عليه في مكان خاص مدة غير محددة بشرط أن لا يحبس أكثر من مدة معينة، وهذه العقوبة تطبيق لنظرية العقوبة غير المحددة، وهي من أحدث نظريات العقاب في القوانين الوضعية.
وإذا كانت القوانين الوضعية لم تعرف نظرية العقوبة غير المحدودة إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فإن الشريعة الإسلامية قد عرفت هذه النظرية وطبقتها من ثلاثة عشر قرناً، وتلكم عقوبة النفي على ذلك من الشاهدين. فمن كان يظن أن القوانين الوضعية حين أخذت بهذه النظرية قد جاءت بشيء جديد فليعلم أنها لم تجئ إلا بأقدم النظريات في الشريعة الإسلامية، ومن كان يظن أن عقوبات الشريعة ونظرياتها لا تصلح للعصر الحديث فلعله أن يستبين مما تقدم ومما سيجيء أن عقوبات الشريعة ونظرياتها هي ألزم الأشياء لهذا العصر الحديث.
* * *
المبحث السادس
عقوبة الردة والبغي
468 - عقوبة الردة: للردة عقوبتان: عقوبة أصلية وهي القتل، وعقوبة تبعية وهي المصادرة.
أ - القتل: تعاقب الشريعة المرتد بالقتل، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه".
ومعني الردة: ترك الدين الإسلامي والخروج عليه بعد اعتناقه، فلا تكون الردة إلا من مسلم.
وتعاقب الشريعة على الردة بالقتل؛ لأنها تقع ضد الدين الإسلامي وعليه(1/661)
يقوم النظام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام ومن ثم عوقب عليها بأشد العقوبات؛ استئصالاً للمجرم من المجتمع، وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية، ومنعاً للجريمة وزجراً عنها من ناحية أخرى.
ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة فإن عقوبة القتل تولد غالباً في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة وما يكبت العوامل الدافعة إليها ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال.
وأكثر الدول اليوم تحمي نظامها الاجتماعي بأشد العقوبات تفرضها على من يخرج على هذا النظام أو يحاول هدمه أو إضعافه، وأول العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية لحماية النظام الاجتماعي هي عقوبة الإعدام؛ أي القتل، فالقوانين الوضعية اليوم تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي.
ب - المصادرة: عقوبة الردة التبعية هي مصادرة مال المرتد ويختلف الفقهاء في مدى المصادرة، فمذهب مالك والشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد على أن المصادرة تشمل كل مال المرتد، ومذهب أبي حنيفة ويؤيده بعض الفقهاء في مذهب أحمد على أن مال المرتد الذي اكتسبه بعد الردة هو الذي يصادر، أما ماله الذي اكتسبه قبل الردة فهو من حق ورثته المسلمين، وهناك رواية عن أحمد بأن المال المكتسب بعد الردة لا يصادر إن كان للمرتد من يرثه من أهل دينه الذي أختاره، وهي رواية غير مشهورة (1) .
469 - عقوبة البغي: تعاقب الشريعة على البغي بالقتل، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ،
_________
(1) المغني ج7 ص174.(1/662)
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"، وقوله: "ستكون هنات وهنات، ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا بالسيف عنقه كائناً من كان".
وجريمة البغي موجهة إلى نظام الحكم والقائمين بأمره، وقد تشددت فيها العقوبة؛ لأن التساهل فيها يؤدي إلى الفتن والاضطرابات وعدم الاستقرار، وهذا بدوره يؤدي إلى تأخر الجماعة وانحلالها.
ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن هذه الجريمة التي يدفع إليها الطمع وحب الاستعلاء.
وكل الدول اليوم تعاقب على البغي بالإعدام، وهو نفس العقوبة المقررة للجريمة في الشريعة.
* * *
الفصل الثاني
العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية
470 - عقوبات متعددة: جرائم القصاص والدية، وهي كما ذكرنا قبلاً:
(1) القتل العمد ... ... (2) القتل شبه العمد
(3) القتل الخطأ ... ... (4) الجرح العمد ... ... (5) الجرح الخطأ
والعقوبات المقررة لهذا الجرائم هي: القصاص - الدية - الكفارة - الحرمان من الميراث - الحرمان من الوصية. وسنتكلم فيما يلي عن هذه العقوبات واحدة بعد أخرى.
471 - (أولاً) القصاص: جعلت الشريعة القصاص عقوبة للقتل العمد والجرح العمد, ومعنى القصاص أن يعاقب المجرم بمثل فعله، فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح.(1/663)
ومصدر عقوبة القصاص هو القرآن والسنة, فالله جل شأنه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179] , ويقول جل شأنه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . وجاءت السنة مؤكدة لما جاء به القرآن, فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اعتبط مؤمناً بقتل فهو قود به, إلا أن يرضى ولي المقتول", ويقول: "من قتل له القتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا فالقود, وإن أحبوا فالعقل؛ أي الدية".
وليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص, فهي أعدل العقوبات, إذ لا يجازي المجرم إلا بمثل فعله, وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام؛ لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالباً.
والذي يدفع المجرم بصفة عامة للقتل والجرح هو تنازع البقاء وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته، وإذا علن انه إذا تغلب على المجني عليه اليوم فهو متغلب عليه غداً لم يتطلع إلى التغلب عليه عن طريق الجريمة, وأمامنا على ذلك الأمثلة العملية نراها كل يوم, فالرجل العصبي المزاج السريع إلى الشر تراه أهدأ ما يكون وأبعد عن الشر وطلب الشجار إذا رأى خصمه أقوى منه أو قدر أنه سيرد على الاعتداء بمثله. والرجل المسلح قد لا يثنيه شئ عن الاعتداء ولكنه يتراجع ويتردد إذا رأى خصمه مسلحاً مثله ويستطيع أن يرد على الاعتداء بالاعتداء. والمصارع والملاكم لا يتحدى أيهما شخصاً يعلم أنه أكثر منه قوة أو أمرنا أو جلداً, ولكنه(1/664)
يتحدى بسهولة من يظنه أقل منه قوة وأضعف جلداً.
تلك هي طبيعة البشر وضعت الشريعة على أساسها عقوبة القصاص, فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص, فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص دافعاً نفسياً مضاداً يصرف عن الجريمة، وذلك ما يتفق تمام الاتفاق مع علم النفس الحديث.
والقوانين الوضعية الحديثة تعترف بعقوبة القصاص ولكنها تطبقها على جريمة القتل فقط, فتعاقب بالإعدام على القتل ولكنها لا تعاقب بالقصاص على الجراح, وتكتفي في عقاب الجارح بالغرامة والحبس أو بأحدهما.
ولا شك في أن الشريعة الإسلامية حين سوت بين القتل والجراح في نوع العقوبة كانت طبيعية ومنطقية. أما القوانين الوضعية فقد باعدت بين نفسها وبين المنطق وطبائع الأشياء حين فرقت في نوع العقوبة بين هاتين الجريمتين, وذلك أن جريمتي القتل والجرح من نوع واحد وينبعثان عن دافع واحد، ولا يكون القتل قتلاً قبل أن يكون ضرباً أو جرحاً في أغلب الأحوال, وإنما ينتهي بعض الجروح أو الضربات بالوفاة, وينتهي البعض بالشفاء فتسمى هذه جراحاً كما تسمى تلك قتلاً, وما دام الجريمتان من نوع واحد فوجب أن تكون عقوبتهما من نوع واحد، وإذا كانت النتيجة في كل من الجريمتين تخالف الأخرى، فإن نتيجة العقوبة مخالفة أيضاً بنفس المقدار لا تزيد ولا تنقص، فالجريمتان نوعهما واحد وأصلهما الجرح, وعقوبتهما من نوع واحد وهو القصاص, وإحدى الجريمتين تنتهي بقتل المجني عليه وعقوبتها قتل المجرم, والجريمة الثانية تنتهي بجرح المجني عليه وعقوبتها جرح المجرم, وهذا هو منطق الشريعة الدقيق وفنها العميق الذي لم يصل إليه القانون بعد، والذي قد يصل إليه بعد حين طويل أو قصير ولكنه سيصل إليه دون شك؛ لأن الأساس الأول في الشرائع على العموم هو المنطق, وما دامت القوانين تعترف بعقوبة القصاص وتطبيقها على جريمة القتل, وما دام المنطق يقضي بأن تطبق هذه العقوبة على جريمة الجرح أيضاً, فلابد من أن(1/665)
تخضع القوانين لهذا المنطق الذي أخذت بأسبابه واعترفت بمقدماته.
وللمجني عليه ولوليه حق العفو عن عقوبة القصاص, فإذا عفا سقطت العقوبة.
والعفو قد يكون مجاناً وقد يكون مقابل الدية, ولكن سقوط عقوبة القصاص بالعفو لا يمنع ولي الأمر من أن يعاقب المجرم بعقوبة تعزيرية مناسبة.
والأصل في الشريعة أن المجني عليه ليس له في الجرائم عامة حق العفو عن العقوبة, ولكن هذا الحق أعطى استثناء للمجني عليه أو وليه في جرائم القصاص والدية دون غيرها من الجرائم؛ لأن هذه الجرائم تتصل اتصالاً وثيقاً بشخص المجني عليه, ولأنها تمس المجني عليه أكثر مما تمس أمن الجماعة ونظامها، ولم تخش الشريعة أن يمس حق المجني عليه في العفو الأمن العام والنظام؛ لأن جريمة القتل والجرح إذا كانت اعتداء خطيراً على أمن الفرد, فإنها ليست في هذه الخطورة بالنسبة لأمن الجماعة، فكل إنسان لا يخاف قاتل غيره أو ضارب ولا يخشى أن يعتدي عليه؛ لأنه يعرف أن القتل أو الجرح أو الضرب لا يكون إلا عن دافع شخصي, أما السارق مثلاً فيخافه كل فرد ويخشاه؛ لأنه يعلم أن السارق يطلب المال أنى وجده ولا يطلب مال شخص بعينه.
وإذا فرض أن إعطاء حق العفو للمجني عليه أو وليه يؤثر على الأمن العام, فإن هذا التأثير لا يكون إلا إذا أسرف المجني عليه في استعمال هذا الحق, والإسراف بعيد الاحتمال؛ لأن اتصال الجريمة بشخص المجني عليه مما يدعوه للتشدد في استعمال حق العفو عنه، وإذن ففي اتصال الجريمة بشخص المجني عليه ضمان لعدم الإسراف في استعمال حق العفو, وبالتالي ضمان لعدم المساس بأمن الجماعة.
ولقد كانت الشريعة عملية ومنطقية في منح حق العفو للمجني عليه أو وليه؛ لأن العقوبة فرضت أصلاً لمحاربة الجريمة ولكنها لا تمنع وقوع الجريمة في أغلب الأحوال, أما العفو فيؤدي إلى منع الجريمة في أغلب الأحوال، لأنه لا يكون إلا(1/666)
بعد الصلح والتراضي وصفاء النفوس وخلوها من كل ما يدعو إلى الجريمة والإجرام, فالعفو هنا يؤدي وظيفة العقوبة وينتهي إلى نهاية تعجز العقوبة عن الوصول إليها, وهذا هو الوجه العملي لتقرير حق العفو.
أما من ناحية المنطق فقد قلنا إن جرائم القتل والجرح جرائم شخصية, فهي تصدر عن دوافع شخصية في نفس المجرم سببها شخصية المجني عليه, وهي تمس المجني عليه في حياته وبدنه أكثر مما تمس المجتمع في أمنه, فمن حق المجني عليه أن يكون لشخصيته اعتبار في توقيع العقوبة ما دامت الجريمة متصلة بشخصه هذا الاتصال.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد اعترفت بحق المجني عليه في أن يعفو عن عقوبة بعض الجرائم, فإن القوانين الوضعية تعترف بنفس هذا المبدأ وإن كانت لا تطبقه على نفس الجرائم التي ينطبق عليها في الشريعة, ذلك أن من القوانين الوضعية ما يعترف بحق الزوج وهو المجني عليه في جريمة الزنا في أن يعفو عن عقوبة زوجته الزانية. فالشريعة إذن لم تأت بشيء غريب حين اعترفت للمجني عليه بحق العفو وإنما جاءت بمبدأ تعترف به اليوم أحدث القوانين, وتبقى الشريعة بعد ذلك متفوقة على القانون الوضعي تفوقاً ظاهراً في أنها أحسنت اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ؛ لأن تقرير حق العفو في جرائم القتل والجرح يؤدي إلى الوفاق والوئام، ويقضي على دواعي النفور وبواعث الانتقام، فتقل بذلك الجرائم وتخف حدة الإجرام، أما القانون فقد أساء اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ, لأن تقرير حق العفو ي جريمة الزنا يؤدي إلى شيوع الفاحشة وفساد الأخلاق, ويهدم نظام الأسرة وإن أريد به الوفاق الوقتي بين الزوجين, وإذا هدم نظام الأسرة فقد هدم الركن الركين الذي يقوم عليه المجتمع, وما وجد القانون لهدم الجماعة وإنما وجد للمحافظة عليها.
وإذا كان القصاص هو عقوبة القتل العمد والجرح العمد فإن الحكم بالقصاص مقيد بإمكانه بتوفر شروطه، فإذا لم يكن ممكناً ولم تتوفر شروطه امتنع الحكم(1/667)
به ووجب الحكم بالدية ولو لم يطلب المجني عليه أو وليه الحكم بها؛ لأن الدية عقوبة لا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد.
وليس في الشريعة ما يمنع في حالة عدم إمكان الحكم بالقصاص من معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية مع الدية إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة. ومذهب مالك على إيجاب عقوبة التعزير كلما سقط القصاص أو امتنع الحكم به في حالة القتل والجرح (1) .
والقصاص هو العقوبة الأصلية للقتل والجرح في حالة العمد، أما الدية أو التعزير فكلاهما عقوبة بدلية تحل محل القصاص عند امتناع القصاص أو سقوطه بالعفو.
472 - (ثانياً) : الدية: جعلت الشريعة الدية عقوبة أصلية للقتل والجرح في شبه العمد والخطأ، ومصدر هذه العقوبة القرآن وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -, فالله جل شأنه يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92] , والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل".
والدية مقدار معين من المال, وهي إن كانت عقوبة إلا أنها تدخل في مال المجني عليه ولا تدخل خزانة الدولة, وهي من هذه الناحية أشبه بالتعويض خصوصاً وأن مقدارها يختلف تبعاً لجسامة الإصابات ويختلف بحسب تعمد الجاني للجريمة وعدم تعمده لها.
ومن الخطأ اعتبار الدية تعويضاً لهذا التشابه القوي بينها وبين التعويض, وإذ الدية عقوبة جنائية لا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد, وكذلك من
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص268.(1/668)
التجاوز اعتبارها عقوبة خالصة وهي مال خالص للمجني عليه, وأفضل ما يقال في الدية أنها عقوبة وتعويض معاً, فهي عقوبة لأنها مقررة جزاء للجريمة, وإذا عفا المجني عليه عنها جاز تعزير الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة, ولو لم تكن عقوبة لتوقف الحكم بها على طلب المجني عليه, ولما جاز عند العفو عنها أن تحل محلها عقوبة تعزيرية, وهي تعويض لأنها مال خالص للمجني عليه ولأنه لا يجوز الحكم بها إذا تنازل المجني عليه عنها.
وعقوبة الدية ذات حد واحد فليس للقاضي أن ينقص منها شيئاً أو يزيد في مقدارها, وهي إن اختلفت في شبه العمد عنها في الخطأ واختلفت في الجراح بحسب نوع الجرح وجسامته فإن مقدارها ثابت لكل جريمة ولكل حالة, فدية الصغير كدية الكبير, ودية الضعيف كدية القوي، ودية الوضيع كدية الشريف، ودية المحكوم كدية الحاكم, ومن المتفق عليه أن دية المرأة على النصف من دية الرجل في القتل, أما في الجراح فأبو حنيفة والشافعي (1) يريان أن ما يجب للمرأة هو نصف ما يجب للرجل بصفة مطلقة, وبينما يرى مالك وأحمد (2) أن المرأة تساوي الرجل إلى ثلث الدية, فإن زاد الواجب على ثلث الدية فللمرأة نصف ما يجب للرجل (3) . وهناك خلاف على دية غير المسلمين, فالبعض يسوي بين دية المسلم وغير المسلم والبعض يفرق بينهما (4) .
وقد فرقت الشريعة بين عقوبة القتل العمد وعقوبة القتل شبه العمد, فجعلتها في الأول القصاص وفي الثاني الدية المغلظة؛ لأن المجرم في القتل العمد يقصد قتل
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص312, نهاية المحتاج ج7 ص302.
(2) شرح الدردير ج4 ص248، والمغني ج9 ص523.
(3) هذه القاعدة مطلقة عند أحمد, أما مالك فيقيدها باتحاد الفعل واتحاد المحل, راجع شرح الدردير ج4 ص249، ومواهب الجليل ج6 ص264, 265.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص255, شرح الدردير ج4 ص238, المغني ج9 ص527, المهذب ج2 ص211.(1/669)
المجني عليه أما في شبه العمد فالمجرم لا يقصد قتل المجني عليه, ووجود هذا الفرق بينهما في الفعل يمنع من التسوية بينهما في العقوبة, وفضلاً عن هذا فإنه لا يمكن تطبيق عقوبة القصاص على القتل شبه العمد؛ لأن القصاص يقتضي التماثل بين ما يفعله الجاني وما يفعل به، والجاني لم يقصد قتل المجني عليه, فإذا قتل الجاني بالمجني عليه فإن قاتل الجاني لابد أن يقصد قتله, وهنا ينعدم التماثل, فالعدالة والمنطق هما أساس التفريق بين عقوبة العمد وعقوبة شبه العمد.
وفرقت الشريعة بين عقوبة العمد الخالص والخطأ, فجعلتها في حالة العمد القصاص وفي حالة الخطأ الدية المخففة، ناظرة في ذلك إلى أن الجاني في جرائم العمد يتعمد الجريمة ويفكر فيها ويتوسل ارتكابها بمختلف الوسائل ليحقق لنفسه أو لغيره مصلحة مادية أو معنوية، أما الجاني في جرائم الخطأ فإنه لا يتعمد الجريمة ولا يفكر فيها وليس ثمة ما يدفعه لارتكابها, وكل ما هنالك أن إهماله أو عدم احتياطه يؤدي إلى وقوع الفعل المكون للجريمة دون أن يتجه ذهن الجاني إلى هذا افعل بالذات، فالجريمة العمدية إذن تتكون من عنصرين: عنصر معنوي هو اتجاه المجرم النفسي للجريمة، وعنصر مادي هو الفعل المكون للجريمة، أما جريمة الخطأ فيتوفر فيها العنصر المادي فقط وينقصها العنصر المعنوي لتساوي الجريمة العمدية، والفرق بين نفسية الجاني المتعمد وبين نفسية الجاني المخطئ هو علة التفرقة في عقوبة الجريمتين, والفرق بين النفسيتين يساوي تماماً الفرق بين العقوبتين؛ لأن المجرم المتعمد إذا تجرد من العوامل النفسية التي دعت لارتكاب الجريمة أصبح مساوياً للمجرم المخطئ ولم يبقى إلا العنصر المادي للجريمة, ومن أجل ذلك سوت الشريعة بين عقوبة العمد في حالة العفو وبين عقوبة الخطأ وجعلتها الدية في الحالين, فكأن العفو ينصرف إلى العنصر المعنوي في الجريمة العمدية, فإذا كان العفو عن الدية انصرف إلى العنصر المادي في الجريمتين.
ولم تعاقب الشريعة في حالة الخطأ بالقصاص؛ لانعدام الدوافع النفسية لدى(1/670)
الجاني, ولأنه لم يتعمد الجريمة ولم يفكر فيها, ولكن لما كانت الجريمة سببها الإهمال وعدم الحرص, ولما كان يتسبب عنها في الغالب أضرار مالية للمجني عليه أو لورثته, فقد رأت الشريعة لهذين السببين أن تكون العقوبة في أعز ما يحرص عليه الإنسان بعد النفس وهو المال. فكان جزاء عدم الحرص هو الحرمان من المال الذي يتعب الناس أنفسهم في الحرص عليه, وكان جزاء الإضرار بما الآخرين هو الإضرار بالمال, ولا شك أن هذه العقوبة كافية لحمل المتهاون المهمل على أن يتمسك بأهداب الحرص واليقظة.
ويتضح مما سبق أن الدية عقوبة مشتركة بين العمد الذي لا قصاص فيه وبين شبه العمد وبين الخطأ, ولكن مقدار الدية ليس واحداً في هذه الحالات الثلاث, فدية العمد وشبه العمد واحدة وهي الدية المغلظة, ودية الخطأ هي الدية المخففة.
والأصل أن الدية بصفة عامة من الإبل, والتغليظ والتخفيف لا دخل له في العدد إنما يكون في أنواع الإبل وأسنانها.
ولفظ الدية إذا أطلق يقصد منه الدية الكاملة وهي مائة من الإبل سواء كانت الدية مغلظة أو مخففة, أما ما هو أقل من الدية الكاملة فيطلق عليه لفظ الأرش, فيقال أرش اليد وأرش الرجل, على أن الكثيرين يستعملون لفظ الدية فيما يجب أن يستعمل فيه لفظ الأرش.
والأرش على نوعين: أرش مقدر, وأرش غير مقدر, فالأول: هو ما حدد الشارع مقداره كأرش الأصبع واليد، والثاني: هو ما لم يرد فيه نص وترك للقاضي تقديره, ويسمى هذا النوع من الأرش حكومة أو حكومة العدل.
من يحمل الدية: والقاعدة العامة أن دية العمد تجب في مال المجني عليه دون غيره سواء كانت الدية عن النفس أو ما دون النفس, إلا أن مالكاً يستثني من هذه القاعدة أرش الجراح التي يمتنع القصاص فيها خوف تلف الجاني ككسر الفخذ والجائفة, ويرى أن العاقلة تحمل مع الجاني ما بلغ ثلث دية الجاني أو(1/671)
المجني عليه من هذه الجراح, بشرط أن لا تكون الجريمة قد ثبتت على الجاني بالاعتراف لأن العاقلة لا تحمل اعترافاً (1) .
ولكن الفقهاء اختلفوا فيمن يحمل الدية إذا كان الجاني صغيراً أو مجنوناً, فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية الواجبة على الصغير والمجنون تحملها العاقلة ولو تعمد الفعل؛ لأنهم يرون أن عمد الصغير والمجنون خطأ لا عمد, وإذ لا يمكن أن يكون لهما قصد صحيح فألحق عمدهما بالخطأ (2) ، وفي مذهب الشافعي رأيان أحدهما وهو المرجوح يتفق مع الرأي السابق, والثاني هو الراجح (3) يرى أن عمد الصغير والمجنون عمد؛ لأنه يجوز تأديبهما على القتل العمد وإن كان لا يمكن القصاص منهما, فكان عمدهما عمداً كالبالغ العاقل, وعلى هذا تجب الدية في مالهما.
ويختلف الفقهاء في حكم شبه العمد (4) والخطأ، فيرى مالك أن العاقلة تحمل ما يبلغ ثلث دية المجني عليه أو الجاني, فما كان دون الثلث فهو على الجاني وحده (5) . ويرى أحمد أن الجاني يحمل ما دون ثلث الدية الكاملة، فإن بلغ الثلث أو زاد عليه حملته العاقلة (6) . ويرى أبو حنيفة أن الجاني يحمل ما دون نصف عشر الدية الكاملة وما زاد على ذلك تحمله العاقلة (7) . ويرى الشافعي أن العاقلة تحمل الجميع ما قل أو كثر؛ لأن من ألزم بالكثير ألزم بالقليل من باب أولى (8) .
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص250، بدائع الصنائع ج7 ص255، المغني ج9 ص488, المهذب ج2 ص209.
(2) شرح الدردير ج4 ص210، البحر الرائق ج8 ص341، المغني ج9 ص504.
(3) المهذب ج2 ص210.
(4) يلاحظ أن مالكاً لا يعترف بشبه العمد والفعل طبقاً لمشهور مذهبه؛ إما أن يكون عمداً أو خطأ ولا وسط بينهما.
(5) مواهب الجليل ج6 ص265.
(6) المغني ج9 ص505, 506.
(7) بدائع الصنائع ج7 ص255.
(8) المهذب ج2 ص227.(1/672)
وإذا حملت العاقلة الدية فيرى مالك وأبو حنيفة أن يتحمل الجاني من الدية ما يحمله أحد أفراد العاقلة, أما الشافعي وأحمد فيريان أن لا يحمل الجاني شيئاً مع العاقلة.
العاقلة: هي من يحمل العقل. والعقل هو الدية, وسميت عقلاً لأنها تعقل لسان ولي المقتول, وقيل: إنها سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل. فالعقل على هذا هو المنع.
وعاقلة القاتل هم عصباته, فلا يدخل في العاقلة الإخوة لأم ولا الزوج ولا سائر ذوي الأرحام.
ويدخل في العصبة سائر العصبات مهما بعدوا؛ لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم كن وارث أقرب منهم، ولا يشترط أن يكونوا وارثين في الحال, بل متى كانوا يرثون، لولا الحجب عقلوا.
ولا تكلف العاقلة من مال ما يجحف بها ويشق عليها؛ لأنه لزمها من غير جناية على سبيل المواساة للجاني والتخفيف عنه, فلا يخفف عن الجاني بما يشق على غيره ويجحف به, ولو كان الإجحاف مشروعاً كان الجاني ألحق به؛ لأنه موجب جنايته وجزاء فعله, فإن لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى.
واختلف الفقهاء في مقدار ما يحمله كل فرد, فقال مالك وأحمد: يترك الأمر للحاكم يفرض على كل واحد ما يسهل عليه ولا يؤذيه. وفي مذهب مالك رأي بفرض دينار على كل شخص. وفي مذهب أحمد رأي آخر يفرض نصف مثقال على الموسر وربع مثقال على متوسط الحال, وهو مذهب الشافعي. ويرى أبو حنيفة أن لا يزيد ما يؤخذ من الفرد عن ثلاثة أو أربعة, كما يرى التسوية بين الغني ومتوسط الحال (1) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص256, المغني ج9 ص520, مواهب الجليل ج6 ص267، المهذب ج2 ص230.(1/673)
وليس على الفقير ولا على المرأة ولا على الصبي ولا على زائل العقل شئ من الدية؛ لأن تحميل الفقير إجحاف به, ولأن المرأة والصبي والمجنون ليسوا من أهل النصرة, ولكن هؤلاء إذا كانوا جناة يعقل عنهم.
وإذا لم يكن للجاني عاقلة أصلاً أو كانت له عاقلة فقيرة أو عددها صغير لا تتحمل كل الدية, فهناك رأيان: الأول: يرى أصحابه أن يقوم بيت المال مقام العاقلة، فإذ لم كن عاقلة أو كانت عاقلة ولكنها فقيرة أخذت الدية كلها من بيت المال. وهذا الرأي هو مذهب مالك والشافعي وظاهر مذهب أبو حنيفة ومذهب أحمد. الثاني: يرى أصحابه أن الدية تجب في مال القاتل؛ لأن الأصل أن القاتل هو المسئول عن الدية، وإنما حملتها العاقلة للتناصر والتخفيف, فإذا لم تكن عاقلة يرد الأمر لأصله. وهذا الرأي رواية عن أبي حنيفة لمحمد, ويقول به بعض الحنابلة (1) .
علة تحميل العاقلة الدية: وتحمل الدية للعاقلة معناه أن آخرين غير الجاني يحملون وزر جريمته, وهو استثناء من القاعدة الشرعية العامة {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، إلا أن ظروف الجناة والمجني عليهم هي التي سوغت هذا الاستثناء وجعلت الأخذ به لازماً لتحقيق العدالة والمساواة, ولضمان الحصول على الحقوق, ويمكن تبرير هذا الاستثناء بالمبررات الآتية:
1 - لو أخذنا بالقاعدة العامة فتحمل كل مخطئ وزر عمله لكانت النتيجة أن تنفذ العقوبة على الأغنياء وهم قلة, ولامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة، ويتبع هذا أن يحصل المجني عليه أو وليه على الدية كاملة إن كان الجاني غنياً, وعلى بعضها أن كان متوسط الحال, أما إذا كان الجاني فقيراً وهو كذلك في أغلب الأحوال فلا يحصل المجني عليه من الدية على شئ, وهكذا تنعدم العدالة
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص266, بدائع الصنائع ج7 ص256, المغني ج9 ص254، المهذب ج2 ص228.(1/674)
والمساواة بين الجناة كما تنعدم بين المجني عليهم, فكان ترك القاعدة العامة إلى هذا الاستثناء واجباً لتحقيق العدالة والمساواة.
2 - إن الدية وإن كانت عقوبة إلا أنها حق مالي للمجني عليه أو وليه, وقد روعي في تقديرها أن تكون تعويضاً عادلاً عن الجريمة، فلو أخذ بالقاعدة العامة وتحمل المتهم وحده الدية لما أمكن أن يصل معظم المجني عليهم إلى الدية التي يحكم بها؛ لأن مقدرا الدية أكبر عادة من ثروة الفرد، إذ الدية الكاملة مائة من الإبل تقدر بألف دينار, ولاشك أن ثروة الفرد الواحد في أغلب الأحوال أقل بكثير من مقدرا الدية الواحدة, فلو طبقنا القاعدة العامة وتحمل الجاني وحده وزر عمله لكان ذلك مانعاً من حصول المجني عليهم على حقوقهم, فكان ترك القاعدة إلى هذا الاستثناء هو الضمان الوحيد الذي يضمن وصول الحقوق المقررة إلى أربابها.
ويلاحظ أن المجني عليهم في جرائم العمد لا يتعرضون لمثل هذه الحالة؛ لأن العقوبة الأصلية هي القصاص ولا تستبدل بها الدية إلا إذا عفا المجني عليه أو وليه عن القصاص, ولن يعفو أحدهم عن القصاص إلا إذا كان ضامناً الحصول على الدية، فإذا عفا أحدهما عن القصاص وقبل الدية ولم يكن مال الجاني كافياً لسداد الدية فذلك هو اختيار المجني عليه أو وليه، وليس لأحدهما أن يتضرر من هذا الوضع الذي وضع فيه نفسه.
3 - إن العاقلة تحمل الدية في جرائم الخطأ أو شبه العمد وهو ملحق بالخطأ, وأساس جرائم الخطأ هو الإهمال وعدم الاحتياط, وهذان سببهما سوء التوجيه وسوء التربية غالباً, والمسئول عن تربية الفرد وتوجيهه هم المتصلون به بصلة الدم، كما أن الفرد ينقل دائماً عن أسرته ويتشبه بأقاربه, فكأن الإهمال وعدم الاحتياط هو في الغالب ميراث الأسرة, ولما كانت الأسرة تأخذ عن البيئة والجماعة فيكون الإهمال وعدم الاحتياط في النهاية ميراث الجماعة، فوجب لهذا(1/675)
أن تتحمل أولاً عاقلة الجاني نتيجة خطئه, وأن تتحمل الجماعة أخيراً هذا الخطأ كما عجزت العاقلة عن حمله.
ويمكننا أن نقول أيضاً: إن الإهمال وعدم الاحتياط هو نتيجة الشعور بالعزة والقوة, وإن هذا الشعور يتولد من الاتصال بالجماعة, فالمشاهد أن من لا أسرة له يكون أكثر احتياطاً ويقظة ممن له أسرة, وأن المنتمين للأقليات يكونون أكثر حرصاً من المنتمين للأكثريات. فوجب لهذا أن تتحمل العاقلة والجماعة نتيجة الخطأ ما دام أنهما هما المصدر الأول للإهمال وعدم الاحتياط.
4 - إن نظام الأسرة ونظام الجماعة يقوم كلاهما بطبيعته على التناصر والتعاون ومن واجب الفرد في كل أسرة أن يناصر باقي أفراد الأسرة ويتعاون معهم. وكذلك واجب الفرد في كل جماعة. وتحميل العاقلة أولاً والجماعة ثانياً نتيجة خطأ الجاني يحقق التعاون والتناصر تحقيقاً تاماً, بل أنه يجدده ويؤكده في كل وقت. فكلما وقعت جريمة من جرائم الخطأ اتصل الجاني بعاقلته واتصلت العاقلة بعضها ببعض وتعاونوا على جمع الدية وإخراجها من أموالهم. ولما كانت جرائم الخطأ تقع كل يوم فمعنى ذلك أن الاتصال والتعاون والتناصر بين الأفراد ثم الجماعة كل أولئك يظل متجدداً مستمراً.
5 - إن الحكم بالدية على الجاني وعلى عاقلته فيه تخفيف عن الجناة ورحمة بهم وليس فيه غبن وظلم لغيرهم؛ لأن الجاني الذي تحمل عنه العاقلة اليوم دية جريمته ملزم بأن يتحمل غداً بنصيب من الدية المقررة لجريمة غيره من أفراد العاقلة, وما دام كل إنسان معرضاً للخطأ فسيأتي اليوم الذي يكون فيه ما حمله فرد بعينه عن غيره مساوياً لما تحمله هذا الغير عنه.
6 - إن القاعدة الأساسية في الشريعة هي حياطة الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، والدية مقررة بدلاً من الدم وصيانة له عن الإهدار, فلو تحمل كل(1/676)
جان وحده بالدية التي تجب بجريمته وكان عاجزاً عن أدائها, لأهدر بذلك دم المجني عليه, فكان الخروج عن القاعدة العامة إلى الاستثناء واجباً حتى لا تذهب الدماء هدراً دون مقابل.
هذه هي أهم المبررات التي دعت إلى الخروج على القاعدة العامة, ولعل هذا الاستثناء هو في الشريعة الإسلامية الاستثناء الوحيد لقاعدة "ألا تزر وازرة وزر أخرى"، أو لقاعدة تفريد العقاب كما تسميها النظريات القانونية الحديثة، وقد أخذت الشريعة بهذا الاستثناء لأنه يحقق الرحمة والمساواة والعدالة ويمنع إهدار الدماء ويضمن الحصول على الحقوق (1) .
هل يمكن الأخذ بنظام العاقلة اليوم؟: نظام العقلة على ما فيه من عدالة وتسوية بين الجناة والمجني عليهم لا يمكن أن يقوم في عهدنا الحاضر, لأن أساسه وجود العاقلة, لا شك أن العاقلة ليس لها وجود اليوم إلا في النادر الذي لا حكم له, وإذا وجدت فإن عدد أفرادها قليل لا يتحمل أن تفرض عليه كل الدية, ولقد كان للعاقلة وجود طالما احتفظ الناس بأنسابهم وقراباتهم وانتموا إلى قبائلهم وأصولهم, أما الآن فلا شيء من هذا في أغلب البلاد والأقطار, وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين الذين أخذ بهما الفقهاء من قبل, فإما الرجوع على الجاني بكل الدية, وإما الرجوع على بيت المال.
والرجوع على الجاني يؤدي إلى إهدار دماء أكثر المجني عليهم؛ لأن أكثر الجناة فقراء وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التي تقوم على حفظ الدماء وحياطتها، كما أن الرجوع على الجاني يؤدي إلى انعدام العدالة والمساواة.
والرجوع على بيت المال يرهق الخزانة العامة, ولكنه يحقق العدالة والمساواة، ويصون الدماء, ويحقق أغراض الشريعة, وإذن يجب أن لا يكون الخوف من إرهاق الخزنة مانعاً من العدالة والمساواة, وحائلاً دون تحقيق أغراض
_________
(1) راجع الفقرة 281.(1/677)
الشريعة, فالحكومة تستطيع أن تفرض ضريبة عامة تخصص دخلها لهذا النوع من التعويض, وتستطيع أن تخصص الغرامات التي يحكم بها على المتقاضين لهذا الغرض, وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعالة الفقراء والعاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض المجني عليهم وورثتهم المنكوبين.
ولقد أخذت بعض الدول الأوروبية بهذه الفكرة كألمانيا وإيطاليا ويوغسلافيا، فأنشأت خزانة خاصة تسمى خزانة الغرامات, إيرادها المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم, وخصص إيراد هذه الخزانة لتعويض المجني عليهم في الجرائم بشرط أن تكون أموال الجاني لا تكفي للتعويض (1) .
وهذا الذي أخذت به بعض البلاد الأوروبية هو جزء من نظام العاقلة أخذت به هذه البلاد لتحقق بعض الأغراض التي ترمي الشريعة لتحقيقها, وإذا كان نظام العاقلة يقوم على هذا الوجه في البلاد الأوروبية فأولى بنا وهو نظامنا الأصيل أن نقيمه بيننا على الوجه الذي يحقق أغراض الشريعة ويلائم ظروفنا.
473 - (ثالثاً) : الكفارة: الأصل في الكفارة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ} [النساء: 92] .
والكفارة عقوبة أصلية وهي عتق رقبة مؤمنة, فمن لم يجدها أو يجد قيمتها يتصدق بها فعليه صيام شهرين متتابعين, فالصوم عقوبة بدلية لا تكون إلا إذا امتنع تنفيذ العقوبة الأصلية.
وظاهر النص أن الكفارة شرعت في القتل الخطأ, ومن المتفق عليه أنها واجبة
_________
(1) الموسوعة الجنائية ج5 ص124.(1/678)
في القتل الخطأ, وكذلك القتل شبه العمد؛ لأنه يشبه الخطأ من وجه إذا الجاني لا يقصد قتل المجني عليه.
ولكن الفقهاء اختلفوا في وجوب الكفارة في القتل العمد, فيرى الشافعي أنها تجب في القتل العمد؛ لأنها إذا وجبت في القتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن يجب في العمد وقد تغلظ بالإثم أولى (1) ، ولأحمد رأي يتفق مع رأي الشافعي ولكن المشهور في المذهب أن لا كفارة في القتل العمد؛ لأن نص القتل العمد جاء خلواً من الكفارة (2) . ويرى أبو حنيفة أن لا كفارة في القتل العمد؛ لأن الكفارة من العقوبات المقدرة فلابد من النص عليها (3) . ولا يوجب مالك الكفارة في القتل العمد ولكنه يراها مندوباً إليها في العمد الذي لم يقتص فيه سواء كان عدم القصاص راجعاً لمانع شرعي أو للعفو (4) .
ولا يفرق مالك والشافعي وأحمد في القتل الذي تجب فيه الكفارة بين أن يكون القتل مباشراً أو بالتسبب, ولكن أبا حنيفة يرى أن لا كفارة في القتل بالتسبب أياً كان نوعه, أي ولو كان خطأ (5) .
على من تجب الكفارة؟: تجب الكفارة عند الشافي وأحمد على القاتل أياً كان بالغاً أو غير بالغ, عاقلاً أو مجنوناً, مسلماً أو غير مسلما (ً (6) . ويرى مالك أنها تجب على الصبي والبالغ والعاقل والمجنون ولكنها لا تجب إلا على مسلم؛ لأنها تعبدية (7) . ويرى أبو حنيفة أنها لا تجب إلا على بالغ مسلم؛ لأن الصبي والمجنون
_________
(1) المهذب ج2 ص334.
(2) المغني ج10 ص40.
(3) البحر الرائق ج8 ص291.
(4) مواهب الجليل ج6 ص268.
(5) شرح الدردير ج4 ص254, البحر الرائق ج8 ص293, المغني ج10 ص37, المهذب ج2 ص234.
(6) المغني ج10 ص38, نهاية المحتاج ج7 ص364, 365.
(7) شرح الدردير ج4 ص254, مواهب الجليل ج6 ص286.(1/679)
لا يخاطب كلاهما بالشرائع أصلاً؛ ولأن غير المسلم لا يلزم بما هو عبادة، والكفارة وإن كانت عقوبة إلا أنها في نفس الوقت عبادة (1) .
وحجة الشافعي وأحمد أن الكفارة عقوبة مالية، والمجنون والصغير إن لم يسألا عن فعلهما من الناحية الجنائية فإنهما ضامنان له من الناحية المالية, وأما غير المسلم فهو ملزم بالكفارة لعموم النص.
الصيام: والصيام عقوبة بدلية لعقوبة الكفارة الأصلية وهي العتق, ولا يجب الصيام إلا إذا لم يجد القاتل الرقبة أو قيمتها فاضلة عن حاجته, فإن وجدها فلا يجب الصيام عليه.
474 - (رابعاً) : الحرمان من الميراث: الحرمان من الميراث عقوبة تبعية تصيب القاتل تبعاً للحكم عليه بعقوبة القتل, والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس للقاتل شيء من الميراث"، وقوله: "ليس للقاتل ميراث بعد صاحب البقرة".
وقد اختلف الفقهاء اختلافاً كبيراً في الحرمان من الميراث بحيث لا يتفق مذهبان في هذه المسألة.
فمالك يرى أن القتل المانع من الميراث هو القتل العمد العدوان, سواء كان القتل مباشرة أو تسبباً, وسواء اقتص من القاتل أو درئ عن القصاص لسبب ما. أما القتل الخطأ فلا يحرم القاتل من الميراث وإنما يحرمه فقط من الدية التي وجبت بالقتل (2) . والرأي الراجح في المذهب الراجح يقضي بحرمان الصغير والمجنون من الميراث.
وأبو حنيفة يرى حرمان القاتل من الميراث أياً كان نوع القتل, بشرط أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً, وأن يكون عدواناً, وأن لا يكون من صغير أو مجنون (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص252.
(2) شرح الدردير ج4 ص432، مواهب الجليل ج6 ص422.
(3) البحر الرائق ج8 ص488، 500.(1/680)
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من فرق بين القتل المضمون وبين القتل غير المضمون، ورأى الحرمان من الميراث إذا كان القتل مضموناً؛ لأنه قتل بغير حق, أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث؛ لأنه قتل بحق. ومنهم من قال: إن كان متهماً باستعجال الميراث حرم من الميراث, كما في القتل الخطأ، وكما لو حكم على مورثه في جريمة الزنا على أساس البينة فإنه يحرم؛ لأنه متهم في قتله باستعجال الميراث, وإن لم يكن متهماً باستعجال الميراث فلا حرمان، كما لو حكم عليه في الزنا بإقراره.
والرأي الراجح في المذهب غير هذين، وهو أن القاتل يحرم الإرث في كل حال سواء كان القتل عمداً أو شبه عمد أو خطأ، وسواء كان مباشرة أو تسبباً، وسواء كان القتل بحق أو بغير حق، وسواء كان القاتل بالغاً عاقلاً أو صغيراً أو مجنوناً. وأصحاب هذا الرأي يرون أن الحرمان من الميراث قصد به سد الذرائع ومنع الوارث من استعجال الميراث (1) .
ويرى أحمد أن القتل المضمون هو القتل المانع من الإرث، أما غير المضمون فلا يمنع الميراث؛ كالقتل دفاعاً عن النفس والقتل قصاصاً. ويعللون حرمان الصبي والمجنون من الميراث في مذهب أحمد بأن ما فعله القصاص لقصور الأهلية لا يمنع من حرمان الجاني من الميراث, بل إن الاحتياط يقتضي المنع من الميراث صوناً للدماء (2) .
475 - الحرمان من الوصية: الحرمان من الوصية عقوبة تبعية, والأصل فيها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لقاتل"، وقوله: "ليس لقاتل شيء"، وذكر الشيء نكرة في محل النفي يعم الميراث والوصية جميعاً.
_________
(1) المهذب ج2 ص26.
(2) الإقناع ج3 ص123، مجلة القانون والاقتصاد س6 ص586.(1/681)
وقد اختلف الفقهاء في تفسير هذين النصين وتطبيقهما:
ففي مذهب مالك يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ, ويتفقون على أن القتل الخطأ لا يصلح سبباً للحرمان من الوصية, فالقاتل خطأ تصح الوصية له في المال ولو لم يكن المقتول عالماً بأنه هو قاتله, فإن علم بأنه قاتله وأوصى له صحت الوصية في المال وفي الدية. ولكنهم اختلفوا في القتل العمد، فرأى البعض أن الوصية لا تصح إذا كان المقتول لا يعلم أن الموصى له قاتله، فإن علم أنه قاتله وأوصى له بعد الجناية فالوصية تصح في المال ولا تصح في الدية؛ لأن الدية مال لم يجب إلا بالموت، وعلى هذا إذا كانت الوصية قبل الجريمة فإنها تبطل بارتكاب جريمة القتل العمد إلا إذا رأى المقتول البقاء على الوصية. ورأى البعض الآخر أن الوصية تصح للقاتل عمداً سواء علم الموصى بأنه قاتله أو لم يعلم، ويستوي عند أصحاب هذا الرأي أن تكون الوصية قبل القتل أو بعده فهي صحيحة في الحالين (1) .
ويرى أبو حنيفة حرمان القاتل من الوصية أياً كان نوع القتل، بشرط أن يكون القتل مباشراً, وأن يكون عدواناً، وأن يكون من بالغ عاقل. ويرى أبو حنيفة أن الوصية تصح إذا أجازها الورثة، ويرى أبو يوسف أنها لا تصح ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة (2) .
وفي مذهبي الشافعي وأحمد نظريتان:
الأولى: يرى أصحابها أن الوصية لا تصح لقاتل, وأصحاب هذه النظرية ينقسمون بعد ذلك إلى فريقين: فريق يرى أن الوصية لا تصح ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة, فإجازة الورثة تكون هبة مبتدأة ينبغي أن تتوافر فيها شروط الهبة. وفريق يرى أن الوصية تصح بإجازة الورثة.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص386، شرح الدردير ج4 ص379.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص339, 340.(1/682)
الثانية: يرى أصحابها أن الوصية للقاتل صحيحة في كل حال دون حاجة لإجازة الورثة (1) .
* * *
الفصل الثالث
عقوبات الكفارات
476 - الكفارة: هي العقوبة المقررة على المعصية بقصد التكفير عن إتيانها. والكفارة في الأصل نوع من العبادة؛ لأنها عبارة عن عتق أو إطعام مساكين أو صوم، فإذا فرضت على عمل لا يعتبر معصية فهي عبادة خالصة كالإطعام بدلاً من الصوم لمن لا يطيق الصوم، وإذا فرضت على ما يعتبر معصية فهي عقوبة جنائية خالصة كالكفارة في القتل الخطأ، ولأن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة نستطيع أن نسميها عقوبة تعبدية.
والكفارات عقوبات مقدرة حدد الشارع أنواعها وبين مقاديرها، ومن أجل هذا فهي لا تجب إلا فيما أوجبها فيه الشارع بنص صريح.
والجرائم التي يحكم فيها بالكفارة محدودة وهي:
(1) إفساد الصيام. ... (2) إفساد الإحرام. ... (3) الحنث في اليمين.
(4) الوطء في الحيض. (5) الوطء في الظهار. ... (6) القتل.
والكفارة الواجبة في كل هذه الجرائم ليست واحدة وهي تختلف في نوعها ومقدارها وطريقة أدائها باختلاف الجريمة.
وعقوبة الكفارة قد تصحبها عقوبة مقدرة أخرى كما هو الحال في القتل الخطأ، فعقوبته الدية والكفارة معاً وكلاهما عقوبة مقدرة، وقد تصحب الكفارة
_________
(1) المهذب ج1 ص457، الإقناع ج3 ص59، شرح الكبير ج9ص424، 425.(1/683)
عقوبة غير مقدرة أي عقوبة تعزيرية كما هو الحال في الظهار (1) .
والكفارات التي فرضتها الشريعة عقوبات جنائية وهي: العتق، والإطعام، والكسوة، والصيام.
أولاً: العتق: المقصود عتق الرقبة؛ أي تحرير أحد الأرقاء، ويشترط في الرقيق المعتق شروط خاصة لا محل لذكرها هنا، كما يشترط لعتق الرقبة أن تكون فاضلة عن حاجة المعتق، فإن لم يجد الرقبة ووجد قيمتها فاضلة عن حاجته تصدق بقيمتها.
واليوم وقد بطل الرق في العالم كله تقريباً يجب على من وجب عليه عتق رقبة أن يتصدق بقيمتها إن وجد قيمتها فاضلة عن حاجته.
ثانياً: الإطعام: المقصود بالإطعام إطعام المساكين، وكفارة الإطعام تختلف باختلاف الجرائم، فقد تكون الكفارة إطعام عشرة مساكين كما في كفارة اليمين، وقد تكون إطعام ستين مسكيناً كما هو الحال في إفساد الصوم.
ويجزئ في الإطعام أن يكون من أوسط ما يطعم المطعم أهله، وأن يكون مرة واحدة.
ثالثاً: الكسوة: الكسوة لا تدخل في غير كفارة اليمين حيث لم ينص عليها إلا في كفارة اليمين، ولا يجزئ في الكفارة أقل من كسوة عشرة مساكين، لقوله تعالى: {} [المائدة: 89] .
رابعاً: الصيام: والمقصود صيام الجاني، والصوم لا يكون عادة إلا في حالة العجز عن الكفارات الأخرى، وتختلف مدة الصيام باختلاف الجريمة التي يكفر عنها، فقد يكون ثلاثة أيام كما في كفارة اليمين، أو صوم شهرين كما في القتل الخطأ.
_________
(1) تبصرة الحكام ج2 ص259، المقدمات لابن رشد ج2 ص151، أسنى المطالب ج4 ص162.(1/684)
ومن المسلم به أن الصيام لا يجوز إلا في حق المسلم، أما غير المسلم فلا يطلب منه التكفير بالصيام؛ لأن الصوم عبادة لا يلزم بها غير المسلم.
* * *
الفصل الرابع
عقوبات التعازير
477 - ماهية التعازير: التعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، أي: هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لأيها عقوبة مقدرة.
والتعازير هي مجموعة من العقوبات غير المقدرة، تبدأ بأتفه العقوبات كالنصح والإنذار، وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد، بل قد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة للجريمة ولحال المجرم ونفسيته وسوابقه.
ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم فيما عدا جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فلها عقوباتها الخاصة، ولا يعاقب عليها باعتبار التعزير عقوبة أصلية وإنما باعتباره عقوبة بدلية تجب عند امتناع العقوبة الأصلية كعدم توفر شروط الحد، أو باعتباره عقوبة إضافة تضاف إلى العقوبة الأصلية كالتغريب في الزنا عند أبي حنيفة، وكإضافة التعزير للقصاص في الجراح عند مالك، وكإضافة أربعين جلدة على حد الخمر عند الشافعي.
وقد جرى التشريع الجنائي الإسلامي على أن لا يفرض لكل جريمة من جرائم التعزير عقوبة معينة كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن تقييد القاضي بعقوبة معينة يمنع العقوبة أن تؤدي وظيفتها، ويجعل العقوبة غير عادلة في كثير من الأحوال؛ لأن ظروف الجرائم والمجرمين تختلف اختلافاً بيناً، وما قد يصلح مجرماً بعينه قد يفسد مجرماً آخر، وما يردع شخصاً عن جريمة قد لا يردع غيره.(1/685)
ومن أجل هذا وضعت الشريعة لجرائم التعازير عقوبات متعددة مختلفة هي مجموعة كاملة من العقوبات تتسلسل من أتفه العقوبات إلى أشدها، وتركت للقاضي أن يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني واستصلاحه وبحماية الجماعة من الإجرام، وللقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو بأكثر منها، وله أن يخفف العقوبة أو يشدها إن كانت العقوبة ذات حدين، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة إن رأى في ذلك ما يكفي لتأديب الجاني وردعه واستصلاحه.
وليس ثمة خطر من إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع في جرائم التعزير؛ لأنها ليست في الغالب جرائم خطيرة؛ ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، أما الجرائم الخطيرة وهي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فقد وضعت لها الشريعة عقوبات مقدرة، ولم تترك للقاضي أي سلطان عليها إلا بتطبيق العقوبة المقررة كلما ثبتت الجريمة على الجاني.
وإذا كانت الشريعة قد عرفت عقوبات تعزيرية معينة فليس معنى ذلك أنها لا تقبل غيرها، بل إن الشريعة تتسع لكل عقوبة تصلح الجاني وتؤدبه وتحمي الجماعة من الإجرام، والقاعدة العامة في الشريعة أن كل عقوبة تؤدي إلى تأديب المجرم واستصلاحه وزجر غيره وحماية الجماعة من شر المجرم والجريمة هي عقوبة مشروعة.
478 - الفرق بين التعازير وغيرها من العقوبات: هناك فروق ظاهرة تميز التعازير عن العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وأهم هذه الفروق ما يأتي:
(1) العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي عقوبات مقدرة معينة، فهي عقوبات لازمة ليس للقاضي أن يستبدل بها غيرها، وليس له(1/686)
أن ينقص منها أو يزيد فيها ولو كانت بطبيعتها ذات حدين كالجلد؛ لأن تقديرها وتعيينها يجعلها في حكم العقوبة ذات الحد الواحد. أما التعازير فهي عقوبات غير مقدرة، فللقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة، وهي في الغالب ذات حدين وللقاضي أن ينزل بالعقوبة إلى حدها الأدنى أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى، على أن من عقوبات التعازير ما هو ذو حد واحد كالتوبيخ والنصح، ولكن القاضي مع هذا غير مقيد بعقوبة بعينها إلا إذا كانت هي بالذات الملائمة للجريمة والمجرم.
(2) العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لا تقبل العفو ولا الإسقاط من ولي الأمر، أما التعازير فتقبل العفو من ولي الأمر سواء كانت الجريمة ماسة بالجماعة أو بالأفراد.
(3) عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ينظر فيها إلى الجريمة ولا اعتبار فيها لشخصية المجرم، أما التعازير فينظر فيها إلى الجريمة وإلى شخص المجرم معاً.
479 - أنواع التعازير: التعازير على أنواع في الشريعة، وسنذكر فيما يلي أهم ما عرفته الشريعة من التعازير ووضع فعلاً موضع العمل، وعلينا أن لا ننسى أن مبادئ الشريعة لا تمنع من الأخذ بأية عقوبة أخرى تحقق أغراض الشريعة من العقاب.
480 - عقوبة القتل: الأصل في الشريعة أن التعزير للتأديب، وأنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً (1) ، فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مهلكة، ومن ثم فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع (2) .
_________
(1) البحر الرائق ج5 ص44، شرح الزرقاني ج8 ص115، 116، أسنى المطالب ج4 ص161 وما بعدها.
(2) المراجع السابقة، وتبصرة الحكام ج2 ص264، والإقناع ج4 ص269.(1/687)
لكن الكثيرين من الفقهاء أجازوا استثناء هذه القاعدة العامة أن يعاقب بالقتل تعزيراً إذا اقتضت المصلحة العامة تقرير عقوبة القتل، أو كان فساد المجرم لا يزول إلا بقتله، كقتل الجاسوس والداعية إلى البدعة ومعتاد الجرائم الخطيرة (1) .
وإذا كان القتل تعزيراً قد جاء استثناء من القاعدة فإنه لا يتوسع فيه ولا يترك أمره للقاضي ككل العقوبات التعزيرية، بل يجب أن يعين ولي الأمر الجرائم التي يجوز فيها الحكم بالقتل، وقد اجتهد الفقهاء في تعيين هذه الجرائم وتحديدها، ولم يبيحوا القتل إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، بأن كان المجرم قد تكررت جرائمه ويئس من إصلاحه، أو كان استئصال المجرم ضرورياً لدفع فساده وحماية الجماعة منه.
ويبيح الحنفيون عامة القتل تعزيراً ويسمونه القتل سياسة، ويرى بعض الحنابلة هذا الرأي وعلى الأخص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ويأخذ بهذا الرأي قليل من المالكية (2) ، ولكن أكثر الجرائم التي يبيح فيها الحنفية القتل تعزيراً أو سياسةً يعاقب عليها حداً أو قصاصاً في المذاهب الأخرى، فما يظن توسعاً في مذهب الحنفية هذه الوجهة هو توسع ظاهري في أكثر الحالات، فمثلاً يبيح الحنفية القتل تعزيراً في جريمة القتل بالمثقل وفي جريمة اللواط، ولا يرون القتل قصاصاً في الحالة الأولى أو حداً في الحالة الثانية، بينما يرى مالك والشافعي وأحمد قتل القاتل بالمثقل قصاصاً وقتل اللائط والملوط به حداً، ويرى بعض الحنابلة والمالكية قتل الداعية إلى البدعة تعزيراً بينما يراه غيرهم مرتداً بدعوته للبدعة فيقتل حداً.
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج4 ص247، 248، الإقناع ج4 ص271، الطرق الحكمية لابن القيم ص106، الاختيارات لابن تيمية ص178، 179، مواهب الجليل ج3 ص357، البحر الرائق ج5 ص45، مجموعة الوسائل لابن تيمية، الحسبة، ص58.
(2) لا يبيح الشافعيون ومعظم المالكيين القتل تعزيراً، ويفضلون أن يحبس الجاني المفسد الذي يستضر بجرائمه إلى غير أمد لكف شره عن الجماعة، ويؤيدهم في هذا الاتجاه بعض الحنابلة.(1/688)
والقتل تعزيراً بالشروط السابقة لا يمكن أن يكون إلا في جرائم تعزيرية محدودة العدد، وقد رأينا فيما سبق أن الشريعة جعلت القتل عقوبة في أربع جرائم من جرائم الحدود وهي: الزنا، والحرابة، والردة، والبغي. وجعلته عقوبة في جريمة واحدة من القصاص وهي القتل العمد، فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم أيضاً كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيراً، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يبيحون القتل تعزيراً، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتض، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى أواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد بحيث كان القانون الإنجليزي مثلاً يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام.
ولقد حاولت بعض الدول الأوروبية في العهد الأخير أن تلغي عقوبة القتل ولكن حركة الإلغاء وقفت تحت تأثير النظرية الإيطالية التي ترى في عقوبة القتل وسيلة حسنة لاستئصال من لا يرجى صلاحهم من المجرمين، بل إن بعض البلاد التي ألغت عقوبة القتل فعلاً كإيطاليا وروسيا والنمسا عادت فقررت القتل عقوبة في قوانينها.
وعقوبة القتل مقررة في كل الدول الكبرى كإنجلترا وألمانيا وفرنسا وأمريكا، وأهم ما يبرر به شراح القوانين عقوبة القتل هو أنها وسيلة صالحة لمقاومة الإجرام ولاستئصال المجرمين الخطرين على الجماعة، وهذه هي نفس المبررات التي قال بها فقهاء الشريعة.
481 - عقوبة الجلد: تعتبر عقوبة الجلد من العقوبات الأساسية في الشريعة، فهي عقوبة من العقوبات المقررة للحدود، وهي من العقوبات المقررة(1/689)
في جرائم التعازير، بل هي العقوبة المفضلة في جرائم التعازير الخطيرة. ولعل وجه تفضيلها على غيرها أنها أكثر العقوبات ردعاً للمجرمين الخطرين الذين طبعوا على الإجرام أو اعتادوه، وأنها ذات حدين فيمكن أن يجازى بها كل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته ويلائم شخصيته في آن واحد.
وتمتاز عقوبة الجلد فوق ما تقدم بأن تنفيذها لا يثقل كاهل الدولة، ولا يعطل المحكوم عليه عن الإنتاج، ولا يعرض أهله ومن يعولهم للضياع أو الحرمان كما هو الحال في الحبس مثلاً، فالعقوبة تنفذ في الحال، والمجرم يذهب بعد التنفيذ مباشرة إلى حال سبيله، فلا يتعطل عن عمله ولا يشقى بعقابه أهله.
وأهم ميزة لعقوبة الجلد أنها تحمي المحكوم عليه من شر المحابس وما تجره على المحبوسين من إفساد الأخلاق والصحة، واعتياد التعطل والنفور من العمل.
الحد الأعلى للجلد: اختلف في الحد الأعلى للجلد، فمشهور مذهب مالك أن تعيين الحد الأعلى متروك لولي الأمر؛ لأن التعزير يكون بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر، وعلى هذا يجوز عند مالك أن يضرب المجرم أكثر من مائة جلدة ولو أن أشد الضرب في جرائم الحدود لا يزيد على مائة جلدة (1) .
ويرى أبو حنيفة ومحمد أن الحد الأعلى للجلد في التعزير تسعة وثلاثون سوطاً، بينما يرى أبو يوسف أنه خمسة وسبعون سوطاً. وأساس هذا التحديد ما صح عندهم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين"، ويرجع الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف إلى أن أبا حنيفة ومحمد رأيا أن لفظ الحدود ورد في الحديث منكراً، فقالا: إن المقصود به حد ما، والأربعون حد كامل للرقيق، فإذا نقصت سوطاً أصبح الحد
_________
(1) تبصرة الحكام ج2 ص262، 263، مواهب الجليل ج6 ص219.(1/690)
الأعلى للتعزير تسعة وثلاثين، أما أبو يوسف فصرف لفظ الحد إلى حد الأحرار وأقله ثمانون، وكان القياس أن يجعل الحد الأعلى تسعة وسبعين سوطاً ولكنه اقتفى أثر على بن أبي طالب حيث جعل الحد الأعلى للتعزير خمسة وسبعين سوطاً ينقص خمسة أسواط عن أدنى حدود الأحرار (1) .
وفي مذهب الشافعي ثلاثة آراء: الأول يتفق مع رأي أبي حنيفة ومحمد, والثاني يتفق مع رأي أبو يوسف, والثالث يرى أصحابه أن يزيد الحد عن خمسة وسبعين (2) ولا يصل إلى مائة (3) بشرط أن تقاس كل جريمة بما يليق بها مما فيه حد؛ فينقص تعزير مقدمة الزنا عن حده وإن زاد على حد القذف, وينقص تعزير السب عن حد القذف, أي: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد فيها, فلا يبلغ التعزير على النظر والمباشرة حد الزنا, ولا بالتعزير على الشتم دون قذف حد القذف.
وفي مذهب أحمد آراء متعددة، منها ثلاثة آراء تتفق مع الآراء التي ذكرناها في مذهب الشافعي, وهناك رأيان مختلفان: أولهما: أن الجلد لا يصح أن يبلغ في كل جناية حداً مشروعاً في جنسها, ولكنه يصح أن يزيد على الحد في جناية من غير جنس الجناية المشروع فيها الحد, فمثلاً حد الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة وحد الزاني المحصن الرجم, فلا يصح أن يعاقب على الخلوة أو المباشرة أو التقبيل أو غير ذلك من مقدمات الزنا بالجلد مائة جلدة إذا كان الفاعل غير المحصن حتى لا يبلغ العقاب حداً في غير حد, ولكن يجوز إذا كان الفاعل محصناً أن يجلد مائة جلدة فأكثر؛ لأن حد الزاني المحصن هو الرجم والجلد أياً كان عدد
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص214، البحر الرائق ج5 ص51.
(2) نهاية المحتاج ج8 ص201, الأحكام السلطانية ص206, أسنى المطالب ج4 ص162.
(3) يرى فريق من الشافعية أن يزيد الجلد على مائة بشرط أن تكون الجريمة مما لم يرد في نوعها حد مقدر، راجع: مجموعة الرسائل لابن تيمية, الحسبة، ص57, الطرق الحكيمة ص106, ولم أجد لهذا الرأي أثراً فيما لدى من كتب الشافعية.(1/691)
الجلدات لا يبلغ حد الرجم، وثانيهما: أنه لا يصح أن يزاد في التعزير على عشرة أسواط بأي حال, وحجة القائلين بهذا الرأي الأخير ما رواه أبو يردة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حودو الله تعالى" (1) , وينسب بعض الفقهاء هذا الرأي للشافعية, ولكني لم أجد له أثراً فيما لديّ من كتب الشافعية, وحجة من نسبوه للشافعية قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، الحديث الذي بني عليه هذا الرأي صحيح (2) .
ويرجع اختلاف المذاهب واختلاف فقهاء المذهب الواحد إلى حديثي الرسول - صلى الله عليه وسلم - اللذين ذكرناهما وهما قوله: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين"، وقوله: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله", فأما الحديث الأول فلا يرده من المذاهب الأربعة إلا مذهب مالك بحجة أنه منسوخ، وعندهم أنه لا حد لأكثر التعزير، وأن للإمام أن يزيد في التعزير على الحد إذا رأى المصلحة في ذلك مجانباً لهوى النفس, وأما الحديث الثاني فهو مردود إلا عند بعض الفقهاء في مذهب أحمد, ومن رده يرده لأنه منسوخ، أو لأنه مقصور على زمن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
ومن أخذوا بالحديث الأول اختلفوا في تفسيره, ففسره البعض بأنه يمنع من أن تصل العقوبة في التعزير إلى العقوبة في أدنى الحدود, ونظر فريق منهم إلى البعيد فقال: إن الحد ينصف لهم, فأدنى الحدود حدودهم، وأدنى حد لهم هو أربعون جلدة.
_________
(1) فتاوي ابن تيمية المجلد الرابع, الاخيتارات ص178, المغني ج15 ص347, الطرق الحكمية ص106, الإقناع ج4 ص270 وما بعدها.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص215, الطريق الحكمية ص106.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص215, تبصرة الحكام ج2 ص263.(1/692)
وفسر البعض الحديث بأنه يمنع من أن تصل العقوبة التعزيرية إلى عقوبة الحد على وجه العموم, أو أن تصل العقوبة التعزيرية على ما في جنسه الحد إلى عقوبة الحد, ويرى هؤلاء أن تقاس الجريمة بعضها على بعض, فما ماثل الشرب والقذف في موضوعه أو في خطورته لم يصل فيه التعزير إلى مائة جلدة. وفسر البعض الآخر الحديث بأنه يمنع من أن تصل العقوبة التعزيرية على جريمة في جنسها الحد إلى عقوبة الحد, فإن لم يكن في جنسها الحد جاز أن تصل إلى عقوبة الحد وإلى أكثر منها, فمثلاً لا يجوز عقاب من وجد في فراشه امرأة بالجلد مائة جلدة إذا لم يكن محصناً ما دام لم يطأها؛ لأن حد الزاني غير المحصن هو الجلد مائة جلدة, ولكن يجوز جلده مائة جلدة إذا كان محصناً ويجوز جلده أكثر من مائة؛ لأن حد الزاني المحصن الرجم. ويجوز جلد السارق أكثر من مائة جلدة؛ لأن حد السرقة هو القطع, وهكذا. وإذا لم يكن في جنس الجريمة حد مقرر جاز الوصول بالتعزير إلى الحد الذي يراه ولي الأمر (1) . فكأن الغرض من الحديث أن لا يعاقب على جريمة شرع في جنسها الحد بعقوبة الحد ما دامت شروط عقوبة الحد لم تتوفر حتى لا يسوى في العقاب بين الجريمة التامة والجريمة غير التامة, وبين الفعل الذي توفرت فيه شروط جريمة الحد والفعل الذي لم تتوفر فيه هذه الشروط. ولعل هذا الرأي الأخير هو أحسن الآراء من الوجهة العملية وأفضلها من الوجهة المنطقية.
ويرى بعض الفقهاء أن يكون أقل الجلد ثلاث جلدات؛ لأن هذا القدر أقل ما يزجر، ولكن البعض لا يرى جعل حد أدنى للجلد؛ لأن أثر الزجر يختلف باختلاف الناس (2) .
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص214, نهاية المحتاج ج8 ص20, المغني ج10 ص347, الشرح الكبير ج10 ص354.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص215, المغني ج10 ص348, بدائع الصنائع ج7 ص94.(1/693)
وليس في الشريعة ما يمنع من أن يكون الجلد عقوبة لأية جريمة من جرائم التعزير, وإن كان بعض الفقهاء يفضل أن يكون الجلد دون غيره عقوبة على الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود, فيعاقب بالجلد على السرقات التي لا حد قيها, وعلى الزنا الذي لا حد فيه, وعلى القذف الذي لا حد فيه, وهكذا (1) . ويرى هؤلاء الفقهاء أن يعاقب بالجلد أو بغيره من عقوبات التعازير على الجرائم التي ليس في جنسها ما يوجب الحد, والقائلون بهذا ينظرون إلى أن عقوبة الجلد أشد تأديباً وأكثر ردعاً عن ارتكاب الجرائم الخطيرة، والمفروض أن الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود هي أخطر الجرائم (2) .
482 - الحبس: الحبس في الشريعة على نوعين, حبس محدد المدة، وحبس غير محدد المدة.
483 - الحبس المحدد المدة: تعاقب الشريعة بالحبس المحدد المدة على جرائم التعزير العادية وتعاقب به المجرمين العاديين. ولقد ذكرنا أن الفقهاء يفضلون عقوبة الجلد على غيرها من العقوبات إذا كانت الجرائم خطيرة أو كان المجرمون خطرين أو ممن لا يردعهم إلا الجلد.
وأقل مدة هذا النوع من الحبس يوم واحد, أما حده الأعلى فغير متفق عليه, فيرى البعض أن لا يزيد عن ستة أشهر, ويرى البعض أن لا يصل إلى سنة كاملة, والبعض الآخر يرى تقدير حده الأعلى لولي الأمر (3) .
والذين يحددون مدة الحبس هم الشافعيون, ويشترطون أن لا يصل إلى سنة؛ لأنهم يقيسونه على التغريب في حد الزنا, والتغريب لا يزيد على عام, فوجب
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص64.
(2) راجع الفقرة 98.
(3) تبصرة الحكام ج2 ص284, شرح فتح القدير ج4 ص216, الأحكام السلطانية ص206, المغني ج10 ص348.(1/694)
أن يقل الحبس عن عام حتى لا يعاقب بحد في غير حد. وظاهر المذاهب الأخرى أنها لا تقيس الحبس على التغريب.
ويجوز أن يجمع بين الحبس والضرب إذا رُئي أن إحدى العقوبتين لا تكفي وحدها, ولكن الشافعيين يشترطون في هذه الحالة أن لا يوقع من إحدى العقوبتين إلا ما يعتبر مكملاً لما نقص من العقوبة الثانية, فإذا ضرب الجاني نصف الجلدات المقررة للتعزير حبس نصف المدة المقررة للحبس, وإذا ضرب ربع الجلدات حبس ثلاثة أرباع مدة الحبس, وهكذا. ولا يشترط الفقهاء الآخرون هذا الشرط فيجوز عندهم أن يضرب الجاني كل الجلدات المقررة للتعزير ثم يحبس بعد ذلك المدة التي تكفي لتأديبه وزجر غيره (1) .
ويشترط في الحبس كما يشترط في غيره من العقوبات أن يؤدى غالباً إلى إصلاح الجاني وتأديبه, فإن غلب على الظن أنه لن يؤدب الجاني أو لن يصلحه امتنع الحكم به ووجب الحكم بعقوبة أخرى.
وموقف الشريعة من عقوبة الحبس يختلف اختلافاً بينا عن موقف القوانين الوضعية، ذلك أن عقوبة الحبس في القاونين الوضعية هي عقوبة الأولى أو هي العقوبة الأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريباً سواء كانت الجرائم خيرة أو بسيطة. أما في الشريعة الإسلامية فعقوبة الحبس ليست إلا عقوبة ثانوية لا يعاقب بها إلا على الجرائم البسيطة, وهي عقوبة اختيارية للقاضي أن يعاقب بها أو يتركها, وليس له أن يعاقب بها إلا إذا غلب على ظنه أنها مفيدة.
ويترتب على هذا لفرق بين الشريعة والقوانين أن يقل إلى حد كبير عدد المحبوسين في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية, وأن يزيد عددهم إلى غير حد في البلاد التي تطبق القوانين الوضعية.
_________
(1) تبصرة الحكام ج2 ص284, شرح فتح القدير ج4 ص216, الأحكام السلطانية ص256, المغني ج10 ص348, أسنى المطالب ج4 ص192.(1/695)
والواقع أن مشكلة السجن والمسجونين هي أول المشاكل التي تبرز أمام شراح القوانين الوضعية، فقد ترتب على جعل الحبس عقوبة أساسية في كل الجرائم تقريباً أن أزداد عدد المحكوم عليهم بالحبس وامتلأت بهم المحابس التي ضاقت بهم على سعتها, وأدى ذلك إلى أن السجون أصبحت مباءة للتآمر ومدرسة للإجرام بالرغم من أنها أنشئت للوقاية من الإجرام؛ لأن اجتماع المسجونين يسمح لهم بالتعارف والتآمر على ارتكاب الجرائم وتبادل المعلومات والاختبارات. كذلك ثبت من التجارب أن عقوبة السجن لا تردع من هم في حاجة إلى الردع, بينما تفسد الصالحين من المسجونين وتنزل بهم إلى مستوى الفاسدين.
وقد حاول بعض المصلحين تخفيف عيوب الحبس فوضعوا أنظمة مختلفة لهذا الغرض ولكنها جميعاً لها عيوبها ومفاسدها, كما أنها تعجز عن القضاء على عيوب الحبس الأساسية, ومن ذلك نظام الفصل بين المسجونين ليلاً وجمعهم نهاراً مع إلزامهم بالصمت المطلق, ولكن هذا النظام يكلف نفقات باهظة ويقضي بتوقيع عقوبات صارمة ومستمرة على المسجونين لمنعهم من الاتصال والكلام. من ذلك نظام الانفراد نهاراً وليلاً, وهو نظام كثير النفقة قليل الإنتاج يؤدي بالمسجونين إلى البله والجنون ويؤدي ببعضهم إلى الانتحار.
ومن ذلك النظام التدريجي أو النظام الأيرلندي وهو يبدأ بالحبس الانفرادي ثم يحبس المسجون بعد مدة منفرداً ليلاً وبالنهار يجتمع مع باقي المسجونين على أن لا يتكلم معهم, وهذا النظام يجمع بين عيوب النظامين السابقين.
أما عقوبة الحبس في الشريعة فإنها لا تؤدي إلى مثل النتائج السابقة؛ لأنها لا توقع إلا في بعض الجرائم البسيطة وعلى المجرمين المبتدئين ولمدد قصيرة إذا رأى القاضي أنها تردع الجاني, ومن ثم يكون عدد المسجونين قليلاً, ومدة بقائهم في السجن قصيرة، وأخلاقهم غير فاسدة, وليس فيهم من مرن على الإجرام أو اعتاده. وهكذا تنتفي أسباب عيوب عقوبة الحبس القائمة في(1/696)
القوانين الوضعية بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية.
484 - الحبس غير محدد المدة: من المتفق عليه أن الحبس غير المحدد المدة يعاقب به المجرمون الخطرون ومعتادو الإجرام, ومن اعتادوا ارتكاب جرائم القتل والضرب والسرقة، أو تكرر منهم ارتكاب الجرائم الخطيرة، ومن لا تردعهم العقوبات العادية، ويظل المجرم محبوساً حتى تظهر توبته وينصلح حاله فيطلق سراحه وإلا بقى محبوساً مكفوفاً شره عن الجماعة حتى يموت (1) .
ومن المتفق عليه أن مدة الحبس لا تحدد مقدماً؛ لأنه حبس لا مدة له, بل هو حبس حتى الموت وينتهي بموت المحكوم عليه أو توبته قبل ذلك وانصلاح حاله.
والحبس غير محدد المدة تطبيق لنظرية العقوبة غير المحددة التي عرفتها القوانين الوضعية في أواخر القرن التاسع عشر, فكأن الشريعة سبقت القوانين الوضعية لهذه النظرية بثلاثة عشر قرناً تقريباً, وأول من قال من شراح القوانين بهذه النظرية هم الشراح الإيطاليون حيث رأوا ضرورة عدم تحديد العقوبة، إذ للعقوبة في رأيهم وظيفتان: الاستئصال والإصلاح, فمن كان قابلاً من المجرمين للإصلاح كانت عقوبته مؤقتة، ومن كان غير قابل للإصلاح تؤبد عقوبته.
وتعتبر العقوبة غير محددة المدة في عصرنا الحاضر من العناصر الجوهرية في تدبير الأمن measures de surete ومن أحدث العقوبات التي يعالج بها الإجرام على أساس من علمي النفس والاجتماع.
وللقوانين الوضعية طرائق مختلفة في عدم تعيين المدة، فبعضهم يجعل عدم التعيين مطلقاً, فيصدر القاضي الحكم بالعقوبة دون أن يعين المدة, ولكن السلطة المشرفة على التنفيذ هي التي تحدد مدة العقوبة طبقاً لما يتبين لها من حال المحكوم
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص260, تبصرة الحكام ج2 ص264, نهاية المحتاج ج8 ص20, الإقناع ج4 ص272.(1/697)
عليه, فقد تقصر المدة إن رأت إنصلاح حاله, وقد تبقيه في سجنه حتى الموت إذا لم يكن يرجى صلاحه, وقد أخذ القانون الفرنسي الصادر في 27/2/1885 بهذه الطريقة حيث نص على عقوبة النفي كعقوبة مؤبدة وخول السلطة الإدارية أن تخفضها إن رأت أن المحكوم عليه يستحق تخفيض العقوبة.
وبعض القوانين يجعل عدم التعيين نسبياً؛ فيصدر القاضي الحكم محدداً مدة العقوبة مبيناً حدها الأدنى الذي لا يصح أن تقل عنه وحدها الأعلى الذي لا يصح أن تزيد عليه, ويترك بعد ذلك للسلطة التنفيذية أن تخلي سبيل المحكوم عليه إذا رأت أنه انصلح حاله بعد أن يستوفي الحد الأدنى من العقوبة, فإن لم ينصلح حاله بقى حتى يستوفي الحد الأعلى.
وبعض التشريعات الوضعية يحدد الحد الأدنى للعقوبة ولا يحدد الحد الأقصى كالقانون الإيطالي الصادر في سنة 1930,وبعضها يحدد الحد الأقصى دون الأدنى كالقانون المصري, بالنسبة للمجرمين المعتادين على الإجرام وبالنسبة للمجرمين الأحداث.
وقد أخذ القانون المصري بعد التعيين المطلق بالنسبة للمتهمين المعتوهين إذ أجاز للنيابة العمومية متى كان المتهم محبوساً احتياطياً أن تودعه أحد محلات المجاذيب (المادة 249 من قانون تحقيق الجنايات) .
وبعض القوانين الأوروبية كالقانون البلجيكي والقانون الإيطالي تقضي بوضع المتهمين المصابين بالنورستانيا أو المدمنين على تعاطي المسكرات في محلات خاصة لمدة غير معينة.
ويتبين مما سبق أن القوانين الوضعية بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر تأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية في العقوبة غير المعينة المدة, وأن بعض هذه القوانين تأخذ بنظرية الشريعة على إطلاقها فلا تحدد مدة العقوبة, وأن بعض القوانين يقيد مدة العقوبة بينما يجمع البعض الآخر بين الإطلاق والتقييد, وسواء أخذت(1/698)
القوانين بالنظرية مطلقة أو مقيدة فهي نظرية الشريعة الإسلامية, وما التقييد والإطلاق في الواقع إلا تنظيم لتطبيق النظرية.
وليس بعد هذا من ينكر فضل الشريعة وسبقها في تقرير أفضل نظريات العقاب.
485 - التغريب والإبعاد: تكلمنا عن التغريب بمناسبة الكلام عن عقوبات الزنا, وقلنا إن أبا حنيفة يراه تعزيراً وبقية الأئمة يرونه حداً, فيما عدا جريمة الزنا فالتغريب يعتبر تعزيراً باتفاق.
ويلجأ لعقوبة التغريب إذا تعددت أفعال المجرم إلى اجتذاب غيره إليها أو استضراره بها.
ويرى بعض الفقهاء في مذهبي الشافعي وأحمد أن لا تصل مدة الإبعاد إلى سنة كاملة؛ لأن التغريب شرع في الزنا حداً ومدته عام فيجب أن لا تصل مدته في التعزير عاماً، تحقيقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين".
ويرى أبو حنيفة أن مدة التغريب يصح أن تزيد على سنة؛ لأنه لا يعتبر التغريب حداً وإنما يعتبره تعزيراً. ويرى مالك أن من الممكن ريادة مدة التغريب عن سنة مع تسليمه بأن التغريب حد؛ لأنه يرى الحديث منسوخاً. ويظاهر مالكاً وأبا حنيفة بعض فقهاء مذهبي الشافعي وأحمد.
والقائلون بأن مدة التغريب يصح أن تزيد على سنة لا يحددون مدة التغريب بل يرون التغريب عقوبة غير محدودة، ويتركون لولي الأمر أن يأذن للمغرب في العودة إذا صلح حاله وظهرت توبته.
والمحكوم عليه بالغريب لا يحبس في مكان معين، ولكن يصح على رأي البعض أن يوضع تحت المراقبة وأن تقيد حريته ببعض القيود، ولكن ليس(1/699)
له اتفاقاً أن يعود إلى المحل الذي غرب عنه قبل انتهاء مدة التغريبعند من يحددون له مدة وقبل توبته والإذن له بالعودة عند من يحددون للغريب مدة. ولقد عاقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتغريب فأمر بإخراج المخنثين من المدينة, وكذلك فعل أصحابه من بعده, ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه عاقب ضبيعاً بالضرب ونفاه إلى البصرة أو الكوفة وأمر بهجرته فكان لا يكلمه أحد حتى تاب, وكتب عامل البلد إلى عمر يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه. وكذلك نفى عمر نصر بن حجاج من المدينة.
ويدعو كثير من شراح القوانين اليوم إلى عقوبة التغريب؛ لأنهم يؤمنون بأن الحبس لا يجدي في إصلاح المحكوم عليهم وإعدادهم لتبوء المركز الذي كان لهم في الجماعة قبل الجريمة, إذ يستحيل على المحكوم عليه بالحبس مهما تاب وأناب أن يستعيد مركزه في المكان الذي ارتكب فيه جريمته, ومن ثم يظل منبوذاً من الجمهور ويضطر اضطراراً إلى أن يسلك نفسه في زمرة المجرمين والمفسدين, ولكن الإبعاد يخلص الجماعة من هذه الفئة من ناحية ويسمح للمحكوم عليه من ناحية أخرى أن يستعيد مركزه في الهيئة الجديدة التي ينضم إليها.
وقد أخذت الدول الأوروبية بنظرية التغريب وطبقتها في قوانينها, فإنجلترا مثلاً كانت تبعد المحكوم عليهم إلى أمريكا وإلى أستراليا, ثم اضطرت إلى العدول عن الإبعاد بعد اعتراض سكان المستعمرات. والقانون الفرنسي الصادر في سنة 1810 يجعل الإبعاد عقوبة تساعد على التخلص من السياسيين المناوئين للنظام القائم. كذلك جعل القانون الفرنسي من الإبعاد طريقة لتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة في المستعمرات وجعل منه عقوبة تكميلية للمجرمين العائدين. والقانون الإيطالي يبيح لوزير العدل أن يأمر بتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة أو السجن في إحدى المستعمرات.(1/700)
486 - الصلب: تكلمنا عن الصلب باعتباره حداً يعاقب بع على جريمة الحرابة، وقلنا إن بعض الفقهاء يرى صلب المحكوم عليه بعد قتله, وإن البعض الآخر يرى إن صلبه حياً ثم قتله وهو مصلوب. وقد كان تقرير الصلب حداً لجريمة قطع الطريق مما دعا الفقهاء للقول بأن الصلب ممكن أن يكون عقوبة تعزيرية.
