أخرج أقل من نصاب لم يقطع (1) , ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب مالك فهم يرون قطع المعين من الخارج أو من الداخل بنفس الشروط وعلى الكيفية التى يراها المالكيون (2) .
هذا هو حكم الإعانة على الإخراج فى مختلف المذاهب الإسلامية, وظاهر منه أن المعين على الإخراج يعتبر فاعلاً أصلياً للسرقة ويعاقب بالقطع كمباشر السرقة, أما الشريك بالاتفاق أو التحريض أو المساعدة كما نعرفه فى القوانين الوضعية فلا قطع عليه وعليه التعزير ما دام أنه لا يعين على إخراج المسروق من الحرز, والشريك على أحد هذه الوجوه يسمى فى الشريعة الإسلامية الشريك بالتسبب أما الفاعل الأصلى المشترك مع غيره فيسمى الشريك المباشر.
602- الأخذ بالتسبب: معناه أن لا يباشر السارق إخراج المسروقات من الحرز بنفسه وإنما يؤدى فعله بطريق غير مباشر إلى إخراج المسروقات, مثل أن يضع المسروق على ظهر دابة ويسوقها فتخرج منه من الحرز, أو يلقى بالمسروق فى ماء جار إلى خارج المنزل فيخرجه التيار, أو يرميه فى ماء راكد ثم يفتح مجرى الماء, أو يعرض المسروق لريح هابة فتطير المسروق إلى الخارج, أو يربطه على طائر ويطيره فيخرج المسروق, أو يأمر صغيراً أو معتوهاً بإخراج المسروق فيخرجه, أو أن يستتبع سَخْلَ شاة أو فصيل ناقة أو غيرها مثل أن يشترى الأم والسخل على ملك الغير فى حرز فيأتى بالأم إلى مكان السخل ويريه أمه حتى يتبعها, وكذلك العكس نحو أن يأتى فى مكان أمه وهى فى حرز مالكها حتى يستتبع الأم سخلها بأن يبعثه عليها حتى تتبعه, أو أشار لشاة فى الحرز بالعلف حتى خرجت إليه فأخذها (3) .
والأخذ بالتسبب كالأخذ المباشر عقوبته القطع بشرط أن تتم شروط
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص138, نهاية المحتاج ج7 ص421.
(2) شرح الأزهار ج4 ص366, 368.
(3) كشاف القناع ج4 ص80, نهاية المحتاج ج7 ص437, أسنى المطالب ج4 ص148, شرح الأزهار ج4 ص367, مواهب الجليل ج6 ص308, شرح فتح القدير ج4 ص243.(2/536)
الأخذ فيخرج المسروق من حرزه ومن حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة الجاني, ويراعى فى الأخذ بالتسبب ما سبق ذكره من وجوه الخلاف بين الفقهاء وعلى الأخص نظرية أبى حنيفة فى هتك الحرز هتكاً متكاملاً ونظريته فى المعترض, فمثلاً فى حالة استتباع السخل أو تفصيل يرى أبو حنيفة أن الأخذ غير تام لأن الجانى لم يهتك الحرز هتكاً متكاملاً, ويخالفه أبو يوسف فى هذا ويرى كما يرى فقهاء المذاهب الأخرى بأن الأخذ تام. وفى حالة وضع المسروق فى ماء جار وعثور آخر عليه وأخذه, برى أبو حنيفة أن الأخذ غير تام لأن يداً اعترضت يد السارق.
ويشترط فى الأخذ خفية أن يفعل الحيازة كاملة دون حق من المجنى عليه للجانى أى أن ينقل الحيازة بعنصريها المادى والمعنوى عنصر التبعة وعنصر الملك, فإن نقل أحد العنصرين دون الآخر ولو بغير حق فلا يعتبر الفعل سرقة, فالمعير الذى يأخذ متاعه خفية عن المستعير, والمؤجر الذى يأخذ متاعه خفية عن المستأجر, والأصيل الذى يأخذ متاعه خفية عن الوكيل, والمودع الذى يأخذ متاعه خفية عن المودع لديه, والراهن الذى يأخذ المرهون خفية عن المرتهن, والمشترى الذى يأخذ المبيع خفية عن البائع ولو أن ميعاد لتسليم لم يحل بعد, والمستأجر أو المرتهن أو المودع لديه أو المستعير الذى يأخذ الشىء المؤجر أو المرهون أو المودع أو المعار فى خفية عن المالك, والمشترى الذى يأخذ المبيع قبل تسليم الثمن أو فى زمن الخيار, والموهوب له الذى يأخذ ما وهب له خفية -كل هؤلاء لا يعتبر أحدهم آخذاً خفيه لأن أخذه لا ينقل إلا أحد عنصرى الحيازة فقط (1) .
ويشترط فى المسروق أن يكون مما هو خالص لغيره أى ليس للسارق فيه ملك ولا حق بل المستحق له غيره. ويشترط فى الأخذ خفية أن يكون الشىء
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص70, مواهب الجليل ج6 ص307, شرح الزرقانى ج8 ص97, أسنى= =المطالب ج4 ص138, كشاف القناع ج4 ص77, 79, المغنى ج10 ص277, شرح الأزهار ج4 ص365.(2/537)
المسروق فى يد المجنى عليه أو أى شخص آخر يقوم مقامه كالمستأجر والمستعير كما يشترط أن لا يكون فى يد الجانى ولا تحت سلطانه, فإذا كان الشىء فى يد الجانى أو تحت سلطانه من قبل فلا يعتبر الفعل السرقة تقتضى الأخذ خفية والأخذ خفية لا يكون إلا من يد المجنى عليه أو من يمثله, ولا يعتبر الجانى آخذاً خفية إذا كان يمثل المجنى عليه فى حيازة الشىء أو كان المجنى عليه قد مكنه من الشىء ومنحه سلطة عليه, وعلى هذا لا يعتبر الوكيل سارقاً لأنه يمثل المجنى عليه, ولا يعتبر الخادم سارقاً مما وضع فى يده أو أمكن منه ومنح سلطة عليه.
وما يشترط فى الشريعة من أن ينقل الآخذ الحيازة كاملة بعنصريها المادى والمعنوى هو نفس النظرية التى قال بها جارسون لتحديد الأفعال التى تعتبر سرقة. فهو يفرق بين الحيازة الكاملة التى تشمل الركن المادى والركن المعنوى للحيازة وهى حيازة المالك, وبين الحيازة المؤقتة التى تشمل الركن المادى فقط كحيازة المستأجر والمرتهن والمستعير, كما يفرق بين هذين الفرعين من الحيازة وبين اليد المعارضة التى لا تمنح صاحبها أى حق أو سلطة على شىء. ويعرف جارسون الاختلاس وهو الفعل المادى المكون للسرقة بأنه الاستيلاء على حيازة الشىء الكاملة, أو هو اعتيال الحيازة ركنيها المادى والمعنوى. فالنظرية التى وصل إليها الفقه والقضاء أخيراً وتولى تنظيمها وشرحها جارسون هى نظرية الفقه الإسلامى.
603- التسليم ينفى الأخذ خفية: واضح من كل ما سبق أن التسليم يمنع من القول بأن الشىء أخذ خفية لأن الأخذ يقتضى أن يؤخذ الشىء من يد المجنى عليه أو من يمثله دون علمه ودون رضاه معاً, والتسليم يجعل المجنى عليه عالماً بأخذ الشىء سواء توفر الرضاء أو انعدم, ويستوى أن يكون المجنى عليه راضياً بالتسليم أو مكرهاً عليه, فالفعل فى الحالين ليس سرقة. وإن كان من الممكن أن يكون الفعل حرابة فى حالة الإكراه إذا توفرت بقية أركان جريمة الحرابة؛ لأن جريمة الحرابة لا يشترط فيها الأخذ خفية وإنما يكون الأخذ فيها مغالبة, ويمنع التسليم من توفر ركن الأخذ خفية سواء نقل التسليم الحيازة كاملة أو ناقصة أو ترتب(2/538)
عليه تمكين الجانى من الشىء أو منحه سلطة عليه كحالة الطباخ مثلاً تسلم إليه أدوات المطبخ لاستعمالها.
ويسوى أن يكون التسليم ناشئاً عن خطأ أو عن غش أو قصد به مجرد تمكين الجانى من الاطلاع على الشىء المسروق أو التفرج عليه أو فحصه.
ففى هذه الحالات جميعاً يمنع التسليم من اعتبار الشىء مأخوذاً خفية لأن الأخذ خفية يجب أن يكون بغير علم المجنى عليه وبغير رضاه معاً, وإذا كان لم يمكن اعتبار الشىء الذى سلم للجانى للفحص والتفرج والاطلاع مسروقاً طبقاً للشريعة فإن هذا الشىء يمكن اعتباره مختلساًَ طبقاً للشريعة.
والاختلاس كما قلنا نوع من السرقة لا يشترط فيه العلم ويشترط فيه عدم الرضاء فقط وعقوبته التعزير لا القطع. والاختلاس فى الشريعة يتفق فى شروطه وأحكامه مع شروط وأحكام جريمة السرقة فى قانونى العقوبات المصرى والفرنسى.
ولا يعتبر الفعل سرقة إذا تسلم الجانى المبيع على أن يدفع ثمنه فوراً فأخذه وهرب, أو إذا تسلم ورقة مالية أو قطعة نقود كبيرة ليصرفها نقوداً صغيرة فأخذها وهرب, والمانع من اعتبار الفعل سرقة هو التسليم لأن فى التسليم علم المجنى عليه بالفعل والعلم يمنع من تكون ركن الأخذ خفية, وإذا كان الفعل لا يعتبر سرقة فمن الممكن أن يعتبر اختلاساً طبقاً لقواعد الشريعة.
وإذا كان التسليم ممن لا شعور له أو اختيار, كسكران أو مجنون أو طفل غير مميز, فإنه يمنع أيضاً من تكون ركن الأخذ خفية لأن فقد الشعور والاختيار إذا كان يمنع من حصول التسليم اختياراً فإنه لا يمنع غالباً من العلم بحصول التسليم, وإذا توفر العلم بالأخذ انعدم أحد أركان السرقة وهو الأخذ خفية, وحتى إذا أمكن القول بأن علم الصغير والمجنون والسكران غير معتبر فإن هذا العلم غير المعتبر يكون شبهة تدرأ الحد فلا يقطع الجانى ويكتفى فى عقابه بالتعزير.
وتمكين الجانى من الشىء أو السماح له بدخول محل المسروق فى حكم تسليم(2/539)
الشىء المسروق إلى الجاني, فالسرقة التى تقع من العمال أو الخدم والنزلاء وما أشبه لا قطع فيها إذا كانت السرقة واقعة على شىء فى المحل الذى يعمل فيه الخادم أو العامل أو يدخله النزيل أو فى المحلات المصرح لهم بدخولها؛ لأن الإذن للعامل والخادم والنزيل بدخول المحل يبطل الحرز فيكون الأخذ أخذاً من غير حرز ومن ثم لا تتم شروط الأخذ خفية وتكون السرقة سرقة مال غير محرز, ولا قطع فى سرقة المال غير المحرز وإنما فيها التعزير, وسنعود للكلام على هذه النقطة بتوسع بمناسبة الكلام عن الحرز.
وإذا أخذ المكلف بنقل الأشياء بعض ما كُلِّف بنقله فعمله لا يعتبر سرقة فى الشريعة الإسلامية وإنما يعتبر تبديداً لأنه تسلم الشىء بمقتضى عقد من عقود الأمانة, وإذا فرض أنه تسلمه بغير عقد فإن التسليم فى ذاته يمنع من تكون ركن الأخذ خفية لأن التسليم يقتضى العلم بالأخذ وشرط الأخذ خفية أن يتم دون علم ورضاء المجنى عليه, فالعقوبة إذن على أى فرض هى عقوبة التعزير وكل جريمة عقوبتها التعزير فى الشريعة الإسلامية يصح للهيئة التشريعية أن تجعلها فى حكم جريمة أخرى إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة, فيصح اعتبار الاختلاس الحاصل عن محترفى النقل فى حكم السرقة وإن كانت القواعد العامة تجعله تبديداً. ومن هذا يتبين أنه لا اختلاف بين الشريعة والقانون المصرى فى هذه النقطة؛ لأن القواعد القانونية العامة ذاتها تجعل الجريمة تبديداً ولكن المشرع أعطاها حكم السرقة أو اعتبر الفعل سرقة تشديداً على محترفى النقل ولم يعتبر التسليم الحاصل للجانى مع أن التسليم يمنع من تكون ركن الاختلاس طبقاً للقانون, والاختلاس فى القانون يقابل الأخذ خفية فى الشريعة كما يقابل الاختلاس فى الشريعة أيضاً.
ويشترط ليكون الأخذ تاماً يقطع فيه أن يكون فى عام المجاعة وزمن القحط لأن الضرورة تبيح التنازل من مال الغير بقدر الحاجة فإذا سرق المحتاج ما يأكله فلا قطع عليه لأنه كالمضطر, وقد روى عن مكحول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فى مجاعة مضطر", ويشترط فى الآخذ أن لا يجد ما يشتريه أو لا يجد(2/540)
ما يشترى به وأن لا يأخذ أكثر من حاجته (1) .
فأما الواجد لما يأكله أو الواجد لما يشترى به وما يشتريه فعليه القطع وإن كان بالثمن الغالى.
والقاعدة فى الشريعة أن للمضطر أن يأخذ ما يقيم حياته من غيره إذا لم يكن فى حاجة إليه, وإن احتاج الأمر إلى قتال قاتله عليه, فإن قتل المضطر فقاتله مسئول جنائياً عن قتله ولا يعتبر فى حالة دفاع, وإن قتله المضطر فهو هدر لأنه ظالم بقتاله المضطر فأشبه القاتل. ولكن ليس للمضطر أن يسرق شيئاً أو أن يقاتل على شىء كلما استطاع أن يأخذه بشراء أو استرضاء مهما تغالى صاحب الشىء فى الثمن لأن المضطر لا يلزمه شرعاً إلا ثمن المثل (2) .
ويشترط أبو حنيفة ليكون الأخذ تاماً يقطع فيه أن يكون الأخذ فى دار العدل, فلا قطع عنده على من سرق فى دار الحرب أو دار البغى ولو كان المجنى عليه والجانى من أهل دار العدل؛ لأن السرقة تقع فى مكان لا ولاية للإمام عليه والقضاء بالعقوبة يقتضى الولاية على مكان الجريمة ومن ثم لا تعتبر السرقة فى دار الحرب أو دار البغى سبباً لوجوب القطع (3) .
هذا ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة (4) .
أما المذهب الظاهرى فيتفق مع مذهب الأئمة الثلاثة (5) , ومذهب أبى حنيفة يخالف المذاهب الأخرى فى هذه الناحية حيث يرى بقية الفقهاء قطع السارق على السرقة فى دار الحرب أو دار البغي (6) , ويرى أبو حنيفة ومحمد أن لا يقطع المستأمن
_________
(1) المهذب ج2 ص299, كشاف القناع ج4 ص83, المغنى ج10 ص288, المحلى ج11 ص343, شرح فتح القدير ج4 ص229.
(2) المغنى ج11 ص80, أسنى المطالب ج1 ص572, مواهب الجليل ج3 ص243, حاشية ابن عابدين ج5 ص296.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص80.
(4) شرح الأزهار ج4 ص334, 552.
(5) المحلى ج11 ص360 وما بعدها.
(6) مواهب الجليل ج3 ص355, 365, المدونة ج16 ص91, المهذب ج2 ص358, المغنى ج10 ص439, 537، يراجع التشريع الجنائى ج1 ص243, 251.(2/541)
فى سرقة مال المسلم أو الذمى لأنه أخذه على اعتقاد الإباحة ولأنه لم يلتزم أحكام الإسلام, وعند أبى يوسف يقطع (1) , ويرى مالك قطع المستأمن وكل معاهد (2) , وحجته أن حد القطع لله (3) , وفى مذهب الشافعى وأحمد ثلاثة آراء أحدها وهو المرجوح يتفق مع رأى أبى حنيفة, والثانى وهو الراجح يتفق مع رأى مالك (4) , والثالث بأنه إذا اشترط قطعه للسرقة قطع لأنه يصبح ملتزماًً بالأحكام, على أن القائلين بعدم قطع المستأمن يسلمون بأنه لا قطع فى سرقة ماله (5) .
* * *
الركن الثانى: أن يكون المأخوذ مالاً
604- يجب أن يكون الشىء المسروق مالاً, ولا محل للسرقة فى الوقت الحاضر إلا المال, أما قبل لإبطال الرق فكان العبيد والإماء فى الشريعة محلاً للسرقة باعتبارهم مالاً من وجه يمكن التصرف فيه ككل مال, وإن كانوا من وجه آخر آدميين, وهكذا كان الشأن فى القوانين الوضعية أيضاً. أما بعد إبطال الرق فلا يمكن أن يكون الإنسان محلاً للسرقة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد, وهذا رأى فى مذهب الشيعة الزيدية, أما مالك والظاهريون فيرون أن الطفل غير المميز محل للسرقة ولو كان حراً وعلى من يأخذه عقوبة القطع كسارق المال, وهذا رأى آخر فى مذهب الشيعة الزيدية, ومع أن هؤلاء يعترفون بأن السرقة لا تقع إلا على المال فإنهم يستثنون الطفل غير المميز ويجعلون
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71.
(2) المدونة ج16 ص75.
(3) مواهب الجليل ج 6 ص 312.
(4) المغنى ج 10 ص 276, كشاف القناع ج 4 ص 85, نهاية المحتاج ج 7 ص 440.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص440, أسنى المطالب ج4 ص150.(2/542)
خطفه فى حكم سرقة المال (1) .
605- ويشترط فى المال المسروق شروط يجب توافرها جميعاً ليقطع فيه السارق, وهذه الشروط هى:
(1) أن يكون مالاً منقولاً. ... ... (2) أن يكون مالاً متقوماً.
(3) أن يكون مالاً محرزاً. ... ... (4) أن يبلغ المال نصاباً.
606- أولاً: أن يكون مالاً منقولاً: يجب أن تقع السرقة على مال منقول لأن السرقة تقتضى نقل الشىء وإخراجه من حرزه ونقله من حيازة المجنى عليه إلى حيازة الجانى وهذا لا يمكن إلا فى المنقولات فهى بطبيعتها التى يمكن نقلها من مكان إلى آخر.
ويعتبر المال المسروق منقولاً كلما كان قابلاً للنقل، فليس من الضرورى أن يكون المال منقولاً بطبيعته بل يكفى أن يصير منقولاً بفعل الجانى أو بفعل غيره, فمن استل أخشاباً من سقف منزل أو هدم حائطاً وأخذ من أنقاضه فهو سارق لمنقول ولو أن المنزل يعتبر عقاراً؛ لأن سل الأخشاب وهدم الحائط يجعل الأخشاب والأنقاض منقولة والأرض عقار بطبيعتها فمن أخذ منها تراباً أو أحجاراً أو أخذ من جوفها فحماً أو معادن أو ما أشبه يعتبر سارقاً لمنقول (2) .
ويشترط أن يكون المنقول مادياً كالنقود والأخشاب, ويستوى أن يكون المنقول صلباً كالحديد أو سائلاً كالماء أو غازياً كغاز الاستصباح, أما الأموال المعنوية فلا يمكن أن تكون محلاً للسرقة لأنها حقوق مجردة وليست قابلة بطبيعتها للنقل من مكان لآخر سواء كانت حقوقاً شخصية أو عينية, ولا شك
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص94, 103, المحلى ج11, ص337, شرح الأزهار ج4 ص369, بدائع الصنائع ج7 ص67, أسنى المطالب ج4 ص147, نهاية المحتاج ج7 ص438, المغنى ج10 ص245.
(2) أسنى المطالب ج4 ص147, كشاف القناع ج4 ص83, شرح الزرقانى ج8 ص102, بدائع الصنائع ج7 ص68, 69.(2/543)
أن الأوراق المثبتة لهذه الحقوق المعنوية تعتبر فى ذاتها منقولاً ومن ثم يمكن سرقتها, وتقع السرقة فى هذه الحالة على الأوراق لا على ما تضمنه من حقوق.
وليس فى الشريعة ما يمنع من أن يكون القوى الطبيعية والأشياء المباحة أصلاً محلاً للسرقة كالضوء والحرارة والبرودة والماء والهواء, والعبرة فى ذلك كله وأشباهه بإمكان احتياز الشىء والتسلط عليه, فكل من استطاع أن يحتاز شيئاً من هذه الأشياء المباحة الأصل يصبح مالكاً لها وإن كان احتياز هذه الأشياء وأمثالها والتسلط عليها يجعلها منقولاً يعاقب على سرقته ما يعاقب على سرقة أى منقول آخر, وعلى هذا فليس ثمة ما يمنع من اعتبار الكهرباء محلاً للسرقة لأن احتيازها والتسلط عليها ونقلها من مكان إلى آخر فى حيز الإمكان.
607- ثانياً: أن يكون مالاً متقوماً: بصفة مطلقة, فإن كانت قيمته نسبية فلا قطع فى سرقته والعقوبة عليه التعزير, فالخمر ولحم الخنزير مثلاً لا قيمة لهما عند المسلم ولكن لهما قيمتهما عند غير المسلم ومن ثم كانت قيمتهما نسبية لا مطلقة, وهذا النقص فى القيمة هو الذى منع من القطع لأنه شبهة ووجه الشبهة عدم المالية أو عدم التقوم, والحدود تدرأ بالشبهات, ويستوى أن يكون صاحب المال مسلماً أو غير مسلم وأن يكون السارق مسلماً أو غير مسلم؛ لأن العبرة ليست بالمالك أو السارق وإنما العبرة بتقوم المال أو عدم تقومه (1) .
وتعبير المال المتقوم هو ما يعبر به الحنفية. أما الأئمة الثلاثة فيعبرون عن هذا المعنى بعبارة المال المحترم, ويشترط الزيدية أن يكون المال مما يجوز تملكه, والظاهريون يعبرون بمثل هذا التعبير فيقولون: مال له قيمة ومال لا قيمة له (2) , وكل هذه العبارات تؤدى معنى واحداً.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص69, نهاية المحتاج ج7 ص421, أسنى المطالب ج4 ص139, شرح الزرقانى ج8 ص97, المغنى ج10 ص282, كشاف القناع ج4 ص77, شرح الأزهار ج4 ص365.
(2) المحلى ج11 ص334.(2/544)
ويشترط أبو حنيفة فوق شرط التقوم أن يكون الشىء المسروق مما يتموله الناس ويعدونه مالاً يضنون به, لأن ذلك يشعر بعزته وخطره عندهم, فإن كان مما لا يتموله الناس فهو تافه وحقير, وحجته فى ذلك حديث عائشة رضى الله عنها: "لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله فى الشىء التافه" (1) .
ويجعل أبو حنيفة التفاهة شبهة فى المال تدرأ الحد عن سارقه وتوجب التعزير بدلاً من القطع. ويترتب على رأيه هذا أن لا قطع فى التبن والحشيش والقصب والحطب وأشباهها, لأن الناس لا يتمولون هذه الأشياء عادة ولا يضنون بها لعدم عزتها وقلة خطرها ويعدون الضن بها من باب الخساسة فهذا مصدر تفاهتها, كذلك لا قطع عند أبى حنيفة فى سرقة التراب والطين والحصى واللبن والفخار وما شابهها لتفاهتها (2) .
ويعتمد أبو حنيفة على عرف الناس وعاداتهم فى بيان الشىء التافه من الشىء غير التافه, على أنه يسلم بأن الشىء التافه قد يصبح للصناعة ذا قيمة كالقصب يصنع منه النشاب, فإذا أخرجت الصناعة الشىء التافه عن تفاهته كان القطع واجباً فى سرقته (3) .
ولكن أبا يوسف من فقهاء مذهب أبى حنيفة يرى القطع فى كل مال محرز تبلغ قيمته نصاباً إلا التراب والسرجين, وفى رواية أخرى عنه: إلا فى الماء والتراب والطين والحصى والمعازف؛ لأن السارق يسرق مالاً متقوماً من حرز لا شبهة فيه. ودليل المالية والتقوم هو أولاً جواز بيع المال وشرائه, وهو ثانياً وجوب ضمان القيمة على غاصب المال, فكل ما جاز بيعه وشراؤه ووجب على غاصبه ضمانه فهو مال متقوم يقطع فيه إذا سرق من حرزه (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص67.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص67, 68, شرح فتح القدير ج4 ص226.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص232, بدائع الصنائع ج7 ص68.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص227.(2/545)
ويرى أبو حنيفة ومعه محمد من فقهاء المذهب أن كل ما يوجد جنسه تافهاً ومباحاً فلا قطع فيه, لأن كل ما كان كذلك فلا عز له ولا خطر ولا يتموله الناس.
ولكن غيرهما من فقهاء المذهب يرون الاعتماد على التفاهة دون الإباحة لأن الذهب والفضة واللآلئ والجواهر مباحة الجنس ولا شك أن فيها القطع (1) .
ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى سرقة ميتة أو جلدها لانعدام المالية؛ أى لأنها لا تعتبر مالاً, ولا فى سرقة كلب لاختلاف العلماء فى ماليته, ولا فى أدوات الملاهى من طبل ودف ومزمار ونحوها لأن هذه الأشياء مما لا يتموله الناس عادة أو لأن فى ماليتها قصوراً لكراهة الاشتغال بها (2) .
وعند أبى حنيفة أن لا قطع فى سرقة طير ولا صيد وحشاً كان أو غيره, ولا فيما علم من الجوارح كالبازى والصقر لأن الطيور والوحوش مباحة الأصل ولا يتم إحرازها فى الناس عادة ولأنها تأتى عن طريق الاصطياد وهو مباح, فضلاً عن أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصيد لمن أخذه" يورث شبهة والقطع يندرئ بالشبهة, كذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فى الطير" (3) .
كذلك يرى أبو حنيفة أن لا قطع فيما لا يحتمل الادخار ويتسارع إليه الفساد ولا يبقى من سنة إلى سنة. فلا قطع عنده فى سرقة الطعام الرطب والبقول والفواكه الرطبة واللحم والخبز والرياحين وما أشبه, ولا قطع فى سرقة شطرنج ذهب أو فضة أو صليب أو صنم لأنه يتأول أن السارق يأخذها لكسرها, أما الدراهم التى عليها تماثيل فيقطع فيها لأنها لا تعتبر عادة فلا تأويل له فى الأخذ للمنع من العبادة (4) ؛ لأن ما لا يحتمل الادخار يقل خطره عند الناس فيعتبر تافهاً. ولا قطع عند
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص226, بدائع الصنائع ج7 ص69.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص232, بدائع الصنائع ج7 ص67.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص68, شرح فتح القدير ج4 ص227, 232.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص72, شرح فتح القدير ج4 ص230, 231.(2/546)
أبى حنيفة فى سرقة المصحف وكتب الأحاديث واللغة والشعر لأنها تدخر للقراءة لا للتمول ويقصد منها الوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به، لكن أبا يوسف يرى القطع فى هذه جميعاً كلما بلغت نصاباً لأن الناس يدخرونها ويعدونها من نفائس الأموال، أما دفاتر الحساب والدفاتر البيضاء فلا خلاف فى المذهب على أن فيها القطع إذا بلغت نصاباً لأن المقصود فيها هو الورق الأبيض (1) .
ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى سرقة ما يتبع ما لا قطع فيه كالحلية على المصحف تبلغ نصاباً، وكسرقة آنية فيها خمر وقيمة الآنية تزيد على النصاب، ولكن أبا يوسف يخالفه ويرى القطع، وهو مذهب مالك والشافعي (2) .
ولكن أبا يوسف من فقهاء المذهب يخالف أبا حنيفة ويرى القطع فيما لا يحتمل الادخار ويتسارع إليه الفساد؛ لأن السرقة وقعت على مال متقوم فى حرز لا شبهة فيه، ودليل المالية والتقوم هو جواز البيع والشراء فى المال ووجوب ضمان القيمة على غاصبه ومتلفه (3) .
ويطبق أبو حنيفة المبدأ السابق تطبيقاً واسعاً فيرى أن سرقة الثمار المعلقة فى أشجارها أو نخيلها لا قطع فيها ولو كانت محرزة بحائط أو بحافظ لأن الثمر ما دام فى شجره يتسارع إليه الفساد. فإذا قطع الثمر ووضع فى جرن ثم سرق بعد ذلك فإن كان قد استحكم جفافه ففيه القطع لأنه صار قابلاً للادخار ولا يتسارع إليه الفساد بالجفاف، وإن لم يكن استحكم جفافه فلا قطع فيه لأنه مما يتسارع إليه الفساد ولا يقبل الادخار بحالته الراهنة، ويستعين أبو حنيفة فى تأييد رأيه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع فى ثمر ولا كَثَر حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه فبلغ ثمن المجن ففيه القطع".
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص68.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص229، 231.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح فتح القدير ج4 ص227.(2/547)
والمحصولات الزراعية كالقمح والشعير والذرة هى بمنزلة الثمر المعلق عند أبى حنيفة فلا قطع فيها حتى يؤويها الجرين ويستحكم جفافها، وهذا يتفق مع ما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب بغية من ذى حاجة غير متخذ خفية فلا شىء عليه، ومن أخرج بشىء منه فعليه غرامة مثله، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" (1) .
والفاكهة اليابسة التى تبقى من سنة إلى سنة فيها القطع عند أبى حنيفة، فإن لم تكن تبقى من سنة إلى سنة فلا قطع فيها لأنها تعتبر مما لا يقبل الادخار ويتسارع إليه الفساد.
ولا يقطع أبو حنيفة فى السمك طرياً كان أو مالحاً، لأن الطرى يتسارع إليه الفساد والمالح مال تافه مباح الأصل، ولا يقطع كذلك فى اللبن لأنه يتسارع إليه الفساد ولكنه يقطع فى الخل لأنه لا يتسارع إليه الفساد، ويقطع فى الذهب والفضة والجواهر واللآلئ وفى الحبوب الجافة كلها وفى الطيب والعود والمسك وما أشبه، ويقطع فى الكتان والصوف وما أشبه، كما يقطع فى الحديد والنحاس والرصاص وما أشبه، سواء كانت آنية أو مادة خاماً. وهكذا نستطيع أن نتبين أن أبا حنيفة يعول فى عدم القطع على شيئين:
أولهما: التفاهة وعدم المالية، ويعتبر الشىء تافهاً عند أبى حنيفة إذا كان مما لا يتموله الناس كالميتة، أو كان مما لا يضن به الناس لعدم عزته وقلة خطره عندهم كالتبن والحطب، أو كان مما يتسارع إليه الفساد ولا يحتمل الادخار من سنة إلى سنة.
ثانيهما: عدم التقوم فكلما كان المال متقوماً بصفة مطلقة وغير تافه ففيه القطع، فإذا لم يكن متقوماً فلا قطع فيه كالخمر والخنزير فلا قطع فيهما لعدم التقوم (2) .
ويلاحظ أن إباحة الجنس فى ذاتها لا تمنع من القطع إذا لم يكن المال تافهاً كالذهب والفضة فكلاهما مباح الأصل ولكنه لما لم يكن تافهاً وجب فيه القطع،
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص227، 228، بدائع الصنائع ج7 ص69.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص69، 70.(2/548)
أما إذا كان المال تافهاً كالسمك والملح فلا قطع فيه لتفاهته. فالعبرة فى القطع وعدمه بالتفاهة وليست بإباحة الجنس، وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة (1) .
ولا يرى فقهاء المذاهب الأخرى رأى أبى حنيفة فى أن التفاهة تمنع من القطع، والقاعدة العامة عندهم أن كل ما يمكن تملكه ويجوز بيعه وأخذ العوض عنه يجب القطع فى سرقته (2) . ولكنهم اختلفوا فى تطبيق هذه القاعدة وسنبين فيما يلى حدود هذا الاختلاف. فمالك يرى القطع فى كل مال أياً كان ولو كان محقراً فى نظر الناس كالماء والحطب ونحو ذلك مما أصله مباح للناس لأنه متمول يجوز تملكه ويجوز بيعه وأخذ العوض عنه، ويستوى بعد ذلك أن يكون مباحاً للناس أو غير مباح ما دام المجنى عليه قد حازه فى حوزه الخاص كما يستوى أن يكون معرضاً للفساد أو غير معرض (3) .
ويرى مالك القطع فى سرقة الجوارح طيوراً أو سباعاً إذا بلغت قيمة أحدها النصاب ولو كانت لا تبلغ هذه القيمة إلا لتعليمها الصيد لأن تعليم الصيد منفعة شرعية فإذا لم تكن معلمة فالقطع إذا بلغت قيمة لحم الطير وريشه النصاب، وإذا بلغت قيمة جلد السبع النصاب، ولا تراعى قيمة لحم السبع لكراهته أو للقول بحرمته، وعلى هذا فسارق جلد السبع يقطع، وسارق لحمه فقط لا يقطع (4) .
ويرى القطع فى جلد الميتة سواء كانت الميتة مما يؤكل أو لا يؤكل، ولكن بعد الدبغ وبشرط أن يزيد الدباغ فى قيمة الجلد نصاباً وإلا فلا قطع (5) .
ولا يرى مالك القطع فى الطيور المحببة كالبلبل والببغاء وأشباههما إلا إذا كان لحمها وريشها يساوى نصاباً، فإن كانت لا تساوى النصاب إلا لإجابتها فلا قطع لأن الإجابة ليست منفعة شرعية (6) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح فتح القدير ج4 ص226.
(2) بداية المجتهد ج2 ص367.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(6) شرح الزرقانى ج8 ص96.(2/549)
ولا قطع عند مالك فى مال غير محترم كالخمر ولحم الخنزير ولو سرقها ذمى مهما بلغت قيمتها، وكأدوات الملاهى فلا قطع فيها إلا إذا بلغت قيمتها نصاباً بعد كسرها (1) .
ولا قطع فى سرقة الكلب معلماً أو غير معلم مهما بلغت قيمته لحرمة ثمنه.
ولا قطع فى الثمر المعلق عند مالك ولا فى الزرع قبل حصده فإذا جد الثمر وحصد الزرع فلا قطع فى السرقة إلا إذا وضع فى الجرين على رأى أو كدس أكواماً بعد حصده حتى يصير كالشىء الواحد.
وإذا كانت الثمار فى بستان عليه حائط وله غلق فسرق منها وهى لا تزال معلقة فى الشجر ففيها القطع على رأى ولا قطع فيها على رأى آخر، والقائلون بالقطع يحتجون بأن الثمار أصبحت فى حرز، وإذا كانت الشجرة المثمرة فى داخل الدار فالسرقة من ثمرها المعلق بلا خلاف لأن السرقة من حرز (2) .
وإذا سرق ما ليس فيه قطع حالة كونه متصلاً بما فيه القطع اعتبرت قيمة ما فيه القطع، فإذا بلغ نصاباً قطع السارق، كسرقة الخمر فى إناء من الذهب، فالخمر لا قطع فيه ولكن إناء الذهب فيه القطع إذا بلغت قيمته بدون الخمر نصاباً (3) .
ويقطع مالك فى سرقة المصحف لأنه مال مملوك ويجوز بيعه (4) . أما الشافعى فمذهبه لا يكاد يختلف شيئاً عن مذهب مالك إذ يرى القطع فى كل مال ولو كان محقراً كالحطب والحشيش والتراب، أو مباح الأصل كالصيد والطير والماء، أو معرضاً للتلف كالطعام والثمار والفاكهة.
ويرى القطع فى المصحف والكتب العلمية والأدبية النافعة المباحة فإذا لم تكن مباحة قُوِّم ورقها وجلدها فإن بلغا نصاباً قطع به السارق (5) .
ولا يقطع الشافعى فى مال غير محترم؛ أى غير متقوم، كالخمر والخنزير والكلب
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص97.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص105.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص97.
(4) المدونة ج16 ص77.
(5) أسنى المطالب ج4 ص141.(2/550)
وجلد الميتة قبل دبغه (1) . ولا يقطع الشافعى فى الثمر المعلق حتى يؤويه الجرين فإذا آواه الجرين ففيه القطع. ويقطع الشافعى فى آلات اللهو وفى آنية الذهب والفضة إذا بلغت قيمة المسروق نصاباً بعد كسره أو إفساده (2) . وإذا سرق السارق ما لا قطع فيه متصلاً بما فيه قطع اعتبرت قيمة ما فيه القطع دون ما لا قطع فيه (3) .
والقاعدة فى مذهب أحمد أن القطع واجب فى كل مال بغض النظر عما إذا كان تافهاً أو مباح الأصل أو معرضاً للتلف، ولكنهم يستثنون من هذه القاعدة:
1- الماء: فسرقة الماء لا قطع فيه لأنه مما لا يتمول عادة؛ أى أنه لا يباع ولا يشترى فى العادة.
2- الكلأ والملح: وفيهما خلاف، فبعض فقهاء المذهب يرون القطع فيهما لأنهما مما يتمول عادة، والبعض لا يرى القطع فيهما لأنهما مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه.
3- الثلج: ويرى البعض القطع فيه لأنه يتمول عادة، ويرى البعض أنه لا قطع فيه لأنه ماء جامد قيأخذ حكم الماء.
4- التراب: وحكمه أنه إذا كانت تقل الرغبات فيه كالذى يعد للتطين والبناء فلا قطع فيه لأنه لا يتمول، وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الأرضى الذى يعد للدواء أو الغسل أو الصبغ احتمل وجهين: أحدهما: لا قطع فيه لأنه من جنس ما لا يتمول فأشبه الماء، والثانى: فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل إلى البلدان للتجارة فأشبه العود الهندى، ولكن ما يصنع من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لأنه يتمول عادة.
5- السرجين: لا قطع فيه لأنه إن كان نجساً فلا قيمة له وإن كان طاهراً
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421.
(2) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421.
(3) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421.(2/551)
فلا يتمول عادة ولا تكثر الرغبات فيه (1) . ويقطع الشافعى ومالك فى السرجين الطاهر وفى كل الأشياء السابقة، أما أبو حنيفة فلا يقطع فى شىء منها.
6- المصحف: يرى البعض أن لا قطع فى سرقته وهو قول أبى حنيفة لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه، ويرى البعض وجوب القطع لأنه مال متقوم وهو رأى مالك والشافعى. وإذا كان المصحف محلى بحلية تبلغ نصاباً وحدها، فبعض من لا يرى القطع بسرقة المصحف لا يقطع فى الحلية لأنها تابعة لما لا يقطع فى سرقته، وبعضهم يرى القطع لأنه سرق نصاباً من الحلى فوجب قطعه كما لو سرقه منفرداً، ولا خلاف فى مذهب أحمد على القطع فى سرقة كتب الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية (2) .
7- الثمر والكَثَر: فلا قطع فى الثمار المعلقة ولا فى سرقة الكَثَر وهو جمار النخل لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع فى ثمر ولا فى كَثَر"، وإذا أحيط البستان بسور فلا قطع فيما سرق منه لكن إذا كانت نخلة أو شجرة فى دار محرزة فسرق من ثمارها نصاباً ففيه القطع لأنها سرقة من حرز (3) .
8- سرقة المحرم وأدوات اللهو: لا قطع فى سرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء كان السارق مسلماً أو ذمياً، وأما آلات اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيها وإن بلغت قيمتها بعد كسرها نصاباً لأنها آلة للمعصية بالإجماع فلا يقطع فى سرقتها كالخمر ولأن له حقاً فى أخذها لكسرها فكان ذلك شبهة تمنع القطع، فإن كانت عليه حلية تبلغ نصاباً فلا قطع فيها على رأى وفيها القطع على رأى آخر.
وإذا سرق صليباً من ذهب أو فضة فلا قطع فيه على رأى وهو متفق مع ما يراه أبو حنيفة، وفيه القطع على رأى آخر وهو مذهب مالك والشافعى، والمفروض أن تكون قيمة الصليب بعد كسرها نصاباً فإن كانت أقل من
_________
(1) المغنى ج10 ص247.
(2) المغنى ج10 ص249.
(3) المغنى ج10 ص262، 263.(2/552)
النصاب فلا خلاف فى المذهب على عدم القطع.
وإن سرق آنية من الذهب أو الفضة قيمتها نصاب بعد الكسر ففيها القطع، وإذا اتصل ما لا قطع فيه بما فيه القطع ففى المذهب رأيان: الأول: لا قطع فيها ولو بلغ نصاباً وحده لأنه تابع لما لا قطع فيه وهو مذهب أبى حنيفة، والرأى الثانى: فيه القطع إذا بلغ نصاباً وحده وهو مذهب مالك والشافعي (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية قريب من مذهب مالك والشافعى، فعندهم أن المال المسروق يعاقب عليه بالقطع إذا كان مما يجوز للمجنى عليه تملكه فى الحال، فإذا لم يكن يجوز له أن يتملكه كالخمر والخنزير والكلب والميتة وغيرها فلا قطع فيه إذا سرقه من مسلم، أما إذا سرقه من ذمى فلا قطع إذا سرقه من بلد ليس للذمى سكناه، فإذا سرقه من بلد لهم سكناه فهناك خلاف فى القطع (2) .
ويرى الزيديون أن لا قطع فى سرقة النابت أو فى أخذه من منبته، ولا فرق بين أن يكون شجراً أو زرعاً (3) .
ومذهب الظاهريين على القطع فى سرقة المال أياً كان سواء كان تافهاً أو مباح الأصل أو معرضاً للتلف، وهم يرون القطع فى سرقة كل ثمر وكل كَثَر معلقاً كان فى شجره أو مجزوزاً أو فى جرين أو فى غير جرين، ويرون القطع فى كل طعام كان مما يفسد أو لا يفسد، ويرون القطع فى الزرع إذا أخذ من فدانه أو هو بأندره (4) .
ويرى الظاهريون القطع فى سرقة الطير كلما كان مملوكاً للمجنى عليه، وفى سرقة الصيد كلما تملكه المجنى عليه (5) .
_________
(1) المغنى ج10 ص283، 284، كشاف القناع ج4 ص78.
(2) شرح الأزهار ج4 ص365، 366.
(3) شرح الأزهار ج4 ص369.
(4) المحلى ج11 ص332.
(5) المحلى ج11 ص333، 343.(2/553)
ويرون القطع على من سرق مصحفاً أو كتباً من كتب العلوم (1) .
ويرون القطع على من سرق صليباً أو فضة أو ذهباً ومن سرق دراهم فيها صور وأصنام إذا بلغت قيمتها نصاباً بعد الكسر (2) .
ولكن الظاهريين لا يرون القطع فى سرقة الخمر والخنزير وأما الميتة فيقطعون فيها لأن جلدها باق على ملك صاحبها يدبغه فينتفع به ويبيعه (3) ، وظاهر من هذا أن الظاهريين يرون ما يراه مالك والشافعى من قطع السارق إذا سرق ما يجب فيه القطع متصلاً بما لا يجب فيه القطع.
608- ثالثاً: أن يكون المال محرزاً: يشترط جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى أن يكون المال محرزاً لوجوب القطع فى سرقته، ولا يخالفهم فى ذلك إلا الظاهريون وطائفة من أهل الحديث حيث يرون القطع على السارق إذا سرق نصاباً ولو من غير حرز وأن اشتراط الحرز باطل بيقين لا شك فيه وشرع لما يأذن الله تعالى به (4) .
والأصل فى اشتراط الحرز عند من يشترطه ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رافع ابن خديج أنه قال: "لا قطع فى ثمر ولا كَثَر" رواه الخمسة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه بغية من ذى حاجة غير متخذ خفية فلا شىء عليه، ومن خرج بشىء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" رواه النسائى وأبو داود، وفى رواية قال: سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجزية التى توجد فى مراتعها، قال: "فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عطفه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" قال: يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها فى أكمامها؟ قال: "من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنةً فليس عليه شىء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ
_________
(1) المحلى ج11 ص337.
(2) المحلى ج11 ص338.
(3) المحلى ج11 ص335.
(4) المحلى ج11 ص337، بداية المجتهد ج2 ص375.(2/554)
من ذلك ثمن المجن" رواه أحمد والنسائى، ولابن ماجه معناه وزاد النسائى فى آخره: "وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال" (1) .
ويرى جمهور الفقهاء أن رسول الله منع القطع فى الثمر المعلق وحريسة الجبل حتى إذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن, وأنه عليه السلام علق القطع بإيواء المراح والجرين؛ والمراح حرز الإبل والبقر والغنم, والجرين حرز الثمر, فدل ذلك على أن الحرز شرط فى القطع, وفوق هذا فإن ركن السرقة هو الأخذ على سبيل الاستخفاء والأخذ من غير حرز لا يحتاج إلى استخفاء فلا يتحقق ركن السرقة, كذلك فإن القطع وجب لصيانة الأموال على أربابها قطعاً لأطماع السراق عن أموال الناس, والأطماع إنما تميل إلى ما له خطر فى القلوب وغير المحرز لا خطر له فى القلوب عادة فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى صيانته بالقطع (2) .
609- ومن المتفق عليه أن الحرز نوعان:
1- حرز بالمكان أو حرز بنفسه: وهو عند مالك, أما عند أبى حنيفة فحرز المكان هو كل بقعة معدة للأحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بإذن كالدور والحوانيت والخيم والفساطيط وزرائب المواشى والأغنام, ويشترط أبو حنيفة فى الحرز بالمكان أن يكون مكاناً مبنياً سواء كان بابه مغلقاً أم مفتوحاً وسواء كان له باب أم لا, لأن البناء يقصد به الأحراز كيفما كان (3) .
ولا يشترط مالك أن يكون المرابط والزرائب والجرون والمراح مبنية أو مسورة بل تعتبر حرزاً بمجرد إعداد المكان لحفظ المال أو الاعتياد على حفظ
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص39.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص73, أسنى المطالب ج4 ص141, المغنى ج10 ص249, شرح الزرقانى ج8 ص98.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص73, شرح فتح القدير ج4 ص240, 241, 246.(2/555)
المال فيه دون حاجة لإحاطة المكان فيه ببناء أو سور أو ما أشبه (1) .
أما عند الشافعى وأحمد فالحرز بالمكان هو كل مكان مغلق معد لحفظ المال داخل العمران كالبيوت والدكاكين والحظائر (2) .
فحرز المكان لا يكون كذلك عندهما إلا إذا توفرت فيه شروط, أولها: أن يكون فى العمران, فإن كان المكان خارج عمارة البلدة أو القرية أو منفصلاً عن مبانيها ولو ببستان فهو ليس حرزاً بالمكان. الثانى: أن يكون مغلقاً فإذا كان بابه مفتوحاً أو ليس له باب أو كان بحائطه نقب أو تهدم جزء منه فهو ليس حرزاً, ولا يشترط أن يكون المكان مبنياً بالحجارة أو اللبن بل يكفى أن يكون بحالة تتفق مع التعارف عليه وما جرت به العادة فالمسكن يبنى من الحجارة أو الطين أو الخشب والحظيرة قد تبنى من الطين أو الخشب أو القصب أو الحطب (3) .
والحرز بالمكان عند الشيعة الزيدية هو كل مكان محصن كالبيت والمربد والمراح بحيث يمنع الخارج من الدخول وإن لم يمنع الداخل من الخروج, ويكفى لاعتبار المكان محصناً أن يكون عليه جدار أو خيام أو زرب أو قصب أو بيت شعر, ويجوز أن يكون حوله خندق على رأى ويجب أن يكون له باب, فإذا كان كذلك فهو حرز بنفسه, فإذا لم يكن عليه باب فلا يكون حرزاً إلا بحارس (4) .
2- حرز بالحافظ أو حرز بغيره: هو عند أبى حنيفة كل مكان غير معد للإحراز يدخل إليه بلا إذن ولا يمنع منه كالمساجد والطرق, وحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ أى أنه لا يعتبر حرزاً, فإن كان هناك حافظ فهو حرز, ولهذا سمى حرزاً بغيره حيث تتوقف صيرورته حرزاً على وجود غيره وهو الحافظ (5) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص98, 100, المدونة ج16 ص79, بداية المجتهد ج2 ص375.
(2) المغنى ج10 ص250 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص81, أسنى المطالب ج4 ص141.
(3) أسنى المطالب ج4 ص141, 142, المغنى ج10 ص249, 252, كشاف القناع ج4 ص81, 82.
(4) شرح الأزهار ج4 ص370.
(5) بدائع الصنائع ج7 ص73.(2/556)
فمن تعطلت سيارته فى الطريق العام فتركها بلا حافظ عندها فهى فى غير حرز, وإن ترك عندها ما يحفظها فهى فى مكان محرز بالحافظ. والمسجد ليس مكاناً معداً لحفظ المال ولا يتوقف الدخول فيه على إذن ما فلا يعتبر حرزاً بنفسه إلا فيما يتعلق بالأشياء اللازمة له كالحصر والقناديل وما أشبه, فمن دخل للصلاة ومعه متاع فوضعه بجواره فإن المتاع يكون محرزاً بالحافظ فإذا تركه فى المسجد فسرق فلا قطع فيه لأن المسجد ليس حرزاً بنفسه ولأن الحافظ لم يكن موجوداً وقت السرقة فلم يكن المتاع محرزاً, أما إذا سرق المتاع فى حالة وجود الحافظ فالقطع واجب فى السرقة إذا توفرت أركانها. ومن الأمثلة على ذلك حادثة صفوان فقد كان نائماً فى المسجد يتوسد رداءه فسرقه سارق فقطع الرسول يده. أما مالك والشافعى وأحمد فيرون أن الحرز بالحافظ هو كل مكان محرز بالحافظ سواء كان معداً لإحراز المال كالبيوت أو غير معد لحفظ المال كالمساجد والطرق والصحراء (1) .
ويرى أبو حنيفة أن ما يعتبر حرزاً بنفسه لا يشترط فيه وجود الحافظ لصيرورته حرزاً ولو وجد فلا عبرة لوجوده بل هو والعدم سواء, ذلك أن كل واحد من الحرزين معتبر بنفسه على حياله بدون صاحبه فإذا سرق شخص من حرز بالمكان قطع سواء أكان ثمة حافظ أو لا وسواء كان الحرز له باب مغلق أو لا باب له, وإذا سرق من حرز بغير قطع إذا كان الحافظ قريباً منه بحيث يراه سواء كان الحافظ نائماً أم مستيقظاً لأنه يقصد الحفظ فى الحالين, ويرتب أبو حنيفة على اعتبار كل حرز بنفسه نتيجة هامة هى أن الحرز بالمكان إذا اختل - وهو لا يختل عنده إلا بالإذن للسارق فى دخول الحرز - فلا يمكن اعتباره حرزاً بالحافظ ولو كان بالحرز حافظ فعلاً (2) .
أما الأئمة الثلاثة فلا يرون اعتبار كل حرز بنفسه, ويجوز عندهم أن يكون
_________
(1) المغنى ج10 ص251, أسنى المطالب ج4 ص141, 143, شرح الزرقانى ص101, 103.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص73, 74.(2/557)
الحرز فى وقت واحد حرزاً بالمكان وفيه حافظ فإذا اختل الحرز بالمكان كان حرزاً بالحافظ, ومثل ذلك أن يؤذن لشخص بدخول بيت فيسرق أمتعته عليه حافظ, فيقطع لأن مكان السرقة وإن لم يكن حرزاً بنفسه فهو حرز بالحافظ (1) . على أننا يجب أن نلاحظ أن الأئمة الثلاثة لا يتفقون على ما يخل بحرز المكان, فمالك يرى أن حرز المكان لا يختل إلا بالإذن للسارق بدخول الحرز, وهو رأى أبى حنيفة (2) .
والظاهر أن الشيعة الزيدية ترى رأى الشافعى وأحمد فى أن الحرز يبطل بفتح الباب وبالنقب وبالإذن (3) .
أما الشافعى وأحمد فيريان أن الإذن بالدخول والنقب وفتح الباب كل منها يخل بحرز المكان ويجعله غير حرز ما لم يكن حافظ فإنه يكون حرزاً بالحافظ (4) .
ويرى مالك وأبو حنيفة أن المكان يعتبر محرزاً بالحافظ كلما كان الشىء المسروق واقعاً تحت بصر الحافظ, ويستوى أن يكون الحافظ مستيقظاً أو نائماً لأنه وجد للحفظ ويقصده فى الحالين (5) , ولأن النائم عند متاعه يعتبر حافظاً له فى العادة, ويشترط المالكية أن يكون الحافظ مميزاً فإن كان صغيراً أو مجنوناً فلا يعتبر وجوده ولا يكون الشىء محرزاً, ولا يشترط الحنفية هذا الشرط, ويستثنى المالكيون والحنفيون من هذه القاعدة سرقة الغنم فى المراعى فلا قطع على سارقها لتشتت الغنم وصعوبة حفظها أثناء الرعى على رأى المالكية, ولأن
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص102, أسنى المطالب ج4 ص143, المغنى ج10 ص251, 253.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص241.
(3) شرح الأزهار ج4 ص37, 372.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص305, 306, أسنى المطالب ج4 ص147, المغنى ج10ص298, 299.
(5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101, بدائع الصنائع ج7 ص73, حاشية ابن عابدين ج3 ص280.(2/558)
الراعى لا يقصد الحفظ وإنما يقصد الرعى على رأى الحنفية (1) .
ومذهب الشيعة قريب من مذهب الحنفية, فهم على الرأى الراجح يعتبرون المكان محرزاً بالحافظ إذا كان ثمة حافظ سواء كان متيقظاً أو نائماً وإن كان بعضهم يشترط أن يكون يقظان (2) .
أما الشافعى فيعتبر المكان محرزاً بالحافظ كلما كان الحافظ ممن يبالى به لقوته أو لاستغاثته بغيره بحيث إذا استغاث أسمع، ويشترط فى الحافظ أن يكون مع المتاع الذى يحفظه وأن يديم ملاحظته, والمراد من إدامة الملاحظة أن لا يشتغل عنه بنوم ولا غيره مما يشغله عن الملاحظة, والمقصود الإدامة المتعارفة, فالفترات العارضة أثناء الملاحظة لا تقدح فى الإحراز على المشهور للعرف فإذا تغفل فسرق قطع فى الأصح, والمقصود من القرب أن يقع المسروق تحت بصر الملاحظ وأن يكون الشىء بحيث ينسب للملاحظ وأن يكون الملاحظ بحيث يراه السارق حتى يمتنع عن السرقة إلا بتغفله, فإن كان فى موضع لا يراه السارق اعتبر المسروق غير محرز.
وإذا كان الحارس ممن لا يبالى به لعدم قوته أو لعدم استغاثته كأن يكون فى صحراء فلا يسمع صوته أحد فلا يعتبر الشىء محرزاً, وإذا نام الحارس فلا يعتبر الشىء محرزاً إلا إذا كان يلبس الشىء المسروق كحذاء مثلاً أو عمامة, أو يتوسده كجلباب أو فراش, أو يتكئ عليه, أو يلتف فيه.
