني إذا كان الجرح عمداً، أو العاقلة إن كان خطأ، كأن ضربه بقضيب مما لا قصاص فيه، أو لطمه على خده، أو قفاه، لأن الضرب لا يقتص فيه، إنما يقتص من الجروح لقول تعالى {والجروح قصاص} فذهب بصر المجني عليه من أثر الضرب، فإنه لا يضرب بل يجب عليه العقل، إلا أن يمكن الاذهاب من الجاني بفعل فيه يذهب منه مثل ما أذهب بما لا قصاص فيه، كحيلة تذهب بصره بلا ضرب، فإنه يفعل به.
وإذا قطع بعد الجناية عضو رجل قاطع لعضو غيره عمداً، وسقط بآفة سماوية، أو قطع عضوه بسبب سرقة، أو قطع بقصاص لغير المجني عليه أولاً، فلا شيء للمحني عليه، لا قصاص، ولا دية، لأنه إنما تعلق حقه بالعضو المماثل وقد ذهب، وكذا لو مات القاطع فلا شيء على الورثة' بخلاف مقطوع العضو قبل حدوث الجناية فتجب عليه الدية، وفي القصاص يجوز أن يؤخذ من الجاني عضو قوي بعضو ضعيف جنى عليه، فإذا جنى صاحب عين ضعيفة الأبصار خلقة، أو من كبر صاحبها، فإن السليمة تقلع بالضعيفة، ما لم يكن الضعف جداً، وإلا فإن كان العضو شديد الضعف فإنه تجب الدية، وإن فقأ سالم العينين عين أعور، فإنه يخير المجني عليه بين فقء العين المماثلة من الجاني، وبين اخذ دية، وإن فقأ سالم العينين عين أعور، فإنه يخير المجني عليه بين فقء العين المماثلة من الجاني، وبين أخذ دية كاملة من مال الجاني، أي دية غين نفسه، وإذا كان المشهور في المذهب تحتم القصاص في العمد، وإنما وجب التخيير لعدم مساواة غين الجاني، والمجني عليه في الدية، لأن دية عين المجني عليه ألف دينار، بخلاف عين الجاني فديتها خمسمائة دينار، فلو ألزمناه بالقصاص لكان أخذ الأدنى في الأعلى، وهو ظلم له، فيجب التخيير، وإن فقأ أعور من سالم عيناً مماثلة عين الجاني السالمة، فيجوز للمجني عليه سالم العينين القصاص من الأعور الجاني بفقء عينه السالمة فيصير أعمى، أو ترك القصاص، ويأخذ من الجاني دية عينه، وهي ألف دينار على أهل الذهب، لتعين القصاص بالمماثلة، وصارت الثانية عين أعور فيها دية كاملة، لأنه ينتفع بالواحدة انتفاع صاحب العينين.
وإن فقأ الأعور من السالم غير المماثلة لعينه، بأن فقأ من السالم المماثلة للعوراء، فإنه يجب نصف دية فقط في مال الجاني، ولا يجوز للمجني عليه أن يقتص منه لعدم المحل المماثل، وإن فقأ(5/313)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الأعور عيني السالم عمداً، في مرة، أو في مرتين، وساء فقأ التي ليس له مثلها أولاً، أو ثانيا على الرجح، فيجب القود للمجني عليه، بأن يفقأ من الجاني العين المماثلة فيصير أعمى مثله، ويأخذ من الجاني نصف الدية، بدل العين التي ليس لها ممثلة، ولم يخير سالم العينين في المماثلة، بحيث يكون له القصاص، أو أخذ الدية، لئلا يلزم عليه أخذ دية ونصف، حيث اختار الدية في العينين، وهو خلاف ما ورد عن الشارع صلوات الله وسلامه عليه.
مبحث دية الأصابع والكف
الشافعية، والمالكية، والحنفية - قالوا: في قطع اصابع اليد نصف الدية، لأن في قطعها تفويت جنس منفعة البطش وهو الموجب، فإن قطعها مع الكف ففيه أيضاً نصف الدية، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية) ، ولأن الكف تبع للأصابع لأن البطش بها، وإن قطعها مع نصف الساعد، ففي الصابع والكف نصف الدية، وفي الزيادة حكومة عدل، لأن الشرع أوجب في اليد الواحدة نصف الدية، واليد اسم لهذه الجارحة إلى المنكب، فلا يزاد على تقدير الشرع، وأن قطع الكف عن المفصل وفيها أصبع واحدة ففيه عشر الدية، وإن كان أصبعان فالخمس، ولا شيء في الكف، لأن الأصابع اصل، والكف تابع حقيقة وشرعاً، لأن البطش يقوم بها ولو كان في الكف ثلاثة أصابع يجب أرش الأصابع، ولا شيء في الكف بالأجماع لأن الصابع أصول في التقوم، وللأكثر حكم الكل، فاستتبعت الكف، كما إذا كانت الأصابع قائمة بأسرها.
قالوا: وفي الصابع الزائدة حكومة عدل، تشريفاً للآدمي، لانها جزء من يده، ولكن لا منفعة فيها، ولا زينة، وكذلك السن الزائدة، فيها حكومة عدل، وإن كانت كف المجني عليه ناقصة الصابع مثلاً، لم تقطع السليمة بها، ولو قطع أصبعاً فتأكل غيرها، أو شل أصبع بجوارها أو كف، فلا قصاص في المتآكل، والمشلول بالسراية، لعدم تحقق العمديية، بل فيه الدية، أو حكومة في مال الجاني، ولو اقتص في أصبع من خمسة فسرى لغيرها لم تقع السراية. قصاصاً، بل يجب على الجاني للأصابع الأربع أربعة أخماس الدية، ولا حكومة لمنابت الصابع، بل تدخل في ديتها، ولو ضرب يده فتورمت، ثم سقطت بعد أيام وجب القصاص، ولا أثر في القصاص في يد لخضرة أظفار وسوادها، لأنه علة ومرض في الظفر، وتقطع ذاهبة الأظفار بسلميتها، لانها دونها، دون العكس، لأن الكامل لا يؤخذ بالناقص. ولو نقصت يده أصبعاً فقطع يداً كاملة قطع وعليه أرش الصبع، ولو قطع كامل اليد ناقصة، فإن شاء المقطوع أخذ دية اصابعه الربع وإن شاء قطعها، ولو قطع كفاً بلا أصابع فلا قصاص إلا أن تكون كفه مثلها، ولقد قطع فاقد الصابع كاملها قطع كفه وأخذ دية الأصابع اهـ.
مبحث في الشجاج
اتفق الأئمة الأربعة - رحمهم الله تعالى: على أن الشجاج في اللغة، والفقه، عشرة.(5/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أولها - الحارصة - وهي التي شقت الجلد، ولاتخرج الدم.
ثانيها - الدامعة - وهي التي تظهر الدم ولا تسيله، كدمع العين.
ثالثها - الدامية - وهي التي تسيل الدم، بأن تضعف الجلد بلا شق له حتى يرشح الدم.
رابعها - الباضعة - وهي التي تبضع الجلد، وتقطعه، أي - تشقه.
خامسها - المتلاحمة - وهي ما غاصت في اللحم في عدة مواضع منه، ولم تقرب للعظم.
سادسها - السمحاق: وهي التي تصل إلى السمحاق، وهي جلدة رقيقة بين اللحم، وعظم الرأس وتسمى (الملطاه) .
سابعها - الموضحة: وهي التي توضح العظم وتبينه، أي - تكشفه.
ثامنها - الهاشمة: وهي التي تهشم العظم وتكسره.
تاسعها - المنقلة: وهي التي تنقل العظم بعد الكسر، وتحوله.
عاشرها - الآمة: وهي التي تصل إلى أم الرأسن وهو الذي فه الدماغ، وتسمى (المأمومة) فقد علم بالاستقراء بحسب الآثار أن الشجاج لا تزيد على ما ذكر من العشر.
أما ما بعدها وهي - الدامغة - وهي التي تخرج الجماغ من موضعه، فإن النفس لا تبقى بعدها عادة، فيكون ذلك قتلاً لا شجاص، وهي مرتبة على الحقيقة اللغوية في الصحيح.
الموضحة
اتفق الفقهاء، على وجوب القصاص في الموضحة إن كانت عمداً، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالقصاص في الموضحة، ولأنه يمكن أن ينتهي السكين إلى العظم فيتساويان، فيتحقق القصاص، ولا يشترط فيها ما لوه بال واتساع، بل يثبت القصاص فيها، وإن كان الشج ضيقاً، ولو قدر مغرز إبرة.
واتفقوا: على أن الموضحة، إن كانت خطأ فيجب فيها نصف عشر الدية وهو خمس من الإبل وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم، وثبت من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الموضحة خمس) يعني من الإبل، ولما رواه الترمذي وحسنه (في الموضحة خمس من الإبل) وذلك لحر، ذكر، مسلم، غير جنين، وتراعى هذه النسبة في حق غيره من المرأة، والكتابي وغيرهما، ففي موضحة الكتابي الخطأ، يجب بعير وثلثان، وفي موشحة المجوسي ونحوه، ثلث بعير، وفي موضحة المرأة المسلمة، الحرة، يجب بعيران، ونصف بعير، وهو نصف عشر ديتها.
موضع الموضحة
المالكية - قالوا: المضحة ما أظهرت عظم الرأس، أو عظم الجبهة وهو ما بين الحاجبين وشعر(5/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الرأس، أو عظم الخدين، واللحي الأعلى، ولا تكون في اللحي الأسفل، لأنه في حكم العنق، ولا تكون في عظم النف، وإن وجب القصاص من عمده، وذلك لأن الوجه مشتق من المواجهة، ولا مواجهة للناظر فيهما، فلو وجد في اللحي الأسفل والأنف لا يجب الأرش المقدر.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: الموضحة تكون في جميع الوجه والرأس، والجبهة والوجنتين، والذقن داخل في الوجه.
وأتفق الأئمة الأربع: على أن هذه الشجاج العشر المذكورة تختص بالوجه، والرأس لغة، وما كان في غير الرأس والوجه، يسمى جراحة، والحكم مرتب على الحقيقة في الصحيح، حتى لو تحققت في غيرهما نحو الساق، واليد، لا يكون لها أرش مقدر، وإنما تجب حكومة عدل، لأن التقدير بالتوقيف، وهو إنما ورد فيما يختص بهما، ولأنه إنما ورد الحكم في الموضحة لمعنى الشين الذي يلحقه ببقاء أثر الجراحة، والشين يختص بما يظهر منها في الغالب، وهو هذان العضوان لا سواهما.
بقية الشجاج
الحنفية - قالوا: لا قصاص في بقية الشجاج لأنه لا يمكن اعتبار المساواة فيها لأنه لاحد ينتهي السكين اليهن ولأن فيما قوق الموضحة، وهي الهاشمة، والمنقلة، والآمة، فيها كسر العظم، ولا قصاص فيه وهذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
وقال محمد في الأصل - وهو ظاهر الرواية - يجب القصاص فيما قبل الموضحة، لأنه يمكن اعتبار المساواة فيهن إذ ليس فيه كسر العظم، ولا خوف هلاك غالب، فيسبر غورها بمسبار، ثم تمخذ حديدة بقدر ذلك، فيقطع بها مقدرا ما قطع، فيتحقق استيفاء القصاص.
قالوا: وفيما دون الموضحة، وهي الست المتقدمة عليها، من الحارصة إلى السمحاق، يجب حكومة عدل، لأنه ليس فيها أرش مقدر، ولا يمكن غهداره، فوجب اعتبراه بحكم العد، وهو ماثور عن النخعي، وعمر بن عبد العزيز.
قالوا: وفي الهاشمة عشر الدية، وفي المنقلة عشر الدية، ونسف عشر الدية، وفي الآمة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الديةن فإن نفذت فهما جائفتان ففيهما ثلثا الدية. لما روي في كتاب عمرو بن حزم، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة غشر، وفي المنقلة خمس عشر، وفي الآمة، ويروى المأمومة ثلث الدية وقال عليه الصلاة والسلام: (في الجائفة ثلث الجية) وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية، ولأنها إذا نفذت نزلت منزلة جائفتين، إحداهما من الجانب البطن، والأخرى من جانب الظهر، وفي كل جائفة ثلث الدية. فلهذا وجب في النافذة ثلث الدية.
وقالوا: إن الجائفة تختص بالجوف، جوف الرأس، أو جوف البطن.
وتفسير حكومة العدل على ما قاله الإمام الطحاوي رحمه الله: إن يقوم مملكوكاً بدون هذا الأثر(5/316)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ويقوم، وبه هذا الأثر ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القميتين، فإن كان نصف عشر القيمة، يجب نصف عشر الدية، وإن كان ربع عشر، فربع عشر.
الشافعية - قالوا: في الهاشمة مع إيضاح، أو احتاج إليه بشق لإخراج عظم، أو تقويمه، عشرة من الإبل، وهي عشر دية الكامل بالحرية، لما روي عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم: (اوجب في الهاشمة عشراً من الإبل) رواه الدارقطني والبيهقي وفعل ذلك لا يكون إلا عن توقيت، وهاشمة دون إيضاح خمس من الإبل على الصح، لأن العشرة في مقابلة الإيضاح والهشم، وأرش الموضحة خمسة، فتعين أن الخمسة الباقية في مقابلة الهشم.
وقيل: في الهشم إذا خخلا عن غيضاح العظم تجب حكومة، لأنه كسر عظم بلا إيضاح، فأشبه كسر سائر العظام - ومنقلة - خمسة عشر بعيراَ، روى النسائي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل في كتاب (الأم) فيه الإجماع، وكذا أبن المنذر، ويجب القصاص في الموضحة فقط. وفي مأمونة ثلث الدية لخبر عمرو بن حزم بذلك قال في البحر: وهو إجماع، وفي الدامغة ما في المأمومة على الأصح المنصوص، وقيل: تزاد حكومة لخرق غشاء الدماغ.
قالوا: وإنما يجب في المأمومة، وما قبلها ما ذكر إن اتحد الجاني، وأما لو تعدد فحكمه ما يأتي: لو أوضح واحد، ذكراً، حراً، مسلماً فهشم آخر - بعد الإيضاح، أو قبله - ونقل ثالث. وام رابع، فعلى كل من الثلاثة خمس من الإبل، أما الأول فبسبب الإيضاح وأما الثاني فلأنه الزائد عليها من دية الهاشمة، وأما الثالث فلنه الزائد عليهما من دية المنقلة، وعلى الرابع تمام الثلث وهو ثمانية عشر بعيراً وثلث بعير، وهو مابين المنقلة والمأمومة.
قالوا: والشجاج الخمس التي قبل الموضحة من الحارصة إلى اسمحاق. إن عرفت نسبتها من الموضحة، بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة مثلاً عرف أن المقطوع ثلث، أو نصف في عمق اللحم، وجب قسط من أرشها بالنسبة، فإن شككنا في قدرها من الموضحة، اوجبينا اليقين، وإن لم تعرف نسبته منها فتجب حكومة عدل لا بتلغ أرض موشحة، كجرح سائر البدن، كالإيضاح والهشم، والتنقيلن فإن فيه الحكومة فقط، لأن أدلة ما مر في الإيضاح، والهشم، والتنقيل لم يشمله لاختصاص أسماء الثلاثة بجراحة الرأس، والوجه، وليس غيرهما في معناهما.
قالوا: وفي جائفة وإن صغرت ثلث دية، لثبوت ذلك في حديث عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه.
وهذا كالمستثنى مما قبله إذ لا جرح في البدن يقدر غيرها، وهي جرح يصل إلى جوف فيه قوة تحيل الغذاء، أو الدواء، كداخل بطن، وداخل صدر، وداخل ثغرة نحر، وداخل جبين، وداخل خاصرة، ولا فرق بين أن يجيف بحديدة، أو خشبة، ولا جائفة في الفم، والأنف، والجفن، والعين، وممر البول، إذ لا يعظم فيها الخطر على النفس كالأمور المتقدمة، ولأنها لا تعد من الأجواف، فتجب(5/317)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فيها حكومة، فلو وصلت الجراحة إلى الفم بإيضاح من الوجه، وجب على الجاني أرش موضحة، وهو خمس من الإبل، ولو وصلت الجراحة داخل النف، بكسر قصبة الأنف فيجب أرش هاشمة، وهة عشر من الإبل مع وجوب حكومة فيهما للفوذ إلى الفم، والأنف، لأنها جناية أخرى، ولزيادة الخطر، والقبح فيهما.
قالوا: وإن حز بسكين من كتف، أو فخذ إلى البطن فأجافه، فيجب على الجاني أرش جائفة، وهو ثلث دية - وحكومة لجراحة الكتف' أو الفخذ، لأنها في غير محل الجائفة، وإن حز بها من الصدر إلى البطن أو النحر، فيجب فيها أش جائفة بلا حكومة، لأن جميعه محل الجائفة، ولو أجافه حتى لذع كبده، أو طحاله لزمه مع دية الجائفة حكومة في ذلك، ولو كسر ضلعه كانت حكومته معتبرة بنفوذ الجائفة، فإن نفذت في غير الضلع لزمه حكومة مع الدية، وإن لم تنفذ إلا بكسره، دخلت حكومة كسره في دية الجائفة.
ولا يختلف أرش موضحة بكبرها، ولا صغرها، لاتباع الاسمن ولا بكونها بارزة، أو مستورة بالشعر، ولا يشترط أن تكون موضحة بل لو غرز فيه غبرة فوصلت إلى الجوف تسمى جائفةن ولذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: وهكذا كل ما في ارأس من الشجاج فهو على الأسماء اهـ.
واعلم أن الموضحة تتعدد صورة، وحكماً، ومحلاً، وفاعلاً، فلو أوضح الجاني مع اتحاد الحكم موضعين بينهما لحم، وجلد معاً. قيل: أو بينهما لحم فقط، أو جلد فقط، فموضحتان أما في الأولى فلاختلاف الصورة مع قوة الحادز، وأما في الثانية فلوجود حاجز بين الموضعين، والأصح أنها واحدة، ولو كثرت الموضحات تعدد الأرش بحسبها ولا ضبط، وقيل: لا يجب أكثر من دية النفس.
قالوا: ولو انقسمت موضحة عمداً، وخطأ فموضحتان، أو شملت رأساً ووجهاً فموضحتان، على الصحيح، ولو وسع الجاني موضحته مع اتحاد الحكم فواحدة على الصحيح وقيل: ثنتان. ولو وسع غير الجاني الموضحة، فثنتان، لأن فعل الإنسان لا ينبني على فعل غيره. كما لو قطع يد رجل، وحز آخر رقبته، فإن على كل منهما جنايته. والجائفة كالموضحة في الاتحاد، والتعدد، المتقدم، ولو طعنه بآلة نفذت في بطنه وخرجت من ظهره، أو عكسه أو نفذت من جنب وخرجت من جنب فهما جائفتان في الأصح. اعتباراً للخارجة بالداخلة، وقد ثبت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قضى في رجل رمى ردلاً بسهم فأنفذه بثلثي الدية، وثبت أيضاً أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد قضى بهذا الحكم، ولا مخالف لهما فكان لإجماعاً اهـ.
المالكية رحمهم الله تعالى - قالوا: يقتص من الموضحة. ويقتص مما قبلها من كل ما لا يظهر به العظم وهي سنة. ثلاث متعلقة بالجلد، وهي، الدامية، والحارصة والسممحاق، وثلاث متعلقة باللحم، وهي الباضعة، والمتلاحمة، والملطاء، بكسر الميم.
قالوا: والهاشمة، تعتبر في القصاص إن اتحد المحل، بالمساحة حولاً، وعرضاً، وعمقاً، وما بعد الموضحة من الشجاج فلا قصاص فيه، بل يتعين فيه العقل، فيستوي عمده، وخطؤه، وهي:(5/318)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المتنقلة (بفتح النون كسر القاف مشددة) وهي لا تكون إلا في الرأس، أو الوجه، هي ما ينقل فيها فراش العظم، وهو العظم الرقيق الكائف فوق العظم كقشر البصل، أي ما يزيل منها الطبيب فراش العظم لأجل الدواء، ليلتئم الجرح. وإنما لم يكن فيها قصاص لشدة خطرها على النفس، وإزهاق الروح.
وآمة. بفتح الهمزة ممدودة، وهي ما أفضت لأم الدماغ، أي الجرح الواصل لأم دماغ، ولم تخرقها. وأم الدماغ جلدة رقيقة مفروشة عليه، متى انكشفت عنه مات، والدماغ اسم للمخ.
قالوا: ولا يجب القصاص إن عظم الخطر، واشتد الخوف في غير الجراحات التي بعد الموضحة. أي جراح الجسد غير المنقلة، والآمة، المتقدمتين. لأنه لا قصاص فيهما من غير قيد بعظم الخطر، لأن شأنهما عظم الخطر، والجراحات التي في الجسد ويخاف منها إزهاق الروح، ككسر عظم الصدر، وكسر عظم الصلب، أو العنق، ورض الأنثيين.
مبحث في بأخير القصاص
الحنفية - قالوا: من جرح رجلاً جراحة عمداً، ووجب القصاص، فلا يقتص منه حتى يبرأ من الجراحة، لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (يستأني في الجراحات سنة) ولأن الجراحات يعتبر فيها مآلها لا حالها لأن حكمها في الحال غير معلوم، لأنها ربما تسري إلى النفس فيظهر أنه قتل، وإنما يستقر الأمر بالبرء.
المالكية - قالوا: يجب تأخير القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد، أو حر يخاف منه الموت، لئلا يموت فيلزم أخذ نفس بدون نفس، وكذلك يؤخر إقامة القصاص في الأطراف إذا كان الجاني مريضاً حتى يبرأ من مرضه، ويؤخر أيضاً القصاص فيما دون النفس حتى يبرأ المجروح، لاحتمال أن يموت، فيكون الواجب القتل بقسامة، وينتظر برء المجني عليه، ولو تأخر البرء سنة، خوف أن يؤول إلى النفس، أو إلى ما تحمله العاقلة، وتجب الحكومة إذا برئ على شين، وإلا ففيه الأدب في العمد.
الشافعية - قالوا: يجب أن يقتص المستحق على الفور، إن طلب ذلك في النفس جزماً، ويقتص من الجاني فيما دون النفس في الحال، اعتباراً بالقصاص في النفس، لأن الموجب قد تحقق فلا يعطل، ولأن القصاص موجب الإتلاف فيتعجل، كقيم المتلفات، والتأخير أولى لاحتمال العفو، ويجوز للمجني عليه أن يقطع الأطراف متوالية، ولو فرقت من الجاني، لأنها حقوق واجبه في الحال.
تأخير قصاص الحامل
واتفق الأئمة: على أن المرأة الحامل إذا وجب عليها القصاص في النفس أو الأطراف، إذا طلب المجني عليه حبسها، فإنها تحبس حتى تضع حملها، ويؤخر عنها القصاص في النفس والأطراف حتى(5/319)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تضع وترضع وليدها وينقضي النفاس، ويستغني عنها ولدها بغيرها من امرأة أخرى، أو بهيمة يحل لبنها، أو فطام حولين، إذا فقد ما يستغني الولد به، وذلك في قصاص النفس. لأنه اجتمع فيها حقان، حق الجنين وحق الولي في التعجيل، ومع الصبر يحصل استيفاء الجنين، فهو أولى من تفويت أحدهما.
أما في قصاص الطرف أو حد القذف، فيؤجل لأن في استيفائه قد يحصل إجهاض الجنين، وهو متلف له غالباً، وهو بريء، فلا يهلك بجريمة غيره، ولا فرق بين أن يكون الجنين من حلال، أو جرام، ولا بين أن يحدث بعد وجوب العقوبة، أو قبلها، حتى أن المرتدة لو حملت من الزنا بعد الردة، لا تقتل حتى تضع حملها، وأما تأخيرها لارضاع اللبأ (هو اللبن الرقيق الذي ينزل من المرأة في الأيام الأولى من الولادة) فلأن الولد لا يعيش إلا به محققاً، أو غالباً مع أن التأخير يسير، وأما تأخيرها للاستغناء بغيرها، فلأ جل حياة الولد أيضاً، فلأنه إذا وجب التأخير لوضعه فوجوبه بعد وجوده وتيقن حياته أولى، ويسن صبر الولي بالاستيفاء بعد وجود مرضعات يتناوبنه، أو لبن شاة، أو نحوه، حتى توجد امرأة فاضلة مرضعة لئلا يفسد خلقه نشؤه بالألبان المختلفة، ولبن البهيمة، وتجبر المرضعة بالأجرة، فلو وجد مراضع وامتنعن أجبر الحاكم من يرى منهن بالأجرة.
قالوا: ولو بادر المستحق وقتلها بعد انفصال الولد قبل وجود ما يغنه فمات الولد، لزمه القود فيه، لأنه تسبب في موته، كما لو حبس رجلاً ببيت ومنعه الطعام والشراب حتى مات. وإن قتلها وهي حامل، ولم ينفصل حملها، أو انفصل سالماً ثم مات بعد ذلك فلا ضمان عليه لأنه لا يعلم أنه مات بسبب الجناية، فإن انفصل ميتاً فالواجب، في غرة، وكفارة، وإن انفصل متألماً؟ ثم مات، فتجب دية وكفارة، لأن الظاهر أن تألمه وموته من موتها، والدية والغرة تجب على العاقلة، لأن الجنين لا يباشر بالجناية، ولا تتيقن حياته فيكون هلاكه خطأ، أو شبه عمد، بخلاف الكفارة، فإنها تجب في ماله خاصة، وإن قتلها الولي بأمر الحاكم - كان الضمان على الإمام علماً بالحمل، أو جهلا، أو علم الإمام وحده. لأن البحث عليه، وهو الآمر به، والمباشر كالآلة، لصدور فعله عن رأيه وبحثه.
قالوا: والصحيح تصديقها في حملها إذا أمكن حملها عادة بغير مخيلة، لقول تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} من آية [228 سورة البقرة] أي من حمل أو حيض، ومن حرم عليه كتمان شيء، وجب قبوله إذا أظهره كالشهادة، لأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قبل قول الغامدية في الحمل، ولم يطلب منها البينة، ولا حلف يمين، أما إذا لم يمكن حملها عادة كآيسة مثلاً، فلا تصدق في ادعاء الحمل، لأن الواقع يكذبها.
وقيل: لا تصدق في اعترافها بالحمل، لأن الأصل عدم الحمل، وهي متهمة بتأخير الواجب، فلا بد من بينة تقوم على ظهور مخايله أو إقرار المستحق.
وعلى القول الأول هل تحلف أو لا؟ قولان، أرجحهما الأول. لأن لها غرضاً في التأخير.(5/320)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مبحث موت المجني عليه بعد القصاص.
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا: إذا قطعت يد رجل عمداً، فاقتص له من يد الجاني، ثم مات المجني عليه، فإنه يقتل المقتص منه، لأنه تبين أن الجناية كانت قتل عمد، وحق المقتص له القود، واستيفاء القطع لا يوجب سقوط القود، إذا استوفى طرف من عليه القود.
وعن أبي يوسف: أنه يسقط حقه في القصاص. أنه لما اقدم على القطع فقد أبرأه عما وراءه، والحنفية: يقولون: إنما أقدم على القطع ظناً منه أن حقه فيه، وبعد السراية تبين أنه في القود، فلم يكن مبرئاً عنه بدون العلم به.
الشافعية - قالوا: لو اقتص مقطوع عضو فيه نصف الدية من قاطعه، ثم المقطوع الأول سراية، فيجب القصاص من القاطع، ويجوز لأولياء الدم العفو عنه بنصف دية فقط لأن اليد المستوفاة قبل الموت مقابلة بالنصف الآخر.
وأن مات الجاني حتف أنفه، أو قتله غير القاتل، تعين نصف الدين في تركة الجاني، ولو قطع ينده فاقتص المقطوع، ثم مات سراية، فلوليه حز رقبة الجاني في مقابلة نفس مورثه؛ فإن عفا عن حزها، فلا شيء له، لأنه استوفى ما يقابل الدية بقصاص اليدين.
مبحث الديات
المالكية، الشافعية، والحنابلة رحمهم الله تعالى - قالوا: الدية: هي المال الواجب بجناية على الحر في نفس، أو فيما دونها، وأصلها ودية مشتقة من الودي، وهو رفع الدية، ولأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله لا أن يصدقوا} آية 92 من النساء والأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك كثيرة، والإجماع منعقد على وجوبها في الجملة.
قالوا: يجب في قتل الذكر، الحر، المسلم، المحقون الدم، والقاتل له لا رق فيه، مائة بعير، لأن الله تعالى أوجب في الآية المذكورة دية، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم في قوله: (في النفس مائة من الإبل) رواه النسائي.
وأول من سنها مائة عبد المطلب حد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وجاءت الشربعة مقررة لها، والبعير يطلق على الذكر والأنثى، ولا تختلف الدية بالفضائل والرذائل، وأن اختلفت بالأديان والذكورة والأنوثة، بخلاف الجناية على الرقيق فإن فيه القيمة المختلفة، أما إذا كان المقتول غير محقون الدم كتارك الصلاة كسلاً، والزاني المحصن، إذا قتل كل منهما وهو مسلم فلا دية فيه، ولا كفارة، وقد يعرض للدية ما يغلظها وهو أحد أسباب خمسة، كون القتل عمداً، أو شبه عمد، أو في الحرم، أو للذي رحم محرم، وقد يعرض لها ما ينقصها وهو أحد أسباب أربعة: الأنوثة، والرق، وقتل(5/321)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الجنين، والكفر، فالأول يردها إلى الشطر، والثاني إلى القيمة، والثالث إلى الغرة، والرابع إلى الثلث.
وهي مثلثة قي قتل العمد سواء أوجب فيه قصاص وعفي عنه أم لا، كقتل الوالد ولده، والمراد بتثليثها جعلها ثلاثة أقسام. وإن كان بعضها أزيد من بعض، وهي ثلاثون حقه، وهي الناقة التي طعنت في السنة الرابعة، وثلاثون جذعة، وهي الناقة التي طعنت في السنة الخامسة، وأربعون خلفة، أي حاملاً، لخبر الإمام الترمذي بذلك، فهي مغلظة من ثلاثة أوجه، كونها على الجاني، وكونها حالة، ومن جهة السن. وهي في العمد على الجاني مثلثة معجلة، وشبه العمد مثلثة على العاقلة مؤجلة.
وإنما أوجبوا الدية حالة في العمد تعظيماً لحرمة المسلم المجني عليه، وجبراً لخاطر أولياء الدم.
قالوا: وتغلظ الدية في جرح العمد كما تغلظ في النفس من تثليث، وتربيع، لا فرق في الجرح بين ما يقتص في كالموضحة أو لا.
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا: يجب في قتل العمد، وشبه العمد دية مغلظة على العاقلة والكفارة على وحرمان الميراث، لأنه جزاء القتل، والشبهة تؤثر في سقوط القصاص دون حرمان الميراث، والأصل في وجب الدية المغلظة على عاقلة القاتل في شبه العمد حديث حمل بن مالك رضي الله تعالى عنه، فقد روي عن حمل بن مالك قال: كنت بين ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، أو بمسطح خيمة، فألقت جنيناً ميتاً، فاختصم أولياؤها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه اللام لأولياء الضاربة (دوه) فقال أخوها: اتدي من لا صاح ولا استهل ولا شرب، ولا أكل، ودم مثله يطل، فقال عليه السلام: (أسجع كسجع الكهان؟ وفي رواية (دعني وأراجيز العرب، قوموا فدوه) ولا ريب أن قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة على ما ذكروا في تفصيل الحديث، إنما كان بجناية شبه العمد، ودون الخطأ، فكأن وجوب الدية على العاقلة في جناية شبه العمد ثابتاً بالنص، دون القياس.
وقالوا: والأصل أن كل دية وجبت بالقتل ابتداء لا بمعنى يحدث من بعد، فهي على العاقلة، اعتباراً وتجب في ثلاث سنين، لقضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتؤجل تعظيماً لحرمة الجاني، ورحمة به، فإن المجني عليه قد نفذت في الأقدار عند انتهاء أجله المقدر والجاني ترجى توبته، والعفو عنه، إذا أجلت الدية ثلاث سنين.
ودية شبه العمد مائة من الإبل أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وهي الناقة التي طعنت في السنة الثانية من غمرها، وخمس وعشرون بنت لبون، وهي الناقة التي طعنت ففي الثالثة. وخمس وعشرون ناقة، وهي التي طعنت في السنة الرابعة، وخمس وعشرون جذعة، وهي الناقة التي طعنت في السنة الخامسة من سنها، وإنما غلظت الدية لقوله صلى الله عليه وسلم (في نفس المؤمن مائة من الإبل) ووجه الاستدلال به، أنه الثابت منه عليه السلام وليس فيه دلالة على صفة من التغليظ، ولا بد منه بالإجماع،(5/322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وما رواه غير ثابت لاختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في صفة التغليظ، فإن عمر، وزيداً وغيرهما قالوا: مثل ما قالوا.
وقال على رضي الله عنه تجب ًثلاثاً، ثلاث وثلاثون ناقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون خلفة، وقال أبن مسعود بمثل ما قال الحنفية أرباعاُ والرأي لا مدخل له في التقارير، فكان كالمرفوع، ويصير معارضاً لما رووه، وإذا تعارضا، كان الأخذ بالمتيقن أولى، ودية شبه العمد مثل دية العمد المحض.
قالوا: ولا يثبت التغليظ إلا في الإبل خاصة. فلا يزاد في الدراهم على عشرة آلاف درهم، ولا يزاد في الدنانير عن ألف دينار.
دية الخطأ
الحنفية - والحنابلة - قالوا: إن الدية في الخطأ مائة من الإبل على العاقلة، وتجب الكفارة في مال القاتل، والدية تكون أخماساً، عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون أبن مخاض، وعشرون ناقة، وعشرون جذعة، وهذا قول أبن مسعود رضي الله تعالى عنه أخذوا به، ولأنه أخف فكان أليف بحالة الخطأ، لأن الخاطئ معذور.
الشافعية، والمالكية - قالوا: قي قتل الخطأ تجب الدية أخماساً مؤجلة على العاقلة إلا أنهم جعلوا عشرين أبن لبون، مكان عشرين أبن مخاض، لخبر الترمذي وغيره بذلك، فهي مخففة في الخطأ من ثلاثة اوجه من كونها على العاقلة من السن في الإبل، ومن التأجيل في دفعها، ودية شبه العمد مثلثة على العاقلة، مؤجلة، فهي مخففة من وجهين، مغلظة من وجه.
أنواع الدية
الحنفية، والحنابلة - قالوا: يجوز أخذ الدراهم، والدنانير مع وجود الإبل، ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة، الإبل، والذهب، والفضة. فمن الإبل مائة، ومن الفضة عشرة آلاف درهم، ومن الذهب ألف دينار، لأن التقدير إنما يستقيم بشيء معلوم المالية، وغير هذه الأنواع الثلاثة مجهولة المالية، ولهذا لا يقدر بها ضمان شيء مما وجب ضمانه بالإتلاف، والتقدير الإبل عرف بالآثار المشهورة.
وقال أبو يوسف، ومحمد - تثبت الدية من الإبل، والذهب، والفضة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، ومن الحلل مائتا حلة، كل حلة ثوباً، لأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هكذا جعل على أهل كل مال منها.
الشافعية، والمالكية - قالوا: لا يؤخذ في الدية بقر، ولا غنم، ولا حلل - ولا غرض، ومن لزمته دية، وله أبل فتؤخذ الدية منها، ولا يكلف غيرها، لأنها تؤخذ على سبيل المواساة.(5/323)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: تؤخذ من غالب إبل قبيلته، إن كانت إبله من غير ذلك، وإن لم يكن له إبل فتؤخذ من غالب إبل قبيلة بدوي، لأنها بدل متلف، وإلا فتؤخذ من غالب إبل أقرب بلاد إلى موضع المؤدي، ما لم تبلغ مؤنة نقلها مع قيمتها أكثر من ثمن المثل بقبيلة العدم، فإنه لا يجب حينئذ نقلها، وإذا وجب نوع من الإبل لا يعدل عنه إلى نوع من غير ذلك الواجب، ولا يعدل إلى قيمة عنه إلا بتراض من المؤدي، والمستحق، لأن المقصود بها تعظيم حرمة المجني عليه.
ولو عدمت إبل الدية، فالقديم الواجب ألف دينار على أهل الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة على أهل الدراهم، للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم) صححه أبن حبان والحاكم من حديث عمرو بن حزم، والقول الجديد، الواجب قيمة الإبل وقت وجوب تسليمها بالغة ما بلغت لأنها بدل متلف، فيرجع إلى قيمتها عند أعواز أصله، وتقوم بنقد غالب بلده، لأنه أقرب من غيره، وأضبط، وإن وجد بعض الإبل الواجبة أخذ الموجود منها، وقيمة الباقي.