والصلب للتعزير لا يصحبه القتل طبعاً ولا يسبقه, وإنما صلب الإنسان حياً ولا يمنع عنه طعامه ولا شرابه, ولا يمنع من الوضوء للصلاة ولكنه يصلي إيماء, ويشترط الفقهاء في الصلب أن لا تزيد مدته على ثلاثة أيام.
ومما يحتج به لمشروعية الصلب التعزيرية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزر رجلاً بالصلب على جبل يقال له أبو ناب.
ويذكر الشافعيون والمالكيون الصلب إذا ما ذكروا عقوبات التعازير, ولكن الحنفية والحنابلة لا يصرحون بذكره, على أن هذا لا يعني أنهم لا يرون الصلب؛ لأن القاعدة العامة أن كل وسيلة تؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه وحماية الجماعة من شره تعتبر عقوبة مشروعة (1) .
وعقوبة الصلب على الوجه السابق هي عقوبة بدنية يقصد منها التأديب والتشهير معاً, وهي أشبه ما تكون بعقوبة التلاميذ حين يؤمرون بالوقوف وأيديهم مرفوعة إلى أعلى زمناً ما, أو حين يأمرون بأن يجثوا على ركبهم زمناً طويلاً أو قصيراً.
ويجب أن لا يفوتنا أن عقوبات التعازير غير لازمة كعقوبات الحدود أو القصاص, وعلى هذا فالأمر في جعل الصلب عقوبة أو إهمالها متروك للهيئة التشريعية, فإن رأت أنها تصلح لبعض الجرائم أو لكلها أقرتها, وإن رأت أنها لا تصلح تركتها.
_________
(1) الأحكام السلطانية ص206, تبصرة الحكام ج2 ص266.(1/701)
487 - عقوبة الوعظ وما دونها: يعتبر الوعظ عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية, ويجوز للقاضي أن يكتفي في عقاب الجاني بوعظه إذا رأى أن في الوعظ ما يكفي لإصلاحه وردعه.
وقد نص القرآن صراحة على الوعظ في قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] .
وفي الشريعة من العقوبات التعزيرية ما هو دون الوعظ, فالفقهاء يعتبرون أن مجرد إعلان الجاني بجريمته عقوبة تعزيرية, وفي إحضاره إلى مجلس القضاء عقوبة تعزيرية.
ويجب أن لا ننسى أن مثل هذه العقوبات لا توقع إلا على من غلب على الظن أنها تصلحه وتزجره وتؤثر فيه.
488 - عقوبة الهجر: ومن العقوبات التعزيرية في الشريعة الهجر, وقد ورد به القرآن تعزيراً للمرأة في قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] .
وقد عاقب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجر, فأمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا عنه في غزوة تبوك وهم: كعب بن مالك, ومرارة بن ربيعة العامري, وهلال بن أمية, فهجروا خمسين يوماً لا يكلمهم أحد حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] .
وعاقب عمر رضي الله عنه ضبيعاً بالهجر مع الجلد والتغريب, فكان لا يكلمه أحد حتى تاب, وكتب عامل البلد الذ غرب إليه إلى عمر يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه.
489 - عقوبة التوبيخ: ومن العقوبات التعزيرية في الشريعة عقوبة(1/702)
التوبيخ, فإذا رأى القاضي أن التوبيخ يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه اكتفى بتوبيخه.
ولقد عزر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوبيخ, ومن ذلك ما رواه أبو ذر - رضي الله عنه - قال: ساببت رجلاً فعيرته بأمه, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية".
وخاصم عبد الرحمن بن عوف عبد من عامة الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغضب عبد الرحمن وسب العبد قائلاً: يا ابن السوء. فغضب النبي أشد الغضب ورفع يده قائلاً: "ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان إلا بالحق" فاستخزى عبد الرحمن وخجل، ووضع خده على التراب ثم قال للعبد: طأ عليه حتى ترضي.
490 - عقوبة التهديد: والتهديد عقوبة تعزيرية في الشريعة بشرط أن لا يكون تهديداً كاذباً، وبشرط أن يرى القاضي أنه منتج وأنه يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه، ومن التهديد أن ينذره القاضي بأنه إذا عاد فسيعاقبه بالجلد أو بالحبس أو سيعاقبه بأقصى العقوبة، ومن التهديد أن يحكم القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها إلى مدة معينة.
وقد عرفت القوانين الوضعية عقوبتي التوبيخ والتهديد، وأخذت بالتوبيخ القضائي كعقوبة للجرائم البسيطة وللمجرمين المبتدئين، وأخذت بالتهديد القضائي عقوبة لمن يرى القاضي أن التهديد كاف لزجرهم وإصلاحهم.
وقد طبقت القوانين الوضعية عقوبة التهديد بطرق مختلفة، فبعضها يرى أن يحكم القاضي بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها لمدة معينة فإن عاد المجرم أمكن تنفيذ العقوبة الموقوفة، وبعضها يرى الاكتفاء بإنذار الجاني أن لا يعود لجريمته.(1/703)
وهذه الوسائل المختلفة التي تأخذ بها القوانين الوضعية ليست إلا تطبيقات للتهديد بالعقوبة، ويكفي أن نعرف أن القوانين الوضعية لم تأخذ بنظام التوبيخ والتهديد بالعقاب إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بينما عرفت الشريعة هذين النظامين وغيرهما من ثلاثة عشر قرناً وأكثر.
491 - التشهير: ومن عقوبات الشريعة التعزيرية التشهير، ويقصد بالتشهير: الإعلان عن جريمة المحكوم عليه. ويكون التشهير في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس كشهادة الزور والغش.
وكان التشهير يحدث قديماً بالمناداة على المجرم بذنبه في الأسواق والمحلات العامة حيث لم تكن هناك وسيلة أخرى، أما في عصرنا الحاضر فالتشهير ممكن بإعلان الحكم في الصحف أو لصقه في المحلات العامة.
والقوانين الوضعية تأخذ بعقوبة التشهير، وقد أخذ بها القانون المصري في بعض الجرائم كالغش والبيع بأكثر من السعر الجبري.
492 - عقوبات أخرى: وليست العقوبات السابقة هي كل عقوبات التعزير في الشريعة الإسلامية؛ لأن التعازير ليست معينة وإنما ترك أمرها لأولي الأمر؛ أي الهيئة التشريعية، يختارون منها ما يرونه صالحاً لمحاربة الإجرام وإصلاح المجرمين وتأديبهم، ويتركون ما يرونه غير صالح، ولا يتقيدون في ذلك بقيود ما إلا بمراعاة الأسس العامة التي تقوم عليها نظرية العقاب.
والعقوبات التي ذكرناها هي أهم العقوبات العامة التي يمكن أن تطبق في كل جريمة, وهناك عقوبات أخرى ليست عامة ولا تنطبق على كل الجرائم وأهمها:
1 - العزل من الوظيفة: وتطبق على الذين يتولون الوظائف العامة سواء كان أدراء الوظيفة بمقابل أو مجاناً.(1/704)
2 - الحرمان: ومعناه حرمان المجرم من بعض الحقوق المقررة له شرعاً, كالحرمان من تولي الوظائف, ومن أداء الشهادة، وكالحرمان من سلب القتيل, والرحمان من سهم الغنيمة, وكإسقاط النفقة للنشوز.
3 - المصادرة: ويدخل تحتها مصادرة أدوات الجريمة ومصادرة ما حرمت حيازته.
4 - الإزالة: ويدخل تحتها إزالة أثر الجريمة أو العمل المحرم, كهدم البناء المقام في الشارع العام, وإعدام أواني الخمر واللبن المغشوش.
وهذه العقوبات جميعاً تعرفها القوانين الوضعية اليوم وتأخذ بها.
493 - عقوبة الغرامة: من المسلم به أن الشريعة عاقبت على بعض الجرائم التعزيرية بعقوبة الغرامة, من ذلك أنها تعاقب على سرقة الثمر المعلق بغرامة تساوي ثمن ما سرق مرتين فوق العقوبة التي تلائم السرقة, وذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ومن خرج بشئ فعليه غرامة مثليه والعقوبة", ومن ذلك عقوبة كاتم الضالة فإن عليه غرامتها ومثلها معها, ومن ذلك تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله (1) .
ولكن الفقهاء بالرغم من هذا اختلفوا فيما إذا كان من الجائز جعل الغرامة عقوبة عامة يمكن الحكم بها في كل جريمة، فرأى البعض أن الغرامة المالية يصح أن تكون عقوبة تعزيرية عامة, ورأى البعض أنه لا يصح أن تكون الغرامة عقوبة عامة (2) .
والذين يعترضون على الغرامة المالية يحتجون بأنها كانت مقررة على عهد
_________
(1) إغاثة اللهفان ج1 ص331, أعلام الموقعين ج2 ص220.
(2) المراجع السابقة, المغني ج10 ص348, الإقناع ج4 ص270, تبصرة الحكام ج2 ص261, شرح الزرقاني ج8 ص125, نهاية المحتاج ج8 ص20, أسنى المطالب ج4 ص162, شرح فتح القدير ج4 ص212, حاشية ابن عابدين ج3 ص246, مجموعة الرسائل, الحسبة ص59.(1/705)
الرسول ونسخت, وأنها غير صالحة كوسيلة من وسائل محاربة الإجرام, وأنه يخشى أن يكون في إباحة الغرامة المالية ما يغري الحكام الظلمة بمصادرة أموال الناس بالباطل.
وتشدد بعض من أجازوا الغرامة عقوبة عامة, فاشترطوا أن تكون الغرامة عقوبة تهديدية بحيث يحصل المال ويحبس المحكوم عليه حتى ينصلح حاله, فإن صلح حاله رد إليه ماله, وإن لم ينصلح حاله أنفق المال على جهة من جهات البر.
ويمكن أن يؤيد الرأي المعارض في الغرامة المالية بأن جعل الغرامة عقوبة أساسية يؤدي إلى تمييز الأغنياء على الفقراء؛ لأن الغني يستطيع أن يدفع دائماً أما الفقير فلا يستطيع ذلك, ومن ثم فلا يمكن أن يعاقب بالغرامة وهي أخف بكثير من بعض العقوبات الأخرى.
وفي عصرنا الحاضر حيث نظمت شئون الدولة وروقبت أموالها, وحيث تقرر الهيئة التشريعية الحد الأدنى والحد الأعلى للغرامة، وحيث ترك توقيع العقوبات للمحاكم, لم يعد هناك محل للخوف من مصادرة أموال الناس بالباطل, وبذلك يسقط أحد الاعتراضات التي اعترض بها على الغرامة. كذلك وجدت جرائم بسية يعاقب عليها بعقوبات مالية تافهة كالمخالفات بحيث يستطيع أكثر الناس دفع الغرامة، وبهذا يضعف أحد الاعتراضات الأخرى على الأقل في هذه الجرائم البسيطة.
وعلى كل حال فإن الفقهاء الذين يرون جعل الغرامة عقوبة عامة يقررون أنها لا تصلح إلا في الجرائم البسيطة, ولم يحاولوا أن يضعوا للغرامة حداً أدنى أو حداً أعلى تاركين ذلك لولي الأمر.
والقوانين الوضعية تجعل الغرامة عقوبة أساسية في معظم الجرائم, وتتوسل إلى تنفيذ العقوبة بوسيلتين: هي التنفيذ الجبري على أموال المحكوم عليه, فإن لم يكن له مال فالثانية وهي: الإكراه البدني, وهو يكون بتشغيل(1/706)
المحكوم عليه في عمل حكومي إذا وجد هذا العمل أو بحبس المحكوم عليه مدة معينة, ومعنى هذا أن عقوبة الغرامة تنتهي بالحبس إذا كان المحكوم عليه فقيراً, مع أن القوانين الوضعية تعتبر عقوبة الحبس أشد من عقوبة الغرامة.
وشراح القوانين الوضعية يعترفون بما لعقوبة الغرامة من عيوب كثيرة يحاولونإصلاحها, ويرون في عقوبة الغرامة بالرغم من عيوبها وسيلة من وسائل الحسنة للتخفيف أو الحد من مساوئ عقوبة الحبس, فهم يقبلون عقوبة الغرامة لا لمزاياها ولكن لأن مساوئها أقل من مساوئ عقوبة الحبس, وإذن فهم لا يحرصون على الأصلح وإنما يحرصون على اختيار أخف الضررين.
ولا تبيح الشريعة الإسلامية حبس المحكوم عليه بمبلغ من المال إلا إذا كان المطالب بالمال قادراً عليه وممتنعاً عن دفعه كما هو الحال في دين النفقة. أما إذا كان المطالب بالمال قادراً عنه فلا يجوز حبسه مقابل المبلغ المحكوم به؛ لأن الحبس في الدين لم يشرع إلا لحمل المدين على الدفع فإذا كان عاجزاً عن الدفع امتنع الحبس لانعدام سببه. ولكن ليس في الشريعة ما يمنع من تشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي لاستيفاء الغرامة المحكوم بها من أجره, ونظرية الشريعة في هذا سليمة من الوجهين التشريعية والمنطقية؛ لأن التنفيذ على المحكوم عليه بالشغل هو التنفيذ على ماله ما دام لا مورد له إلا عمله, ولا يكاد التنفيذ جبراً بالشغل يختلف شيئاً عن التنفيذ جبراً على المال, أما حبس المحكوم عليه مقابل الغرامة في حالة العجز عن الدفع فمعناه أن المحكوم عليه يحبس لفقره لا للحكم بالحبس, ومن ثم تكون عقوبة الحبس الحالة محل الغرامة عقوبة خاصة بالفقراء, ومن شروط العقوبة الأساسية أن تكون عامة وإلا كانت غيره مشروعة.
وليس في الشريعة ما يدعو للحرص على عقوبة الغرامة وتعميمها في كل الجرائم التعزيرية أو معظمها؛ لأن الشريعة تجعل من عقوبة الحبس عقوبة ثانوية ولأن العقوبة الأساسية في معظم الجرائم هي الجلد، فانعدمت بذلك مساوئ(1/707)
عقوبة الحبس، تلك المساوئ التي وجدت عقوبة الغرامة للتخفيف من حدتها في القوانين الوضعية.
والأصل في الشريعة أن لجرائم التعزير مجموعة من العقوبات تختلف في بساطتها وشدتها، وللقاضي أن يعاقب الجاني بالعقوبة أو العقوبات التي يراها ملائمة للجريمة وللجاني، فإذا حرص بعض الفقهاء على أن يجعلوا من الغرامة عقوبة عامة فإنهم يقصدون من ذلك أن يدخلوا الغرامة في مجموعة عقوبات التعزير، فيكون للقاضي أن يعاقب بها كلما رآها ملائمة للجريمة والمجرم، فإذا لم تكن ملائمة فهو غير ملزم بالحكم بها في أي حال.
* * *
الفصل الخامس
مدى صلاحية العقوبات الشرعية
494 - العقوبات الشرعية والإحصائيات: بينا فيما سبق أنواع العقوبات في الشريعة الإسلامية والمميزات التي تميز كل نوع عن النوع الآخر. وقلنا: إن الشريعة حرصت في عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص على تقرير عقوبة أو عقوبات خاصة لكل جريمة، وإنها نظرت في تقرير هذه العقوبات إلى الجريمة دون المجرم، وإنها حدت من سلطة القاضي تلقاء هذه العقوبات بحيث جعلته مسيراً لا مخيراً، فلا يستطيع أن ينقص من العقوبة أو يزيد عليها, ولا يستطيع أن يخفف العقوبة أو يغلظها؛ لأن العقوبات المقررة عقوبات مقدرة.
كما حدت الشريعة من سلطان القاضي حدت من سلطان المشرع, فليس له أن يستبدل بعقوبة أخرى وليس له أن يعفو عن العقوبة أو يوقف تنفيذها وإن كان له أن يغلظ العقوبة المقرة بعقوبة تعزيرية أخرى, فليس له مثلاً أن يجعل عقوبة القذف خمسين جلدة ولكنه يستطيع أن يضيف إلى عقوبة الجلد المقررة للقذف عقوبة الغرامة أو الحبس, وأن يزيد عقوبة الجلد عن ثمانين جلدة(1/708)
فتكون الزيادة عقوبة تعزيرية, وليس للشارع أن يستبدل بالقصاص عقوبة أخرى, أو ينقص الدية, ولكن له أن يضيف إلى القصاص أو الدية عقوبة الجلد أ, الحبس أو غير ذلك من العقوبات التعزيرية (1) .
والجرائم التي اهتمت فيها الشريعة بالجريمة وأهملت الجاني هي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية, وهي:
(1) الزنا. ... ... ... (2) القذف. ... ... (3) الشرب.
(4) السرقة ... ... ... (5) الحرابة. ... ... (6) البغي.
(7) الردة. ... ... ... (8) القتل العمد. ... (9) القتل شبه العمد.
(10) القتل الخطأ. ... ... (11) الجرح العمد. ... (12) الجرح الخطأ.
فمجموع الجرائم التي اهتمت فيها الشريعة بالجريمة وأهملت شأن الجاني هو اثنتا عشرة جريمة، وما عدا ذلك من الجرائم فينظر فيها إلى الجريمة وإلى المجرم معاً.
وقد لا يستطيع الإنسان لأول وهلة أن يفهم حكمة الشريعة الإسلامية من تشددها في هذه الجرائم الاثنتى عشرة وتساهلها في بقية الجرائم وهي تعد بالمئات، وقد يكون عجزه عن الفهم راجعاً إلى أنه ينظر إلى عدد هذه الجرائم الاثنتى عشرة ويقارنه بعدد الجرائم الباقية وهي مئات، والواقع أن النسبة بين عدد جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وبين عدد الجرائم الأخرى هي نسبة ضئيلة جداً، ونستطيع أن نصل إلى هذه النسبة على وجه التقريب لو عددنا نصوص قانون العقوبات التي تكلمت عن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وقارناها بعدد النصوص التي تكلمت عن الجرائم الأخرى.
وظاهر من تتبع نصوص قانون العقوبات المصري أن المواد التي تتكلم عن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لا تصل إلى خمسين مادة، بينما النصوص التي تتكلم عن الجنايات والجنح تبلغ ثلاثمائة مادة، وهناك قوانين خاصة تعاقب على جنح كثيرة، فلو فرضنا أن نصوصها لا تزيد على ثلاثمائة مادة أيضاً وهي في الواقع أكثر من ذلك بكثير كان عدد الجنايات والجنح داخلاً
_________
(1) راجع الفقرة 98.(1/709)
تحت ستمائة مادة، وكانت النسبة بين عدد جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وبين بقية الجرائم الأخرى 8} وهي نسبة لا شك في ضآلتها من الوجهة النظرية.
ولكن المرء يستطيع في يسر وسهولة أن يصل إلى حكمة الشريعة في تشددها في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية إذا علم أن الجرائم لا تقع بنسبة واحدة، وأن أكثر الجرائم وقوعاً وتكراراً هي جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وأن معظم الجرائم الباقية نادر الوقوع وأقلها هو الذي يتكرر ويكثر وقوعه، ولكنه على كل حال لا يصل إلى الدرجة التي تتكرر بها جرائم الحدود والقصاص.
ونستطيع أن ندرك حكمة الشريعة على حقيقتها إذا رجعنا إلى الإحصائيات الجنائية، فإن هذه الإحصائيات تدل دلالة قاطعة على أن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي أكثر الجرائم وقوعاً في الحياة اليومية، وأن هذه الجرائم الاثنتى عشرة لو انقطع وقوعها لما عرف الناس الجريمة ولما شعروا بوقوع الجرائم، ونستطيع أن نتخذ الإحصائيات الجنائية المصرية دليلاً على ذلك، فقد بلغ عدد الجنايات 8175 جناية في سنة 1942 - 1943، منها 1752 جناية قتل عمد، 1119 جناية شروع في قتل، 989 جناية سرقة بإكراه وشروع فيها، 243 جناية هتك عرض وفسق، 326 جناية ضرب أفضى للموت، 1196 جناية ضرب نشأ عنه عاهة مستديمة، 634 جناية عود وكلها تقريباً سرقات، وهذه جميعاً من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ومجموعها 6270 جناية، ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنايات تقع بنسبة 76.6} من مجموع الجنايات.
وبلغ عدد الجنح 297557 جنحة في سنة 1942 - 1943، منها 97320 جنحة سرقة، 14828 جنحة خطأ، 1182 جنحة قتل خطأ، 60223 جنحة ضرب، 405 جنحة هتك عرض، 1929 جنحة قذف وسب، 4695 جنحة تعد(1/710)
ومقاومة، وهذه كلها من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ومجموعها 181762 جنحة، ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنح تقع بنسبة 61} من مجموع الجنح تقريباً.
ولو رجعنا إلى ما قبل ذلك بعشر سنوات لوجدنا أن عدد الجنايات بلغ 6957جناية في سنة 1932 - 1933، منها 5496 جناية من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فكأن نسبة هذه الجرائم الأخيرة إلى مجموع الجنايات في هذه السنة 79} . أما عدد الجنح فقد بلغ 155752 جنحة في سنة 1932 - 1933، من هذا العدد 92250 جنحة من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فكأن نسبة جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية بالنسبة لمجموع الجنح 59} .
وفي سنة 1922 - 1923 كان عدد الجنايات 7831 جناية منها 4782 جناية من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فتكون النسبة 61} من مجموع الجنايات، وفي هذه السنة بلغت الجنح 132611 جنحة منها 93990 جنحة من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فتكون نسبة الجرائم الأخيرة 70.8} من مجموع جرائم الجنح.
هذا هو منطق الإحصائيات الجنائية التي لا تكذب يقول في صراحة إن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية بلغ متوسطها في عشرين سنة 72.2} من مجموع الجنايات و63.3} من مجموع جرائم الجنح.
وهكذا تبين لنا الإحصائيات بصفة قاطعة أن الشريعة حين احتفلت بجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية على قلة عدد هذه الجرائم إنما قصدت أن تقضي على أكثر الجرائم تكراراً وأشدها هولاً, أو قصدت أن تقضي على الإجرام قضاء مبرماً, والواقع أنا لو رفعنا من الإحصائيات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لما بقى في الإحصائيات إلا الجنايات والجنح التافهة(1/711)
أو الاعتبارية التي لا تخل بالأمن ولا تزعزع النظام ولا يؤذي الأخلاق والتي يكفي في ردع مرتكبيها عقوبات التعزير المختلفة.
ونستطيع بعد هذا أن نقول: إن الإحصائيات تؤكد ما قلناه من قبل, وهو أن الشريعة وضعت عقوبات جرائم الحدود والقصاص لأغراض ثلاثة هي: حفظ الأمن, وتثبيت النظام, وصيانة الأخلاق, ولا شك أنه إذا سلم للأمة أمنها ونظامها وأخلاقها فقد سلم لها كل شئ, ولم يقف في طريق تقدمها ورقيها أي شئ.
495 - العقوبات الشريعة والتجارب: وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت عقوبتها لمحاربة الجريمة والإجرام فإن هذا وحده لا يكفي لإثبات صلاحية الشريعة وتفوقها على القوانين الوضعية, وإنما يجب أن يثبت بعد ذلك أن هذه العقوبات كافية للقضاء على الإجرام, إذ العبرة في هذا الأمر ليست بالوسائل أو الغايات, وإنما العبرة بكفاية الوسائل لإدراك ما وضعت له من غايات, والقوانين الوضعية نفسها قد قصدت محاربة الإجرام والجريمة ووضعت عقوبات معينة لهذا الغرض ولكنها فشلت في القضاء على الإجرام.
والتجربة وحدها هي التي تبين قيمة الأنظمة الجنائية, ولا عبرة بالمنطق المزوق الذي يصح مرة ويخيب أخرى, ولست آتي بجديد حين أقول هذا, وإنما أكرر ما قاله علماء القوانين الوضعية مجتمعين في اتحاد القانون الدولي, وحيث قرروا أن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة, وأن التجارب هي وحدها الكفيلة بإبراز هذا النظام المنشود.
ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية, وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية, وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين: كلية, جزئية.
فأما التجربة الكلية فقد بدئ بها في مملكة الحجاز من حوالي عشرين عاماً,(1/712)
حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً, ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام, ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلاً في الحجاز بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام. فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدو أو حصر في نهار أو ليل, وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامته مورد الاعتداء عنهم, وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات ومنعها من سلب الحجاز أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم, وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور حتى طبقت الشريعة الإسلامية, فانقلبت الحال بين يوم وليلة, وساد الأمن بلاد الحجاز وانتشر الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين, وانتهى عهد الخطف والنهب وقطع الطريق, وأصبحت الجرائم القديمة أخباراً تروى فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها, وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الجرائم عن الحجاز أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام, فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضاً للتعرف عليه, وهذا يترك عصاه في الطريق فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها, وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها ولكنه يجد الشرطة يبحثون عنه ليردوا إليه ما فقد منه, وبعد أن كان الأمن يعجز عن حفظه قوات عسكرية عظيمة من الداخل وقوات عسكرية كبيرة من الخارج أصبح الأمن محفوظاً بحفنة من الشرطة المحليين.
تلك هي التجربة الكلية وكفى بها دليلاً على أن النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عملياً إلى قطع دابر الجريمة, وأنه النظام الذي يبحث عنه ويتمناه اتحاد القانون الدولي.(1/713)
أما التجربة الجزئية فقد قامت بها أولا إنجلترا وأمريكا ومصر وبعض الدول الأخرى, ثم قامت بها أخيراً كل دول العالم تقريباً وقد نجحت هذه التجربة الجزئية أيضاً نجاح منقطع النظير. وقد سمينا هذه التجربة بالتجربة الجزئية؛ لأنها جاءت قاصرة على عقوبة واحدة من عقوبات الشريعة وهي عقوبة الجلد, فإنجلترا تعترف بالجلد عقوبة أساسية في قوانينها الجنائية والعسكرية, ومصر تعترف بها في قوانينها العسكرية, وأمريكا وبعض الدول تجعل الجلد عقوبة أساسية في الجرائم التي يرتكبها المسجون, ثم جاءت الحرب الأخيرة فقررت كل الدول تقريباً عقوبة الجلد على جرائم التموين والتسعير وبعض الجرائم الأخرى الماسة بالنظام أو الأمن العام, وهذا اعتراف عام عالمي بأن عقوبة الجلد أفعل من أية عقوبة أخرى, وأنها الوحيدة التي تكفل حمل الجماهير على طاعة القانون وحفظ الناظم, وأن كل عقوبات القوانين الوضعية لا تغني عن عقوبة الجلد شيئاً في هذا الباب, وهذا الاعتراف العالمي هو في الوقت نفسه اعتراف بنجاح الشريعة الإسلامية في محاربة الجريمة؛ لأن عقوبة الجلد هي إحدى العقوبات الأساسية في الشريعة.
496 - العقوبات الشرعية وطبيعة الإنسان: هذه هي التجارب قاطعة في أن عقوبات الشريعة الإسلامية تؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة وأن أي نظام جنائي وضعي يعجز عن الوصول إلى بعض النتائج التي يصل إليها نظام الشريعة الجنائي, ولعل السر في نجاح الشريعة أن عقوباتها وضعت على أساس طبيعة الإنسان, ففي طبيعة الإنسان أن يخشى ويرجو, وهو لا يأتي أي عمل إلا بقد ما ينتظر من منافعه, ولا ينتهي عن عمل إلا بقد ما يخشى من مضاره, فالإنسان لا يلقي بنفسه من القطار وهو متحرك ولو كان له مصلحة في ذلكما دام يخشى أن يموت ولكنه لا يمتنع عن إلقاء نفسه من الترام أو من على ظهر دابته إذا كان له في ذلك مصلحة؛ لأنه يرجو الوصول إلى منفعته ولا يخشى من وراء عمله ضرراً ذا بال, والمرء قد يخاف ركوب الطائرة ولا يخاف ركوب السيارة, ويخشى أن(1/714)
يصعد الجبل شديد الانحدار ولا يخاف تسلق التل المنبسط, ويخشى أن يركب الفرس الجموح ولكنه يسعى إلى امتطاء المطية الذلول, والإنسان في هذا كله يقدر المنفعة والضرر ويوازن بينهما, فإن رجحت كفة المنفعة فهو مقدم عليها وإن رجحت كفة الضرر فهو محجم عنها, وطبيعة الإنسان تلازمه في الخير والشر, في الأعمال المباحة والأعمال المحرمة, فلا يرتكب الجريمة إلا لما ينتظره منها من منفعة, ولا ينتهي عن الجريمة إلا لما يخشاه من مضارها, كلما اشتدت العقوبة كلما ابتعد الناس عن الجريمة, وكما خفت العقوبة كلما ازداد إقالهم على الجريمة, وكلما نظرنا إلى الجريمة دون المجرم أيس المجرم فلم يطمع في استعمال الرأفة ونأى بجانبه عن الجريمة وسلك طريق الاستقامة, وقد استغلت الشريعة طبيعة الإنسان فوضعت على أساسها عقوبات الجرائم عامة وعقوبات جرائم الحدود والقصاص خاصة, ونظرت في الجرائم الأخيرة إلى الجريمة دون المجرم؛ لأن هذه الجرائم من الخطورة بمكان, ولأنها تمس كيان الجماعة ونظامها, فالتساهل فيها يؤدي إلى أسوء النتائج, والتشدد
فيها يؤدي إلى قلة وقوع هذه الجرائم.
ولدينا تجربة في القانون المصري تثبت أن إهمال شخصية المجرم في الجرائم الخطيرة يؤدي إلى أفضل النتائج, فقد رأى الشارع المصري أخيراً أن يهمل شخصية الجاني إلى حد ما في جرائم المخدرات فأصدر القانون رقم 21 لسنة 1928, وهو قانون يشدد عقوبة إحراز المخدرات ويضع حداً أدنى للعقوبة, كما يقضي بأن لا تقل العقوبة عن ضعف الحد الأدنى في حالي العود ويمنع إيقاف تنفيذ العقوبة, وقد ترتب على صدور هذا القانون أن قلت جرائم المخدرات قلة ظاهرة وصارت تقل سنة بعد أخرى, فقد كان عدد جرائم المخدرات 21113 جريمة في سنة 1926 - 1927 أي في السنة السابقة على صدور القانون, فأصبحت 11404 جريمة في سنة 1928 - 1929, وأصبحت 8599 جريمة في سنة 1929 - 1930 ونزلت إلى 1922 جريمة في السنة 1936 - 1937 كما نزلت إلى 1926 جريمة في سنة 1942 -(1/715)
1943.
وهذا الإحصاء المادي شاهد عدل على أن إهمال شخصية المجرم في الجرائم الخطيرة هو العامل الأول في محاربة الجريمة, وأن نظرية الشريعة الإسلامية في العقوبة هي النظرية المثلى, بل إن هذا الإحصاء في ذاته دليل قاطع على تجربة أخرى ناجحة لنظرية الشريعة في العقوبة.
* * *
الفصل السادس
العقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها
497 - أنواع العقوبات: تختلف أنواع العقوبات في القانون المصري باختلاف الجرائم, وقد قسم القانون المصري الجرائم ثلاثة أقسام, وجعل جسامة الجريمة أساس لهذا التقسيم, فأجسم الجرائم تدخل تحت القسم الأول وتسمى جنايات, وأقل جسامة تدخل تحت القسم الثاني وتسمى جنحاً, والجرائم التافهة تدخل تحت القسم الثالث وتسمى مخالفات.
وجعل القانون لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عقوبات خاصة, فعقوبات الجنايات هي الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقته والسجن. وعقوبات الجنح هي الحبس والمراقبة والغرامة, وعقوبات المخالفات هي الحبس والغرامة, والفرق بين الحبس في الجنح وبينه في المخالفات أنه لا يزيد في المخالفات عن سبعة أيام وقد تصل في الجنح إل ثلاثة سنوات, والفرق بين الغرامة في الجنح وبينها في المخالفات أنها لا تزيد في المخالفات عن مائة قرش وتزيد عن ذلك في الجنح.
وعقوبة الإعدام هي إزهاق روح المحكوم عليه, وتختلف قوانين البلاد المتمدينة في كيفية تنفيذ العقوبة, ففي بعض البلاد تنفذ بالشنق كما هو الحال في مصر, وفي بعضها تنفذ بقطع الرقبة بآلة حادة كما قي فرنسا, وبعضها ينفذ العقوبة بصعق المحكوم عليه بتيار كهربائي كما في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعقوبة الأشغال الشاقة سواء كانت مؤبدة أو مؤقتة هي وضع المحكوم(1/716)
عليه في محبس مع تشغيله في أشق الأشغال التي تعنيها الحكومة (المادة 14 من قانون العقوبات) . وإذا كان المحكوم عليه امرأة أو رجلاً جاوز الستين من العمر استوفيت العقوبة في أحد السجون العمومية (المادة 15 عقوبات) والسجن العمومي هو السجن الذي يقع في دائر المديرية.
أما عقوبة السجن فهي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية وتشغله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعنيها الحكومة (المادة 16 عقوبات) .
ولا يجوز أن تنقص عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن عن ثلاث سنوات كما لا يجوز أن يزيد على خمس عشر سنة إلا بنص (المادة 14, 16 عقوبات) .
وعقوبة الحبس هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية ولا تنقص عقوبة الحبس عن أربع وعشرين ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا بنص, والحبس إما أن يكون مع الشغل أو بسيطاً, فإن كان مع الشغل اشتغل المحكوم عليه داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعينها الحكومة.
ويمكن القول أن عقوبة الأشغال الشاقة مؤبدة أو مؤقتة وعقوبة السجن وعقوبة الحبس هي كلها في جوهرها هي عقوبات حبس يتفاوت في مدته أكثر مما يتفاوت في نوعه, أما اختلاف العمل الذي يزاوله المحكوم عليه من حيث مكان العمل أو قسوته فلا يغير من طبيعة الحبس شيئاً, وعلى هذا الأساس تكون العقوبات الجنائية التي يعترف بها القانون المصري هي الإعدام والحبس والمراقبة والغرامة.
وكان القانون المصري يعترف بعقوبة الجلد ويخصصها للأحداث حتى سنة 1937، فلما عدل القانون في هذه السنة استبدلت هذه العقوبة بعقوبة التوبيخ.
كذلك كان القانون المصري يعترف وقت وضعه بعقوبة النفي مؤبدة أو مؤقتة, فلما عدل سنة 1904 ألغيت هذه العقوبة بحجة أن سهولة المواصلات(1/717)
أضعفت من أثر العقوبة الملغاه, ولكن الرأي يتجه أخيراً إلى إعادة عقوبة النفي, بل لقد اضطرت الحكومة إلى فرض عقوبة النفي الإداري إلى الطور في بدأ الحرب الأخيرة في سنة 1940, كما فرضت الجلد عقوبة لمخالفة الأوامر العسكرية الخاصة بالتموين والتسعير, وظل الحال كذلك حتى انتهت الحرب.
ومن العقوبات الأساسية في القانون المصري عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية, وهي خاصة بمعتادي الإجرام والأحداث, وهذه العقوبة في جوهرها حبس وإن اختلف نظام الإصلاحيات عن نظام السجون.
498 - سلطة القاضي في تطبيق العقوبات: وقد نص القانون على كل جريمة وعلى العقوبة المقررة لها, وحين اختيرت العقوبة لكل جريمة روعي فيها أن تكون مناسبة للجريمة, وجعل الشارع لكل عقوبة عدا الإعدام والتوبيخ حدين: أحدهما يصعد بالعقوبة إلى أعلى درجاتها, والثاني: ينزل بها إلى أدنى هذه الدرجات, وفي أغلب الأحوال جعل الشارع لكل جريمة عقوبتين إحداهما أخف من الأخرى.
وأعطى القانون للقاضي سلطة واسعة في تطبيق العقوبات التي قررت للجرائم؛ فترك للقاضي أن يختار العقوبة الملائم إذا كان هناك أكثر من عقوبة، وأن يختار من بين حديها الكمية التي يراها كافية لتأديب المجرم.
ثم أعطى القانون بعد ذلك للقاضي الحق في أن يستبدل بالعقوبة أو بالعقوبتين المقررتين للجريمة عقوبة أخرى أخف منهما إذا اقتضت ظروف الجريمة الرأفة, وقصر استعمال هذا الحق على جرائم الجنايات دون غيرها, فللقاضي أن يستبدل بعقوبة الإعدام عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. وله أن يستبدل بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن, وله أن يستبدل عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة السجن أو الحبس, وله أن يستبدل بعقوبة السجن الحبس (المادة 17 عقوبات) .(1/718)
وأعطى القانون أخيراً لقاضي الإحالة الحق في أن يحيل بعض الجنايات على محكمة الجنح لتحكم فيها لا بالعقوبات المقررة للجنايات وإنما بعقوبة الحبس فقط المقررة للجنح, وليس على قاضي الإحالة قيد في تجنيح الجنايات ما دامت مقترنة بعذر قانوني معين أو بظروف مخففة تبرر تطبيق عقوبة الجنحة, وما دامت عقوبة الفعل الأصلية ليست الإعدام أو الأشغال الشاقة المربدة. والنتيجة العملية للسلطة المعطاة لقاضي الإحالة هي استبدال عقوبة الحبس المقررة للجنح بعقوبتي الأشغال الشاقة المؤقتة والسجن في كل جناية تحال إلى محكمة الجنح, وهي نتيجة تتفق مع النتيجة التي تؤدي إليها المادة 17 عقوبات.
وللقاضي بعد هذا كله أن يأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا كانت بالحبس لمدة لا تزيد على سنة إذا رأى من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مخالفة القانون (المادة 55 عقوبات) .
499 - العلة في منح القاضي هذا السلطان: وقد اضطر واضعو القانون اضطراراً إلى إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع؛ لأنهم رأوا العلماء يخفقون في وضع نظرية علمية للعقوبة ويعجزون عن التوفيق بين مختلف المبادئ التي يراد أن تقوم عليها هذه النظرية, فآثروا أن يحلوا هذه المشكلة المعقدة حلاً عملياً وتركوا للقاضي من بعد التسليم بهذه المبادئ وإقرار نصوص القانون لها أن يوفق هو بين هذه المبادئ المتعارضة, وأن يراعى مختلف الاعتبارات, فعليه أن يقدر خطورة الجريمة وأثرها في الجماعة, وعليه أن يقدر ظروف المتهم الشخصية, وظروفه التي أحاطت به وقت ارتكاب الجريمة, وصلحه مع المجني عليه وصلته به, فإن رأى أن ظروف الجريمة والجماعة تقتضي إهمال شخصية الجاني أهملها وشدد العقوبة. وإن رأى أن ظروف الجاني تقتضي الرأفة أخذ الجاني بالرأفة ما دامت الرأفة لا تضر بالجماعة.(1/719)
وكان الفروض أن ينجح القضاة فيما أخفق فيه العلماء؛ لأن القاضي يراد منه أن يعالج حالات فردية واحدة بعد واحدة غير متأثر إلا بظروف هذه الحالة وحدها, أما العلماء فيراد منهم أن يعالجوا كل الحالات مرة واحدة ويضعوا لها قواعد تنطبق عامة عليها وتحكمها جميعاً. كان هذا هو المفروض المقدور, فهل صح الفرض ونجح التقدير أم أخفق القضاة كما أخفق من قبلهم العلماء؟ إن مقياس النجاح في هذا الباب هو أثر العقوبة في علاج الجريمة وكبح جماح المجرمين, ونظرة واحدة إلى إحصائيات الجرائم سنة بعد أخرى تقطع بأن القضاة قد أخفقوا إخفاقاً لا يساويه إلا إخفاق من سبقهم من العلماء في معالجة نظرية العقوبة.
500 - لماذا أخفق القضاة في تطبيق نظرية العقوبة؟: والواقع أن الذين قدروا للقضاة النجاح أخطأوا التقدير الصحيح, ولو أنهم أحسنوا تقدير الأمور بعض الشيء لما وقعوا في هذا الخطأ الشنيع, لقد عرفوا أن العلماء قد عجزوا عن تكوين نظرية سليمة للعقوبة؛ لأنهم أرادوا أن يجمعوا بين مبادئ متعارضة ويجعلونها ماثلة في كل العقوبات, فكيف يتوقعون نجاح القضاة وهم يجبرونهم على أن يسلكوا نفس السبيل حين أباحوا لهم يراعوا كل هذه المبادئ في كل جريمة دون استثناء؟ وهل يستطيع القاضي أن يوفق في أي جريمة خطيرة بين خطورة الجرائم وبين ظروف الجاني المخففة إلا على حساب الجريمة بأن ينزل عن العقوبة التي تقتضيها خطورة الجريمة ليحكم بعقوبة تتلاءم مع ظروف الجاني بقدر الإمكان, وهذا الحكم الذي ينقذ الجاني من العقوبة المغلظة يضحي في الوقت نفسه بأمن الجماعة ونظامها, ويؤدي إلى نتيجة لا محيص عنها هي استخفاف المجرمين بالعقوبة وتهالكهم على الجريمة؛ فتزداد الجرائم ويختل الأمن, فالعقوبة التي وضعت لصلاح المجتمع يؤدي إلى إفساده إذا ما أسيء استعمالها, ولابد للقاضي أن يسيء استعمالها على الوجه الذي بينا بحكم الظروف القاهرة التي أحاطه بها القانون الوضعي.(1/720)
لقد رتب القانون تخفيف العقوبة على ظروف الجاني, فهل يصعب في أية جريمة مهما كانت خطورتها أن لا تجد لجانٍ عذراً مخففاً؟ فتارة الجاني شاب يافع وتارة هو متقدم في السن, وتارة دفعته للجريمة الغيرة على الشرف والعرض, وتارة استفز لارتكاب الجريمة, وتارة وقع تحت مؤثرات قوية, وتارة دفعته للجريمة عقيدته السياسية أو الوطنية, إلى غير ذلك من الأعذار التي لا تفرغ منها جعبة الجناة والمدافعين عنهم, وهل يستطيع القاضي أن يصم أذنيه فلا يسمع دفاعاً, ويغلق قلبه فلا يرحم ضعيفاً, ويوقف علقله فلا يفكر في ظروف المتهم ولا يقدرها, خصوصاً إذا أحكم ترتيبها وأحسن عرضها؟ صحيح أن القانون أجاز للقاضي أن يأخذ بظروف الرأفة ولم يلزمه بها, ولكن هذا الجواز بالنسبة للقاضي يساوي تماماً الإلزام بل هو عين الإلزام؛ لأن الاعتراف بالظروف المخففة وترتيب أثر قانوني لها هو بمثابة تقرير حق الجاني قبل القاضي أساسه هذه الظروف المخففة, فأي قاضٍ يستطيع أن ينكر على الجاني حقه, أو يستطيع أن لا يرتب على دفاعه إذا صح أثره؟
وإذا كان واضعو القانون قد غلب على ظنهم نجاح القضاة؛ لأنهم سيعالجون حالات فردية فذلك هو الظن المجرد, وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً, فالقاضي يعالج حقيقة حالات فرادى، ولكنه يعالجها على نفس الأساس الذي كان يعالج به العلماء نظرية العقوبة, فالعلماء ينظرون إلى الجريمة وإلى المجرم معاً, والقاضي ينظر إلى الجريمة والمجرم معاً, والعلماء لا يريدون أن يضحوا بأحد هذين الاعتبارين أحياناً في سبيل الاحتفاظ بالآخر, والقاضي يفعل مثلهم ولا يستطيع أن يضحي بأحد الاعتبارين ويستبقي الآخر, فيؤدي به موقفه إلى أن يضحي بهما معاً وبمصلحة الجماعة وأمنها في أغلب الأحوال.
ولقد نسى من وضع هذا السلطان العظيم في يد القضاة أنهم بشر, وأم من طبيعة البشر التهرب من حمل المسئولية, وأن الإنسان إذا خير بين مسئوليات(1/721)
سارع إلى حمل أخفها كما يسارع إلى الابتعاد عن أثقلها, ولا يتعرض لحمل المسئوليات الثقيلة إلا كارهاً أو مضطراً حين يجد بداً من حملها أو لا يجد مخرجاً لتركها, فالقاضي يشعر عادة بثقل مسئوليته حين يفكر في الحكم بالإعدام وتنفر نفسه غالباً من مثل هذا الحكم ولا يقدم عليه ما دام يستطيع أن يستبدل الإعدام الأشغال الشاقة, وكذلك ينفر من الحكم بالأشغال الشاقة ويشعر بثقله على نفسه طالما كان في استطاعته أن يحكم بالسجن أو بالحبس, وقد يضايق القاضي أن يحكم على شخص ما لظروفه بالحبس مع النفاذ, ولكنه لا يرى غضاضة في الحكم عليه بالحبس مع إيقاف تنفيذ العقوبة, كذلك لا ينفر القاضي ولا يتردد أن يحكم بعقوبة ما أياً كان نوعها إذا لم يكن يستطيع أن يختار غيرها أو يستبدل بها أخف منها, وليس القاضي بدعاً في هذا, وإنما هي طبيعة الإنسان لا تتغير حتى يتغير تكوينه, فمن طلب منه أن يأتي بما ليس في طبيعته فقد طلب المحال وباء بالخسران والخزلان.
501 - فشل واضعي القانون في علاج مشكلة العقاب ومظاهره: ونستطيع أن نتبين مما سبق أن واضعي القانون قد أخفقوا ذريعاً حين أرادوا معالجة مشكلة العقاب علاجاً عملياً عن طريق القضاة, ويتمثل ذلك الإخفاق في مظهرين لكل منهما أهميته وأثره وهما:
أولاً: تعطيل العقوبات الأصلية: ترتب على إعطاء القضاة السلطان التام في اختيار العقوبة واستبدال غيرها بها أن تعطلت العقوبات التي وضعت أصلاً للجرائم بحيث أصبحت في حكم الملغاة؛ لأن القاضي كما قلنا لا يلجأ إلى التشديد إذا سد أمامه باب التخفيف, ويندر أن يغلق دونه هذا الباب, ولا يطبق القاضي العقوبة الأصلية طالما استطاع أن يطبق العقوبة الاحتياطية, وهو لا يكاد يعجز عن ذلك في كل الأحوال.
فعقوبة الإعدام وهي مقررة لحوالي عشرين جريمة يندر تطبيقها الآن, مع أن جريمة القتل - وهي إحدى الجرائم العشرين التي يعاقب عليها بالإعدام - تقع بمعدل(1/722)
تسع جرائم يومياً؛ خمس منها جرائم تامة وأربع منها تقف عند الشروع. وفي سنة 1936 - 1937 كانت جرائم القتل والشروع فيه 3093 جريمة، وفي سنة 1938 - 1939 بلغت 3211 جريمة فهي على خطورتها تزداد عاماً بعد عام, وهذه الزيادة سبب يدعو إلى التشدد في تطبيق عقوبة الإعدام, وإن كانت خطورة الجريمة في ذاتها أدعى إلى هذا التشدد دون نظر إلى غير ذلك من العلل والأسباب.
ولكن الإحصائيات - وا أسفاه - ترينا ما لا يراه العقل وتنتهي بنا إلى غير ما ينتهي إليه منطق الأشياء, ترينا أن جرائم القتل تزداد باسمرار والأحكام الرادعة تقل باستمرار, ففي سنة 1936 - 1937 (1) فصلت محاكم الجنائية بالإدانة في 148 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام, وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 22 شخصاً, ولكن محاكم الجنايات لم تحكم بالإعدام إلا على 17 شخصاً فقط واستبدلت للباقين بعقوبة الإعدام عقوبات أخرى, ومعنى ذلك أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 7.6} . وفي سنة 1937 - 1938 قضت محاكم الجنايات بالإدانة في 127 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 181 شخصاً حكم على ستة عشر شخصاً منهم بالإعدام واستبدلت للباقين عقوبة الإعدام عقوبات أخرى، ومعنى ذلك أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 8.8} . وفي سنة 1938 - 1939 قضت محاكم الجنايات بالإدانة في 150 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام, وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 206 شخصاً حكم على تسعة أشخاص فقط من هؤلاء بالإعدام واستبدلت للباقين عقوبات مخففة بعقوبة الإعدام, أي أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 3.4} . وفي سنة 1939 - 1940 قضت محاكم الجنايات
_________
(1) هذا الإحصاء وما يليه مأخوذ من الإحصاء القضائي السنوي لوزارة العدل, وليس لنا فيه إ استخراج النسب المئوية.(1/723)
بالإدانة في 148 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام, وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 195 شخصاً حكم على ستة منهم فقط بالإعدام واستبدلت بعقوبة الإعدام عقوبات مخففة للباقين, أي أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 3.1} .
فمتوسط نسبة الأحكام التي قضت بعقوبة الإعدام في هذه السنوات الأربع المتتالية هي 5.9} وضآلة هذه النسبة وتفاهتها ترجع إلى أنها تحدد أحكام الإعدام لا في جرائم القتل بصفة عامة, ولكن في جرائم التي يوجب فيها القانون الحكم بعقوبة الإعدام دون غيرها.
لا يظن أحد أن نسبة أحكام الإعدام كانت مرتفعة في القديم، فإن الإحصائيات تدل على أن هذه النسبة كانت 5.7} في سنة 1926 - 1927, وأنها كانت في السنة التالية لها 2.9} , ويا لها من نسبة قمينة بأن تحيل النظام فساداً والأمن خوفاً!! ولعل واضع القانون لم يدر بخلده يوماً ما أن يصل إلى هذه النتيجة, ولو أنه توقعها لما سمح باستبدال العقوبات المخففة بالعقوبات المشددة.
ولعل فيما سبق الدليل الكافي على أن عقوبة الإعدام معطلة, وأنها تكاد تكون حبراً على ورق يعترف بها القانون وينكرها الواقع.
وما قيل عن عقوبة الإعدام يمكن أن يقال عن عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة, فإنها لا تكاد تطبق كعقوبة أصلية. وإنما تطبق بدلاً من عقوبة الإعدام.
وإذا راجعنا إحصائية العقوبات الصادرة من محاكم الجنايات في سنة 1936 - 1937 نجد أن مجموع المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة 114 شخصاً؛ من هؤلاء تسعة عشر شخصاً حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية, أما الباقون فعقوبتهم مستبدلة بعقوبة الإعدام. وفي سنة 1938 - 1939(1/724)
كان عدد المحكوم عليهم الأشغال الشاقة المؤبدة 114 شخصاً؛ من هؤلاء 33 شخصاً عقوبتهم أصلية والباقون عقوبتهم مستبدلة بالإعدام. وفي سنة 1939 - 1940 كان المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة 123 شخصاً؛ من هؤلاء 31 شخصاً عقوبتهم أصلية والباقون عقوبتهم مستبدلة بالإعدام.
ولا تكاد محاكم الجنايات تحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية إلا في القتل الذي لم يقترن بظروف, وإلا في بعض جرائم الشروع في القتل المعاقب عليه بالإعدام, أما بقية الجنايات الأخرى فيندر أن يحكم فيها بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة, فمثلاً تدل الإحصائيات على أنه لم يحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة فيما بين سنة 1936 - 1937 وبين سنة 1939 - 1940 إلا من أجل القتل والشروع فيه, فيما عدا خمسة أشخاص حكم عليهم في كل هذه المدة لسرقات.
ومن السهل أن نبين نسبة تطبيق عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية في جرائم القتل الذي لم يقترن بظروف, ففي سنة 1936 - 1937 كانت 7.8} , وفي سنة 1937 - 1938 كانت 15.7} , وفي سنة 1938 - 1939 كانت 8.9} , وفي سنة 1939 - 1940 كانت 12.9} , ومتوسط النسبة في السنوات الأربع هو 11.3} .
ولكن من الصعب أن نبين النسبة في جرائم الشروع؛ لأن الإحصائيات تجمل عدد القضايا ولا تبين ما يجب فيه عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة وما لا يجب فيه. ولا نعتقد أنها تزيد على النسبة في جرائم القتل بل إنها قد تقل عنها كثيراً, ففي سنة 1936 - 1937 مثلاً حكم على 438 شخصاً في جرائم الشروع في القتل, ومن هؤلاء أربعة فقط حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبد'.
أما النسبة في جرائم السرقة فهي تكاد تكون معدومة, ففي سنة 1936 - 1937 أدين 128 شخصاً, كان يجب أو يجوز طبقاً لنص القانون أن يحكم عليهم(1/725)
بالأشغال الشاقة المؤبدة, ولكن لم يحكم على أحد منهم بهذه العقوبة. وفي سنة 1937 - 1938 أدين 124 شخصاً منهم أثنان فقط هما اللذان حكم عليهما بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة كقعوبة أصلية؛ أي بنسبة 1.6} . وفي سنة 1938 - 1939 عوقب 147 شخصاً منهم ثلاثة فقط هم الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية؛ أي بنسبة 2} . وفي سنة 1939 - 1940 عوقب 148 شخصاً لم يحكم على أحد منهم بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة. وإذن فالإحصائيات تدل على أن عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة تطبق في جرائم السرقة كعقوبة أصلية بنسبة متوسطها 0.9} فقط.
وإذا كانت عقوبة الإعدام وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة قد أصبحت كلتاهما معطلة لا تطبق على الجرائم التي فرضها لها القانون, فإن عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة وعقوبة السجن قد لقيت كلتاهما مثل هذا المصير؛ ذلك أن الجنايات المعاقب عليها بعقوبتي الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن تحال على محكمة الجنح للفصل فيها على أساس عقوبة الجنحة إذا كان للمتهم أعذار معينة أو ظروف مخففة, وهذه الجنايات التي تحال إلى محكمة الجنح قد تبلغ أحياناً نصف ما يحال على محاكم الجنايات, ومعنى هذا أن ثلث مجموع الجنايات تقريباً يعاقب عليه بعقوبة الحبس بينما عقوبته الأصلية الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن.
والمفروض في القضايا التي تحال على محاكم الجنايات أنها نوعان: نوع عقوبته الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تدعو ظروف المتهمين فيه إلى استعمال الرأفة وقد لا تدعو لذلك, ونوع عقوبته الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن, وظروف المتهمين فيه كما رأى قاضي الإحالة لا تدعو لاستعمال الرأفة, فكان المنطق يقضي بأن هذا النوع الثاني يحكم فيه على المتهمين بالعقوبات الأصلية, ولكن الواقع لا يتفق دائماً مع المنطق, فإن كثيراً من قضايا هذا النوع يحكم فيه(1/726)
بالحبس بدلاً من العقوبات الأصلية (1) ؛ لأن ظروف الرأفة تظهر دائماً أمام محكمة الموضوع وإن لم تظهر في كل أدوار التحقيق, ولأن المتهمين لا يعجزون عن إظهار أنفسهم في مظهر المستحق للرأفة.
ونستطيع أن نصل إلى نسبة دقيقة في كل الجنايات إذا راجعنا العقوبات التي تصدر فيها سواء من محاكم الجنايات أو محاكم الجنح. ففي سنة 1936 - 1937 حكمت محكمة الجنايات بالعقوبة في 2482 جناية على 3063 شخصاً, ومن هؤلاء 941 شخصاً حكم عليهم بعقوبة الجنحة. وفي نفس العام حكمت محاكم الجنح في 1154 جناية على 1416 شخصاً بعقوبة الجنحة, فأصبح عدد المحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2122 شخصاً, والمحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2375 شخصاً، أي أن 52.6} من الجنايات حكم فيها بعقوبة الجنحة بدلاً من عقوبتها الأصلية. وفي سنة 1937 - 1938 حكمت محكمة الجنايات بالعقوبة في 2408 جناية على 2915 شخصاً منهم 832 حكم عليهم بعقوبة الجنحة. وفي نفس العام حكمت محكمة الجنح في 1045 جناية على 1362 شخصاً, فكان عدد المحكوم عليهم بعقوبة الجناية 2103 وعدد المحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2194 شخصاً, أي أن 51} من الجنايات حكم فيها بعقوبة الجنحة بدلاً من العقوبات الأصلية. وفي سنة 1938 - 1939 كانت النسبة 49.7} وفي سنة 1939 - 1940 كانت النسبة 49.6} . فمتوسط ما يحكم فيه سنوياً من الجنايات بعقوبة الجنحة 50.7} من مجموع كل الجنايات.
وهكذا تنتهي عقوبات الجنايات هذه النهاية السيئة, فعقوبة الإعدام لا تطبق إلا على أقل من 6} من الجرائم التي جعلت عقوبة لها, وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لا تطبق في بعض الجرائم كعقوبة أصلية, فإذا طبقت في البعض
_________
(1) أخذت هذه النسبة من كشف العقوبات التي حكمت بها محاكم الجنايات في سنة 1939- 1940 من مقارنة المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤقتة والسجن بعدد المحكوم عليهم بالحبس في كل الجنايات عدا جنايات القتل.(1/727)
الباقي تراوحت نسبتها المئوية بين 11.1} . وعقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة والسجن لا تطبق إحداهما إلا على 35} من الجرائم المقررة لها باعتبار أن نصف الجرائم جنح, وأن 30} من الباقي يحكم فيه بعقوبة الجنحة.
ومعنى ما سبق أن تطبيق العقوبات على الجرائم نزل بها درجة أو أكثر, فنزل بالإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة, ونزل بهذه إلى الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن, ونزل بكل من هاتين إلى عقوبة الحبس. ولعلنا بهذا الاستدلال قد أدركنا إلى أي حد تعطلت العقوبات الأصلية وأحطنا جيداً بمعنى هذا التعطيل.
ثانياً: الميل إلى تخفيف العقوبات: قلنا: إن القانون جعل لكل عقوبة حدين يرتفع أحدهما بالعقوبة إلى نهاية التغليظ, وينزل بها الثاني إلى نهاية التخفيف, وقد خول القانون القضاة حق تقدير العقوبة من بين هذين الحدين, ولكنهم يميلون غالباً للتخفيف وينزلون في أكثر من الأحوال إلى حدها الأدنى؛ متأثرين في ذلك بمختلف العوامل التي سبق شرحها.
ولست أسوق دليلاً على هذا القول إلا الإحصاءات الرسمية (1) . ففي سنة 1936 - 1937 حكم على 1165 شخصاً بالأشغال الشاقة المؤقتة فكانت نسبة المحكوم عليهم من هؤلاء بأدنى العقوبة وهي ثلاثة سنوات 33.2} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 15.4} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 51.4} . وفي نفس السنة حكم بالسجن على 744 شخصاً فكانت نسبة من حكم عليهم بأدنى العقوبة وهي ثلاثة سنوات 58} , وكانت نسبة من حكم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 1.8} , وكانت نسبة من حكم عليهم بمتوسط العقوبة 40.2} . وفي نفس السنة حكم على 40090 شخصاً بالحبس مع الشغل
_________
(1) أخذت هذه الإحصاءات من تقارير مصلحة السجون السنوية, واستخرجت النسبة المئوية بمعرفتنا.(1/728)
, وكانت نسبة المحكوم عليهم بثلاثة أشهر فأقل 56.3} وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة واحدة 32.4} ,وكانت نسبة المحكوم عليهم بسنة فأكثر 11.3} . وفي نفس السنة حكم بالحبس البسيط على 23925 شخصاً, فكانت نسبة المحكوم عليهم بثلاثة أشهر فأقل 99.6} ونسبة المحكوم عليهم بأكثر من تسعين يوماً 0.4} .
وفي سنة 1938 - 1939 كانت نسبة المحكوم عليهم بأدنى عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة إلى مجموع المحكوم عليهم 48.9} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وهمس عشرة سنة 13.4} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 37.7} . وفي نفس السنة كانت نسبة المحكوم عليهم بأدنى عقوبة السجن 69.3} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 1.6} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 29.1} , وفي نفس السنة كانت النسبة بين الحكوم عليهم بالحبس مع الشغل أو الحبس البسيط تكاد تعادل النسب التي بيناها عن سنة1936 - 1937.
وهذا هو لسان الإحصاء الذي لا يكذب, وإنه لقاطع في أن المحاكم تنفر من التشديد, وإنها تميل بالعقوبة إلى التخفيف أكثر مما تميل بها إلى الاعتدال.
ويجب أن لا ننسى بعد هذا أن العقوبة خففت قبل ذلك مرة أخرى حين استبدلت بالعقوبة الأصلية عقوبة أخرى, ومعنى ها أن المحاكم تخفف العقوبة مرتين: مرة عند اختيارها أو عند قبول الظروف المخففة, ومن عند تقديرها والنطق بها.
502 - علة تعطيل العقوبات وتخفيفها: رأينا فيما سبق كيف تعطلت العقوبات الأصلية وكيف تتجه المحاكم إلى تخفيف العقوبة بقدر الإمكان, ولهاتين الظاهرتين الخطيرتين علة واحدة هي أن القانون قد جعل العقوبة للزجر والتأدب, واعترف بأن لشخصية المجرم وظروفه أثراً على العقوبة, والقاضي ملزم حين يوقع العقوبة أن يراعي هذين المبدأين معاً في الجرائم الخطيرة والبسيطة(1/729)
على السواء؛ لأن القانون لم يهمل شخصية المتهم في الجرائم الخطيرة الماسة بكيان الجماعة كما فعلت الشريعة، وكلا المبدأين مناقض للآخر, فتحقيق الزجر والتأديب يقتضي تشديد العقوبة, ومراعاة شخصية المتهم تقتضي تخفيف العقوبة, ولا يستطيع القاضي أن يفعل شيئاً لإزالة هذا التناقض إلا أن يوفق بين المبدأين بقدر الإمكان, ولكنه حين يفعل يتجه دائماً ناحية المتهم؛ لأنه هو الذي يكون ماثلاً أمامه بمادته ومعناه يسترحمه ويستعطفه ويعرض ظروفه ويبرر موقفه, أما مصلحة الجماعة فلا تكون وقت المحاكمة ممثلة في ذهن القاضي بالقوة التي تتمثل بها مصلحة المتهم, ولذلك لا تراعى بالقدر الذي يراعى به المتهم, وتكون النتيجة ما رأينا من تعطيل العقوبات وتخفيفها.
503 - هل نجحت العقوبات القانونية في محاربة الإجرام؟: شرعت العقوبات ولا تزال لمحاربة المجرمين والإجرام, وحين يراد تحريم فعل معين تقدر له العقوبات التي يرى أنها كفيلة بزجر الناس عن إتيان هذا الفعل المحرم, فإن أدت العقوبة بالناس إلى أن يمتنعوا عن الفعل المحرم فقد نجحت العقوبة وأدت الغرض منها, وإن لم يزدجر الناس عن الفعل المحرم حاول أولو الأمر أن يعاقبوا عليه بعقوبة أكثر ردعاً من العقوبة السابقة.
فالمقياس الصحيح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين والجريمة, فإن نقص عدد المجرمين وقلت الجرائم فقد نجحت العقوبة, وإن زاد عدد المجرمين والجرائم فقد فشلت العقوبة, ووجب أن تستبدل بها عقوبة أخرى قمينة بأن تردع المجرمين وتصرفهم عن ارتكاب الجرائم.
ولقد علمنا أن القانون المصري قرر عقوبات الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والسجن والحبس والإرسال للإصلاحية, ونحب أن نعرف إلى أي مدى نجحت هذه العقوبات, وكيف كان أثرها على المجرمين والجريمة. وهذه العقوبات على تعددها هي عقوبتان: الإعدام, والحبس بوجه عام.(1/730)
504 - الإعدام: فأما الإعدام فلا شك في أنه عقوبة رادعة, وقد قررت لأقل ما يمكن من الجرائم, ولا يكاد تقع في حياتنا اليومية جرائم يعاقب عليها بالإعدام إلا جرائم القتل, وقد بينا مستندين إلى الإحصاءات نسبة تطبيق عقوبة الإعدام في الجرائم الي يعاقب عليها وجوباً بالإعدام فإذا هي في المتوسط أقل من 6} , وهي نسبة ضئيلة تشجع على الإجرام ولا تردع عنه, والذين يتصلون بدور القضاء يعلمون أن القاتل اليوم لا يبالي أن يقتل ويعترف بجريمته, وإنما يبالي ويهتم بأن يركز دفاعه في طلب الرأفة ليفلت بجلده من عقوبة الإعدام وهو يصل غالباً إلى ما يتمناه.
ولست أدري كيف نقبل أعذار القتلة والسفاحين وهم لا يقبلون عذراً من ضحاياهم؟ وكيف نرحمهم ولا يرحمون فرائسهم؟ وإذا كان القاتل لا يقتل وفي قلبه ذرة من الرحمة, ولا يقتل إلا بعد تفكير وتدبير وإصرار على القتل وترصد للمقتول, فليت شعري أية ظروف بعد هذا كله تحملنا على أن نعامله بالرأفة والرحمة؟ وإذا كان القانون نفسه قد فرق بين القتل بالتسميم, والقتل المسبوق بسبق إصرار وترصد أو المقترن بجريمة أخرى أو المقصود به تسهيل ارتكاب الجرائم, إذا كان القانون قد فرق بين هذه الأنواع وبين القتل الذي يقع دون ترتيب لوسائله أو تفكير سابق فيه, وجعل عقوبة الأنواع الأولى الإعدام وعقوبة النوع الثاني الأشغال الشاقة, فكيف سوينا بين المختلفين, ولم نفرق في العقوبة بين النوعين؟ وكيف طبقنا عقوبة الإعدام في حدود هذه النسبة الضيقة بحجة استعمال الرأفة؟ وهل أصبح المجرمون اليوم مستحقين للرأفة والرحمة بنسبة 94.1} في الجرائم التي لا تستحق أصلاً رأفة أو رحمة؟
إن جرائم القتل التي تقع كل عام تعادل 35} من مجموع الجنايات كلها, وهي تزداد عاماً بعد عام, ففي سنة 1935 - 1936 كان عدد جنايات القتل والشروع فيه 2857 وكان مجموع الجنايات 7976. وفي سنة 1936 - 1937 كان عدد(1/731)
جنايات القتل والشروع فيه 3093 بينما كان مجموع الجنايات كلها 8618. وفي سنة 1937 - 1938 كان عدد جنايات القتل والشروع فيه 3319 جناية وكان مجموع الجنايات كلها 9232. ولعل هذه الزيادة المتجددة ترجع قبل كل شئ إلى استعمال الرأفة.
فعيب عقوبة الإعدام إذن يرجع إلى تطبيقها لا إلى طبيعتها, وقد جاء هذا العيب من إباحة قبول الظروف المخففة في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو على الأقل في جريمة القتل, أو حرم على القضاة أن يستبدلوا بعقوبة الإعدام عقوبة أخرى - لكان لعقوبة الإعدام أثرها الذي لابد منه في تقليل جرائم القتل, ولحل جانب خطير من مشكلة الإجرام.
505 - عقوبات الحبس وعيوبها: أما عقوبات الأشغال الشاقة بنوعها والسجن والحبس فهي كما قلنا من قبل ليست في جوهرها إلا عقوبة الحبس الذي يتفاوت في مدته أكثر مما يتفاوت في نوعه, وعقوبة الحبس هذه هي العقوبة الأساسية لمعظم الجرائم, يجازى بها المجرم الذي ارتكب جريمةته لأول مرة ويجازى بها المجرم العاتي الذي تخصص في الإجرام, ويجازى بها الرجال والنساء والشبان والشيب, ويجازى بها من ارتكب جريمة خطيرة ومن ارتكب جريمة تافهة, وتنفذ العقوبة على هؤلاء جميعاً بطريقة واحدة تقريباً, وقد أدى تطبيق هذه العقوبة على هذا الوجه إلى نتائج خطيرة ومشاكل دقيقة نبسطها فيما يلي:
1 - إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج: يوضع المحكوم عليهم بعقوبة الحبس على اختلاف أنواعها في محابس يقيمون بها حتى تنتهي مدة العقوبة, ولهذه المحابس أسماء مختلفة, وأقلها درجة: السجون المركزية, ويوضع بها المحكوم عليهم بالحبس ثلاثة أشهر فأقل. ويليها في الدرجة: السجون العمومية,(1/732)
ويوضع فيها المحكوم عليهم بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر والمحكوم عليهم بالسجن والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة من النساء أو الرجال المتقدمين في السن. ويلي السجون العمومية: الليمانات, ويوضع فيها المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. وهناك إصلاحيات الرجال ويوضع فيها معتادو الإجرام, أما إصلاحيات الأحداث فهي للأطفال الذين تزيد أسنانهم على سبع سنوات.
وقد بلغ عدد المحكوم عليهم بالحبس بمختلف أنواعه 127090 شخصاً في سنة 1938 - 1939, ولا يدخل في هذا العدد من حكم عليهم بالحبس من المحاكم المركزية. ويتزايد عدد المحكوم عليهم باستمرار سنة بعد أخرى, وقد بلغ متوسط المسجونين يومياً 25515 في سنة 1938 - 1939 بزيادة 5974 عن السنة السابقة.
والمحكوم عليهم يكونون في الغالب من الأشخاص الأصحاء القادرين على العمل, فوضعهم في السجون هو تعطيل لقدراتهم على العمل وتضييع لمجهود كبير كان من الممكن أن يبذلوه فيستفيد منه المجتمع لو عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم وردع غيرهم.
ولا شك أن هنا من العقوبات ما يمكن أن يؤدي وظيفة الزجر والردع, ويكون له أثره في محاربة الجريمة دون أن يؤدي إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه, كالجلد مثلاً فإن تنفيذ هذه العقوبة ليس له أثر في الغالب على إنتاج المحكوم عليه وقيامه بعمله اليومي.
ولقد حاولت مصلحة السجون أن تستغل قدرة المسجونين على العمل, ولكنها لم تستطع حتى الآن أن توجد عملاً إلا لعدد قليل من المسجونين, أما الباقون فيكادون يقضون حياتهم في السجون دون عمل؛ يأكلون ويتطببون ويلبسون على حساب الحكومة.
وقد بلغت نفقات مصلحة السجون 862125ج في سنة 1938 - 1939(1/733)
منها مبلغ 150000ج أثمان الخدمات التي يقوم بها المسجونون, فكأن ميزانية الدولة تتحمل 532125ج تنفق سنوياً على المسجونين, ولو أضيف إلى هذا المبلغ الضخم ما يخسره المجتمع كل عام من تعطل هؤلاء المسجونين عن الإنتاج على فرض أن كل مسجون ينتج سنوياً ما يساوي أربعة وعشرين جنيهاً لبلغت خسارة الأمة في سبيل عقوبة الحبس 2582285ج سنوياً.
2 - إفساد المسجونين: وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين, ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد فساداً على فساده, فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه, وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي, كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا مجرمين حقيقيين وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتباراً؛ كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة, أو لعد زراعة نسبة معينة من القمح والشعير, وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال, واجتماع هؤلاء جميعاً في صعيد واحد يؤدي إلى تفشي عدوى الإجرام بينهم, فالمجرم الخبير بأساليب الإجرام يلقن ما يعلمه لمن هم أقل منه خبرة, والمتخصص في نوع من الجرائم لا يبخل بما يعلمه عن زملائه, ويجد المجرمون الحقيقيون في نفوس زملائهم السذج أيضاً خصبة يحسنون استغلالها دائماً, فلا يخرجون من السجن إلا وقد تشبعت نفوسهم إجراماً.
ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة؛ كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين, ويأنف أن يكون منهم, فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترفه بل صار يتباهى به, وكان هذا مما أدى بالقضاة إلى أن صاروا يشفقون من الحكم بالحبس في الجرائم الاعتبارية التي لا يتمثل فيها روح الإجرام الحقيقي, كما أنهم يوقفون تنفيذ العقوبة في الجرائم الحقيقية إذا كان المجرم مبتدئاً, لأنهم يخشون(1/734)
أن يدخل الجاني السجن بريئاً من الإجرام أو مبتدئاً فيه فيخرج من السجن مملوئاً بالإجرام متفقهاً في أساليبه.
فالسجن الذي يقال عنه أنه إصلاح وتهذيب ليس كذلك في الواقع, وإنما هو معهد للإفساد وتلقين أساليب الإجرام.
وقد شعرت الحكومة بوطأة هذه الحالة فهي تحاول أن تصلح من هذا العيب. ولكن أساس الإصلاح يدل على أنه لن يكون ناجعاً, إذ أنها تريد أن تقسم السجون على أساس نوع العقوبة وأسنان المحكوم عليهم, وهذا التقسيم سيبقي الحالة على ما هي عليه؛ لأنه يجمع بين ذوي العقوبة الواحدة في محبس واحد, وبعضهم قد يكون مبتدئاً لا يعلم كثيراً عن الإجرام والبعض من عتاة المجرمين, واختلاط هؤلاء من نفس العيب الذي يراد علاجه, أما جمع الشبان في محبس واحد والكهول في محبس واحد فلن يكون علاجاً؛ لأن الإحصائيات تدل على أن أكثر المجرمين من الشبان, ففي سنة 1938 - 1939 كان عدد المسجونين الشبان 5277 أي نسبة 62} من مجموع من دخلوا السجن, ومن هؤلاء 1505 شخصاً يتراوح سنهم بين 16, 20 سنة والباقون يتراوح عمرهم بين 22 - 30 سنة, فعدد المجرمين من الشبان أكثر من عددهم من بين الرجال والمسنين, ووجود الشبان المحكوم عليهم لأول مرة مع شبان من وي السوابق كفيل بأن يخلق الأولين بأخلاق الآخرين.
3 - انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة, ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين, فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة - وهي أقصى أنواع الحبس - لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم, ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا لما عوقبوا عليه بهذه السرعة.
وتدل الإحصائية رقم 44 من تقرير مصلحة السجون عن سنة 1938 - 1939 على أن 45} من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة عادوا إلى ارتكاب الجرائم(1/735)
بعد الإفراج عنهم بمدد تتراوح بين خمسة عشر يوماً وسنة, بل إن هذه الإحصائية تدل على أن 43} من المحكوم عليهم بالإرسال لإصلاحية الرجال ما كادوا يخرجون من الإصلاحية حتى ارتكبوا جرائم أعادتهم إليها, وأنهم ارتكبوا جرائمهم في مدة تتراوح بين 21 يوماً وسنة من تاريخ خروجهم من الإصلاحية, والمفروض أن عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية من أكثر العقوبات ردعاً, وأن المجرم لا يخرج منها إلا بعد أن تتوافر الأدلة على تركه الإجرام وميله إلى الاستقامة.
وتلد الإحصائية رقم 47 من تقرير مصلحة السجون المشار إليه سابقاً على أن حوالي ثلث الموجودين في إصلاحية الرجال دخلوها للمرة الثانية والثالثة والرابعة.
ومما يدل على أثر السجن بصفة عامة في نفوس المجرمين الإحصائية رقم 46 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938 - 1939, فهي تشير إلى أنصف من في الإصلاحية تقريباً لهم سوابق في الإجرام من خمس مرات إلى عشر, وأن حوالي الثلث لهم من عشر سوابق إلى خمس عشرة سابقة, وأن الباقين تتراوح سوابقهم بين خمس عشرة سابقة وأربعين سابقة, فلو أن السجن يردع المجرمين حقيقة لما عاد المجرم للإجرام خمس مرات وعشر مرات وأربعين مرة.
وتلد الإحصائية رقم 43 من التقرير المشار إليه سابقاً على أن الذين يعودون لإصلاحية الرجال بعد خروجهم منها يزداد عددهم باستمرار, ففي سنة 1916 كانت نسبة العائدين إلى مجموع من في الإصلاحية 10.8} وفي سنة 1926 ارتفعت النسبة إلى 20.6} وفي سنة 1936 بلغت 38.7} .
ومما يدل أيضاً على أن عقوبة الحبس ليس لها أثر على المجرمين ازدياد جرائم العود سنة بعد أخرى, فقد وصلت هذه الجرائم إلى 872 جناية في سنة 135 - 1936, ثم ارتفعت إلى 939 جناية في سنة 1936 - 1937, ثم بلغت 1023 جناية في السنة(1/736)
التي تليها, وجنايات العود هذه لا تقع إلا من المجرمين أرباب السوابق المتعددة.
4 - قتل الشعور المسئولية: وعقوبة الحبس غير أنها غير رادعة تؤدي إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفس المجرمين وتحبب إليهم التعطل, فالكثير من المسجونين يقضون في السجن مدداً طويلة نوعاً ما ينعمون فيها بالتعطل من العمل ويكفون فيها مئونة أنفسهم من مطعم وملبس وعلاج, والمشاهد أن هؤلاء يكرهون أن يلقى بهم خارج السجن ليواجهوا حياة العمل والكد من جديد, وأنهم يموت فيهم كل شعور بالمسئولية نحو أسرهم بل نحو أنفسهم, فلا يكادون يخرجون من السجن حتى يعملوا للعودة إليه, ولا حباً في الجريمة ولا حرصاً عليها وإنما حباً في العودة إلى السجن وحرصاً على حياة البطالة.
5 - ازدياد سلطة المجرمين: ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة, يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم وابتزاز أموالهم, ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال.
ولقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين يزاحم سلطان الحكومات بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة والأمر المطاع. ومن الوقائع التي أعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه.
وقد أدى هذا المركز الخطير الذي يحتله المجرمون إلى زيادة المجرمين الشبان الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز, كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع, فبعد أن كانت الجريمة عاراً وذلك في القديم أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر, وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلاً مهاناً أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان.(1/737)
6 - انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي: وتنفيذ عقوبة الحبس يقتضي وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء الأقوياء في مكان واحد لمدد مختلفة يمنعون فيها من التمتع بحرياتهم ومن الاتصال بزوجاتهم, ولما كان عدد المحبوسين يزيد عاماً بعد عام والمحابس لا تزيد, فقد اضطر ولاة الأمور إلى حشرهم حشراً في غرف السجون كما يحشر السردين في علبته, وبحيث أصبحت السجون العمومية والليمانات تضم بين جدرانها عدداً يتراوح بين ثلاثة وأربعة أمثال العدد المقرر لها من الناحية الصحية (1) .
أما السجون المركزية هي عادة لا تزيد على غرفتين صغيرتين ولا يقل العدد الذي تضمه في المتوسط عن ستين شخصاً, وبينما تتوافر الوسائل الصحية نوعاً ما في السجون العمومية فإنها تنعدم في السجون المركزية, فلا يوجد في كل السجون المركزية بالقطر المصري فراش للمساجين الذين يقضون مدة حبسهم جلوساً أو نياماً على الأسفلت, كما أن الأغطية في هذه السجون تكاد تكون منعدمة.
وقد أدى ازدحام السجون وعدم توافر الوسائل الصحية بها وحرمان المسجونين من الاتصال بزوجاتهم إلى انتشار الأمراض السرية والجلدية والصدرية, وغيرها من الأمراض الخطيرة بين المسجونين, وتدل إحصائيات سنة 1939 (2) , وهي خاصة بالسجون العمومية والليمانات, على أن 3993 مسجوناً أصيبوا بنزلات شعبية, و369 بالتدرن الرئوي وأدران أخرى, و422 بالسيلان, 1160 بالزهري, و4128 بالجرب, و1534 بالقراع, 5333 بأمراض جلدية أخرى, 219 بقمل العانة, و8618 بخراجات ودمامل, 926 بالروماتيزم, بل لقد بلغت حالة الإصابات والأمراض بين المسجونين 74000 حالة في سنة 1939. وفي عدد هذه الحالات الضخم وفي أنواع الأمراض التي بيناها ما يقطع بانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بين المسجونين.
_________
(1) الإحصائية رقم 1 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938- 1939.
(2) الإحصائية رقم 20 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938- 1939.(1/738)
فالسجون إذن أداة لنشر الأمراض بين المسجونين, ولإفساد أخلاقهم وتضييع رجولتهم, ولا يقتصر شر السجون على هذا, بل إنها تؤدي إلى فساد الأخلاق في خارجها, لأن وضع الرجال في السجون معناه تعريض زوجات هؤلاء الرجال وبناتهم وأخواتهم إلى الحاجة وإلى الفتنة ووضعهن وجهاً لوجه أمام الشيطان.
7 - ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة, ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل, فقد كان عدد الجنايات في سنة 1906 لا يزيد على 3586 جناية فإذا به في 1912 يبلغ 4008 جناية, ثم يصل في سنة 1918 - 1919 إلى 6779 جناية, وفي سنة 1926 - 1927 يصل إلى 8012 جناية. وفي سنة 1938 - 1939 يصل إلى 9286 جناية. أما الجنح فكان عددها في سنة 1906 لا يزيد على 32810, وفي سنة 1912 أصبح 93743, وفي سنة 1926 - 1927 بلغ عددها 167677 جنحة, وفي سنة 1938 - 1939 بلغ عدد الجنح 382828. وهكذا في ظرف أثنين وثلاثين عاماً بلغ عدد الجنايات ثلاثة أمثال ما كان عليه, وبلغ عدد الجنح أكثر من أحد عشر مثلاً.
وقد يقال: إن عدد الجنح لا يمثل الزيادة الحقيقية؛ لأن الجنح المعاقب عليها يزيد عاماً بعد عام فتزداد تبعاً لذلك في مجموعها, وهو قول صحيح إلى حد ما, فلنترك العدد العام للجنح ولنأخذ جريمة السرقة مقياساً فهي أحرى أن تصل بنا إلى نسبة الزيادة الصحيحة, ففي سنة 1991 كان عدد جنح السرقة 9356, وفي سنة 1901 بلغ عدد الجنح 15993 جنحة, وفي سنة 1912 بلغ 23834 جنحة, وفي سنة 1916 بلغ 44110, وفي سنة 1926 بلغ 54326 جنحة, وفي سنة 1939 بلغ 65587 جنحة. ومعنى هذا أن عدد جنح السرقة زاد في ثمانية وأربعين عاماً سبعة أمثال ما كان عليه, وهي نسبة لا تبررها زيادة السكان ولا يقوم بها أي عذر مهما اختلفت المعازير, فالسكان لم يتضاعف عددهم مرة واحدة(1/739)
فكيف تتضاعف الجنح سبع مرات والجنايات ثلاث مرات؟ والحالة الاقتصادية مهما قيل فيها لا يكون سبباً في ازدياد الجرائم ما دامت العقوبة رادعة, وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في المملكة الحجازية, فلا شك أن الحالة الاقتصادية والاجتماعية في مصر أفضل منها في الحجاز, ومع ذلك فقد قلت الجرائم في الحجاز وازدادت في مصر, وانتشر الأمن هناك واختل هنا.
ولقد كان الحجاز في يوم ما مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام والجرأة على ارتكاب الجرائم وترويع الآمنين والحجاج المسافرين وقطع الطرق عليهم لنهب مالهم ومتاعهم, ولعل الحالة الاقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ليست خيراً منها يوم كان الفساد مستشرياً في الحجاز, والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً وهو نفس الفرق بين مصر والحجاز اليوم, هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن وانعدام هذه العقوبة في مصر اليوم, فهذه العقوبة الرادعة هي التي وطدت الأمن في الحجاز وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال, فلا يسقط من مسافر شئ إلا وجده دار الشرطة, ولا يضيع لأحد شيء إلا رد إليه حيث كان ولو لم يبلغ بضياعه ما دام مع المال ما يدل على اسم صاحبه.