وإذا كان هناك زحام يمنع من وقوع بصر الحارس على الشىء باستمرار وفى أى وقت شاء اعتبر الشىء غير محرز (3) .
ويعتبر أحمد المكان محرزاً بالحافظ كلما وجد فيه حافظ أياً كان صغيراً أو كبيراً ضعيفاً أو قوياً, ولا يشترط فى الحافظ إلا عدم التفريط كأن ينام أو يشتغل عن الملاحظة, ويجب أن يكون بحيث يقع بصره على الشىء فإذا فرط فى
_________
(1) شرح الزقانى وحاشية السيبانى ج8 ص101, شرح فتح القدير ج4 ص246.
(2) شرح الأزهار ج4 ص370.
(3) أسنى المطالب وحاشية شهاب الرملى ج4 ص142, نهاية المحتاج ج7 ص429 وما بعدها, المهذب ج2 ص296.(2/559)
الملاحظة فلا حرز, وكذلك إذا نام ما لم يكن متوسداً الشىء أو متكئاً عليه أو يلتف فيه أو يلبسه (1) .
ويرى الشافعى وأحمد أن الدور المنفردة عن العمران والدور التى فى البساتين والطرق والصحراء لا تعتبر حرزاً بنفسها ولو كانت حصينة, وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ إذا كان فيها أهلها أو حافظ ملاحظ سواء كانت مغلقة أو مفتوحة فإن لم يكن بها حافظ فليست حرزاً ولو كانت مغلقة, فإن كان بها حافظ نائم وهى مغلقة فهى حرز بالحافظ وإن كانت مفتوحة ليست حرزاً (2) .
وما يقال عن الدور ينطبق على كل الأمكنة المعدة لحفظ المال الخارجة عن العمران كالاصطبلات وحظائر المواشى والأغنام والأجران, فإنها لا تعتبر حرزاً بالمكان وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ (3) .
ولقد قلنا من قبل أن الشافعى وأحمد يشترطان فى الحرز بنفسه أن يكون معداً لحفظ المال دون حائط فى العادة, ويترتب على هذا التعريف أنهما يعتبران الخيام والمضارب وما أشبه أحرازاً بالحافظ لا بنفسها, وحجتهما أن العادة جرت بأن تحرز هذه الأشياء بالحافظ, وعلى هذا فإذا نصبت الخيمة وكان فيها حافظ نائم فهى محرزة به, فإن لم يكن فيها نائم وكان فى خارجها من يلاحظها فهى محرزة, وإن لم يكن فيها ولا عندها حافظ فسرق منها شىء فقد سرق من غير حرز, وهذا هو الحكم سواء ضربت الخيمة بين المساكن أو فى مكان بعيد عن العمران (4) .
أما مالك وأبو حنيفة فيعتبران الخيام أحرازاً بنفسها, فإذا ضربت الخيمة فسرق منها شىء ففيه القطع سواء كان هناك حارس أم لم يكن (5) .
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص81 وما بعدها, الإقناع ج10 ص251 وما بعدها.
(2) أسنى المطالب ج4 ص143, نهاية المحتاج ج7 ص429, المغنى ج10 ص251, كشاف القناع ج4 ص81.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص431, أسنى المطالب ج4 ص144.
(4) أسنى المطالب ج4 ص144, كشاف القناع ج4 ص81, المغنى ج10 ص251.
(5) بدائع الصنائع ج7 ص74, شرح الزرقانى ج8 ص99.(2/560)
وعند الشيعة الزيدية أن الخيام تعتبر حرزاً بنفسها ما دامت مغطاة تحجب ما بداخلها فإذا كانت سماوية وهى التى لا سجاف لها ولا تحجب ما بداخلها فلا يكون حرزاً إلا بالحافظ (1) .
وما يراه الفقهاء فى اعتبار المكان حرزاً لنفسه ولو لم يكن به حافظ يتفق مع ما جاء به القانون المصرى من التشديد فى السرقة من البيوت المسكونة أو المعدة للسكن، فقد شددت العقوبة للسرقة من هذه الأمكنة سواء كان فيها حافظ أم لا, كذلك يتفق القانون المصرى مع ما يراه مالك وأبو حنيفة من أن الحرز لا يختل بفتح الباب أو النقب وإنما يختل بالإذن بدخول الحرز. فلو سرق شخص من بيت منقوب أو مفتوح الباب فقد سرق من بيت مسكون أو معد للسكن, ولكنه لو سرق من مسكن أذن له بدخوله فلا يعتبر التشديد فى هذه الحالة. وما يراه الشافعى وأحمد فى البيوت البعيدة عن العمران يقترب مما جاء به القانون المصرى عن البيوت والمحلات العامة فإنها لا تعتبر من المساكن إلا إذا كان يبيت بها أحد.
ويختلف الفقهاء القائلون بالحرز فى حكم سرقة نفس الحرز, فيرى أبو حنيفة فى حالة سرقة الحرز بالمكان أن سارق الحرز أو بعضه لا يقطع لأن السرقة تقتضى الإخراج من الحرز ونفس الحرز ليس فى الحرز فلا إخراج, فمن سرق باب الدار أو حجارة من حائطها لا يسرق من حرز ولو أنه يسرق نفس الحرز, ومن يسرق فسطاطاً مضروباً وهو حرز بنفسه عند أبى حنيفة لا يقطع لأنه سرق نفس الحرز ولم يسرق من الحرز, بعكس ما لو كان الفسطاط غير مضروب وبجواره شخص يحرسه فإن القطع يجب فيه لأن السرقة تكون من حرز بالحافظ (2) .
أما الأئمة الثلاثة فيرون قطع منم سرق كل الحرز أو بعضه لأن نفس الحرز يعتبر محرزاً بإقامته, فالحائط محرز ببنائه، والباب محرز بتثبيته, والفسطاط وهو
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص372.
(2) بدائع الصنائع ج4 ص74, شرح فتح القدير ج4 ص246.(2/561)
حرز بنفسه عند مالك يحرز بإقامته, فمن سرق حجارة من الحائط أو سرق باب منزل أو سرق الفسطاط المنصوب قطع فى سرقته (1) .
أما إذا كان المال محرزاً بالحافظ فأخذ الحافظ ومعه المال كسرقة جمل نام عليه راكبه فلا قطع فيها عند الجميع لأن يد الحافظ لم تزل عن الجمل, فإذا استيقظ الحافظ بعد ذلك فالفعل اختلاس إذا أزيلت يده عن الجمل, ويعلل أبو حنيفة المسألة بتعليل آخر وهو أن الجمل محرز بالحافظ فإذا أخذا جميعاً فهو كما لو سرق أجزاء الحرز (2) .
أما إذا أنزل النائم عن الجمل فلم يستيقظ وأخذ الجمل فهى سرقة يقطع فيها عند أبى حنيفة ومالك وأحمد, ولكن الشافعيين اختلفوا فى هذه فرأى بعضهم القطع ولم يره البعض الآخر مع أن تطبيق قواعدهم يقتضى القول بالقطع (3) .
ومذهب الشيعة الزيدية يتفق مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة فهم يرون من سرق نفس الحرز لا يقطع لأنه محرز به على غيره وليس هو فى ذاته محرزاً, فمن سرق الباب لا يقطع فيه إلا إذا كان مكللاً أى مركباً من داخل بحيث يصير داخل الحرز, فإذا سرق فقد سرق من الحرز (4) .
والقائلون بالحرز متفقون على أن الحرز يبطل بالإذن بدخوله, وأن هذا الإذن قد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً, إلا أنهم اختلفوا فيما يعتبر إذناً وما لا يعتبر إذناً وفيما يبطل من الحرز وما لا يبطل.
هذه هى آراء الفقهاء فى الحرز واختلافاتهم, ويمكننا أن نستظهر آراء الفقهاء ومدى اختلاف آرائهم فى التطبيقات الآتية:
إذا كان لإنسان منزل فى وسط العمران فأذن لآخر بدخول هذا المنزل فسرق منه شيئاً, فيرى أبو حنيفة أن لا قطع ولو كان فى الدار حافظ يحفظ الشىء
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص99, أسنى المطالب ج4 ص147, المغنى ج10 ص205.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص74, المغنى ج10 ص253, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101.
(3) كشاف القناع ج4 ص81, أسنى المطالب ج4 ص142, بدائع الصنائع ج7 ص73.
(4) شرح الأزهار ج4 ص370.(2/562)
المسروق أو كان صاحب المنزل يتوسد المسروق أو ينام عليه؛ لأن الدار حرز بنفسها فلا تكون حرزاً بالحافظ وقد خرج من أن يكون حرزاً بالإذن للسارق بدخولها فالأخذ من غير حرز ولا قطع فيه (1) .
ويرى مالك أن الإذن يخرج الدار من أن تكون حرزاً بنفسها ولكنها حرزاً بالحافظ إذا كان هناك حافظ, وإذن فالسرقة من حرز بالحافظ وفيها قطع, ويستوى أن يكون الحافظ للشىء المسروق نائماً أو متيقظاً ما دام الشىء واقعاً تحت بصره (2) .
ويرى الشافعى وأحمد ما يراه مالك من أن الدار تكون حرزاً بالحافظ إذا كان هناك حافظ للشىء المسروق بشرط دوام الملاحظة, على ما بينا فيما سبق, فإن نام الحافظ فلا يعتبر حافظاً للشىء إلا إذا توسد الشىء أو التف به أو لبسه (3) .
ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع رأى مالك وإن كان بعضهم يرى رأى الشافعى وأحمد (4) , ولا خلاف بين القائلين بأن الحرز يكون حرزاً بالحافظ فى أنه لو كان الشىء المسروق بعيداً عن الحافظ ولا يقع بصره عليه فإن السرقة تكون من غير حرز, حيث إن الدار خرجت بالإذن من أن تكون حرزاً بنفسها، ولأن الشىء المسروق لم يكن محرزاً بحافظ, ويمكننا أن نقيس على المثل السابق كل حرز آخر مما يعتبر حرزاً بنفسه.
وإذا أذن إنسان لآخر بدخول منزله البعيد عن العمران, فالحكم عند أبى حنيفة لا يختلف عن الحالة السابقة لأن البيت حرز بنفسه ولا فرق عند أبى حنيفة بين أن يكون داخل العمران أو خارجه, ولأن الحرز يبطل بالإذن عند أبى حنيفة ولو كان فيه حافظ ولأن وجود الحافظ فى حرز بنفسه لا اعتبار
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص73, 74, شرح فتح القدير ج4 ص341.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص101, 104.
(3) أسنى الماطلب ج4 ص142, 147, المغنى ج10 ص250, 251.
(4) شرح الأزهار ج4 ص370.(2/563)
له. والحكم عند مالك لا يختلف عن الحالة السابقة لأنه لا يفرق بين المنازل الداخلة فى العمران والخارجة عنه, فالبيت حرز بنفسه فى كل حال, وإذا بطل الحرز بالإذن فهو حرز بالحافظ كلما وجد الحافظ. أما عند الشافعى وأحمد فالبيت لا يعتبر أصلاً حرزاً بنفسه لبعده عن العمران, فالإذن بدخوله كعدم الإذن لا أثر له, ولا يقطع فى السرقة من مثل هذا البيت إلا إذا كان ثمة حافظ على التفصيل الذى سبق بيانه عندما تعرضنا للحافظ وللبيوت الخارجة عن العمران. والخلاصة أن البيت البعيد عن العمران لا يعتبر عند الشافعى وأحمد حرزاً بنفسه بأى حال وإنما يعتبر حرزاً بالحافظ إذا وجد الحافظ (1) .
ورأى الشيعة الزيدية فى هذه المسألة يتفق مع رأيهم فى مسألة السابقة لأنهم لا يفرقون بين ما دخل فى العمران وما خرج عنه, وإذا أذن للسارق إذناً خاصاً فى دخول الدار الكائنة فى العمران وكان فيها غرف مقفلة أو خزائن مغلقة فسرق من هذه الغرف المقفلة أو من الخزائن, فيرى أبو حنيفة أن لا قطع على السارق ما دام المكان المسروق منه جزءاً من الدار المأذون فى دخولها لأن الدار الواحدة حرز واحد, والإذن بدخول بعض الحرز هو إذن بالدخول فى الحرز, فإذا سرق من مكان مغلق فقد سرق من مكان مأذون له فى دخوله وقد بطل بالإذن أن يكون حرزاً فالسرقة من غير حرز ولو كان هناك حافظ (2) , ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع رأى أبى حنيفة (3) إلا إذا كان حافظ فيجب القطع.
وفى مذهب مالك رأيان: أحدهما يرى عدم القطع لأن الإذن يبطل الحرز, والثانى يرى القطع, على أن أصحاب الرأى الأول يرون القطع إذا كان ثمة حافظ (4) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص143, كشاف القناع ج4 ص81, نهاية المحتاج ج7 ص429, المغنى ج10 ص251.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص74.
(3) شرح الأزهار ج7 ص372.
(4) شرح الزرقاني, وحاشية الشيبانى ج8 ص103, 104.(2/564)
أما الشافعى وأحمد فيريان قطع السارق ولو لم يكن هناك حافظ لأن الإذن لا يبطل الحرز فيما هو مغلق ولم يصرح للسارق بدخوله, وعلى هذا فإن الإذن إذا أبطل بعض الحرز فإنه لا يبطل البعض الآخر. ويفرق أحمد فى حالة حصول السرقة من ضيف بينما إذا كان المضيف قد منع قراه أم لا, فإن كان قد منعه قراه فسرقه بقدره فلا قطع عليه وإن لم يمنعه قراه فعليه القطع (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب مالك والشافعي (2) .
أما إذ كانت الدار خارج العمران فلا يختلف الحكم عند أبى حنيفة ومالك والشيعة الزيدية. أما عند الشافعى وأحمد فلا يقطع السارق إلا إذا كان هناك حافظ لأن الدار لا تعتبر عندهما حرزاً بنفسها وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ, وإذا كان المكان المسروق منه معداً لحفظ المال ومما يؤذن للناس بدخوله إذناً عاماً كبيت طبيب يقابل فيه مرضاه أو عالم يحضر فيه الجمهور فسرق السارق من مكان محجور عن العامة وغير مسموح بدخوله فالحكم على التفصيل السابق بيانه فى البيوت المأذون بدخولها إذناً خاصاً. إلا أنهم فى مذهب مالك يرون رأياً واحداً دون خلاف وهو قطع السارق ولو لم يكن حافظ, وينبغى أن نعلم أن ذلك هو حكم السرقة الحاصلة فى وقت الإذن فإن حصلت فى وقت غير مأذون فيه بالدخول فعقوبتها القطع حتى عند أبى حنيفة (3) .
والمحلات العامة التجارية والمحلات المعدة لحفظ المال كالمحلات التجارية والفنادق والمطاعم وما أشبه, إذا سرق منها أثناء العمل فيها أى أثناء الإذن بالدخول فلا قطع فى السرقة فى رأى أبى حنيفة ولو كان على المسروقات حارس, أما إذا كانت السرقة فى وقت غير مأذون فيه بالدخول كأن كانت بعد غلق المحل أو فى الليل ففيها القطع (4) . ويرى مالك والشافعى وأحمد القطع إذا كانت السرقة فى وقت
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص146, المغنى ج10 ص257.
(2) شرح الأزهار ج4 ص372.
(3) نفس المراجع السابقة.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص242, بدائع الصنائع ج7 ص74.(2/565)
الإذن وكان ثمة حافظ فإذا لم يكن حافظ فلا قطع إلا إذا حصلت فى غير وقت الإذن, ويرى مالك والشافعى القطع فيما يسرق من أفنية المحلات التجارية وقت الإذن ولو لم يكن عليها حافظ خاص لأنها تحفظ عادة بأعين الجيران وملاحظتهم فتعتبر محرزة بالحافظ (1) .
ويعتبر الفقهاء الحمام من المحلات المعدة لحفظ المال فهو حرز بنفسه فإذا سرق منه وقت الإذن بالدخول فلا قطع من السرقة ولو كان هناك حافظ على رأى أبى حنيفة, وفى السرقة القطع إذا كان هناك ثمة حافظ على رأى الشافعى وأحمد, أما مالك فيرى القطع إذا دخل السارق وقت الإذن إذا دخل بقصد السرقة ولو لم يكن هناك حافظ, فإن لم يقصد السرقة ثم سرق قطع إذا كان ثمة حارس (2) .
وإذا كان المحل غير معد لحفظ المال كالمساجد فيرى أبو حنيفة أنه حرز بالحافظ ولا يكون حرزاً بنفسه حتى فيما يلزم بالضرورة لأداء الغرض الذى أنشئ من أجله المحل, فحصر المسجد وقناديله وما فيه من ثريات كهربائية أو ستائر أو بُسُط أو مصاحف كل ذلك إذا سرق فلا قطع فيه إلا إذا كان ثمة حافظ لأن المسجد لم يعد أصلاً لحفظ المال, وإذا دخل أحد المصلين المسجد وترك أمتعته دون ملاحظة فلا قطع فى سرقتها لأنها سرقت من غير حرز, أما إذا كان يلاحظها فسرقت منه ففى السرقة القطع لأأن السرقة من حرز بالحارس, ولقد حاول بعض الحنفيين أن يعلل عدم القطع فى سرقة أدوات المسجد بأنها مال موقوف لا مالك له, ولكن الرأى الراجح أن عدم القطع راجع لانعدام الحرز (3) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص143, 149, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص99, 103, 104, كشاف القناع ج4 ص81 وما بعدها.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص102, 103, أسنى المطالب ج4 ص146, 149, المغنى ج10 ص253, كشا القناع ج4 ص82, بدائع الصنائع ج7 ص74, شرح فتح القدير ج4 ص241, 242.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص276, شرح فتح القدير ج4 ص242, الزيلعى ج3 ص221, بدائع الصنائع ج7 ص74.(2/566)
ويرى مالك أن المسجد فى أصله ليس حرزاً بنفسه ولكن بناء المسجد نفسه وأدواته المعدة للاستعمال فيه كالحصر والبسط والقناديل كل ذلك يعتبر حرزاً بنفسه, فالحائط يعتبر حرزاً بنفسه, وسقف المسجد حرزاً بنفسه, وقناديله محرزة بنفسها؛ وهكذا, فمن سرق من بناء المسجد أو أدواته المعدة للاستعمال فيه فقد سرق من حرز بنفسه. ولا يشترط أن يخرج بما سرق من باب المسجد بل يكفى أن يزيل الشىء عن مكانه؛ لأن كل شىء يعتبر حرزاً مستقلاً بنفسه, فإذا أزال البساط عن مكانه تمت السرقة دون حاجة لأن يخرج به من الباب, وإذا أزال خشبة من السقف تمت السرقة دون حاجة للخروج من الباب, وهكذا. أما الأموال التى توضع فى المسجد بصفة مؤقتة كملابس المصلين وأحذيتهم وحصير أو سجاد يحضرها أحد المصلين ليصلى عليها هو أو غيره فسرقة هذه وأمثالها لا قطع فيها لأن المسجد لم يعدّ لحفظ المال أصلاً, لكن إذا كان عليها حارس يلاحظها ففيها القطع لأن السرقة تحدث من حرز بالحافظ (1) . ويفرق بعض المالكية فى أدوات المسجد بين المثبت والمسمر منها والمشدود بعضه إلى بعض كالقناديل المسمرة المشدودة بالسلاسل والبلاط المثبت والحصر المسمرة أو المخيط بعضها فى بعض- فهذه فى سرقتها القطع, أما غير المثبت فلا قطع فيه.
وعند الشافعى أن المسجد فى أصله ليس حرزاً بنفسه (2) ولكنه يعتبر حرزاً بنفسه فيما جعل لعمارته كالبناء والسقف ولتحصينه كالأبواب والشبابيك ولزينته كالستائر والقناديل المعدة للزينة، فمن سرق شيئاً مجعولاً للعمارة أو التحصين أو الزينة فقد سرقه من حرز بالمكان. أما ما أعد لانتفاع الناس به كالحصر والبسط والمصاحف والقناديل المعدة للإضاءة فلا قطع فيها ولو كان هناك حافظ ولو أن السرقة من حرز بالحافظ؛ لأن هذه المسروقات جعلت للانتفاع العام وحق السارق فى الانتفاع بها شبهة تدرأ الحد.
_________
(1) شرح الزرقانى ج8
(2) أسنى المطالب ج4 ص142, نهاية المحتاج ج7 ص428.(2/567)
هذا إذا كان السارق له حق الانتفاع فإذا لم يكن له حق الانتفاع كذمى مثلاً أو كان المسجد خاصاً لطائفة معينة فالقطع على السارق, وكذلك يقطع السارق بسرقة أمتعة المصلين إذا كان ثمة حافظ لأن السرقة من حزر بالحافظ (1) .
وفى مذهب أحمد رأيان فى السرقة من المسجد أحدهما يتفق مع مذهب الشافعى والثانى يتفق مع مذهب أبى حنيفة (2) . وحجة أصحاب الرأى الثانى أن المسجد لا مالك له من المخلوقين وأنه معد للانتفاع العام فكان الانتفاع شبهة تدرأ الحد سواء اعتبرت السرقة من حرز بنفسه أو حرز بالحافظ.
وعند الشيعة الزيدية أن المسجد يعتبر حرزاً بنفسه لكل أدواته سواء كانت لعمارته أو تحصينه أو تزيينه أو منفعته وليس حرزاً فيما عدا ذلك إلا بالحافظ, فخادم المسجد إذا سرق متاعه فهو مسروق من غير حرز ما لم يكن حافظ, والمصلى إذا سرق متاعه فكذلك (3) . ولا يقر الظاهريون الحرز ولذلك فهم يوجبون قطع من سرق من مسجد باباً كان مغلقاً أو غير مغلق أو حصيراً أو قنديلاً أو شيئاً وضعه صاحبه هنالك ونسيه كان صاحبه معه أو لم يكن (4) .
وحكم المعابد والكنائس كحكم المساجد (5) , ويقاس عليها كل مكان لم يعد لحفظ المال كالكتاتيب والمدارس فيما عدا الأقسام الداخلية لأنها تعد لحفظ المال, وكذلك المقاهى وما أشبه.
وينبغى أن نلاحظ أن الشافعى وأحمد يفرقان بين المحلات الكائنة فى العمران وما هو كائن خارج العمران, وتطبيق هذه القاعدة على المساجد يقتضى القول بأنه لا قطع فى بناء المسجد ولا ما أعد لتحصينه أو عمارته أو زينته إذا كان المسجد خارج العمران إلا إذا كان ثمة حارس على ما سرق من المسجد (6) .
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص425, أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص140.
(2) المغنى ج10 ص254, كشاف القناع ج4 ص83.
(3) شرح الأزهار ج4 ص371.
(4) المحلى ج11 ص329.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص425.
(6) المغنى ج10 ص255.(2/568)
وإذا كان رجل فى الفلاة أو فى الطريق ومعه حقيبة أو غرارة بها أمتعته أو كان معه سيارة تعطلت أو دابة أو أى شىء آخر وجلس عندها يحفظها فسرقت منه, فالعقوبة قطع السارق عند مالك وأبى حنيفة سواء وقعت السرقة والحافظ نائم أو متيقظ بشرط أن يغافله السارق ويسرق الشىء دون أن يراه؛ فإن رأى السارق وهو يسرق فالفعل اختلاس لا سرقة لأن الأخذ لم يكن خفية ولا قطع فى الاختلاس, أما الشافعى فيرى قطع السارق إذا كان الحافظ متيقظاً فإن نام فلا قطع إلا إذا توسد الغرارة أو نام فوقها (1) .
وإذا سرق الجانى فسطاطاً ملفوقاً وضعه المجنى عليه فى الطريق أو الفلاة وبقى عنده يحفظه فالحكم ما سبق, فإن تركه وحده دون حارس فسرق فالسرقة لا قطع فيها باتفاق لأنها سرقة من غير حرز.
وإذا ضرب الفسطاط ووضعت بداخله أمتعة فسرق منها شىء فيرى مالك وأبو حنيفة القطع فى السرقة لأن الفسطاط حرز بنفسه فإذا سرق منه شىء فهى سرقة من حرز يقطع فيها ولو لم يكن هناك حافظ, أما الشافعى وأحمد فلا يريان القطع إلا إذا كان على الفسطاط حافظ لأنه ليس حرزاً بنفسه فى رأيهما (2) .
وإذا سرق السارق نفس الفسطاط المضروب فلا قطع عليه عند أبى حنيفة لأنه سرق نفس الحرز, وسرقة الحرز عنده لا قطع فيها, وعلى السارق القطع عند مالك لأن الحرز محرز بإقامته, أما الشافعى وأحمد فيريان القطع فى سرقة الحرز كمالك ولكنهما يشترطان فى سرقة الفسطاط نفسه أن يكون هناك حافظ لأنهما لا يعتبرانه حرزاً بنفسه كما يعتبره مالك وأبو حنيفة.
ومن هذا القبيل سرقة باب الدار وبعض أجزاء حائطها, فيرى أبو حنيفة
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص74, أسنى المطالب ج4 ص141, 142, شرح الزرقانى ج8 ص101, المغنى ج10 ص251.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص99, بدائع الصنائع ج7 ص74, أسنى المطالب ج4 ص144, كشاف القناع ج4 ص81.(2/569)
أن الباب إذا كان مركباً فهو جزء من الحرز كالحائط, فإذا سرق الباب أو بعض الحائط سارق فقد سرق نفس الحرز ونفس الحرز ليس فى الحرز فكأنه سرق من غير حرز ولا قطع فى سرقته. أما إذا كان الباب غير مركب وموضوعاً داخل الحرز فإن سرقته تكون من حرز وفيه القطع, وكذلك الحال فى بعض أجزاء الحائط لو كانت داخل الحرز بغض النظر عما إذا كان الباب مفتوحاً أو الحائط منقوباً لأن فتح الباب والنقب لا يبطل الحرز فى رأى أبى حنيفة. أما الأئمة الثلاثة فيرون أن سرقة الباب وبعض أجزاء الحائط سرقة من حرز يقطع فيه لأنها تعتبر محرزة بإقامتها وتثبيتها, فالحائط محرز بإقامته والباب محرز بتركيبه وحلقة الباب محرزة بتسميرها وهكذا. أما إذا كان الباب مخلوعاً وموجوداً داخل الحرز وكذلك بعض أجزاء الحائط ففيها القطع أيضاً عند مالك لأن الحرز لا يبطل عنده بالنقب وفتح الباب, أما عند الشافعى وأحمد فلا قطع إذا لم يكن هناك باب أو كان هناك باب وكان هناك نقب أو هدم فى الحائط ما لم يكن حافظ فإن كان حافظ ففى السرقة القطع (1) .
ولا خلاف بين الفقهاء فى أن الإنسان يعتبر حرزاً لكل ما يلبسه أو يحمله من نقود أو غيرها, أو بتعبير آخر يعتبر كل ما يلبسه الإنسان أو يحمله من نقود وغيرها محرزاً بحافظ وهو الإنسان.
فمن نشل من آخر نقوداً كانت فى جيبه أو فى ثيابه قطع بالسرقة (2) ، ويعبر عن النشال بالطراز. والنشل الذى يحدث خفية هو الذى فيه القطع أما ما يحدث والمجنى عليه منتبه له فهو اختلاس، ويستوى أن يقطع النشال ملابس المجنى عليه أو يدخل يده فيها فيأخذ النقود (3) .
_________
(1) المغنى ج10 ص255, أسنى المطالب ج4 ص140, 144, 147, شرح الزرقانى ج8 ص99, 102, 105, 106, بدائع الصنائع ج7 ص74, كشاف القناع ج4 ص81, شرح فتح القدير ج4 ص223.
(2) المدونة ج16 ص80، أسنى المطالب ج4 ص142، المغنى ج10 ص260.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص245، بدائع الصنائع ج7 ص76.(2/570)
وإن سرق من القطار بعيراً أو حملاً لم يقطع لأنه ليس بحرز مقصود فتمكن فيه شبهة العدم لأن السائق والراكب والقائد يقصدون المسافات ونقل الأمتعة ولا يقصدون الحفظ، فإن كان مع الأحمال من يثبتها للحفظ قطع ولكن إذا شق الحمل وأخذ منه قطع لأن الجوالق فى مثل هذه الحالة حرز بنفسه لأنه معد لحفظ الأمتعة (1) .
وعند الأئمة الثلاثة كل من الراكب والسائق حافظ حرز فيقطع فى أخذ الجمل والحمل والجوالق والشق ثم الأخذ، وأما القائد فحافظ للجمل الذى بيده فقط عندنا (أى عند أبى حنيفة) ، وعندهم إذا كان بحيث يراها إذا التفت إليها حافظ للكل فالكل محرزة عندهم بقوده ... وإذا كانت غرارة على ظهر دابة فشقها إنسان وأخرج ما فيها من متاع قطع عند أبى حنيفة لأن الغرارة حرز لما فيها، وإن أخذها بحالها دون أن يشقها لم يقطع لأنه أخذ نفس الحرز، وكذلك إذا كانت الغرارة محملة على جمل فسرق الجمل ومعه الغرارة لأن الحمل لا يوضع على الجمل للحفظ وإنما للحمل وحتى إذا ركب الجمل صاحبه فإن الغرارة لا تعتبر محرزة بحافظ لأنها حرز بنفسها فإذا أخذها السارق فقد أخذ نفس الحرز (2) ، أما إذا سرق الجمل وراكبه فلا يقطع لأن يد الحافظ لم تزل عن المسروق، ويرى أن ظهر الدابة يعتبر حرزاً للغرارة فإذا أخذ الغرارة كلها أو شقها فأخذ منها فعليه القطع، وكذلك لو سرق الدابة وعليها الغرارة ما دامت الدابة فى حرز مثلها (3) ، كأن كانت باركة فى مراح أو سائرة فى قطار (4) .
أما الشافعى وأحمد فلا يعتبران الغرارة محرزة بنفسها وتعتبر أنها محرزة بالحافظ، فإذا سرق شخص الغرارة أو شقها فأخذ منها قُطع بسرقته إذا كان هناك حافظ، وكذلك إذا سرق الجمل بما عليه إن كان ثمة حارس، فإن كان
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص246.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص74.
(3) المدونة ج16 ص79، 80.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص99، 100، 102.(2/571)
الحافظ راكباً الجمل فلا قطع (1) ؛ لأن يد الحافظ لم تزل عن المسروقات (2) .
ومذهب الشيعة فى هذه المسألة كمذهب أحمد والشافعى لأنهم يعتبرون الجوالق حرزاً بالحارس (3) .
وإذا سرق الجانى بعيراً أو شاة أو بقرة من المرعى لم يقطع عند أبى حنيفة سواء كان الراعى معها أم لم يكن، أما إذا سرقها من المراح التى تأوى إليه فيقطع سواء كان معها حافظ أم لا؛ لأن المراح حرز بنفسه، وحجة أبى حنيفة أن المرعى لا يعتبر حرزاً بنفسه ولا يعتبر حرزاً بالحافظ ولو أن الراعى موجود لأنه يوجد للرعى لا للحراسة وإن كانت الحراسة تحدث فعلاً بوجوده بخلاف المراح فإنه أعد لحفظ المال وخصص لهذا الغرض، ويشترط أبو حنيفة لاعتبار المراح أو الحظيرة حرزاً بنفسه أن تكون مسورة وعليها باب (4) .
ويرى مالك ما يراه أبو حنيفة فى سرقة الدواب والماشية فى المرعى فلا قطع فى سرقتها مع وجود الراعى، أما إذا سرقت من المراح أو الحظيرة ففى سرقتها القطع، وإذا سرقت فيما بين المرعى والمراح مع وجود الحافظ فالبعض يرى القطع والبعض لا يراه.
والإبل المقطرة عند مالك تقطع فى سرقتها أو نازلة مجتمعة أو مقطرة (5) .
ولا يشترط عند مالك أن يكون المراح أو الحظيرة مسورة أو لها باب بل يكفى أن يعد المكان مراحاً أو موقفاً للدواب (6) .
ويرى الشافعى أن السائمة من إبل وخيل وبغال وحمير وغيرها تحرز فى المرعى بملاحظة الراعى لها بأن يراها ويبلغها صوته فإن نام عنها أو غفل عنها
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص82.
(2) المغنى ج10 ص253، أسنى المطالب ج4 ص142، 144.
(3) شرح الأزهار ج4 ص371.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص74، شرح فتح القدير ج4 ص246.
(5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101، 102.
(6) شرح الزرقانى ج8 ص100، المدونة ج16 ص79.(2/572)
فغير محرزة، وإن استتر بعضها عنه فغير محرزة، ويرى البعض أنه يكفى أن يبلغها النظر ولو لم يبلغها الصوت، وتحرز السائمة فى المراح بالمراح المسور والمغلق بابه سواء كان السور حطباً أم قصباً أم حشيشاً أم غير ذلك بحسب العادة. فإن كان المراح مفتوحاً أو خارج العمران فحرز بحارس وتحرز الدواب السائرة بسائق لها يراها كلها أو قائد لها يراها كلها على أن يكثر الالتفات أو بقيادة بعضها وسوق البعض الآخر، فإن لم ير بعضها فهو غير محرز (1) .
ويرى أحمد ما يراه الشافعي (2) ويزيد عليه أن الإبل تحرز وهى باركة إذا عقلت وكان معها حافظ ولو نام الحافظ لأن العادة أن صاحب الإبل يعقلها إذا نام، وإن لم تعقل الإبل وكانت الإبل باركة والحافظ ينظر إليها بحيث يراها فهى محرزة، فإذا نام أو انشغل عنها فهى غير محرزة.
والثمار المعلقة فى أشجارها والزرع غير المحصود لا قطع فى سرقتها إذا سرقت وهى معلقة أى قبل الجنى والحصد، وكذلك لا قطع فيها بعد جنيها أو حصدها ما لم تنقل إلى الجرن، وهذا متفق عليه بين الفقهاء ولا يخالف فيه إلا الظاهريون حيث يرون القطع فى الثمار والزرع معلقاً أو غير معلق (3) ، ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى الثمار والزرع ولو كانت محاطة بسور أو حائط. ولكن مالكاً والشافعى وأحمد يرون قطع من سرق ثمراً من شجرة نابتة فى دار محرزة لأن السرقة تعتبر مما هو محرز بالدار. وفى مذهب مالك يرى أصحابه قطع من يسرق ثمراً من بستان مسور له غلق. والشافعيون يرون القطع فى هذه الحالة إن كان ثمة حارس كما يرون أن أشجار أفنية الدور محرزة بلا حارس.
فإذا قطع الثمر أو حصد الزرع فلا قطع فيه إلا إذا وضع فى الجرن. على
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص144، 145.
(2) المغنى ج10 ص252، كشاف القناع ج4 ص82.
(3) المحلى ج11 ص332، المهذب ج2 ص295، أسنى المطالب ج4 ص144، بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح الزرقانى ج8 ص100، 105، شرح الأزهار ج4 ص399.(2/573)
أن بعض المالكيين يرون القطع فيما يسرق قبل النقل للجرن إذا كوم أو كدس أكداساً بعضها إلى بعض حتى يصير كالشىء الواحد، لأنه يصير فى حالة تتفق مع حالته فى الجرن. كما يرون القطع فى السرقة أثناء النقل إلى الجرن إذا كان ثمة حافظ.
وإذا وضعت الثمار والزروع فى الجرن ففى سرقتها عند مالك والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية سواء كان هناك حافظ أم لا، ما دام الجرن داخل العمران، فإن كان الجررن خارج العمران فلا يجب القطع عند الشافعى وأحمد إلا إذا كان ثمة حارس، ويستوى أن يكون الثمر أو الزرع قد استحكم جفافه أم لا. ولكن أبا حنيفة لا يقطع فيما سرق من الجرن إلا إذا كان الثمر أو المحصول المسروق منه قد استحكم جفافه لأنه يلحق ما لم يستحكم جفافه بالتافه ولا قطع عنده فى تافه.
وإذا كان الإذن بالدخول يبطل الحرز فى حق المأذون له على الوجه الذى سبق بيانه فتطبيقاً لذلك لا يقطع الخدم فى سرقة أموال مخدوميهم، ولا الضيوف فى سرقة أموال من أضافوهم، ولا الأجير إذا سرق من موضع مأذون له فى دخوله، ويقاس على هؤلاء كل من أذن له بدخول الحرز، لأن الإذن بالدخول يخرج الموضع المأذون فى دخوله من أن يكون حرزاً. وإذا أذن لشخص بأخذ شىء من الحرز ولم يؤذن له فى دخول الحرز فدخله وأخذ الشىء المأذون فى أخذه وسرق شيئاً آخر فلا قطع عليه لأن الإذن بأخذ المتاع يتضمن الإذن بالدخول فى الحرز والإذن بدخول الحرز يبطله فى حق المأذون له، فلا يشترط إذن أن يكون الإذن بالدخول صريحاً بل يكفى أن يكون ضمنياً، ويراعى فيما سبق الخلافات التى سبق عرضها بين الفقهاء فى حالة ما إذا سرق المأذون له من محل مغلق (1) .
ويعتبر السارق مأذوناً له بدخول الحرز إذا كان له حق الانتفاع به كالمستأجر
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص74، 75، شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص103، 104، أسنى المطالب ج4 ص146، 149، المغنى ج10 ص253، 257، كشاف القناع ج4 ص84، شرح الأزهار ج4 ص372، المدونة ج16 ص72، 75.(2/574)
والمرتهن والمستعير، فإذا سرق المستأجر مالاً لمؤجر من الدار المؤجرة، أو سرق الدائن المرتهن مالاً لمدين من العين المرهونة، أو سرق المستعير شيئاً للمعير من الدار المعارة، فلا قطع على أحدهم لأن لهم حق الانتفاع بالحرز واستعمال هذا الحق يقتضى دخول الحرز.
أما المالك للحرز فلا يعتبر مأذوناً له بدخوله إذا كان حق الانتفاع لغيره، ولذلك يقطع إذا سرق مالاً من الحرز للمنتفع، فالمؤجر إذا سرق مالاً للمستأجر من الدار المؤجرة والمدين إذا سرق مالاً للمرتهن من الدار المرهونة يقطع كل منهما بسرقته، وهذا ما يراه أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد والشيعة, ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان عدم القطع لأن الحرز ملك السارق فهناك شبهة فى إباحة الدخول والشبهة تدرأ الحد (1) . ويقطع المعير إذا سرق مالاً للمستعير من الحرز المعار, وبهذا قال الشافعى وأحمد, ولكن أبا حنيفة والشيعة الزيدية يرون أن لا قطع على المعير؛ لأن المنفعة ملك له وله الرجوع فى العارية متى شاء فيعتبر دخوله فى الحرز رجوعًا وتكون السرقة من غير حرز (2) .
ويعتبر المالك للحرز مأذونًا له بدخول الحرز إذا كان مغصوبًا منه, فمن غصب شخصًا داره ثم أحرز فيها مالاً فجاء صاحب الدار وسرق ما فيها من مال فلا تعتبر السرقة من حرز لأن الغصب لم يسلب المالك حقه فى ملكية الحرز (3) . كذلك لو كانت الدار مستأجرة أو مرتهنة أو معارة فانتهت الإجارة أو الرهن أو العارية ورفض المنتفع رد الدار أو أهمل الرد (4) مع تمكنه من ذلك, ففى هذه الحالة يكون المنتفع فى حكم الغاصب (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص75.
(2) المغنى ج 10 ص 256, أسنى المطالب ج 4 ص 138, شرح الأزهار ج4 ص372, مواهب الجليل ج6 ص307, نهاية المحتاج ج7ص434.
(3) المغنى ج10 ص257.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص435, شرح الأزهار ج4 ص372.
(5) أسنى المطالب ج7 ص75.(2/575)
610- السرقات من الأقارب: وفى مذهب أبى حنيفة لا قطع على من سرق من ذى رحم محرم؛ لأنهم يدخل بعضهم على بعض دون إذن عادة فكان هناك إذن ضمنى بالدخول فتكون السرقة من غير حرز, فضلاً عن أن القطع بسبب السرقة يفضى إلى قطع الرحم وذلك حرام, والقاعدة أن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام (1) .
أما من سرق من ذى رحم غير محرم فيقطع بسرقته؛ لأنهم لا يدخل بعضهم على بعض عادة دون استئذان فليس هناك إذن صريح ولا ضمنى بالدخول. والسرقة من محرم غير ذى رحم كالأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة مختلف عليها فى المذهب، فأبو حنيفة ومحمد يريان القطع فيها, وأبو يوسف لا يرى القطع فى حال السرقة من الأم ويقطع فيما عدا ذلك, وحجته أن الإنسان يدخل بيت أمه من الرضاع دون إذن عادة فهناك إذن ضمنى بالدخول (2) .
ومن سرق من امرأة أبيه أو زوج أمه أو حليلة ابنه أو من ابن امرأته أو أمها فلا قطع عليه إن كانت السرقة من منزل من يضاف إليه السارق من أبيه أو أمه أو ابنه أو امرأته لأنه مأذون له بالدخول فى منزل هؤلاء فلم يكن المنزل حرزًا فى حقه. وإن سرق من منزل آخر فإن كانا فيه لم يقطع, وإن كان لكل واحد منهما منزل على حدة فيرى أبو حنيفة أن لا قطع, ويرى أبو يوسف ومحمد القطع, وحجة أبى حنيفة أن حق التزاور ثابت بين السارق وبين قريبه وكون المنزل لغير قريبه لا يمنع من أن له زيارة قريبه, وهذا يورث شبهة إباحة الدخول فيختل الحرز (3) .
هذا هو حكم السرقة من الأقارب فى مذهب أبى حنيفة. أما الشافعى وأحمد فعندهما أن الولد لا يُقطع بسرقة مال ولده وإن سفل, وسواء فى ذلك الأب والأم والابن والبنت والجد والجدة من قِبَل الأب والأم؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص75.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص75. أسنى المطالب ج4 ص140, المغنى ج10 ص284, 286.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص98.(2/576)
"أنت ومالك لأبيك", ولقوله: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه", وفى لفظ: "فكلوا من كسب أولادكم". ولا يقطع الابن عندهما بسرقة مال والده وإن علا لأن النفقة تجب من مال الأب لابنه حفظًا له فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال. فأما سائر الأقارب كالإخوة والأخوات ومن عندهم فيقطع بسرقة مالهم ويقطعون بسرقة ماله (1) .
ويرى مالك أن لا قطع على الأصول إذا سرقوا من الفروع, فلا قطع على الجد والجدة لأب أو لأم والأب والأم إذا سرقوا من أحفادهم أو أبنائهم. ولكن إذا سرق الفروع من الأصول قطعوا بسرقتهم, فلا يعفى مالك من القطع للقرابة إلا الأصول لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (2) , ويرى بعض الشيعة الزيدية رأى مالك ويرى البعض أن لا قطع على الأصول إذا سرقوا من الفروع ولا على الفروع إذا سرقوا من الأصول ولا قطع بين ذوى الأرحام المحارم (3) .
أما الظاهريون فيرون قطع الأصول إذا سرقوا من الفروع وقطع الفروع إذا سرقوا من الأصول ولا يسقطون القطع بالقرابة, ويرون أن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أنت ومالك لأبيك" منسوخ بآيات المواريث (4) .
وإذا سرق أحد الزوجين من الآخر فيرى مالك قطع السارق منهما إذا سرق مالاً محجورًا عنه أى محرزًا فى مكانه مغلقًا لا يسمح له بدخوله, فإذا سرق من مال لم يحجر عنه فلا قطع عليه, ويستوى أن يكون المال المحجور عنه فى نفس المنزل الذى يقيمان فيه أو فى غيره (5) . ويرى أبو حنيفة أن لا قطع على أحد الزوجين فى سرقة مال الآخر سواء سرق من البيت الذى يقيمان فيه أم من بيت
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص375.
(2) المحلى ج11 ص343, 347.
(3)
(4)
(5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص 100.(2/577)
آخر؛ لأن كلاً من الزوجين مأذون له بدخول منزل صاحبه كما أنه ينتفع بماله عادة وهذا يوجب خللاً فى الحرز (1) . وفى مذهب الشافعى ثلاثة آراء, أحدها كرأى مالك, والثانى كرأى أبى حنيفة, والثالث يرى أصحابه قطع الزوج إذا سرق مالاً محجورًا عنه من مال الزوجة ولا يرى قطع الزوجة إذا سرقت ما حجر عنها من مال الزوج, وحجتهم أن للزوجة حقًا فى مال الزوج لأنه ملزم بالإنفاق عليها وليس الزوج كذلك (2) . والرأى الأول هو الراحج فى المذهب (3) . وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أبى حنيفة (4) . ومذهب الشيعة الزيدية فيه الرأيان: رأى مالك وأبى حنيفة (5) . أما الظاهريون فيرون القطع على كل واحد من الزوجين إذا سرق من مال صاحبه ما لم يبح له أخذه سواء كان محرزًا عنه أو غير محرز؛ لأن الظاهريين لا يعترفون بالحرز, أما إذا كان المأخوذ مباحًا أخذه كنفقة الزوجة أو طعامها أو كسوتها فلا قطع فيه (6) .
وهذا هو حكم السرقة بين الزوجين ما دامت السرقة قد وقعت والزوجية قائمة, ولا عبرة بالدخول, فلو حدث الطلاق قبل الدخول فلا قطع فيما يقع من سرقات بين الزوجين من وقت الزواج إلى وقت الطلاق لأن الزوجية كانت قائمة وقت السرقة, أما ما يقع بعد الطلاق ففيه القطع لأن غير المدخول بها لا عدة لها لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] , وإذا كانت السرقة فى عده الطلاق الرجعى فلا قطع أيضًا لأن الزوجية تظل قائمة حتى تنتهى العدة, أما السرقة فى عدة الطلاق البائن ففيها القطع. ولكن أبا حنيفة لا يرى القطع إذا وقعت السرقة فى عدة الطلاق البائن؛ لأن النكاح فى حال العدة قائم من وجه كما أن أثره قائم وهو العدة, وقيام النكاح من كل وجه يمنع القطع فقيامه من وجه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 75.
(2) المذهب ج2 ص 299.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص 424, أسنى المطالب ج4 ص141.
(4) المغنى ج10 ص 287.
(5) شرح الأزهار ج4 ص 376.
(6) شرح الأزهار ج4 ص376.(2/578)
أو قيام أثره يورث الشبهة والحدود تدرأ الشبهات (1) .
وإذا كانت السرقة بعد انتهاء العدة ففيها القطع بلا خلاف, وقيام الزوجية بعد السرقة لا أثر له على السرقة التى وقعت قبلها فيقطع السارق فيها, ولا يخالف فى هذا إلا الحنفية فإنهم يرون أن الزواج إذا حصل قبل الحكم فى الجريمة لم يحكم فيها بالقطع لأن الزواج مانع طرأ على الحد والمانع الطارئ عند الحنفية له حكم المانع المقارن إذا أدى لإسقاط الحد. ويرى أبو حنيفة أن الزواج إذا حصل بعد الحكم وقبل تنفيذ العقوبة لم يقطع, وحجته أن الإمضاء فى باب الحدود من تمام القضاء فكانت الشبهة المعترضة على الإمضاء كالمعترضة على القضاء, وكان الطارئ على الحدود قبل الإمضاء بمنزلة الموجود قبل القضاء. ولكن أبا يوسف يرى فى هذه الحالة عدم سقوط حكم القطع بالزواج لأن المانع من القطع فى حالة الزوجية هو شبهة عدم الحرز, فإذا اعتبرت الزوجية الطارئة شبهة مانعة من القطع لكان معنى ذلك اعتبار الشبهة وهى ساقطة فى باب الحدود (2) .
واختلف فى مذهب أبى حنيفة فيما إذا كان الحرز المعتبر للشيء المسروق هو حرز مثله أو حرز نوعه, فرأى البعض أن يعتبر فى الشيء حرز المثل؛ فالإسطبل مثلاً حرز الدابة والحظيرة حرز الشاة والبيوت والخزائن حرز النقود والجواهر, ورأى البعض أن ما كان حرز النوع جاز أن يكون حرزًا للأنواع كلها؛ فالإسطبل مثلاً حرز للدابة فيجوز أن يكون حرزًا للنقود أو الجواهر (3) .
ولكن الأئمة الثلاثة والشيعة الزيدية يرون هذه المسألة للعرف ويرون أن حرز الشيء هو ما جرت العادة بحفظه فيه وما لا يعتبر صاحبه مضيعًا, والمرجع فى تعيين ذلك للعرف, فرأيهم إذن يتفق مع الرأى الأول فى مذهب أبى حنيفة (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 76.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 76, شرح فتح القدير ج4 ص 240.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص76, شرح فتح القدير ج4 ص242.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص98, أسنى المطالب ج4 ص101, المغنى ج10 ص250, شرح الأزهار ج4 ص 270.(2/579)
ولهذا المبحث أهمية كبرى ذلك أن القطع لا يجب إلا فى سرقة من حرز فإذا قلنا بأن الحرز حرز المثل امتنع مثلاً القطع فى سرقة الجواهر من الإصطبل أو الجرن وسرقة الأقمشة من حظيرة الشاة لأن الإصطبل والجرن والحظيرة لا يعتبر أيهم حرز لهذه الأشياء فكانت السرقة واقعة على مال غير محرز وإذا قلنا: إن حرز نوع معين هو حرز لباقى الأنواع وجب القطع فى هذه السرقات لأنها واقعة على مال محرز.
611- رابعًا: أن يبلغ المال المسروق نصابًا: الأصل فى شرط النصاب أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أثر من فعله, فقد روى ابن عمر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قطع فى مجن ثمنه ثلاثة دراهم أو قيمته ثلاثة دراهم على رواية, رواه الجماعة. وعن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدًا" رواه أحمد ومسلم والنسائى وابن ماجه, وفى رواية قال: "تقطع يد السارق فى ربع دينار" رواه البخارى والنسائى وأبو داود, وفى رواية: "تقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدًا" رواة البخاري, وفى رواية قال: "اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك", وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثنا عشر درهمًا, رواه أحمد. وفى رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. رواة النسائى. وعن أبى هريرة(2/580)
أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده" (1) .
وجمهور الفقهاء على اشتراط النصاب بوجوب القطع فى السرقة إلا ما روى عن الحسن البصرى وداود وما عرف عن الخوارج من وجوب القطع فى سرقة القليل والكثير, وحجتهم إطلاق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة:38] , كما استدلوا بحديث أبى هريرة: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده". ولكن جمهور الفقهاء يرون أن إطلاق الآية مقيد بأحاديث الرسول التى سبق ذكرها, ويرون أن حديث أبى هريرة أريد به تحقير شأن السارق والتنفير من السرقة (2) .
وإذا كان جمهور الفقهاء يشترط النصاب فى القطع إلا أنهم اختلفوا فى تحديد مقدار هذا النصاب, فيرى مالك أن القطع يجب فى ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب, فإذا كان المسروق من غير الذهب أو الفضة قُوم بالدراهم لا بالذهب إذا اختلفت قيمة الثلاثة دراهم مع الربع دينار ولاختلاف الصرف مثل: أن يكون الربع فى وقت درهمين ونصفًا, فإذا ساوى المسروق ثلاثة دراهم قطع وإن لم يساو ربع دينار, وإن ساوى ربع دينار ولم يساو ثلاثة دراهم لم يقطع (3) .
فالقاعدة عند مالك أن كل واحد من الذهب والفضة معتبر بنفسه, وقد روى عنه بعض البغداديين أنه ينظر فى تقديم العروض إلى الغالب فى نقود أهل البلد, فإذا كان الغالب دراهم قومت بالدراهم وإن كان الغالب الدنانير قومت بالدنانير, والمشهور هو الرأى الأول.
ويرى الشافعى أن القطع يجب فى ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب كما يرى مالك, ولكن الشافعى يرى أن الأصل فى تقويم الأشياء هو الذهب فالربع دينار أصل للدراهم ومن ثم فلا يقطع عنده إلا فيما يساوى ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار, وإذا كانت السرقة من غير الذهب قومت بالذهب (4) .
وفى مذهب أحمد روايتان: الأولى: أن النصاب الذى يقطع فيه هو ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الفضة أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما, وهذا هو مشهور مذهب مالك. الثانية: أن النصاب الذى يقطع فيه هو ربع
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص36 وما بعدها.
(2) نيل الأوطار ج7 ص36, 39, بداية المجتهد ج2 ص 373.
(3) حاشية الشيبانى ج8 ص 94.
(4) المهذب ج2 ص 294, نهاية المحتاج ص419.(2/581)
دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الوَرِق أى الفضة, فإذا سرق السارق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع, فإذا اختلفت قيمة الربع دينار مع الثلاثة دراهم قطع إذا بلغ المسروق أقل القيمتين (1) .
ويرى أبو حنيفة أن النصاب الذى يقطع فيه هو عشرة دراهم تساوى دينارًا, فلا قطع عنده فى أقل من عشرة دراهم, وحجته ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يقطع إلا فى ثمن مجن وهو يومئذ يساوى عشرة دراهم, وفى رواية أخرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم", وعن ابن مسعود أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقطع اليد إلا فى دينار أو عشرة دراهم", وما روى عن ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقطع السارق إلا فى ثمن المجن", وكان يقوم يومئذ بعشرة دراهم.
ويرى الحنفية أن الإجماع منعقد على القطع فى عشرة دراهم, وفيما دون العشرة اختلف الفقهاء لاختلاف الأحاديث فوقع الاحتمال فى وجوب القطع ولا يجب القطع مع الاحتمال (2) .
ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع المذهب الحنفى (3) , ويرى ابن حزم من فقهاء المذهب الظاهرى أن نصاب السرقة الذى يقطع فيه اليد هو ربع دينار إذا كان المسروق ذهبًا, فإذا كان المسروق مما سوى الذهب فالقطع إنما يجب فى سرقة ما يساوى ثمن مجن أو ترس قل? ذلك أو كَثُرَ دون تحديد, ولم يحاول ابن حزم أن يبين قيمة المجن أو الترس لما روى عن عائشة من أن يد السارق لم تكن تقطع على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى أدنى من ثمن مجن أو ترس كل واحد منهما يومئذ ذو ثمن وأن يد السارق لم تكن تقطع على عهد الرسول فى الشيء التافه.
أما إذا كانت قيمة المسروق أقل من ثمن المجن أو الترس فلا قطع فيه أصلاً لأن ذلك هو التافه (4) .
_________
(1) المغنى ج10 ص242, كشاف القناع ج4 ص78.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 77.
(3) شرح الأزهار ج4 ص 364.
(4) المحلى ج11 ص 350, 353.(2/582)
ويلاحظ أن صاحب نيل الأوطار ذكر أن ابن حزم يرى القطع إذا كان المسروق ربع دينار من الذهب ويرى القطع فى غيره إلا فى القليل أو الكثير بحجة أن التحديد فى الذهب منصوص ولم يوجد نص فى غيره, وهذا الذى قاله مؤلف نيل الأوطار لا يتفق مع ما صرح به ابن حزم فى المحلى (1) .