المالكية - قالوا: لا يشترط في الإبل حد السن، وإنما المدار على أن تكون الإبل حاملاً، سواء كانت حقة، أو كانت جذعة، أو غيرهما.
واتفقوا على أنه لا تؤخذ في الدية الإبل المريضة، ولا المعيبة إلا برضى المستحق بذلك إذا كان أهلاً للتبرع، لأن الحق له، فله إسقاطه، ويثبت حمل الخلفة المأخوذة من الدية، بأهل خبرة بذلك. بأن يشهد عدلان منهم عند إنكار المستحق حملها إلحاقاً لها بالتقويم، وإن أخذها المستحق. بقولهما، أو بتصديق المستحق على حملها، ثم ماتت عند المستحق وشق جوفها فبانت حائلاً، غرمها وأخذ بدلها حاملاً، والأصح أجزاؤها قبل خمس سنين لصدق الاسم عليها.
مبحث دية المرأة، والمسيحي، واليهودي
الشافعية - قالوا: دية المرأة، والخنثى المشكل، الحران، دية كل منهما في نفس أو جرح، كنصف دية رجل حر، ممن هما على ديته. لما روى البيهقي خبر (دية المرأة نصف دية الرجل) وألحق بنفسها جرحها، وألحق بها الخنثى، لأن زيادته عليها مشكوك فيها، ففي قتل المرأة والخنثى خطأ يجب: عشر بنات مخاض، وعشر بنات لبون، وهكذا وفي قتلهما عمداً، أو شبه عمد، خمس عشرة حقة، وخمس عشرة جذعة، وعشرون خلفة.
ودية اليهودي، والنصراني، والمعاهد، والمستأمن، إذا كان معصوماً تحل مناكحته، ثلث دية مسلم نفساً، وغيرها، أما في النفس فروي مرفوعاً وقال الشافعي في الأم (قضى بذلك عمرو، وعثمان رضي الله عنهما) ، ولأنه اقل ما أجمع عليه، وهذا التقدير لا يعقل بلا توقيف، ففي قتله عمداً، عشر حقائق، وعشر جذعات، وثلاث عشة خلفة وثلث، وكذلك في شبه العمد، وفي قتله الخطأ لم تغلظ.(5/324)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فتجب ستة وثلثان من كل من بنات المخاض، وبنات اللبون، وبني اللبون، والحقاق، والجذاع والسامرة، كاليهود والصابئة كالنصارى إن لم يكفرهما أهل ملتهما، ومجوسي له أمان ديته أخس الديات وهي ثلثا عشرة دية مسلم، كما قال به عمر، وعثمان، وأبن مسعود رضي الله تعالى عنهم ففيه عند تغليظ الدية، حقتان، وجدعتان، وخلفتان وثلثا خلفة، وعند تخفيف الدية. تجب بعير وثلث من كل سن، والمعنى في ذلك إن في اليهودي، والنصراني خمس فضائل وهي حصول كتاب، ودين كان حقاً بالإجماع، وتحل مناكحتهم وذبائحهم، وقرون بالجزية، وليس للمجوسي من هذه الخصال إلا التقرير بالجزية، فكانت ديته من الخمس من دية اليهودي والنصراني، وكذلك الوثني، كعابد شمس، وقمر، وزنديق، ومن لا ينتحل ديناً، ممن له أمان عندنا، كدخوله لنا رسولاً من قبلهم، أما الوثني الذي لا أمان له، فدمه هدر، ودية نساء من ذكر على النصف من دية رجالهم.
والمذهب عندهم أن من قتل معصوماً، ولم تبلغه دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أن تمسك بدين لم يبدل، فدية أهل ديته ديته، فإن كان كتابياً فدية كتابي، وإن كان مجوسياً فدية مجوسي، وإن تمسك بدين بدل، ولم يبلغه ما يخالفه، أو لم تبلغه دعوة نبي أصلاً، فديته كدية المجوسي.
وقيل: تجب دية أهل ديته، وقيل: لا يجب شيء لأنه ليس على دين حق، ولا عهد له ولا ذمة، وقال الزركشي: وعلى المذهب يجب فيمن تمسك الآن باليهودية، أو النصرانية دية مجوسي، لأنه لحقه التبديل - آي إذا لم تحل مناكحتم.
قالوا: ولا يجوز قتل من لم تبلغه الدعوة المحمدية، بل يعذر، ويقتص لمن أسلم بدار الحرب، ولم يهاجر منها بعد إسلامه، وإن تمكن من الهجرة، لأن العصمة بالإسلام اهـ.
الحنفية - قالوا: دية المرأة على النصف من دية الرجل، وقد ورد بهذا اللفظ موقوفاً عن الإمام على كرم الله وجهه، ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه، ثلث الدية وما فوقها ينتصف، وما دونه لا يتنصف وبه أخذ الإمام الشافعي. وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث الدية) وبما حكي عن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب: ما تقول فيمن قطع أصبع امرأة؟ قال: عليه عشر من الإبل، قلت: فإن قطع أصبعين منها؟ قال عليه عشرون من الإبل، قلت: فإن قطع ثلاث أصابع؟ قال: عليه ثلاثون من الإبل. قلت: فإن قطع أربع أصابع؟ قال: عليه عشرون من الإبل، قلت: سبحان الله! لما كثر ألمها، واشتد مصابها قل أرشها، قال: أعراقي أنت؟ فقلت: لا. بل جاهل مسترشد، أو عالم مستثبت، قال: إنه السنة، وبه أخذ الإمام الشافعي رحمه الله، والحجة عليه، ما رواه الحنفية بعمومه، وأن حالها انقص من حال الرجل، ومنفعتها أقل.
وقد ظهر أثر النقصان بالتنصيف في النفس، فكذا في أطرافها، وأجزائها، اعتباراً بها وبالثلث وما فوقه، لئلا يلزم مخالفة التبع للأصل، والحديث المروي نادر، ولو كان هذا الحكم سنة الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالفوها.(5/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقالوا: ودية المسلم والذمي سواء، لما روي عن النبس صلوات الصلاة وسلامه عليه أنه قال: (دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار) وكذلك قضى أبو بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما. وما رواه الشافعي رحمه الله لم يعرف راويه، ولم يذكر في كتب الحديث، وما رووه اشهر مما رواه الإمام مالك رحمه الله، فإنه ظهر به عمل الصاحبة رضوان الله تعالى عليهم.
وذلك في العمد والخطأ من غير فرق بينهما، لعموم الآية الكريمة، إن {النفس بالنفس} ولم تنسخ بآية أخرى.
المالكية - قالوا: إن دية المرأة، ودية اليهودي، والنصراني، على النصف من دية الرجل المسلم، في العمد، والخطأ من غير فرق، وهي ستة آلاف درهم، وخمسمائة دينار، لقوله عليه الصلاة والسلام: (عقل المسلم) والكل عنده اثنا عشر ألفاً من الدراهم.
أما المجوسي المعاهد، والمرتد فدية كل منهما ثلث خمس دية المسلم خطأ وعمداً، فتكون من الذهب ستة وستين ديناراً، وثلثي دينار، ومن الورق ثمانمائة درهم، ومن الإبل ستة أبعرة وثلثا بعير، ودية أنثى كل من ذلك نصفه. فدية الحرة المسلمة من الإبل خمسون وهكذا، ودية المجوسية المرتدة أربعمائة درهم وهكذا.
الحنابلة - قالوا: إن كان للنصراني، ولليهودي عهد وقتله مسلم عمداً، فديته كدية المسلم، وإن قتله خطأ فنصف دية المسلم، أما غير المعصوم من المرتدين، ومن لا أمان لهم فإنه مقتول بكل حال، وأما من لا تحل مناكحته فهو كالمجوسي، وأما الأطراف والجراح فبالقياس على النفس اهـ.
مبحث الجناية على الجنين
الحنفية - قالوا: إن الجنين إذا كان محققاً في بطن الأم فليس له ذمة صالحة لكونه في حكم جزء من الآدمي، لكنه منفرد بالحياة معد لأن يكون نفساً له ذمة، فباعتبار هذا الوجه يكون أهلاً لوجوب الحق له من عتق، أو إرث، أو نسب، أو وصية، وباعتبار الوجه الأول لا يكون أهلاً لوجوب الحق عليه، فإما بعدما يولد فله ذمة صالحة. ولهذا لو انقلب على مال إنسان فأتلفه يكون ضامناً له، ويلزمه مهر امرأنه بعقد الولي.
فإذا ضرب رجل بطن امرأة حامل فألقت من بطنها جنيناً ميتاً، فيجب فيه غرة، وهي نصف عشر دية الرجل، إذا كان ذكراً، وفي الأنثى عشر دية المرأة، وكل منهما خمسمائة درهم، لأن نصف العشر من عشرة آلاف درهم، هو العشر من خمسة آلاف درهم. والدليل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الجنين غرة، عبد أو أمة، قيمته خمسمائة) ويروى (أو خمسمائة) والغرة على العاقلة إذا كانت خمسمائة درهم، لأن النبي صلوات الله وسلامه عليه قضى بالغرة على العاقلة، ولأنه بدل النفس، ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم دية، حيث قال: (دوه) وقالوا له: أندي من لا صاح ولا أستهل - الحديث.(5/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إلا أن العواقل لا تتحمل ما دون خمسمائة درهم. وتجب في سنة، لما روي عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: (بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله على العاقلة في سنة) ولأنه إن كان بدل النفس من حيث أنه نفس على حجة، فهو بدل العضو من حيث الاتصال بالأم فعملنا بالشبه الأول قي حق التوريث، وبالثاني في حق التأجيل إلى سنة.
ويستوي فيه الذكر والأنثى، لإطلاق الحديث، ولأن في الحيين إنما ظهر التفاوت، لتفاوت معاني الآدمية، ولا تفاوت في الجنين، فيقدر بمقدار واحد، وهو خمسمائة.
فإن ألقته حياً ثم مات. فتجب في دية كاملة، لأنه أتلف حياً بالضرب السابق.
وإن ألقته ميتاً ثم ماتت ألم بعده، فعليه دية بقتل ألم، وعليه غرة بإلقائها الجنين، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في هذا بالدية، والغرة.
وإن ماتت الأم من الضربة ثم خرج الجنين بعد ذلك حياً، ثم مات، فتجب عليه دية في الأم، ودية في الجنين، لأن موت الأم أحد سببي موته، لأنه يختنق بموتها، إذ تنفسه بتنفسها، فلا يجب الضمان بالشك، وما يجب في الجنين موروث عنه، لأنه بدل نفسه فيرثه، ورثته، ولا يرثه الضارب، حتى لو ضرب بطن امرأنه فألقت ابنه ميتاً، فعلى عاقلة الأب غرة ولا يرث منها، لأنه قالت بغير حق مباشرة، ولا ميراث للقال، هذا في جنين المرأة الحرة، وأما جنين الامة إذا كان ذكرا فيجب نصف عشر قمته لو كان حياً، وعشر قمته لو كان أنثى، لأنه بدل نفسه، لأن ضمان الطرف لا يجب إلا عند ظهور النقصان، ولا معتبر به في ضمان الجنين فكان بدل نفسه فيقدر بها، ويجب في مال الضارب مطلقاً من غير تقييد بالبلوغ إلى خمسمائة درهم.
وقال أبو يوسف: يجب ضمان النقصان لو انتقصت الأم اعتباراً بجنين البهائم، ولأن الضمان في قتل الرقيق ضمان ماله عنده. فصح الاعتبار على اصله.
فإن ضربت الأمة، فاعتق المولى ما في بطنها، ثم ألقته حياً، ثم مات، ففيه قيمته حياً، ولا تجب الدية، وإن ما بعد العتق، لأنه قتله بالضرب السابق، وقد كان في حالة الرق فلهذا تجب القيمة دون الدية، وتجب قيمته حياً، لأنه بالضرب صار قاتلاً إياه وهو حي فنظرنا إلى حالتي السبب، والتلف.
قالوا: ولا كفارة في الجنين، لأن الكفارة فيها معنى العقوبة، قود عرفت في النفوس المطلقة، فلا تتعداها، ولهذا لم يجب كل البدل، إلا أن يشاء لأنه ارتكب محظوراً، فإذا تقرب إلى الله تعال كان أفضل له، ويستغفر مما صنع.
قالوا: والجنين الذي استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في جميع هذه الأحكام، لإطلاق الأحاديث، ولأنه ولد في حق أمومية الولد، وانقضاء العدة والنفاس وغير ذلك، فكذا في حق هذا الحكم، ولأنه بهذا القدر يتميز من العلقة والدم، فكان نفساً، والله تعال أعلم.
الشافعية - رحمهم الله تعالى - قالوا: يجب في الجنين غرة إن انفصل ميتاً بجناية في حياتها، أو(5/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
انفصل بعد موتها بجناية في حياتها، وكذا إذا انفصل بعض الجنين بلا انفصال من أمه كخورج رأسه ميتاً.
وقيل: لا بد من أنفصاله، لأن ما لم ينفصل يصير كالعضو منها، سواء أكانت الدناية بالقول كالتهديد، أو بالفعل، أو بالترك.
وإذا لم يكن معصوماً عند الجناية، كجنين حربية من حربين وإن أسلم أحدهما بعد الجناية، أو لم يكن الجنين مضموناً كأن كان الجاني مالكاً للجنين ولأمه، بأن جنى السيد على أمته الحامل، وجنينها من غيره، وهو مالك له فعتقت ثم القت الدنين، أو كانت أمه ميتة، أو لم ينفصل ولا ظهر بالجناية على أمه، فلا يجب شيء في هذه الصور، لعدم احترامه في الولى، وعدم ضمان الجاني في الثانية، ولظهر موته بموتها في الثالثة، ولعدم تحقق وجوده في الأخيرين.
وإن انفصل حياً، وبقي بعد انفصاله زماناً بلا ألم فيه ثم مات فلا ضمان على الجاني. وإن مات حين خرج بعد انفصاله، أو تحرك تحركاً شديداً كقبض يد وبسطها، ولو كانت حركة مذبوح، أو دام ألمه ومات منه، فتجب دية نفس كاملة على الجاني، ولو انفصل الجنين لدون ستة أشهر. ولو ألقت امرأة بجناية عليها جنينين ميتين فغرتان تجبان فيهما، أو ثلاثاً فثلاث وهكذا.
ولو ألقت يداً أو رجلاً وماتت فغرة، لأن العلم قد حضل بوجود الجنين والغالب أن اليد بانت بالجناية، أما إذا عاشت ولم تلق جنيناً، فلا يجب على الجاني إلا نصف غرة، كما أن الحي لا يجب فيها إلا نصف دية، ولا يضمن باقيه، لأنا لم نتحقق ثلثه، وإن ماتت ثم ألقت ميتاً فعليه دية في الأم، وغرة في الجنين لأنه مات بالضرب. ولو ألقت يداً، ثم جنيناً ميتاً بلا يد قبل الاندمال، وزال الألم من الم فغرة، لأن الظاهر أن اليد مبانة منه بالجناية، أو حياً فمات من الجناية، فتجب دية، وحل فيها أرش اليد، فإن عاش وشهد القوابل، أو علم أنها يد من خلقت فيه الحياة، فتجب نصف دية لليد، وإن لم تشهد القوابل بذلك ولم يعلم فنصف غرة لليد عملاً باليقين، وتجب على العاقلة في ثلاث سيني لأنه بدل النفس، ولهذا يكون موروثاً بين ورثته، وإذا ألقت امرأة لحماً بسبب جناية عليها فيجب فيه غرة إذا قال القوابل فيه صورة خفية على غيرهن. وتجب الغرة أيضاً إذا القت امرأة لحماً لا صورة فيه أصلاً، تعرفها القوافل، ولكن قلن إنه لو بقي ذلك اللح، لتصور، وتخلق، كما تنقضي به العدة، وذلك إذا كانت مضغة.
أما لو ألقت علقة لم يجب فيها شيء قطعاً كما لا تنقضي به العدة.
قالوا: والغرة الواجبة عبد، أو أمة، كما نطق به الخبر، والخبرة في ذلك إلى الغارم، ويجبر المستحق على قبولها من أي نوع كانت، ويشترط أن يكون مميزاً سليماً من عيب مبيع لأن المعيب ليس من الخيار، والأصح قبول رقيق كبير من عبد أو أمة، لم يعجز بهرم، لأنه من الخيار، مالم تنقص منافعه، ويشترط في الغرة بلوغها في القيمة نصف عشر دية الأب المسلم، وهو عشر دية الأم المسلمة.(5/328)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ففي الحر المسلم رقيق قيمته خمسة أبعرة، كما روي عنعلي، وعمر، وزيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنهم، ولأنها دية فصارت مقدرة كسائر الديات (ولأن الجنين على أقل أحوال الإنسان، فاعتبر فيه أقل ما قدره الشرع من الديات، وهو دية الموضحة والسن، فإن فقدت ثلث الغرة حساً بأن لن توجد أو شرعاً، بأن وجدت بأكثر من ثمن مثلها، فتجب خمسة أبعرة بدلاً عنها، لأنها مقدرة بها عند وجودها، فعند عدمها يؤخذ ما كانت مقدرة به، ولأن الإبل هي الأصل في الديات فوجب الرجوع إليها عند فقد المنصوص عليه، فإن فقدت الإبل الدية، فإن فقد بعضها وجبت قيمته مع الموجود.
وقيل: لا يشترط بلوغها ما ذكر: بل متى وجدت سليمة مميزة وجب قبولها، وإن قلت قيمتها لإطلاق لقظ العبد، والأمة في الخبر، وسواء كان الجنين ذكراً، أم أنثى، لإطلاق الخبر.
والغرة لورثة الجنين على فرائض الله تعالى، لأنها دية نفس، ويقدر انفاصله حياً ثم موته، وهي واجبة على عاقلة الجاني، لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: (قضى في الجنين بغرة عبد، أو أمة) .
وقيل: إن تعمد الجناية بأن قصدها بما يلقى غالباص، فالغرة عليه، والجناية عليه خطأ أو شبه عمد، سواء أكانت الجناية على أم خطأ، أو عمداً، أو شبه عمد، لأنه لا يتحقق وجوده وحياته حتى يقصد، ولهذا للا يجب القصا في الجنين إذا خرج حياً وما، لأن القصا إنما يجب في القتل العمد، ولا يتصور العمد فيه.
قالوا: والجنين اليهودي، أو النصراني بالبع لابويه قيل: كمسلم في الغرة، وقيل: هو هدر، وهذان القولان مبنيان على أن الغرة غير مقدرة بالقيمة، والأصح غرة كثلث غرة مسلم، كما في ديته، وهو بعير وثلثا بعير. كما هو الحكم على الكبير منهم.
قالوا: والجنين الرقيق، ذكراً كان أو غيره فيه عشر قيمة امه، قنة كانت أو مديرة، أم مكاتبه، أو مستولدة، قياساً على الجنين الحر، فإن الغرة في الجنين معتبرة بعشر ما تضمن به الم، وإنما لم يعتبروا قيمته في نفسه لعدم ثبوت استقلاله بانفصاله ميتاص، واستثنى ما إذا كانت الأم هي الجانية على نفسها، فإنه لا يجب في جنينها المملوك للسيد شيء، إذ لا يجب للسيد على رقيقه شيء، وتعتبر قيمة الم يوم الجناية عليها، لأنه وقت الوجوب، وقيل: يوم الإجهاض للجنين، لأنه وقت استقرار الجناية. هذا إذا انفصل الجنين ميتاً كما علم سابقاً، فإن انفصل حياً، ومات من أثر الجناية، فإنه يجب فيه قيمته يوم الانفصال قطعاص، وإن نقصت عن عشر قيمة امه، وتصرف الغرة في الجنين لسيده، فإن كانت الأم مقطوعة أطرافها والجنين سليم أطرافه قومت بتقديرها سلمية في الأصح لسلامته، كما لو كانت كافرة، والجنين مسلم، فإنه يقدر فيها الإسلام، وتقوم مسلمة، وكذا لو كانت حرة والجنين رقيق، فإنها تقدر رقيقة. وهكذا.
قالوا: وتحمل العشر المذكورة عاقلة الجاني في الأظهر من المذهب كما مر في الغرة، وإذا(5/329)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
سقط جنين ميت فادعى وارثه على إنسان أنه سقط بجنايته فأنكر صدق بيمينه، وعلى المدعي البينة، ولا يقبل إلا شهادة رجلين، فإن أقر بالجناية، وانكر الاسقاط بجنايته فأنكر صدق بيمينه، وعلى المدعي البينة، ولا يقبل إلا شهادة رجلين، فإن أقر بالجناية، وأنكر الاسقاط، وقال: السقط ملتقط، فهو المصدق أيضاً، وعلى المدعي البينة، ويقبل فيها شهداة النساء، لأن الإسقاط ولادة.
المالكية - قالوا: في إلقاء الجنين سبب ضرب، أو تخويف لغير وجه شرعي - أما إذا كان بسبب ضرب للتأديب فلا شيء فيه - أو بسبب شم ريح عفنة، أو فتح كنيف، إن كان علقة - دم لا يذوب من صب الماء الحار عليه - سواء أكانت الجناية خطأ، أو عمداً من أجنبي، أو أم، كشر بها ما يسقط به الحمل. فأسقطته ذكراص، أو أنثى، كان من زوج، أو زنا، فيجب فيه عشر واجب أمه، فإن كانت الم حرة وجب عشر ديتهان وإن كانت الم أمة وجب فيه عشر قيمتها، وتعتبر قيمتها يوم الضرب، وقيل: يوم الإلقاء، وإن جنى أب فعليه عشر دية أم الجنين لغيرهن ولا يرث منه، ويكن العشر الواجب نقداً معجلاً حالاً في مال الجاني عمداً، أو خطأ، ما لم تبلغ الغرة ثلث ديته، فتكون على العاقلة كما لو ضرب مجوسي حرة مسلمة فألقت جنيناً، أو تجب غرة في جنين الحرة، والتخيير يكون للجاني لا للمستحق. أما جنين الأمة فيتعين فيه النقد عبداً ووليدة بدل من غرة الأمة الصغيرة بلغت سبع الستين لتحرز التفرقة. وإنما يجب العشر، أو الغرة إذا نفصل عنها كله ميتاً وهي حية، فإن ماتت قبل انفصاله فلا شيء فيه لاندراجه في جية الم، وإن استهل، أو نزل ضارخاً، أو رضع، أو فعل شيئاً من كل ما يدل على أنه حي حياة مستقرة، فالدية لازمة فيه إن أقسم أولياؤه أنه مات من فعل الجاني، وإن مات عاجلاً ببعد تحقق حياته فإن لم يقسموا فلا غرة ولا دية، لأنه يحتمل موته، بغير فعل الجاني، فإن ماتت امه وهو مستهل ومات فتجب على الجاني ديتان، وإن تعمد الجاني بضرب بطن الأم فنزل مستهلاً ومات فالقصاص بالقسامة وهذا هو الراجح من الخلاف.
وأما إذا تعمد الجاني قتل الجنين بضرب رأس أمه، فالراجح أنه تجب الدية عليه، كتعمده بضرب يدها، أو رجلها.
والحاصل أن في ضرب البطن، والظهر، والرأس خلافاً، فقال أبن القاسم يجب القصاص بقسامة، وقال أشهب: لا قود فيه، بل يجب الدية في مال الجاني بقسامة أيضا، وأما تعمده الضرب في غير هذه المواضع فتجب الدية في ماله بقسمة، ومحل القصاص في تلك المسائل إن لم يكن الجاني الب، أما إذا كان الجني هو الب فلا يقتص منه إلا إذا قصد قتل الجنين بضرب بطن الأم خاصة.
ويجب تعدد الواجب من عشر أو غرة إن لم ستهل، ودية إن استهل بتعدد الجنين، ثم إن كان القتل خطأ، وبلغ الثلث فتحمله العاقلة، وأما إن كان عمداً، أو كانت الغرة أقل من الثلث فلا تتحمله العاقلة، بل يجب في مال الجاني حالاً معجلاً.
وورث الواجب في الجنين من عشر، أو غيره على الفرائض المعلومة شرعاً، الشاملة للفرض، والتعصب، فللأب الثلثان، وللأم الثلث ما لم يكن له اخوة، وإن كان له اخوة فللأم السدس وهيذا هو الراجح من المذهب، خلافاً لمن قال: تختص به الم، إذا لم تكن هي الجانية، والقائل به ربيعة،(5/330)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وذلك لأنها كالفرض عن جزء منها، وخلافاً لقول أبن هرمز حيث قال: للم والب على الثلث والثلثين، ولو كان له اخوة، وكان له اخوة، وكان الإمام مالك يقول بهذا الرأي اولاً، ثم رجع إلى القول الول لأنه الراجح.
واعلم بأنه إذا كان المسقط للجنين احد الآبوين كان هو القاتل، فلا يرث من الواجب المذكور شيئاً، لأن القاتل لا يرث.
مبحث في العاقلة، وكيفية تأجيل ما تحمله
الحنفية - قالوا: الدية في شبه العمد، وفي الخطأ، وكل دية تجب بنفس القتل على العاقلة، والعاقلة هم الذين يؤدون الدية، والأصل في وجوبها على العاقلة قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حمل بن مالك رضي الله تعالى عنه للأولياء (قوموا فدوه) .
ولأن النفس محترمة لا وجه إلى الإهدار، والخاطئ معذور، وكذا الذي تولى شبه العمد نظر إلى الآلة فلا وجه إلى إيجاب العقوبة عليه، وفي إيجاب مال عظيم اجحافة، واستئصاله، فيصيل عقوبة، فضم عليه العاقلة، فكانوا هم المقصرون في تركهم مراقبته، فخصوا به.
والعقلة هم أهل الديوان إن كان القاتل من اهل الديوان يؤخذ من عطاياهم في ثلاث سيني، واهل الديوان هم اهل الريات والألوية، وهم الجيش الذين كتبت أسماءهم في الديوان والجريدة، لأن سيدنا عمر بن الخكاب رضي الله تعالى عنه هو أول من دون الدواوين، وجعل العقل كان على أهل النصرة، وقد كانت بأنواع بالقرابة، والحلف، والولاء، والعد، وفي عهد عمر رضي الله عنه قد صارت بالديوان فجعلها على أهله اتباعاً للمعنى، ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلف فأهله، والدية صلة، ولكن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء اولى منه في اصول أموالهم، والتقدير بثلاث سيني مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعال عنه، ولأن الأخذ من العطاء للتخفيف، والعطاء يخرج في كل سنة مرة، فإن خرجت العطاء في أكثر من ثلاث سنين أو أقل اخذ منها، لحصول المقصود، ولو خرج للقاتل ثلاث عطايا في سنة واحدة في المستقبل يؤخذ منها كل الدية لأن الوجوب بالقضاء.
وإذا كان جميع الدية في ثلاث سنين فكل ثلث منها في سنة، وإن كان الواجب بالفعل ثلث دية النفس أو أقل كان في سنة واحدة. وما زاد عن الثاث إلى تمام الثلثين في السنة الثانية، وما زاد على(5/331)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ذلك إلى تمام الدية في السنة الثالثة، وما وجب على العاقلة من الدية أو على القاتل بأن قتل الأب ابنه عمداً، فهو في ماله في ثلاث سنين، لأن الشرع ورد به مؤجلاً فلا يتعمداه.
ولو قتل عشرة رجلاً خطأ فعلى كل واحد عشر الدية في ثلاث سنين اعتباراً للجزء بالكل إذ هو بدل النفس، وإنما يعتبر في مدة ثلاث سنين من وقت القضاء بالدية لأن الواجب الأصلي المثل، والتحول إلى القيمة بالقضاء، فيعتبر ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور، ومن لم يكن من أهل الديوان، فعاقلته قبيلته، لأن نصرته بهم، وهي المعتبرة في التعاقل، وتقسم عليهم في ثلاث سنين لا يزاد الواحد على اربعة دراهم في كل سنة ويجوز أن ينقص منها، فلا يؤخذ منها، فلا يؤخذ من كل واحد في كل سنة إلا درهم، أو درهم وثلث درهم، وإن لم يكن تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً، ويضم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات. الاخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام، ثم بنوهم والآباء والأبناء فقيل يدخلون مع العاقلة لقربهم وقيل: لا يدخلون لأن الضم لنفي الحرج حتى لا يصيب كل واحد أكثر من ثلاثة أو أربعة، وهذا إنما يتحقق عند الكثرة، والآباء والأبناء لا يكثرون.
ولو كانت عاقلة الرجل أصحاب الرزق يقضى بالدية في أرزاقهم في ثلاث سنين في كل سنة الثلث.
قالوا: ويدخل القاتل مع العاقلة إذا كان من أهل الديوان، أما إذا لم يكن فلا شيء عليه من الدية، ولأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره، فيكون فيما يؤدي كواحد منهم.
قالوا: وليس على النساء والذرية ممن كان له حظ في الديوان عقل لقول عمر رضي الله تعالى عنه: (لا يعقل مع العاقلة صبي، ولا امرأة) . ولأن القتل إنما يجب على أهل النصرة لتركهم مراقبته والناس لا يتناصرون بالصبيان والنساء، ولهذا لا يوضع عليهم، وعلى هذا لو كان القاتل صبياً أو امرأة لا شيء عليهما من الدية بخلاف الرجل، لأن وجوب جزء من الدية على القاتل باعتبار أنه احد العواقل لأنه ينصر نفسه، وهذا لا يوجد فيهما، ولا يعقل أهل مصر عن مصر آخر، ويعقل أهل كل مصر من أهل سوادهم، لانهم أتباع لأهل المصر. ومن جنىجناية من أهل المصر وليس له في الديوان عطاء، وأهل البادية أقرب إليه، ومسكنه المصر عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر، ولا يشترط أن يكون بينه وبين أهل الديوان قرابة، ولو كان البدوي نازلاً في المصر لا مسكن له فيه، يعقله أهل المصر، لأن أهل العطاء لا ينصرون من لا مسكن له فيه، كما أن أهل البادية لا يعقلون عن أهل المصر النازلين فيهم، لأنه لا يستنصر بهم.
قز إن كان لأهل الذمة عواقل معروفة يتعاقلون بها، فإذا قتل أحدهم خطأ فديتهعلى عاقلته بمنزلة المسلم، لانهم التزموا أحكام الإسلام في المعاملات لاسيما في المعاني العاصمة عن الأضرار، ومعنى التناصير موجود في حقهم، وإن تكن لهم عاقلة معروفة فالدية في ماله في ثلاث سنين، من يوم يقضى بها عليه كما في حق المسلم، ولا يقل كافر عن مسلم، ولا مسلم عن كافر لعدم التناصر.(5/332)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والكفار يتعاقلون فيما بينهم وإن اختلفت مللهم، لأن الكفر كله ملة واحدة، وذلك إذا لم تكن المعاداة فيما بينهم ظاهرة، أما إذا كانت ظاهرة، كاليهود، والنصارى فينبغي أن لا يتعاقلون بعضهم عن بعض.
قالوا: وعاقلة المعتق قبيلة مولاه لأن النصرة بهم لقوله عليه الصلاة والسلام (مولى القوم منهم) ومولى الموالاة يعقل عنه مولاه وقبيلته، لأنه يتناصر به، فأشبه ولاء العتاقة.
قالوا: ولا تعقل العاقلة اقل من نصف عشر الدية، وتتحمل نصف العشر فصاعداً، لحديث أبن عباس رضي الله عنهما الموقوف عليه، والمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (لا تعقل العواقل عمداً، ولاعبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً، ولا ما دون أرش الموضحة) وارش لموضحة نصف عشر بدل النفس ولأن التحمل للتحرز عن الاجحاف، ولا اجحاف في القليل، وإنما وفي الكثير، والتقدير الفاصل عرف بالسمع، وما نقص عن ذلك يكون في مال الجاني، والقياس فيه، التسوية بين القليل والكثير، فيجب الكل على العاقلة كما ذهب إليه الشافعي أو التسوية في أن لا يجب على العاقلة شيء، إلا أن الاحناف تركوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب أرش الجنين على العاقلة وهو نصف عشر بدل الرجل، فما دونه يسلك به مسلك الأموال، لأنه يجب بالتحكيم كما يجب ضمان المال بالتقويمن فلهذا كان في مال الجاني أخذاً بالقياس.
قالوا: ولا تعقل العاقلة جناية العبد، ولا مالزم بالصلح، أو باعتراف الجاني، لأنه لا تناصر بالعبد والإقرار والصلح لا يلزمان العاقلة لقصور الولاية عنهم، إلا أن يصدقوه. لأنه ثبت بتصادقهم. والامتناع كان لحقهم، ولهم ولاية على أنفسهم، ومن أقر بقتل خطأ ولم يرفع إلى القاضي إلا بعد سنين قضى عليه بالدية في ماله، في ثلاث سنين، من يوم يقضي عليه، لأن التأجيل من وقت القضاء في الثابت بالبينة، ففي الثابت بالإقرار اولى، ولو تصادق القاتل وولي الجناية على أن قاضي بلج كذا قضى بالدية على عاقلته بالكوفة بالبية وكذبهما العاقلة، فلا شيء على العاقلة، لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم، ولم يكن عليه شيء في ماله إلا أن يكون له عطاء معهم فحينئذ يلزمه بقدر حصته، لأنه تبين أن الدية واجبة عليهم.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: دية الخطأ وشبه العمد في الكراف ونحوها، وكذا في نفس غير القاتل نفسه، وكذا الحكومات والغرة تلزم العاقلة، لا الجاني، لأن الجاهلية كانوا يمنعون من جنى منهم من اولياء القتيل أن يدهوا منه، وياخذوا بثأرهم - فجعل الشارع بدل تلك النصرة بذل المال. وخص ذلك بالخطاً وشبه العمد لكثرتهما، سيما في حق من يتعاطى حمل السلاح، فأعين كيلا ينتصر(5/333)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بالسبب الذي هو معذور فيه، وإنما يلزمهم ذلك إذا كانت بينة بالخطا أو شبه العمد أو اعترف به فصدقوه.
وقالوا: وجهات تحمل الدية ثلاثة: قرابة، وولاء، وبيت مال، لا غيرها كوزوجته ومحالفة، وقرابة ليست بعصبة، لأن المر كان كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نسخ بعده، ولأنه صلة والأولى بها الأقرباء، وعصبة الجاني هم الذين يرثون بالنسب أو الولاء، إذا كانوا ذكوراً مكلفين، وهم القرابة من قبل الأبن والمرأة والصبي وإن أيسرا لا يحملان شيئاً، وكذا المعتوه، ويخرج من العصبة أصل الجاني من اب وإن علا، وفرعه من أبن وإن سفل لانهم أبعاضه، فكما لا يتحمل الجاني في الدية، اعتباراً للجزء بالكل في النفي عنه، والجامع كونه معذوراًً فلا يتحمل أبعاضه وقد روى النسائي (لا يوخذ الرجل بجريرة، أي جريرة ابنه) وفي رواية لابي داود في خبر المرأتين السابق (وبرأ الولد) أي من العقل، وقيس به غيره من الأبعاض، وتتجب الدية على العاقلة سواء أكانت الدية قليلة أم كثيرة.
ويقدم في تحمل الدية من العصبة الأقرب، فالأقرب على البعد منهم، فإن لم يوف القرب بالواجب بأن بقي منه شيء فيوزع الباقي على من يليه، ويقدم ممن ذكر مدل بأبوين على مدل باب كالأرث، ويجب التسوية بينهما، لأن النوثة لا مجخل لها في تحل العاقلة فلا تصلح للترجيح، ثم بعد عصبة النسب إن فقدوا، أو لم يوف ما عليهم بالواجب يقدم معتق للخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم (الولاء لحمة كلحمة النسب) فإن فقد المعتق أو لم يف ما عليهم بالواجب، تقدم عصبته من نسب غير أصلهوغن علا، وفرعه وإن سفل يقدم الأقرب فالأقرب، لما رواه الشافعين والبهقي (أن عمر قضى على علي رضي الله تعالى عنهما بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب) لأنه أبن أخيها دون ابنها الزبير ثم ممعتق المعتق، ثم عصبته كذلك، ثم معتق معتق الأب وعصبته، فإن لم يوجد يتحمل معتق الجد ثم عثبته كذلك إلى حيث ينتهي الأرث.
قالوا - وعتيق المرأة - الجاني - تعقله عاقلتها ولا يضرب عليها، ومعتقون كمعتق واحد، فيما عليه كل سنة وكل شخص من عصبة كل معتق بتحمل ما كان يحمله ذلك المعتق في حياته من نصف أو ربع.