فمن الخطأ إذن بعد قيام هذا المثل العلمي أن نحتج لزيادة الجرائم بالحالة الاجتماعية والاقتصادية أو بازدياد السكان؛ لأن الجريمة مرض علاجه العقوبة, فإذا نجح أولو الأمر في وصف العلاج الذي يوافق المرض انتهى المرض أو سكنت حدته على أقل الفروض, وإن لم يوفق أولو الأمر في وصف العلاج الناجع طال المرض وأعضل وعانى منه المجتمع أشد المعاناة.
506 - كيف نتخلص من عيوب الأنظمة الوضعية: تبينا فيما سبق النتائج السيئة للعقوبات التي فرضتها علينا الأنظمة الوضعية, فإذا هي تضييع للأموال والجهود وإفساد للنفوس والأخلاق والصحة, وليس بعد ذلك(1/740)
إلا ازدياد الجرائم وجرأة المجرمين, والإخلال بالأمن وتوهين النظام, وذهاب هيبة الحكومة وسطوتها وفرض سلطان الأشقياء والمجرمين على السكان الآمنين, ولا خلاص من هذه النتائج المحزنة إلا بالتخلص من النظام كله, وإن في بعض هذه النتائج ما يكفي وحده لإلغاء هذا النظام. وإذا كان الناس لا يلغون أنظمتهم بسهولة ولو تيقنوا من فسادها إلا إذا وجدوا خيراً منها, فإن لدينا نظاماً هو خير الأنظمة التي عرفها البشر وأقدرها على حماية الجماعة ومكافحة الجريمة وإصلاح المجرم, ذلك هو النظام الإسلامي الذي أثبتت التجربة نجاحه في كفاح الجريمة والقضاء على الإجرام.
وليست ميزة النظام الإسلامي الوحيدة في أن التجربة أثبتت نجاحه وصلاحيته, ولكنه يمتاز أيضاً بأن الأسس التي يقوم عليها كفيلة بأن تقضي على العيوب التي تصحب العقوبة الوضعية, كما هي كفيلة بأن توفر على العالم المجهودات العظيمة التي تبذل لتخفيف أضرار هذه العقوبات والأموال الكثيرة التي تنفق في سبيل تنفيذها.
وأول عيوب النظام الوضعي أنه يؤدي إلى تعطيل العقوبات الأصلية وتخفيفها, وفي الشريعة ما يحول دون ذلك في الجرائم الخطيرة التي تمس كيان الجماعة, حيث تفرض الشريعة لهذه الجرائم عقوبات مقدرة معينة ليس للقاضي أن ينقص منها شيئاً أو يستبدل بها غيرها مهما كانت ظروف الجاني؛ لأن مصلحة الجماعة في هذه الجرائم الخطيرة توضع فوق كل مصلحة وتتغلب على كل اعتبار, أما الجرائم التي لا تمس كيان الجماعة فيجوز للقاضي فيها أن ينظر إلى شخصية الجاني ولو أدى ذلك لتخفيف العقاب ما دام يؤدي إلى إصلاح الجاني في الوقت نفسه (1) .
والعيب الثاني للنظام الوضعي أنه يفرض في معظم الجرائم عقوبات لا تتنوع هي الحبس الذي يختلف شدة وضعفاً بحسب نوع الحبس, والذي يؤدي تنفيذه
_________
(1) راجع الفقرتين 51, 440.(1/741)
إلى وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء القادرين على العمل في المحبس والإنفاق عليهم دون أن يؤدوا عملاً مجدياً فتخسر الأمة من وجهين: تخسر المال الذي تنفقه على المحبوسين, وتخسر ما كان يمكن ينتجه هؤلاء لو لم يوضعوا في المحابس, ولكن هذه الخسائر تنتفي لو نفذ النظام الإسلامي؛ لأن الشريعة لا تعرف الحبس في جرائم الحدود والقصاص, وهي كما بينا تبلغ ثلثي (1) الجرائم عادة.
كما أن الشريعة تفضل في التعازير عقوبة الجلد على عقوبة الحبس, ولا تفضل عقوبة الحبس إلا إذا كان حبساً غير محدود المدة حيث يبقى المجرم بعيداً عن الجماعة مكفوفاً شره وأذاه حتى يموت, ولا يحكم هذا النوع من الحبس إلا في الجرائم الخطيرة أو على المجرمين العائدين. وإذا فرض أن عقوبة الجلد تطبق في نصف الجرائم الباقية كان الباقي الأخير من الجرائم حوالي 15} من مجموع الجرائم يقسم بين عقوبات الحبس والغرامة والتغريب وغير ذلك من عقوبات التعازير المتعددة.
والمفروض أن الجرائم التي يجلد فيها هي جرائم التعازير الخطيرة, فالجرائم التي تبقى أخيراً ليعاقب عليها بغير الجلد والحبس غير المحددة المدة هي جرائم تافهة في الغالب يكفي في عقابها النصح والتوبيخ والغرامة والحبس مع إيقاف التنفيذ, فتكون النتيجة أن لا يحبس فعلاً إلا في حوالي 5} من مجموع الجرائم, وهذه نتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بتطبيق نظرية الشريعة الإسلامية في العقاب.
وإذا قلت الجرائم التي يحكم فيها بالحبس إلى هذا الحد فإن عدد المحبوسين يصبح قليلاً جداً, وبذلك تنحل مشكلة اختلاط المسجونين وما ينشأ عنها من فساد الأخلاق والصحة ونشر وسائل الإجرام, كما تقل جرائم العود التي لا يشجع عليها إلا وجود المحابس والاستخفاف بعقوبة الحبس.
وإذا علمنا أن الجرائم القليلة التي يحكم فيها بالحبس حبساً محدد المدة هي
_________
(1) راجع الفقرة 494.(1/742)
جرائم تافهة من مجرمين غير خطرين تأكد لدينا أن الحبس في هذه الجرائم سيكون لمدد قليلة ولن يؤدي إلى نشر عدوى الإجرام ولا إلى فساد الأخلاق, وحتى إذا وجدت هذه المساوئ فلن يكون لها أثر خطير على المجرمين وعلى الأمن العام لقلة عدد المسجونين وقلة خطورتهم؛ ولأن المجرم لا يضمن أن يعاقب مرة ثانية بعقوبة الحبس. أما المجرمون الخطرون فهؤلاء تقضي عليهم الشريعة بالحبس غير المحدد المدة مهما كان نوع الجريمة المنسوب إليهم؛ لأن ارتكاب الجاني لأية جريمة مهما كانت بسيطة معناه أنه لا يزال على استعداد لإجرام وأن العقوبات السابقة لم تردعه.
ومن عيوب عقوبة الحبس في القوانين الوضعية أنه تقتل الشعور بالمسئولية في نفس المجرم, وتحبب إليه التعطل, وتزين له أن يعيش عالة على الناس يبتز أموالهم بالتهديد والتخويف.
وفي عقوبة الشريعة علاج هذا كله, بل إن علاجه في عقوبة الجلد وحدها؛ إذ الجلد يحط من قدر المجرم في عين نفسه فلا يعود لجريمته, كما يحط من قدره في عيون الناس فلا يهابونه ولا يخافون سلطانه ولا يكبر المجرم في عيونهم حتى يزاحم بسلطانه سلطان الحكومات.
ولو أننا تتبعنا ما ذكرناه من عيوب العقوبات الوضعية عيباً عيباً لوجدنا لكل عيب علاجه الناجع في تطبيق عقوبات الشريعة الإسلامية وتطبيق نظريتها في العقاب.
هذه هي العقوبات الوضعية, وهذا هو أثرها في إفساد الأخلاق والأمن والنظام, وتلك هي عقوبات الشريعة الإسلامية, وذاك هو أثرها في إصلاح ما أفسدته القوانين الوضعية, ولن نجد بعد ذلك من يستطيع أن يفضل القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية؛ فإن وجدته فاذكر قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
* * *(1/743)
الباب الثالث
تعدد العقوبات
507 - تعدد العقوبات وتعدد الجرائم: تتعدد العقوبات كلما تعددت الجرائم, وتتعدد الجرائم كلما ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه نهائياً في واحدة منها, وهذا هو المعنى الفني للتعدد.
وتعدد الجرائم إما صوري وإما حقيقي, فهو صوري إذا ارتكب الجاني فعلاً واحداً يدخل تحته صور شرعية مختلفة, ويحدث ذلك كلما انطبق على الفعل أكثر من نص واحد, كضرب الموظف أثناء تأدية وظيفته, فالفعل يمكن أن يكون ضرباً ويمكن أن يكون كل واحد منها جريمة مستقلة.
الفرق بين تعدد العقوبات وبين العود: ويخلف تعدد العقوبات عن العود, ففي تعدد العقوبات يرتكب الجاني عدة جرائم قبل أن يحكم عليه في إحداها. أما في العود فيرتكب الجاني جريمته الثانية بعد أن يعاقب على جريمته الأولى.
ويقضي المنطق بأن لا يعاقب المجرم في حالة تعدد الجرائم على كل جرائمه ولو أن ارتكابه لهذه الجرائم المتعددة يدل على ميوله الإجرامية؛ لأنه عندما عاد لارتكاب الجرائم لم يكن عوقب على أية جريمة سابقة وأخذ درساً عنها, فهو يختلف من هذه الوجهة عن العائد الذي سبق عقابه وأنذر بهذا العقاب أن يسلك سلوكاً مستقيماً.
508 - القوانين الوضعية والتعدد: عرفت القوانين الوضعية ثلاث طرق مختلفة في حالة تعدد الجرائم:(1/744)
الأولى: طريقة الجمع: ويأخذ بهذه الطريقة القانون الإنجليزي, ومقتضاها أن يوقع على الجاني مجموع العقوبات المقررة لكل الجرائم التي ارتكبها.
وعيب هذه الطريقة الإفراط في العقاب؛ لأن الجمع بين العقوبات قد يؤدي إلى أن تبلغ العقوبة حداً مفرطاً في الشدة, فالحبس - وهو عقوبة مؤقتة - إذا تعدد أصبح عقوبة مؤبدة، والغرامات إذا تعددت قد يؤدي إلى مصادرة تامة لأموال المحكوم عليه.
الثانية: طريقة الجب: ومعنى الجب أن تقضي العقوبة الأشد على غيرها من العقوبات، فمقتضى هذه الطريقة أن لا يوقع على الجاني سوى أشد العقوبات المقررة للجرائم التي يرتكبها.
وعيب هذه الطريقة التهاون والتفريط, فالشخص الذي يرتكب عشر جرائم مثلاً يعاقب بعقوبة الجريمة الأشد فقط دون غيرها من العقوبات, ومعنى هذا أن من يرتكب جريمة خطيرة يعاقب عليها بعقوبة شديدة يكون في حل من ارتكاب الجرائم الأبسط منها طالما أنه لم يعاقب على جريمته الخطيرة.
الثالثة: الطريقة المختلطة: وقد عولجت عيوب الطريقتين السابقتين بهذه الطريقة الثالثة وتدعى بالمختلطة أو المتوسطة. وتعني بالجمع بين الطريقتين الأوليين أو بتقييد إطلاقهما. فهي تجيز الجمع بين العقوبات على أن لا يجاوز مجموعها حداً معيناً, وتعيين الحد الأقصى للعقوبة قصد منه منع الإفراط في العقاب, وهي تعالج طريقة الجب بتشديد العقوبة الواحدة التي يحكم بها.
وقد جمعت أكثر التشريعات الوضعية الحديثة بين طريقة التعدد والجب مع تقييدهما.
509 - قانون العقوبات المصري: ويأخذ قانون العقوبات المصري بقاعدة تعدد العقوبات, حيث نصت المادة 33 منه على أن العقوبات المقيدة للحرية تتعدد إلا ما استثنى بنص المادتين 35, 36. والأولى منهما تنص على أن عقوبة(1/745)
الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة المذكورة. والثانية منهما تنص على أنه إذا ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه من أجل واحدة منها وجب ألا تزيد مدة الأشغال الشاقة المؤقتة على عشرين سنة ولو في حالة تعدد العقوبات, وأن لا تزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس على عشرين سنة, وأن لا تزيد مدة الحبس وحده على ست سنوات.
فالقانون المصري يأخذ بنظرية التعدد ولكنه يقيدها من ثلاثة وجوه:
الأول: أن عقوبة الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة, فمن كان محكوماً عليه بالسجن عشر سنوات ثم حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات نفذت عليه عقوبة الأشغال الشاقة ونفذ عليه من عقوبة السجن خمس سنوات فقط, ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجب ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها.
الثاني: أن لا يزيد الحد الأعلى مهما تعددت العقوبات على عشرين سنة إذا كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة, وأن لا يزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس معاً على عشرين سنة, وأن لا تزيد مدة الحبس على ست سنوات, ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجمع بين العقوبات ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها.
الثالث: في حالة التعدد الصوري تطبق عقوبة الصورة القانونية الأشد, وفي حالة التعدد الحقيقي تطبق العقوبة الأشد أيضاً بشرط أن تكون الجرائم ارتكبت لغرض واحد, وأن تكون مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة كما تنص على ذلك المادة 32 عقوبات, وهذا قيد على طريقة الجمع.
ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تقيد نظرية تعدد العقوبات على الوجه السابق إلا في القرن الماضي, أما قبل ذلك فكانت العقوبات تتعدد بصفة مطلقة دون أي قيد.(1/746)
510 - الشريعة والتعدد: عرفت الشريعة من يوم وجودها نظرية تعدد العقوبات ولكنها لم تأخذ بها على إطلاقها, وإنما قيدتها بنظريتين أخريين, الأولى: هي نظرية التداخل, والثانية: هي نظرية الجب.
نظرية التداخل: معنى التداخل هو أن الجرائم في حالة التعدد تتداخل عقوبتها بعضها في بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة, ولا ينفذ على الجاني إلا عقوبة واحدة كما لو كان قد ارتكب جريمة واحدة (1) . وتقوم نظرية التداخل على مبدأين:
أولهما: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من نوع واحد كسرقات متعددة أو زناً متعدد أو قذف متعدد فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عنها جميعاً عقوبة واحدة, فإذا ارتكب الجاني جريمة أخرى من نفس النوع بعد إقامة العقوبة عليه وجبت عليه عقوبة أخرى.
والعبرة بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها. فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها بعد.
وتعتبر الجرائم على الرأي الراجح من نوع واحد ما دام موضوعها واحداً ولو اختلفت أركانها وعقوبتها. كالسرقة العادية والحرابة فكلتاهما سرقة وإن اختلفت أركانهما وعقوباتهما, وكالزنا من محصن والزنا من غير محصن فكلاهما زناً, وفي مثل هذه الحالات تكون العقوبة الأشد هي الواجبة.
تعليل هذا المبدأ: وأساس هذا المبدأ أن العقوبة شرعت بقصد التأديب والزجر, وأن عقوبة واحدة تكفي لتحقيق هذين المعنيين فلا حاجة إذن لتعدد العقوبات ما دام المفروض أن عقوبة واحدة تكفي لإحداث أثرها وتمنع المجرم من ارتكاب الجريمة مرة أخرى, وإذا كان من المحتمل عقلاً أن يعود المجرم
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص208, شرح الزرقاني ج8 ص108, أسنى المطالب ج4 ص157, المغني ج10 ص197.(1/747)
من ارتكاب الجريمة فإن هذا الاحتمال وحده لا يكفي ما دام لم يثبت قطعاً أن العقوبة لم تردعه, فإذا ثبت هذا بأن ارتكب جريمة فعوقب عليها ثم عادلها بعد ذلك فقد وجب أن يعاقب على جريمته الأخيرة؛ لأنه قد تبين وجه اليقين أن العقوبة الأولى لم تكن زاجرة ولا رادعة للجاني.
ثانيهما: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعاً عقوبة واحدة, بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة؛ أي لتحقيق غرض واحد, فمن أهان موظفاً وقاومه وتعدى عليه عوقب بعقوبة واحدة على هذه الجرائم الثلاث التي وضعت عقوباتها لغرض واحد هو حماية الموظف والوظيفة, ومن تناول ميتة ودماً ولحم خنزير عوقب على هذه الجرائم الثلاث بعقوبة واحدة؛ لأن عقوبتها جميعاً وضعت لغرض واحد هو حماية صحة الفرد والجماعة.
والعبرة في التداخل بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها, فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها.
ويرون في مذهب مالك أن عقوبة الشرب وعقوبة تتداخلان فلا يعاقب على الجريمتين عند التعدد إلا بعقوبة واحدة, وحجتهم في ذلك أن الغرض من العقوبتين واحد؛ لأن من شرب هذى ومن هذى افترى, فعقوبة الشرب وضعت إذن لمنع الافتراء, ولكن المذاهب الأخرى تخالف مذهب مالك في هذا المثل بالذات؛ لأن عقوبة القذف قصد بها حماية الأغراض وعقوبة الشرب قصد بها حماية العقول فكلتاهما وضعت لغرض يخالف الغرض الذي وضعت له الأخرى.
ويرى بعض المالكية أن التداخل بين عقوبة الشرب وعقوبة القذف يرجع إلى اتحاد مقدارهما, وهؤلاء يجعلون أساس التداخل اتحاد الموجب وليس اتحاد الغرض من العقوبة. ولكن ليس لهذا الرأي صدى في المذاهب الأخرى (1) .
_________
(1) شرح الزرقاني ج8 ص108.(1/748)
أما إذا كانت الجرائم المتعددة من أنواع مختلفة ولم يجمع بين عقوباتها غرض واحد كأن ارتكاب الجاني سرقة في المرة الأولى ثم زنا في الثانية وقذف في الثالثة, فإن العقوبات لا تتداخل في هذه الحالة وإنما تتعدد بتعدد الجرائم المختلفة.
نظرية الجب: معنى الجب في الشريعة هو الاكتفاء بتنفيذ العقوبة التي يمتنع من تنفيذها تنفيذ العقوبات الأخرى, ولا ينطبق هذا المعنى إلا على عقوبة القتل, فإن تنفيذها يمنع بالضرورة من تنفيذ غيرها, ومن ثم فهي العقوبة الوحيدة التي تجب ما عداها.
ولم يتفق الفقهاء على تقرير نظرية الجب, فمالك وأبو حنيفة وأحمد يقررونها ولكن الشافعي ينكرها, والذين اعترفوا بها يختلفون في مدى تطبيقها.
فمالك يرى أن كل حد اجتمع مع القتل لله قصاص لأحد من الناس فإنه لا يقام مع القتل, والقتل يجب جميع ذلك إلا الفرية (أي القذف) فإن حد الفرية يقام عليه ثم يقتل, ولا يقام عليه مع القتل غير حد الفرية وحداها لئلا يقال لصاحبه: ما لك لم يضرب لك فلان حد الفرية؟ (1) .
ويرى أحمد أنه إذا اجتمعت حدود الله تعالى وفيها قتل, مثل أن سرق وزنا وهو محصن, وشرب وقتل في المحاربة, استوفى القتل وسقط سائرها. فإذا اجتمعت الحدود حقوق الآدميين وفيها قتل استوفى حق الآدمي ودخلت حدود الله في القتل سواء كان القتل حداً أو قصاصاً, فمن قطع إصبع شخص وقذفه ثم شرب وسرق وزنا وقتل آخر فإن إصبعه تقطع قصاصاً ثم يحد للقذف ثم يقتل ويسقط ما عدا ذلك (2) .
والأصل عند أبي حنيفة أنه إذا اجتمعت الحدود أن يقدم حق العبد في الاستيفاء على حق الله عز وجل - أي على حق الجماعة - لحاجة العبد إلى الانتفاع بحقه, فإذا
_________
(1) المدونة ج16 ص12.
(2) الإقناع ج4 ص248 وما بعدها.(1/749)
لم يمكن استيفاء حقوق الله بعد ذلك تسقط ضرورة, أما إذا أمكن استيفاؤها فإن كان في إقامة شئ منها إسقاط البواقي يقام ذلك المسقط درءاً للبواقي لقوله عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود ما استطعتم". فإذا قتل شخص آخر وزنا وهو غير محصن وشرب خمراً قتل قصاصاً وسقط حد الزنا والشرب. وإن زنا وهو محصن وقذف وسرق وشرب يبدأ بحد القذف لأنه متعلق بحق آدمي, ثم يرجم, ويسقط ما عدا ذلك من الحدود. وإذا اجتمع مع هذه الحدود قصاص في النفس بدئ بالقذف ثم قتل قصاصاً ويدرأ ما سوى ذلك, إلا أن المحكوم عليه يضمن في ماله السرقة في الحالين (1) . ورأي أبي حنيفة كما هو ظاهر يتفق مع رأي أحمد.
أما الشافعي فلا يعترف كما قلنا بنظرية الجب, ويرى أن تنفذ العقوبات كلها واحدة بعد أخرى ما لم يتداخل بعضها في الآخر, على أن يبدأ أولاً بحق الآدميين فيما ليس فيه قتل. ثم بحق الله أي بحق الجماعة فيما لا نفس فيه أي لا قتل فيه, ثم يجئ القتل من بعد ذلك. فإذا اجتمعت مثلاً على رجل حدود: حد بكر في الزنا, وحد في القذف, وحد في سرقة, وحد في قطع طريق يقطع فيه أو يقتل, وقصاص في قتل رجل, فيحد أولاً في القذف, ثم يحبس حتى يبرأ فيحد في الزنا, ثم يحبس حتى يبرأ ثم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى للسرقة وقطع الطريق, ثم يقتل بعد ذلك, فإذا مات في أحد الحدود سقطت بموته الحدود التي لله عز وجل وبقيت في ماله حقوق الآدميين كالدية والمال والمسروق. وهكذا يؤخر الشافعي القتل لأنه لا يسلم بنظرية الجب (2) .
ويرى بعض الشافعية أن الجاني لو سرق سرقة عادية ثم قطع الطريق لم يقطع
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص208, بدائع الصنائع ج7 ص62.
(2) المهذب ج2 ص305.(1/750)
للسرقة العادية وقتل لقطع الطريق, وأنه إذا زنا قبل أن يحصن فجلد ثم زنا ثانية قبل أن يغرب كفاه تغريب واحد, وأنه إذا زنا غير محصن ثم زنا بعد إحصانه وقبل تنفيذ عقوبة الجلد دخل الجلد في الرجم, وأساس امتناع القطع والتغريب والجلد ليس الجب وإنما أساسه تطبيق نظرية التداخل, فالسرقة العادية من نوع قطع الطريق وإن كانت أقل درجة حتى ليسمى قطع الطريق بالسرقة الكبرى والسرقة العادية بالسرقة الصغرى, والتغريب عقوبة للزنا فإذا لم ينفذ في الزنا الأول أجرأ تغريب واحد عن الزنا مرتين, والجلد عقوبة الزاني غير المحصن فإذا زنا قبل أن يجلد أجزأه عقاب واحد هو عقاب الزنا المحصن (1) .
511 - مقارنة بين الشريعة والقانون: أساس القيود الموضوعة لنظرية التعدد في الشريعة هو نفس الأساس الذي تقوم عليه هذه القيود في القوانين الوضعية, فكلاهما يرى أن الجاني كان معذوراً عندما ارتكب جريمته الثانية لأنه لم يكن عوقب على الأولى, وكلاهما يرى أن تعدد العقوبات دون قيد يؤدي إلى النتائج يأباها العقل ومنطق التشريع.
وبالرغم من هذا الاتفاق بين الشريعة والقانون فإن الشريعة جاءت أدق منطقاً من القوانين الوضعية في تطبيق نظرية التعدد وتقييد هذه النظرية, ونجد هذه الدقة متمثلة في تطبيق نظرية التداخل حيث لم تطبقها الشيعة على إطلاقها بل طبقتها فقط في حالة الجريمة الواحدة إذا تكرر وقوعها, وفي الجرائم المختلفة التي يجمع بين عقوباتها غرض واحد, ولم تطبقها فيما عدا ذلك من الجرائم, وعلة هذا أن لكل جريمة عقوبتها فإذا ارتكب الجاني جريمة وتكرر منه ارتكاب نفس الجريمة قبل أن يعاقب على ما ارتكبه سابقاً فمن المعقول أن يعتذر للجاني بأنه لم يعاقب على جريمته الأولى فلا معنى لتعدد العقوبة, أما إذا ارتكب الجاني جرائم مختلفة فإن عدم عقابه على إحداها لا يقوم له عذراً في ارتكاب الجريمة الثانية؛ لأن
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص157.(1/751)
كل جريمة محرمة لذاتها ولها عقوبة خاصة, وعقوبة الجريمة الواحدة لم توضع لمنع الجاني عن كل الجرائم وإنما وضعت لمنعه عن ارتكاب جريمة بالذات, وقد روعي في وضع كل عقوبة اعتبارات خاصة لا تتوفر في غيرها, فروعي مثلاً في تقرير عقوبة السرقة اعتبارات خاصة لمنع الجاني من السرقة, وروعي في عقوبتي الجلد والرجم اعتبارات خاصة لمنع الجاني من مقارفة الزنا, وهكذا. ومن ثم كانت عقوبة القذف لا تصلح عقوبة للسرقة ولا تجدي في الردع عنها, وكانت عقوبة السرقة لا تصلح عقوبة للقتل ولا تفيد في منع هذه الجريمة, وكان الواجب نتيجة لهذا المنطق أن تتعدد العقوبة في الجرائم المختلفة وأن يعاقب الجاني على كل نوع منها بعقوبته الخاصة.
أما القوانين الوضعية فتخالف الشريعة في هذه النقطة وتجعل عدم العقاب في جريمة ما عذراً للجاني في ارتكاب أية جريمة أخرى سواء كانت الجريمتان من نوع واحد أو من نوعين مختلفين.
ونظرية التداخل في الشريعة أوسع مدى منها في القانون الوضعي؛ لأن القانون لا يعرف التداخل إلا في حالة واحدة فقط هي ارتكاب الجاني عدة جرائم لغرض واحد وبشرط أن تكون هذه الجرائم مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة. والشراح يصفون هذه الحالة بأنها جب على أساس أن العقوبة الأشد هي التي توقع, ولكن الوصف الصحيح لها أنها تداخل؛ لأن كل الجرائم يعاقب عليها بعقوبة واحدة, والأصل أن الجب يكون بعد الحكم بالعقوبة, أما التداخل فيكون قبل الحكم بها وبعده, وحالة التداخل التي يسلم بها القانون تشبه إلى حد كبير المبدأ الثاني للتداخل في الشريعة.
وإذا كانت القوانين الوضعية قد أخذت بنظرية التداخل على الوجه السابق فإنها تخالف الشريعة في الأساس الذي بنى عليه التداخل, فالقانون الوضعي يجعل أساس التداخل أن يرتكب الجاني جرائمه لغرض واحد, وأن تكون الجرائم مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة, أما الشريعة فتجعل أساس التداخل في هذه الحالة(1/752)
أن تكون عقوبات الجرائم وضعت لغرض واحد, وهذا الفرق يمثل الروح التي تسيطر على كل تشريع، فالقانون يجعل نظرية التداخل خاضعة للغرض الذي يتوخاه الجاني من الجريمة, أما الشريعة فتجعل نظرية التداخل خاضعة للغرض الذي توخاه الشارع من التشريع, وهكذا نجد القانون الوضعي مضطرب المنطق متناقص الاتجاهات بينما نجد الشريعة سليمة المنطق موحدة الاتجاهات.
ومن أوجه الخلاف بين الشريعة والقوانين الوضعية في هذا الباب أن القوانين جعلت حداً أعلى للعقوبات لا يصح أن تتعداه بحال مهما تعددت, ولم تضع الشريعة مثل هذه القاعدة, والضرورة وحدها هي التي أوجدت هذه القيد في القوانين الوضعية؛ لأن العقوبة الأساسية في القوانين هي الحبس بأنواعه المختلفة؛ من حبس بسيط إلى حبس مع الشغل إلى سجن إلى أشغال شاقة مؤقتة ومؤبدة, فلو لم يوضع حد أعلى لمدة العقوبة في حالة التعدد لاستحالت العقوبات المؤقتة عند التعدد إلى عقوبات مؤبدة وانتهى عمر المحكوم عليه قبل أن تنتهي العقوبة, أما في الشريعة الإسلامية فالعقوبات الأساسية هي القطع والجلد وهي عقوبات مؤقتة بطبيعتها ومهما تعددت فلن تستحيل إلى عقوبات أبدية, ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو لوضع حد أعلى للعقوبات عند التعدد.
وإذا كانت الشريعة قد قررت عقوبة الحبس المؤقت في بعض الجرائم باعتبارها عقوبة تعزيرية فإنها مع هذا لم تكن في حاجة لوضع حد أقصى لعقوبة الحبس بعد أن قررت نظرية التداخل, إذ المجرم يتخصص عادة في ارتكاب جرائمه فلا يرتكب إلا جريمة واحدة أو جرائم متماثلة, فإذا ارتكب جريمة واحدة عدة مرات فهو لا يعاقب عنها إلا عقوبة واحدة طبقاً لنظرية التداخل, وإذا ارتكب جرائم متماثلة فلا يمكن أن تزيد هذه الجرائم على ثلاث أو أربع, فإذا عوقب عن كل واحدة منها بعقوبة خاصة فإن هذه العقوبات لا يشترط أن تكون جميعاً الحبس, وإذا فرض أنه حكم فيها بالحبس فإن مجموع العقوبات لن يصل إلى(1/753)
حد غير معقول, خصوصاً إذا راعينا أن بعض الفقهاء يرون أن لا يصل الحد الأعلى لعقوبة الحبس إلى سنة كاملة, أو أن أولي الأمر يجعلون الحد الأعلى لعقوبة الحبس ثلاث سنوات غالباً, وفضلاً عن هذا فإن القاعدة الثانية من نظرية التداخل تعمل غالباً في هذه الحالة فتنزل بالعقوبة؛ لأن الجرائم المتماثلة توضع عقوباتها غالباً لحماية هدف واحد, وإذا كانت العقوبات موضوعة لغرض واحد تداخلت عقوبات الجرائم المتعددة.
وإذا كانت الشريعة تتفق مع القانون في تقرير نظرية الجب فإنهما يختلفان في مدى تطبيقها. ففي الشريعة لا تطبق نظرية الجب إلا إذا اجتمعت عقوبة القتل مع عقوبات أخرى على التفصيل الذي سبق ذكره, أما في القانون فتطبق نظرية الجب في هذه الحالة وفي حالة اجتماع عقوبة الأشغال الشاقة مع عقوبة أخرى مقيدة للحرية حيث تجب عقوبة الأشغال الشاقة بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية, ولم تكن الشريعة في حاجة لتقرير هذه الحالة الخطيرة؛ لأن عقوبة الحبس كما قلنا ليست عقوبة أساسية في الشريعة من ناحية, ولأن مددها قصيرة من ناحية أخرى, ولأنه لا يمكن من وجه ثالث أن تستحيل إلى عقوبة مؤبدة للأسباب التي بسطناها سابقاً, ولأن الشريعة فضلاً عن ذلك كله لم تنوع الحبس أنواعاً متعددة مختلفة؛ فالحبس فيها كله من نوع واحد ودرجة واحدة ما دام محدد المدة.
وإذا كانت الشريعة قد قررت نظرية الحبس غير المحدد المدة فإنها قد أخذت بها على إطلاقها وعلقت إخلاء سبيل المحكوم عليه على انصلاح حاله وتوبته توبة نصوحاً, فلم يكن هناك داع لتحديد مدة قصوى للحبس؛ لأن الإفراج يتم بالتوبة وصلاح حال المحكوم عليه لا بمضي مدة معينة عليه في الحبس, ويستوي بعد ذلك أن يتوب فيخلى سبيله أو يظل في محبسه حتى يموت؛ لأن الغرض من حبسه هو كف شره عن الجماعة فإذا انكف شره بالتوبة أخلي سبيله, وإذا لم يتب فالمحبس يكف شره حتى يأتيه الموت.
* * *(1/754)
الباب الرابع
استيفاء العقوبات
512 - من له حق الاستيفاء: الأصل في الشريعة أن الجرائم تنقسم من حيث استيفاء عقوباتها إلى ثلاثة أقسام: جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وجرائم التعازير، وأن من نسب إليه أية جريمة من هذه الأنواع حوكم عليها، فإن ثبت عليه أنه أتاها حكم عليه بالعقوبة المقررة لها، وإن لم يثبت عليه إتيانها حكم ببراءته مما نسب إليه، فإذا حكم عليه بالعقوبة استوفاها ولي الأمر إن كانت الجريمة من جرائم الحدود أو التعازير، أما إن كانت من جرائم القصاص فيجوز للمجني عليه أو وليه استيفاء عقوبة القصاص إذا توفرت شروط معينة. وفيما يلي تفصيل ذلك كله.
513 - الاستيفاء في جرائم الحدود: من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد - أي العقوبات المقررة لجرائم الحدود - إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب، فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه.
وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازماً فقال: "اغدُ يا أُنَيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم، وأُتي بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه" (1) .
_________
(1) الشرح الكبير ج10 ص121.(1/755)
لكن إذن الإمام بإقامة الحد واجب، فما أُقيم حد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه، وما أقيم حد في عهد الخلفاء إلا بإذنهم، ومما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا قوله: "أربع إلى الولاة: الحدود، والصدقات، والجُمعات، والفيء" (1) .
وإذا كانت القاعدة العامة أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، إلا أنه لو أقامه غيره من الأفراد فإن مقيمه لا يُسأل عن إقامته إذا كان الحد متلفاً للنفس أو للطرف (2) ؛ أي إذا كان الحد قتلاً أو قطعاً، وإنما يسأل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة. أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد في الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته؛ أي أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يتخلف عنهما. والفرق بين هاتين الحالتين أن الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف، وزوال العصمة عن النفس يبيح القتل، وزوال العصمة عن الطرف يبيح القطع، فيصير قتل النفس أو قطع العضو مباحاً ولا جريمة فيما هو مباح. أما الحد غير المتلف فلا يزيل عصمة النفس ولا عصمة الطرف قيبقى معصوماً من يرتكب جريمة عقوبتها حد غير متلف، وتعتبر إقامة الحد عليه جريمة ما لم تكن الإقامة ممن يملك تنفيذ العقوبة.
514 - الاستيفاء في جرائم التعازير: واستيفاء العقوبات المحكوم بها في جرائم التعازير من حق ولي الأمر أو نائبه أيضاً؛ لأن العقوبة شرعت لحماية الجماعة فهي من حقها فيترك استيفاؤها لنائب الجماعة، ولأن التعزير كالحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف.
وليس لأحد غير الإمام أو نائبه إقامة عقوبة التعزير ولو كانت متلفة للنفس، فإن قتل أحد الأفراد شخصاً محكوماً عليه بالقتل تعزيراً فهو قاتل له ولو أن عقوبة القتل متلفة للنفس، والفرق بين عقوبة الحد المتلفة للنفس وعقوبة التعزير المتلفة للنفس أن
_________
(1) المهذب ج2 ص287، شرح فتح القدير ج4 ص130.
(2) الإقناع ج4 ص245.(1/756)
عقوبة الحد لا يجوز العفو عنها وإسقاطها ولا تأخير تنفيذها؛ فهي عقوبة محتمة لا بد منها، أما عقوبة التعزير المتلفة فلولي الأمر العفو عنها، ولهذا فهي عقوبة غير لازمة لا تهدر عصمة المحكوم عليه، إذ من الجائز أن يصدر عنها عفو في اللحظة الأخيرة.
515 - الاستيفاء في جرائم القصاص: والأصل أن عقوبات جرائم القصاص كغيرها من العقوبات متروك إقامتها لأولي الأمر، لكن أُجيز استثناءً أن يُستَوفَى القصاص بمعرفة ولي الدم أو المجني عليه، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] .
ومن المتفق عليه أن لولي المجني عليه حق استيفاء القصاص في القتل بشرط أن يكون الاستيفاء تحت إشراف السلطان؛ لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويَحرُم فيه الحيف، ولأنه لا يؤمن الحيف من المقتص مع قصد التشفي، لكن إذا استوفاه في غير حضور السلطان وقع الموقع؛ أي وقع الفعل قصاصاً، وعزر المستوفي لافتياته على السلطان وفعله ما منع من فعله.
وينظر السلطان في الولي؛ فإن كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه بالقوة والمعرفة اللازمة مكنه منه، وإن كان لا يحسن الاستيفاء أمَرَه أن يوكل غيره؛ لأنه عاجز عن استيفاء حقه.
وليس ثمة ما يمنع أن يعين خبير لاستيفاء الحدود والقصاص يأخذ أجره من بيت المال؛ لأن هذا العمل من المصالح العامة، فإذا كان الولي لا يحسن القصاص وكل هذا الخبير.
فإذا كان القصاص فيما دون النفس - أي فيما ليس قتلاً - فيرى أبو حنيفة أن للمجني عليه الحق في استيفاء العقوبة بنفسه إن كان خبيراً يحسن الاستيفاء، فإن لم يكن يحسنه وكل عنه من يحسنه. وما يراه أبو حنيفة هو وجه في مذهب أحمد (1) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246، الشرح الكبير ج9 ص398، 399.(1/757)
ويرى مالك والشافعي ورأيهما وجه في مذهب أحمد أن المجني عليه ليس له أن يستوفي عقوبة القصاص فيما دون النفس بأي حال سواء كان يحسن القصاص أو لا يحسنه؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يحيف على المجني عليه أو يجني عليه بما لا يمكن تلافيه، وإنما يتولى القصاص فيما دون النفس من يحسنه من الخبراء، وعلى هذا يصح أن يكون المستوفي موظفاً لهذا الغرض (1) .
516 - كيفية استيفاء القصاص في النفس: لا يُستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف عند أبي حنيفة ورواية عن أحمد، سواء كان الجاني قتل بسيف أم بغير سيف، وسواء كان القتل نتيجة لحز الرقبة أم لسراية جرح أو نتيجة الخنق أو التغريق أو التحريق أو غير ذلك، وحجة القائلين بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قَوَدَ إلا بالسيف"، والقود هو القصاص، فمعنى الحديث منع استيفاء القصاص بغير السيف.
وإذا كان الموت نتيجة قطع اتصلت به السراية فالقود بالسيف؛ لأنه تبين أن فعل الجاني وقع قتلاً من وقت وجوده فلا يقتص منه إلا بالقتل؛ لأنه لو قطع عضواً من الجاني ليحقق التماثل ثم عاد فحز الرقبة إذا لم يمت من القطع كان ذلك جمعاً بين القطع والحز، ولم يكن مجازاة بالمثل، ولا يعتبر حز الرقبة متمماً للقطع؛ لأن المتمم للشيء يكون من توابعه والحز قتل وهو أقوى من القطع فليس من توابعه. كذلك فإن القصاص في النفس مقصود منه إتلاف النفس فإذا أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز إتلاف أطرافه؛ لأن إتلافها يعتبر تعذيباً وليس استيفاء.
وإذا أراد الولي أن يقتل بغير السيف لا يُمكَّن من ذلك، وإذا فعله عزر
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص253- 254، المهذب ج2 ص197، الشرح الكبير ج9 ص399.(1/758)
لافتياته، إلا أنه يعتبر مستوفياً لحقه من القصاص بأي طريق قتله سواء قتله بالعصا أو الحجر أو ألقاه من سطح أو رداه في بئر ونحو ذلك؛ لأن القتل حقه فإذا قتله استوفى حقه، إلا أنه يفتات إذا استوفاه بغير السيف؛ لأنه يستوفيه بطريق غير مشروع فيعزر على هذا الافتيات (1) .
وعند مالك والشافعي وهو رواية عن أحمد (2) أن القاتل أهل لأن يُفعل به كما فعل؛ فإذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف، لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
فإن حرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشبة أو حبس عنه الطعام أو الشراب فمات، فللولي أن يقتص منه بمثل ذلك، لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] ، ولأن القصاص قائم على المماثلة والمماثلة ممكنة فجاز أن يستوفي بها القصاص.
وللولي أن يقتص بالسيف في هذه الأحوال؛ لأنه قد وجب له القتل والتعذيب، فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه وهو جائز له.
وإن كان القتل بما هو محرم لنفسه كاللواط وسقي الخمر فالرأي الراجح أن يكون القصاص بالسيف.
517 - ما يشترط في آلة القصاص: وإذا أراد الولي أن يستوفي بنفسه فلا يكفي أن يكون خبيراً بالقصاص، بل يجب أن يستعمل فيه أداة صالحة له لا كالَّة مثلاً ولا مسممة لئلا يعذب المقتص منه، فإن فعل ذلك وجب عليه التعزير؛ لأن من شروط القصاص أن لا يعذب الجاني وأن تزهق روحه بأيسر ما يمكن (3) ، تحقيقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246، الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص256، المهذب ج2 ص199، الشرح الكبير ج9 ص400.
(3) المهذب ج2 ص198، الشرح الكبير ج9 ص397.(1/759)
على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".
518 - هل يجوز الاستيفاء بما هو أسرع من السيف؟: الأصل في اختيار السيف أداة للقصاص أنه أسرع في القتل وأنه يزهق روح الجاني بأيسر ما يمكن من الألم والعذاب، فإذا وجدت أداة أخرى أسرع من السيف وأقل إيلاماً فلا مانع شرعاً من استعمالها، "فلا مانع شرعاً من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسي الكهربائي وغيرهما مما يفضي إلى الموت بسهولة وإسراع ولا يتخلف الموت عنه عادة ولا يترتب عليه تمثيل بالقاتل ولا مضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسي الكهربائي فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب" (1) .
519 - هل يجوز للسلطان أن يستأثر اليوم باستيفاء القصاص؟: الرأي الراجح عند الفقهاء هو أن لا يترك للمجني عليه أو وليه أن يستوفي حق القصاص فيما دون النفس؛ لأن هذا النوع من القصاص يقتضي خبرة ودقة في المقتص ولا يؤمن فيه الحيف والتعذيب لو ترك للمجني عليه أو وليه (2) ، أما القصاص في النفس فقد ترك للولي استيفاؤه بشرط أن يحسنه وأن يستوفيه بآلة صالحة، فإذا لم يكن يحسنه وكل في الاستيفاء من يحسنه، فحق الولي في الاستيفاء مقيد بإحسان الاستيفاء وباستعمال الآلة الصالحة.
ولقد كان الناس قديماً يحملون السلاح ويحسنون استعماله غالباً، أما اليوم فقل فيهم من يحسن استعمال السيف بصفة خاصة، وقل من يوجد لديه سيف صالح للاستعمال.
_________
(1) من فتوى لجنة الفتوى بالأزهر. راجع القصاص ص208.
(2) المغني ج9 ص412، المهذب ج2 ص197، مواهب الجليل ج6 ص253.(1/760)
وإذا أضيف إلى هذا أن وسيلة الشنق والمقصلة والكرسي الكهربائي أسرع بالموت من السيف كما هو ثابت من التجربة، وأن المشنقة والمقصلة وما أشبه لا يمكن أن يحصل عليها الأفراد ولا يصلحون لاستعمالها وأنها في حيازة الدولة، إذا روعي هذا جميعه أمكن القول أن الضرورات اليوم تقضي بمنع ولي المجني عليه من استيفاء حقه على الطريقة القديمة وبترك الاستيفاء لمن تخصصهم الدولة لهذا الغرض من الخبراء، وللأولياء أن يأذنوا لهم بالتنفيذ إذا شاءوا القصاص وأن لا يأذنوا إذا رأوا العفو.
520 - استيفاء العقوبات عند التعدد: تخالف الشريعة القوانين الوضعية في طريقة استيفاء العقوبات عند التعدد، ويرجع هذا الاختلاف قبل كل شئ إلى طبيعة العقوبات في كلًّ.
وإذا أخذنا القانون المصري مثلاً على القوانين الوضعية الحديثة فإنه يقضي بأن تنفذ العقوبات عند التعدد على حسب درجة جسامتها، فتنفذ الأشغال الشاقة أولاً، ثم ينفذ السجن ثانياً، ثم الحبس مع الشغل، ثم الحبس البسيط (مادة 34 عقوبات) .
ولا يراعي في الترتيب صدور العقوبات. فإذا حُكم على إنسان بالأشغال الشاقة أثناء تنفيذ عقوبة السجن أو الحبس عليه أُوقف تنفيذ عقوبة السجن أو الحبس وبدئ في تنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة.
وتنفذ العقوبات في القانون المصري على التوالي، فإذا انتهت إحداها نُفذت الأخرى، ولا يوقف تنفيذها أو يعطله أي اعتبار متعلق بالمحكوم عليه، فتنفذ سواء كان المحكوم عليه مريضاً أو صحيحاً، سقيماً أو قوياً.
وقد أوحت طبيعة العقوبات القانونية بهذا النظام، فهي عقوبات يستغرق(1/761)
تنفيذها زمناً طويلاً، فكان لا بد من ترتيب تنفيذها على هذا الوجه ما دامت عقوبة الأشغال الشاقة تجُب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية محكوم بها عن جريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة، وما دام من المحتمل أن يصدر على المحكوم عليه حكم آخر بالأشغال الشاقة أثناء التنفيذ.
أما النظام المتبع في الشريعة الإسلامية في حالة تعدد العقوبات فهو مختلف، ولكل مذهب من المذاهب الفقهية رأيه في هذه المسألة.
فمالك يرى في حالة تعدد العقوبات أن يبدأ في التنفيذ بما هو لله؛ أي بما يمس حقوق الجماعة، ثم يقام بعد ذلك ما هو للناس؛ أي ما يمس حقوق الأفراد، وحجة مالك في هذا أن ما لله لا عفو فيه وما للآدميين قد يعفى عنه، فمن مصلحة المحكوم عليه تأخير ما يمس حقوق الأفراد.
ويستوي عند مالك بعد ذلك البدء بالعقوبة الخفيفة والبدء بالعقوبة الأشد، ويرى أن يترك لولي الأمر البدء بأيهما.
ويرى أبو حنيفة وأحمد تقديم ما يمس حقوق الأفراد على ما يمس حقوق الجماعة، على أن يبدأ فيما يمس حقوق الأفراد بالأخف فالأخف، ثم ينفذ بعد ذلك ما يمس حقوق الجماعة على أن يبدأ فيه ما يَجُب غيره.
ويرى الشافعي أن تنفذ العقوبات كلها بحسب خفتها، فيقدم الأخف على الخفيف، ويقدم ما يمس حقوق الآدميين على ما يمس حقوق الجماعة، وهكذا حتى تنفذ العقوبات كلها، لأنه لا يعترف بالجب.
ورأي فقهاء الشريعة في تقديم الأخف على الأشد رأي يخالف ما جاء به القانون المصري، ولكن يتفق مع طبيعة العقوبات الشرعية، فالعقوبات الأساسية في الشريعة هي القطع والجلد والقصاص، وهي عقوبات بدنية فاستيفاؤها يوجب البدء بأخفها حفظاً لسلامة المحكوم عليه واستبقاء لقوة احتماله ومقاومته،(1/762)
ولا يقدم الأشد على الأخف إلا إذا كان الأشد يجب الأخف. وفي هذا تتفق الشريعة مع القانون.
521 - التنفيذ على المريض والضعيف والسكران: وفقهاء الشريعة متفقون على وجوب تأخير تنفيذ عقوبة القصاص وعقوبات الحدود وما يماثلها من عقوبات التعازير إذا كان المحكوم عليه مريضاً، أو كان الوقت لا يناسب تنفيذ العقوبة كأن كان برداً شديداً أو حراً شديداً، ولا يستثنون من ذلك إلا عقوبة القتل؛ لأنها عقوبة مهلكة؛ أي أن المقصود منها إهلاك المحكوم عليه، أما العقوبات الأخرى التي لا يقصد منها إهلاك المحكوم عليه فلا يصح أن تنفذ في ظروف تؤدي إلى الهلكة.
ويرى بعض الفقهاء أن يؤخر تنفيذ الحد على الضعيف حتى يقوى، ولكن البعض الآخر لا يرى تأخير التنفيذ ويفضل أن ينفذ الحد بقدر الإمكان بحيث لا يضار المحكوم عليه بضعفه، فإن كانت العقوبة الجلد مثلاً جلد مرة أو مرتين بسوط متعدد الفروع أو بعثكال له شماريخ بعدد الأسواط أو نصفها.
ويرى الفقهاء أن لا تنفذ العقوبة على السكران حتى يصحو من سكره (1) .
522 - التنفيذ على الحامل: عرفت الشريعة من يوم وجودها مبدأ عدم التنفيذ على الحامل، وحديث الغامدية قاطع في ذلك، فقد جاءت الرسول تعترف بالزنا وهي حامل فقال لها عليه الصلاة والسلام: "اذهبي حتى تضعي حملك"، ومثله حديث معاذ: "إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها"، والتنفيذ الممنوع على الحامل هو الذي يضر بالحمل وهو تنفيذ القَوَد والرجم والجلد.
والفقهاء مجمعون على هذا المبدأ ولكنهم مختلفون بعض الشئ في مدى تطبيقه.
فيرى الشافعي أن لا ينفذ على المرأة إذا ذكرت حملاً أو ريبة من حمل حتى تضع حملها أو يتبين أنها غير حامل ثم ينفذ عليها بعد الوضع، وإن لم يكن لولدها
_________
(1) شرح فتح القدير ج3 ص185.(1/763)
مرضع فيفضل الشافعي تركها أياماً حتى تجد لولدها مرضعاً في حالة القتل.
ويرى أبو حنيفة فوق ما سبق أن لا ينفذ على الحامل حتى تشفى من النفاس ولو كانت العقوبة جلداً.
ويرى مالك أن لا ينفذ على الحامل حتى تضع، ويعتبر النفاس مرضاً يوجب تأخير الجلد حتى ينتهي، وإن وجد لطفلها مرضع نفذ عليها القتل، وإن لم يصيبوا لطفلها من يرضعه لم يعجل عليها بالقتل.
ويرى أحمد أنه إذا وجب القود أو الرجم على حامل أو حملت بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع وتسقيه اللبن، ثم إن وجد له مرضعة راتبة قُتلت، ويستحب لولي القتل تأخيره للفطام، وإن لم يكن له من يرضعه تُركت حتى ترضعه حولين ثم تفطمه، كما يرى تأخير الجلد حتى تضع الحمل.
523 - التنفيذ على المجنون: سبق أن تكلمنا على هذا الموضوع بمناسبة الكلام على مسئولية المجنون، فليس ما يدعو لإعادة الكلام عن هذا الموضوع، ويكفي فيه مراجعة ما سبق (1) .
524 - علنية التنفيذ: الأصل في الشريعة أن يكون التنفيذ علنياً لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ؛ ولأن السنة جرت بهذا، ويستوي في ذلك القتل وغير القتل، وتتفق الشريعة في هذا مع كثير من القوانين الوضعية.
ولقد كان القانون المصري يوجب العلانية في تنفيذ عقوبة الإعدام أخذاً عن القوانين الأوروبية، ثم عدل عن اشتراط العلانية، ولكن فرنسا لا تزال متمسكة بالعلانية.
وتنفذ عقوبة القتل في الشريعة بالرجم إذا كانت عقوبة زان محصن، وتنفذ بقطع الرقبة إن لم تكن عقوبة زنا، على الرأي الراجح بين الفقهاء.
_________
(1) راجع الفقرة 428.(1/764)
والفقهاء مجمعون على أن يتم التنفيذ دون تعذيب أو تمثيل، فأداة القتل يجب أن تكون قاطعة، والجلاد يجب أن يكون خبيراً بعمله، والتنفيذ يجب أن يتم بطريقة واحدة لجميع الناس مهما اختلفت مراتبهم وجرائمهم.
ولقد جاءت الشريعة بهذه المبادئ من يوم وجودها، ولكن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا أخيراً، فقد كانت عقوبة القتل في القوانين الوضعية على درجات كعقوبة الحبس، وكان يصحبها أنواع مختلفة من التعذيب تختلف بحسب نوع الجريمة، فقاتل والده مثلاً كانت تقطع يده قبل القتل، وكان التنفيذ يختلف بحسب درجة الأشخاص، فالشريف يعدم بقطع رقبته بالسيف، والعامي يعدم شنقاً.
ولما جاءت الثورة الفرنسية تغيرت هذه الأوضاع وصدر قانون في فرنسا يسوي بين المحكوم عليهم في التنفيذ ويجعل عقوبة القتل بإزهاق الروح فقط، وانتشر هذا المبدأ من فرنسا إلى غيرها من البلاد. ثم بدأت الأمم بعد ذلك تبحث عن الطريقة المثلى لإزهاق الروح دون تعذيب.
فالمشرع الفرنسي اهتدى إلى طريقة قطع الرأس، والمصري والإنجليزي إلى طريقة الشنق، وفي إيطاليا يطلق الرصاص على المحكوم عليه بالقتل، وفي بعض الولايات المتحدة الأمريكية يصعق المحكوم عليه بالكهرباء.
وتقضي الشريعة أن تسلم جثة القتيل لأهله بعد التنفيذ ليدفنوه كما يشاءون، لقوله عليه الصلاة والسلام: "افعلوا به كما تفعلون بموتاكم"، فيصح إذن أن يدفن القتيل باحتفال كما يدفن غيره، ولكن لولي الأمر إن شاء أن يمنع الاحتفال إن رأى أنه يؤدي إلى المساس بالأمن والنظام.
والقانون المصري يقضي بتسليم الجثة لورثة القتيل على أن يكون الدفن بغير احتفال (المادة 262 من قانون تحقيق الجنايات) . كذلك يوجب القانون المصري إيقاف تنفيذ حكم القتل على الحامل إذا ظهرت أنها حبلى ولا ينفذ عليها إلا بعد الوضع (المادة 263 من قانون تحقيق الجنايات المصري) .
* * *(1/765)
الباب الخامس
العود
525 - ماهية العود: يطلق العود اليوم في اصطلاحنا القانوني على حالة الشخص الذي يرتكب جريمة بعد أخرى حكم فيها نهائياً، أي أن العود ينشأ عن تكرار وقوع الجرائم من شخص واحد بعد الحكم نهائياً عليه في إحداها أو بعضها.
ويتميز العود عن تعدد الجرائم بأن المجرم في حالة التعدد يرتكب جريمته الأخيرة قبل أن يصدر عليه حكم في جريمة سابقة عليها، أما في العود فيكون المجرم حين ارتكب جريمته الأخيرة قد صدر عليه حكم أو أكثر.
وعود المجرم للإجرام بعد الحكم عليه دليل على أن المجرم يصر على الإجرام، وعلى أن العقوبة الأولى لم تردعه، ومن ثم فقد كان من المعقول أن يتجه التفكير إلى تشديد العقوبة على العائد، ولقد كانت فكرة التشديد تلقى فيما مضى مقاومة من بعض شراح القوانين الوضعية، أما اليوم فليس ثمة من ينازع في مشروعية العقاب على العود.
وشراح القوانين وإن كانوا يسلمون بالعقوبة على العود، إلا أنهم اختلفوا في تقرير المبادئ التي يقوم عليها العود، فالبعض يرى أن يكون العود خاصاً، بمعنى أن لا يعتبر المجرم عائداً إلا إذا كانت الجريمة الثانية من نوع الجريمة الأولى أو مماثلة لها، فإن لم تكن الجريمة الثانية كذلك فلا يعتبر المجرم عائداً.
ويرى البعض أن يكون العود عاماً بحيث يعتبر المجرم عائداً إذا ارتكب جريمته الثانية، سواء كانت من نوع الأولى أو من نوع آخر مماثلة لها أو غير مماثلة.
كذلك اختلف الشراح في مدة العود، فرأى البعض أن يكون العود مؤبداً(1/766)
بحيث يعتبر المجرم عائداً مهما مضى من الزمن على جريمته الأولى، ورأى البعض أن يكون العود مؤقتاً بمعنى أنه إذا مضى وقت معين على الجريمة الأولى فلا يعتبر المجرم عائداً إذا ارتكب جريمته الثانية.
وقد أخذ قانون العقوبات المصري بهذه المبادئ جميعاً؛ فأخذ بمبدأ العود العام في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 49 من قانون العقوبات, وأخذ بمبدأ العود الخاص في الفقرة الثالثة من هذه المادة, وأخذ بنظام العود المؤبد في الفقرة الأولى من نفس المادة, وبنظام العود المؤقت في الفقرتين الثانية والثالثة من هذه المادة، مراعياً في كل ذلك نوع العقوبة ومدتها ونوع الجريمة.
وإذا تكرر من المجرم ارتكاب الجرائم فلا يعتبره شراح القوانين الوضعية مجرد عائد بل يعتبرونه مجرماً معتاداً على الإجرام وعدواً خطراً للجماعة يجب استئصاله منها أو إبعاده عنها, وقد طبق القانون المصري هذه النظرية تطبيقاً محدوداً فجعل عقوبة معتاد الإجرام الإرسال لمحل تعينه الحكومة "إصلاحية الرجال" إلى أن يأمر وزير العدل الإفراج عنه بشرط أن لا يزيد مدة بقاء المجرم في المحل الخاص عن ست سنوات أو عشر بحسب الأحوال (المادتان 52, 53 عقوبات) .
وفي إيطاليا يقضي قانون العقوبات الصادر في سنة 1930 بوضع معتادي الإجرام ومحترفيه في محل زراعي أو صناعي لمدة لا تقل عن سنتين للمعتادين وثلاث للمحترفين.
وفي فرنسا ينص القانون الصادر في 27/ 5/ 1885 على نفي معتادي الإجرام إلى إحدى المستعمرات.
وهكذا طبقت القوانين الوضعية النظرية تطبيقاً محدوداً ولم تأخذ بها على إطلاقها.
هذه هي القواعد العامة التي يقوم عليها العود في القوانين الوضعية الحديثة,(1/767)
ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تعرف قواعد العود إلا أخيراً, وأن المبادئ التي وضعتها للعود والاعتياد على الإجرام تعتبر من أحدث المبادئ في هذه القوانين.
526 - الشريعة والعود: وقد يدهش القارئ أن يعلم أن هذه المبادئ المستحدثة في القوانين الوضعية هي نفس المبادئ التي وضعتها الشريعة الإسلامية للعود ولمعتادي الإجرام من ثلاثة عشر قرناً, بل قد يدهشه أن يعلم أن القوانين الوضعية على حداثتها لم تطبق بعد المبادئ الشرعية على إطلاقها.
ومن المتفق عليه في الشريعة أن يعاقب المجرم بالعقوبة المقررة للجريمة, فإن عاد لها أمكن تشديد العقوبة, فإن اعتاد الإجرام استؤصل من الجماعة بقتله أو بكف شره عنها بتخليده في الحبس, واختيار إحدى العقوبتين متروك لولي الأمر بحسب ما يراه من ظروف الجريمة وأثرها على الجماعة.
ومن الأمثلة على ذلك اللواطة لغير المحصن فالفاعل والمفعول به يعاقب كلاهما بالعقوبة المقررة للجريمة, فإن اعتاد الجريمة ولم تردعه العقوبة قتل لشناعة جريمته ولما تؤدي إليه من التقاليد وإفساد الأخلاق والتخنث. والسارق إذا اعتاد السرقة يعاقب على الاعتياد بتخليده في الحبس حتى يموت أو تظهر توبته.
وقد أقرت الشريعة مبدأ العود على لإطلاقه, ولم يفرق الفقهاء بين العود العام والعود الخاص, كما أنهم لم يفرقوا بين العود الأبدي والعود المؤقت, ومن ثم يجوز أن يكون العود عاماً وخاصاً وأبدياً ومؤقتاً, والأمر في ذلك متروك لولي الأمر يضع من القواعد ما يراه محققاً للمصلحة العامة.
هذه هي قواعد العود في الشريعة, وتلك قواعد العود في القوانين الوضعية, ولا فرق بينهما إلا أن الشريعة لم تطبق منذ زمن طويل فجهل الناس كل شئ عنها, أما القوانين الوضعية فتطبق باستمرار ويعرفها أكثر الناس معرفة جيدة.
وقد يكفي الشريعة امتيازاً أن قواعدها التي وضعت منذ أكثر من ثلاثة عشر(1/768)
قرناً تتفق تمام الاتفاق مع أحدث ما وصلت إليه القوانين الوضعية, ولكن الشريعة في الواقع تمتاز على القوانين الوضعية بأنها تعاقب معتادي الإجرام ومحترفيه فيه بالقتل وبالتخليد في السجن, وهما العقوبتان اللتان تصبو إليهما بصفة عامة نفوس شراح القوانين الوضعية, وعلى الأخص أصحاب نظريتي تدابير الأمن mesure de suete وغرق الاستئصال procede d' elemination, فهؤلاء يرون أن يستأصل معتاد الإجرام من الجماعة, أو أن يحبس حبساً غير محدد المدة بحيث يكف شره عن الجماعة, ولكن القوانين الوضعية لم تأخذ بهذه الآراء على إطراقها, واكتفت بالأخذ بنظرية الحبس غير المحدد المدة بعد أن وضعت على هذه النظرية من القيود ما يجعل الحبس في النهاية حبساً محدد المدة, كما بينا في الأمثلة التي ذكرناها عن القوانين المصري والإيطالي والفرنسي.
وهكذا يتبين أن الشريعة الإسلامية قد سبقت القوانين الوضعية في تنظيم العود وتقرير قواعده, ولا يزال سابقة لهذه القوانين فيما يختص بتقرير تدابير الأمن وطرق الاستئصال وتطبيقها على الوجه الذي ينادي به شراح القوانين أنفسهم.
* * *(1/769)
الباب السادس
سقوط العقوبة
527 - أسباب سقوط العقوبة: تسقط العقوبات في الشريعة بأسباب مختلفة, ولكن ليس في هذه الأسباب ما يعتبر سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة إنما تتفاوت الأسباب في أثرها على العقوبات, فبعضها يسقط معظم العقوبات, وبعضها مسقط لأقلها, وبعضها خاص بعقوبات دون الأخرى.
والأسباب المسقطة للعقوبات هي:
(1) موت الجاني ... (2) فوات محل القصاص ... ... (3) توبه الجاني.
(4) الصلح ... ... (5) العفو ... ... ... (6) إرث القصاص؟.
(7) التقادم.
528 - موت الجاني: تسقط العقوبات بموت الجاني إذا كانت بدينة أو متعلقة بشخص الجاني؛ لأن محل العقوبة هو الجاني ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها.
أما إذا كانت العقوبة مالية كالدية والغرامة والمصادرة فلا تسقط بموت الجاني؛ لأن محل العقوبة مال الجاني لا شخصه ومن الممكن تنفيذ العقوبة على مال الجاني بعد موته.
وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط عقوبة القصاص بموت الجاني يوجب الدية في ماله أو لا يوجبها, فرأى مالك وأبو حنيفة أن انعدام محل القصاص يترتب عليه سقوط عقوبة القصاص ولا يترتب عليه وجوب الدية في مال القاتل؛ لأن القصاص عندهما واجب والدية في رأيهما لا تجب بدلاً من القصاص إلا برضاء الجاني, فإذا مات الجاني سقط الواجب وهو القصاص ولم تجب الدية؛ لأن الجاني لم يوجبها على نفسه, ويستوي أن يكون الموت بآفة(1/770)
سماوية أو بيد شخص آخر ما دام الموت بحق, فإذا مات الجاني بمرض أو قتل في قصاص لشخص آخر أو قتل لزناً أو رد', ففي كل هذه الحالات تسقط عقوبة القصاص ولا تجب الدية بدلاً منها.
أما إذا قتل الجاني ظلماً فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول, فمن قتل رجلاً فعدا عليه أجنبي فقتله عمداً فدمه لأولياء المقتول الأول, ويقال لأولياء المقتول الثاني: ارضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم في القتل أو العفو, فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه, ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها, وإن قتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول (1) .
ويسوي أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطاً مطلقاً ولا يوجب الدية في مال الجاني ولا في مال غيره إذا جنى عليه (2) .
ويرى الشافعي وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص في كل الأحوال سواء كان الموت بحق أو بغير حق, ولكنه يؤدي إلى وجوب الدية في مال الجاني؛ لأن الواجب بالقتل عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية, فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر, ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر (3) .
ونستطيع أن نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء في مثل الآتي: إذا قتل زيد علياً فإن لأولياء على حق القصاص على زيد, فإذا مرض زيد ومات سقط القصاص بموته ولا شئ لأوليائه طبقاً لرأي مالك وأبي حنيفة, ولأوليائه الدية في مال زيد طبقاً لرأي الشافعي وأحمد. فإذا كان موت زيد راجعاً إلى أن خالداً
_________
(1) مواهب الجليل ج7 ص231.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص246.
(3) المهذب ج2 ص201, الشرح الكبير ج9 ص714.(1/771)
قتله عمداً أو صدمه بسيارته خطأً فقتله فقد سقط حق القصاص ولا شئ لأولياء عليّ في رأي أبو حنيفة, أما طبقاً لرأي مالك فحق القصاص ينتقل إلى خالد ولأولياء عليّ أن يقتصوا منه في حالة العمد, وليس لأولياء زيد أن يقتصوا من خالد إلا إذا أرضوا أولياء علي, وفي حالة الخطأ يدفع خالد دية زيد لأولياء عليّ. وطبقاً لرأي الشافعي وأحمد يسقط القصاص بموت زيد ويكون لأولياء عليّ الدية في مال زيد.
529 - فوات محل القصاص: المقصود بالقصاص هنا القصاص فيما دون النفس. ومعنى فوات محل القصاص أن يذهب العضو المحل القصاص مع بقاء الجاني حياً, ففوات محل القصاص سبب مسقط لعقوبة القصاص دون النفس فقط.
والأصل أن محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية, فإذا فات محل القصاص سقط القصاص؛ لأن محله انعدم ولا يتصور وجود الشيء مع انعدام محله.
وإذا سقط القصاص بحق لم يجب للمجني عليه شئ عند مالك, لأن حق المجني عليه في القصاص عيني فإذا سقط القصاص فقد سقط حق المجني عليه, أما إذا فات محل القصاص بظلم فإن حق القصاص ينتقل إلى الظالم, على التفصيل الذي سبق بيانه في حالة موت القاتل (1) .
وأبو حنيفة - وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عيناً - يفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلماً, وبين فواته بحق كتنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص. وفي الحالة الأولى يرى أن المجني عليه لا يجب له شئ بفوات محل القصاص, أما في الحالة الثانية فيرى أن المجني عليه تجب له الدية بدلاً من القصاص؛ لأن الجاني قضى بالطرف أو الجارحة التي فاتت حقاً مستحقاً عليه (2) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص213, شرح الدردير ج2 ص213.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص246, 298.(1/772)
ويرى الشافعي وأحمد أن للمجني عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أياً كان سبب ذهاب محل القصاص, لأن موجب العمد عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية, فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجباً.
530 - توبة الجاني: من المتفق عليه في الشريعة أن التوبة تسقط عقوبة جريمة الحرابة المقررة جزاء على الأفعال التي تمس حقوق الجماعة, وذلك لقوله جل شأنه: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34] , فالمحارب إذا تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبات المقرة على الأفعال الماسة بحقوق الجماعة, أما العقوبات المقررة على الأفعال الماسة بحقوق الأفراد فلا تسقطها التوبة.
وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن التوبة تسقط العقوبة المقررة لجريمة الحرابة إذا حدثت التوبة قبل القدرة على المحارب فإنهم قد اختلفوا في أثر التوبة على ما عدا هذه الجريمة, ولهم في ذلك ثلاث نظريات ذكرناها بمناسبة الكلام على العدول عن الجريمة فلا داعي لتكرارها هنا (1) .
531 - الصلح: الصلح سبب من أسباب سقوط العقوبة, ولكنه لا يسقط إلا القصاص والدية أما ما عداهما فلا أثر للصلح عليها.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن القصاص يسقط بالصلح, ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها.
والأصل في الصلح السنة والإجماع. فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل عمداً دفع إلى أولياء
_________
(1) راجع الفقرة 253.(1/773)
المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية, وما صولحوا عليه فهو لهم", وفي عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلاً فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبي ذلك وقتله (1) .
ولما كان القصاص ليس مالاً جاز الصلح عنه بما يمكن أن يتفق عليه الفريقان؛ لأنه صلح عما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح على العروض, فيصح أن يكون بدل الصلح قليلاً أو كثيراً من جنس الدية أو من خلاف جنسها, حالاً أو مؤجلاً.
أما إذا كان الصلح على الدية وليس على القصاص فإنه لا يجوز أن يكون على أكثر مما تجب فيه الدية؛ لأن ذلك يعتبر رباً، فمثلاً لا يصلح الصلح على الدية مقابل مائة وعشرين من الإبل؛ لأن الدية مائة من الإبل فقط؛ ولأن الزيادة رياً.
532 - العفو: العفو سبب من أسباب سقوط العقوبة، وهو إما أن يكون من المجني عليه أو وليه, وإما أن يكون من ولي الأمر, ولكن العفو ليس على أي حال سبباً عاماً لإسقاط العقوبة, وإنما هو سبب خاص يسقط العقوبة في بعض الجرائم دون البعض الآخر, والقاعدة التي تحكم العفو أنه لا أثر له في جرائم الحدود, وأن له أثره فيما عدا ذلك على التفصيل الآتي:
533 - جرائم الحدود والعفو: ليس للعفو أي أثر على الجرائم التي تجب فيها عقوبات الحدود, وليس للعفو أثر على هذه العقوبات سواء كان العفو من المجني عليه أو من ولي الأمر. فالعقوبة في هذه الجرائم لازمة محتمة ويعبر الفقهاء عنها بأنها حق الله تعالى؛ لأن ما كان حقاً لله امتنع العفو فيه أو إسقاطه (2) .
_________
(1) المغني ج9 ص477.
(2) إذا عوقب على جريمة من جرائم الحدود بعقوبة تعزيرية مع عقوبة الحد جاز لولي الأمر أن يعفو عن العقوبة التعزيرية وحدها, وإذا امتنع الحد في جريمة من جرائم الحدود وعوقب عليها بالتعزير فليس لولي الأمر العفو عن العقوبة على الرأي الراجح.(1/774)
وقد ترتب على عدم جواز العفو عن العقوبة أو إسقاطها اعتبار من وجب عليه حد مهلك مهدراً فيما وجب فيه الحد, فإن وجب الحد في نفسه أهدرت نفسه, وإن وجب في طرفه أهدر طرفه (1) .
534 - العفو في جرائم القصاص والدية: تجيز الشريعة للمجني عليه أو ولي دمه أن يعفو عن عقوبتي القصاص والدية (2) دون غيرهما من العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية، فليس له أن يعفو عن عقوبة الكفارة, ولا يؤثر عفوه على حق ولي الأمر في تعزير الجاني بعد العفو عنه.
وليس لولي الأمر أن يعفو في جرائم القصاص والدية عن العقوبات المقدرة كالقصاص والكفارة, ولكن له أن يعفو عن أية عقوبة تعزيرية يعاقب بها الجاني, وله أن يعفو عن كل عقوبة أو بعضها.
وحق المجني عليه أو وليه في العفو مقصور؛ كحق ولي الأمر على العفو عن العقوبة فقط, وليس لأيهما العفو عن الجريمة, فإذا عفا أحدهما عن الجريمة انصرف عفوه إلى العقوبة في الحدود التي بيناها, والعلة في منع العفو عن الجريمة أنه لو سمح للمجني عليه بالعفو عن الجريمة لما أمكن معاقبة الجاني, وفي هذا خطر شديد على الجماعة؛ لأن الجريمة تمس الجماعة وإن كانت أكثر مساساً بالمجني عليه, ولو سمح لولي الأمر بالعفو عن الجريمة لأمكن تعطيل حق المجني عليه في القصاص والدية.
والأصل في حق المجني عليه أو وليه في العفو الكتاب والسنة, أما الكتاب فقد أقر هذا الحق في سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} حيث قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] , وفي سياق قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} حيث
_________
(1) راجع الفقرة 375 وما بعدها.
(2) المقصود من الدية معناه الأعم فتشمل الدية والأرش والحكومة.(1/775)
قال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45] . وأما السنة فإن أنس بن مالك قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه شئ من قصاص إلا أمر فيه بالعفو".
والعفو عن القصاص عند الشافعي وأحمد هو التنازل عن القصاص مجاناً أو على الدية, فمن تنازل عن القصاص من القاتل مجاناً فهو عاف، ومن تنازل عن القصاص مقابل الدية فهو عاف (1) .
والعفو عند مالك وأبي حنيفة هو إسقاط القصاص مجاناً, أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو ليس عفواً وإنما هو صلح؛ لأن الجاني لا يلزم بالدية إلا إذا قبلها (2) .
ويعتبر مالك وأبو حنيفة العفو عن القصاص على الدية صلحاً لا عفواً؛ لأن الواجب بالعمد عندهما هو القصاص عيناً؛ لأن الدية لا تجب عندهما إلا برضاء الجاني, وإذا كان إسقاط القصاص على الدية يقتضي رضاء الطرفين فهو صلح لا عفو. أما الشافعي وأحمد فيعتبران العفو عن القصاص على الدية عفواً لا صلحاً؛ لأن الواجب العمد عندهما أحد سيئين غير عين القصاص والدية، والخيار للمجني عليه أو وليه دون حاجة لرضاء الجاني, ولما كان القصاص أشد من الدية كان إسقاطه واختيار الدية إسقاطاً محضاً لا مقابل له وترك للأثر وأخذ الأقل, فهو عفو؛ لأنه إسقاط محض صادر من طرف واحد وغير متوقف على موافقة الطرف الآخر.
وكما يجوز العفو عن القصاص يجوز العفو عن الدية, وسواء كانت الدية هي العقوبة الأصلية كما في القتل الخطأ أو كانت حالة محل القصاص.
535 - العفو في جرائم التعازير: من المتفق عليه بين الفقهاء أو لولي
_________
(1) المهذب ج2 ص201, الشرح الكبير ج9 ص417.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230, الزيلعي ج4 ص107, 108, البحر الرائق ج8 ص300, 301.(1/776)
الأمر حق العفو كاملاً في جرائم التعازير, فله أن يعفو عن الجريمة وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها, ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان لولي الأمر حق العفو في كل جرائم التعازير أو في بعضها دون البعض الآخر.
فرأى البعض أن ليس لولي الأمر حق العفو في جرائم القصاص والحدود التامة التي امتنع فيها القصاص والحد, وأن هذه الجرائم يعاقب عليها بالعقوبات التعزيرية المناسبة ولا عفو فيها لا عن الجريمة ولا عن العقوبة. أما ما عداها من الجرائم فلولي الأمر فيها أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا رأى المصلحة في ذلك بعد مجانبة هوى نفسه (1) .
ورأي البعض أن لولي الأمر في كل الجرائم المعاقب عليها بالتعزير أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا كان في ذلك مصلحة (2) . ورأي الفريق الأول أقرب إلى منطق الشريعة في جرائم الحدود وجرائم القصاص.
وللمجني عليه في جرائم التعازير أن يعفو عما يمس شخصه كما في الضرب والشتم, ولكن عفوه لا يؤثر على حق الجماعة في تأديب الجاني وتقويمه, فإذا عفا المجني عليه انصرف عفوه إلى حقوقه الشخصية (3) .
وإذا عفا ولي الأمر في جرائم التعازير عن الجريمة أو العقوبة فإن عفوه لا يؤثر بأي حال على حقوق المجني عليه (4) .
وقد سبق أن تكلمنا عن العفو بمناسبة الكلام على بطلان القوانين المخالفة للشريعة وما قلناه هناك يكمل ما قيل هنا (5) .
536 - إرث القصاص: تسقط عقوبة القصاص إذا ورث القصاص من
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص121, 213, المغني ج10 ص349, أسنى المطالب ج4 ص162, 163, الأحكام السلطانية ص207، الإقناع ج4 ص270, مواهب الجليل ج6 ص320.
(2) المراجع السابقة.
(3) الأحكام السلطانية ص207, أسنى المطالب ج4 ص163.
(4) المرجع السابقة, ومواهب الجليل ج6 ص320.
(5) راجع الفقرة 203.(1/777)
ليس له أن يقتص من الجاني, كما تسقط العقوبة إذا ورث الجاني نفسه كل القصاص أو بعضه, فمثلاً إذا كان في ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ, وما دام لا يجب بالنسبة لولد القاتل لأن الولد لا يقتص من أبيه فهو لا يجب للباقين. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث فه إلا القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فيسقط القصاص. وكذلك الحكم لو ورث بعض القصاص فإن القصاص يسقط, ولمن بقى من المستحقين نصيبهم من الدية (1) .
537 - التقادم: التقادم المقصود هو مضي فترة معينة من الزمن على الحكم بالعقوبة دون أن تنفذ فيمتنع بمضي هذه الفترة تنفيذ العقوبة.
والتقادم المسقط للعقوبة مختلف عليه, فأكثر الفقهاء لا يسلمون به, ومن يرونه مسقطاً للعقوبة لا يجعلونه سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة, وآراء الفقهاء المختلفة يمكن ردها إلى نظريتين:
النظرية الأولى: وهي تقوم على مذهب مالك والشافعي وأحمد, وتلخص في أن العقوبة لا تسقط مهما مضى عليها من الزمن دون تنفيذ, وأن الجريمة لا تسقط مهما مضى عليها من الزمن دون المحاكمة, وما لم تكن العقوبة من عقوبات التعازير وما لم تكن الجريمة من جرائم التعازير, فإن العقوبة أو الجريمة تسقط بالتقادم إذا رأى ذلك أولو الأمر تحقيقاً لمصلحة عامة.
وأساس هذه النظرية أن قواعد الشريعة ونصوصها ليس فيها ما يدل على أن عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية تسقط بمضي مدة معينة, كذلك فإن ولي الأمر ليسله حق العفو عن هذه العقوبات أو إسقاطها بأي
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص251, شرح الدردير ج4 ص233, المهذب ج2 ص186, ج9 ص362.(1/778)
حال, وإذا لم يكن هناك نص يجيز إسقاط العقوبة ولم يكن لولي الأمر إسقاطها فقد امتنع القول بالتقادم.
أما العقوبات التعزيرية فتطبيق القواعد العامة عليها يقتضي القول بجواز سقوط العقوبة بالتقادم إذا رأى ولي الأمر ذلك تحقيقاً لمصلحة عامة؛ لأن لولي الأمر حق العفو عن الجريمة وحق العفو عن العقوبة في جرائم التعازير, وإذا كان لولي الأمر أن يعفو عن العقوبة فيسقطها فوراً فإن له أن يعلق سقوطها على مضي مدة معينة إن رأى أن في ذلك ما يحقق مصلحة عامة أو يدفع مضرة.
النظرية الثانية: وقوامها مذهب أبي حنيفة, وأصحابها يتفقون مع أصحاب النظرية الأولى في القول بالتقادم في العقوبات التعزيرية وفي امتناع التقادم في العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية وفي جريمة القذف دون غيرها من جرائم الحدود, أما بقية جرائم الحدود فيرون أن عقوباتها تسقط بالتقادم. وأبو حنيفة وأصحابه على هذا الرأي عدا زفر فإنه لا يرى سقوط عقوبة الحد بالتقادم.
على أن القائلين بسقوط عقوبة الحد بالتقادم من الحنفية يفرقون بين ما إذا كان دليل الجريمة شهادة الشهود أو الإقرار, فإن كان الدليل شهادة الشهود سقطت العقوبة بالتقادم, وإن كان الدليل الإقرار لم تسقط العقوبة بالتقادم (1) .
والأصل في هذه التفرقة أن الحنفيين يشترطون لقبول الشهادة في جرائم الحدود أن لا تكون الجريمة قد تقادمت, ولا يستثنون من ذلك إلا جريمة القذف؛ لأن شكوى المجني عليه شرط لتحرك الدعوى العمومية فلا يستطيع الشاهد أن يشهد قبل الشكوى, أما ما عدا القذف من الجرائم فلكل إنسان أن يتقدم بالتبليغ عنها ولا يتوقف تحريك الدعوى العمومية فيها على تبليغ المجني عليه.
ويستند الحنفية في قولهم بتقادم الجريمة إلى أن الشاهد مخير إذا شهد الجريمة
_________
(1) يروى البعض سقوط حد الشرب بالتقادم ولو كان الدليل الإقرار.(1/779)
بين أن يؤدي الشهادة حسبة لله تعالى لقوله جل شأنه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وبين أن يتستر على الحادث لقوله عليه السلام: "من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة", فإذا سكت الشاهد عن الجريمة حتى قدم العهد عليها دل ذلك على اختياره جهة الستر, فإذا شهد بعد ذلك فإن هذه الشهادة المتأخرة دليل على أن ضغينة ما هي التي حملته على الشهادة, ومثل هذا الشاهد المشكوك فيه لا تقبل شهادته. ويؤيد الحنفية رأيهم بما روى عن عمر من قوله: أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته - أي عند وقوعه - فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم. ويقولون: إنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر على عمر هذا القول فيكون إجماعاً. ومن المستفاد من قول عمر أن الشهادة المتأخرة تورث التهمة ولا شهادة لمتهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" أي متهم.
وإذا كانت الشهادة ترد أصلاً للمتهم فالمنطق أن لا ترد إذا انتفت التهمة, كما لو كان الشاهد تأخر لطول الطريق أو لمرض, ولكن لما كانت التهمة أمراً خفياً غير منضبط ومن الصعب التحقق منه في كل الأحوال فقد أقيم التقادم مقامها وأهمل شأن التهمة فلا ينظر إلى وجودها وعدمها, وعلى هذا ترد الشهادات بالتقادم ولو لم يكن هناك تهمة أو يأخذ على الشاهد.
وبعد أن قال الحنفية بالتقادم في الجريمة كان من السهل أن يقولوا به في العقوبة؛ لأن القاعدة عندهم أن الإمضاء من القضاء؛ أي أن التنفيذ متمم للقضاء, فوجب أن يتوفر عند التنفيذ ما يتوفر عند الحكم, وإذا وجب عند الحكم أن لا تتقادم الجريمة فقد وجب أن لا يكون التقادم عند التنفيذ (1) .
ولم يقدر أبو حنيفة للتقادم حداً وفوض الأمر فيه للقاضي يقدره طبقاً لظروف كل حالة؛ لأن اختلاف الأعذار يجعل التوقيت متعذراً. وقدره محمد بستة
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص161 وما بعدها, حاشية ابن عابدين ج3 ص218.(1/780)
أشهر, وذكر عنه أنه قدره بشهر, وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف. ويترتب على هذا أن لولي الأمر أن يضع حداً للتقادم وأن يمنع قبول الدعوى بعد مضي مدة معينة إذا كان الدليل عليها هو الشهادة.
وخلاصة رأي الحنفيين في سقوط العقوبة بالتقادم أن عقوبات التعازير تسقط بالتقادم أياً كان الدليل الذي بني عليه الحكم, وأن عقوبات الحدود فيما عدا القذف تسقط بالتقادم إذا كان دليل الجريمة فيها هو الشهادة, فإذا كان دليل الجريمة الإقرار فلا يسقط إلا حد شرب الخمر على رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (1) .