وهناك آراء أخرى فى النصاب لفقهاء آخرين, لا توجب القطع إلا فى أربعة دنانير أو أربعين درهمًا, ويرى البعض القطع فى درهمين, وهناك من يرى القطع فى أربعة دراهم, ومن يراه فى ثلث دينار وهو مذهب الباقر, ومن يراه فى خمسة دراهم (2) .
وإذا كان النصاب شرطًا فى القطع فلا قطع إذا قلت قيمة المسروق عن النصاب, فإذا دخل السارق دارًا فأخرج منها أقل من النصاب فلا قطع عليه وإذا أخرج درهمًا أو ما قيمته جميعًا درهم إلى صحن الدار ثم عاد فأخرج مثله وهكذا حتى أخرج النصاب أو قيمه النصاب ثم خرج بها جميعًا من صحن الدار فأنه يقطع فيها ولو أنه أخرج النصاب إلى صحن الدار مجزءًا لأن ما حدث منه يعتبر سرقه واحده إذ الدار وصحنها حرز واحد, وما دام المسروق فى صحن الدار هو لم يخرج من الحرز, فإذا أخرجه من الصحن إلى الخارج فقد أخرجه من الحرز وتمت السرقة ما لم تكن الدار مكونة من عده بيوت مستقلة والصحن مشترك لها جميعًا, فإن الإخراج إلى الصحن يعتبر إخراجًا من الحرز ولو لم يخرج السارق بالمسروقات إلى خارج الدار إذ كل بيت مستقل يعتبر حرزًا وحده (3) .
وإذا أخرج المسروق من بيت مستقل فى الدار إلى صحنها المشترك مرة واحدة وكان يبلغ نصابًا فالحكم هو ما سبق؛ لأن السرقة تعتبر تامة بالإخراج إلى صحن الدار مع ملاحظة الفرق بين من يعتبرون بطلان الحرز بفتح الباب ومن
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص36, 39, المحلى ج11 ص 252.
(2) نيل الأوطار ج7 ص 28, 29, بداية الجتهد ج2 ص 373, 374.
(3) نيل الأوطار ج7 ص 28, 29, بدايه المجتهد ج2 ص 373, 374.(2/583)
لا يعتبرون, فعند من يرى الإبطال أنه قطع إذا أخرج المتاع إلى صحن الدار من بيت مفتوح لأن المال ليس محرزً, فإن كان البيت مقفلاً وباب الدار مفتوح قطع لأنه أخرجه من حرزه إلى محل الضياع (1) , أما إذا أخرج المسروق من بيت مستقل فى الدار إلى صحنها المشترك أو أخرجه من الدار غير المشتركة إلى خارجها وكان الإخراج على دفعات وكل دفعه تقل عن النصاب فالحكم مختلف عند الفقهاء, وقد بسطناه بمناسبة الكلام على إبطال الحرز (2) .
وإذا دخل جماعة دارًا فأخرجوا المتاع منها دفعة واحدة إلى صحن الدار المشترك أو إلى خارج الدار فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان هناك تعاون على الإخراج أو اشتراك فيه, وقد سبق أن تكلمنا عن ذلك مفصلاً, أما إذا أخرجوا المتاع مجزءًا على دفعات فتطبق عليهم قواعد الإخراج على دفعات مع قاعدة التعاون والاشتراك, وإذا سرق شخص واحد نصابًا واحدًا من حرزين مختلفين فلا قطع عليه لأنهما سرقتان مختلفتان وكل واحد من المنزلين حرز مستقل, ويشترط القطع فى كل سرقة أن يخرج عن كل حرز نصابًا كاملاً.
ولو سرق شخص نصابًا يملكه عده أشخاص قطع به ولا عبرة بعدد المجنى عليهم, وكذلك الحكم لو كان المجنى عليهم فى دار واحدة كل منهم فى بيت من بيوتها لأن الدار حرز واحد, أما إذا كانت البيوت مستقلة اعتبر كل بيت حرزًا مستقلاً ولم يقطع الجاني (3) .
ولكن بعض الشيعة الزيدية يرون القطع فى هذه الحالة إذا بلغت قيمة الجزء الذى أخرج نصابًا (4) , وإذا أخرج السارق بعض المسروقات من الحرز دون البعض الآخر وكان المسروق شيئًا واحدًا, كخشبة أو صندوق أو ما أشبه فلا قطع عليه ولو كانت قيمة ما خرج من المسروقات تزيد على النصاب لأن بعض المسروق
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص 149, المغنى ج10 ص260.
(2) راجع ص501.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص77, أسنى المطالب ج4 ص 137, 138, شرح الزرقانى ج8 ص 92, 94, المغنى ج10 ص 241.
(4) شرح الأزهار ج4 ص367.(2/584)
لا ينفرد عن بعض, ولأنه لم يتم إخراجه (1) , ولو وجد المسروق على هذا الوجه فأخرجه فلا قطع عليه لأن المسروق بهذا الوجه لا يعتبر محرزًا, ولأنه كما يقال إنه فى الحرز يقال أنه خارج الحرز (2) .
ومن يبطلون الحرز بفتح الباب والنقب لا يعتبرون الأخذ من حرز فى هذه الحالة إذا كان الشيء خارجًا من باب أو ثقب, ويستوى أن تكون المسروقات مجتمعة أو متفرقة داخل الحرز ما دام الحرز واحدًا, والعبرة بما يخرجه السارق من الحرز فإن كان أقل من نصاب فلا قطع وإن كان أكثر من نصاب قطع به على التفصيل السابق.
وإذا نقصت قيمة المسروق بهلاك بعضه فى يد السارق بعد الخروج به من الحرز فالعبرة اتفاقًا بقيمته وقت السرقة, أما إذا كان سبب النقصان نزول السعر فقد اختلفوا فى مذهب أبى حنيفة, فيرى البعض اعتبار القيمة وقت الحكم أما الزيادة فغير معتبرة, ويرى البعض اعتبار القيمة وقت الإخراج من الحرز, كذلك اختلفوا فى المذهب إذا كانت السرقة فى بلد وضبط المسروق فى بلد آخر فيرى البعض أن العبرة بقيمة المسروق فى محل ضبطه, ويرى البعض الرجوع إلى قيمة المسروق فى محل السرقة (3) .
ويرى الأئمة الثلاثة أن العبرة بقيمة المسروق فى كل الأحوال وقت السرقة أى وقت إخراجه من الحرز لا قبل ذلك ولا بعد, فإذا كان لا يساوى نصابًا وقت الإخراج فلا قطع ولو كان سبب النقص فعل الجانى كأن أكل بعضه أو أتلفه أو أفسده ولا عبرة فى الرخص والغلاء الطارئين بعد إخراج المسروق من الحرز وتعتبر القيمة فى مكان السرقة لا فى مكان آخر (4) .
_________
(1) المغنى ج10 ص361, أسنى المطالب ج4 ص 138.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص105.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص 79.
(4) شرح الزرقاتى ج8 ص 94, المهذب ج2 ص300, المغنى ج10 ص 278, أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص 137.(2/585)
وعند الشيعة الزيدية أن العبرة بقيمة المسروق وقت المرافقة لا وقت السرقة, فإذا سرق شيئًا وقيمته وقت السرقة عشرة دراهم ثم كانت قيمته وقت المرافقة أقل من ذلك سقط القطع, أما إذا زادت القيمة فلا عبرة بالزيادة (1) , وإذا حكم بالقطع فنزلت القيمة قبل التنفيذ فعلى رأى أبى حنيفة والشيعة يسقط القطع لأنهم يجعلون المانع الطارئ بعد الفعل فى حكم المانع المقارن ويجعلون الإمضاء من تمام القضاء.
ويرى أبو حنيفة أنه إذا اختلف المختصون فى تقويم المسروق فقدره بعضهم بأقل من النصاب وقدره بعضهم بنصاب دُرِئ القطع, وحجته فى ذلك فعل عمر حين رأى قطع سارق فقال له عثمان: إنما سرقه لا يساوى نصابًا فدرأ عنه القطع (2) . ويتفق مذهب أحمد فى هذا لأنه يرى فى حالة تعارض البينات فى القيمة أن يؤخذ بالقيمة الأقل (3) . ويرى الشافعى أن المسألة تختلف باختلاف الأساس الذى تقوم عليه شهادة المقوِّمين الذين يقوِّمون العين بالأكثر, فإن قامت على أساس القطع أخذ بهذه الشهادة وإن قامت على أساس الظن أخذ بالتقويم الأقل لتعارض البينات (4) . أما مالك فبرى أنه إذا شهد عدلان بأن قيمة المسروق نصابًا أخذ بشهادتهما ولو عارضتها شهادات أخرى, وعلة ذلك أن المبدأ عند مالك هو تقديم المثبت على النافي (5) .
ولا يشترط الشافعى أن يعلم السارق بقيمة المسروق بل يكفى أن يقصد السرقة ثم يسرق نصابًا, فإذا قصد سرقة شيء تافه فى اعتقاده فتبين أنه يزيد على نصاب قطع فيه, وإذا سرق ثوبًا لا يساوى نصابًا فوجد فى جيبه نقودًا تبلغ نصابًا قطع, وإذا قصد سرقة صندوق به نقود فوجده فارغًا والصندوق لا يساوى نصابًا لم يقطع (6) .
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص374.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص77, 79.
(3) كشاف القناع ج4 ص237.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص 420, أسنى المطالب ج4 ص137.
(5) المدونة ج16 ص90.
(6) أسنى المطالب ج4 ص137, 138, نهاية المحتاج ج7 ص420.(2/586)
وعلى هذا أحد الرأيين فى مذهب أبى حنيفة, أما الرأى الأخر فيستوجب علم السارق بحقيقة قيمة المسروق, فإن كان يعلم بوجود النقود فى جيب الثوب قطع وإن لم يكن يعلم لم يقطع لأنه قصد سرقة الثوب فقط وهو لا يبلغ النصاب ولا قطع فيه وحده, أما لو سرق غرارة أو صندوقًا أو جرابًا به مال كثير ولو لم يكن عالمًا بحقيقة ما فى الغرارة أو الجراب أو الصندوق لأنه قصد بالسرقة المظروف لا الظرف, ويستدل على القصد بالظروف والقرائن (1) .
ويستوجب أحمد للقطع العلم بقيمة المسروق, فلو سرق منديلاً شد عليه دينار قطع إن علم بالدينار وإن لم يعلم به فلا قطع (2) .
ويرى أن الجانى يؤخذ بقصد السرقة ولا عبرة بظنه أن قيمة المسروق تقل عن نصاب إلا إذا صدق العرف فى هذا الظن, فلو م يده فى جيب شخص فأخذ منه نقودًا وهو يظنها نحاسية قطع لأن العرف لم يجر على وضع النقود النحاسية وحدها فى الجيب بل يوضع فيه كل أنواع النقود, ولو سرق ثوبًا وهو لا يساوى نصابًا فارغًا ولكن فى جيبه نقود تبلغ نصابًا قطع ولو ظن أن الثوب فارغ لأن العرف جرى على وضع النقود فى جيوب الثياب, أما إذا سرق قطعة خشب فوجدها مجوفة وفى داخلها نقودًا تبلغ نصابًا فلا قطع إذا لم تبلغ قيمة الخشبة وحدها نصابًا إذ أنه كان يعتقد وقت السرقة انه يسرق خشبة غير مجوفة وليس فيها نقود (3) .
ويحدث أن يكون بعض المسروق تابعًا لبعضه الآخر وأن يكون المسروق كله مما يقطع فيه كإناء من النحاس به حناء أو حمار عليه بردعة, كما يحدث أن يكون بعض المسروق تابعًا لبعضه وأن يكون بعضه فقط مما يقطع فيه كإناء من الذهب فيه خمر أو ككلب فيه طوق من الذهب. والأصل أن المقصود بالسرقة إذا كان مما يقطع فيه لو انفرد وبلغ نصابًا بنفسه يقطع السارق فيه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص79, 80.
(2) المغنى ج10 ص28.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص95.(2/587)
بلا خلاف وإن لم يبلغ بنفسه نصابًا إلا بالتابع يكمل النصاب بالتابع ويقطع السارق فى سرقته, وكذلك الحكم لو كان كل منهما لا يبلغ نصابًا أو مقصودًا لذاته يكمل أحدهما بالآخر ويقطع السارق.
أما إذا كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه لو انفرد كالكلب وكان معه ما يقطع فيه كطوق الذهب فيرى مالك أن العبرة بقيمة ما فيه القطع فإذا بلغت قيمه الطوق نصابًا قطع السارق ولو كان يقصد الكلب دون الطوق (1) .
وكذلك الحكم عند الشافعي (2) . ويرى أبو حنيفة أنه إن كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه إذا انفرد لا يقطع السارق وإن كان مع المسروق المقصود غيره مما يبلغ نصابًا ما دام الغير لم يقصد بالسرقة, ويؤيد هذا الرأى محمد ولكن أبا يوسف يخالفه ويأخذ برأى مالك والشافعي (3) . وفى مذهب أحمد رأيان: الرأى الأول كرأى مالك والشافعي, والثانى كرأى أبى حنيفة (4) .
الركن الثالث: أن يكون مملوكًا للغير
612- يشترط لوجود جريمة السرقة أن يكون الشيء المسروق مملوكًا لغير السارق, فإن كان مملوكًا للسارق فالفعل لا يعتبر سرقة ولو أخذه الفاعل خفية.
والعبرة بملكية السارق للمسروق وقت السرقة, فإن كان يملكه قبل السرقة ثم خرج من ملكه قبيل السرقة فهو مسئول عن السرقة وعليه القطع, وإن لم يكن يملكه ولكن دخل فى ملكه وقت السرقة فلا مسئولية عليه كأن ورثه أثناء السرقة, ويشترط لانعدام المسئولية أن يملكه قبل إخراجه من الحرز
_________
(1) شرح الزرقاتى ج8 ص 97.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص421, المحلى ج11 ص338.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص79.
(4) كشاف القناع ج4 ص78.(2/588)
فإن ملكه بعد إخراجه من الحرز فلا يعفيه ذلك من المسئولية الجنائية (1) ؛ لأن الشيء وقت إخراجه من الحرز كان على ملك غيره ومن ثم يقطع بسرقته عند مالك مطلقًا, أما الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية فيفرقون بين ما إذا كان التملك قبل تبليغ السرقة والمطالبة بالمسروق أو بعد ذلك, فإن كان التملك قبل التبليغ فلا قطع ويعزر الجانى لأن مطالبة المجنى عليه بالمسروق شرط عندهم للقطع فإذا تملك الجانى المسروق قبل المطالبة لم تصح المطالبة بعد ذلك فلا يكون الحكم بالقطع ممكنًا عملاً, أما إذا كان التملك بعد المطالبة بالمسروق فلا يمنع التملك من الحكم بالقطع (2) , والفرق بين هؤلاء الفقهاء ومالك أن مالكًا لا يشترط للقطع مخاصمة المجنى عليه أو مطالبته بالمسروق فيكفى أن يبلغ بالسرقة أى شخص المجنى عليه أو غيره وليس من الضرورى أن يطالب المجنى عليه برد المسروق فالقطع واجب على السارق سواء بلَّغ المجنى عليه أو لم يبلغ, طالب المسروق أو لم يطالب (3) , أما هؤلاء الفقهاء فيشترطون للقطع أن يطالب المجنى عليه بالمسروق.
ويرى أبو حنيفة أن تملك المسروق قيل القضاء يسقط القطع عن السارق وإن كان لا يمنع من تقديره فإذا تملكه بعد القضاء وقبل الإمضاء فيرى أبو حنيفة ومحمد أن لا يقطع السارق لأن الإمضاء من تمام القضاء, فما يصلح مانعًا للحد قبل القضاء يصلح مانعًا بعده, ويرى أبو يوسف أن تملك المسروق بعد القضاء لا يمنع من القطع, فإن سارق رداء صفوان أُتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن يقطع, فقال صفوان: يا رسول الله إنى لم أرد هذا وهو عليه صدقة, فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فهل قبل أن تأتينى به" فدل ذلك على أن التملك بعد القضاء لا يسقط القطع (4) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص97.
(2) أسنى المطالب ج4 ص139, المغنى ج10 ص277, شرح الأزهار ج4 ص374.
(3) المدونة ج16 ص66- 69.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص88, 89, شرح فتح القدير ج4 ص256.(2/589)
أما المذهب الظاهرى فيتفق مع مذهب أبى حنيفة فى هذه النقطة (1) .
ولا يكفى لتكوين جريمة السرقة أن يكون الشيء المأخوذ غير مملوك لآخذه بل يشترط أن يكون مملوكًا لغير السارق فإن لم يكن مملوكًا لأحد كالأموال المباحة أو المتروكة فإن أخذه لا يعتبر سرقة ولو كان خفية ولا يعتبر الشخص سارقًا للمال ولو لم يكن يملكه إذا له حق الانتفاع به, فالمستأجر الذى يأخذ الشيء المؤجر له والمستعير الذى يأخذ الشيء المعار والمرتهن الذى يأخذ الشيء المرهون كل هؤلاء لا يعتبر أحدهم سارقًا ولو أخذ الشيء خفية عن المالك ما دام أنه أخذه لاستفاء حقه المقرر على الشيء, على أن مالكًا يرى قطع صاحب المنفعة إذا أخذ الشيء خفية عن مالكه قبل القبض (2) .
ويجب أن يكون الشيء المأخوذ محلاً للملك حتى يكون محلاُ للسرقة فإن لم يكن محلاً للملك فلا يعتبر محلاً للسرقة, ولم يعد الإنسان بعد إبطال الرق محلاً للسرقة لأنه لم يعد محلاً للملك ومن ثم فلا يعتبر سرقة أخذ الأطفال خفية ولا أخذ الرجال والنساء بصفة عامة أيًا كان جنسهم أو لونهم أو دينهم, وقبل إبطال الرق كان العبيد والإماء محلاً للسرقة فى الشريعة باعتبارهم مالاً من وجه يمكن التصرف فيه كأى مال آخر, أما بعد إبطال الرق فلا يعتبر الإنسان مطلقًا محلاً للسرقة عند جمهور فقهاء المسلمين وعند أبى حنيفة والشافعى وعلى الرأى الراحج فى مذهب أحمد ومذهب الشيعة الزيدية, أما مالك فيخالف فى هذا الاتجاه ويعتبر سرقة يقطع فيها آخذ طفل خفية ذكرًا كان أو أنثى يمكن خداعه أو أخذ مجنونًا صغيرًا كان أو كبيرًا من حرز مثله كأن كان مع أهله أو مع كبير حافظ, فإن كان الطفل كبيرًا أو واعيًا أو لم يكن فى حرز مثله فلا قطع, ويرى الظاهريون كما يرى مالك القطع فى سرقة الحر الصغير وهو يوافق الرأى المرجوح فى مذهب أحمد ومذهب الشيعة الزيدية (3) .
ورأى
_________
(1) المحلى ج11 ص151.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص96, شرح الأزهار ج4 ص365.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص67, أسنى المطالب ج4 ص139, نهاية المحتاج ج7 ص438, المغنى ج10 ص245, شرح الزرقانى ج8 ص94, 103, المحلى ج11 ص337, شرح الأزهار ج4ص369.(2/590)
القائلين بأن أخذ الأطفال لا يعتبر سرقة وإنما هو جريمة خاصة يتفق مع مذهب القانون المصرى والقانون الفرنسى ولكن يلاحظ أن القانون المصرى والفرنسى يعاقبان على خطف الأطفال بعقوبة أشد من عقوبة السرقة العادية وأن القانون الفرنسى يعبر عن خطف الأطفال باللفظ الذى يعبر به عن السرقة وهو Val, ولعل هذا أثر لما كان علية القانون الفرنسى قديمًا من اعتبار الفعل سرقة. ويكفى لوجود السرقة أن يكون الشيء مملوكًا للغير ولو كان المالك مجهولاً كسرقة مال شخص غير معروف أو كان المالك غير معين كسرقة المال الموقوف على الفقراء أو الأغراب أو التعليم, وهذا هو ما يراه مالك (1) , وهو ما يراه الظاهريون؛ لأنهم يرون قطع كل من سرق مالاً لا نصيب له فيه (2) , وعند الشافعى وأحمد أن أخذ مال مجهول خفية سرقة ولكن لا يقطع عندهما فيها لأنهما يشترطان للقطع مطالبة المجنى عليه بالمسروق وإذا كان المجنى عليه مجهولاً فلا مطالبة ولا قطع, أما سرقة مال الوقف ففيها القطع عندهما إذا لم يكن السارق من الموقوف عليهم فإن كان منهم فحكمه حكم الشريك فى المال وسنتكلم عليه فيما بعد, وفى مذهب أحمد رأى بان سرقة المال الموقوف مطلقًا لا قطع فيه بحجة أن المال الموقوف لا يملكه الموقوف عليه (3) .
والراحج فى مذهب الشيعة الزيدية فى هذه المسألة كمذهب الشافعى والرأى الراحج فى مذهب أحمد (4) , ويرى أبو حنيفة أن لا يقطع السارق إذا كان المجنى عليه مجهولاً ولو أقر الجانى بالسرقة لأن القطع مشروط بمطالبة المجنى علية ومخاصمته
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص96, مواهب الجليل ج6 ص309, 310, المدونة ج16 ص68.
(2) المحلى ج11 ص328.
(3) أسنى المكالب ج4 ص139, 140, المهذب ج2 ص298, 300, المغنى ج10 ص249, 277, 288, كشاف القناع ج4 ص77, 87.
(4) شرح الأزهار ج4 ص365, 369.(2/591)
للجاني, ولكن أبا يوسف يرى القطع فى حالة الإقرار (1) , ولا قطع, كذلك إذا كان السارق ممن أُوقف عليهم المال المسروق فإن لم يكن منهم قطع, وهذا ما يقتضيه تعريف السرقة وتعريف المال الموقوف فى المذهب فهم يعرفون السرقة بأنها أخذ العاقل البالغ عشرة دراهم أو مقدارها خفية عمن هو مقصد للحفظ ما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول للغير من حرز بلا شبهة (2) , ويعرفون الوقف بأنه حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة (3) , سواء سرق العين الموقوفة أو منفعتها فهو يسرق ملك الغير ولا شبهة له فى سرقته ما دام غير مستحق فيه فيقطع بالسرقة, ولا يعتبر الشخص سارقًا للمال إذا كان يملكه ولو كان للمجنى عليه حق الانتفاع به؛ فالمؤجر الذى يأخذ المال المؤجر من المستأجر, والمعير الذى يأخذ المال المعار من المستعير, والمدين الذى يأخذ المال المرهون من الدائن المرتهن أو الأمين على الرهن, والغاصب الذى يأخذ ماله المغصوب من الغاصب, وصاحب المال الذى يأخذ ماله المسروق من السارق - كل هؤلاء لا يعتبر سارقًا ولو أخذ المال خفية لأنه أخذ ما يملكه (4) .
ولا يقطع السارق إذا كان له شبهة الملك فى الشيء المسروق وإنما عليه التعزير فقط كسرقة الوالد من ولده لأن للوالد فى مال ولده تأويل الملك أو شبهة الملك لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (5) , ولا يقطع السارق عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة إذا سرق مالاً مشتركًا مع المجنى عليه لأن السارق يملك المسروق على الشيوع مع المجنى عليه فيكون هذا شبهة تدرأ القطع.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص83.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص219, حاشية ابن عابدين ج3 ص265.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص493.
(4) أسنى المطالب ج4 ص138, المغنى ج10 ص256, 259, كشف القناع ج4 ص84, 85, شرح الزرقانى ج8 ص97, بدائع الصنائع ج 7 ص70.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص98, أسنى المطالب ج4 ص140, المغنى ج10 ص284, بدائع الصنائع ج7 ص70, شرح الأزهار ج4 ص375.(2/592)
ويرى المالك قطع الشريك إذا سرق المال المشترك بشرط أن يأخذ نصابًا أكثر من حقه. ويشترط أن يكون مال الشركة محجوبًا عنه أى محرزًا عنه, فإن كان المال المشترك مثليًا فلا قطع إلا أن يسرق نصابًا أكثر من نصف المال كله, وإن كان المال المشترك فيه قيميًا قطع إذا كان ما سرقه يبلغ نصابين ولو لم يكن المسروق كل المال المشترك لأن حقه فى المسروق نصاب واحد والنصاب الثانى يستحقه الشريك المسروق منه.
والقاعدة عند الظاهريين أن من سرق من شيء له فيه نصيب يقطع إذا أخذ زائدًا على نصيبه مما يجب فيه القطع فإن سرق أقل فلا قطع عليه, إلا أن يكون مُنع حقه فى ذلك أو احتاج إليه فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل ولا قدر على أخذ حقه خالصًا فلا يقطع لأنه مضطرًا إلى أخذ ما أخذ إذ لم يقدر على تخليص مقدار حقه (1) . وفى مذهب الشافعى من يرى القطع على من يسرق نصابين من المال المشترك, وبعض أصحاب هذا الرأى يرى عدم القطع إذا كان المال المشترك قابلاً للقسمة ولم يأخذ السارق أكثر من حقه ويعتبرون الأخذ قسمه فاسدة, فإن أخذ أكثر من حقه نصابًا قطع, وكذلك إذا أخذ نصابين من المال ولم يكن المال قابلاً للقسمة, وهذا يتفق مع رأى مالك. ورأى القائلين بعدم القطع ليس معناه إعفاء الشريك من المسئولية الجنائية, فالمسئولية قائمة ولكن العقوبة على الفعل التعزير لا القطع؛ لأنهم يعتبرون الشركة شبهة تدرأ القطع.
وسرقة المال العام حكمها حكم المال المشترك عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية؛ لأن للسارق حقًا فى هذا المال, وقيام هذا الحق يعتبر شبهة تدرأ عنه الحد. أما مالك فيرى قطع السارق من بيت المال أو من مال المغنم, ويرى ذلك الظاهريون أيضًا بالشروط التى يشترطونها فى المال المشترك.
ويرى الشافعية القطع فى سرقة المال العام إذا خصص لطائفة لا يدخل فيها
_________
(1) المحلى ج11 ص328, 329, شرح الأزهار ج4 ص376, شرح الزرقانى ج8 ص97, 98, شرح فتح القدير ج4 ص235, كشاف القناع ج4 ص94, أسنى المطالب ج4 ص139, نهاية المحتاج ج7 ص423.(2/593)
, كأن خصص للفقراء وليس منهم, فالقطع واجب إذا لم يكن له حق فى المال (1) . ويرى الحنابلة القطع فى مال المغنم بعد إخراج الخمس, فإذا سرق قبل إخراجه فلا قطع, وإذا قسم الخمس, فإذا سرق من خمس الله تعالى لم يقطع, وإن سرق من غيره قطع (2) .
سرقة مال المدين: ويرى مالك أنه لا قطع على من أخذ قدر حقه مدينه المماطل أو الجاحد, سواء كان ما أخذه من جنس حقه أو من عير جنسه, فإذا زاد ما أخذه على قدر حقه نصابًا قطع به, كذلك يقطع إذا لم يكن الدَّين حالاً أو لم يكن المدين مماطلاً أو جاحدًا (3) .
ولا يرى الشافعى قطع الدائن إذا أخذ أكثر من حقه نصابًا, والرأى الأرجح فى مذهب أحمد كمذهب الشافعي, أما الرأى المرجوح فيرى قطع الدائن, لأنه ليس له أن يأخذ قدر دينه. وإذا أخذ الدائن أكثر من حقه؛ فأصحاب الرأى الأول بعضهم يرى قطعه إذا أخذ نصابًا وهو رأى مالك, وبعضهم لا يرى قطعه وهو رأى الشافعي؛ لأن له شبهة فى هتك الحرز وأخذ ناله فصار كالسارق من غير حرز (4) .
ويطبق الظاهريون قاعدتهم التى سبق ذكرها عند الكلام على سرقه المال المشترك. وفى مذهب الشيعة الزيدية ثلاثة آراء: أولها قطع من يسرق مال المدين ما دام أنه سرق من جنس حقه وكان المسروق مساويًا للدين فى العدد والجنس, كأن سرق عشرة دراهم والمسروق منه مدين بعشرة دراهم, فإن كان الدين حالاً فلا قطع, لأن الأخذ مباح له, لأنه ظفر بجنس حقه, ومن له الحق إذا ظفر بجنس حقه يباح له أخذه, فإذا أخذه صار مستوفيًا لحقه. وكذلك الحكم لو أخذ أكثر من حقه, لأن بعض المأخوذ حقه على الشيوع ولا قطع فيه فلا
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص424.
(2) المغنى ج10 ص288, شرح الأزهار ج4 ص369.
(3) شرح الزرقانى ج2 ص98.
(4) المغنى ج10 ص258.(2/594)
يقطع فى غيره كما هو الحال فى المال المشترك.
أما إذا كان الدَّين مؤجَّلاً فالقياس أن يقطع, ولكنهم يرون استحسانًا أن لا يقطع, لأن حق الأخذ ليس سببه حلول الأجل, وإنما سبب ثبوته هو قيام الدين فى ذمة المسروق منه, ووجود الأصل لا أثر له على قيام الدين وإنما أثره فى تأخير المطالبة بالدين, فقيام سبب ثبوت الدين يورث شبهة والشبهة تمنع القطع.
وإن سرق خلاف جنس حقه بأن كان عليه دراهم فسرق دنانير أو عروضًا قطع, لأنه لا يملكه بنفس الأخذ, بل بالاستبدال والبيع, فكان سارقًا ملك غيره, لكنه إذا دفع التهمة بأنه أخذه استيفاء لحقه فلا يرى البعض قطعه لأنه يعتبر متأولاً إذ اعتبر المعنى, وهو المالية لا الصورة, والأموال كلها فى معنى المالية متجانسة, وإذا كان الأخذ عن تأويل لا يقطع (1) .
وعن أبى يوسف أنه لا يقطع إذا أخذ خلاف جنس حقه, لأن بعض العلماء فى المذاهب الأخرى يجيزون لمن ظهر بغير جنس حقه أن يأخذه استفاء بحقه, ولكن المذهب على خلاف رأى أبى يوسف.
وإذا سرق الجانى من مدين أبيه أو من مدين ولده قطع ما لم يقم دليلاً على أنه وكيل عنه أو وصى عليه.
ويشترط أبو حنيفة أن يكون للمسروق منه يد صحيحة على الشيء المسروق, يد المالك أو يد الأمانه كالمودع, أو يد الضمان كيد الغاصب والقابض على رسوم الشراء, لأن منفعة يد الغاصب عائده للمالك, والمغصوب مضمون عليه, وضمان الغصب عند أبى حنيفة ضمان ملك, فأشبهت يد الغاصب يد المشترى, كذلك فإن المقبوض على رسوم الشراء مضمون على القابض. ويرتب أبو حنيفة على هذا الشرط ألا قطع على السارق من سارق, لأن يد الأخير ليست صحيحة فلا هى يد ملك ولا أمانه ولا ضمان, ولكن إذا درئ القطع عن السارق الأول قطع الثاني, لأن درء الحد عن السارق الأول يجعله ضامنًا للمسروق, ويد الضمان
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71, 72, شرح فتح القدير ج4 ص336.(2/595)
يد صحيحة, ويجعل أبو حنيفة السارق ضامنًا إذا درئ عنه القطع ولا يجعله ضامنًا إذا قطع, لأن القاعدة عنده أن القطع والضمان لا يجتمعان (1) .
ولا يشترط مالك شروطًا خاصة فى المسروق منه, وكل ما يشترطه مالك أن يكون المسروق ملك الغير, سواء سرق من يد المالك أو من يد غيره مطلقًا, لأن السارق يسرق ملك غيره فى كل حال, ويترتب على هذا أن مالكًا يقطع السارق من السارق, والسارق من الغاصب, والسارق ممن يقوم مقام المالك كالمودع والمرتهن والمستأجر (2) , والقاعدة عند مالك أن من سرق مالاً للغير من حرز لا شبهة فيه قطع.
ويرى أحمد أن يكون المسروق منه هو المالك أو من يقوم مقامه, فإذا أخذه من غيرهما فهو أشبه بما لو أخذ مالاً ضائعًا, والفرق بينه وبين السارق أن السارق يزيل يد المالك أو نائبه عن الشيء ويأخذه من حرزه, ويرتب أحمد على هذا أن السارق من المالك أو نائبه يقطع إذا توفرت كل شروط القطع. أما السارق من السارق أو الغاصب فلا قطع عليه ولو كان المال محرزًا (3) .
أما الشافعى ففى مذهبه رأيان: أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أحمد, ويعللون الرأى الأول بأن السارق يقطع؛ لأنه سرق مالاً لا شبهة له فيه من حرز مثله, ويعللون الرأى الثانى بأن السرقة من حرز لم يرضه المالك, وأن المحرز ليس هو المالك ولا نائبه (4) .
وأما الشيعة الزيدية فرأيهم يتفق مع مذهب الشافعي, فلا قطع عند بعضهم على السارق من السارق ولا الغاصب, وبعضهم يرى القطع (5) .
وعند الظاهرية أن السرقة هى الاختفاء بأخذ الشيء ليس له, وأن السارق
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص80.
(2) شرح الزرقانى ج2 ص96.
(3) المغنى ج10 ص257.
(4) المهذب ج2 ص299, أسنى المطالب ج4 ص138.
(5) شرح الأزهار ج4 ص369.(2/596)
هو المختفى بأخذ ما ليس له, ويترتب على هذا التعريف أن يقطع السارق كلما أخذ ما ليس له, ولو كان أخذه من سارق أو غاصب (1) .
ويترتب على الحكام السابقة انه إذا سرق السارق من آخر فدرئ القطع عن الأول كان القطع على الثاني, لأن يده تصبح يد ضامن فى رأى أبى حنيفة, وإذا قطع السارق الأول فى مال فسرقه منه آخر فلا قطع على الآخر, لأن يد المسروق منه ليست يد ملك ولا أمانه ولا ضمان, إذ هو بالقطع لا يضمن المسروق, وعند أحمد لا قطع على السارق الثانى سواء قطع الأول أو درئ عنه القطع, لأن السرقة ليست من المالك أو من يقوم مقامه. وعند مالك يقطع السارق الثانى سواء قطع الأول أم لم يقطع, لأنه سرق مالاً للغير لا شبهة له فيه من حرزه ولو توالت السرقات وتعدد السراق (2) .
وكذلك الحكم عند الظاهرية, أما عند الشافعى والشيعة الزيدية, فبعضهم يرى القطع على السارق الثانى وبعضهم لا يراه, لأن منهم من يأخذ برأى يتفق مع رأى مالك, ومنهم من يأخذ برأى يتفق مع رأى أحمد, كما ورد ذلك فى المراجع السابقة.
وإذا سرق السارق مالاً فقطع فيه ورد المال لصاحبه فعاد نفس السارق وسرق نفس الشيء قطع أيضًا بالسرقة الثانية بهذا المال فى رأى مالك والشافعى وأحمد والظاهريين, لأن القطع عقوبة تتعلق بفعل السرقة, فتكرر العقوبة كلما تكرر الفعل, ولا عبره بالعين التى يقع عليها الفعل, ويستوى عندهم أن تكون العين قد بقيت على حالتها التى كانت عليها وقت السرقة الأولى أم تكون قد تغيرت (3) .
ويفرق الحنفيون بين ما إذا كان الشيء قد بقى على حاله أم تغير, فإن كان الشيء باقيًا على حاله فالقياس هو القطع, إلا أن بعض الفقهاء فى المذهب لا يرون
_________
(1) المحلى ج11 ص327.
(2) المدونة ج16 ص69.
(3) المدونة ج16 ص69, أسنى المطالب ج4 ص141, كشاف القناع ج4 ص85.(2/597)
القطع استحسانًا, لأن عصمة المال تسقط بالسرقة الأولي, فإذا عادت العصمة بالرد فإنها تعود مع شبهة العدم, لأن السقوط لضرورة وجوب القطع, وأثر القطع قائم بعد الرد فيورث شبهة فى العصمة. أما إذا كان المال قد تغير فالقاعدة فى المذهب الحنفى أنه إذا كان المال قد تغير وأصبح فى حكم عين أخرى ففيها القطع, فإذا سرق غزلاً فرده للمالك فنسجه ثوبًا فعاد وسرق الثوب قطع به, ولو سرق بقرة فقطع فيها ثم ردت لمالكها فولدت عجلاً فسرق العجل يقطع به لأنه سرق عينًا أخرى (1) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان: أولهما يرى أن من عاد إلى سرقة ما قد قطع فيه لم يقطع, ورأى يرى أنه يقطع, وحجة من لا يرى القطع أن القطع الأول يصبح شبهة (2) .
ولا قطع فى مذهب أبى حنيفة على من ضمن المسروق قبل إخراجه من الحرز, لأن وجوب الضمان يؤدى إلى ملك المضمون من وقت وجود سبب الضمان, فكأنه ملكه قبل إخراجه من الحرز, واختلفوا فيمن سرق ثوبًا فشقه قبل الخروج به من الحرز أو ذبح شاة ثم أخرجها من الحرز مذبوحة, فقال أبو يوسف بعدم قطع السارق, لأنه شق الثوب وذبح الشاة فى الحرز يؤخذ منه سبب الضمان فى الحرز, ووجوب الضمان يوجب ملك المضمون من وقت وجود السبب, وذلك يمنع القطع. ويرى أبو حنيفة ومحمد قطع سارق الثوب, لأن السرقة تمت والثوب على ملك المجنى عليه إذ الملك لا يزول عنه إلا باختيار الضمان, فقبل الاختيار كان الثوب على ملكه وعلى هذا فيقطع, وكذا الأمر فى الشاة, إلا أنه لما أخرج الشاة من الحرز كانت لحمًا ولا قطع فى اللحم, أما لو أتلف الثوب إتلافًا يستهلكه فلا قطع عليه وإن كانت قيمه الثوب بعد إخراجه نصابًا, لأن التخريق أو الشق المستهلك يوجب استقرار الضمان من وقت الفعل, وهذا
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص72, 73.
(2) شرح الأزهار ج4 ص373.(2/598)
بدوره يوجب ملك المضمون (1) .
ويرى مالك والشافعى أن العبرة بقيمة المسروق خارج الحرز, فإن بلغ نصابًا قطع السارق, وإن لم يبلغ نصابًا فلا قطع, فمن ذبح شاة أو أفسد طعامًا أو شق ثوبًا يقطع إذا بلغت قيمة ما خرج من الحرز نصابًا (2) .
والظاهريون يرون قطع السارق إذا أخذ خفية نصابًا, وهم لا يعترفون بالحرز ولا يشترطونه, ومذهب الشيعة الزيدية فى هذه المسالة كمذهب الحنفية (3) .
ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن ما يستهلكه السارق داخل الحرز أو يتلفه لا يعتبر سرقة, وإنما يعتبر إتلافًا عقوبته التعزير, ولكن مذهب الظاهريين يقتضى أن ما يستهلك داخل الحرز يعتبر سرقة ما دام قد أخذ على وجه الخفية (4) , ومن ثم لا تضاف قيمة المستهلك داخل الحرز أو المتلف إلى قيمة ما أخرج من الحرز لتكملة النصاب, فلو أكل السارق داخل الحرز من الطعام ما يساوى نصف نصاب ثم خرج ومعه من نفس الطعام نصف نصاب, فإنه لا يقطع, لأن ما خرج به من الحرز لم يبلغ نصابًا كاملاً, ولكنه يقطع عند الظاهريين لأنه أخذ نصابًا كاملاً.
وإذا ادعى السارق ملكية المسروق, فيرى مالك أن ادعاء ملكية المسروق فى ذاته ليس له قيمة ولا يدرأ عنه العقوبة ... إلا إذا أثبت صحة ما يدعيه, فإذا لم يكن دليل حلف المجنى عليه أن المتاع المسروق له وليس للسارق, فإن نكل حلف السارق ودفع إليه المتاع ولم تقطع يده (5) .
ويرى أبو حنيفة أنه إذا ادعى السارق ملكية المسروق درئ عنه القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص72, 73.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص99, أسنى المطالب ج4 ص138, المغنى ج10 ص261.
(3) شرح الأزهر ج4 ص364, 375.
(4) هكذا وجد فى الأصل, والظاهر أنها زيادة استغنى عنها بدليل السياق الذى بعدها.
(5) المدونة ج16 ص74.(2/599)
لمجرد الادعاء دون حاجة لأن يقيم دليلاً على صحة ادعائه, وتكون العقوبة التعزير, لأن المسروق منه قد صار خصمًا له فى ملكية الشيء المسروق, فإن ادعى عليه ما لو أقر به لزمه ويتمكن من إثباته عليه بالبينة, وإن طلب يمينه كان له أن يستحلف عليه, وبعدما آل الأمر إلى الخصومة لا يستوفى الحد, لأن المسروق منه إذا وجه اليمين للمتهم على ملكية الشيء فامتنع عن حلفها قضى عليه بالنكول, وإن ردها على المسروق منه فحلفها قضى عليه باليمين, فالقول بالقطع عند الادعاء بملكية المسروق يؤدى إلى استفاء الحد باليمين والنكول (1) .
ويرى الشافعى أن ادعاء السارق بملكية المسروق أو ملكية الحرز, أو أنه أخذه من الحرز بإذنه, أو أنه أخذه والحرز مفتوح, أو صاحبه معرض عن الملاحظة, أو أنه دون النصاب, سقط عنه القطع بمجرد دعواه وإن ثبتت السرقة بالبينة لاحتمال صدقه فصار شبهة دارئة للقطع, لأنه صار خصمًا, ولا يستفصل بعد ثبوت السرقة عن كون المسروق ملكه, وإن كان فيه سعى فى سقوط الحد عنه أنه إغراء له بادعاء الباطل, ولكن مجرد ادعائه لا يثبت له المال وإن درأ عنه القطع إلا ببينة أو يمين مردودة, فإن نكل عن اليمين المردودة لم يجب القطع لسقوطه بالشبهة (2) .
وفى مذهب أحمد ثلاثة أراء: الرأى الأول كرأى مالك, والثانى كرأى الشافعى وهو الراجح فى المذهب, والرأى الثالث: إن كان معروفًا بالسرقة لم يسقط عنه القطع, وإن لم يكن معروفًا بها سقط عنه القطع (3) , ومذهب الشيعة الزيدية أن الادعاء بالملكية يسقط القطع دون الحاجة لإقامة الدليل على صحة هذا الادعاء (4) .
ويلاحظ أن سقوط القطيع ليس معناه إعفاء الجانى من المسئولية الجنائية بل يبقى مسئولاً عن جريمته ويعاقب عليها بعقوبة التعزير بدلاً من عقوبة القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71.
(2) أسنى المطالب ج4 ص139.
(3) المغنى ج10 ص301.
(4) شرح الأزهار ج4 ص374.(2/600)
, ويشترط اتفاقًا فى المال المسروق أن يكون معصومًا فإذا لم يكن معصومًا كان مباحًا, ولا يعتبر أخذه سرقة كمال الحربى غير المستأمن ومال الباغي, فإنه غير معصوم, ولا قطع فى أخذه خفية.
على أن مال العادل إذا أخذه الباغى لا يقطع به, كذلك لا يقطع الحربى بسرقة مال المسلم والذمى. ويرى أبو حنيفة استحسانًا ألا قطع فى سرقة مال الحربى المستأمن وإن كان القياس أن يقطع لأنه سرق مالاً معصومًا, إذ الحربى يستفيد العصمة بالأمان, ووجه الاستحسان أن هذا مال فيه شبهة الإباحة, لأن الحربى المستأمن من أهل دار الحرب "أى مُنتمٍ إلى دولة محاربة", وإنما دخل دار الإسلام ليقضى حوائجه ثم يعود من قريب, فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة الإباحة فى ماله, لأنه كان فى الأصل مباح المال وإنما ثبتت العصمة لنفسه وماله بأمان عارض هو على شرف الزوال, فعند الزوال يظهر أن العصمة لم تكن على الأصل المعهود, وكل عارض على أصل إذا زال يلحق بالعدم كأن لم يكن, فتصبح العصمة كأن لم تكن ثابتة من قبل, بخلاف الحال مع الذمى لأنه من أهل دار الإسلام, وقد استفاد العصمة بأمان مؤبد, فكان معصوم المال عصمة مؤبدة مطلقة ليس فيها شبهة الإباحة, ويرتب أبو حنيفة على رأيه هذا ألا قطع على الحربى المستأمن إذا سرق مال المسلم أو الذمي, لأنه أخذه على اعتقاد الإباحة, ولأنه لم يلتزم أحكام دار الإسلام, ولكن أبا يوسف يخالفه فى هذا ويرى قطع الحربى المستأمن إذا سرق مال مسلم أو غير مسلم. وفى مذهب أبى حنيفة: لا يقطع العادل فى سرقة مال الباغي؛ لأن ماله ليس بمعصوم فى حقه كنفسه, ولا الباغى فى سرقة مال العادل, لأنه أخذه عن تأويل؛ وتأويله وإن كان فاسدًا لكن التأويل الفاسد عند انضمام إليه يلحق بالتأويل الصحيح فى منع وجوب القطع (1) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص71.(2/601)
ويرى مالك قطع المستأمن إذا سرق مسلمًا أو غير مسلم, كما يرى قطع المسلم والذمى فى سرقة مال المستأمن (1) .
وفى مذهب الشافعى أقوال فى سرقة المعاهد والمستأمن والسرقة منهما. وأحسن هذه الأقوال أنه يقطع إذا اشترط فى العهد أو الأمان قطعه بسرقة, لأنه فى هذه الحالة يكون ملتزمًا بالأحكام, فإذا لم يشترط ذلك فلا يقطع لانتفاء التزامه ويكون حكمه حكم الحربى. ولا يقطع أيضًا مسلم أو ذمى بسرقتهما ماله إلا إذا اشترط قطعه فى السرقة لاستحالة قطعهما بماله دون قطعه بمالهما (2) . على أن البعض يرى ألا يقطع المستأمن والمعاهد بالسرقة ولو اشترط قطعهما بها, ولا يقطع لهما بسرقة مالهما (3) .
وفى مذهب أحمد رأيان: أرجحهما أن يقطع المستأمن بسرقة المسلم والذمى ويقطعان بسرقته؛ لأن القطع حد يجب عليه كحد القذف, وإذا كان القطع واجبًا لصيانة الأموال فإن حد القذف واجب لصيانة الأعراض, فإن وجب أحدهما فى حق المستأمن وجب الآخر, فأما حد الزنا فلم يجب, لأنه يجب بالزنا قتله انقضه العهد, ولا يجب مع القتل حد سواه. وهذا رد على أصحاب الرأى الثانى الذين يقولون إن المستأمن لا يقطع بالسرقة, لأنه حد لله تعالى فلا يقام عليه حد كحد الزنا (4) .
سرقة الكفن: يرى أبو حنيفة ألا قطع فى سرقة الأكفان, وله فى ذلك حجتان: الأولى: أن الكفن مال تافه, لأن الطباع السليمة تنفر من ذلك, ولأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي, ففى مالية الكفن إذن قصور, والقصور فوق الشبهة والشبهة تدرأ بالحد, فالقصور أولى. الثانية: أن الكفن ليس مملوكًا لأحد
_________
(1) المدونة ج16 ص75, 91, شرح الزرقانى ج8 ص92, 97.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص440.
(3) أسنى المطالب ج4 ص150.
(4) المغنى ج10 ص276.(2/602)
فهو ليس ملك الميت؛ لأن الميت لا ملك له, وهو ليس على ملك الورثة؛ لأن تكفين الميت وتجهيزه مقدم على حق الورثة, وإذن فهو غير مملوك لأحد (1) .
وأما مالك وأحمد والشافعى ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة فيرون قطع سارق الكفن, لأنهم لا يقرون نظرية التافهة التى يقول بها أبو حنيفة. وعندهم أن كل ما يباع ويشترى فهو مال متقوم يقطع فى سرقته, وعلى هذا فالكفن مال مسروق من حرز مثله وهو القبر, وهو على ملك الميت إن كان من ماله, أو على ملك الورثة على رأى, والأصل أن الميت لا يزول ملكه إلا عما لم يكن فى حاجة إليه أما الكفن فهو فى حاجة إليه فبقى على ملكه, ولكنهم يشترطون للقطع أن يكون الكفن مشروعًا وأن تبلغ قيمته نصابًا, فإن كان الكفن زائدًا عن الحد الشرعى فلا تدخل قيمة الزائد فى احتساب النصاب, وإنما تحتسب فقط قيمة الجزء المشروع, فإن قلت عن النصاب فلا قطع, وكذلك لا قطع فيما يوضع مع الميت فى قبره من الأشياء الثمينة كالمصوغات وغيرها؛ لأن الشرع لا يبيح وضع هذه الأشياء من ناحية, ولأن القبر ليس حرزًا لها من ناحية أخرى.
ويشترط الشافعيون أن يكون القبر فى بيت محرز أو فى مقبرة فى عمارة ولو فى جنب البلد, فإن كان القبر فى بيت غير محرز أو فى مفازة فلا قطع, ولكن الحنابلة يرون القبر حرزًا ولو بعد عن العمران ما دام القبر مطمومًا الطم الذى جرت به العادة (2) .
ويرى الظاهريون قطع سارق الكفن؛ لأن السارق هو الآخذ شيئًا لم يبح الله تعالى أخذه, فيأخذه ممتلكًا له مستخفيًا به, وتلك صفة النباش فهو السارق (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص69, 76.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص101, أسنى المطالب ج4 ص145, المغنى ج10 ص280, كشاف القناع ج4 ص82.
(3) المحلى ج11 ص730.(2/603)
كذلك فإن الشيعة الزيدية ترى القطع فى سرقة الكفن (1) .
والقائلون من الفقهاء بقطع سارق الكفن يتفق مع رأيهم ما أخذت به المحاكم المصرية والفرنسية, إذ تعتبر الأشياء الموضوعة فى القبر من كفن وغيره على ملك الورثة أو واضعها, على أن هناك من يرى رأى أبى حنيفة, ويعتبر الأكفان من قبيل المتروكات التى لا عقاب على أخذها, أو يرى أن هذه الأشياء لا ملك لها (2) .
613- الأشياء المباحة: هى التى لا مالك لها أصلاً وتكون ملكًا لمن يضع يده عليها ويحتازها, كالماء فهو مباح أصلاً, ولكنه يصبح مملوكًا لمن يحتازه ويضع يده عليه, وكاللآلئ فى قاع البحر, وكالطيور والحيوانات البرية, وكالأسماك, فهذه كلها مباحة أصلاً, إذ لا مالك لها ولكنها تصبح مملوكة لمن يحتازها.
والاستيلاء على الأشياء المباحة لا يعتبر فى الشريعة سرقة لأنها مال لا مالك له ولأن شروط الأخذ خفية لا تتوفر فيها, فهى لا تؤخذ من حرز ولا تخرج من حيازة شخص إلى حيازة الجانى.
614- الأشياء المتروكة: هى الأشياء التى كانت مملوكة للغير ثم تخلى عنها مالكها كالملابس المستهلكة وبقايا الطعام وكناسة المنازل, وحكم الأشياء المتروكة هو حكم الأشياء المباحة, لأن الأشياء المتروكة تصبح بتركها لا مالك لها, وملك الشيء للغير واجب لاعتبار السرقة.
615- اللقطة: وهى ما يلتقط من مال ضائع, أو مال متروك على ملك تاركه, أو مال
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص371.
(2) أحمد بك أمين ص361, شرح قانون العقبات, القللى ص45.(2/604)
ضال (1) , أو هى ما وجد من حق ضائع محترم لا يعرف الواحد مستحقه (2) , أو هى المال الساقط أو الحيوان الضال لا يعرف مالكه (3) , ويقابل تعبير اللقطة فى الشريعة ما نسميه اصطلاحًا بالأموال الفاقدة أو الضائعة.
ولا يعتبر أخذ اللقطة فى الشريعة سرقة, حتى ولو أخذها الملتقط بنية تملكها, وإنما يعتبر الملتقط مرتكبًا لجريمة أخرى هى كتمان اللقطة أو كتمان الضالة, ولهذه الجريمة عقوبة أخرى تختلف عن عقوبة السرقة, فعقوبة السرقة القطع, وعقوبة كتمان اللقطة أو الضالة التعزير وغرامته مثيلها على رأى.
ولم تلحق الشريعة كتمان اللقطة بالسرقة, ولو أن المال الملتقط له مالك؛ لأن هناك فرقًا كبيرًا بين الالتقاط والسرقة. فالملتقط يعثر على المال مصادفة ولا ينتوى التقاطه إلا بعد العثور عليه, أما السارق فيقصد السرقة غالبًا قبل الأخذ خفية وقبل أن يعثر على المال المسروق. والملتقط يعثر على المال وهو غير محرز, أما السارق فيسرق غالبًا من حرز, والسارق يأخذ المسروق خفية, أما الملتقط فلا يختفى بأخذ اللقطة وليس ثمة ما يدعو للخفية. بل إن بعض الفقهاء يرى الالتقاط واجبًا لأنه يؤدى لحفظ المال وإن كان بعض الفقهاء يقول بكراهيته, فإنما يقول به لما يخاف من تقصير الملتقط فيما يجب عليه من تعريف اللقطة, والالتقاط فى ذاته لا تحرمه الشريعة وإنما المحرم هو كتمان اللقطة, ولكن السرقة محرمة لذاتها. كذلك الإبل فإنها لا تلتقط باتفاق.
ولهذه الفروق الظاهرة فرقت الشيعة بين السرقة والالتقاط وجعلت كلاً منهما جريمة مستقلة, وبهذا يأخذ كثيرًا من القوانين الوضعية الحديثة, كالقانون البلجيكى والقانون الإيطالي, ولكن القانون الفرنسى والقانون المصرى يجعلان
_________
(1) كشاف القناع ج2 ص421.
(2) أسنى المطالب ج2 ص487.
(3) بدائع الصنائع ج6 ص200.(2/605)
الالتقاط فى حكم السرقة ويعاقبان عليه بعقوبة السرقة إذا حبس الملتقط الشيء بنية تملكه.
والأصل فى اللقطة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وِكاءَها وعِفاصَها ثم عرِّفها سنة, فإن لم تعرف فاستنفعها ولتكن وديعة عندك, فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه". وسئل عن ضالة الإبل فقال: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها وغذاؤها, ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها", وسئل عن الشاة فقال: "خذها فإنما هى لك أو لأخيك أو للذئب".
وكتمان اللقطة محرم سواء انتوى الملتقط وقت الالتقاط تملك الشيء وكتمان اللقطه أو لم ينتو ذلك إلا بعد الالتقاط, لأن العقوبة على الكتمان وليست على مجرد الالتقاط, على أن للنية أثرها فى بعض حالات الضمان وإن لم يكن لها أثر على وجوب العقاب.