قالوا: ولا يقل عتيق عن معتقه في الظهر، كما لا يرث - وقيل: يعقل لأن العقل للنصرة والإعانة، فإن فقد العاقل ممن ذكر أو وجد ولم يعرف ما عليه الواجب عقل ذوو الأرحام إن قلنا بثوريتهم. ثم يعقل بيت مال المسلمين عن الجاني المسلم، كما يرثه وللحديث الوارد عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (انا وارث من لا وارث له، اعقل عنه وأرثه) اخرجه أبو داود والنسائي، فإن فقد بيت المال بأن لم يوجد فيه شيء، أو لم ينتظم امره بحيلولة الظلمة دونه، اولم يعرف بيت المال فتجب الدية كلها، أو الباقي منها على الجاني في ماله في الأصح. بناء على أنها تلزمه ابتداء ثم(5/334)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تتحملها العاقلة. فتجب عليه الدية صيانة للحق من الضياع، فلا يسقط كيلا يضيع دم المسلم هدراً، وتؤجل على الجاني إذا وجبت عليه، فيؤخذ منه ثلث الدية عند الحول، ولو مات في أثناء الحول يحل الأجل على الأصح.
قالوا: وتؤجل على العاقلة جية نفس كاملة بإسلام وحريةن وذكورية، ثلاث سنين، في آخر كل سنة ثلث من الدية، لما رواه البيهقي من قضاء عمر، وعلي رضي الله عنهما وعزاه الشافعي إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تؤخذ في آخر كل سنة، لأن المنافع كالزرع والثمار، ونتاج الأبل تتكرر كل سنة، فاعتبر مضها وليجتمع عنجهم ما يتوقعونه، فيواسون عن تمكن.
وتؤجل دية الذمي على الصح سنة، لأنها قدر ثلث دية المسلم، وقيل: تؤجل ثلاثاً لأنها بدل نفس محترمة، وتؤجل دية امرأة مسلمة سنتين في آخر الأولى منهما ثلث من دية نفس كاملة، والباقي آخر السنة الثانية، وقيل: تؤجل جيتها ثلاث سنين، وتحمل العاقلة الجناية على العبد من الحر في الأظهر، ففي آخر كل سنة يؤخذ من قيمته قدر ثلث دية، وقيل: تؤخذ كلها في ثلاث سنين لأنها بدل نفس محترمة.
ولو قتل شخص رجلين فتؤجل ديتهما على عاقلته في ثلاث سنين، لأن الواجب ديتان مختلفتا، وقيل: تؤجل ديتهما في ست سنين، في كل سنة قدر سدس دية، لأن بدل النفس الواحدة يضرب في ثلاث سنين فيزاد للأخرى مثلها.
ولو قتل شخص امخرأتين أحلت ديتهما على عاقلته في سنتين، والأطراف كقطع اليدين، والحكومات، وأروش الجنايات تؤجل في كل سنة قدر ثلث دية كاملة، فإن زاد الواجب على دية نفس كقطع اليدين والرجلين ففي ست سنين، وقيل: تؤخذ كلها في سنة بالغة ما بلغت لأنها ليست بدل النفس حتى تؤجل.
قالوا: وتؤجل دية النفس من الزهوق، لأنه وقت استقرار الوجوب. واجل دية غير النفس، كقطع يد اندملت من ابتداء الجناية، لأنها حالة الوجوب، أما إذا لم يندمل، بأن سرى من عضو إلى عضو، كان قطع أصبعه فسرت إلى كتفه، فأجل أرش الأصبع من قطعها، والكف من سقوطها.
ومن مات من العاقل في أثناء سنة سقط من واجب تلك السنة، ولا يؤخذ من تركته لأنها مواساة.
ويشترط فيمن يعقل - الذكورة، وعدم الفقر، والحرية والتكليف، واتفاق الدين، فلا يعقل فقير ولا رقيق، ولا صبي، ولا محنون، ولا أنثى، ولا مسلم عن كافر، وعكسه، ويعقل يهودي عن نصراني، وعكسه في الأصح، ويجب على الغني نصف دينار على أهل الذهب، أو قدره دراهم على أهل الفضة، وهو سنة منها، لأن ذلك اول درجة المىاساة في زكاة النقد، والزيادة عليه لا ضابط لها، ويجب على المتوسط من العاقلة، ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، لأنه واسطة بين الفقير الذي لا شيء عليه وبين الغني الذي عليه نصف دينار كل سنة من الثلاثن لأنها مواساة تتعلق بالحول فتكرر بتكرره(5/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
كالزكاة، فجيمع ما يلزم الغني في الثلاث سنين دينار ونصف، والمتوسط نصف ربع، وقيل: هو واجب الثلاث، والمعتبر مقدار نصف الدينار، وربعه لا عينهما، والغني والمتوسط يعتبران آخر الحول. لأنه حق مالي متعلق بالحول. ومن أعسر في الحول سقط، فلا يلزمه شيء، لأنه ليس أهلاً للمواسة بخلاف الجزية، لأنها كالأجرة لسكنى جار الإسلام. ولو ادعى الفقر بعد الغنى حلف ولا يكلف البينة، والغني هو من يملك فاضلاً عما يبقى له في الكفارة عشرين ديناراً أو قدرها اهـ.
المالكية - قالوا: العاقلة عدة أمور وهم أهل ديوانه إن كان الجاني من الجند ولو كانوا من قبائل شتى فإن نقص أهل الديوان عن سبعمائة - بناء على أن أقل العاقلة سبعمائة - ضم إليهم عصبة الجاني الذين ليسوا معه في الديوان، فإن لم يكن ديوان، أو كان وليس الجاني منهم، أو لم يعطوا أرزاقهم المعينة، فتجب الدية على العصبة الأقر فالأقرب، على ترتيب النكاح، فإذا كمل من البناء سبعمائة فلا يجفع أولادهم شيئاً، وإن نقص كمل من أبناء الأبناء، وهكذا، والحد يؤخر عن بني الاخوة هنا، فإن لم توجد عصبة، أو وجدت ولم توف بالواجب، فالعاقلة هم الموالي الأعلون، وهم المعتقون - بكسر التاء - لانهم عصبة سبب وهم كعصبة النسب لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الولاء لحمة كلحمة النسب) ولقولهم: الولاء عصوبة سببها نعمة العتق. ويقدم الأقرب فالأسفلون حيث لم يوجد من الأعلين، فإن لم يوجدن فعاقلته بيت الما. إن كان الجاني مسلماً، لأن بيت المال لا يعقل عن كافر، فانلم يكن بيت المال فتقسط على الجاني، إن كان ممن يعقل، بأن كان ذكراً، بالغاً، عاقلاً، مليئاً.
وعاقلة الذمي ذو جيته، وهو من يحمل معه الجزية، إذ لو كانت عليه، وإن لم يكونوا منأقرباه، فالنصراني يعقل عنه النصارى الذين في بلده، لا اليهود، وعكسه، ويضرب على كل من تلزمه الدية من أهل دوان، أو عصبة، وموالي، وذمي، إن تحالكموا إلينا. كل على عدر طاقته، وعقل عن صبي، مجنون، وامرأة، وفقير، وغارم، إذا جنوا، فتغرم عاقلتهم عنهم، والعبرة في الصبا، والجنون، وضدهما، والعسر، واليسر، والغيبة، والحضور، وقت التوزيع على العاقلة، فما وجدت فيه الاصناف، وقت التوزيع وزع عليه.
وما لا فلا، فإن قدم غائب غيبة انقطاع وقت التوزيع، فلا تضرب عليه بعد قدومه المتأخر عن التوزيع. فإن أيسر فقير، أو بلغ صبي، أو عقل مجنون، أو اتضحت ذكورة خنثى بعد التوزيع فلا شيء على واحد منهم، وتحل الدية بالموت والإفلاس، فإذا ماتت العاقلة، أو واحد منها، أو أفلس فيحل ما كان منجماً عليهم أو عليه، ولا دخول لبدوي من عصبة الجاني مع حضري، ولا شماي مع مصري، وكذا الحجاز واليمن، أما أهل أقليم واحد حضر مثلاً فيضمنون، فإذا لم تكل العاقلة من أهل بلد ضم إليهم ما قرب منها العصبة.
قالوا: وتقسم الدية الكاملة لمسلم، أو غيره، ذكراً، أو أنثى عن نفس أو طرف في ثلاث سنين من يوم الحكم. والثلث كدية الجائفة في سنة، والثلثان كجائفتين في سنتين، والنصف في سنتين في كل سنة ربع، وثلاثة الرباع تنجم في ثلاث سنين، في كل سنة ربع، والعاقلة الذي يضم إليه ما(5/336)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بعده سبعمائة رجل. فإذا وحج من العصبة هذا العدد فلا يضم إليهم الموالي، وإن نقصوا عن هذا العدد لو كانوا اغنياء ضم إليهم ما يكملهم من الموالي، وهكذا.
قالوا: إن الجاي لا يدخل مع العاقل' لأن العاقلة هي سبب تجرئه على الجناية.
الحنفية، والحنابلة، والشافعية في أحد قوليهم - قالوا: إن الغائب والحاضر من العاقلة سواء في تحمل الدية.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: لا مدخل لأهل الصنعة، والسوق في التحمل إلا إذا كانوا أقارب.
الحنفية - قالوا: إذا كان الجاني من أهل الديوان فديوانه عاقلته، وعاقلة السوقي أهل سوقه ثم قرابته فأهل محلته اهـ.
مبحث القسامة
اتفق الأئمة على أن القسامة مشوعة، إذا وجدقتيل في مكان ولم يعلم قاتله.
الحنفية - قالوا: القسامة في اللغة اسم وضع موضع الأقسام، وفي الشرع أيمان يقسم بها أهل محلة، أو جار وجد فيها قتليل به اثر القتل، يقول كل واحد منهم: والله ما قتلته، ولا علمت له قاتلاً) . ويلزم المدعي عليه اليمين بالله عز وجل أنه ما قتل، ويبرأ.
والسبب الموجب للقسامة، وجود قتيل في موضع هو في حفظ قوم وحمايتهم، كالمحلة، والدار، ومسجد المحلة، والغرية، والقتيل الذي تشرع فيه القسامة اسم ليت به أثر جراحة، أو ضرب أو خنق، فإن كان الدم يخرج من أنفه، أو دبره فليس بقتيل، بخلاف ما لو خرج الدم من أذنه، أو عينه، فهو قتيل تشرع فيه القسامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الينة على المدعي واليمين على من أنكر) وفي رواية (على المدعي عليه) وروى سعيد بن المسيب رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ باليهود بالقسامة، وجعل الدية عليهم لوجود القتيل بين أظهرهم) ، وشرط القسامة. بلوغ المقسم، وعقله، وحريته، وتكيمل اليمين خمسين يميناً.
وحكمها القضاء بوجوب الدية لأولياء الدم، إن حلفوا، والحبس إلى الحلفغن أبوا، ويتخير الولي من القوم من يحلفهم، لأن اليمين حقه، والظاهر أنه يختار من يتهمه بالقتل، أو يختار صالحي أهل المحلة، لما أن تحرزهم عن اليمين الكاذبة، أبلغ التحرز، فيظهر القاتل. وفائدة اليمين النكول، فا كانوا لا يباشرون ويعملون، يقيد يمين الصالح على العلم بأبلغ مما يقيد يمين الطالح، ولو اختاروا أعمى أو محدوداصفي قذف جاز لأنه يمين ليس بشهادة، ومراعاة لحق الميت وحرمته، وإذا حلفوا قضى على أهل المحلة بالدية، ولا يستحلف الولي لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الدية والقسامة في حديث أبن سهل، وفي حديث زياد بن أبي مريم، وكذا جمع عمر رضي الله تعالى عنه بينهما على وادعه.(5/337)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقد روي: أن عبد الله بن سهل، وعبد الرحمن بن سهل، وحويصة ومحيصة، خرجوا في التجارة إلى خيبر وتفرقوا لحوائجهم فوجدوا عبد الله بن سهل قتيلاً في قليب من خيبر يتشحط في دمه، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه فأراد عبد الرحمن، وهو أخ القتيل أن يتكلم فقال صلى الله عليه وسلم اكبر الكبر فتكلم أحد عميه حويصة، أو أو محيصة، وهو الأكبر منهما وأخيره بذلك قال: ومن قتله؟ قالوا: ومن يقتله سوى اليهود، قال عليه الصلاة والسلام: (تبرئكم اليهود بإيمانها) فقالوا: لا نرضى بأيمان قوم كفار، لا يبالون ما حلفوا عليه. فقال عليه الصلاة والسلام أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف على أمر لم نعاينه ولم نشاهد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمكائة من إبل الصدقة) فقول النبي صلى الله عليه وسلم تبرئكم اليهود محمول على الإبراء عن القصاص والحبس، وكذا اليمين مبرئة عما وجب له اليمين، والقاسمة ما شرعت لتجب الدية إذا نكلوا، بل شرعت ليظهر القصاص بتحرزهم. عن اليمين الكاذبة، فيقروا بالقتل، فإذا حلفوا حصلت البراءة عن القصاص. ثم الدية تجب بالقتل الموجود منهم ظاهراً، لوجود القتيل بين أظهرهم لا بنكولهم، أو تقول: إنها وجبت بتقصيرهم في المحافظة كما في القتل الخطأ، ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف، لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيماً لأمر الدم، ولهذا يجمع بينه وبين الدية، بخلاف النكول في الموال، لأن اليمن بدل عن أصل حقه، ولهذايسقط ببدل المدعى، وفيما نحن فيه لا يسقط ببدل الدية:
قالوا: وإن لم يكمل أهل المحلة كررت اليمان عليهم حتى تتم خمسين، لما روي أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة دانى إليه تسعة واربعون رجلاً، فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين، ثم قضى بالدية. ولا قسامة على صبي، ولا مجنون، لأنهما ليسا من أهل القول الصيح، واليمين قول صحيح ولا قسامة على امرأة، ولا عبد، لأنهما ليسا من أهل النصرة
وإن وجد ميتا لا أثر به، فلا قسامة ولا دية له، لأنه ليس بقتيل، ولو وجد بدن القتيل، أو أكثر من نصف البدن، أو النصف ومعه الرأس في محلة. فعلى أهلها القسامة والدية، وإن وجد نصف مشقوقاً بالطول، أو وجد اقل من النصف، ومعه الرأس، أو وجدت يده، أو رجله، أو رأسه، فلا شيء عليهم، لأن هذا حكم عرفناه بالنص وقد ورد في البدن، إلا أن للأكثر حكم الكل تعظيماً للآدمي، بخلاف الأقل، لأنه ليس ببدن ولا ملحق به، فلا تجري فيه القسامة.
ولو وجد فيهم جنين أو سقط ليس به أثر الضرب فلا شيء على أهل المحلة، لأنه لا يقوق الكبير حالاً وإن كان به اثر الضرب وهو تام الخلق وجبت القسامة والدية عليهم، لأن الظاهر أن تام الخلق ينفصل حياً، وإن كان ناقص الخلق فلا شيء عليهم، لأن ينفصل ميتاً لا حياً.
قالوا: وإذا وجد القتيل على دابة يسوقها رجل فالدية على عاقلته دون أهل المحلة، لأنه في يده، فصار كما إذا كان في جاره، وكذا إذا كان قائدها أو راكبها، فا اجتمعوا فعليهم لأن القتيل في أيديهم فصاروا كما إذا وجد في دارهم.(5/338)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: وإذا مرت دابة بين قريتين وعليها قتيل، فهو على أقربهما، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقتيل وجد بين قريتين، فأمر أن ذرع بينهما، وعن عمر رضي الله عةنه أنه لما كتب إليه في القتيل الذي وجد بين وادعة، وأرحب، وكتب بأن يقيس بين القريتين، فوجد القتيل إلى اجعة أقرب فقضى عليهم بالقسامة.
وإذا وجد القتيل في دار لإنسان فالقسامة عليه، والدية على العاقلة ولا يدخل السكان في القسامة مع الملاك عند أبي حنيفة، وقال اوب يوسف هي عليهم جميعاً، وإذا وجد قتيل في دار فالقسامة على رب الدار، وعلى قومه، وتدخل العاقلة في القسامة إن كانوا حضروا، وإن كانوا غائبين فالقسامة على رب الدار يكرر عليهم الإيمان، وإن ووجد القتيل في ار مشتركة فهي على رؤوس الرجال.
ومن اشترى داراً ولم يقبضها حتى وجد فيها قتيل فهو على عاقلة البائع.
وإن وجد قتيل في سفينة فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين.
وإن وجد في مسج محلة، فالقسامة على أهلها لأن التدبير فيه إليهم، وغنوجد في المسجد الجامع، أو الشارع العظم فلا قسامة فيه والدية على بيت المال، لأنه للعامة لا يختص به واحد منهم وكذلك الجسور العامة.
ولو وجد في السوق إن كان مملوكاً فعند أبي يوسف تجب على السكان، وعندهما على المالك. وإن لم يكن مملوكاً كالشوارع العامة التي بنيت فيها فعلى بيت المال لأنه لجماعة المسلمين.
ولو وجد في السجن فالدية على بيت المال، وعلى قول أبي يوسف الدية والقسامة على أهل السجن. لأنهم محتبساً بالشاطئ فهو على أقرب القرى من ذلك المكان.
وإن ادعى الولي على واحد من أهل المحلة بعينه لم تسقط القسامة عنهم، وإن اجعى على واحد من غيرهم سقطت عنهم، وإذا التقى قوم بالسيوف فأجلوا عن قتيل فهو على أهل المحلة إلا أن يدعي الأولياء على اولئك، أو على رجل متهم بعينه، فلم يكن على أهل المحلة شيء، ولا على اولئك حتى يقيموا البينة.
ولو وجد قتيل في معسكر أقاموا بفلاة من الأرض لا ملك لاحد فيها، فإن وجد في خباء، أو فسطاط فعلى من سكنها الدية والقسامة، وإن كان حارجاً من الفسطاط فعلى أقرب الأخبية، اعتباراً
وإن كان القوم لقوا قتالاً ووجد قتيل بين أظهرهم فلا قسامة، ولا دية، لأن الظاهر أن العدو قتله، وإن كان للأرض مالك فالعسكر كالسكان، وإذا قال المستحلف قتله فلان استحلف بالله ما قتلت، ولا(5/339)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
عرفت له قاتلاً غير فلان، لأنه يريد إسقاط الخصونة عن نفسه بقوله فلا يقبل، وإذا شهد اثنان من اهمل المحلة على رجل من غيرهم أنه قتل لم تقبل شهادتهما.
ولو ادعى على واحد من أهل المحلة بعينه فشهد شاهدان من أهلها عليه لم تقبل الشهادة، لأن الخصومة قائمة، ومن جرح من قبيلة فنقل إلى أهله فمات من تلك الجراحة، فإن كان صاحب فراش حتى مات فالقسامة والدية على القبيلة، ولو جد رجل قتيلاً في دار نفسه فديته على عاقلته، لورثته.
وقالوا: إن الأولياء إذا كانوا جماعة تكرر عليهم الأيمان بالإدارة بع أن يبدأ أحدهم بالقرعة.
وقالوا: إن القسامة تثبت في العبيد مراعاة لحرمة الآدمي المسلم من حيث هب من غير تفرقة.
وقالوا: إن أيمان النساء لاتقبل في القسامة مطلقاً، لا في عمد، ولا في خطأ، لعدم النصرة بهن.
وقالوا: لاتشرع الأيمان في القسامة إلا على المدعى عليهم، لكونهم متهمين بالقتل فيحلفون لتبرأ ساحتهم.
الشافعية - قالوا: يشترط لك دعوى بدم، أو غيره كغصب، وسرقة، وإتلاف ستة شروط، أحدها: أن تكون معلومة غالباً، بأن يفصل ما يدعنه من عمد أو خطأ، أو شبه عمد، ومن انفراد، وشركة، وعدد الشركاء في قتل يوجب الدية، فإن أطلق المدعي في دعواه، كقوله: هذا قتل أبي استفصله القاضي ندباص، فيقول له: كيف قتله، عمداً، أم خطأ، أم شبه عمد؟
وقيل: لا يستفصل القاضي المدعي، بل يعرض عنه، لأنه ضرب من التلقين.
وثانيها: أن تكون ملزمة، فلا تسمع دعوى هبة شيء، أو بيعه، أو إقراره به حتى يقول المدعي: وقبضته بإذن الواهب، ويلزم البائع، أو المقر التسليم.
وثالثها: أن يعين المد عي في دعواه المدعى عليه، واحداً كان أو جمعاً معيناً، كثلاثة حاضرين، فلو قال: قتله أحدهم، فأنكروا، وطلب تحليفهم، لا يحلفهم القاضي في الأصح للإبهام.
ورابعها: أن تكون الدعوى على مدعى عليه مكلفاً، فلا تصح الدعوى على صبي، ومجنون، بل إن توجه على الصبي أو المجنون ما لى ادعى مستحقه على وليهما، فإن لم يكن ولي حاضر، فالدعوى عليهما كالدعوى على الغائب.
وسادسها: أن لا تتناقض دعوى المدعي، وحينئذ لو ادعى على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعى على آخر أنه شريكه، أو منفر لم تسمع الدعوى الثانية، لما فيه من تكذيب الأول ومناقضتها، وسواء أقسم على الول، ومضى الحكم فيه أم لا.(5/340)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقالوا: وتثبت القسامة في قتل النفس لا في غيرها من جرح، أو إتلاف مال. وعتبر كون القتل بمكان لوث - وهو قرينة حالية، أو مثالية تدل على صدق المدعي، بأن يغلب على الظن صدقه ت بأن وجد قتيل، أو بعضه كرأسه في محلة منفصلة عن بلد كبير، ولا يعرف قاتلهن ولا بينة بقتله، أو في قرية صغيرة لأعدائه دينياً أو دنيوياً،، إذا كانت العدوة تبعث على الانتقام بالقتل، ولم يساكنهم في القرية غيرهم فتجب القسامة، أو وجد قتيل تفرق عنه جمع كأن ازدحموا على بئر، أو باب الكعبة، ثم تفرقوا عن قتيل، لقوة الطن انهم قتلوه.
ويشترط أن يكونوا محصورين، بحيث يتصور غجتماعهم على القتيل، وإلا لم تسمع الدعوى، ولم يقسم.
قالوا: ولا يشترط في اللوث والقسامة ظهور دم، ولا جرح، لأن القتل يحصل بالخنق، وعصر البيضة ونحوهما، فإذا ظهر أثره قام مقام الدم فلو لم يوجد اثر أصلاً، فلا قسامة على الصحيح وقيل: تثبت القسامة.
قالوا: وشهادة العدل الواحد لوث لحصول الظن بصدقه. وذلك في القتل العمد الموجب للقصاص. فإن كان في خطأ، أو شبه عمد، لم يكن لوثاً، بل يحلف معه يميناً واحدة، ويستحق الدية، والعبيد والنساء شهادتهم لوث، لأن ذلك يفيد غلبة الطن، سواء جاؤوا متفرقين، أو مجتمعين، وقيل: يشترط تفرقهم لاحتمال التواطؤ.
وأخبار فسقة، أو صبيان، أو كفار لوث في الأصح، وكذلك لهج ألسنة الخاص والعام بأن فلاناً قتل فلاناً ومن اللوث وجود تلطخه بالدم، أو بسلاح عند القتيل، ومن اللوث أيضاً إذا تقاتل صبيان والتحم الحرب بينهم، وانكشوف عن قتيل فهو لوث في حق الصف الآخر، وإلا فلوث في حق صفة.
فاذ وجد المقتضى للقسامة حلف المدعون على قاتله خمسين يميناً، واستحقوا دية مغلظة إذا كان القتل عمداً، ويبدأ بأيمان المدعين للقسامة، لا بأيمان المدعى عليهم، فإن نكل المدعوة ولا بينة، حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ، وإنما بدئ بأيمان المدعين للقسامة، لأنهم هم الذين يطلبون أخذ الهأر من المتهم بالقتل.
وقالوا: إن الأولياء إذا كانوا جماعة قسمت الايمان بينهم بالحساب على حسب الارث، ولو ظهر لوث في قتيل فقال أحد ابنيه: قتله فلان، وظهر عليه لوث، وقال الابن الآخر: لم يقتله بطل اللوث، لأن الله تعالى أجرى العادة بحرص القريب على التشفي من قاتل قريبه، وأنه لا يبرئه تعائض هذا اللوث فسقطا، فلا يحلف المدعي، لانخرام ظن القتل بالتكذيب الدال على أنه لم يقتله - وقيل: لا يبطل حقه من اللوث وقيل: لا يبطل اللوث بتكذيب فاسق. وإذا لم يتكاذب ابنا القتيل، بل قال أحدهما: قتله زيد، ومجهول عندي. وقال الآخر: قتله عمرو ومجهول عندي، حلف كل منهما على من يعينه منهما، إذ لاتكاذب بينهما، لاحعمال أن الذي أبهم ذكره هة الذي عينه الآخر وكذلك العكس، ولكل منهما ربع الدية، لاعترافه بأن الواجب عليه نصفها، وحصته منه نصفه.(5/341)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولو أنكر المدعى عليه اللوث في حقه، فقال: لم أكن مع القوم المتفرقين عن القتيل، صدق بيمينه، لأن الأصل براءة ذمته من القتل، وعلى المدعي البينة على الامارة التي يدعيها، وهي عدلان.
قالوا: لو ظهر لوث في قتيل لكن بمطلق قتل دون تقييده بصفة عمد، وخطأ، وشبه عمد، فلا قسامة حينئذ في الأصحن لأن مطلق القتل لا يفيد مطالبته القاتل، بل لابد من ثبوت العمد، ولا مطالبة العاقلة، بل لابد أن يثبت كونه خكا، أو شبه عمد - وقيل: تثبت القسامة صيانة للدم عن الهدر قالوا: ولا قسامة في الجراحات وقطع الأطراف والأموال. إلا في قتل عبد، أو أمة، مع لوث، فيقسم السيد على من قتله من حر، أو رقيق في الأظهر، بناء على أن بدل الرقيق تحمله العاقلة.
وقيل: لا قسامة في العبد بناءعلى أن بدله لا تحمله العاقلة، فهو ملحق بالبهائم.
والقسامة أن يحلف المدعي الوارث على قتل النفس ولو ناقصه كامرأة، وذمي، مع وجود اللوث خمسين يميناً، والحلف يتوجه إلى الصفة التي أحلف الحاكم عليهان فيقول: والله لقد قتل هذان ويشير إليه إن كان حاضراً، ويرفع في نسبه إن كان غائباً، أو يعرفه بما يمتاز به من قبيلة، أو حرفةن أو لقب، ولا يشترط موالاة الأيمان، ولو تخلل الايمان جنون من الحالف، أو إغماء بني إذا أفاق على ما مضى، ولو مات الولي المقسم في أثناء الايمان لم يبن وارثه، بل يستأنف، ولو نكل عن الايمان أحد الورثة حلف الوارث الآخر خمسين يمينا، ولو غاب حلف الآخر خمسين واخذ حصته وإلا صبر للغائب.
والمذهب، أن يمين المدعي عليه بلا لوث، واليمين المردودة منه على المدعي، وعلى المدعى عليه واليمين مع شاهد خمسون للجميع.
المالكية - قالوا: سبب القسامة التي توجب القصاص في العمد، وتوجب الدية في قتل الخطأ، قتل الحر المسلم، دون الرقيق، والكافر، وسواء أكان الحر بالغاً، أو صبياً قتل بجرح أو ضرب، أو سم، بلوث، - وهو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الطن بأنه قتله، كشاهدين على قول حر مسلم، بالغ قتلني أو جرحني، أو ضربني فلان، أو شهادة عدلين على معاينة الضرب أو الجرح، أو أثر الضرب، أو شهادة واحد علد على معاينة الجرح، أو الضرب، أو شهادة واحد على معاينة القتل، أو يوجد القتيل ويضربه شخص عله أثر القتل، كان لوثاً، أما إذا قال: فلان، بل فلان، أو إذا تردد، أو لم يكن أثر الجرح به بطل اللوث، ولا قسامة - وقلك يقبل قوله ويكون لوثاً تحلف الولاة معه أيمان القسامة. ولكن الظاهر الأول.
وإنما قالوا: إن قول المقتول: دمي عند فلان واستمر على إقراره حتى مات لوث، وتثبت به القسامة. مع قول العلماء: إن الناس لا لا يعطون بدعواهم، والأيمان لا تثبت الدعاوى - وذلك لأن الشخص عند موته لا يتجاسر على الكذب في سفك دم غيره، كيف؟ وهو الوقت الذي يحق في الندم، ويقلع فيه الظالم، ويرد المظالم إلى أصحابها، ومدار الأحكام على غلبة الظن، وقد تأيد ذلك بالقسامة، وهي أيمان مغلظة احتياطياً في الدماء لأن الغالب على القاتل إخفاء القتل عن البينات، فاقتضى الاستحسان ذلك.(5/342)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: وسواء كان قول الحر المسلم، البالغ، قتلني عمداص، أو خطأ، ففي العمد يستحقون بالقسامة القصاص، وفي الخطأ يستحقون الدية، ولو كان القائل هذا القول رجلاً فاسقاً، وادعى على عدول، ولو اعدل وأورع أهل زمانه، أنه قتله، أو ادعى الولد على أبيه أنه ذبحه، أو شق جوفه، أو رماه بحديدة قاصداً قتله، فيقسم الولياء يمين القسامة، ويقتل فيه المدعى عليه قتل العمد، أو يقسمون ويأخذون الدية مغلظة.
وإن أطلق القائل ولم يقيد بعمد أو خطأ بين أولياؤه أنه عمد أو خطأ، واقسموا على ما بينوا، وإن قالوا: لا نعلم هل القتل عمد، أم خطان أو قالوا: لا نعلم من قتله، أو أختلفوا، بأن قال بعض الولياء قتله عمد، أو قال بعضهم: لا نعمل، هل قتله خطأ أم عمد، بطل الدم، لانهم لم يتفقوا على أن وليهم قتل عمداً حتى يستحقوا القود، ولم يتفقوا على أنه خطأ حتى يستحقوا الدية. ولم يتفقوا على من قتله فيقسموا عليه.
أما لو قال بعضهم قتله خطان وقال البعض لا نعلم خطأ أو عمداً، فللمجعي الخطأ الحلف لجميع أيمان القسامة ويأخذ نصيبه من الدية لأن الثابت في الخطأ مال أمكن توزيعه، ولا شيء لغيرهن ومثله لو قالوا جميعاً خطأ، ونكل البعض، فلو قال بعضهم: خطأ وبعضهم عمداً فإن استووا في الدرجة كالبنين، أو الاخوة فيحلف الجميع على كل طبق دعواه على قدر ارثه، ويقضى للجميع بدية الخطأ، فو نكل مجعي الخطأ عن الحلف فلا شيء للجميع، وإن نكل مدعي الخطأ فلمدعي العمد الدخول في حصته من حلف.
قالوا: ولو شهد عدلان على معاينة الضرب، أو الجرح خطأ أو عمداً، وكان حراً مسلماً، وتأخر الموت.
فيقسم أولياؤه - والله منه مات - أو - إنما مات منه.
أما إذا لم يتأخر الموت فيستحعون الدم لدية بدون قسامة، لكونها شهادة على معاينة القتل. أو شهادة عدل بمعاينة الضرب، أو الجرح عمداً أو خطأ، تأخر الموت أو لم يتأخر فيقسم الاولياء خمسين يميناً - لقد جرحه، أو ضربه ومات من الجرح والضرب، وقيل: يحلف واحد من الأولياء يميناً مكملة لشهادة العدل اه ضربه أو جرخه، ثم يحلفون الخمسين يميناً.
ولو شهد علد بإقرار المقتول بعمد أو خطأ - اي شهد بالغ أن فلاناً جرحني، أو ضربني عمداً، أو خطأ، وشهد عدل على قوله، فشادته لوث، يحف عليها الأولياء خمسين يميناً بالصيغة المشتملة على اليمين لملكملة للنصاب، فلا يحتاجون ليمين منفردة على العتمد من الذهب.
ولو شهد عدل برؤية المقتول حال كونه يتشحط في دمه، والشخص المتهم بالقتل عليه اثر القتل بالفعل، ككون الآلة بيده ملطخة بدم، أو كان خارجاً من مكان المقتول ولي فيه غيره، فتكون شهادة العدل على ما ذكر لوثاً، يحلف الاولياء يمين القسامة، ويستحقون القود في العمد والدية في الخطأ.(5/343)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
واعلم أنه تلزمه القسامة ولو تعدد اللوث كشهادة عدل بمعاينة القتل مع عدلين على قول المقتول: قتلني فلان، فلا يقتصون، ولا يأخذون الدية إلا بعد القسامة.
قالوا: وليس من اللوث وجود المقتول بقرية قوم ولو مسلماً بقرية كفار. وهذا إذا كان يخالطهم غيرهم في القرية، وإلا كان لوثاً يوجب القسامة، كما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القسامة لا بني عم عبد الله بن سهل حيث وجد مقتولاً بخيبر، لأن خيبر مكان لا يخالط اليهود فيا غيرهم، أو وجد مقتولاً بدارهم لجواز أن يكون قتله غير أهل القرية والدار، ورماه عندهم حيث كان يخالطهم غيرهم في الدار أيضاً،
قالوا: والقسامة خمسون يميناً متوالية بدون تفريق بزمان أو مكان، يحلفون على البت والجزم يحصل لهما العمل بالخبر، كما يحصل بالمعاينة. وجبرت اليمين إذا وزعت على حدود وحصل كسران أو أكثر، فإنها تكمل على ذي أكثر كسرها، ولو كان صاحب أكثر الكسر أقل نصيباً، وإن تساوت الكسور فعلى كل من الجميع تكميل ما انكسر عليه للتساوي.
ويحلف في أيمان القسامة في الخطأ من يرث المقتول من المكلفين، وتوزع هذه الايمان على قدر الميراث. وإن إلا واحد من الأخوة للام، فإنه يحلف خمسين يميناً ويأخذ حظه من الدية، أو إذا لم يوجد إلا امرأة واحدة، ولا يأخذ أحد من الأولياء الحاضرين البالغين إذا غاب بعضهم أو كان صغيراً. شيئاً من الدية من العاقلة إلا بعد حلف جميع الايمان، ويأخذ حصته من الدية، لأن العاقلة لا يخاطبون بالدية إلا بعد ثبوت الدم، ثم بعد حلف الحاضر جميع الأيمان حف من حضر من الغيبة أو بلغ الصبي حصته من أيمان القسامة، ويأخذ نصيبه من الدية، ولا يحلف أيمان القسامة في العمد اقل من رجلين لأن النساء لا يحلفن في العمد، لعدم شهادتهن فيه، فإن انفردن عن رجلين صار المقتول كمن لا وارث له فترة اليمان على المدعى عليه عصبة ولا يقسم في العمد إلا على واحد من الجماعة الملوثين بالقتل يعينه المدعي للقسامة يقولون في الأيمان:
من ضربه ما، لا من ضربهم، ولا يقتل بها أكثر من واحد، فإن استووا في قتل العمد كحمل صخرة ورموها عليه فمات، فيقسمون على الجميع، ويقتل الجميع حيث رفع حياً وأكل ثم مات، فلو مات مكانه أو انفذت مقاتله قتل الجميع بدون قسامة.
ويجوز للولي أن يستعين في القسامة بعاصبه، وإن لم يكن عاصب المقتول كامرأة مقتولة ليس لها عاصب غير ابنها وله اخوة من أبيه، فيستعين بهم، أو ببعضهم أو بعمه مثلاً.
قالوا: وتوزع الايمان على مستحق الدم على الرؤوس في العمد، وأما في الخطأ فتوزع على قدر الإرث، فإن زادوا على خمسين اجتزئ منهم بخميسين، وكفى في حلف جميعها اثنان من الأولياء، إذا كان الأولياء أكثر من اثنين وطاع منهم اثنان، فيكفى حيث كان الباقي غير ناكلين، ونكول المعين(5/344)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
من عصبة الولي لا يعتبر، بخلاف نكول غير المعين فإنه معتبر، فترد الايمان على المدعى عليهم بالقتل، فيحلف كل واحد منهم خمسين يميناً، إن تعددوا، لأن كل واحد م نهم متهم بالقتل، وإن كان لا يقتل بالقسامة إلا واحد، فإذا كان المتهم واحداً، حلف الخمسين يميناً.
ومن نكل من المدعى عليهم بالقتل حبس حتى يحلف خمسين أو يموت في السجن حيث كان متمرداً، وإلا فبعد سنة يضرب مائة ويطلق، والراجح الأول.