تم الجزء الأول بعون الله تعالى
* * *
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص162.(1/781)
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله الذى علم الإنسان بعد جهل، وهداه بعد ضلال، وفقهه بعد غفلة، والصلاة والسلام على محمد رسول الله الذى أرسله ربه للناس كافة بشيرًا ونذيرًا وهاديًا ومعلمًا؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحى من حى عن بيِّنة.
وبعد؛ فهذه دراسات فى التشريع الجنائى الإسلامى مقارنة بالقوانين الوضعية، وفقنى الله فيها إلى إظهار محاسن الشريعة، وتفوقها على القوانين الوضعية، وسبقها إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية والنظريات العلمية والاجتماعية التى لم يعرفها العالم ولم يهتد إليها العلماء إلا أخيرًا.
وسيرى القارئ مصداق هذا القول بين دفتى هذا الكتاب، وأرجو أن لا ينتهى من قراءته إلا وقد أصبح يعتقد بما أعتقده، وهو أن الشريعة الإسلامية هى شريعة كل زمان ومكان.
والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25- 28] .
* * *(2/3)
الباب الأول
فى الجنايات
1 - معنى الجناية: الجناية لغة: اسم لما يجنيه المرء من شر وما اكتسبه، تسميه للمصدر من جنى عليه شرًا، وهو عام، إلا أنه خُصِّ بما يحرم من الأفعال، وأصله من جنى الثمر وهو أخذه من الشجرة.
أما فى الاصطلاح الفقهى فالجناية: اسم لفعل محرم شرعًا سواء وقع الفعل فى نفس أو مال أو غير ذلك. لكن عرف الفقهاء جرى على إطلاق اسم الجناية على الأفعال الواقعة على نفس الإنسان أو أطرافه وهى القتل والجرح والضرب (1) .
وأكثر الفقهاء يتكلمون عن القتل والجرح والضرب تحت عنوان الجنايات، متأثرين فى ذلك بما تعارفوا عليه من إطلاق اسم الجناية على هذه الأفعال (2) .
ولكن بعض الفقهاء يتكلمون عن هذه الأفعال تحت عنوان الجراح (3) ناظرين إلى أن الجراحة هى أكثر طرق القتل والاعتداء على النفس والأطراف. كما أن بعض الفقهاء يؤثرون لفظ الدماء. (4) ويجعلونه عنوانًا لجرائم القتل والجرح
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص 286 , الزيلعى ج6 ص79.
(2) المرجعان السابقان , وبدائع الصنائع ص 233 , الإقناع ج4 ص162 , البجيرمى على المنهج ج4 ص 129.
(3) تحفة المحتاج ج4 ص1 , المغنى ج9 ص318 , الأم ج6 ص1.
(4) الشرح الكبير للدردير ج4 ص210 , مواهب الجليل للحطاب ج6 ص230.(2/4)
والضرب، ناظرين فى ذلك إما إلى النتيجة الغالبة لهذه الجرائم وهى إراقة الدماء وإما إلى أن أحكام هذه الجرائم وضعت لحماية الدماء.
2 - أقسام الجناية: ويقسم الفقهاء الجناية (1) . على الآدمى إلى ثلاثة أقسام:
1 - جناية على النفس مطلقًا، ويدخل تحت هذا القسم الجرائم التى تهلك النفس أى القتل بمختلف أنواعه.
2 - جناية على ما دون النفس مطلقًا، ويدخل تحت هذا القسم الجرائم التى تمس جسم الأنسان ولا تمس نفسه وهى الضرب والجرح.
3 - جناية على ما هو نفس من وجه دون وجه. ويقصد من هذا التعبير الجناية على الجنين لأنه يعتبر نفسًا من وجه ولا يعتبر كذلك من وجهة آخر، فيعتبر نفس من وجه لأنه آدمى، ولا يعتبر كذلك لأنه لم ينفصل عن أمه. ويعبر عن هذه الجناية فى الاصطلاح القانون الوضعى بالإجهاض.
3 - جرائم القتل والضرب والجرح قد تقع عمدًا وقد تقع خطأ: ولكنها سواء كانت عمد أو خطًا ليست فى الواقع إلا صورًا قانونية مختلفة بفعل واحد يقع على جسم المجنى عليه، فالضرب بعصا قد لا يحدث أثرًا وقد يحدث شجه أو جرحًا، وقد يؤدى إلى موت المجنى عليه وقد يكون الضارب قاصدًا مجرد الاعتداء فيكون فعله ضربًا أو جرحًا متعمدًا وقد لا يقصد الاعتداء فيكون فعله ضربًا أو جرحًا خطأ.
فإذا مات المجنى عليه كان الضرب قتلاً عمدًا إذا قصد الجانى القتل، وكان قتلاً شبه عمد أى ضربًا مفضيًا لموت إذا تعمد الجانى الاعتداء ولم يقصد القتل، وكان قتلاً خطأ إذا لم يقصد الاعتداء أصلاً. فالفارق بين هذه الصور المتعددة المختلفة هو نتيجة الفعل وقصد الجانى، وهذا التصوير لجرائم القتل والجرح والضرب متحد فى الشريعة والقوانين الوضعية.
_________
(1) يلاحظ أن معنى الجناية فى الشريعة يتفق مع معنى الجريمة , فالفعل جناية ولو كان مخالفة أو جنحة أو أكثر جسامة منهما , ولفظ الجناية فى الشريعة مخالف لمعنى هذا اللفظ ن المصرى الذى يعتبر جناية كل فعل معاقب عليه بالإعدام أو الأشغال الشاقة أو السجن.(2/5)
وتتفق أحكام جرائم القتل والجرح والضرب فى الشريعة الإسلامية مع أحكامها فى القوانين الوضعية فيما يختص بأركان الجريمة وصورها والأفعال المختلفة المكونة لها. ولا تكاد الشريعة تختلف عن القوانين إلا فى نوع العقوبة التى يقررها كلاً منهما لهذه الجرائم. بل أن القوانين حين تتناول هذه الجرائم تتناولها على نفس طريقة الشريعة فتجمعها فى باب واحد، كما يتكلم عنها الشراح دفعة واحدة لشدة ما بينها من اتصال، وهو نفس ما فعله فقهاء الشريعة فى شرح هذه الجرائم.
* * *
الفصل الأول
القتل
4 - تعريف القتل: يعرف القتل فى الشريعة كما يعرف فى القوانين الوضعية بأنه فعل من العباد تزول به الحياة (1) أى إنه إزهاق روح أدمى بفعل أدمى آخر.
والقتل فى الشريعة أصلا على نوعين: قتل محرم، وهو كل قتل عدوانى، وقتل بحق، وهو قتل لا عدوان فيه كقتل القاتل والمرتد.
وبعض الفقهاء يقسم القتل من حيث الحل والحرمة إلى خمسة أقسام: واجب: وهو قتل المرتد إذا لم يتب والحربى إذا يسلم أو يعط الأمان. محرم: وهو قتل المعصوم بغير حق. مكروه: وهو قتل الغازى قريبه الكافر إذا لم يسب الله ورسوله فإن سبهما لم يكره قتله. مندوب: وهو قتل الغازى قريبه الكافر إذا سب الله ورسوله. مباح: ومثله قتل المقتص وقتل الأسير، على أن قتل الأسير كما
_________
(1) تكملة فتح القدير ج8 ص244.(2/6)
يرى البعض قد يكون واجبًا إذا ترتب على عدم قتله مفسده ومندوبًا إذا كان فيه مصلحه، بل يحتمل الوجوب مطلقًا إذا ظهرت المصلحة. (1)
5 - أقسام القتل: ويقسم الفقهاء القتل تقسيمات تختلف بحسب وجهة نظر كل منهم، ويمكننا أن نستعرض هذه التقسيمات المختلفة فيما يأتى:
أولاً: التقسيم الثنائى: يقسم بعض الفقهاء القتل إلى قتل عمد، وقتل خطأ، ولا وسط بينهما، والقتل العمد عند هؤلاء هو كل فعل ارتكب بقصد العدوان إذا أدى إلى موت المجنى عليه سواء قصد الجانى القتل أو لم يقصده، وبشرط ألا يكون الفعل قد وقع على وجه اللعب أو مقصودًا به التأديب ممن له حق التأديب. والقتل الخطأ هو ما لم يكن عمدًا. (2) وهذا هو مشهور مذهب مالك. (3)
ثانيًا: التقسيم الثلاثى: يقسم بعض الفقهاء القتل إلى ثلاثة أقسام (4) :
(أ) عمد: وهو ما تعمد فيه الجانى الفعل المزهق قاصدًا إزهاق روح المجنى عليه.
(ب) شبه عمد: وهو ما تعمد فيه الجانى الاعتداء على المجنى عليه دون أن بقصد قتله إذا مات المجنى عليه نتيجة للاعتداء ويسمى شراح القوانين الوضعية هذا النوع من القتل بالضرب المفضى إلى الموت.
(جـ) قتل خطأ: ويكون فى حالات:
أولها: إذا تعمد الجانب الفعل دون أن يقصد المجنى عليه، كمن يرمى غَرضًا فيصيب شخصًا. وتسمى هذه الحالة الخطأ فى الفعل.
وثانيها: إذا تعمد الجانى الفعل وقصد المجنى عليه على ظن أن الفعل مباح بالنسبة للمجنى عليه ولكن تبين أن المجنى عليه معصوم، كمن يرمى من يظنه جنديًا من جنود الأعداء فإذا هو مسلم أو معاهد أو ذمى. وتسمى هذه الحالة الخطأ فى القصد.
وثالثها: أن لا يقصد الجانى الفعل ولكنه يقع نتيجة لتقصيرة، كمن يتقلب وهو نائم على آخر فيقتله.
ورابعها: أن
_________
(1) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراميلسى ج7 ص233.
(2) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240.
(3) حجة مالك وغيره فى التقسيم الثنائى ستأتى فيما بعد.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص235 , المغنى ج9 ص30 , الإقناع ج4 ص163 , الزيلعى ج6 ص97.(2/7)
يتسبب الجانى فى الفعل، كمن يحفر حفرة فى الطريق فيسقط فيها أحد المارة ليلاً وتؤدى السقطة لوفاته.
ثالثًا: التقسيم الرباعى: يقسم بعض الفقهاء القتل أربعة أقسام:
(1) عمد. ... ... (2) شبع عمد. ... ... ... (3) خطأ. ... ... (4) ما جرى مجرى الخطأ (1) .
والعمد وشبه العمد عند أصحاب هذا التقسيم لا يختلفان عما هما عليه فى التقسيم السابق، فالخلاف منحصر عندهم فى الخطأ لا غير.
والخطأ (2) عند هؤلاء ما يكون فى نفس الفعل أو فى ظن الفاعل. فالأول: أن يقصد الفعل ولا يقصد الشخص كمن يرمى صيدًا فيصيب شخصًا. والثانى: أن يقصد من يظنه مباح القتل كحربى أو مرتد فإذا هو معصوم (3) .
أما ما جرى مجرى الخطأ فنوعان: نوع هو فى معنى الخطأ من كل وجه، وهو أن يكون القتل على طريق المباشرة كأن ينقلب النائم على إنسان فيقتله، فهذا القتل فى معنى القتل الخطأ من كل وجه لوجوده عن غير قصد، ونوع هو فى معنى الخطأ من وجه واحد، وهو أن يكون القتل عن طريق التسبب كمن يحفر حفرة فى طريق ولا يتخذ الاحتياطات اللازمة لمنع المارة ليلاً من السقوط فيها فيسقط فيها شخص ويموت من سقطة (4) .
وظاهر مما سبق أن هذا التقسيم لا يختلف عن سابقه فى شىء إلا فى أنه يقسم ما اعتبره التقسيم خطًا إلى قسمين: أحدهما: الخطأ، والثانى: ما جراه مجراه.
رابعًا: التقسيم الخماسى: ويقسيم بعض الفقهاء القتل خمسة أقسام:
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص233 , الشرح الكبير ج9 ص319.
(2) بدائع الصنائع ح7 ص234 , الشرح الكبير ج9 ص333.
(3) الحربى: هو المنتمى إلى دولة محاربة , والمرتد: هو المسلم الذى ترك دينه , والمعصوم: هو من لا يحل قتله ولم يهدر دمه.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص271 , الشرح الكبير ج9 ص334.(2/8)
(1) عمد. ... ... (2) شبه عمد. ... ... (3) خطأ.
(4) ما جرى مجرى الخطأ. ... ... (5) القتل بالتسبب.
والفرق بين هذا التقسيم والتقسيم السابق أن أصحاب هذا التقسيم يفرقون بين الفعل المباشر والقتل بالتسبب ويجعلون الأخير قسمًا مستقلاً (1) .
ويعزى التقسيم الخماسى إلى أبى بكر الرازى، فقد أداه منطقه إلى اختراع هذا التقسيم حيث رأى أن الخطأ على ضربين: أحدهما: خطأ فى الفعل كأن يقصد رمى طائر فيصيب شخصًا. والثانى: خطأ فى قصد كأن يقصد إصابة من يظنه حربيًا لأنه فى صفوفهم أو عليه لباسهم فيتبين أنه معصوم. وإذا كان هذا هو الخطأ فإنه لا ينطبق على فعل الساهى أو النائم لأن الفعل فى الخطأ مقصود إلا أن الخطأ يقع تارة فى الفعل وتارة فى القصد، وفعل الساهى والنائم غير مقصود أصلاً فليس هو إذن فى حيز الخطأ كما أنه ليس فى حيز العمد أو شبه العمد، ولما كان حكم فعل الساهى والنائم هو حكم الخطأ من حيث الجزاء فقد رأى أبو بكر الرازى إلحاقه بالخطأ باعتباره جاريًا مجراه.
كذلك لاحظ هذا الفقيه أن الفقهاء يلحقون بحكم القتل ما ليس بقتل فى الحقيقة لا عمدًا ولا غير عمد، وذلك نحو فعل حافر البئر وواضع الحجر فى الطريق إذا عطب به إنسان وقال: إن هذا ليس بقاتل فى الحقيقة إذ له فعل فى قتل المجنى عليه لأن القاتل إما أن يكون مباشرًا من الجانى أو متولدًا عن فعله، وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل فى العاثر بالحجر والواقع فى البئر لا مباشرة ولا متولدًا، فلم يكن قاتلاً فى الحقيقة وإنما يمكن اعتباره قاتلاً بالتسبب (2) . هذه التقسيمات المختلفة للقتل وظاهر من استعراضها أن التقسيم الثنائى يختلف عن باقى التقاسيم فى أنه لا يتعرف بالقتل شبه العمد، وأن الخلاف بين التقسيمان فيما عدا ذلك خلاف ظاهرى أدى إليه منطق الترتيب والتبويب
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص287 , تكملة فتح القدير ج8 ص244.
(2) أحكام القرأن لأبى بكر الرازى الجصاص ج2 ص223.(2/9)
الدقيق.
ولما كان التقسيم الثلاثى هو أشهر التقاسيم فسنجعله أساسًا لبحثنا دون غيره خصوصًا وأنه يتفق مع التقسيم الذى سار عليه قانون العقوبات المصرى وغيره من القوانين الوضعية، فقد قسم قانون العقوبات المصرى القتل إلى عمد، وخطأ، وضرب أفضى إلى موت، أى القتل شبه العمد.
* * *
المبحث الأول
القتل العمد
6 - القتل العمد هو ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجنى عليه: أى أن تعمد الفعل المزهق لا يكفى لاعتبار الجانى قاتلاً متعمدًا بل لابد من توفر قصد القتل لدى الجانى، فإذا لم يقصد الجانى القتل وإنما تعمد فقط مجرد الاعتداء فالفعل ليس قتلاً عمدًا ولو أدى لموت المجنى عليه، وإنما هو قتل شبه عمد كما يعبر عنه فقهاء الشريعة، وضرب أفضى إلى موت فى لغة شراح القوانين الوضعية.
7 - ويعتبر القتل العمد فى الشريعة من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم: وقد جاء القرأن والسنة بتحريمه وتعظيم شأنه وتحديد عقوبته.
تحريم القتل من القرآن: قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: 33] وقال: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] وقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] ، وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ(2/10)
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] ، وقال جل شأنه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة 32] .
عقوبة القتل من القرآن: قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] .
وإذا كانت هذه الآية تذكر أن هذا الحكم كتب على من قبلنا فليس ذلك بشىء لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما يقم دليل على نسخه، فضلاً على أن القرآن جاء بنص صريح فى أنه مكتوب علينا، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178, 179] .
تحريم القتل من السنة: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن قالوها فقد عاصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل"، وقال: "من قتل نفسه بشىء من الدنيا عُذَّب به يوم القيامة"، وقال: "من أعان قتل امرئ مسلم بشطر كلمة لقى الله مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله"،(2/11)
وقال: "قتل المؤمن يعدل عند الله زوال الدنيا"، وقال فى خطبة عرفات: "ألا أن دمائكم ونفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومى هذا فى شهرى هذا فى مقامى هذا".
عقوبة القتل من السنة: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وجد فى قائم سيفه: "إن أعدى الناس على الله غير قاتله، والضارب بغير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل على محمد"، وروى أنه قال: "من اعتبط مؤمنًا بقتل فهو قَوَد به إلا أن يرضى ولى المقتول، فمن حان دونه فعليه لعنة الله وغضبة، لا يقبل منه صرف ولا عدل"، وقال: "العمد قود"، وقال: "من قُتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا فالقود، وإن أحبوا فالعقل".
* * *
أركان جريمة القتل العمد
8 - أركان جريمة القتل فى الشريعة ثلاثة:
أولها: أن يكون المجنى عليه آدميًّا حيًّا.
ثانيها: أن يكون القتل نتيجة لفعل الجانى.
ثالثها: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة.
وهذه الأركان هى نفس أركان جريمة القتل العمد فى قانون العقوبات المصرى وغيره من القوانين الوضعية.
* * *
الركن الأول: القتيل آدمى حي
9 - تقع جريمة القتل على النفس فهى بطبيعتها اعتداء على آدمى حى: ولذلك سماها الفقهاء بالجناية على النفس، فلتحقق وقوع الجريمة يجب أن يكون المجنى عليه آدميا وأن يكون على قيد الحياة وقت ارتكاب جريمة القتل, فمن أطلق مقذوفا ناريا على حيوان حى فقتلة فإنه لا يعتبر قاتلاً عمدًا وإن كان يعتبر متلفًا لحيوان، ومن شق بطن إنسان ميت أو فصل رأسه من جسمه بقصد قتله وهو(2/12)
لا يعلم أنه ميت فإنه لا يعد قاتلاً له لأن الموت لم ينشأ عن فعله ولأن الفعل كان بعد أن فارق الميت الحياة فاستحال قتله، أو بتعبير آخر: لا يعاقب الجانى على جريمة القتل العمد لاستحالة وقوعها ولكنه يعاقب لأنه استحل حرمة ميت.
10 - ومن المتفق عليه أن الميت هو من خرج فعلاً عن الحياة: فإذا قتل شخص مريضًا فى حالة النزع فهو قاتل له عمدًا؛ لأنه أخرجه بفعله عن الحياة.
11 - وإذا جنى شخصان على ثالث وكان فعل الأول يفضى إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل شق البطن ومَزْق الأمعاء فإذا قطع الثانى رقبته فالقاتل هو الثانى لأنه فوَّت حياة مستقرة أو ما هو فى حكم الحياة، ويستدلون على ذلك بحادث عمر رضى الله عنه فإنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنًا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى، فقبل الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه، وهكذا ما دامت الحياة باقية يعتبر الثانى مفوتًا لها ويكون هو القاتل كما لو قتل عليلاً لا يرجى له البُرْء (1) .
12 - أما إذا كان فعل الأول قد أخرج المجنى عليه من حكم الحياة كأن قطع حشوته أى قطع أمعاءه وانتزعها ثم جاء الثانى وذبحه، فقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه الحالة: ففريق يرى أن القاتل هو الأول إذا صير المجنى عليه إلى حركة مذبوح لأنه هو الذى صيره بفعله لحالة الموت ومن ثَمَّ أعطى حكم الأموات مطلقًا والمفروض فيمن يصل لهذه الحالة أن يكون عاجزًا عن النطق فاقدًا الإدراك والاختيار وإذا نطق بكلام منتظم فنطقه حركة مضطر كطلب الماء (2) .
ويرى الفريق الآخر أن القاتل هو الثانى لأن من قربت روحه من الزهوق
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص295 , نهاية المحتاج ج7 ص250 , 251 , مواهب الجليل للحطاب ج6 ص244 , الشرح الكبير ج9 ص338.
(2) أصحاب هذا الرأى هم الحنفيون والشافعيون والحنابلة وبعض المالكيين , راجع المراجع السابقة.(2/13)
يعتبر فى حكم الحياة ما دام لم يسلم الروح، وهو يرث غيره وتصح الوصية له إذا مات الموصى قبله وإذا استطاع الكلام فأسلم اعتبر إسلامه وورثه أهله من المسلمين وهو على كل حال إما حى أو ميت ولا سبيل لغير هذين الاعتبارين، ولا يمكن القول بأنه ميت قبل أن يسلم الروح، فهو إذن حى على ما به من إصابات، فإذا فعل به أحد فعلاً عجل بموته فهو قاتل نفسًا عمدًا (1) .
13 - والجنين فى بطن أمه لا يعتبر آدميًّا حيًّا من كل وجه: ويعبر عنه فى الشريعة بأنه نفس من وجه، دون وجه فمن يعدم الجنين لا يعتبر قاتلاً له عمدًا، وإنما يعتبر مرتكبًا لجريمة قتل من نوع خاص، ويعاقب على فعله بعقوبة خاصة، وسنتكلم فيما بعد عن هذه الجريمة.
ويتفق القانون المصرى مع الشريعة فى هذا الاتجاه فمن يعدم جنينًا فى بطن أمه لا يعاقب على فعله بالعقوبة المقررة لقتل العمد فى المادة 1/234 عقوبات، وإنما يعاقب بالمادة 260 عقوبات وما بعدها الواردة فى الباب الثالث من الكتاب الثالث والخاصة بإسقاط الحوامل.
14 - وليس لجنسية المجنى عليه أو دينه أو لونه أو سنه أو نوعه أو ضعفه أو صحته أى أثر على اعتباره مقتولاً عمدًا: فيستوى أن يكون القتيل أجنبيًا أو من رعايا دولة الجانى، ويستوى أن يكون متدينًا أو غير متدين يعتنق دين القاتل أو دينًا آخر، ويستوى أن يكون أبيض أو أسود، عربيًا أو أعجميًا، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، ضعيفًا أو قويًّا، مريضًا أو صحيحًا، ويستوى أن يكون مرضه بسيطًا أو عضالاً يتوقع له الموت أو يرجى له الشفاء، فمن يقتل إنسانًا أيًّا كان فهو قاتل متعمد ولو كان طبيبا قصد أن يخلص القتيل من آلام مرضه المستعصى.
15 - ووجود جثة القتيل ليس شرطًا لاعتبار جريمة القتل واقعة، وليس
_________
(1) من هذا الرأى أصحاب المذهب الظاهرى وبعض المالكيين , راجع مواهب الجليل للحطاب ح6 ص233 , 244 الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , المحلى لابن حزم ج10 ص518.(2/14)
شرطًا لقيام الدعوى، ما دامت الأدلة قائمة على حدوث واقعة القتل.
16 - ولا خلاف بين الشريعة وقانون العقوبات المصرى فيما سبق: ولا يشترط القانون المصرى لتوفر هذا الركن أكثر مما بسطناه. ولكن الشريعة الإسلامية تشترط فوق ما سبق أن يكون القتيل معصومًا؛ أى: غير مهدر الدم.
17 - والعصمة أساسها فى الشريعة الإسلام والأمان: ويدخل تحت الأمان عقد الجزية والموادعة والهدنة. وعلى هذا يعتبر معصومًا المسلم، والذمى، ومن بينه وبين المسلمين عهد أو هدنة، ومن دخل أرض الدولة بأمان ولو كان منتميًا لدولة محاربة ما دام الأمان قائمًا ويعتبر الإذن بالدخول أمانًا حتى تنتهى مدة الإذن. فهؤلاء جميعًا معصومون؛ أى لا تباح دمائهم ولا أموالهم، وإذا قُتل أحدهم كان قاتله مسئولاً عن قتله عمدًا إن تعمد قتله. وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (1) .
أما أبو حنيفة فيرى أن العصمة ليست بالإسلام وإنما يعصم المرء بعصمة الدار ومَنَعة الإسلام وبالأمان، فأهل دار الإسلام معصومون بوجودهم فى دار الإسلام وبمنعة الإسلام المستمدة من قوتهم وجماعتهم وأهل دار الحرب غير معصومين لأنهم محاربون، وإن كان فيهم مسلم فلا يعصمه إسلامه حيث لا منعة له ولا قوة (2) .
والفرق بين رأى أبى حنيفة ورأى بقية الأئمة أن قتل المسلم فى دار الحرب لا عقاب عليه لأنه غير معصوم كما يرى أبو حنيفة، وعندهم يعاقب على قتله لأنه معصوم النفس محقون الدم بإسلامه فقط ولا عبره بوجوده فى دار الحرب.
18 - وإذا كان أساس العصمة الإسلام والأمان فإن العصمة تزول
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص231, تحفة المحتاج ج4 ص10, المغنى ج10 ص476, 606 وما بعدها , الإقناع ج4 ص173 , المغنى ج9 ص335.
(2) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص252 , البحر الرائق ج8 ص327.(2/15)
بزوال الأساس الذى قامت عليه: فالمسلم يصبح مهدر الدم بردته وخروجه عن الإسلام، والمستأمن والمعاهد يصبح مهدر الدم بانتهاء أمانه ونقضه عهده، ولا عصمة أصلاً لرعايا الدولة المحاربة ويسمى الفرد منهم حربيًا اصطلاحًا والحربى مهدر الدم أصلاً إلا إذا استأمن فأمن فإنه يعصم عصمة موقوتة بمدة أمانه، وإلا إذا عقدت دولته عهدًا ينهى حالة الحرب مؤقتًا أو دخلت فى الذمة فإنه يصبح معصومًا بعقد الموادعة أو عقد الذمة.
19 - وكما تزول العصمة بالردة وبانتهاء الأمان فإنها تزول بارتكاب بعض الجرائم: وهى على وجه الحصر: الزنا من محصن، وقطع الطريق، والقتل العمد. كذلك تزول العصمة - على رأى أبى حنيفة (1) - بارتكاب جريمة البغى وهى الخروج على أنظمة الدولة وقوانينها والثورة على القائمين بالأمر فيها، ويسمى الثائرون بغاة. وسنفصل القول فيما يأتى عن كل جريمة من هذه الجرائم (2) .
20 - ويترتب على زوال العصمة أن يصبح الشخص مهدر الدم، أى مباح القتل: فإذا قتله آخر لا يعتبر قاتلاً لأن قتل المهدر لا يعتبر جريمة من حيث فعل القتل، إذ الفعل مباح، ولكن لما كان قتل المهدرين من شئون السلطات العامة وموكولاً إليها فإن قتل الأفراد لهم يعتبر اعتداء على السلطات العامة ومن ثم يعاب قاتل المهدر باعتباره مرتكبًا لجريمة الافتيات على السلطات العامة لا باعتباره قاتلاً. وهذا هو الراجح فى المذاهب الأربعة (3) .
_________
(1) يرى أبو حنيفة وأصحابه أن البغاة غير معصومن , ويخالفه فى ذلك مالك والشافعى وأحمد , ويقولون إنهم معصومون إلا فى حالة الاشتباك مع أهل وهم الفريق الآخر من الأمة الذى خرج عليه البغاة.
(2) يحسن بالقارئ أن يرجع إلى ما كتبناه عن هذا الموضوع فى الجء الأول من كتابنا حيث تكلمنا عنه بتوسع.
(3) الأصل فى الشريعة الإسلامية أن من ارتكب جريمة حوكم عليها فإن ثبتت عليه حكم عليه= =بالعقوبة المقررة للجريمة وإن لم تثبت حكم ببراءته مما نسب إليه, وإذا حكم عليه بالعقوبة تولى تنفيذها ولى الأمر أو نائبه , ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد - أى العقوبات المقررة لجرائم الحدود - إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى أى حق الجماعة وجب تفويضه الى نائب الجماعة , ولأن الحد مفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فى استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولى الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواطة نائبه.
... وحضور الإمام ليس شرطاً فى إقامة الحد لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازماً فقال: "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم , وأتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه".
... لكن إذن الإمام واجب فى إقامة الحد , فما أقيم حد فى عهد رسول الله إلا بإذنه وما أقيم حد فى عهد الخلفاء إلا بإذنهم (المذهب ج2 ص287) . ومما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع إلى الولاة: الحدود , والصقات , والجمعات , والفئ" (شرح فتح القدير ج4 ص130) . وإذا كانت القاعدة العامة إقامة الحد للإمام أو نائبه إلا أنه لو اقامة غيره من الافراد فإن مقيمه لا يسأل عن إقامته اذا كان الحد متلفاً للنفس أو للطرف؛ أى إذا كان الحد قتلاً أو قطعاً وإنما يسأل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة , أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد فى الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته أى أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يخلف عنهما. والفرق بين الحالين أن الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف , وزوال العصمة عن النفس يبيح القتل وزوال العصمة عن الطرف يبيح القطع , فيصير قتل النفس أو قطع العضو مباحاً ولا جريمة فيما هو مباح. أما الحد غير المتلف فلا يزيل عصمة النفس ولا عصمة الطرف فيبقى معصوماً ومن يرتكب جريمة عقوبتها حد غير متلف , وتعتبر إقامة الحد عليه جريمة ما لم تكن الإقامة ممن يملك تنفيذ العقوبة.(2/16)
21 - الحربى: هو من ينتمى لدولة محاربة، والإجماع على أنه مهدر الدم فلا يعاقب قاتله باعتباره قاتلاً عمدًا وإنما يعاقب لأنه أحل نفسه محل السلطة التنفيذية وافتات عليها بإتيانه عملاً مما اختصت نفسها به.
ولا عقاب على قتل الحربى إطلاقًا إن قتل فى ميدان الحرب أو قتل دفاعًا عن النفس فى غير ميدان الحرب، وفى هذا يتفق حكم الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية.
أما إذا قتل الحربى فى ميدان الحرب لغير مقتضٍ كأن ضبط فى أرض الوطن أو استؤسر فقتله من ضبطه أو أسره أو قتله غيرهما فلا يؤاخذ القاتل طبقًا(2/17)
للشريعة باعتباره قاتلاً؛ لأن الحربى مباح الدم أصلاً كما قلنا لحرابته فضبطه أو أسره لا يعصمه ولا يغير من صفته كحربى ومن ثم يبقى دمه مباحًا بعد الضبط أو الأسر، فمن قتله فقد قتل مباح الدم ولا مسئولية عن قتل مباح باعتبار فعل القتل، وإنما المسئولية تأتى من كون القاتل اعتدى على السلطة العامة التى يوكل إليها أمر من يضبط أو يؤسر من الحربيين، فمن هذه الوجهة يسأل القاتل ويعاقب لافتياته على السلطة العامة.
هذا هو حكم الشريعة الإسلامية فى هذه الحالة، وهو يخالف حكم القوانين الوضعية التى تعتبر الفعل قتلاً عمدًا ويعاقب عليه على هذا الاعتبار، ولكن الذى يحدث عملاً أن المحاكم تقدر ظروف الجانى والمجنى عليه وتقضى على الجانى بعقوبة مخففة بقدر الإمكان، فالنتيجة العملية أن الشريعة تتفق مع القوانين الوضعية من وجهة تقرير عقوبة على فعل الجانى وأن الخلاف واقع فى تصوير الجريمة تصويرًا قانونيًا، فالقوانين تعطى للقضاة حق تحفيف العقوبة لظروف الجانى والجناية فإن الشريعة تجيز لولى الأمر أن يرتفع بعقوبة التعزير إلى القتل، وجريمة الاعتداء على السلطة العامة من جرائم التعازير فيستطيع أولياء الأمور إن شاءوا أن يشددوا عقوبتها فى بعض الحالات دون البعض الآخر.
22 - المرتد: هو المسلم الذى غير دينه، فلا يعتبر غير المسلم مرتدًا إذا غير دينه، ويعتبر المرتد مهدر الدم فى الشريعة (1) ، فإذا قتله شخص لا يعاقب باعتباره
_________
(1) يعتبر المرتد مهدر الدم من وجهين:
... أولهما: أنه كان معصوماً بالإسلام فلما ارتد زالت عصمته فأصبح مهدراً , وأساس العصمة بالإسلام قوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فإن قالوها فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل".
... ثانيهما: أن عقوبة المرتد فى الشريعة القتل حداً لا تعزيزاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان , وزناً بعد أحصان , وقتل نفس بغير نفس" ولقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" وعقوبة الحد فى الشريعة لا يجوز العفو عنها ولا تأخيرها فيعتبر الجانى مهدراً لوجوب تنفيذ العقوبة فإذا نفذها عليه أى شخص فقتله فقد قتل مهدراً بحد من حدود الله مباح القتل كما لو قتل زانياً محصناً.(2/18)
قاتلاً عمدًا سواء قتله قبل الاستتابة (1) أم بعدها؛ لأن كل جناية على المرتد هدر ما دام باقيًا على ردته.
والأصل أن قتل المرتد للسلطات العامة، فإن قتله أحد الأفراد دون إذن هذه السلطات فقد أساء وافتات عليها فيعاقب على هذا لا على فعل القتل فى ذاته. وعلى هذا الرأى فقهاء المذاهب الأربعة (2) إلا أن فى مذهب مالك رأيًا مخالفًا (3) يرى أصحابه أن المرتد غير معصوم ولكنهم يرون مع ذلك أن على قاتله التعزير ودية لبيت المال، وحجتهم أن المرتد يجب استتابته فهو بعد ردته كافر، فمن قتله فقد قتل كافرًا محرم القتل فتجب عليه ديته لبيت المال لأنه هو الذى يرث المرتد. فكأن أصحاب هذا الرأى يزيلون عصمة المرتد بالردة ويعصمونه بكفره، وهو تناقض ظاهر يكفى لهدم رأيهم ويمكن الرد عليهم بأنه لما كان مسلمًا عصمه الإسلام فلما كفر زالت عصمته، وأن الكفر لا يعصم صاحبه، ولكن الذى يعصمه الأمان من ذمة أو عهد أو غيرهما، والمرتد لا يدخل تحت واحد منها فلا يمكن اعتباره معصومًا بعد كفره.
وتختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية فى أنها لا تعاقب على تغيير الدين، ويرجع الخلاف إلى الأساس الذى قام عليه كل منهما، فالقوانين الوضعية قامت على أساس لا دينى فاقتضى منطقها أن لا يعاقب على تغيير الدين، والشريعة الإسلامية أساسها الدين الإسلامى فاقتضت طبيعتها العقاب على تغيير الدين الذى أسست عليه.
وقد جرى قانون العقوبات المصرى مجرى القوانين الوضعية التى أخذ عنها
_________
(1) يشترط الفقهاء قبل الحكم بعقوبة القتل على المرتد أن يستتاب ويعرض عليه الإسلام من جديد , فإن لم يتب قتل حداً.
(2) راجع: البحر الرائق ج5 ص125 , الإقناع ج4 ص301 , المهذب ج2 ص238 , مواهب الجليل ج6 ص233.
(3) راجع: الشرح الكبير للدردير ج4 ص271.(2/19)
فلم ينص على عقاب المرتد، وعدم النص لا يعنى أن الردة مباحة ولا عقاب عليه لأن الردة جريمة معاقب عليها بالقتل حدًا طبقًا لنصوص الشريعة التى لا تزال قائمة ولا يمكن أن تلغى أو تنسخ بالقوانين الوضعية كما بينا ذلك فى الجزء الأول من هذا الكتاب عند الكلام على الركن الشرعى للجريمة، فمن يقتل الآن مرتدًا لا يعاقب على قتله لأنه أتى فعلاً طبقًا للشريعة واستعمل حقًا من الحقوق التى قررتها له الشريعة (1) .
23 - ارتكاب جريمة من جرائم الحدود عقوبتها القتل: إذا ارتكب شخص جريمة من جرائم الحدود المقدرة حقًا لله تعالى عقوبتهاِِ القتل أصبح مهدرًا وزالت عصمته بارتكابه هذه الجريمة؛ لأن محل الجريمة حد من حدود الله، والحدود فى الأصل واجبة التنفيذ فورًا ولا تحتمل التأخير أو التهاون، كما أنها لا تحتمل العفو أو إيقاف التنفيذ، وتزول العصمة من يوم ارتكاب الجريمة لا من يوم الحكم بعقوبتها؛ لأن أساس زوال العصمة هو إتيان الجريمة وليس الحكم بالعقوبة، فالزنا من محصن عقوبته الرجم أى القتل، فإذا أتاه شخص أصبح مهدرًا بمجرد ارتكاب الجريمة، فإذا قتله آخر فقد قتل شخصًا مباح القتل ولا يعاقب على جريمة القتل ما دام أنه يستطيع إثبات وقوع الزنا بالأدلة المقررة لإثبات الزنا، فإذا عجز اعتبر قاتلاً وعوقب بالعقوبة المقررة للقتل العمد، على أنه لا يعفى من العقاب إطلاقًا إذا أثبت الزنا لأنه يعتبر مفتاتًا على السلطات العامة التى اختصت نفسها بتنفذ العقوبات، فيمكن أن يعاقب بعقوبة الافتيات على السلطات العامة.
ومثل الزنا من محصن جريمة قطع الطريق المعاقب عليها بالقتل أو القتل والصلب، فإن مرتكبها تزول عصمته بارتكابها ويصبح مهدر الدم، فمن قتله لا يعاقب على قتله وإنما يعاقب فقط على افتياته على السلطات العامة.
وليس فى جرائم الحدود المقدرة حقًا لله ما يعاقب عليه بالقتل إلا الزنا من محصن
_________
(1) راجع ما كتبناه عن اتعمال الحق وأداء الواجب فى الجزء الأول من هذا الكتاب.(2/20)
وقطع الطريق والردة وقد تكلمنا عن الردة فى الفقرة السابقة.
24 - ارتكاب جريمة القتل المعاقب عليها بالقصاص: يعتبر القتل قصاصًا حدًا من حدود الله ولكنه حد مقدر حقًا للأفراد وليس حقًا مقدرًا لله - أى للجماعة - ومن ثم فرقنا بينه وبين جرائم الحدود المقدرة حقًا لله كالزنا والردة وقطع الطريق.
والقتل الذى يستوجب القصاص من القاتل يزيل عصمة القاتل ويجعله مهدرًا من وقت ارتكاب الجريمة إهدارًا نسبيًا مطلقًا، فهو مهدر فقط بالنسبة لأولياء القتيل ولكنه معصوم بالنسبة لغيرهم، فإذا قتله أحد ولاة دم القتيل فلا يعتبر قاتلاً عمدًا لأن لأولياء القتيل فى الشريعة حق استيفاء القصاص من القاتل إذا كان القتل ظلمًا وعدوانًا تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] أما إذا قتله من ليس وليًّا للقتيل فإنه يعتبر قاتلاً عمدًا لأن القاتل الأول معصوم الدم بالنسبة للقاتل الثانى، وقد فصلنا الكلام فى هذا الموضوع فى الجزء الأول من هذا الكتاب بمناسبة الكلام على استعمال الحق وأداء الواجب.
25 - البغى: هو الثورة أو الدعوة إلى قلب الأنظمة من غير الطريق المشروع أو بالقوة، ويسمى الداعون له بغاة كما يسمى الفريق المؤيد للحالة القائمة أهل العدل. والبغاة أمرهم مختلف فيه، فيرى مالك والشافعى وأحمد (1) أنهم معصومون إلا فى حالة الحرب بينهم وبين أهل العدل، وفى حالة مهاجمتهم لأهل العدل، أو الاعتداء على أموالهم.
ويرى أبو حنيفة (2) أن البغاة غير معصومين فى أى حال وأن دمهم يهدر وعصمتهم تزول بالبغى. وطبقًا لهذا الرأى لا يعاقب قاتل الباغى بعقوبة القتل العمد، وإنما يعاقب باعتباره مفتاتًا على السلطات العامة، هذا إذا قتله فى غير حرب، أما القتل فى حالة الحرب فلا يعتبر جريمة باتفاق الفقهاء وطبقًا لرأى مالك والشافعى وأحمد يعتبر قاتل الباغى
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص278 , المهذب ج2 ص236 , الإقناع ج4 ص293.
(2) البحر الرائق ج5 ص142 , البدائع ج7 ص236.(2/21)
قاتلاً عمدًا إذا قتله فى غير حرب أو حيال أى دفاع عن النفس.
26 - ولا يزيل العصمة ارتكاب أية جريمة أخرى معاقب عليها بالقتل ما دامت العقوبة لا تجب حدًا أو قصاصًا: لأن لولى الأمر فى غير جرائم الحدود والقصاص حق العفو عن الجريمة، وحق العفو عن العقوبة (1)
، ومن ثم كانت العقوبة غير لازمة حتمًا، وكل عقوبة غير محتمة لا تزيل العصمة ولا تهدر الجانى حتى ولو حكم بها لأن من الجائز أن يعفو ولى الأمر عن العقوبة فى اللحظة الأخيرة.
_________
(1) ليس لولى الأمر حق العفو فى جرائم القصاص , ولكن لأولياء الدم حق العفو بمقابل أو بغير مثابل وبالرغم من تقرير هذا الحق لأولياء الدم واحتمال عفوهم حتى اللحظة الأخيرة فإن الجانى يعتبر مهدر الدم لأولياء الدم حتى يعفوا فإن عفوا أو عفا أحدهم عاد معصوم الدم كما كان قبل ارتكاب الجريمة. وقد يظن أن هناك تناقضاً بين حكم هذه الحالة وحكم الجرائم التى لولى الأمر حق العفو فيها , ففى جرائم القصاص يعتبر الجانى مهدر الدم من وقت ارتكاب الجريمة مع أن لولى الدم حق العفو , وفى الجرائم التى يملك ولى الأمر فيها حق العفو يعتبر الجانى معصوم الذنب الى وقت تنفيذ العقوبة. والواقع أنه لا تناقض أصلاً , لأن العقوبة من حق الجماعة لا من حق الأفراد , وولى الأمر يعتبر ممثل الجماعة , وقد اقتضت المصلحة العامة حرمان ممثل الجماعة من حق العفو فى جرائم القصاص , تحقيقاً لعدل والمساواة وحفظاً للدماء , كما اقتضت المصلحة العامة التعجيل فى تنفيذ العقوبة , فأصبحت عقوبة القصاص بهذا لازمة واجبة التنفيذ من وقت وقوع الجريمة , واقتضى هذا النظر اعتبار الجانى مهدراً , فاهدار دم الجانى فى جرائم القصاص اقتضته المصلحة العامة. أما العقوبات التى يجوز فيها عفو ولى الأمر , فإن تقرير العفو فيها استوجبته المصلحة العامة أيضاً , فوجب تحقيقاً لهذه المصلحة أن يعتبر الجانى معصوماً ما دام العفو مكناً؛ لأن العقوبة لا تعتبر لازمة ولا واجبة التنفيذ حتماً ما دام العفو محتملاً , فالأهدار فى جرائم القصاص استوجبته المصلحة العامة , والعصمة فى غيرها اقتضتها المصلحة العامة.. وليلاحظ فوق هذا أن ولى الأمر حين يعفو أنما يعفو عن حق الجماعة وهو حق عام , وأن ولى الدم حين يعفو عن حقه فى القصاص أنما يعفو عن حقه وهو حق خاص , ولا يمكن أن نرتب على العفو عن حقين مختلفين فى طبيعتهما نتائج واحدة.(2/22)
وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة فى هذه النقطة حيث تعتبر القوانين الجانى معصومًا ولو حكم عليه بالإعدام ولكنها تخالف الشريعة فى تعميم هذا الحكم بالنسبة لكل الجرائم. وأساس هذا الخلاف أن جرائم الحدود والقصاص فى الشريعة لا تقبل العفو ولا تحتمل الإمهال والتأخير فى تنفيذ العقوبة، فاقتضى هذا اعتبار مرتكب الجريمة المعاقب عليها بالقتل مهدرًا من يوم ارتكاب الجريمة؛ لأن من الواجب توقيع العقوبة عليه فورًا، ولأن العقوبة لازمة محتمة، أما القوانين الوضعية فتجيز العفو فى كل الجرائم ومن ثم كانت العقوبة فيها غير لازمة حتمًا كما هو الشأن فى الشريعة فى غير جرائم الحدود والقصاص، وقد اقتضى هذا المنطق اعتبار الجانى معصومًا حتى بعد صدور الحكم عليه بالإعدام لجواز العفو عنه.
27 - وقت العصمة: لمعرفة وقت العصمة أهمية كبرى، لأن تحديد مسئولية الجانى يتوقف على معرفة حال المجنى عليه، فإن كان معصومًا فالجانى مسئول عن قتله وإن كان مهدرًا فلا مسئولية.
وقد اختلف فى تحديد وقت العصمة فأبو حنيفة يرى أن وقت العصمة هو وقت الفعل لا غير، فإن كان المجنى عليه معصومًا وقت الفعل فالجانى مسئول عن فعله وإلا فلا، فإذا جرح مسلمًا يقصد قتله ثم ارتد المجروح بعد الجرح ومات وهو مرتد فإن الجارح لا يسأل عن القتل، وإنما يسأل فقط عن الجرح الذى أحدثه فى معصوم، وحجته أن مسئولية الجانى لا يصبح قتلاً إلا بفوات حياة المقتول، وقد فاتت حياة المقتول فى وقت لم يكن فيه معصومًا فكان القتل هدرًا.
ويرى أبو يوسف ومحمد أن وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعًا، وحجتهما أن للفعل تعلقًا بالقاتل والمقتول لأنه - فعل القاتل وأثره - يظهر فى المقتول بفوات الحياة فلا بد من اعتبار العصمة فى الوقتين جميعًا.
والظاهر(2/23)
أنه لا فرق بين رأى أبى حنيفة ورأيهما إذا اعتبرنا حجة أبى حنيفة، لأنه استند فى حجته إلى وقت الموت ونفى مسئولية الجانى عن القتل على أساس أن المجنى عليه لم يكن معصومًا وقت أن أصبح الفعل قتلاً أى وقت موت المجنى عليه فكأنه بهذا ينظر إلى وقت الفعل ووقت الموت معًا، وهذا نفس ما يقول به أبو يوسف ومحمد. ويرى - زفر - أن وقت العصمة هو وقت الموت لا غير.
ويختلف أبو حنيفة مع أبى يوسف ومحمد فى تحديد وقت العصمة عند الرمى فيرى أبو حنيفة أن وقت العصمة هو وقت الرمى لا وقت الإصابة، ويرى أبو يوسف ومحمد أن وقت العصمة هو وقت الإصابة لا وقت الرمى. وحجة أبى حنيفة أن مسئولية الجانى تترتب على فعله ولا فعل منه غير الرمى. ولا يدخل فى قدرته غيره فيصير قاتلاً به إذا كان المجنى عليه معصومًا عند الرمى، وحجة أبى يوسف ومحمد أن العبرة بوقت التلف وهو وقت الإصابة، فإن حصل التلف فى محل معصوم استحق الجانى العقوبة، وإن كان المحل غير معصوم وقت التلف فلا عقوبة، وعلى هذا لو رمى شخص آخر برصاصة فارتد المجنى عليه بعد الرمى وقبل أن يصاب فالجانى مسئول عند أبى حنيفة لأن المجنى عليه كان معصومًا وقت الرمى، وأما عندهما فهو غير مسئول لأن المجنى عليه لم يكن معصومًا وقت الإصابة (1) .
ويرى أصحاب مالك والشافعى وأحمد أن وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت، ولكن الفقهاء فى المذاهب الثلاثة يختلفون فى تحديد وقت العصمة حالة الرمى، فيرى بعضهم أنه وقت الرمى، ويرى البعض الآخر أنه حالة الإصابة (2) .
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص326, بدائع الصنائع ج7 ص253.
(2) مواهب الجليل ج6 ص244, المغنى ج9 ص342 وما بعدها.(2/24)
وقد وضح فقهاء المذهب الشافعى قاعدة لتغير حال المجنى عليه بين العصمة والإهدار فقالوا: "إن كل جرح وقع أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونًا يتغير الحال فى الانتهاء وما ضمن فيهما يعتبر قدر الضمان فيه بالانتهاء", فإذا جرح شخصًا حربيًا أو مرتدًا ثم أسلم الحربى أو المرتد ومات من جرحه بعد إسلامه فلا مسئولية على الجارح؛ لأن الجرح وقع غير مضمون، أى وقع على مهدر، فلا جريمة فى فعله، وإذا جرح مسلمًا فارتد بعد الجرح ثم مات من جرحه فلا يسأل الجانى إلا عن الجرح والنفس هدر؛ لأن الفعل أصبح قتلاً أثناء الردة، وقتل المرتد لا عقوبة عليه، ولو قتله مباشرة بعد الردة لم يكن مسئولاً عن قتله، ويرى البعض أنه لا يسأل حتى عن الجرح من باب أولى ما دام غير مسئول عن النفس (1) .
* * *
الركن الثانى: القتل نتيجة لفعل الجاني
28 - فعل مميت من الجانى: يشترط لتحقق هذا الركن أن يحدث القتل بفعل الجانى، وأن يكون من شأن هذا الفعل إحداث الموت، فإن كان القتل نتيجة لفعل لا يمكن نسبته إلى الجانى أو لم يكن فعل الجانى ما يحدث الموت فلا يمكن اعتبار الجانى قاتلاً.
29 - نوع الفعل: ولا يشترط أن يكون الفعل من نوع معين لاعتباره قتلاً. فيصح أن يكون ضربًا أو جرحًا أو ذبحًا أو حرقًا أو خنقًا أو تسميمًا
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص264 وما بعدها.(2/25)
أو غير ذلك، ويصح أن يقع الفعل من الجانى مرة واحدة، ويصح أن يقع على التوالى فى مدة طالت أو قصرت.
30 - أداة الفعل ووسيلته: ولما كان العرف قد خصص لكل آلة استعمالاً، ولكل فعل من الأفعال القاتلة أداة أو وسيلة تحدثه أو يحدث بها ولا يمكن أن يحدث الفعل القاتل بغيرها، ولما كانت الوسائل والأدوات القاتلة تختلف اختلافًا بينًا فى قوتها وضعفها وأوجه استعمالها وتأثيرها على الجسم وتأثر الجسم بها، فقد رأى أكثر الفقهاء أن يرتبوا على اختلاف طبائع هذه الوسائل وآثارها اختلاف أحكامها وشروطها. وسنبين فيما يلى آراء الفقهاء المختلفة.
31 - رأى مالك: ولا يشترط الإمام مالك شروطًا خاصة فى الفعل القاتل أو فى أداة القتل فعنده "أن كل ما تعمده الإنسان من ضربة بلطمة أو بلكزة أو ببندقية أو بحجر أو بقضيب أو بغير ذلك؛ كل هذا قتل عمد، إذا مات فيه المجنى عليه"، "وأن هناك أشياء يتعمد الإنسان فعلها مثل: الرجلين يصطرعان فيصرع أحدهما صاحبه، أو يتراميان بالشىء على وجه اللعب، أو يأخذ أحدهما برجل الآخر على حال اللعب، فيسقط فيموت من هذا كله، فهذا هو القتل الخطأ ولا يكون قتلاً عمدًا لأن الجانى تعمده على وجه اللعب، فإذا تعمده على وجه القتال والغضب فصرعه فمات أو أخذ برجله فسقط فمات، فهو قتل عمد" (1) .
هذا هو نص المدونة، وظاهر منه أنه لا يشترط فى الفعل القاتل أو أداة القتل شروطًا خاصة، فاللطمة وهى لا تقتل غالبًا ولا كثيرًا تعتبر قتلاً عمدًا إذا مات منها المجنى عليه، وكذلك الضرب بالقضيب - أى العصا - والأخذ برجل المجنى
_________
(1) راجع مدونة الإمام مالك ج16 ص108 , والعبارات التى وضعت بين قوسين هى نص المدونة مع تصرف اقتضاء ربط العبارات.(2/26)
عليه ومصارعته وقذفه بحجر كبير أو صغير ولا يشترط لاعتبار كل هذا قتلاً عمدًا إلا أن يتعمد الجانى الفعل على وجه العدوان ولو لم يقصد القتل.
ولكن بعض فقهاء المالكية بالرغم من ذلك يعرفون القتل العمد بأنه إتلاف النفس بآلة تقتل غالبًا أيا كان نوعها، أو بإصابة المقتل كعصر الأنثيين وشدة الضغط والخنق (1) . وظاهر من هذا التعريف أنهم يرون أن تكون آلة القتل مما يقتل غالبًا.
ويرى البعض الآخر أن الفعل يعتبر قتلاً عمدًا سواء كانت أداة القتل مما يقتل غالبًا كالسيف أو مما لا يقتل غالبًا كالعصا وكل ما يشترطونه لاعتبار القتل عمدًا أن لا يكون الفعل قد وقع بقصد اللعب أو التأديب (2) . وهذا الرأى هو الذى يتفق مع ما يقول به مالك من تقسيم القتل إلى عمد وخطأ فقط؛ لأن الفعل إما أن يكون عمدًا أو خطأ ولا يمكن اعتبار القتل بآلة لا تقتل غالبًا كالعصا قتلاً خطأ مع تعمد الجانى الفعل وقصده القتل.
32 - رأى الشافعى وأحمد: ويشترط الإمامان الشافعى وأحمد أن يكون القتل مما يقتل غالبًا ولو كانت الأداة مثقلاً لا يجرح (3) ، فإن لم تكن الأداة قاتلة غالبًا فالقتل ليس عمدًا وإنما شبه عمد.
وأدوات القتل على ثلاثة أنواع: نوع يقتل غالبًا بطبيعته كالسيف والسكين والرمح والإبرة المسممة والبندقية والمسدس وعمود الحديد والعصا الخفيفة، ونوع يقتل نادرًا بطبيعته كالإبرة غير المسممة واللطمة واللكزة.
وما يقتل كثيرًا أو نادرًا بطبيعته قد يقتل غالبًا فى بعض الظروف؛ كمرض المجنى عليه أو صغره أو لوقوع الإصابة فى مقتل، ولمعرفة ما إذا كانت الأداة
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص240.
(2) الشرح الكبير للدردير ح4 ص215.
(3) المثقل ما ليس له حد يجرح ولا سن يطعن كالعصا والحجر.(2/27)
من هذين النوعين تقتل غالبًا أم لا يجب أن لا ننظر إلى الأداة وحدها مجردة عن كل ظرف آخر، بل علينا أن نظر إلى الأداة وينظر معها إلى صورة الفعل وظروفه وإلى حال المجنى عليه وموقع الفعل من جسمه وأثر الفعل فيه.
فإذا كانت الأداة تقتل غالبًا مع إدخال أحد هذه العناصر أو كلها فى الحساب فالفعل قتل عمد، وإذا كانت الأداة لا تقتل غالبًا مع النظر إلى أى عنصر من هذه العناصر فالفعل قتل شبه عمد، فمثلاً السوط أداة عدوان والعصا الخفيفة كذلك والضرب بأيهما لا يقتل غالبًا وإن قتل كثيرًا، ولكن تعدد الضربات وموالاتها يقتل غالبًا والضرب بأيهما فى الحر الشديد والبرد الشديد يقتل غالبًا، والضرب بهما فى مقتل كالبطن يقتل غالبًا وكذلك الضرب فى غير مقتل إذا أدى إلى الموت فى الحال، أو ترك آثارًا وآلامًا انتهت بالموت، وإذا كانت أداة القتل لا تقتل إلا نادرًا كالإبرة غير المسممة فإنها تعتبر مما يقتل غالبًا إذا بولغ فى إدخالها فى غير مقتل، أو إذا غرزت فى مقتل كالحلق والخصارة والمثانة أو فى مكان حساس أو إذا أدى غرزها إلى الموت فى الحال، والموت فى الحال مختلف فيه، فيرى البعض أنه قتل عمد، ويراه البعض أنه شبه عمد لأن المفروض أن الآلة لا تقتل غالبًا، وما دامت الإصابة فى غير مقتل وليس فى ظروف الفعل أو صورته أو حال المجنى عليه ما يجعل الفعل قاتلاً فى الغالب أو ترك آلامًا وآثارًا انتهت بالموت (1) .
33 - رأى أبى حنيفة: ويشترط الإمام أبو حنيفة فى أداة القتل أكثر مما يشترطه الإمامان الشافعى وأحمد، فهو يشترط مثلهما أن تكون أداة القتل
_________
(1) راجع فى مذهب الشافعى: نهاية المحتاج ج7 ص238 وما بعدها , حاشية البجيرمى على المنهج ج4 ص130 وما بعدها , تحفة المحتاج ج4 ص3 وما بعدها , المهذب ج2 ص187 وما بعدها وراجع فى مذهب ابن حنبل: المغنى ج9 ص321 وما بعدها , الشرح الكبير ج9 ص320 وما بعدها , الإقناع ج4 ص163 وما بعدها.(2/28)
ما يقتل غالبًا، ويشترط أكثر منهما أن تكون الأداة مما يُعَدُّ للقتل، ولا يغنى عنده الشرط الأول عن الأخير، والآلة المعدة للقتل عنده هى كل آلة جارحة أو طاعنة ذات حد لها مَورْ فى الجسم، سواء كانت من الحديد أو النحاس أو الخشب أو غير ذلك كالسيف والسكين والرمح والإبرة وما أشبه ذلك أو ما يعمل عمل هذه الأشياء فى الجرح والطعن كالنار والزجاج والمروة والرمح الذى لا سنان له ونحو ذلك. وهناك رواية أخرى عن أبى حنيفة بأن الأداة المعدة للقتل هى ما كانت من الحديد ولو لم تكن جارحة أو طاعنة كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس ويلحق بالحديد ما هو فى معناه كالرصاص والنحاس وغيرهما من المعادن.
فعلى هذه الرواية العبرة بالحديد وما هو فى حكمه سواء جرح أو لم يجرح وعلى الرواية السابقة العبرة بالجارح أو الطاعن سواء كان من حديد أو غير حديد وهى الرواية الراجحة.
فإذا كانت الآلة مما يقتل غالبًا، وكانت معدة للقتل كالسيف أو البندقية فالفعل قتل عمد فى رأى أبى حنيفة، أما إذا كانت الآلة مما يقتل غالبًا ولكنها ليست جارحة ولا طاعنة فالفعل قتل شبه عمد فى رأيه ولو كانت الآلة مدققة مكسرة كالخشبة الكبيرة والحجر الثقيل. والصور الآتية لا تعتبر فى رأى أبى حنيفة قتلاً عمدًا ولو كانت نية الضارب منصرفة لقتل وإنما هى فى رأيه قتل شبه عمد:
1 - أن يقصد الجانى القتل بعصًا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة مما لا يقتل غالبًا وبشرط أن لا تتوالى الضربات وذلك لأن الأداة لا تقتل غالبًا، ولأنها غير معدة للقتل ولكن هذه الصورة تعتبر قتلاً عمدًا عند مالك دون شرط وتعتبر قتلاً عمدًا عند الشافعى وأحمد إذا كانت صورة الفعل أو ظرفه أو حال المجنى عليه أو موقع الإصابة وأثرها فى جسمه مما يجعل الأداة قاتلة غالبًا.
2 - أن يقصد الجانى القتل بما لا يقتل غالبًا مع موالاة الضربات حتى يموت(2/29)
المجنى عليه. فهذه الصورة لا تعتبر قتلاً عمدًا عند أبى حنيفة؛ لأن أداة القتل لا تقتل غالبًا، ولأنها غير معدة للقتل، أما عند مالك والشافعى وأحمد فهى قتل عمد، وقد اعتبرها مالك عمدًا لمجرد تعمد الفعل بقصد العدوان أما الشافعى وأحمد فقد اعتبرا هذه الصورة قتلاً عمدًا لأن موالاة الضرب حتى الموت تجعل أداة القتل قاتلة غالبًا، ويكفى عندهما كما قدمنا أن تكون الأداة قاتلة غالبًا ليكون الفعل قتلاً عمدًا.
3 - أن يقصد الجانى القتل بمثقل يقتل غالبًا أى بأداة ثقيلة ليست جارحة ولا طاعنة؛ كمدقة القصارين والحجر الكبير والعصا الغليظة وما أشبه وهذه الصورة أيضًا لا تعتبر عند أبى حنيفة قتلاً عمدًا لأن الأداة وإن كانت تقتل غالبًا إلا أنها ليست مما يعد للقتل.
ولكن مالكًا والشافعى وأحمد يعتبرون هذه الصورة من صور القتل العمد ويأخذ أبو يوسف ومحمد من فقهاء مذهب أبى حنيفة رأى الأئمة الثلاثة فيعتبران هذه الصورة قتلاً عمدًا مخالفين رأى أبى حنيفة ورأيهما هو الراجح فى المذهب (1) .
على أن موافقة أبى يوسف ومحمد للأئمة الثلاثة لا تعنى الآخذ برأى أحدهم وترك رأى صاحبهما أبى حنيفة فإنهما قد وافقا الأئمة الثلاثة على تمسكهما بقاعدة أبى حنيفة وهى اشتراط أن تكون الآلة مما يقتل غالبًا وأن تكون معدة للقتل، وكل ما فى الأمر أنهما اعتبرا المثقل أداة معدة للقتل على اعتبار أن المثقل يستعمل غالبًا فى القتل فأصبح بهذا الاستعمال أداة قاتلة، وما دام المثقل أداة تقتل غالبًا ومعدة للقتل فالقتل به قتل عمد على شرط أبى حنيفة وهكذا جاء اتفاقهما مع الأئمة الثلاثة نتيجة لمخالفة أبى حنيفة فى اعتبار المثقل أداة معدة للقتل لا نتيجه للأخذ برأى أحد من الأئمة الثلاثة.
34 - أساس الخلاف بين مالك والفقهاء الثلاثة: أساس الخلاف أن
_________
(1) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص233 , البحر الرائق ج8 ص287, الزيلعى ح6 ص98.(2/30)
مالكًا لا يعترف بالقتل شبه العمد، ويرى أنه ليس فى كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسمًا ثالثًا زاد على النص ذلك أن القرآن نص على القتل العمد والقتل الخطأ فقط ولم ينص على غيرهما فقال تعالى: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 92, 93] .
والقتل العمد عند مالك هو: كل فعل تعمده الإنسان بقصد العدوان فأدى للموت أيًا كانت الآلة المستعملة فى القتل أما ما تعمده على وجه اللعب أو التأديب فهو قتل خطأ إذا لم يخرج الفعل عن حدود اللعب والتأديب المعروفة وكان بآلة اللعب والتأديب المعدة لهما، فإن خرج عن ذلك فهو قتل عمد.
ومن طبيعة تقسيم القتل إلى عمد وخطأ أن يكتفى بتعمد الجانى الفعل على وجه العدوان دون النظر إلى الآلة المستعملة فى القتل، لأن اشتراط شروط فى الآلة كأن تكون قاتلة غالبًا أو معدة للقتل يقتضى أن تكون كل الأفعال المتعمدة التى تحصل بآلة لا تقتل غالبًا كالعصا الخفيفة والسوط فلا خطأ حتى مع تعدد الضرب وموالاته. كما يقتضى أن تكون الأفعال المتعمدة التى تحصل بما لم يعد للقتل كإسقاط حائط على إنسان أو إلقائه من شاهق أو ضربه بعصًا غليظة قتلاً خطأ وهذا ما لم يقل به أحد قط، فطبيعة تقسيم القتل إلى عمد وخطأ هى التى اقتضت من مالك أن لا يشترط فى الآلة القاتلة أى شرط وسواء كانت الآلة تقتل غالبًا أو تقتل كثيرًا أو نادرًا فالقتل عمدٌ ما دام الفعل عمدًا وبقصد العدوان. بل إن هذا التقسيم اقتضى أن لا يشترط حتى قصد القتل؛ لأن اشتراطه يخرج بكثير من حالات العمد ويجعلها خطأ، وهى ليست كذلك.(2/31)
35- أما بقية الأئمة فيرون أن القتل عمد وشبه عمد وخطأ: وحجتهم فى شبه العمد حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن فى قتيل السوط.." الحديث. فاقتضت منهم طبيعة هذا التقسيم أن يفرقوا بين نوعين من الأفعال المتعمدة هما: القتل العمد، والقتل شبه العمد، زقد استعانوا فى التفرقة بين هذين النوعين بمميز صالح للتمييز هو قصد القتل، فإذا قصد الجانى القتل فالفعل قتل عمد، وإذا لم يقصده فهو قتل شبه عمد، لكنهم وجدوا أن القصد أمر داخلى يتعلق بنية الجانى وقلما يطلع الآخرون عليه، وأن وجوده يكون دائمًا مشكوكًا فيه ما لم يدل عليه دليل خارجى فإذا وجد هذا الدليل الخارجى زال الشك ومن ثم رأوا أن قيام قصد القتل فى نية الجانى لا يكفى وحده لثبوته واشترطوا لاعتبار القصد ثابتًا أن يكون من ثبوته دائمًا عن طريق الوسيلة أو الآلة التى ارتكبت بها الجريمة لأنها تعبر عن نية الجانب وقصده من الجريمة، ولأنها هى الدليل الخارجى الظاهر على نية الجانى.
ولما أرادوا تحديد هذا الدليل الخارجى اختلفوا: فرأى الشافعى وأحمد أن الدليل على قصد القتل هو استعمال آلة أو وسيلة تقتل غالبًا. ورأى أبو حنيفة أن الدليل الخارجى على قصد القتل هو استعمال آله أو وسيلة تقتل غالبًا على أن تكون الآلة والوسيلة مما يعد للقتل.
36- كيف يثبت قصد القتل؟: ويخلص مما سبق أن قصد القتل يثبت من وجهين:
أولاً: عن طريق الآلة المستعملة فى الجريمة. ثانيًا: عن طريق الأدلة العادية كالاعتراف، وشهادة الشهود. ولكن لا يمكن أن يعتبر القصد ثابتًا بأى حال ما لم يثبت قصد القتل عن الطريق الأول، لأن كل إثبات يجئ عن الطريق الثانى يعتبر مشكوكًا فيه حتى يزول الشك بثبوت القصد عن طريق الآلة أو الوسيلة المستعملة فى القتل.
واعتبار القصد الجنائى ثابتًا باستعمال آلة قاتلة ليس قرينة قاطعة ولا دليلاً غير قابل للنفى، فيجوز للجانى أن يثبت أنه لم يستعمل الآلة القاتلة بقصد القتل، فإذا استطاع إثبات دفاعه انتفى وجود قصد القتل واعتبر الفعل قتلاً شبه عمد.(2/32)
37 - أساس الخلاف بين الشافعى وأحمد وبين أبى حنيفة: أما الخلاف بين الشافعى وأحمد من جهة وبين أبى حنيفة من جهة أخرى فأساسه اختلاف وجهة النظر فى تحديد معنى القتل العمد، فأبو حنيفة يرى أن عقوبة القتل العمد عقوبة متناهية فى الشدة، وهذا يستدعى أن تكون جريمة العمد متناهية فى العمد، بحيث يكون القتل عمدًا محضًا لا شبهة فيه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمد قود" فشرط العمد مطلقًا من كل قيد والعمد المطلق هو العمد الكامل من كل وجهة، أو هو العمد الذى لا شبهة فيه, فلا يعتبر العمد كاملاً مع قيام الشبهة ووجودها ذلك أن الفرق بين العمد وشبه العمد هو قصد القتل فقط، فيجب أن يكون القصد بحيث لا شبهة فيه, والشبهة لا تكون إذا كان القتل بآلة تقتل غالبًا ومعدة للقتل لأن استعمال هذه الآلة يظهر بجلاء قصد الجانى بحيث لا يدخله الاحتمال ولا الشبهة فما كان هكذا اعتبر العمد فيه كاملاً من كل وجه وكان قتلاً عمدًا، ولهذا اعتبر أبو حنيفة القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل قتلاً شبه عمد, ولم يعتبره قتلاً عمدًا لأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة، بل يقصد به التأديب والتهذيب عادة فكان هذا الاعتبار شبهة فى القصد، والقتل العمد لا يعتبر موجودًا مع قيام الشبهة فى القصد، وكذلك اعتبر الموالاة فى الضرب بقصد القتل قتلاً شبه عمد إذا أدى الضرب للموت، لأنه يحتمل حصول القتل بضربة أو ضربتين على سبيل الاستقلال دون حاجة إلى الضربات الأخرى، والقتل بضربة أو ضربتين لا يكون عمدًا كما تبين مما سبق لاحتمال أن الضربة والضربتين قصد بها التأديب والتهذيب، والقاعدة عند أبى حنيفة أنه إذا جاء الاحتمال جاءت الشبهة وإذا جاءت الشبهة امتنع القول بتوفر قصد القتل وبالتالى بتوفر القتل العمد.
أما فى المثقل: فيرى أبو حنيفة أن استعمال آلة تقتل غالبًا ولكنها غير معدة للقتل هو فى ذاته دليل على عدم القصد، لأن الأصل عنده أن كل فعل يحصل(2/33)
بالآلة المعدة له، فإذا حدث بآلة لم تعد له احتمل أن الفاعل لم يقصد هذا الفعل بالذات، وهذا الاحتمال شبهة والشبهة تمنع القول بالقتل العمد.
38 - أما الشافعى وأحمد: فمن رأيهما أن الاكتفاء بأن تكون الآلة قاتلة غالبًا أيًا كان نوعها؛ لأنها إذا كانت كذلك فهى بذاتها دليل على توفر قصد القتل وانتفاء قصد التأديب والتهذيب فإذا انضم هذا إلى وجود قصد القتل فى نية الفاعل، كان العمد كاملاً لا شبهة فيه، ووجوب اعتبار الفعل قتلاً عمدًا.
وعلى هذا الأساس اعتبرا الضربة والضربتين بعصًا خفيفة قتلاً عمدًا إذا كانت الآلة تقتل غالبًا لظروف المجنى عليه أو الفعل أو غير ذلك، كما أنهما اعتبرا الموالاة فى الضرب قتلاً عمدًا؛ لأن الموالاة تجعل الآلة قاتلة غالبًا واعتبرا الضرب بالمثقل قتلاً عمدًا لأنه يقتل غالبًا فكان اتعماله دليل القصد إلى القتل، فإذا انضم هذا إلى أصل القصد الكامن فى نية الجانى كان العمد كاملاً لا شبهة فيه.
39 - خلاف أبى يوسف ومحمد لأبى حنيفة: خالفاه فى المثقل واعتبرا القتل به قتلاً عمدًا، بينما اعتبر أبو حنيفة بالمثقل قتلاً شبه عمد كما بينا، وحجتهما أن الضرب بالمثقل مهلك غالبًا وأنه لا يستعمل فى الضرب إلا بقصد القتل، فجعله هذا الاستعمال أداة معدة للقتل ومن ثم كان استعماله باعتباره آلة تقتل غالبًا ومعدة للقتل دليلاً على قصد القتل كاستعمال السيف، ووجب اعتبار الفعل قتلاً عمدًا لانتفاء الشبهة فى القصد ولوجود العمد كاملاً (1) .
40 - بين الشريعة والقانون: لا تفترق آراء شراح القوانين كثيرًا عن آراء الفقهاء التى عرضناها فشراح القوانين يفرقون كما يفرق الفقهاء بين الفعل القاتل وسيلة القتل ويشترط الشراح عمومًا فى القتل الموقوف أو الخائب الأثر أن تكون الوسائل المستخدمة فيه مما يحدث الموت، لأن تخلف هذا الشرط يجعل الجريمة مستحيلة الوقوع بالوسيلة التى استخدمها الجانى.
_________
(1) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص234 , البحر الرائق ج8 ص288.(2/34)
41 - ويختلف الشراح فيما إذا كانت وسيلة القتل لا تحدث القتل غالبًا وكانت تحدثه فى الكثير أو النادر: كمن يلطم الآخر أو يلكزة أو يضربه بعصًا رفيعة أو يجرحه فى غير مقتل وهو قاصد قتله. فيرى البعض وهم أصحاب النظرية المستحيلة أن الفعل إذا لم يؤد للوفاة لا يعتبر شروعًا قى قتل عمد؛ لأن نية القتل عندهم لا تكفى وحدها لاعتبار القتل عمدًا بل يجب أن تكون أداة القتل من شأنها إحداث القتل؛ أى مما يقتل غالبًا لأن الجرح والضرب قد يقتل كثيرًا أو نادرًا وليس هذا الشأن اللطم واللكز والضرب الخفيف والجرح فى غير مقتل. وعلى هذا الأساس يعتبرون الضرب والجرح فى هذه الحالة ضربًا عاديًا.
ويرى البعض الآخر أن مثل هذه الأفعال يصح أن تكون شروعًا فى قتل لأنها تؤدى غالبًا للموت إذا تكرر وقوعها أى مع موالاة الضرب والجرح أو تعدد الإصابات.
ورأى الفريق الأول يتفق مع رأى أبى حنيفة فى الضرب البسيط وضرب الموالاة كما يتفق مع رأى أبى يوسف ومحمد فى الضرب بالمثقل، لأنهم ينظرون إلى طبيعة أداة القتل دون نظر إلى تعدد الفعل وظروفه وحال المجنى عليه وأثر الفعل فيه أما رأى الفريق الثانى فيتفق تمامًا مع رأى الشافعى وأحمد ومن باب أولى مع رأى مالك. ويلاحظ أن نفى الاتفاق فيما يختص بأداة القتل فقط لا فيما يختص بالمسئولية عن الفعل.
42 - أما إذا أعقب الضرب والجرح البسيط حدوث الموت: فعامة الشراح فى فرنسا على أن الفعل يعتبر ضربًا أفضى إلى الموت إذا أمكن القطع بأن الوفاة نشأت عن الضرب والجرح. أما إذا كان من المرجح أن مرض المجنى عليه السابق على الواقعة أو التالى لها وإهماله العلاج هو الذى سبب الموت، فلا يسأل الجانى إلا عن الضرب فقط دون الموت ولو أن المجنى عليه لم يمت إلا على أثر الضرب أو الجرح؛ لأن الموت فى نظر هؤلاء الشراح لم يكن نتيجة مباشرة لفعل الجاني؛ أى أن فعل الجانى لم يكن السبب المنتج، بل هو سبب(2/35)
عارض فقط، وهذا يتفق كل الاتفاق مع رأى أبى حنيفة فى القتل العمد عمومًا كما يتفق مع رأى أبى يوسف ومحمد فى مسألة المثقل (1) .
43 - الأفعال المتصلة بالقتل: والأفعال التى تتصل بالقتل لا تعدو فعلاً من ثلاثة فهى: إما مباشرة، وإما سبب، وإما شرط. والتمييز بين هذه الأفعال ضرورى للتمييز بين القاتل وغير القاتل (2) .
44 - المباشرة: يعرف الفقهاء المباشرة بأنها ما أثر فى التلف وحصله؛ أى ما جلب الموت بذاته دون واسطة وكان علة له؛ كالذبح بسكين فإن الذبح يجلب الموت بذاته وهو فى الوقت نفسه علة الموت، وكالخنق فإنه متلف بذاته للمجنى عليه وهو فى الوقت نفسه عله تلفه، أى: ما أتلف المجنى عليه وكان علة تلفه.
45 - ويعرفون السبب: بأنه ما أثر فى التلف ولم يحصله أى ما كان علة للموت ولكنه لم يحصله بذاته وإنما بواسطة كشهادة الزور على برىء بالقتل فإنها علة للحكم عليه بالإعدام ولكنها لا تجلب بذاتها الإعدام، وإنما الذى يجلبه فعل الجلاد الذى يتولى تنفيذ الحكم، وكذلك حفر بئر وتغطيتها فى طريق المجنى عليه بحيث يسقط فيه ويموت من سقطته.
والسبب على ثلاثة أنواع:
1 - حسى: كالإكراه فإنه يولد فى المكره داعية القتل.
2 - شرعى: كشهادة الزور على القتل، فإنها تولد فى القاضى دواعى الحكم بالإعدام.
3 - ما يولد المباشرة توليدًا عرفيًا لا حسيًا ولا شرعيًا: كتقديم الطعام المسموم إلى الضيف وحفر بئر وتغطيتها فى طريق القتيل،
_________
(1) راجع: أحمد بك أمين ص309 الموسوعة الجنائية ج5 ص685, 687.
(2) راجع: نهاية المحتاج ج7 ص240, الوجيز للإمام الغزالى ج2 ص122 وما بعدها.(2/36)
فإن حفر البئر علة للموت ولكن الحفر ليس هو الذى أمات المجنى عليه وإنما السقطة هى التى أماتت والسبب يشبه المباشرة من وجه فكلاهما علة للموت؛ فمعنى ذلك أن الفعل المباشر المؤدى للموت يتولد عن السبب.
46- الشرط: هو ما لا يؤثر فى التلف ولا يحصل بل يحصل التلف عنده بغيره ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه أى هو ما لا يكون علة للموت ولا يجلب الموت، أو هو كل فعل لم يتلف المجنى عليه، ولم يكن علة فى تلفه ولكن وجوده جعل فعلاً آخر متلفًا أو علة فى التلف ولولا وجوده ما كان لهذا الفعل الآخر ذلك التأثير. ومثل ذلك أن يلقى إنسان بآخر فى بئر حفره ثالث بغير غرض للقتل، فيموت الثانى، فإن ما أثر فى التلف وحصله هو الإلقاء لا حفر البئر ولكن الإلقاء ما كان يمكن أن يكون له الأثر الذى حدث لولا وجود البئر.
47 - المسئولية عن المباشرة والمتسبب والشرط: صاحب الشرط لا مسئولية عليه إطلاقًا لأن فعله ليس علة للموت ولم يؤد للموت لا بالذات ولا بالواسطة أما صاحب المباشرة وصاحب السبب فكلاهما مسئول عن فعله لأنه علة للموت وأدى إليه بالذات أو الواسطة، فيستوى بذلك لدى الفقهاء أن يكون القتل العمد مباشرة أو تسببًا إذ لا عبرة بالفرق الظاهر بين المباشرة والسبب وإذا كان فعل الجانى مباشرة سمى القتل قتلاً مباشرًا وإذا كان سببًا سمى القتل قتلاً بالتسبب.
48 - قدرة المجنى عليه على دفع أثر المباشرة والتسبب: ويدق الأمر فى تحديد المسئولية إذا كان المجنى عليه قادرًا على دفع أثر فعل الجانى، وقد وضع بعض الفقهاء القواعد الآتية بحكم هذه الحالة:
1 - إذا كان الفعل مهلكًا والدفع غير موثوق به كترك معالجة الجرح، اعتبر القاتل قاتلاً ولا عبرة بترك العلاج.
2 - إذا كان الفعل غير مهلك والدفع موثوق به كمن ألقى آخر فى ماء قليل فبقى مستلقيًا فيه حتى نام أو تصلبت أطرافه من البرد، فإن الفاعل لا يعتبر(2/37)
قاتلاً إذ الموت نتيجة لبقاء المجنى عليه فى الماء وليس نتيجة إلقائه فيه. ويختلف الفقهاء فى تطبيق هذا المبدأ فالشافعية يرون أن من فُصد فلم يربط جرحه حتى مات لا يسأل من فصده عن القتل، والحنفية يرون أنه مسئول لأنه أحدث الجرح الذى أدى إلى الوفاة وأن الدفع لم يكن موثوقًا به (1) .
3 - إذا كان الفعل مهلكًا والدفع سهل كما لو أُلقى من يحسن السباحة فى ماء مُغرق فلم يسبح وترك نفسه يغرق، وكما أُلقى شخص فى نار قليلة يستطاع الخروج منها فبقى فيها حتى احترق، ففى هذه الحالة خلاف، فالبعض يرى أن الفاعل قاتل لأن الإلقاء فى الماء يدهش الملقَى عن السباحة فيغرق، ولأن أعصاب الملقى فى النار تشنج بإلقائه فى النار فتعسر عليه الحركة ولأن العادة ألا يستسلم الناس للموت، فيكون القتل نتيجة للإلقاء، ويرى البعض أن الفاعل لا يعتبر قاتلاً ما دام المجنى عليه كان يستطيع السباحة فلم يفعل والخروج من النار فبقى فيها مختارًا (2) .
وأسباب الخلاف هو اختلاف وجهة النظر فى تصور حال المجنى عليه فلو علم قطعًا أنه بقى مختارًا فالملقى لا يعتبر قاتلاً بلا خوف ولو علم قطعًا أنه لم يكن مختارًا فى بقائه فالملقى قاتل دون خلاف.
49 - ولا يشترط الفقهاء أن يكون القتل العمد حاصلاً بيد الجانى مباشرة: فيستوى عندهم فى القتل العمد أن يكون مباشرة أو تسببًا فإذا ذبح الجانى المجنى عليه بسكين فهو قاتل عمدًا وإذا أعد الجانى وسائل الموت وهيأ أسبابه للمجنى عليه فهو قاتل عمدًا، ولو كان الموت معلقًا على ظرف معين أو على مشيئة المجنى عليه، فُيعَدُّ قاتلاً عمدًا من يحفر بئرًا فى طريق المجنى عليه ويسترها عن نظره أو جسرًا فى طريقه، ولو كان المرور فى الطرق معلقًا على ظرف خاص أو على مشيئة المجنى عليه، وهكذا فى غير ذلك من الصور ما دام الفعل يحدث الموت بذاته أو ما دام بين الفعل والموت رابطة السببية (3) .
_________
(1) المغنى ج9 ص326.
(2) الوجيز ج2 ص122 وما بعدها.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص240 , المغنى ج9 ص332 وما بعدها, مواهب الجليل ج6 ص241 , 242, بدائع الصنائع ج7 ص239.(2/38)
50 - رأى لأبى حنيفة: وأبو حنيفة كبقية الفقهاء لا يفرق بين القتل المباشر والقتل بالتسبب ويعتبر كليهما قتلاً عمدًا، ولكنه يجعل عقوبة القصاص للقتل المباشر ويدرؤها عن القاتل بالتسبب ويجعل بدلاً منها الدية، وحجته فى هذا أن عقوبة القتل العمد هى القصاص، ومعنى القصاص المماثلة، والقصاص فى ذاته قتل بطريق المباشرة، فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه قتلاً بطريق المباشرة ما دام أساس عقوبة القصاص المماثلة فى الفعل، فمن حفر بئرًا ليسقط فيها آخر بقصد لا يقتص منه لأن الحفر سبب القتل ولكنه لم يؤد إليه مباشرةً، ومن شهد على آخر بأنه ارتكب جريمة عقوبتها القتل فحكم عليه بالقتل على أساس هذه الشهادة لا يقتص منه لأن الشهادة وإن كانت سبب الحكم بالإعدام إلا أنها لم تؤد إلى إعدام المشهود عليه مباشرة (1) .