وللقطة أحكام خاصة فى الشريعة أهمها: أن يعرِّف الملتقط اللقطة ويعلن عنها لمدة معينة وله بعد ذلك أن يتصرف فى الشيء ويتصدق بثمنه أو ينفقه على نفسه ولو كان غنيًا على رأي, ولصاحب الشيء أن يسترده كلما كان موجودًا, وله إن لم يكن موجودًا الرجوع بثمنه على الملتقط (1) .
الركاز والكنز: الركاز هو المال المدفون فى الأرض, ويسمى الركاز الكنز أيضًا فى اصطلاح بعض الفقهاء, وأن البعض يسمى ما وجد عليه سيماء الجاهلية ركازًا, وما وجد عليه سيماء الإسلام كنزًا.
والأصل فى الركاز قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وفى الركاز الخمس". والمال
_________
(1) بداية المجتهد ج2 ص55 وما بعدها, أنسى المطالب ج2 ص287 وما بعدها, المحلى ج8 ص257 وما بعدها, بدائع الصنائع ج6 ص200 وما بعدها, كشاف القناع ج2 ص421 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص58.(2/606)
الذى يسمى ركازًا هو ما كان من دفن الجاهلية, ويعتبر ذلك بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصور أصنامهم ونحو ذلك, فإن كان عليه علامة الإسلام أو اسم النبى - صلى الله عليه وسلم - أو اسم أحد من خلفاء المسلمين أو والٍٍ من ولاتهم أو آية من قرآن أو نحو ذلك فالمال لقطة, وقد عرفنا فيما سبق حكم اللقطة. إذ المفروض فيه أنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وإن كان على بعضه علامة الإسلام وعلى بعضه علامة الكفر فهو لقطة أيضًا.
والركاز الذى فيه الخمس هو كل ما كان مالاً على اختلاف أنواعه من الذهب أو الفضة والحديد والنحاس والرصاص والآنية إلى ذلك على رأي, وهو الذهب والفضة فقط على رأى آخر, أما ما عداهما فحكمه حكم المعادن التى توجد فى بطن الأرض, ويفرق رأى ثالث بين ما اختلط بالتراب ويعتبره معدنًا, وبين ما تدل حالته على أنه دفن بفعل آدمى ويعتبره ركازًا.
وهناك خلاف على ملكية الركاز. فالبعض يراه مملوكًا لواجده, والبعض يراه مملوكًا لمالك الأرض، على تفصيل لا محل لذكره هنا (1) .
وإذا اعتبر الركاز لمالك الأرض فإن أخذه واجده لا يعتبر سرقة ولو حفر عليه وأخذه, لأن مالكه لا يعرف شيئًا عنه فلا يعتبر أنه أحرزه, ولأن المال لا يمكن أن يؤخذ خفية, لأن البحث والحفر يقتضى العلانية فهو اختلاس أو غصب وفيه التعزير, ولا قطع فيه لما سبق, وحتى لو اعتبر سرقة فإن الخلاف على الملكية يعتبر شبهة تدرأ الحد.
* * *
_________
(1) مواهب الجليل ج2 ص339, شرح ملتقى الأنهر ج1 ص205, المغنى ج2 ص612, أسنى المطالب ج1 ص385, شرح الأزهار ج1 ص562, المحلى لابن حزم ج8 ص257 وما بعدها.(2/607)
الركن الرابع: القصد الجنائي
616- لا يعتبر الأخذ خفية سرقة إلا إذا توفر لدى الآخذ القصد الجنائى: ويتوفر القصد الجنائى متى أخذ الجانى الشيء وهو عالم أن أخذه محرم, وما دام أنه يأخذه بقصد أن يتملكه لنفسه دون علم المجنى عليه ودون رضاه. فمن يأخذ شيئًا على اعتقاد أنه مباح أو متروك فلا عقاب عليه لانعدام القصد الجنائي, ولأنه أخذ ما ظنه مباح الأخذ, ومن أخذ شيئًا دون أن يقصد تملكه كأن أخذه ليطلع عليه أو ليستعمله ويرده أو أخذه على سبيل الدعابة, أو أخذ شيئًا وهو يعتقد أن المجنى عليه موافق على أخذه, كل أولئك لا يعتبر أحدهم سارقًا لانعدام القصد الجنائى.
ويجب أن يؤخذ الشيء بنية تملكه, فمن يأخذ شيئًا لغيره ويعدمه مكانه لا يعد سارقًا, وإنما هو متلف للشيء. وكذلك الحكم لو استهلك الشيء فى محله كطعام أكله أو شراب شربه أو طيب تطيب به, فإن خرج بالشيء من حرزه ثم أتلفه أو استهلكه خارج الحرز فهو سارق لا متلف, وهذا رأى جمهور الفقهاء. إلا أن الظاهريين يرون استهلاك الشيء فى الحرز سرقة لا إتلافًا, لأنهم لا يعتبرون الحرز, ولأنهم يرون السرقة تامة بمجرد وضع يد المتهم على الشيء المسروق وضعًا ماديًا.
ومن يأخذ شيئًا مملوكًا له لا عقاب عليه, لأنه لا يمكن أن يقال إنه أخذ الشيء بقصد تملكه إذ هو ملكه, فلا يعد سارقًا المؤجر الذى يأخذ العين التى(2/608)
أجرها, ولا المعير ولا المودع إذا أخذ العين التى أعارها أو أودعها, ولا يعد سارقًا من يتصرف فى الشيء تصرف الوكيل ولو لم يوكل فى هذا التصرف لأنه لم يأخذه بقصد تملكه, كالشريك الذى يبيع العين المشتركة بغير أن يقصد الاستئثار بنصيب شريكه, والدائن الذى يأخذ شيئًا لمدينه لا يقصد تملكه وإنما يقصد حبسه تحت يده حتى يسدد له دينه لا يعتبر سارقًا, لأنه لم يقصد تملك الشيء. أما إذا أخذه وهو يقصد تملكه سدادًا لدَيْنه فحكمه ما تقدم عند الكلام عن أخذ مال المدين.
ومن أخذ شيئًا متنازعًا على ملكيته لا يعد سارقًا متى ثبت أنه المالك له حقًا, فإذا لم تثبت له الملكية فالعبرة بجدية النزاع وبقصد الجاني, فإن كان النزاع جديًا أو كان قد أخذه وهو يعتقد أنه مالك له, فالقصد الجنائى غير متوفر.
ولا يكفى القصد الجنائى مع الأخذ خفية لعقاب الأخذ, فهناك حالات تتوفر فيها كل أركان السرقة ومع ذلك فلا يعاقب الآخذ إطلاقًا, أو يعاقب بالتعزير دون القطع. فمن أخذ مال حربى أو مال باغٍ بقصد تملكه فلا يعتبر سارقًا ولا عقوبة عليه؛ لأن أخذ مال الحربى والمال الباغى مباح, ومثل ذلك استعمال الحقوق أو أداء الواجبات التى تبيح إتيان الفعل أو توجب إتيانه, فحق الدفاع الشرعى يبيح للإنسان أن يستولى من مال غيره على ما يدفع به عن نفسه, فمن أخذ شيئًا للآخر ليدفع به جريمة قتل عن نفسه, وظل يضرب به حتى تحطم واستهلك فلا عقوبة عليه.
ولا قطع على غير المكلف إذا أخذ خفية شيئًا للغير بقصد تملكه, كالحربى يأخذ مال المسلم أو الذمي, وكالباغى يأخذ مال أحدهما لأنه لا مسئولية على أحدهما.
ولا يقطع المجنون أو المعتوه أو الصغير غير المميز إذا أخذ خفية مالاً لغيره بقصد تملكه؛ لأن حالة الجنون والعته والصغر مما يرفع العقوبة الجنائية عن(2/609)
الفاعل, على أن امتناع القطع فى السرقة قد لا يمنع عقوبة التعزير كما هو الأمر مع الصبى الذى يزيد سنه على سبع ولم يبلغ عشر فلا قطع, ولكنه يعاقب بعقوبة تأديبية.
ولا عقاب على السرقة فى حالة الإكراه المادى أو الأدبي, فمن يجبر ماديًا على سرقة شيء أو يهدد بالقتل إن لم يسرقه لا عقاب عليه إذا سرق تحت تأثير التهديد.
ولا عقاب على مضطر لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] , فمن سرق ليرد جوعًا أو عطشًا مهلكًا لا عقاب عليه.
ويعاقب السارق غير المضطر فى عام المجاعة بعقوبة تعزيرية, ولكنه لا يقطع بشرط أن لا يجد ما يشتريه أو يشترى به ولو لم يضطره الجوع للسرقة.
617- عقوبة الشريك إذا كان الشريك الآخر لا يقطع: يرى مالك والشافعى لأنه إذا اشترك اثنان فى سرقة, وكان أحدهما ممن لا يجب عليه القطع كالصغير غير المميز مع البالغ, أو المجنون مع العاقل البالغ, والأب مع الأجنبي, فيقطع البالغ وحده دون الصغير والمجنون, وحجتهما أن القطع امتنع عن الصغير والمجنون لمعنًى يخصه قائم فى نفسه غلا يتعداه لشريكه (1) .
ويرى أبو حنيفة وزفر أنه إذا اشترك من لا قطع عليه مع من عليه القطع درئ القطع عن الشركاء, وحجتهما أن السرقة واحدة, وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن لا يجب عليه القطع, فلا يجب القطع على أحد, كالعامد مع المخطئ إذا اشتركا فى قطع أو قتل, وإذا كان الإخراج أصل فى السرقة إلا أنه يحصل من الكل معنى لاتحاد الكل فى معنى التعاون, فكان إخراج من لا قطع عليه مثل إخراج من عليه القطع ضرورة الاتحاد, ومن وجبت المساواة بينهما فى العقوبة.
ويرى أبو يوسف منع القطع عمن يجب عليه القطع إذا كان الذى تولى الإخراج هو الشخص الذى لا يجب عليه القطع؛ لأن الإخراج من الحرز
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص95, أسنى المطالب ج4 ص138, 139.(2/610)
هو الأصل, والإعانة كالتابع, فإذا ولى الإخراج من ليس عليه قطع فقد أتى بالأصل, وإذا لم يجب على من أتى بالأصل قطع لم يجب على من أتى بالتابع (1) .
وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما يتفق مع رأى الشافعى ومالك, والثانى كرأى أبى حنيفة (2) .
ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب الشافعى ومالك (3) .
* * *
المبحث الثاني
أدلة السرقة
تثبت جريمة السرقة بما يأتى:
618- أولاً: البينة, أى شهادة الشهود: ويشترط فى شهود السرقة ما سبق بيانه من الشروط التى يجب توافرها فى شهود الزنا على الخلاف والوفاق الذى ذكر بين الفقهاء. وتثبت السرقة بشهادة شاهدين اثنين: فإن قل العدد عن اثنين أو كان أحدهما امرأة أو كان أحدهما شاهد رؤية والآخر شاهد سماع فلا قطع بشهادتهما.
وتقبل شهادة رجل وامرأتان, وشهادة شاهد رؤية وشاهدى سماع, وشهادة شاهد ويمين المدعي, بقصد إثبات ملكية المسروق, فإذا لم يكن غير هذه الشهادات فى جريمة السرقة امتنع الحكم بالقطع, واقتصر القاضى على الحكم بتعزير الجانى وإلزامه بضمان قيمة الشيء المسروق (4) .
ويشترط أبو حنيفة عدم التقادم لقبول الشهادة ولقطع السارق بها, والأصل عنده أن التقادم يبطل الشهادة على الحدود الخاصة, ولكن بطلان الشهادة
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص67.
(2) المغنى ج10 ص296.
(3) شرح الأزهار ج4 ص364.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص81, سرح الزرقانى ج8 ص106, المغنى ج10 ص289, أسنى المطالب ج4 ص151.(2/611)
بالنسبة للحد لا يمنع من ثبوت المال المسروق للمجنى عليه بنفس الشهادة, ولا يمنع من تعزير الجانى بهذه الشهادة وتضمينه قيمة المسروق, لأن التقادم يمنع من قبول الشهادة على الحدود الخالصة لشبهة الضغينة, والشبهة تدرأ الحد، ولكنها لا تمنع وجوب المال.
أما الأئمة الثلاثة فلا يعرفون التقادم ولا يسلمون به, فتقبل الشهادة عندهم تقادمت أو لم تتقادم ما دام القاضى مقتنعًا بصحتها.
وهناك رواية عن أحمد بأنه يقبل التقادم فى الحدود (1) .
وإذا تعدد السراق, وكان بعضهم غائبًا وبعضهم حاضرًا تثبت السرقة عليهم جميعًا بشهادة شاهدين, ويقطع الحاضر من الجناة, أما الغائب فلا يقطع بهذه الشهادة, بل يجب أن تعاد البينة فى مواجهته, أو تثبت عليه الجريمة فى مواجهة بينة أخري (2) , وهو ما يراه الأئمة الثلاثة. وعلى القاضى أن يتحقق من عدالة الشهود فى الحدود ولو لم يطعن المتهم فى شهادتهم, ولكنه غير ملزم بالتحقق من عدالتهم فى غير الحدود, ما لم يطعن فى شهادتهم على الرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة.
ويشترط أبو حنيفة لقبوله الشهادة على السرقة الموجبة للقطع قيام الخصومة ممن له يد صحيحة على الشيء المسروق, فإذا حضر الشهود, وقبل المجنى عليه أو من له حق الخصومة وشهدوا بالسرقة, لم تقبل شهادتهم ما لم يحضر من له حق المخاصمة أو المجنى عليه ويخاصم, لأن من شرط السرقة أن يكون الشيء مملوكًا لغير السارق, فلا تظهر السرقة إلا بالخصومة, فإذا لم توجد الخصومة لم تقبل الشهادة, إلا أن عدم قبول الشهادة لا يمنع القبض على المتهم وحبسه بناء على تبليغ الشهود بالسرقة إذ التبليغ اتهام, والقبض والحبس لا يجوز أن يتوجه
_________
(1) المغنى ج10 ص187, بدائع الصنائع ج7 ص81, وراجع الجزء الأول من التشريع الجنائى الإسلامى.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص258.(2/612)
بالاتهام, فإذا حضر المجنى عليه أو غيره ممن له حق الخصومة وادعى ملكية المسروق قبلت الشهادة (1) .
والمقصود من قبول الشهادة هو عدم سماع الشهود قضاء والأخذ بها كدليل, فلا يمنع حضور الشهود قبل المخاصمة من سماع أقوالهم وتدوينها كبلاغ وحبس المتهم بموجبها, وإنما الممنوع هو الحكم بها (2) .
ولكن مالكًا لا يرى المخاصمة ضرورية لقبول الشهادة والحكم بها, فإذا حضر الشهود وبلغوا بالسرقة سمعت شهادتهم وأقيمت الدعوى على المتهم ولو لم يحضر المجنى عليه, ولو كان المتاع لغائب أو مجهول, ويقطع السارق بشهادة الشاهدين؛ لأن الحد متعلق بحق الله تعالي, وقد ارتكب المتهم الجريمة, فوجبت عليه عقوبتها (3) , بل لو كذب المجنى عليه الشهود بالسرقة فلا يمنع هذا من القطع ما دامت السرقة ثابتة (4) .
ويرى الشافعى أنه إذا تقدم الشهود فشهدوا بسرقة مال شخص غائب أو حاضر لم يبلغ قبلت شهادتهم حسبة تغليبًا لحق الله تعالي, ولكن لا يقطع السارق بهذه الشهادة حتى يطالب المالك بالشيء المسروق, أو يطالب عنه وليه أو وصيه, فإذا ادعى اعتبرى الشهادة مرة ثانية بعد ادعائه لإثبات أن المال المسروق له؛ لأن شهادة الحسبة لا تقبل فى المال, أما وجوب القطع فقد ثبت بثبوت السرقة التى ثبتت بشهادة الحسبة إن كان القطع, متوقفًا على المخاصمة؛ لأن عدم المخاصمة تفيد وجود مسقط للقطع فانتظار المخاصمة هو انتظار ظهور مسقط, فإذا خاصم تبين أن لا مسقط (5) . ورأى الشافعى لا يختلف من الناحية العملية عن رأى أبى حنيفة.
وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما يتفق مع مذهب أبى حنيفة وهو الراجح
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص81.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص252.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص106, المدونة ج16 ص66, 67.
(4) المدونة ج16 ص68, شرح الزرقانى ج8 ص97.
(5) أسنى المطالب ج4 ص152.(2/613)
, والثانى يتفق مع مذهب مالك, وهو المرجوح (1) , وأصحاب الرأى الأول يحتاطون فيرون حبس السارق وأخذ المال المسروق وحفظه حتى يحضر الغائب أو وكيله, ويلاحظ أن المخاصمة مقيدة بالسرقة الموجبة للقطع, فإن كانت السرقة مما يعزر فيه فلا تشترط الخصومة لظهور السرقة, وليس من الضرورى سماع أقوال المجنى عليه أو من يمثله إلا فيما يتعلق بتضمين السارق قيمة المسروق, ويكفى أن يثبت السرقة بأى طريق آخر غير طريق المجنى عليه. والتشدد فى السرقة الموجبة للقطع راجع إلى الأصل المشهور "ادرءوا الحدود بالشبهات" فمن اشترط حضور المجنى عليه اتخذ من عدم حضوره شبهة أن يكون المال غير مسروق أو أن للمتهم حقًا فيه, أو أنه سرق من غير حرز, أو أن المتهم أذن له فى دخول الحرز وغير ذلك من الشبهات التى تدرأ القطع.
من يملك الخصومة؟: وإذا كان بعض الفقهاء يرى الخصومة شرطًا لظهور السرقة المستوجبة للقطع فلابد من بيان من يملك الخصومة, والأصل عند أبى حنيفة أن كل من له يد مالك أو أمانة أو ضمان, فللمالك أن يخاصم السارق, وللمودع وللمستعير والمضارب والغاصب والقابض على رسوم الشراء والمرتهن؛ لأن يد هؤلاء إما يد ضمان أو يد أمانة, فلهم جميعًا أن يخاصموا السارق, وتعتبر خصومتهم فى حق ثبوت ولاية الاسترداد والإعادة إلى أيديهم أولاً, وفى حق القطع إذ يقطع السارق بخصومتهم ثانيًا. ولكن زفر لا يعتبر الخصومة فى حق القطع إلا من المالك فقط وهو مذهب الشافعي, حيث يشترط مخاصمة المالك أو وكيله, ولا يجيز مخاصمة واضع اليد كالمرتهن والمستأجر. أما مالك فلا يشترط المخاصمة والمطالبة للقطع - وفى مذهب أحمد رأيان: رأى كمذهب مالك, والثانى كمذهب الشافعى يشترط مخاصمة المالك دون غيره (2) .
_________
(1) المغنى ج10 ص299, كشاف القناع ج4 ص86.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص83, أسنى المطالب ج4 ص152, المغنى ج10 ص299, كشاف القناع ج4 ص87, شرح الزرقانى ج8 ص106.(2/614)
والسارق عند أبى حنيفة لا يملك الخصومة إذا سرق الشيء منه؛ لأن يده ليست صحيحة على الشيء المسروق, فلا هى يد مالك, ولا يد أمانة, ولا ضمان, فصار الأخذ من يده كالأخذ من الطريق, وليس للمالك ولاية الخصومة فى هذه الحالة, لأن الأخذ لم يخرج من المال من حيازته ولكن له حق استرداد الشيء المسروق. وإذا كان السارق لا يملك الخصومة فإنه يترتب على ذلك سقوط القطع فى حق السارق الثانى.
أما حق الاسترداد فقد اختلف فيه الفقهاء فى المذهب. فيرى البعض أن السارق الأول ليس له أن يطالب السارق الثانى برد المسروق, ويرى البعض أن له حق المطالبة بالاسترداد (1) , ومالك لا يشترط الخصومة, ويرى قطع السارق من السارق؛ لأنه سرق مالاً للغير من حرز لا شبهة له فيه (2) , ولكنه لا يجعل للسارق الأول حق استرداد المسروق, إنما الاسترداد للمالك.
وأحمد يشترط الخصومة, ولكنه لا يقطع السارق من السارق, ولا السارق من الغاصب, ولا يجعل حق استرداد المسروق إلا للمالك (3) .
وفى مذهب الشافعى رأيان فى قطع السارق من السارق: أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أحمد (4) , وحق الاسترداد لا يكون فى أى حال إلا للمالك.
619 - ثانيًا: الإقرار: تثبت السرقة بالإقرار ولو بعد حين من السرقة, لأن التقادم عند القائلين به لا يؤثر على الإقرار, إذ الإنسان غير متهم فيما يقر به على نفسه. والظاهريون يرون أن يكون الإقرار مرة واحدة ولا يتعدد.
وقد اختلف فى عدد الأقارير. فاكتفى مالك وأبو حنيفة والشافعى بإقرار واحد، ويرى أبو يوسف من فقهاء الحنفية مع أحمد والشيعة الزيدية أن يكون
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص84.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 96.
(3) المغنى ج10 ص257, 279.
(4) المهذب ج2 ص299, أسنى المطالب ج4 ص138.(2/615)
الإقرار مرتين, وحجتهم ما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقطع أحد السارقين إلا بعد أن اعترف مرتين أو ثلاثًا, ويترتب على اشتراط الإقرار مرتين عند القائلين به أنه لو أقر مرة واحدة لم يقطع بها, ولكنه يعزر بها ويحكم عليه بقيمة المسروق (1) .
واختلف فى اشتراط الخصومة مع الإقرار, فأبو حنيفة والشافعى وأحمد يشترطون المخاصمة مع الإقرار, فلا يقطع المقر بسرقة مال من مجهول أو من غائب إلا إذا خاصمه من يملك المخاصمة كما هو الحال فى حالة الثبوت بالبينة, ولكن أبا يوسف من فقهاء المذهب الحنفى لا يشترط المخاصمة فى حال الإقرار ويرى القطع فى السرقة من مجهول أو غائب إذا ثبتت السرقة دون حاجة للمخاصمة, وحجته فى ذلك أن المقر لا يتهم فى الإقرار على نفسه, ويحتج أبو حنيفة ومن على رأيه بأن سمرة لما أقر للرسول أنه سرق بعيرًا, أرسل الرسول يسأل المجنى عليهم فقالوا: فقدنا بعيرًا فى ليلة كذا, فقطعه.
ويحتج لذلك أيضًا بأن الظاهر أن من فى يده شيء فهو ملكه, فإن أقر به لغيره لم يحكم بزوال ملكه حتى يصدقه المقر له, والغائب يجوز أن يصدقه, ويجوز أن يكذبه, فاحتمال التكذيب شبهة تدرأ الحد عن المتهم.
وقد علمنا فيما سبق أن مالكًا لا يشترط المخاصمة للقطع سواء ثبتت السرقة ببينة أو إقرار (2) .
وإذا أقر الجانى ورجع عن إقراره لم يقطع, لأن العدول شبهة فى صحة الإقرار, ولكن يمكن أن يعزر على أساس إقراره, وان يحكم عليه بضمان المال المسروق, وإذا عدل المتهم عن الإقرار, وكانت الجريمة ثابتة بشهادة
_________
(1) المغنى ج10 ص291- 294, شرح الأزهار ج4 ص364, شرح الزرقانى ج8 ص106, أسنى المطالب ج4 ص150, بدائع الصنائع ج7 ص81, 82.
(2) المغنى ج10 ص300, أسنى المطالب ج4 ص150, شرح الزرقانى ج8 ص106, بدائع الصنائع ج7 ص82.(2/616)
الشهود, قطع الجانى بناء على ثبوت الجريمة بالبينة, وهذا ما يراه أحمد ومالك والظاهريون (1) .
وعند الشافعيين يرون أن الأصح سقوط القطع إذا ثبتت الجريمة أولاً ثم ثبتت بالبينة إذا رجع عن الإقرار (2) .
ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة يرون أن الإقرار يبطل الشهادة, وأن العدول عن الإقرار يبطل الحد (3) .
وليس للعدول عن الإقرار أى أثر عند الظاهريين, بل يؤخذ الجانى بإقراره ولو عدل عنه, لأنهم لا يدرأون الحدود بالشبهات, ويرى بعض الشافعية هذا الرأى على أساس أن السرقة حق متعلق بالإفراد (4) .
620- ثالثًا: اليمين: فى مذهب الشافعى رأى أن السرقة تثبت باليمين المردودة, فإذا ثبتت على هذا الوجه قطع المتهم, فإذا لم يكن شهود ولا إقرار, فنسب المجنى عليه السرقة للمتهم, فنكل السارق عن اليمين فحلفها المدعى قطع السارق؛ لأن اليمن المردودة كالإقرار والبينة وسيلة من وسائل الإثبات, وكل منها يقطع به فيقطع باليمن المردودة.
لكن الرأى الراجح فى المذهب أن القطع لا يكون بالبينة أو الإقرار, وأنه لا قطع باليمين المردودة, وإنما يثبت به المال المسروق فقط (5) , وهذا الرأى يتفق مع مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فإنهم لا يرون اليمن المردودة دليلاً مثبتًا إلا للمال دون غيره, وأن السارق لا يقطع بها (6) .
* * *
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص86, المحلى ح8 ص250.
(2) أسنى المطالب ج4 ص150, ويراجع مذهب أبس حنيفة فى شرح فتح القدير.
(3) شرح الأزهار ج4 ص349.
(4) المحلى ج8 ص250, المهذب ج2 ص364.
(5) أسنى المطالب ج4 ص364.
(6) شرح الزرقانى ج8 ص107, بدائع الصنائع ج7 ص81, المغنى ج1 ص128.(2/617)
المبحث الثالث
ما يترتب على ثبوت السرقة
يترتب على ثبوت السرقة شيئان:
أولهما: ضمان قيمة المال المسروق.
ثانيهما: قطع السارق.
621- أولاً: الضمان: يسلم أبو حنيفة وأصحابه بأن الجانى إذا ثبتت عليه السرقة ملزم بضمان قيمة الشيء المسروق, وأنه يجب عليه القطع إذا تبين أنه سارق, ولكنهم يرون الضمان والقطع لا يحتمعان معًا, فإذا قطع السارق فلا ضمان عليه حتى ولو استهلك الشيء المسروق بعد القطع, وحجتهم أن نص القرآن جاء بالقطع فقط, وأن عبد الرحمن بن عوف روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قطع السارق فلا غرم عليه", ولهم حجة أخرى منطقية وهى: أن المضمونات تملك عندهم من وقت الأخذ عند أداء الضمان أو اختياره, فلو ضمن السارق قيمة المسروق فكأنه ملكه من وقت أخذه, وكأنه أخذ ما يملكه, فلو قطع مع الضمان لقطع فى ملك نفسه, والقطع لا يجب إلا بأخذ ملك الغير, ولكن بعض فقهاء الحنفية يفرقون بين حالة الاستهلاك قبل القطع وحالة الاستهلاك بعده, ويرون أن السارق يضمن المال المسروق إذا استهلكه بعد القطع, أما إذا استهلكه قبله فلا ضمان. وحجتهم أن المال المسروق حين بقى فى يد السارق بعد القطع بقى تحت يده على سبيل الأمانة ليرده للمجنى عليه, فإذا استهلكه ضمن قيمته (1) .
ويرى الحنفية عمومًا أن للمالك استرداد المسروق بعد القطع ما دام المسروق لم يستهلك, سواء كان المسروق فى يد السارق أو كان السارق قد تصرف فيه للغير, وللغير أن يرجع بالثمن على السارق, ولكن ليس له أن
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص84, 85.(2/618)
يرجع عليه بالقيمة, لأن الرجوع بالقيمة معناه الضمان, وقد انتهى الضمان عن السارق بالقطع, أما الرجوع بالثمن فلا يوجب على السارق ضمانًا فى عين المسروق, وإن كان قد هلك فى يد المتصرف إليه فلا ضمان عليه ولا على السارق؛ لأن السارق قطع, والقطع ينفى الضمان, ولأن تضمين المتصرف إليه يعطيه حق الرجوع على السارق بالضمان, فتكون النتيجة تضمين السارق, وقطعه ينفى عنه الضمان, فإذا كان المتصرف إليه قد استهلك المسروق كان للمجنى عليه أن يرجع بقيمة المسروق على المتصرف إليه, لأنه قبض ماله بغير إذن واستهلكه وكان للمتصرف إليه أن يرجع على السارق بالثمن, والرجوع بالثمن ليس تضمينًا, وإنما التضمين هو الرجوع بالقيمة, وإذا غصب مال المسروق شخص من السارق كان للمجنى عليه أن يسترد المال من يد الغاصب, فإذا هلك المال فى يد الغاصب كان للمجنى عليه أن يرجع على الغاصب بقيمته على رأى, ولم يكن له على رأى آخر, لأن عصمة المال قد سقطت بالقطع (1) . واختلف فقهاء الحنفية فى حالة تعدد السرقات, وتعدد المجنى عليهم. والقاعدة أنه إذا تعددت السرقات قبل الحكم تداخلت الحدود وأجزأ أحدها, فيقطع السارق مرة واحدة فى كل السرقات.
والخلاف ليس على هذه القاعدة فهى مسلم بها من الجميع, وإنما اختلفوا فى الضمان إذا تعددت السرقات, ففريق يرى أن المجنى عليهم إذا حضروا جميعًا وخاصموا فلا ضمان على السارق, لأن مخاصمة السارق فى المسروق تقوم مقام الإبراء من الضمان, أما إذا خاصم أحدهم أو بعضهم ولم يخاصم الباقون فالضمان لمن لم يخاصم, وهذا هو رأى أبى يوسف ومحمد, وحجتهما أن المجنى عليه مخير بين أن يدعى المال فيستوفى حقه وهو الضمان, وبين أن يدعى السرقة فيستوفى حق الله تعالى فهو القطع ولا ضمان له, فسقوط الضمان أساسه عندهما الادعاء بالسرقة. أما الرأى المضاد فهو رأى أبى حنيفة, ويرى أن لا ضمان لأحد من المجنى عليهم؛ لأن القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص85.(2/619)
وقع للسرقات كلها, فينتفى الضمان لأيهما (1) .
ويرى الشافعى وأحمد أن القطع والضمان يجتمعان دائمًا؛ لأن السارق يأتى بما يوجب القطع, ويأتى بما يوجب ضمان قيمة المسروق فى كل سرقة, فكان الواجب عليه هو القطع والضمان, ذلك أن كل سرقة هى اعتداء على حقين أولهما: حق الله تعالى الذى حرم السرقة أو حق الجماعة التى تضر بالسرقة, والثانى: حق العبد الذى اتلف ماله دون مبرر, وإذا كانت الجريمة اعتداء على حقين فليس ثمة ما يمنع أن تكون الجريمة مضمونة بضمانين, أى أن يكون الجانى مسئولاً عن هذين الحقين, كذلك فإن الجانى ضامن لرد العين كلما كانت باقية تحت يده, فيجب عليه ضمان قيمتها إذا كانت تالفة لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه", ولا يسلم الشافعية والحنفية بحديث عبد الرحمن بن عوف؛ لأن أحد رواته مجهول.
وعلى هذا يجب على السارق رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية, فإذا كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قُطع أو لم يقطع, موسرًا كان أو معسرًا. وإذا تعدد المجنى عليهم فى السرقة, فالسارق ضامن لكل منهم قيمة ما سرق منه أو مثله سواء خاصم أو لم يخاصم (2) .
وإذا تصرف السارق فى العين كان للمالك أن يسترد العين من هذا الغير وللأخير الرجوع على السارق بقيمتها.
ويرى مالك أن السارق يضمن قيمة المسروق إذا لم يحكم عليه بالقطع أيًا كان السبب فى عدم القطع, كأن كان لعدم تمام النصاب فى المال, أو فى الشهادة, أو لأنه سرق من غير حرز, أو لأن يده قطعت فى جناية أخرى عمدًا أو خطأ, أو فى حادث عرضي, وهو يضمن قيمة المال المسروق ولو كان قد تلف, وسواء كان التلف باختياره أو بالرغم منه, وسواء كان السارق موسرًا أو معسرًا,
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص85, 86.
(2) أسنى المطالب ج4 ص152, المغنى ج10 ص279.(2/620)
أما إذا كانت العين باقية فعليه ردها. أما إذا قطع فى السرقة فعليه رد العين إن كانت موجودة, فإن لم تكن موجودة فعليه قيمتها أو مثلها بشرط أن يكون موسرًا وقت السرقة ويظل يسره حتى يقطع. فإن كان معسرًا وقت السرقة ثم أيسر بعد ذلك ولو قبل القطع فلا ضمان. وكذلك لو كان موسرًا وقت السرقة ثم أعسر بعد السرقة وقبل القطع ولو عاد إلى يساره بعد القطع.
وأساس هذه التفصيلات عند مالك هو ما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه", ويفسر مالك هذا الحديث بأنه لا يجوز أن يجتمع على السارق عقوبتان: قطع يده, واتباع ذمته. ولكن مالكًا يرى أن اليسار المتصل كالمال القائم, فإذا ظل السارق فى يساره من وقت السرقة إلى وقت القطع فلا يعتبر أنه عوقب بتضمينه قيمة المسروق الذى تصرف فيه, فدخل ثمنه فى ماله أو استهلكه, انتفع به أم لم ينتفع. ورأى مالك استحسان على غير قياس (1) . وتطبق هذه القواعد فى حاله تعدد السرقات وتعدد المجنى عليهم, وللمالك إذا تصرف السارق فى العين لآخر أن يسترد العين من الآخر.
ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع مذهب أبى حنيفة, فالسارق إذا قطع لم يضمن (2) .
622- ثانيًا القطع. أساس القطع: الأصل فى القطع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة:38] .
وعقوبة القطع لا يحوز العفو فيها لا من المجنى عليه ولا من رئيس الدولة, ولا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها. والأصل فى ذلك ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تجافوا العقوبة بينكم, فإذا انتهى بها إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا", كذلك لا يجوز تأخير تنفيذ العقوبة أو تعطيلها. وهذه المبادئ
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص107, 108, بداية المجتهد ج2 ص278.
(2) شرح الأزهار ج4 ص375.(2/621)
متفق عليها ولا يخالف فيها إلا الشيعة الزيدية, حيث يرون أن القطع يسقط عن السارق بعفو المجنى عليه فى السرقة, فإذا تعدد المجنى عليهم وجب لسقوط القطع أن يعفو كل منهم (1) .
كذلك يرون أن للإمام مع وجوب إقامة الحد أن يسقط العقوبة عن بعض الناس لمصلحة, وله أن يؤخر إقامته إلى وقت آخر لمصلحة, على أن بعضهم يرى أن ليس للإمام إسقاط حد القذف ولا حد السرقة (2) .
623- محل القطع: اختلف الفقهاء فى محل القطع إلى حد كبير, ولهم فى ذلك آراء مختلفة, وأساس اختلافهم تأويل قوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , واختلافهم فى صحة ما أُثر عن الرسول, فرأى عطاء أن السارق إذا سرق قطعت يده فى السرقة الأولى ولا قطع بعد ذلك إن عاد للسرقة. وعلى هذا فإن جزاء السرقة هو قطع اليد اليمنى فى أول سرقة, أما السرقات الأخرى فلا قطع فيها, وإنما يعاقب السارق عقوبة تعزيرية. وحجة عطاء أن الله جل شأنه قال: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , ولو شاء أمر بقطع الرجل ولو يكن الله تعالى نسيًا (3) .
ويرى الظاهريون أن القطع واجب فى اليدين معًا, فإذا سرق قطعت إحدى يديه, فإذا عاد للسرقة قطعت يده الثانية, فإن سرق الثالثة عزر ومنع الناس ضره حتى يصلح حاله؛ أى حبس طويلاً حتى يصلح حاله. وحجتهم أن القرآن والسنة جاءا بقطع يد السارق لا بقطع رجله, فلا يجوز أن يقطع من السارق غير يديه (4) , ومحل القطع عند أبى حنيفة والشيعة الزيدية وعلى الرأى الأول
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص324.
(2) شرح الأزهار ج4 ص374, بدائع الصنائع ج7 ص55, كشاف القناع ج4 ص47, 87, المهذب ج6 ص287, 289, 292, 300, الأحكام السلطانية ص265, المدونة ج16 ص67, المحلى ج11 ص126 وما بعدها.
(3) المحلى ج11 ص354.
(4) المحلى ج11 ص357.(2/622)
- وهو الراجح فى مذهب أحمد - وهو اليد اليمنى والرجل اليسرى, فتقطع اليد اليمنى فى السرقة الأولى, فإن عاد للسرقة قطعت الرجل اليسرى, فإن عاد فلا قطع بعد ذلك وإنما يحبس إلى مدة غير معينة حتى يموت أو تظهر توبته. وحجتهم فى ذلك: أولاً ما روى عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال فى السارق: "إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله", ولأن نص القرآن: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} قصد منه اليد اليمنى فقط بدليل قراءة عبد الله بن مسعود "فاقطعوا أيمانهم", ولا يظن بمثله أن يقرأ ذلك من تلقاء نفسه بل سماعًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فخرجت قراءته مخرج التفسير, ولأن القطع - قطع اليدين- يفوت منفعة الجنس, وكذلك قطع الرجلين معًا, فلا يستطيع أن يأكل أو يمشى أو يتطهر أو يدفع عن نفسه, ولأن عمر وعليًا لم يريا أن يقطعا أكثر من يد ورجل السارق, فقد أُتى على بسارق قطعت يده ورجله فلم يقطعه وقال: إنى لأستحى من الله ألا أدع يدًا يبطش بها, ولا رجلاً يمشى عليها. ولما أشار عليه الصحابة بقطعه قال: إذا قتلته وما عليه القتل, بأى شيء يأكل الطعام؟ بأى شيء يتوضأ للصلاة؟ بأى شيء يغتسل من جنابته؟ بأى شيء يقوم على حاجته؟
وروى عن عمر أنه أتى برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فاستودعه السجن بعد أن أشار عليه على بذلك (1) .
ومحل القطع عند مالك والشافعى وعلى الرأى الثانى فى مذهب أحمد هو اليدان والرجلان معًا, فتقطع اليد اليمنى أولاً, فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى, فإن عاد الثالثة قطعت اليد اليسرى, فإن عاد الرابعة قطعت رجله اليمني, فإن عاد بعد ذلك حبى حتى يموت أو تظهر توبته. وحجتهم أن الله تعالى قال: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , والأيدى اسم جمع والاثنان فما فوقهما جمع, وأن أبا هريرة روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى السارق: "السارق إن سرق
_________
(1) المغنى ج10 ص264, 272, بدائع الصنائع ج7 ص86, شرح الأزهار ج4 ص272.(2/623)
فاقطعوا يده, ثم إن سرق فاقطعوا رجله, ثم إن سرق فاقطعوا يده, ثم إن سرق فاقطعوا رجله", ولأن أبا بكر وعمر قطعا فى خلافتهما اليدين والرجلين, وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللَّذَيْن من بعدى: أبى بكر وعمر" (1) .
ويشترط أبو حنيفة لقطع اليد اليمنى أن تكون اليد اليسرى صحيحة, فإن كانت مقطوعة أو شلاء مقطوعة الإبهام أو أصبعين سوى الإبهام فلا تقطع اليمنى لأن القطع للسرقة شرع للزجر لا للإهلاك, فإذا لم تكن اليسرى يمكن الانتفاع بها فإن قطع اليمنى يؤدى إلى تفويت منفعة اليدين, وهو إهلاك للنفس من وجه, وإذا كانت اليسرى كذلك فلا تقطع الرجل اليسرى أيضًا؛ لأن قطعها يؤدى إلى ذهاب أحد الشيئين على الكمال ففيه إهلاك النفس.
ويرى أبو حنيفة أيضًا أنه إذا كانت الرجل اليمنى مقطوعة أو شلاء أو بها عرج يمنع المشى عليها فلا تقطع اليد اليمنى؛ لأن فى ذلك فوات منفعة الشق, وكذلك لا تقطع رجلة اليسرى وإن كانت صحيحة؛ لأنه يبقى بلا رجلين فتفوت منفعة الجنس - أى منفعة المشي- وإن كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها, فإن كان يستطيع المشى عليها كلها تقطع اليد اليمني؛ لأن الجنس لا تفوت منفعته, وإن كانت يداه صحيحتين ولكن رجله اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الأصابع تقطع يده اليمني؛ لأن جنس المنفعة لا يفوت وليس فيه فوات الشق, وإن كانت اليد اليمنى شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع فإنها تقطع؛ لأن اليد السليمة تقطع فالمعيبة إذن أولى بالقطع.
ورأى أبى حنيفة فيما سبق يتفق فى مع رأى أحمد, ولكن الأخير يخالف فى أنه يعتبر اليد التى ذهب معظم نفعها فى حكم المعدومة, فلا يعتبر معدومة ما ذهب منها خنصر أو بنصر أو إبهام, أما أبو حنيفة فيعتبر فى حكم المعدوم
_________
(1) شرح الزرقانى ج2 ص92, 93, أسنى المطالب ج4 ص152 وما بعدها.(2/624)
ما قطع منه أصبعان غير الإبهام, أو قطع منه الإبهام فقط, لأن ذلك فى رأيه يفوت منفعة البطش.
وفى مذهب أحمد رأى لا يرى قطع الشلاء أصلاً, والانتقال إلى غيرها, فإن كانت اليد اليمنى شلاء قطعت الرجل اليسرى, ولكن الرأى الأخر يرى قطع الشلاء إذا رأى أهل الخبرة أنها قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها. وفى المذهب رأى يرى ألا تقطع اليد إذا كانت كل أصابعها ذاهبة, ورأى يرى قطعها (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة كما ورد ذلك فى شرح الأزهار.
ويتفق مالك والشافعى كما ذكرنا من قبل فى قطع اليدين والرجلين, ولكن مالكًا يرى ألا قطع فى يد ولا قدم مشلولة شللاً ظاهرًا. وإذا قطع من اليد معظم أصابعها كثلاثة أو أربعة أصابع, اعتبرت عند مالك فى حكم المشلولة وكذلك الرجل.
أما الشافعى فإنه يرى قطع اليد أو الرجل ولو كانت شلاء, إلا إذا خيف من قطعها ألا يكف الدم, ويكتفى بقطع اليد ما دام فيها أصبع واحد, بل يرى بعض فقهاء المذهب الاكتفاء بالكف دون الأصابع (2) .
ومن المتفق عليه بين جميع الفقهاء أن القطع يسقط إذا ذهب العضو المستحق القطع بسبب وقع بعد السرقة لا قبلها, سواء كان الذهاب بآفة, أو قصاص, أو جناية. فمن حصل له حادث بعد السرقة فذهبت فيه يده اليمنى سقط عنه القطع ولم ينتقل للرجل اليسرى. ومن قطع يمنى شخص بعد السرقة فحكم له بقصاص, فقطعت يده اليمني, سقط عنه القطع للسرقة ولم ينتقل إلى الرجل اليسرى. أما إذا كانت الجناية التى حكم فيها بالقصاص وقعت قبل
_________
(1) المغنى ج10 ص268, 269, كشاف القناع, بدائع الصنائع ج7 ص87.
(2) أسنى المطالب ج4 ص152, 153, شرح الزرقانى ج8 ص92, 93.(2/625)
السرقة فالقطع ينتقل للرجل اليسرى (1) .
وإذا قطع شخص عمدًا العضو المستحق القطع سقط القطع, وليس على العادى إلا التعزير, ويسقط القطع؛ لأن العضو المستحق ذهب بسبب نشأ بعد السرقة زلا قصاص على العادى؛ لأنه قطع عضوًا غير معصوم, وإنما يعزر لافتياته على الإمام ولو كان القطع قبل ثبوت السرقة. والحكم بالقطع ما دام الاعتداء حدث بعد السرقة, وما دامت السرقة قد ثبتت وكانت مما يجب فيه القطع, وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد, إلا أن بعض المالكية يشترط أن يكون الاعتداء بعد ثبوت السرقة لا بعد وقوعها (2) .
ويفرق الحنفية بين حالتين, حالة ما إذا كان الاعتداء قبل المخاصمة أو بعدها, فإن كان قبل المخاصمة فعلى المعتدى القصاص؛ لأن القطع لا يجب فى السرقة إلا بالمخاصمة فكان العضو حين قطع غير مستحق القطع, فقطع وهو معصوم. وينتقل القطع فى السرقة إلى الرجل اليسرى إذا كان المقطوع هو اليد اليمني, كأن سرق ولا يمين له. أما إذا كان الاعتداء بعد الخصومة, فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب. إلا أنا ههنا لا نقطع رجله اليسرى؛ لأنه لما خوصم كان الواجب فى اليمين وقد فاتت, فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية, وإن كان بعد القضاء فلا قصاص على القاطع؛ لأنه احتسب لإقامة حد الله تعالى فكان قطعه عن السرقة (3) .
وإذا شهد بالسرقة فحسبه الحاكم لعدل الشهود, فقطعه قاطع, ثم عدلوا, فلا قصاص على القاطع عند الأئمة الثلاثة, وإن لم يعدلوا وجب القصاص. ولكن
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص153, المغنى ج10 ص269, شرح الزرقانى ج8 ص108, بدائع الصنائع ج7 ص88.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص88.(2/626)
الحنفيين لا يرون القصاص, لأن صدق الشهود محتمل فيكون ذلك شبهة (1) .
وإن عدا شخص على السارق فقطع يسراه بعد السرقة عمدًا أو خطأ فعليه القصاص فى العمد والدية فى الخطأ, ولكن قطع اليمن يسقط عن السارق عند أبى حنيفة وأحمد والشيعة الزيدية, لأنه لو قطع لأدى قطعه إلى تفويت منفعة الجنس, ولكن مالكًا والشافعى لا يسقطان قطع اليمين عن السارق. لأنهما يجيزان قطع اليدين والرجلين, بينما لا يجيز أبو حنيفة وأحمد إلا قطع يد ورجل فقط (2) .
وإذا قطع الإمام أو الجلاد اليسرى بدلاً من اليمنى خطأ أجزأت, وليس على القاطع ضمان فى رأى البعض, وعليه الضمان فى رأى البعض الآخر, أما إذا قطعها عمدًا وهو عالم أن السنة قطع اليمين فعلى القاطع القصاص, ولا يسقط القطع عن السارق فنقطع يده اليمنى عند مالك والشافعي, وعليه التعزير عند أبى حنيفة والضمان. وكذلك يرى بعض الحنابلة, ولكن البعض الآخر يرى القصاص. ولكن الحنفيين عمومًا والحنابلة يرون أن قطع اليسار يمنع من قطع اليمين ويجزئ عنه؛ لأن قطع اليمين يفضى إلى تفويت منفعة الجنس, كما يؤدى إلى قطع اليدين فى سرقة واحدة.
ويرى أبو حنيفة ألا ضمان على القاطع فى هذه الحالة؛ لأن القاطع أتلف وأخلف خيرًا مما اتلف. أى أنه إذا كان فعل القاطع أدى إلى إتلاف اليسرى فقد أدى إلى لإبقاء اليمنى وهى خير من اليسرى (3) .
_________
(1) المغنى ج10 ص269, 270, حاشية ابن عابدين ج3 ص287, الزيلعى ج3 ص226, شرح فتح القدير ج4 ص251.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص87, أسنى المطالب ج4 ص153, شرح الزرقانى ج8 ص93, المغنى ج10 ص270, شرح الأزهار ج4 ص373.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص87, شرح الزرقانى ج8 ص93, 94, أسنى المطالب ج4 ص153, كشاف القناع ج4 ص88 المغنى ج10 ص270.(2/627)
624- موضع القطع: موضع القطع من اليد هو مفصل الزند عند الأئمة الأربعة والظاهريين والشيعة الزيدية, وعند الشيعة الإمامية القطع من أصول الأصابع, فلا تقطع الكف, ويرى الخوارج القطع من المنكب.
وموضع قطع الرجل من مفصل الكعب, ولكن الشيعة الإمامية يرون القطع من مقعد الشراك ليبقى للسارق عقب يمشى عليه. وحجة الخوارج أن اليد تطلق على الذراع كله, وحجة الشيعة الإمامية أن عليًا قطع أصابع اليد دون الكف, وقطع القدم دون الكعب. وحجة القائلين القطع من مفصل الزند ومفصل الكعب: أن أقل ما يطلق على اليد هو الكف والأصابع, وأن العمل جرى من عهد الرسول على القطع من هذين المفصلين (1) .
625- التداخل: إذا سرق السارق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميع السرقات وتداخلت الحدود جميعًا؛ لأن السرقة حد من حدود الله تعالي, فإذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا. والقاعدة: أن ما تعلق بحق الله تداخل, وما تعلق به حق لآدمى لم يتداخل (2) . ويرى مالك أن التداخل يكون فى حالتين:
الأولى: إذا اتحد الموجب؛ أى اتفق قدر ما توجبه كل جريمة كالقذف والشرب, فعقوبة كل منهما ثمانون جلدة, وكالسرقة وقطع اليد اليمنى فالأولى عقوبتها القطع والثانية القصاص. فإذا أقيمت إحدى العقوبتين أو العقوبات التى تتحد فى الموجب سقطت العقوبات الأخرى ولو لم يقصد عند إقامة العقوبة التى أقيمت أن تجزئ عن غيرها, أو لم يكن يعلم أن هناك حدودًا أخرى واجبة على المحدود.
_________
(1) المحلى ج11 ص357, المغنى ج10 ص264, شرح الأزهار ج4 ص272, شرح الزرقانى ج8 ص 92, 93, بدائع الصنائع ج7 ص78, أسنى المطالب ج4 ص152, 153, بداية المجتهد ج2 ص278.
(2) المغنى ج10 ص268, أسنى المطالب ج4 ص152, 157, بدائع الصنائع ج7 ص85, شرح الزرقانى ج8 ص108.(2/628)
الثانية: إذا تكررت موجبات الجريمة الواحدة كالسرقة مرارًا قبل الحد أو الشرب مرارًا قبل الحد. ويرى بعض الحنابلة أنه لو سرق جماعة وجاءوا متفرقين فإن الحدود لا تتداخل. ولعله يقيس ذلك على حد القذف, ولكن الصحيح أنها تتداخل؛ لأن القطع خالص حق الله تعالى وإن توقف على مخاصمة المالك, أما حد القذف فحق لآدمى ويتوقف على المطالبة باستيفائه ويسقطه العفو عنه (1) .
626- من الذى يقيم الحد؟: يقيمه الإمام أو من ولاَّه من الحكام.
627- تعليق اليد بعد قطعها: يرى الشافعى وأحمد أن تعليق اليد المقطوعة وقتًا ما فى عنق السارق للزجر والتنكيل, أخذًا بما رواه الترمذى من أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أتى بسارق فقطعت يده ثم أمر فعلقن فى عنقه (2) .
ولم يحدد الحنابلة الوقت وحدده الشافعية بساعة, ويرى الشيعة الزيدية التعليق على أن يكون ثلاثة أيام (3) , ولا يذكر المالكية والحنفية شيئًا عن تعليق اليد.
628- مسقطات القطع: إذا وجب القطع على السارق فلا مفر من تنفيذ العقوبة, إلا إذا سقطت بسبب ما, والأسباب المسقطة للقطع مختلف عليها بين الفقهاء, فما يراه البعض مسقطًا للعقوبة لا يراه البعض كذلك. وسنبين فيما يلى أسباب السقوط المختلف عليها والمتفق عليها:
1- تكذيب المسروق منه السارق فى إقراره بالسرقة أو تكذيبه الشهود فيما شهدوا به من سرقة: فهذا التكذيب يبطل الإقرار والشهادة, ويترتب على بطلانهما سقوط القطع, وهذا هو مذهب أبى حنيفة, ويستوى أن يكون التكذيب مبتدأ أو بعد المخاصمة والادعاء بالسرقة, ولكن مالكًا- وهو لا يعتبر المخاصمة- لا يرى فى تكذيب المجنى عليه لإقرار الجانى أو الشهود ما يسقط
_________
(1) المغنى ج10 ص268.
(2) أسنى المطالب ج4 ص153, المغنى ج10 ص266.
(3) شرح الأزهار ج4 ص372.(2/629)
القطع ما دام الثابت أن التكذيب قصد به مساعدة الجاني, ولا يتفق مع الحقيقة, والأمر كذلك عند الشافعى وأحمد إذا كان التكذيب بعد المخاصمة والادعاء بالسرقة, أما إذا كان التكذيب مبتدأ فلا يجب القطع؛ لأنه لا يجب إلا المخاصمة, والتكذيب المبتدأ يمنع من المخاصمة.
ومذهب الظاهريين يتفق مع مذهب مالك فى هذه النقطة. أما مذهب الشيعة الزيدية فهو كمذهب أبى حنيفة؛ لأنهم لا يسقطون القطع بعفو المجنى عليه, فسواء كان التكذيب صحيحاُ أو مقصودًا به مساعدة الجانى فهو مسقط للحد عندهم (1) .
2- العفو عن السارق: على أن يكون من جميع المجنى عليهم, فإن كان من بعضهم دون البعض فلا يسقط القطع. وهذا رأى الشيعة الزيدية ولا تأخذ به المذاهب الأخرى المقارنة (2) .
3 - رجوع السارق عن إقراره صراحة أو ضمنًا إذا لم يكن دليل إلا الإقرار: فإذا كان دليل آخر فهو على ما بينا عند الكلام على الإقرار. وهذا متفق عليه إلا من الظاهريين وبعض الشافعية, فإنهم لا يرون الرجوع عن الإقرار مسقطًا للقطع.
وإذا اشترك فى السرقة شخصان فأقرا بالسرقة وعدل أحدهما عن إقراره دون الآخر سقط القطع عمن عدل دون غيره؛ عند مالك والشافعى وأحمد, وعند أبى حنيفة يدرأ القطع عن الآخر؛ لأن السرقة واحدة وشركتهما ثابتة ورجوع أحدهما يورث شبهة فى حق الشريك الآخر, وإذا اعترف أحدهما بالسرقة وأنكر الآخر ولم يكن عليه دليل فالقطع على المقر وحده عند الجميع. إلا أن أبا يوسف من فقهاء المذهب الحنفى يرى ألا يقطع المقر, لأنه أقر بسرقة واحدة بينهما على الشركة, فإذا لم تثبت فى حق شريكه بإنكاره
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص88, شرح الأزهار ج4 ص374, شرح الزرقانى ج8 ص97, المدونة ج16 ص95.
(2) شرح الأزهار ج4 ص374.(2/630)
يؤثر ذلك فى حق صاحبه ضرورة اتحاد السرقة. وأصحاب الرأى المضاد يرون أن إقراره بالشركة فى السرقة إقرار بوجود السرقة من كل واحد منهما, إلا أنه لما أنكر صاحبه السرقة لم يثبت فعل السرقة بالنسبة له, وعدم الفعل منه لا يؤثر فى وجود الفعل من صاحبه, فيبقى إقراره على نفسه بالسرقة قائمًا فيؤخذ به (1) .