قالوا: إن الحاكم يبدأ بأيمان المدعين للقسامة، لا بأيمان المدعى عليهم. فإن نكل المدعوة ولا بينة معهم عليه خمسين حلف المدعي يميناً وبرئ من دمه.
الحابلة - قالوا: إن القسامة مشروعة إذا وجد قتيل في محله، ولم يعلم قاتله، وهي ثابتة بالسنة واجماع الأمة، ولكن لا يحكم بالقسامة إلا أن يكون بين المقتول، وبين المدعى عليه لوث، وهي العداوة في حق الصف الآخر، والعصبة خاصة، كما هو حاصل بين القبائل من المطالبة بالدماء وأخذ الثأر، وكما بين أهل البغي، وأهل البغي، وأهل العدل، وأما قول المقتول المسلم البالغ: إن فلاناً قتلني، فلا يكون لوثاً، فإذا وجد المقتضي للقسامة حلف المدعون على قاتله خمسين يميناً، واستحقوا دمه إذا كان القتل عمداً.
ويجب أن تبدأ بأيمان المدعين للقسامة، لا بأيمان المدعى عليهم، فإن نكل المدعون ولا بينة على القتل. حلف المدعى عليه خمسين يميناً، ما قتله ولا يعلم له قاتلاً، وبرئ من دمه، فإذا كان أولياء الدم جماعة قسمت الأيمان بينهم بالحساب، على حسب الإرث الذي يستحقونه من القتيل، حتى يكون الغرم على قدر الغنم.
وقالوا: إن القسامة تثبت في العبيد. وذلك لحرمة الآدمي المسلم من حيث هو، حيث إن الله تعالى كرمه، وقالوا: إن أيمان النساء لا تقبل في القسامة مطلقاً، لا في عمد ولا في خطأ تخفيفاً عن النساء، لأنه لا نصرة عليهن، والقسامة تبنى على النصرة من أفراد العاقلة، وأهل المحلة، لأن القاتل يعتز بهم، ويحتمي بقوتهم.
مبحث كفارة القتل.
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على وجوب الكفارة في قتل الخطأ إذا لم يكن المقتول ذمياً ولا عبداً واتفقوا على أن كفارة قتل الخطأ عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وذلك لقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وكان الله عليماً حكيماً} [آية: 92 من النساء] .(5/345)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والمالكية، والحنفية، والشافعية في أصح قوليهم، والحنابلة في إحدى روايتهم - قالوا: أنه لا يجزئ الاطعام في كفارة قتل الخطأ، نظراً إلى عظم حرمة المؤمن، فخص الكفارة بما هو أعلى قيمة غالباً من الإطعام، ولأنه لم يرد به النص القرآني، والمقادير تعرف بالتوقيت، ولأن الله تعالى جعل المذكور في الآية كل الواجب بحرف الفاء أو لكونه كل المذكور على ما عرف، ويجزئه رضيع أحد أبويه مسلم، لأن شرط هذا الإعتاق الإسلام وسلامة الأطراف والأول يحصل بإسلام أحد أبويه، والثاني بالظهور، إذ الظاهر سلامة أطرافه، ولايجزئه ما في البطن لأنه لم تعرف حياته ولا سلامته.
الشافعية، والحنابلة في الروايتين الأخريين، - قالوا: إن الإطعام حين العجز عن الصوم يجزئ، مثل كفارة الظهار.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: تتجب الكفارة في قتل الذمي على الاطلاق، وفي قتل العبد المسلم وذلك للعمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذمي، في وعد من ظلمه بأن يكون صلى الله عليه وسلم حجيجه يوم القيامة، في نحو قوله: (من ظلم ذمياً كنت حجيجه يوم القيامة) فإذا كان هذا فيمن ظلمه ولو بأخذ درهم من ماله أو بكلمة في عرضه مثلاً فكيف بمن قتله بغير حق.
وأما وجوب الكفارة في قتل العبد المسلم فلدخولها في وصيته صلى الله عليه وسلم في حال احتضاره، بقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة وما ملكت أيمانم) وقد ورد أن الوصية على الأرقاء من أواخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتضر، فصار يقول ذلك بتكلف لا يكاد لسانه يبينها، فوجب احترامه كل الاحترام، ومن جملة احترامه وجوب الكفارة في قتله.
المالكية - قالوا: لا تجب الكفارة في قتل الذمي، لأن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الذمة محمولة على فعل أمور مخصوصة، كأخذ ماله بغير حق، وكالوفاء بذمته، وبغير الكفارة كتكفينه، ودفنه، إذا مات ونحو ذلك دون وجوب الكفارة في قتله، فإنه مراق الدم في الجملة من حيث كفره بالله، وتكذيبه لرسوله صلى الله عليه وسلم.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة في إحدى روايتهم - قالوا: لا تجب الكفارة في قتل العمد، لأن الشارع شدد في أمر القاتل عمداً بالقتل، أو الدية إذا عفا الأولياء عن قتله إلى الدية، فلا يزاد على ذلك، لأنه كبيرةة محضة وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها، ولأن الكفارة من المقادير وتعينها في الشرع لدفع الأدنى، لا يعينها لدفع الأعلى.
الشافعية - قالوا: تجب الكفارة في قتل العمد، لأن الحاجة إلى التكفير في العمد أمس منها إليه في الخطأ، فكان أدعى إلى إيجابها، لأن العامد أغلظ إثماً ممن كان قتله خطأ فكانت الكفارة به اليق من الخطأ.
قالوا: وتجب على كل واحد من الشركاء في القتل كفارة في الأصح، لأنه حق يتعلق بالقتل فلا يتبعض كالقصاص. ولأن الكفارة لتكفير جناية القتل، وكل واحد قاتل، ولأن فيها معنى العبادة، والعبادة الواجبة على الجماعة لا تتبعض.(5/346)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: تجب الجميع كفارة واحدة، كقتل الصيد.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: تجب الكفارة على الكافر إذا قتل مسلماً خطأ. للتغليظ على الكافر بالتغريم من حيث عدم تحفظه في حق المسلم، حتى لا يعود إلى مثلها، وليكون عبرة لغيره من دينه، بل قالوا: تجب الكفارة بالقتل، وإن كان القاتل عبداً، كما يتعلق بقتله القصاص والضمان، دينه، بل قالوا: تجب الكفارة بالقتل ذمياً، لا لتزامه الأحكام، ولو كان القاتل عامداً، أو مخطئاً، أو متسبباً، بقتل مسلم ولو بدار الحرب، وذمي، وجنين، وعبد نفسه، ونفسه ولا تجب الكفارة بقتل امرأة وصبي حربيين. ولا بقتل باغ، لأنه مباح الدم، وصائل، لأنه لا يضمن، ومرتد، وزان محصن، ومقتص منه بقتل المستحق له، لأنه مباح الدم بالنسبة إليه.
الحنفية، والمالكية - قالوا: إن الكفارة لا تجب على الكافر، لأن الكفارة طهرة للقاتل من الأثم دافعة عنه وقوع العذاب به يوم القيامة، والكافر ليس أهلا لذلك، لأنه لا يظهر إلا بحرقه بالنار يوم القيامة، فكيف يظهر بالكفارة؟
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: تجب الكفارة على الصبي، والمجنون إذا قتلا، وذلك لنسبتهما إلى قلة التحفظ في الجملة، فلو خوف الولي الصبي من القتل، أو ضبط المجنون بالقيد، والغل، لما كانا قدرا على قتل أحد عادة، مع كون المجنون ربما تعاطى أسباب الجنون بأكله طعاماً لا يناسب مزاجه مثلاص، فكان تغريمه الكفارة من باب المؤاخذة بالسبب عند من يقول به من الأئمة.
الحنفية - قالوا: لا تجب على الصبي، ولا على المجنون كفارة، لأن المجنون خرج عن التكليف ولأن الصبي لم يبلغ سن التكليف فلم يؤاخذا بفعليهما، ولأن أفعالهما من قسم المباح وهو أحد الحكام الخمسة.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: تجب الكفارة على القاتل بالسبب كمن تعدى بحفر بئر عدواناص، ووضع حجراً في الطريق وكالمكره والآمر به لمن لا يميز، وشاهد الزور، ولو حصل التردي في البئر بعد موت الحافر، لأن اسم القاتل يشمل الآمرين فشملتهما الآية، وبالقياس على وجوب الدية.
الحنفية - قالوا: إن الكفارة لا تجب على القاتل بالسبب مطلقاً، وإن كانوا قد اجمعوا على وجوب الدية، في القتل بالسبب، وذلك لعدم إلحاق السبب بالمباشر، لأنه أخف حالاً منه حيث إنه لم يباشر القتل.
الحنفية - قالوا: إذا قتلت أم الولد سيدها فعليها قيمة نفسها، لأنه قد زال عنها ملك سيدها بقتله، فصارة حرة، كما لو قتلت غيره، وذلك إذ لم يجب القصاص عليها.
الشافعية - قالوا: يجب عليها الدية لأنها تصير حرة لزوال موجب جنايتها، والواجب في قتل الحر دية.(5/347)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية - قالوا: إن الجناية من أم الولد لا يجب فينها أكثر من قيمتها كما لو جنت على أجنبي، ولأن اعتبار الخيانة قي الجاني بحال الجناية - وهي في حال الجناية آمة. ولأنها ناقصة بالرق لأشبهت القن. وإذا لم يكن لها منه ولد فعليها القصاص لورثة سيدها، وإن كان لها منه ولد وهو الراث وحده فلا قصاص عليها، لأنه لو جب لوجب لولجها، ولا يجب للولد على امه قصاص.
الحنابلة - توقفوا في هذه المسألة) .
-(5/348)
القسم الثالث
باب التعزير
-أما التعزير فهو التأديب بما يراه الحاكم زاجراً لمن يفعل فعلاً محرماً عن العودة إلى هذا الفعل، فكل من أتى فعلاً محرماً لا حد فيه، ولا قصاص، ولا كفارة، فإن على الحاكم أن يعزره بما يراه زاجراً له عن العودة، من ضرب، أو سجن، أو توتبيخ.
وقد اشترط بعض الأئمة أن لا يزيد التعزير بالضرب على ثلاثين سوطاً، وقال بعضهم وهم المالكية: إن للإمام أن يضربه بما يراه زاجراً، ولو زاد عن مائة، بشرط أن لا يفضي ضربه إلى الموت (1) .
وبعضهم وهم الحنابلة - قالوا: إنه لا يزيد في الضرب عن عشرة أسواط. ولكن أبن القيم الحنبلي لم يوافق على هذا، فقد ذكر (في أعلام الموقعين) أن التعزير بالضرب قد وصل إلى مائة سوط عند الحنابلة، كما إذا وطئ شخص جارية امرأته بإذنها - فإنه يعزر بضرب مائة. وقال: إن عمر بن الخطاب زاد في حد شرب الخمر أربعين فأوصله إلى ثمانين، ولا يعقل أن تكون هذه الزيادة من أصل الحد الي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أربعون.
على أنك قد عرفت أن بعض العلماء يقول: إن عقوبة الشرب كلها من باب التعزير لا من باب الحد.
__________
(1) (تعريفه: التعزير مصدر عزر من العزر وهو الرد والمنع ومنه قوله تعالى: {وتعزروه} أي تدفعوا العدو عنه وتمنعوه، وفي الشرع تأديب على ذنب لا حد فيه، ولا كفارة، وهو مخالف للحدود من ثلاثة أوجه.
الأول: أنه يختلف باختلاف الناس، فتعزير ذوي الهيئات أخف من تعزير عامة الناس مع انهم يستوون في الحدود مع الناس، لا فرق بين عربي وقرشين فالكل امام الحدود سواء.
الثاني: أنه تجوز فيه الشفاعة والعفو، ولو بعد وصوله إلى الحاكمن بخلاف الحدود فإنه لا تجوز فيها الشفاعةز إذا ما وصل الأمر إلى الحاكم.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن التالف بالتعزير غير مضمون مثل الحدود، لأنه مأمور به.(5/349)
وظاهر عبارة أبن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) تفيد أن للحاكم أن يعزر بما يشاء من سجن، أو ضربن كما هو رأي المالكية، فكل عقوبة تناسب حال البيئة، وتخيف المجرمين يجب أن تنفذ ...
__________
الشافعية - قالوا: إن التالف بالتعزير مضمون بخلاف الحدود فإنها غير مضمونة.
قال العلماء: والتأديب للأولاد، أو للزوجة عندهم تعزيراً، لدفعه ورده عن فعل القبائح، ويكون التعذير بالقول، والتأنيب، ويكون بالضرب، والحبس، ويكون بالغرامة المالية، حسب ما يقتضيه حال الفاعل، وما يراه الحاكم من المصلحة للجاني، اهـ.
حكمه في الشريعة
الحنفية، والمالكية - قالوا: إن غلب على ظن الحاكم أن الجاني لا يصلحه إلا الضرب أصبح واجباً وإن غلب على ظن الحاكم أن الجاني لا يصلحه إلا الضرب أصبح واجباً وإن غلب على ظنه إصلاحه بغيره لم يجب. تعظيماً لحضرة الله تعالى إن يعصي العبد ربه فيها وهو ينظر إليه سبحانه فكان الضرب المؤلم له واجباً ليتنبه لقبح فعله في المستقبل، ويصير يتذكر الألم الذي حصل له في الماضي فيستغفر ربه منه.
الشافعية - قالوا: لا يجب التعزير على الحاكم لأنه لا يحصل به كبير زجرن ولا ردع عن المعاصي المستقبلة، إن كانت معلقة على حصول الألم الواقع لذلك العبد.
الحنابلة - قالوا: إن استحق بفعله التعزير كان واجباً، وإن لم يستحق فلا يجب.
ضرب الأب ولده تأديباً
المالكية، والحنابلة - قالوا: إن الأب إذا ضرب الصبي للتعليم، فمات الولد، أو الصبي من أثر الضرب، فلا ضمان عليه، لأن الأب والمعلم لا يضربان للإصلاح والتأديب.
الحنفية، والشافعية - قالوا: إن الاب إذا ضرب ابنه فمات يجب عليه الدية في ماله ولا يرث منها، وكذل المعلم لحفظ القرآن والكتابة، أو الصنعة إذا ضرب الصبي لاجل التعليم فمات من الضرب وجب عليه الضمان وذلك حتى يتحفظ الأب في ضربه لولده، فإنه ربما قامت نفسه من ولده فضربه لا لمصلحة كالأجينب فوجب الضمان احتياطاً.
ضرب الحاكم للتعزير
الحنفية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن الإمام إذا ضرب رجلا للتعزير فمات بسبب الضرب فلا يجب عليه الضمان، لأن منصب الإمام يجل عن أن يعزر احداً بغير المصلحة، بخلاف غير الإمام فإنه قد يعزر غيره وعنده شائبة تشف منه لعداوة سابقة مثلاً، وما سمعنا أن حاكماً قتل بقتله احداً في تعزير، ولا غرم دية.(5/350)
على أن الحنفية الذين قالوا: إنه لا يجوز للحاكم أن يزيد في التعذير بالضرب على ثلاثين سوطاً، وقالوا: إن للحاكم أن يعزر بالقتل، فإن عقوبة اللواكة عندهم من باب التعزير، ومع ذلك فإنهم يقولون: إذا تكررت هذه الفاحشة من شخص فإنه يعزر بالإعدام. إذ لا يليق أن يوجد بين النوع الإنساني من تنقلب طبيعته إلى هذا الحد، ولا يخفى ما في هذا من سلطة واسعة يتصرف فيها الحاكم بما يرى فيه المصلحة.
جواب وسؤال
-فإن قلت: كيف يصل التعزير إلى هذا القدر من العقوبة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ؟
فإن ظاهر هذا الحديث يدل على أن عقوبة غير الحد لا يجوز أن تزيد على عشرة أسواط كما يقول الحنابلة (1) .
__________
الشافعية - قالوا: إن الإمام لو عزر رجلاً فمات بسببه وجب عليه الضمان، لأن الشرع لا محاباة فيه لاحد من الناس، فالإمام الأعظم كآحاد الناس في تطبيق أحكام الشربعة عليه.
قالوا: والتعزير مشروع سواء أكان الذنب حقاً لله تعالى أم لآدمي، وسواء أكان من مقدمات ما فيه حد كمباشرة أجنبية في غير الفرج وسرقة ما لا قطع فيه، والسبب بما لا قذف فيه، أن لا. كجناية التزوير في الأوراق الرسمية، واختلاس الأموال وشهادة الزور)
-
(1) (الحنفية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله - قالوا: لا يجوز أن يبلغ بالتعزير أعلى الحدود، لأن الإمام ونائبه إنما يحكمان على وفق الشريعة الغراء، وليس لهما أن يزيدا على ما قدرته الشريعة ذرة واحدة.
المالكية قالوا: إن التعزير راجع إلى رأي الإمام، فإن أن يزيد على الحدود فعل، لاجل المصلحة، لأن الشارع أمن الإمام الأعظم على أمته من بنعده، وأمر الأمة بالسمع والطاعة في كل ما لا معصية فيه لله عزوجل، بل ضرب بعض العتاة والفسقة الحد المقدر بما لا يردعه، فجاز للإمام الزيادة بالاجتهاد، مصلحة ذلك المعزر.
الحنفية، والشافعية قالوا: إن التعزير لا يختلف أسبابه، كأن يزاج في التعزير حتى يبلغ أجنى الحدود ولو في الجملة، وأدناها عند أبي حنيفة أربعون في الخمر، وعند الشافعيةن والحنابلة، عشرون فيكون أكثر التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون، وعد الشافعية والحنابلة تسعة عشر.
المالكية قالوا: يجوز للإمام الأعظم أن يضرب في التعزير أي عدد أدى إليه اجتهاده، ولو زاد عن الحد.(5/351)
وقد أجاب أبن القيم نفسه عن هذا: بأن الحدود التي تطلق على العقوبات، تطلق أيضا على نفس الجناية والمعصية كما ذكرناه في بحوثنا السابقة.
والمراد بها في الحديث، المعصية، لا العقوبة، فمعنى الحديث لا تجوز العقوبة بالضرب زيادة على عشرة أسواط إلا في الجنايات أن يختلي بامرأة محرمة، أو يشهد زوراً، أو يغش شخصاً، أو يخدعه، أو يحتال عليه، أو يقامر، أو يبذر ماله فيما يؤذي الناس. أو يسعى بالنميمة بين الناس. أو يطفف الكيل والميزان، أو يصرف وقته في الملاهي أو غير ذلك مما لا يمكن حصره هنا. فكل جناية لم يضع لها الشارع حداً، ولاكفارة فإن للحاكم فإن يعاقب عليها بالسجنن أو الضرب بحسب ما يراه زاجراً للمجرم.
أما غير الجنايات من المخالفات، كمخالفة الابن لأبيه، ونحو ذلك مما يقع من اصبيان فإنه يصح التأديب عليها باضرب بشرط أن لا يزيد عن عشرة أسواط.
فهذا هو معنى الحديث. وهو حسن.
وبالجملة فإن التعزير باب واسع يمكن للحاكم أن يقضي به على كل الجرائم التي لم يضع الشارع لها حداً أو كفارة، على أن يضع العقوبة المناسبة لكل بيئة، ولكل جريمة من سجن أو ضرب، أو نفي، أو توبيخ، أو غير ذلك (1) .
__________
الحنابلة قالوا: إن التعزير يختلف باختلاف أسبابه، فإن كان بالوطء في الفرج شبهة كوطء الشريك. أو بالوطء فيما دون الفرج، فإنه يزاد على أدنى الحدود، ولا يبلغ فيه أعلاها، فيضرب مائة إلا سوطاً، وإن كان بغير الفرج كقبلة فإنه لا يبلغ في أدنى الحد اهـ) .
(1) (لقد أجاز الإسلام التعزير بكل أنواعه للحاكم فقط، وليس له أن يفوضه إلى مستحقه ولا إلى غيره، ولم يجز الشرع التعزير لغير الإمام إلا لثلاثة فقط.
الأول. الأب: فإنه يجوز له أن يعزر ولده الغير للتعليم والتربية، والتأديب، والزجر عن ارتكاب الأمور المشينة، وعن فعل سيء الأخلاق، والظاهر أن الأم تلحق بالأب فيما إذا كان في زمن الصبا في كفالتها للصبي أو البنت فيجوز لها التعزير، وكذلك يجوز الأمر بالصلاة، والضرب عليها ولا يجوز للأب تعزير الابن البالغ، وإن كان فعل شيئاً سفيهاً، لأنه لا ينفع فيه الضرب بعد الكبر.
الثاني السيدك لقد أباح له الشرع أن ينبه رقيقه في حق نفسه، وفي حق الله تعالى، وفي تأديبه.
الثالث الزوج: فلقد أجاز الشرع له تزير زوجته في أمر النشوز، والخروج عن أمره، وفي عدم طاعته، كما صرح به القرآن الكريم، فقال تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن(5/352)
وأجاز بعض الحنفية التعزير بالمال، على أنه إذا تاب يرد له، فإذا استثنينا من العقوبات حد السرقة، وحد القذف، واستثنينا القصاص، وبعض الأشياء التي جعل الشارع لها كفارة كالحلف بأقسامه، واتيان الزوجة وهي حائض فإن عقوبات الجرائم الخلقية، والمالية، وسائر المعاصي منوط بتقدير الحاكم، واجتهاده، فعليه أن يضع جميع العقوبات التي تقضي على الرذائل، وتزجر المجرمين.
مبحث دقة التشريع الإسلامي.
-وفي هذا من دقة التشريع الإسلامي وجماله، ما يدل على أنه من لدن عليم خبير، فإن مما لا ريب فيه أن أحوال الناس تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، فالعقوبة التي تناسب جماعة لهم حالة خاصة، لا تناسب جماعة أخرى تخالفها في عاداتها وأطوارها، فلا يمكن
__________
في المضاجع، واضربوهن} آية 34 من النساء وهل له ضربها على ترك الصلاة وعمل الصالحات الظاهر أن له ذلك إن لم يكف الزجر والتأنيب، لأنه من باب إنكار المنكر، والزوج من جملة من يكلف بنهي زوجته عن فعل القبيح، وقد ينتفي التعزير مع انتفاء الحدود والكفارة كما في قطع شخص أطراف نفسه، وقد يجتمع التعزير مع الحد، كما في تكرر الردة، وقد يجتمع مع الكفارة كما في قطع شخص أطراف نفسه، وقد يجتمع العزير مع الحد، كما في تكرر الردة، وقد يجتمع مع الكفارة كما في الظهار، واليمين الغموس، وإفساد الصائم يوماً من رمضان بجماع حليلته، وغير ذلك.
واتفق الأئمة على حد الزنا، والسرق' وشرب المسكر، والحرابة، والقذف بالزنا والقتل، والقصاص في النفس والأطراف، والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الخيرين حداً. واختلف في أشياء كثيرة، يستحق مرتكبها العقوبة، هل تسمى عقوبته حداً أم لا؟ ومنها جحد العارية، واللواط، وإتيان البهيمة، وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها، والسحاق، وأكل الدم، وأكل الميتة في حال الاختيار، وأكل لحم الخنزير، والاشتغال بالسحر، والقذف بشرب الخمر، وترك الصلاة كسلاً، والفطر متعمداً في شهر رمضان، والتعريض بالزنا، ومنع الزكاة، والخلوة بالمرأة الأجنبية، والاستمتاع بها من غير زنا، والاستمتاع بالأمرد من غير لواط به، ونحو ذلك اهـ.
كيفية إقامة الحد
الحنفية، والشافعية قالوا: إنه يضرب في حد التعزير قائماً، لأنه أبلغ في الزجر، وآلم للجاني.
الحنفية، والشافعية قالوا: إنه لا يجر من ثيابه في حد القذف خاصة، ويجرد فيما عداه.(5/353)
وضع عقوبة منضبطة يمكن تطبيقها على سائر الناس، فالله العليم بأحوال عباده، الخبير بما تقبضيه طبائعهم ناط أم تقدير العقوبات بأولي الأمر، ثم كلفهم السهر على مصالح رعاياهم، والاستمساك بكل الوسائل المفضية إلى تربيتهم تربية صالحة، والقيام بتأديب المجرمين، بالعقوبات المناسبة، كي يعيش الناس في أمن، ودعة، وراحة، واطمئنان.
سؤال وجوابه.
-وها هنا سؤال ظاهر - وهو أن عقوبة التعزير لم ينص عليها في الشريعة الإسلامية، بخصوصها، فهل عمل الحاكم في هذا الباب يقال له: حكم شرعي، أو وضعي؟
وهذا هو السؤال الأخير، فإليك الجواب.
والجواب: أنه لا يخرج حكم من الأحكام عن نصوص الشريعة الإسلامية. ما دامت السموات والأرض، وليس معنى هذا أن كل حادثة منصوص عليها بخصوصها، فإن هذا مما لا معنى له، لأن الحوادث تتجدد بتجدد الزمان والمكان، ولكن الغرض أن كل حادثة من الحوادث المتجددة لا بد أن تدخل تحت قاعدة كلية من قواعد الشريعة الإسلامية (1) .
__________
المالكية قالوا: يجب تجريده من ثيابه في الحدود كلها إلا ما يستر عورة زيادة في زجره.
الحنابلة قالوا: لا يجرد من ثيابه في الحدود كلها، بل يجرد من الجلد، والفرو، والحشو خاصة. ويضرب فيما لا يمنع ألم الضرب كالقميص والقميصين، ونحو ذلك، لأن الألم يحصل مع وجوده.
الحنفية، والحناللة قالوا: إنه يجب أن يفرق الضرب على جميع البدن إلا الوجه، والفرج، والرأس.
الشافعية - قالوا: لا يضرب الفرج، والوجه، والخاصرة، وسائر المواضع المخوفة حتى لا يفضي إلى الموت.
المالكية قالوا: يجوز ضرب الظهر وما قاربه، ولا يجب أن يفرق الضرب على جميع الأعضاء زيادة في الألم اهـ) .
-
(1) (فما من حادثة تحدث في المجتمع إلا ويجد الحاكم لها حكماً في الشرع تحت قادعة من قواعد الشريعة الإسلامية، خصوصاً حد التعزير الذي أعطى للحاكم سلطة سن العقاب الزاجر الذي يراه مناسباً للمجرم المنحرف. فقد روي أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى في طرقات المجينة رجلاً يتبختر في مشيته ولمه فيه مظاهر العبث والاستهتار التي لا تليق بالرجال الكمل فزجره وأمره بترك مسلكه هذا، فتعلل بالرجل بأن هذا في طبيعته ولا يطيق تركه، فأمر سيدنا عمر(5/354)
مبحث دليل ثبوته.
-فالتعزير قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في ذلك الحديث الذي ذكرناه آنفاً، وهو: "لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" متفق عليه فإنه نص على أن للحاكم إن يعزر بالضرب في الأمور التأديبية، وفي الأمور الجنائية حسبما يراه زاجراً، إلا أنه لا يزيد في غير الجنايات على عشرة أسواطا، كما بينا، وقد عزر كبار الصاحبة صلى الله عليه وسلم من بعده بالضرب والسجن، والقتل، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه جمع كبار علماء الصحابة رضوان الله عليهم واستشارهم في عقوبة اللائط، فأفتوا بإعامه حرقاً، وهذا من أشد ما يتصور في باب التعزير، وثبت أن عليا وجد رجلاً مع امرأة يستمتع بها بغير جماع، فجلده مائة سوط (1)
__________
بجلده، وبعد ايام رآه سيدنا عمر على حاله من العبث والتخنث فأمر بجلده مرة أخرى، ولم مض وقت طويل حتى جار الرجل وقد استقامت مشيته واعتدل مسلكه، وقال: جزال الله خيراً يا أمير المؤمنين لقد كان الشيطان يلازمني فأذهبه الله عني بعقوبتك.
وروي أيضاً أنه رأى امرأة في زي غير لائق ينم عن لريبة، فسأل عنها فرف أنها إحدى الجواري، فنهرها وضربها بدرته وحذرها من أن يراها متبذلة مرة أخرى، فلم ترى بعد ذلك إلا متحشمة. وحدث أن سيدنا عمر رضي الله عنه مر يوماً بسوق المدينة فرأى رجلاً أمه (إياس بن مسلمة) يعترض طريق المسلمين ويرفع صوته صاخباً عليهم ببضاعنه، وهو يسد عليهم مسالكهم، فعلاه بدرته فاستجاب الرجل وامتثل أمر أمير المؤمنين، واستقام حاله.
فهذه قضايا لا حدود لها في الإسلام، ولكن الحاكم تصرف فيها من باب التعزير الذي شرعه الله تعالى له) .
-
(1) (وكذلك في حالة نشوز المرأة، وفي حالة منع الزوج من حقه مع القدرة لقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن} الآية 34 من سورة النساء.
فقد أباح الشارع الضرب عند المخالفة، فكان فيه تنبيه من الشارع الحكيم إلى التعزير، وكذلك قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الشريف في سرقة التمر: (إذا كان دون نصاب غرم مثله، وجلدات نكال) رواه أو داود واللفظ له ورواه النسائي.
وروى الإمام البيهقي رحمه الله تعالى فيه صحيحه (أن الإمام علياً كرم الله وجهه، ورضي الله عنه سئل عمن قال لرجل: يا فاسق، يا خبيث، فقال: يعزر)
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجلد فوق عشرة اسواط إلا في حد من حدود الله تعالى) .(5/355)
ولا خلاف أن للإمام أن يسجن الجاني بما يراه زاجراً له، ولا معنى لهذا كله إلا أن لإمام المسلمين، أو من ينوب عنه، الحق في التعزير بحسب ما يراه زاجراً للمجرمين، بل يجب عليه أن ييضع العقوبات المناسبة التي يترتب عليها تاديب رعيته، وإصلاح حالهم، لأن كل راع مسؤول عن رعيته، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل عقوبة من العقوبات التي يراها الحاكم زاجرة توصف بما توصف به الأحكام الشرعية بلا نزاع.
وبعد فإن الذي يطلغ على الشريعة الإسلامية، ويمعن النظر فيها، ويقف على حكمها وأسرارها، ويتأمل في نظمها وقواعدها، لا يسعه إلا أن ينحني أمام عظمتها، ويجزم بأنها من لدن حكيم، عليم، فلقد جاءت بكل قانون فيه مصلحة الجميع وسعادتهم، وبنت كل أحكامها بما فيه مصلحة النوع الإنسانين وذفع المفاسد عنهم في كل شأن من شؤونهم فلم تترك مصلحة حقيقة من مصالح الأمم والشعوب إلا إذا حثت عليها وأمرت بها، ولم تترك مفسدة من المفاسد الخلقية، أو المادية إلا نهت عنها، وحذرت الناس من شرها.
نظام الأسرة في الإسلام.
-لقد وضعت الشربعة نظام الأسرة التي هي أساس بناء العمران على قواعد ثابتة، لا يعتريها وهن مدى الدهور والأعوام، فقد جعلت لكل فرد من أفراجها حقاً يناسبه ويليق به: من تعظيم، ونفقة، وميراث، ووصية، وغير ذلك.
__________
متفق عليه، كما روي عن بريدة النصار رضي الله تعالى عنه، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله الصحابة رضوان الله عليهم من بعده من غير نكير منهم، وأجمعت عليه المة، وروي إن الإمام علي كرم الله وجهه، جلد من وجده مع إمراة يتمتع بها بغير زنى (مائة سوط إلا سوطين) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه ضرب من نقش على خاتمع مائة سوط، وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فهو ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
الحنفية قالوا: إن ضرب التعزير يكون أشد من ضرب حد الزنا، وضرب حد الزنا، يكون أشد من ضرب حد شارب الخمر، وضرب شارب الخمر يكون اشد من حد القذف، وحد القذف أخف من جميع الحدود، لأن جريمة حد القذف غير متيقن بها، لأن القذف خبر يحتمل الصدق والكذب، وقد يعجز عن إقامة أربعة من الشهداء مع صدقة في قوله، وإنما كان ضرب التعزير أشد من جميع الحدود، لأن المقصود به الزجر، وقد دخله التخفيف، من حيث نقصان العدد، فلو قلنا: يخفف الضرب أيضاً لفات ما هو المقصود من إقامة الحد لأن الألم يخلص إليه لا ينزجر، ولهذا قالوا: يجرد في التعزير عن ثيابه إلا ما يستر عورته، مثل الإزار الواحد.(5/356)
فأمر الأبناء أن يطيعوا آباءهم في غير معصية أو إثم، وامرت الآباء أن يربوا أبناءهم تربية حسنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزموا أبناءكم وعلموهم الأدب".
ثم جعلت لكل من الآباء والأبناء حقوقاً في الميراث، تناسب حالهم، وكذلك جعلت للأزواج حقوقاً تناسب كل واحد من الزوجين بحسب العرف والعادة. قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} آية [228 من سورة البقرة] .
وجعلت للإخوة والأخوات حقوقاً على بعضهم بعضاً، وحثت بعد ذلك على صلة الأرحام وبرهم. وجعلت لهم حقوقاً تليق بهم، ثم من بعدهم الجيران، ثم أهل البلدة، ثم بينت حقوق الحاكم والمحكوم خير بيان.
وقد ذكرنا سابقاً، أنها قضت الوطر، من قوانين المعاملات، والأخلاق.
مبحث أساس القوانين الشرعية.
-وبالجملة، فالشريعة الإسلامية لم تترك شيئاً إلا وضعت له قانوناً أساسه المصلحة، المادية والأدبية، وقوامها الفضائل الإنسانية، حتى العادات فقد علمت الناس كيف يأكلون، ويشربون، وكيف يعامل بعضهم بعضاً في الحديث والمجلس والزيارة والصحبة. وكل ما يتعلق
__________
المالكية قالوا: إن الضرب لا يتفاوت في الحدود بل كلها سواء.
الشافعية - قالوا: إن حد الزنا الزنا أشد من حد القذف، والقذف اشد من الخمر، لأن الزنا ثبت بدليل مقطوع به اهـ.
فائدة
ذكر العلماء، أنه يستثنى من إقامة التعزير مسائل (اولاً) يترك التعزير إذا صدر الفعل من رجل صالح فإنه يعفو عنه. لقوله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا من ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) رواه أو داود.
الشافعية - قالوا: المراد بذوي الهيئات الذين لا يعرفون بالشر، فيقع أحدهم في زلة ثم يتوب منها ويندم عليها، أما إذا تكرر منه فإنه يعزر.
ثانياً: إذا قطع شخص أطراف نفسه، أو شوه جسده، أو أحرقه بالنار فلا يعزر، لأنه عذب نفسه.
ثالثاً: إذا وطئ الرجل زوجته أو أمته في دبرها فلا يعزر بأول مرة، بل ينهى عن العودة، فإن عاد عزر، والأصل لا يعزر لحق الفروع كالأب، والجد مع الأبناء.(5/357)
بشؤون الفرد وحده، أو مع غيره، قريباً كان أو بعيداً، ولم تقف قضية من قضاياها في وجه الإصلاح الذي يتجدد بتجدد الزمان، والمكان.
ومن هذا نعلم أن كل شيء يحث لا بد أن يرجع إلى أصل عام في الشريعة الإسلامية، وقد ألهم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقواعد عامة جامعة يمكن إدخال كل جزئية من جزيئات الحوادث تحتها.
وقد ذكر أبن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) كثيراً منها يضيق المقام عن ذكر جميعها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) (وكل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (وكل قرض جر نفعاً، فهو ربا) وقوله: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) وقوله: (كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه) وقول صلى الله عليه وسلم (كل أحد أحق بماله من ولده ووالده، والناس أجمعين) وقوله (وكل معروف صدقة) الخ.
فهذه، وأمثالها، كليات تدخل تحتها كل جزئية تتجدد من نوعها، فإذا فرض ووجدت جزئية ولم يتيسر لعالم أن يرجعها إلى أصل من أمثال هذه الصول، فانهيمكنه أن يرجعها إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر، ولا ضرار) والضرار هو الضرر، ومعناه، إنه ينبغي لكل مسلم أن يرفع ضرره عن غيره.
__________
رابعاً: إذا رأى من يزني بزوجته، وهو محصن فقتله في تلك الحالة فلا يعزر، وإن افتات على الإمام، لأجل الحمية والغيرة على العرض، وقد حث عليه الشارع.
خامساً: إن ارتد ثم أسلم.
سادساً: إذا تأخر الرجل عن اعطاء زوجته النفقة، فإنه يكون آثماص، ولا يعزر في ذلك.