51 - تعدد المباشرة والسبب: وإذا كان الجانى واحدًا كان فعله إما مباشرة أو تسببًا إذا كان فعلاً واحدًا فإذا تعددت أفعال الجانى أو تعدد الجناة تعددت تبعًا لذلك أفعال المباشرة والتسبب، وقد تكون الأفعال جميعها مباشرة، وقد تكون جميعها تسببًا، وقد يكون بعضها مباشرة وبعضها تسببًا.
52- اجتماع مباشرتين فأكثر: إذا تعددت أفعال الجانى المباشرة فسواء كانت كلها قاتلة إذا انفردت أو بعضها فقط هو القاتل، وسواء وقعت مجتمعة أو متعاقبة فالجانى مسئول عن القتل العمد ما دام فعله أو أفعاله من شأنها إحداث الموت وما دام أنها قد أدت إليه فعلاً.
أما إذا كانت الأفعال المباشرة من أشخاص متعددين فالحكم يختلف بحسب ما إذا كانت قد وقعت منهم مجتمعين متمالئين أو وقعت منهم على التعاقب، وقبل الكلام على هاتين الحالتين يجب أن نعرف أولاً معنى التمالؤ.
53- التمالؤ: الأصل فى التمالؤ هو قضاء عمر رضى الله عنه، فقد كان
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص239.(2/39)
بمدينة صنعاء امرأة غاب عنها زوجها وترك فى حجرها ابنًا له من غيرها يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقلته، فأبى، فامتنعت عنه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وألقوا به فى بئر، ولما ظهر أمر الحادث وفشا بين الناس، أخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف ثم اعترف الباقون، فكتب إلى عمر بن الخطاب بخبر ما حصل، فكتب إليه عمر أن اقتلهم جميعًا، وقال: "والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا".
وروى على على أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً وعن ابن عباس قتل جماعة بواحد، ولم يعرف لهم فى عصرهم مخالف فكان قتل الجماعة بالواحد إجماعًا لأنه عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد عل الجماعة كعقوبة القذف للواحد على الجماعة، فضلاً عن أن القصاص لا يتبعض فلو سقط بالاشتراك لأدى ذلك إلى التسارع إلى القتل وضاعت حكمة الوضع والزجر.
ومع أن الأئمة الأربعة يسلمون بأن الجماعة تقتل بالواحد إلا أنهم اختلفوا فى معنى التمالؤ، فأبو حنيفة يرى أن التمالؤ هو توافق إرادات الجناة على الفعل دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بحيث يجتمعون على ارتكاب الفعل فى فَوْر واحد دون سابقة من تدبير أو اتفاق، ويأخد بهذا الرأى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد كما هو الظاهر (1) . ولا يرتب أبو حنيفة على التمالؤ نتيجة ما، فإذا لم يكن فعل الجانى قاتلاً فلا أثر للتمالؤ عليه.
ويرى مالك أن التمالؤ عنى الاتفاق السابق على ارتكاب الفعل والتعاون على ارتكابه، وأن التوافق على الاعتداء لا يعتبر تمالؤًا ويأخذ بهذا الرأى بعض فقهاء مذهب الشافعى ومذهب أحمد ولكنهم يخالفون مالكًا فى أنهم
_________
(1) الزيلعى ج6 ص114, البحر الرائق ج8 ص310, المغنى ج9 ص366, الشرح الكبير ج9 ص335 وما بعدها , المهذب ج2 ص186.(2/40)
لا يعتبرون متمالئًا إلا من اشترك فى ارتكاب الفعل بصفته فاعلاً له (1) .
أما مالك فيعتبر متمالئًا كل من حضر الحادث وإن لم يباشر الفعل إلا أحدهم أو بعضهم، لكن بحيث إذا لم يباشره هذا لم يتركه الآخر فهو فيعتبر متمالئًا كل من حضر ولو كان ربيئة - أى رقيبًا - بشرط أن يكون مستعدًا لتنفيذ ما اتفقوا عليه (2) .
54 - القتل المباشر على الاجتماع: من المتفق عليه بين الفقهاء الأربعة أنه إذا قام جماعة بقتل شخص فى فور واحد بأن توافقت إرادتهم على القتل وقت الحادث فقط دون اتفاق سابق فإن كلاً منهم يعتبر قاتلاً عمدًا له إذا كان فعل كل منهم يمكن تميزه وكان على انفراده له دخل فى إحداث الموت؛ كأن جرحه كل منهم جرحًا أو جراحًا قاتلة لها دخل فى زهوق روحه ولا عبرة بالتفاوت بين الجناة فى عدد الجراح وفُحشْها، فإذا أحدث أحدهم جرحا والآخر عشرة، وإذا أحدث أحدهم جرحًا فاحشًا وأحدث الآخر جرحًا أقل فحشًا فكل منهم مسئول عن القتل العمد ما دام قد أحدث جرحًا له دخل فى إحداث الوفاة.
وإذا كان فعل أحدهم لا دخل له فى الزهوق فلا يعتبر قاتلاً وإنما يسأل فقط عن الجرح أو الضرب، والعبرة بقول الخبراء فى كون الفعل له دخل فى الزهوق أم لا، فمن قرر الخبراء أن لفعله دخلاً فى الزهوق فهو قاتل عمدًا، ومن قرروا أن فعله لا دخل له فى الزهوق فهو جارح أو ضارب، وإذا لم تتميز أفعالهم فلم يعرف المزهق من غير المزهق فهم جارحون أو ضاربون ولا يسألون عن القتل لأن الجرح والضرب هو المتيقن منهم.
وهذا هو رأى الأئمة ما عدا مالكًا، ويرى بعض فقهاء الحنفية مسئوليتهم جميعًا عن القتل إذا لم تتميز أفعالهم (3) .
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217, 218, نهاية المحتاج ج7 ص261, 263, تحفة المحتاج ج4 ص14,15 حاشية البيجرمى على المنهج ج4 ص140, الإقناع ج4 ص175.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص490.(2/41)
وإذا كان فِعل كل منهم منفردًا لا دخل له فى الزهوق ولكن أفعالهم مجتمعة أدت إليه، فيرى بعض الشافعية أن كلاً منهم يعتبر قاتلاً عمدًا.
وقد أخذت محكمة النقض المصرية بهذا الرأى فى حكم لها قضت فيه بأنه متى كان الثابت أن كلاً من المتهمين قد ضرب القتيل وأن ضربته ساهمت فى إحداث الوفاة كان كل منهم مسئولاً عن الوفاة ولو لم يكن بينهم اتفاق سابق ولو كانت الضربة الحاصلة من أحدهم ليست بذاتها قاتلة، فإذا كان الثابت أن كلاً منهم قد قصد القتل كان مسئولاً أيضًا عن جناية القتل (1) .
ولا يرى البعض ذلك وهو متفق مع مذهب أبى حنيفة وأحمد (2) .
أما مالك فيرى أنه إذا لم تتميز الضربات أو تميزت سواء تساوت أو اختلفت ولكن لم يعلم عن مَنْ أحدثت ضربته الموت، فهم جميعًا قاتلون إذا ضربوه عمدًا عدوانًا، وفى المذهب يرى سقوط القصاص وإحلال الدية محلة إذا لم تتميز الضربات ولم يعلم من أيها مات، وهو رأى مرجوح (3) .
هذا هو حكم القتل على الاجتماع عند القائلين بأن التمالؤ هو التوافق فهم يعتبرون القتل على الاجتماع مصحوبًا دائمًا بتوافق الإرادات أى التمالؤ.
أما من يرون أن التمالؤ هو الاتفاق السابق وليس التوافق فيعطون الأحكام السابقة للجماعة غير المتمالئين فإن كانوا متمالئين على القتل فإنهم يسألون جميعًا عن القتل العمد، سواء كان فعل كل منهم له دخل فى الزهوق منفردًا أو مجتمعًا أو لا دخل له وسواء تميزت الأفعال أو لم تتميز ولو ضربوه بسياط أو عصًا خفيفة أو بأيديهم ولو كان ضرب كل منهم غير قاتل نحو أن يضربه كل
_________
(1) نقض فى 7 نوفمبر 1938 , المحاماة س19 ص615.
(2) نهاية المحتاج ح7 ص263 , الإقناع ج4 ص170.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217 , 218.(2/42)
منهم سوطًا أو نحو أن يضربوه على التوالى (1) .
55- القتل المباشر على التعاقب: المفروض فى القتل على التعاقب أنه ليس ثمة توافق ولا تمالؤ بين الفاعلين وأنهم يرتكبون الفعل منفردين على التعاقب لا مجتمعين كما هو الحال فى القتل على الاجتماع وحكم القتل على التعاقب أنه إذا قام أكثر من شخص بقتل واحد فإن كلاً منهم يعتبر قاتلاً له إذا كان فعل كل منهم يمكن تميزه وكان على انفراده له دخل فى إحداث الوفاة، وإذا جرحه أحدهم جرحًا وجرحه الآخر عشر جراحات فكلاهما مسئول عن قتله عمدًا ولا عبرة بكثرة الجراحات ما دام كل جرح له أثره فى إحداث الوفاة ولأن الإنسان قد يموت بجرح واحد ولا يموت بجراحات كثيرة.
وإذا كان فعل أحدهم لا دخل له فى إحداث الوفاة، فإنه يسأل فقط عن الجرح أو الضرب ويسأل الباقون عن القتل، ويرجع فى هذا إلى قول الخبراء فى الطب.
وإذا شفى من الجراح التى أحدثها أحدهم ومات من جراح الباقين كان كلّ مسئولاً عن نتيجة فعله فمن برئت جراحه التى أحدثها سئل عن الجراح، ومن لم تبرأ جراحه سئل عن القتل إذا كان لجراحه دخل فى الموت.
فإذا اشترك ثلاثة فى قتل رجل، فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه ثالث فمات، فكل من الثلاثة قاتل عمدًا فإن برئت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فمن برأ جرحه يعاقب باعتباره جارحًا ويعاقب الآخران باعتبارهما قاتلين (2) .
وإذا قطع واحد يده من المعصم، وقطع الثانى نفس اليد من المرفق فمات،
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217 , 218 , نهاية المحتاج ج7 ص263 ,الإقناع ج4 ص170.
(2) الشرح الكبير ج9 ص336.(2/43)
فإن برئت جراحة الأول قبل قطع الثانى فالأول جارح والثانى قاتل دون خلاف، وإن كان القطع الثانى قبل بُرءْ القطع الأول فيرى الشافعى وأحمد أن الاثنين قاتلان؛ لأن جرح كل منهما قاتل وحده والألم الحاصل بالجرح الأول انضم إلى الألم الحاصل بالجرح الثانى وتكامل به، فكان الموت مضافًا إليهما، ومن أصحاب هذا الرأى زفر. ويرى أبو حنيفة وباقى أصحابه أن القاتل هو الثانى (1) لأن السراية باعتبار الآلام المترادفة التى لا تتحملها النفس إلى أن يموت وقطع اليد من المرفق يمنع وصول الألم من القطع السابق إلى النفس فكان قطعًا للسراية فبقيت السراية مضافة إلى القطع الأخير. ويرى مالك أنه إذا كان القطع الثانى عقب القطع الأول فهما قاتلان وإن عاش بعد القطع الأول حتى أكل وشرب ثم مات عقب الثانى مباشرة فالقاتل هو الثانى وإن عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا على أيهما ويقتصوا منه (2) .
وإن رماه أحدهما من شاهق فتلقاه آخر بالسيف فقدَّه أو ألقى عليه صخره فأطار آخرُ رأسهَ قبل أن تصل الصخرة فيرى أحمد أن القصاص على الثانى لأن الرمى سبب والقتل مباشرة، فقطعت المباشرة حكم السبب، ويرى الشافعى مثل هذا إن رماه من مكان يجوز أن يسلم منه، أو ألقى عليه صخرة يمكن أن يسلم منها أما إن كان عمل الأول لا تمكن السلامة فيه فالبعض يرى كليهما مسئولاً عن القتل لدخول المباشرة مع السبب، ويرى البعض أن الثانى هو القاتل والرأى الأخير هو المتفق مع القانون؛ لأنه يعتبر الأول شارعًا فى قتل والثانى قاتلاً ما لم يكن بينهما اتفاق أو توافق على القتل فكلاهما يعتبر قاتلاً، وإن ألقاه فى لُجة لا يمكن الخلاص منها فالتقمة حوت فالرامى قاتل لأنه ألقاه فى مهلكة يهلك بها دون واسطة يمكن إحالة الحكم عليه كما يرى البعض، ويرى البعض أن الهلاك ليس سببه فعل الرامى، فأما إن ألقاه فى ماء يسير فأكله سبع أو التقمه
_________
(1) البدائع ج7 ص304.
(2) الشرح الكبير ج7 ص377.(2/44)
حوت أو تمساح فهو شبه عمد لأن الذى فعله لا يقتل غالبًا (1) .
وإذا لم تتميز أفعالهم فلم يُعرف صاحب الجرح أحدث الموت، أو كانت أفعالهم مفردة لا دخل لها فى الزهوق ولكنها أدت إليه مجتمعة فالحكم فى ذلك هو ما سبق فى القتل على الإجماع.
وقد يطرأ على الفعل المباشر فعل مباشر آخر أقوى منه بحيث ينقطع بالفعل الثانى أثر الفعل الأول، وحكم هذه الحالة تقديم الفعل الأقوى واعتبار صاحبه هو القاتل، فلو جرح الأول رجلاً جرحًا مميتًا بقصد القتل فجاء صاحب الفعل الثانى وحز رقبته فالقاتل هو الثانى، أما لو ذبحه الأول فجاء الثانى وجسم المذبوح لا يزال ينتفض فقدهَّ نصفين فالقاتل هو الأول، أما الثانى فيعتبر معتديًا على حرمة ميت ويُعزَّر وإن شق الأول بطنه ومزق أحشاءه ولكن بقيت به حياة مستقرة فجاء الثانى وقطع رقبته فالثانى قاتل والأول جارح، أما إذا كان فعل الأول قد أخرج المجنى عليه من حكم الحياة فالأول هو القاتل على رأى والثانى هو القاتل على رأى آخر، ما دام المجنى عليه لم يسلم الروح فعلاً (2) . ويرى البعض أنهم جميعًا مسئولون عن القتل عمدًا إذا تعذر معرفة صاحب الجرح المثخن (3) .
وإذا شق شخص بطن آخر ثم جاء ثانٍ فحز رقبته فالآخر هو القاتل أما الأول فجارح فقط، لأن الإنسان يعيش بعد شق البطن ولأن حياة المجنى عليه كانت مستقرة وقت حز الرقية هذا إذا كان الشق مما يحتمل معه أن يعيش بعده يومًا أو بعض يوم، فأما إذا كان لا يتوهم ذلك ولم تبق إلا غمرات الموت فالشاق هو القاتل والحاز لا يعتبر جارحًا بل معتديًا على حرمة ميت.
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص340 , المهذب ج2 ص188.
(2) راجع الفقرتين 11 ,12.
(3) حاشية ابن عابدين ح3 ص490.(2/45)
وهناك رأى آخر مضاد لهذا الرأى وقد بسطنا القول فى هذه المسألة فى الفقرتين الحادية عشرة والثانية عشرة.
56 - اجتماع سببين فأكثر: إذا تسبب اثنان أو أكثر فى إحداث أفعال قاتلة بإنسان "كأن حبسه واحد فى منزل قصد قتله جوعًا، وأطلق الثانى صنابير الغاز بقصد قتله خنقًا، وأشعل الثالث النار فى المنزل بقصد قتله حرقًا" فإن مسئولية الجناة تترتب طبقًا للقواعد التى سبق أن بيناها فى حالة تعدد المباشرة، سواء كانت الأفعال على الاجتماع أو التعاقب وسواء أكان هناك تمالؤ أم لم يكن، ولا يغير من الحكم أن الفعل هناك مباشر وهنا تسبب لأن التسبب لا يقتل بذاته وإنما يقتل بواسطة فعل مباشر آخر ينسب للفاعل باعتباره متسببًا فيه، فالمنسوب للمتسبب هو نفس الفعل الذى ينسب للقاتل مباشرة، ومن ثم لم يكن اختلاف الحكم.
57 - اجتماع مباشرة وسبب: إذا اجتمع فعل مباشر مع فعل متسبب فلا يخرج الأمر فى تحديد مسئولية المباشر والمتسبب عن حالة من ثلاث:
أولاً: أن يغلب السبب المباشرة: ويتغلب السبب على المباشرة إذا لم تكن المباشرة عدوانًا وفى هذه الحالة تكون المسئولية على المتسبب دون المباشر. كقتل المحكوم عليه بالإعدام بناء على شهادة الزور، فهذه النتيجة مسلّم بها فى القانون المصرى إذ نصت المادة 295 عقوبات على أنه إذا ترتب على الشهادة المزورة الحكم بالإعدام ونفذ الحكم فعلاً عوقب شاهد الزور بعقوبة الإعدام.
فإن قتل الجلاد له ليس عدوانًا، والجلاد هو المباشر للقتل أما المتسبب فى القتل فشهود الزور وما دامت المباشرة ليست عدوانًا فالمسئولية على المتسبب وحده.(2/46)
ثانيًا: أن تغلب المباشرة السبب: وتتغلب المباشرة على السبب إذا قطعت عمله، كمن ألقى إنسانًا فى ماء بقصد إغراقه فخنقه آخر كان يسبح فى الماء، أو كمن ألقى إنسانًا من شاهق فتلقاه آخر قبل وصوله إلى الأرض فقطّ رقبته بسيف أو أطلق عليه عيارًا ناريًا فقتله قبل وصوله إلى الأرض، فالمسئول عن القتل هو المباشر وليس المتسبب ولكن الأخير يعزر على فعله.
ثالثًا: أن يعتدل السبب والمباشرة: بأن يتساوى أثرهما فى الفعل، وفى هذه الحالة يكون المتسبب والمباشر مسئولين معًا عن القتل، كحالة الإكراه على القتل، فإن المكره وهو المتسبب هو الذى يحرك المباشر وهو المكرهَ ويحمله على ارتكاب الحادث ولولا الأول لما فعل الثانى شيئًا ولما حصل القتل (1) .
وكذلك من يأمر ولده الصغير أو المعتوه بقتل آخر فيقتله طاعة لهذا الأمر فكلاهما يعتبر قاتلاً، ولو أن للصغير أو المعتوه حكمًا خاصًا من حيث العقوبة خلافًا لأبى حنيفة.
58- تسبب الجانى فى فعل قاتل مباشر من المجنى عليه: ويعتبر الجانى مسئولاً عن القتل العمد عن مالك (2) إذا تسبب فى الفعل القاتل، ولو كان الموت نتيجة مباشرة لفعل المجنى عليه.
فلو أن إنسانًا طلب آخر قاصدًا قتله بسيف مجرد أو ما يخيف كرمح أو سكين فهرب منه فتبعه الجانى وتلف المجنى عليه فى هربه بأن سقط من شاهق أو انخسف به سقف أو خرّ فى مهواة أو سقط فتلف أو لقيه سبع فافترسه أو غرق فى ماء أو احترق بنار، فعلى كل هذه الصور يعتبر الطالب قاتلاً عمدًا ولو أن هرب المجنى عليه هو الذى أنتج الموت مباشرة.
ويعتبر أحمد (3) الطالب مسئولاً عن القتل شبه العمد فى هذه الصور؛ لأن
_________
(1) الوجيز ج2 ص122 وما بعدها , نهاية المحتاج ج7 2240 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص241.
(3) المغنى ج9 ص577.(2/47)
الفعل الذى حدث من الجانى لا يقتل غالبًا، وفى مذهب الشافعى (1) رأيان يفرقان بين المجنى عليه المميز، وغير المميز فإذا كان المجنى عليه غير مميز فالطالب يعتبر مسئولاً عن القتل شبه العمد، وإذا كان مميزًا فهناك رأيان: رأى أنه لا مسئولية على الطالب لأن المجنى عليه هو الذى أهلك نفسه بفعله، ورأى يرى مسئولية الطالب عن القتل شبه العمد، لأن المجنى عليه لم يقصد إهلاك نفسه وإنما ألجأه الطالب إلى الهرب المفضى للهلاك، وقد اعتبر القتل شبه عمد لأن وسيلة القتل ليست مما يقتل غالبًا.
فالشافعى وأحمد فى هذا يحافظان على قاعدتهما، أما ملك فاعتبره عمدًا لأنه - كما مر - لا يعرف القتل شبه العمد، والفعل عنده إما عمد أو خطأ. ويمكن تفسير مسئولية الطالب مع أن الفعل المباشر من المجنى عليه بأن المباشرة لم تكن عدوانًا فيتغلب الفعل المتسبب.
أما أبو حنيفة فلا يرى مسئولية الطالب؛ لأن المجنى عليه قُتل بفعل نفسه.
ويتفق القانون المصرى والفرنسى مع ما يراه أبو حنيفة ويتفق القانون الألمانى والقانون الإنجليزى مع ما يراه باقى الأمة.
59- القتل بفعل غير مادى: ويتفق الفقهاء لأربعة على جواز حصول القتل بوسيلة معنوية لا مادية كمن شهر سيفًا فى وجه إنسان فمات رعبًا، ومن تغفل إنسانًا وصاح به قاصدًا قتله فمات مذعورًا أو سقط لفزعه من مرتفع ومات من سقطته ومن ألقى على إنسان حية فمات رعبًا، ومن دلّى إنسانًا من شاهق فمات من روعته قبل أن يضربه بسيف أو يُترك ليسقط على الأرض.
وعند مالك (2) أن القتل فى هذه الأحوال عمد ما دام الجانى قد تعمد الفعل
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص332 , 333.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217.(2/48)
على وجه العدوان ولم يقصد منه اللعب أو المزاح، فإن قصد اللعب أو المزاح فالقتل خطأ. ويرى أحمد (1) أن القتل فى هذه الأحوال شبه عمد؛ لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا. وكذلك يرى أبو حنيفة (2) .
وفى مذهب الشافعى (3) يفرقون بين من يميز وبين من لا يميز كالصبى والمعتوه والمجنون والنائم والموسوس والمصعوق والمذعور والضعيف، ويرون أن القتل شبه عمد فى حالة من يميز، وأنه قتل عمد فى حالة من لا يميز؛ لأن الوسيلة تقتل غالبًا فى حالة من لا يميز ولا تقتل غالبًا فى حالة المميز.
وليس فى نص القانون المصرى أو القانون الفرنسى ما يمنع أن تكون وسيلة القتل فعلاً غير مادى. ولكن جمهور الشراح الفرنسيين ويتابعهم المصريون يرون أن لا عقاب على القتل بهذه الطريقة، وحجتهم أنه لا يمكن على وجه التحقيق اعتبار العوامل النفسية التى تنشأ عن فعل الجانى سببًا لموت المجنى عليه، وهذا الرأى منتقد لأنه مع تقدم العلم يمكن أن يثبت على وجه التحقيق أن الموت نشأ عن العوامل النفسية التى أحدثها فعل الجانى، ولأن هناك صورًا تكون حالة الجانى والمجنى عليه فيها من الظهور بمكان بحيث يكون من الظلم أن يفلت الجانى من العقاب، ومع ذلك فهناك من القوانين الوضعية ما يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية فالقانون الإنجيلزى يعاقب عل القتل إذا كانت وسيلة القاتل لقتل فريسته معنوية لا مادية.
60 - تعدد الأسباب: ومن المتفق عليه بين الأئمة الأربعة (4) أن الجانى يعتبر مسئولاً
_________
(1) المغنى ج9 ص578.
(2) البحر الرائق ج8 ص294.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص330 , 331.
(4) نهاية المحتاج ح7 ص238 , 223 , 263 وما بعدها , المغنى ج9 ص324 , 380 , 381 , 578, مواهب الجليل ج6 ص242 , شرح الدردير ج4 ص219 , البحر الرائق ج8 ص294 , 301 , بدائع الصنائع ج6 ص235 , حاشية ابن عابدين ج3 ص480 , 481 , 493.(2/49)
عن القتل العمد إذا كان فعله بسبب الموت، أو كان له على انفراده دخل فيه، ولو كان هناك أسباب أخرى اشتركت فى إحداث الموت سواء كانت هذه الأسباب راجعة لفعل المجنى عليه أو تقصيره أو لحالته أو لفعل غيره متعمد أو غير متعمدة، وسواء كانت رئيسية أم ثانوية، فإذا أحدث المجنى عليه بنفسه جراحًا وأساء المجنى عليه علاج نفسه أو أهمل العلاج أو سمح لطبيب بعلاج جرحه أو بإجراء عملية فأخطأ العلاج أو قصر فى العملية وساعد كل ذلك يظل مسئولاً عن القتل العمد ما دام فعله مهلكًا من شأنه إحداث الوفاة.
وإذا كان المجنى عليه مريضًا أو ضعيفًا أو صغيرًا فيعتبر الجانى مسئولاً عن قتله عمدًا إذا ضرب المجنى عليه ضربًا أو جرحه لا يقتل الرجل الصحيح ما دام من شأن هذا الضرب أو الجرح أن يقتل الرجل المريض والضعيف والصغير، وإذا كان بالمجنى عليه إصابات قاتلة فأحدث به الجانب إصابة أخرى قاتلة فمات منها جميعًا، فالجانى مسئول عن القتل ولو أن القتل نتيجة مباشرة لكل هذه الإصابات، ويستوى أن تكون الإصابات التى بالمجنى عليه ناشئة عن فعله كما إذا جرح نفسه أو عن فعل غيره كإنسان ضربه أو حيوان نهشه.
وإذا كان بالمجنى عليه إصابات سببها فعل مباح كالدفاع الشرعى مثلاً فأحدث به آخر إصابة أو إصابات أخرى عدوانًا يقصد قتله، فمات من جميع الإصابات فالجانى مسئول عن قتله عمدًا ولو أن بعض الإصابات التى أدت إلى القتل ناشئة عن فعل مباح.
وإذا كان بالمجنى عليه إصابات غير متعمدة ثم أحدث به الجانى إصابات متعمدة فمات منها جميعًا فالجانى مسئول عن القتل العمد، ولو أن بعض الإصابات التى أدت إليه ناشئة عن خطأ.(2/50)
وإذا كانت بعض الإصابات أفحش من بعض فإن الجانى الذى أحدث أبسط الإصابات مسئول عن القتل العمد ما دامت إصابته مهلكة بذاتها ولها دخل فى القتل على انفرادها، كما أنه لا عبرة بعدد الإصابات التى أحدثها كل جان، فلو كان بشخص مائة إصابة أدت إلى قتله فالجانى الذى أحدث واحدة منها فقط مسئول عن القتل ما دام لإصابته دخل فى القتل على انفرادها، ولو كانت بقية الإصابات من فعل شخص واحد.
ويؤخذ من اعتبارهم الجانى قاتلاً عمدًا فى حالة إهمال العلاج أو إساءته أو ضعف المجنى عليه ومرضه.. الخ أنهم عرفوا نظرية تساوى الأسباب التى لم تعرفها القوانين الوضعية إلا حديثًا. فكل فعل اشترك فى إحداث الموت بحيث لم يكن الموت ليحدث لولا وقوع هذا الفعل عتبر بذاته سببًا للموت ولو أنه لم يؤد للموت إلا لوجود أسباب أخري؛ لأن هذا السبب بالذات هو الذى جعل لهذه الأسباب الأخرى أثرًا على الوفاة.
61 - انقطاع فعل الجانى: ويسأل الجانى عن القتل العمد نتيجة لفعله، ما دام الفعل سببًا للقتل، إلا إذا انقطع فعل الجانى بفعل آخر تغلب عليه وقضى على أثره.
فمن يجرح إنسانًا جرحًا قاتلاً يقصد قتله يعتبر قاتلاً له عمدًا إذا مات من الجرح، ولكن إذا جاء ثالث فقطع رقبة الجريح فهو القاتل والأول جارح لا قاتل؛ لأن فعل الثالث قطع فعله وقضى على أثره، كذلك تنتفى مسئولية الجانى عن القتل إذا انقطع أثر فعله، كأن يشفى جرحه قبل الموت أو إذا لم يكن لجرحه أثر على الموت.
62 - نظرية السببية فى الشريعة: ويمكننا أن نستخلص مما سبق أن الشريعة الإسلامية تشترط لمسئولية الجانى عن القتل أن يكون بين فعله وبين الموت رابطة السببية وهى الرباط الذى يربط الفعل الحاصل من الجانى بالنتيجة التى يسأل عنها، ولا يشترط أن يكون فعل الجانى هو السبب الوحيد فى إحداث الموت، بل يكفى أن يكون فعل الجانى سببًا فعالاً فى إحداثه.(2/51)
ويستوى بعد ذلك أن يكون فعل الجانى هو الذى سبب الموت وحده أم أن الموت نشأ عن فعل الجانى بالذات، وعن أسباب أخرى تولدت عن هذا الفعل كتحرك مرض كامن لدى المجنى عليه، كما يستوى أن يكون الموت نشأ عن فعل الجانى وحده أو عن هذا الفعل وعن أسباب أخرى لا علاقة لها بفعل الجانى كالاعتداء الحاصل من شخص آخر.
ولا يعتبر فعل الجانى سببًا للموت إذا انعدمت رابطة السببية بين الفعل وموت المجنى عليه، أو إذا كانت قائمة ثم انقطعت بعد ذلك بفعل من شخص آخر ينسب إليه الموت دون فعل الجانى الأول، أو إذا كان فى إمكان المجنى عليه أن يدفع أثر الفعل دون شك فامتنع عن دفعه دون أن يكون للجانى دخل فى امتناعه.
والجانى مسئول عن نتيجة فعله، سواء كان الموت نتيجة مباشرة لفعله أو كان نتيجة غير مباشرة لهذا الفعل، سواء كان السبب قريبًا أم بعيدًا ما دام الفعل سببًا للنتيجة.
لكن فقهاء الشريعة مع هذا لا يسمحون بتوالى الأسباب إلى غير حد؛ بل يقيدون هذا التوالى بالعرف، لأن السبب عندهم هو ما يولد المباشرة توليدًا عرفيًا فما اعتبره فهو ليس سببًا له ولو كان سببًا قريبًا.
وقد سلك الفقهاء هذا المسلك لأنه أقرب إلى العدالة وألصق بطبائع الأشياء ولو أنهم اكتفوا فى تحديد رابطة السببية بالسبب المباشر - كما فعل شراح القانون الفرنسى- لأدى ذلك إلى خروج كثير من الأفعال التى يعتبرها هذا العقل والعرف قتلاً ولو أنهم بالغوا فأخذوا بكل سبب غير مباشر - كما فعل الشراح الألمان - لأدخلوا فى دائرة القتل أفعالاً كثيرة لا يعتبرها عرف الناس ولا منطقهم قتلاً.
ومن أجل ذلك جاءت نظرية السببية فى الشريعة مرنة تتسع لكل ما يتسع له عرف الناس ومنطقهم عادلة لأنها تعتمد على شعور الناس بالعدالة وإحساسهم بها، بل إن تحديد كفاية السبب لتحقق النتيجة بالعرف ضمن للنظرية البقاء ما بقى الناس لأن الناس سواء تقدموا أو تأخروا؛ جهلوا أو علموا لهم عرف(2/52)
يطمئنون إليه وعقول لا ترتاح إلا لما تراه عدلاً وهذه النظرية تتمشى مع عرفهم ونظرهم للعدالة فى كل وقت وفى كل ظرف.
* * *
مقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية
63 - النظرية الفرنسية: ونظرية فقهاء الشريعة فى تحديد رابطة السببية: وقد مضى عليها أكثر من ألف سنة تدل على أنهم كانوا أبعد نظرًا وأدق تقديرًا للأمور من شراح القانون الوضعى فى عصرنا الحاضر، فالشراح الفرنسيون حتى اليوم لا يقبلون إلا السبب المباشر؛ أى السبب الذى أنتج الفعل المؤدى للقتل بشرط أن لا يطرأ عليه سبب آخر يؤدى بذاته إلى حدوث النتيجة المتوقعة أو يساعد على حدوثها، فمثلاً إذا ضرب شخص آخر ضربة مميتة، وجاء ثالث قبل أن يموت فقطع رقبته فالثالث هو القاتل؛ لأن السبب الثانى حال بين السبب الأول ونتيجته وقطع عمله، ولأن السبب الثانى هو الذى أدى بذاته إلى القتل.
وفى هذا يتفق القانون الفرنسى مع الشريعة. ولكن إذا ضرب الجانى شخصًا أو جرحه فأهمل المجنى عليه العلاج، أو أساء علاج نفسه أو كان مريضًا أو ضعيفًا؛ فساعد إهماله أو سوء علاجه أو مرضه أو ضعفه على الوفاة، فإن الضرب أو الجرح لا يعتبر فى نظر الشراح الفرنسيين سببًا مباشرًا للقتل، لأن هناك سببًا أو أسبابًا أخرى ساعدت على إحداث القتل وقد لا يحدث القتل لو لم تكن هذه الأسباب وفى هذا تخالف الشريعة القانون الفرنسى لأنها تأخذ بالرأى المضاد.
64 - نقد النظرية الفرنسية: ويطبق الشراح الفرنسيون نظريتهم هذه فى حالة القتل العمد فقط، ولا يرون باسًا من اعتبار السبب غير المباشر فى القتل الخطأ وفى هذه التفرقة وحدها ما يؤكد أن نظريتهم معيبة؛ لأنه إذا كان العدل يقتضى أن لا يقبل إلا السبب المباشر فمن الظلم أن يقبل السبب غير المباشر فى القتل الخطأ، وإذا كان العدل يقتضى أن يقبل السبب غير المباشر فى القتل الخطأ فمن الظلم أن(2/53)
لا يقبل فى القتل العمد.
أما فيما يختص بحالة تعدد الأسباب، فإن فعل الجانى هو السبب الفعال فى الموت، ولولاه لما كانت الأسباب الأخرى فعالة ففعل الجانى وسبب الموت أولاً وأخيرًا ومن العدل أن يسأل عن فعله ونتائج فعله.
65 - النظرية الألمانية: أما الشراح الألمان فيسلمون بالسبب المباشر وغير المباشر، ويرون أن السبب هو كل شرط من شروط نتيجة الفعل المزهق لنفس، لأنه هو الذى جعل الشروط الأخرى سلبية، والفعل عندهم يعتبر قتلاً ولو كان غير كاف وحده لإحداث الوفاة أو كانت الوفاة لم تحدث لولا أعمال أخرى اقترنت بهذا الفعل أو تلته، ومن ثم فهم يعتبرون الضارب والجارح مسئولاً عن القتل، ولو كان الضرب والجرح فى ذاته مهلكًا لولا ضعف المجنى ليه أو إهماله العلاج.
66 - النظرية الإنجليزية: كذلك يأخذ الإنجليز بالسبب المباشر وغير المباشر، معتبرون الجانى قاتلاً ولو لم يكن الموت نتيجة مباشرة لفعله بل أدت إليه أو ساعدت عليه عوامل أخرى، فإذا اعتدى شخص على آخر اعتداء شديدًا حمل المعتدى عليه أن يلقى بنفسه من نافذة أو شرفة ليخلص نفسه من هذا الاعتداء، فإن المعتدى يعتبر قاتلاً إذا مات المعتدى عليه من إلقاء نفسه، كذلك يعتبر الجارح قاتلاً ولو تبين أن المجنى عليه أساء علاج نفسه، أو رفض إجراء عملية كان من المرجح أن تؤدى إلى شفائه.
67- عيب النظرية الألمانية والإنجليزية: ونظرية الألمان تتفق مع النظرية الإنجليزية وهما أوسع مدى من النظرية الفرنسية، ويرى الكثير من الشراح أن النظرية الألمانية الإنجليزية أقرب إلى العدل من النظرية الفرنسية؛ لأن الأولى تفتح الباب واسعًا أمام القاضى ليقدر مسئولية من تسبب فى قتل غيره بطريقة غير مباشرة، ولا تسمح بإفلات قاتل من العقاب لأنه استطاع أن يصل إلى غرضه بطريق غير مباشر.(2/54)
ولكن النظرية الألمانية الإنجيلزية بالرغم من ذلك معيبة، وعيبها أنها تسلم بتوالى الأسباب غير المباشرة إلى غير حد يقف عنده هذا التوالى، وقد أدى بها هذا العيب إلى أن تخلق حلولاً يستسيغها العقل ولا تتفق مع العرف، فمثلاً يرى بعض الآخذين بهذه النظرية على إطلاقها أنه يعتبر متسببًا فى القتل من جرح غيره جرحًا غير ميت إذا استلزمت حالة الجرح نقله للمستشفى فاحترق المستشفى بمن فيه إذ لولا الجرح لما احترق المجنى عليه.
68 - والرأى المعتدل: الذى حاول به أصحابه أن يصلحوا هذا العيب يقوم على أساس أن يكون السبب كافيًا لتحقيق النتيجة، فإن كان كافيًا فالجانى قاتل، وإن لم يكن كافيًا فهو غير قاتل، فمثلا إذا ضرب الجانى سفَّانًا قاصدًا فأحدث به إصابات أعجزته عن إدارة حركة السفينة ثم غرقت به السفينة بعد ذلك بسبب اشتداد الأنواء دون أن يكون لعجز المجنى عليه أثر على غرقه، فإن الجانى لا يعتبر مسئولاً عن غرق المجنى عليه أما إذا كان غرق السفينة ناشئًا عن عجز المجنى عليه عن إدارة السفينة بسبب إصابته فيكون الجانى مسئولاً عن الغرق؛ لأن عجز المجنى عليه من الضرب كاف لتحقيق هذه النتيجة.
69 - وتقيد النظرية بكفاية السبب لتحقيق النتيجة معناه تقيدها بالعرف: لأن مقياس الكفاية ليس ماديًا، وإنما هو معنوى يرجع إلى ما تعارف عليه الناس وما تقبله عقولهم وترتاح إليه نفوسهم، وإذا كان العرف هو المقياس الذى تقاس به كفاية الأسباب لتحقيق النتيجة فى الشريعة الإسلامية، فمعنى ذلك أن نظرية السببية فى القوانين الوضعية تسير الآن فى نفس الطريق الذى رسمه فقهاء الشريعة الإسلامية من ألف سنة وأكثر، وأحكام المحاكم المصرية تتفق مع الشريعة الإسلامية فيما يختص بتحديد رابطة السببية واعتبار السبب غير المباشر وتعدد أسباب الوفاة وليس منشأ هذا الاتفاق أن المحاكم المصرية ترجع للفقه الإسلامى وإنما منشؤه أن المحاكم المصرية تفضل فى هذه المواضيع النظرية الألمانية الإنجليزية(2/55)
على النظرية الفرنسية، والنظرية المفضلة تتفق مع الشريعة الإسلامية؛ فمثلاً حكمت محكمة النقض المصرية فى قضية ضرب أفضى إلى موت بأنه "متى ثبت أن الضرب الذى وقع من المتهم هو السبب الأول المحرك لعوامل أخرى تعاونت وإن تنوعت على إحداث وفاة المجنى عليه سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، فهو مسئول جنائيًا عن كافة النتائج التى ترتبت على فعله مأخوذًا فى ذلك بقصده الاحتمالى لأنه كان من واجبه أن يتوقع كل هذه النتائج الجائزة الحصول" (1) .
وأصدرت محكمة جنايات أسيوط حكمًا فى قضية قتل أشارت فيه إلى الخلاف بين الشراح الفرنسيين من جهة وبين الألمان والإنجليز من جهة أخرى، فيما يتعلق بالسبب وتحديد معنى السببية وقالت: إنها تأخذ بنظرية الألمان والإنجليز لأنها أقرب إلى العدل وتفسح الطريق لمعاقبة من يتسبب فى قتل آخر بطريق غير مباشر متى كانت ظروف القتل تدل على أنه قصد ذلك (2) .
وحكمت محكمة النقض فى قضية قتل بأن إذا طعن المتهم المجنى عليه بسكين متعمدًا قتله فأحدث به جرحًا فى تجويف الرئة نتجت عنه الوفاة يكون مرتكبًا لجناية القتل عمدًا، وإن تكن الوفاة قد حصلت بعد علاج ثمانية وخمسين يومًا بالمستشفى إذ من المبادئ المقررة أن الفاعل مسئول عن جميع نتائج فعله غير القانونى التى كان يمكنه أو كان واجبًا عليه أن يفترضها، وهذه المسئولية ليست متوقفة على إثبات أن المجنى عليه قد عولج أحسن علاج طبقًا للعلوم الحديثة (3) .
_________
(1) نقض فى 21 مارس 1938 القضية رقم 996 سنة 8 ق.
(2) محكمة جنايات أسيوط فى 28 مارس نة 1927 , المجموعة الرسمية سنة 1928 العدد 62.
(3) نقض فى 22/11/1913 , شرائح 1 ص86.(2/56)
70 - القتل بالترك: وكما يجوز فى الشريعة الإسلامية أن يكون القتل بفعل مادى أو معنوى؛ أى بفعل إيجابى، فإنه يجوز أن يكون القتل بالسلب؛ أى بغير فعل إيجابى يصدر عن الجانى بحيث يمتنع الجانى عن عمل معين فيؤدى امتناعه إلى قتل المجنى عليه، فمن حبس إنسانًا ومنعه عن الطعام أو الشراب أو الدفء فى الليالى الباردة حتى مات جوعًا أو عطشًا أو بردًا فهو قاتل عمدًا إن قصد بالمنع قتله، وذلك ما يراه مالك (1) والشافعى (2) وأحمد (3) ، أما أبو حنيفة فلا يرى الفعل قتلاً لأن الهلاك حصل بالجوع والعطش والبرد لا بالحبس ولا صنع لأحد فى الجوع والعطش، ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان الفعل قتلاً عمدًا؛ لأنه لا بقاء لآدمى إلا بالأكل والشرب والدفْ فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش والبرد عليه يكون إهلاكًا له (4) ولكنه قتل بالتسبب، ولا يقتص فى القتل بالتسبب عندهما وعند أبى حنيفة.
والأم التى تمنع ولدها الرضاع قاصدة قتله تعتبر قاتلة عمدًا، ولو أنها لم تأت بعمل إيجابى (5) .
ومن منع فضل مائة مسافرًا عالمًا بأنه لا يحل له منعه وأنه يموت إن لم يسقه اعتبر قاتلاً عمدًا له وإن لم يك قتله بيده (6) ، وهو رأى فى مذهب مالك ويرى البعض أنه قتل شبه عمد، وهو رأى فى مذهب أحمد (7) .
وإذا حضرت نساء ولادة فقطعت إحداهن سُرَّة الوليد وامتنعت عن ربط
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص239.
(3) المغنى ج9 ص328.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص234 , البحر الرائق ج8 ص295.
(5) شرح الدرديرج4 ص215.
(6) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240.
(7) المغنى ج9 ص581.(2/57)
الحبل السُّرى فمات بعد القطع بقليل فهى قاتلة له عمدًا، ومن الممكن القول باعتبار بقية الحاضرات قاتلات إذا لم يَريْنَ الربط، لأن المهلك تركُ الربط فالهلاك ينسب إليهن كلهن (1) .
71- والظاهر من تتبع أمثلة الفقهاء أن الممتنع لا يعتبر مسئولاً عن كل جريمة ترتبت على امتناعه، وأنه يسأل فقط حيث يجب عليه شرعًا أو عرفًا أن لا يمتنع ومع ذلك فهناك خلاف على ما يوجبه الشرع والعرف، ومن الطبيعى أن يكون هذا الخلاف ما دامت وجهات النظر مختلفة، فمثلاً يرى بعض الحنابلة أن من أمكنه إنجاء آدمى من هلكة كماء أو نار أو سبع فلم يفعل حتى هلك فلا مسئولية عليه (2) ، ويرى بعض الحنابلة مسئوليته (3) ، وأساس الاختلاف: هل الإنجاد واجب أو غير واجب؟.
72- مقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية: واتجاه فقهاء الشريعة فى القتل بالترك هو نفس الاتجاه الذى سار فيه أغلب شراح القوانين الوضعية أخيرًا، أما قبل ذلك فقد كانت المسألة محل خلاف شديد بين شراح القوانين. فكان بعضهم يرى أنه لا يمكن إحداث الجريمة بالترك، لأن الترك عدم ولا ينشأ عن العدم وجود، وكان البعض يرى أن الترك يصلح سببًا للجريمة كالفعل تمامًا، لأن كليهما يرجع إلى إرادة الإنسان وقد انتهت الأغلبية أخيرًا إلى التسليم بأن الترك يصلح سببًا للجريمة ولكنهم لم يأخذوا بالمبدأ على إطلاقه وقيدوه بأن يكون الشخص مكلفًا فى الأصل بالعمل وأن يكون الامتناع أو الترك مخالفة لهذا التكليف، ويستوى عندهم أن يكون مصدر التكليف بالعمل القانون أو الاتفاق ومن الأمثلة التى يضربها شراح القوانين على القتل بالترك: حبس
_________
(1) الفتاوى الكبرى ص220 وما بعدها.
(2) الإقناع ج4 ص205.
(3) المغنى ج9 ص581.(2/58)
شخص دون حق ومنع الطعام عنه بقصد قتله، وامتناع الأم عمدًا عن إرضاع ولدها بقصد قتله. ويضربون مثلاً على الحالة التى لا مسئولية فيها: الامتناع عن إنقاذ مشرف على الغرق، أو إنسان أحاطت به النار أو أقدم سبع على افتراسه. والأمثلة فى الوجهين تكاد تكون نفس الأمثلة التى يضربها فقهاء الشريعة الإسلامية.
ويلاحظ أن اشتراط شراح القوانين أن يكون العمل واجبًا بمقتضى القانون أو الاتفاق يساوى تمامًا ما يشترطه فقهاء الشريعة من أن يكون العمل واجبًا بمقتضى الشريعة أو العرف؛ لأن تعارف الناس على وجوب أمر يساوى الاتفاق على وجوبه (1) فكأن القوانين الوضيعة التى تعاقب على القتل بالترك تسير فى إثر الشريعة الإسلامية وإذا كانت الأغلبية فى فرنسا ترى العقاب على القتل بالترك فإن الأقلية وعلى رأسها "جارسون" ترى أن نصوص القانون الفرنسى - وهى تماثل نصوص القانون المصرى - لا تتسع للعقاب على القتل بالترك، وأنه إذا كان لابد من العقاب على هذه الجرائم فيتعين إصدار تشريع خاص يعاقب عليها.
أما فى إنجلترا فالقانون الإنجليز لا يفرق بين ما إذا كانت الجريمة ارتكبت بفعل أو ترك، ويعاقب على الحالين فمن كان متكفلاً بطفل ومنع عنه الطعام حتى مات جوعًا يعاقب بعقوبة القتل العمد.
وفى إيطاليا نص فى قانون العقوبات الإيطالى الصادر فى 19/10/1930 على أنه "إذا لم يمنع الإنسان حادثًا هو ملزم قانونًا بمنعه فإن عدم منعه هذا الحادث يساوى إحداثه" أى: أن القانون الإيطالى يعاقب عل القتل بالترك إذا كان العمل مما يوجبه القانون.
وفى مصر تعاقب المحاكم المصرية على القتل بالترك، فقد حكمت محكمة النقض فى قضية تلخص وقائعها فى أن المتهم لعداء بينه وبين والد المجنى عليهما
_________
(1) توجب الشريعة الوفاء بالعقود والاتفاقات , فمن كان عليه واجب طبقاً لاتفاق فهو واجب طبقاً للشريعة الإسلامية ما لم يكن مخالفاً لنصوص الشريعة.(2/59)
خطف طفليه ووضعهما فى زراعة قصب بعد أن أحدث بهما إصابات أعجزتهما عن الحركة ثم تركهما يموتان جوعًا، وقد مات أحدهما فعلاً وأسعف الآخر بعد العثور عليه، وظهر من تشريح جثة القتيل أن وفاته حصلت من الصدمة العصبية الناشئة عن الكسور والرضوض التى به مع ضعف الحيوية الناشئ عن عدم التغذية، وقد قالت المحكمة فى معرض بيان نية القتل: "إنه لا نزاع فى أن تعجيز شخص عن الحركة بضربه ضربًا مبرِّحًا وتركه فى مكان منعزل محرومًا من وسائل الحياة بنية القتل يعتبر قتلاً عمدًا حتى كانت الوفاة نتيجة مباشرة لتلك الأفعال" (1) .
وهكذا يتبين أن الشريعة الإسلامية سبقت القوانين الوضعية فى تقرير عقوبة القتل بالترك بأكثر فى ألف سنة، وأن القواعد التى وضعتها هذه الحالة هى نفس القواعد التى أخذ بها القوانين أخيرًا.
73 - عصمة القاتل: ويشترط فى الفعل القاتل أن يكون صادرًا من معصوم حتى يمكن اعتباره مسئولاً عن الجريمة. فإن كان غير معصوم فإنه لا يسأل عن الفعل إذ يباح لغير المعصوم.
ومعنى العصمة بالنسبة للقاتل يختلف عنه بالنسبة للمقتول، فالعصمة بالنسبة للمقتول هى أن لا يكون مهدر الدم سواء كان ملتزمًا أحكام الإسلام كالمرتد أو الزانى المحصن أم غير ملتزم لها كالحربى. أما العصمة بالنسبة للقاتل فهى التزام أحكام الإسلام سواء كان الملتزم مهدر الدم أو محقونة، فيعتبر المرتد والزانى المحصن والقاتل عمدًا معصومين إذا ارتكبوا القتل ولكن دمائهم مهدرة لأنهم ملتزمون بأحكام الإسلام وهو يحرم القتل كما يحرم غيره من الجرائم التى يؤدى ارتكابها إلى اهدار الدم، فإذا أهدر شخص دم نفسه بارتكاب جريمة فليس له أن يتخذ من ذلك سندًا لارتكاب أية جريمة بحجة أنه أصبح مهدر الدم.
_________
(1) نقض فى 28 ديسمبر سنة 1936 قضية رقم 2105 سنة 6 ق.(2/60)
وإذا كانت العصمة بالنسبة للقاتل هى إلتزام أحكام الإسلام فإن كل قاتل معصوم إلا الحربى (1) فإنه لا يعتبر معصومًا حال حرابته، ومن ثم فهو غير مسئول عن الجرائم التى يرتكبها ولو أسلم بعد إرتكابها، لما تواتر من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من عدم عقابهم من أسلم على ما فعله فى حال حرابته، كما أنه لا يسأل عن جرائمه السابقة، ولو عقدت له ذمة أو أمان لقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
واعتبر الحربى غير معصوم وعدم عقابه عن أى جريمة يرتكبها هو عين العدالة، لأن حالة الحرب القائمة بين دولته والدولة الإسلامية تقتضى أن يكون دم الحربى وماله هدرًا ومباحًا للمسلم، وأن يجعل مال المسلم ودمه هدرًا ومباحًا للحربى فالشريعة لا تميز المسلم عن الحربى وتبيح فى حالة الحرب لأحدهما ما تبيحه للآخر.
وتعتبر الجزية والأمان والهدنة التزامًا بأحكام الإسلام ولو من بعض الوجوه، فإذا دخل الحربى فى عقد من هذه العقود اعتبر معصومًا وعوقب على كل جريمة يرتكبها بعد العقد.
74- كل ما سبق محله أن يكون من شأن فعل الجانى إحداث الوفاة وأن يحدثها فعلاً فإن لم يكن من شأن الفعل إحداث الوفاة أصلاً، كمن حاول قتل آخر بسلاح نارى غير معمر، فإنه يمكن القول بأن الفقهاء لا يرون العقاب على ذلك الفعل بدليل أنهم لم يتعرضوا له أصلاً فى باب القتل والجرح، وفى هذا يتفق فقهاء الشريعة على الأقل مع من يقولون من شراح القوانين الوضعية لنظرية الجريمة المستحيلة، وتعليل عدم العقاب فى القانون هو أن جريمة القتل لم تقع ولا عقاب
_________
(1) راجع: الشرح الكبير للدردير ج4 ص210 , مواهب الجليل للحطاب ج6 ص230 , نهاية المحتاج ج7 ص250 , بدائع الصنائع ج7 ص236 , 237 , 252 , شرح فتح القدير ج4 ص349 , المغنى ج10 من 436 إلى 439 و448 و483.(2/61)
على جريمة لم تقع، وأن جريمة الشروع فى القتل لا يكفى لوقوعها أن يقصد الجانى القتل، بل يجب أن تكون الوسيلة التى استخدمت من شأنها إحداث القتل، وما دامت الوسيلة لا تحدث القتل أصلاً فلا تقع جريمة الشروع ولا عقاب على جريمة لم تقع أو أن الجريمة التامة وهى القتل يستحيل تنفيذها والشروع هو البدء فى التنفيذ فالجريمة التى يستحيل تنفيذها يستحيل بدء تنفيذها هذا هو التعليل القانونى لعدم العقاب ولى فى مبادئ الشريعة ما يمنع قبول مثل هذا التعليل.
على أن فقهاء الشريعة إذا كانوا لم يذكروا شيئًا فى باب القتل عن عقاب من حاول جريمة مستحيلة فليس معنى ذلك أن العقاب غير جائز شرعًا لأن مبادئ الشريعة فى الواقع لا تمنع من العقاب على الشروع فى الجريمة المستحيلة إذا رأت السلطة التشريعية ذلك ما دام الفعل فى ذاته اعتداء، والتفسير الصحيح لسكوت الفقهاء هو أنهم فى باب القتل يتكلمون عن جريمة القتل والجرح المعاقب عليها بالقصاص والدية إذا ارتكبت فعلاً، فإذا حاول الجانى ارتكابها وأخفقت وسائله فى الوصول إلى النتيجة المنشودة فعوقبته التعزير وتقرير عقوبة التعزير وتقديرها متروك للسلطة التشريعية تحدده كما تشاء، فضلاً عن أنهم فى باب التعزير نصوا على أن التعزير جائز فى كل معصية ليس لها حد مقدر والشروع فى الجريمة المستحيلة معصية لم يرد فيها حد مقدر.
75 - وإذا كان من شأن الفعل أن يحدث الوفاة ولكنه لم يحدثها فعلاً فإما أن يكون ذلك راجعًا إلى أن الجانى لم يصب المجنى عليه أو لأنه أصابة وشفى من إصابته، فإذا كان الجانى حاول إصابة المجنى عليه وأخفق فى إصابته؛ كأن اطلق عليه مقذوفًا ناريًا أو رماه بسهم لم يصبه، أو ضربه بسيف فحاد عنه، فذلك هو ما يسمى بالشروع الخائب فى القوانين الوضعية. وعقوبته فى الشريعة الإسلامية التعزير؛ أى العقوبة التى تقدرها السلطات التشريعية لأن الفقهاء يرون التعزير فى الشتم وفى المواثبة.
ومعنى المواثبة: محاولة الاعتداء البسيط فمن باب أولى أن يعزز من حاول الاعتداء الجسيم.(2/62)
وإذا كان فقهاء الشريعة لم يضعوا نظرية منظمة عن الشروع فى الجرائم كما فعل شراح القوانين فليس معنى ذلك أن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين الجريمة التامة والشروع فيها، إذ الواقع أنها فرقت بين الجريمة التامة والشروع من وقت نزولها، حيث جعلت التعزير فى نوعين من الجرائم؛ فجعلته أولاً فى كل جريمة لم يشرع فيها حد وجعلته ثانيًا فى كل جريمة شرع فيها حد إذا كانت الجريمة لم تتم؛ لأن الحد شرع فقط للجريمة التامة فيبقى ما دون التمام لعقوبة التعزير.
فمثلاً جريمة الزنا من جرائم الحدود وحدها الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن، وهى لا تتم إلا بالوطء، ومعناه دخول الحشفة أو قدرها فى الفرج، فإذا لم تتم الجريمة على هذا الوجه فلا رجم ولا جلد، وكانت العقوبة التعزير فيما دون الوطء؛ أى فيما دون تماما الجريمة.
وجريمة السرقة حدها القطع، وهى لا تتم إلا بإخراج المال من حرزه، فإذا ضبط المتهم قبل إخراج المال من الحرز عُزِّر ولم يقطع؛ لأن القطع لا يكون إلا بتمام الجريمة وهى لم تتم.
وكذلك جريمة القتل وحدها القصاص، ولا تتم إلا بفعل من الجانى يقع على المجنى عليه ويكون من شأنه إحداث الوفاة، فإذا بدأ المتهم جريمته وخاب أثرها لسبب لا دخل لإرادته فيه وجب التعزير. أما إذا أصيب المجنى عليه وشفى من إصابته فالفعل لا يعتبر فى الشريعة جريمة لم تتم، أو بتعبير آخر شروعًا فى قتل وإنما يعتبر جرحًا؛ لأن فعل الجانى كوّن جريمة تامة مستقلة هى جريمة الجرح، ولهذه الجريمة عقوبة خاصة فى حالة العمد هى القصاص كلما أمكن ذلك أو الدية فليس إذن ثمة ما يدعو لاعتبار الفعل جريمة لم تتم وتعزير الجانى عليه.
وقد أخذ القانون المصرى كغيره من القوانين الوضعية بهذه الطريقة فى جرائم الضرب، فإذا لم ترك الضرب عاهة مستديمة أو لم يؤد لوفاة المجنى عليه، فلا يعتبر الجانى شارعًا فى إحداث عاهة أو ضرب مفض لموت وإنما يعتبر ضاربًا أو جارحًا؛ لأن القانون يعتبر الضرب والجرح جريمة مستقلة أدنى مرتبة من إحداث العاهة والضرب المفضى للموت.(2/63)
ولكن كلاً من القانون المصرى والفرنسى يختلف مع الشريعة فى حالة القتل العمد إذ يعتبر الجريمة التى لم تتم شروعًا فى قتل ولا يعتبرها جرحًا. فكأن هذين القانونين يؤاخذان الفاعل على فعله بحسب قصده من هذا الفعل، أما الشريعة فتؤاخذه على فعله طبقًا لنتيجة فعله، وليس لهذا الخلاف أهمية؛ لأنه فى تصوير الفعل القانونى والمهم أن كل تشريع يعاقب على الفعل بالعقوبة التى يراها مناسبة له.
76 - تطبيقات على الأفعال القاتلة: رأينا أن نورد أنواعًا مختلفة من الأفعال القاتلة ونبين آراء الفقهاء فيها تطبيقًا للقواعد التى سبق عرضها، فإن ذلك أحرى أن يثبت هذه القواعد فى ذهن القارئ ويساعد على فهم أسس الخلاف بين الآراء المختلفة.
77 - القتل بالمحدد: والمحدد هو كل آلة محددة جارحة أو طاعنة لها مَوْر فى البدن؛ أى تفرق أجزاء الجسم. ولا يشترط أن يكون المحدد من مادة معينة فيصح أن يكون من الحديد أو النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضة أو الزجاج أو الخشب أو القصب أو العظم أو غير ذلك.
ومثل المحدد: السكين والرمح والبندقية والمسلة والسهم والقنبلة والسيف. وحكم المحدد أن الجانى إذا أحدث به جرحًا كبيراُ فأدى إلى الموت فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين الفقهاء.
فاذا جرحه جرحا صغيرا كشرطة الحجام أو غرزة بإبرة أو شوكة فى غير مقتل فبقى خمنا - أى سقيمًا - حتى مات، أو مات فى الحال ففى المسألة رأيان عند الشافعى وأحمد: أولهما: ان القتل ليس عمدًا بل هو شبه عمدٍ، لأن الإبرة والشوكة والجرح لا تقتل غالبًا، ووسيلة القتل يجب أن تكون قاتلة غالبًا. ثانيهما: ان القتل عمد لأنه بمحدد، والمحدد لا تشترط فيه غلبة الظن(2/64)
فى حصول القتل، بعكس غير المحدد فلابد أن يكون قاتلاً غالبًا (1) .
وفى مذهب أبى حنيفة (2) يرون القتل فى حالة الإبرة والشوكة شبه عمد لأن الآلة وإن كانت جارحة إلا أنها لم تُعَدَّ للقتل، فالإبرة مثلاً معدة للخياطة ولا يقصد بها القتل عادة. أما الحرح البسيط فى غير مقتل فهو قتل عمد إذا أدى للموت وكان من آلة قاتلة معدة للقتل.
ويرى مالك أن الجرح والغرز قتل عمد سواء كان فى مقتل أو فى غير مقتل، ما دام الفاعل متعمدًا ولم يأت بالفعل على وجه اللعب أو التأديب (3) .
وهكذا يتمسك كل بالشروط التى وضعها للآلة القاتلة. فالشافعيون والحنابلة يشترطون أن تقتل غالبًا بالرغم من أنها محدد، وإن كان بعضهم لا يرون هذا الشرط فى الآلة إذا كانت محددًا، والأحناف يشترطون أن تكون الآلة قاتلة ومعدة للقتل، أما مالك فلا يشترط شيئًا إلا أن يكون الفعل متعمدًا على وجه العدوان.
78 - القتل بالمثقل: والمثقل هو ما ليس له حد كالعصا والحجر. وآراء الفقهاء مختلفة فى المثقل.
فمالك يرى كل قتل بالمثقل هو قتل عمد، سواء كان المثقل يقتل غالبًا أو لا يقتل غالبًا، ما دام الفعل متعمدًا على وجه العدوان لا على وجه اللعب والتأديب.
ويرى الشافعى وأحمد أن الضرب بمثقل يقتل غالبًا هو قتل عمد إذا أدى للموت كالعصا الغليظة والحجر وعمود الحديد. ويلحق بالمثقل ما يعمل عمله كإلقاء حائط أو سقف والإلقاء من شاهق. ويعتبر أن القتل عمدًا أيضًا ولو كان الضرب بمثقل صغير كعصا خفيفة أو عصا صغير أو لكزة يد فى مقتل أو فى حال ضعف
_________
(1) نهاية المحتاج ح7 ص238 , المغنى والشرح الكبير ج9 ص320 , 321 , الإقناع ج4 ص163.
(2) البحر الرائق ج8 ص287 - 289.
(3) الشرح الكبير للدردير.(2/65)
المضروب لمرض أو صغر أو حر مفرط أو برد شديد ولو ضربه ضربة واحدة. وكذلك يعتبر قاتلاً عمدًا ولو لم يكن الضرب فى مقتل، ولو لم يكن المضروب ضعيفًا أو صغيرًا ... الخ، وذلك فى حالة تكرار الضرب؛ لأن تكرار الضرب وموالاته يقتل غالبًا. وهذا كله قائم على أساس القاعدة التى أخذ بها الشافعى وأحمد، وهى اشتراط أن تكون الآلة أو الوسيلة قاتلة غالبًا بذاتها أو لظروف الفعل ووقته وحال المجنى عليه وأثر الفعل فيه.
أما أبو حنيفة فيرى القتل بالمثقل قتلاً شبه عمد أيًّا كان المثقل ثقيلاً أو خفيفًا؛ لأنه يشترط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا وأن تكون معدة للقتل، والمثقل إذا قتل غالبًا فإنه لا يعد للقتل، ولا يستثنى أبو حنيفة من هذا إلا الحديد فى رواية ويلحق بالحديد ما هو فى معناه أى ما يستعمل استعماله كالنحاس والصُّفْر فهذه إذا استعملت فى القتل كان القتل عمدًا، ولو لم تكن محددة أو طاعنة أى ولو كانت مثقلاً كالعمود والملكمة والمطرقة والعصا الملبسة بالحديد. وقد استثنى أبو حنيفة الحديد لأنه يعمل عمل السلاح أو لأنه يعتبر سلاحًا بنفسه لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ، فألحقه بالسلاح فى الحكم وجعل حكمه حكم المحدد وألحق ما فى معنى الحديد بالحديد فى الحكم (1) .
ويشترط البعض فى الحديد أن يترك جرحًا ليكون القتل عمدًا. ولكن البعض الآخر يسوى فى الحكم بين الجراح والرضوض ويعتبر الفعل عمدًا فى الحالين (2) .
ويرى أبو يوسف ومحمد أن القتل بالمثقل قتل عمد إذا كان المثقل يقتل غالبًا، واعتبر المثقل آلة معدة للقتل باستعماله فى القتل، فتوفر للمثقل شرطا أبى حنيفة، وهو أن يكون قاتلاً غالبًا وأن يكون معدًا للقتل، فإذا لم يكن المثقل قاتلاً
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص238 وما بعدها , المغنى والشرح الكبير ج9 ص320 , 321 وما بعدها.
(2) الزيلعى ج6 ص98.(2/66)
غالبًا فالقتل شبه عمد ولو توالى الضرب (1) .
وحجة أبى حنيفة فى المثقل قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل"، وقد أخذ أبو حنيفة الحديث على إطلاقه وقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سمى هذا النوع من القتل عمد الخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص، فهو إذن ليس بعمد، وإنما شبه عمد، ولما كان السوط والعصا والحجر أدوات غير جارحة وكل منها مثقل، فكل مثقل له حكمها؛ أى أن الضرب به لا يكون إلا شبه عمد ولم يستثن من ذلك إلا الحديد الذى لا حد له، لأن الحديد آلة معدة للقتل بطبيعتها بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ولأن القتل بعمد الحديد معتاد.
أما بقية الأئمة فقد فسروا الحديث على أن المقصود به المثقل الصغير كالعصا الرفيعة والسوط والحجر الصغير. وهذا أساس الاختلاف بين الأئمة فى حكم المثقل.
79 - الإلقاء فى مهلكة: كأن يجمع بينه وبين أسد فى زُبْية أو ينهشه كلب أو سبع أو حية أو يلسعه عقرب.
يرى أحمد أن الجانى إذا جمع بين المجنى عليه وبين أسد أو نحوه فى مكان ضيق فقتله الأسد، فهو عمد إذا فعل به السبع فعلاً يقتل مثله، وإن فعل به السبع فعلاً أو فعله الآدمى لم يكن عمدًا فالفعل ليس قتلاً عمدًا، لأن السبع صار آلة للآدمى فكان فعله كفعله، وإن ألقاه مكتوفًا بين يدى أسد أو نمر فقتله فهو عمد، وكذلك إن جمع بينه وبين حية فى مكان ضيق فنهشته فقتله فهو عمد وكذلك لو لسعه عقرب من القواتل.
وإن ألقاه فى أرض مسبعة أو ذات حيات فقتله فهو عمد إن كان الفعل يقتل غالبًا، وإلا فهو شبه عمد.
وإن نهشته حية أو سبع فقتله فهو عمد، فإن كان مما لا يقتل غالبًا كثعبان الحجاز أو سبع صغير ففيه رأيان:
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص287 - 289.(2/67)
أحدهما: أنه عمد لأن الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل، ولأن الثعبان والسبع من جنس ما يقتل غالبًا.
وثانيهما: هو شبه عمد لأن الفعل لا يقتل غالبًا.
وإن كتفه وألقاه فى أرض غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه عمد.
وفى مذهب أحمد من يرى عدم مسئولية الجانى فى حالة الجمع بين المجنى عليه وأسد أو حية لأن الأسد والحية يهربان من الآدمى ولأن الفعل سبب غير ملجئ (1) .
أما فى مذهب الشافعى فيفرقون بين الصبى والبالغ، ويرون أنه إذا وضع جان صبيًا فى مسبعة ولو زبُيْة أسد غاب عنها فأكله السبع فلا مسئولية على الجانى لأن الوضع ليس بإهلاك ولم يلجئ السبع إلى افتراسه.
أما إذا ألقى الصبى على السبع وهو فى زبيته أو ألقى السبع عليه أو أغرى السبع به فهو قتل شبه عمد؛ لأن السبع يثبت فى المضيق وينفر بطبيعته من الآدمى فى المتسع ما لم يكن السبع ضاربًا يقتل غالبًا فهو عمد.
وفى المذهب رأى بمسئولية الجانى كلما عجز المجنى عليه أن ينتقل من المحل المهلك، فإن عجز فالقتل شبه عمد، إلا إذا كان السبع ضاريًا لا يتأتى الهرب منه فهو عمد. فإن كان المجنى عليه يمكنه الانتقال من المحل المهلك فلم ينتقل أو وضع بغير مسبعة فاتفق أن سبعًا أكله أو كان المجنى عليه بالغًا فالفعل هدر لا مسئولية عنه (2) .
وفى مذهب أبى حنيفة أن لاشىء على الجانى فى كل هذه الصور فى أى حالة، ولو قتله السبع أو نهشته الحية أو لسعته العقرب (3) .
أما مالك فالفعل عنده فى كل حال قتل عمد، سواء كان الفعل يقتل غالبًا أم لا ما دام القصد منه العدوان المحض (4) .
_________
(1) المغنى والشرح الكبير ج9 ص324 , 325.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص332 , وراجع ص248 أيضاً.
(3) البحر الرائق ج8 ص294.
(4) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217.(2/68)
وأساس الخلاف بين القائلين بالمسئولية ومن لا يقول بها هو اختلاف وجهة النظر فى طبيعة الحيوان وقدرة المجنى عليه على التخلص، فمن رأى أن الحيوانات تنفر من الإنسان وتهرب منه وأن المجنى عليه يستطيع أن يتجنب الحيوان، وأن وجود الإنسان ولو مكتوفًا أمام الحيوان ليس فيه ما يلجئ الحيوان لافتراسه أو نهشه أو لسعه - من رأى هذا فقد بنى على رأيه عدم المسئولية كما فعل أبو حنيفة. ومن رأى أن الصغير لا يستطيع أن ينجى نفسه كما يفعل الكبير، أو أن الحيوان لا ينفر منه كما ينفر من الكبير فقد رأى المسئولية فى حالة الصغير دون الكبير. ومن رأى أن الهلاك مصدره عجز المجنى عليه عن الابتعاد عن المحل المهلك، فقد جعل المسئولية فى حالة العجز كما فعل بعض الشافعية.
ومن لم ير هذا ولا ذاك فقد حمل الجانى المسئولية إذا كان الفعل يقتل غالبًا على اعتبار أنه قتل عمد، فإن لم يكن يقتل غالبًا فهو شبه عمد كما يفعل أحمد. أما مالك فقد اعتبر الفعل مهلكًا ولم ينظر إلى غير هذا من الاعتبارات فإذا انتهى بإهلاك فالفعل قتل عمد.
80 - التغريق والتحريق: يتميز مذهب الشافعى وأحمد فى هذه المسألة، ومن رأيهما أن الجانى إذا ألقى المجنى عليه فى ماء أو نار لا يمكنه التخلص منها؛ إما لكثرة الماء والنار، أو لأنه مكتوف يعجز عن الخروج منها أو لأن الجانى منعه من الخروج، أو لكونه فى حفرة لا يقدر على الصعود منها، أو فى بئر عميقة، فإذا أدى الفعل إلى موت المجنى عليه فهو عمد، لأنه يقتل غالبًا.
ولإن ألقاه فى ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه مختارًا حتى مات فلا مسئولية على الفاعل؛ لأن الفعل لم يقتله وإنما قتله لبثه فى الماء وهو فعل نفسه فلا يسأل عنه غيره.
وإن ألقاه فى نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو ألقاه فى طرف منها بحيث يمكنه الخروج منها بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا خلاف فى أن الفعل لا يعتبر قتلاً عمدًا؛ لأنه لا يقتل غالبًا ولكنهم اختلفوا فى تحديد المسئولية على الجانى،(2/69)
فرأى البعض أنه لا يسأل عن القتل قياسًا على حالة الإلقاء فى مار يسير، وإنما يسأل فقط عن ما أصابت النار منه باعتباره جارحًا، ويرى البعض أن الجانى مسئول عن القتل شبه العمد لأن فعله أدى إلى الموت، ولأن للنار حرارة شديدة فربما أعجزته عن معرفة طريق الخلاص أو شنجت أعصابه فيعجز عن الخروج منها.
وإن ألقاه فى لجة فالتقمة حوت ففى هذه المسألة رأيان:
أولهما: يقول إنه قاتل لأنه ألقاه فى مهلكة فهلك فأشبه ما لو غرق فى الماء.
والثانى: أن الهلاك كان نتيجة التقام الحوت له فأشبه ما لو قتله آدمى آخر حين ألقى فى الماء، فلا يسأل إلا عن إلقائه فى الماء فقط وهو فعل عقوبته التعزير.
وإن ألقاه فى ماء يسير لا يهلك غالبًا فأكله سبع أو التقمه حوت أو تمساح فهو شبه عمد عند أصحاب الرأى الأول، وعليه التعزير عند أصحاب الرأى الثانى. وإن هلك غرقًا فهو شبه عمد باتفاق (1) .
وإن كان المجنى عليه يحسن السباحة فألقى فى ماء مغرق وهو مكتوف أو زَمِنٌ أو ضعيف فالفعل قتل عمد إن مات، وإن منع من السباحة عارض بعد الإلقاء كريح أو موج فمات فشبه عمد، وإن كان العارض قبل الإلقاء فالفعل عمد لأن الإلقاء مهلك غالبًا.
وإن كان يحسن السباحة فامتنع عنها مع إمكانها فهلك فيرى البعض أن لا مسئولية على الملقى لأنه هلك بامتناعه عن السباحة. ويرى البعض أن الفعل قتل شبه عمد لأن الإنسان لا يسلم نفسه للموت عادة، وقد يمنعه عن السباحة دهشة أو عارض باطن، ولما كان الفعل لا يهلك غالبًا ما دام يحسن السباحة فهو قتل شبه عمد (2) .
ويفرق أبو حنيفة وأصحابة بين التحريق والتغريق؛ لأنهم يلحقون التحريق
_________
(1) المغنى ج9 ص326 , نهاية المحتاج ج7 ص245.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص243 , 244.(2/70)
بالسلاح إذ يعمل عمله فيفرق أجزاء الجسم ومن ثم فالنار عندهم معدة للقتل، فإن كانت تقتل غالبًا فالفعل عمد، وإن كانت لا تهلك غالبًا فالفعل شبه عمد ويلحقون بالنار الماء المغلى والأشياء المصهورة والوضع فى فرن محمى، وعلى هذا الأساس يتفق رأى أبى حنيفة وأصحابه فى التحريق مع رأى الشافعى وأحمد.
أما التغريق فهو شبه عمد دائمًا عند أبى حنيفة لأنه يلحقه بالمثقل وهو وإن قتل غالبًا ليس معدًا للقتل، ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان أنه معد للقتل إذا استعمل وسيلة له، وعلى هذا فإذا كان الماء قليلاً لا يقتل غالبًا وترجى منه النجاة فى الغالب وألقى فيه إنسان فمات فالفعل شبه عمد لا خلاف فيه فى مذهب أبى حنيفة، وإن كان الماء عظيمًا ولكن المجنى عليه يستطيع النجاة بالسباحة وكان يحسنها، وليس ثمة ما منعه منها بأن لم يكن مشدودًا ولا مثقلاً فمات منها فهو شبه عمد عندهم أيضًا، وإن كان بحيث لا يمكنه النجاة بالسباحة أو لا يحسن السباحة فهو شبه عمد عند أبى حنيفة - لما تقدم - وعمد عند أبى يوسف ومحمد وإن ألقاه فى بئر فالفعل شبه عمد عند أبى حنيفة وعمد عندهما إن كان موضعًا لا ترجى منه النجاة غالبًا، فإن كانت ترجى فهو شبه عمد (1) .
أما مالك فالتحريق والتغريق عنده قتل دائمًا سواء كان الفعل مهلكًا غالبًا أم لا ما دام الفعل قد أدى للموت ولم يكن على وجه اللعب (2) .
وأساس الخلاف بين الفقهاء هو اختلاف وجهة نظرهم فى شروط آلة القتل أو وسيلته وقد سبق أن شرحنا هذا الموضوع فى فقرة 32 وما بعدها.
81 - الخنق: المقصود من الخنق منع خروج النفس بأى وسيلة سواء شنق الجانى المجنى عليه بحبل أو خنقه بيديه أو بحبل أو غمه بوسادة أو بأى شىء وضعه على فيه وأنفه، فإن فعل به ذلك فى مدة يموت فى مثلها فهو قتل عمد وإن كانت مدة لا يموت فى مثلها فهو قتل شبه عمد.
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص294.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , 216.(2/71)
وإن خنقه وتركه متألمًا حتى مات فهو عمد. أما إن تنفس وصح بعد ذلك ثم مات فلا يسأل الجانى عن الموت لأنه لم يكن من الخنق.
ويلحقون بالخنق عصر الخصيتين وحكمه حكم الخنق تمامًا فإن كان العصر شديدًا بحيث يقتل غالبًا فهو قتل عمد، وإن كان بحيث لا يقتل غالبًا فهو شبه عمد.
هذا هو رأى الشافعى وأحمد فى الخنق (1) وظاهر أنهما يطبقان فى الخنق قاعدتهما التى وضعاها فى الوسيلة القاتلة أو أداة القتل، فإن كانت تقتل غالبًا اعتبر القتل عمدًا وإن لم تكن اعتبر شبه عمد.
أما أبو حنيفة فيعتبر الخنق فى كل الأحوال قتلاً شبه عمد تطبيقًا لقاعدته الخاصة فى الوسيلة القاتلة وهى أن تقتل غالبًا وأن تكون معدة للقتل والخنق وإن قتل غالبًا ليس وسيلة معدة للقتل، ولكن أبا يوسف ومحمدًا يعتبران الخنق وسيلة معدة للقتل ومن ثم عندهما قتل عمد إذا قتل غالبًا وشبه عمد إذا لم يقتل غالبًا (2) .
والخنق عند مالك عمد فى كل الأحوال ما دام قد وقع بقصد العدوان ولم يكن على وجه اللعب والمزاح (3) .
82 - الحبس ومنع الطعام والشراب: يعتبر الحبس مع منع الطعام والشراب قتلاً عمدًا عند الشافعى وأحمد إذا مات المحبوس فى مدة يموت فى مثلها غالبًا، وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال، فإذا منع عنه الماء فى شدة الحر مات عطشًا فى الزمن القليل وإن كان الوقت باردًا أو معتدلاً لم يمت إلا فى الزمن الطويل، والكبير قد يتحمل عن الصغير والمتقشف قد يصبر أكثر من المرفه، فتراعى هذه الاعتبارات فإن مات فى مدة يموت فى مثلها
_________
(1) الشرح الكبير مع المغنى ج9 ص326.
(2) البحر الرائق ج8 ص294.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص210.(2/72)
غالبًا فالقتل عمد وإن مات فى مدة لا يموت فى مثلها غالبًا فهو شبه عمد (1) .
ومثل المنع عن الطعام والشراب ما لو عزاه أو منعه عن الاستظلال حتى قتله البرد أو الحر.
وإن كان به جوع أو عطش سابق على حبسه وعلم الحابس بذلك فالقتل عمد، إذ الغرض أن مجموع المدتين بلغ المدة القاتلة وإن لم يعلم ففى المسألة رأيان:
أحدهما: أن القتل عمد؛ لأن الحبس أهلك المحبوس فهو كما لو ضرب المريض ضربًا يهلكه دون الصحيح وهو جاهل مرضه فإنه يسأل عن قتله.
والرأى الثانى: يعتبر القتل شبه عمد لانتفاء قصد الإهلاك إذ الفاعل لم يأت بفعل مهلك؛ أى أن المدة التى حبس فيها المجنى عليه لا تملك عادة (2) .
وأبو حنيفة لا يرى مسئولية الفاعل لأن الموت حصل بالجوع والعطش لا بالحبس والجانى لم يفعل إلا الحبس ولكن أبا يوسف ومحمدًا يعتبران الجانى قاتلاً شبه عمد (3) لأن الجانى منع بفعله الطعام والماء عن المجنى عليه ولا حياة له بغيرهما فهو الذى أهلكه بمنعه. ولكنهما لا يعتبران القتل عمدًا لأنهما لا يريان فى الحبس وسيلة معدة للموت، وإن كان فى ذاته وسيلة تقتل غالبًا. فهما فى رأيهما مقيدان بتوفر شرطى الوسيلة القاتلة، كما أن الشافعى وأحمد يصدران فى رأيهما عن هذه الوجهة.
ويرى مالك الفعل فى كل حال قتلاً عمدًا ما دام أنه قد صدر على وجه العدوان (4) .
83 - القتل بسبب شرعى: ومثله شهادة الزور على رجل بقتل عمد
_________
(1) المغنى ج9 ص328.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص240.
(3) البحر الرائق ج8 ص395.
(4) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215.(2/73)
أو زنًا أو ردة، فحكم بقتله ثم يتضح كذب الشهود بعد تنفيذ الحكم، والأئمة جميعًا (1) يعتبرون الشاهد قاتلاً عمدًا، ولأن القتل بالتسبب وليس مباشرًا فإن ابا حنيفة لا يرى فيه القصاص، والقاعدة عنده أن القتل بالتسبب لا قصاص فيه إلا إذا كان السبب ملجئًا.
والقاضى إذا حكم بالإعدام على شخص ظلمًا وهو عالم بذلك ومتعمد له اعتبر قاتلاً للمحكوم عليه عمدًا، وولى الدم إذا قتل المحكوم عليه بالقصاص ظلمًا وهو عالم أنه مظلوم يعتبر قاتلاً له عمدًا.
84 - القتل بوسيلة معنوية: يرى مالك أن القتل بطريق معنوى معاب عليه باعتباره قتلاً عمدًا. فمن ألقى على إنسان حية ولو كانت ميتة فمات فزعًا ورعبًا فهو قاتل له عمدًا، وإذا سلّ عليه سيفًا فمات فزعًا فهو قاتل له عمدًا (2) .
ويرى أحمد أن الجانى إذا شهر سيفًا فى وجه إنسان أو دلاَّه من شاهق فمات من روعته أو صاح به صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه فمات، أو تغفل عاقلاً فصاح به فخر ميتًا - فإنه إن تعمد ذلك كله فهو قاتل قتلاً شبه عمد ولا يعتبر أحمد القتل عمدًا لأن وسيلة القتل لا تقتل غالبًا.
وإذا بعث السلطان لامرأة ليحضرها إلى محل الحكم فأفزعها ذلك وأسقطت جنينًا ميتًا ضمنه، فإن ماتت المرأة من الإجهاض الذى ترتب على الفزع فالحادث قتل شبه عمد. وكذلك من استعدى السلطان على امرأة فأُحضرت إلى محل الحكم ففزعت وألقت جنينها أو ماتت من الفزع كان القاتل لها هو المستعدى ما لم تكن ظالمة له فلا يكون مسئولاً لأنها أحضرت بسبب ظلمها (3) .
_________
(1) المغنى ج9 ص332 , نهاية المحتاج ج7 ص241 , بدائع الصنائع ج7 ص239.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217.
(3) المغنى ج9 ص487 , 580.(2/74)
ويتفق مذهب الشافعى فى مجموعه مع مذهب أحمد، إلا أن الشافعية منقسمون فى هذه المسالة، فالبعض يفرق بين المميز وغير المميز، ويرون أن لا مسئولية على الفاعل إذا كان المجنى عليه مميزًا، لأن المميز لا يفزع عادة وإذا فزع فنادرًا ولا حكم للنادر. ويرى البعض الآخر أن لا فرق بين المميز وغير المميز وأن الفاعل مسئول عن فعله ما دام قد أدى للموت والفريقان يعتبران الفعل فى حالة المسئولية قتلاً شبه عمد، لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا، ولكن القائلين بقصر العقوبة على حالة غير المميز بعضهم يعتبر الفعل قتلاً عمدًا وبعضهم يعتبره شبه عمد.