4- رد المسروق قبل المرافعة: يرون فى مذهب أبى حنيفة أن رد السارق للمسروق قبل المرافعة يسقط القطع أما بعد المرافعة فلا يسقطه؛ لأن الخصومة شرط لظهور السرقة الموجبة للقطع, فإذا رد السارق المسروق قبل المرافعة بطلت الخصومة, بخلاف ما بعد المرافعة؛ لأن الشرط وجود الخصومة لا بقاؤها.
وهناك رواية عن أبى يوسف بأن الرد قبل المرافعة لا يسقط القطع؛ لأن السرقة حين وجودها انعقدت موجبة للقطع, فرد المسروق بعد ذلك لا يخل بالسرقة الموجودة ولا يسقط القطع الواجب كما لو رده بعد المرافعة. وعند الشيعة الزيدية أن رد المسروق إلى الحرز بعد إخراجه يجب فيه القطع. وعند مالك والشافعى وأحمد أن الرد لا يمنع من القطع, لأن مالكًا لا يعتبر المخاصمة, ولأن المخاصمة كما يراها الشافعى وأحمد شرط للحكم لا شرط للقطع, فإذا خاصم المجنى عليه وجب القطع, ولو رد الجانى المسروق, ولو كان الرد قبل المرافعة (2) .
5- تملك السارق للمسروق قبل القضاء: يرى الحنفيون أن السارق إذا تملك المسروق قبل القضاء سقط القطع, فإذا تملكه بعد الحكم وقبل التنفيذ سقط القطع أيضًا عند أبى حنيفة ومحمد, ولا يسقط عند أبى يوسف, ويرى الشيعة الزيدية أن المسقط للقطع هو التملك قبل الشكوى, وعند الشافعى وأحمد الحكم
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص88, شرح الأزهار ج4 ص349, شرح الزرقانى ج8 ص107, كشاف القناع ج4 ص86, أسنى المطالب ج4 ص150, 151, المهذب ج2 ص364, المحلى ج8 ص250 وما بعدها.
(2) نفس المراجع السابقة.(2/631)
كذلك, لأن من شرط الحكم بالقطع المطالبة بالمسروق, فإذا تملكه السارق قبل الشكوى امتنعت المطالبة, أما إذا كان التملك بعد الشكوى فلا يسقط القطع؛ لأن المطالبة وجدت فعلاً, أما عند مالك فالعبرة بتملك المسروق وقت السرقة, فإذا كان لا يملكه وقت السرقة قطع به, لأن مالكًا لا يشترط المطالبة ويرى القطع, ولو رد الشيء المسروق قبل الشكوى, ولو كانت الشكوى من أجنبي (1) .
6- ادعاء ملكية المسروق: إذا ادعى الجانى ملكية الشيء المسروق, فيرى البعض أن الادعاء يسقط القطع, وقد تكلمنا عن ذلك فيما سبق فليراجع.
الشفاعة فى السرقة: لا يرى الفقهاء بأسًا بالشفاعة فى السارق ما لم يبلغ الحادث الإمام, فإنه روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم, فما بلغنى من حد فقد وجب".
ومما يروى عن الزبير بن العوام أنه قال فى الشفاعة فى الحد: "يفعل ذلك دون السلطان, فإذا بلغ الإمام فلا أعفاه الله إن أعفاه", وقال مالك: إن السارق إذا لم يكن يعرف بشرِّ فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام.
وأما من عرف بشر وفساد فلا ينبغى أن يشفع له أحد, ولكن يترك حتى يقام الحد عليه.
واجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه؛ لأن ذلك إسقاط لحق وجب لله تعالى. وقد غضب النبى - صلى الله عليه وسلم - حين شفع أسامة بن زيد فى المخزومية التى سرقت وقال: "تشفع فى حد من حدود الله؟ ", وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى حكمه (2) .
ما يترتب على سقوط الحد: إذا سقط الحد بعد ثبوت السرقة ترتب على
_________
(1) المغنى ج10 ص277, المدونة ج16 ص89, شرح الزرقانى ج8 ص89.
(2) المغنى ج10 ص295, شرح الزرقانى ج8 ص108, المهذب ج2 ص300, المحلى ج11 ص151.(2/632)
ذلك نتيجتان:
أولهما: دخول المسروق فى ضمان السارق عند من لا يجمعون بين القطع والضمان حتى ولو كان قد هلك فى يده أو استهلكه بنفسه, وسواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأن المانع من الضمان عندهم هو القطع وقد سقط, وإذا حلت عقوبة التعزير محل القطع فإنها لا تمنع الضمان.
ثانيهما: وجوب رد عين المسروق إن كان قائمًا, فإن لم يكن قائمًا كإهلاك أو استهلاك فعلى السارق قيمته.
وهاتان النتيجتان يترتب كلتاهما فى الحالات التى يجب فيها الضمان والرد, أما إذا لم يكن الضمان والرد واجبًا فلا وجود لهاتين النتيجتين. فمثلاً إذا كان السارق قد رد المسروق قبل التبليغ فلا ضمان ولا رد ما لم يكن رده ناقصًا. وإذا كان قد تملكه بعد السرقة فلا ضمان ولا رد (1) .
* * *
الشروع فى السرقة
629- للتفريق بين السرقة التامة والشروع فيها أهمية كبرى فى الشريعة الإسلامية؛ لأن القطع لا يكون إلا فى السرقة التامة, أما الشروع فلا قطع فيه بأى حال, وعقوبته دائمًا التعزير.
وتتم السرقة عند الظاهريين بمجرد استيلاء الجانى على الشيء استيلاء ماديًا؛ أى بمجرد وضع يده عليه وضعًا ماديًا ولو لم يخرجه من الحرز أو ينقله من مكانه, أما عند عامة الفقهاء فتتم السرقة بإخراج الشيء المسروق من حرزه بحيث يدخل فى حيازة الجانى ويخرج من حيازة المجنى عليه.
والحرز كما عرفناه نوعان: حرز بطبيعته وحرز بالحفظ. فيجب لتمام السرقة من حرز بطبيعته أن يخرج السارق بالمسروق من الحرز. فإن سرق من مسكن فلا تتم السرقة إلا بإخراج المسروق من المسكن. أما إخراج المسروق إلى ساحة الدار فلا يعتبر سرقة تامة إلا إذا كانت الغرفة المسروقة
_________
(1) راجع فى هذا الموضوع: بدائع الصنائع ج7 ص89, المغنى ج10 ص280.(2/633)
تكون وحدها حرزًا مستقلاً, وكانت الساحة مشتركة لها وللغرف الأخرى.
أما السرقة من حرز بالحافظ فتعتبر تامة بمجرد انفصال السارق عن البقعة التى فيها الشيء المسروق, لأنه بذلك ينفصل عن الحرز. فمن سرق من نائم فى السجد ثوبًا يتوسده يعتبر فعله سرقة تامة بمجرد إخراج الثوب من تحت النائم, ومن أخذ ثوبًا لجالس فى المسجد من جواره يعتبر فعله سرقة تامة بمجرد انفصاله عن مكان الثوب ولو لم يخرج من المسجد, ومن نشل من إنسان نقودًا يعتبر مرتكبًا لسرقة تامة بمجرد انفصال النقود عن ملابس المجنى عليه ولو ظل واقفًا بجوار المجنى عليه.
ورأى جمهرة فقهاء الشريعة فى السرقة التامة يتفق إلى حد كبير مع الرأى الذى عليه جمهرة شراح القوانين الوضعية, والذى تأخذ به أكثر القوانين هو أن السرقة لا تتم إلا بالاستيلاء على الشيء المسروق استيلاءً تامًا يخرجه من حيازة صاحبه ويجعله فى قبضة السارق, فإن وقعت السرقة فى منزل مثلاً يعتبر سرقة تامة بمجرد رفع الشيء من مكانه أو الخروج به من الغرفة التى أودع فيها بل يجب أن يخرجه السارق من المنزل جميعه. على أنه قد تتم السرقة فى بعض الحالات بغير أن يخرج السارق بالشيء المسروق من المنزل, كما لو سرق خادم أو ضيف مثلاً متاعًا لصاحب المنزل ووضعه فى غرفته أو حقيبته, فإنه يعد مرتكبًا للسرقة التامة رغم استمرار بقائه فى المنزل. وأساس الخلاف بين الشريعة والقوانين فى هذه الحالة هو أن الشريعة تشترط إخراج المسروق من الحرز فوق إخراجه من حيازة المجنى عليه, والقوانين لا تشترط هذا الشرط. على أن هذا الخلاف قاصر على السرقات التى يجب فيها القطع, أما السرقات التى يعاقب فيها بالتعزير فلا يشترط فيها الإخراج من الحرز, وإنما يشترط فيها أن يكون الأخذ يخرج الشيء من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة الجانى. وفى هذه السرقات تتفق الشريعة مع القوانين فى تحديد السرقة التامة.
ورأى الظاهريين يتفق مع رأى يعض شراح القوانين الوضعية وهم الذين(2/634)
يرون أن السرقة تتم برفع الشيء من مكانه, وبهذا الرأى يأخذ القانون الإيطالى. وقد أخذت المحاكم الفرنسية بما يراه أبو عبيدة الزبيرى , فحكمت باعتبار المتهم شارعًا فى السرقة بمجرد دق جرس الشقة للتأكد من خلوها من ساكنيها قبل أن يستعمل الآلات التى حملها معه, وحكمت بأن مجرد الترصد أمام المنزل يعتبر شروعًا فى السرقة (1) .
واتجاه الشريعة فى العقاب على الجرائم المشروع فيها يتفق مع ما يذهب إليه أصحاب المذهب الشخصى من شراح القوانين الوضعية. ولكن نظرية الشريعة تتسع لأكثر مما يتسع له المذهب الشخصي, لأن الشريعة تعاقب على كل ما يأتى الجانى إذا تكون مما أتاه معصية, سواء كان ما فعله الجانى مؤديًا حتمًا إلى الركن المادى للجريمة المقصودة أو غير مؤد إليه, كما بسطنا ذلك فى الجزء الأول من كتاب التشريع الجنائى الإسلامى.
630- الشروع فى السرقة: لم يهتم فقهاء الشريعة بوضع نظرية خاصة للشروع فى الجرائم عامة وفى السرقة بوجه خاص, ولم يعرفوا لفظ الشروع بمعناه الفنى كما نعرفه اليوم, ولكنهم اهتموا فقط بالتفرقة بين الجرائم التامة والجرائم غير التامة, وعلة ذلك أن قواعد العقاب على التعازير تمنع من وضع قواعد خاصة للعقاب على الشروع فى الجرائم؛ لأن قواعد التعازير كافية لحكم جرائم الشروع. فالقاعدة فى الشريعة أن التعزير يكون فى كل معصية ليس فيها حد مقدر ولا كفارة. أى أن كل فعل تعتبره الشريعة معصية هو جريمة يعاقب عليها بالتعزير ما لم يكن معاقبًا عليها بحد ولا كفارة. ولما كان الحد والكفارة لا يعاقب بهما إلا على جرائم معينة أتمها الجانى فعلاً, فإن كل شروع فى فعل محرم لا يعاقب عليه إلا بالتعزير, ويعتبر كل شروع معاقب عليه معصية فى حد ذاته؛ أى جريمة تامة, ولو أن جزء من الأعمال المكونة لجريمة لم تتم ما دام الجزء الذى تم محرمًا لذاته ولا
_________
(1) الأموال, للقللى ص64.(2/635)
استحالة فى أن يكون فعل ما جريمة معينة إذا كان وحده, وأن يكون مع غيره جريمة من نوع آخر.
فالسارق إذا ما نقب البيت ثم ضبط قبل أن يدخله يكون مرتكبًا لمعصية تستوجب العقاب, وهذه المعصية تعتبر فى حد ذاتها جريمة تامة ولو أنها بدء فى تنفيذ جريمة السرقة, وعندما يتسلق السارق المنزل يريد أن يسرق منه يرتكب معصية, وإذا أذن له بدخول البيت فجمع متاعه ليسرقه فضبط قبل الخروج به فهو مرتكب لمعصية, وهكذا كلما أتى السارق فعلاً تحرمه الشريعة فهو مرتكب معصية أى جريمة تامة تستوجب العقاب إذا نظرنا إليها على حدة, ولو أن هذه المعصية تعتبر جزءًا من جريمة أخرى إذا نظرنا إلى جريمة السرقة التى لم تتم, فإذا أتم الجانى سلسلة الأفعال المكونة لجريمة السرقة وخرج بالمسروقات من الحرز فإن كل الأفعال التى أتاها تكون مجتمعة جريمة معينة هى السرقة, وبتمام جريمة السرقة تجب عقوبة الحد, وهى العقوبة المقررة للسرقة التامة, ويمتنع التعزير على ما دون التمام لأن كل الأفعال اندمجت وتكونت منها جريمة السرقة (1) .
631- متى يعتبر الفعل شروعًا فى الجريمة: يعتبر الفعل جريمة كلما كان معصية؛ أى اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد, وليس من الضرورى أن يكون الفعل بدءًا فى تنفيذ ركن الجريمة المادى بل يكفى أن يكون الفعل معصية, وأن يكون مقصودًا به تنفيذ الركن المادي, ولو كان لا يزال بين الفعل وبين الركن المادى أكثر من خطوة, فمثلاً فى السرقة يعتبر النقب والتسلق وكسر الباب وفتحه بمفتاح مصطنع؛ كل ذلك يعتبر معصية تستحق التعزير, وبالتالى شروعًا فى السرقة, ولو أن بين كل منهما وبين الفعل المادى المكون لجريمة السرقة خطوات هى دخول محل السرقة والاستيلاء على المسروقات وإخراجها من الحرز.
وكذلك يعزر الجانى باعتباره مرتكبًا لمعصية أو شارعًا فى السرقة إذا تعرض للنقب أو فتح الباب أو حاول التسلق ولو لم يتم ما تعرض له أو حاول فعله.
_________
(1) التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص298.(2/636)
ويرى أبو عبد الله الزبيرى تعزير الجانى باعتباره مرتكبًا المعصية أو شارعًا فى السرقة إذا وجد بجوار المنزل المراد سرقته ومعه مِبْرَد ليستعمله فى فتح الباب أو مِثْقَب لينقب به الحائط, ولو أنه لم يبدأ فى فتح الباب أو نقب الحائط إذا ثبت أنه جاء بقصد السرقة, ويرى تعزير الجانى إذا وجد مترصدًا بجوار محل السرقة يترصد غفوة الحارس ليسرق المتاع الذى يحرسه.
فمقياس الفعل المعاقب عليه فى الشروع هو أن يكون ما أتاه المتهم مكونًا لمعصية كالنقب, ويستعان على معرفة ما إذا كان الفعل معصية أو غير معصية بنية الجانى وقصده من الفعل؛ لأن ثبوت هذه النية يزيل كل شك ويساعد على تحديد نوع المعصية.
وقد جعل أبو عبد الله الزبيرى فى الأمثلة التى ذكرناها سابقًا شأنًا كبيرًا للنية, فالترصد بجوار محل السرقة قد يكون للسرقة أو لعمل آخر مباح, ولكن نية الجانى وحدها هى التى أزالت الشك عن الفعل وعينت المعصية, ووجود الجانى بجوار محل السرقة ومعه مبرد أو مثقب يحتمل أن يكون الجانى قاصدًا سرقة هذا المحل أو غيره, ويحتمل أن يكون أراد السرقة أو أراد عملاً آخر غير محرم, ولكن نية الجانى هى التى أخرجت الفعل من حيز الاحتمال إلى حيز اليقين وعينت المعصية (1) .
* * *
_________
(1) التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص301, 302.(2/637)
الكتاب الخامس
الحرابة
632- الحرابة: هى قطع الطريق أو هى السرقة الكبرى, وإطلاق السرقة على قطع الطريق مجاز لا حقيقة؛ لأن السرقة هى أخذ المال خفية وفى قطع الطريق بأخذ المال مجاهرة, ولكن فى قطع الطريق ضرب من الخفية هو اختفاء القاطع عن الإمام ومَنْ أقامه لحفظ الأمن, ولذا لا تطلق السرقة على قطع الطريق إلا بقيود فيقال السرقة الكبرى, ولو قيل السرقة فقط لم يفهم منها قطع الطريق, ولزوم التقييد من علامات المجاز (1) .
633- مقارنة بين السرقة والحرابة: وجريمة الحرابة وإن سميت بالسرقة الكبرى إلا أنها لا تتفق تمام الاتفاق مع السرقة, فالسرقة أخذ المال خفية والحرابة هى الخروج لأخذ المال على سبيل المغالبة, فركن السرقة الأساسى هو أخذ المال فعلاً وركن الحرابة هو الخروج لأخذ المال سواء أخذ المال أم لم يؤخذ, والسارق يعتبر سارقًا إذا أخذ المال خفية, أما المحارب فيعتبر محاربًا فى حالات:
الأولى: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخاف السبيل ولم يأخذ مالاً ولم يقتل أحد.
الثانية: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخذ المال ولم يقتل أحدًا.
الثالثة: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فقتل ولم يأخذ مالاً.
الرابعة: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخذ المال وقتل.
ففى هذه الحالات الأربع يعتبر الشخص محاربًا ما دام قد خرج
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص268.(2/638)
بقصد أخذ المال على سبيل المغالبة, أما إذا خرج بقصد أخذ المال على سبيل المغالبة فلم يخف سبيلاً ولم يأخذ مالاً ولم يقتل أحدًا فهو ليس محاربًا, فالخروج بقصد أخذ المال إذا لم يؤد لحالة من الحالات ليس حرابة ولكنه ليس مباحًا بل هو معصية يعاقب عليها بالتعزير, والخروج بغير قصد المال لا يعتبر حرابة ولو أدى إلى جرح وقتل, والخروج لأخذ المال على غير سبيل المغالبة ليس حرابة وإنما هو اختلاس. والحرابة تعرف عند أبى حنيفة وأحمد والشيعة الزيدية بأنها الخروج لأخذ المال على سبيل المغالبة إذا أدى هذا الخروج إلى إخافة السبيل أو أخذ المال أو قتل إنسان, ويعرفها البعض بأنها إخافة السبيل لأخذ المال (1) .
والأصل فى الحرابة قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ... } الخ [المائدة:33] , وقد اختلف فى المحاربين المقصودين بهذه الآية, فقال البعض: إنها نزلت فى قوم مشركين كان بينهم وبين النبى ميثاق فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا فى الأرض, وقال البعض: إنها نزلت فى قوم من أهل الكتاب, وقال البعض: إنها نزلت فى قوم أسلموا ثم ارتدوا واستاقوا إبلاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتلوا راعيها. والرأى الذى عليه جمهور الفقهاء أن المحارب هو المسلم أو الذمى الذى يقطع الطريق أو يخرج أخذ المال على سبيل المغالبة (2) , على أن الظاهرية يرون أن الذمى الذى يقطع الطريق ليس محاربًا ولكنه ناقض للذمة (3) , ومن هذا الرأى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد (4) , أما بقية المذاهب المقارنة فيسوى بين المسلم والذمى وترى كليهما محاربًا إذا قطع الطريق. وفى مذهب مالك أن الحرابة هى إخافة السبيل سواء قصد المال أو لم يقصد, فمن
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص90, أسنى المطالب ج4 ص154, المغنى ج10 ص302, شرح الأزهار ج4 ص376, شرح الزرقانى ج8 ص108, المغنى ج11 ص306.
(2) بداية المجتهد ج2 ص379, نيل الأوطار ج7 ص260 وما بعدها, المحلى ج11 ص300 وما بعدها.
(3) المحلى ج11 ص315.
(4) المغنى ج10 ص319.(2/639)
خرج لقطع السبيل لغير مال فهو محارب كقوله: لا أدع هؤلاء يخرجون للشام أو غيرها, فمن قطع الطريق أخاف الناس فهو محارب, ومن حمل عليهم سلاحًا بغير عداوة ولا ثائرة فهو محارب. والمسلم به عند مالك أن كل ما يقصد به أخذ المال على وجه يتعذر معه الغوث فهو حرابة.
وتعرف الحرابة عند الشافعيين بأنها هى البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب مكابرة اعتمادًا على الشوكة مع البعد عن الغوث (1) . على أنهم يشترطون فى القتل الغير حرابة أن يكون بقصد أخذ المال (2) أو إخافة السبيل (3) .
ويرى الظاهريون أن المحارب هو المكابر المخيف لأهل الطريق المفسد فى الأرض, فيدخل فى المحاربين قاطع الطريق واللص, ولكنهم يرون أن اللص إذا دخل مستخفيًا ليسرق أو يزنى أو يقتل مثلاً ففعل شيئًا من ذلك مستخفيًا فإنما هو سارق أو زان أو قاتل, عليه ما على الزانى أو السارق أو القاتل, فإن اشتهر أمره بفعل ارتكاب جريمته فهو ليس محاربا ولكنه فاعل منكر وليس عليه إلا التعزير, فإن دافع وكابر بقصد ارتكاب جريمته فهر محارب بلا شك لأنه قد حارب وأخاف السبيل وأفسد فى الأرض (4) . ومن أشهر على آخر سلاحًا على سبيل إخافة الطريق ولو لم يقصد أخذ المال فهو محارب, وإن كان يقصد العدوان فقط فعليه القصاص إذا جرح شخصًا فإن لم يكن هنالك جرح فعليه التعزير (5) , ومن يمتنع عن أداء الزكاة عليه التعزير ولا يعتبر محاربًا فإن مانع دونها فهو محارب (6) , فالمحارب عندهم كل من حارب المار وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال أو لانتهاك فرج (7) , ويرى بعض الشافعية والمالكية التعرض للبُضع مجاهرة حرابة (8) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص154, نهاية المحتاج ج8 ص2.
(2) نهاية المحتاج ج8 ص5.
(3) أسنى المطالب ج4 ص155.
(4) المحلى ج11 ص306 - 308.
(5) المحلى ج11 ص315.
(6) المحلى ج11 ص313.
(7) المحلى ج11 ص308, والمراجع السابقة.
(8) نهاية المحتاج ج8 ص2, شرح الزرقانى ج8 ص109.(2/640)
ويعتبر مالك من الحرابة أخذ المال مخادعة مع استعمال القوة أو مع عدم استعمالها, فمن يسقى المجنى عليه أو يطعمه مادة مخدرة أو يحقنه بها حتى يغيب عن صوابه ثم يأخذ ماله أو يخدعه حتى يدخله محلاً بعيدًا عن الغوث ثم يسلبه ما معه يعتبر محاربًا. ومن يخدع شخصًا صغيرًا أو كبيرًا على أى الوجهين السابقين ثم يقتله بقصد أخذ ما معه فهو محارب سواء أخذ ما معه أو لم يجد معه ما يؤخذ. ويسمى مالك هذا النوع من القتل قتل الغيلة وهو عنده نوع من الحرابة (1) .
634- ممن تحدث الحرابة؟: تحدث الحرابة من جماعة أو فرد فقط قادر على الفعل. ويشترط أبو حنيفة وأحمد أن يكون مع المحارب سلاح أو ما هو فى حكم السلاح كالعصا والحجر والخشبة, ولكن مالكًا والشافعى والظاهرية والشيعة الزيدية لا يشترطون السلاح ويكفى عندهم أن يعتمد المحارب على قوته, بل يكتفى مالك بالمخادعة دون استعمال القوة فى بعض الأحوال وأن يستعمل أعضاءه كاللكز والضرب بجمع الكف (2) .
ويعتبر محاربًا كل من باشر الفعل فيه أو تسبب فيه, فمن باشر أخذ المال أو القتل أو الإخافة فهو محارب, ومن أعان على ذلك بتحريض أو اتفاق أو إعانة فهو محارب, ويعتبر فى حكم المباشر من يحضر المباشرة ولو لم يباشر بنفسه كمن يوكل إليه الحفظ أو الحراسة. ويعتبر معينًا الطليعة والردء الذى يلجأ إليه المحاربون إذا انهزموا أو الذين يمدونهم بالعون إذا احتاجوا إليه, فكل هؤلاء يعتبرون محاربين عند مالك وأبى حنيفة وأحمد والظاهريين, ولكن الشافعى لا يعتبر محاربًا إلا من باشر فعل الحرابة بنفسه, وأما المتسبب فى الفعل والمعين عليه وإن حضر مباشرته ولم يباشره فلا يعتبر محاربًا وإنما هو عاص أتى معصية
_________
(1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص109, المدونة ج16 ص104.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص90, كشاف القناع ج4 ص89, المغنى ج10 ص 304, أسنى المطالب ج4 ص154, شرح الأزهار ج4 ص376, المحلى ج11 ص308, المدونة ج16 ص103, شرح الزرقانى ج2 ص109.(2/641)
يُعزَّر عليها ويترتب على هذا الفرق أنه لو خرج جماعة فقطعوا الطريق وأخذ بعضهم مالاً وقتل بعضهم أشخاصًا ولم يفعل الباقون شيئًا فكلهم مسئول عن أخذ المال والقتل عند أبى حنيفة وأحمد والظاهريين, أما عند الشافعى فلا يسأل عن القتل إلا القاتل ولا يسأل عن أخذ المال إلا من أخذ المال لأن كل واحد منهم انفرد بسبب حد فاختص بحده, أما الباقون فعليهم التعزير (1) . ويشترط فى المحارب أن يكون مكلفًا ملزمًا وهذا متفق عليه [ولا يخالف فيه إلا الظاهريون فلا يشترطون إلا أن يكون مكلفًا فقط لأنهم يرون أن الذمى إذا قطع الطريق ينقض عهده] .
فإذا كان فى القطاع صبى أو مجنون فيرى أبو حنيفة ومحمد أن لا حد عليهما لأنهما ليس من أهل الحد ولا حد على غيرهما ممن باشر الجريمة أو تسبب فيها أو أعان عليها, ويرى أبو يوسف هذا الرأى إذا كان الصبى أو المجنون هو الذى باشر الجريمة وحده فإن كان غيرهما هو المباشر فالحد على العقلاء البالغين دون غيرهم, ويرى مالك والشافعى وأحمد والظاهريون أن الحد يسقط عن الصبى والمجنون فى كل حال دون غيرهما سواء ولى أحدهما قطع الطريق أو وليه غيره (2) .
ويستوى أن يكون المحارب رجلا أو امرأة عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والشيعه, وظاهر الرواية عند أبى حنيفة أن لا تحد المرأة إذا اشتركت فى الحرابة ولا يحد من معها إذا وليت هى مباشرة الفعل, ولكن أبا يوسف يرى حد الرجال ولو باشرت المرأة القطع دونهم, والرواية الأخرى فى مذهب أبى حنيفة أن النساء والرجال فى قطع الطريق سواء؛ لأن هذا حد يستوى فى وجوبه
_________
(1) المهذب ج2 ص302, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, المدونة ج16 ص100, كشاف القناع ج4 ص9, المحلى ج11 ص308, بدائع الصنائع ج4 ص91.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص91, كشاف القناع ج4 ص89, المدونة ج16 ص103, أسنى المطالب ج4 ص152.(2/642)
الذكر والأنثى كسائر الحدود, ولأن النص لم يفرق بين ذكر وأنثى (1) .
وإذا أخذ المحارب مالاً فيشترط فى المال المأخوذ محاربة ما يشترط فى المال المأخوذ بالسرقة, فيجب أن يكون المال مالاً محرزًا, وأن يكون مالاً متقومًا, وأن يكون مملوكًا للغير, وأن لا يكون لآخذه شبهة فيه, إلى غير ذلك من الشروط التى سبق بيانها عند الكلام عن السرقة. وبالإجمال فإنه يشترط فى أخذ المال حرابة ما يشترط فى أخذه بالسرقة إلا أن الأخذ حرابة يقتضى الأخذ مجاهرة ومغالبة لا خفية, ويجب أن يكون المال المسروق بحيث يصيب كل من المحاربين نصابًا فإذا لم يصب كل منهم نصيبًا فلا حد عليهم باعتبارهم آخذين للمال, وهذا هو مذهب أبى حنيفة والشافعي, على أننا يجب أن نلاحظ أن أبا حنيفة يعتبر المباشر والمتسبب والمعين محاربًا, أما الشافعى فلا يعتبر محاربًا إلا المباشر, كذلك يجب أن لا ننسى الفرق بينهما فى تقدير النصاب, وقد سبق بيانه فى السرقة.
أما الشيعة الزيدية وأحمد فيرون الحد على المحارب ما دامت قيمة المسروق كله تبلغ نصابًا واحدًا, ولو تعدد السراق ولو لم يصب أحدهم من المال المسروق نصابًا كاملاً (2) .
أما مالك فلا يشترط النصاب فى الحرابة, ويكفى عنده لوجوب الحد أن يأخذ المحارب مالاً محترمًا سواء بلغ نصاب السرقة أو لم يبلغه, وسواء كان الآخذ واحدًا أو جماعة (3) , ويرى بعض فقهاء المذهب الشافعى هذا الرأى.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص91, شرح الزرقانى ج8 ص109, المدونة ج16 ص102, أسنى المطالب ج4 ص154, كشاف القناع ج4 ص89, شرح الأزهار ج4 ص376, المحلى ج11 ص308.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص92, أسنى المطالب ج4 ص154, نهاية المحتاج ج8 ص3, المهذب ج2 ص302, كشاف القناع ج4 ص91, المغنى ج10 ص313, شرح الأزهار ج4 ص366, 367.
(3) المدونة ج6 ص100, شرح الزرقانى ج8 ص108, نهاية المحتاج ج8 ص5.(2/643)
وإذا كان المحارب مستأمنًا فحكمه حكم السارق, وقد بينا ذلك عند الكلام على السرقة (1) .
635- مكان القطع: يشترط أبو حنيفة لعقوبة الحد أن تكون الحرابة فى دار الإسلام, فإن كانت فى دار الحرب فلا يجب الحد؛ لأن المتولى إقامة الحد وهو الإمام ليس له ولاية على دار الحرب وهى محل وقوع الجريمة (2) , ومن هذا الرأى الشيعة الزيدية (3) , لكن مالكًا والشافعى وأحمد والظاهريين يوجبون الحد سواء وقعت الحرابة فى دار الإسلام أو دار الحرب ما دام الفعل قد وقع جريمة؛ أى وقع على مسلم أو ذمى من مسلمين أو ذميين, وقد تكلمنا عن هذا بمناسبة الكلام على السرقة, ويشترط الظاهريون أن يكون القطع من المسلمين فقط.
ويرى أبو حنيفة أن يكون القطع فى غير مصر أى بعيداُ عن العمران, فإن كان فى مصر فلا حد عنده سواء كان القطع نهارًا أو ليلاً, وسواء كان بسلاح أو غيره, وهو رأى أساسه الاستحسان, ويعلل بأن القطع لا يحصل عادة فى الأمصار وإنما يحصل فى الطريق بين القرى, ولذلك يشترط أن يكون القطع على مسافة سفر من المصر, وإذا كان هذا هو الاستحسان فإن القياس أن الحد يجب سواء كان القطع فى مصر أو غير مصر, وهو رأى أبى يوسف, ويميل إليه فقهاء المذاهب وعليه فتوى, ويروى عن أبى يوسف أنه يفرق بين النهار والليل فيرى الحد فى قطع الطريق فى المصر ليلاً سواء كان القاطعون مسلحين أم يحملون عصيًا, ولا يعتبر الفاعلون قاطعى طريق فى النهار إلا إذا كانوا مسلحين فإن لم يكونوا مسلحين فليسوا بقطاع إذا ارتكبوا جرائمهم فى المصر, وحجته أن الغوث قلما يتحقق فى الليل فيستوى فيه السلاح وغيره (4) . وأبدى أحمد رأيه فى الحرابة
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص314, أسنى المطالب ج4 ص150.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص92.
(3) شرح الأزهار ج4 ص376.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص92, شرح فتح القدير ج4 ص374,375.(2/644)
فى الصحراء ولكنه توقف إذا كانت فى القرى والأمصار, ولكن أصحابه لا يفرقون بين الحرابة فى الصحراء والمصر ويرون المحارب محاربًا حيثما كان لتناول الآية بعمومها كل محارب, ولأن الحرابة فى المصر أعظم خطرًا وأكثر ضررًا. ويفرق بعض فقهاء المذهب بين ما إذا كان المجنى عليهم يلحقهم الغوث لو صاحوا وبين عدم لحوق الغوث ويعتبرون القطع فى الحالة الثانية (1) .
ولا يفرق مالك والشافعى بين الصحراء والمصر فيصح أن يقع الفعل فى الصحراء أو فى المصر, ولكن مالكًا يشترط أن يقع الفعل على وجه يتعذر معه الغوث, فلو منع المجنى عليه من الاستغاثة وكان الغوث ممكنًا لو استغاث فالفعل حرابة, وإذا وضع حول الدار من يمنع وصول الغوث كان الفعل حرابة, وكذلك إذا هدد من يحضر للغوث فامتنع عن الإغاثة خوفاً (2) .
أما الشافعى فيشترط لاعتبار الفعل حرابة أن لا يلحق الغوث.
وفقد الغوث قد يكون للبعد عن العمران أو السلطان أو لضعف الموجودين فى محل الحادث أو على مقربة منه أو لضعف السلطان أو لمنع المجنى عليهم من الاستغاثة, فمذهب الشافعى فى هذه الحالة كمذهب مالك (3) , والشيعة الزيدية لا يرون الحرابة إلا فى غير المصر ولكن بعضهم يرى أنها تكون فى المصر وغير المصر (4) .
أما الظاهريون فيرون أن الحرابة تكون فى المصر والفلاة, سواء وقعت ليلاً أو نهارًا, وسواء كان المحارب مسلحًا أو غير مسلح, وسواء كانت فى قرية صغيرة أو مدينة عظيمة, وسواء كان الغوث ممكنًا أو متعذراً (5) .
636- المقطوع عليه: يشترط فى المقطوع عليه أن يكون معصومًا,
_________
(1) المغنى ج10 ص303, 304, كشاف القناع ج4 ص89.
(2) مواهب الجليل ج6 ص314, شرح الزرقانى ج8 ص108, 109.
(3) نهاية المحتاج ج8 ص3, أسنى المطالب ج4 ص154.
(4) شرح الأزهار ج4 ص376.
(5) المحلى ج11 ص308.(2/645)
ويكون كذلك إذا كان مسلمًا أو ذميًا, أما إذا كان حربيًا أو بغيًا فلا عصمة له, وإذا كان حربيًا مستأمنًا فهو معصوم, ولكن هناك خلافًا على توقيع عقوبة الحد فى ارتكاب الجريمة عليه, وقد أن ذكرنا الآراء المختلفة فى شأنه فى السرقة (1) .
وللمقطوع عليه أن يقتل القاطع ويدفعه عن نفسه وماله, ويستحب للمجنى عليه أن يناشد المحارب أن يرجع عن جريمته, فإن لم يكن فى الأمر مهلة ففرض على المجنى عليه أن يبادر إلى كل ما يمكنه به الدفاع عن نفسه, ما يغلب على ظنه أنه يندفع به, فإن اندفع بالقول والتهديد لم يكن له أن يضربه, وإن كان يندفع بالضرب لم يكن له أن يقتله, فإن كان لا يندفع إلا بالقتل أو خاف أن يبدأه بالقتل أو لم يعاجله بالدفع فله أن يضربه بما يقتله, والأصل فيما سبق أن المحارب حين يقصد قتل إنسان أو سلب ماله لا يُهدر دمه بهذا القصد فى ذاته وإنما الذى يهدر دم المحارب هو عدم إمكان دفعه إلا بالقتل لأن القتل يصبح من ضروريات الدفع, على أن المحارب يهدر دمه إذا ارتكب من الحرابة ما يوجب حد القتل, فإذا عدا عليه شخص فقتله فلا قصاص عليه وإنما يعزر لافتياته على السلطات العامة (2) .
637- الأدلة على جريمة الحرابة: تثبت جريمة الحرابة بالبينة والإقرار, ويكفى فى حالة البينة شهادة شاهدين, وما قيل عن البينة والإقرار فى السرقة يقال هنا. ويجوز أن يكون الشاهدان من الرفقة الذين قاتلوا المحاربين أو وقعت عليهم الحرابة على أن لا يشهدا لأنفسهما بشيء ويجوز أن يشهد لهما غيرهما, وإذا لم يتوفر نصاب الشهادة فكان شاهد واحد, أو شاهد وامرأة, أو شاهد رؤية وشاهد سماع, وكان الشهود سماعيين أو لم يكن ثمة شهود, وكان المتهم مقرًا ثم عدل عن إقراره - فى هذه الحالات وأمثالها يعاقب المحارب عقوبة تعزيرية لأن التعزير يثبت بما يثبت
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص91.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص92, 93, شرح الزرقانى ج8 ص109, 110, المدونة ج16 ص104, وقد سبق الكلام على قطع السارق والحكم واحد فى الحالتين, ويراجع كتاب التشريع الجنائي, والمحلى لابن حزم ج11 ص314, المغنى ج11 ص352, أسنى المطالب ج4 ص166 وما بعدها.(2/646)
به الأموال, والعبرة عند توقيع العقاب بثبوت الاتهام لدى القاضي, فإذا اقتنع بصحة الأدلة المعروضة عليه قضى على أساسها وإلا فلا (1) .
638- عقوبة الحرابة: تختلف عقوبة المحارب عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية باختلاف الأفعال التى يأتيها فتعتبر حرابة, وهى لا تخرج عما يأتى:
(1) إخافة السبيل دون أن يأخذ مالاً أو يقتل نفسًا.
(2) أخذ المال لا غير.
(3) القتل لا غير.
(4) أخذ المال والقتل معًا.
فلكل فعل من هذه الأفعال عقوبة خاصة عند هؤلاء الفقهاء. أما مالك فيرى أن الإمام بالخيار فى اختيار عقوبة المحارب من بين العقوبات التى وردت فى النص ما لم يمن قتل فعقابه القتل أو القتل والصلب والخيار للإمام بين هاتين العقوبتين دون غيرهما, بينما يرى الظاهريون أن الإمام بالخيار فى كل الأحوال أيًا كانت الجريمة وسواء قتل المحارب أم لم يقتل.
والأصل فى هذا الخلاف بين الفقهاء اختلافهم على تفسير حرف "أو" الوارد فى قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] , فمن رأى أن جرف "أو" جاء للبيان والتفصيل قال: إن العقوبات جاءت مترتبة على قدر الجريمة وجعل لكل جريمة بعينها عقوبة بعينها, ومن رأى أن حرف "أو" جاء للتخيير ترك للإمام أن يوقع أى عقوبة على أية جريمة بحسب ما يراه ملائمًا, إلا أن مالكًا قيد التخيير فى حالة القتل فجعل الخيار بين القتل والصلب فقط, وحجته أن القتل أصلاً عقوبته القتل فلا يعاقب عليه بالقطع ولا بالنفي, كذلك قيد التخيير فى حالة أخذ المال دون قتل وجعل للإمام الخيار إلا فى عقوبة النفى. أما الظاهريون فيرون الخيار المطلق.
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص112, أسنى المطالب ج4 ص158, المغنى ج10 ص324, شرح الأزهار ج4 ص379, بدائع الصنائع ج7 ص93.(2/647)
وبعد هذا البيان نستطيع أن نبين عقوبة كل فعل بحسب الآراء المختلفة:
639- إخافة السبيل لا غير: إذا أخاف المحارب السبيل لا غير ولم يقتل ولم يأخذ مالاً فجزاؤه عند أبى حنيفة وأحمد النفي؛ لقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} , وجزاؤه عند الشافعى والشيعة الزيدية التعزير أو النفي, وقد سووا بين التعزير والنفى لاعتبارهم النفى تعزيرًا حيث لم يحدد نوعه ومدته, على أنهم يرون أن يمتد النفى حتى تظهر توبة المحارب (1) .
ويرى مالك أن الإمام مخير بين أن يقتل المحارب أو يصلبه أو يقطعه أو ينفيه وأن الأمر فى الاختيار مرجعه الاجتهاد وتحرِّى المصلحة العامة, فإن كان المحارب ممن له الرأى والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه لأن القطع لا يرفع ضرره, وإن كان لا رأى له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف, وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ باليسر وما يجب فيه هو النفى والتعزير (2) . ويرى الظاهريون ما يراه مالك فى هذه المسألة (3) .
معنى النفى: اختلف الفقهاء فى معنى النفى اختلافًا كبيرًا, فقال البعض: إن المراد بقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} أن ينفوا من الأرض بالقتل أو الصلب. وقال البعض: إن النفى هو الطرد من دار الإسلام, فالنفى بهذا المعنى هو التغريب ويساوى إلى حد ما إسقاط الجنسية فى عصرنا الحاضر وإن كان من الممكن إعادة المنفى إذا ظهرت توبته. والنفى فى مذهب مالك هو السجن فى رأى البعض, وهو السجن فى بلد أخرى غير محل الحادث فى رأى ثانٍ, وهو فرارهم من الإمام لإقامة الحد عليهم, فإن قدر عليهم فلا نفى بعد ذلك, وبالرأى الأول يأخذ الحنفيون
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص154, 155, المغنى ج10 ص313, بدائع الصنائع ج7 ص93, شرح الأزهار ج4 ص376.
(2) نهاية المجتهد ج2 ص 380, 381, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, المدونة ج16 ص98, 99.
(3) المحلى ج11 ص387, 319.(2/648)
فعندهم هو السجن. وفى مذهب الشافعى الرأى الراجح أن النفى هو الحبس وأن الحبس جائز فى محله وأولى أن يكون فى محل آخر, أما الرأى المرجوح فالنفى أن يطلبوا إذا هربوا حتى يؤخذوا. ويرى أحمد أن النفى هو تشريد المحارب فى الأمصار فلا يسمح له أن يأوى إلى بلد حتى تظهر توبته, والرواية الثانية كالرأى الثانى فى مذهب الشافعى. والرأى الراجح فى مذهب الشيعة أن النفى يكون بالحبس, وقيل: بسمل الأعين وبالطرد والتشريد.
مدة النفى: ومدة النفى عند أبى حنيفة والشافعى ومالك غير محدودة, فيظل المحارب مسجونًا حتى تظهر توبته وينصلح حاله فيطلق سراحه, وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب أحمد.
وإن كان البعض يرى أن تكون مدة النفى عامًا قياسًا على التغريب فى الزنا (1) .
أما الظاهريون فيرون أن النفى هو أن ينفى أبدًا من كل مكان من الأرض وأن لا يترك يقرّ إلا مدة أكله ونومه وما لا بد منه من الراحة التى إن لم ينلها مات, ومدة مرضه, ويظل هكذا حتى يحدث توبة فإذا أحدثها سقط عنه النفى وترك يعود إلى مكانه (2) .
وأساس هذه الآراء المختلفة هو الاختلاف فى تفسير معنى النفي, فمن قال بأن النفى هو السجن مطلقًا فسروا النفى بأنه الإبعاد من الأرض, ورأوا أنه لا يقدر على إخراجه من الأرض جملة فوجب أن يفعل من ذلك أقصى ما يقدر عليه وغاية ذلك هو السجن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم", وسقط ما يستطاع. زمن قال إن السجن يكون فى بلد غير بلده نظر إلى المعنى
_________
(1) المدونة ج16 ص98, 99, شرح الزرقانى ج8 ص110, بداية المجتهد ج2 ص381, أسنى المطالب ج4 ص154, المهذب ج2 ص302, المغنى ج10 ص313, 314, بدائع الصنائع ج7 ص95, شرح فتح القدير ج4 ص269, 270, كشاف القناع ج4 ص91, شرح الأزهار ج4 ص376.
(2) المحلى ج11 ص183.(2/649)
السابق ونظر إلى أن يحقق معنى الإبعاد المستطاع عن محل الجريمة أيضًا. أما الذين لم يروا سجنه فقد قالوا: إذا سجناه فى بلد أو أقررناه فيه غير مسجون فلم ننفه من الأرض كما أمر الله تعالى بل عملنا به ضد النفى والإبعاد وهو الإقرار والإثبات فى الأرض فى مكان واحد منها وهذا خلاف القرآن, فوجب علينا بنص القرآن أن ننفيه ونبعده عن جميع الأرض بحسب طاقتنا, وغاية ذلك ألا نقره فى شيء منها ما دمنا قادرين على نفيه من ذلك الموضع ثم هكذا أبدًا, ولو قدرنا على أن لا ندعه يقر ساعة فى شيء من الأرض لفعلنا ذلك ولكان واجبًا علينا فعله ما دام مصرًا على المحاربة (1) .
وحجة الفقهاء فى أن النفى غير محدود المدة أن النص لم يحدده وأن النفى جاء عقوبة للمحارب وأن المحارب ما دام مصرًا على المحاربة فهو محارب, وإذ هو محارب يجب أن يجزى جزاء المحارب, فالنفى باقٍٍ عليه ما لم يترك المحاربة بالتوبة, فإذا تركها سقط عنه جزاؤها (2) .
640- أخذ المال لا غير: إذا أخذ المحارب المال ولم يقتل, فيرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد ومعهم الزيدية أن يقطع المحارب من خلاف؛ أى أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى, وهم يقطعون اليد اليمنى للمعنى الذى قطعت به يد السارق اليمنى ويقطعون الرجل اليسرى لتتحقق المخالفة, ولا ينتظر اندمال اليد فى قطع الرجل بل يقطعان معًا لأن العقوبة عقوبة واحدة وتبدأ بالأيدى لأن النص بدأ بالأيدى فقدمها على الأرجل, ولا خلاف فى قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إذا كانت يداه ورجلاه صحيحة, فإن كان معدوم اليد والرجل إما لكونه قد قطع فى حرابة أو سرقة أو قصاص أو مرض, فمذهب أبى حنيفة وهو رأى فى مذهب أحمد أن القطع يسقط عن المحارب سواء كانت اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس؛ لأن قطع ما زاد على ذلك يذهب منفعة الجنس.
وعلى هذا الشيعة الزيدية وكل من لا يرى أن يقطع إلا يد واحدة ورجل
_________
(1) المحلى ج11 ص 181, 182.
(2) المحلى ج11 ص182, 183.(2/650)
واحدة فى السرقة. أما الشافعى ورأيه وجه فى مذهب أحمد فيرى أن يقطع الباقى من الأعضاء المستحقة القطع, فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها, ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك لأنه وجد فى محل الحد ما يستوفى فاكتفى باستيفائه. وإن كان ثمة شلل فى اليدين أو الرجل فالحكم فى الشلل مما سبق ذكره عند الكلام على القطع فى السرقة.
أما مالك فيرى أن المحارب إذا أخذ المال دون قتل يعاقب على حسب اجتهاد الإمام فيما هو من المصلحة العامة, والإمام مخير فى عقابه بأية عقوبة مما جاءت بها آية المحاربة عدا عقوبة النفي, فليس له أن يعاقبه بها لأن الحرابة سرقة مشددة وعقوبة السرقة أصلاً القطع فلا يصح أن يجعل الخيار للإمام فيما ينزل بالعقوبة عن القطع وهو النفى.
أما الظاهريون فيرون أن الإمام له حق الخيار المطلق من كل قيد فى جريمة الحرابة, فيختار أية عقوبة من عقوباتها لأى فعل أتاه المحارب بحسب ما يرى أنه يتفق مع المصلحة العامة.
ويلاحظ أنه عند اختيار القطع بحسب رأى مالك نفذ القطع على الوجه الذى يراه الشافعى والذى سبق بيانه (1) .
وينبغى أن لا ننسى ما ذكرناه عن النصاب واشتراطه أو عدم اشتراطه فى حالة أخذ المال, كما ينبغى أن نعلم أن من يشترطون المخاصمة للقطع فى السرقة يشترطون لتوقيع عقوبة القطع فى الحرابة المخاصمة أيضًا ممن له حق المخاصمة, فليراجع ما ذكرناه عن المخاصمة فى السرقة (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص93, شرح الازهار ج4 ص377, المغنى ج10 ص311, 312, بداية المجتهد ج2 ص381, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, أسنى المطالب ج4 ص155, المحلى لابن حزم ج11 ص327.
(2) أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص93.(2/651)
641- القتل لا غير: إذا قتل المحارب ولم يأخذ مالاً فيرى أبو حنيفة والشافعى أن عقوبة المحارب هى القتل حدًا دون صلب, وهذا الرأى رواية عن أحمد, وعنه رواية أخرى هى أنهم يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كمن أخذوا المال, وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان, أحدهما يرى القتل دون صلب, والثانى يرى القتل مع الصلب.
ويرى مالك أن الإمام بالخيار إن شاء قتل وصلب وإن شاء قتل دون صلب (1) , ولا خيار له فى غير هاتين العقوبتين دون غيرهما (2) .
ويرى الظاهريون أن الإمام بالخيار فى كل العقوبات التى جاءت بها آية المحاربة, فيعاقب على القتل بالنفى أو القطع أو القتل أو الصلب, ولا يباح له أن يجمع على المحارب عقوبتين من هذه العقوبات بأى حال (3) .
642- القتل أخذ المال: إذا قتل المحارب وأخذ المال كان عقابه القتل والصلب معًا عند الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية ولا قطع عليه, وهذا هو ما يراه أبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفي, ويرى أبو حنيفة أن الإمام مخير فى حالة القتل المقترن بأخذ المال بين أن يقطع يده ورجله أو يصلبه وبين أن لا يقطعه ثم يقتله بلا صلب أو يصلبه فيقتله. وينبغى أن لا ننسى ما سبق ذكره عن اشتراط النصاب أو عدم اشتراطه فى المحاربة, فمن يشترط النصاب لكل محارب لا يعتبر القتل مصحوبًا بأخذ المال ما لم يخص كل محارب نصابًا كما هو الحال عند الشافعي, ومن يكتفى بنصاب واحد لكل المحاربين لا يعتبر القتل مصحوبًا بأخذ المال إلا إذا بلغ المال المأخوذ نصابًا كما هو الحال فى مذهب أحمد, ومن لا يشترط النصاب فى المحاربة فيكتفى بأخذ مال مقوَّم أيًا كان مقداره كما هو الحال فى مذهب مالك ومذهب أحمد والرأى المعتمد فى مذهب الشافعي
_________
(1) المدونة ج16 ص99.
(2) بداية المجتهد ص381, 382, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111.
(3) المحلى ج11 ص317, 319.(2/652)
, ويرى البعض أن محمدًا لا يرى القطع ولكنه يرى الإمام مخيرًا بين الصلب والقتل (1) .
ويرى مالك أن الإمام مخير بين أن يقتله وبين أن يصلبه ويقتله, أما الظاهريون فيرون أن الإمام مخير فى كل العقوبات المقررة فى آية الحرابة فله أن ينفيه وله أن يقطعه وله أن يقتله وله أن يصلبه بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة, ولكن ليس له أن يجمع عليه القتل والصلب ولا أن يجمع عليه بين عقوبتين بحال كالنفى والقطع أو القطع والقتل أو القطع والصلب (2) .
643- كيفية الصلب: اختلف الفقهاء فى كيفية الصلب الواجب على المحارب, فرأى الشافعى وأحمد أن الصلب يجيء بعد القتل فيقتل المحارب أولاً ثم يصلب مقتولاً, وحجتهم أن النص جاء بتقديم القتل على الصلب فى اللفظ فوجب أن يتقدمه فى الفعل, ولأن الصلب قبل القتل تعذيب للمقتول ومُثْلة يؤدى إلى اتخاذ المقتول غرضًا وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "أن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة", وقال: "إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان", وقال: "لعن الله من اتخذ شيئًا فيه روح غرضًا". كذلك نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور.
وأصحاب هذا الرأى يرون أن الصلب ليس عقوبة شرعت لردع المحارب وإنما وهو عقوبة شرعت للزجر, فالمقصود من الصلب اشتهار أمره فيرتدع بذلك غيره (3) .
والمعتمد فى مذهب مالك أن القتل يكون بعد الصلب فيصلب المحارب على خشبة ثم يقتل وهو مصلوب, وحجتهم أن الصلب فرض عقوبة والعقوبة لا تقع
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص270.
(2) المحلى ج11 ص317, 319, الودونة ج16 ص99 , بداية المجتهد ج2 ص380, 381, شرح الأزهار ج4 ص377, أسنى المطالب ج4 ص155, المغنى ج10 ص307, بدائع الصنائع ج7 ص93.
(3) المغنى ج10 ص307, 308, أسنى المطالب ج4 ص155, المحلى ج11 ص315,316.(2/653)
على ميت فوجب أن يتقدم الصلب القتل وأن الصلب لم يقصد به ردع الغير وإنما قصد به العقاب قبل كل شيء, وكل عقوبة لا غرضان: الأول: ردع الجاني, والثانى: زجر غيره, ولأن الصلب شرع زيادة فى العقوبة وتغليظًا حتى لا تتساوى عقوبة من قتل مع عقوبة من قتل وأخذ المال (1) , على أن فى المذهب من يرى القتل قبل الصلب (2) .
وفى مذهب أبى حنيفة رأيان كمذهب مالك أرجحهما صلب المحارب حيًا ثم طعنه برمح فى ثُنْدُوَته حتى يموت (3) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية هذان الرأيان وأرجحهما الصلب بعد القتل لا قبله (4) .
أما الظاهريون فالأصل عندهم أن الإمام مخير فى كل عقوبات المحاربة ولكن ليس له أن يجمع بينها, فإذا رأى صلبه فليس له أن يقتله أو يقطعه أو ينفيه, وإذا رأى قتله فقد حرم عليه أن يصلبه أو يقطعه أو ينفيه, وإذا رأى نفيه فقد حرم عليه الصلب والقتل والقطع, وإذا رأى قطعه حرم عليه القتل والصلب والنفي, فالصلب عندهم عقوبة مستقلة مقصود بها قتل المحارب بكيفية معينة؛ فيصلب المحارب حيًا ثم يترك على خشبة فلا يطعم ولا يسقى حتى ييبس ويجف فإذا مات أنزل عن خشبته وغسل وكفن (5) .
644- مدة الصلب: لم يرد نص فى تحديد مدة الصلب ولذلك اختلف فى مدته, فرأى الفقهاء فى مذهب أحمد أنه يصلب بقدر ما يشتهر أمره لأن المقصود من الصلب هو إشهار أمر المصلوب, ورأى الفقهاء فى مذهب الشافعى وأبى حنيفة أنه يصلب ثلاثة أيام (6) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص315, المدونة ج16 ص99, شرح الزرقانى ج8 ص110.
(2) بداية المجتهد ج2 ص381.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص95.
(4) شرح الأزهار ج7 ص377, 378, تبصرة الحكام ج2 ص361.
(5) المحلى ج11 ص317, 318.