سابعاً: إذا حلف الزوج يمين الظهار على زوجته فإنه يعزر مع الكفارةن وإذا أفسد الزوج الصائم يوماً من رمضان بجماع زوجته يعزر.
مبحث البغاة والمحاربين.
التفسير: الأصل في هذا الباب ما روي عن انس بن مالك رضي الله عنه أن ناساً من عرينة قدما المدينة فاجتووها فبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وامرهم أن يشربوا من أبوالها، وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، والقاهم في الحرة، قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً، حتى ماتوا) فنزل قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وارجلهم من خلاف، أو ينفوا من(5/358)
ويجب على كل رئيس قادر سواء كان حاكماً، أو غيره أن يرفع الضرر عن مؤوسيه، فلا يؤذيهم هو، ولا يسمح لأحد أن يؤذيهم.
ومما لا شك فيه، ان ترك الناس بدون قانون يرفع عنهم الأذى والضرر، يخالف هذا الحديث فكل حكم صالح فيه منفعة ورفع ضرر يقره الشرع ويرتضيه.
__________
الأرض. وذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم} آية 33 من سورة المائدة، روي عن عكرمة، والحسن البصري. وعبد الله بن عباس رضي تعالى عنهم أن هذه الآية نزلت في المشركين، وقال أبن عباس: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، والفسدوا في الرض، فخير الله رسول إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، رواه أبن جرير.
والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات الذميمة كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة، واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك (أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسادهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها) فقالوا: بل فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم. وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا) واللفظ لمسلم. وتسمى هذه الآية آية المحاربة وهي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل.
وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير من الافساد في الرض وقد قال الله تعالى: {وإذا تولى سعى في الرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يجب المفسدين} آية 205 من سورة البقرة.
{ذلك لهم خزي في الدنيا} أي هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم من الرض خزي لهم بين الناس، وشر وعار، ونكال وذلة، وعقوبة في عاجل الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة وهذا يؤيد قول من قال: إن الآية نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء، ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل اولادنا، ولا يعضه بعضنا بعضاً، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن اصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه) .
وعن علي رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن(5/359)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يعود عليه في شيء عفا عنه (رواه الإمام أحمد والترمذي، وأبن ماجة، وقال الترمذي حسن غريبن وسئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث فقال: روي مرفوعاً وموقوفا، قال: ورفعه صحيح.
قال تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} أية 34 من سورة المائدة أما على رأي من قال: إن الآية في أهل الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإن تابوا قبل المقدرة عليهم فإنه يسقط عنهم أحكام القتل والصلب، وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة.
روي عن عامر الشعبي قال: (جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله تعالى عنه بعد ما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائد بك أنا فلان بن فلان المرادي، إني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فساداً، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي، فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان وغنه كان حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً، وغنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم أنه خرج فأدركه الله الله تعالى بذنوبه فقتله) .
مبحث أحكام قطاع الطريق.
اتفق الأئمة على أن من خرج في الطريق العام وأشهر السلاح مخيفاً لعابر السبيل خارج المصر حراً أو عبداً، مسلماً، أو ذمياً، أو مستأمناً، أو محارباً، فإنه محارب قاطع للطريق جار عليه أحكام المحاربين، ولو كان واحداً.
واتفقوا: على أن كل من قتل من المحاربين وأخذ المال وجب إقامة الحد عليه، فإن عفا أولياء المقتول، والمأخوذ منهغير مؤثر في إسقاط الحد عنهم، وإن مات أحد منهم قبل القدرة عليه سقط عند الحد، إذ الحدود حق الله عز وجل، وطولب بحقوق الآدميين من الأنفس والأموال، والجراح إلا أن يفعو عنهم فيها.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله قالوا: إن حد قطاع الطريق على الترتيب المذكور في الآية الكريمة. فإذا خرج جماعة ممتنعين، أو واحد يقدر على الامتناع فقصواد قطع الطريق، فأخذوا قبل أن يأخذوا مالاً، ويقتلوا نفساً، حبسهم الإمام حتى يحدثوا توبة وهو النفي في الأرض، وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم فصاعداً، أو ما تبلغ قيمته ذلك، قطع الإمام أيديهم، وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالاً قتلهم الإمام حداً فلا يسقط القتل بعفو الأولياء، ويسمى قطاع الطريق محاربين، لأن المال في البراري محفوظ بحفظ الله تعالى، فإذا أخذوه على سبيل المغالبة، كان في صورة المحارب، وإذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وقتلهم وصلبهم، وإن شاء قتلهم، وإن(5/360)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
شاء صلبهم، لأنها عقوبة واحد. فغلظت بتغلظ سببها، وهو تفويت الأمن على النتاهي بالقتل وأخذ المال فالمراد بالآية التوزيع على الأحوال الأربعة.
المالكية رحمهم الله تعالى قالوا: المحارب هو قاطع الطريق لمنع سلوك، ولو لم يقصد أخذ مال المارين بل قصد مجرد منع الانتفاع بالمرور فيها أو قصد أخذ مال محترم من مسلم أو ذمي، أو معاهد، ولو لم يبلغ نصاباً، أو قصد هتك الحريم، على حال يتعذر معه الإغاثة والتخلص، فيشمل جباربة الظلمة من الحكام الذين يسلبون أموال الناس ولا يفيد فيهم الاستغاثة بالعلماء ولا بغيرهم، فهم محاربون، ولا يشترط تعد د المحارب، بل يعد محارباً ولو انفرد ببلد وقصد أذية بعض الناس، ولا يشترط قصد عموم الناس، ومذهب عقل كمسقي نحو الحشيشة، أو الداتورة، لأجل أخذ المال قهراً وظلماً، ومخادع مميز لأخذ ما معه، فإنه محارب سواء كان المميز صغيراً، أو بالغاً، خدعة وأدخله موضعاً، وأخذا ماله، ولو لم يقتله، وداخل زقاق، أو دار ليلاً أو نهاراً لأخذ مال بقتلا على وجه يتعذر معه الإغاثة والإعانة فقاتل حتى أخذه فهو محارب.
ويقاتل المحارب بعد المناشدة، إذا لم يعادل المحارب بالقتال، ويتعين قتل المحارب إن قتل سواء مكافئاً كمسلم حر، أو كافراً، أو رقيقاً، فيقتل المحارب بلا صلب، أو مع صلب، ولا يجوز قطعه، ولا نفيه، وليس لولي الدم فعو عنه قبل مجيئه تائباً، وإن لم يقتل المحارب أحداً وقدر عليه فيخير الإمام في أمور أربعة النوع الأول: القتل، والثاني الصلب والقتل، وهو مصلوب، الحد الثالث: قطع يمينه من الكوع، وجله اليسرى من المفصل، ولو خلف عليه الموت، فإن كان مقطوع اليد اليمنى أو أشلها قطعت يده اليسرى وجله اليمنى، وإن كان مقطوع الرجل اليسرى، قطعت يده اليسرى وجله اليمنى، فإن لم يكن له إلا يد أو رجل قطعت، فإن كان له يدان فقط أو رجلان قطعت اليمنى فقط أو الرجل اليسرى، والحد الرابع نفي الذكر الحر إلى مثل فدك وخيبر، ويحبس للأقصى من السنة وظهور التوبة، ويضرب قبل النفي اجتهادا بحسب ما يراه الحاكم اردع لهم ولأمثالهم.
أما المرأة المحاربة فلا تصلب، ولا تنفى، وإنما حدها القتل، أو القطع من خلاف.
وأما حد الرقيق المحارب فهو القتل، أو الصلب والقتل، أو قطع يد، ورجل، ولا ينفى.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: قطع الطريق: هو البوز لأخذ مال، أو القتل، أو إرعاب، كابرة اعتماداً على الشوكة مع البعد عن الغوث، وسمي بذلك، لامتناع الناس من سلوك الطريق خوفاً منه، وسواء كان معه سلاح أولا، إن كان له قوة يغلب بها الجماعة، ولو باللكز والضرب بجمع الكف، وقيل لا بد من آلة للقتال. فإذا أخذوا قبل أن يقتلوا نفساص، أو يأخذوا مالاً، أو يهتكوا عرضاص، وجب على الإمام تعزيرهم بحبس وغيره لارتكابهم معصية وهي الحرابة لا حد فيها ولا كفارة، وهذا تفسير النفي في الآية الكريمة، والأمر في مجنس هذا التعزير راجع إلى الإمام، فيجوز له الجمع بين الضرب والحبس وغيره، وله تركه إن رآه مصلحة، ولا يقدر الحبس بمدة: بل يستدام حتى تظهر توبته، وقيل: يقدر حبسه بستة أشهر ينقص منها شيئاً لئلا يزيد على تغريب العبد في الزنا، وقيل: يقدر بسنة ينقص منها(5/361)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
شيئاً لئلا يزيد على تغريب الحر في الزنا، والحبس في غير موضعه أولى لأنه أحوط، وأبلغ في الزجر، ويطلبون إذا هربوا ليقام عليهم.
الحنابلة في أحد روايتيهم قالوا: إن أخذوا قبل أن يقتلوا نفسا، أو يأخذوا مالاً نفوا في الأرض، وصفته أن لا يتركوا يأوون في بلد، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا نفساً، قطع الإمام أيديهم وأرجلهم من خلاف ثم يخلون، فيقطع اليد اليمنى لأخذ المال، ويقطع الرجل اليسرى للحرابة وقطع الطريق وإخافة الآمنين، والخروج على غفمام. وإن قتلوا وأخذوا المال، وجب قتلهم حتماص، وصلبهم حتماً، وإن قتلوا النفس، ولم يأخذوا مالاً وجب قتلهم حتماً، ويكون الصلب بعد القتل، ولا يشترط في مدة الصلب ثلاثة أيام، بل ما يقطع عليه الاسم، فيصلب قليلاً ثم يترك، لأن الصلب شرع عقوبة له، ولا ينكس في الصلب.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: يشترط في قطاع الطريق لتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أن يأخذوا مالاً ويصيب كل واحد منهم مقدار نصاب حد السرقة، وهو دينار أو عشرة دراهم، أو قيمة أحدهما، عند الحنفية، وربع دينار، أو ثلاثة دراهم عند الحنابلة، والشافعية، قياساًعلى قطع السرقة.
المالكية قالوا: لا يشترط سرقة مقدرا النصاب في قطع الطريق بل يقام الحد عليهم لو سرقوا أقل من النصاب، وذلك لانضمام المحاربة إلى أخذ المال، فكان التغليظ عليهم من جهة قطع الطريق لا من النصاب.
اجتماع المحاربين
الحنفية، والمالكية، والحنابلة قالوا: لو اجتمع محاربون فباشر بعضهم القتل والخذ، وكان بعضهم ردءاً كان للردء حكم المحاربي في جميع الأحوال، وذلك للاكتفاء وجود المحاربة سواء باشر بعضهم القتل أو لم يباشره، فيقام الحد عليهم جميعاً، لأنه جزاء المحاربة وهي تتحقق بأن يكون البعض معاوناً للبعض حتى إذا زلت أقدامهم انحازوا إليهم، وإنما الشرط القتل من واحد منهم وقد تحقق، والقتل إن كان بعصاً، أو بحجر، أو بسيف فهو سواء، لأنه يقع قطعاً للطريق بقطع المارة.
وقد روي أنه حدث في زمن الوليد بن عقبة وهو وال على الكوفة أن شباباً من شباب الكوفة ثقبوا على رجل منها داره وقتلوه، وكان له جار قد أشرف على الحادث ورآه فاستصرخ الشرطة الشرطة فجاؤوا وقبضوا عليهم، فحوكموا وثبتت عليهم جريمة القتل، فقتلوا جميعاً.
الشافعية - قالوا: ومن أعان قطاع الطريق، وكثر جمعهم، ولم يزد على ذلك، بأن لم يأخذ مالاً مقدار نصاب، ولم يقتل نفساً، عزره الإمام بحبس، أو تغريب وغيرهما كسائر المعاصي، وقد ورد في الخبر (من كثر سواد قوم فهو منهم) فللإمام لأن عقوبته في الآية النفي.(5/362)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن حكم من قطع الطريق داخل المصر، كمن قطع الطريق خارجها على حد سواء، لأن محاربة شرع الله تعالى، وتعدي حدوده لا يختلف تحريمها بكونها خارج المصر أو داخله كسائر المعاصي.
الحنفية قالوا: لا يثبت حكم قاطع الطريق إلا أن يكون خارج المسر، لأن قطع الطريق خارج المصر هو المشهور المتبادر إلى الأذهان، لعدم وجود من يغيثه ويخلصه من قاطع الطريق عادة، بخلاف من قطع الطريق في المصر فإن الناس يغيثونه كثيراً، فكان بالغصب أشبه، فيجب عليه التعزير بما يراه الإمام رادعاً له وزاجراً، ويرد ما أخذه من المال إلى مستحقه، إيصالاً للحق إلى صاحبه، ويؤذبون ويحسبون لا رتكابهم جناية القطع ولو قتلوا فالأمر فيه إلى أولياء الدم.
إذا جرح القاطع غيره
الحنفية قالوا: إذا لم يقتل القاطع، ولم ياخذ مالاً وقد جرح غيره اقتص منه فيما فيه القصاص، وأخذ الأرش منه فيما فيه الأرش، وذلك إلى الأولياء، لأنه لا حد في هذه الجناية، فظهر حق العبد وهو ما ذكروه، فيستوفيه الولي.
وإن أخذ ما تاب، وقد قتل عمداً، فإن شاء الولياء قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه. لأن الحد في هذه الجناية لا يقام بعد التوبة، للاستثناء المذكور في النص بقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} الآية. ولأن التوبة تتوقف على رد المال، ولا قطع في مثله، فظهر حق العبد في النفس والمال، حتى يستوفي الولي القصاص، أو يعفو.
الشافعية - قالوا: إن قتل القاطع يغلب فيه معهى القصاص لأنه حق آدمي، لأن الأصل فيما اجتمع فيه حق آدمين وحق لله تعالى يغلب فيه حق الآدمي، لبنأئه على الضيق.
وقيل: معنى الحد في القاطع، وهو حق الله تعالى لأنه لا يصح العفو عنه، ويستوفيه الإمام بدون طلب الولي، فعلى الأول لا يقتل والد بولده الذي قتله في قطع الطريق، ولا ذمي إذا كان هو مسلماص، ولا نحو ذلك ممن لا يكافئه كعبد، والقاطع حر، لعدم المكافأة، وتجب الدية، أو القيمة وعلى الثاني يقتل إلا أن يكون المقتول غير معصوم الدم كمرتد وزان محصن، فإنه لا يقتل.
ولو مات القاطع من غيرقتله قصاصاً فدية على الأول تؤخذ من تركته في قتل حر، وقيمته في قتل عبد. وعلى الثاني، لا شيء، ولو قتل جمعاً، معاً، قتل بواحد منهم بالقرعة، وللباقين ديات على الأول كالقصاص وعلى الثاني يقتل بهم أما إذا قتلهم مرتباً فإنه يقتل حتماً بأولهم.
ولو عفا عن القصاص ولي المقتول بمال صح العفو على الأول، ووجب المال وسقط القصاص عنه، ويقتل بعد ذلك حداً، كما لو وجب القصاص على مرتد فعفا عنه الولي وعلى الثاني فالعفو لغو(5/363)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
لا يعمل به. ولو قتل القاتل شخصاً بمثقل أو بقطع عضو أو بغير ذلك فعل به مثله على الأول، وعلى الثاني يقتل بالسيف كالمرتد.
ولو جرح قاطع الطريق شخصاً جرحاً يوجب قصاصاً كقطع يد، فاندمل الجرح لم يتحتم على القاطع قصاص في ذلك الطرف المجروح في الظهر، بل يتخير المجروح بين القصاص والعفو، لأن التحتم تغليظ لحق الله تعالى اختص بالنفس كالكفارة، ولأن الله تعالى لم يذكر الجرح في الآية، فكان باقياً على اصله في غير الحرابة والثاني يتحتم كالنفس والثالث يتحتم في اليدين والرجلين لأنهما مما يستحقان في المحاربة.
قالوا: تسقط عقوبات تخص القاطع من تحتم القتل والصلب وقطع الرجل، وكذا اليد في الأصح. بتوبته قبل القدرة عليه لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} الآية.
أما بعد القدرة فلا تسقط تلك العقوبات عنه بالتوبة منها لمفهوم الآية. وإلا لما كان للتخصيص بقوله من قبل فائدة، والفرق من جهة المعنى أنه بعد القدرة منهم لدفع قصد الحد، بخلاف ما قبلها فغنها بعيدة عن التهمة قريبة من الحقيقة.
المالكية قالوا: يجب إن يدفع ما بايدي المحاربين لمدعيه حيث وصفه كاللقطة بعد ألاستيفاء بيمين من المدعي لذلك الشيء، أو ببينة رجلين من رفقة المأخوذ منه، وكذلك برجل وامرأتين، فمن قدر عليه اخذ جميع ما سلبه هو واصحابه، ولو لم يأخذ منه شيئاً كالبغاء والغاصب، ولا يؤمن المحارب أن سأل الآمان من الإمام.
ويسقط حد قاطع الطريق إذا جاء المحارب إلى الإمام، أو نائبه طائعاًتائباً قبل القدرة عليه، إذا كان لم يقتل أحداً، وإلا وجب قتله قصاصاً، إذا لم يعف ولي الدم، وإن عفا سقط القصاص، ولا يسقط حد الزنا، والقذف، والشراب، والقتل إذا تاب بعدها، بل يقام عليه الحد.
ولا يسقط حكم المحارب إذا تاب بعد القدرة عليه، كما لا يسقط الضمان بإتيانه طائعاً مطلقاً، ولا يترك المحارب ما هو عليه من الحرابة، ولو لم يأت الإمام.
الحنفية قالوا: إن ضرب التعزير يكون أشد من ضرب حد الزنا، وضرب حد الزنا، يكون أشد من ضرب حد شارب الخمر، وضرب شارب الخمر يكون اشد من حد القذف، وحد القذف أخف من جميع الحدود، لأن جريمة حد القذف غير متيقن بها، لأن القذف خبر يحتمل الصدق والكذب، وقد يعجز عن إقامة أربعة من الشهداء مع صدقة في قوله، وإنما كان ضرب التعزير أشد من جميع الحدود، لأن المقصود به الزجر، وقد دخله التخفيف، من حيث نقصان العدد، فلو قلنا: يخفف الضرب أيضاً لفات ما هو المقصود من إقامة الحد لأن الألم يخلص إليه لا ينزجر، ولهذا قالوا: يجرد في التعزير عن ثيابه إلا ما يستر عورته، مثل الإزار الواحد.
إذا كان مع قاطع الطريق امرأة
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إذا كان مع قطاع الطريق امرأة فوافقتهم في القتل وأخذ المال قتلت حداً، وكذلك الصبين وذو الرحم، وغيره، لأن ذلك حق الله تعالى فيقتل حداً.
الحنفية قالوا: إذ كان من قطاع الطريف امرأة فإنها تقتل قصاصاً وتضمن، وإذا كان معهم صبي أو مجنون، أو ذو رحم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين لأنه جناية واحدة قامت بالكل، فإذا لم يقع فعل بعضهم موجباً كان فعل الباقين بعض العلة وبه لا يثبت الحكم فصار كالخاطئ مع العامد، وأما ذو الرحم المحرم فقد قيل: تأويله إذا كان المال مشتركاً بين المقطوع عليهم، والأصح أنه مطلق لأن الجناية واحدة.(5/364)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنابلة، الحنفية قالوا: إنه لو زنى رجل، وشرب الخمر، وسرق، ووجب عليه القتل، في المحاربة أو غيرها، قتل ولم يقطع ولم يجلد، ولا يستوفى باقي الحدود.
الشافعية - قالوا: يجب أن تستوفي جميعها من غير تداخل على الإطلاق، لأن كل واحد يجب فيه الحد الذي شرع له.
الصلاة على قاطع الطريق
الحنفية، والشافعية قالوا: تجوز الصلاة عليه بعد القتل، وإذا صلب وقتل يصلى عليه خلف الخشبة.
وقال بعضهم لا يصلى عليه تنكيلاً به وقالوا: لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام حتى لا يؤذي الناس بريحه.
قبول شهادة من تاب
المالكية، والشافعية قالوا: إن من تاب من المحاربة ولم يظهر عليه صلاح العمل، لا تقبل شهادته حتى يظهر صلاح العمل، للأخذ بالاحتياط لأموال الناس وأبضاعهم، فإن من لم يظهر عليه صلاح العمل بعد التوبة، كانه لم يتبن فلا يخرجه عن التهمة في شهادته إلا اصلاح العمل، والمشي على طريق كل المؤمنين قال تعالى: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح} وقال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} ونحوهما من الآيات.
الحنفية، والحنابلة قالوا: تقبل شهادة من تاب من المحاربين، وإن لم يظهر عليه صلاح العمل، لأن رد الشهادة ليس من تمام الحد، وإنما هو للفسق وقد ارتفع بالتوبة. وللعمل بظاهر الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (واتبع السيئة الحسنة تمحها) فشرط في محوها اتباع الحسنة لها.
إذا قتل المحارب من لا يكافئه
الحنفية، والحنابلة قالوا: إن المحارب إذا كان في المحاربة من لا يكافئه في الدين كالكافر:
والعبد، والولد، وعبد نفسه فقتله في حالة الإغارة وقطع الطريق، فلا يقتل به بعد القبض عليه، بل تجب الدية لأولياء الدم أو قيمة العبد، لأن القصاص سقط عنه.
المالكية، والشافعية في إحدى روايتهم قالوا: إن المحارب يقتل إذا قتل من لا يكافئة، أو قتل ولده، أو قتل عبداً، ولو عبد نفسه، والله تعالى أعلم.
اجتماع عقوبات في غير قاطع الطريق
الشافعية - قالوا: من لزمه قصاص في نفس، وقطع لطرف آدمي، وحد قذف لآخرن وطالبوه بذلك جلد اولاً للقذف، ثم قطع لقصاص الطرف، ثم قتل لقصاص النفس، لأن ذلك أقرب إلى(5/365)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
استيفاء الجميع، فإن اجتمع مع ذلك تعزير لآدمي بدئ به، ويبادر بقتله بعد قطعه، لا قطعه بعد جلده إن غاب مستحق قتله جزماً، وكذا إن حضر وقال: عجلوا القطع وانا أبادر بالقتل بعده، ولو أخر مستحق النفس حقه جلد للقذف اولاًن فإذا برئ قطع للطرف، ولو أخر متسحق طرف حقه جلد، ووجب على مستحق القصاص الصبر بحقه حتى يستوفى الطرف، فإن بادرفقتله فلمستحق الطرف دية في تركة المقتول، ولو أخر مستحق الجلد فالقياس صبر الآخرين.
ولو اجتمعت حدود الله تعالى قدم وجوباً الأخف فالأخف، أو اجتمعت عقوبات لله تعالى والآدميين قدم حد قذف على زنا، والأصح تقديمه على حد شرب، وإن القصاص قتلاً وقطعاً يعدم على حد الزنا، ولو اجتمع قتل قصاص في غير محاربة، وقتل محاربة، قدم السابق منهما، ورجع الآخر إلى الدية، ومن زنى مرات، أو سرقن أو شرب كذلك، أجزأه عن كل جنس حد واحد.
مبحث شروط الإمامة
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على: أن الإمامة فرض، وأنه لا بد للمسليمن من إمام يقيم شعائر الدين وينصف المظلومين من الظالمين وعلى أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان، ولا مفترقان، وعلى أن الأئمة من قريش، وأنه يجوز للإمام أن يستخلف.
واتفقوا: على أن الإمام يشترط فيه: أولاً أن يكون مسلماً، ليراعي مصلحة الإسلام والمسلمين، فلا تصح تولية كافر على المسلمين.
ثانياً - أن يكون مكلفاً ليلي أمر الناس، فلا تصح إمامة صبي، ولا مجنون بالإجماع، وقد ورد في الحديث الشريف (نعوذ بالله من إمارة الصبيان) رواه الإمام أحمد رحمه الله.
ثالثاً - أن يكون حراً، ليفرغ للخدمة، ويهاب بخلاف العبد حيث أنه مشغول بخدمة سيده، ولا هيبة له وأما ما رواه الإمام مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم من قوله: (اسمعوا، وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي) فمحمول على غير الإمامة العظمى.
رابعاً - أن يكون الإمام: ذاكراً ليتفرغ ويتمكن من مخالكة الرجال، فلا يصح ولاية امرأة، لما ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولا تصح ولاية خنثى.
خامساً - أن يكون: قرشياً، لما رواه النسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وبه أخذ الصحابة رضوان الله عليهم، ومن جاء بعدهم، إذا وجد قرشي جامع لشروط، فإن عدم فمنتسب إلى كنانة، فإن عدم، فرجل من ولد سيدنا إسماعيل صلى الله عليه وسلم، فإن لم يوجد، فرجل من جرهم، فإن عدم فرجل من ولد إسحاق، ولا يشترط فيه كونه هاشمياً باتفاق فإن الصديق، وعمر، وعثمان رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا من بني هاشم.(5/366)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
سادساً - أن يكون، عدلاً قال الشيخ عز الدين: إذا تعذرت العدالة في الأئمة والحكام قدمنا أقلهم فسقاً.
سابعاً - أن يكون: عالماً، مجتهداً، ليعرف الأحكام، ويتفقه في الدين، فيعلم الناس، ولا يحتاج إلى استفتاء غيره.
ثامناً - أن يكون: شجاعاً، وهي قوة القلب عند البأس، لينفرد بنفسه، ويدبر الجيوش، ويقهر الأعداء، ويفتح الحصون، ويفق أما أحداث الأيام، وما يحجث له من فتن، وما يجد في عهده من أزمات.
تاسعاً - أن يكون: ذا رأي صائب، حتى يتمكن من سياسة الرعية، وتدبير المصالح الدنيوية.
عاشراً - أن يكون: سليم السمع، والبصر، والنكق، ليتأتى منه فصل الأمور، ومباشرة أحوال الرعية.
واتفق الأئمة - على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس، الذين يتيسر اجتماعهم من غير شرط عدد محدد، ويشترط في المبايعين للإمام صفة الشهود من عدالة وغيرها، وكذلك تنعقد الإمامة، باستخلاف الإمام شخصاً عينه في حياته ليكون خليفته على المسلمين بعده، كما عهد سيدنا أبو بكر إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده من الدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحالة التي يؤمن فيها لكافر، ويتقي فيها الفاجر، غني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذاك علمي به وعلمي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وانعقد إجماع الأمة على جوازه.
حكم الخارجين على الإمام
واتفق الأئمة على: أن الإمام الكامل تجب طاعته في كل ما يأمر به، ما لم يكن معصية. وعلى أن أحكام الإمام، وأحكام نائبه، ومن ولاه، نافذة، وعلى أنه إذا خرج على إمام المسلمين أو عن طاعته طائفة ذات شوكة، وإن كان لهم تأويل مشتبه ومطاع فيهم، فإنه يباح للإمام قتالهم حتى يفيثوا إلى أمر الله تعالى، فإن فاؤوا كف عنهم.
والأصل في جواز قتالهم قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما} الآية 9 من سورة الحجرات، وإن لم يذكرفيها الخوج على الإمام، لكنها تشمله لعمومها، أو تقتضيه، لأنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة، فللبغي على الإمام أولى، والإجماع منعقد على جواز قتال البغاة من غير مخالف، وللأحاديث الواردة في ذلك.
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخذت السيرة في قتال المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي(5/367)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قتال المرتدين، من أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وفي قتال البغاة من الإمام على رضي الله تعالى عنه.
وتحصل مخالفة غلامام بأحد أمرين، إما بخروج عليه نفسه، وإما بسبب ترك الانقياد له، أو لا، بهذين المرين، بل بخروج عن طاعته بسبب منع حق مالي لله تعالى، أو حق لآمي كقصاص، أو حد توجه عليهم، لأن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قاتل مانعي الزكاة، بسبب منعهم إخراج الزكاة، ولم يخرجوا عليه، وإنما منعوا الحق المتوجه عليهم.
قالوا: وإنما يكون مخالفو الإمام بغاة بشرط حصول شوكة لهم، بكثرة أو قوة، بحيث يمكن مقاومة الإمام، ويشترط تأويل يعقتدون به جواز الخروج عليه، أو منع الحق المتوجه عليهم.
ويشترط، أن يكون لهم مطاع فيهم، يحصل به قوة لشوكتهم، وإن لم يكن إماماً منصوباً، لأن الامام علي رضي الله تعالى عنه، قالتل أهل الجمل، ولا إمام لهم، وقالتل أهل صفين قبل نصب إمامهم.
الحنفية قالوا: إن الخارجين عن طاعة الإمام الحق أربعة اصناف.
أحدها الخارجون بلا تأويل، بمنعة وبلا منعة، يأخذون أموال الناس، ويقتلونهم ويخيفون الطريق وهم قطاع الطريق.
الثاني قوم كذلك، إلا أنهم لا منعة لهم، لكن لهم تأويل فحكمهم حكم قطاع الطريق، إن قتلوا قتلوا ... الخ.
الثالث قوم لهم منعة وحمية خرجوا عليه بتأويل يرون أنه على باطل كفر، أو معصية توجب قتالهم بتأويلهم، وهؤلاء يسمون بالخوارج، يستحلون دماء المسلمين، وأموالهم، ويسبون نساءهم، ويكفرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمهم عند جمهور الفقهاء، وجمهور أهل الحديث حكم البغاة.
المالكية قالوا: يستتابون فإن تابوا، وإلا قتلوا دفعاً لفسادهم، لا لكفرهم، لأنهم فسقة، وليسوا كفاراًفي الراجح من قول العلماء المجتهدين، وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون، لهم حكم المرتدين.
الرابع قوم مسلمون خرجوا على الإمام العدل، ولم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم وهم البغاة. لأنهم غنما خالفوا بتأويل جائز باعتقادهم لكنهم مخطئون فيه، فهم فسقة والأحاديث الواردة فيما يقتضي ذمهم كحديث (من حمل علينا السلاح فليس منا) وحديث (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية) فهو من خرج بلا تأويل.
قالوا: لو أظهر قوم رأي الخوراج المبتدعة الذين يكفرون من ارتكب كبيرة، ويطعنون بذلك على الأئمة، ولا يحضرون معهم الجمعة، والجماعة. فهؤلاء يتركون، ولا نكفرهم ولا نتعرض لهم، إذا لم(5/368)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يخرجوا عن طاعة الإمام، ولم يقاتلوا أحداً، لأن اعتقاد الخوراج أن من أتى كبيرة كفر وحبط عمله، وخلد في النار، وإن جار الإمام صارت بظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة، فطعنوا في الأئمة، لأن الإمام على كرم الله وجهه سمع رجلاً من الخوارج في المسجد يقول: لا حكم إلا لله وسلوه، وعرض بتخطئته في الحكم. فقال: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساحجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال. فجعل حكمهم حكم أهل العدل، فإن قاتلونا فحكمهم إن لم نكفرهم كحكم قطاع طريق، فإن قتلوا أحداً ممن يكافئهم أقتص منهم كغيرهم.
المالكية قالوا: يمتاز قتال البغاة عن قتال الكفار بأحد عشر وجهاً.
-1 - أن يقصد الإمام بالقتال ردعهم، لا قتلهم.
-2 - وأن يكف عن مدبرهم.
-3 - ولا يجهز على جريحهم.
-4 - ولا تقتل أسراهم.
-5 - ولا تغنم أموالهم.
-6 - ولا تسبى ذراريهم.
-7 - ولا يتعان عليهم بمشرك.
-8 - ولا يوادعهم على مال.
-9 - ولا تنصب عليهم الردعات
-10 - ولا تحرق مساكنهم
-11 - ولا يقطع شجرهم
قالوا: لو خرج جماعة على الإمام ومنعوا حقاً لله أو لآدمي، أو ابوا طاعته يرديون عزله لو كان جائراً، إذ لا يجوز عزل الإمام بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه على من له قدرة من المسلمين.
فيجب على الإمام أن ينذر هؤلاء البغاة، ويدعوهم لطاعته، فإن هم عادوا إلى الجماعة تركهم وإن لم يجوز عزل الإمام بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه على لم يطيعوا أمره قالتهم بالسيف، والرمح، والنبل، والتفريق، وقطع الميرة والماء عنهم، ورميهم بالأحجار والنار إذا لم يكن فيهم نسوة وذرية، وحرم سبي ذراريهم لانهم مسلمون، وحرم إتلاف أموالهم وأخذه بدون احتياج له، وحرم رفع رؤوسهم بعد قتلهم لأنه مثلة بالمسلمين، ويستعان على قتالهم بما لهم من سلاح وخيل، إن احتيج للاستعانة به عليهم، وبعد الاستغناء عنه يرد إليهم كغيره من الأموال، فإن حصل الأمان للإمام بالظهور عليهم تركوا، ولا يسترقوا، ولا يجهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم، فإن لم يؤمنوا أجهز على جريحهم واتبع منهزمهم جوازاً، وكره قتل جده أو ابنه، إن قتله ورثه، وإن كان عمداً، لكنه غير عدوان. والمرأة أن قالتلت بسلاح قتلت، وإلا فلا.
الحنفية قالوا: إذا تغلب قوم من المسلمين على بلد، وخرجوا عن طاعة الإمام يستحب للإمام أن يدعوهم إلى العود إلى الجماعة، ويكشف عن شبهتهم التي أوجبت خورجهم، لأن الإمام علياً رضي الله عنه فعل ذلك بأهل حرورا، وليس ذلك بواجب بل مستحب، لأنهم كمن بلغتهم الدعوة الإسلامية لا تجب دعوتهم ثانياً.(5/369)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقالوا: ولا يبدأ بقتال البغاة حتى يبدؤوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم. وقيل: يجوز لنا أن نبدأ بقتالهم إذا تعسكروا، واجتمعوا، لأن الحكم يدار على الدليل وهو الاجتماع على قصد القتال، والامتناع عن طاعته. لأنه لو انتظر حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع لتقوى شوكتهم وتكثر جمعهم خصوصاً والفتنة يسرع أليها أهل الفساد، وهم الأكثر، فيدار على الدليل ضرورة لدفع شرهم، ويحدثوا توبة، دفعاً للشر، بقدر الإمكان، والمروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه، من لزوم البيت من قوله: الفتنة إذا وقعت بين المسلمين فالواجب على كل مسلم أن يعتزل الفتنة، ويقعد في بيته لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من فر من الفتنة أعتق الله رقبته من النار) وقال صلى الله عليه وسلم لواحد من الصحابة: (كن حلساً من أحلاس بيتك) رواه عنه الحسن بن زياد، فهو محمول على ما إذا لم يكن لهم إمام، وما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قعدوا في الفتنة، محمول على أنه لم يكن لهم قدرة، ولاغناء، أما إعانة الإمام العادل الحق، فمن الواجب عند الغناء والقدرةز لقوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} الآية.
قالوا: فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم، واتبع موليهم، دفعاً لشرهم، كي لا يلحقوا بهم. وإن لم يكن لهم فئة لهم يجهز على جريحهمن ولم يتبع موليهم، لاندفاع الشر بدون ذلك وهو المطلوب.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: لا يجوز للإمام أن يبدأ بقتال أهل البغي حتى يبدؤوا هم بالقتال إذا تركوه بالتولية، والجراحة المعجزة عنه، لم يبق قتلهم دفعاً، ولما روى أبن أبي شيبة عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل: (لاتتبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ومن القى سلاحه فهو آمن) واسند أيضاً (ولا يقتل أسير) ولا يقاتل الإمام البغاة حتى يبعث إليهم أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما ينقمون، فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها، فإن اصروا نصحهم وخوفهم سوء عاقبة البغي ثم يعلمهم بالقتال.
حكم المال والأسرى
الحنفية، والمالكية قالوا: لا يجوز أن يسبى للبغاة ذرية، لآنهم مسلمون، ولا يقسم لهم مال لعدم الاستغنام فيها، لقول الإمام علي رضي الله عنه يوم الجمل: (ولا يقتل أسير، ولا يكشف ستر، ولا يؤخذ مال) وهو القدوة لنا في هذا الباب، ولأنهم مسلمون، والإسلام يعصم النفس، والمال، ولا بأس بأنيقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه، لأن الإمام علياً رضي الله عنه قسم السلاح فيما(5/370)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بين أصحابه، بالبصرة، وكانت قسمته للحاجة، لا للتملك، ولآن للإمام أن يفعل ذلك في مال الرجل العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى، ن والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى، لدفع الضرر الأعلى. ولما رواه الحاكم في المستدرك، والبزاز في مسنده من حديث كوثر بن حكيم، عن نافع، عن أبن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدري يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغي من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها) .