وللشافعية رأى خاص فى حالة الإجهاض من الفزع. فهم يرون مسئولية السلطان عن الإجهاض وعن موت المرأة بسبب الإجهاض ولكن إذا ماتت المرأة من الفزع لا بسبب الإجهاض فلا مسئولية؛ وعلة ذلك على ما نظن أن الحاكم حين استدعاها كان يؤدى واجبًا عليه، أو يستعمل حقًا له قبلها وكذلك الشاكى كان يستعمل حقه (1) .
ويرى أبو حنيفة أن من صاح على إنسان فجأة فمات من صيحته فهو قاتل له قتلاً شبه عمد (2) .
85 - التسمم: لا يخصص فقهاء الشريعة للتسمم فصلاً خاصًا مكتفين
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص330 - 332.
(2) البحر الرائق ج8 ص294. يحمل الفقهاء مسئولية إجهاض المرأة إذا طلبها ففزعت وألقت حملها؛ اتباعاً لما فعل عمر رضى الله عنه , فقد طلب امرأة ففزعت وأخذها الطلق فألقت ولداً صاح صيحتين ومات فاستشار عمر اصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب. وصمت على. فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا رايهم فقد أخطأ رايهم , وإن كانوا قالوا فى هواك فلم ينصحوا لك , إن ديته عليك لأنك أفزتها فألقته. فقال عمر: اقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسكها على قومك. والفقهاء وإن اتفقوا على مسئولية السلطان فغنهم يختلفون فيمن يحمل الديه أهو السلطان نفسه وعاقلته أم بيت المال؟(2/75)
بتطبيق القواعد العامة على هذا النوع من وسائل القتل كما يطبقونها على التغريق والتحريق، وهم يخالفون فى طريقتهم ما يسير عليه شراح القوانين فى مصر وفرنسا وغيرهما من تخصيص فصل للكلام على القتل بالسم. وعلة عدم التخصيص فى الشريعة هى أن عقوبة القتل العمد فى الشريعة واحدة مهما اختلفت وسائل القتل؛ وهى القصاص، فلم يكن ثمة ما يدعو للتخصيص.
أما فى القانون المصرى والفرنسى مثلاً، فإن عقوبة القتل بالسم تختلف عن عقوبة القتل العادى، ومن ثم كان هناك ما يدعو للتخصيص. ويرى مالك أن القتل بالسم قتل عمد فى كل حال سواء كانت المادة سامة كثيرًا أو قليلاً، تقتل غالبًا أو كثيرًا أو نادرًا ما دام الجانى قد انتوى قتل المجنى عليه بهذه الوسيلة، وما دام المجنى عليه قد مات فعلاً.
ويستوى عند مالك أن يقدم الجانى الطعام أو الشراب او اللباس المسموم بنفسه للمجنى عليه أو بواسطة آخر، أو يضعه فى طعامه أو شرابه أو لباسه دون أن يقدمه له (1) , فهو قاتل عمدًا له فى كل حال إلا إذا علم المجنى عليه بأن الطعام أو الشراب مسموم ثم تناوله مع علمه فهو القاتل لنفسه.
ويرى أحمد أن الجانى إذا سقى المجنى عليه السم كرهًا أو خلطه بطعامه أو شرابه فأكله دون أن يعلم بأنه سم فالجانى مسئول عن القتل العمد إذا كان السم مما يقتل غالبًا. فإن كان السم مما لا يقتل مثله غالبًا فالقتل شبه عمد.
وإن خلط السم بطعام نفسه فدخل إنسان منزله دون إذنه وأكله فلا مسئولية على الجاني؛ لأن الداخل هو الذى قتل نفسه بفعله وإذا دخل المجنى عليه المنزل بإذنه - أى بإذن الجانى - وأكل الطعام المسموم دون إذنه فالحكم ما سبق (2) .
ويتفق الشافعى مع أحمد فى حالة الإكراه فإذا سقى الجانى المجنى عليه السم كرهًا عنه فهو قاتل عمدًا إذا كان السم يقتل غالبًا، فإن لم يكن يقتل
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217.
(2) المغنى ج9 ص242.(2/76)
غالبًا فهو شبه عمد. وكذلك الحكم لو أكره إنسانًا على أن يشرب السم بشرط أن لا يعلم بأنه سم.
ويختلف مذهب الشافعى عن مذهب أحمد فيما عدا ذلك، أى فى حالة تقديم الطعام المسموم للمجنى عليه أو وضع السم فى شرابه أو طعامه فيرون أن الطعام المسموم أو الشراب المسموم إذا قدم لضيف فإن كان الضيف صبيًا غير مميز أو مجنونًا أو أعجميًا يرى طاعة المضيف وكان السم مما يقتل غالبًا فالجانى قاتل عمدًا وإن لم يكن مما يقتل غالبًا فالقتل شبه عمد.
أما إذا كان الضيف بالغًا عاقلاً فيرى البعض أن الجانى قاتل عمدًا إذا كان السم مما يقتل غالبًا، فإن لم يكن يقتل غالبًا فالقتل شبه عمد ويرى البعض الآخر أن القتل فى كل حال شبه عمد. ولعل حجتهم أن البالغ العاقل يستطيع أن يمتنع عن تناول المادة المسممة بعكس غير المميز فإنه يغرر به بسهولة ويصعب عليه الامتناع عن تناولها، والقدرة على الامتناع تجعل التسميم غير قاتل غالبًا فيكون القتل شبه عمد، ويرى البعض الثالث أن لا مسئولية على الجان لأنه تناول المادة المسممة بنفسه فقطع فعله فعل الجانى أى أن المباشرة اجتمعت مع السبب فتغلبت عليه. ويرد على ذلك بأن المباشرة لا تغلب السبب إلا إذا اضمحل معها، ولا يضمحل السبب إلا إذا علم المجنى عليه أن الطعام مسموم ثم تناوله ففى هذه الحالة تغلب المباشرة السبب ويقطع فعل المجنى عليه فعل الجانى.
وإذا دس الجانى السم فى طعام المجنى عليه أو شرابه فأكله جاهلاً ومات فيرى الشافعيون فيه الآراء الثلاثة السابقة، ولا يفرقون بين المميز وغير المميز كما فى حالة تقديم الطعام أو الشراب المسموم إلى الضيف (1) .
وأساس الخلاف بين الشافعى وأحمد هو اختلاف الرواة فى حديث اليهودية: قدمت شاة مسمومة للنبى - صلى الله عليه وسلم - فأكل منها هو وبشر بن البراء، وقد روى أنس بن مالك الحديث ولم يذكر أن النبى قتلها لما مات بِشْر، ورواه أبو سلمة
_________
(1) نهاية المحتاج ج3 ص243.(2/77)
فذكر أن النبى أمر بها فقتلت لما مات بِشْر، وقد بنى الشافعى مذهبه على رواية أنس، وبنى أحمد مذهبه على رواية أبى سلمه، ومن هذا الطريق جاء اختلاف المذهبين فى تقديم الطعام المسموم أو دس السم فى طعام المجنى عليه.
أما اختلاف الشافعية فيما بينهم فأساسه أخذ بعضهم برواية أبى سلمة وأخذ البعض برواية أنس بن مالك وجمع البعض الآخر بين الروايتين ومحاولة التوفيق بينهما.
ولا يعتبر أبو حنيفة وأصحابه تقديم الطعام والشراب المسموم للمجنى عليه أو دسه فى طعامه وشرابه قتلاً عمدًا ولو أكله المجنى عليه او شربه جاهلاً بأنه مسموم، وعندهم أن المجنى عليه هو الذى قتل نفه بتناول المادة المسممة ولكن الجانى يعزر لأنه غرر بالمجنى عليه.
أما إذا أَوْجَرَ الجانى المجنى عليه السم إيجارًا أو ناوله له وأكرهه على شربه حتى شرب فالفعل قتل شبه عمد عند أبى حنيفة سواء كان السم يقتل غالبًا أو لا يقتل غالبًا، فإن كان يقتل غالبًا فالفعل قتل عمد؛ لأن السم إذا كان يقتل غالبًا فهو باستعماله معدٌّ للقتل، وإن كان لا يقتل غالبًا فالفعل شبه عمد.
* * *
الركن الثالث: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة
86 - يشترط لاعتبار القتل عمدًا عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه: فإن لم يتوفر هذا القصد فلا يعتبر الفعل قتلاً عمدًا ولو قصد الجانى الاعتداء على المجنى عليه؛ لأن نية العدوان المجردة عن قصد القتل لا تكفى لجعل الفعل قتلاً عمدًا.
87 - ولقصد القتل أهمية خاصة عند الأئمة الثلاثة: لأنه هو الذى يميز القتل(2/78)
العمد عن القتل شبه العمد وعن القتل الخطأ، إذ الفعل الواحد يصلح أن يكون قتلاً عمدًا أو شبه عمد أو خطأ، والذى يميز هذه الأنواع الثلاثة من القتل أحدها عن الآخر هو قصد الجانى، فإن تعمد الجانى الفعل بقصد قتل المجنى عليه فهو قتل عمد، وإن تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل فهو شبه عمد، وإن تعمد الفعل دون قصد عدوانى أو دون أن يقصد نتيجته فهو خطأ.
88 - ولا يشترط مالك لاعتبار الفعل قتلاً عمدًا أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه: ويستوى عنده أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه أو أن يتعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل ما دام أنه لم يتعمد الفعل على وجه اللعب أو التأديب، فالجانى فى كلا الحالتين قاتل عمدًا (1) .
وهذا الرأى يتفق مع منطق مالك لأنه لا يعترف بالقتل شبه العمد، ولا يرى القتل إلا نوعين فقط عمدًا وخطأ فاقتضى منه ذلك أن يعتبر الجانى قاتلاً عمدًا بمجرد توفر قصد العدوان ولو أنه اشترط توفر نية القتل عند الجانى لترتب على هذا الشرط أن يدخل فى باب الخطأ كل ما يدخل فى باب شبه العمد عند الفقهاء الآخرين.
89 - وبعض كتب الفقه فى مذاهب الأئمة الثلاثة تشترط صراحة قصد القتل فى الجانى وبعضها لا يذكر شيئًا إطلاقًا عن قصد القتل: وقد يوهم هذا أن هناك خلافًا على اشتراط قصد القتل، والواقع أنه لا خلاف إطلاقًا فى اشتراط قصد القتل وإنما الخلاف جاء فى طريقه التعبير؛ فالأصل أن نية القتل شرط أساسى فى القتل العمد، ولما كانت هذه النية أمرًا باطنيًا متصلاً بالجانى كامنًا فى نفسه ومن الصعب الوقوف عليها فقد رأى الفقهاء أن يستدلوا على نية الجانى بمقياس ثابت يتصل بالجانى ويدل غالبًا على نيته ونفسيته؛ ذلك المقياس هو الآلة أو الوسيلة التى يستعملها فى القتل إذ الجانى فى الغالب يختار الآلة المناسبة لتنفيذ قصده من الفعل،
_________
(1) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص215.(2/79)
فإن قصد القتل اختار الآلة الملائمة للفعل والتى تستعمل غالبًا كالسيف والبندقية والعصا الغليظة، وإن قصد الضرب دون القتل اختار الآلة الملائمة لقصده كالضرب بالقلم أو العصا الخفيفة أو السوط.
فاستعمال الآلة القاتلة غالبًا هو المظهر الخارجى لنية الجانى، وهو الدليل المادى الذى لا يكذب فى الغالب، لأنه من صنع الجانى لا من صنع غيره، ومن ثم اشترط الفقهاء أن تكون الآلة أو الوسيلة قاتلة غالبًا لأن توفر هذه الصفة فيها دليل على أن الجانى قصد قتل المجنى عليه واستغنوا بهذا الشرط الدال على قصد القتل عن مدلول الشرط أى أنهم أقاموا الدليل مقام المدلول فلم يعد بعد هذا ما يدعو لاشتراط قصد القتل؛ لأن اشتراط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا يغنى عن اشتراط القصد، ولهذا لا نجد فى كتب الفقه كتابًا يعرِّف القتل العمد أو شبه العمد فيذكر قصد القتل فى التعريف إلا نادرًا، وإنما يذكر القصد فى مناسبات أخرى، وأخصها بيان الفرق بين العمد وشبه العمد، وتعليل تسمية شبه العمد بهذا الاسم أنهم يصرحون بأن شبه العمد لا يشترط فيه قصد القتل، وأن هذا هو ما يميزه عن العمد، لأنهم يرون أن العمد هو ما قصد فيه الفعل والقتل، وأن شبه العمد ما قصد فيه الفعل دون القتل، ولذلك سمى الخطأ العمد أو عمد الخطأ؛ لأنه عمد فى الفعل خطأ فى القصد.
ونستطيع أن نعرض عينة من أقوال الفقهاء فى هذا الموضوع: فمثلاً يعرَّف الزيلعى - وهى حنفى المذهب - القتل العمد فلا يذكر شيئًا عن قصد القتل، ولكنه يجتهد فى بيان أنه تعمد الفعل بما يقتل غالبًا من وسائل معدَّة للقتل فإذا عرف شبه العمد قال: إنه تعمد الضرب بما لا يقتل غالبًا، وأنه سمى بشبه العمد لأن فيه قصد الفعل لا القتل (1) .
ويعرف صاحب بدائع الصنائع - وهو حنفى المذهب - القتل العمد فلا يذكر شيئًا - كما فعل الزيلعى - عن قصد القتل ولكنه حين يتكلم عن شرائط القصاص يقول: إن القاتل عمدًا يجب أن يكون متعمدًا القتل قاصدًا إياه (2) .
ويعرف صاحب المهذب - وهو
_________
(1) الزيلعى ج6 ص98 , 100.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص233 , 234.(2/80)
شافعى - القتل العمد بأنه قصد الإصابة بما يقتل غالبًا فيقتله، ثم يعرف شبه العمد بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه ويقول: إنه لا تجب فى شبه العمد بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه ويقول: إنه لا تجب فى شبه العمد عقوبة العمد لأن الجانى لم يقصد القتل (1) .
ويعرف الماوردى - وهو شافعى - القتل العمد بأنه تعمد قتل النفس بما يقتل غالبًا. ويعرف شبه العمد بأن فاعله يكون عامدًا فى الفعل غير قاصد القتل (2) .
ويعرف معظم فقهاء المذهب الشافعى العمد بأنه قصد الفعل وعين الشخص بما يقتل غالبًا، كما يعرفون شبه العمد بأنه قصد الفعل والشخص بما لا يقتل غالبًا (3) , ولكنهم حين يفرقون بين أفعال العمد وشبه العمد يميزون العمد بقصد الجانى إهلاك المجنى عليه مع أنهم لا يذكرون قصد القتل صراحة فى تعرف العمد أو شبه العمد.
ويعرف صاحب المغنى - وهو حنبلى المذهب - القتل العمد فيقول ما خلاصته أنه الضرب بما يقتل غالبًا ولكنه حين يتكلم عن شبه العمد يقول عنه: إنه الضرب بما لا يقتل غالبًا ثم يشرح هذا فيقول: إن الضرب فى شبه العمد يكون إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا واللكز وسائر ما لا يقتل غالبًا وهو شبه عمد لأنه قصد الفعل وأخطأ فى القتل (4) .
ويعرف صاحب الشرح الكبير - وهو حنبلى المذهب - العمد وشبه العمد بمثل ما عرفهما به زميله السابق. وصاحب الإقناع - وهو حنبلى أيضًا - يشترط فى العمد القصد ويعرف العمد بقوله: "أن يقتل قصدًا بما يغلب على الظن موته به" ثم يعرف شبه العمد فيقول: أن يقصد الجناية إما لقصد العدوان عليه أو التأديب له فيسرف فيه بما لا يقتل غالبًا قصد قتله أو لم يقصده (5) . وظاهر مما سبق أن اشتراط قصد القتل هو المميز بين
_________
(1) المهذب ج2 ص184 , 185.
(2) الأحكام السلطانية ص219 , 220.
(3) تحفة المحتاج ج4 ص2-4 , نهاية المحتاج ج7 ص235 , 240 , حاشية البجيرمى على المنهج ج4 ص129 , 131.
(4) المغنى ج9 ص321 , 337.
(5) الإقناع ج4 ص163 , 168.(2/81)
العمد وشبه العمد.
وإذا كان صاحب الإقناع قد صرح باشتراط القصد فإنه مع ذلك لم يذكره فى تعريف العمد واكتفى باشتراط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا كما أنه يلاحظ عليه أنه لم يفسر القصد أصلاً فى الحالة التى تكون فيه الآلة غير قاتلة غالبًا وهو منطق دقيق فقد رأى أنه إذا كانت الآلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر قصد القتل، فإنه يجب أن تكون الآلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل ما دامت الآلة هى الدليل المادى على قصد الجانى.
وعلى كل حال فإن هذا الذى يراه هو نفس ما يراه بقية الفقهاء ممن ذكرنا وممن لم نذكر ولو أنهم لم يصرحوا بهذا فى تعريف شبه العمد كما صرح صاحب الإقناع، ولكن المتتبع لأمثلتهم وتطبيقاتهم يجد أنهم يعتبرون الفعل شبه عمد إذا كانت الوسيلة غير قاتلة غالبًا، بغض النظر عما إذا كان الجانى قصد القتل أم لم يقصده ولعلهم لم يصرحوا بها فى التعريف كما لم يصرحوا باشتراط القصد فى العمد، ويكون إذن معنى قولهم إن القاتل فى شبه العمد لم يقصد الفعل أنه لم يقصده فرضًا أو حكمًا لا فعلا. ومن الأمثلة على ذلك أن الضربة أو الضربتين بالعصا وضرب الموالاة لا يعتبر قتلاً عمدًا، ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه (1) فى رأى أبى حنيفة وأصحابه وأن القتل بطريق معنوى يعتبر قتلاً شبه عمد فى مذهب الشافعى وأحمد لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا وأن الضرب بما لا يقتل غالبًا يعتبر قتلاً شبه عمد ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه ما دام الضرب لم يكن متواليًا ولا على ضعيف أو صغير أو فى حر شديد أو فى برد شديد (2) .
ومع أن الفقهاء قد جعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر القصد للقتل عند القاتل، وجعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل عند القاتل إلا أنه يجب أن لا يفهم من هذا المساواة التامة فى الحالين، فهناك فرق دقيق لا يصح أن يغرب عن البال، وهو أن افتراض توفر قصد القتل عند من يستعمل آلة تقتل غالبًا هو فرض يقبل النفى فللجانى أن يثبت العكس أى أنه لم يقصد القتل؛ أما افتراض انعدام نية القتل عند من يستعمل آلة لا تقتل غالبًا فهو فرض لا يقبل النفى، فلا يجوز إثبات عكسه ولو اعترف الجانى نفسه بأنه قصد القتل، بل يكذب اعترافه كون الآلة غير قاتلة والملاحظ فى حالة قبول النفى وعدم قبوله هو مصلحة المتهم لا مصلحة غيره، وإن كانت مصلحة الجماعة روعيت فى حالة استعمال آلة تقتل غالبًا بافتراض أن نية القتل متوفرة فلا يجد الاتهام ضرورة لإثبات نية القتل ما دام المتهم لم يثبت أنه لم يقصد القتل، وأنه لم يستعمل الآلة القاتلة لها الغرض.
90 - وليس للبواعث التى دفعت الجانى لارتكاب جريمته أثر ما على مسئوليته ولا عقوبته فى الشريعة: فإذا ارتكب الفعل بقصد الإضرار بالمجنى عليه أو لباعث غير شريف فإن ذلك لا يزيد فى مسئوليته أو عقوبته شيئًا كما أن ارتكاب الفعل لباعث شريف لا يخفف مسئولية الجانى أو عقوبته شيئًا.
91 - رضاء المجنى عليه بالقتل: من القواعد الأصلية المسلم بها فى الشريعة أن رضاء المجنى عليه بالجريمة لا يجعلها مباحة إلا إذا كان الرضاء ركنًا من أركان الجريمة كالسرقة مثلاً فإن رضاء المجنى عليه بأخذ ماله يجعل الأخذ فعلاً مباحًا والرضاء ليس ركنًا فى جريمة القتل والضرب فتطبيق هذه القاعدة الأصلية الملم بها يقتضى أن لا يكون لرضاء المجنى عليه فى جريمة الضرب والقتل أثر ما على المسئولية الجنائية أو العقوبة، ولكن هناك قاعدة أخرى أصلية مسلم بها وهى أن للمجنى عليه وأوليائه حق العفو عن العقوبة فى جرائم القتل والضرب، فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية ولهم أن يعفوا عن الدية والقصاص معًا؛ فلا يبقى إلا تعزير الجانى إن رأت السلطة التشريعية ذلك.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص334 ظو البحر الرائق ج8 ص288 , 294 , 295.
(2) نهاية المحتاج ح7 ص237 , 240 , 330 , 333 , المغنى ج9 320 - 338 ومن ص577 - 581.(2/82)
وقد أدى وجود القاعدة الثانية إلى الاختلاف بين الفقهاء فى تطبيق القاعدة الأولى على جرائم القتل والضرب، كذلك تختلف آراء الفقهاء فى القتل عنها فى القتل والجرح.
الرضاء بالقتل: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقتل لا يبيح القتل؛ لأن عصمة النفس لا تباح إلا بما نص عليه الشرع والإذن بالقتل ليس منها، فكان الإذن عدمًا لا أثر له على الفعل فيبقى الفعل محرمًا معاقبًا عليه باعتباره قتلاً عمدًا. لكنهم اختلفوا فى العقوبة التى توقع على الجانى، فرأى أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد أن تكون العقوبة الدية ودرءوا عقوبة القصاص عن الجانى على أساس أن الإذن بالقتل شبهة وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ادرءوا الحدود بالشبهات" والقصاص معتبر حدًا فكل شبهة تقوم فى فعل مكون لجريمة عقوبتها القصاص يدرأ بها الحد عن الجانى، ورأى زفر أن الإذن لا يصلح أن يكون شبهة ومن ثم فهو لا يدرأ القصاص، فوجب أن يكون القصاص هو العقوبة (1) .
والرأى الراجح فى مذهب مالك: أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة ولو أبرأ المجنى عليه الجانى من دمه مقدمًا لأنه ابرأه من حق لم يستحقه بعد، وعلى هذا يعتبر الجانى قتلاً عمدًا ولكن بعض أصحاب هذا الرأى يرون أن تكون العقوبة القصاص ويعاقب بالعقوبة المقررة له، ويرى البعض الآخر أن الإذن شبهة تدرأ القصاص ومن ثم يوجبون الدية، أما الرأى المرجوح فنسبه ابن عرفة لسحنون ومقتضاه: "أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل ولكنه يسقط العقوبة فلا قصاص ولا دية وإنما التعزير"، ولكن الرأى المعروف عن سحنون فى "كتاب العُتْبِِيَّة" أنه يرى عقاب القاتل وإن كان يدرأ القصاص عنه للشبهة (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص236.
(2) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص235 - 236 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص213.(2/84)
وفى مذهب الشافعى رأيان: أولهما: أن الإذن فى القتل يسقط العقوبة ولا يبيح الفعل، ومن ثم فلا قصاص ولا دية. ثانيهما: أن الإذن فى القتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة ولكنه شبهة تدرأ القصاص وتوجب الدية (1) . وبعض أصحاب هذا الرأى يرى القصاص لأن الإذن ليس شبهة.
أما أحمد فيرى أن لا عقاب على الجانى لأن من حق المجنى عليه العفو عن العقوبة، والإذن بالقتل يساوى العفو عن العقوبة فى القتل (2) , وهذا يتفق مع الرأى الأول فى مذهب الشافعى.
92- الرضاء بالجرح: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقطع والجرح يترتب عليه منع العقوبة لأن الأطراف عندهم يسلك بها مسلك الأموال وعصمة المال تثبت حقًا لصاحبه فكانت العقوبة على القطع والجرح محتملة السقوط بالإباحة والإذن، ولكنهم اختلفوا فيما إذا أدى الجرح أو القطع إلى الموت فأبو حنيفة يرى الفعل قتلاً عمدًا لأن الإذن كان عن الجرح أو القطع، فلما مات تبين أن الفعل وقع قتلاً لا جرحًا ولا قطعًا ومن ثم فعليه عقوبة القتل العمد، ولما كان الإذن يعتبر شبهة تدرأ القصاص فتعين أن تكون العقوبة الدية.
أما أبو يوسف ومحمد فمن رأيهما أنه إذا أدى الجرح أو القطع لموت فلا شىء على الجانى إلا التعزير لأن العفو عن الجرح أو القطع عفو عما تولد منه وهو القتل (3) .
وفى مذهب مالك أن الإذن بالجرح والقطع لا عبرة به إلا إذا استمر مُبرئًا له بعد الجرح والقطع، فإن لم يبرئه بعد الجرح والقطع فيه العقوبة المقررة وهى القصاص أو الدية، أما إذا استمر مبرئًا له تسقط العقوبة المقررة وهى القصاص والدية ويحل محلهما التعزير ما لم يؤد الجرح أو القطع إلى الموت فيعاقب الجانى
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص248.
(2) الإقناع ج4 ص171.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص236 , 237.(2/85)
بعقوبة القتل العمد (1) والإذن بالجرح أو القطع فى مذهب الشافعى يسقط العقاب عن الجانى ما لم تر الجماعة عقابه تعزيرا، فإذا أدى الجرح أو القطع إلى الموت؛ فمن فقهاء المذهب من يرى مسئولية الجانى عن القتل العمد ويدرأ القصاص لشبهة الإذن فتكون الدية هى العقوبة ومن فقهاء المذهب من يرى أن لا عقاب لأن الموت تولد من مأذون فيه (2) .
والإذن بالجرح والقطع عند أحمد كالإذن بالقتل لا عقوبة عليه وإن كان الإذن لا يبيح الفعل؛ لأن له الحق فى إسقاط العقوبة، وقد أسقطها بإذنه.
93 - أسباب الخلاف بين الفقهاء فى الإذن بالقتل: أساس الاختلاف فى هذه المسألة أن للمجنى عليه وأوليائه العفو عن العقوبة فى القتل وهى القصاص أو الدية إذا حلت محل القصاص، فإذا عفوا سقطت العقوبة المقررة للقتل، ولم يبق إلا عقوبة التعزير إذا رأى أولياء الأمور تقريرها فى حالة العفو فمن قال بأن الإذن يمنع من العقاب اعتبر الإذن عفوًا مقدمًا ورتب عليه سقوط العقوبة، ومن قال بأن الإذن لا يمنع من العقاب رأى أن الإذن لا يعتبر عفوًا لأن العفو عن القتل يستدعى وجود القتل، فإذا جاء العفو قبل القتل فهو عفو غير صحيح لأنه لم يصادف محله، ومن جعل العقوبة الدية اعتبر الإذن شبهة تدرأ القصاص، ومن قال بالقصاص لم يجعل الإذن شبهة درائة للقصاص (3) .
94 - مقارنة بين الشريعة والقانون: يتفق مذهب مالك وأبى حنيفة ورأى الشافعى الذى يقول بالعقاب فى حالة الرضاء بالقتل أو الجرح الذى ينتهى بالموت مع القوانين الوضعية الحديثة، لأنها تعتبر القتل والجرح بالرغم من الرضاء أو الإذن جريمة وتعاقب عليها، وإذا كان بعض الفقهاء يرى أن تكون العقوبة القصاص، والبعض يرى أن تكون الدية فهذا ليس بذى أهمية، لأن استبدال الدية بالقصاص ليس إلا استبدال عقوبة مقررة شرعًا بعقوبة مقررة شرعًا. وهو يقابل فى القوانين الحديثة ما تقرره من الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة او المؤقتة عقوبة للقتل العمد مع ترك الحرية للقضاة فى اختيار إحدى العقوبتين وتقدير ظروف الجريمة والمجرم. ولا شك أن إذن المجنى عليه فى الجريمة وإن لم يكن له أثر على تكوين الجريمة إلا أنه مما يدعو القضاة إلى استعمال الرأفة وإذا لم يحملهم على تخفيف العقوبة إلى حدها الأدنى فإنه يمنعهم من رفعها إلى حدها الأعلى، فتكون النتيجة العملية فى القانون أن يعاقب الجانى المأذون له فى الفعل بعقوبة بسيطة الفرق بينها وبين الحد الأعلى المقرر أصلاً كالفرق بين القصاص والدية فى الشريعة.
95 - القصد المحدود وغير المحدود: لا يفرق الفقهاء فى مذهبى أبى حنيفة وأحمد بين القصد المحدود والقصد غير المحدود سواء فى تعريف أنواع القتل أو فى الأمثلة التى يضربونها لمختلف وسائل القتل، ومن ثم يمكن القول بأنه يستوى فى مذهبى أبى حنيفة وأحمد أن يكون القصد عند الجانى متجهًا إلى قتل إنسان بعينه أو إلى قتل إنسان غير معين فهو مسئول عن القتل العمد فى الحالين ما دام قد أتى الفعل بقصد القتل، فمن أطلق عيارًا ناريًا على شخص معين، ومن ألقى قنبلة على جماعة بقصد القتل دون أن يقصد شخصًا معينًا من الجماعة كلاهما قاتل عمدًا عند أبى حنيفة وأحمد.
أما فى مذهب الشافعى (4) فيفرقون بين ما إذا قصد معينًا أو غير معين فإن قصد معينًا فالفعل قتل عمد، وإن قصد غير معين فالفعل قتل شبه عمد،
_________
(1) الشرح الكبير للدردر ج4 ص213.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص248 , 296 , تحفة المحتاج ج4 ص30 , 31.
(3) أما فى حالة الجرح أو الجرح المنتهى بالموت فاساس الخلاف انهم يعتبرون الإذن بالجرح عفواً مقدماً عن الجرح ويعتبرون هذا العفو صحيحاً ويرتبون عليه إسقاط العقوبة إلا مالك فغنه يرى الغذن السابق على الجرح باطلاً لأنه لم يصادف محله , ومن يرى عدم العقاب فى حالة الموت يرى الموت متولداً من الجرح وهو مأذون فيه وما تولد من معفو عنه أخذ حكمه أما من يرى العقاب فيرى أن الغذن كان عن جرح لا قتل فإذا ظهر أن الفعل قتل فهو غير مأذون فيه لكنه مع ذلك اعتبر الغذن الباطل شبهة تدرأ القصاص.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص235 وما بعدها , تحفة المحتاج ج4 ص322.(2/86)
ويعتبر المجنى عليه معينًا ولو قصد الجانى أن يصيب أى شخص من جماعته؛ لأن الجماعة تصبح كلها مقصودة فتصير معينة أفرادًا وجماعة.
ويفرقون فى مذهب مالك أيضًا بين قصد شخص معين وبين قصد شخص غير معين، فإن قصد الجانى معينًا فالفعل قتل عمد، وإن قصد غير معين أيا كان فلا يعتبر القتل عمدًا وإنما يعتبر خطأ (1) .
ويتفق مذهب أبى حنيفة وأحمد مع القانون المصرى اتفاقًا تامًا فالمادة 231 عقوبات تنص على أن الإصرار السابق هو القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية غرض المصر منها إيذاء شخص معين أو أى شخص غير معين وجده أو صادفه سواء كان ذلك القصد معلقًا على حدوث أمر أو موقوفًا على شرط وتطبيقًا لهذا النص حكمت محكمة النقض بأنه إذا صوب شخص بندقية إلى جمع محتشد، وأطلق منها عيارًا ناريًا أو عدة أعيرة نارية أصاب بعضها شخصًا أو أكثر من هذا الجمع وقتله، عُدَّ القاتل مرتكبًا لجريمة القتل عمدًا لتوفر قصد القتل عنده (2) .
أما مذهب الشافعى ومالك فظاهر أنهما يخالفان القانون.
96 - الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية: يراد بالخطأ فى الشخص أن يقصد الجانى قتل شخص معين فيصيب غيره، ويراد بالخطأ فى الشخصية أن يقصد الجانى قتل شخص على أنه زيد فيتبين أنه عمرو، والخطأ فى الشخص هو خطأ فى الفعل، فمن رمى صيدًا أو غرضًا أو آدميًا معينًا فأخطأه وأصاب شخصًا آخر فقد أخطأ فى فعله، أما الخطأ فى الشخصية فهو خطأ فى قصد الفاعل، فمن رمى شخصًا على أنه مرتد أو حربى فإذا هو معصوم أو رماه على أنه زيد فتبين أنه عمرو فقد أخطأ فى قصده.
وللفقهاء نظريتان مختلفتان فى الخطأ فى الشخص والشخصية: الأولى لمالك
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216 , مواهب الجليل ج6 ص240.
(2) نقض فى 12 ديسمبر 1928 , محاماة 9 عدد 106.(2/88)
وأصحابه، وتتلخص فى أنه إذا قصد الجانى شخصًا فأصاب غيره، أو قصد شخصًا على أنه زيد فتبين أنه بكر فإن الجانى يكون قاتلاً عمدًا فى الحالين، سواء قصد القتل أو قصد مجرد العدوان على وجه الغضب لا على وجه اللعب أو التأديب، وبعض فقهاء المذهب يرى أن الحالة الأولى ليست قتلاً عمدًا بل هى قتل خطأ (1) .
ويرى بعض فقهاء المذهب الحنبلى أن الفعل المقصود أصلاً إذا كان محرمًا فإن الخطأ فى الفعل أو الظن لا يؤثر على مسئولية الجانى شيئًا لأنه قصد فعلاً محرمًا قتل به إنسانًا فهو إذن قاتل له عمدًا (2) أما إذا كان الفعل المقصود أصلاً غير محرم فإن الخطأ فى الفعل أو الظن يكون له أثره على مسئولية الجانى؛ لأنه قصد فعلاً مباحًا فإذا أخطأ فى فعله أو ظنه فهو قاتل خطأ لا عمدًا.
والنظرية الثانية: يأخذ بها فقهاء مذهب أبى حنيفة ومذهب الشافعى والفريق الأخير من فقهاء مذهب أحمد، وهؤلاء جميعًا يرون أن من قصد قتل شخص فأخطأ فى فعله وأصاب غيره أو أخطأ فى ظنه وتبين أنه أصاب غير من قصده فإن الجانى يكون مسئولاً عن القتل الخطأ فقط سواء كان الفعل الذى قصده أصلاً مباحًا أو محرمًا (3) .
97 - مقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية: والرأى السائد فى القوانين الوضعية يتفق مع رأى أصحاب النظرية الأولى، إذ تأخذ القوانين الوضعية الجانى بقصده فما دام قد قصد القتل والضرب ونفذ قصده فيستوى بعد ذلك أن يكون أصاب من قصده أو أصاب غيره وقضاء المحاكم المصرية مستقر على أن من تعمد قتل إنسان فأصاب آخر فهو قاتل عمدًا لهذا الآخر (4) .
98 - القصد الاحتمالى: ولا شك أن الشريعة الإسلامية تعرف حق المعرفة
_________
(1) مواهب الجليل ح6 ص240 , 243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص215.
(2) المغنى ج9 ص339.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص236 , نهاية المحتاج ح7 ص337 , الإقناع ج4 ص168 , المغنى ج9 ص339.
(4) نقض فى 10 أكتوبر سنة 1929 , قضية 2085 سنة 46 قضائية.(2/89)
القصد الاحتمالى وليس أدل على ذلك من جرائم الجرح والضرب، فالضارب يضرب وهو لا يقصد إلا مجرد الإيذاء أو التأديب ولا يتوقع أن يصيب المجنى عليه إلا بجرح بسيط أو كدمات خفيفة أو لا يتوقع أن يصيبه إلا بمجرد الإيلام، ولكن الجانى لا يسأل فقط عن النتائج التى توقعها وإنما يسأل أيضًا عن النتائج التى كان فى وسعه أن يتوقعها أو التى كان يجب عليه أن يتوقعها، فإذا أدى الضرب إلى قطع طرف أو فقد منفعة فهو مسئول عن ذلك، وإذا أدى لوفاة المجنى عليه فهو مسئول عن هذه الوفاة باعتبار الحادث قتلاً شبه عمد لا ضربًا.
لكن ما هو رأى فقهاء الشريعة فى القصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد بالذات؟ ذلك القصد الذى عرفته محكمة النقض المصرية بأنه "نية ثانوية غير مؤكدة تختلج بها نفس الجانى الذى يتوقع أن قد يتعدى فعله الغرض المنوى عليه بالذات إلى غرض آخر لم ينتوه من قبل أصلاً فيمضى مع ذلك فى تنفيذ الفعل فيصيب به الغرض غير المقصود ومظنة وجود تلك النية هى استواء حصول هذه النتيجة وعدم حصولها لديه ذلك القصد الذى يقيمه الألمان مقام القصد الثابت فى جريمة القتل وغير القتل ويقولون: إنه يكون كلما تصور الفاعل النتيجة ممكنة الوقوع ثم يمضى بالرغم من ذلك فى فعلته مستهينًا بالنتيجة".
ولا يسلم أبو حنيفة والشافعى وأحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ويصرون على أن تتوجه نية الجانى للقتل، وأن يرتكب الفعل بقصد الوصول لهذا الغرض. ولعل حرصهم على ظهور نية القتل عند الجانى راجع إلى أنهم يقسمون القتل إلى عمد وشبه عمد وخطأ وفى العمد وشبه العمد يتعمد الجانى العدوان ولكن الذى يميز العمد عن شبه العمد هو أن الجانى يقصد القتل فى العمد فلو سلموا بالقصد الاحتمالى فى القتل العمد لانعدم الحد الفاصل بين القتل العمد والقتل شبه العمد.
وقد سلم بعض فقهاء مذهب أحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل فى موضعين فقط، واعتبروا الفاعل قاتلاً عمدًا أخذًا بقصده المحتمل: الأول: إذا أخطأ الجانى فى الفعل، كأن أراد أن يقتل زيدًا فلما رماه أخطأه وأصاب عمرًا بشرط أن يكون زيد معصومًا؛ أى غير مهدر الدم كأن يكون حربيًا أو مرتدًا، فإن كان مهدر الدم فالقتل خطأ لا عمد. الثانى: إذا كان الخطأ فى ظن الفاعل كأن يقصد قتل زيد فيقتل عمرًا على أنه زيد بشرط أن يكون معصومًا.
أما مالك فمذهبه يتسع للقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولما هو أكثر من القصد الاحتمالي؛ لأنه لا يعرف القتل شبه العمد، والقتل عنده نوعان فقط: عمد وخطأ، والعمد عنده لا يشمل فقط الفعل المقصود به القتل وإنما يشمل كل فعل قصد به مجرد العدوان ولو لم يقصد الفاعل القتل، ولما كان من المستبعد عقلاً أن تؤدى كل أفعال العدوان البسيطة إلى الموت، فمعنى ذلك أن مذهب مالك يتسع لأكثر من القصد الاحتمالى؛ لأنه يتسع لما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع ولما يتصوره ممتنع الوقوع.
99- مقارنة: والنظرية الفرنسية تتفق مع نظرية الأئمة الثلاثة فالفرنسيون لا يرون الأخذ بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولو أن القانون الفرنسى أخذ المتهم بقصده الاحتمالى فى جرائم الضرب والجرح وحجتهم أن الأخذ بنظرية القصد الاحتمالى فى القتل العمد يؤدى إلى اختلاط القتل العمد بالضرب المفضى إلى الموت وتجعل التمييز بينهما متعذرًا، أما مذهب مالك فيتفق مع النظرية الألمانية كما يتفق مع القانونين الإنجليزى والسودانى، وهما يعتبران القتل عمدًا إذا حصل الفعل بقصد تسبب الموت أو إذا علم الفاعل أو كان له داع أن يعلم أن الموت ربما يكون نتيجة الفعل المحتملة. ولكن بالرغم من هذا الاتفاق الظاهرى فإن مذهب مالك يظل أكثر اتساعًا من مذهب الألمان والقانونين الإنجليزى والسودانى، فمثلاً إذا لطم شخص آخر صحيحًا بقصد الاعتداء ودون أن يقصد القتل فمات من اللطمة فهو قاتل عمدًا عند الإمام مالك، ولا يعتبر قاتلاً طبقًا للنظرية الألمانية، لأن إمكان الموت من اللطمة بعيد التصور، كذلك لا يعتبر قاتلاً بحسب القانونين الألمانى والإنجليزى لأنه ليس فى ظروف(2/90)
المجنى عليه أو فى اللطمة ذاتها ما يدعو الجانى إلى العلم بأن اللطمة قد تؤدى للوفاة.
100 - إثبات القصد الجنائى: يشترط أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن يثبت قصد القتل ثبوتًا لا شك فيه، فإن كان هناك شك فى أن الجانى قصد القتل اعتبر الفعل قتلاً شبه عمد. ويستدل هؤلاء الفقهاء أصلاً على وجود قصد القتل بالآلة أو الوسيلة التى استعملها الجانى، فإن كانت قاتلة غالبًا فالقتل عمد، وإن كانت لا تقتل غالبًا فالقتل شبه عمد (1) , وكون الآلة قاتلة غالبًا ليس فى ذاته دليلاً يقبل النفى على قصد القتل وللجانى أن ينفى عن نفسه قصد القتل وأن يثبت أنه مع استعماله الآلة أو الوسيلة القاتلة غالبًا لم يكن يقصد القتل، فإن أثبت هذا اعتبر الفعل شبه عمد. وعلى هذا يمكن القول بأن استعمال الآلة القاتلة يعتبر فى ذاته دليلاً على قصد القتل يصح لهيئة الاتهام أن تكتفى به إذا لم يكن ثمة ما ينفيه ويصح لها أن تضيف إليه أدلة أخرى من ظروف الواقعة أو ظروف المتهم والمجنى عليه أو أقوال الشهود.
وليس فى مذهب الإمام مالك ما يمنع من الاستدلال على قصد المتهم بالآلة المستعملة فى القتل أو بمحل الإصابة ولكن ليس من الضرورى فى المذهب إثبات قصد القتل لدى الجانى إذ يكفى أن يثبت أنه أتى الفعل بقصد العدوان وأنه لم يأت به على وجه اللعب أو التأديب.
* * *
المبحث الثاني
القتل شبه العمد
101- ذكرنا أن القتل شبه العمد مختلف عليه بين الفقهاء: فمالك يرى أن القتل صنفان: عمد وخطأ فمن زاد عليهما فقد زاد على النص، ويحتج بأن القرآن لم ينص إلا على العمد والخطأ فقط حيث قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
_________
(1) راجع الفقرات من 31 - 38 والفقرة 87.(2/92)
مُّتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئا} [النساء: 92] . أما أبو حنيفة والشافعى وأحمد فيقولون بالقتل شبه العمد ويرون أن القتل على ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد، وخطأ، ويحتجون بقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل"، وبأن عمر وعليًا وعثمان وزيد بن ثابت وأبا موسى الأشعرى والمغيرة قالوا بالقتل شبه العمد ولا مخالف لهم من الصحابة، كما يحتجون بأن القصد مسألة تتعلق بنية الجانى، ولا يطلع على النيات إلا الله تعالى، وإنما الحكم يدار على الظاهر وليس أدل على النية وأكثر إظهارًا لها من الآلة المستعملة فى القتل، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبًا كان حكمه كحكم الغالب أى حكم من قصد القتل، ومن قصد الضرب بآلة لا تقتل غالبًا كان حكمه مترددًا بين العمد والخطأ ففعله يشبه العمد لأنه قصد ضربه ويشبه الخطأ لأنه ضرب بما لا يقتل غالبًا وما لا يقتل غالبًا يدل على أنه لم يقصد القتل (1) , ولذلك سمى هذا النوع من القتل بشبه العمد (2)
؛ لأنه يمثل القتل العمد فى كل شىء ولا يختلف عنه إلا فى قصد الجانى، والمفروض أن مرتكب القتل العمد يعتدى على المجنى عليه بقصد قتله، أما مرتكب القتل شبه العمد فيعتدى على المجنى عليه بقصد الاعتداء دون أن يفكر فى قتله (3) , فالفرق بين النوعين هو فى نية الجانى التى يستدل عليها بالآلة المستعملة فى الجريمة ومن ثَمَّ تشابه القتلان تشابهًا شديدًا دعا لتسمية أحدهما بالقتل شبه العمد إذا كان الثانى يسمى بالقتل العمد.
102 - يعرف الحنفيون شبه العمد بأنه: ما تعمدت ضربه بالعصا أو السوط أو الحجر أو اليد أو غير ذلك ما يفضى إلى الموت، فإن فى هذا الفعل معنيين: أولهما: معنى العمد باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب، وثانيهما: معنى الخطأ
_________
(1) يعبر أبو حنيفة عن هذه الفكرة بقوله: إن القتل بآلة غير معدة له دليل عدم القصد لأن تحصيل كل فعل بالآلة المعدة له فحصوله بغير ما أعد له دليل عدم القصد.
(2) بداية المجتهد ج2 ص332 , 333..
(3) راجع الفقرة 89 من هذا الجزء لتفهم جيداً الفرق بين العمد وشبه العمد فى القصد.(2/93)
باعتبار انعدام قصد الفاعل إلى القتل فهو يشبه العمد صورة من حيث أنه قصد الفعل (1) .
ويعرفه الشافعيون بأنه: ما كان عمدًا فى الفعل خطأ فى القتل (2) ، أى كل فعل لم يقصد به القتل تولد منه القتل. ويعرفه بعضهم بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه، ولا تجب به عقوبة القتل العمد؛ لأن الجانى لم يقصد القتل (3) . ويعرفه أكثرهم بأنه قصد الفعل والشخص ولو كان غير معين بما لا يقتل غالبًا (4) .
ويعرفه الحنابلة بأنه: قصد الجناية بما لا يقتل غالبًا فيقتل إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير أو يلكزه بيده أو يلقيه فى ماء يسير أو يصيح بصبى أو معتوه على سطح فيسقطان أو يغتفل عاقلاً فيصيح به فيسقط؛ فهو شبه عمد إذا قتل لأنه قصد الضرب دون القتل، ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأخطأ فى القتل (5) .
103 - مقارنة: وظاهر مما سبق أنه يدخل تحت شبه العمد كل الأفعال التى يقصد منها الجانى العدوان، ولم يقصد بها القتل، ولكنها أدت إلى موت المجنى عليه. فالقتل شبه العمد فى الشريعة يقابل الضرب المفضى إلى الموت فى القوانين الوضعية، ولكن تعبير الشريعة بالقتل شبه العمد أصح منطقًا من تعبير القوانين الوضعية ذلك أن القتل شبه العمد يندرج تحته الموت الناشئ عن الضرب والجرح وإعطاء المواد السامة والضارة والتغريق والتحريق والتردية والخنق وكل ما يدخل تحت القتل العمد إذا انعدمت نية القتل عند الجانى وتوفر قصد الاعتداء، ولفظ القتل يدخل تحته كل ما يؤدى للموت، فاختيار فقهاء الشريعة لهذا اللفظ للدلالة على هذه الأنواع المختلفة من الاعتداء والإيذاء هو اختيار موفق لأنها تنتهى جميعًا بالموت، أما لفظ الضرب الذى عبرت به القوانين الوضعية فإذا دخل تحته الضرب باليد أو بأداة أخرى فإنه لا يمكن أن يندرج تحته غير ذلك من أنواع الإيذاء والاعتداء المختلفة الصور والوسائل كالتغريق والتحريق والتردية والخنق وشراح القانون المصرى يعترفون بقصور لفظ الضرب عن استيعاب المعنى الذى يندرج تحته قانونًا ويلاحظون على نصوص الضرب عمومًا قصور ألفاظها عن الإحاطة بما يندرج تحتها.
* * *
أركان القتل شبه العمد
104 - أركان القتل شبه العمد ثلاثة: أولها: أن يأتى الجانى فعلاً يؤدى لوفاة المجنى عليه. ثانيهما: أن يأتى الجانى الفعل بقصد العدوان. ثالثهما: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية.
الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه
105 - يشترط لتوفير هذا الركن أن يأتى الجانى فعلاً يؤدى لوفاة المجنى عليه: أيًّا كان هذا الفعل ضربًا أو جرحًا أو غير ذلك من أنواع التعدى والإيذاء مما لا يعتبر ضربًا ولا جرحًا كالتغريق والتحريق وإعطاء مواد ضارة أو سامة بغير قصد القتل.
106 - وليس من الضرورى فى الضرب والجرح أن يستعمل الجانى آلة معينة: فقد يكون بغير أداة كاللطم واللكم والعض والرفس، وقد يكون بأداة راضةَّ أو حادة أو واخزة كالعصا والسيف والفأس والبلطة والسكين والرمح والمسلة، وقد يرمى الجانى المجنى عليه بشىء كالحجر والسهم والرصاص وقد يغرى
_________
(1) المبسوط ج6 ص64 , 65.
(2) الوجيز ج2 ص125.
(3) المهذب ج2 ص185.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص237.
(5) الشرح الكبير ج9 ص331.(2/94)
به حيوانًا مفترسًا كالدب أو أليفًا كالكلب (1) .
107 - ويستوى أن يحدث الفعل أثرًا ماديًا فى جسم المجنى عليه أو أن يحدث به أثرًا نفسيًا يودى بحياته: فمن شهر على إنسان سيفًا أو صوب إليه بندقية فمات رعبًا قبل أن يضربه، ومن دلى إنسانًا من شاهق فمات رهبة ورعبًا، ومن أفزع امرأة حاملاً فألقت حملها من الرعب وماتت بسبب الإجهاض - يسأل عن القتل شبه العمد ولو أن فعله لم يحدث أثرًا ماديًا بجسم المجنى عليه (2) .
ولا يتفق القانون المصرى والفرنسى مع الشريعة فى هذا ولكن الكثيرين من الشراح يرون أنه من القصور أن لا يعاقب هذان القانونان على مثل هذه الحالات، أما القانون الإنجليزى فيعاقب على مثلها فعلاً.
108 - وليس ثمة ما يمنع عند الشافعى وأحمد عن مسئولية الجانى عن القتل شبه العمد ولو لم يكن الموت نتيجة مباشرة لفعله: كمن طلب إنسانًا بسيف مجرد أو بندقية أو ما يخيف فهرب منه فتلف فى هربه كأن سقط من شاهق أو انخسف به سقف أو غرق فى ماء أو احترق بنار أو سقط فتلف أو خرَّ فى مهواة من بئر أو غيره - ففى كل هذه الأحوال يعتبر الطالب مرتكبًا لجريمة القتل شبه العمد ولو أن فعله ليس هو الذى أدى مباشرة للموت، على خلاف فى الإطلاق والتقييد بين الشافعى وأحمد سبق بيانه (3) .
109 - ويشترط فى المجنى عليه أن يكون معصومًا: فإن لم يكن معصومًا فلا يعتبر الفعل جريمة قتل وإنما يمكن اعتبار ما وقع اعتداء على
_________
(1) يرى أبو حنيفة شخصياً أن من حرش كلباً أو غيره على آخر لا يكون متعمداً لأن للكلب اختياراً وإنما يكون مخطئاً فإذا قتله الكلب كان مسئولاً عن القتل الخطأ فقط. ويخالفه فى هذا أبو يوسف ومحمد ويريان الفعل قتلاً شبه عمد.
(2) راجع الفقرتين 59 , 60 من هذا الجزء.
(3) راجع الفقرة 67 من هذا الجزء.(2/96)
السلطات العامة، وقد بينا معنى العصمة بمناسبة الكلام على القتل العمد (1) ، ولكنا لم نذكر من المهدرين إلا ما اقتضى الكلام عن القتل العمد ذكرهم فبقى منهم من لم نذكره وهم: السارق سرقة عقوبتها قطع اليد، والزانى غير المحصن، والقاذف، وشارب الخمر، فهؤلاء مهدرون فيما يختص بتنفيذ العقوبة عليهم؛ فمن قطع يد السارق لا يعاقب على قطعه ولكنه يعتبر معتديًا على السلطات العامة التى من اختصاصها قطع السارقين، ومن جلد الزانى غير المحصن أو القاذف أو شارب الخمر لا يعاقب على جريمة الضرب وإنما يعاقب على أنه افتات على السلطات العامة، وأتى بعمل اختصت به نفسها؛ والعلة فى إباحة هذه الأفعال أنها حدود لا يجوز العفو عنها، ولا التراخى فى تنفيذها، وهى واجبة على الجماعة، فكل فرد يعتبر مسئولاً عن تنفيذها، والأمر سهل إذا كان دم المجنى عليه مهدرًا إهدارًا كليًّا، ولكن إذا كان الإهدار جزئيًا لتنفيذ حد يقتل من الحدود التى ذكرناها الآن ثم مات المجنى عليه نتيجة لتنفيذ الحد من أحد الأفراد، فهل يعتبر الفعل قتلاً شبه عمد أم لا؟.
قطع السارق: يعتبر السارق الذى سرق سرقة يجب فيها القطع غير معصوم بالنسبة للعضو الذى يجب قطعه، أما باقى أعضائه فمعصوم وكذلك نفسه (2) ، فإذا عدا إنسان على السارق فقطع يده أو رجله التى يجب قطعها فلا يعاقب على القطع، لأنه قطع عضوًا غير معصوم، ويستوى عند أحمد أن يكون القطع قبل الحكم بالسرقة أو بعده مادامت السرقة ثبتت على السارق، ولكن يشترط أن تكون الدعوى مقامة، فإن لم تكن الدعوى رفعت اعتبر القاطع قاطعًا عمدًا، وإذا شهد الشهود بالسرقة ولم يحكم القاضى بالقطع انتظارًا لتعديل الشهود فقطعه قاطع فلا عقوبة عليه إذا عُدِّلت الشهود - أى ثبتت عدالتهم وصلاحهم -
_________
(1) راجع الفقرات من 17 إلى 27 من هذا الجزء.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص254.(2/97)
فإن لم تعدَّل الشهود فهو قاطع ليد معصومة عمدًا. ويرى الشافعى مثل ما يراه أحمد.
أما مالك وأبو حنيفة فيشترطان أن يكون القطع بعد الحكم، فإن كان بعده فلا مسئولية على القاطع بسبب القطع، وإنما يؤاخذ على الافتيات على السلطات، أما إذا كان القطع قبل الحكم فهو مسئول عن القطع (1) .
وإذا أدى القطع إلى الوفاة فلا يسأل القاطع عن موته إلا إذا كان مسئولاً عن قطعه، فإن كان مسئولاً عن القطع فهو مسئول عن قتله عمدًا، وإن لم يكن مسئولاً فلا مسئولية.
والحجة فى عدم المسئولية: أن الموت تولد عن قطع واجب وأن إقامة الحدود واجبة ولا تحتمل التأخير، فالضرورة تقتضى التسامح فيما ينشا عن تنفيذ الحد حتى لا يتعطل تنفيذ الحدود.
والفرق عند أبى حنيفة بين هذه الحالة وحالة القصاص، أن القصاص حق للمقتص وليس واجبًا عليه وهو مخير فى حقه إن شاء عفا وإن شاء اقتص، بل هو مندوب إلى العفو، واستعمال الحق مقيد بشرط السلامة. أما الواجب فلا يتقيد بشرط السلامة.
ولا شك أن إقامة الحد واجب على كل فرد من الجماعة ولو أن الذى خصص لإقامته هو نائب الجماعة (2) .
110 - ويشترط أن يؤدى الفعل لوفاة المجنى عليه: ويستوى أن تكون الوفاة على أثر الفعل أو بعده بزمن طال هذا الزمن أو قصر فإذا لم يمت المجنى عليه من الفعل وشفى عوقب الجانى باعتباره ضاربًا أو جارحًا أو قاطعًا بحسب ما انتهت إليه حالة المجنى عليه، فإن فقد من المجنى عليه عضو أو زالت منفعته عوقب الجانى على هذه النتيجة، وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة فى هذا المبدأ فهى لا تعتبر الجانى شارعًا فى جريمة ضرب مفض إلى الموت إذا لم يؤد
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص231 , البحر الرائق ج5 ص62.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص315 , البحر الرائق ج5 ص319.(2/98)
الضرب للموت، وإنما تعتبره محدثًا لعاهة أو ضاربًا بحسب ما تنتهى إليه حالة المجنى عليه.
111 - ويصح أن يصدر الفعل من الجانى مباشرة: كأن يضرب المجنى عليه بعصًا أو يرميه بحجر، ويصح أن يتسبب فى الفعل دون أن يباشره كأن يغرى به كلبًا فيعضه فيموت من العضة أو يضع له مزلقًا فى الطريق فيسقط فيه فيموت من سقطته، فالجانى مسئول عن القتل شبه العمد فى حالتى المباشرة والتسبب، ولا فرق عند أبى حنيفة فى القتل شبه العمد بين عقوبة القتل المباشر والقتل بالتسبب كما هو الحال فى القتل العمد.
112 - وتنطبق على القتل شبه العمد كل القواعد التى ذكرت فى باب القتل: عن المباشرة، والسبب، والشرط، والمسألة عنها، وتعدد المباشرة، والسبب، والتمالؤ، والقتل على الاجتماع، والقتل على التعاقب، واجتماع المباشرة مع السبب (1) . وقد تكلمنا عن هذه القواعد بما فيه الكفاية فلا داعى لإعادة الكلام عنها.
ومن كان عليه قصاص متلف كقطع أصبع أو يد أو رجل أو أُذُن فهو غير معصوم بالنسبة لمستحق القصاص فى حدود ما يستحقه، فليس للمستحق أن يقطع غير العضو المماثل، فإن فعل فهو قاطع عمدًا، وإن قطع العضو المماثل فلا يسأل عن القطع وإنما يسأل عن افتياته على السلطات العامة وتعجله بالقصاص، أما لو كان القاطع أجنبيًا فهو مسئول عن القطع لأن المقطوع معصوم فى حقه.
وإذا اقتص المستحق فى طرف، فسرى القصاص إلى النفس، ومات المقتص منه، فلا يسأل الوالى عن القتل شبه العمد، لأنه مات من فعل مباح (2) وهو تنفيذ العقوبة.
وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد، أما أبو حنيفة فيرى أن المقتص مسئول عن القتل شبه العمد، وحجة الفريق الأول أن الموت
_________
(1) راجع الفقرات من 43 - 57 من هذا الجزء.
(2) المهذب ج2 ص200 , تحفة المحتاج ج4 ص28 , المغنى ج9 ص443.(2/99)
حدث بفعل مأذون فيه، ولا يعتبر جريمة فما تولد منه لا يعتبر جريمة، فإن ما تولد من المباح مباح. وحجة أبى حنيفة أن الفعل المأذون له فيه هو القطع وهو حقه، ولكنه استوفى أكثر من حقه وجاء بالقتل ففيه مسئولية (1) .
113 - ويشترط أن يكون الفعل الذى أتاه الجانى محرمًا عليه: فإن كان حقه أو من واجبه أن يأتى الفعل فأدى الفعل للموت فالمسئولية تختلف بحسب حدود الحق وباختلاف أصحاب الحق، كما تختلف بحسب اختلاف الشخص المحمل بالواجب، وسنفصل ذلك فيما يأتى فى:
حق التأديب، حق التطيب، الألعاب الرياضية، حق القصاص، التعزير، قطع السارق، الجلد فى حد.
* * *
الركن الثانى: أن يتعمد الجانى الفعل
114 - يشترط أن تعمد الجانى إحداث الفعل المؤدى للوفاة دون أن يتعمد قتل المجنى عليه: وهذا هو المميز الوحيد بين جريمتى القتل العمد وشبه العمد، ففى الأول يتعمد الجانى إصابة المجنى عليه وفى الوقت ذاته يقصد من الإصابة قتله، وفى الثانى يتعمد إصابة المجنى عليه ولا يتعمد قتله، فالفاصل بين الجريمتين أصلاً هو قصد الجانى، فإن قصد القتل فالفعل قتل عمد وإن قصد مجرد العدوان ولم يقصد القتل فالفعل شبه عمد، ويستدل على نية الجانى قبل كل شىء بالآلة أو الوسيلة التى يستعملها فى القتل، فإن كانت الآلة تقتل غالبًا فالفعل قتل عمد ما لم يثبت الجانى أنه لم يقصد القتل، وإن كانت الآلة لا تقتل غالبًا فالفعل قتل شبه عمد ولو توجه قصد الجانى فعلاً للقتل؛ لأن القتل لا يكون إلا بالآلة الصالحة لإحداثه، فإن لم تكن الآلة صالحة لإحداثه كانت نية القتل
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص305.(2/100)
عبثًا (1) ، ويستدل على القصد بعد الآلة المستعملة بشهادة الشهود واعتراف الجانى، وتتميز جريمة القتل شبه العمد عن القتل الخطأ بقصد الفاعل أيضًا؛ ففى شبه العمد يأتى الفاعل الفعل لقصد العدوان دون أن يقصد القتل، أما فى القتل الخطأ فيأتى الفعل دون أن يقصد عدوانًا أو يقع عدوانًا أو يقع منه الفعل نتيجة لإهماله أو عدم احتياطه دون أن يقصد الفعل بالذات.
115 - القصد الاحتمالى: والجانى فى القتل شبه العمد مأخوذ بقصده الاحتمالى، فإن نيته لا تتجه لقتل المجنى عليه عند ارتكاب الحادث، وما كان يتوقع أن يؤدى الحادث للقتل، ولكنه يسأل عن القتل باعتباره نتيجة لعمله وكان فى وسعه أن يتوقعها أو كان يجب عليه أن يتوقعها (2) .
116 - القصد المحدود أو غير المحدود: ويستوى عند الفقهاء فى القتل شبه العمد أن يقصد الجانى شخصًا معينًا بالفعل الذى أدى لقتل، أو يقصد شخصًا غير معين أيًّا كان فالجانى مسئول فى الحالين عن فعله، ويعاقب عليه بعقوبة القتل شبه العمد إذا أدى لموت (3) .
117 - الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية: وإذا قصد الجانى شخصًا معينًا فأخطأه وأصاب غيره، كأن رماه بحجر فلم يصبه وأصاب الآخر، وقصد شخصًا على أنه زيد فتبين أنه عمرو فإن الجانى يسأل عن القتل الخطأ إذا توفى المجنى عليه ولا يسأل عن القتل شبه العمد. وهذا هو الرأى فى مذهب أبى حنيفة والشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، أما البعض الآخر فيرى أن الجانى يسأل عن القتل شبه العمد إذا كان الفعل الذى قصده محرمًا أما إذا كان غير محرم فيسأل عن القتل الخطأ (4) .
_________
(1) راجع الفقرة 89 من هذا الجزء.
(2) راجع الفقرة 98 من هذا الجزء.
(3) راجع الفقرة 95 من هذا الجزء.
(4) راجع الفقرة 96 من هذا الجزء.(2/101)
118- رضاء المجنى عليه: وإذا كان المجنى عليه قد أذن بالفعل المؤدى للموت، فيرى أبو حنيفة مسئولية الجانى عن القتل شبه العمد؛ لأن الجانى أذن بالجرح ولم يأذن بالقتل فلما مات المجنى عليه تبين أن الفعل وقع قتلاً لا جرحًا ويخالفه أبو يوسف ومحمد فى هذا الرأى كما يخالفه الشافعى وأحمد ويرون أن لا مسئولية على الجانى. وقد تكلمنا عن هذا بتفصيل بمناسبة الكلام على القتل العمد (1) .
ولا عبرة بالبواعث التى دفعت الجانى لارتكاب الفعل، فسواء كانت هذه البواعث شريفة أو وضيعة فلا أثر لها على الجريمة ولا أثر لها على العقوبة؛ لأن العقوبة حد لا يجوز تخفيفها ولا إيقافها ولا العفو عنها.
* * *
الركن الثالث: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية
119 - يشترط أن يكون بين الفعل الذى ارتكبه الجانى وبين الموت رابطة السببية: أى: أن يكون الفعل علة مباشرة للموت أو أن يكون سببًا فى علة الموت، فإذا انعدمت رابطة السببية فلا يسأل الجانى عن موت المجنى عليه، وإنما يسأل باعتباره جارحًا أو ضاربًا.
120 - ويكفى أن يكون فعل الجانى هو السبب الأول فى إحداث الوفاة ولو تعاونت معه أسباب أخرى على إحداث الوفاة: كإهمال العلاج أو إساءة العلاج أو ضعف المجنى عليه أو مرضه أو غير ذلك. وقد تكلمنا على ذلك بما فيه الكفاية بمناسبة الكلام على القتل العمد، وما قلناه هناك ينطبق هنا مما
_________
(1) راجع الفقرة 93 من هذا الجزء.(2/102)
هو خاص بتعدد الأسباب وتواليها، وانقطاع آثارها، وتغلب بعضها على البعض الآخر (1) .
121 - والقضاء المصرى يتجه اتجاه الشريعة مخالفا بذلك النظرية الفرنسية: ومن المبادئ التى قررتها محكمة النقض المصرية: أنه لا يقبل من المتهم الاحتجاج بأن وفاة المجنى عليه الذى أصابته ضربة من الغير مطالبًا بأن يعمل كل احتياط لما عساه أن يحدث من هذه الضربة طالما أنه لم يعمل عملاً إيجابيًا ساءت به حالته (2) . وحكمت أيضًا محكمة النقض بأنه إذا كان سبب الوفاة هو التسمم الصديدى الناشىء من الإصابة مع الضعف الشيخوخى فلا يقبل من المتهم القول لعدم توفر رابطة السببية بين الضرب والوفاة، لأنه متى كان الضرب الذى وقع من المتهم هو السبب الأول المحرك للعوامل الأخرى المتنوعة التى تعلونت بطريق مباشر أو غير مباشر على إحداث النتيجة النهائية، فإن المتهم مسئول عن كافة النتائج التى ترتبت على فعله، ومأخوذ فى ذلك بقصده الاحتمالى ولو لم يكن يتوقع هذه النتائج لأنه كان يجب عليه قانونًا أن يتوقعها (3) .
* * *
المبحث الثالث
القتل الخطأ
122- الأصل فى العقاب على القتل الخطأ: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
_________
(1) تراجع الفقرات من 68 إلى 73 من هذا الجزء.
(2) نقض 15 مايو سنة 1930 , قضية رقم 1139 سنة 47 قضائية.
(3) نقض 20 نوفمبر سنة 1933 قضية رقم 2058 سنة 3 قضائية.(2/103)
رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] .
123- ويرى بعض الفقهاء أن الخطأ نوع واحد: ولكن بعضهم يقسمه إلى نوعين:
1 - قتل خطأ محض.
2 - قتل فى معنى القتل الخطأ.
والخطأ المحض: هو ما قصد فيه الجانى الفعل دون الشخص، ولكنه أخطأ فى فعله أو فى ظنه. ومثل الخطأ فى الفعل أن يرمى صيدًا فيخطئه ويصيب آدميًا، والخطأ فى ظن الفاعل كمن يرمى شخصًا على ظن أنه مهدر الدم فإذا هو معصوم، وكمن يرمى ما يحبسه حيوانًا فيتبين أنه إنسان.
أما ما هو فى معنى القتل الخطأ: فهو ما لا قصد فيه إلى الفعل ولا الشخص، أى أن الجانى لا يتعمد إتيان الفعل الذى يسبب الموت ولا يقصد المجنى عليه. وهذا النوع من القتل الخطأ قد يحدث من الجانى مباشرة وقد يحدث بالتسبب، والأول: كمن انقلب على نائم بجواره فقتله، أو سقط منه شىء كان يحمله على آخر فمات منه. والثانى: كمن حفر بئرًا فسقط فيها آخر فمات، وكمن ترك حائطه دون إصلاح فسقط على بعض المارة، أو كمن أراق ماء فى الطريق فانزلق به أحد المارة وسقط على الأرض فجرح جرحًا أودى بحياته. والفقهاء الذين لا يرون تقسيم الخطأ يدخلون تحته ما يدخله الآخرون تحت هذين القسمين، فالفرق بين الفريقين فى منطق الترتيب والتبويب لا غير.
ولعل الذى دعا القائلين بالتقسيم إلى التقسيم الخطأ أنهم رأوا أن طبيعة الفعل فى الخطأ المحض تختلف عن طبيعته فيما يعتبر قتلاً فى معنى الخطأ، ففى الخطأ المحض يتعمد الجانى الفعل، أما فى النوع الثانى فلا يتعمده، وعلة تقسيم النوع الثانى إلى قتل مباشر وقتل بالتسبب: أن القتل المباشر فيه الكفارة دون القتل بالتسبب والكفارة عقوبة تعبدية أو هى دائرة بين العقوبة والعبادة وتخص(2/104)
المسلم دون غيره.
124 - وما جاء فى الشريعة عن الخطأ يتفق مع ما جاء فى القوانين الوضعية بعينه. وإذا كان شراح القوانين لا يقسمون الخطأ هذه التقاسيم ويكتفون بإدراجها كلها تحت لفظ الخطأ كما فعل بعض الفقهاء إلا أن ما تعتبره القوانين خطأ لا يخرج عن نوع من الأنواع التى ذكرها فقهاء الشريعة.
125 - والظاهر من تتبع أمثلة الفقهاء أن الجانى يكون مسئولاً كلما كان الفعل والترك نتيجة إهمال أو تقصير أو عدم احتياط وتحرز أو عدم تبصر أو مخالفة لأمر السلطات العامة أو الشريعة ومن ثَمَّ يكون أساس جرائم الخطأ فى الشريعة هو نفس الأساس الذى تقوم عليه هذه الجرائم فى القوانين الوضعية وبصفة خاصة القانونين المصرى والفرنسى وسنعرض فيما يأتى أمثلة مما يراه فقهاء الشريعة خطأ تأييدًا لما قلناه.
126 - ويسير الفقهاء عامة على قاعدتين (1) عامتين يحكمان مسئولية الجانى فى الخطأ وبتطبيقهما نستطيع أن نقول إن شخصًا ما أخطأ أو لم يخطئ.
القاعدة الأولى: كل ما يلحق ضررًا بالغير يسأل عنه فاعله أو المتسبب فيه إذا كان يمكن التحرز منه، ويعتبر أنه تحرز إذا لم يهمل أو يقصر فى الاحتياط والتبصر، فإذا كان لا يمكنه التحرز منه إطلاقًا فلا مسئولية.
القاعدة الثانية: إذا كان الفعل غير مأذون فيه (غير مباح) شرعًا وأتاه الفاعل دون ضرورة ملجئة فهو تعدٍّ من غير ضرورة وما تولد منه يسأل عنه الفاعل سواء كان مما يمكن التحرز عنه أو مما لا يمكن التحرز عنه.
127 - (1) من كان يمشى فى الطريق حاملاً خشبة فسقطت منه على إنسان فقتلته فهو مسئول عن قتله لأنه يستطيع أن يتحرز ويحتاط فلم يفعل، ولكن الغبار الذى يثيره رمى الإنسان فى الطريق إذا جاء فى عين إنسان فأتلفها لا يسأل عنه الماشى لأن إثارة الغبار عن المشى مما لا يمكن التحرز منه.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص271 , 272.(2/105)
(2) من سيرَّ دابة أو ساقها أو قادها فوطئت إنسانًا أو كدمته أو صدمته فهو مسئول عن ذلك كله لأنه مما يمكن التحرز عنه بحفظ الدابة وتنبيه الناس، أما نَفْحُ الدابة برجلها أو ذنبها فلا يمكن التحرز منه وكذلك بولها وروثها ولعابها، فلو نفحت الدابة برجلها أو ذنبها إنسانًا فأحدثت إصابة مات منها، ولو أتلف بولها أو روثها أو لعابها ملابس إنسان أو زٍلَقَ فيه فسقط وأصيب فلا مسئولية على الراكب أو السائق أو القائد لأن سبب الإصابة مما لا يمكن التحرز عنه، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "والرِّجل جُبار" أى: نفح الدابة برجلها جبار؛ أى لا مسئولية عنه.
(3) ما تثيره الدابة بسيرها من الغبار والحصى الصغار لا ضمان فيه؛ أى لا مسئولية عنه لأنه لا يمكن التحرز فيه، أما إثارة الحصى الكبار ففيه المسئولية لأنها لا تثار إلا عند السير العنيف وهو مما يمكن التحرز منه.
(4) إذا أوقفت الدابة فى الطريق العام فقتلت إنسانًا فمن أوقفها مسئول عن قتله سواء وطئت بيدها أو برجلها أو كدمت أو صدمت أو خبطت بيدها أو نفحت برجلها أو بذنبها وكذلك هو مسئول عما يعطب بروثها أو بولها أو لعابها، كل ذلك مضمون عليه سواء كان راكبًا لها أم لا، لأن وقوف الدابة فى الطريق العام ليس بمأذون فيه شرعًا إنما جعل الطريق للمرور فإذا كان الوقوف لا ضرورة فيه فهو تعد من غير ضرورة وما تولد منه يكون مضمونًا عليه سواء كان مما يمكن التحرز منه أم لا يمكن التحرز منه.
(5) ومن ربط فى غير ملكه فهو مسئول عما أصابته من شىء بيدها أو رجلها وعما عطب بروثها أو بولها أو لعابها؛ لأنه متعد بالوقوف فى غير ملكه.
(6) فإذا أوقفها فى ملكه فلا ضمان عليه إلا فيما وطئت بيدها أو رجلها وهو راكبها، وإذا كان الوقوف فى محل مخصص لذلك كموقف معد للحيوانات فى الشارع العام أو كموقف الحيوانات فى السوق العام فهو كما لو أوقف الدابة فى ملكه الخاص.(2/106)
(7) ولو نفرت الدابة أو انفلتت من صاحبها بالرغم منه فما أصابت فى نفارها وانفلاتها فلا مسئولية عنه لقوله عليه السلام: "العجماء جبار" أى البهيمة جرحها جبار ولأنه لا صنع له فى نفارها وانفلاتها ولم يكن فى إمكانه أن يتحرز عن فعلها.
(8) من أحدث شيئًا فى الطريق كمن أخرج جناحًا أو شرفة، أو نصب ميزانًا، أو بنى دكانًا، أو وضع حجرًا أو خشبة أو متاعًا، فعثر بشىء من ذلك عاثر فوقع فمات، أو وقع على غيره فقتله، أو حدث به أو بغيره من العثرة والسقوط جناية من قتل أو غيره، أو صبَّ ماء فى الطريق فزلَقَ به إنسان، فهو مسئول عن ذلك كله وعما عطب من الدواب وتلف من الأموال؛ لأنه تسبب فى التلف بإحداث هذه الأشياء وهو متعد فى التسبب فكل ما تولد من التعدى يكون مضمونًا عليه، ولو كان التحرز منه غير ممكن.
(9) إذا أشعل نارًا فى داره أو فى أرضه وكان من المتوقع أن يصل الشرر إلى دار غيره أو أرضه لهبوب الهواء قبل إشعال النار، فهو ضامن لما احترق فى دار جاره أو أرضه لعدم تبصره ولعدم احتياطه.
(10) إذا سقى أرضه فأسرف حتى أضر السقى بأرض جاره، أو كان بأرضه شق فنزل الماء فى أرض جاره، فهو ضامن لعدم تبصره وعدم احتياطه وتقصيره.
(11) إذا رش الطريق فجاوز المعتاد فى الرش فهو ضامن.
(12) ولو تناهى فى الاحتياط والتبصر والتحرز فجرت حادثة لا توقع أو صاعقة فسقط بها شىء من ملكه كميزان أو شرفة وأتلف إنسانًا أو شيئًا فلا مسئولية ولا ضمان (1) .
هذه هى بعض الأمثلة التى ضربها فقهاء الشريعة على الخطأ، وظاهر منها أن
_________
(1) راجع فى هذا المثل والأمثلة السابقة: بدائع الصنائع ج7 ص271 - 286 , المغنى ج9 ص558 - 577 , نهاية المحتاج ج7 ص333 - 350 , مواهب الجليل ج6 ص241 - 243 ومن ص320 - 323.(2/107)
المسئولية تختلف فى حالة ما إذا كان الفعل مباحًا عنها فى حالة ما إذا لم يكن مباحًا، فإن كان الفعل مباحًا فالمسئولية أساسها التقصير الذى يرجع إلى الإهمال وعدم الاحتياط والتحرز أو عدم التقصير، أما إذا كان الفعل غير مباح فأساس المسئولية هو ارتكاب الفعل غير المباح ولو كان لم يحدث منه تقصير. وهذا الذى تقوم عليه المسئولية فى الخطأ فى الشريعة هو نفس ما يأخذ به القانون المصرى الناقل عن القانون الفرنسى، فهو ينص على المسئولية فى حالة التقصير بصوره المختلفة من عدم الاحتياط والإهمال وعدم الانتباه كما ينص على المسئولية فى حالة عدم مراعاة واتباع اللوائح، ولا يشترط التقصير فى الحالة الأخيرة (1) .
* * *
أركان القتل الخطأ
128 - للجناية على النفس خطأ ثلاثة أركان:
أولها: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه.
ثانيها: أن يقع الفعل خطأ من الجانى.
ثالثها: أن يكون بين الخطأ ونتيجة الفعل رابطة السببية.
الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه
129 - يشترط أن يقع بسبب الجانى أو منه فعل على المجنى عليه: سواء كان الجانى أراد الفعل وقصده، كما لو أراد أن يرمى صيدًا فأصاب إنسانًا، أو وقع الفعل نتيجة إهماله وعدم احتياطه دون أن يقصده كأن انقلب وهو نائم على طفل بجواره فقتله.
130 - ولا يشترط فى الفعل أن يكون من نوع معين: كالجرح مثلاً بل يصح أن يكون أى فعل مما يؤدى للموت؛ كالاصطدام بشخص أو بشىء وتزليق
_________
(1) راجع المادتين 238 , 244 من قانون العقوبات المصرى.(2/108)
الطريق وحفر بئر فيها وإسقاط ماء ساخن أو نار على المجنى عليه أو إسقاطه فى مار أو سقوط حائط عليه.
131- وكما يصح أن يكون الفعل مباشرًا يصح أن يكون بالتسبب: كمن ألقى ماء فى الطريق أو قشر موزًا أو بطيخًا فتزلق فيه آخر فسقط وأصيب فمات من إصابته ومن حفر بئرًا أو حفرة ولم يتخذ حولها مانعًا فسقط فيه إنسان فمات من سقطته.
132- ويجوز أن يكون الفعل إيجابيًا: كمن يلقى حجرًا من شرفته ليتخلص منه دون قصد إصابة أحد فيصيب أحدًا، ويجوز أن يكون الفعل تركًا كترك الكلب العاقر فى الطريق فيعقر إنسانًا ويحدث إصابات تميته، وكعدم إصلاح الحائط المائل أو المختل حتى يسقط على إنسان فيميته.
133- ويصح أن تكون وسيلة الموت مادية كما يصح أن تكون معنوية: فمن أثار رائحة كريهة أدت إلى إسقاط حامل وموتها، ومن صاح على حيوان صيحة مزعجة فمات منها إنسان رعبًا أو أزعجه فسقط من مرتفع ومات من سقطته - يعتبر قاتلاً خطأ فى كل هذه الحالات وأمثالها.
134- ويشترط أن يؤدى الفعل إلى الوفاة: ويستوى أن تكون الوفاة على أثر وقوع الحادث أو بعده طالت المدة أو قصرت فإن لم يمت المجنى عليه كان الفعل جناية خطأ على ما دون النفس.
135- وينطبق على القتل الخطأ كل القواعد التى ذكرت فى باب القتل العمد: عن المباشرة والسبب والشرط والمسئولية عنها وتعدد المباشرة والسبب واجتماعهما والقتل على التعاقب (1) .
136- وليكون الجانى مسئولاً عن فعله يجب أن يكون المجنى عليه
_________
(1) راجع الفقرات من 43 إلى 56 من هذا الجزء.(2/109)
معصومًا: وقد تكلمنا عن العصمة بمناسبة الكلام عن القتل العمد وفيما ذكر هناك الكفاية (1) .
* * *
الركن الثانى: الخطأ
137 - الخطأ هو الركن المميز لجرائم الخطأ على العموم: فإذا انعدم الخطأ فلا عقاب، ويعتبر الخطأ موجودًا كلما ترتب على فعل أو ترك نتائج لم يردها الجانى بطريق مباشر أو غير مباشر، سواء كان الجانى أراد الفعل أو الترك أم لم يرده ولكنه وقع فى الحالين نتيجة لعدم تحرزه أو لمخالفته أوامر السلطات العامة ونصوص الشريعة.
138 - ومن المسلم به أنه لا عقاب على عدم التحرز فى ذاته، أو مخالفة الأوامر والنصوص: فإن لم يكن شىء من هذا فلا عقاب إلا إذا تولد من عدم التحرز أو مخالفة الأوامر والنصوص ضرر، فإذا تولد الضرر فقد وجدت
_________
(1) يعتبر الإمام مالك من القتل الخطأ الأفعال التى تقع من الجانى بقصد تأديب المجنى عليه أو بقصد اللعب إذا أدت للوفاة ولعله أخذ بهذا الرأى نتيجة لقوله: إن القتل إما عمد وإما خطأ فقط ولا وسط بينهما , ولرأيه فيما يختص بالأفعال التى يقصد بها التأديب يخالف آراء بقية الفقهاء الذين يقررون الفعل قتلاً شبه عمد , كما يخالف القانونين المصرى والفرنسى اللذين يقرران الفعل ضرباً أفضى إلى موت , وهو يتفق مع رأى بقية الفقهاء , أما فيما يختص بالأفعال التى ترتكب بقصد اللعب أو تنشأ عنه فرأى مالك فيها يتفق مع رأى بقية الفقهاء كما يتفق مع القوانين الوضعية.
... ويرى أبو حنيفة أن من الخطأ أن يغرى إنسان كلبه فيعقر آخر فيقتله وحجته أن الكلب لا يعقر مكرهاً ولكن يعقر مختاراً فلا يمكن أن ينسب لصاحب الكلب إلا أنه أهمل , ويخالفه أبو يوسف ومحمد ويعتبران الفعل قتلاً شبه عمد ورأيهما يتفق مع رأى الشافعى وأحمد أما مالك فيعتبر الفعل قتلاً عمداً. البدائع ج7 ص183 , مواهب الجليل ج6 ص240 , 241.(2/110)
المسئولية عن الخطأ، وإذا انعدم الضرر فلا مسئولية (1) .
139- ومقياس الخطأ فى الشريعة هو عدم التحرز: ويدخل تحته كل ما يمكن تصوره من تقصير فيدخل تحته الإهمال، وعدم الاحتياط، وعدم التبصر، والرعونة، والتفريط، وعدم الانتباه، وغير ذلك مما اختلف لفظه ولم يخرج معناه عن عدم التحرز.