(6) المغنى ج10 ص308, بداية المجتهد ج2 ص381, أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص95.(2/654)
645- حكم موت المحارب قبل إقامة الحد عليه: وإذا مات المحارب قبل البدء فى إقامة الحد عليه لم يصلب لأن الصلب جزء من الحد وقد سقط الحد بموت المحارب فيسقط الصلب. على أن بعض الشافعيين والشيعة الزيدية يرون أنه إذا سقط بعض الحد لعدم إمكان تنفيذه لم يسقط البعض الذى يمكن تنفيذه. أما إذا قتل قصاصًا فلا صلب عليه عند أحمد لأن حد الحرابة سقط بالقصاص فيسقط الصلب. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما كرأى أحمد, والثانى: يرى أن الصلب لا يسقط لأن تنفيذه ممكن, وهو رأى فى مذهب الشيعة الزيدية وهو الرأى المعمول به فى مذهب مالك خصوصًا وأنه يرى تقديم حق الله على حق الآدمى. أما مذهب أبى حنيفة فيجيز الصلب ولو أنه يقدم حق الأفراد على حق الله تعالى لأنه لا يمنع من تنفيذ حقوق إلا ما سقط بالضرورة فأما ما لم يسقط فينفذ. وإذا قتل المحارب حسبة أى عدا عليه شخص فقتله لحرابته وجب الصلب عند من يوجبونه وجاز عند من يجعلون الخيرة فيه للإمام (1) .
646- هل يقتص من قاتل المحارب أو قاطعة؟: القاعدة أن الحد حق لله تعالى وأنه لا يجوز العفو عنه ولا إسقاطه, وحد الحرابة كأى حد آخر لا يحتمل العفو والإسقاط والإبراء والصلح عنه, فكل ما وجب على المحارب من قتل أو قطع أو صلب تستوفى منه سواء عفا الأولياء وأرباب الأموال أو لم يعفوا وسواء أبرأوا منه أو صالحوا عليه, وليس للإمام إذا ثبت الحد عمده أن يتركه أو يسقطه أو يعفو عنه لأن الواجب حد والحدود حقوق الله تبارك وتعالي (2) .
وهذا هو الأصل فى كل المذاهب الإسلامية, ولكن الشيعة يرون أن الإمام له إسقاط الحدود عن بعض الناس لمصلحة أو تأخيرها إلى وقت آخر لمصلحة, عدا
_________
(1) المغنى ج10 ص309, 323, أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص62, 63, شرح الأزهار ج4 ص377, المدونة ج16 ص12, شرح الزرقانى ج8 ص110.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص56, 57, 95, المغنى ج10 ص307, كشاف القناع ج4 ص47, أسنى المطالب ج4 ص156, المدونة ج16 ص99, 101.(2/655)
حدى القذف والسرقة ففيهما اختلاف, فالبعض لا يرون للإمام أن يسقطهما أو يؤخرهما والبعض يرى ذلك, وحجتهم فى هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تمكن من بنى قينقاع وأراد قتلهم وكانوا حلفاء لعبد الله بن أُبى كبير المنافقين فى حال الجاهلية فطلب من النبى تركهم فكره ذلك ثم إنه تشفع إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأكثر فى تركهم فتركهم له لما رأى فى ذلك من الصلاح. وهم مختلفون فيما إذا كان للإمام حق إسقاط القصاص عن بعض الناس أو تأخيره باعتبار أنه حق آدمي, فيرى البعض جواز الإسقاط لمصلحة عامة, ويرى البعض أن الإسقاط لا يجوز لأن منع القصاص هو منع لحق آدمى وظلم, والخلاف بين الفريقين أساسه الخلاف فى أى مصلحتين تغلب عند التعارض, المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة (1) .
ويترتب عليه أنه يترتب على عدم جواز العفو عن الحد أو إسقاطه أن يكون المحارب مهددًا إذا وجب عليه القطع أو القتل, وقد فصلنا ذلك فى التشريع الجنائي (2) , ولكن لم نبين حكم الإهدار عند الظاهريين والشيعة الزيدية, فنقول: إن الظاهريين يجعلون للإمام الخيار فى أى عقوبة من العقوبات الواردة فى الآية, وهذا يجعل المحارب غير مهدر ولو حكم عليه بعقوبة مهدرة لاحتمال أن يستبدل بها الإمام عقوبة أخرى غير مهدرة قبل التقييد.
ورأى الشيعة يجعل المحارب غير مهدر ولو حكم عليه بعقوبة مهدرة لأن للإمام إسقاط العقوبة لمصلحة عامة.
وعلى هذا إذا عدا شخص على المحارب أخذ المال أو قتل فقطع يده أو قتله فلا قصاص على العادى عند مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد سواء, كان ذلك قبل الحكم أو بعده ما دامت جريمة الحرابة ثابتة, وإنما يعزر العادى لافتياته على السلطات العامة القائمة على تنفيذ العقوبات, والعلة فى عدم القصاص هى أن قطع
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص334, 335.
(2) جزء أول فيراجع ذلك هناك.(2/656)
المحارب أو قتله متحتم وواجب لابد من إقامته, فالتعزير ليس للقطع أو للقتل وإنما للافتيات على السلطات العامة والقيام بما اختصت نفسها به (1) .
أما عند الظاهريين والشيعة الزيدية فيقتص من القاطع أو القاتل؛ لأن العقوبات غير لازمة (تراجع أقوال الظاهريين والشيعة فى القتل والجرح) .
647- هل يشترط فى القتل الذى يحدث من المحارب أن يكون عمدًا؟: يوجب مالك وأبو حنيفة والشيعة الزيدية القتل لمجرد القتل, ويطلقون لفظ القتل فلا يشترطون أن يكون عمدًا, وعلى هذا يكون القتل الذى يجب فيه الحد عندهم هو مطلق القتل سواء كان عمدًا أو شبه عمد أو خطأ. مع ملاحظة أن مالكًا لا يعترف بشبه العمد, ويسوى الحنفيون بين أنواع القتل وأداة القتل فلا يشترطون المحدد ويجوز أن يكون القتل بمثقل وعصًا وحجر وخشب (2) , أما الشافعى فيشترط القتل العمد لوجوب الحد, فبالقتل العمد يجب قتله للنص ولأنه ضم إلى جناية القتل الحرابة أى إخافة السبيل وهى تقتضى زيادة العقوبة, والزيادة هنا القتل والقتل محتم إذا قتل لأخذ مال ولو لم يأخذ نصابًا, أما إذا أخذ نصابًا فالقتل والصلب (3) .
وبعض الشافعية يشترط فى القتل أن يكون مما يوجب القَوَد, فلا يكفى أن يكون القتل عمدًا وإنما يجب أن يكون قتلاً يجب فيه القصاص فإن لم يكن قتلاً عمدًا فلا يجب الحد, وإن كان قتلاً عمدًا لا يجب فيه القصاص فكذلك (4) .
ومذهب أحمد على أن يتعمد الجانى الفعل بغض النظر عن الأداة التى استعملت فى القتل, فيستوى عنده أن يكون القتل عمدًا أو شبه عمد (5) .
_________
(1) المدونة ج16 ص104, أسنى المطالب ج4 ص156, ويراجع ما كتب عن السرقة.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص96, 97, حاشية ابن عابدين ج3 ص295, 297, شرح الأزهار ج4 ص377, المدونة ج16 ص99, مواهب الجليل ج6 ص315.
(3) أسنى المطالب وحاشية الشهاب ج4 ص155, 156.
(4) نهاية المحتاج ج8 ص4, 5.
(5) المغنى ج10 ص309, كشاف القناع ج4 ص89.(2/657)
والظاهر من أقوال الظاهريين أنهم يشترطون القتل العمد كالشافعيين (1) .
648- حكم الجراح التى يحدثها المحارب: يرى الظاهريون أن إحداث الجراح بقصد إخافة السبيل حرابة, وعلى هذا فإذا حدثت جراح ولم يكن أخذ مال ولا قتل فالفعل حد والإمام مخير فى العقوبة, والقاعدة عندهم أنه إذا اجتمع حقان أحدهما لله والثانى للعبد كان حق الله تعالى أولى بالقضاء لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقضوا الله فهو أحق بالوفاء دين الله أحق أن يقضى", وقوله: "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق", وعلى هذا فإن قتله الإمام أو صلبه للمحاربة كان للولى أن يأخذ أُرْش جرحه لأن حقه فى القود قد سقط فبقى حقه فى الدية أو العفو عنه, وإن رأى الإمام قطع المحارب كان للمجنى عليه أن يقتص أو يعفو. والخلاصة أنه كلما أمكن للمجنى عليه أن يستوفى حقه بعد استفاء حق الله استوفاه وكلما سقط كانت له الدية (2) , ويرى مالك وأبو حنيفة والشيعة الزيدية أنه كلما وجب على المحارب حد دخلت الجراحة فى الحد, فإن لم يكن حد أو كان حد وسقط فحكم الجراحة هو حكمها فى حال عدم وجود الحد (3) .
ويرى الشافعى وأحمد أن الجراح لا تدخل فى الحد فيقتص فى الجراح إذا كانت مما يقتص فيه وإذا لم يكن قصاص ففيها الدية, ويرى الشافعى أن القصاص غير محتم أى ليس حدًا وإنما هو على أصله؛ لأن الانحتام خاص بالقتل والقطع والصلب فإذا سرى الجرح فمات فأصبح القتل عمدًا انحتم القتل (4) .
أما أحمد ففى مذهبه رأيان: رأى يرى عدم انحتام القصاص كمذهب الشافعى لأن الشرع لم يرد بشرع الحد فى الجراح, والرأى الثانى على انحتام القصاص, وحجة أصحابه أن الجراح تابعة للقتل فتأخذ مثل حكمه, ويسلم أصحاب هذا الرأى بأن الجراح التى لا قصاص فيها كالجائفة لا يجب فيها إلا الدية (5) .
_________
(1) المحلى ج11 ص311, 312.
(2) المحلى ج11 ص213, 313.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص97, شرح الأزهار ج4 ص377, شرح الزرقانى ج8 ص111, مواهب الجليل ج6 ص386.
(4) أسنى المطالب ج4 ص156.
(5) المغنى ج10 ص310.(2/658)
649- الحد والضمان: علمنا مما سبق فى السرقة أن الشافعى وأحمد يريان الجمع بين الحد والضمان, وهذا هو رأيهما فى جريمة الحرابة فالحد لا يمنع من الضمان, أما عند مالك وأبى حنيفة والشيعة الزيدية فالقاعدة عندهم أن الحد لا يجمع مع الضمان, وقد تكلمنا على هذا فى السرقة فليرجع.
ويعلل أبو حنيفة أن الحد فى الحرابة ينفى وجوب ضمان الجراحات؛ لأن الجراحات الخطأ فيها الدية, ولأن الجراحات يسلك بها فى مذهبه مسلك الأموال, فالضمان فى الجراحات بنوعيها مال ولا يجب ضمان المال مع الحد, ومذهب مالك والشيعة الزيدية لا يجمع بين الحد وضمان الجراحات؛ لأنهم يدخلون الجراح فى الحد ويعتبرون الحد عقوبة عنها (1) .
650- التداخل: يجرى التداخل فى جريمة الحرابة, فلو ارتكب شخص أكثر من حرابة عوقب عنها جميعًا مرةً واحدةً إذا كان الفعل الذى أتاه واحدًا, فإن كان الفعل مختلفًا يكفى أن يعاقب بعقوبة الفعل الأشد عقوبة. هذا مع ملاحظة رأى أبى حنيفة فى حالة أخذ المال والقتل فإنه إن أخذ مرة المال وقتل فى الثانية دون أخذ المال جاز قطعه ثم قتله, وهذا على رأى القائلين بأن لفظ "أو" ورد للبيان والتفصيل, وما على رأى القائلين بأن "أو" للتخيير فعند مالك تتداخل على الوجه السابق أيضًا؛ لأنه يخصص لأخذ المال والقتل عقوبات خاصة فتتداخل الأفعال من نوع واحد ويكفى فيها عقوبة واحدة, وإذا اختلف كانت العقوبة الأشد هى الواجبة وفيها الكفاية.
أما عند الظاهريين فللإمام الخيار, ولذلك فالتداخل مطلق, وتكفى أية عقوبة لغض النظر عما إذا كانت أخف العقوبات أو أشدها.
651- مسقطات الحد:
1- يسقط حد الحرابة بما يسقط به حد السرقة: قد ذكرنا أسباب سقوط حد السرقة وبينا ما فيها من اتفاق واختلاف فلتراجع
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص95, تبصرة الحكام ج2 ص361, 362.(2/659)
[مع ملاحظة أن بعض هذه الأسباب خاص بأخذ المال ولا أثر له فى حالة القتل أو إخافة السبيل] .
2- التوبة: من المتفق عليه أن توبة المحارب قبل القدرة عليه تسقط ما وجب عليه من حد بحرابته, والأصل فى ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:34] , فإذا تاب المحارب سقط عنه ما وجب عليه من القتل والصلب والقطع والنفى ولكن التوبة لا يسقط ما يتعلق بحقوق العباد فيبقى مسئولاً؛ فإن كان أخذ المال فقط فعليه رده, وإن كان قتل أحدا أو جرحه فعليه القصاص أو إجراءات شكلية وإنما يدل عليها رد المال لصاحبه أن كان هناك مال عند القدرة على رده, ويكفى فى التوبة الندم والعزم على ترك مثل ما حدث.
ويشترط فى التوبة أن تكون قبل القدرة على المحارب فإن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء لا من الحقوق المتعلقة بالله ولا من الحقوق المتعلقة بالأفراد, لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} , فأوجب الحد على كل محارب ثم استثنى من ذلك التائبين قبل القدرة, ومن عداهم يبقى على حكم العموم, وعلة قبول التوبة قبل القدرة أن التوبة قبل القدرة تكون غالبًا توبة إخلاص أما بعد القدرة فهى غالبًا توبة تقيه من إقامة الحد, عليه ولأن فى قبول التوبة قبل القدرة ترغيبًا للمحارب فى التوبة والرجوع عن المحاربة والإفساد فناسب ذلك إسقاط الحد عنه, أما بعد القدرة فلا حاجة لترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة (1) .
والمراد بما قبل القدرة أن تمتد إلى المحارب يد الإمام, فإن تاب بعد أن امتدت إليه يد الإمام لم تعتبر التوبة قبل القدرة ولو كان هاربًا أو مستخفيًا أو ممتنعًا (2) .
_________
(1) المغنى ج10 ص310, أسنى المطالب ج4 ص155, 156, بدائع الصنائع ج7 ص96, شرح الأزهار ج4 ص378.
(2) أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص155.(2/660)
ويعتبر المحارب تائبًا إذا أتى الإمام طائعًا قبل القدرة عليه ملقيًا سلاحه وإن لم يدل على التوبة مظهر آخر, ويعتبر كذلك إذا ترك ما هو عليه من الحرابة وإن لم يأت الإمام (1) , وإذا أمن المحارب ليسلم نفسه فلا أمان له ولا يعتبر بتسليم نفسه تائبًا قبل القدرة عليه لأنه كان مطلوبًا (2) .
وإذا فعل المحارب ما يوجب حدًا لا يختص بالمحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة فإنها لا تسقط عنه بالتوبة عند مالك والظاهريين, ويسقط منها السرقة دون غيرها عند أبى حنيفة لما سنبينه بعد. أما عند الشافعى وأحمد ففى مذهبهما رأيان: أولهما: أنها جميعًا تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فتسقط بالتوبة كحد المحاربة إلا حد القذف فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي, ولأن فى إسقاطها ترغيبًا فى التوبة, وهذا الرأى هو الراجح فى مذهب أحمد والمرجوح فى مذهب الشافعي, والثانى: أنها لا تسقط لأنها لا تختص بالمحاربة فكانت فى حق المحارب كحق غيره. وهذا هو الراجح فى مذهب الشافعى. أما إن أتى حدًا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول؛ لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذى تاب منه دون غيره.
ويرى فقهاء الشيعة الزيدية أن توبة المحارب تسقط كل ما عليه من حدود غير حد المحاربة, ولكنهم يختلفون فى سقوط حد الآدميين, فيرى بعضهم أن التوبة تسقط أيضًا حقوق الآدميين التى أتلفها المحارب أو التائب حالاً حكمًا, ويرى البعض أن أثر التوبة لا تمتد لحقوق الأفراد وإنها لا تسقط إلا حق الله المحض فلا تمتد لمثل القصاص والقذف والمال.
التوبة ممن عليه حد غير المحارب: هناك اختلاف فى أثر توبة من عليه حد من غير المحاربين, فيرى مالك والظاهريون ورأيهما هو الرأى الراجح فى مذهب الشافعى والرأى المرجوح فى مذهب أحمد أن التوبة لا أثر لها على الحد لقول الله
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص112, بدائع الصنائع ج7 ص96.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص112.(2/661)
تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] , وهذا عامٌّ فى التائبين وغيرهم, وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية وقطع الذى جاءه مقرًا بالسرقة وقد جاءوا جميعًا تائبين يطلبون تطهرهم بإقامة الحد, وقد سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلهم توبة فقال فى حق الغامدية: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم", وجاء عمرو بن سمرة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله إنى سرقت جملاً لبنى فلان فطهرني, فأقام الرسول عليه الحد". ولأن الحد كفارة عن الذنب فلا يسقط بالتوبة, ولأن التائب مقدور عليه فلم يسقط عنه بالتوبة كالمحارب المقدور عليه.
ويرى أبو حنيفة أن السرقة الصغرى وحدها هى التى يسقط حدها بالتوبة إذا تاب السارق قبل أن يظفر به ورد المال إلى صاحبه فيسقط عنه القطع, بخلاف سائر الحدود فإنها لا تسقط بالتوبة, والفرق أن الخصومة شرط فى السرقة الصغرى والكبرى؛ لأن محل الجناية خاص حق العباد والخصومة تنتهى بالتوبة والتوبة تمامها رد المال إلى صاحبه, فإن وصل المال إلى صاحبه لم يبق له حق الخصومة مع السارق.
أما الرأى الراجح فى مذهب أحمد والمرجوح فى مذهب الشافعى وهو مذهب الشيعة الزيدية فيرى أن كل حد يسقط بالتوبة لقوله تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء:16] , ولأنه ذكر حد السارق, ثم قال: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له", ومن لا ذنب له لا حد عليه، ولأنه قال فى ماعز لما أُخبر بهربه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه"، ولأن الحدود خالص حد الله فتسقط بالتوبة كحد المحارب.
والقائلون بأن التوبة تسقط الحدود مختلفون فيما إذا كان الحد يسقط بمجرد التوبة أو يسقط بها مع إصلاح العمل, ففريق يسقط الحد بمجرد التوبة وهو ظاهر مذهب أحمد, وفريق يعتبر إصلاح العمل لقوله تعالى:(2/662)
{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] , فعلى هذا يعتبر مضى مدة يعلم بها صدق التوبة وصلاح النية, والبعض لا يقدر مدة معلومة, والبعض يقدر المدة بسنة (1) , وهناك نظرية ثالثة لابن تيمية وابن القيم ذكرناها (2) .
652- حق الله وحق الفرد فى عقوبة القتل: الأصل فى جريمة القتل العادى أنها تمس الأفراد أكثر مما تمس الجماعة, ولذلك يعبر عنها الفقهاء بأنها متعلقة بحقوق الأفراد, ولكن الشارع جعل القتل فى الحرابة مما يمس حقوق الجماعة حيث جعل العقوبة لازمة ولم يجعل لعفو المجنى عليه أثرًا عليها. وقد نظر الفقهاء إلى أن القتل فى الحرابة يجتمع فيه حق الله وحق العبد فكان هذا مما دعا البعض إلى القول بتغليب حق الله ودعا البعض إلى القول بتغليب حق الفرد. والقائلون بتغليب حق الفرد هم بعض الشافعية ورأيهم الراجح فى المذهب, وبعض الحنابلة ورأيهم المرجوح فى المذهب. أما بقيه المذاهب فتغلب حق الله على حق الأفراد, ولكن المذهب الظاهرى له حكم خاص سنذكره فيما بعد (3) .
ويترتب على تغليب حق الله أنه لا يعتبر التكافؤ فى القتل عند القائلين بالتكافؤ؛ فيؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمى ولأب بالبن لأن القتل حد لله فلا تعتبر فيه المكافأة كما هو الحال فى الزنا والسرقة, ولا تراعى المماثلة فى القتل فيقتل بالسيف أيًا كانت الآلة التى استعملها.
ويترتب على تغليب حق العبد اعتبار التكافؤ فى القتل فلا يقتل المحارب إذا كان حرًا بعبد أو نحوه ممن لا يكافئه كابنه وذمى والمحارب مسلم. وإن قتل بمثقل أو غيره روعيت المماثلة فى قتله بأن يقتل بمثل ما قتل به, وإذا قتل ومات
_________
(1) المغنى ج10 ص314 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص91, بدائع الصنائع ج7 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص112, أسنى المطالب ج4 ص155, 156, نهاية المحتاج ج8 ص6, شرح الأزهار ج4 ص378, المحلى ج11 ص126, 131.
(2) التشريع الجنائى ج1 ص305.
(3) يراجع القتل عند الظاهريين.(2/663)
قبل قتله قصاصًا فالدية تجب فى ماله, وإذا عفا الولى على مال لزم القاتل المال وقتل حدًا.
ويحتج القائلون بتغليب حق الله أن القاعدة تغليب حق الله إذا اجتمع مع حق العبد فى حد لأن العقوبات فى الحدود خالصة أصلاً لله وأن الحد لا يجوز فيه العفو, وإذا كان ولى الدم ليس له العفو فمعنى ذلك أن حق الله غالب, ويحتج القائلون بتغليب حق العبد بأنه الأصل فيما اجتمع فيه حق الله وحق آدمي, ولأن الآدمى لو قتل فى غير محاربة فله حق القصاص فكيف يسقط حقه بقتله فى المحاربة, ويقولون إن أثر الحد هو من ناحية انحتام القتل وعدم جواز العفو عنه, ولكن ذلك لا يسقط بحال حق العبد من النواحى الأخرى, خصوصًا وإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقتل مسلم بكافر" (1) .
653- عدم وجوب الحد المانع: لا يجب حد الحرابة إلا إذا استوفت كل شروط الحد, فإذا امتنع أحد الشروط امتنع وجوب الحد كشرط النصاب عند من يشترطون النصاب, فإذا لم يتوفر هذا النصاب عندهم ولم يكن هناك قتل فلا يجب حد القطع, وكشرط البلوغ فإذا حدثت الحرابة من صبى لم يجب عليه الحد أو أخذ المال وحده أو قتل أو فعل غير ذلك, وكشرط العقل فى المحارب فإذا كان المحارب مجنونًا لم يجب عليه الحد, وكشرط العمد فى حالة القتل عند من يشترطون أن يتعمد المحارب القتل, فإن الحد لا يجب عندهم إذا قتل ولم يأخذ مالاً, فإذا أخذ مالاً وقتل غير متعمد القتل وجب عليه حد القطع إذا بلغ المال نصبًا, وهكذا كلما امتنع شرط من شروط الحد لم يجب الحد, وقد تعرضنا لهذه الشروط المختلف عليها والمتفق عليها فيما سبق. على أن عدم وجوب الحد على من أخذ مالاً دون النصاب لا يمنع تعزيره وضمانه لما أخذ, وعدم وجوب الحد على الصبى والمجنون لا يمنع من تأديب الصبى والمجنون بما يتفق مع حالتهما كضرب الصبى وحجز المجنون فى مكان لمنع أذاه عن الناس
_________
(1) المغنى ج10 ص307. أسنى المطالب ج4 ص156, الدونة ج16 ص99, 100.(2/664)
, ومن يقتل غير متعمد وهو يريد أخذ المال ولكنه لم يأخذ مالاً يعزر ويلزم الدية, وهكذا. والقاعدة فى الشريعة أن كل ما يعتبر معصية إذا أتاه الإنسان عزر ولو أراد الفاعل فعلاً ما لم يتمه ما دام ما فعله يعتبر فى حد ذاته معصية لا حد فيها, فإذا كان ما فعله سواء أتمه أم لم يتمه فيه الحد عوقب بعقوبة الحد إذا توفرت شروطها فإذا لم تتوفر شروطها فالعقوبة التعزير كلما كان الفعل معصية.
654- حكم سقوط الحد بعد وجوبه: إذا سقط الحد بعد وجوبه كان الحكم بالنسبة للمال والقتل والجراح على الوجه الآتى:
إذا كان سبب سقوط الحد هو تكذيب الحجة عند القائلين بالسقوط بتكذيب المجنى علية لشهود الإثبات أو تكذيبه للإقرار الصادر من الجانى فلا شيء على الجانى جنائيًا أو مدنيًا لأن الفعل لا يثبت فى حق الجانى إلا بالحجة وقد بطلت أصلاً.
أما إذا كان سبب سقوط الحد الرجوع عن الإقرار فعند من يقولون بسقوط الحد برجوع الجانى عن الإقرار لا يسقط إلا الحد ولكن الجانى يظل مسئولاً جنائيًا عما يتعلق بحق الأفراد كالقصاص, كما تبقى مسئوليته المدنية كاملة؛ لأن إقرار المقر حجة كاملة فى حقه إلا أنه تعذر اعتباره بالنسبة لعقوبته لأن الحدود تدرأ بالشبهات (1) .
أما إذا كان سبب سقوط الحد هو التوبة قبل القدرة, فإن كان المحاربون أخذوا المال لا غيره ردوه على أصحابه إن كان قائمًا وعليهم ضمانه إن كان هالكًا أو مستهلكًا, وإن كانوا قتلوا لا غير اقتص ممن يجب عليه القصاص ومن لا قصاص عليه ألزم الدية, وإن اجتمع القتل والمال اجتمع الحكمان السابقان لأن المكافأة لا تهمل إلا فى حالة إقامة الحد, أما من يلزمه القصاص من المحاربين فهو من عليه القصاص فى القتل العادي, وقد علمنا مدى اختلاف الفقهاء فى اعتبار المباشر والمتسبب والمعين, والقاعدة العالمة أنه كلما امتنع الحد أو سقط عن القطَّاع رجع
_________
(1) يراجع ما قيل عن سقوط الحد فى السرقة.(2/665)
بهم فيما عليهم من جرائم إلى حكم غير القطاع وإلى حكم جرائمهم الخاص. وتراعى فى حالة القصاص والمكافأة عند جميع القائلين بها فى حالة التوبة والرجوع عن الإقرار. وإذا كانوا أخذوا المال وجرحوا فحكم المال ما سبق, وحكم الجراحات القصاص فيما يستطاع فيه القصاص, والدية فيما فيه الدية, كما لم كانت الجراحات حدثت من غير قطع الطريق (1) , ويلاحظ أن بعض الشيعة الزيدية يرون أنه يسقط من حقوق الأفراد ما أتلفه المحارب حالاً حكمًا كمال استهلكه أو هلك فى يده لا كمالٍٍ تصرف فيه بمقابل.
655- هل مسئولية القطاع الجنائية تضامنية؟: القاعدة العامة فى الحدود أن الحد لا يجب إلا على مباشِره فقط. ويرى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن يُحَدَّ الرِّدْء والمعين والطليعة كما يحد مباشر الحرابة. والرِّدْء هو الذى يلجأ إليه المحارب إذا هرب أو هزم, والطليعة هى التى تتطلع الطريق وتأتى بالأخبار, والمعين هو من يحضر وقت الجريمة ولو أنه لم يباشر الفعل بنفسه. وحجتهم أن المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة هؤلاء جميعًا ومعاونتهم بخلاف سائر الحدود, فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل فى حق جميعهم ووجب قتلهم جميعًا حدًا لا تعزيرًا, وإن أخذ بعضهم المال دون بعض ثبت الأخذ فى حقهم جميعًا ووجب على جميعهم القطع, وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال قتلوا جميعًا وصلبوا كما لو فعل كل منهم الأمرين معًا, فالمحاربون جميعًا المباشرون والمتسببون مسئولون جنائيًا عن الفعل الذى باشره غيره. ويذهب المالكيون فى اعتبار التسبب إلى حد بعيد بحيث يعتبرون متسببًا فى الجريمة من يتقوى المحاربون بجاهه ولو لم يأمر بقتل أو يتسبب فيه بفعل ما دام جاهه قد أعان على الحادث حكمًا.
وإذا كان فى المحاربين صبى أو مجنون أو من لا حد عليهم, فيرى أبو حنيفة وأحمد أن لا حد عليهما لأنهما ليسا من أهل الحد ولا حد على غيرهما ممن باشر الجريمة أو أعان عليها أو تسبب فيها. ويرى أبو يوسف هذا الرأى إذا كان الصبى أو المجنون هو الذى باشر الجريمة وحده, فإن كان المباشر غيرهما فالحد على العقلاء البالغين دون غيرهم (2) . وحجة أبى حنيفة أن مسئولية الجميع واحدة فالشبهة فى فعل أحدهم شبهة فى حق الجميع. وحجة أبى يوسف انه إذا كان المباشر هو الصبى أو المجنون فهو الأصل والباقون تبع فإذا سقط الحد عن الأصل سقط عن التابع. ويرى أحمد رأى أبى يوسف فعنده أنه لا حد على الصبى والمجنون وإن باشرا القتل وأخذا المال لأنهما ليسا من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال فى أموالهما ودية قتلهما على عاقلهما ولا شيء على الردء لهما لأنه إذا لم يثبت الحد على المباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق أولى, أما إذا كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء لأنهما لم يثبت فى حقهما حكم المحرابة وثبوت الحكم فى حق الرِّدْء يثبت بالمحاربة (3) .
ولا يحد مالك الصبى والمجنون ولكنه يرى الحد على غيرهما فى كل حال, سواء باشر الصبى والمجنون أو لم يباشرا.
وإذا كان فى المحاربين امرأة فيرى أبو حنيفة
_________
(1) المغنى ج10 ص318 وما بعدها, بدائع الصنائع ج7 ص91, شرح الزرقانى ج8 ص110.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص91.
(3) المغنى ج10 ص318, 319.(2/666)
أن لا حد عليها ولو باشرت الفعل ولا حد على من معها سواء اشتركوا معها أو لم يشتركوا, ولكن أبا يوسف يرى أن المرأة إذا باشرت الفعل وحدها حُدَّ من معها من الرجال, والرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة أن الرجال والنساء سواء فى الحد (1) .
ويرى مالك وأحمد أن المرأة يلزمها حكم المحاربة كالرجل, فإذا باشرت الفعل ثبت حكم المحاربة فى حق من معها لأنهم رِدْء لها وأعوان, وإن فعل ذلك غيرها ثبت ذلك فى حقها لأنها ردء وعون له (2) .
أما الشافعى فلا يرى المسئولية التضامنية فى الحرابة وإن كان يعتبر الردء
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص91.
(2) المغنى ج10 ص319.(2/667)
والطليعة والمعين والمتسبب مسئولين جنائيًا ولكنه يجعل مسئوليتهم تعزيرية باعتبارهم مرتكبين لمعصية, أما الذى يعاقب بالحد فهو المباشر دون غيره, فمن أخذ نصابًا من المال قُطع دون غيره, ومن قتل كان مسئولاً عن القتل دون غيره ولو كان الغير قد أخذ مصابًا من المال (1) .
656- هل مسئولية القطاع المدنية تضامنية؟: يرى مالك أن المحاربين مسئولين مسئولية تضامنية عن الأموال التى يأخذونها فمن يظفر به منهم يغرم ما يلزمهم جميعًا من أموال الناس سواء أخذ هذا المحارب شيئًا مما انتهب أم لم يأخذ وسواء جاء تائبًا أو قدر عليه غير تائب, وإنما يغرم عمن عداه حيث لزم من عداه الغرم لأنه غرم بطريق الضمان إذ كل واحد منهم تقوى بأصحابه, وتلك هى القاعدة فى المحاربين والبغاة والغصاب وفى مذهب مالك (2) , وهذا هو الحكم فى السرقة العادية إذا كان السارق قد تعاون مع غيره فى إخراج السرقة, فكل من لزمه القطع فى السرقة كان مسئولاً بالتضامن عما أخذه غيره ممن وجب عليهم القطع (3) . على أن فى مذهب مالك من يرى أن لا يضمن كل من المحاربين إلا ما أخذه, وهو رأى غير معمول به (4) . هذه هى القاعدة فى مذهب مالك, ويقيدها قاعدة أخرى هى عدم اجتماع الحد والضمان، وقد سبق ذكرناها فى السرقة فلتراجع.
ويذهب أحمد إلى أن الضمان ليس بحد إلا على المباشر دون الرِّدء والمعين؛ لأن وجوب الضمان ليس بحد فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب, وإذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان فالمختص بذلك المباشر دون الرِّدْء ولو وجب الضمان فى السرقة لتعلق بالمباشر دون غيره (5) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص154.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص111.
(3) حاشية الشيبانى ج8 ص111.
(4) تبصرة الحكام ج2 ص361.
(5) المغنى ج10 ص310.(2/668)
أما الشافعى فيجعل الضمان على المباشر دون غيره كمبدأ فى عدم التضامن فى المسئولية الجنائية.
657- مسئولية المحارب إذا كان صبيًا أو فاقد العقل: المحارب الصبى ليس عليه حد وإنما يعزر بما يناسبه, وكذلك المجنون لا يحد وإنما يعزر بما يمنع شره عن الناس كوضعه فى مصحة أو ما أشبه, والصبى والمجنون كلاهما مسئول فى ماله الخاص إذا أخذ المال, فإذا قتل فالدية على عاقلة عند مالك وأبى حنيفة وأحمد لأنهم يرون أن عمد المجنون والصبى خطأ لأنه لا يمكن أن يقصد الفعل قصدًا صحيحًا, وإذا لم يكن قتله مقصودًا فهو ليس عمدًا وإنما هو خطأ, أما الشافعى فيرى أن عمد الصبى والمجنون عمد لا خطأ وأن الصغير يعفى من الحد والقصاص ولكنه يؤثر على تكييف الفعل لأنه يأتيه مريدًا له وإن كان لا يدركه إدراكًا صحيحًا (1) .
أما السكران بمحرم فهو مسئول فى المذاهب الأربعة جنائيًا ومدنيًا مسئولية كاملة (2) .
ويرى الظاهريون أن الصبى والمجنون والسكران سكرًا أخرجه عن عقله لا يؤاخذون بحد ولا قَوَد, لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن الصبى حتى يبلغ, وعن المجنون حتى يفيق", والسكران لا يعقل, ولا على أحد من هؤلاء دية ولا ضمان عليه ولا على عاقلته, لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام", فأموال الصبى والمجنون والسكران حرام بغير نص كتحريم دمائهم ولا نص فى وجوب غرامة عليهم أصلاً, وإيجاب الغرامة شرع فإذا كان بغير نص من قرآن أو سنة فهو شرع فى الدين لم يأذن به الله, ولكن الصبيان والمجانين والسكارى لا يؤاخذون بحد ولا قود فعليهم التعزير, فإذا أتى أحدهم
_________
(1) التشريع الجنائى ج1 ص508 وما بعدها- مذهب الشيعة الزيدية.
(2) التشريع الجنائى ج1 ص499 وما بعدها, كشاف القناع ج3 ص140, أسنى المطالب ج4 ص154 وج3 ص283.(2/669)
جريمة وجب تعليمه ليكف أذاه حتى يتوب السكران ويفيق المجنون ويبلغ الصبي, لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] , وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى, وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان (1) .
658- حكم المال المأخوذ حرابة: حكم المال فى الحرابة هو وجوب الرد وإن كان قائمًا بعينه سواء سقط الحد أو لم يسقط, ولصاحبه أن يأخذه أينما وجده سواء وجده فى يد المحارب أو يد من تصرف إليه فيه, وذلك على التفصيل المبين فى باب السرقة, وعلى ما ذكرناه من خلاف بين الفقهاء.
* * *
_________
(1) المحلى ج11 ص344, 347.(2/670)
الكتاب السادس
البغي
659- النصوص الواردة فى البغى: الأصل فى البغى قول الله جل شأنه: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9, 10] (1) , وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ... } الخ [النساء:59] .
وهناك نصوص من السنة وردت فى البغي, فيروى عن عبد الله بن عمر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أعطى إمامًا صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" رواه مسلم.
وروى عرفجة أنه قال: "ستكون هَنَاتٌ وهنات - ورفع صوته - ألاَ من خرج على أمتى وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان" (2) . وفى رواية أخرى: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".
_________
(1) ويستخلص من نص الآية خمس فوائد: الأولى: أنهم لم يخرجوا بالبغى عن الإيمان فإنه سماهم مؤمنين, الثانية: أنه أوجب قتلهم, الثالثة: أنه أسقط قتلهم إذا فاءوا إلى أمر الله, الرابعة: أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوا فى قتلهم, الخامسة: أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقاً عليه, المغنى ج10 ص48.
(2) المغنى ج10 ص48.(2/671)
وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر, فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية", وفى لفظ: "من كره من أمره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية".
وعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء, كلما هلك نبى خلفه نبي, وأنه لا نبى بعدي, وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم, فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
وعن عوف بن مالك الأشجعى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم, وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". قال: قلنا: يا رسول الله ألاَ ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا, ما أقاموا فيكم الصلاة, إلا من ولى عليه وال فرآه يأتى شيئًا من معصية الله, فليكره ما يأتى من معصية الله, ولا ينزعن يدًا من طاعة".
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهديى ولا يستنون بسنتي, وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين فى جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".
وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننزع الأمر أهله, إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان".
وعن أبى ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفيء؟ قال: والذى بعثك بالحق أضع سيفى على عاتقى وأضرب حتى ألحقك, قال: أو لا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ تصبر حتى يلحقنى" (1) .
_________
(1) نيل الأوطار ج7 ص80, 81.(2/672)
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن مسعود: "هل تدرى يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم, قال: لا يجهز على جريحها, ولا يُقتل أسيرها, ولا يُطلب هاربها, ولا يقسم فيئها" (1) .
660- تعريف البغى: يعرف البغى لغة بأنه طلب الشيء, فيقال: بغيت كذا إذا طلبته, ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64] , ثم اشتهر البغى فى العرف فى طلب ما لا يحل من الجور والظلم, وإن كانت اللغة لا تمنع أن يكون البغى بحق، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّى الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] .
ويختلف الفقهاء فى تعريف البغى اصطلاحًا لاختلاف مذاهبهم فيه, فالمالكيون يعرفون البغى بأنه الامتناع عن طاعة من ثبتت إمامته فى غير معصية بمغالبته ولو تأويلاً, ويعرفون البغاة بأنهم فرقة من المسلمين خالفت الإمام الأعظم أو نائبه لمنع حق وجب عليها أو لخلفه (2) .
ويعرف الحنفيون البغاة ويستخرجون منها تعريف البغى بأنه الخروج عن طاعة إمام الحق بغير حق, والباغى بأنه الخارج عن طاعة إمام الحق بغير حق (3) .
ويعرف الشافعيون البغاة بأنهم المسلمون مخالفو الإمام بخروج عليه وترك الانقياد له أو منع حق توجه عليهم بشرط شوكة لهم وتأويل ومطاع فيهم (4) .
أو هم الخارجون عن الطاعة بتأويل فاسد لا يقطع بفساده إن كان لهم شوكة
_________
(1) سبل السلام ج3 ص207, طبعة الحلبى سنة 1349هـ.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص60.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص426, شرح فتح القدير ج4 ص48.
(4) نهاية المحتاج ج8 ص382.(2/673)
بكثرة أو قوة وفيهم مطاع (1) , فالبغى إذن عند الشافعيين هو خروج جماعة ذات شوكة ورئيس مطاع عن طاعة الإمام بتأويل فاسد.
ويعرف الحنابلة البغاة بأنهم الخارجون عن إمام ولو غير عادل بتأويل سائغ ولهم شوكة ولو لم يكن فيهم مطاع (2) , فالبغى عند الحنابلة لا يختلف فى تعريفه كثيرًا عند الشافعية.
ويرى الظاهريون أن البغى هو الخروج على إمام حق بتأويل مخطئ فى الدين أو الخروج لطلب الدنيا (3) .
ويعرف الشيعة الزيدية الباغى بأنه من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو غرم وله فئة أو مَنَعة أو قام بما أمره للإمام (4) , فالبغى هو الخروج على الإمام الحق من فئة لها مَنَعة.
علة اختلاف التعاريف: والعلة فى اختلاف تعريف البغى فى المذاهب الفقهية المختلفة هى الاختلاف على الشروط التى يجب توفرها فى البغاة وليست الاختلاف فى الأركان للبغى ومحاولة الفقهاء فى أكثر من مذهب أن يجمعوا فى التعريف بين أركان البغى وشروطه ورغبتهم أن يكون التعريف جامعًا مانعًا.
تعريف مشترك: ونستطيع أن نعرف البغى تعريفًا مشتركًا فيه كل المذاهب إذا اكتفينا بإبراز الأركان الأساسية فى التعريف فنقول: إن البغى هو الخروج على الإمام مغالبة.
661- أركان البغى: وأركان البغى الأساسية كما هو ظاهر من التعريف المشترك ثلاثة:
(1) الخروج على الإمام. (2) أن يكون الخروج مغالبة. (3) القصد الجنائى.
* * *
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص111.
(2) شرح المنتهى مع كشاف القناع ج4 ص114.
(3) المحلى ج11 ص97, 98.
(4) الروض النضير ج4 ص331.(2/674)
الركن الأول: الخروج على الإمام
662- يشترط لوجود جريمة البغى الخروج على الإمام, والخروج المقصود هو مخالفة الإمام والعمل لخلعة, أو الامتناع عما وجب على الخارجين من حقوق. ويستوى أن تكون هذه الحقوق لله أى مقررة لمصلحة الجماعة, أو للأشخاص أى مقررة لمصلحة الأفراد. فيدخل تحتها كل حق تفرضه الشريعة للحاكم والمحكوم, وكل حق للجماعة على الأفراد, وكل حق للقرد على الفرد, فمن امتنع عن أداء الزكاة فقد امتنع عن حق وجب عليه, ومن امتنع عن تنفيذ حكم متعلق بحق الله كحد الزنا, أو متعلق بحق الأفراد كالقصاص, فقد امتنع عن حق وجب عليه, ومن امتنع عن طاعة الإمام فقد امتنع عن الحق الذى وجب عليه, وهكذا.
ولكن من المتفق عليه أن الامتناع عن الطاعة فى معصية ليس بغياَ وإنما هو واجب على كل مسلم لأن الطاعة لم تفرض إلا فى معروف ولا تجوز فى معصية, فإذا أمر الإمام بما يخالف الشريعة فليس لأحد أن يطيعه فيما أمر إذ الطاعة لا تجب إلا فيما تجيزه الشريعة (1) .
والخروج قد يكون على الإمام وهو رئيس الدولة الأعلى وقد تكون على من ينوب عنه, فمن امتنع عن طاعة الإمام فى معصية فليس باغيًا لأن حق الأمر واجب الطاعة وكلاهما مقيد غير مطلق, فليس لآمر أن يأمر بما يخالف الشريعة وليس لمأمور أن يطيعه فيما يخالف الشريعة. وذلك ظاهر من قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] , ومن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق", وقوله: "من أمركم من
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص430.(2/675)
الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه", وقوله: "لا طاعة فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف", وقد احتاط الفقهاء لهذا فى تعريف البغاة.
والإمام: هو رئيس الدولة الإسلامية الأعلى أو من ينوب عنه من سلطان أو وزير أو حاكم أو غير ذلك من المصطلحات, ويعبر بعض الفقهاء عن رئيس الدولة الإسلامية الأعلى بالإمام الذى ليس فوقه إمام, وعمن دونه بالإمام مطلقًا إذا كان مستقلاً بجزء من الدولة الإسلامية, وبنائب الإمام إذا كان ينوب عن الإمام الأعظم.
والإمامة فرض من فروض الكفاية فى الشريعة الإسلامية كالقضاء, إذ لابد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلومين ويستوفى الحقوق ويضعها موضعها. ولا خلاف على هذا بين الفقهاء. ويشترط فى الإمام شروط لا محل لذكرها هنا أهمها أن يكون مسلمًا ذكرًا مكلفًا عدلا (1) , ولا يعتبر الخروج على الإمام قبل أن تثبت إمامته, وتثبت الإمامة بأربع طرق:
1- باختيار أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأرباب الحل والعقد, كما حدث فى بيعة أبى بكر على أثر وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
2- باختيار الإمام السابق لمن يليه, كما حدث فى اختيار أبى بكر لعمر حيث عهد إلى عمر بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة فى الحال التى يؤمن فيها الكافر ويتقى فيها الفاجر, إنى استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن برَّ وعَدَل فذلك علمى به ورأيى فيه, وإن جار وبدَّل فلا علم لى بالغيب, والخير أردت, ولكل امرئ ما اكتسب, وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون".
ويصح أن يعهد الإمام لولده, كما فعل معاوية وغيره من الخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم.
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص108, كشاف القناع ج4 ص94, المحلى لابن حزم ج9 ص359 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص518.(2/676)
3- يجعل الإمام السابق الأمر شورى فى جماعة معينة يختارون الإمام الجديد من بينهم أو يختاره أهل الحل والعقد, كما فعل عمر حيث ترك الأمر شورى فى ستة من الصحابة فاختاروا من بينهم عثمان.
4- بالتغلب والقهر حيث يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويدعونه إمامًا فتثبت له الإمامة وتجب طاعته على الرعية, ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا ودعوه إمامًا.
وإذا ثبتت الإمامة بإحدى هذه الطرق كان الخروج على الإمام بغيًا, أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق فلا يعتبر الخارج باغيًا ولا الخروج بغيًا (1) .
ومع أن العدالة شرط من شروط الإمامة إلا أن الرأى الراجح فى المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية هو تحريم الخروج على الإمام الفاسق الفاجر ولو كان الخروج للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأن الخروج على الإمام يؤدى عادة إلى ما هو أنكر مما فيه وبهذا يمتنع النهى عن المنكر لأن من شرطه أن لا يؤدى الإنكار إلى ما هو أنكر من ذلك, إلى الفتن وسفك الدماء وبث الفساد واضطراب البلاد وإضلال العباد وتوهين الأمن وهدم النظام. وإذا كانت القاعدة أن للأمة خلع الإمام وعزلة بسبب يوجبه كالفسق إلا أنهم يرون أن لا يعزل إذا استلزم العزل الفتنة. أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه أن للأمة خلع وعزل الإمام بسبب يوجبه وأنه ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق, فإذا وجد من الإمام ما يوجب اختلال أموال المسلمين وانتكاس أمور الدين كان للأمة خلعه كما كان لهم تنصيبه لانتظام شئون الأمة وإعلائها, ويرى بعض هذا
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص94, 95, أسنى المطالب ج4 ص105 وما بعدها, حاشية ابن عابدين ج3 ص428, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص60.(2/677)
الفريق انه إذا أدى الخلع لفتنة احتمل أدنى الضررين (1) .
ويرى الظاهريون أن الخروج على الإمام محرم إلا أن يكون جائرًا, فإن كان جائرًا فقام عليه مثله أو دونه قوتل مع القائم لأنه منكر زائد ظهر, فإن قام عليه أعدل منه وجب أن يقاتل مع القائم. وإذا كانوا جميعًا أهل منكر فلا يقاتل من أحد منهم إلا أن يكون أحدهم أقل جورًا فيقاتل معه من هو أجور منه (2) .
وعلى هذا الرأى بعض المالكيين, فسحنون يقول بوجوب قتال أهل العصبية إن كان الإمام عدلاً وقتال من قام عليه, فإن كان غير عدل فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دين الله وإلا وسعك الوقوف إلا أن يريد نفسك ومالك فادفعه عنهما ولا يجوز لك دفعه عن الظالم. ويرى الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن فسق الأئمة قد يتفاوت ككون فسق أحدهم بالقتل وفسق الآخر بانتهاك حرمة الإبضاع وفسق الآخر بالتعرض للأموال فيقوم هذا على التعرض للدماء والإبضاع, فإن تعذر يقوم المتعرض للإيضاع على المتعرض للدماء, فإن قيل: أيجوز القتال مع أحد هؤلاء لإقامة ولايته وإدامة نصرته وهو معصية, قلنا نعم وفقًا لما بين مفسدتى الفسوقيين, وفى هذا وقفة وإشكال من جهة كونه إعانة على معصية ولكن درء ما هو أشد من تلك المعصية يجوزه. ونحوه خروج فقهاء القيروان مع أبى يزيد الخارجى على الثالث من بنى عبيد لكفره وفسق أبى يزيد والكفر أشد (3) . ومجموع رأى سحنون والشيخ عز الدين هو رأى الظاهريين.
وعلى الرغم من أن الرأى الراجح فى مذهب مالك هو تحريم الخروج على الإمام الجائر فإن من المتفق عليه فى المذهب أنه لا يحل للإمام الجائر أن يقاتل
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص60, حاشية ابن عابدين ج3 ص429, أسنى المطالب ج4 ص109, حاشية الشهاب الرملى ج4 ص111, كشاف القناع ج4 ص95, الأحكام السلطانية الغراء ص514, تتمة الروض النضير ج4 ص6, 9, مواهب الجليل ج6 ص277, نيل الأوطار ج7 ص84.
(2) المحلى ج9 ص372.
(3) حاشية الشيبانى ج8 ص60.(2/678)
الخارجين عليه لفسقه وجوره, وعليه قبل كل شيء أن يترك فسقه ثم يدعوهم لطاعته فإن لم يجيبوه كان له أن يقاتلهم (1) .
ومن المتفق عليه فى كل المذاهب الشرعية أن قتال الخارجين لا يجوز قبل سؤالهم عن سبب خروجهم, فإذا ذكروا مظلمة أو جورًا وكانوا على حق وجب على الإمام أن يرد المظالم ويرفع الجور الذى ذكروا ثم يدعوهم للطاعة وعليهم أن يرجعوا للطاعة فإن لم يرجعوا قاتلهم, والأصل فى ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] . فأمر الله تعالى بالإصلاح ثم بالقتال فلا يجوز أن يقدَّم القتال على الإصلاح ولا يكون الإصلاح إلا برد المظالم ورفع الجور (2) .
والخارجون على ثلاثة أنواع عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد:
1- الخارجون بلا تأويل سواء كانوا ذوى منعة أو شوكة أو لا منعة لهم.
2- الخارجون بتأويل ولكن لا مَنَعة لهم.
3- الخارجون بتأويل وشوكة, وهم قسمان:
(أ) الخوارج ومن يذهبون مذهبهم ممن يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويَسْبُون نسائهم ويكفِّرون بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ب) الخوارج بتأويل ولهم منعة وشوكة ممن لا يذهبون مذهب الخوارج ولا يستحلون دماء المسلمين ولا يستبيحون أموالهم ونساءهم (3) .
والتأويل المقصود هو ادعاء سبب للخروج والتدليل عليه, ويستوى أن
_________
(1) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص409, أسنى المطالب ج4 ص114, كشاف القناع ج4 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص60, 61, المحلى ج11 ص99.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, المغنى ج10 ص48, 52, أسنى المطالب ج4 ص111, 113.(2/679)
يكون التأويل صحيحًا أو فاسدًا لا يقطع بفساده, ويعتبر التأويل فاسدًا إذا أولوا الدليل على خلاف ظاهره ولو كانت الأدلة على التأويل ضعيفة كادعاء أهل الشام فى عهد على بأنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم, مع أن الادعاء صادر ممن لا يعتد بقولهم وشهادتهم.
وكتأويل بعض مانعى الزكاة فى عهد أبى بكر بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكنًا لهم, طبقًا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة:103] .
وكادعاء الخوارج الذين خرجوا من عسكر على بعد صفين أنه كفر ومن معه من الصحابة حيث حكم الرجال فى أمر الحرب الواقعة بينهم وبين معاوية وقالوا إنه حكَّم الرجال فى دين الله والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف:40] , وتلك كبيرة ومرتكب الكبيرة فى رأيهم كافر, فإذا كان التأويل مقطوعًا بفساده فلا يعتبر أن هناك تأويلاً ما (1) .
والمنعة والشوكة هى الكثرة والقوة, كثرة عدد الخارجين أو قوتهم بحيث يمكن معها مقاومة تدعوه إلى احتمال كلفة من بذل مال وإعداد رحال ونصب قتال ونحو ذلك ليردهم إلى الطاعة. ويعتبرون فى مذهب أحمد النفر اليسير كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم ممن لا منعة لهم ولو كانوا مسلحين يحسنون القتال (2) .
ويشترط الشافعيون لوجود المنعة والشوكة أن يكون فى الخارجين مطاع ولو لم يكن إمامًا عليهم يسمعون له ويطيعون؛ لأنه الشوكة لمن لا مطاع لهم, فمهما بلغ عدد الخارجين ومهما كانت قوتهم فلا شوكة ما لم يكن فيها مطاع (3) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج4 ص427, نهاية المحتاج ج7 ص382, 383, كشاف القناع ج4 ص96.
(2) حاشية ابن عابدين ج3 ص428, نهاية المحتاج ج7 ص382, كشاف القناع ج4 ص96, المغنى ج10 ص49, أسنى المطالب ج4 ص111.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص383.(2/680)
وحكم الخارجين بلا تأويل والخارجين بتأويل ولا شوكة لهم عند أبى حنيفة وأحمد هو حكم قطَّاع الطريق فيعاملون على هذا الأساس. وكتب الحنابلة والأحناف تجعل حكمهم حكم قطاع الطريق دون تفصيل مما قد يوهم بأنهم يقرون كذلك دون قيد ولا شرط. أما حكمهم عند الشافعى فهو حكم غيرهم من أهل العدل ويحاسبون على ما يأتونه من أفعال: فإن كونت جريمة الحرابة عوقبوا على الحرابة, وإن كونت جرائم أخرى عوقبوا عليها. ويلاحظ أن لا فرق بين الحنفيين والحنابلة وبين الشافعيين فى هذه المسألة؛ لأن الأحناف والحنابلة وإن اعتبروهم محاربين إلا أنهم لا يعاقبونهم بعقوبة الحرابة إلا إذا توفرت شروط الحرابة وإن سموهم قطاعًا بإطلاق: لأن الخارجين إذا لجأوا للقوة فلن يفعلوا إلا أن يخيفوا الطريق ويأخذوا الأموال ويقتلوا من تعرض لهم فتكون جرائمهم بطبيعة الحال وظروف الخروج حرابة, فكأنهم نظروا إلى واقع الحال فى إعطائهم حكم المحاربين, أما الشافعيون فنظروا إلى الأصل وقالوا إنهم من أهل العدل فإذا ارتكبوا جريمة وتوفرت شروطها أخذوا بها, وهكذا لا نجد ثمة فرق بين الفريقين وإن اختلفوا فى تعبيراتهم (1) .
وإذا كان الرأى الراجح فى مذهب أحمد أن المتأول بلا شوكة يعتبر محاربًا فإن بعض فقهاء المذهب لا يشترط الشوكة مع التأويل, فلا فرق عنده بين الكثير والقليل ما دام الخروج أساسه التأول ويعتبر المتأول بلا شوكة باغيًا لا محاربًا, وحجة القائلين بالشوكة أن ابن ملجم - لما جرح عليًا قال على للحسن: إن برئت رأيت رأيى وإن مت فلا تمثلوا به - لم يثبت لفعله حكم البغاة كما أن إثبات حكم البغاة للعدد اليسير يشجع على الخروج ويؤدى إلى إتلاف أموال الناس؛ لأن البغاة يسقط عنهم ضمان ما أتلفوه (2) . وحجة الذين لا يشترطون الشوكة أن الخروج أساسه التأول
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, بدائع الصنائع ج7 ص140, أسنى المطالب ج4 ص48, كشاف القناع ج4 ص96.