قال الإمام محمد: وبلغنا أن الإمام علياً رضي الله عنه، ألقى ما أصاب من عسكر أهل النهروان، في الرحبة، فمن عرف شيئاً أخذه، حتى كان آخره قدر حديد لإنسان، فأخذه.
وروى أبن أبي شيبة أن علياً كرم الله وجهه لما هزم طلحة واصحابه، أمر مناديه، فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر يعني بعد الهزيمة ولا يفتح باب، ولا يستحل فرج، ولامال.
وأما الأسير فللإمام الخيار فيه، فيحكم نظره فيما هو أحسن المرين في كسر الشوكة من قتله وحبسه، ويختلف ذلك بحسب الحال، لا بهوى النفس والتشفي.
وإذا أخذت المرأة من أهل البغي، وكانت تقاتل حبست، ولا تقتل إلا في حال مقاتلتها، دفعاً عن النفس، وإنما تحبس للمعصية ولمنعها من الشر والفتنة، لما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل: وإياكم والنساء، وإن شتمن أعراضكم، وسببن امراءكم، ولقد رأيتنا في الجاهلية، وإن الرجل ليتناول المرأة بالجريدة، أو بالهراوة فيعبر بها هو وعقبه من بعده) .
الشافعية - قالوا: إذا طلب أهل البغي من الإمام الامهال اجتهد فيه، وفي عدمه، وفعل ما رآه صواباً، فإن ظهر أن استمالهم للتأمل في إزالة الشبهة أمهلهم ليتضه لهم الحق، وإن ظهر أنهم يحتالون لاجتماع عساكرهم لم يمهلهم، فإذا وقع القتال بينهم، فلا يجوز قتل مدبرهم، ولا من ألقى سلاحه، ولا جريحهم، ولا أسيرهم، إذا كان الإمام يرى رأياً فيهم لقوله تعالى {حتى تفيء} والفيء الرجوع عن القتال بالهزيمة، ولأن قتالهم شرع للدفع عن منع الطاعة، وقد زال، ويحبس أسيرهم ,إن كان صبياً، أو امرأة، أو عبداً، حتى تنقضي الحرب ويفرق جمعهم.
وقالوا: إذا انقضت الحرب يجب على الإمام أن يرد إلى البغاة سلاحهم، وخيلهم، وغيرها، ويحرم استعمال شيء من سلاحهم، وخيلهم، وغيرها من أموالهم إلا لضرورة، كما إذا خيف انهزام أهل العدل ولم يجدوا غير خيولهم، فيجوز لهم ركوبها، واستعمال أسلحتهم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال أمرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) ولا يقاتلون بشيء فظيع كالنار، والنجنيق إلا للضرورة، ولا يستعان عليهم بكافر، ولا بمن يرى قتلهم مدبرين.
الحنفية قالوا: ويحبس الإمام أموال البغاة فلا يردها عليهم، ولا يقسمها حتى يتوبوا، فيردها عليهم، أما عدم القسمة، فلأنها ليست غنائم، وأما الحبس فالدفع شرهم، بكسر شوكتهم، ولهذا(5/371)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يحبسها عنهم، وإن كان لا يحتاج إليها، إلا أنه يبيع الكراع لأن حبس الثمن أنظر وأيسر، وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر، لم يأخذه الإمام ثانياً، لأنه لم يحمهم.
مبحث حكم المرتد - تعريف المرتد.
الردة - والعياذ بالله تعالى - كفر مسلم تقرر إسلامه بالشهادتين مختارا بعد الوقوف على الدعائم، والتزامه أحكام الإسلام ويكون ذلك بصريح القول كقوله: أشرك بالله، أو قول يقتضي الكفر، كقوله: إن الله جسم كالأجسام أو بفعل يستلزم الكفر لزماً بيناً كإلقاء مصحق، أو بعضه ولو كلمة، أو حرقه استخفافاً لا صوناً، أو علاجاً لمريض، ومثل إلقائه، وتركه في مكان قذر، ولو طاهراً كبساق أو تلطيخه به، نحو تقليب ورق بالبصاق، ومثل المصحق الحديث، وأسماء الله الحسنى، وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إذا كان علي وجه الاستخفاف بالشريعة الإسلامية، وأحكامها، أو تحقيرها، وكذا أسماء النبياء. وشد الزنار ميلا للكفر، أما لو لبسه لعباً فهو حرام. مع دخول الكنائس. أو سجوده لصنم.
وكذلك يكفر بتعلم السحر، والعمل به، لأنه كلام يعظم غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير، وكذلك يكفر بقوله: إن القالم قديم، وهو ما سوى الله تعالى، لأنه يستلزم عدم وجود الصانع أو يقول: إن العالم باق على الدوام فلا يفنى، لأنه يستلزم إنكار القيامة، ولو أعتقد حدوثه، وهو تكذيب للقرآن الكريم، وكذلك الشك في قدم العالم، أو بقائه، أو أنكر وجود الله تعالى، ويكفر كذلك من قال: بتناسخ الرواح، أي أن من مات تنتقل روحه إلى غيره، لأن فيه إنكار البعث، ويكفر إذا أنكر حكما أجمعت ألامة عليه كوجوب الصلاة، أو تحريم الزنا، أو إنكار الصوم، ويكفر إذا أنكر بقوله بجواز اكتساب النبوة، وتحصيلها بسبب الرياضة، لأنه يستلزم جواز وقوعها بعد النبي، أو سب نبي أجمعت الأمة على نبوته أو سب ملكاً من الملائكة يجمع على ملكيته، ويكفر أن عرض في كلامه بسب نبي، أو ملك، بأن قال عند ذكره، أما أنا فلست بزان أو بساحر، أو ألحق بنبي، أو ملك نقصاص، ولو ببدنه، كعرج وشلل، أو طعن في وفور علمه، إذ كل نبي أعلم أهل زمانه، وسيدهم صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق أجمعين، أو طعن في أخلاق نبي، او في دينه، ويكفر إذا ذكر الملائكة بالأوصاف القبيحة، أو طعن في وفور زهد نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال الأئمة: لا بد في إثبات الردة من شهادة رجلين عدلين، ولا بد من اتحاد المشهود به، فإذا شهدا بأنه كفر قال القاضي لهما باي شيء؟ فيقول الشاهد: يقول كذا، اويفعل كذا.
واتفق الأئمة الأربعة عليهم رحمه الله تعالى: على أن من ثبت ارتداده عن الإسلام والعياذ بالله وجب قتله، وأهدر دمه، وعلى أن قتل الزنديق واجب، وهو الذي يضمر الكفر ويتظاهر بالإسلام.(5/372)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
استتابة المرتد
الحنفية قالوا: إذا ارتد المسلم عن الإسلام - والعياذ بالله تعالى - عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة أبدها كشفت عنه، لأنه عساه اعترضته شبهة في الدين فتزاح عنه لأن فيه وقع شره بأحسن الأمرين، وهما القتل، والإسلام، إلا أن عرض الإسلام عليه مستحب، غير واجب، لأن الدعوة قد بلغته، وعرض الإسلام هو الدعوة إليه، ودعوة من بلغته الدعوة غير واجبة، بل هي مستحبة فإذا طلب الامهال، يستحب أن يؤجله القاضي ثلاثة ايام، ويحبس ثلاثة أيام فإن اسلم بعدها، وإلا قتل، لقول تعالى: {قاقتلوا المشركين} من غير قيد الامهال، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يذكر التأجيل ولأن المرتد كافر حربي لا محالة، فليس بمستأمن لأنه لم يطلب الأمان، ولا ذمي لأنه ولم يذكر التأجيل ولأن المرتد كافر حربي لا محالة، فليس بمستأمن لأنه لم يطلب الأمان، ولا ذمي لأنه لم تقبل منه الجزية، فيجب قتله في الحال من غير استمهال، ولا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم، لأن دلائل الإسلام ظاهرة غير خفية، فإذا استمهل، فإن الإسلام حينئذ لا يكون موهوماً فيستحب تأخيره.
قالوا: لا قرق في وجوب قتل المرتدين كونه حراً، أو عبداً، لإطلاق الدلائل.
الشافعية - قالوا: إذا ارتد المسلم، والعياذ بالله تعالى فإنه يجب على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام، ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك، لأن ارتداد المسلم عن دينه يكون عن شبهة غالباً، فلا بد من مدة يمكنه التأمل فيها ليتبين له الحق، وقدرناها بثلاثة أيام، طلب ذلك، أو لم يطلب، وقصة سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم مع العبد الصالح: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} فلما كانت الثالثة قال له: {قد بلغت من لدني عذراً} .
وروي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رجلاً أتاه من قبل أبي موسى الشعري، فقال له: (هل من معربة خير؟ فقال: نعم، رجل ارتد عن الإسلام فقتلناه، فقال له: هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام، وأطعمتموه في كل يوم رغيفاً، لعله يتوب؟ ثم قال: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض) أخرجه الإمام مالك رحمه اللهن في كتابه الموطأ فتبري سيدنا عمر من فعلهم يقتضي وجوب الإمهال ثلاثة أيام قبل موت المرتد، فإن تاب ونطق بالشهادتين أو كلمة التوحيد، خلي سبيله، وإن لم يتب وجب قتله بالسيف فوراً. ولا يؤخر كسائر الحدود، السابقة، لأن الردة أفحش الكفر وأغلظه حكماً، وهي محبطة للعمل إن اتصلت بالموت، قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} الآية وإن عاد إلى الإسلام لم يجب عليه أن يعيد حجه، لأن الردة أبطلت أعماله.
المالكية قالوا: يجب على الإمام أن يمهل المرتد ثلاثة أيام بلياليها، وابتداء الثلاثة، من يوم ثبوت الردة عليه، لا من يوم الكفر، ولا من يوم الرفع إلى الحاكم، ولا يلفق الثلاثة أيام، فيلغي يوم الثبوت إن سبق بالفجر، ويطعم في أيام الحبس، ويسقى، من ماله، ولا ينفق على ولده وزوجته منه،(5/373)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فإن لم يكن له ماله، فينفق عليه من بيت المال، سواء وعج بالتوبة، أو لم يعد، ولا يعاقب في السجن بضرب، ولو أصر على عدم الرجوع، وإنما يستتاب المرتد وجوباً ذلك القدر، صوناً للدماء، ودرأ للحدود بالشبهات، ويعرض عليه الإسلام عدة مرات، وتزال الشبهة التي تعرش له، ويهمل للتفكير، عسى أن يرجع ويتوب في هذه المدة، فلو حكم القاضي بقتله قبل المدة، مضى حكمه، لأنه حكم بمختلف فيه، فإن تاب بعد الأيام الثلاثة تركن وإن أصر على الكفر قتل بغروب الثالث، ولا يغسل ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا في مقابر الكفارن لأنه ليس منهم حيث إسلامه، وإنما يلقى حتى يكون عبرة لغيره.
الحنابلة قالوا: في إحدى روايتيهم أنه يجب الاستتابة ثلاثة أيام مثل المالكيةن والشافعية. وفي رواية أخرى عنهم: إنه لا تجب الاستتابة، بل يعرض عليه الإسلام فإن قبل ترك وإلا يتحتم قتله حالاً.
حكم المرأة المرتدة.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن المرأة المرتدة حكمها حكم المرتد من الرجال فيجب أن تستتاب قبل قتلها ثلاثة أيام، ويعرض عليها الإسلام: لأن دمها كان محترماً بالإسلام، وربما عرضت لها شبهة من فاسق، فيسعى في إزالتها. وقد ثبت وجوب الاستتابة عن سيدنا عمر رضي الله عنه.
وروى الدارقطني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن امرأة يقال لها أم (رومان) ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم (أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت) لأنها بالردة اصبحت مثل الحربية، فيجوز قتلها حداً، بل إن ذنبها أشنع من الحربيات، حيث أنها سبق لها الإسلام. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وهي كلمة تعم الرجال والنساء، ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل بالإجماع من أن الردة جناية متغلظة، فتناط بها عقوبة متغلظة، وردة المرأة تشاركها فيها، فتشاركها في موجبها، وهو القتل.
المالكية قالوا: إن المرأة المرتدة إذا كانت مرضعاً يؤخر قتلها لتمام رضاع طفلها، إن لم يوجد مرضع أو وجد، ولم يقبلها الولد، وتؤخر ذات الزوج، وكذلك المطلقة طلقة رجعية، أما البائن فإن ارتدت بعد حيض بعد طلاق فلا تؤخر، وإلا أخرت لحيضة، إن كانت من ذوات الحيض، ولو كانت عادتها في كل خمس سنين مرة، وإن كانت ممن لا تحيض لضعف وإياس مشكوك فيه استرئت ثلاثة أهر إن كانت ممن يتوقع حملها، وإن كانت ممن لا يتوقع حملها قتلت بعد الاستتابة، وإن لم يكن لها زوج لم تستبرأ.
الحنفية قالوا: إن المرأة المرتدة لا يجب قتلها، فإن قتلها رجل لم يضمن شيئاً حرة كانت أو عبدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء، ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء، وإنما عدل عنه دفعاً لسر ناجز، وهو الحراب، ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية بخلاف الرجال، فصارت المرتدة كالأصلية، وكل جزاء شرع في الدار ما هو إلا لمصالح تعود(5/374)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إلينا في هذه الدنيا، كالقصاص، وحد القذف، والشرب، والزنا، والسرقة، فشرعت لحفظ النفوس، والأعراض، والعقول، والأنساب، والأموال، فكذا يجب في القتل بالردة أن يكون لدفع شر حداً به، لا جزاء على فعل الكفر، لأن جزاءه أعظم من ذلك عند الله تعالى، فيختص لمن يأتي منه الحراب، وهو الرجل، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، وعلله بأنها لم تكن تقاتل، على ما صح من الحديث فيما تقدم.
وما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مرتدة، فقد قيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يقتلها بمجرد الردة، بل لأنها كانت ساحرة، شاعرة، تهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لها ثلاثون ابناً، وهي تحرضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلها لهذه الأسباب. ولكن يجب حبسها أبداً حتى تسلم، أو تمت، وتضرب كل يوم تسعة وثلاثين سوطاً. وهذا قتل معنى، لأن موالاة الضرب تفضي إليه، وإنما يجب حبسها لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار فتجبر على إيفاء بالحبس، كما في حقوق العباد.
وفي الجامع الصير: تجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة، والأمة يجبرها مولاها، لما فيه من الجمع بين الحقين يعني حق الله تعالى، وحق السيد، ولا تسترق الحرة المرتدة ما دامت في دار الإسلام، وإنما تضرب كل يوم، مبالغة في الحمل على اعتناق الإسلام، وكسبها لورثتها لأنه لا حراب منها، ويرثها زوجها المسلم.
وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة، عن عاصيم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن أبن عباس رضي الله عنهم، قال: (لا تقتل النساء إذا هن ارتدن عن الإسلام، ولكن يحبسن. ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه) .
عن أبن عمر أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان (وفي بلاغات محمد قال: بلغنا عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا ارتدت المرأة عن الإسلام حبست) ومثل هذا لا يقال عن اجتهاد.
وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن تاب فاقبل منه، وإن لم يتب فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن تابت فاقبل منها، وإن أبت فاستتبها) الخ الحديث.
وأخرج الدارقطني رحمه الله في صحيحه عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: المرتدة تستتاب ولا تقتل، وهذه أدلة على مذهب الحنفية الذين قالوا: إنه لا يجب قتلها بل تحبس وتضرب.
مبحث أملاك المرتد.
الحنفية قالوا: يزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالاً موقوفاً، إلى أن يتبين حاله، فإن أسلم عادت أمواله على حالها الأول، لأنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل، ولا قتل إلا بالحراب، وهذا(5/375)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يوجب زوال ملكه ومالكيته غير أنه مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه، ويرجى عوده إليه، فتوقفنا في أمره، فإن أسلم جعل العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم، وصار كأن لم يزل مسلماص، ولم يعمل السبب، وإن مات أو قتل على ردته، أو لحق بدار الحرب، وحكم بلحاقه، استقر كفره، فيعمل السبب عمله ويزول ملكه، والإجماع على أنه إن عاد وماله قائم كان هو أحق به، ووجب أن يعمل بهما فيقول: بالردة يزول، ثم بالعود يعود شرعاً.
وقال الصاحبان: لا يزوال ملك المرتد عن أمواله، لأنه مكلف محتاج، فإلى أن يقتل يبقى ملكه، كالمحكوم عليه بارجم، والقصاص، لأن كلاً منهم مكلف مباح الدم.
قال الإمام أبو حنيفة: وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في إسلامه إلى ورثته المسلمين، وكان ما أكتسبه في حال ردته فيئاً لجماعة المسلمين، يوضع في بيت المال.
وقال الصاحبان: كلا الكسبين، يقسم على ورثة المسلمين، لأن ملكه في الكسبين، بعد الردة باق لأنه ملكف محتاج فينتقل بالموت إلى ورثته، ويستند إلى ما قبل ردته، إذ الردة سبب الموت، فيكون توريث المسلم من المسلم، ويجعل كأنه اكتسبه في حال الإسلام.
والمرتد إذا مات أو قتل على ردته ترثه امرأته المسلمة وهي في العدة، لأنه يصير فاراً، وإن كان صحيحاً وقت الردة، لأنها سبب الموت.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إن ما اكتسبه المرتد في إسلامه، وما اكتسبه في حال ردته يكون فيئاً، لأنه مات كافراً، والمسلم لا يرث الكافر إجماعاً، ثم هو مال حربي لا أمان له، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فيكون فيئاً.
الشافعية - قالوا: في زوال ملك المرتد عن ماله الحاصل قبل الردة، أو فيها بالردة أقوال: أظهرها الوقوف كبضعزوجته سواء ألحق بدرا الحرب أم لا، فإن هلك مرتداً بأن زاوله بالردة فما ملكه فيء، وما تملكه من احتطاب، ونحوه باق على الإباحة، وإن أسلم بأن أنه لم يزل، لأن بطلان أعماله تتوفق على هلاكه على الردة، فكذا زوال ملك.
وقيل: يزول ملكه عن ماله بنفس الردة لزوال العصمة بردته فماله اولى.
وقيل: لا يزول ملكه بالردة، لأن الكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي.
ويتفرع على هذه الأقوال أنه يقضي من مال المرتد دين لزمه قبلها بإتلاف أو غيره، لأنا إن قلنا ببقاء ملكه أو إنه موقوف فواضح، وإن قلنا بزواله فهي لا تزيد على الموت، والدين يقدم على حق الورثة، فكذا على حق الفيء اهـ.
حكم الزنديق.
المالكية، والحنابلة قالوا: ويجب قتل الزنديق بعد الاطلاع عليه بلا طلب توبة منه، وهو الذي يسر الكفر، ويظهر الإسلام، وهو الذي كان يسمى منافقاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله(5/376)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
عليهم أجمعين، ولا بد من قتله وإن تاب، لكن إن تاب قتل حداً، لا كفراً، فيحكم له بالإسلام ويغسل، ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويترك أمره إلى الله عز وجل، أما إذا جاء قبل الاطلاع على أمره فلا يقتل، وله أحوال خمسة، ثلاثة يكون ماله لورثته، وهي ما إذا جاء تائباً، أو تاب بعد الاطلاع عليه، أو لم تثبت زندقته إلا بعد موته، وحالان يكون ماله فيها لبيت المال، وهي ما إذا اطلعنا عليه قبل الموت، وقتلناه بغير توبة، أو مات بغير توبة ومثله الذي سب نبياً أجمعت الأمة على نبوته، فإنه بدون اسابة، ولا تقبل توبته، ثم إن تاب قتل حداً، ولا يعذر الساب بجهل لأنه لا يعذر أحد في الكفر بالجهل، ولا يعذر بسكر حرام، أو تهور، أو غيظ بل يقتل، والساب الكافر اصلاً إذا اعتنق الإسلام، ولو كان إسلامه خوفاً من القتل، فإنه لا يجب قتله، لأن الإسلام يجب ما قبله.
أما المسلم إذا ارتد بغير السب، ثم سب زمن الردة، ثم أسلم ثانية، فلا يسقط عنه قتل السب، لأنه حد من حدود الله تعالى وجب عليه.
وقيل: تقبل توبته إذا رجع إلى الإسلام كما هو مذهب الشافعي، حتى في سب الملائكة والأنبياء، والفرق بين سب الله تعالى فتقبل التوبة فيه، وبين سب الأنبياء، والملائكة فلا يقبل، أن الله تعالى لما كان منزهاً عن لحوق النقص له عقلاً قبل من العبد التوبة، بخلاف خواص عباده المؤنين به لأن استحاله النقص عليهم من اخبار الله تعالى، لا من ذواتهم فشدد فيهم، فردت توبته، ويقتل.
وأسقط الإسلام الثاني ما عليه من صلاة، وصوم، وزكاة، إن كانت عليه، فلا يطلب منه فعلها بعد رجوعه إلى الإسلام إلا أن يسلم قبل خروج وقت الصلاة، وذلك لقوله تعالى: {قل للذين كفروا أن يتنهوا يغفر لهم ما قد سلف} ويحبط ثواب عمله السابق بردته، لقوله تعالى: {لئن اشركت ليحبطن عملك} ويجب عليه الوضوء، لا الغسل إلا بموجب له، ويجب عليه إعادة الحج لبقاء وقته وهو العمر، ويسقط عنه النذر، وكفارة الايمان، وكذلك العتق والظهار، والطلاق، كأن قال لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم دخل الدار بعد ردته أو توبته، ويبطل إحصانه، أما الطلاق الذي صدر منه قبل الردة، فإذا طلق ثلاثاً ثم ارتد، ثم رجع للإسلام، فلا تحل له إلا بعد زوج، ما لم يرتدا معاً ثم يرجع للإسلام.
الحنفية، والشافعية قالوا: إن الزنديق إذا تاب. وأظهر الإسلام تقبل توبته، ويستتاب ولا يقتل، ويلحق بالكافر الأصلي إذا اعتنق الإسلام، فإنه يقبل منه، ويترك.
وفي قول للشافعية: أنه لا يصح إسلامه إن ارتد إلى كفرخفي، أو إلى كفر باطنية، وهم القائلون بأن للقرآن باطناً، وأنه الراد منه دون الظاهر، أو ارتد إلى دين يزعم أن محمداً مبعوث إلى العرب خاصة، أو ارتد إلى دين يقول: إن رسالة محمد حق لكنه لم يظهر بعد، أو إذا جحد فرضاً، أو تحريماً، فإنه لا يصح إسلامه، ويجب قتله حداً، وكذلك الفلاسفة الذين يزعمون أن الله خلق شيئاً ثم خلق منه شيئاً آخر يدير العالم، وسموا الأول العقل، والثاني النفس، فإنه كفر ظاهر، وكذلك الطبائعي القائل بنسبة الحياة والموت إلى الطبيعة، ومن قذف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سبه، أو سب واحداً من الرسل(5/377)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الكرام الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، أو كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته فإنه يقتل حداً، ولا يسقط عنه الحد بالتوبة.
وقيل: لا يقتل بعد التوبة: بل يجلد ثمانين جلدة، ن لأن الردة ارتفعت بإسلامه، وبقي الجلد عليه.
الحنفية قالوا: كل من أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه كان مرتداً، فالسب بطريق أولى فيقتل حداً ولا تقبل توبته في إسقاط القتل عنه.
الحنفية، والمالكية قالوا: لا يجوز أن يسبى للبغاة ذرية، لآنهم مسلمون، ولا يقسم لهم مال لعدم الاستغنام فيها، لقول الإمام علي رضي الله عنه يوم الجمل: (ولا يقتل أسير، ولا يكشف ستر، ولا يؤخذ مال) وهو القدوة لنا في هذا الباب، ولأنهم مسلمون، والإسلام يعصم النفس، والمال، ولا بأس بأنيقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه، لأن الإمام علياً رضي الله عنه قسم السلاح فيما بين أصحابه، بالبصرة، وكانت قسمته للحاجة، لا للتملك، ولآن للإمام أن يفعل ذلك في مال الرجل العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى، ن والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى، لدفع الضرر الأعلى. ولما رواه الحاكم في المستدرك، والبزاز في مسنده من حديث كوثر بن حكيم، عن نافع، عن أبن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدري يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغي من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها) .
مبحث لحوق المرتد بدار الحرب.
الحنفية قالوا: إذا لحق المرتدر بدار الحرب، وحكم القاضي بلحاقه عتق مدبروه، وأمهات أولاده، وحلت الديون التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين، لأنه باللحاق صار من أهل الحرب، وهم أموات في حق أحكام الإسلام، لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى، فصار كالموت إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي بذلك لاحتمال العود إلينا، فلا بد من القضاء، وإذا تقرر موته الحكمي ثبتت الحكام المتعلقة به، وهي ما ذكرناها من عتق مدبريه وغير ذلك كما يحصل في حالة الموت الحقيقي، ثم يعتبر كونه وارثاً عند لحاقه في قول الإمام محمد، لأن اللحاق هو السبب، والقضاء لتقرره يقطع الاحتمال.
وقال أبو يوسف: يعتبر كونه وارثاً وقت القضاء، لأنه يصير موتاً بحكم القضاء، والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف المذكور في المذهب.
قالوا: وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه من المال في حال الاسلام، وما لزمه في حقال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته.
قالوا: وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام، وإن لم يف بذلك يقضى من كسب الردة، لأن المستحق بالسببن مختلف، وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين، فيقضى كل دين من المكسب المكتسب في تلك الحلة، ليكون الغرم بالغنم وقيل. بل يبدأ بالقضاء من كسب الردة، لأن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه، ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث، فيقدم الدين عليه، أما كسب الردة، فليس ببملوك له لبطلان أهلية الملك بالردة. فلا يقضى منه، إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فينئذ يفضى منه كالذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لبيت المال ولو كان عليه دين يقضى منه كذلك ههنا، وجه الثالث أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه أولى، إلا إذا تعذر بأن لم يف به فيحنئذ يقضى من كسب الإسلام تقديماً لحقه.(5/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أبو يوسف، ومحمد قالا: تقضى ديوان المرتد إذا لحق بدار من الكسبين، لانهما جيمعاً ملكه حتى يجري الأرث فيهما، والله أعلم.
الشافعية - قالوا: إن مال المرتد إذا الحق بدار الحرب موقوف. فتقضى منه الديون التي لزمته قبل الردة بإتلاف أو غيره، لأنا إن قلنا: ببقاء مكه، أو أنه موقوف فواضح، وإن قلنا: بزواله ملكه، فالرجة لا تزيد على الموت، والدين مقدم على حق الورثة، فكذا على حق الفيء وإذا مات على الردة وعليه دين وفي ثم إن بقي من ماله شيء بعد سداد ديونه صرف لبيت مال المسلمين.
قالوا: ويصير محجوراً على المرتد بعدم التصرف بنفس الردة، وقيل: يحجر عليه بحكم القاضي. ويكون الحجر عليه كحجر الفلس، وقيل كحجر السفه، وقيل: كحجر المرض، وينفق على المرتد زمن استتابته من ماله، وتجعل حاجته للنفقة كحاجة الميت إلى التجهيز بعد زوال الملك بالموت.
والأصح في المذهب أن المرتد يلزمه غرم إتلافه مال غيره في زمن الردة، حتى لو ارتد جمع من الناس واستعصوا على الإمام، وخرجوا عن طاعته، ولم يصل غليهم إلا بقتل وجها، فما اتلفوه من المال في أثناء القتال إذا أسلموا ضمنوه على الأظهر.
والأصح أنه يلزمه نفقة زوجات وقف نكاحهن، وكذلك نفقة قريب ملزم بالإنفاق عليه، لأنها حقوق متعلقة بالمرتد فيلتزم بها لقاء ملكيته.
وقيل: لا يلزمه شيء من النفقات، لأنه لامال له. لزوال مكليته على الأموال، وعلى القول بوقوف ملكه والحجر عليه: فإن تصرفه الواقع منه في وقت ردته إن احتمل الوقف لا يضره، وأما إذا كان التصرف لا يقبل الوقف، كالبيع والهبة، والرهن، والكتابة، ونحوها، مما لا يقبل الوقف، فتكون تصرفاته فيها باطلة، بناء على بطلان وقف العقود وفي القديم: هي موقوفة بناء على صحة وفق العقود، فإن أسلم حكم بصحتها، وإلا فلا.
وبناء على هذه الأقوال: فإنه يجب أن يجعل ماله عند رجل عدل يحفظه، وتجعل أمته عند امرأة ثقة، أو عند ردل يحل له الخلوة بها من المحارم احتياطاً، لتعلق حق المسلمين به. اهـ.
المالكية قالوا: إن الردة لا تسقط إحلال محلل. فإذا ارتد المحلل للمبتوتة فلا يبطل إلاحلاله بل تحل لمن بتها، بخلاف حل المرأة، فإنه يبطله ردتها، فإذا حللها شخص ثم ارتدت، ورجعت للإسلام. لا تحل لمن بتها حتى تنكح زوجها لأنها أبطلت النكاح الذي أحلها، كما أبطلت الي صيرها محصنة.
والعتق غير المعلق بجميع أنواعه لا تبطله الردة، عاد للإسلام، أو قتل على ردته، أو التحق بدار الكفر، وكذلك الطلاق ينفذ ولا تبطله الردة، أما الهبة، والوقف، فإذا احيزا قبل الردة، فإنه ينفذ، عاد(5/379)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
إلى الإسلام أو مات عليه، وأما إذا تأخر الحوز حتى ارتد، ومات على ردته، أو التحق بدار الكفر، فلا ينفذ، وينتظر، هل يعود إلى الإسلام، وهل يحكم بالبطلان، أو بعدمه؟
قالوا: والكافر الذي بدل دينه إلى كفر آخر، كنصراني انتقل لليهودية، أو المجوسية فأننا لا نتعرض له. وقبل عذر من اسلم من الكفار، ثم رجع للكفر، وقال: معتراً حين اراد القاضي قتله لعدم التوب: (أسلمت عن ضيق من خوف على نفس، أو مال) فإن ظهر عذره بقريته صدق وترك لأمره، وإن ظهر كذبه، فإنه يكم فيح حكم المرتد. فإن تاب ترك، وإن لم يتب قتل كافراً.
وأما من نطق بالشهادتين، ولم يلتزم أركان الإسلام، فإنه يؤدب وعزر حسب ما يراه الحاكم فإذا رجع لا يكون حكلمه حكم المرتد، لكن هذا في غير من بين أظهرنا، ويعلم أن علينا صلاة وصوماً، وكازة وإلا فهو مرتد، لأنه خالطنا وعلم أحكام ديننا، فيؤدب، فإن أنكر فرائض الإسلام حكم بردته.
وكذلك يؤدب الساحر الذي سحر مسلماً، ولم يدخل بسحره ضرراً عليه، فإن أدخل ضرراً على مسلم كان ناقضاً للعهد، يفعل فيه الإمام القتل أو الاسترقاق ما لم يسلم، فإن أدخل ضرراً على أهل الكتاب أدب ما لم يقتل منهم أحداً، وإلا قتل، ويشدد بالضرب الشديد والسجن على من سب من لم يجمع على نبوته، كالخضر ولقمان، والسيدة مريم بغير الزنا، أو سب احداً من ذريته عليه الصلاة والسلام فإنه يشدد عليه في التأديب بالضرب إن علم أنه من آله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن من آل بيت النبوة، وادعى صراحة، أو أحتمالا أنه من ذريته صلى الله عليه وسلم، كلبس عمامة خضراء ونحو ذلك. فلا يبالغ في تقريره وتأديبه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الداخل فينا بغير نسب، والخارج منا بغير سبب) وقال الإمام مالك رضي الله هنه: من ادعى الشرف كاذباً ضرب ضرباً شديداً شهراً وميحبس مدة طويلة حتى تظهر لنا توبته، لأن ذلك استخفاف بحقه صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: ومن سب صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يعزر ويحبس، ولا يحد، ومثل السب تكفير بعضهم، ولو كان من الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم فإنه لا يكفر، ولكن يؤدب أما من كفر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق، لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وكذب الله ورسوله، وإذا شهد عليه عدل فقط، أو جماعة من الناس غير مقبولين بأنه سب نبياً مجمعاً على نبوته، فإنه يعزر بالضرب. أو قال: لقيت من شدة المشقة في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر ما استوجبته، أما لو قصد الاعتراض على الله فهو مرتد بدون خلاف.
مبحث تصرفات المرتد.
الحنفية قالوا: إن تصرفات المرتد على أقسام:
-1 - نافذ بالاتفاق: كالاستيلاد، والطلاق، لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك وتمام الولاية، وإن كانت الفرقة تقع بين الزوجين بمجرد الارتداد.(5/380)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
-2 - باطل بالاتفاق: كالنكاح، والذبيحة، لأن كل واحج منهما يعتمد الملة، والمرتد لا ملة له، لأنه ترك ما كان عليه، ولا يقر على ما جخل فيه، لوجوب قتله بالردة.
-3 - موقوف بالاتفاق: كالمفاوضة، كأن فاوض المرتد، توفق فإن أسلم نفذت المفاوضة، وإن مات أو قتل، أو قضى بلحاقه بدار الحرب بطلت بالاتفاق، لأن المفاوضة تعتمد المساواة بين الطرفين، ولا مساواة بين المسلم والمرتد، مالم يسلم.
-4 - مختلف في توقفه: وهو البيع، والشراء، والعتق، والهية، والرهن، والتصرف في أمواله في حال ردته، فأبو حنيفة رحمه الله قال: إن هذه التصرفات المذكورة تتوفق، فإن أسلم صحت عقوده. وإن مات أو قتل، أو لحق بدار الحرب بطلت. لأنه حربي متهور تحت أيدينا، كما قررناه في توفق الملك، وتوقف التصرفات بناء على توفق الملك، وصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان، فيؤخذ ويقهر، وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله، فكذا المرتد، ولأنه يستحق القتل لبطلان سبب العصمة، فأوجب خللاً في الأهلية. بخلاف الزاني المحصن، وقاتل العمد، لأن الاستحقاق فيهما جزاء على الجناية، مع بقاء سبب العصمة، وهو الإسلام، فيبقى مالكاً حقيقة، وبخلاف المرأة المرتدة لأنها ليست حربية ولهذا لا تقتل بعد الردة أما المرتد فقد زال ملكه عن أمواله بردته، كما ذكرنا.
أبو يوسف ومحمد قالا: يجوز ما صنع المرتد، وتنفذ عقوده التي عقدها قبل الردة وبعدها، لأن الصحة تعتمد الأهلية، والنفاذ يعتمد الملك، ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطباً، وكذلك الملك لقيامه قبل موته، وعدم زواله بالردة، لأنه مكلف محتاج ولا يتمكن من إقامة موجب التكليف إلا بالملك فيبقى ملكه إلى أن يقتل، ولهذا لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه بعد موته.
قالوا: فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام مسلماً، فما وجوده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه، لأن الوارث إنما يخلف فيه لاستغنائه عنه بالموت المحكوم به، بدخوله دار الحرب. وإذا عاد مسلماً احتاج إليه فيقدم على الوارثن بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه، وبخلاف أمها اولاده، ومدبريه لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض، ولو جاء مسلماً قبل أن يقضي القاضي بذلك، فكأنه لم يزل مسلماً، فأمواله على حالها، وما كان عليه من الديون فهو إلى أجله، ويصح تصرفه.
مبحث ردة الصبي والمجنون.
الحنفية قالوا: إن ارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد تام، فيجري عليه أحكام المرتد، فيبطل نكاحه، ويحرم من الميراث، ويجبر على الإسلام، ولا يقتل، وإن أدرك كافراً، يحبس كالمرأة، وإسلام الصبي المميز إسلام، لأن علياً رضي الله عنه أسلم في صباه وهو أبن خمس سنين، وصحح النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه، وافتخر سيدنا علي بذلك.(5/381)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فقال:
سبقتكمو إلى الإسلام طراً * غلاماً ما بلغت أوان حلمي
ولأنه أتى بحقيقة الإسلام، وهي التصديق والإقرار معه، والتصديق الباطني يحكم به للإقرار الدال عليه، على ما عرف من تعليق الحكام المتعلقة بالباطن به، ولأن الإقرار عن طوع دليل على الاعتقاد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الإسلام على أبن صياد، وهو غلام لم يبلغ الحلم.
قيل: ومن أقبح القبائح أن لا يسمى مسلماً مع اشتغله بتعلم القرآن وتعليمه، والنطق بالشهادتين والصلاة.