140- ومخالفة الأوامر والنصوص يدخل تحتها نصوص الشريعة نفسها ونصوص القوانين واللوائح والأوامر التى تصدرها السلطات التشريعية: ومجرد المخالفة يعتبر خطأ فى ذاته وترتب عليه مسئولية المخالف سواء فيما يمكن التحرز فيه أو ما لا يمكنه أن يتحرز فيه، ولكن يشترط للمسئولية أن يكون هناك ضرر كما قدمناه.
141- ولا يشترط أن يكون الخطأ بالغًا حدًا معينًا من الجسامة: فيستوى أن يكون خطأ الجانى جسيمًا أو تافهًا، فهو مسئول جنائيًا لمجرد حصول الخطأ وعليه أن يتحمل نتيجة خطئه، وهى نتيجة لا تختلف باختلاف جسامة الخطأ أو تفاهته لأن عقوبة القتل الخطأ فى الشريعة ذات حد واحد ولا يجوز إنقاصها ولا إيقافها ولا العفو عنها من السلطات العامة. وينبنى على هذا أن المجنى عليه لا يستطيع أن يطالب بتعويض ما أصابه من ضرر إذا برأت المحكمة المختصة الجانى لأنه لم يحدث منه خطأ.
* * *
الركن الثالث: أن يكون بين الخطأ والموت رابطة السببية
142 - يشترط ليكون الجانى مسئولاً أن تكون الجناية قد وقعت
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص271 , 272.(2/111)
نتيجة لخطئه: بحيث يكون الخطأ هو العلة للموت، وبحيث يكون بين الخطأ والموت علاقة السبب بالمسبب فإذا انعدمت السببية فلا مسئولية على الجانى.
143 - ويسأل الجانى عن الموت ولو ساعد على إحداثه عوامل أخرى: كسوء العلاج واعتلال صحة المجنى عليه أو صغر سنه أو ضعف تكوينه كذلك يسأل عن الموت ولو اشترك فى الخطأ أكثر من شخص بغض النظر عن عدد الإصابات التى تسبب فيها كل، وفحش هذه الإصابة المنسوبة للجانى مهلكة بذاتها أو ساهمت فى إحداث الوفاة. وتعتبر رابطة السببية متوفرة سواء كان الموت نتيجة مباشرة للخطأ، كمن يعبث ببندقيته فتنطلق منه خطأ فتصيب المجنى عليه فتقتله أو كان الموت ليس نتيجة مباشرة للخطأ، كمن حفر بئرًا عدوانًا فجاء السيل ودحرج بجوارها حجرًا فعثر المجنى عليه بالحجر فسقط فى البئر فمات من سقطته.
144 - والجانى مسئول عن خطئه ولو توالت الأسباب وبعدت النتائج: ما دام العرف يعتبره مسئولاً عن هذه النتائج، وقد تكلمنا طويلاً عن رابطة السببية بمناسبة القتل العمد، وما قيل هناك يمكن أن يقال هنا.
145 - واشتراك شخص أو أشخاص فى الخطأ لا يعفى الجانى من مسئولية القتل العمد: ولكنه يخفف من العقوبة، إذ تقسم عليهم الدية بحسب عددهم لا بحسب عدد إصاباتهم فإذا اشترك ثلاثة فى قتل رابع خطأ فعليهم ديته أثلاثًا بغض النظر عن جسامة فعل كل منهم وعدد إصابته ما دام فعله قد ساهم فى إحداث الوفاة.
146 - وإذا اشترك المجنى عليه مع الجانى فى الخطأ: تخفف العقوبة بقدر نصيب المجنى عليه؛ لأنه اشترك فى الفعل، فأعان على نفسه، فمثلاً إذا اشترك أربعة فى حفر بئر فوقعت عليهم فمات أحدهم فعلى كل من الثلاثة الباقين ربع دية فقط، وإذا كان عشرة يرمون بالمنجنيق فرجع عليهم بخطئهم فأصاب أحدهم(2/112)
فمات فعلى الباقين كل منهم تسع دية ويسقط عشر الدية مقابل اشتراك المجنى عليه فى الخطأ الذى أعلن به على نفسه وقد قضى على بن أبى طالب بمثل هذا فى قضية موضوعها: أن عشرة مدوا نخلة فسقطت على أحدهم فمات فقضى على الباقين كل بعشر الدية وأسقط عشرها لأن القتيل أعان على نفسه (1) .
ولكن الفقهاء يختلفون فى حالة المصادمة فيرى بعضهم عقاب كل متصادم عقوبة كاملة عن فعله، ويرى البعض الآخر أن الموت حدث من فعلين فنصف العقوبة (2) .
والرأى الثانى: يتفق مع ما تأخذ به المحاكم فى مصر وفرنسا، فإن اشترك المجنى عليه فى الخطأ لا يخليه من المسئولية الجنائية ولكنه يؤثر على التعويض ويدعو إلى تخفيف العقوبة.
147 - وتعتبر رابطة السببية قائمة: سواء كان الموت نتيجة مباشرة لفعل الجانى أو كان نتيجة مباشرة لفعل غيره من إنسان أو حيوان ما دام الجانى هو المتسبب فى الفعل، فمن يعبث ببندقيته فتنطلق منه خطأ فتصيب المجنى عليه فهو مسئول عن القتل إذا مات، ومن يكلف أجيرًا بحفر بئر فى طريق فسقط فيها أحد فمات من سقطته فالقاتل هو المالك ما دام الأجير لا يعلم أنها فى ملك الآخر، ومن قاد دابة فعقرت شخصًا فمات من العقر فالقاتل هو القائد.
* * *
المبحث الرابع
عقوبات القتل العمد
148 - للقتل العمد فى الشريعة أكثر من عقوبة: منها ما هو أصلى، ومنها ما هو تبعى. والعقوبات الأصلية هى:
1 - القصاص. ... 2 - الدية. ... 3 - التعزير والكفارة على رأى.
والعقوبات التبعية
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص278 , المغنى ج7 2559 , نهاية المحتاج ج7 ص350.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص273 , مواهب الجليل ج6 ص243 , نهاية المحتاج ج7 ص343.(2/113)
اثنتان:
1 - الحرمان من الميراث. ... ... 2 - الحرمان من الوصية.
149- القصاص: تجب عقوبة القصاص بارتكاب جريمة القتل العمد فى الشريعة. ومعنى القصاص المماثلة؛ أى مجازاة الجانى بمثل فعله وهو القتل. ويستوى لتوقيع هذه العقوبة أن يكون القتل مسبوقًا بإصرار أو ترصد أو غير مسبوق بشىء من ذلك، كما يستوى أن يصحب القتل جريمة أخرى أو لا يصحبه شىء فالعقوبة على القتل العمد هى القصاص فى كل حال؛ إلا فى حالة الحرابة، أى عندما يقترن القتل بسرقة فالعقوبة فى هذه الحالة هى القتل والصلب، ولكن العقوبة لا تقع على الجانى باعتباره قاتلاً متعمدًا بل باعتباره محاربًا أى قاطع طريق.
150 - وعقوبتا الدية والتعزير كلاهما بدل من عقوبة القصاص: فإذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب الشرعية التى تمنع القصاص حلت محله عقوبة الدية مضافًا إليها التعزير إن رأت ذلك الهيئة التشريعية وإذا امتنعت عقوبة الدية لسبب من الأسباب الشرعية حلت محلها عقوبة التعزير، فالفرق بينهما أن عقوبة التعزير تكون أحيانًا بدلاً من القصاص وتكون أحيانًا بدلاً من بدل القصاص أى بدلاً من عقوبة الدية التى هى فى الأصل بدل من عقوبة القصاص، أما عقوبة الدية فهى بدل من القصاص فقط.
151- ويترتب على اعتبار الدية بدلاً من القصاص نتيجتان: أولهما: أنه لا يجوز للقاضى أن يجمع بين العقوبتين جزاء عن فعل واحد، ولكن الجمع يجوز إذا تعددت الأفعال، فيجمع بينهما باعتبار القصاص عقوبة عن بعض الأفعال والدية عقوبة عن البعض الآخر، فمن قتل شخصًا عمدًا لا يصح أن يعاقب إلا بعقوبة القصاص، فإذا امتنع القصاص فالعقوبة الدية والتعزير أو الدية فقط، فإن امتنعت الدية فالعقوبة التعزير. ومن قتل شخصين جاز أن يعاقب على قتل أحدهما بالقصاص وعلى قتل ثانيهما بالدية والتعزير إذا امتنع القصاص، وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية، فتكون نتيجة الحكم عليه أنه امتنع القصاص وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية فتكون نتيجة الحكم عليه أنه عوقب بالقصاص والدية والتعزير.
وخلاصة ما سبق: أنه لا يجوز الجمع بين عقوبة أصلية وعقوبة بدلية إذا كانت الأخيرة مقررة بدلاً من الأولى، أو بمعنى آخر: لا يجوز الجمع بين العقوبة الأصلية(2/114)
وبدلها، ولكن يجوز الجمع بين بدلين، كما يجوز الجمع بين عقوبتين أصليتين، فمثلاً يجوز الجمع بين الدية والتعزير وكلاهما بدل من عقوبة القصاص، ويجوز الجمع بين القصاص والكفارة وكلاهما عقوبة أصلية، ولا جدال فى أنه يجوز الجمع بين العقوبات الأصلية والعقوبات التبعية حيث لا يوجد ما يمنع من ذلك عقلاً وشرعًا.
152 - ويترتب على أن القصاص أصل والدية والتعزير بدل أنه لا يجوز للقاضى أن يحكم بالعقوبة البدلية إلا إذا امتنع الحكم بالعقوبة الأصلية ولسبب من الأسباب الشرعية التى تمنع القصاص، فإذا لم يكن هناك مانع وجب الحكم بالعقوبة الأصلية.
153 - موانع القصاص: العقوبة الأصلية الأولى للقتل العمد هى القصاص فيحكم بهذه العقوبة على الجانى كلما توفرت أركان الجريمة، إلا إذا كان هناك سبب يمنع من الحكم بالقصاص. والأسباب التى تمنع الحكم بالقصاص ليس فيها سبب واحد متفق عليه فكلها مختلف فيه ولكن بعضها أخذ به معظم الفقهاء والبعض أخذ به أقلهم وسنذكرها جميعًا فيما يلى:
154 - أولاً: أن يكون القتيل جزءًا من القاتل: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد (1) أنه إذا كان القتيل جزءًا من القاتل امتنع الحكم بالقصاص ويكون القتيل جزءًا من القاتل إذا كان ولده فإذا قتل الأب ولده عمدًا فلا يعاقب على قتله بالقصاص؛ لقوله عليه السلام: "لا يقاد الوالد بولده"، ولقوله: "أنت ومالك لأبيك". والحديث الأول صريح فى منع القصاص، والحديث الثانى وإن لم يكن صريحًا فى منع القصاص إلا أن نصه يمنع منه لأن تمليك الأب ولده وإن لم تثبت فيه حقيقة الملكية تقوم شبهة فى درء القصاص إذ القاعدة فى الشريعة "درء الحدود بالشبهات" أما الولد فيقتص منه لوالده سواء كان أبًا أو أمًا إذا قتله طبقًا للنصوص العامة، لأن النص الخاص لم يخرج من حكم النصوص العامة إلا الوالد فقط، ويعللون هذه التفرقة فى الحكم بين الوالد والولد بأن الحاجة إلى الزجر والردع فى جانب
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص235 , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج9 ص359 وما بعدها.(2/115)
الولد أشهر منها فى جانب الوالد لأن الوالد يحب ولده لولده لا لنفسه دون أن ينتظر نفعًا منه إلا أن يحيى ذكره وهذا يقتضى الحرص على حياته، أما الولد فيحب والده لنفسه لا لوالده أى أنه يحبه لما يصل إليه من منفعة عن طريقه وهذا لا يقتضى الحرص على حياة والده لأن مال والده كله يؤول إليه بعد وفاته وحبه لنفسه يتعارض مع الحرص على حياة والده (1) . ويعلل البعض (2) التفرقة فى الحكم بأن الوالد كان سببًا فى إيجاد الولد فلا يصح أن يكون الولد سببًا فى إعدامه وهو تعليل يراه البعض بعيدًا عن الفقه؛ لأن إذا زنا بابنته يرجم فتكون سبب إعدامه مع أنه سبب وجودها. والحقيقة أن الابن والبنت ليسا سبب إعدام الأب وإنما ارتكاب الأب للجريمة فى كل حال كان سبب إعدامه (3) .
ويدخل تحت لفظى الوالد والولد باتفاق الفقهاء الثلاثة كل والد وإن علا وكل ولد وإن سفل فيدخل تحت الوالد الجد أب الأب والجد أب الأم وإن علا (4) ، ويدخل تحت الولد ولد الولد وإن سفلوا.
وحكم الأم هو حكم الأب، فإذا قتلت الأم ولدها فلا يقتص منها لأن النص جاء بلفظ الوالد وهى أحد الوالدين فاستوت فى الحكم مع الأب، فضلاً عن أنها أولى بالبر فكانت أولى بنفى القصاص عنها. ولأحمد رأى آخر غير معمول به، وهو قتل الأم بولدها ويعلل هذا الرأى بأن الأم لا ولاية لها على ولدها فتقتل به. ويرد على هذا الرأى بأن الولاية لا دخل لها فى منع القصاص بدليل أن الأب لا يقتص منه إذا قتل ولده الكبير مع أنه لا ولاية له على ولده (5) .
والجدة كالأم فيما سبق سواء كانت من قَبل الأب أو من قبل الأم، فحكمها
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص235.
(2) المغنى ج9 ص259 , البحر الرائق ج8 ص296.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ج2 ص250.
(4) يرى الحسن بن حى أن الجد لا يدخل تحت لفظ الوالد. ويرد عليه بأن الحكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد ومن ثم كان الجد والداً.
(5) المغنى ج9 ص361.(2/116)
حكم الجد.
ويمتنع القصاص عن الوالد سواء كان مساويًا للولد فى الدين والحرية أو مخالفًا له فى ذلك؛ لأن انتفاء القصاص أساسه شرف الأبوة وهو موجود فى كل حال، فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل الرقيق ولده الحر فلا قصاص لشرف الأبوة ومكانتها (1) .
ولأحمد رأى آخر غير معمول به ملخصه: أن الابن لا يقتل بوالده لأنه مما لا تقبل شهادة له بحق النسب، فلا يقتل به كما لا يقتل الأب بولده حيث لا تقبل شهادة له. ورد هذا الرأى بأن النصوص العامة تقضى بأن يقتل كل منهما بالآخر لولا النص الخاص الذى جاء قاصرًا على الولد، وأن الوالد أعظم حرمة وحقًا على الابن من أى شخص أجنبى، فإذا كان الابن يقتل بالأجنبى فبالأب أولى، كذلك فإن الابن يحد بقذف الأب فيقتل به (2) .
ويخالف مالك الفقهاء الثلاثة، ويرى قتل الوالد بولده كلما انتفت الشبهة فى أنه أراد تأديبه أو كلما ثبت ثبوتًا قاطعًا أنه أراد قتله، فلو أضجعه فذبحه أو شق بطنه أو قطع أعضاءه فقد تحقق أنه أراد قتله وانتفت شبهة أنه أراد من الفعل تأديبه ومن ثَمَّ يقتل به، أما إذا ضربه مؤدبًا أو حانقًا ولو بسيف أو حَذَفَه بحديدة أو ما أشبه فقتله فلا يقتص منه لأن شفقة الوالد على ولده وطبيعة حبه له تدعو دائمًا إلى الشك فى أنه قصد قتله، وهذا الشك يكفى لدرء الحد عنه (3) فلا يقتص منه، وإنما عليه دية مغلظة.
والقتل - كما جاء فى المدونة - من العمد لا من الخطأ فهو فى حال القاتل لا تحمل العاقلة منه شيئًا (4) .
والأصل أن الخطأ فيه دية مخففة لا دية مغلظة وأن الدية المغلظة هى العقوبة البدلية التى تحل محل القصاص، أى عقوبة العمد فهل اعتبر مالك
_________
(1) المغنى ج9 ص361.
(2) المغنى ج9 ص365.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , المدونة ج16 ص106 - 108.
(4) المدونة ج16 ص107 , 108.(2/117)
الفعل قتلاً عمدًا ودرأ القصاص للشبهة طبقًا لقوله عليه السلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" ومن ثم رأى القضاء بالدية المغلظة بدلاً من القصاص؟ أم أنه اعتبر الفعل قتلاً خطأ ورأى تغليظ الدية لشناعة الجريمة؟ الراجح أن الفعل يعتبر قتلاً عمدًا وأن القصاص درء للشبهة المتمكنة فى القصد كما سنبينه بعد، على أنه يمكن القول باعتبار الفعل خطأ ثم تغليظ الدية لشناعة الجريمة، والأم فى ذلك مثل الأب فى الحكم فى حالة تغليظ الدية، ومثل الوالد الجد ومثل الولد ولد الولد.
وهناك رأى ثالث بأن مالكًا اعتبر الفعل قتلاً شبه عمد وأنه لم يسلم بالقتل شبه العمد إلا فى هذه الحالة، وهو رأى له سند فى المذهب وإنما جاء به أصحابه تعليلاً للحكم ولا شك أن أحد العقابين السابقين أجدر منه بالقبول واقرب إلى المبدأ الذى قام عليه المذهب.
وبهذه المناسبة يحسن أن نفصل القول عن تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات فى جريمة القتل، فمعنى هذه القاعدة أن كل شبهة قامت فى فعل الجانى أو قصده يترتب عليها درء الحد إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، ويعاقب الجانى بدلاً من عقوبة الحد بعقوبة تعزيرية ومن السهل تطبيق هذه القاعدة فى جرائم الحدود جميعًا على هذه الصورة ولكن تطبيق القاعدة فى جرائم القتل نادر مع وبهذه المناسبة يحسن أن نفصل القول عن تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات فى جريمة القتل، فمعنى هذه القاعدة أن كل شبهة قامت فى فعل الجانى أو قصده يترتب عليها درء الحد إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، ويعاقب الجانى بدلاً من عقوبة الحد بعقوبة تعزيرية ومن السهل تطبيق هذه القاعدة فى جرائم الحدود جميعًا على هذه الصورة ولكن تطبيق القاعدة فى جرائم القتل نادر مع إمكانه فهى تقريبًا معطلة التطبيق وإن كانت فى الواقع تطبق معنًى لا صورة لأن القتل وهو فعل واحد قسم إلى أنواع مختلفة: عمد، وشبه عمد، وخطأ ففى العمد إذا قامت الشبهة فى الفعل فإنه لا يمكن درء الحد بالشبهة لأن الفعل بعد قيام الشبهة يكون قتلاً خطأ أو جرحًا وإذا قامت الشبهة فى القصد فإن الفعل يكون قتلاً شبه عمد، وهكذا يمنع تنوع القتل من تطبيق القاعدة وكذلك إذا كان الفعل قتلاً شبه عمد فقامت الشبهة فى الفعل أو القصد فإن الفعل يعتبر قتلاً خطأ أو جرحًا وإذا قامت الشبهة فى القتل الخطأ فإن الفعل يعتبر جرحًا خطأ فالشبهة فى القتل تحولّ نوع القتل إلى ما هو أدنى منه وتدرأ الحد الأعلى بالحد الأدنى فكأن القاعدة تطبق معنًى لا صورة.(2/118)
وليس لتطبيق القاعدة مجال عند مالك لأنه يقسم القتل إلى نوعين فقط عمد وخطأ، لأن ما لا يعتبر عمدًا عنده يعتبر خطأ فإذا قامت الشبهة فى القصد أو الفعل اعتبر العمد قتلاً خطأ أو جرحًا.
قتل الرجل بزوجته: ويقيس الليث بن سعد والزهرى الزوج على الأب. فالابن وماله ملك لأبيه طبقًا لحديث الرسول، والزوجة ملك للزوج بعقد النكاح فهى أشبه بالأمَة، فإذا منعت شبهة الملك القصاص هناك منعته كذلك هنا. ولكن جمهور الفقهاء لا يرون هذا الرأى وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة. فعندهم أن الزوجين شخصان متكافئان فيقتل كل منهما الآخر كالأجنبيين، وما يقال من أن الزوج يملك الزوجة غير صحيح، فهى حرة ولا يملك منها الزوج إلا متعة الاستمتاع فهى أشبه بالمستأجرة وفضلاً عن هذا فإن النكاح ينعقد لها عليه كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعًا سواها وتطالبه فى حق الوطء بما يطالبها ولكن له عليها فضل القوامة التى جعل الله عليها بما أنفق من ماله اى ما وجب عليه من صداق ونفقة، ولو أورث هذا شبهة لأورثها فى الجانبين لا فى جانب واحد.
155 - ثانيًا: يشترط مالك والشافعى وأحمد أن يكون المجنى عليه مكافئًا للجانى: فإن لم يكن مكافئًا امتنع الحكم بالقصاص ويعتبر المجنى عليه مكافئًا عندهم إذا لم يفضله الجانى بحرية أو إسلام فإذا تساويا فى الحرية والإسلام فهما متكافئان، ولا عبرة بعد ذلك بما بينهما من فروق أخرى؛ فلا يشترط التساوى فى كمال الذات، ولا سلامة الأعضاء ولا يشترط التساوى فى الشرف والفضائل فيقتل سليم الأطراف بمقطوعها، والصحيح بالمريض والأمثل، والكبير بالصغير، والقوى بالضعيف، والعالم بالجاهل، والعاقل بالمجنون، والأمير بالمأمور، والذكر بالأنثى ... الخ.
ولا خلاف بين الفقهاء فى قتل الرجل والأنثى بالأنثى لقوله تعالى:(2/119)
{الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة: 178] ، ولكنهم اختلفوا فى تفسير هذه الآية فمنهم من رأى أنها تعرضت لحكم النوع إذا قتل نوعه؛ ولكنها لم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل النوع الآخر، ومن ثم فقد اختلفوا فى ذلك إلى رأيين.
الرأى الأول، وهو رواية عن على بن أبى طالب: يرى أصحاب هذا الرأى بأن الرجل يقتل بالمرأة ويُعطى أولياؤه نصف الدية. وحجة هذا الفريق أن النص لم يتعرض إلا لحكم النوع إذا قتل نوعه، وأن دية المرأة نصف دية الرجل، فإذا قتل بها بقى له بقية فيستوفى ممن قتله (1) ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة.
وإذا قتلت امرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها.
ويقول القرطبى: إن أبا عمر علق على هذا الرأى بقوله: إذا كانت المرأة لا تكافئ الرجل ولا تدخل تحت قول النبى: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فلم قتل الرجل بها وهى لا تكافئه؟ وكيف تؤخذ نصف الدية مع القتل وقد أجمع العلماء على أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن قبول الدية يحرم دم القاتل ويمنع القصاص؟ (2) .
وأصحاب الرأى الثانى يرون أن الذكر يقتل بالأنثى كما تقتل الأنثى بالذكر. ومن هذا الرأى الأئمة الأربعة وحجتهم قوله تعالى: {الحُرُّ بِالْحُرِّ} وقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وأنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بكتاب الفرائض والسنن وذكر فيه أن الرجل يقتل بالمرأة والرجل والمرأة شخصان يحد كل منهما بقذف الآخر، فيقتل كل منهما بالآخر كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شئ لأنه قصاص واجب، فلا تجب معه الدية كسائر القصاص، واختلاف الديات لا عبرة به فى القصاص، بدليل أن الجماعة تقتل بالواحد، والنصرانى بالمجوسى مع اختلاف دينهما، والعبد بالعبد مع اختلاف قيمتهما.
_________
(1) المغنى ج9 ص337 , 378.
(2) القرطبى ج2 ص248.(2/120)
ومذهب الشيعة الزيدية أنه إذا قتلت امرأة رجلاً وجب أن تقتل المرأة بالرجل ولا يزيد شىء على قتلها، وإذا قتل الرجل المرأة قتل الرجل بها، ويستوفى ورثته - أى أولياء الدم - نصف دية، ولا يجب القصاص إلا بشرط التزامهم ذلك.
ويشترط التكافؤ فى المجنى عليه لا فى الجانى، فإذا كان المجنى عليه لا يكافئ الجانى امتنع القصاص؛ كأن يكون القاتل مسلمًا والقتيل كافرًا، أو كان القاتل حرًا والقتيل عبدًا ولكن التكافؤ لا يشترط فى الجانى، فإن كان الجانى لا يكافئ المجنى عليه فإن هذا لا يمنع القصاص، لأن شرط التكافؤ وضع لمنع قتل الأعلى بالأدنى ولم يوضع لمنع قتل الأدنى بالأعلى، فإذا قتل الكافر مسلمًا أو العبد حرًا قُتل به على الرغم من انعدام التكافؤ بينهما؛ لأن النقص فى الجانى وليس فى المجنى عليه، والنقص هو الكفر والعبودية والزيادة هى الإسلام والحرية.
أ - الحرية: يرى الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من السنة أن لا يقتل حر بعبد" أو كما يروى عن ابن عباس: "لا يقتل حر بعبد" ويرون أن العبد منقوص بالرق فلا يكافئ الحر. والمكافأة بالحرية شرط عندهم فى المجنى عليه لا فى الجانى، فإذا كان المجنى عليه حرًا والجانى عبدًا اقتص من الجانى، وإذا كان المجنى عليه عبدًا والجانى حرًا لم يقتص من الجانى (1) .
أما أبو حنيفة فيرى القصاص بين الأحرار والعبيد ولا يشترط التكافؤ فى الحرية للقصاص، ويستوى عنده أن يكون الحر هو القاتل للعبد أو العبد هو القاتل للحر، فالقصاص واجب الحكم به على الجانى فى الحالين.
ولكن أبا حنيفة (2) يرى استثناء أن لا يقتل السيد بعبده فإذا كان القتيل مملوكًا للقاتل أو كان للقاتل فيه شبهة الملك، امتنع القصاص من القاتل؛ لقوله -
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص236 وما بعدها , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج9 ص248.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص235.(2/121)
صلى الله عليه وسلم -: "لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده" وعلة المنع أنه لو وجب القصاص لوجب للسيد ولا يمكن أن يكون القصاص له وعليه هذا إذا كان يملكه كله، فإن كان يملك بعه فلا يقتص منه؛ لأن القصاص عقوبة لا تتبعض فلا يمكن استيفاء بعضها دون بعض. وإذا كان له شبهة الملك فيه لا يقتص منه؛ لأن الشبهة فيما يقتص منه تلحق بالحقيقة درءًا للحد. أما إذا قتل العبد سيده فإنه يقتص منه؛ لأن معنى القصاص عام، ولم يستثن منه إلا قتل السيد لعبده. وظاهر مما سبق أن أبا حنيفة يتفق مع الأئمة الثلاثة فى قتل السيد لعبده ويختلف معهم فيما عدا ذلك.
وهناك من يرى أن يقتص من السيد إذا قتل عبده فالنخعى وداود يريان قتل السيد بعبده؛ لما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه" (1) .
هذه خلاصة آراء الفقهاء فى التكافؤ بين الحر والعبد رأينا الإتيان بها لإعطاء فكرة عن أحكام الشريعة فى هذه الناحية ونحن نعلم أن الرق قد أبطل اليوم، فلا سيد ولا مسود ولعل أول شريعة دعت إلى إبطال الرق وحثت عليه هى الشريعة الإسلامية.
ب - الإسلام. قتل المسلم بغيره: يرى مالك والشافعى أن المسلم لا يقتل بكافر أيًا كان إذا قتله، لأن الكافر لا يكافئ المسلم ولكن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله لأنه قتل الأدنى بالأعلى ويرون تطبيق هذا الحكم على الذميين ولو أنهم يؤدون الجزية، وتجرى عليهم أحكام الإسلام. وحجتهم أن التكافؤ فى الإسلام شرط وجوب القصاص وأن الكفر نقصان فإذا وجد الكفر امتنعت المساواة ويمتنع وجوب القصاص لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر"
_________
(1) المغنى ج9 ص349.(2/122)
ولأن فى عصمة الذمى شبهة العدم لثبوتها مع قيام المنافى وهو الكفر، والأصل فى الكفر أنه مبيح للدم، ولكن عقد الذمة منع الإباحة فبقاء الكفر يورث الشبهة والشبهة تدرأ الحد، وإذا كان المسلم لا يقتل بالمستأمن وهو كافر فكذلك الذمى (1) .
ويرى أبو حنيفة أن المسلم يقتل بالذمى وأن الذمى يقتل بالمسلم؛ لأن النصوص التى جاءت بعقوبة القصاص عامة، فالله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى} [البقرة: 178] ويقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، ويقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] ، فهذه النصوص عامة لم تفصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم، فمن ادعى التخصيص والتقييد فهو يدعيه بلا دليل، ولقد قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] ، وتحقيق معنى الحياة فى قتل المسلم بالذمى أبلغ منه فى قتل المسلم بالمسلم؛ لأن العدواة الدينية تحمله على القتل خصوصًا عند الغضب فكانت الحاجة إلى الزاجر أمسّ وكان فرض القصاص أبلغ فى تحقيق معنى الحياة.
ويخالف الإمام مالك زميله فيرى قتل المسلم بالذمى إذا قتله غيلة، والغيلة هى أن يخدعه غيره ليدخله موضعًا يأخذ ماله.
والقتل الغيلة هو نوع من الحرابة عند مالك، ولا يعترف به الشافعى وأحمد وأبو حنيفة (2) ، فإن للقتل الغيلة حكمًا خاصًا فهو قتل فيه القصاص إن توفرت شروطه وإذا كان مالك يقيسه على الحرابة فإنهم لا يرون ذلك (3) .
كذلك يحتجون بما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه أقاد مؤمنًا بكافر وقال: "أنا أحق من وفَى بذمته" ويفسرون حديث: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد فى عهد" بأن المراد من "الكافر" المستأمن، وأن "ذو عهد" معطوف
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص236 وما بعدها , المهذب ج2 ص185 , المغنى ج9 ص341 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص333.
(3) الشرح الكبير ج9 ص383.(2/123)
على "مؤمن"، فمعنى الحديث: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بكافر.
ويردون على القول بأن فى عصمة الذمى شبهة العدم: بأن دم الذمى حرام لا يحتمل الإباحة بحال مع قيام الذمة، وأنه بمنزلة دم المسلم مع قيام الإسلام، وأن الكفر ليس مبيحًا على الإطلاق، وأن الكفر المبيح هو الكفر الباعث على الحرب، وكفر الذمى ليس بباعث على الحرب فلا يكون مبيحًا. كذلك فإن المساواة فى الدين ليست بشرط للقصاص، لأن الذمى إذا قتل ذميًا ثم اسلم القاتل فإنه يقتل به قصاصًا، كما يسلم به الجميع، ولا مساواة بينهما فى الدين وقد قال على رضى الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا، وذلك بأن تكون معصومة بلا شبهة كعصمة دم المسلم وماله، ولهذا يُقطع المسلم بسرقة مال الذمى ولو كان فى عصمته شبهة لَماَ قُطع المسلم كما لا يقطع فى سرقة مال المستأمن، لأن المال تبع للنفس وأمر المال أهون من النفس فلما قطع بسرقته كان أولى أن يقتل بقتله لأن أمر النفس أعظم من المال (1) .
ورأى أبى حنيفة يتفق مع القوانين الوضعية الحديثة، فهى لا تفرق فى العقوبة لاختلاف الدين، والقانون المصرى لا يفرق بين ذمى ومسلم فكلاهما يقتل بالآخر.
قتل المسلم فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة أنه إذا قتل ملم حربيًا اسلم وبقى فى دار الحرب، فلا قصاص على القاتل، لأنه وإن قتل مسلمًا إلا أن المقتول من أهل دار الحرب، فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة فى عصمته لأنه إذا لم يهاجر إلى دار الإسلام فهو مكثر سواد الكفار، ومن كثر سواد قوم منهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو وإن لم يكن منهم دينًا فهو منهم دارًا وهذا هو الذى أورثه الشبهة. ولو كانا مسلمين تاجرين أو أسيرين فى دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فلا قصاص أيضًا (2) للشبهة ولتعذر الاستيفاء.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص237 , البحر الرائق ج8 ص296.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص133 , 237.(2/124)
أما الأئمة الثلاثة فيرون القصاص، سواء كان القتل فى دار الحرب أو دار الإسلام، وسواء هاجر القتيل أم لم هاجر (1) .
قتل الكافر بغيره: وإذا قتل الذمى مسلمًا قتل به اتفاقًا لأنه فى رأى أبى حنيفة قتل داخل تحت النصوص العامة، وعند الأئمة الثلاثة يقتل به مع وجود التفاوت؛ لأنه تفاوت إلى النقصان ولا يمنع القصاص إلا التفاوت إلى زيادة ولا يعتبر قتل الذمى للحربى جريمة اتفاقًا؛ لأن الحربى مباح الدم على الإطلاق (2) .
ولا يقتل الذمى بالمستأمن عند أبى حنيفة؛ لأن عصمة المستأمن ليست مطلقة بل هى مؤقتة إلى غاية مقامه فى دار الإسلام، إذ المستأمن أصلاً من أهل دار الحرب، وإنما دخل دار الإسلام لعارض على أن يعود إلى وطنه الأصلى فكانت فى عصمته شبهة العدم. ويرى أبو يوسف أنه يقتل به قصاصًا لقيام العصمة وقت القتل (3) .
ويقتل المستأمن بالمستأمن عند أبى حنيفة قياسًا، ولا يقتل قياسًا لقيام المبيح (4) .
ويرى مالك والشافعى وأحمد أن الكفار يقتلون بعضهم ببعض دون تفريق فالذمى يقتل بأى كتابى أو مجوسى أو مستأمن (5) ولو اختلفت ديانتهم.
156 - ثالثًا: إذا لم يباشر الجانى الجناية ولكنه عاون عليها أو حرض عليها:
محل هذا الشرط أن يتعدد الجناة؛ لأن الجانى الواحد يباشر الجناية بنفسه سواء كان القتل مباشرة أو تسببًا، أما إذا تعدد الجناة فإن بعضهم قد يباشر الجناية بنفسه، وبعضهم قد يعين المباشرين وبعضهم قد يحرض على الجناية.
_________
(1) المغنى ججج9 ص335.
(2) المغنى ج9 ص347.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص236.
(4) البحر الرائق ج8 ص296.
(5) مواهب الجليل ج6 ص237 , الشرح الكبير ج4 ص214 , المغنى ج9 ص342.(2/125)
ومن المتفق عليه بين الفقهاء الأربعة أن تعدد الجناة لا يمنع من الحكم عليهم بالقصاص ما دام كل منهم قد باشر الجناية (1) ، وإذا كان القصاص يقتضى المماثلة فإن المماثلة شرط فى الفعل لا فى عدد الجناة والمجنى عليهم، وأحق ما يجعل فيه القصاص إذا قتل الجماعة الواحد لأن القتل لا يوجد عادة إلا على سبيل الاجتماع، فلو لم يجعل فيه القصاص لانسد باب القصاص، إذ كل من رام قتل غيره استعان بغيره يضمه إليه ليبطل القصاص عن نفسه، وفى هذا ما يفوت الغرض من فرض القصاص وهو الحياة ومنع القتل، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .
وهناك رواية عن أحمد: بأن القصاص يسقط عن الجناة إذا تعددوا وتجب عليهم الدية. ويرى ابن الزبير وابن سيرين وآخرون: أن يقتل من القاتلين واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، وحجتهم فى عدم القصاص من الجمع أن كل واحد منهم مكافئ للجانى، فلا يستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد وأن الله تعالى قال: {الحُرُّ بِالْحُرِّ} ، و {النَّفْسَ بالنَّفْس} ومقتضاه أن لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة (2) .
وإذا كان الفقهاء الأربعة قد اتفقوا على القصاص من الجماعة للفرد إذا باشروا القتل، فإنهم اختلفوا فى حالة الإعانة على القتل أو التحريض عليه، والمسائل المختلف عليها أربع:
أولها: الإعانة فى حالة التمالؤ.
ثانيها: إمساك القتيل للقاتل.
ثالثها: الأمر بالقتل.
رابعها: الإكراه على القتل.
أولاً: الإعانة فى حالة التمالؤ: ذكرنا قبلاً أن التمالؤ عند أبى حنيفة هو التوافق. وأن باقى الأئمة يرون التوافق قتلاً على الاجتماع لا تمالؤ فيه، وأن التمالؤ عندهم هو الاتفاق السابق على ارتكاب جريمة القتل، والفرق بين الحالتين أن المباشرين فى حالة الاتفاق يعتبر
_________
(1) راجع الفقرات من 52 إلى 54.
(2) المغنى ج9 ص336 , 337.(2/126)
كل منهم قاتلاً، ولو كان فعله بالذات غير قاتل، ما دام الموت كان نتيجة أفعال الجميع أما فى حالة التوافق فلا يعتبر المباشر قاتلاً إلا بشروط بيناها عند الكلام على القتل على الاجتماع.
ولا خلاف فى أن القاتل فى الحالتين يقتص منه ولو تعدد المباشرون سواء كان اجتماعهم على القتل نتيجة اتفاق سابق أو توافق غير منتظر.
ولكن الخلاف فى حكم من اتفق ولم يحضر القتل، أو أعان عليه ولم يباشره فأبو حنيفة والشافعى وأحمد يرون القصاص من المباشر فقط، وتعزير من لم يباشر.
ومالك يرى قتل من حضر ولم يباشر ومن أعان ولم يباشر، كأن كان ربيئة أو حارسًا للأبواب، أما من اتفق ولم يحضر فعليه التعزير فى الراجح. ويشترط فيمن حضر أو من أعان أن يكونوا بحيث لو استعان بهم أعانوا، أو إذا لم يباشره أحد المتماثلين باشره الآخر فشرط القصاص إذن أن يكون المتمالئ غير المباشر فى محل الحادث أو على مقربه منه، وليس من الضرورى أن يباشر القتل بنفسه (1) .
وقد جاء فى فتاوى ابن تيمية (2) أمثلة على هذه الحالات المختلفة ففيها إذا اشترك جماعة فى قتل معصوم "أى محرم القتل" بحيث أنهم جميعًا لو باشروا قتله، وجب القود - أى القصاص - عليهم جميعًا، وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم بحرس المباشر ويعاونه ففيها قولان: أحدهما: لا يجب القود إلا على المباشر، وهو قول أبى حنيفة والشافعى وأحمد، والثانى: يجب على الجميع وهو قول مالك.
وجاء فى الفتاوى أيضًا: أنه إذا اشترك أولاد رجل مع أجنبى فى قتل والدهم جاز قتلهم جميعًا، فقتل المباشر باتفاق الأئمة، وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت ... الأبواب ونحو ذلك، ففى قتلهم قولان وقتلهم مذهب مالك
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص242 , الشرح الكبير ج4 ص218 , القصاص ص127 وما بعدها , أحكام المرأة ص584 وما بعدها.
(2) فتاوى ابن تيمة ج4 ص187 , 188 طبعة سنة 1329 هـ بمصر مطبعة كردستان.(2/127)
وغيره. وجاء فى الفتاوى أيضًا: إذا وعد رجل رجلاً آخر على قتل معصوم بمال معين فقتله وجب القتل على الموعود وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا وعند بعضهم يجب عليه القود.
ثانيًا: إمساك القتيل للقاتل: إذا أمسك رجل آخر فجاء ثالث فقتله فلا مسئولية على الممسك إذا لم يمسكه بقصد القتل أو لم يكن يعلم أن القاتل سيقتله أما إذا أمسكه بقصد القتل فقتله الثالث فلا خلاف فى القصاص من الثالث أى مباشر القتل، ولكنهم اختلفوا فى الممسك على الوجه الذى سنبينه بعد.
فمالك (1) يرى الممسك قصاصًا إذا أمسك القتيل لأجل القتل فقتله الطالب وهو يعلم أن الطالب سيقتله لأنه بإمساكه تسبب فى قتله ويشترط البعض أن يكون لولا الإمساك ما أدركه الطالب، ولا يشترط البعض هذا الشرط (2) . فإن أمسكه ليضربه الطالب ضربًا معتادًا أو لم يعلم أنه يقصد قتله لعدم رؤيته آلة القتل معه مثلاً، أو كان قتله لا يتوقف على الإمساك فعقاب الممسك هو التعزير وليس القصاص.
ويلحق مالك بالممسك الدال على القتيل إذا ثبت أنه لولا دلالته ما قتل المدلول عليه (3) .
ويرى أبو حنيفة (4) والشافعى (5) تعزير الممسك ولو أمسك المجنى عليه بقصد القتل وهو عالم بأنه سيقتل لأنه فعل الطالب مباشرة وفعل الممسك تسبب وقد تغلبت المباشرة على السبب وقطعت أثره كما أن السبب غير ملجئ.
وفى مذهب أحمد (6) رأيان:
أولهما: يرى القصاص من الممسك، لأنه لو لم
_________
(1) الشرح الكبير ج4 ص217.
(2) القصاص ص132.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217.
(4) البحر الرائق ج8 ص345.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص244.
(6) الشرح الكبير ج9 ص235 وما بعدها.(2/128)
يمسك القتيل ما قدر الطالب على قتله، فالقتل حاصل بفعلهما معًا فهما شريكان فيه وعليهما القصاص، وإذا كان فعل الطالب مباشرة وفعل الممسك تسببًا فإنهما قد تعادلا واشتركا فى إحداث الموت. وهذا الرأى يتفق مع مذهب مالك، وهو الرأى المرجوح فى مذهب أحمد.
أما الرأى الثانى: فيرى أصحابه حبس الممسك حتى الموت، لما روى عن ابن عمر عن النبى عليه السلام قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذى قتل ويحبس الذى أمسك لأنه حبسه إلى الموت" ولأن عليًا رضى الله عنه قضى بقتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت.
ويرى البعض أن مدة الحبس متروك تقديرها لولى الأمر، لأن الحبس نوع من التعزير وليس حدًا (1) . وإذا اعتبرنا الحبس تعزيرا لا حدًا، فإن الرأى الثانى فى مذهب أحمد يتفق مع مذهب أبى حنيفة والشافعى.
ويفسر الفقهاء الإمساك بمعناه الأعم، فلا يقصرونه على الإمساك باليد؛ فيدخل تحته منع القتيل من مبارحة مكانه بأى وسيلة كانت حتى يتمكن منه القاتل، أو حبس القتيل فى مكان لا يستطيع الخروج منه، فإذا اتبع رجل آخر ليقتله فهرب منه فقابله ثالث فقطع رجله ثم أدركه الطالب فقتله فإن كان الثالث قطع رجله ليحبسه عن الهرب حتى يلحق به الطالب فحكمه حكم الممسك فيما يتعلق بالقتل لأنه حبسه بفعله على القتل، ثم هو مسئول بعد ذلك عن القطع عمدًا (2) .
ثالثًا: الأمر بالقتل: يفرق الفقهاء بين الأمر بالقتل والإكراه على القتل ففى الأمر بالقتل لا يكون المأمور مكرهًا على إتيان الجريمة فيأتيها مختارًا وإذا كان قد أمر بإتيانها فإن الأمر ليس له أثر على اختياره، وقد يكون الأمر ذا سلطان على المأمور كالأب يأمر ولده الصغير، والحاكم يأمر من هو
_________
(1) أحكام المرأة ص583 , مجلة القانون والاقتصاد , السنة السادسة.
(2) الشرح الكبير ج9 ص344.(2/129)
تحت إمرته، وقد لا يكون له سلطان عليه، وفى هذه الحالة الأخيرة يكون الأمر مجرد تحريض على إتيان الجريمة، ولكل حالة من هذه الحالات حكمها.
فإذا كان المأمور غير مميز كالصبى أو المجنون، فيرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من الآمر، لأنه هو المتسبب فى القتل، وإن كان المأمور هو الذى باشره فما هو إلا آلة للآمر يحركها كيف شاء (1) ، ولا يرى أبو حنيفة القصاص من الآمر لأنه تسبب فى القتل ولم يباشره والتسبب عند أبى حنيفة لا قصاص فيه.
وإذا كان المأمور بالغًا عاقلاً ولا سلطان للآمر عليه، فيرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من المأمور، أما الآمر فعليه التعزير ويرى مالك القصاص من الآمر أيضًا إذا حضر القتل، وهذا يتفق مع رأيه فى التمالؤ فإذا لم يحضره فعليه التعزير، وينبغى أن يلحق بحضور القتل الإعانة عليه لأن المعين عند مالك يقتص منه (2) .
وإذا كان المأمور بالغًا عاقلاً وكان للآمر سلطان عليه بحيث يخشى أن يقتله لو لم يطع الأمر، فيقتص من الآمر والمأمور معًا عند مالك لأن الأمر فى هذه الحالة يعتبر إكراهًا، فإن لم يكن المأمور يخشى القتل إذا لم يطع الأمر فالقصاص على المأمور وحده ويعزز الآمر إذا كان المأمور يعلم أن القتل بغير حق، فالقصاص على الآمر دون المأمور لأنه معذور فى طاعة الأمر، هذا إذا كان الأمر من حق الآمر كوال أو سلطان، فإن لم يكن من حقه فالقصاص على المأمور؛ لأن الطاعة لا تلتزمه ولأن الآمر ليس له الأمر بالقتل، بخلاف السلطان فله الأمر بالقتل وطاعته واجبة فى غير معصية (3) .
ويتفق رأى أحمد فيما سبق مع رأى مالك تماما الاتفاق (4) ، ويتفق رأى الشافعى معهما كذلك إلا أنه فى المذهب رأيان فى المأمور فى حالة اعتبار الأمر
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج9 ص324 , المهذب ج2 ص189 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص218.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) الشرح الكبير للدردير ج9 ص342 , المدونة ج16 ص43 , 44.
(4) الشرح الكبير ج9 ص342 , 343.(2/130)
إكراهًا، أحدهما يرى أصحابه القصاص من الآمر دون المأمور، والثانى - وهو الأصح - يرى أصحابه القصاص منهما معًا (1) .
وعند أبى حنيفة يقتص من الآمر فى حالة الإكراه فقط لأن المأمور كان معه كالآلة يحركها كيف يشاء فكأنه باشر القتل بنفسه، فإذا لم يكن الأمر إكراهًا فلا قصاص على الآمر لأنه لم يباشر القتل بنفسه أما المأمور فيقتص منه إذا لم يكن مكرهًا وكان الأمر صادرًا له ممن لا حق فيه، فإن كان صادرًا ممن يملكه فلا قصاص ولو كان المأمور يعلم أن الأمر غير محق لأن الأمر يكون شبهة تدرأ القصاص (2) .
رابعًا: الإكراه على القتل: تكلمنا عن الإكراه فى الجزء الأول من هذا الكتاب ولا نرى ما يدعو لتكرار القول، ولكننا نلخص آراء الفقهاء فى نوع عقوبة كل من الحامل - أى المكره - والمباشر، وذلك ما نحن فى حاجة إليه فى هذا المقام.
مذهب مالك وأحمد والرأى الصحيح فى مذهب الشافعى على أن القصاص واجب على المكره، والمكره معًا؛ لأن الحامل - أى المكره - تسبب فى القتل بمعنًى يفضى إليه غالبًا، ولأن المباشر - أى المكرَه - قتل المجنى عليه ظلمًا لاستبقاء نفسه فأشبه ما إذا اضطر للأكل فقتله ليأكله، والقول بأنه ملجأ غير صحيح لأنه يستطيع أن يمتنع عن القتل ولكنه لم يفعل إبقاء على نفسه (3) .
وعند أبى حنيفة ومحمد أن القصاص يجب على الحامل دون المباشر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وعفو الشىء عفو عن موجبه، فظاهر الحديث يدل على أن الفعل المستكره عليه معفو عنه بالنسبة لمن باشره، ولأن الحامل هو القاتل معنًى وإن كان المباشر هو الذى قتل صورةً، إذ المباشر كان آلة للحامل يحركه كما يشاء (4) وهذا الرأى يتفق مع الرأى الضعيف
_________
(1) المهذب ج2 ص189.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص236 , القصاص ص133 , 134 , أحكام المرأة ص582.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216 , المغنى ج9 ص331 , المهذب ج2 ص189.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص180.(2/131)
فى مذهب الشافعى.
ويرى زفر أن القصاص على المباشر فقط لأنه هو القاتل حقيقة حسًا ومشاهدة (1) .
ويرى أبو يوسف أن لا قصاص على الحامل ولا على المباشر؛ لأن المكره مسبب للقتل ولا قصاص على متسبب، وإذا لم يجب القصاص على الحامل فأولى أن لا يجب على المباشر (2) .
التفرقة بين الفاعل والشريك: ونخلص مما سبق أن الفقهاء يفرقون بين المباشر للجريمة ومن اتفق أو أعان أو حرض عليها، فالمباشر هو من ارتكب الجريمة وحده أو مع غيره أو أتى عملاً من الأعمال المكونة للجريمة، ومن المتفق عليه أن عقوبة المباشر هى القصاص، أما من اتفق أو أعان أو حرض، أى من اشترك فى الجريمة، فحكمهم ليس واحدًا، فمن اتفق أو حرض فجزاؤه التعزير عند الأئمة عدا مالكًا، أما من أعان فجزاؤه القصاص عند مالك والتعزير عند باقى الأئمة.
والقانون المصرى يفرق بين عقوبة المشاركين فى القتل وعقوبة الفاعلين الأصليين، إذ تنص المادة (235) عقوبات على أن المشاركين فى القتل الذى يستوجب الحكم على فاعله بالإعدام يعاقبون بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة. أى أن القانون المصرى يخالف بين عقوبة الفاعل والشريك ولا يسوى بينهما، وهذه هى وجهة نظر الفقهاء فكأن نص القانون فى هذه المسألة تطبيق لنظرية فقهاء الشريعة، وإذا كان القانون قد أجاز الحكم بالإعدام فإن عقوبات التعزير من ضمنها عقوبة الإعدام.
157- هل يؤثر إعفاء أحد الفاعلين من القصاص على عقوبة الباقين؟: علمنا مما سبق أن تعدد القاتلين لا يمنع من الحكم عليهم بعقوبة القصاص جزاء على جريمة القتل العمد، ولكن يحدث أن يكون بين الفاعلين من لا يمكن نسبة القتل العمد إليه كمن يحدث بالمجنى عليه إصابة قاتلة خطًا أدت مع إصابات المتعمدين
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص179.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص179.(2/132)
إلى الوفاة، لذلك يحدث أن يكون بين الفاعلين من لا يمكن أن يعاقب بالقصاص طبقًا للقواعد كالصغير والمجنون فهل يؤثر إعفاء المخطئ والصغير والمجنون من عقوبة القصاص على مركز بقية الفاعلين فلا يقتص منهم أيضًا؟ ذلك ما سنفصله فيما يأتى:
إن إعفاء أحد الفاعلين أو بعضهم من القصاص يرجع إلى حالتين لا ثالث لهما:
الأولى: أن يكون الإعفاء راجعًا إلى صفة الفعل.
الثانية: أن يكون الإعفاء راجعًا إلى صفة الفاعل.
الحالة الأولى: امتناع القصاص لصفة فى الفعل: يمتنع القصاص عن الفاعل إذا لم يكن فعله موجبًا للقصاص كأن كان فعله قتلاً خطأ أو قتلاً شبه عمد، فإذا كان فعله هكذا قلنا إن القصاص امتنع عنه لصفة فى فعلة أو لعدم إيجاب الفعل للقصاص.
وقد انقسم الفقهاء إزاء هذه الحالة قسمين: الأول يرى أن امتناع القصاص عن أحد الفاعلين لأن فعله لا يوجبه يستلزم منع القصاص عن بقية الفاعلين ولو كان فعلهم موجبًا للقصاص، كالعامد مع المخطئ فإن المخطئ لا يقتص منه أصلاً لأن فعله لا يوجب القصاص والعامد يقتص منه لأن فعله يوجب القصاص، ولكنهما إذا اشتركا معًا فى قتل امتنع القصاص عن العامد بامتناعه عن المخطئ لأنه من المحتمل أن يكون فعل المخطئ هو الذى أدى للقتل كما يحتمل أن يكون فعل العامد هو الذى أدى للقتل، وقيام هذا الاحتمال شبهة توجب درء الحد عن العامد تطبيقًا لقاعدة: ادرؤوا الحدود بالشبهات. وهذا الرأى هو مذهب أبى حنيفة والشافعى والرأى الراجح فى مذهبى مالك وأحمد (1) .
والثانى يرى أن إعفاء أحد الفاعلين من عقوبة القصاص لأن فعله لا يوجبها لا يؤثر شيئًا على عقوبة القصاص التى يستحقها باقى الجناة بأفعالهم، وما دام أنهم
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص235 , نهاية المحتاج ج7 ص262 , مواهب الجليل ح6 ص243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص28 , 219 , المغنى ج9 ص379 وما بعدها.(2/133)
تشاركوا فى القتل عادين متعمدين فعليهم عقوبة القصاص؛ لأن كل إنسان يؤاخذ بفعله ولا أثر لفعل غيره عليه. وهذا هو الرأى المرجوح فى مذهبى مالك وأحمد.
وقد اتفق الفريق الأول فى تطبيق القاعدة التى أقرها على العامد مع المخطئ فأجمع على عدم القصاص من شريك المخطئ ولو كان عامدًا، ولكنهم اختلفوا فيما عدا ذلك وأساس اختلافهم هو تطبيق القاعدة لا غير، فمنهم من رأى تطبيقها فى كل حالة لا يعاقب فيها أحد الشركاء وهؤلاء هم الحنفية أو بعض فقهاء المذاهب الأخرى، ومنهم من رأى تطبيقها فقط إذا كان فعل المعفى غير متعمد فإن كان متعمدًا فلا تنطبق القاعدة.
ومن المسائل التى اختلفوا عليها شريك نفسه وشريك السبع، فأبو حنيفة يرى أن لا قصاص على الشريك لأنه شارك من لا يجب عليه القصاص فلا يلزمه القصاص كشريك المخطئ، ويرى هذا الرأى أيضًا بعض فقهاء المذاهب الثلاثة، أما البعض الآخر فيرى القصاص على الشريك لأنه شارك من فعله عمد.
الحالة الثانية: امتناع القصاص لصفة فى الفاعل: تختلف هذه الحالة عن الحالة الأولى فى أن القصاص هنا يمتنع عن أحد القاتلين لصفة فيه لا لصفة فى الفعل، وهذه الصفة المتوفرة فى الفاعل يترتب عليها شرعًا أن لا يعاقب بالقصاص، ومثال ذلك اشتراك الأب فى قتل ولده مع أجنبى فإن الأب لا يقتص منه لقتل ولده لصفة الأبوة القائمة فيه. ومثاله أيضًا أن يقطع شخص يد آخر قصاصًا أو دفاعًا عن نفسه فيجئ ثالث ويجرح المقطوع جرحًا يؤدى مع القطع إلى موته، فإن المقتص أو الدافع لا قصاص عليهما لصفة القصاص والدفاع المتوفرة فيهما والتى يترتب عليها شرعًا امتناع القصاص منهما.
وقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه الحالة أيضًا: فأبو حنيفة يرى أن امتناع القصاص فى حق أحد الشركاء يترتب عليه منع القصاص فى حق الآخرين لاحتمال أن يكون القتل من فعل المعفى من القصاص وهذا الاحتمال شبهة تدرأ الحد عمن(2/134)
يجب عليهم القصاص. ولأحمد رواية مرجوحة فى المذهب تتفق مع هذا الرأى. ومن هذا الرأى أيضًا بعض فقهاء مذهب مالك (1) .
ويرى الشافعى وفريق من فقهاء مذهب مالك ومذهب أحمد (2) أن إعفاء أحد الشركاء من القصاص لا يمنع القصاص عن الآخرين؛ لأن القصاص امتنع عن الشريك لمعنًى يخصه ولا يتوفر فى باقى الشركاء فلا يتعدى إليهم ما دام أنه غير قائم فيهم. ولكن أصحاب هذا الرأى اختلفوا فى الصبى والمجنون، فبعضهم يرى أن شريك الصبى والمجنون لا يقتص منه والقائلون بهذا ينظرون إلى فعل الصبى والمجنون ويقولون إن من المتفق عليه بين أغلب الفقهاء أن عمد الصبى والمجنون خطأ فإذا كان فعلهما يوصف بأنه خطأ ولا قصاص فى الخطأ فشريكهما يأخذ حكم العامد مع المخطئ ولا يقتص منه. فهذا الفريق يغلب صفة الفعل على صفة الفاعل. والفريق الثانى يأخذ برأى الشافعى وهو أن عمد الصبى والمجنون عمد ويرى أن الإعفاء من القصاص أساسه صفة الفاعل وإذن فلا يستفيد منه الشريك. والفريق الثالث يرى أن العبرة بفعل الشريك فما دام أنه تعمد الفعل وجبت عليه عقوبة العامد دون النظر إلى فعل شريكه أو صفته (3) .
158- رابعًا: القتل بالتسبب: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن القتل بالتسبب لا وجب الحكم بالقصاص لأن القصاص قتل بطريق المباشرة فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه قتل بطريق المباشرة ما دام أن أساس عقوبة القصاص المماثلة فى الفعل (4) ، ويوجب الدية بدلاً من القصاص. ولكن الأئمة الثلاثة لا يرون فرقًا بين القتل بالتسبب والقتل المباشر فكلاهما قتل يعاقب عليه بالقصاص، ورأيهم يتفق مع القانون المصرى وغيره من القوانين الوضعية.
_________
(1) البحر الرائق ج2 ص301 , مواهب الجليل ج6 ص242 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص218 , 219.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص262 وما بعدها , المغنى ج9 ص373 وما بعدها , المهذب ج2 ص297.
(3) المغنى ج9 ص379 وما بعدها.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص239.(2/135)
159- خامسًا: أن يكون الولى مجهولاً: إذا كان ولى القتيل مجهولاً لا يجب الحكم بالقصاص فى رأى أبى حنيفة؛ لأن وجوب القصاص وجوب للاستيفاء والاستيفاء من المجهول متعذر فتعذر الإيجاب له (1) . ويخالف فى ذلك باقى الأئمة.
160- سادسًا: أن لا يكون القتل فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة أن لا قصاص من القاتل إذا كان القتل فى دار الحرب، وهو يفرق بين حالتين: حالة ما إذا كان القتيل من أهل دار الحرب ثم أسلم ولم يهاجر إلى دار الإسلام، وحالة ما إذا كان القتيل من دار الإسلام ولكنه دخل دار الحرب بإذن كالتاجر أو مضطرًا كالأسير، ففى الحالة الأولى لا عقاب على القاتل، وفى الحالة الثانية عليه الدية فى حالة التاجر ولا تجب عليه فى حالة الأسير، ويخالفه فى هذا محمد وأبو يوسف وأساس التفرقة بين الحالين أن العصمة فى الحالة الأولى محل شبهة لأن القتيل وإن كان مسلمًا فهو من أهل دار الحرب لقوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] فكونه من أهل دار الحرب أورث شبهة فى عصمته، ولأنه إذا لم يهاجر إلينا مكثر سواد الكفار ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله، وهو وإن لم يكن منهم دينًا فهو منهم دارًا، والخلاصة إن إسلامه لا يعصمه لأن العصمة عند أبى حنيفة لا تكون بالإسلام فقط وإنما بالإسلام وبمنعة الدار. أما الحالة الثانية فليس فيها قصاص لأن الجريمة وقعت فى مكان لا ولاية للمسلمين عليه، والحدود يشترط للحكم بها عند أبى حنيفة القدرة على الاستيفاء وقت وقوع الجريمة (2) .
أما مالك والشافعى وأحمد فيرون القصاص من القاتل سواء كان القتيل فى دار الإسلام أو فى دار الحرب، وسواء هاجر المقتول من دار الحرب أو لم يهاجر ما دام القاتل قد قتل وهو يعلم بإسلام القتيل لأنه قتل معصومًا بالإسلام ظلمًا (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص240.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص133 , 237.
(3) الشرح الكبير ج9 ص382 , 383.(2/136)
161- مدى لزوم القصاص: وعقوبة القصاص لازمة إلا إذا رأى ولى القتيل العفو فإن عفا فلا قصاص. ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن لولى القتيل أن يقتص من القاتل أو يعفو عنه إما على الدية أو مجانًا، ولكنهم اختلفوا فى حالة ما إذا عفا الولى عن القصاص على أن يأخذ الدية، فرأى مالك وأبو حنيفة أن عفو الولى لا يلزم الجانى بالدية إلا إذا قبل أن يدفعها فى مقابل العفو، عنه ورأى الشافعى وأحمد أن عفو الولى عن القصاص إلى الدية ملزم للجانى ولو كان العفو بغير رضاه. وأساس الاختلاف أن مالكًا وأبا حنيفة يريان أن القصاص واجب عينًا بينما الشافعى وأحمد يريان أن القصاص ليس واجبًا عينًا وأن الواجب هو أحد الشيئين غير عين؛ إما القصاص وإما الدية وللولى خيار التعيين إن شاء استوفى القصاص وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضاء القاتل وعلى اعتبار التعزير بدلاً من الدية.
ويترتب على اعتبار الدية والتعزير بدلاً من القصاص نتيجتان: أولاهما: أنه لا يجوز للقاضى أن يجمع بين عقوبة وبدلها جزاء عن فعل واحد سواء كانت العقوبة المبدل بها عقوبة أصلية أو بدلاً من عقوبة أصلية لأن الجمع بين البدل والمبدل يتنافى مع طبيعة الاستبدال، ولكن يجوز الجمع بين عقوبتين بدليتين كما يجوز الجمع بين عقوبتين أصليتين فمن ارتكب جريمة قتل لا يجوز الحكم عليه بالقصاص والدية أو القصاص والتعزير؛ لأن الدية والتعزير كلاهما بدل من القصاص فلا يحكم بهما إلا إذا امتنع الحكم به، فإذا امتنع الحكم بالقصاص جاز الحكم بالدية والتعزير مجتمعين أو منفردين لأن كلاهما بدل من القصاص، كما يجوز الجمع بين القصاص وبين الكفارة وكلاهما عقوبة أصلية.
ويجوز الجمع بين العقوبة البدلية والعقوبة الأصلية مع بقاء القاعدة سليمة وذلك إذا تعددت الأفعال ولم تكن العقوبة البدلية المحكوم بها بدلاً عن عقوبة أصلية محكوم بها، كمن قتل ثلاثة أشخاص فحكم عليه بالقصاص لقتل أحدهم، وبالدية لقتل الثانى لوجود مانع عن الحكم بالقصاص كأن كان القتيل ولد القاتل، وبالتعزير لقتل الثالث لامتناع الحكم بالقصاص والدية كأن عفا ولى القتيل عن القاتل عفوًا(2/137)
مطلقًا، ففى هذه الحالة اجتمع القصاص مع الدية والتعزير والأول عقوبة أصلية وكل من الثانى والثالث عقوبة بدلية وقد جاز الجمع لأن العقوبات المحكوم بها ليس فيها عقوبة بدلاً من أخرى وإنما العقوبة البدلية تمثل عقوبة لم يحكم بها.
162- تعدد القتلى: وتظهر أهمية التفرقة بين هذين الرأيين المختلفين فى حالة تعدد القتلى إذا كان القاتل واحدًا. فمالك وأبو حنيفة يريان أن الواحد إذا قتل جماعة قتل بهم قصاصًا ولا يجب مع القتل شئ من المال، سواء كان الجانى قتلهم مرة واحدة أو قتلهم على التعاقب، وسواء كان الأولياء قد طلبوا كلهم قتله أو طلب بعضهم قتله وطلب بعضهم الدية، وإن بادر أحد الأولياء فقتل الجانى قبل إبداء الآخرين رأيهم فقد سقط حق الباقين فى القصاص ولا دية لهم، وهذا تطبيق دقيق للقول بأن القصاص يجب عينًا، لأن حق الجميع تعلق بالقصاص فإذا قتل الجانى فقد استوفوا حقهم كاملاً وليس لأحدهم أن يطالب بالدية، لأن تنازله عن القصاص لا قيمة له ما دام أحد الأولياء يريد القصاص، وإنما تجب الدية بدلاً من القصاص إذا امتنع القصاص، وهنا لا يمكن امتناعه ما دام أحد الأولياء يطلبه، لأن محل القصاص واحد بالنسبة للجميع (1) .
ويرى الشافعى (2) أن حقوق الأولياء لا تتداخل، فإن قتل الجانى واحدًا بعد واحد اقتص منه للأول لأن له مزية بالسبق، وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثانى، وإن سقط حق الثانى اقتص للثالث، وهكذا. وإذا اقتص من الجانى لواحد بعينه تعين حق الباقين فى الدية؛ لأن القصاص فاتهم بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات القاتل، وإن قتلهم دفعة واحدة أو أشكل الحال، أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة، وإن عفا عمن خرجت له القرعة أعيدت القرعة للباقين لتساويهم،
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص239 , مواهب الجليل ج6 ص248.
(2) المهذب ج2 ص195.(2/138)
وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو القرعة فبادر غيره واقتص صار مستوفيًا لحقه، وإن أساء فى التقدم على من هو أحق منه.
واختلف فقهاء مذهب الشافعى فى المحارب الذى قتل جماعة فى المحاربة، فرأى البعض أن الحكم هو ما سبق، كما لو قتلهم فى غير المحاربة. ورأى البعض أنه يقتل بالجميع لأن القتيل فى المحاربة حق الله تعالى ولا يسقط بالعفو فتتداخل العقوبات، بعكس ما إذا كانت حقًا لآدميين فإنها لا تتداخل.
ويتفق مذهب أحمد مع مذهب الشافعى ولا يختلف معه إلا فى أنه يجيز للأولياء أن يتفقوا على قتل القاتل، فإذا اتفق اثنان أو أكثر على قتله قتل وليس لهم غير ذلك، وإن أراد البعض القود والبعض الدية، قُتل لمن أراد القود وأُعطى الباقون الدية، وحجته فى ذلك أن محل القصاص وهو القاتل تعلقت به حقوق لا يتسع لها معًا، فإذا اكتفى المستحقون بمحل القصاص فيكتفى به. فأساس فكرته أنه ما دام المستحقون قد اكتفوا بالقصاص فقد تنازلوا عما عداه (1) .
وإن قطع يد رجل ثم قتل آخر فسرى القطع إلى النفس - أى نفس المقطوع اليد - فمات فهو قاتل لهما، ويقتص منه أولاً عن قتله، لأن وجوب القتل عليه أسبق، إذ القطع لم يصح قتلاً إلا بالسراية وهى متأخرة عن قتل الآخر، لكن لما كان استيفاء القطع ممكنًا وكان فى القتل تفويت للقصاص من القطع، فيستوفى القطع قبل القتل، ولولى المقطوع نصف الدية عند الشافعى وأحمد، ولا شئ له عند مالك وأبى حنيفة، وإذا لم يسر القطع - أى قطع اليد - إلى النفس فيقتص للقطع أولاً، سواء تقدم القطع القتل أو تأخر عنه وهذا متفق عليه عند أحمد وأبى حنيفة والشافعى، ويرى مالك أن يقتل فى كل الأحوال ولا يقطع لأنه بالقتل يتلف الطرف فيسقط القصاص بتلف محله (2) ، وكذلك الحكم لو تأخر القطع عن القتل.
_________
(1) المغنى ج9 ص405 - 408.
(2) المغنى ج9 ص408 , شرح الدردير ج9 ص236 , المهذب ج2 ص195 , بدائع الصنائع ج7 ص303.(2/139)
وأساس الاختلاف فى هذا كله هو اختلافهم فى العقوبة الواجبة بالقتل العمد، فأبو حنيفة ومالك يريان - كما قلنا من قبل - أن الواجب هو القصاص عينًا وأن عفو ولى القتيل لا يلزم الجانى بالدية إلا إذا رضى الجانى بذلك، والشافعى وأحمد يريان أن الواجب بالقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية، ولولى القتيل أن يختار أى العقوبتين شاء دون حاجة لموافقة الجانى.
* * *
استيفاء القصاص فى القتل
163- مستحق القصاص: عند مالك: العاصبُ الذكَر، فلا دخل فيه لزوج، ولا لأخ لأم، ولا لجد لأم، ويقدم الابن فابن الابن، ثم يليهم الأقرب فالأقرب من العَصبَة والجد والاخوة سواء فى ولاية القصاص، ويعتبر كلاهما فى مرتبة الآخر. وأبناء الاخوة أقل مرتبة من الجد، لأنه بمنزلة أبيهم، والمراد بالجد الجد القريب فهو الذى يتساوى مع الاخوة فى الدرجة، أما الجد العالى فلا شأن له مع الاخوة كما أن بنى الاخوة لا شأن لهم مع الجد القريب (1) . ويستحق القصاص عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد الورثة الذين يرثون مال القتيل رجالاً ونساء، ولا يشترط لاستحقاقهم القصاص أن يرثوا شيئًا فعلاً، فمن قُتل وعليه دين محيط بتركته أو لم يترك شيئًا، فالقصاص لوارثيه الذين كان يحتمل أن يرثوه لو ترك شيئًا (2) .
وعند مالك: ترث المرأة القصاص إذا توفرت فيها شروط ثلاثة: أولاً: أن تكون وارثة كبنت أو أخت. ثانيًا: أن لا يساويها عاصب فى الدرجة بأن لم يوجد أصلاً أو وُجد أنزلُ منها درجة كالعم مع البنت أو الأخت، وعلى هذا تخرج البنت مع الابن، والأخت مع الأخ فلا كلام لواحدة
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص227.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص242 , المهذب ج2 ص196 , الإقناع ج4 ص182.
(و) فى مذهب الشافعى رأيان آخران: أحدهما أن القصاص للعصبة , والثانى لمن ورث بالنسب لا بالسبب , راجع: نهاية المحتاج ج7 ص284.(2/140)
منهما معه فى عفو ولا قود، بخلاف الأخت الشقيقة مع الأخ لأب، فلها الكلام معه، لأنه وإن ساواها فى الدرجة أنزل منها فى القوة. ثالثًا: أن تكون بحيث لو كان فى درجتها رجل ورث بالتعصيب، وعلى هذا تخرج الأخت للأم والزوجة والجدة للأم (1) .
164- هل يملك الوارث حق القصاص على سبيل الشركة أم على سبيل الكمال؟: إذا كان الوارث واحدًا فهو يملك القصاص على سبيل الكمال إذ لا شريك له فيه، أما إذا تعدد الورثة فهناك نظريتان:
النظرية الأولى: ويقول بها مالك وأبو حنيفة، وهى قول لأحمد، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الكمال لا على سبيل الشركة. وحجتهم أن المقصود من القصاص فى القتل هو التشفى، وأن الميت لا يتشفى ولكن الورثة هم الذين يتشفون فهو حقهم ابتداء، أى أن القتيل لا يثبت له حق القصاص، وأن القتيل لا يثبت له هذا الحق ما دام حيًا ولكنه يثبت بوفاته فإذا ثبت لم يكن القتيل أهلاً لتملك الحقوق، فيثبت الحق للورثة ابتداء، ويثبت لكل وارث على سبيل الكمال، كأن ليس معه غيره لأنه حق لا يتجزأ، والشركة فيما لا يتجزأ محال، إذ الشركة المعقولة هى أن يكون البعض لهذا والبعض لذاك كشريك الأرض والدار، ولكن ذلك محال فيما لا يتبعض، والأصل أن ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة وقد وجد سبب ثبوته فى حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال كأن ليس معه غيره، كولاية النكاح (2) .
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص229.
(2) الشرح الكبير لدردير ج4 ص227 , بدائع الصنائع ج7 ص242 , المغنى ج9 ص459.(2/141)
النظرية الثانية: ويقول بها الشافعى وأحمد، وأبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفى، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الشركة. وحجتهم أن القصاص يجب بالجناية، وأنها وقعت على المقتول فكان ما يجب بها حقًا له، إلا أنه بالموت عجز عن استيفاء حقه بنفسه، فيقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه ويكون القصاص مشتركًا بينهم (1) .
وأهمية الخلاف تظهر إذا ورث القصاص كبير أو صغير. فطبقًا للنظرية الأولى يكون للكبير حق الاستيفاء دون حاجة لانتظار بلوغ الصغير؛ لأن القصاص حق كل وارث على سبيل الاستقلال فلا معنى لتوقف الاستيفاء على بلوغ الصغير. وطبقًا للنظرية الثانية ليس للكبير أن ينفرد بالقصاص وعليه أن ينتظر بلوغ الصغير؛ لأن حق القصاص مشترك بينهما، وليس لأحد الشريكين أن ينفرد بالتصرف فى حق مشترك دون رضاء شريكه.
165- وإذا لم يكن للقتيل ولى فمن المتفق عليه أن السلطان يتولى القصاص: لأن السلطان ولى من لا ولى له. ولكن أبا يوسف يرى أن السلطان ليس له أن يقتص إذا كان المقتول من أهل دار الإسلام، وله أن يأخذ الدية وحجته فى ذلك أن المقتول من أهل دار الإسلام لا يخلو عن ولى عادة إلا أنه لا يعرف، ولا ولاية للسلطان إلا إذا انعدم الولى الوارث، بخلاف الحربى إذا دخل دار الإسلام فأسلم لأن الظاهر أن لا ولى له فى دار الإسلام (2) .
166- من يلى الاستيفاء؟: يختلف الحكم فى هذه المسألة بحسب ما إذا كان مستحق القصاص واحدًا أو أكثر.
_________
(1) المهذب ج2 ص196 , المغنى ج9 ص458 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص228 , ج9 ص394 , بدائع الصنائع ج7 ص243 , 245 , المهذب ج2 ص196.(2/142)
167- فإذا استحق القصاص واحد وكان كبيرًا فله أن يستوفيه إن شاء: لقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْلِ} [الإسراء: 33] ولوجود سبب الولاية فى حقه على الكمال، وهو وراثة القصاص دون مزاحم.
أما إذا كان مستحق القصاص صغيرًا أو مجنونًا: فيرى الشافعى (1) وأحمد (2) انتظار بلوغ الصبى وإفاقة المجنون إلا أنه إذا كانت إفاقة المجنون ميئوسًا منها قام وليه مقامه (3) لأن القود للتشفى، ولا يحصل باستيفائه بمعرفة ولى الصبى أو المجنون ولا بمعرفة الحاكم. وفى مذهب أبى حنيفة (4) رأيان: أحدهما: يرى أصحابه ما يراه الشافعى وأحمد. وثانيهما: يرى أصحابه أن يقوم القاضى أو الحاكم بالاستيفاء دون حاجة لانتظار بلوغ الصبى أو إفاقة المجنون. ويرى مالك (5) أن لولى الصغير والمجنون ووصيهما الاستيفاء نيابة عنهما فلا حاجة لانتظار البلوغ أو الإفاقة.
ويرى أبو حنيفة أن الأب والجد يستوفيان القصاص الواجب للصغير دون الوصى، لأن ولايتهما ولاية نظر ومصلحة.
أما أبو يوسف فيرى الانتظار، ومالك يرى الاستيفاء للوصى والوالى.
سلطة ولى الصغير والمجنون: ومن يعطى الولى حق الاستيفاء عن الصغير والمجنون يعطيه حق الصلح أو العفو عن القصاص على مال بشرط أن لا يقل عن الدية، وأن يكون أصلح من القصاص للصغير، أو على الأقل تتساوى مصلحة القصاص بمصلحة العفو، فإن صالح أو عفا على أقل من الدية كان للصغير بعد بلوغه الرجوع على القاتل بما نقص من الدية، ما لم يكن القاتل معسرًا وقت الصلح كما يرى مالك. وليس للولى أن يتنازل عن القصاص مجانًا، فإن فعل فتنازله باطل (6) .
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص285.
(2) الإقناع ج4 ص181.
(3) كما ورد ذلك فى حاشية الجزء السابع من نهاية المحتاج للشرامسلى.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص243.
(5) مواهب الجليل ج6 ص252.
(6) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230 , مواهب الجليل ج6 ص252 , البحر الرائق ج8 ص299 , 300.(2/143)
ومن لا يعطى الولى حق الاستيفاء يعطى ولى المجنون حق العفو عن القصاص إلى الدية، بشرط أن يكون المجنون محتاجًا إلى النفقة، فإن لم يكن محتاجًا فالعفو باطل كما لو عفا على غير مال. أما الصبى فقد اختلفوا فى شأنه: فأجاز بعضهم أن يكون للولى حق العفو عن القصاص إلى الدية إذا كان محتاجًا إلى النفقة ولم يجز البعض الآخر ذلك للولى. وأساس التفرقة بين الصبى والمجنون أن بلوغ الصبى ينتظر بعد وقت معين ولكن إفاقة المجنون ليس لها وقت ينتظر (1) . وأبو حنيفة لا يعطى ولى الصغير والمعتوه حق العفو لأن العفو لا يكون إلا من صاحب الحق والحق للصغير والمعتوه وليس لهما، وإنما لهما ولاية استيفاء حق وهب للصغير، وولايتهما مقيدة بالنظر للصغير والعفو ضرر محض لأنه إسقاط حق أصلاً ورأيًا فلا يملكانه وإنما لهما حق الصلح على مال. وأبو حنيفة متأثر فى هذا بنظريته التى تقضى بأن حق الولى فى القصاص عينًا وأن العفو للدية يقتضى رضاء الجانى، ويظهر أن أبا حنيفة يرى أن العفو لا يكون عفوًا ما دام متوقفًا على رضاء الجانى وإنما يكون صلحًا ولذلك فهو لا يتكلم إلا عن العفو المطلق دون قيد. أما عند مالك فيعتبرون التنازل عن القصاص إلى الدية عفوًا ولو أن الأمر معلق على رضاء الجانى، ويعبر عنه هكذا ويعبر عنه أكثر الشراح بالصلح، ومن عبر عنه بالعفو عبر عنه أكثر من مرة بأنه صلح، مما يدعو إلى الاعتقاد بأن لفظ العفو تجاوز فى التعبير، وقد جاء هذا التعبير فى الشرح لا فى المتن مما يؤكد فكرة التجوز فى التعبير أو الخطأ (2) .
هل يصح قصاص الصغير والمجنون؟: الأصل فى تأخير القصاص حتى يبلغ الصبى ويفيق المجنون، أن القصاص حق وأن استعماله يقتضى فى المستعمل الأهلية والصبى والمجنون كلاهما غير أهل لاستيفاء الحقوق، لكن إذا فرض أن الصبى أو المجنون وثب على القاتل فقتله فهل يعتبر كلاهما مستوفيًا لحقه
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص380 , نهاية المحتاج ج7 ص284.
(2) مواهب الجليل ج6 ص252.(2/144)
أم لا؟ (1) فصار كما لو أتلف وديعة له فلا مسئولية على المودع لديه. يرى البعض أنه بقتل القاتل صار مستوفيًا لحقه لأنه عين حقه وأتلفه بعمله. ويرى البعض أنه ليس من أهل الاستيفاء فلا يعتبر مستوفيًا لحقه وتجب له الدية فى مال الجانى الذى قتله ولأولياء الجانى الرجوع على عاقلة الصبى والمجنون بدية قتيلهم. أى أن أصحاب هذا الرأى يعتبرون فعل الصبى والمجنون جريمة قتل عمد يدرأ فيها القصاص للصغر والجنون (2) ، ولا شك أن الرأى الأول أقرب للعدالة والمنطق من الرأى الثانى.
168- تعدد مستحقى الاستيفاء: إذا تعدد مستحقو الاستيفاء: فإما أن يكون جميعهم كبارًا، وإما أن يكون فيهم صغير أو مجنون وإما أن يكونوا جميعًا حاضرين وإما أن يكون بعضهم غائبًا.
169- فإذا تعدد مستحقو الاستيفاء وكانوا جميعًا كبارًا حاضرين: فالأصل أن لكل منهم ولاية استيفاء القصاص حتى إذا قتله أحدهم صار القصاص مستوفًى للجميع؛ لأن القصاص إن كان حق الميت كما يرى أبو يوسف ومحمد، فكل واحد من الورثة خصم فى استيفاء حق الميت كما هو الحال فى المال، وإن كان القصاص حق الورثة ابتداء كما يرى مالك وأبو حنيفة، فكل من الورثة يملك حق القصاص على الكمال، هذا هو الأصل، إلا أن الفقهاء يشترطون اتفاق مستحقى القصاص عليه قبل الاستيفاء وحضورهم لاحتمال أن يعفو بعضهم، ولأن العفو يسقط حق الآخرين فى القصاص.
فإذا بادر أحد المستحقين بقتل الجانى قبل اتفاقهم على القصاص، فمذهب مالك وأبى حنيفة أن القصاص صار مستوفى للجميع؛ لأن الأصل أن لكل من المستحقين ولاية استيفاء القصاص، وليس لباقى الورثة شئ من المال، لأن حقهم فى القصاص قد استوفاه أحدهم. وهذا تطبيق نظرية مالك وأبى حنيفة فى أن
_________
(1) فى هذه النقطة فراغ يبدو أنه كلام لم يتم ولم يكتب.
(2) الشرح الكبير ج9 ص385 , المهذب ج2 ص196.(2/145)
القصاص يجب عينًا (1) ، إلا أن المقتص يعزَّر لافتياته على الإمام.
أما الشافعى وأحمد فيريان أن المبادر بالقصاص ممنوع من قتل الجانى لأن بعض الجانى غير مستحق له، فإذا استوفى دون اتفاق فهو مستوفٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِِِِِ لحق غيره دون إذنه. والراجح أنه لا يجب القصاص عليه بفعله (2) لأنه يستحق القصاص على وجه الشركة، ولأن الجانى مستحق عليه القصاص، كما لا يجب الحد على أحد الشريكين فى وطء الجارية المشتركة لكنه يلزم - على رأى - بحق شركائه فى الدية، لأنه هو الذى أتلف محل حقهم ويلزم - على الرأى الآخر - لورثة الجانى بدية مورثهم إلا قَدْرَ حقه منها، على أن يكون لباقى مستحقى القصاص الرجوع بحقهم فى الدية على تركة الجانى. ولرأى الشافعى وأحمد تطبيق لنظريتهما فى أن القصاص يثبت للمورث ابتداء ثم ينتقل منه للورثة، كما هو تطبيق لنظريتهما فى أن الواجب بالقتل أحد شيئين غير عين القصاص والدية (3) .
170- وإذا تعدد مستحقو القصاص، وكانوا كبارًا وصغارًا، أو فيهم مجنون، أو بعضهم غائبًا: فيرى مالك وأبو حنيفة أن لا ينتظر البلوغ ولا إفاقة المجنون، وللعقلاء الكبار استيفاء القصاص لأن القصاص ثابت للورثة ابتداء فهو حق كل منهم على سبيل الكمال والاستقلال، لاستقلال سبب ثبوته فى حق كل مستحق، ولعدم قابليته للتجزئة، ويؤيدون رأيهم بأن عليًا رضى الله عنه أوصى الحسن بعد أن ضربه ابن ملجم فقال له: إن شئت فاقتله وإن شئت فاعف عنه، وإن تعفو خير لك فقتله الحسن، وكان فى ورثة على صغار، والاستدلال من وجهين: أحدهما: بقول علي؛ لأنه خيَّر الحسن فى القتل أو العفو
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص212 , البحر الرائق ج8 ص300 , 301.