(2) المغنى ج10 ص49.(2/681)
لا الشوكة وعقيدة الخارج لا عدد من يشاركونه تلك العقيدة, فلا معنى لاشتراط الشوكة.
أما الخارجون بتأويل وشوكة فهم البغاة عند أبى حنيفة والشافعى سواء رأوا رأى الخوارج أو لم يروه, ولا تعتبر الخوارج عندهما كفرة ولا فسقة وإنما بغاة لا غير (1) .
واختلف الحنابلة فى الخوارج الذين يكفِّرون بالذنب ويكفِّرون عثمان وعليًا وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة, ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويرون سبى نسائهم, والبعض يراهم بغاة لا غير, وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء, والبعض يراهم بغاة وفسقة فى وقت واحد, ويرون استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم, وهذا هو رأى مالك وسنذكره فيما بعد. على أن أبا حنيفة يعتبر أيضًا الخوارج فسقة باعتقادهم ولكنه يعاملهم معاملة البغاة ولا ينظر إلى الفسق إلا فى قبول شهادتهم وقضائهم (2) .
ويرى البعض الآخر - ورأيهم الراجح فى كذهب أحمد - أن الخوارج مرتدون فحكمهم حكم المرتدين لا حكم البغاة ومن ثم تباح دمائهم وأموالهم, فإن تحيزوا فى مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار, وإن كانوا فى قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين فإن تابوا وإلا قتلوا حدًا وكانت أموالهم فيئًا لا يرثهم ورثتهم المسلمون. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو سعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم يحقرون صلاتكم مع صلاتهم, وصيامكم مع صيامهم, وأعمالكم مع أعمالهم, يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يَمْرُقُون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة, ينظر من النصل فلا يرى شيئًا, وبنظر فى القدح فلا يرى شيئًا, وينظر فى الريش فلا يرى شيئًا, ويتمادى فى الفُوق".
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, بدائع الصنائع ج8 ص140, نهاية المحتاج ج7 ص382, 385, أسنى المطالب ج4 ص111, 113, المهذب ج2 ص234, 238.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص416.(2/682)
وفى رواية أخرى: "يخرج قوم فى آخر الزمان أحداث الأسنان, سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول البرية, يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فإن لقيتهم فاقتلهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة".
أما القائلون بأنهم بغاة أو بغاة فسقة فيحتجون بأنه لم يقل بتكفيرهم أحمد من الفقهاء, وإنما الذى قال به بعض فقهاء الحديث لا كلهم, ويفسرون عبارة "يتمادى فى الفوق" بأن الحديث لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشيء بحيث يشك فى خروجهم منه, ويحتجون أيضًا بما روى عن على أنه لم يقاتل أهل النهروان إلا بعد أن قتلوا عبد الله بن خباب وأنه لم يبدرهم بقتال, وقال لأصحابه: لا تبدروهم بقتال, وبعث إليهم: أقيدونا بعبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله, فحينئذ استحل قتالهم لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب القتل, ولو كانوا كفارًا لبدرهم بالقتال ولما طالب بالقَوَد من قتلة عبد الله بن خباب. كذلك يحتجون بما ذكره ابن عبد البر عن على أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا, وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم. وأخيرًا فإنهم يحتجون بأن عليًا لما جرحه ابن ملجم قال للحسن: أحسنوا إساره؛ فإن عشتُ فأنا ولى دمي, وإن مت فضربة كضربتي, أى أنه أشار بالقصاص منه ولو كان كافرًا لَمَا اقتص منه لأن الكافر مباح الدم بكفره (1) .
ويختلف مذهب مالك عن المذاهب الثلاثة فيمن يعتبره باغيًا, فالباغى عند مالك هو كل من امتنع عن الطاعة فى غير معصية بمغالبة ولو تأويلاً, فكل من خرج بمغالبة فهو باغٍ سواء كان متأولاً أو غير متأول, ذا منعة وشوكة أو ليس له شوكة ومنعة, ويجوز أن يكون الباغى فردًا واحدًا ويجوز أن يكون البغى من أكثر من واحد, والخوارج الذين يكفِّرون بعض الصحابة ومَنْ على
_________
(1) المغنى ج10 ص48- 52, كشاف القناع ج4 ص96.(2/683)
غير رأيهم من المسلمين ويستحلون الدماء والأموال وسبى النساء, هم عند مالك بغاة وليسوا كفرة وإنما هم فسقة فى رأيه ولهذا إذا ظفر بهم الإمام العدل أن يستتيبهم وغيرهم من أهل الأهواء (1) .
ومذهب الظاهريين على أن البغاة قسمان لا ثالث لهما, قسم خرجوا على تأويل فى الدين فأخطأوا فى تأويلهم كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق, وقسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام الحق أو على من هو فى السيرة مثلهم, فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق أو إلى أخذ مال من لقوا أو سفك الدماء هملاً انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين وهم ما لم يفعلوا ذلك فى حكم البغاة. والمتأولون قسمان: قسم أخطأ فى التأويل وله عذر فى تأويله كأصحاب معاوية, وقسم من المتأولين لا عذر له فى تأويله كمن قام رأى الخوارج ليخرج الأمر على قريش أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم أو تكفير أهل الذنوب أو استقراض المسلمين أو قتل الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر أو إلى منع الزكاة, فهؤلاء وأمثالهم لا عذر لهم بالتأويل الفاسد لأنها جهالة تامة. والقائمون لغرض الدنيا أو للعصبية كما فعل يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فى القيام على ابن الزبير, وكما فعل مروان بن محمد فى القيام على يزيد بن الوليد, فهؤلاء لا يعذرون لأنهم لا تأويل لهم أصلاً وعملهم بغى مجرد (2) .
أما من قام يدعو إلى أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو إلى إظهار القرآن والسنن والحكم بالعدل فليس بغيًا بل الباغى من خالفه, فإذا أريد بظلم فمنع نفسه فإنه على حق سواء أراد الإمام أو غيرة (3) .
ويرى الظاهريون أن البغاة ليسوا فقط من خرجوا على الإمام وإنما الباغى
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص277, 278, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, 61, تبصرة الحكام ج2 ص362.
(2) المحلى ج11 ص97, 98.
(3) المحلى ج11 ص98.(2/684)
هو من بغى على أخيه المسلم, فيجوز أن يكون الباغى سلطانًا ويجوز أن يكون فردًا, فإذا كان الباغى هو السلطان كان على المسلمين أن يقاتلوا الباغى حتى يفئ إلى أمر الله, وعلى هذا يصح أن يكون الباغى فردًا ويصح أن يكون جماعة (1) .
وخلاصة رأى الظاهريين أن كل من خرج مغالبة على الإمام بتأويل أو غير تأويل فهو باغٍ سواء كان فرد أو جماعة ما لم يكن خروجه بحق فإنه ليس باغيًا.
والباغى عند الشيعة الزيدية هو من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم على المحاربة وله فئة أو منعة, أو قام بما أمره للإمام (2) .
فالبغى لا يكون إلا من جماعة يكون لهم منعة وعدد وتأويل, وهذا يتفق مع مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد إلى حد كبير. كما يتفق مذهب الظاهريين مع مذهب مالك, ولا يعتبر الخارج بحق باغيًا عند بعض المالكيين وأبى حنيفة والظاهريين (3) , وعلى مثل هذا الرأى الشيعة الزيدية (4) .
أما عند الشافعى وأحمد وبعض المالكيين فيعتبر الخارج باغيًا ولو كان خارجًا بحق وسواء كان على صواب أو على خطأ؛ لأن الخروج ليس هو الطريق الصحيح الذى يؤدى لإقرار الحق وتصحيح الخطأ، فإذا لم يكونوا بغاة فيما يطلبون فهم بغاة فى اختيار الوسيلة التى يريدون بها الوصول إلى حقهم لأنها تؤدى إلى الفساد وزعزعة أركان الدولة, ولأنه من المحرم عليهم الخروج على من تثبت إمامته, لأن من ثبتت إمامته تجب طاعته. على أن فى مذهب الشافعى من يرى أن الخروج على الإمام الجائر ليس بغيًا إذا كان الخروج لإزالة جور أو ظلم, ولكن رأيهم مرجوح فى المذهب (5) .
ويعتبر الخروج بحق فى مذهب أبى حنيفة وعند القائلين به من المالكيين إذا
_________
(1) المحلى ج11 ص99.
(2) الروض النضير ج4 ص331.
(3) مواهب الجليل ج6 ص477, شرح الزرقاني, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, شرح فتح القدير ج4 ص408, المحلى ج11 ص98, 99, حاشية ابن عابدين ج3 ص426.
(4) تتمة شرح الروض النضير ج4 ص8, 9.
(5) أسنى المطالب, وحاشية الشهاب الرملى ج4 ص111, كشاف القناع ج4 ص96.(2/685)
كان الخوارج قد فعلوا ذلك لظلم ظلمهم به الإمام وعليه أن يترك الظلم وينصفهم, ولا ينبغى للناس أن يعينوا الإمام عليهم؛ لأن فى ذلك إعانة على الظلم وتعاون على الإثم والعدوان. ويرون فى مذهب مالك أن على الناس أن يعينوا الخارجين على الإمام, بينما يرى الحنفية أن ليس للناس إعانة الخارجين لأن فيه إعانة على خروجهم على الإمام. أما إذا كان الخروج بدعوى الحق والولاية فقالوا الحق معنا فهم أهل بغى عند أبى حنيفة, وعلى كل من يقوى على القتال أن ينصر الإمام على هؤلاء الخارجين. أما المالكيون فيرون نصر الخارجين إذا كان الخارج عليه عدلاً أو كان أقل فسقًا وجورًا ما دام الإمام جائرًا فاسقًا (1) .
ويعتبر الخروج بحق فى مذهب الظاهريين إذا كان لظلم ظلمهم به الإمام أو كان للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتعرض لهم الإمام, أو خرج على الإمام الجائر إمام عدل أو أقل فسقًا وجورًا (2) .
ويفترق مذهب الظاهريين عن المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية فى اعتبار السلطان باغيًا, فهذه المذاهب لا تعتبر السلطان باغيًا ولو كان جائرًا وإنما البغاة هم الخارجون على الإمام. وقد رأينا أن بعض الفقهاء يعتبرون الخارجين بغاة سواء كانوا على حق فى خروجهم أو كانوا على غير الحق, بينما يراهم البعض بغاة إذا كانوا على غير الحق فقط فإن كانوا على حق فليسوا بغاة, على أن القائلين بهذا يرون هم ومخالفوهم أن الإمام ليس له أن يقاتل الخارجين قبل أن يسألهم عن سبب خروجهم, فإذا ادعوا مظلمة أو شبهة كان على الإمام أن يرد المظالم ويكشف الشبهات ثم يدعوهم بعد ذلك للطاعة, فإن لم يعودوا قاتلهم لأنهم يصبحون بامتناعهم عن العودة للطاعة بغاة ولو كانوا قد خرجوا فى أول الأمر بحق (3) .
* * *
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص437, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, مواهب الجليل ج6 ص277.
(2) المحلى ج11 ص97, 98.
(3) أسنى المطالب ج4 ص114, كشاف القناع ج4 ص96, المغنى ج10 ص53, حاشية ابن عابدين ج4 ص427, 429, شرح فتح القدير ج4 ص409, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60.(2/686)
الركن الثانى: أن يكون الخروج مغالبة
663- يشترط ليكون الخروج بغيًا أن يكون مغالبة أى أن يكون استعمال القوة هو وسيلة الخروج وأن يكون الخروج مصحوبًا بالمغالبة أى باستعمال القوة, فإذا كان الخروج غير مصحوب باستعمال القوة فلا يعتبر بغيًا كرفض مبايعة الإمام بعد أن بايعت له الأغلبية ولو نادى الخارجون بعزل الإمام أو بعصيانه وعدم طاعته أو بالامتناع عن أداء ما عليهم من واجبات تقوم الدولة على استيفائها. ولكن إذا فعل الخارجون شيئًا محرمًا عوقبوا عليه باعتباره جريمة عادية. ومثل الامتناع عن البيعة ما وقع من بعض الصحابة فى صدر الإسلام, فقد امتنع على عن مبايعة أبى بكر أشهر ثم بايع, ورفض سعد بن عبادة مبايعته ولم يبايعه حتى مات. وكامتناع عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير عن المبايعة ليزيد. ومن الأمثلة على ذلك ما وقع من الخوارج فى عهد عليّ, فإن عليًا لم يتعرض لهم حتى استعملوا القوة, ولم يعتبرهم بغاة إلا بعد استعمالها. وكان يخطب يومًا فقال رجل بباب المسجد: لا حكم إلا لله, وهى عبارة كان الخوارج يتنادونها يعرِّضون بقبول على التحكيم. فقال على: كلمة حق أريد بها باطل, لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله, ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا, ولا نبدؤكم بقتال. وكان يصلى يومًا فناداه رجل من الخوارج: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين؛ يعرِّض به على اعتبار أنه كفر بقبول التحكيم, فأجابه على: فاصبروا إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. ويدللون على هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه فى المدينة فلأن لا تتعرض لأهل البغى(2/687)
وهم من المسلمين أولى. وتلك كانت سيرة عمر بن عبد العزيز فى الخوارج: كتب إليه عدى بن أرطأة أن الخوارج يسبونك, فكتب إليه: إن سبونى فسبوهم, وإن شهروا السلاح فأشهروا عليهم, وإن ضربوا فاضربوا.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الولاة فى شأن الخوارج فقال: إن كان رأى القوم أن يسيحوا فى الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة ولا على قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا, وإن كان رأيهم القتال فوالله لو كان أبكارى خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله.
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا مقالة على بعد أن جرحه ابن ملجم, قال على: أطعموه واسقوه واحبسوه, فإن عشت فأنا ولى دمى أعفو إن شئت وإن شئت استقدت, وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به. فقد اعتبر على جريمة ابن ملجم جريمة عادية ولم يعتبره باغيًا لأن خروجه لم يكن مغالبة (1) .
ويروى الحضرمى يقول: دخلت مسجد الكوفة من قِبَل أبواب كندة, فإذا نفر خمسة يشتمون عليًا وفيهم رجل عليه بُرْنُس يقول: أعاهد الله لأقتلنه, فتعلقت به وتفرقت أصحابه عنه, فأتيت به عليًا فقلت: إنى سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك, فقال: ادْنُ, ويحك من أنت؟ فقال أنا سور المنقرى. فقال على: خل عنه. فقلت: أخلى عنه وقد عاهد الله ليقتلنك؟! قال: أفأقتله ولم يقتلني؟ (2) .
ويعتبر الخروج بغيًا عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين حينما يبدأ الخارجون باستعمال القوة فعلاً, أما قبل استعمالها فلا يعتبر الخروج بغيًا ولا يعتبرون بغاة ويعاملون كما يعامل العادلون ولو تحيزوا فى مكان وتجمعوا ولو كانوا يقصدون استعمال القوة فى الوقت المناسب, ولكن ليس ثمة ما يمنع من
_________
(1) المهذب ج2 ص237, 238, مواهب الجليل ج6 ص278, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, المغنى ج10 ص58, 60, كشاف القناع ج4 ص99.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص409.(2/688)
منعهم من التحيز وتعزيرهم على التجمع بقصد استعمال القوة ولإثارة الفتنة. أما أبو حنيفة فيعتبرهم بغاة, ويعتبر حالة البغى قائمة من وقت تجمعهم بقصد القتال والامتناع من الإمام لأنه لو انتظر حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع. ومذهب الشيعة الزيدية يماثل مذهب أبى حنيفة فى هذا. والأصل عند الجميع أن البغاة لا يحل قتالهم إلا إذا قاتلوا, فمن نظر إلى حقيقة القتال اشترط أن يقع القتال فعلاً, ومن نظر إلى وجودهم فى حال قتال اكتفى بتجمعهم بقصد القتال والامتناع (1) , على أن الرأى الراجح فى مذهب أحمد يرى قتل الخوارج لأنهم كفار بتكفيرهم المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم.
ولا يبدأ الإمام قتال الخارجين إلا بعد أن يراسلهم ويسألهم عن سبب خروجهم, فإن ذكروا مظلمة أزالها أو شبهة كشفها, لأن ذلك طريق إلى الصلح ووسيلة إلى الرجوع إلى الحق, وقد فعل على هذا فى وقعة الجمل وفعله مع الحرورية, ولأن الله جل شأنه يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِي} [الحجرات:9] , فيجب أن يتقدم ما قدمه الله وهو الصلح ويتأخر ما أخره وهو القتال, ثم يدعوهم بعد ذلك للطاعة فإن استجابوا وإلا قاتلهم, إلا أن يعاجلوه بالقتال فله أن يقاتلهم دون أن يسألهم. ويرى أحمد أن له أيضًا إذا خشى كَلَبَهُم فليس من المتعين أن يراسلهم (2) .
وقد راسل على أهل البصرة قبل وقعة الجمل, وأمر أصحابه أن لا يبدءوهم بقتال, ثم قال: هذا يوم من فَلَج فيه فَلَج يوم القيامة, ثم سمعهم يقولون: الله أكبر يا ثارات عثمان, فقال: اللهم أكب قتلة عثمان على وجوههم. كذلك بعث عبد الله بن عباس للحرورية فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف.
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص410, الروض النضير ج4 ص331, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, نهاية المحتاج ج7 ص383.
(2) المغنى ج10 ص53, كشاف القناع ج4 ص96, شرح فتح القدير ج4 ص409, أسنى المطالب ج4 ص144, المحلى ج11 ص99.(2/689)
وإنما وجبت المراسلة والدعوة للطاعة لأن المقصود من القتال هو كفهم ودفع شرهم لا قتلهم؛ فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين, فإن سأله الخوارج لإنظار لمدة معينة أنظرهم إن رأى فى ذلك مصلحة, وإن ظن أنهم يريدون المهلة ليكيدوا له لم ينظرهم ثلاثة أيام (1) , ويشترط الزيدية أن تكون الدعوة للطاعة, وإذا أمكن دفع البغاة بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم وليس إهلاكهم, ولأن المقصود إذا حصل بما دون القتل لم يجز القتل من غير حاجة.
وإذا حضر مع البغاة من لا يقاتل فيرى الحنابلة أنه لا يجوز قتله, وهذا هو رأى بعض الشافعيين, ويرى الآخرون قتله مادام فى صف البغاة ولو لم يقاتل لأنه يعتبر رِدْءًا لهم. والظاهر فى المذاهب الأخرى أن حكم من حضر المعركة وكان فى صفوف البغاة أن له حكمهم إذا أمكن اعتباره فى مركز المقاتل أو المدافع (2) .
وتعتبر حالة البغى قائمة طالما كان الباغى فى مركز المقاتل أو المدافع, فمن ألقى سلاحه من البغاة أو كف عن القتال أو استسلم أو عجز عن القتال كالجريح جرحًا يمنعه من القتال أو هرب غير متحيز إلى فئة أو متحرفًا لقتال فلا يجوز قتله لأنه لا يجوز قتاله حيث زالت حالة البغى وهى استعماله القوة. وعلى هذا لا يقتل المدبر ولا الأسير ولا يجهز على الجريح سواء كانت حالة الحرب قائمة أو انتهت, وهذا هو ما يراه الشافعى وأحمد. وفى مذهب أحمد: لا يتبع المدبر أصلاً ولا يقتل ولو كان متحيزًا إلى فئة (3) .
ومذهب الشافعى على إتباع المنهزمين إذا انهزموا إذا انهزموا مجتمعين أو انسحبوا
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص538, المغنى ج10 ص54, أسنى المطالب ج4 ص114, المحلى لابن حزم ج11 ص116.
(2) المغنى ج10 ص55, المهذب ج2 ص235, المحلى ج11 ص100.
(3) المغنى ج10 ص55, 56, 63, كشاف القناع ج4 ص98.(2/690)
بنظام وكانوا غير متفرقين, فإذا انهزموا متفرقين بحيث تزول شوكتهم لم يتبعوا, وإلا اتبعوا حتى يتبددوا وتزول شوكتهم, ومن تخلف منهم عجزًا أو ألقى سلاحه تاركًا للقتال لم يقاتل, ويقاتل من ولَّى متحرفًا للقتال أو متحيزًا لفئة قريبة أو بعيدة (1) .
فإذا انهزموا وولوا مدبرين, فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها فيبقى لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم ويجهزوا على جريحهم لئلا يتحيزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها فيكرَّوا على أهل العدل, وأما أسيرهم فإن شاء الإمام قتله استئصالاً لشأفهم وإن شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس, وإن لم يكن لهم فئة يتحيزون إليها لم يتبع مدبرهم ولو يجهز على جريحهم ولو يقتل أسيرهم (2) . وبعض أصحاب الشافعى يرون رأى أبى حنيفة (3) .
والقاعدة عند مالك أن لا يتبع المنهزم ولا يجهز على الجريح إلا إذا خيف منهم أو انحازوا إلى فئة, ففى هذه الحالة يتبع المنهزم ويذفَّف على الجريح, أما الأسير فإذا كانت الحرب قائمة فللإمام قتله ولو كانوا جماعة إذا خيف أن يكون منهم ضرر, فإذا انقطعت الحرب فلا يقتل (4) . على أن بعض المالكيين يمنع قتل الأسير وتتبع المدبر والإجهاز على الجريح بصفة مطلقة (5) .
ويرى الظاهريون أنه لا يجوز قتل الأسير بأى حال ولو أن قتله كان مباحًا قبل الأسار لأن حل قتله قبل لإسار ليس مطلقًا, وإنما الذى أحل قتله هو قتاله أو دفاعه, فإذا لم يكن باغيًا أى مقاتلاً أو مدافعًا حرم قتله لزوال حالة البغي, وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيًا ولا مدافعًا فدمه محرم, وكذلك لو ترك
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص114.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص140, 141, شرح فتح القدير ج4 ص411, 412.
(3) المغنى ج10 ص63.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص62, مواهب الجليل ج6 ص278.
(5) مواهب الجليل ج6 ص277.(2/691)
القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه وإن لم يؤسر لأن الله جل شأنه قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] , فمن فاء فلا يقاتل, وإنما حل قتال الباغى بمقاتلته ولم يحل قتله قط فى غير المقاتلة (1) , وكذلك الحكم فى الجرحى؛ لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير وأما ما لم يقدر عليه وكان ممتنعًا فهو باغ. أما المدبرون فإن كانوا تاركين للقتال جملة منصرفين إلى بيوتهم فلا يحل اتباعهم أصلاً, وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لاذين بمعقل يمتنعون فيه أو زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنوهم فيه ثم يعودون إلى حالهم فيتبعون (2) ؛ لأن الله افترض قتالهم حتى يفيئوا لأمر الله ولم يفيئوا بعد. ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة (3) .
وإذا قتل من البغاة أسير أو جريح أو مدبر عند من لا يجيزون قتله فقاتله مسئول عن قتله جنائيًا. ويرى بعضهم القصاص من القاتل لأنه قتل معصومًا لا شبهة فى قتله. ويرى البعض أن لا قصاص لأن فى قتلهم اختلافًا بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص عند من يقولون بأن الشبهات تدرأ الحدود. والظاهريون لا يعترفون بأن الحدود تدرأ بالشبهات. فمقتضى مذهبهم القصاص فى كل الأحوال (4) .
ويحبس الأسرى - إلا من دخل منهم فى الطاعة فيخلى سبيله - ويظلون محبوسين حتى تنتهى الحرب. وإذا كان الأسير امرأة أو صبيًا أو شيخًا فانيًا أخلى سبيلهم ولم يحبسوا فى رأى. وفى الرأى الآخر يحبسون لأن فى ذلك كسرًا لقلوب البغاة. والرأيان فى مذهب أحمد والشافعي, أما مالك وأبو حنيفة فيريان الحبس (5) .
_________
(1) المحلى ج11 ص100.
(2) المحلى ج11 ص101.
(3) شرح الروض النضير ج4 ص332, شرح الأزهار ج4 ص534.
(4) المغنى ج10 ص64, المهذب ج2 ص336.
(5) المهذب ج2 ص336, المغنى ج10 ص64, شرح فتح القدير ج4 ص412, شرح الزرقانى ج8 ص62.(2/692)
ويجوز تبادل الأسرى وأخذ الرهائن بين الفريقين عند الضرورة ولكن لا يجوز لأهل العدل قتل الأسرى أو الرهائن على سبيل المعاملة بالمثل لو قتل البغاة الرهائن أو الأسرى لأنهم مسلمون غير مقاتلين ولا مغالبين. مع ملاحظة ما سبق أن قلناه من أن بعض الفقهاء يجيز قتل الأسرى فى حالة قيام الحرب, أما منع قتل الرهائن فلا خلاف فيه لأنهم غير مقاتلين ولأنهم صاروا آمنين بالموادعة (1) .
ويرى مالك وأبو حنيفة أنه يجوز قتال البغاة بما يعم إتلافه كالحريق والتغريق ورمى المنجنيق ويقاتلون بكل ما يقاتل به المشركون, لأن القتال مقصود به دفع شرهم وكسر شوكتهم فيقاتلون بكل ما يؤدى لذلك (2) . ويرى بعض المالكيين أن لا يقاتلوا بما يعم إتلافه إذا كان فيهم نساء وذرية, ولا يراه البعض الآخر (3) .
ومذهب الشافعى وأحمد أن لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق والتغريق من غير ضرورة, لأنه لا يجوز قتل من يقاتل وما يعم إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل, فإن دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم إتلافه جاز ذلك, أما إذا قاتل البغاة بما يعم إتلافه فيجوز قتالهم بمثله (4) .
ويجيز الشيعة الزيدية القتل بما يعم إتلافه بشرطين: أولهما: أن يتعذر الوصول إلى البغاة إلا بذلك كأن يتحصنوا فى حصن أو بيوت مانعة أو فى سفينة البحر, ثانيهما: أن يكون بينهم من لا يجوز قتله كالصبيان والنساء, فإن لم يجتمع
_________
(1) المحلى ج11 ص117, 118, شرح فتح القدير ج4 ص415, المغنى ج10 ص64, أسنى المطالب ج4 ص114.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص141, شرح فتح القدير ج4 ص411.
(3) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص61.
(4) أسنى المطالب ج4 ص115, المغنى ج10 ص57.(2/693)
هذان الشرطان يجوز استعمال ما يعم إتلافه إلا لضرورة ملحة (1) .
ويجيز الظاهريون القتال بما يعم تلفه بشرط أن لا يؤدى إلى قتل غير البغاة؛ لأن من لا يقاتل لا يحل قتله (2) .
ويكره للعادل قتل أبيه أو أمه إذا كان أحدهما باغيًا ولكن القاتل يرث القتيل مع هذا لأنه عمد غير عدوان, ولا يكره قتل الجد ولا الأخ ولا الابن (3) . أما أبو حنيفة فيكره للعادل أن يقتل باغيًا ذا رحم محرم منه ابتداء إلا إذا أراد الباغى قتله فله أن يدفعه, ولا يحرم العادل ميراث الباغي, أما الباغى إذا قتل العادل فيحرم من ميراثه عند أبى يوسف. وعند أبى حنيفة ومحمد لا يحرم إن كان يعتقد أنه قتله بحق ولا يزال على هذا الاعتقاد (4) .
ومذهب الشافعى كمذهب أبى حنيفة فى كراهة القتل, ولكنه لا يورث العادل ولا الباغى شيئًا من مال المقتول لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لقاتل شيء", وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما: يكره قتل ذى الرحم المحرم, والثانى: لا يرثه لأنه ليس لقاتل شيء, وأما الباغى إذا قتل العادل فإنه لا يرثه لأنه قتله بغير حق (5) .
وحجة القائلين بالكراهة قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - كف أبا حذيفة ومنعه عن قتل أبيه.
ورأى الظاهريين أن قتل ذى الرحم غير مكروه وإن كانوا لا يختارون أن يعمد المرء إلى أبيه أو أخيه خاصة ما دام يجد غيرهما, فإن رأى أباه أو أخاه يقصد مسلمًا كان عليه أن يدفعه عن المسلم (6) .
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص541, 542.
(2) المحلى ج11 ص116, 117.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص62.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص141, 142, شرح فتح القدير ج4 ص414, 416.
(5) المغنى ج10 ص67, 68, أسنى المطالب ج4 ص115.
(6) المحلى ج11 ص107.(2/694)
ولكن الشيعة لا يجيزون للمسلم أن يقتل ذا رَحِمه ولو كان كافرًا إلا لأحد وجهين: أحدهما: أن يقتله مدافعًا عن نفسه أو غيره, الثانى: أن لا يندفع إلا بالقتل, ويرث العادل الباغى إذا قتله (1) .
والبغى إذا كان يحل مقاتلة البغاة ويبيح دماءهم طالما كانوا باغين إلا أنه لا يبيح أموالهم حتى فى حالة البغي, فتظل أموالهم معصومة ولو وقعت فى يد العادلين. ويرى مالك أنه لا يجوز قطع أشجارهم ولا هدم دورهم ولا إتلاف أموالهم وإنما للإمام أن يستعين بأموال البغاة التى يمكن استعمالها فى القتال فيقاتلهم بها كالأسلحة والخيل والإبل حتى إذا تغلب عليهم رد عليهم ما استعان به وغيره (2) .
ويرى أبو حنيفة أن أموال البغاة تظل على ملكهم لأن عليًا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر بعد الهزيمة, ولا يفتح باب, ولا يستحل فرج ولا مال, وبعد موقعة النهروان جمع ما غنم من الخوارج فى الرحبة فمن عرف شيئًا أخذه حتى كان أخره قدر من الحديد لإنسان جاء فأخذه.
ويرى أبو حنيفة ما يراه مالك من جواز استعمال السلاح والكُراع إن احتاجه أهل العدل لأن للإمام أن يستعين بمال العادل عند حاجة المسلمين إليه ففى مال الباغى أولى, أما بقية الأموال فتحبس عن البغاة لدفع شرهم وإضعافهم بذلك ولا ترد إليهم حتى يفيئوا فترد عليهم أو على ورثتهم, ويجوز للإمام أن يبيع من الأموال ما يحتاج نفقة ويحبس الثمن (3) .
ويرى الشافعى أنه لا يجوز استعمال شىء من أموال البغاة وأنها ترد جميعًا بعد انتهاء الحرب لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه, لكن إذا اقتضيت الضرورة استعمال مال من أموال البغاة جاز استعماله كما لو تعين استعمال سلاحهم للدفاع أو استعمال خيلهم للتغلب عليهم, ويرى البعض أن
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص541.
(2) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص61.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص412, 413.(2/695)
تؤدى أجرة المال المستعمل كما هو الشأن فى حالة الضرورة, ولا يرى البعض ذلك لأن الضرورة هنا منشؤها فعل البغاة ولم تنشأ من جهة المضطر (1) .
وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما كمذهب أبى حنيفة ومالك, والثانى كمذهب الشافعي (2) .
وكمذهب الظاهريين كمذهب الشافعى فهم يرون الحيلولة بين البغاة وبين كل ما يستعينون به على باطلهم من مال أو سلاح فيحبس عنهم حتى يفيئوا, ولا يجوز استعماله إذا اضطر أهل العدل لأن يدافعوا به عن أنفسهم (3) .
ويرى الشيعة الزيدية أنه لا يجوز الاستعانة بأموال البغاة أيًا كان نوعها, فإذا استعملها الإمام كان ضامنًا لها (4) .
على أن من الشيعة من يرى أن ما كان فى معسكر البغاة من الأموال يحل أخذه غنيمة لأهل العدل (5) .
وللإمام أن يستعين على قتال البغاة ببغاة مثلهم حتى إذا انتصر دعا من معه إلى الطاعة, وليس له - عند أحمد والشافعى - أن يستعين على قتالهم بالكفار بل ولا بمن يرى قتلهم مدبرين من المسلمين. ويرى أبو حنيفة أن للإمام الاستعانة على البغاة إذا كان حكم أهل العدل هو الظاهر, وهذا هو رأى الشيعة الزيدية. أما الظاهريون فلا يوجبون الاستعانة بأهل الحرب وأهل الذمة إذا اضطرتهم حماية أنفسهم لذلك بشرط أن يوقنوا أنهم فى استنصارهم لا يؤذون مسلمًا ولا ذميًا فى مال ولا حرمة. أما الاستعانة بأهل البغى فلا يمنعها الظاهريون (6) .
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص114, 115,
(2) المغنى ج10 ص65, 66.
(3) المحلى ج11 ص102.
(4) شرح الأزهار ج4 ص542.
(5) الروض النضير ج4 ص330.
(6) المحلى ج11 ص113, شرح فتح القدير ج4 ص416, المغنى ج10 ص57, أسنى المطالب ج4 ص115, 116, شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح الأزهار ج4 ص533.(2/696)
ولم أعثر على رأى مالك فى الاستعانة على البغاة بالذميين, وإن كان رأيه فى الجهاد أن لا يستعان بمشرك إلا فى خدمة الجيش المحارب فأولى ألا يستعان به فى محاربة مسلم.
* * *
الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي)
664- يشترط لوجود البغى أن يتوفر لدى الخارج القصد الجنائى, والقصد المطلوب توفره هو القصد الجنائى العام؛ أى قصد الخروج على الإمام مغالبة, فإذا كان الخارج لم يقصد من فعله الخروج على الإمام أو لم يقصد المغالبة فهو ليس باغيًا.
ويشترط أن يكون الخروج على الإمام بقصد خلعه أو عدم طاعته أو الامتناع من تنفيذ ما يجب على الخارج شرعًا, فإن كان الخارج قد خرج امتناعًا عن المعصية فهو ليس باغيًا, وإذا ارتكب الباغى جرائم قبل المغالبة أو بعد انتهائها فليس من الضرورى أن يتوفر فيها قصد البغى لأنه لا يعاقب عليها باعتباره باغيًا وإنما باعتباره عادلاً, فيشترط أن يتوفر فى كل جريمة منها القصد الجنائى الخاص بها ليعاقب عليها بعقوبتها الخاصة.
* * *
مسئولية الباغى الجنائية والمدنية
665- تختلف مسئولية الباغى الجنائية والمدنية باختلاف الحالات التى يكون فيها, فمسئوليته قبل المغالبة وبعدها تختلف عنها فى حالة المغالبة.
666- مسئولية الباغى قبل المغالبة وبعدها: يسأل الباغى مدنيًا وجنائيًا عن كل ما يقع منه من الجرائم قبل المغالبة باعتباره مجرمًا عاديًا, وكذلك عن جرائمه التى تقع بعد انتهاء المغالبة, فإذا قتل اقتص منه إذا توفرت شروط(2/697)
القصاص, وإذا أخذ مالاً خفية عوقب باعتباره سارقًا إذا توفرت شروط السرقة, وإذا غصب مالاً أو أتلفه عوقب بالعقوبة المقررة للغصب والإتلاف, وإذا امتنع عن تنفيذ ما يجب عليه عوقب بالعقوبة المقررة للامتناع, وعليه الضمان العادى فى كل الأحوال إذا أتى ما يوجب الضمان كالسرقة والغصب والإتلاف.
667- مسئولية الباغى أثناء المغالبة: الجرائم التى تقع من البغاة أثناء المغالبة والحرب إما أن تكون مما تقتضيه حالة الحرب وإما أن لا تقتضيها حالة الحرب.
فأما ما اقتضته حالة الحرب كمقاومة رجال الدولة وقتلهم والاستيلاء على البلاد وحكمها والاستيلاء على الأموال العامة وجبايتها وإتلاف الطرق والكبارى وإشعال النار فى الحصون ونسف الأسوار والمستودعات وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة الحرب, فهذه الجرائم لا يعاقب عليها بعقوبتها العادية, وتدخل جميعًا فى جريمة البغي, والشريعة تكتفى فى البغى بإباحة دماء البغاة وإباحة أموالهم بالقدر الذى يقتضيه ردعهم والتغلب عليهم, فإذا ظهرت الدولة عليهم وألقوا سلاحهم عصمت دماؤهم وأموالهم وكان لولى الأمر أن يعفو عنهم أو أن يعزرهم على بغيهم لا على الجرائم والأفعال التى أتوها أثناء خروجهم, فعقوبة البغى بعد التغلب على البغاة هى التعزير, أما عقوبة البغى فى حالة المغالبة والحرب فهى القتال إن جاز أن نسميه عقوبة وما يتبعه من قتل وجرح وقطع, والواقع أن القتال لا يعتبر عقوبة وإنما هو إجراء دفاعى لدفع البغاة وردهم إلى الطاعة ولو كان عقوبة لجاز قتل البغاة بعد التغلب عليهم لأن العقوبة جزاء على ما وقع, ولكن من المتفق عليه أنه إذا انتهت حالة المغالبة امتنع القتال والقتل. والخلاف منحصر فى قتل الأسير والإجهاز على الجريح, حيث يجيزه البعض كما قدمنا عند حالة المغالبة, ولا يجيزه البعض الآخر, فإذا انتهت حالة المغالبة فالباغى معصوم الدم لأن البغى هو الذى أباح دمه, ولا بغى إذا لم تكن مغالبة.
أما الجرائم التى تقع من الباغى أثناء المغالبة ولا تقتضيها طبيعة المغالبة فهذه(2/698)
تعتبر جرائم عادية ويعاقب عليها بعقوبتها العادية ولو أنها وقعت أثناء الخروج والمغالبة كشرب الباغى الخمر مثلاً.
668- مسئولية الباغى المدنية: ليس على أهل البغى ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفوس وأموال إذا اقتضيت إتلافه ضرورة الحرب, فأما ما لم تكن هناك ضرورة لإتلافه فى حالة الحرب وما أتلف فى غير حالة الحرب فعلى البغاة ضمانة بلا خلاف.
أما الأموال التى لم تتلف أو تلفت تلفًا جزئيًا فعلى البغاة ردها لأربابها وعليهم ضمان التلف الجزئى إذا لم تكن ضرورة الحرب هى التى اقتضت هذا التلف الجزئى. وهذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد والرأى الصحيح هو مذهب الشافعي, على أن فى مذهب الشافعى رأيًا بتضمين البغاة كل ما أتلفوه من نفس ومال فى حالة الحرب وفى غير حالة الحرب لأنهم أتلفوه بعدوان. على أن القائلين بهذا الرأى لا يرون القصاص فى القتلى لأنهم يسقطونه بالشبهة فيلزمون البغاة بديات من قتلوا (1) , ويحتج القائلون بتضمين البغاة بأن أبا بكر قال لأهل الردة: تدون قتلانا ولا ندى قتلاكم, ولأنها نفوس وأموال أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح, فوجب الضمان كالذى تلف فى غير حالة الحرب, ويحتج القائلون بعدم الضمان بأن الفتنة الكبرى كانت بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام الحد على رجل استحل فرجًا حرامًا بتأويل القرآن, ولا يقتل رجل سفك دمًا حرامًا بتأويل القرآن, ولا يغرم ما أتلفه بتأويل القرآن, ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلا تضمن ما أتلفته على الأخرى كأهل العدل, ولأن تضمينهم يقضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب, فأما قول أبى بكر رضى الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فإن عمر قال له: أما أن يدوا قتلانا فلا, فإن قتلانا قتلوا فى سبيل الله تعالى على ما أمر الله, فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله ولم ينقل أنه غرم أحدًا شيئًا, على
_________
(1) المهذب ج2 ص236, أسنى المطالب ج1 ص113, المغنى ج10 ص61, شرح فتح القدير ج4 ص414.(2/699)
أنه لو وجب التغريم فى حق المرتدين لم يلزم مثله فى حق البغاة؛ فإن أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء مسلمون لهم تأويل سائغ فلا يصح إلحاقهم بهم (1) . ويرى الشيعة الزيدية أن البغاة لا ضمان عليهم (2) .
ويرى مالك عدم تضمين الباغى ولو كان مليئًا سواء أتلف نفوسًا أو أموالاً بشرطين: أولهما: أن يكون الباغى متأولاً, فإن لم يكن متأولاً ضمن, الثانى: أن يكون الإتلاف حدث حال البغى واقتضته ضرورة المغالبة (3) .
ويسمى الباغى غير المتأول فى مذهب مالك معاندًا, ولكنهم لا يعتبرونه معاندًا إلا إذا كان خارجًا على عادل, فإن خرج على غيره فليس معاندًا ولو كان غير متأول وكان حكمه حكم المتأول.
أما الظاهريون, فالبغاة عندهم ثلاثة أصناف: صنف تأولوا تأويلاً يخفى وجهه على كثير من أهل العلم كمن تعلق بآية خصصتها آية أو بحديث خصصه آخر أو نسخه نص آخر, فهؤلاء معذورون, حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدًا أو يتلف مالاً مجتهدًا أو يقضى فى فرج خطأ مجتهدًا ولم تقم عليه الحجة فى ذلك, ففى الدم دية على بيت المال لا على الباغى ولا على عائلته ويضمن المال كل من أتلفه, وهكذا أيضًا من تأول تأويلاً خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته, وأما من تأول تأويلاً فاسدًا لا يعذر فيه, لكن خرق الإجماع أى شيء كان ولم يتعلق بقرآن ولا سنة فعليه القود فى النفس وما دونها, والحد فيما أصاب من حدود الله, وضمان ما استهلك من مال, وهكذا من قام فى طلب دنيا مجردًا بلا تأويل ومن قام عصبية (4) .
وإذا غلب البغاة على بلد فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه, فإذا ظهر أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغى لم يطالبوا بشيء مما جبى ولم يرجع به على من أُخذ منه, وهذا هو رأى مالك وأبى
_________
(1) المغنى ج10 ص62.
(2) نيل الأوطار ج7 ص79.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص62.
(4) المحلى ج11 ص107.(2/700)
حنيفة والشافعى وأحمد, وحجتهم أن فى عدم الاعتداد بذلك إضرارًا بالرعية, على أنه إذا كان قد بقى من الأموال التى جبيت شيء فى يد البغاة استولى عليها الإمام لصرفها فى مصارفها (1) . ويقصر مالك عدم الضمان على الباغى المتأول دون غيره.
ويرى الظاهريون أنه لا محل أن يكون حاكمًا إلا من ولاه الإمام الحكم, ولا أن يكون آخذًا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك, ولا أن يكون مُصَدِّقًا أو جابيًا إلا من ولاه الإمام ذلك, فكل من أقام حدًا أو أخذ صدقة أو قضى قطيعة وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام, فلم يحكم كما أمر الله, ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى, ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالي؛ فإن لم يفعل ذلك كما أُمر فلم يفعل شيئًا من ذلك بحق وإذا يفعله بحق فقد فعله بباطل, وإذا فعله بباطل فقد تعدى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] , والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فإذا هو ظالم, فالظالم لا حكم له إلا رده ونقضه. وواضح من هذا أن من أخذ صدقة فعليه ردها لأنه أخذها بغير حق فهو متعد فعليه ضمان ما أخذ, إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة فى القرآن فإذا أوصلها فقد تأدت الزكاة إلى أهلها. وصح من هذا أن كل حد أتاه فهو مظلمة لا يعتد به وتعاد الحدود ثانية ولابد وتؤخذ الدية من مال من قتلوه فورًا وأن يفسخ كل حكم حكموه ولابد.
وليس أدل على ذلك مما رواه عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى العسر والسير والمنشط والمكره, وعلى أَثَرة علينا, وأن لا ننازع الأمر أهله, وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم". وعن عرفجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون هَنَاتٌ وهنات, فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جمع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان", فصح أن لهذا
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح فتح القدير ج4 ص413, أسنى المطالب ج4 ص113, المغنى ج10 ص68.(2/701)
الأمر أهلاً لا يحل لأحدهم أن ينازعهم إياه وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل, وصح أن المنازعين فى الملك والرياسة مريدون تفريق جماعة هذه الأمة وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم, فهم عصاة بكل ذلك, وإذ هم عصاة فكل حكم حكموه وكل زكاة قبضوها وكل حد أقاموه كل ذلك منهم ظلم وعدوان, ومن الباطل أن تنوب معصية الله عن طاعته وأن يجزى الظلم عن العدل وأن يقوم الباطل مقام الحق (1) .
ويرى الشيعة الزيدية أن للإمام أن يضمن البغاة ما اقتضوه من الحقوق التى إلى الإمام من واجبات أو خراج أو مظالم أو نحو ذلك (2) .
وإذا أقام البغاة قاضيًا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل, ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد, فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم يجز قضاؤه لأنه ليس بعدل, وهذا ما يراه مالك والشافعى وأحمد وأبو حنيفة, على أن مالكًا يشترط أن يكون البغاة متأولين, وما يثبت عند قاضى البغاة يثبت عند قاضى أهل العدل من حقوق ولو لم يكن قد حكم به, وإذا سمع شهودًا فكتب بها كتابًا صح كتابة إذا توفرت فى الشهود العدالة سواء كانوا من البغاة أم لا, ولكن أبا حنيفة لا يقبل شهادة البغاة مطلقًا لفسقهم (3) .
مسئولية من يعين البغاة: قد يستعين البغاة بغيرهم من الذميين أو المحاربين, ولكل صنف حكمه.
669- الاستعانة بالذميين: يفرق مالك بين ما إذا كان الباغى متأولاً أو معاندًا والباغى المعاند عنده هو غير المتأول, فإن استعان البغاة المتأولين بذميين فحكم الذميين هو حكم البغاة الذين أعانوهم؛ يسألون جنائيًا عما يسألون
_________
(1) المحلى ج11 ص111, 112.
(2) شرح الأزهار ج4 ص557.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح فتح القدير ج4 ص416, أسنى المطالب ج4 ص112, 113, المغنى ج10 ص70.(2/702)
عنه ويضمنون مدنيًا ما يضمنونه. وإذا استعان البغاة المعاندون بذميين اعتبر الذميون ناقضين لعهدهم وحلت دمائهم وأموالهم كالحربيين سواء بسواء.
ويعتبر مالك هذه الحالة بأن يكون المعاند خارجًا على الإمام العدل, فإن كان الخروج على غيره فلا يعتبر الخارج معاندًا ولو كان غير متأول والذمى معه لا يعتبر ناقضًا (1) .
ويرى أبو حنيفة أنه لو استعان أهل البغى بأهل الذمة فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضًا للعهد كما أن هذا الفعل من أهل البغى ليس نقضًا للإيمان, فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام فى المعاملات وأن يكونوا من أهل الدار فحكمهم حكم البغاة مسئوليتهم جميعًا واحدة من الناحيتين الجنائية والمدنية (2) .
وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: أولهما: أن إعانة الذميين بالبغاة تنقض عهدهم كما لو انفردوا بقتال المسلمين, والثانى: أن عهدهم لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون الحق من الباطل فيكون ذلك شبهة لهم. ويترتب على القول بنقض العهد أن الذميين يصبحون كأهل الحرب, ويترتب على القول بعدم النقض أن يكون حكمهم حكم أهل البغى فى قتل قتيلهم والكف عن مدبرهم وأسيرهم وجريحهم, إلا أن أصحاب هذا الرأى يرون تضمين الذميين ضمانًا تاماُ فيسألون عن جرائمهم حال القتال وغيره, فإن قتلوا أو جرحوا أو أتلفوا سئلوا جنائيًا عن كل ذلك وعليهم ضمان المال المتلف ورد القائم سواء أتلف فى حال الحرب واقتضت ضرورة الحرب إتلافه أم لا. ويعللون التفرقة بين البغاة والذميين بأن البغاة لهم تأويل سائغ والذميين لا تأويل لهم, ولأن إسقاط المسئولية عن المسلمين قصد منه عدم تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة ولا يخشى تنفير الذميين عن الطاعة لأن تأمينهم مشروط بالطاعة. والقائلون بنقض العهد يرون أن إكراه البغاة الذميين على معاونتهم يمنع من نقض العهد, وأن اعتقاد الذميين بأنهم ملزمون
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص62.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص415.(2/703)
بمعاونة البغاة يمنع أيضًا من نقض العهد (1) .
670- الاستعانة بأهل الحرب: إذا استعان البغاة بأهل الحرب فإما أن يكونوا مستأمنين أو غير مستأمنين:
فإن كانوا مستأمنين فأعانوهم نقضوا عهدهم بالإعانة وصاروا كأهل الحرب غير المستأمنين لأنهم تركوا شرط الأمان وهو الكف عن المسلمين, فإن فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض عهدهم.
وأن كانوا غير مستأمنين فاستعان بهم البغاة وأمَّنوهم أو عقدوا لهم ذمة لم يصح من ذلك شيء؛ لأن شرط الأمان الأساسى هو الكف عن المسلمين والبغاة يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح الأمان, ولأهل العدل يقاتلوهم كمن لم يؤمِّنوه سواء. وحكم أسيرهم حكم أسير سائر أهل الحرب قبل الاستعانة بهم, فأما أهل البغى فلا يجوز لهم قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم (2) .
أما إذا عقد البغاة ذمة لحربيين أو عاهدوهم ولم يشترطوا عليهم أن يعينوهم على أهل العدل فعقود أهل البغى نافذة فى حق أهل العدل؛ لأن البغاة مسلمون وأمان المسلم إذا كان فى حقه فهو نافذ على جميع المسلمين, فإذا استعانوا بهم فأعانوهم انتقض العهد فى حق أهل العهد.
ويرون فى مذهب أبى حنيفة أن العادل يجوز له أن يؤمن الباغي, فإذا أمن رجل من أهل العدل رجلاً من أهل البغى جاز أمانه لأنه ليس أعلى شقاقًا من الكافر وهناك يجوز فكذا هنا, ولأنه قد يحتاج المناظرة ليثوب ولا يأتى ذلك ما لم يأمن كل الآخر, لكن إذا أمن ذمى يقاتل مع أهل العدل باغيًا فلا يجوز أمانه (3) .
_________
(1) المغنى ج10 ص72, المهذب ج2 ص237.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص416, المغنى ج10 ص71, المهذب ج2 ص237, أسنى المطالب ج4 ص115.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص416.(2/704)
ولكن غيرهم يرى أن أمان أهل البغى بأيديهم متى تركوا القتال حرمت دمائهم وكانوا إخواننا, وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم إعطاؤهم الأمان على ذلك, فالأمان والإجارة هنا هدر ولغو, وإنما الأمان والإجارة للكافر الذى يحل للإمام قتله إذا أسروه واستبقاؤه لا فى مسلم إن ترك بغيه كان هو ممن يعطى الأمان ويجير, ولو أن أحدًا من أهل البغى أجار كافرًا جازت إجارته كإجارة غيره ولا فرق: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجير على المسلمين أدناهم" (1) .
* * *
_________
(1) المحلى ج11 ص117.(2/705)
الكتاب السابع
الردة
671- النصوص الواردة فى الردة: قال الله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] , وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه".
672- تعريف الردة: الردة لغة هى الرجوع, فالراجع مرتد, ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] , وتعرف الردة شرعًا بأنها الرجوع عن الإسلام أو قطع الإسلام, وكلا التعبيرين بمعنى واحد (1) .
أركان الردة
673- للردة ركنان: أولهما: الرجوع عن الإسلام, ثانيهما: القصد الجنائى.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134, حاشية ابن عابدين ج3 ص391, مواهب الجليل ج6 ص279, شرح الزرقانى ج8 ص62, نهاية المحتاج ج7 ص393, أسنى المطالب ج4 ص116, شرح الأزهار ج4 ص575, كشاف القناع ج4 ص100.(2/706)
الركن الأول: الرجوع عن الإسلام
674- الرجوع عن الإسلام: هو ترك الإسلام؛ أى ترك التصديق به, والرجوع يكون بأحد طرق ثلاثة: بالفعل أو بالامتناع عن الفعل, وبالقول, وبالاعتقاد.
فالرجوع عن الإسلام بالفعل يحدث بإتيان أى فعل يحرمه الإسلام إذا استباح الفاعل إتيانه سواء أتاه متعمدًا أو أتاه استهزاء بالإسلام واستخفافًا أو عنادًا ومكابرة؛ كالسجود لصنم أو للشمس أو القمر أو لأى كوكب, وكإلقاء المصحف وكتب الحديث فى الأقذار أو وطأها استهزاءً بها أو استخفافًا بما جاء فيها أو عنادًا, ويكون أيضًا بإتيان المحرمات مع استحلال إتيانها كأن يزنى الزانى وهو يعتقد أن الزنا غير محرم بصفة عامة أو غير محرم عليه, وكاستحلال شرب الخمر واستحلال قتل المعصومين وسلب أموالهم, فمن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكم بين المسلمين وزالت الشبهة فى حله بالنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر, وكذلك إن استحل قتل المعصومين أو أخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل, أما إذا كان الاستحلال بتأويل كما هو حال الخوارج فأكثر الفقهاء لا يرون كفر الفاعل, وقد عرف عن الخوارج أنهم يكفِّرون كثيرًا من الصحابة والتابعين ويستحلون دماءهم وأموالهم ويعتقدون أنهم يتقربون إلى الله جل شأنه بقتلهم, ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم, وكذلك الحكم فى كل محرم استُحل بتأويل فلا يعتبر فاعله مرتدًا.
ومن الأمثلة على استحلال المحرم بالتأويل ما فعله قدامة بن مظعون فقد شرب الخمر مستحلاً لها, وكذلك فعل أبو جندل بن سهل وجماعة معه شربوا الخمر فى الشام مستحلين لها مستدلين بقول الله جل شأنه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ(2/707)
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [المائدة:93] , فلم يكفروا بفعلهم وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم حد الخمر باعتبارهم عاصين. ومن استحل محرمًا يجهل تحريمه فلا يعتبر مرتدًا إذا ثبت أنه يجهل التحريم ويعرف أن الفعل محرم, فإذا عاد له مستحلاً إياه فهو كافر لا شك فى كفره, أما إن أتاه غير مستحل له فهو عاصٍ لا كافر (1) .
ويعتبر راجعًا عن الإسلام من امتنع عن إتيان فعل يوجبه الإسلام إذا أنكر هذا الفعل أو جحده أو استحل عدم إتيانه؛ كأن يمتنع عن أداء الصلاة أو الزكاة أو الحج جاحدًا لها منكرًا إياها. وكذلك الامتناع عن كل ما أوجبته الشريعة وأجمع على وجوبه. ويعتبر الممتنع كافرًا إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك, فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث عهد بالإسلام أو ناشئ بغير داره أو ببادية بعيده عن الأمصار وأهل العلم, لم يحكم بكفره, ويعرَّف ذلك وتبين له أدلة وجوب ما ينكره, فإن جحد بعد ذلك كفر, أما إذا كان الجاحد ناشئًا فى الأمصار بين أهل العلم بالشريعة فإنه يكفر بمجرد الجحد, وكذلك الحكم فى مبانى الإسلام كلها ومبادئه الأولية المتفق عليها؛ لأن أدلة وجودها لا تكاد تخفى والكتاب والسنة مشحونان بأدلتها والإجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للإسلام ممتنع عن التزام أحكامه, غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته (2) .
ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع فى عصرنا الحاضر الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين الوضعية بدلاً منها, والأصل فى الإسلام أن الحكم بما أنزل الله واجب وأن الحكم بغير ما أنزل الله محرم,
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص279, 280, شرح الزرقانى ج8 ص62, 65, نهاية المحتاج ج7 ص395, 396, أسنى المطالب ج4 ص116, 118, حاشية ابن عابدين ج3 ص391, 393, المغنى ج10 ص85, كشاف القناع ج4 ص101-103, شرح الأزهار ج4 ص575-577.
(2) نفس المراجع السابقة.(2/708)
ونصوص القرآن صريحة وقاطعة فى هذه المسألة, فالله جل شأنه يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف:40] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] , ويقول: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] , ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] , ويقول: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] , ويقول: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] , وقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] , وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] .
ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء فى أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له طاعة, وأن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيًا كانت, ومن المتفق عليه أم من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته, فإنه يصدق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر والظلم والفسق كل بحسب حالته, فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعًا, ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان فى حكمه مضيعًا لحق أو تاركًا لعدل أو مساواة وإلا فهو فاسق, ومن المتفق عليه أن من رد شيئًا من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك(2/709)
أو من جهة ترك القبول أو الامتناع عن التسليم, ولقد حكم الصحابة بارتداد مانعى الزكاة واعتبروهم كفارًا خارجين عن الإسلام لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول ولم يسلم بقضائه وحكمه فليس من أهل الإيمان, قال جل شأنه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65] (1) .
ويعتبر خروجًا عن الإسلام صدور قول من الشخص هو كفر بطبيعته أو يقتضى الكفر؛ كأن يجحد الربوبية فيدعى أن ليس ثمة إله أو يجحد الوحدانية فيدعى أن لله شركاء أو يقول بأن لله صاحبة أو ولدًا, ويدعى النبوة أو يصدق مدعيها, أو ينكر الأنبياء والملائكة أو أحدهم, أو جحد القرآن أو شيئًا منه, أو جحد البعث أو أنكر الإسلام أو الشهادتين, أو أعلن براءته من الإسلام, أو قال إن الشريعة لم تجئ لتنظيم العلاقات بين الإفراد والجماعات والحاكمين والمحكومين, وأن أحكامها ليست واجبة التطبيق فى كل الأحوال وعلى كل المسائل, أو قال إن أحكام الشريعة كلها أو بعضها ليست أحكامًا دائمة وإن بعضها أو كلها موقوت بزمن معين, أو قال إن أحكام الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر وإن غيرها من أحكام القوانين الوضعية خير منها.
ويعتبر خروجًا عن الإسلام كل اعتقاد منافٍ للإسلام كالاعتقاد بقدم العالم وأن ليس له موجد, وكاعتقاد حدوث الصانع, والاعتقاد باتحاد المخلوق والخالق, أو بتناسخ الأرواح, أو باعتقاد أن القرآن من عند غير الله, أو أن محمدًا كاذب, أو أن عليًا إله أو أنه هو الرسول, وغير ذلك من الاعتقادات المنافية للقرآن والسنة, وكذلك الاعتقاد بأن الشريعة لا تصلح للتطبيق فى هذا العصر أو أن
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214, أعلام الموقعين ج1 ص57, 58, تفسير المنار ج6= =ص405, روح المعانى للألوسى ج6 ص140, تفسير الطبرى ج6 ص119, تفسير القرطبى ج6 ص100, التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص196-206.(2/710)
تطبيقها كان سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم, أو أنه لا يصلح المسلمين إلا التخلص من أحكام الشريعة والأخذ بأحكام القوانين الوضعية.
ويلاحظ أن الاعتقاد المجرد لا يعتبر ردة يعاقب عليها ما لم يتجسم فى قول أو عمل, فإذا لم يتجسم الاعتقاد الكفرى فى قول أو عمل فلا عقاب عليه, لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عفا لأمتى عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم", فإذا اعتقد المسلم اعتقادًا منافيًا للإسلام أيًا كان هذا الاعتقاد فهو لا يخرجه عن الإسلام إلا إذا أخرجه من سريرته فى قول أو عمل, فإذا لم يخرجه من سريرته فهو مسلم ظاهرًا فى حكم الدنيا, أما فى الآخرة فأمره لله فإذا أظهر اعتقاده المنافى للإسلام فى قول أو فعل وثبت ذلك عليه فقد ثبتت عليه الردة.
ويختلف الفقهاء فى ماهية السحر وفى حكم الساحر, فأما فى ماهية السحر فإنهم يسلمون للسحر أثره, ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان حقيقة أو تخيلاً فرأى البعض أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تخيل واحتجوا بقول الله جل شأنه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] , ورأى البعض أن السحر له حقيقة واحتجوا بقوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} [الفلق:4] , أى السواحر, وقالوا: لو أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه, كما احتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} إلى قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] , وقالوا إن من المشهور بين الناس عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متواترًا لا يمكن جحده.
ومن المتفق عليه أن تعلُّم السحر وتعليمه حرام, واعتقاد إباحته كفر, ولكنهم اختلفوا فى حكم الساحر, فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الساحر(2/711)
يكفر بتعلم السحر وبفعله سواء اعتقد تحريمه أو لم يعتقده, ويقتل بذلك دون استتابة لما روى عن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حد الساحر ضربه بالسيف", ولذلك يرى الحنفيون قتل المرأة ولو أنهم لا يرون قتل المرأة المرتدة لأن الساحر يقتل حدًا لا ردة واو أنه يكفر بسحره, والمرتد يستتاب أما فى الحد فلا استتابة إلا حيث يوجد نص, ولا نص (1) .
وهناك رواية عن أحمد بأن الساحر لا يكفر بتعلم السحر ولا بفعله, وإنما هو عاصٍ يؤدب ويستتاب (2) .
ويرى الشافعى أن الساحر لا يعتبر مرتدًا إلا إذا أتى فى سحره بقول أو فعل يكفره كالإشراك بالله والسجود للشمس أو الكواكب أو إذا استحل السحر, فإن لم يأت بشيء من الكفر الذى لا خلاف فيه فهو مسلم عاص (3) .
ولا يأخذ الشافعيون بحديث جندب ومثلهم الظاهريون لأنه حديث مرسل, ويرى ابن حزم أن الحديث روى هكذا: "حد الساحر ضربه بالسيف", وليس فيه قتله, والضربة قد تقتل وقد لا تقتل, وعنده أن الحديث غير صحيح, وإذا لم يصح الحديث وجب الرجوع للنصوص العامة وهى تحريم القتل إلا بحق: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء:33] , وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم", فصح بالقرآن والسنة أن كل مسلم دمه حرام إلا بنص ثابت أو إجماع متيقن وليس فى السحر نص ثابت إلا ما روى أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات, قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, والتولى يوم الزحف, وقذف المحصنات المؤمنات", فكان هذا بيانًا جليًا بأن السحر ليس من الشرك ولكنه معصية موبقة كقتل
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص408, 409, شرح فتح القدير ج4 ص408, المغنى ج10 ص113 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص279, 280.
(3) أسنى المطالب ج4 ص117.(2/712)
النفس فارتفع الإشكال وصح أن السحر ليس كفرًا, وإذا لم يكن كفرًا فلا يصح قتل فاعله إلا إذا أتى بما هو كفر؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان, وزنًا بعد إحصان, ونفس بغير نفس" (1) .
وفى الكاهن والعراف نفس الخلاف فى الساحر. والكاهن هو الذى له رِئْى من الجن يأتيه بالأخبار, والعراف هو الذى يحدس ويتخرص, على أن الحنفيون يرون أن العراف والكاهن إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر, وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر, وفى مذهب أحمد روايتان: الأولى: حكمهما حكم الساحر, لقول عمر: اقتلوا كل ساحر وكاهن, والثانية: إن تاب لم يقتل, ويرى الحنفيون المتأخرون أنه لا يجب العدول عن مذهب الشافعى فى كفر الساحر والكاهن والعراف (2) .
ويرى الشيعة الزيدية أن الساحر مرتد وأن حده القتل بعد الاستتابة كالمرتد (3) .
ولا تصح الردة إلا من عاقل, فلا تصح الردة ممن لا عقل له كالمجنون ومن زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء مباح, وكالطفل الصغير الذى لم يميز.
675- ردة المجنون وإسلام من فى حكمه: لا تصح ردة المجنون لأن العقل من شرائط الأهلية خصوصًا فى الاعتقادات, ومن المتفق عليه أن المجنون إذا ارتد فى حال جنونه فإنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك, ولو قتله قاتل عمدًا كان عليه القود, والأصل فى ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يفيق", فلا تصح ردة المجنون لأنه لا قول له, أما إذا ارتد فى حال إفاقته صحت ردته,
_________
(1) المحلى ج11 ص394.
(2) نفس المراجع السابقة, المغنى ج10 ص118, شرح الزرقانى ج8 ص62.
(3) شرح الأزهار ج4 ص379.(2/713)
فإن ارتد صاحيًا ثم جن بعد ذلك لم يقتل حال جنونه لأنه يقتل بالإصرار على الردة بعد استتابته والمجنون لا يمكن أن يوصف بالإصرار كما أنه لا يمكن أن يستتاب, فإذا قتله قبل إفاقته أو بعدها وقبل استتابته عزر لتفويته الاستتابة الواجبة ولافتياته على السلطات العامة, ولكنه لا يسأل عن القتل, وإذا كان المجنون المقتول امرأة فلا قود على من قاتلها عند أبى حنيفة, وإنما على القاتل التعزير فقط, لأن الردة تبيح دم صاحبها, وكل جناية على المرتد هدر, ومن قتل المرأة بالردة راجع للشبهة (1) .
والقاعدة عند الشافعى وأحمد أن المجنون تنفذ عليه حال جنونه كل جريمة تثبت عليه بالبينة, وعقوبة كل جريمة ثابتة بالإقرار, وإذا كان العدول عن الإقرار لا يسقط الإقرار كالقصاص. أما إذا كانت العقوبة ثابتة بالإقرار وكان العدول عن الإقرار يسقط العقوبة كما هو الحال فى السرقة والزنا والشرب فيوقف التنفيذ حتى يفيق المجنون لاحتمال أنه إذا أفاق عدل عن إقراره فسقطت العقوبة المحكوم بها (2) .
وفى مذهب مالك يرون أن الجنون يوقف تنفيذ الحكم ويظل الحكم موقوفًا حتى يفيق المجنون, إلا إذا كانت العقوبة قصاصًا, فإنها على رأى البعض تسقط باليأس من إفاقة المجنون, وباقى الآراء ورأى أبى حنيفة تراجع فى التشريع الجنائي (3) .
676- ردة السكران وإسلامه: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن
_________
(1) المغنى ج10 ص76, 110, أسنى المطالب ج4 ص120 وما بعدها, شرح الزرقانى ج8 ص69, 70, بدائع الصنائع ج7 ص134, 135, حاشية ابن عابدين ج3 ص293, 294, شرح فتح القدير ج4 ص387, 407, شرح الأزهار ج4 ص575, المحلى ج10 ص344.
(2) أسنى المطالب ج4 ص120, المغنى ج10 ص110, التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص511,512.
(3) التشريع الجنائى ج1 ص512.(2/714)
السكران حكمه حكم المجنون فلا يصح إسلامه ولا تصح ردته, وهم لا يصححون ردته ولا إسلامه استحسانًا, أما حكم القياس عندهم فتصحيح ردته وإسلامه لأن الأحكام مبنية على الإقرار بظاهر اللسان لا على ما فى القلب إذ هو أمر باطن فلا يوقف عليه, أما وجه الاستحسان فإن أحكام الكفر مبنية على الكفر كما أن أحكام الإيمان مبنية على الإيمان, والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب, وإنما كان الإقرار دليلاً عليهما وإقرار السكران لا يصح دليلاً, وإذا لم يصح الدليل لم يثبت المدلول عليه (1) .
ويتفق المذهب الظاهرى مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة, فالظاهريون لا يعتبرون ردة السكران ولا أى فعل أتاه وهو سكران سواء أدخل السكر على نفسه أم أدخله عليه غيره (2) .
وفى مذهب مالك والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية خلاف, والرأى الراجح فى هذه المذاهب أو ردة السكران لا تصلح إذا أدخل السكر على نفسه وكان عالمًا بأنه يتناول سكرًا, أما الرأى المرجوح فلا يصحح ردته لأنه زائل العقل ولأن المسألة متعلقة بالاعتقاد (3) .
ويلاحظ أن القائلين بتصحيح ردة السكران يصححون إسلامه, وأن القائلين بعدم تصحيح الردة لا يصححون إسلام السكران.
677- ردة الصبى وإسلامه: من المتفق عليه أن ردة الصبى الذى لا يعقل غير صحيحة, ولكنهم اختلفوا فى ردة الصبى الذى يعقل على الوجه الآتى:
فيرى أبو حنيفة ومحمد أن البلوغ ليس شرط للردة فتصح ردة الصبى الذى يعقل, ويرى أبو يوسف أن الصبى الذى لم يبلغ لا تصح ردته, وحجتهما أن الصبى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134, شرح فتح القدير ج4 ص407.
(2) المحلى ج10 ص208, 344, المحلى ج7 ص322 وما بعدها.
(3) المغنى ج10 ص108, 110, نهاية المحتاج ج7 ص397, المهذب ج2 ص238, شرح الأزهار ج4 ص575, مواهب الجليل ج4 ص34.(2/715)
المميز يصح إسلامه فتصح ردته؛ لأن صحة الإسلام والردة مبنية على وجود الإيمان أو الكفر حقيقة, لأن الإيمان والكفر من الأفعال الحقيقية وهما أفعال خارجة من القلب بمنزلة أفعال سائر الجوارح, والإقرار الصادر عن العقل دليل وجودهما وقد وجدها هنا, إلا أنه من وجود الكفر من الصبى العاقل لا يقتل ولكن يحبس إذ لا قتل إلا على البالغ بعد استتابته فيحبس الصبى حتى يبلغ ثم يستتاب, ويشترط أبو يوسف البلوغ لصحة الردة فلا تصح الردة عنده إلا إذا بلغ الصبى مرتدًا, وحجته أن عقل الصبى فى التصرفات الضارة المحضة ملحق بالعدم ولهذا لم يصح طلاقه وإعتاقه وتبرعاته, والردة مضرة محضة, أما الإيمان فيصح من الصبى لأنه نفع محض, ولذلك صح إسلام الصبى عند أبى يوسف ولم تصح ردته (1) .
ويتفق مذهب مالك مع رأى أبى حنيفة ومحمد.
وفى مذهب أحمد رأيان: أولهما وهو المعمول به فى المذهب: أن ردة الصبى تصح, وهذا يتفق مع رأى أبى حنيفة ومحمد, وظاهر مذهب مالك, والثانى: أن الصبى يصح إسلامه ولا تصح ردته, وهو يتفق مع رأى أبى يوسف (2) .
ويلاحظ أن الخلاف ليس له أهمية عملية من الناحية الجنائية, لأن الصبى لا يقتل سواء قيل بصحة ردته أو بعدم صحتها, إذ الغلام لا تجب عليه الحدود حتى يبلغ, فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت حكم الردة ووجبت عليه العقوبة بعد الاستتابة إن لم يتب, فيستوى إذن فى الحكم المرتد قبل بلوغه والمرتد وقت بلوغه, والمسلم الأصلى الذى ارتد والكافر الذى ارتد والكافر الذى أسلم صبيًا ثم ارتد (3) .
أما مذهب الشافعى فلا يصحح ردة الصبى ولا إسلامه إلا بالبلوغ, وعلى هذا الرأى زفر من أصحاب أبى حنيفة, وهو يتفق مع مذهب الظاهريين ومذهب الشيعة الزيدية, وحجة أصحاب هذا الرأى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص134, 135.
(2) المغنى ج10 ص92, 92.
(3) نفس المرجع السابق.(2/716)
عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يفيق".
وأصحاب هذا الرأى إذا كانوا لا يصححون إسلام الصبى فإنهم يعتبرونه مسلمًا حكمًا أو تبعًا, لأن الصغير يعتبر مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما ولا يأخذ حكمهما حتى البلوغ, فلو صحح إسلامه لكان مسلمًا أصلاً, فيكون هناك تناقض بين اعتباره مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما وبين اعتباره مسلمًا أصلاً, فضلاً عن أن الإسلام يلزمه أحكامًا تشوبها المضرة من حرمان الإرث والفرقة بينه وبين زوجته المشركة, وهو ليس أهلاً لما يضر به من التصرفات (1) .
وخلاصة ما سبق أن الفقهاء على ثلاثة آراء فى ردة الصبى العاقل وإسلامه, فبعضهم لا يصحح إسلام الصبى المميز - أى الذى يعقل - ولا ردته, وبعضهم يصحح إسلامه ولا يصحح ردته, وبعضهم يصحح إسلامه وردته معًا, وهذا فى الصبى المميز أى الذى يعقل, أما الصبى الذى لا يعقل فلا يصح له إسلام ولا رده اتفاقًا, وإن كان محكومًا له بالإسلام تبعًا لأبويه, والفقهاء الذين يصححون إسلام الصبى الذى يعقل يشترطون لصحة إسلامه شرطين:
أولهما: أن يعقل الإسلام ومعناه, وأن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وأن محمدًا عنده ورسوله, وهذا الشرط لا خلاف عليه لأن الطفل الذى لا يعقل لا يتحقق عنده اعتقاد الإسلام.
ثانيهما: أن يكون عمره عشر سنوات, وهو شرط غير متفق عليه.
وأكثر من يصححون إسلام الصبى لم يشترطوا ذلك ولم يحددوا له حدًا من السنين, وحجة من يشترطون عشر سنوات أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر بضرب الصبيان على الصلاة لعشر, وهذا هو مذهب الحنابلة, على أن هناك رواية عن احمد بتصحيح إسلام الصبى إذا بلغ سبع سنوات لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص120, 123, 194, نهاية المحتاج ج7 ص397, شرح فتح القدير ج4 ص404, المغنى ج10 ص88, المحلى ج10 ص218, 344, وج7 ص322 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص575.(2/717)
"مروهم بالصلاة لسبع", فدل ذلك على صحة عباداتهم فيكون حدًا لصحة إسلامهم, وبعض الفقهاء يرى تصحيح إسلام الصبى إذا بلغ خمس سنوات, وحجته أن عليًا أسلم فى هذا السن (1) .
ويعتبر ولد المرتد مسلمًا إذا حُمل به فى الإسلام سواء كان المرتد الأب أو الأم أو هما معًا, فإن بلغ أولاد المرتد فثبتوا على إسلامهم فهم مسلمون, وإن بلغوا كافرين فهم مرتدون, لهم حكم المرتدين, أما من حُمل به بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه من أبوين كافرين؛ سواء حمل به فى دار الإسلام أو فى دار الحرب (2) .
والقاعدة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والظاهريين والشيعة الزيدية أنه إذا أسلم أحد الأبوين كان أولاده الصغار مسلمين تبعًا له, يستوى فى ذلك أن يكون المسلم الأب أو الأم, ولكن مالكًا يرى أن الصغار يتبعون فى الإسلام الأب فقط, فإذا أسلم الأب تبعه أولاده, وإن أسلمت الأم لم يتبعوها لأن الولد يتبع أباه ولا يتبع أمه (3) .
678- ردة المكره وإسلامه: ومن أُكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر أو بعمل مكفِّر لم يصر كافرًا, وهذا متفق عليه فى المذاهب الأربعة, وعليه مذهب الشيعة الزيدية ومذهب الظاهريين, وشهادة ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [النحل:106] , ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان, وما استكرهوا
_________
(1) المغنى ج10 ص89, 90, شرح فتح القدير ج4 ص407.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص62, بدائع الصنائع ج7 ص139, أسنى المطالب ج4 ص123, المغنى ج10 ص93, كشاف القناع ج4 ص109, شرح الأزهار ج4 ص580, 581.
(3) المغنى ج10 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص66, مواهب الجليل ج6 ص284, المحلى ص322, ونفس المراجع السابقة.(2/718)
عليه", والإكراه على الإسلام مما لا يجوز إكراهه كالذمى والمستأمن لا يجعل المكرَه مسلمًا حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعًا مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه, فإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار, وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله, ولا إكراه على الإسلام (1) .
* * *
الركن الثانى: القصد الجنائي
679- ويشترط لوجود جريمة الردة أن يتعمد الجانى إتيان الفعل أو القول الكفرى وهو يعلم بأنه فعل أو قول كفرى, فمن أتى فعلاً يؤدى للكفر وهو لا يعلم معناه, ومن قال كلمة الكفر وهو لا يعلم معناها, فلا يكفر, ومن حكى كفرًا سمعه وهو لا يعتقده لم يكفر. وكذلك من جرى على لسانه الكفر سبقًا من غير قصد لشدة فرج أو وهن أو غير ذلك, كقول من أراد أن يقول: اللهم أنت ربى وأنا عبدك, فقال: أنت عبدى وأنا ربك.
ويشترط الشافعى أن يقصد الجانى أن يكفر, فلا يكتفى أن يتعمد إتيان الفعل أو القول الكفرى, بل يجب أن ينوى الكفر مع قصد الفعل, وحجته حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات", فإذا لم ينو الكفر فلا كفر (2) .
وعلى هذا الرأى مذهب الظاهريين لأنهم يشترطون النية (3) فى كل الأعمال, وحجتهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى", فالصحيح عندهم أن كل عمل بلا نية فهو باطل لا يعتد به.
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص68, مواهب الجليل ج6 ص282, بدائع الصنائع ج7 ص134, 178, شرح فتح القدير ج4 ص406, المهذب ج2 ص238, نهاية المحتاج ج7 ص379, أسنى المطالب ج4 ص121, المغنى ج10 ص104, المحلى ج8 ص329, شرح القدير ج4 ص577.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص394.
(3) المحلى ج10 ص200, 205.(2/719)
وعند مالك وأبى حنيفة والشافعى يكفى لاعتبار الشخص مرتدًا أن يتعمد إتيان الفعل والقول الكفرى ولو لم ينو الكفر, ما دام جاء بالفعل بقصد الاستخفاف أو التحقير أو العناد أو الاستهزاء (1) , وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (2) .
ويرى أبو حنيفة وأحمد أن فعل الهازل وقوله كفر, فمن تكلم بلفظ كفرى أو أتى بفعل كفرى وهو مختار يعتبر كافرًا ولو لم يقصد معنى الفعل أو القول ما دام أنه عارف لمعناه؛ لأن التصديق وإن كان موجودًا حقيقة إلا أنه زائل حكمًا, لأن الشارع جعل بعض المعاصى أمارة على عدم وجوده, كما لو سجد لصنم فإنه يكفر وإن كان مصدقًا لأن ذلك فى حكم التكذيب (3) .
* * *
عقوبات الردة
680- للردة عقوبات تختلف باختلاف ظروف الجريمة, منها ما هو عقوبة أصلية, ومنها ما هو عقوبة بدلية, ومنها ما هو عقوبة تبعية.
أولاً: العقوبة الأصلية
681- عقوبة الردة الأصلية هى القتل حدًا: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه".
والقتل عقوبة عامة لكل مرتد سواء كان رجلاً أو امرأة, شابًا أو شيخًا, ولكن أبا حنيفة يرى أن لا تقتل المرأة بالردة ولكنها تجبر على الإسلام, وإجبارها
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص62, 63, 70 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص100, 101, حاشية ابن عابدين ج3 ص392.
(2) شرح الأزهار ج4 ص575, 577.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص392, كشاف القناع ج4 ص100, شرح فتح القدير ج4 ص407.(2/720)
على الإسلام يكون بأن تحبس وتخرج كل يوم فتستتاب ويعرض عليها الإسلام, فإن أسلمت وإلا حبست, وهكذا إلى أن تسلم أو تموت (1) .
والمذاهب الأخرى على خلاف مذهب أبى حنيفة لا تفرق بين الرجل والمرأة, وتعاقب المرتدة بالقتل كما تعاقب المرتد (2) .
وحجة أبى حنيفة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل المرأة الكافرة, فإذا كانت المرأة لا تقتل بالكفر الأصلى فأولى أن لا تقتل بالكفر الطارئ.
وحجة بقية الفقهاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بدَّل دينه فاقتلوه", وقال: "لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة", ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المرأة مقصود به الكافرة الأصلية, ولا يصح أن يقاس على الكفر الأصلى الكفر الطارئ؛ لأن الرجال والنساء يقرون على الكفر الأصلى ولا يقرون على الكفر الطارئ (3) .
ويرى أبو حنيفة أيضًا أن لا يقتل الصبى المميز بالردة فى أربع حالات: الأولى: إذا كان إسلامه تبعًا لأبويه وبلغ مرتدًا, ففى القياس يقتل وفى الاستحسان لا يقتل, لأن إسلامه لما ثبت تبعًا لغيره صار شبهة فى إسقاط القتل عنه وإن بلغ مرتدًا. الثانية: إذا أسلم فى صغره ثم بلغ مرتدًا, ففى القياس يقتل وفى الاستحسان لا يقتل لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء فى صحة إسلامه. الثالثة: إذا ارتد فى صغره. الرابعة: اللقيط فى دار الإسلام فإنه محكوم بإسلامه تبعًا للدار كما لو كان مولودًا بين مسلمين.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص135.
(2) مواهب الجليل ج6 ص281, نهاية المحتاج ج7 ص299, المغنى ج10 ص74, المحلى ج11 ص227, شرح الأزهار ج4 ص578.
(3) المغنى ج10 ص74, 578.(2/721)
والصبى المميز إذا لم يقتل فى هذه الحالات الأربع فإنه يجبر على الإسلام كما تجبر المرأة على الإسلام بالحبس والتعزير (1) .
والقاعدة عند مالك أن الصبى المميز يقتل بالردة إذا بلغ مرتدًا ولكنه يستثنى من ذلك:
1- الصبى المراهق حين إسلام أبيه.
2- الصبى الذى ترك لأمه الكافرة سواء ترك مميزًا أو غير مميز إذا غفل عنه حتى أرهق؛ أى قارب البلوغ؛ كابن ثلاث عشرة سنة.
فهذان إذا بلغ أحدهما كافرًا فلا يقتل بكفره وإنما يجبر على الإسلام بالتعزير (2) .
أما بقية المذاهب فترى قتل الصبى المرتد إذا بلغ مرتدًا شأنه فى ذلك شأن الرجل والمرأة (3) .
682- الاستتابة: القاعدة الأصلية أن المرتد لا يقتل إلا بعد أن يستتاب, فإن لم يتب يقتل, ويرى بعض الفقهاء أن الاستتابة واجبة, وهو مذهب مالك والشيعة الزيدية, وهو الرأى الراجح فى مذهبى الشافعى وأحمد, وهناك رأى فى مذهب الشيعة الزيدية أن الاستتابة مستحبة, وهو رأى مرجوح (4) .
ويرى أبو حنيفة أن الاستتابة مستحبة لا واجبة, لأن الدعوة قد بلغت المرتد فانتفى بذلك الوجوب, وإنما يعرض عليه الإسلام استحبابًا فلعله يسلم, وهذا القول رأى الشافعى وأحمد, ويرى الظاهريون أن الاستتابة ليست واجبة ولا ممنوعة (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص406, 407, بدائع الصنائع ج7 ص135.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص66, 70, مواهب الجليل ج6 ص281, 284.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص400, المغنى ج10 ص92, المحلى ج7 ص322, وج11 ص227, شرح الأزهار ج4 ص580, 581.
(4) شرح الأزهار ج4 ص379, 380.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص65, نهاية المحتاج ج7 ص398, المهذب ج2 ص238, المغنى ج10 ص76, شرح الأزهار ج4 ص579, المحلى ج11 ص197.(2/722)
683- مدة الاستتابة: مذهب مالك على أن الاستتابة مدتها ثلاثة أيام بلياليها من يوم ثبوت الكفر على المرتد, لا من يوم الكفر ولا من يوم الرفع أى التبليغ.
ولا يحسب اليوم إن سبقه الفجر ولا تلفق الأيام الثلاثة, والمقصود بذلك الاحتياط لعظم الدماء, ولا يجوز أن يمنع عنه الماء ولا الطعام ولا يعذب, فإن تاب لا يقتل وإلا قتل بعد غروب شمس اليوم الثالث (1) .
ويرى أبو حنيفة أن المدة متروكة لتقدير الإمام , فإن طمع فى توبة المرتد أو سأله هو التأجيل أجَّله ثلاثة أيام, وإن لم يطمع فى توبته ولم يسأله هو التأجيل قتله من ساعته (2) .
وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما: أن الاستتابة مدتها ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة يمكن فيها الارتياد والنظر, والرأى الثانى: أن يقتل فى الحال إذا استتب فلم يتب, وهو الرأى الراجح فى المذهب (3) .
ومذهب أحمد على أن مدة الاستتابة ثلاثة أيام مع حبس المرتد فيها (4) .
ولا يحدد الظاهريون مدة الاستتابة, ويرون قتل المرتد فى الحال إذا لم يتب (5) , ولكن الشيعة الزيدية يحددون مدة الاستتابة بثلاثة أيام (6) .
والأصل فى ذلك كله ما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قدم إليه رجل من جيش المسلمين فقال: هل عندكم من مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ قال: نعم رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه, فقال عمر رضى الله عنه: ماذا فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه, فقال عمر رضى الله عنه: هلا طفيتم عليه بيتًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص95.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص135.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص398, 399.
(4) المغنى ج10 ص78, كشاف القناع ج4 ص104.
(5) المحلى ج11 ص192.
(6) الروض النضير ج4 ص324, شرح الأزهار ج4 ص379, 380.(2/723)
واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى, اللهم إنى لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني, كذلك روى عن على رضى الله عنه أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثًا, وبهذا يتمسك من قال بوجوب الاستتابة أو استحبابها وبمدة الأيام الثلاثة.
684- كيفية التوبة: تكون التوبة بالنطق بالشهادتين, وبإقرار المرتد بما أنكره, وبراءته من كل دين يخالف دين الإسلام, فمن ادعى وجود إلهين أو أنكر رسالة محمد, يكتفى أن يأتى بالشهادتين, وإن كان الكفر بإنكار شيء آخر كمن خصص رسالة محمد بالعرب أو جحد فرضًا أو تحريمًا فيلزمه مع الشهادتين الإقرار بما أنكر, وهكذا تختلف حقيقة التوبة بحسب الفعل أو قول الكفر.
685- من لا يستتاب: وإذا كانت القاعدة هى استتابة المرتد بغض النظر عما إذا كانت الاستتابة واجبة أو مستحبة فإن مالكًا يمنع استتابة ثلاثة:
1- الساحر إذا أتى من السحر ما يعتبر كفرًا: فإنه لا يستتاب ويقتل, وإذا تاب لم تقبل توبته إلا أن يجئ بنفسه مبلغًا عن سحره وتائبًا منه, ذلك أن حكم الساحر فى المذهب كحكم الزنديق (1) .
2- الزنديق: وهو من يظهر الإسلام ويسر الكفر, فإذا ثبت عليه الكفر لم يستتب ويقتل ولو أظهر توبته, لأن إظهار التوبة لا يخرجه عما يبديه من عادته ومذهبه, فإن التقَّة عند الخوف عين الزندقة, أما إذا جاء بنفسه مقرًا بزندقته ومعلنًا توبته دون أن يظهر عليه فتقبل توبته (2) .
3- من سب نبيًا أو مَلَكًا أو عرض به أو لعنه أو عابه أو قذفه أو استخف بحقه وما أشبه: فإنه يقتل ولا يستتاب, ولا تقبل منه التوبة لو أعلنها ولو جاء تائبًا قبل أن يطلع عليه, لأن القتل فى هذه الحالة حد خاص وإن كان يدخل تحت الردة (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص279.
(2) مواهب الجليل ج6 ص282.
(3) مواهب الجليل ج6 ص285, 286, شرح الأزهار ج8 ص70, 71.(2/724)
فالمرتد يقتل حدًا لا كفرًا عالى مشهور قول مالك, ولهذا لا تقبل توبته ولا تنفعه استتابه, على أن هناك من يرى فعله ردة, وفى هذه الحالة يستتاب فإن تاب نُكِّل أى عُزِّر (1) .
أما المعتاد على الردة فيستتاب ولو تكررت ردته ما دامت ردته ليست من الأنواع الثلاثة السابقة.
ومذهب الشافعى يختلف عن مذهب مالك تمام الاختلاف, فالشافعيون يرون الاستتابة ويقبلون التوبة من الساحر والزنديق, ولو كان زنديقًا لا يتناهى خبثه فى عقيدته, لقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] , ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم" أى النطق بالشهادتين (2) .
على أن هناك رأيًا مرجوحًا فى المذهب بعدم قبول توبة الزنديق (3) .
وتقبل توبة من سب النبى - صلى الله عليه وسلم - أو سب نبيًا غيره, ويستتاب, وهو الرأى الراجح فى المذهب, وهناك رأيان آخران: أحدهما: أنه يقتل حدًا إذا سب النبى أو قذفه؛ لأن القتل حد قذف النبى أو سبه, وحد القذف لا يسقط بالتوبة, والثانى: أنه يعاقب على القذف بالجلد ثمانين جلده ويعزر على السب (4) .
وفى مذهب أحمد:
1- لا تقبل توبة الزنديق: لأن الله تعالى يقول: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [البقرة:160] , والزنديق لا يظهر منه ما يتبين به رجوعه وتوبته؛ لأن الزنديق لا يظهر منه بالتوبة خلاف ما كان عليه؛ فإنه كان ينفى الكفر عن نفسه قبل ذلك, وقلبه لا يطلع عليه فلا يكون لما قاله حكم, لأن الظاهر من حاله أنه يستدفع القتل بإظهار التوبة.
2- كذلك لا تقبل توبة من تكررت ردته: لقوله
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص282.
(2) أسنى المطالب ج4 ص122, المهذب ج2 ص229.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص399.
(4) أسنى المطالب ج4 ص122, نهاية المحتاج ج7 ص399.(2/725)
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137] , وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران:90] , كذلك فإن تكرار الردة دليل على فساد العقيدة وقلة المبالاة بالدين.
3 - ولا تقبل توبة من سب الله ورسوله أو تنقيصه: لأن ذلك دليل على فساد العقيدة واستخفافه بالله تعالى ورسوله, ولقوله جل شأنه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65, 66] .
4- ولا تقبل توبة الساحر الذى يكفر بسحره: لوجهين: أولهما: لما روى عن جندب بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" فسماه حدًا, والحد لا يسقط بالتوبة. وثانيهما: أنه إذا لم يكن حد فلا طريق إلى معرفة إخلاصه فى توبته لأنه يضمر السحر ولا يجهر به فيكون إظهار الإسلام خوفًا من القتل (1) .
وهناك رواية أخرى عن أحمد يرى الأخذ بها بعض فقهاء المذهب وهى قبول توبة المرتد واستتابته مها كان كفره؛ أى سواء كان زنديقًا أو ساحرًا أو معتاد الردة.. إلخ, وهذا الرأى يتفق مع مذهب الشافعي (2) .
ومذهب أبى حنيفة على عدم قبول توبة كل من:
1 - الساحر: لما روى عن الرسول من أن حد الساحر ضربه بالسيف, ولكن الكثير من فقهاء الحنفية يفضلون مذهب الشافعى فى هذه المسألة, ويلاحظ أن القائلين بقتل الساحر يرون قتل الساحرة؛ لأن القتل حد لا يستتاب فيه.
2 - الزنديق: والرأى فى توبته هو ما يرونه فى مذهب مالك, على أن هناك رأيًا آخر يقول بقبول توبته (3) .
3 - سب الرسل والملائكة والاستهزاء بهم: وفى المذهب رأيان: أحدهما: يرى القتل حدًا فلا تقبل التوبة (4) .
_________
(1) كشاف القناع ج4 ص105, 106.
(2) المغنى ج10 ص78, 113, 115, 116, 118.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص408, 409.
(4) حاشية ابن عابدين ج3 ص400 وما بعدها(2/726)
والثانى: يرى أنه مرتد يقتل للردة فتقبل توبته (1) .
4 - من تكررت ردته: فلا تقبل توبته (2) .
ومذهب الظاهريين كمذهب الشافعي (3) .
وكذلك مذهب الشيعة الزيدية فإنهم يستتيبون كل مرتد ويقبلون منه التوبة أيًا كان وجه الكفر, أى سواء كان للسحر أو الزندقة أو غير ذلك (4) .
686 - ما يترتب على التوبة: يترتب على حدوث التوبة ممن تقبل توبته أن يسقط القتل عنه بالتوبة فيعود معصوم الدم كما كان قبل الردة فإذا قتله شخص ما أُقيد به لأنه قتل نفسًا معصومة, أما قبل ذلك فيكون المرتد مهدر الدم من وقت الردة فإذا قتله شخص ما لم يعتبر قاتلاً وإنما يعزر فقط لافتياته على السلطات العامة لا لأنه قاتل إذ أنه قتل شخصًا مهدر الدم مباح القتل بل يعتبر قتله فرضًا على كل مسلم, ويستوى أن يكون القتل حاصلاً قبل الاستتابة أو بعدها ما دام قد حدث قبل التوبة فعلاً ممن تقبل توبته لأنه يقتل فى الحالين على ردته, وكل جناية على المرتد هدر لأن الردة تسقط عصمة المرتد. وإذا كان أبو حنيفة لا يرى قتل المرأة ولا الصبيان الذين بلغوا مرتدين, وإذا كان مالك لا يرى قتل بعض الصبيان؛ فإنهما معًا يريان أن من قتل امرأة مرتدة أو صبيًا مرتدًا قبل التوبة فأن القاتل لا يعتبر مسئولاً عن جريمة القتل لأنه قتل شخصًا مهدر الدم وإنما يسأل باعتباره مفتاتًا على السلطات العامة (5) .
* * *
ثانيًا: العقوبة البديلة
687- العقوبة البديلة للردة تكون فى حالتين:
الأولى: إذا سقطت العقوبة الأصلية بالتوبة استبدل بها القاضى عقوبة تعزيرية
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص401, 402.
(2) حاشية ابن عابدين ج3 ص412.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص387.
(4) شرح الأزهار ج4 ص379, 380.
(5) مواهب الجليل ج6 ص281, 288, أسنى المطالب ج4 ص122, كشاف القناع ج4 ص104, شرح فتح القدير ج4 ص387, 388, 404.(2/727)
مناسبة لحال الجاني, كالجلد أو الحبس أو الغرامة أو التوبيخ, ويصح أن يكون الحبس محدد المدة, وأن لا يكون محدد المدة, فيحبس المرتد إلى غير أمد حتى يظهر صلاحه.
ويميل الفقهاء إلى تشديد العقوبة على من تكررت ردته (وهذا عند من يقبلون توبة المعتاد على الردة) , كما يميل بعض الفقهاء إلى إعفاء الجانى من العقاب من أول ردة إلا إذا كان سابًا لرسول الله أو ساحرًا (1) .
الثانية: إذا سقطت العقوبة الأصلية لشبهة, كما أسقطها أبو حنيفة عن المرأة والصبي, وكما أسقطها مالك عن بعض الصبيان, ففى هذه الحالة تحبس المرأة والصبى إلى أمد ويجبر كلاهما على الإسلام, ويجوز أن يصحب الحبس عقوبة أخرى, ويستمر الحبس حتى يسلم المرتد.
* * *
ثالثًا: العقوبة التبعية
688- العقوبه التبعية هى التى تصيب المرتد على نوعين:
أولهما: مصادرة مال المرتد.
ثانيهما: نقص أهلية المرتد للتصرف.
689- (1) مصادرة مال المرتد: يرى مالك والشافعى وأحمد أن مال المرتد إذا مات أو قتل يكون مشيعًا ولا يرثه أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم, ويستثنى مالك من هذه القاعدة مال الزنديق والمنافق فيرى أن ميراثه لورثته من المسلمين لأن المنافقين على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - ورثهم أبناؤهم المسلمون لما ماتوا (2) .
والرأى الراجح فى المذاهب الثلاثة أن الردة لا تزيل الملك عن المرتد ولا تمنعه من تملك أموال أخرى بعد الردة بأسباب التمليك المشروعة وإنما توقف الردة ملك المرتد من وقت ردته فإن أسلم ثبت له ملكه وإن مات مرتدًا أو قتل بردته كان ماله فيئًا.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص282, شرح فتح القدير ج4 ص387, نهاية المحتاج ج7 ص401, أسنى المطالب ج4 ص122, المغنى ج10 ص113, كشاف القناع ج4 ص106.
(2) مواهب الجليل ج6 ص281, 282, أسنى المطالب ج4 ص123, كشاف القناع ج4 ص104, المغنى ج10 ص81.(2/728)
أما فى مذهب أبى حنيفة فالمال المكتسب حال الإسلام يرثه الورثة المسلمون إذا مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وقضى باللحاق أو المال المكتسب حال الردة فيراه أبو حنيفة فيئًا, ويراه أبو يوسف ومحمد ميراثًا, ولا خلاف فى المذهب أن مال المرتد الموجود فى دار الحرب سواء اكتسبه قبل الردة أو بعدها فهو فئ إذا ظُهر عليه (1) .
والفرق بين مذهب أبى حنيفة والمذاهب الأخرى يرجع إلى الخلاف على تفسير ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث الكافر المسلم, ولا المسلم الكافر", فالمذاهب الثلاثة لا تجعل مال المرتد لورثته لأنه كافر وهم مسلمون, وأبو حنيفة وأصحابه يتأولون فيقولون إن مال المرتد مال مسلم لأن الردة كالموت فى إزالة سبب الملك, فإذا ارتد شخص فإن الردة تعتبر بالنسبة لماله موتًا فهو مسلم قد مات فيرثه ورثته المسلمون.
ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة ورأى أبى يوسف ومحمد (2) , ويرى مذهب الظاهريون أن مال المرتد لورثته الكفار إن كان له ورثة, فلا هو فئ ولا هو ميراث لورثته المسلمين (3) .
ويعتبر أبو حنيفة لحاق المرتد بدار الحرب فى حكم موته إذا قضى القاضى بلحاقه لأن اللحاق بدار الحرب بمنزله الموت فى حق زوال ملكه عن أمواله المتروكة فى دار الإسلام؛ لأن زوال الملك عن المال بالموت حقيقة لكونه مالاً فاضلاً عن حاجته لانتهاء حاجته بالموت وعجزه عن الانتفاع به, وقد وجد هذا المعنى فى اللحاق, لأن المال الذى فى دار الإسلام خرج من أن يكون منتفعًا به فى حقه لعجزه عن الانتفاع به, فكان فى حكم المال الفاضل عن حاجته, لعجزه عن قضاء حاجته به, فكان اللحاق بمنزلة الموت فى كونه مزيلاً للملك (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص138.
(2) شرح الأزهار ج4 ص578.
(3) المحلى ج11 ص197, 198.
(4) بدائع الصنائع ج4 ص84.(2/729)
وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (1) , أما المذاهب الأخرى فلا تعتبر اللحاق بدار الحرب فى حكم الموت.
690- (2) نقص أهلية المرتد للتصرف: لا تؤثر الردة على أهلية المرتد للتملك, فيجوز أن يتملك بالهبة, وباستئجار نفسه, وبالصيد, وبالشراء مثلاً, ولكنه لا يتملك بالميراث ما دام فى دار الإسلام, لاختلاف الدين لأنه لا يقر على ردته, ولكن الردة تؤثر على أهلية المرتد للتصرف فى ماله, سواء كان المال مكتسبًا قبل الردة أو بعدها, فتصرفاته لا تكون نافذة, وإنما توقف تصرفاته, فإن أسلم نفذت, وإن مات على ردته كانت تصرفاته باطلة لأنها تمس أموالاً بها حق الغير. وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب مالك والشافعى وأحمد, إلا أن مذهب الشافعى يبطل التصرفات التى لا تحتمل الإيقاف كالبيع فإنه من القعود النافذة ما لم يكن معلقًا على شرط, وكذلك الهبة والرهن وما أشبه. على أن فى هذه المذاهب الثلاثة رأى مرجوح يرى أصحابة بطلان تصرفات المرتد بطلانًا مطلقًا, وهذا على أساس النظرية القائلة بأن الردة تزيل الملك ولا توقفه, فإذا أزالت الردة الملك عن المرتد فتصرف كان التصرف باطلاً لصدوره من غير مالك (2) .
وفى مذهب أبى حنيفة خلاف, فيرى أبو حنيفة أن تصرفات المرتد موقوفة, فإن أسلم جازت هذه التصرفات, وإن مات على ردته أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت كل تصرفاته, وأساس نظريته أن الردة توقف ملك المرتد. أما عند أبى يوسف ومحمد فملك المرتد لا يزول بالردة ولا يوقف وإنما يزول الملك بالموت أو القتل أو اللحاق بدار الحرب, وعلى هذا فإن تصرفات المرتد عندهما جائزة كما تجوز من المسلم, ولكنهما اختلفا فى مدر جواز هذه التصرفات, فرأى
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص578.
(2) مواهب الجليل ج6 ص281, 282, 284, شرح الزرقانى ج8 ص66, 68, نهاية المحتاج ج7 ص401, أسنى المطالب ج4 ص123, المغنى ج10 ص83, كشاف القناع ج4 ص108.(2/730)
محمد أن تصرفات المرتد جائزة جواز تصرفات المريض مرض الموت, لأن المرتد على شرف التلف لأنه يقتل فأشبه المريض مرض الموت, ويرى أبو يوسف أن تصرفات المرتد جائزة جواز تصرفات الصحيح لأن اختيار الإسلام بيده فيمكنه الرجوع إلى الإسلام فيتخلص من القتل, والمريض لا يمكنه دفع المرض, فأَنَّى يتشابهان؟ (1) .
ومذهب الشيعة الزيدية كرأى أبى حنيفة, إلا أنهم يجعلون التصرفات فى القُرَب لغوًا كالوقف والصدقة والنذر إلا المعتق, فإذا لم تتناول التصرفات القرب فهى موقوفة فإن أسلم نفذت وإلا بطلت (2) .
* * *
تم بحمد الله
* * *
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص136.
(2) شرح الأزهار ج4 ص579.(2/731)
مراجع الكتاب
فى التفسير:
"جامع البيان فى تفسير القرآن": لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى.
"الجامع لأحكام القرآن": لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى.
"مفاتيح الغيب": لمحمد الرازى فخر الدين.
"الكشف عن حقائق التنزيل": للزمخشرى.
"الشهاب على البيضاوي": لشهاب الدين الخفاجى.
"روح المعنى": للسيد محمد الألوسى.
"تفسير المنار" للسيد محمد رشيد رضا.
فى الحديث:
"صحيح البخاري": الطبعة الأولى, المطبعة الخيرية.
"التاج الجامع للأصول فى أحاديث الرسول": الطبعة الأولى, مطبعة البابى الحلبى.
"نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار": لمحمد على الشوكاني, مطبعة بولاق.
"عون البارى لحل أدلة البخاري": لأبى صديق بن حسن بن على الحسيني, مطبوع مع الكتاب السابق.
"زاد المعاد فى هدى خير العباد": لابن قيم الجوزية, الطبعة الأولى, مطبعة صبيح.
"سبل السلام" وهو شرح العلامة الصنعانى على متن بلوغ المرام: للحافظ ابن حجر العسقلانى.
فى الأصول:
"أصول الفقه": للشيخ محمد الخضري, الطبعة الثانية.
"علم أصول الفقه": للشيخ عبد الوهاب خلاف, الطبعة الثانية.
"الإحكام فى أصول الأحكام": لابن حزم الأندلسي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة.
"الإحكام فى أصول الأحكام": لسيف الدين أبى الحسن الآمدي, طبعة دار الكتب.
"المستصفى": للغزالي, الطبعة الأولى, المطبعة الأميرية.
"فواتح الرحموت فى شرح مسلم الثبوت": لمحب الله بن عبد الشكور, مطبوع مع الكتاب السابق.
"رسالة الشافعى فى علم الأصول": الطبعة الأولى, مطبعة القبانى.
فى مذهب مالك:
"المدونة الكبرى": رواية سحنون عن عبد الرحمن بن قاسم عن الإمام مالك, الطبعة الأولي, مطبعة السعادة.
"أحكام القرآن": لأبى بكر بن عبد الله المعروف بابن العربي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة.
"مواهب الجليل شرح مختصر خليل": للحطاب, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة.
"التاج والإكليل لمختصر خليل": للمواق, مطبوع مع الكتاب السابق.
"شرح الزرقانى على مختصر خليل": مطبعة محمد أفندى مصطفى.
"حاشية البناني": مطبوع مع الكتاب السابق.
"شرح الخرشى على مختصر خليل": الطبعة الثانية, مطبعة بولاق.
"حاشية العدوي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"المقدمات": لابن رشد, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة.
"بداية المجتهد ونهاية المقتصد": لابن رشد, الطبعة الأولى, مطبعة الجمالية.
"الشرح الكبير" للدردير: المطبعة الأميرية.
"حاشية الدسوقي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"فتح العلى المالك": للشيخ عليش, الطبعة الأولى, مطبعة التقدم العلمية.
"تبصرة الحكام فى أصول الأقضية ومناهج الأحكام": لابن فرحون, مطبوع مع الكتاب السابق.
فى مذهب أبى حنيفة:
"المبسوط لشمس الدين السرخسي": مطبعة السعادة بمصر.
"كتاب الخراج": لأبى يوسف.
"بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع": لعلاء الدين الكاساني, الطبعة الأولى, مطبعة الجمالية.
"شرح فتح القدير": لابن الهمام, مع "تكملة نتائج الأفكار فى كشف الرموز والأسرار على الهداية", الطبعة الأولى, المطبعة الأميرية.
"شرح العناية على الهداية": لمحمد بن محمود البايرني, مطبوع مع الكتاب السابق.
"حاشية سعد جبلي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"حاشية الطهطاوى على الدر المختار": الطبعة الثالثة.
"حاشية رد المحتار على الدر المختار": لابن عابدين, المطبعة الأميرية.
"حاشية شهاب الدين الشلبي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"الهداية شرح بداية المبتدي": لبرهان الدين أبى بكر المرغتياني, الطبعة الأولي, المطبعة الخيرية.
"البحر الرائق شرح كنز الدقائق": لابن نجيم, الطبعة الأولى.
"منحة الخالق على البحر الرائق": لابن عابدين, مطبوع مع الكتاب السابق.
"مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر": لشيخ زاده.
"الأشباه والنظائر": لابن نجيم, مطبعة وادى النيل.
"إتحاف الأبصار والبصائر": محمد أبو الفتح, طبعة 1289 هـ.
"تأسيس النظر": لابن عيسى الدبوسي, الطبعة الأولى.(/)
"جامع الفصولين": لابن قاضى سماوه, الطبعة الأولى, المطبعة الأزهرية.
"أحكام القرآن": لأبى بكر الرازى الجصاص, الطبعة الأولى, مطبعة الأوقاف الإسلامية.
فى مذهب الشافعى:
"الأم": للإمام الشافعي, الطبعة الأولى, مطبعة بولاق.
"مختصر المزني": مطبوع مع الكتاب السابق.
"أسنى المطالب شرح روض الطالب": لأبى يحيى زكريا الأنصاري, الطبعة الأولى, المطبعة الميمنية.
"حاشية أبى العباس أحمد الرملي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"شرح البهجة لأبى زكريا الأنصاري": الطبعة الأولى, المطبعة الميمنية.
"حاشية ابن قاسم العبادي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"الأحكام السلطانية": للماوردي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة, ومطبعة الوطن.
"الفتاوى الكبرى": لابن حجر المكي, المطبعة الميمنية.
"فتاوى شهاب الدين الرملي" مطبوع مع الكتاب السابق.
"تحفة المحتاج بشرح المنهاج": لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي, طبعة
1319 هـ.
"نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج": لأبى عباس الرملي, الطبعة الأولى, مطبعة البابى الحلبى.
"حاشية الشبراملسي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"حاشية أحمد بن عبد الرازق المغربي": مطبوع مع الكتاب السابق.
"حاشية البيجرمى على مهج الطلاب": الطبعة الأولي, مطبعة البابى الحلبى.
"المهذب": لأبى إسحاق الشيرازي, الطبعة الأولى, مطبعة البابى الحلبى.
"إحياء علوم الدين": للغزالي, الطبعة الأولى, طبع لجنة نشر الثقافة.
"الوجيز": للغزالي, الطبعة الأولى, مطبعة الآداب والمؤيد.
فى مذهب أحمد بن حنبل:
"المغنى على مختصر الخرقي": لمحمد عبد الله بن قدامة, الطبعة الأولى, مطبعة المنار.
"الشرح الكبير على متن المقنع": لشمس الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن قدامة, مطبوع مع الكتاب السابق.
"الإقناع": لشرف الدين موسى الحجاوي, الطبعة الأولى, المطبعة المصرية.
"مجموعة فتاوى ابن تيمية": مطبعة كردستان.
"الاختبارات العلمية": لابن تيمية, مطبوع مع الفتاوى.
"أعلام الموقعين عن رب العالمين": لابن قيم الجوزية, مطبعة الكردى.
"الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية": لابن قيم الجوزية, مطبعة الآداب والمؤيد.
"إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان": لابن قيم الجوزية, مطبعة البابى الحلبى.
"الفروسية": لابن قيم الجوزية, مطبعة الأنوار.
"مجموعة الرسائل لابن تيمية": الطبعة الأولى, مطبعة التقدم.
كتب أخرى:
"الكامل": لابن الأثير (تاريخ) مطبعة بولاق.
"سيرة عمر بن الخطاب": لابن الجوزي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة.
"القصاص": لأحمد محمد إبراهيم, طبعة 1363هـ/1944م.
"الجنايات المتحدة": لرضوان شفعى المتعافي, المطبعة السلفية.
"فقه القرآن والسنة" لمحمود شلتوت, الجزء الأول, مطبعة العلوم.
"مجلة القانون والاقتصاد".
"طرق القضاة فى الشريعة الإسلامية": لأحمد إبراهيم بك, الطبعة الأولى, مطبعة العلوم.
"القضاء فى الإسلام": لعطية مشرفة, الطبعة الأولى, مطبعة الاعتماد.
"الدية فى الشريعة الإسلامية": لعلى صادق أبو سيف, مطبعة على عنان.(/)