قالوا: والحقائق لا ترد. وما يتعلق به سعادة أبدية، ونجاة عقبى وهي من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي، ثم يبتنى عليه غيرها، فلا يبالى بشوبه للضررولانه تقبل صلاته وصومه ويثاب عليهما عند الله تعالى.
وقالوا: إن الردة موجودة حقيقة ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام، فإن رد الردة يكون بالعفو عنها وذلك قبيح، إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له، ولا يقتل، لأنه عقوبة، والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم، وهذا في الصبي الذي يعقل ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده فإنه لا يدل على تغير العقيدة. وكذا لا يصح إسلامه، لأنه غير مكلف وقد رفع القلم عنه بنص الحديث الشريف.
وقال أبو يوسف: ارتداد الصبي الذي يعقل، ليس بارتداد، وإسلامه إسلام.
الشافعية - قالوا: إن ارتداد الصبي الذي يعقل ليس بارتداد، وإسلامه، كذلك ليس بإسلام لأنه تبع لأبويه في الإسلام، فلا يجعل أصلاً، ولأنه يلزمه أحكام تشوبها المضرة فلا يؤهل لها. والردة مضرة محضة، فلا تعتبر، لأنه غير مكلف وغير مختار، وكذلك المجنون لا تصح ردته، لعدم تكليفه، ولا اعتداد بقولهما، واعتقادهما، فلا يترتب عليها حكم الردة، وكذلك لا تصح ردة المكره. إذا كان قبله مطبئناً بالإيمان، كمانصف عليه القرآن الكريم، فإن رضي بقلبه عن الكفر فهو مرتد فيقتل، قال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله. ولهم عذاب عظيم} آية 106 من سورة النحل.
وأما المجنون فإذا ارتد ولم يستتب فجن لم يقتل في جنونه، لأنه قد يعقل ويعود إلى الإسلام، فإن قتل مجنوناً لم يجب على قاتله شيء، ولكن يعزر، بخلاف ما لو ثبت بنيته أو أقر بقذف أو قصاص ثم جن فإنه يستوفى منه في ضوئه.(5/382)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مبحث حكم الصبي إذا بلغ مرتداً.
الحنفية رحمهم الله قالوا: أربع مسائل لا يقتل فيها المرتد.
الأولى: الصبي الذي كان إسلامه تبعاً لأبويه، إذا بلغ مرتداً. فلا يقتل وإنما يحبس حتى يتوب، لأن إسلامه لماكان تبعاً لغيره، صار شبهة في إسقاط القتل عنه، وبه قال الحنابلة، ويجبر على الإسلام بالضرب والحبس، لا بالقتل.
الشافعية، والمالكية - قالوا: إن الصبي يعتبر مرتداً، ولو كان تابعاً لأبويه، فإنه يستتاب فإن تاب من ردته ورجع إلى الإسلام قبل منه ويترك، وإلا فيجب قتله مثل المرتد.
الثانية: إذا أسلم الصبي في صغره، ثم بلغ مرتداً، فإن يقتل مرتداً وتطبق عليه أحكام المرتد.
الثالثة: إذا ارتد في صغره، فإنه لا يقتلز لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء في صحة إسلامه في الصغر. وبه قال الشافعية وإذا قتله إنسان قبل أن يسلم لا يلزمه شيء في هذه الأحوال، ولو مات له قريب مسلم بعد ردته فلا يرث منه.
المالكية، والحنابلة - قالوا: إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتداص، فإنه يقتل مرتداً وتطبق عليه أحكام المرتد.
الثالثة: إذا ارتد في صغره، فإنه لا يقبل ارتداده ولا يتعتد به، ولكن يحبس ويضرب حتى يتوب لأن الإسلام أنفع له فيجبر عليه، ويشتد عليه في الضرب حتى يرجع ويتوب لأن الإسلام أنفع هـ فيجبر عليه، ويشتد عليه في الضرب حتى يرجع ويتوب وتحسن توبته.
الرابعة: المكره على الإسلام إذا ارتد لا يقتل، لأن الحكم بإسلامه من حيث الظاهر، لأن قيام السيف على رأسه ظاهر في عدم الاعتقاد بقلبه، فيصير شبهة في إسقاط القتل وبه قال الشافعية، لعدم التكليف، (وما استكرهوا عليه) فقد رفع عنه المؤاخذة.
اتفق العلماء الأربعة: على أنه إذا ارتد الأبوان والعيادذ الله تعالى، وارتد ابنهما الصبي تبعاً لهما ثم لحقا بدرا الحرب، وحكم بلحوقهما، فإن الصبي يصح ارتداده من غير خلاف ويحكم بكفره، وإذا أسلم الصبي، فإنه يقبل، ويعتبر إسلامه في نظر الشرع بالاتفاق، فلا يرث أبويه الكافرين، ويرث أقاربه المسلمين الذين ماتوا بعد إسلامه، ولا يصح نكاح المشركة له، ويحل له زواج المرأة المسلمة، وتبطل مالية الخمر والحنزير بالنسبة له، وإذا ارتد الرجل وامرأته والعياذ الله تعالى ولحقا بدار الحرب فحملت المرأة في دار الحرب وولدت ولداً، وولد ولدهما ولداً، فظهر عليهم جميعاً، فالوالدان فيء، لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها، ويجبر الولد الأول على الإسلام، ولا يجبر ولد الولد، لأنه لا يتبع جده، بل أباه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه) الحديث.
مبحث ردة السكران وإسلامه.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة في إحدى روايتيهم - قالوا: السكران الذي لا يعقل شيئاً وفقد(5/383)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الإدراك والتمييز مثله كالمجنون مثله كالمجنون فلا تصح ردته، ولا إسلامه، لأن المجنون لا تصح ردته بالإجماع، لأن الردة تبنى على تبدل الاعتقاد، وتعلم أن السكران غير معتقد لما قال، ووقوع طلاقه، لأنه لا يغتفر إلى القصد، ولذا لزم طلاق الناسي.
وفي رواية للحنفية: أنه إذا كان سكره بسبب محظورن وباشره مختاراً بلا إكراه، فإنه تصح ردته ولا يعفى عنه.
الشافعية - قالوا: تصح ردة السكران المتعدي بسكره، كطلاقه وسائر تصرفاته، وفي صحة استتابته حال سكره وجهان، ا؛ دهما أنه تصح كما تصح ردته وعليه الجمهور وهو المفتى به، لكن يندب تأخيرها إلى الإفاقة، خروجاً من خلاف من قال: بعدم صحة توبته، وهو الوجه الثاني القائل: بأن الشبهة لا تزول في تلك الحالة.
أما السكران غير المتعدي بسكره، كأن أكره على شربها، فلا يحكم عليه بالارتداد، كما في طلاقه وغيره.
والراجح من المذهب صحة إسلام السكران عن ردته، ولو ارتد صاحياً ثم أسلم معاملة لأقواله معاملة الصاحي.
والاعتداد بإسلامه في السكر أنه يحتاج إلى تجديد بعد الإفاقة، لكن قالوا: إذا فقاق عرضنا عليه الإسلام فإن وصفه كان مسلماً من حين وصف الإسلام، وإن وصف الكفر كان كافراً من الآن، لأن إسلامه صح أولاً، فإن لم يتب قتل.
قبول الشهادة بالردة. الشافعية - قالوا: تقبل الشهادة بالردة على وجه الإطلاق، ويقضى بها من غير تفصيل، لأن الردة لخطرها لا يقدم الشاهد بها إلا عن بصيرة، ثم يقول له القاضي تلفظ بالشهادتين ولا حادة إلى السؤال عن السبب، فإن امنع كان امتناعه قربته لا يحتاج معها إلى ذكر سبب الردة.
وقيل: يجب التفصيل واستفسار الشاهد بها لاختلاف المذاهب في التكفير، والحكم بالردة عظيم فيجب أن يحتاط له. وهو المذهب الي يجب القطع به لأنه قد يتوهم ما ليس بكفر كفراً، فيسأله القاضي.
المالكية قالوا: بأنه لا تقبل توبة المرتد، فلا تقبل الشهادة إلا مفصلة.
الحنفية قالوا: تقبل الشهادة بالردة من عدلين، يشهدان على مسلم بالردة، ويسألهما القاضي عن سبب ردته، فربما قال شيئاً ليس بكفر، وهو في نظرهما كفر، ولأن إنكاره توبة ورجوع إلى الإسلام اهـ.(5/384)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مبحث كيفية توبة المرتد.
الحنفية قالوا: أنه يتبرأ عن الأديان كلها سوى دين الإسلام، وهو أن يقول: (تبت وجعت إلى دين الإسلام، وأنا بريء من كل دين سوى دين الإسلام) . والإقرار بالبعث والنشور مستحب، وإنما يقول ذلك لأنه لا دين له، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه، لحصول المقصود.
قال الطحاوي سئل أبو يوسف عن الرجل كيف يسلم فقال يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويقر بما جاء به من عند الله، ويتبرأ من الدين الذي انتحله، وإن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقال: ولم أدخل في هذا الدين قط، وأنا بريء من الدين الذي ارتد إليه، فهي توبة، وفي شرح الطحاوي: إسلام النصراني أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ويتبرأ من النصرانية، واليهودي كذلك يتبرأ من اليهودية، وكذا من كل ملة، وأما مجرد الشهادتين، فلا يكون مسلماً، لأنهم يقولون بذلك غير أنهم يدعون خصوص الرسالة إلى العرب هذا فيمن بين أظهرنا منهم، أما من في دار الحرب لو حمل عليه مسلم فقال: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مسلم، أو قال: دخلت في دين الإسلام. أو دخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو دليل إسلامه فكيف إذا أتى بالشهادتين، لأن في ذلك الوقت ضيقاً، فيحكم بإسلامه بمجرد ذلك، ويرفع عنه القتل، ولو ارتد بعد ذلك قتله، ولو ارتد بعد إسلامه ثانياً قبلنا توبته، وكذا ثالثاً، ورابعاً، وفي كل مرة يطلب من الإمام التأجيل أجله، فإن عاد إلى الكفر رابعاً ثم طلب التأجيل فإنه لا يؤجله، فإن أسلم وإلا قتل.
وقال الكرخي في مختصره، فإن تاب بعد الرابعة ضربه ضربتاً وجيعاً، ولا يبلغ به الحد ثم يحبسه ولا يخرجه من السجن حتى يرى عليه خشوع التوبة، ويرى من حاله حال إنسان قد أخلص، فإذا فعل ذلك خلي سبيله، فإن عاد فعل به مثل ذلك أبداً ما دام يرجع إلى الإسلام، لإطلاق قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} آية 5 من التوبة، وروي عن أبن عمر، وعلي رضي الله عنهما: لا تقبل توبة من كرر ردته كالزنديق: فيجب قتله.
المالكية، والحنابلة قالوا: لا تقبل توبة الكافر المرتد الذي تكررت ردته بل يجب قتله لقوله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازداودا كفراً لم يكن الله لغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} آية 137 من النساء، ولو قتله شخص قبل عودته إلى الإسلام فلا شيء عله من الدية والقصاص.
الشافعية - قالوا: إنه تقبل توبة الزنديق، والمرتد إذا طلب التوبة ورجع إلى الإسلام. ولو تكرر منه ذلك مراراً ما دام في كل مرة يرجع إلى الإسلام، ولا يقتل إلا أن يأبى أن يسلم.
الحنفية قالوا: قبول توبة الزنديق روايتان رواية تقول: لا تقبل توبته كمالك وأحمد. وفي رواية تقبل توبته إذا رجع كقول الشافعي، وهذا في حق أحكام الدنيا، أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا صدق قبله سبحانه بلا خلاف.)(5/385)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أحكام في المرتد.
الحنفية قالوا: لو أرتد أهل بلد لم تصر دار حرب حتى يجتمع فيهما ثلاثة شروط:
الأول: ظهور أحكام الكفر.
الثاني: أن لا يبقى فيهما مسلم، ولا ذمي بالأمان الأصلي.
والثالث: أن تكون متاخمة لدار الحرب. وأول من حارب المرتدين أبو بكر الصيق رضي الله تعالى عنه لانهم منعوا دفع الزكاة، وقالوا: لاندفع الزكاة إلا لمن صلاته سكن لهم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحوا دار حرب.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا ارتد أهل بلد لا يجوز أن تغنم ذراريهم التي حدثت منهم بعد الردة، ولا يسترقون، بل يجبون على الإسلام إلى أن يبلغوا: فإن لم يسلموا حبسوا، وضربهم الحاكم جذباً إلى الإسلام، وأما ذراريهم فيسترقون.
الشافعية قالوا: في أصح قوليهم إنهم لا يسترقون وقيل: تسترق ذراريهم وذراري ذراريهم.
الحنابلة قالوا: تسترق ذراريهم، وذراري ذراريهم، لأن الذرية تبع الآباء في الكفر.
روى البخاري عن أبن عباس رضي الله عنهما، لما بلغه أن علياً رضي الله عنه حرق قوماً بالنار، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فإن الإمام علياً قاتل الزندقة الذين ارتدوا باتباع مذهب المانوية الذين يقولون بقدم النور والظلمة وأن العالم ناشئ عنهما.
أعمال المرتد.
الحنفية قالوا: إن الردة محبطة لثواب جميع العمال الصالحة التب عملها قبل أن يرتد عن الإسلام. فإذا تاب وعاد إلى الإسلام، إن عاد في وقت صلاة صلاها وجب عليه أداؤها ثانياً، وكذلك يجب عليه الحج ثانياً، إن كان سبق له حد، ولا يلزم من سقوط ثواب العمل سقوط العمل، بدليل أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مسقطة للقضاء مع كونها لا ثواب فيها عند أكثر العلماء.
الشافعية - قالوا: إن الردة محبطة للعمل إن اتصلت بالموت قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} الآية وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} وقال تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقط حبط عمله} وغيرها من الآيات الدالة على إحباط الأعمال، وضياع ثوابها، ولهذا إن عاد إلى الإسلام وجب عليه أن يعيد حجه قبل الردة) .
-(5/386)
مبحث الكبائر من الذنوب.
-عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، الغافلات) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
يتعلق بشرح هذا الحديث.
-1 - بيان معناه.
-2 - هل الكبائر منحصرة في السبع المذكورة؟
-3 - حد السحر وما يترتب عليه من الآثار.
معنى الحديث.
-إن معظم القضايا التي اشتمل عليها هذا الحديث الشريف معلومة من الدين بالضرورة، فكل مسلم يعلم أن الشرك بالله كفر بالخالق العظيم، الذي خلق الإنسان وأمده بما يحتاج إليه في هذه الحياة الدنيا من مطعم ومشرب، وهواء وشمس وقمر، وأرض وسماء، وغير ذلك من باقي العوالم المسخرة لهذا الإنسان الضعيف الذي لا يملك لنفسه وجوداً ولا عدماً، ولا ضراً ولا نفعاً، واي مسلم يخفى عليه أن الشرك بالله القاهر فوق عباده حجود ظاهر، ولاعتداء صريح على مقام الألوهية المقدس، فلا يصدر إلا عن سفيه جاهل بنفسه وبكل ما حوله من المظاهر الدالة دلالة واضحة على أن الله واحد لاشريك له، بل أي عاقل يجحد ربه الذي خلقه من ماء مهين، وجعله بشراً سوياً، أو يشرك معه في عبادته أحداً من خلقه، عن عقيدة أو نفاق، أو رياء، أو يعبد ربه على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، لا ريب في أن الإنسان الذي يشرك مع الله غيره في معنى الألوهية يكون كالحيوان العجم الذي لا يشرك مع الله أحداً في الإيجاذ، أو في الرزق فقد أنكر الإله الذي لا يماثله أحد من خلقه في أخص صفاته، وهي كونه تعالى من منفرداً بالخلق والإيجاد (1) .
__________
(1) (قال تعالى: {فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً، يذرؤكم فيه ليس شيء وهو السميع البصير} آية (11 سورة الشورى) .(5/387)
وأي مسلم يجهل أن قتل النفس التي حرم الله جريمة من أسوأ الجرائم وأقبحها أثراً في المجتمع الإنساني. ويكفي في شناعتها واتنكارها قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً} .
وأي مسلم يخفى عليه أن أكل الربا من الكبائر المجرمة لما يترتب عليه من استذلال المحتاجين، واستنزاف أموالهم، وحصر الثروة في أيدي المرابين الذين يستلذون اقتناص أموال الناس وحبسها بين أيديهم بدون أن يستخدموها في مصالح المجتمع، وإصلاح حال الإنسان (1)
__________
فالله تعالى هو القادر الحكيم الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما وما فيهما من أجرام وأجسام وماء وهواء، وخلق لنا أزواجاً من أنفسنا، وخلق من الأنعام ثمانية، ذكور الإبل والبقر، والضأن، والمعز، وإناثها، وهو الذي يخلقنا في الأرحام ويصورنا كيف يشاء لا يشابهه شيء في عظمته وكبريائه، وملكوته، وحسنى أسمائه، وعلى صفاته، لا يشابه شيئاً من مخلوقاته، ولا يشبه به، فهو واحد في ذاته وصفاته، ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم ولا كفعله فعلن ولا كصفته صفة، إلا من جهة موافقة اللفظ، وجلت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة، فليعتبر أولئك الملحدون الطبيعيون، الذين ضلوا عن الطريق المستقيم وكفروا برب العالمين)
(1) (قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} آية (29) من سورة النساء، والربا مما أجمعت الأديان السماوية على تحريمه، وداوعي تحريمه كثيرة، فهو من المور التي تعوق المجتمع عن الاشتغال بالأمور المفيدة النافعة، فصاحب المال إذا سلك طريق الربا في إنما ماله، وجلب الربح منه. سهل لديه أسباب العيش، فيميل إلى الكسل والباطالة والخمول، وترداد شراهته في جمع الأموال بغير حق والاستيلاء على حقوق الناس من غير رحمة ولا شفقة، وتزداد الفوارق بين طبقات المجتمع في الفقر والغنى. والربا يؤدي إلى انتشار العداوة، والبغضاء ويولد الأحقاد قرن الله تعالى النهي عن أكل أموال الناس بالباطل بقتل النفس في الآية الكريمة، فقال تعالى بعد النهي عن الربا {ولا تقتلوا أنفسكم} لأن الربا يؤدي إلى قتل الأنفس، وسفك الدماء من أجل الأموال.
ولأن الربا أخذ مال بلا عوض، وهو نوع من الظلم الذي حرمه الشارع الحكيم، لأنه استيلاء على الأموال من غير الطريق المشروع، وكل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه، وعاقبة الربا إنما هو الخراب والهلاك، والدمار، قال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} وقد توعد الله تعالى الذين يأكلون الربا ولا يتوبون، بأشد أنواع الوعيد، وهو أنه يشن عليهم حرباً في الدنيا وعذاباً يوم القيامة قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فكلم رؤوس أموالكم لا تظلمون، ولا تظلمون} .(5/388)
وأي مسلم يحفى عليه أن الفرار من قتال الأعداء الذين يرديون انتهاك حرمات الوطن والدين واستذلال الاحرار الأعزاء، واستعمالهم استعمال الأرقاء الذين لا إرادة لهم جريمة من شر الجرائم، وموبقة من أسوأ الموبقات.
لا ريب في أن كل هذه الخصال كبائر تنافي الفضائل الإنسانية، وتتعارض مع الحياة الكريمة، وإذا فشت في أمة من الأمم اهلكتها لا محالة.
أما قذف المحصنات فقد بينا آثاره الضارة فيما أسلفنا من القول في الحدود. وسنذكر لك ما يترتب على السحر من الآثار الضارة قريباً، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو المربي الأعظم الذي لا ينظق عن الهوى قد نهى أمته نهياً جازماً عن هذه الجرائم المؤقة التي يترتب عليها هلاك المرء في الدنيا والآخرة، فهي من مخازي هذه الحياة الدنيا، ومن شر آفاتها التي إليها الشهوة، وتستلذها النفس الضعيفة، ومن ورائها الخزي الدائم والعذاب الأليم.
__________
فالأجرد بالمسلم أن يبحث عن مصادر تنمية أمواله عن طريق مشروع، حتى تصبح معيشته واقتصادياته من طريق مستقيم لا استغلال فيه ولا بغي ولا عدوان، على الفقراء والمحتاجين.
وأما جناية اكل مال اليتمي، فهي أفظع من التعامل بالربا، واشد ضراوة منها، لما يترتب عليها من الأضرار البليغة ولهذا نهى الشارع عنها ووصمها أبلغ وصم فقال تعالى. {وآتوا اليتاميى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً} وقال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا، ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف، فإذا دفعتم اليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً} .
والواجب شرعاً أن يرعى الوصي مال اليتيم ويحافظ عليه وينميه، ولا يبيح لنفسه شيئاً منه. إلا عند الحاجة الماسة، فيأخذ ما يحتاج إليه من غير إسراف ولا تبذير. فقد أجمعت الآراء على أن مال اليتيم لا يحل للوصي، ولا يأخذ منه شيئاً حتى تبقى صلات المحبة والمودة قائمة بين الناس. وكما تدين تدان وكما تفعل تجازى {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً} .
وبين الله عز وجل أن أكل مال اليتيم من أشنع أنواع الحرام، فكأنه يأكل من جمر جهنم، قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} .(5/389)
الجواب عن السؤال الثاني
-إن الموبقات المذكورة في الحديث معنهاها المهلكات، وهي مودبة للهلاك الدنيوي والأخروي، لا محالة، ولكن الحديث الذي معنا لم ينص على كل الموبقات. بل هنالك موبقات ذكرت في الأحاديث الصحيحة الأخرى، وقد حصرها بعض العلماء في إحدى وعشرين، منها السبع المذكورة في الحديث الشريف.
__________
وأما التولي يوم الزحف فهو من أكبر الكبائر، وأفحش الأمور. لأنه يدل على الجبن. والضعف والخور، وافسلام يربي المسلم على الشجاعة والثبات والعزة، ولأن الفرار أمام الأعداء عند اللقاء يسلب الأمة عزتها وكرامتها وشرفها، ويجعل السلطة لأعداء الإسلام والدين، وذلك موت أدبي للأمة فإما أن نعيش كراماً أعزاء، وإما أن نموت أحراراً شهداء، والاستشهاد في سبيل الله والوطن حياة كريمة، قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل أمحياء عند ربهم يرزقون} لهذا أمرنا الله تعالى بالثبات أمام الأعداء مهما كانت عدتهم، وقدرتهم، ونهانا عن الفرار من الزحف وعده من أعظم الكبائر التي تجلب غضب الله تعالى، وتحبط الأعمال، وتودي بصاحبها في نار جهنم وبئس القرار فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} .
فأمر الله المجاهدين بالصبر والثبات أمام الأعداء، لأن التولي فيه إضعاف لصفوف المسلمين، وتثبيط لعزائم المقاتلين، وإحداث فرقة بين صفوفهم، وفي ذلك صد عن سبيل الله عز وجل وتقوية للعدو، وكفى بذلك إثماً وعاراً في الدنيا والآخرة، لذلك أمرنا بالصبر وذكر الله تعالى أنه يعاقب الفارين بأشد أنواع العذاب. وأنه يكرم الشهداء في سبيله أعظم أنواع الإكرام والعزة.
وأما قذف المحصنات المؤمنات الغافلات فهو من أعظم الكبائر التي نهى عنها الشارع الحكيم.
فقال تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} فإن مقاصد الشرع الحكيم حفظ أعراض المسلين، وصون الشرف لصاحبه، والاحتفاظ بالكرامة، ووضع سياج منيع لعزة النفس، كان من مقتضى حكمته تبارك وتعالى أن سن التشريع الزاجر للنفوس الجامحة التي قد يدفعها الغضب إلى أن تصيب الناس في كرامتهم، وتخدش شرفهم، وتنكس رؤوسهم، والشرف أعز عزيز لدى المؤمن الغيور، فإن القتل أهون على المؤمن من ضياع شرفه وإهدار كرامته، وما قيمة الحياة لإنسان بغير كرامة وعزة، من أجل ذلك فرض الله تعالى حد القذف الرادع الكفيل بصيانة الأعراض وحفظ الكرامات، وإنما خص القذف بالرمي بالزنى، لأن فيه من العار بدناءة النفس، وهتك الستر، وافتضاح السوءات وانتهاك الحرمات، والدلالة على عدم الغيرة الذي هو من خصائص أخس الحيوانات، ما قارف به كل المربقات. فإن كان الرمي امرأة، كان في(5/390)
الكبيرة الثامنة شهادة الزور
-ثامنها شهادة الزور: وقد ورد في الصحيح أنها أكبر الكبائر، عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا) الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
أما كون شهادة الزور جريمة خلقية شائنة تنافي النظام العمراني، وتفضي إلى الفوضى في كل نواحي الحياة، فظاهر لا يخفى على أحد، فهي شر مستطير، يجب على الناس أن ينزهوا عنه أنفسهم تنزيهاً تاماً (1)
__________
من جلب العار على قومها ما يؤدي إلى سفك الدماء، وقلما يغسل ذلك العار، وقد رتب الشارع على قذف المحصن أو المحصنة ثلاثة أشياء، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة أبداً، والحكم عليه بالفسق.
ولقد ذكر الله في الآية الكريمة فظاعة أمر هذه الجريمة، وشنع على من وقع فيها، وشرح عظيم خطرها، وشديد وعيدها وأي وعيد اشد، من اللعنة في الدنيا والآخرة، وهو الطرد من رحمة الله، واستحقاق العذاب العظيمن وتقرير ذنبه بشهادة جوارحه عليه بما يخزيه ويقطع حجته ويسد عليه باب التنصل من ذنبه أمام الأشهاد يوم القيامة.
ثم أردف ذلك بأنه سيوفى جزاءه الحق، وليعلم الجاني إن لم يكن علم أن الله هو الحق، وإن وعيده هو الحق، وأن قوله هو الحق المبين، وقد ذكر العلماء أن القاذف مطالب في الدنيا لتصديقه بأربعة شهداء فالقاذف يقوم في وجهه لتكذيبه خمسة شهود من جوارحه لسانه، ويداه، ورجلاه، تنكيلاً له، وفضيحة لشأنه، جزاء فضيحته للمحصنات المؤمنات) وأي مسلم يخفى عليه أن أكل مال اليتيم جريمة من أرذل الجرائم وأخسها، لا يأتيها إلا النذال الذين قست قلوبهم، ونزعت منهم عائطفة الرحمة والإنسانية وأصبحوا كالحيوانات المتفرسة هم أضل سبيلاً.
-
(1) (لقد ذكر العلماء أن شهادة الزور من أكبر الكبائر لأن الله تعالى أمرنا باجتنابها وقرنها بالشرك والعياذ بالله تعالى فقال عز وجل: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور} أي ابتعدوا عن الرجس الذي هو الأوثان، وابتعدوا عن شهادة الزور، فقرن الله عبادة الأصنام بشهادة الزور كقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير حق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون} ومنه شهادة الزور.
وروى الإمام أحمد عن أيمنبن خريم أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس عدلت شهداة الزور إشراكاً بالله ثلاثاً) ثم قرأ {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} وقال الإمام أحمد أيضاً حدّثنا محمد بن عبيد حدّثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي(5/391)
الكبيرة التاسعة اليمين الغموس
-تاسعها اليمين الغموس وهو أن يحلف على حصول شيء وهو عالم أنه لم يحصل. كأن يقول: والله ليس لك علي دين. وهو يعلم أنه له، أو يحلف على أن فلاناً لم يضرب فلاناً، وهو يعلم أنه ضربه، فقد روى البخاري أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس. قلت: ما اليمين الغموس؟ قال: يقتطع مال امرئ مسلم) يعني بيمين هو فيها كاذب.
ولا نزاع في أن هذه اليمين الفاجرة من الكبائر، بشرط أن يترتب عليها قطع حق، أو إيذاء من لا يستحق الإيذاء، أو إدانة بريء، أو نحو ذلك.
أما إذا لم يترتب عليها شيء من ذلك فإنها تكون صغيرة لا كبيرة.
وبعضهم يقول: إن اليمين الغموس كبيرة مطلقاً، لأن الحالف بها قد انتهك حرمة اسم الله تعالى، فجزاؤه العذاب الأليم، إلا إذا تاب توبة نصوصاً.
وليس لليمين الغموس كفارة إلا التوبة منها، عند جمهور العلماء،
__________
عن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام فائماً، فقال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل) ثم تلا هذه الآية: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاة لله غير مشركين به} وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن أبن مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ هذه الآية.
وفي الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه، وهذا يدل على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر، ولا يلزم من كون هذه أكبر الكبائر استواء رتبتها، فإن الإشراك أكبر الذنوب المذكورة، وجلوس النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتكائه يشعر باهتمامه بذلك، ويفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون شهادة الزور أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بها والحامل عليها كثير مثل العدواة، والحقد، والحسد، وغير ذلك فاحتيج إلى الاهتمام بها، وفي لاتزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار) وفي الأثر (عدلت شهادة الزور) "الإشراك بالله".
-(5/392)
الشافعية قالوا: إن لها كفارة كغيرها من الأيمان، ومتى اخرج كفارتها سقط عنه إثمها (1) .
الكبيرة العاشرة الزنا
-عاشرها: الزنا وقد سماه الله فاحشة فقال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} وأفظعه أن يزني المرء بحليلة جاره، فإن في ذلك العمل المنكر جريمتين، إحداهما الاعتداء الصريح على عرض إنسان غافل ثانيتهما انتهاك حرمة الجوار، ولا يصدر ذلك إلا ممن قسا قلبه، ونسي ربه، وأصبح كالحيوان الأعجم. الذي لا هم له إلا قضاء شهوته، روى أبن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل ندا، وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك) رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
وحليلة الجار هي زوجة الجار (2) .
__________
(1) (الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، واصل اليمين في اللغة اليد، خلاف اليسار، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، واليمين في الشرع (توكيد المحلوف عليه بذكر اسم الله تعالى، اوصفة من صفاته عز وجل) وقد نهى اشارع عن اليمين الكاذبة، وجعلها من الكبائر التي تستوجب غضب الله عز وجل، وتدخل صاحبها نار جهنم إذا لم يتب منها قبل ممانه، أو يكفر عنها.
روي عن أبن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان) قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقة في كتاب الله عز وجل: {إن الذين ينظر يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة. قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ وإن كان قضيباً من أراك) رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس) رواه البخاري وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم، أو في النارن وعن جبير بن مطعم أنهم أنه أفتدى يمينه بعشرة آلاف درهم ثم قال: ورب الكعبة لو حلفت حلفت صادقاً، وإنما هو شيء افتديت به يميني رواه الطبراني) .
-
(2) (والزنا من أفحش الذنوب، وأعظم الكبائر التي أجمعت على تحريمها جميع الأديان، وأجمعت على مقتها العقول في جميع الأزمان والأوقات، لما يترتب عليه من فساد الفرد والمجتمع.(5/393)
الكبيرة الحادية عشرة شرب الخمر
-وشرب الخمر كبيرة من الكبائر التي لها أسوأ الأثر في حياة الإنسان الصحية، والخلقية وكان بعض كبار الصحابة رضوان الله عليهم يرى أنها أكبر الكبائر، فقد روي "أن أبا بكر وعمر سألا
__________
حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم على الزاني أنه لا يرتكب الفاحشة وهو مؤمن فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا انقلع منها رجع إليه الإيمان) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من زنى، أو من شرب الخمر، نزع الله منه الأيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعالم متكبر) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "أربعة يبغضهم الله، البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر" وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يا رسول الله أي الذنب أعظم قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} .
قال ابن القيم رحمه الله: ذكر عليه الصلاة والسلام من كل أعلاه، فأعظم الشرك أن يجعل لله نداً، وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه، وأعظم أنواع الزنا أن تزني بحليلة جارك، فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق. فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها، إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وإلحاق نسب به لم يكن منه، وغير ذلك. فإن كان جاراً له انضاف إلى ذلك سوء الجوار، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، وأي بائقة أعظم من الزنا بامرأته، فإن كان الجار أخاه أو قريباً من أقاربه، انضم إلى ذلك قيطعة الرحم فيتضاعف الإثم، فإن كان الجار غائباً في طاعة اللّع كالصلاة، وطلب العلم والجهاد، تضاعف الإثم، فإن كانت المرأة رحماً منه، انضاف إلى ذلك قيطعة رحمها، فإن كان الزاني محصناً كان الإثم أعظم، فإن كان شيخاً كان أعظم إثماً، فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام، أو بلد حرام، أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة تضاعف الإثم والعياذ بالله، روي عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما ترون في الزنا؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره".
-(5/394)
عبد الله بن عمرو عن أعظم الكبائر فقال: "شرب الخمر" رواه الكبراني بإنسان صحيح وقال الله صلى اللله عليه وسلم. "اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر". (1)
__________
(1) (والخمر من أكبر الكبائر التي حرمها الشارع الحكيم لما يترتب عليها من المفاسد الفردية، والاجتماعية، والصحية، والبدنية، والأخلاقية، والمالية، حتى قال بعضهم: إنها أم الخبائث. روي عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن أبا بكر وعمر، وناساً جلسوا بعد وفاة النبي الله صلى الله عليه وسلم. فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم. فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو اسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأكثروا ذلك، ووثبوا إليه جميعاً، حتى أتوه في داره فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل، أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب الخمر، أو يقتل نفساً، أو يزني، أو يأكل لحم خنزير، أو يقتلوه فاختار الخمر، وإنه لما شرب الخمر لم يمتنع من شيء أراده منه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال (ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت وفي مثانته منه شيء، إلا حرمت بها عليه الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية) رواه الطبراني بإستاد صحيح والحاكم. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: (اجتنبوا أم الخبائث) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله الله صلى اللله عليه وسلم. بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر، وجعلت عدلاً للشرك) رواه الطبراني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه) رواه الطبراني.
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن مات دخل النار، فأن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد في الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عصارة أهل النار) رواه ابن حبان.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لقي الله مدمن خمر، لقيه كعابد وثن، وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه كان يقول: (ما أبالي شربت الخمر، أو عبدت هذه السارية من دون الله) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد) .
-(5/395)
الكبيرة الثانية عشرة النميمة
-وهي من الجرائم الضارة للمجتمع الإنساني لأن النمام دائماً يسعى بين الناس ليقطع ما بينهم من صلات ومودة، ويجعل بعضهم لبعض أعداء، وكفى بذلك شراً، أما كون النميمة من الكبائر، فقد صرح به حديث البخاري رحمه الله تعالى وهو (أن رسول الله مر بقبرين يعذبان، فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى أنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرىء من البول) فهذان كان يسهل عليهما النميمة، وعدم الاستبراء من البول، ويظنان أنهما من الأمور الهينة، وهما عند الله من أسوأ المؤبقات لما يترتب على الأول من قطع صلات المودة بين الناس، ولما يترتب على الثاني، من فساد العبادة (1) .
الكبيرة الثالثة عشرة: عدم التنزه من البول
__________
(1) (أعلم أن اسم النميمة إنما يلطف على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وليست النميمة مختصة به، بل حدها كشف ما يكره كشفه سواء كره المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو كره ثالث، وسواء كان الكشف بالقول، أو بالكتابة، أو بالرمز، وسواي كان المنقول من الأعمال، أو من الأقوال، وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر، وهتك الستر عما يكره كشفه، فكل ما رآه الإنسان من أحوال الناس ما يكره ينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية. والنمام فاسق مردود الشهادة كما قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة} ونهانا المولى عز وجل عن تصديق النمام وسماع قوله، فقال تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم} فالنميمة من الكبائر التي تحمل ذنوباً جمة، وتدخل صاحبها النار، وتحرمه من نعيم الجنة، لأنها عنوان الدناءة والجبن، والضعف، الدس والكيد والملق، والنفاق، وهي تحبط الحسنات، وتضيع ثواب الأعمال الصالحات، وتزيل المحبة، وتبعد المودة، وتذهب التآخي والتصافي، والتعارف والاتحاد. عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) رواه البخاري. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (النميمة، والشتيمة، والحمية، في النار) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الهمازون، واللمازون، والمشاؤون بالنميمة الباغون للبراء العنت يحشرهم الله في وجوه الكلاب) رواه أبو الشيخ ابن حبان.(5/396)
الكبيرة الرابعة عشر: اليأس من رحمة الله تعالى (1) .
الكبيرة الخامسة عشرة: الأمن من مكر الله تعالى (2) .
الكبيرة السادسة عشرة: استحلال بيت الله الحرام (3) .
الكبيرة السابعة عشرة: منع ابن السبيل من فضل المال
الكبيرة الثامنة عشرة: عقوق الوالدين، وقد عرفت من الحديث الذي ذكرناه في شهادة الزور، أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى.
__________
(1) (القنوط واليأس من رحمة الله تعالى من الذنوب الكبائر، فإنه تبارك وتعالى قال: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} والمراد بالروح، أو الفرج عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن المؤمن من الله على خير، يرجه في البلاء، وحمده في الرخاء، واليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجمع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل عاجز. وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإن اليأس، والقنوط لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، فاليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً، لعدم علمه بالله تعالى وصفاته، أما المؤمن بالله العارف به فلا يقنط في حال من الأحوال، لآن رحمة الله وسعت كل شيء)
(2) (وكذلك من الذنوب الكبائر، الأمن من مكر الله تعالى والمراد به، عذابه من حيث لا يشعرون، فقد بين الله عز وجل أنه لا يأمن نزول عذابه على هذا الوجه إلا من خسر الدنيا الآخرة، لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر وفي الآخرة في أشد العذاب قال تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} أي لا يأمن بأس الله ونقمه وقرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم إلا الفاجرون المجرمون ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن مصداقاً لقول الله عز وجل: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون} )
(3) (ومن الذنوب الكبائر استحلال بيت الله الحرام فإن الله تعالى جعله آمنا وحرم القتال فيه. فقال تعالى: {ومن دخله كان آمناً} فإذا دخله الخائف يأمن كل سوء، وقال تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً} وقال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه، لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولا يقصد شوكهن ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا تختلى خلاها)(5/397)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الكبيرة السابعة عشر
منع ابن السبيل من فضل المال
إن الكرم والسخاء من صفات المؤمنين المخلصين، لأن الكريم من أسماء الله تعالى الحسنى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أجود الناس، وقد أمرنا الله في كتابه بالسخاء والجود، فقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء} وقال الله تعالى في صفات أهل الجنة: {ويطعمون الطعام على حبة مسكيناً ويتيما وأسيراً} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة أنه قال: (يا بن آدم أنفق أنفق عليك) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال جبريل: قال الله عز وجل إن هذا دين ارتضيته لنفس، ولا يصلحه إلا السخاء، وحسن الخلف، فأكرموه بهما ما استطعتم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جبل الله عز وجل ولياً له إلا على السخاء، وحسن الخلق) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جواد يحب الجواد، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الجواد دواء، وطعام البخيل داء) . ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البخل وذم الشح، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلمات لمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فأن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) قال صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن، البخل، وسوء الخلق) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة بخيل، ولا جبار، ولا منان، ولا سيء الملكة) وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من البخل) . وابن السبيل هو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى وطنه وكذا الذي يريد سفراً في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف كما قال على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي بالمسلمين فمن منع ابن السبيل من فضل ماله، وهو قادر على ذلك فقد أرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
الكبيرة الثامنة عشرة
عقوق الوالدين
قال العلماء في عقوق الوالدين أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما، وأن يسألاه في حاجة فلا يعطيهما، وأن يأمناه فيخونهما، وأن يجوعا فيشبع ولا يطعمهما، وأن يسقياه فيضربهما وهو من أكبر(5/398)
الكبيرة التاسعة عشرة الغلول في الحرب
-لقد عد العلماء من الكبائر إخفاء بعض غنائم، ويقال له غلول. فمن كان في
__________
الذنوب التي حرمها الله تعالى، لأن الله تعالى أمر عباده بعبادته أولاً، ثم أمرهم بعد عبادته بالإحسان إلى الوالدين وبرهما، وطاعتهما.
فقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} وقال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} فكما أن الشرك بالله تعالى وترك عبادته من أكبر الكبائر، كذلك ما قرن به وهو الإحسان إلى الوالدين فرض. وعقوقهما من أكبر الكبائر التي نهى الله تعالى عنها، بل إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ذكر أن من أكبر الكبائر الشرك بالله، ثم أردفه بعقوق الوالدين، وقدمه على جميع الكبائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس" رواه الإمام البخاري في صحيحه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه" رواه البخاري ومسلم وروي عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً، وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" رواه البخاري ومسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد" وقال صلوات الله وسلامه عليه: "الجنة تحت أقدام الأمهات" بل إن الله تعالى حرم دخول الجنة على عاق والديه، أو أحدهما، ثم مات قبل التوبة. أو مات والده وهما عليه غير راضيين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر" بل إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على العاق لوالديه بالبعد عن رحمة الله.
فقد روي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احضروا المنبر، فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين فلما نزل قلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه؟ قال: إن جبريل عليه السلام عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده، أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
روي عن أنس رضي الله عنه قال: "ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، فقال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين".
-(5/399)
ميدان القتال، وغنم من الأعداء شيئاً، أخفاه عمن معه، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر (1) .
__________
(1) (الغلول هو إخفاء بعض غنائم الحرب، وهو من الذنوب الكبائر، روي أن المسلمين فقدوا قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها. فأنزل الله تبارك وتعالى: {ما كان لنبي أن يغل، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} قال ابن عباس: وما يبغي لنبي أن يخون ويخص نفسه بشيء، ثم قال تعالى: {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وهو تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقد وردت السنة بالنهي عن هذه الكبيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء، يقول: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة، يحمل فرساً له حمحمة، يناديك يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدم ينادي: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك) . عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من ظهر البعير من المغنم، ثم يقول: (ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط، وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر، والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم) .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ردوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار، ونار، ونار على أهله يوم القيامة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحجر يرمى في جهنم فيهوي سبعين خريفاً ما يبلغ يوم القيامة) .
الحنفية والمالكية والشافعية قالوا: عقوبة الغال، الذي وجد مال من الغنائم في متاعه يعزره الإمام. الحنابلة قالوا: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق بما فيه، ويجلد دون حد المملوك، ويحرم نصيبه من الغنائم، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتم في متاعه غلولاً فأحرقوه قال: وأحسبه قال: واضربوه) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم خيبر اقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة") .(5/400)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الكبيرة العشرون ترك الصلاة متعمداً
إن الشارع الحكيم قد أمر المؤمنين بإقامة الصلاة وأدائها والمحافظة عليها والاهتمام بها فقال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} وقال تعالى: {الذين يقيمون الصلاة} والسنة كذلك. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن جميعاً الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت) رواه أحمد. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الصلاة متعمداً احب الله عمله، وبرئت منه ذمة الله حتى يراجع الله عز وجل توبة) رواه الأصفهاني. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من ترك الصلاة فقد كفر) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من ترك الصلاة فلا دين له) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (من لم يصل فهو كافر) . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم: أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر، لأنه تهجم على ترك أمره تعالى وقد وري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) .
المالكية، والشافعية قالوا: انه لا يكفر بل يفسق ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حداً كالزاني المحصن، ولكن يقتل بالسيف.
الحنفية والمزني صاحب الشافعي قالوا: إنه لا يكفر ولا يقتل، بل يعزر ويحبس حتى يصلي. وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) وليس فيه ترك الصلاة، فهو مؤمن عاص.
الحنابلة وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وبعض أصحاب الشافعي ومروي عن الإمام على كرم الله وجهه. قالوا: إن تارك الصلاة عمداً من غير عذر يكفر، واحتجوا على قتله بقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) . وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو أنه يؤول إلى الكفر وأن فعله فعل الكفار، والله(5/401)
وقد عد بعضهم السرقة من الكبائر، والواقع أن السرقة من شر الجرائم، ولكن الشارع لم ينص على أنها كبيرة، وإن ذكر أنها أسوأ من هذه الكبائر في الدنيا والآخرة. فقد نفى الإيمان عن السارق فقال: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) وفي بعض الروايات (فإن سرق فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه) . وقد جعل الشارع لها عقوبة شديدة، تتناسب مع فظاعتها، كما بيناه فيما سلف، على أن الغرض إنما هو عد الكبائر التي نص في الأحاديث على أنها كبائر، فليس الغرض حصر الجرائم الدينية في هذه الأشياء (1) .
__________
أعلم. وبعد الموت حكمه حكم المسلم تارك الصلاة: انه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وطمس قره إهانة له. وتطلق زوجته. والعياذ بالله تعالى)
(1) (اختلف العلماء من الصحابة والتابعين في الكبائر، من أربع، إلى سبع، إلى تسع، إلى إحدى عشرة، فما فوق ذلك، فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: هن أربع، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: الكبائر سبع وقال عبد الله بن عباس إذا بلغه قول ابن عمر: إن الكبائر سبع، يقول: هي إلى سبعين اقرب منها إلى سبع وقال مرة: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو من الكبائر وقال هو وغيره من الصحابة: كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار فهو من الكبائر. وقال بعض السلف: كل ما أوجب الحد في الدنيا فهو كبير' والصغائر عندهم من اللمم، وهو ما لأحد فيه، وما لم يتهدد بالنار عليه، فقد روي هذا عن أبي هريرة وغيره. وكان عبد الرزاق رضي الله عنه يقول: الكبائر إحدى عشرة، وهذا أكثر ما قيل في جملة عددها مجملاً وقيل: إنها مبهمة لا يعرف حقيقة عددها، كإبهام ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، والصلاة الوسطى، ليكون الناس على خوف ورجاء، فلا يقطعون بشيء، ولا يسكنون إلى شيء. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه فيها قولاً حسناً من طريق الاستنباط. وقد سئل عن الكبائر فقال: اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} فكل ما نهى عنه من أول السورة إلى ها هنا فهو من الكبائر. فأشبه هذا استدلالاً قول ابن عباس في استنباط ليلة القدر إنها ليلة سبع وعشرين أنه عد كلم سورة القدر حتى انتهى إلى قول (هي) فكان سبعاً وعشرين كلمة، والله أعلم بحقيقة هذين القولين.
قال أبو طالب المكي: والذي عندي في جملة ذلك مجتمعاً من المفرق سبع عشرة، تفصيلها: أربعة من أعمال القلوب وهن الشرك بالله تعالى، والإصرار على معصية الله تعالى، والقنوط من رحمة الله تعالى، والأمن من مكر الله تعالى، وأربعة في اللسان وهن شهادة الزور، وقذف المحصن، واليمين الغموس، والسحر - وثلاثة في البطن وهي شرب الخمر والسكر من الأشربة، وأكل مال اليتيم(5/402)
مبحث السحر
-وأما السحر الوارد في الحديث فإن المراد به الأقوال، والأفعال التي تنافي أصول الدين، وتتعارض مع الأخلاق الشرقية، ولهذا عرفه الفقهاء: بأنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه مقادير الكائنات، ولا ريب في أنه بهذا المعنى كبيرة من أفظع الكبائر، بل قد يكون ردة ظاهرة، بصرف النظر عما يترتب عليه من الآثار. لأن الذي يعظم غير الله بما هو مختص بالله وحده كافر.
وقد نقل عن بعض فاسدي الخلاق الذين يحترفون السحر أنه يسب الإله، ويسجد لما يسميه قرينة، ومنهم من يضع المصحف الشريف تحت قدمه، ومنهم من يهين الملائكة بالسب، ومنهم من يصف الإله بما لا يليق به، وكل ذلك ردة صريحة، وكفر شنيع بلا نزاع. وهو من أكبر الجرائم سواء ترتب عليه الأثر المطلوب أولا.
وقد فسر بعض الفقهاء السحر بأنه أمر خارق للعادة ينشأ عن سبب معتاد، ثم إن هذا السبب إن كان هو العبارات الفاحشة التي أشرنا إليها كان ردة، وإن كان بالعبارات الخالية من ذلك كالأسماء الإلهية، أو استعمال معاني الأحرف التي لا تنافي الدين، فإنه ينظر فيما يترتب عليه من الآثار. فإن ترتب عليه ضرر لمظلوم غافل، أو إساءة إلى بريء في نفس أو مال، فإنه يكون محرماً (1) .
__________
ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم، واثنتان في الفرج، وأن يعمل عمل قوم لوط في الأدبار، واثنتان في اليدين. وهما القتل والسرقة وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف، الواحد من اثنين، وواحدة في جميع البدن وهي عقوق الوالدين، فهذه الكبائر الموبقات التي من أجتنبها كفرت عنه السيئات، وثبتت له النوافل من الفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام، قال تعالى: {أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} )
-
(1) (المالكية قالوا: إن مباشرة السحر كفر وارتداد عن الإسلام، سواء كانت المباشرة من جهة تعلمه، أو تعليمنه، أو المل به لأن لسحر كلام يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير. ثم إن تجاهر به فيقتل أن لم يتب وإن اسره فحكم الزنجيق يقتل بدون ستتابة. وشرط بعضهم عدم الاستتابة مطلقاً، أسره، أو أظهره، وحكم الزنديق على حال أن جاء تائبا قبل الإطلاع عليه، قبل وإلا فلا.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إن السحر له حقيقة مؤثرة، وقد يموت المسحور بسبب السحر، أو يتغير طبعه وعادته، وأن لم يباشره وإن الساحر يقوى على قهر الخصوم من غير ممارسة الحروب والقتال.(5/403)
وحاصله أنه إذا كان أقوالاً وأفعالاً تنافي الدين وتوجب تكفير صاحبها، كان كفراً بصرف النظر عما يترتب عليه من الآثار، وإن كانت هذه الأقوال أو الأفعال محرمة كان حراماً، أما إن كانت جائزة فإنه ينظر لما يترتب عليها من الآثار. فإن كانت محرمة كان حراماً، وإلا فلا.
هذا هو حكم كثير من العلماء في حقيقة السحر. فقال بعضهم: أنه تخيل لا حقيقة له، والى هذا الرأي ذهب كثير من العلماء، ومنهم الاستراباذي من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وأبن حزم وكثير من العلماء غير هؤلاء.
فهذه الفئة تجزم بأن السحر هو من باب الخيال، كاللعاب السيمائية التي يقوم بها مهارة الهواة ومن على شاكلتهم، ولكن جمهور العلماء يقولون: إن للسحر حقيقة، وقد تترتب عليه آثار حقيقية، وهؤلاء فريقان: فريق قال: إن الآثار المترتبة عليه محدودة فقد ينقلب بالسحر الحيوان إنساناً، وبالعكس، ولكن قائل هذا، لم يعول عليه. والرأي المعتمد هو الأول. وقد ذكر بعض المحققين: أن السحر صناعة من الصناعات التي يستخدمها الإنسان في إظهار الأمور على غير ما هي عليه في الواقع، وقد يكون لبعض أنواع السحر تأثيرها ما على بعض النفوس أو الأبدان.
هذا هو رأي المحققين من العلماء. على أن الباحث في هذه المسألة يجب عليه أن ينظر إلى الواقع ويجعل للنظر الصحيح قيمته في حكمه، فهل هناك أدلة واقعية تثبت أن السحر قد ترتبت عليه آثار صحيحة، وهل هناك أدلة من الكتاب أو السنة الصحيحة تدل على ذلك (1) .
__________
وقيل: إن الساحر قد يصير بحيث تخبره الأرواح بالحوادث التي ستقع قبل وقوعها ليمكنه الاحتراز عنها.
وقد اختلف العلماء في تعريفه فقال صاحب إرشاد المقاصد: هو علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية وعرفه أبن العربي بقوله: هو كلام مؤلف يعظم فيه غير الله عز وجل وتنسب إليه الكائنات والمقاردير، وعرفه بعضهمك هو علم يغير الطبع، ويقلب الشيء عن حقيقته. ولا نزاع في تحريم العمل به وتعلمهن وهو على قسمين حقيقي وغير حقيقي، ويسمى السيماء وسحرة فرعون برعوا في النوعي قال تعالى: {واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم} ) .
(1) (قالوا: للسحر حقيقة وتأثير في إيلام الأجسام، خلا من منع ذلك. وقال: إنما هو تخيل.(5/404)
والواقع أن الذين قد شهروا بإتقان السحر هم قدماء المصريين، وهؤلاء قد تحدث عنهم القرآن الكريم فقد اخبرنا بأن فرعون قد جمع من قومه كل سحار عليم، وجاء بهم مجتمعين، فماذا كان من أمرهم؟ إنهم لم يأتوا إلا بخيال لا حقيقة له، كما قال تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} فهذا صريح في أن سحرة فرعون وهم أمهر السحرة لم يأتوا إلا بخيال لا حقيقة له، ولو كان للسحر اثر حقيقي لجاؤوا به في هذا الوقت العصيب، وليس من المعقول أبداً أن يأتي فرعون بكل سحار عنيد في مقام الانتصار لعز شيء عندهم، ثم يكون قصار أمرهم أن يأتوا بخيال لا حقيقة له، وهم عالمون بغيره، والواقع أن هذه الآية تدل دلالة واضحة على أن قصاري أمر السحر هو ذلك الخيال الذي جاء به سحرة فرعون.
__________
قالوا: وتعليم السحر حرام بلا خلاف عندهم، واعتقاد إباحته كفر.
الحنفية، والمالكية والحنابلة قالوا: يكفر السارح بتعلمه السحر، وفعله، سواء اعتقد تحريمه، أولا، ويجب على الحاكم قتله، وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم.
كما روي عن جندب بن عبد الله، وحبيبب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز رضا، الله عليهم فإنهم قتلوا الساحر بدون الاستتابة، وفيه حديث مرفوع رواه الشيخ أو بكر الرازي في أحكام القرآن، حدّثنا أبن قانع، حدّثنا بشر بن موسى، حدّثنا أبن الأصفهاني، حدّثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حد الساحر، ضربه بالسيف" يعني القتل. وقصة جندب في قتله الساحر بالكوفة عن الوليد بن عتبة مشهورة.
الشافعية قالوا: لا يقتل الساحر ولا يكفر، إلا اعتقد إباحته.
أما الكاهن فقيل: هو الساحر، وقيل: هو العراف، وهو الذي يحدث ويتخرص، وقيل: هو الذي له من لجن من يأتيه بالأخبار.
الحنفية قالوا: إن الكاهن إن اعقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر، وإن اعتقد أنه تخيل لم يكفر.
الشافعية - قالوا: إن الكاهن إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب، وأنها تفعل ما يلتمسه منها كفر.
الحنابلة قالوا: إن الكاهن حكمه حكم الساحر، فيقتل لقوله سيدنا عمر رضي الله عنه: (اقتلوا كل ساحر وكاهن) وفي رواية إن تاب لم يقتل، ويجب أن لا يعدل عن قول الشافعية في كفر الساحر والعراف وعدمه، وأما قتله فيجب، ولا يستتاب إذا عرفت مزاولته لعمل السحر لسعيه بالفساد في الأرض لا بمجرد عمله، إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره، قالوا: ولا تقبل توبة الساحر والزنديق وهو من لا دين له.(5/405)
فهذه هي حجة الذين يرون أن السحر خيال لا حقيقة له.
أما الفريق الثاني فإنه يحتج بقصة هاروت وماروت الواردة في القرآن الكريم قال تعال: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحرن وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} .
ولكن الواقع أن هذه الآية الكريمة لا تصلح حجة لأنها لم تتعرض لحقيقة السحر فقد يكون نوعاً من أنواع الفتنة، أو الحيلة التي يسعى بها بعض النمامين للتفريق بين الزوجين،
__________
وقد ورد الشرع بذم السحر قال تعالى: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} أي حيث كان وأين أقبل. وقال تعلاى: {ولا يفلح الساحرون} أي لا يظفرون بمطلوب، ولا ينجون من مكروه.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده الرسول صلوات الله وسلامه عليه من الموبقات السبع، ومن السحر ما يكون كفراً، ومنه ما لا يكون كفراً بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر، وإلا فلا.
المالكية رحمهم الله قالوا: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، بل يتحتم قتله كالزنديق: قال عياض: وقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين، وذلك فيمن عمل به للباطل والشر.
أما من تعلمه لفك المسحور، ومنع الأذى عنه، أو تعلمه للعلم فقط ولم يعمل به فهو جائز.
وقد سئل الإمام أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور، فقال: لا بأس به، وهذا هو المعتمد، فحكم السحر تابع للقصد، فمن فصد به الخير جاز له، وإلا حرم عليه، إلا أن أدى إلى الشرك، وإلا كان كافراً.
ولا يقتل الساحر إلا أن يقتل أحداً بسحره، ويثبت عليه بإقراره، وأما إذا كان ذمياً، وأوصل بسحره ضرراً لميلم يكون قد نقض العهد ويحل قتله، وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم على سحره وقد كان ذمياً لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي إذا قتل لبيد بن الأعصم أن تقوم فتنة بين المسلمين في المدينة. لأنه كان من بين زريق، وهم بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان الناس حديثي بالإسلام.
وقد تبين من هذا أن السحر حق، وواقع، وقد وقع لكثير من الناس، ولا يزال يقع، ولو أنه قد قل في هذا الزمان، وقد وقع لسيدنا موسى عليه السلام كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لاتخف إنك أنت الأعلى} غير أن هذا السحر الذي وقع له لم يكن له أي تأثير في العقل، ولا في الوحي، ولا فيما يبلغه للناس من الأحكام، بل هو كسائر الأعراض البشرية الجائزة في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلا ينافي العصمة) .(5/406)
ولهذا حدثت الآية عن الآثار المترتبة على أعمال هؤلاء، فقد قال تعالى: {فيتعلمون منهما ما يقرفون به بين المرء وزوجه} فكل ما كان يترتب على فعلهم من الآثار هو الفرقة بين المرء وزوجه، وهذه مسألة قد تقع بغير السحر الخارق للعادة، ولنا من الواقع ما يؤيد هذا، فإن كثيراً من النمامين قد أحدثوا فتنة تفق بين الزوجين، فليس في الآية الكريمة حدة على أن السحر له أثر حقيقي، ولم يبق للقائلين بأن السحر له أثر حقيقي إلا ألاستدلال بحديث البخاري الذي رواه عن السيدة عائشة من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، وأنه كان يخيل إليه أن يفعل الشيء، ولم يفعل (1) وهذا حديث صحيح لم يتعرض أحد للقدح في أحد من رواته، وليس من الحسن أن يقال: إن مثل هذه الأحاديث. تجزئ في المسائل الفرعية، لا في المسائل الاعتقادية. فإن العقائد لا تبنى إلا على الأدلة اليقينية، والأحاديث مهما كانت صحيحة فهي أحاديث آحاد لا
__________
(1) (روى الإمام البخاري في صحيحه فقال: حدثني محمد بن المثنى، حدّثنا يحيى بن هشام، قال: حدّثني أبي عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يحيل إليه أنه صنع شيئاً ولم يصنعه) وفي رواية أخرى قال البخاري رحمه الله قال: حدّثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي: لكنه دعا ودعا، ثم قال: يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فما استفتيته فيه: أتاني رجلان فقعد أحهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لساحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء. قال: في مشط ومشاطة وجف طلغ نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ هال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، قلت: يا رسول الله أفلا أستخرجته؟ قال: قد عافاني الله فكرهت أن أثير على عيينة يقول: أول من حدّثنا بن أبن جريج يقول: حدّثني آل عروة عن عروة، فسألت هشاماً عنه، فحدثنا عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر".
من هذه الروايات وغيرها تعلم أن السحر حق ثابت، وقد وقع وحصل لأنه ثابت بنص القرآن الكريم قال تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} وقال تعالى: {ما جئتم به السحر إن الله سيبطله} وقال تعالى: {ولا يقلح الساحرون} وقال تعالى: {إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى} وقال تبارك وتعالى: {إنه لكبير الذي علمكم السحر} وقال تعالى: {غنا آمنا بربنا ليغفر لنا خكايانا وما أكرهتنا عليه من السحر} .
وقد ذكر العلماء الن السحر أنواع كثيرة:(5/407)
تفيد إلا الظن لأن الأحاديث الصحيحة يجب أن يكون لها قيمتها في الإثبات، فهي معضدة للبراهين العقلية.
وإنما يجب أن نفهم الحديث على وجه يطابق أصول الدين، ويوافق ما يقضي به الفعل السليم، وإلا فلا يصح لنا أن نحتج به على عقيدة من العقائد.
فهذا الحديث الذي رواه البخاري فيه شيء يجب أن ننزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول عائشة رضي الله عنها: "أنه كان يخيل إليه يفعل الشيء ولم يفعل" لأنه إذا أخذ على ظاهره كان قدحاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المصون المنزه في تفكيره، وإدراكه عن كل شائبة من شوائب النقص، ولهذا يجب أن نفهم هذه الجملة على وجه معقول واضح:
إن هذه الجملة نطقت بها السيدة عائشة تريد بها أنه كان يخيل إليه أن يأتيها فلم يستطع، وبالتالي أنه كان يجد في نفسه رقبة في جماعها، فإذا هم بها عجز عن الفعل، ونظراً لكون هذا متعلقاُ بها عبرت عنه بهذه العبارة حياء، ويدل على ذلك ما رواه عبد الرزاق عن أبن المسيب، وعروة بن الزبير رضي الله عنهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر في هذا المعنى فقط، وأن السحر لم
__________
- 1 - ما يقع بخداع وتمويه فيحدث تخيلات لا حقيقة لها، وهو ما يفعله المشعوذون بحذق ومهارة، وخفة وسرعة، مع طول المران والتدريب، فيصرفون الأنظار عما يتعاطونه بشعوذتهم، وهو (السيمياء) قال تعالى: {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم} وقال تعالى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل غليه من سحرهم أنها تسعى} وهذا النوع شائع وذائع للآن خصوصاً في بلاد الهند.
- 2 - ما يقع بالرقى، والنفث في العقد وتصوير صورة المسحور، والتأثير فيه بأمور يسمعونها من تلاوة وقراءة، وكتابةن ورسوم يتوصلون به إلى الأذى والشر، قال تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد} والنفاثات السواحر، وهذه الرقى والعزائم التي يتلونها قد تكون مشتملة على أسما الله الحسنى، أو أسماء ملائكته الكرام. وقد تكون العزيمة مشتملة على ايمان، وأقسام عظيمة يلجئ الرواح إلى الطاعة لتنفيذ ما يطلبونه منها، وهذه الرقى التي يقرؤها السحرة قد تكون معلومة، وقد تكون غير معلومة المعنى، بل هي ألفاظ مجهولة، وكأنها رطانة، أو كلمات سريانية، كأنها اسماء للجان، أو لأرواح خفية غير معلومة.
- 3 - ما يقع عن الطلسمات، والخواتم التي تكتب بطريقة خاصة مغايرة للكلمات العربية. أو أحرف عربية مقطعة لا صلة بينها موضوعة بطريقة خاصة وحقيقتها نفس اسماء خاصة لها تعلق بالأفلاكن وكذل الوقات التي ترجع إلى مناسبات الأعداد، وجعلها على شكل مخصوص.
- 4 - ما يقع بواسطة الكواكب والنجوم، فإن الله تعالى خص كل واحد من الكواكب وهذه(5/408)
يحدث في قواه الباطنة أي أثر، بل حبسه عن اتيان زوجه عائشة، وهذا هو النوع مالمعروف بين الناس، لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن التأثر في أي ناحية من نواحي الإدراك بأي ناحية من نواحي الإدراك بأي أثر، ولو مؤقتاً.
ولقد قال في فتح الباري: إن بعض العلماء قال: أن تأثير السحر منحصر في التفريق بين المرء وزوجه، أو نحو ذلك، فإذا فهمنا هذا الحديث على هذا الوجه، لم يكن فيه ذلك الضرر
__________
النجوم بقوة وبخاصية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص، قال تعالى: {فنظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم} قال أبن زيد: كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم عليه السلام، فلما رآه ذلك الوقت طالعا على تلك الصفة المخصوصة. قال: إني سقيم، أي هذا السقم واقع لا محالة، وكان القوم نجامين فأفهمهم أنه قد استدل بأمارة من تلك النجوم على أنه سقيم لابد مشرف على السقم {فتولوا عنه مدبرين} خوفاً من العدوى. وقد يضاف السحر إلى الآثار السماوي من الاتصالات الملكية، وغيرها من أحوال الأفلاك.
- 5 - ما يقع باستخدام الشياطين بضرب من التقرب إليهم، والإتصال بهم، وساخدامهم، وتسخيرهم في قضاء المصالح، أو إقاع الضرر والأذى بالخلق، أو الإتيان بأخبارهم الماضية عن طريق اتصاله بالقرين. وهذا أشد انواع السحر وأخطره: قال تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} وكلما كان الساحر أكفر وأخبث، وأشد معاداة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى ,انفذ، وهذا الصنف من الناس هم أتباع الجن وعباده قال الله تعالى {بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم به مؤمنون} وقال تعالى: {ولبئس المولى ولبئس العشير} فالشياطين لا تسخر له ولا تقضي حوائجه إلا إذا أطاعها فيما تطلبه منه، وهي خبيثة كافرة لا تطلب من المؤمن إلا الكفر والضلال.
قالوا: وللسحر تأثير في المسحور فيغير مزاجه ويصيبه بأمراض عصبية، وتخيلات ختلفة، قود يؤثر في قوته فيضعفه، وقد يصل به إلى القتلن وبالسحر يستطعيون أن يفرقوا بين المرء وزوجه، ويفسدوا العلاقة الزوجية، ويحولوا حياتهما إلى جحيم، وقد تصل إلى الطلاق والفرقة، ويوقعوا بين المحبين العداوة والبغضاء والقطيعة، قال تعالى: {فيتعملون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} .
ويندفع شر السحر بالتعوذ الله تعالى والتحصن به، واللجوء إليه، وبتقوى الله تعالى وأداء حقوقه ومراقتبه، فمن اتقى الله تعالى تولى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} .
وقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا عبد الله بن عباس: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) . ويندفع شر السحر أيضاً، بقوة الإيمان، وصدق اليقين، وثبات العيزيمة، والتوكلعلى الله حق التوكل، وإن السحر مهما كانت صفته فلا يضره إلا باذن الله عز وجل قال تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} القادر على كل شيء الذي إذا شاء اثر سحرهم ابتلاء منه سبحانه وتعالى أو عقاباً للمسحور على عصيانه، وإذا شاء تعالى أبطل سحرهم، وحفظ المسحور من شرهم وعصمه من كيدهم.(5/409)
الذي حول به بعضهم، وأنكر من أجله الحديث فلا مانع حينئذ من أن يكون للسحر بعض التأثير الحقيقي في بعض الأحيان على أن هذا الحديث لا يدل دلالة قاطعة طبعاً لأنه لا يفيد إلا
__________
فلا يعبأ المؤمن القوي بالسحر، ولايخافه ولا يهتم له، ولا يشغل فكره، ولا ينعال ذلك إلا باوثوق التام بالله تعالى والاطمئنان العظيم غليه، وإن كل شيء بيده تبارك وتعالى {أن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله} فلا يشغل قلبه بالساحر وما صنع وإنما يشغل قلبه بالله وطاعته وحسن عباته، وافكثار من ذكره عز وجل، فيفوز بحفظه ونصرته. {إن تنصروا الله نيصركم ويثبت أقدامكم} وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) فتوحيد الله تعالى واعتقادا أنه الضار، النافع، المعطي المانع، ذلك هو الحصن العظم، الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف. من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء قال تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يجب كل خوان كفور} .
ومن فضل الله تعالى أن السحر وأهله كادا ينقرضان في هذا الزمان، ومن ادعى ذلك الان فإنما هو كاذب خادع، يضل الناس، ويسعى لكسب المال منهم بطريق النصب والاحتيال، والوهم والخديعة، والحوادث كثيرة تدل على انهم مدعون كاذبون لا يعرفون من السحر إلا اسمه، ومن علمه إلا رسمه، {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون} .
ويؤثر السحر غالباً في ضعاف النفوس كالأطفال والمرضى، والنساء، وفي ضعاف الدين، وما حدث للرسل والأنبياء كان للابتلاء والاختبار والتشريع.
وأما ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر فلم يكن له أي تأثير في عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الوحي الذي كان يبلغه للمة، ولا في الأحكام التي كان يشرعها لقومه. وإنما هو أمر عارض للجسم كسائر الأعراض البشرية الجائزة في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فلا ينافي العصمة. وقد تدارك الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأرسل غليه الملكين فأخبراه بمكان السحر، واسم صانعه فلم ينل منه ما قصده الساحر وكيف يحصل ها والله يقول في كتابه: {والله يعصمك من الناس} وكل هذا من باب التشريع، ولو شاء ربك ما فعلوه، لتعلم أن المؤمن المحبوب لدى ربه بصالح عمله، وجميل سعيه يدافع الله عنه ويحرسه من كيد أعدائه وشر خصومه، وإن الحسنات يذهبن السيئات، ويمحقن الآفات، وأنه صلوات الله وسلامه عليه أمام قدرة ربه عبد يبتلى فيصبر ويرضى بقضاء الله وقدره، فينجيه الله من سوء، ويحفظه من كل ضر، كما ابتلى الله الأنبياء من قبله فصبروا فنجاهم الله تعالى {وأيوب إذا نادى ربه انى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر} ، {ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له وأهله من الكرب العظيم} .(5/410)
الظن، ولهذا قال المنكرون للسحر: إن مثل هذا الحديث الصحيح يصح الاحتجاج به في الأحكام الفقهية الفرعية، أما في إثبات عقيدة فلا. لأن اعتقاد أن السحر له تأثير حقيقي لا يمكن إثباته إلا بالدليل العقلي الذي يؤيده الواقع، ولم يوجد في الخارج إلا حوادث أحادية ينقلها أناس غير تقاة، ولو كان له حقيقة لقصها علينا كتاب الله تعالى في مسألة سحر فرعون
__________
ومع ثبوت هذه الأحاديث التي ذكرناها، الواردة في الكتب الصحاح في وقوع السحر للرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أنكر بعض المبتدعة هذه الحاديث، وقال بعضهم إنها أخبار آحاد فلا يعمل بها، وزعموا أن السحر يحط من منصب النبوة، ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل.
وقالوا: إن جواز السحر على الأنبياء يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع للعباد، إذ يحتمل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحيل إليه أن يرى جبريل، وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، وكلامهم هذا مردود من عدة وجوه.
- 1 - لقد قامت البراهين من المعجزات، والنصوص الصريحة من القرآن والسنة النبوية على صدقه صلى الله عليه وسلم فيما بلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ قال تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى} وقال تعالى: {والله يعصمك من الناس} وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فاتنهوا} وقال تعالى: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء} فتلك الآيات وغيرها أدلة قاطعة على أنه صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق فيما قال، وبلغ، وإن الله عصمه من الضلال، وحفظ عقله من الزلل.
- 2 - وقد أجمع الرواة على أن هذا السحر لم يكن له أي أثر في عقله صلى الله عليه وسلم، بل كان تأثيره في جسمه وبصره كغيره من الأمراض الجسمية، وقد وقع السحر لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام فكان يخيل غليه في رأي العين كما قال تعالى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} فكان هذا السحر من باب المراض الجسيمة، وتلك جائزة على النبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن المراض غير المنفرة جائزة في حقهم، فهي من الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتهم العلية، مع عصمتهم في أمور الدين، والتبليغ، وحفظ الوحي الشريف.
- 3 - أجمع الرواة على أن الرسول اصلوات الله وسلامه عليه لم ينطق أثناء مرضه بهذا السحر بغير الصواب والصدق والحق، حتى في الأمور العادية، فكان يرى ويظن كالخاطر يعرض في النفس، ولا يتعداها حتى يرجع إلى الصواب والحق فينطق بهما، ولم ينطق بغيرهما قط، لا في مرضه هذا، ولا في غيره طوال حياته صلى الله عليه وسلم.
- 4 - أجمعت الأحاديث الواردة في هذا الباب على أن السحر لم ينل إلا من جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم،(5/411)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فكان يرى ببصره أن هذا الشيء كذا، ثم يراه على صوابه بعد قليل، وأنه يخيل غليه أنه قادر على إتيان زوجاته، ثم لا يستطيع، أما عقله الشريف فكان على أتم ما يكون طوال مدة المرض، بدليل أنه فوض أمره لله تعالى في مبدأ المرص ثم تداوى، ثم لما اشتدت به وطأة المرض لجأ إلى الدعاء، كما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فدعا ثم دعا، وهذه الأحوال من التفويضن ثم التداوي، ثم الدعاء دليل على أن عقله صلى الله عليه وسلم محفوظ محروس وعصوم لم ينل منه السحر منالاً، وعنها أنه سحر حتى انكره بصره، فالسحر أنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله وتمييزه) .(5/412)