(2) فى مذهب الشافعى رأى مرجوح , ملخصه أن على المستحق القصاص إذا قتل الجانى قبل اتفاقه مع باقى المستحقين؛ لأنه اقتص فى أكثر من حقه , ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة؛ فإذا اشترك شخصان فى قتل اقتص منهما لأن كلاً منهما قاتل لبعض النفس.
(3) الشرح الكبير ج9 ص386 , 387 , المهذب ج2 ص197.(2/146)
مطلقًا فلم يقيده ببلوغ الصغار، والثانى: لأن الحسن قتل ولم ينتظر. وكل ذلك كان فى حضور الصحابة ولم ينكره أحد فيكون إجماعًا.
ولكنهما يريان مع ذلك انتظار عودة الغائب لاحتمال عفوه، ولأنه قد يعفو دون أن يشعر الحاضر بعفوه، فإذا أجيز للحاضر أن يستوفى، استوفى حقًا قد سقط بعفو الغائب.
ويفرقون فى مذهب أبى حنيفة بين احتمال العفو من الصغير والمجنون وبين احتمال العفو من الغائب، فإن احتمال العفو من الغائب الكبير ثابت أما احتمال عفو الصغير أو المجنون فميئوس منه حال استيفاء القصاص، لأنه ليس من أهل العفو.
ويفرقون فى مذهب مالك بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة الميئوس منها؛ أى من عودة صاحبها ويرون الانتظار فى الغيبة القريبة دون البعيدة، وهذا هو الرأى الراجح وهناك رأى لا يفرق بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة (1) .
أما الشافعى وأحمد ومعهما محمد وأبو يوسف فيريان أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين، فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه، أو مجنون تنتظر إفاقته، أو غائب ينتظر قدومه (2) ؛ لأن القصاص حق مشترك بينهم، فمن استوفى قبل اتفاق كل الشركاء فقد استوفى غير حقه وأبطل حق غيره ولأن القصاص أحد بدلى النفس، فإذا لم يجز انفراد أحد المستحقين بأحد البدلين وهو الدية لم يجز له أن ينفرد بالبدل الآخر وهو القصاص، ويستدلون على أن للصغير والمجنون حقهما فى القصاص بأربعة أمور:
أحدهما: أنه لو كان منفردًا لاستحق القصاص، ولو نافاه الصغير مع غيره لنافاه منفردًا.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص250 , 251 , شرح الدردير ج4 ص288 , بدائع الصنائع ج7 ص243 , 244 , البحر الرائق ح8 ص300 , 301.
(2) هناك رواية عن أحمد بأن للكبار العقلاء الاستيفاء دون انتظار الصغير والمجنون , ولكن هذه الرواية ليست المذهب.(2/147)
الثانى: أنه لو بلغ لاستحق بلا خلاف، ولو لم يكن مستحقًا عند موت المورث لم يكن مستحقًا عند البلوغ.
الثالث: لو سقط القصاص وآل الأمر للدية لاستحق، ولو لم يكن مستحقًا للقصاص لما استحق بدل القصاص وهو الدية.
الرابع: لو مات الصغير لاستحق ورثته، ولو لم يكن حقًا لم يرثه كسائر ما لا يستحقه (1) .
171- هل يطلق سراح الجانى حتى يحضر الغائب أو يبلغ الصغير ويفيق المجنون؟: من المتفق عليه أن تأخر الاستيفاء لا يؤدى إلى إطلاق سراح الجانى، بل يحبس مهما تأخر الاستيفاء، فيحبس حتى يحضر الغائب أو يبلغ الصغير أو يفيق المجنون، وقد حبس معاوية بن أبى سفيان هدية بن خشرم فى قصاص حتى بلغ ابن القتيل - فى عصر الصحابة - فلم ينكر عليه ذلك، ويعللون بقاءه محبوسًا بأن فى تخليته تضييعًا للحق، لأنه لا يؤمن هربه ولأنه مستحق القتل وفيه تفويت نفسه ونفعه، فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لإمكانه، ولا يقبل من القتيل أن يقدم كفيلاً ليخلى سبيله له، لأن الكفالة لا تصح فى العقوبات لأن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إذا تعذر إحضار المكفول ولا يمكن استيفاء القتل من غير القاتل (2) .
172- ومهما تعدد مستحقو القصاص فلن يستوفيه إلا أحدهم فقط يوكلونه عنهم: ويشترط أن يكون خبيرًا قادرًا على القصاص، فإن لم يكن فيهم من يحسن القصاص أو لم يتفقوا على واحد منهم، أناب الحاكم من يحسنه، وليس ثمة ما يمنع أن يكون موظفًا يتناول أجره من خزانة الحكومة. ويرى الشافعى
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص392 , 393 , نهاية المحتاج ج7 ص284.
(2) الشرح الكبير ج9 ص384 , 385 , مواهب الجليل ج6 ص250 , المهذب ج2 ص196.(2/148)
الاقتراع بين مستحقى القصاص إذا كانوا جميعًا يحسنونه ولم يتفقوا فمن اختارته القرعة قام بالاستيفاء (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب مالك أن الحاكم مخير بين أن يستوفى بنفسه القصاص أو أن يسلمه لولى المقتول ليقتص منه، والأصل فى الشريعة أن لا يمكَّن إنسان من استيفاء حقه بنفسه، لأن استيفاء الحقوق متروك للحكام، ولكن جاز أن يستوفى الفرد حقه فى القتل بدليل خاص هو تسليم الرسول للقاتل المستحق (2) ولما كان من شروط الاستيفاء عدم الحيف وأن لا يُعذِّب المقتص القاتل وأن يحسن قتلته (3) ، فإن القصاص يجب أن يتم تحت إشراف السلطة التنفيذية وليس ثمة ما يمنع من أن تتولاه السلطة التنفيذية اليوم لضمان التنفيذ على الوجه المطلوب.
173- الأمن من التعدى إلى غير القاتل: يشترط فى الاستيفاء أن لا يتعدى إلى غير القاتل فإذا وجب القصاص على حامل قبل وجوبه أو حامل بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع ولدها، وليس فى هذا اختلاف؛ لقوله تعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْل} [الإسراء:33] وقتل الحامل إسراف، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا قتلت المرأة عمدًا لم تقتل حتى تضع ما فى بطنها إن كانت حاملاً وحتى تكفل ولدها، وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما فى بطنها وحتى تكفل ولدها"، ولقد قال الرسول للغامدية التى زنت: "ارجعى حتى تضعى ما فى بطنك" فلما وضعته قال لها "ارجعى حتى ترضعيه" وهذه القاعدة مسلم بها فى القصاص إطلاقًا سواء كان فى النفس أو الطرف أما فى النفس فلما سبق، وأما فى الطرف فلأننا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى غير الجانب وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولأن فى القصاص من لحامل قتلاً لغير الجانى وهو محرم إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص285.
(2) الشرح الكبير للدردير ج9 ص230.
(3) الشرح الكبير ج9 ص397 وما بعدها , نهاية لمحتاج ج7 ص286 , 287.(2/149)
وإذا وضعت الحامل لم تقتل حتى تسقى ولدها اللِّبَأ، لأن الولد يتضرر لتركه ضررًا كبيرًا ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أوان فطامه، وإن وجد له مرضعة راتبة جاز الاستيفاء من الأم، لأن الولد يستغنى عنها بلبن المرضعة، وكذلك إذا أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها، أو وجد له مرضعة غير راتبة أو نساء يتناوبن رضاعه، ولكن يستحب فى هذه الحالات أن يؤخر الولى القصاص لما على الولد من ضرر فى اختلاف اللبن وشرب لبن البهيمة.
وإذا ادعت المرأة الحمل فلا يستوفى منها إلا بعد التحقق من خلوها من الحمل، وتعرض على أهل الخبرة فإن تبين حملها أو أشكل الأمر أُخرت حتى تضع أو حتى يتبين أمرها، وإن ثبت أنها غير حامل لم تؤخر، وإذا تبين الحمل أو أشكل الأمر فتحبس حتى تضع، ويستوى أن تكون حاملاً من زوج أو زنًا (1) ، وتأخير التنفيذ على الحامل هو المبدأ الذى تأخذ به القوانين الوضعية اليوم، فالقانون المصرى ينص فى المادة 263 على أنه "إذا أخبرت المحكوم عليها بالإعدام أنها حبلى يوقف تنفيذ الحكم، ومتى تحقق قولها لا ينفذ إلا بعد الوضع".
174- كيفية الاستيفاء: لا يستوفى القصاص إلا بالسيف عند أبى حنيفة، ورواية عن أحمد، سواء كان الجانى قتل بسيف أم بغير سيف، وسواء كان القتل نتيجة لحز الرقبة أم لسراية جراح، أو نتيجة الخنق أو التغريق أو التحريق، أو غير ذلك وحجة القائلين بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قود إلا بالسيف" والقود هو القصاص، والقصاص هو الاستيفاء، فمعنى الحديث نفى القصاص بغير السيف.
وإذا كان الموت نتيجة قطع اتصلت به السراية، فالقود بالسيف؛ لأنه تبين أن فعل الجانى وقع قتلاً من وقت وجوده فلا يقتص منه إلا بالقتل؛ لأنه
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص394 وما بعدها , نهاية المحتاج ج7 ص288 , 289 , مواهب الجليل ج6 ص253 , شرح فتح القدير ج4 ص130 , بدائع الصنائع ج7 ص59.(2/150)
لو قطع عضوًا من الجانى لتحقق التماثل، ثم عاد فحز رقبته إذا لم يمت من القطع كان ذلك جمعًا بين القطع والحز، ولم يكن مجازاة بالمثل، ولا يعتبر حز الرقبة متممًا للقطع؛ لأن المتمم للشىء يكون من توابعه، والحز قتل وهو أقوى من القطع فليس من توابعه كذلك فإن القصاص فى النفس يقصد منه إتلاف النفس فإذا أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز إتلاف أطرافه، لأن إتلافها يعتبر تعذيبًا لا استيفاء.
وعلى هذا فمن قطع يد إنسان فمات، أو أجافه جائفة أو أوضحه مُوضِحة فمات فليس له أن يقطعه أو يجيفه أو يوضحه ثم يقتله - طبقًا لرأى أبى حنيفة وأحد رأيى أحمد - وله فقط أن يقتله بالسيف.
وإذا أراد الولى أن يقتص بغير السيف لا يمكَّن من ذلك، وإذا فعله عُزِّر لافتياته على السلطات العامة، إلا أنه يعتبر مستوفيًا لحقه فى القصاص بأى طريق قتله سواء قتله بالعصا أو الحجر أو ألقاه من سطح أو أرداه فى بئر أو ساق عليه دابة حتى مات، ونحو ذلك لأن القتل حقه، فإذا قتله فقد استوفى حقه إلا أنه يفتات إذا استوفى بغير السيف لاستيفائه بطريق غير مشروع فيعزر على هذا الافتيات (1) .
وعند مالك والشافعى وهو رواية عن أحمد (2) : أن القاتل أهل لأن يفعل به كما فعل، فإذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن السيف أوحى الآلات - أى أسرعها - فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه لأن حقه فى القتل وقد قتل وعذب.
فإن أحرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه أو منعه الطعام والشراب فمات، فللولى أن يقتص بمثل ذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص302 , الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 2256 , المهذب ج2 ص199 , الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها.(2/151)
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] ولما رواه البراء عن الرسول عليه السلام قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" ولأن القصاص موضوع على المماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفى بها القصاص.
وللولى أن يقتص بالسيف فى هذه الأحوال لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه وهو جائز له.
وإن قتله بما هو محرم كاللواط وسقى الخمر فيرى البعض أن يفعل به مثل فعله صورة بما هو غير محرم؛ فيفعل به فى اللواط مثل ما فعل بخشبة لتعذر مثل فعله حقيقة، ولسقى الماء بدلاً من الخمر حتى يموت، ويرى البعض أن يكون القصاص بالسيف كلما كان القتل بما هو محرم لنفسه، وإن ضرب رجلاً بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف لأنه قتل مستحق وليس ها هنا ما هو أوحى من السيف فيقتل به.
وإن قتله بمثقل أو رماه من شاهق أو منعه الطعام والشراب مدة ففعل به مثل ما فعل فلم يمت فيرى البعض أن يكرر عليه ذلك حتى يموت، ويرى البعض الآخر أنه يقتل بالسيف لأنه فعل مثل ما فعل وبقى إزهاق الروح فوجب بالسيف.
وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه وأوضح رأسه فمات فللولى أن يستوفى القصاص بما جنى فيقطع كفه ويُوضِِِح رأسه؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فإن مات فقد استوفى حقه وإن لم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر، ولا أن يوضح فى موضع آخر لأنه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحين بموضحة.
وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه، فيرى البعض أن يقتل بالسيف، ويخالف مالك الشافعى فى أنه يرى أن يكون القصاص بالسيف دائمًا كلما ثبت القتل بقسامة أو كان القتل بما يطول أمره كمنع الطعام والشراب، ولا يقتص فى الجائفة ولا فى قطع الساعد لأن كليهما(2/152)
جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفى بها القصاص كاللواط، ويرى البعض أن يقتص فى الجائفة وقطع اليد من الساعد لأنه جهة يجوز القتل بها فى غير القصاص لمجاز القتل بها فى القصاص كالقطع من المفصل وحز الرقبة، فإن اقتص بالجائفة وقطع الساعد فلم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يجاف جائفة أخرى ولا أن يقطع منه عضو آخر فيصير جائفتان وقطع عضوين بعضو.
175- حكم الفعلين: وإذا قطع طرف رَجُل كَيد أو رٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِجْل ثم قتله فإذا كان القتل بعد بُرء الإصابة الأولى فيرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن يقتص منه الولى بمثل ما فعل فيقطع طرفه ثم يقتله إن شاء وله أن يكتفى بقتله فقط. أما مالك فيرى أن الطرف يندرج فى القتل فليس للولى إلا القتل فقط. أما إذا كان القتل قبل برء الإصابة الأولى فيرى أبو حنيفة والشافعى وقولهما رواية عن أحمد أن للمستوفى أن يقطع الطرف ثم يقتل لأن حق المجنى عليه فى المثل والمثل هو القطع والقتل والاستيفاء بصفة المماثلة ممكن، فإذا قطع الولى طرفه ثم قتله كان مستوفيًا للمثل وكان الجزاء مثل الخيانة جزاء وفاقًا. ويرى مالك هذا الرأى بشرط أن يكون القطع قصد به التمثيل (1) ، ويرى أبو يوسف ومحمد وهو قول فى مذهب أحمد بأن الطرف يدخل فى النفس فللولى أن يقتل الجانى وليس له أن يقطع يده؛ لأن الجناية على ما دون النفس إذا لم يتصل بها البُرءْ لا حكم لها مع الجناية على النفس فى الشريعة بل يدخل ما دون النفس فى النفس، ويرى مالك هذا الرأى إذا لم يكن الجانى قصد من قطع الطرف التمثيل بالمجنى عليه (2) .
176- حضور المستحقين الاستيفاء: يرى أبو حنيفة أن مستحقى القصاص يجب أن يحضروا الاستيفاء ولا يكفى أن يحضر وكيل عنهم بل يجب
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص195 , المغنى ج9 ص386 - 396 , مواهب الجليل ج6 ص256.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص303 , مواهب الجليل ج6 ص256.(2/153)
حضور الموكل بنفسه، ولا يجوز للوكيل استيفاء القصاص مع غيبة الموكل أو الموكلين لاحتمال أن الغائب قد عفا، ولأن فى اشتراط حضور الموكل رجاء العفو منه عند معاينة حلول العاقبة بالقاتل (1) ، ولا يشترط باقى الأئمة هذا الشرط وليس عندهم مانع من أن يتم الاستيفاء بمعرفة الوكيل فى غياب الموكلين.
177- تفقد آلة القتل: وإذا أراد الوالى الاستيفاء بنفسه فعلى السلطان أن يتفقد الآلة التى يستوفى بها، فإذا كانت كالَّة منعه الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول، وإن كانت مسمومة منعه الاستيفاء بها لأنها تفسد البدن، وإن عجل فاستوفى بآلة كالة أو مسمومة عُزِّر، فالولى الذى يستوفى يجب أن يكون خبيرًا بالاستيفاء، وأن تكون الآلة التى يستوفى بها صالحة للاستيفاء. وكل ذلك قصد منه أن لا يعذب الجانى وأن تزهق روحه بأيسر ما يمكن، وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة وليُحدَّ أحدكم شفرته وليُرحْ ذبيحته" (2) .
178- هل يجوز الاستيفاء بما هو أسرع من السيف؟: الأصل فى اختيار السيف أداة للقصاص أنه أسرع فى القتل، وأنه يزهق روح الجانى بأيسر ما يمكن من الألم والعذاب فإذا وجدت أداة أخرى أسرع من السيف واقل إيلامًا فلا مانع شرعًا من استعمالها فلا مانع من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسى الكهربائى وغيرهما مما يفضى إلى الموت بسهولة وإسراع، ولا يتخلف الموت عنه عادة، ولا يترتب عله تمثيل بالقاتل ولا مضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسى الكهربائى فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب (3) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص243.
(2) المهذب ج2 ص197 , الشرح الكبير ج9 ص397.
(3) من فتوى للجنة الفتوى بالأزهر , راجع: القصاص ص208.(2/154)
179- هل يجوز للسلطان اليوم أن يستأثر باستيفاء القصاص؟: الرأى الراجح عند الفقهاء أن لا يترك الولى ليستوفى بنفسه القصاص فى الجراح (1) ؛ لأن القصاص فى الجراح يقتضى خبرة ودقة فوق ما يجب فيه من البعد عن الحيف والتعذيب ولما كانت الخبرة لا تتوفر فى معظم الأولياء فقد رأى الفقهاء أن يتولى القصاص خبراء يوكلهم الأولياء، ولا مانع من أن يأخذ هؤلاء الخبراء أجرهم من خزانة الدولة أما الاستيفاء فى القتل فقد ترك للولى إذا كان يحسن الاستيفاء وإذا استوفاه بآلة صالحة، فإذا لم يكن يحسنه، فحق الولى فى الاستيفاء بنفسه متوقف على إحسانه وعلى استعمال الآلة الصالحة. ولقد كان الناس قديمًا يحملون السلاح ويحسنون استعماله غالبًا، أما اليوم فيقل أن تجد من يحسن استعمال السيف، بل قد لا تجد فى القرية كلها سيفًا واحدًا صالحًا للاستعمال، فإذا أضيف إلى هذا أن وسيلة الشنق والمقصلة والكرسى الكهربائى أسرع بالموت من السيف كما هو ثابت من التجربة وأن المقصلة أو غيرها لا يمكن أن يحصل عليها الأفراد وأنها فى حيازة الدولة وإذا روعى هذا جميعه أمكن القول أن الضرورات اليوم تمنع من ترك الولى يستوفى حقه على الطريقة القديمة، وأنها تقضى بحرمان الأولياء من استيفاء القصاص بأنفسهم وترك الاستيفاء لمن تعينهم الدولة من الموظفين الخبيرين، وللأولياء أن يأذنوا لهم بالتنفيذ إذا شاءوا القصاص أو لا يأذنوا إذا رأوا العفو.
* * *
سقوط القصاص
180- تسقط عقوبة القصاص بأربعة أسباب هى: فوات محل القصاص - العفو - الصلح - إرث حق القصاص.
181- فوات محل القصاص: محل القصاص فى القتل هو نفس القاتل،
_________
(1) المغنى ج9 ص412 , المهذب ج2 ص197 , مواهب الجليل ج6 ص253.(2/155)
فإذا فات محل القصاص أى انعدم محله بأن مات من عليه القصاص سقطت العقوبة لأن محلها انعدام، ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها.
وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط القصاص بموت الجانب يوجب الدية فى ماله أم لا؟ فرأى مالك وأبو حنيفة أن انعدام محل القصاص يترتب عليه سقوط عقوبة القصاص، ولا يترتب عليه وجوب الدية فى مال القاتل، لأن القصاص واجب عينًا، والدية لا تجب إلا برضاء القاتل فإذا مات القاتل سقط الواجب وهو القصاص ولم تجب الدية لأن القاتل لم يوجبها على نفسه، ويستوى أن يكون الموت بآفة سماوية أو بيد شخص آخر ما دام أن الموت بحق، فإذا مات الجانى بمرض أو قتل فى قصاص بشخص آخر أو زنًا أو ردة، ففى كل هذه الحالات تسقط عقوبة القصاص ولا تجب بدلها الدية.
أما إذا قتل ظلمًا، فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول، فمثلاً من قتل رجلاً فعدا عليه أجنبى فقتله عمدًا فدمه لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول الثانى: أرضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم فى القتل أو العفو، فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه، ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها. وإن قُتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول (1) . ويسوى أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطًا مطلقًا ولا يوجب الدية فى مال الجانى ولا فى مال غيره (2) إذا جنى عليه. ويرى الشافعى وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص فى كل الأحوال، سواء كان الموت بحق أو بغير حق، ولكنه يؤدى إلى وجوب الدية فى مال الجانى، لأن الواجب فى القتل أحد شيئين: عين القصاص أو الدية فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر،
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص231.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص246.(2/156)
ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر كذوات الأمثال (1) .
ونستطيع أن نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء فى المثل الآتى: إذا قتل محمد عليًا، فإن لأولياء محمد حق القصاص على علىٍّ، فإذا مرض على ومات سقط القصاص بموته ولا شئ لأوليائه طبقًا لرأى مالك وأبى حنيفة، ولأوليائه الدية فى مال علىٍّ طبقًا لرأى الشافعى وأحمد، فإذا كان موت علىٍّ سببه أن زيدًا أطلق عليه عيارًا ناريًا عمدًا فقتله أو صدمه بسيارته خطأ فقتله فقد سقط معه القصاص ولا شئ لأولياء محمد كما يرى أبو حنيفة، وطبقًا لرأى مالك ينتقل حق القصاص إلى زيد ويكون لأولياء محمد أن يقتصوا منه فى حالة العمد، وليس لأولياء علىٍّ أن يقتصوا من زيد إلا إذا أرضوا أولياء محمد، وفى حالة الخطأ يدفع زيد دية على لأولياء محمد. وطبقًا لرأى الشافعى وأحمد يسقط القصاص وتكون لأولياء محمد ديته فى مال على.
182- العفو: أجمع الفقهاء على جواز العفو عن القصاص، وأن العفو عنه أفضل من استيفائه. والأصل فى جواز العفو الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد أقر العفو فى سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وفى سياق قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} إلى أن قال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45] .
وأما السنة: فإن أنس بن مالك قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه شئ فى قصاص إلا أمر فيه بالعفو".
183- والعفو عن القصاص عند الشافعى وأحمد هو التنازل عن القصاص مجانًا أو عن الدية: فمن تنازل عن القصاص من القاتل مجانًا فهو عاف، ومن تنازل عن القصاص مقابل الدية فهو عاف، وإن كان مالك يرى أن العفو عن الدية يحتاج لنفاذه رضاء الجانى بدفع الدية، بخلاف الشافعى وأحمد اللذين يريان أن العفو عن الدية يعتبر نافذًا دون حاجة لرضاء الجانى (2) .
_________
(1) المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ج9 ص417.
(2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230 , المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ج9 ص413 وما بعدها.(2/157)
والعفو عند مالك وأبى حنيفة هو إسقاط القصاص مجانًا أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو ليس عفوًا عندهما، وإنما هو صلح (1) ؛ لأن تنازل الولى لا ينفذ إلا إذا قبل الجانى دفع الدية (2) .
ويشترط مالك وأبو حنيفة أن يكون العفو عن القصاص من صاحب الحق؛ لأن العفو عنده إسقاط الحق وإسقاط الحق محال ممن ليس له حق، ويرتب على هذا أن العفو لا يصح من أجنبى لأنه ليس صاحب الحق ولا من الأب أو الجد فى قصاص وجب للصغير خاصة، لأن الحق للصغير وليس لهما وسلطتهما قاصرة على استيفاء الحقوق الواجبة للصغير، وولايتهما مقيدة بالنظر لمصالح الصغير، والعفو ضرر محض لأنه إسقاط الحق أصلاً ورأسًا فلا يملكانه، وكذلك لا يملك السلطان العفو فيما له ولاية الاستيفاء فيه (3) ولكن الأب والجد والسلطان يملكون الصلح.
ولكن الشافعى وأحمد يجيزان أن يكون العفو من الأب والجد على مال كما بينا فى الفقرة 167 كما يجيزون للسلطان أن يعفو على مال ولكنهم لا يجيزون له العفو مجانًا.
والفرق بين أبى حنيفة والشافعى وأحمد هو اختلاف فى تكييف التنازل عن القصاص على الدية، فأبو حنيفة يسميه صلحًا وباقى الأمة يسمونه عفوًا، وأبو حنيفة منطقى فى وجهة نظره لأنه يشترط رضاء الجانى بدفع الدية. فإذا كان التنازل معلقًا على رضاء الجانى بمقابل التنازل وهو الدية فالتنازل صلح لا عفو، والشافعى وأحمد يتبعان المنطق فى وجهة نظرهما لأن تنازل أولياء المجنى عليه عن القصاص على الدية لا يتوقف على رضاء الجانى إذ الواجب عندهما بالقتل
_________
(1) الزيلعى ج6 ص107 - 108 , 113 , البحر الرائق ج8 ص301 , 302.
(2) يسمى بعض الفقهاء فى مذهب مالك التنازل عن القصاص بمقابل عفواً , ويسميه بعضهم صلحاً وهؤلاء يتفق رايهم مع أبى حنيفة , راجع الفقرة 167.
(3) راجع الفقرة 163.(2/158)
العمد القصاص والدية وللولى أن يختار بينهما فإذا اختار القصاص فله أن يتنازل عنه إلى الدية، فالتنازل إذن إسقاط محض لا مقابل له وترك للأكثر وأخذ للأقل فهو عفو لأنه إسقاط محض.
وفى مذهب مالك لا يرون بأسًا من اعتبار التنازل عن القصاص مقابل الدية عفوًا مع أنهم يعتبرون الواجب بالقتل العمد هو القصاص عينًا، ويوجبون رضاء الجانى إذا اختار الأولياء الدية ولكن بعضهم يعتبر هذا صلحًا لا عفوًا، ومن يعتبرونه عفوًا يفرقون بينه وبين الصلح بأن العفو يكون على الدية فقط أو اقل منها أما الصلح فيكون على أكثر من الدية ويكون على غير الدية ولا شك أن من يسمونه صلحًا أقرب إلى المنطق ممن يسمونه عفوًا (1) .
184- من يملك حق العفو؟: يملك حق العفو عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد من يملك حق القصاص (2) ، والقصاص عندهم حق لجميع الورثة من ذوى الأنساب والأسباب الرجال والنساء والصغار والكبار. فكل واحد منهم يملك العفو إذا كان بالغًا عاقلاً فإن لم يكن كذلك فلا يملك التصرف فيه وإن كان الحق ثابتًا لأنه من التصرفات الضارة والتى لا تجوز إلا للعاقل البالغ (3) .
ويملك العفو عند مالك من يملك حق القصاص، وهو العاصب الذكر الأقرب درجة للمقتول والمرأة الوارثة التى لا يساويها عاصب فى الدرجة، والتى لو كان فى درجتها رجل ورث بالتعصيب (4) ، ويشترط مالك أيضًا فى العافى أن يكون بالغًا عاقلاً.
185- هل يملك العفو فرد عند تعدد المستحقين؟: إذا كان المستحق للقصاص واحدًا بالغًا عاقلاً رجلاً أو امرأة فهو يملك العفو وحده عند
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص230 , مواهب الجليل ح6 ص252.
(2) راجع الفقرة 163.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص246 , المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ح9 ص388.
(4) راجع الفقرة 163.(2/159)
أبى حنيفة والشافعى وأحمد وإذا عفا كان عفوه نافذًا وإذا تعدد المستحقون للقصاص فعفا أحدهم نفذ عفوه وأنتج أثره ولو لم يعف الباقون، وحجتهم أن القصاص حق مشترك بين المستحقين فإذا عفا أحدهم سقط بعفوه لأن القصاص لا يتجزأ بطبيعته إذ لا يمكن قتل بعض الجانى وإحياء بعضه وأن العفو أقرب للتقوى فهو أفضل من طلب القصاص، فمن عفا رجح عفوه على طلب القصاص ويستدلون على صحة رأيهم بما روى عن عمر من أنه أتى برجل قتل قتيلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول، وهى أخت القاتل: قد عفوت عن حقى. فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل. وفى رواية عن زيد قال: دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فقال بعض إخوتها: قد تصدَّقت، فقضى لسائرهم بالدية. وروى عن قتادة: أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم، فقال عمر لابن مسعود: ما تقول: قال: إنه قد أُحرز من القتل. فضرب على كتفه وقال: كُنَيْفٌ مُلئ علمًا.
وزوال الزوجية بالموت لا يمنع استحقاق القصاص ثم العفو، كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوق القتيل الموروثة عنه، سواء على رأى القائلين بأن القصاص يرثه الورثة ابتداء أو يرثونه عن القتيل.
أما مالك فيرى أن المستحقين إذا كانوا رجالاً متساوين فى الدرجة فالعفو يملكه أى واحد منهم فإن كان فيهم من هو أعلى درجة فالعفو له دون غيره، وإن كان المستحقون نساء فالعفو لأعلاهن درجة كالبنت مع الأخت فالعفو للبنت دون الأخت ولو أن كليهما وارثة. هذا إذا كان القتل بغير قسامة فلا عفو إلا باجتماع النساء والعَصَبة. وإن كان المستحقون نساء وكلهم من درجة واحدة فعفت إحداهن فلا يعتبر العفو إلا إذا أقره الحاكم. وإذا كان المستحقون رجالاً ونساء أعلى درجة منهم وكان للرجال كلام لكونهم وارثين وثبت القتل ببينة أو إقرار أو قسامة أو كان الرجال وارثين ولكن ثبت القتل بقسامة فلا عفو إلا بإجماع الفريقين أو بإجماع بعض هؤلاء وبعض هؤلاء. أما إذا كان(2/160)
الرجال مساوين للنساء فى الدرجة أو أعلى منهن فلا كلام للنساء معهم والاستيفاء للعاصب وحده (1) .
186- متى يعفو الولى؟: قد يكون العفو من الولى قبل الموت وقد يكون بعده، ولكل حالة حكمها الخاص. وقد يكون العفو من الولى المستحق الذى لا شريك له، وقد يكون من ولى له شركاء وقد يكون عن بعض الجناية دون البعض.
187- عفو الوالى بعد الموت: إذا استحق ولى الدم القصاص وحده فعفا بعد موت القتيل وكان ممن يملك العفو ترتب على عفوه أثر وسقط القصاص عن القاتل، سواء كان العفو مطلقًا غير مقيد أو كان العفو على الدية، وسواء قَبل الجانى دفع الدية أم لم يقبل، وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، أما مالك فيرى أن حق القصاص لا يسقط إلا إذا قبل الجانى دفع الدية إذا كان العفو على الدية. وأساس الخلاف أن العفو على الدية يوجبها على الجانى عند الشافعى وأحمد فلا حاجة لرضاه، ولكن الدية لا تجب عند مالك وأبى حنيفة إلا برضاء الجانى (2) .
وإذا عفا الولى عن الجانى ثم قتله بعد العفو عنه اعتبر الولى قاتلاً عمدًا باتفاق؛ لأن الجانى بالعفو عنه صار معصوم الدم (3) ، وإذا استحق قصاصًا على شخص فقطع يده ثم عفا عنه بعد ذلك فهو مسئول عن قطع اليد عند مالك وأبى حنيفة، ولا مسئولية عليه عند الشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد. وحجة الفريق الأول أن حق من له القصاص فى الفعل وهو القتل، لا فى المحل وهو النفس، وإن كان فى النفس فهو فى القتل لا فى القطع لأن حقه فى المثل ومثل القتل هو القتل، فإذا قطعها فقد استوفى ما ليس له بحق ويرى مالك القصاص ولكن أبا حنيفة برأه للشبهة. أما الفريق الآخر فحجته أن نفس القاتل صارت ملكًا لولى
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص232.
(2) مواهب الجليل ج6 ص235 , بدائع الصنائع ج7 ص247.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص247 , الشرح الكبير ج9 ص391 , المهذب ج2 ص197 , نهاية المحتاج ج7 ص286.(2/161)
القتيل، والنفس اسم لجملة الأجزاء، فإذا قطع يده فقد استوفى حق نفسه وإذا كان قد عفا، فالعفو عن الباقى لا عما استوفاه. ومن المتفق عليه أنه إذا قطعه ثم قتله فلا شئ عليه إلا التعزير لتعذيبه القتيل (1) .
وإن كان القصاص على أكثر من شخص واحد كأن القاتل رجلين فأكثر فإذا عفا الولى عنهما أو عنهم جميعًا سقط القصاص، وإن عفا عن أحدهم أو بعضهم سقط القصاص عن المعفو عنهم وبقى على الآخرين؛ لأن العافى استحق على كل منهم قصاصًا كاملاً والعفو عن أحدهم لا يستوجب العفو عن الآخرين.
وإذا تعدد الأولياء فى قصاص مشترك فعفا أحدهم سقط القصاص عن القاتل؛ لأن سقوط نصيب العافى بالعفو يسقط نصيب الآخرين ضرورة لأن القصاص لا يتجزأ وهو قصاص واحد فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، وينقلب نصيب الآخرين مالاً فيأخذون حصتهم من الدية ولا يأخذون الدية كاملة لأن للعافى نصيبًا فيها فيأخذون الباقى بعد خصم نصيب العافى، أما العافى فإنه يأخذ نصيبه إذا عفا على الدية ولا يأخذه إذا عفا مجانًا (2) .
وإذا عفا أحدهم فقتله الآخر فإن لم يكن يعلم بالعفو أو علم به ولكنه لا يعرف بأن القصاص سقط فهو قاتل عمدًا عند أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد، ويدرأ عنه القصاص وعليه الدية فى ماله لأن للولى القاتل حق القصاص، وهذا يورث شبهة فى عصمة الجانى والحدود تدرأ بالشبهات ولكن زفر يرى أن عصمة الجانى عادت بالعفو فإذا قتله أحد الأولياء فقد قتل معصومًا فعليه القصاص. وفى مذهب الشافعى رأيان كلاهما يعتبره قاتلاً عمدًا، ولكن أصحاب الرأى الأول يدرؤون القصاص للشبهة وأصحاب الرأى الثانى يرون القصاص، ومذهب أحمد أن لا قصاص للشبهة.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص304 , مواهب الجليل ج6 ص235 , المهذب ج2 ص203.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص248 , مواهب الجليل ج6 ص254 , المهذب ج2 ص202 , الشرح الكبير ج9 ص390.(2/162)
وإذا قتله وهو عالم بالعفو وبسقوط القصاص كان قاتلاً عمدًا دون شبهة ووجب عليه القصاص عند أبى حنيفة وأحمد وطبقًا لأحد الرأيين فى مذهب الشافعى، أما الرأى الآخر فيشترط للقصاص أن يكون عالمًا بالعفو وأن يحكم القاضى بسقوط القصاص، وإن لم يتوفر هذان الشرطان درئ القصاص للشبهة؛ لأن مالكًا يرى أن حق الولى لا يسقط فى القود بعفو الشريك، وهذا الخلاف يعتبر شبهة تدرأ القصاص (1) [تبحث هذه المسألة من كتب المالكية] .
كل ما سبق إذا كان القصاص الواحد مشتركًا بين مستحقين متعددين فعفا أحدهم أو بعضهم عن نصيبه أما إذا وجب لكل من المستحقين قصاص كامل غير مشترك قَبل القاتل فإن الحكم يختلف، فلو قتل الجانى رجلين فعفا ولى أحدهما عن القاتل فإن عفوه لا يسقط حق ولى القتيل الآخر من القصاص من القاتل؛ لأن كل واحد من الوليين استحق على الجانى قصاصًا كاملاً مستقلاً عن القصاص الذى استحقه الآخر فإذا ما أسقط أحدهما حقه بقى حق الآخر، بخلاف القصاص المشترك فإن عفو أحد الشريكين فيه يسقط حق الشريك الآخر؛ لأن حق القصاص لا يتجزأ ومن المحال إسقاط بعضه وتنفيذ بعضه.
188- عفو الولى قبل الموت: إذا عفا الولى بعد الجرح وقبل الموت ففى صحة عفوه ونفاذه رأيان:
أولهما: أن العفو غير صحيح لأنه عفا عما لم يجب له لأن القصاص لا يجب له إلا بعد وفاة موروثه ولأن العفو عن القتل يستدعى وجود القتل والفعل لا يصير قتلاً إلا بوفاة الموروث فالعفو لم يصادف محله.
ثانيهما: أن العفو صحيح لأن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلاً من يوم وجوده فكان العفو عن حق ثابت، وإذا فرض أن القتل لم يوجد من يوم الجرح فقد وجد سببه وهو الجرح المفضى إلى الموت، والسبب المفضى إلى الشئ يقام مقامه وعلى هذا يكون العفو صحيحًا (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص248 , المهذب ج2 ص197 , نهاية المحتاج ج7 ص286 , المغنى ج9 ص465 - 466.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص248 , الأم ج6 ص14.(2/163)
189- العفو من المجنى عليه: وكلما يصح أن يكون العفو من ولى القتيل يصح أن يكون العفو من القتيل قبل موته، فإن عفا المجروح عن الجانى وبرأ من جراحه دون أن يسرى إلى أعضاء أخرى فالعفو صحيح؛ لأن القاعدة أن للمجنى عليه أن يعفو عن القصاص مجانًا وله أن يعفو عن الدية أيضًا.
وإن عفا المجروح عن الجانى فسرى الجرح إلى عضو آخر كأن قطع إصبعه فعفا عنه، ثم سرى الجرح إلى اليد فأتلفها، فيرى أبو حنيفة أن العفو صحيح، سواء عن الجرح أو عن الجرح وما يحدث منه؛ لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها. أما الشافعى وأحمد فيفرقان بين ما إذا كان العفو شاملاً الجناية وما يحدث منها وفى هذه الحالة يصح العفو، وبين ما إذا كان العفو قاصرًا على الجرح فقط ففى هذه الحالة يكون الجانى مسئولاً عن السراية ولكن لا يقتص منه لأن القصاص فى الإصبع سقط بالعفو ولا يجب فى الكف لأنها تلفت بالسراية، فإذا كان العفو على الدية وجبت الدية فى اليد كلها، وإن كان العفو مجانًا وجبت الدية دون الأَرْش فيما تسرى إليه، والظاهر أن هذا الحكم عند مالك (1) .
وإن عفا المجروح ثم سرى الجرح إلى النفس ومات، فيرى أبو حنيفة وأصحابه أن العفو إذا كان بلفظ الجناية أو الجراحة وما يحدث منها صح العفو ولا شئ على القاتل لأن لفظ الجناية يتناول القتل، وكذلك لفظ الجراحة وما يحدث منها، فكان ذلك عفوًا عن القتل، وأما إذا كان العفو بلفظ الجراحة فقط ولم يذكر ما يحدث منها، لم يصح العفو عند أبى حنيفة وكان الجانى مسئولاً عن القتل العمد، ولكن تجب الدية بدلاً من القصاص درءًا لشبهة العفو، وعند محمد وأبى يوسف العفو صحيح ولا شئ على القاتل، لأن العفو عن الجراحة يشمل الجراحة وما يتولد عنها من السراية، لأن السراية أثر
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص249 , المهذب ج2 ص212 , المغنى ج9 ص472 , شرح الدردير ج4 ص235 , مواهب الجليل ج5 ص86 , 87.(2/164)
الجرح، والعفو عن الشئ عفو عن أثره. وحجة أبى حنيفة أن حق المجنى عليه فى موجب الجناية أى القصاص لا فى عين الجناية أى الجرح وعين الجناية، ومن لا يتصور بقاؤه فلا يتصور العفو عنه، فكان عفو المجنى عليه عفوًا عن موجب الجراحة وبالسراية تبين أن لا موجب بهذه الجراحة، وأن الواجب عند السراية هو موجب القتل أى القصاص، كذلك فإن الجرح غير القتل، فالعفو عن أحدهما ليس عفوًا عن الآخر (1) .
ويقترب رأى الشافعى من رأى أبى حنيفة، فإن كان العفو عن الجناية وديتها وما يحدث منها فلا قصاص ولا دية، وإن كان عن الجناية فقط سقط القصاص ولم تسقط دية النفس، لأنه أبرأ فيها قبل الوجوب. أما سقوط القصاص فبالعفو بعد الوجوب ويسقط فى النفس لأنه لا يتبعض (2) . وفى مذهب أحمد رأيان: رأى يماثل رأى الشافعى ورأى يماثل أبى يوسف ومحمد (3) .
أما إذا كان الجرح أو الجناية لا يجب فيه القصاص كجائفة أو قطع يد من الساعد، فإن العفو لا أثر له عند الشافعى وأحمد، لأن العفو عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يصادف العفو محله، بخلاف ما إذا كان الجرح أو الجناية يجب فيه القصاص، فإن العفو يصادف محله فى الجرح، ويسقط القصاص فى النفس لأنه سقط فى الجرح، إذ القصاص لا يتبعض فإذا سقط فى البعض سقط فى الكل (4) .
وعند مالك: إذا كان العفو عن الجرح وما ترامى إليه من عضو أو نفس فالعفو صحيح نافذ، وإن كان العفو عن الجرح دون بيان فهو محمول على أنه عفا عما وجب له فى الحال، ويسأل عن السراية للعضو والنفس، ويعتبر فى حالة السراية إلى النفس قاتلاً عمدًا ويقتص منه بقسامة فى حالة العمد (5) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص249.
(2) المهذب ج2 ص202 , 203.
(3) الشرح الكبير ج9 ص427 وما بعدها , المغنى ج9 ص475 وما بعدها.
(4) المهذب ج2 ص203 , الشرح الكبير ج9 ص429 وما بعدها , المغنى ج9 ص475 وما بعدها.
(5) مواهب الجليل ج6 ص255 , 256 وج5 ص86, 87.(2/165)
فالفرق بين الشافعى وأحمد وبين مالك، أنه يجعل القصاص فى كل حال، ولكنهما يجعلانه فى حالة ما إذا كانت الجناية لا توجب القصاص، أى أن رأى مالك يتفق مع رأى أبى حنيفة ويخالفه فقط فى أنه لا يدرأ القصاص للشبهة، ولكن بعض الفقهاء المالكيين يفرق بين ما إذا كان الجرح يجب فيه القصاص أو لا يجب، ويجعل القصاص قاصرًا على الجناية التى لا يجب فيها القصاص.
هل يعتبر عفو المجنى عليه وصية للقاتل؟: للفصل فى هذه المسألة أهمية كبرى لأن اعتبار العفو وصية يوجب أن يكون المعفو عنه فى ثلث التركة حيث لا تصح الوصية فى أكثر من ثلث التركة، فإن كان المعفو عنه فى ثلث التركة فالعفو نافذ إذا كان صحيحًا وتوفرت شروطه وإن كان المعفو عنه يزيد على ثلث التركة نفذ العفو فيما يساوى ثلث التركة فقط.
وإذا اعتبرنا العفو وصية فهناك رأيان: رأى يقول بأن الوصية لا يجوز أن تكون لقاتل ورأى يرى الجواز، فإذا أخذ بالرأى الأول كان العفو لغوًا إلا فى الجرح الحاصل قبله، ومن رأى مالك وأبى حنيفة أن عفو المجنى عليه لا يعتبر وصية للقاتل لأن موجب العمد هو القصاص عينًا والعفو ينصب على إسقاط القصاص، والقصاص ليس مالاً يملك والوصية تمليك لما بعد الموت، فالعفو عن القصاص لا يمكن أن يكون وصية.
ويرى أحمد أن العفو لا يعتبر وصية ولو عبر عنه العافى بلفظ العفو أو الوصية أو الغبراء أو غير ذلك، لأنه إذا كان الواجب فى العمد هو أحد شيئين: القصاص أو الدية، فإن العفو قبل تعيين أحدهما لا يعتبر عفوًا عن مال، أو بمعنى آخر تمليكًا لمال، ومن ثم فلا يعتبر وصية، أما إذا تعين الموجب بأن أبرأه المجنى عليه من الدية أو أوصى له بها، فالتعرف وصية لأنه تمليك المال لما بعد الموت، وقد اختلفوا فى المذهب فى صحة الوصية لقاتل، فرأى البعض أن الوصية لا تصح لقاتل ويترتب على هذا الرأى أن الجانى يلزم بدية النفس بعد خصم دية الجرح، لأن العفو عن الجرح صادف محله فكان إسقاطًا لا وصية،(2/166)
ورأى البعض أن الوصية تصح للقاتل، ويترتب على هذا الرأى أن الدية تسقط إذا كانت تخرج من ثلث التركة، فإن كانت الدية أكثر من الثلث سقط منها بقدر ثلث التركة، ووجب الباقى على الجانى (1) .
ومذهب الشافعى على أن العفو إذا جاء فى صيغة الوصية فهو وصية لقاتل، كأن يقول: أوصيت له بأرش هذه الجناية، فإذا جاء العفو بلفظ العفو أو الإبراء أو الإسقاط فيرى البعض أنه وصية أيضًا لأنه تبرع، ويرى البعض أنه ليس وصية لأنه إسقاط ناجز، والوصية معلقة بحالة الموت، والرأى الأخير هو الراجح، وكما اختلفوا فى حكم الوصية للقاتل هل هى صحيحة أم لا؟ فقال البعض إنها صحيحة وهو الرأى الراجح وقال البعض إنها غير صحيحة، ويترتب على هذا الخلاف فى صحة الوصية ما سبق أن بيناه (2) .
* * *
الصلح
190- لا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلح على القصاص وأن القصاص يسقط بالصلح: ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها، والأصل فيه السنة والإجماع، فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل عمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثين حقَّة وثلاثين جَذَعة وأربعين خَلفة وما صولحوا عليه فهو لهم"، وفى عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلاً (3) ، فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله.
ولما كان القصاص ليس مالاً جاز الصلح عنه بما يمكن أن يتفق عليه الفريقان؛ لأنه صلح عما لا يجرى فيه الربا فأشبه الصلح على العروض، فيصح أن
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص424 , 425 , الإقناع ج4 ص188.
(2) تحفة المحتاج ج7 ص296 , 297 , المهذب ج2 ص203.
(3) المغنى ج9 ص477.(2/167)
يكون بدل الصلح قليلاً أو أكثر من جنس الدية أو من خلاف جنسها، حالاً أو مؤجَّلاً، بخلاف ما إذا كان الصلح على الدية وليس على القصاص فإنه لا يجوز أن يكون على أكثر مما تجب فيه الدية لأن ذلك يعتبر ربًا، فمثلاً لا يصح الصلح على الدية مقابل مائة وعشرين من الإبل؛ لأن الدية مائة من الإبل ولأن الزيادة ربًا.
191- الفرق بين العفو والصلح: العفو هو إسقاط دون مقابل أما الصلح فهو إسقاط بمقابل، وقد ذكرنا أن مالكًا وأبا حنيفة يعتبران العفو عن القصاص على الدية صلحًا لا عفوًا لأن الواجب بالعمد عندهما هو القصاص عينًا والدية لا تجب إلا برضاء الجانى، فإسقاط القصاص على الدية يقتضى رضاء الطرفين فهو صلح لا عفو. أما الشافعى وأحمد فيعتبران العفو على الدية عفوًا لا صلحًا؛ لأن الواجب عندهما أحد شقى القصاص أو الدية والخيار للولى دون حاجة لرضاء الجانى، ومن ثم كان التصرف إسقاطًا من طرف واحد فهو عفو.
192- من يملك الصلح؟: يملك الصلح من يملك حق القصاص وحق العفو، وقد سبق أن بينا ذلك بمناسبة الكلام على العفو، ونزيد عليه هنا أن الشافعى وأحمد يجعلان العفو للسلطان لولى الصغير والجنون على الدية، أما مالك وأبو حنيفة فيجعلان لهم حق الصلح لا العفو لأن العفو عندهما إسقاط دون مقابل لما بينا، ويشترطان أن لا يكون الصلح على أقل من الدية، فإن صالح أحدهما على أقل من الدية صح الصلح ووجب باقى الدية فى ذمة لجانى، فإذا كان الجانى معسرًا وقت الصلح فيرى مالك عدم الرجوع عليه.
193- ويصح أن يكون الصلح من المجنى عليه ويصح أن يكون من الولى قبل الموت أو بعده: وحكم الصلح فى هذه الحالات جميعًا هو حكم العفو على الوفاق والخلاف الذى ذكرنا فى العفو.
194- وإذا صالح الولى القاتل على مال ثم قتله فهو قاتل له عمدًا: وقد مرت المسألة فى العفو. وإذا تعدد الأولياء والقصاص مشترك فصالح أحدهم سقط القصاص عن القاتل وانقلب نصيب الآخرين مالاً؛ لما ذكرنا فى العفو، وإذا قتله(2/168)
أحد الآخرين بعد عفو صاحبه؛ على التفصيل والخلاف والوفاق الذى ذكرنا فى العفو. وإذا تعدد الأولياء ولكل منهم قصاص كامل فصالح ولى أحد القتلة فللآخرين أن يستوفوا، ولو تعدد القاتلون فصالح الولى أحدهم كان له أن يقتص من الآخرين، وهكذا كل ما ذكر فى العفو ينطبق فى حالة الصلح.
195- وصلح المجنى عليه حكمه حكم عفوه: سواء سرى الجرح وانتهى بالبرء أو الموت على الوفاق والخلاف الذى ذكرنا فى العفو، لكن إذا اعتبر الصلح غير نافذ ولم يقره الأولياء فعليهم أن يردوا للجانى مقابل الصلح إذا كان القتيل قد تسلمه.
* * *
إرث حق القصاص
196- يسقط القصاص إذا ورثه من ليس له القصاص من القاتل، كما يسقط إذا ورثه القاتل كله أو بعضه: فإذا كان فى ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص لأن القصاص لا يتجزأ، وما دام لا يجب بالنسبة لولد القاتل لأن الولد لا يقتص من أبيه فهو لا يجب للباقين. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث له سوى القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فسقط القصاص. وكذلك الحكم لو ورث بعضه فإن القصاص يسقط ولمن بقى من المستحقين نصيبهم من الدية (1) . ومن الأمثلة التى يضربونها على سقوط القصاص بإرثه ما يأتى:
إذا قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى، وسواء كان الولد ذكرًا أو أنثى أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه فى الميراث أو لم يكن؛ لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه لأنه إذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص251 , شرح الدردير ج4 ص233 , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج7 ص362 وما بعدها.(2/169)
لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقى القصاص عن نصيبه منها.
إذا قتل رجل أخاه فورثه ابنه أو أحد يرث منه شيئًا من ميراثه لم يجب القصاص؛ لما ذكرنا. ولو قتل خال ابنه فورثت أم ابنه القصاص أو جزءًا منه ثم ماتت فورثها ابنها سقط القصاص، ولا عبرة بكون الابن لم يرث القصاص إلا بعد وقوع القتل إذ القاعدة أن ما منع مقارنًا أسقط طارئًا.
ولو قتلت امرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص، سواء صار إليه ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره.
ابنان قتل أحدهما أباه والآخر أمه، فإن كانت الزوجية قائمة حال قتل الأول فالقصاص على قاتل الأم دون قاتل الأب. لأن الأم ورثت جزءًا من دم لأب فلما قُتلت ورثها قاتل الأب فورث جزءًا من دم نفسه فسقط عنه القصاص وبقى له القصاص على أخيه (1) ، وإن لم تكن الزوجية قائمة وقت القتل فعلى كل من الولدين القصاص لأخيه لأنه ورث الذى قتله أخوه وحده دون قاتله، فإن بادر أحدهما فقتل صاحبه فقد استوفى حقه وسقط القصاص عنه، لأنه يرث أخاه لكونه قتلاً بحق، فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه، فإذا لم يبدأ أحدهما الآخر بالقتل فقد اختلف أيهما يقتل أولاً، لأن القصاص من أحدهما يسقط القصاص عن الآخر إذا كان يرثه، ففى مذهب أحمد يرى البعض البدء بمن ارتكب جريمته أولاً، ويرى البعض الاقتراع بينهما والرأى الأخير مذهب الشافعى.
واختلفوا فى مذهب أبى حنيفة فرأى زفر ترك الأمر للقاضى يبتدئ بأيهما شاء ورأى الحسن بن زياد بأن يوكل كل منهما وكيلاً لقتل الآخر فيقتلان فى وقت واحد فلا يرث أحدهما الآخر، وقال أبو يوسف بإسقاط القصاص عنهما معًا، وحجته فى ذلك
_________
(1) هذا الحمل على مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد , أما على مذهب مالك فإن على كل ولد القصاص لأخيه كما هو فى السطر الثانى من المثال. وعلة الخلاف أن الزوجة لا تستحق عند مالك فهى لا ترث شيئاً من حق القصاص عند الأب.(2/170)
تعذر استيفاء القصاص لأنه إذا استوفى أحدهما سقط القصاص عن الآخر، وليس أحدهما بالاستيفاء أولى من الآخر، وفى استيفاء أحد القصاصين إبقاء حق أحدهما وإسقاط حق الآخر، وهذا لا يجوز، والقول باستيفائهما بطريق التوكيل غير سديد، لأن الفعلين قلما يتفقان فى زمان بل يسبق أحدهما الأخر عادة وإذا اتفق الفعلان فإن أثر كل من الفعلين وهو فوات الحياة لا يمكن أن يتفق مع أثر الفعل الآخر، فإذا تخلف الفعل أو أثره فقد ورث من وقع عليه الفعل المخلف زميله وسقط عنه القصاص فكأنه قتل دون حق (1) .
ويلاحظ أن مالكًا يفرق بين استحقاق القصاص ووارث حق القصاص، فمستحق القصاص هو العاصب الذكر والمرأة التى توفرت فيها شروط خاصة سبق بيانها (2) فإذا مات من يستحق القصاص ورثه ورثته الذين يرثون المال من غير خصوصية للقضية فيرثه البنات والأمهات ويكون لهن العفو والقصاص كما لو كانوا كلهم عصبة لأنهم ورثوه عمن كان ذلك له، ولا يستثنى من الورثة إلا الزوجين فإنهما وإن ورثا المال لا يرثان حق القصاص.
ويرى أشهب أحد فقهاء مذهب مالك أن القصاص لا يسقط عن الجانى إذا ورث جزءًا من دم نفسه إلا إذا كان من بقى من المستحقين يستقل الواحد منهم بالعفو (3) ، أما إذا كان الباقون لا يستقل أحد منهم بالعفو ولابد فى العفو من إجماعهم عليه فلا يسقط القصاص عن الجانى الوارث لجزء من دمه كمن قتل أخاه شقيقه وترك المقتول بنتين وثلاثة إخوة أشقاء غير القاتل فمات أبوهم ولا وارث له إلا إخوته الثلاثة القاتل والأخوان الآخران فقد ورث القاتل قسطًا من نفسه ولا يسقط القصاص عنه حتى تعفو البنات والأخوان الباقيان أو البعض من كل (4) ؛ أى من هؤلاء وهؤلاء.
* * *
_________
(1) المغنى ج999 ص362 وما بعدها , بدائع الصنائع ج7 ص251.
(2) راجع الفقرة 163.
(3) راجع الفقرتين 184 , 185.
(4) شرح الدردير ج4 ص233.(2/171)
الكفارة
197- الأصل فى الكفارة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} [النساء: 92] .
198- والكفارة عقوبة أصلية: وهى عتق رقبة مؤمنة فمن لم يجدها أو يجد قيمتها يتصدق بها فعليه صيام شهرين متتابعين، فالصوم عقوبة بدلية لا تكون إلا إذا امتنع تنفيذ العقوبة الأصلية.
199- وظاهر من النص أن الكفارة شرعت فى القتل الخطأ: ومن المتفق عليه أنها واجبة فى القتل الخطأ وكذلك فى القتل شبه العمد لأنه يشبه الخطأ من وجه ولكنهم اختلفوا فى وجوبها فى القتل العمد فرأى الشافعى أنها تجب فى العمد لأنها إذا وجبت فى قتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن تجب فى العمد وشبه العمد وقد تغلظ بالإثم أولى. واستند إلى ما رواه واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبى - صلى الله عليه وسلم - بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال: "اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو فيها عضوًا منه من النار" (1) . ولأحمد رأى يتفق مع رأى الشافعى ولكن المشهور فى مذهبه أن لا كفارة فى القتل العمد، وحجة القائلين بأن لا كفارة فى العمد أن النص الخاص بالقتل جاء خلوًا من الكفارة وأن الله جعل جزاء القتل العمد القصاص من القاتل وجهنم خالدًا فيها ومفهوم هذا أن لا كفارة فى القتل العمد، ويستندون إلى أن سويد بن الصامت قتل رجلاً فى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأوجب عليه القود ولم يوجب كفارة.
_________
(1) المهذب ج2 ص334.(2/172)
وأن عمرو بن أمية الضمرى قتل رجلين فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم -، فوداهما ولم يوجب كفارة (1) .
ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن لا كفارة فى القتل العمد؛ لأن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة فلابد من أن يكون سببها دائر بين الحظر والإباحة لتعلق العبادة بالمباح والقتل بالمحظور وقتل العمد كبيرة محضة فلا تناظر به الكفارة، ولأن الكفارة من العقوبات المقدرة فلا يجوز إثباتها بالقياس بل لابد من النص عليها (2) .
ولا يوجب مالك الكفارة فى القتل العمد، ولكنه يراها مندوبًا إليها فى العمد الذى لم يقتص فيه سواء كان عدم القصاص راجعًا لمانع شرعى أو للعفو (3) .
وسنذكر فيما يلى أحكام الكفارة مقارنة فى المذاهب مع ملاحظة الفرق بين من يجيزها فى القتل العمد ومن لا يجيزها.
200- على من تجب الكفارة؟: تجب الكفارة عند الشافعى وأحمد على القاتل أيًا كان بالغًا أو غير بالغ عاقلاً أو مجنونًا مسلمًا أو غير مسلم، لا يستثنى من ذلك إلا الحربى، فتجب على الذمى والمعاهد والمستأمن (4) .
ويرى مالك أنها تجب على الصبى البالغ والعاقل والمجنون، ولكنها لا تجب إلا على مسلم لأنها عقوبة تعبدية (5) .
ويرى أبو حنيفة أن الكفارة لا تجب إلا على مسلم بالغ، فهى لا تجب على الصبى والمجنون وغير المسلم، لأن الصبى والمجنون لا يخاطبان بالشرائع أصلاً، أى لا مسئولية عليهما، ولأن غير المسلم لا يلزم بما هو عبادة، والكفارة وإن
_________
(1) المغنى ج10 ص40.
(2) البحر الرائق ج8 ص291.
(3) مواهب الجليل ج6 ص268.
(4) المغنى ج10 ص38 , نهاية المحتاج ج7 ص364 , 365.
(5) شرح الدردير ج4 ص254 , مواهب الجليل ج6 ص268.(2/173)
كانت عقوبة إلا أنها فى الوقت نفسه عبادة. ويدر على أبى حنيفة بأن الكفارة عقوبة مالية، والمجنون والصغير وإن لم يسألا عن فعلهما من الناحية الجنائية فهما ضامنان له من الناحية المالية، وأما الكافر فيلزم بها لعموم النص.
201- تعدد الكفارة بتعدد الجناة: إذا تعدد الجناة فى قتل يوجب الكفارة لزم كل جان كفارة مستقلة، وعلى هذا أجمع الأئمة الأربعة؛ لأن الكفارة عن الفعل فلا تتبعض، وتكون كاملة فى حق كل واحد من المشتركين فى القتل كالقصاص يجب على كل مشترك فى القتل.
وهناك رواية عن أحمد ورأى فى مذهب الشافعى بأن على الجميع كفارة واحدة، وهذا يتفق مع رأى أبى ثور والأوزاعى، وحجة أصحاب هذا الرأى أن النص أوجب فى القتل دية واحدة وكفارة واحدة، وإذا كان من المسلم به أن الدية لا تتعدد فكذلك يجب أن يكون شأن الكفارة (1) .
202- وكفارة القتل - كما قلنا - هى عتق رقبة مؤمنة: فإن لم يجدها القاتل فى ملكه فاضلة عن حاجته، أو يجد ثمنها فى ماله فاضلاً عن كفايته، فصيام شهرين متتابعين، فليس بشرط إذن أن تكون الكفارة عتق رقبة بالذات لأن قيمتها تقوم مقامها، وعلى هذا يمكن أن نقول: إن الكفارة بعد إلغاء الرق لا تكون بعتق رقبة، وإنما تكون بالتصدق بقيمة الرقبة إذا كان لدى القاتل ما يفيض عن حاجته، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وتقدير قيمة الرقبة يترك لأولياء الأمور.
وإذا لم يستطع القاتل الصيام فيرى البعض أن الصيام يثبت فى ذمته حتى يستطيعه أو يستطيع قيمة الرقبة، ويرى البعض أن على القاتل إذا لم يستطع الصوم أن يطعم ستين مسكينًا قياسًا على ما جاء فى كفارة الظهار، ويعترض على هذا الرأى بأن الله ذكر العتق والصيام فقط فى القتل، وذكر العتق
_________
(1) المغنى ج10 ص39 , 40 , المهذب ج2 ص234 , مواهب الجليل ج6 ص268.(2/174)
والصيام والإطعام فى الظهار، ولو وجب الإطعام فى القتل لذكره كما ذكره فى حالة الظهار (1) .
هل تجب الكفارة فى كل قتل؟: تجب الكفارة فى القتل المحرم فقط، أما القتل المباح فلا تجب فيه، كقتل قاطع الطريق والقتل للقصاص وقتل الحرب والقتل دفاعًا عن النفس، وتجب الكفارة سواء كان القتيل مسلمًا أو غير مسلم، ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، وسواء كان القتل فى دار الإسلام أو دار الحرب باتفاق.
واختلف فى قتل النفس: فرأى الشافعى أن على قاتل نفسه الكفارة فى ماله لأن القتل محرم والنص عام يدخل تحت قتل النفس. وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما: يرى ما يراه الشافعى، والثانى: يرى أن لا كفارة فى قتل النفس؛ لأن النص مقصود به قتل الغير بدليل قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، وقاتل نفسه لا تجب فيه دية كما أن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ، ولم يأمر النبى عليه السلام فيه بكفارة، ويرى مالك وأبو حنيفة أن لا كفارة فى قتل النفس (2) .
القتل المباشر والقتل بالتسبب: وتجب الكفارة عند مالك والشافعى وأحمد سواء كان القتل مباشرًا أو تسببًا، ويرى أبو حنيفة أن لا كفارة فى القتل بالتسبب أيًا كان نوعه؛ أى ولو كان خطأ (3) .
* * *
العقوبات البدلية للقتل العمد
203- عقوبات القتل العمد البدلية ثلاثة: الدية، والتعزير، والصيام. والدية والتعزير بدل من القصاص والصيام بدل من الكفارة، وسنبين فيما يلى أحكام هذه العقوبات الثلاث واحدة بعد الأخرى.
_________
(1) المغنى ج10 ص41 , المهذب ج2 ص234.
(2) شرح الدردير ج4 ص254 , المغنى ج10 ص38 , 39 , نهاية المحتاج ج7 ص365 , 366 , بدائع الصنائع ج7 ص252.
(3) البحر الرائق ج8 ص293 , المغنى ج10 ص33 , المهذب ج2 ص234.(2/175)
أولاُ: الدية:
204- الأصل فى وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] .
وأما السنة: فقد روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم كتابًا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه: "وإن فى النفس مائة من الإبل". وأجمع أهل العلم على وجوب الدية فى الجملة.
205 - والدية فى القتل العمد ليست عقوبة أصلية: وإنما هى عقوبة بدلية قررت بدلاً من العقوبة الأصلية وهى القصاص، وتحل الدية محل القصاص كلما امتنع القصاص أو سقط بسبب من أسباب الامتناع أو السقوط بصفة عامة، مع مراعاة أن هناك حالات يسقط فيها القصاص ولا تحل محله الدية كحالة العفو مجانًا وكحالة موت الجانى عند مالك وأبى حنيفة، ولقد سبق أن بينا بتفصيل حالات سقوط القصاص، والآراء المختلفة فيها وما يحل محل القصاص.
ولا تعتبر الدية فى حالة قتل الأب ولده عقوبة أصلية؛ لأن العقوبة الأصلية للقتل هى القصاص، وإنما استثنى الأب منها لقوله عليه السلام: " لا يقاد الوالد بولده "، والتعبير بلفظ يقاد دليل على أن القود هو الأصل ولكن صلة الأبوة تمنع منه فحلت الدية محلة.
206- الأجناس التى تجب فيها الدية: تجب الدية عند مالك وأبى حنيفة فى ثلاثة أجناس: الإبل، والذهب، والفضة (1) .
ولا تجب الدية فيها كلها، وإنما فى واحد منها فإذا قضيت الدية من الإبل أو من الذهب أو من الفضة فالقضاء صحيح، لأن كل واحد من هذه الأجناس
_________
(1) وحجتهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فى النفس المؤمنة مائة من الإبل " وأنه جعل دية كل ذى عهد على عهده ألف دينار.(2/176)
يقوم مقام الآخر. ويرى أحمد ومعه أبو يوسف ومحمد أن الدية تجب فى ستة أجناس: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحُلَل (1) .
وكان الشافعى يرى قديمًا رأى مالك وأبى حنيفة ثم عدل عنه وقال: إن الدية تجب فى جنس واحد هو الإبل، وأساس رأى الشافعى الأخير أن الإبل هى الأصل فى الدية، وأن ما عدا الإبل من الذهب أو الفضة أو غيرها أبدال تزيد وتنقص بحسب زيادة قيمة الإبل ونقصها وليست هذه الأبدال أصولاً ثابتة كالإبل.
وحجة الشافعى حديث الزهرى قال: "كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، قيمة كل بعير أوقية، ثم غلت قيمة الإبل فصارت قيمة كل بعير أوقية ونصفًا ثم غلت فصارت قيمة كل بعير أوقيتين، فما زالت تغلو حتى جعلها عمر عشرة آلاف درهم أو أربعمائة دينار" ويستدل الشافعى على أن الأصل هو الإبل بأن التغليظ جاء فى الإبل لا فى غيرها فلو كان غيرها أصولاً لجاء فيها التغليظ أيضًا (2) .
وباقى الفقهاء يسلمون بأن الإبل هى الأصل فى الدية، وأن تقدير الذهب والفضة وغيرها روعى فيه وقت التقدير قيمة الإبل، ولكنهم لا يعتبرون ما عدا الإبل أبدالاً عنها، ويرون أن الذهب والفضة أصبحت أصولاً، أو يرون أنها والدية جميعًا أبدال من التلف وهو القتيل فصفتها واحدة ولا يتميز جنس منها عن جنس.
وأهمية اعتبار أحد هذه الأجناس أصلاً أو عدم اعتباره تظهر عند تسليم
_________
(1) وحجتهم عمل عمر رضى الله عنه فإنه قضى بالدية من هذه الأجناس جميعاً حين كان الديات على العواقل , وروى عن عمرو بن شعيب أنه قام: خطيباً فقال: ألا إن الغبل قد غلت , فقوَّم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفاً , وعلى أهل البقر مائتى بقرة , وعلى أهل الشاء ألفى شاة , وعلى أهل الحلل مائتى حُلة.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص299 وما بعدها , المهذب ج2 ص209 وما بعدها.(2/177)
الدية، فإذا اعتبرت الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل أصولاً لم يكن لولى الدم أن يمتنع عن تسلم أى شئ منها أحضره من عليه الدية، ويلزم الولى بأخذه دون أن يكون له المطالبة بغيره لأنها جميعًا أصول فى قضاء الواجب يجزى واحد منها، فالخيرة فيها لمن وجبت عليه الدية لا لمن وجبت له. أما إذا قيل إن الإبل هى الأصل خاصة فعلى القاتل تسليمها للولى سليمة من العيوب، وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها، وإذا أعوزت الإبل ولم توجد فعلى القاتل ثمنها مهما بلغت قيمة الإبل ولو زادت على ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم. وكان رأى الشافعى قديمًا كرأى مالك وأبى حنيفة يقضى فى حالة إعواز الإبل بدفع ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم لأنه كان يعتبر الإبل والذهب والفضة أصولاً كلها، وإذا قلت قيمة الإبل بحسب رأى الشافعى ولم تصل إلى ألف دينار فالولى ملزم بأخذها مهما قلت قيمتها لأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته كذوات الأمثال، ولأن حق الولى يتعين فى الإبل دون غيرها فليس له أن يطالب بأكثر منها (1) .
207 - مقدار الواجب من كل جنس: الواجب من الإبل هو مائة من الإبل، ومن الذهب ألف دينار والدينار مثقال من الذهب، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم طبقًا لرأى مالك وأحمد ورأى الشافعى القديم وعشرة آلاف درهم طبقًا لرأى أبى حنيفة، وأساس الخلاف أن الفريق الأول يجعل الدينار اثنى عشر درهمًا والفريق الثانى يجعله عشرة دراهم، ومن البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفان ومن الحلل مائتا حلة. ونلاحظ مما ذكرنا عن الاتفاق والاختلاف على تقدير هذه الأجناس.
208- على من تجب الدية فى القتل العمد: من المتفق عليه أن دية القتل العمد تجب فى مال القاتل فلا يحملها غيره عنه، وهذا يتفق مع مبادئ
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص355 , شرح الدردير ج4 ص250 , المغنى ح9 ص488 , المهذب ج2 ص209.(2/178)
الشريعة العامة التى تقضى بأن بدل التلف يجب على المتلف وأن أرش الجناية على الجانى، ويتفق مع قول الرسول عليه السلام: " لا يجنى جان إلا على نفسه " والواقع أن الجناية هى أثر فعل الجانى فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها.
مقدار ما يلزم به القاتل عن التعدد: إذا تعدد الجناة ولم يكن قصاص فعليهم دية واحدة للقتيل تقسم عليهم بحسب عددهم ولا يلتزم كل منهم بدية مستقلة، وإذا عفى عن بعض الجناة على الدية واقتص من البعض الآخر فعلى المعفو عنهم كل منهم حصته فقط من الدية مقسمة على عدد رءوس القاتلين من اقُتص منه ومن عُفى عنه.
وإذا نتج الموت من عدة أسباب كأن طعنه شخص عمدًا برمح وأصابه آخر خطأ وعقرته دابته بعد ذلك فمات من هذه الحالات الثلاثة، فعلى المتعمد ثلث الدية بغض النظر عن عدد ما أحدثه من إصابات، ولا يلتزم كل واحد من القاتلين بدية مستقلة حال العفو أو امتناع القصاص ولو أن عليهم القصاص جميعًا؛ ذلك لأن القصاص عقوبة على الفعل فيتعدد بتعدد الفاعلين، أما لدية فبدل المحل المتلف وهو واحد (1) .
209 - ولكن الفقهاء مع هذا اختلفوا فيمن يحمل دية القتيل إذا كان القاتل حدثًا صغيرًا أو مجنونًا فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية الواجبة على الصغير والمجنون تحملها العاقلة ولو تعمد الفعل لأنهم يرون أن عمد الصغير والمجنون خطأ لا عمدًا إذ لا يمكن أن يكون لهما قصد صحيح فألحق عمدهما بالخطأ. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما يتفق مع رأى باقى الأئمة وهو المرجوح، والثانى: يرى أن عمد الصغير والمجنون عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل العمد وإن كان لا يمكن القصاص منهما فكان عمدهما عمدًا كالبالغ العاقل، وعلى هذا تجب الدية فى مالهما (2) .
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص394 , 396.
(2) البحر الرائق ج8 ص341 , شرح الدردير ج4 ص210 , المغنى ج9 ص506 , المهذب ج2 ص210.(2/179)
210- أوصاف الإبل فى دية العمد: يرى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية فى القتل العمد مائة من الإبل، تقسم أربعًا: خمسًا وعشرين بنات مخاض، وخمسًا وعشرين بنات لبون، وخمسًا وعشرين حقَّة، وخمسًا وعشرين جَذَعة.
ويرى الشافعى ومحمد بن الحسن من فقهاء مذهب أبى حنيفة ولأحمد رأى يتفق معهما أن دية العمد مائة من الإبل مثلثة، ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خَلفة فى بطونها أولادها، وحجة هؤلاء ما روى عمرو بن شعيب أن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية وهى ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم". وما رواه عبد الله بن عمرو من أن رسول الله قال: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة فى بطونها أولادها". وما رواه عمرو بن شعيب من أن رجلاً يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فقتله فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خَلفة (1) ، والخلفة الحامل، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فى بطونها أولادها" تأكيد، وقلما تحمل إلا ثَنيَّية وهى التى لها خمس سنين ودخلت فى السادسة، وأى ناقة حملت فهى خلفة تجزئ فى الدية ولو لم تبلغ السن؛ لأن لفظ خلفه مطلق، ولو أسقطت قبل قبضها فعلى القاتل بدلها.
211- هل تغلظ الدية من العمد؟: يرى مالك تغليظ الدية من العمد فى حالة واحدة هى قتل الوالد لولده ففى هذه الحالة تغلظ الدية وتكون مثلثة بدلاً من كونها مربعة، ويلزم القاتل بمائة من الإبل ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة (2) فإن لم تكن إبل فالتغليظ من الذهب أو الفضة وذلك بأن ينظر قيمة الإبل متغلظة وقيمتها غير مغلظة والفرق بينهما ثم تضاف مثل نسبة
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص236 , 237 , بدائع الصنائع ج7 ص254 , المهذب ج2 ص209 , المغنى ج9 ص488 , 489.
(2) شرح الدردير ج4 ص237.(2/180)
هذا الفرق على الذهب أو الفضة، فمثلاً إذا كانت قيمة الدية من الإبل مخفضة ستمائة وقيمتها مغلظة ثمانمائة فالفرق بينهما يساوى ثلث المخفضة فيضاف على الذهب أو الورق ما يساوى ثلثه.
ويرى أحمد أن الدية تغلظ فى العمد لأسباب ثلاثة هى: القتل فى الحرم، والقتل فى الشهور الحرم، وقتل المحرم. واختلفوا فى المذهب فى التغليظ لقتل ذى رحم محرم، وصفة التغليظ عند أحمد أن يضاف لكل واحد من أسباب التغليظ ثلث الدية فإذا اجتمعت الأسباب الثلاثة وجبت ديتان. ولا يرى الشافعى التغليظ فى العمد وإنما يراه فى الخطأ كما سنرى فيما بعد.
وقد احتج عليه فقهاء مذهب أحمد بأنه إذا جاز التغليظ فى الخطأ فهو فى العمد أولى. والظاهر أن الشافعى لم ير التغليظ فى العمد لأنه جعل دية العمد مغلظة إذ جعلها مثلثة بينما جعلها أحمد مربعة (1) ، ولا يرى أبو حنيفة التغليظ فى العمد لأنه يرى دية العمد مغلظة بالنسبة لغيرها إذ هى مربعة بينما دية الخطأ مخمسة، ولأنها فى مال الجانى بينما دية الخطأ على العاقلة (2) .
212- وقت الدية فى العمد: يرى مالك والشافعى وأحمد أن الدية فى العمد تجب حالَّة غير مؤجَّلة، إلا إذا رضى ولى الدم بالتأجيل فيكون التأجيل مرجعه الاتفاق، وحجتهم أن الدية فى العمد بدل القصاص وهو حالٌّ فتكون مثله حالة، ولأن فى التأجيل تخفيفًا والعامد لا يستحق التخفيف (3) .
ويرى أبو حنيفة أن دية العمد تجب مؤجلة لثلاث سنوات كما هو الأمر فى دية الخطأ ويكفى العامد تغليظًا بتثبيت الدية وجعلها فى ماله (4) .
213- هل تتساوى الديات لكل الأشخاص؟: تختلف الديات لسببين، أولهما: الجنس، وثانيهما: التكافؤ. والأول متفق عليه والثانى مختلف فيه، وفيما عدا
_________
(1) المغنى ج9 ص499 وما بعدها , المهذب ج2 ص210.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص257.
(3) شرح الدردير ج4 ص250 , المغنى ج9 ص489 , نهاية المحتاج ج7 ص300.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص257.(2/181)
هذين السببين فلا اختلاف. فدية الصغير كدية الكبير، ودية الضعيف كدية القوى، ودية المريض كدية الصحيح، ودية المتعلم كدية الجاهل، ودية الشريف كدية الوضيع.
214- الجنس: اتفق الفقهاء على أن دية المرأة فى القتل نصف دية الرجل أخذًا بما نسبه الرسول حيث كتب فى كتاب عمرو بن حزم: دية المرأة على النصف من دية الرجل. وقد أجمع الصحابة على هذا فيروى عن عمر وعلى وعثمان وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أنهم قالوا: إن دية المرأة على النصف من دية الرجل، ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليهم فيكون إجماعًا ولأن المرأة فى ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل فكذلك فى ديتها (1) .
215- التكافؤ: أساس التكافؤ عند من يقول به من فقهاء الشريعة الحرية والإسلام، فإذا تكافأ الأشخاص فقد تساوت دياتهم ولا عبرة بما بينهم من اختلافات طبيعية أو غير طبيعية، ولقد ألغى الرق من العالم فلا محل للكلام على الحرية ولكننا نستطيع أن نلخص رأى الفقهاء فى ذلك فنقول: إنهم كانوا يجعلون دية الرقيق قيمته التى يساويها وقت القتل، فإن كانت أكثر من دية حر فهى ديته وإن كانت أقل فهى ديته.
أما الإسلام فلا يراه أبو حنيفة مانعًا من التكافؤ لأن أساس التكافؤ عنده الحرية فقط، ومن ثم فدية المسلم عنده تساوى دية غير المسلم سواء كان كتابيًا أو غير كتابى كالمجوسى وعابد الوثن أو الشمس، وحجة أبى حنيفة أن الله تعالى قال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] فأطلق القول فى الدية فى جميع أنواع القتل من غير فصل فدل أن الواجب فى الكل على قدر واحد، كذلك فإن الرسول عليه السلام جعل دية كل ذى عهد فى عهده ألف دينار. وروى أن عمرو بن أمية الضمرى قتل منافقين فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص254 , المغنى ج9 ص531 , المهذب ج2 ص211 , شرح الدردير ج4 ص238.(2/182)
فيهما بدية حرين مسلمين. وعن الزهرى أنه قال: قضى أبو بكر وعمر فى دية الذمى بمثل دية المسلم. وروى عن ابن مسعود أنه قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين. ثم إن وجوب كمال الدية أساسه كمال حال القتيل، فما رجع إلى أحكام الدنيا وهى الذكورة والحرية والعصمة وقد وجد كل هذا، أما الكفر فلا يؤثر فى أحكام الدنيا (1) .
ويرى مالك والشافعى وأحمد أن دية الكتابى على النصف من دية المسلم، وأن دية نسائهم على النصف من دياتهم، وحجتهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه السلام قال: "دية المعاهد نصف دية المسلم " وفى لفظ آخر: "عقل الكتابى نصف عقل المسلم " ويرى أحمد وحده أن المسلم إذا قتل ذميًا تضاعف عليه الدية فتكون دية الذمى دية كاملة، وحجته أن عثمان قضى بهذا فى رجل قتل رجلاً من أهل الذمة.
ودية المجوس عند الأئمة الثلاثة ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف من دياتهم، وعبده الأوثان ومن لا كتاب له فيلحقون بالمجوسيين (2) ، وحجتهم أن بعض الصحابة قضى بهذا وأن المجوس ومن لا كتاب له أنقص مرتبة من الكتابى لنقصان دينه.
ونظرية أبى حنيفة فى التسوية بين الأشخاص دون نظر إلى أديانهم متفق مع الاتجاهات الحديثة فى التشريعات الوضعية الحديثة، فهى تسوى بين الأشخاص ولو اختلفت أديانهم فى المسائل التى لا تبنى على الدين والمتعلقة بالدنيا.
ثانيًا: التعزير:
216- يعتبر التعزير عقوبة بدلية فى القتل العمد: ويوجب مالك أن يعاقب القاتل تعزيرا كلما امتنع القصاص أو سقط عنه لسبب من الأسباب فيما عدا سقوطه بالموت طبعًا وسواء بقيت الدية أم سقطت هى الأخرى، ويرى أن
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص255.
(2) شرح الدردير ج4 ص238 , المغنى ج9 ص527 وما بعدها , المهذب ج2 ص211.(2/183)
تكون العقوبة الحبس لمدة سنة والجلد مائة جلدة (1) .
ولا يرى باقى الأئمة هذا ويقولون: إن هذا حق الله تعالى أى حق للجماعة بعد سقوط القصاص وهى تأديب للقاتل يرجع نفعه للناس كافة. ونقل ابن رشد عن أبى ثور أن القاتل إذا كان معروفًا بالشر وسقط القصاص عنه بسبب عفو ولى الدم فإن الإمام يؤدبه على قدر ما يرى. والأئمة الثلاثة لا يوجبون عقوبة معينة على القاتل إذا سقط القصاص أو عفى عنه ولكن ليس عندهم ما يمنع من عقاب القاتل عقوبة تعزيرية بالقدر الذى تراه الهيئة التشريعية صالحًا لتأديبه وزجر غيره. ويلاحظ الفرق الظاهر بين عقوبة التعزير التى تحل محل القصاص وبين عقوبة التعزير على جرائم الشروع فى القتل الخائبة، فالعقوبة فى الحالة الأولى بدلية وفى الحالة الثانية أصلية. كذلك هناك فرق بين عقوبة التعزير التى توقع على الشركاء وبين العقوبة فى الحالة الأولى، فعقوبة الشركاء أصلية لأن الشريعة لا تعاقب الشركاء بالقصاص ولا الدية وإنما تعاقبهم بالتعزير عدا ما يراه مالك فى حالة الاشتراك بالمساعدة، أما عقوبة التعزير فى الحالة الأولى فهى بدلية ولو أنها واقعة على الفاعل الأصلى.
وليس فى الشريعة ما يمنع أن تكون عقوبة التعزير فى جريمة القتل الإعدام أو الحبس مدى الحياة.
ثالثًا: الصيام:
217- الصيام عقوبة بدلية لعقوبة الكفارة الأصلية وهى العتق: ولا يجب الصيام إلا إذا لم يجد القاتل الرقبة أو قيمتها فاضلة عن حاجته، فإن وجدها فلا يجب الصيام عليه وإن لم يجد وجب عليه الصيام.
218- ومدة الصوم شهران ويشترط فى الصيام أن يكون متتابعًا: فإذا كان متفرقًا لم يجزئ وتحتسب المدة بالأهلَّة إذا صام من أول الشهر ولو
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص268.(2/184)
كان أحد الشهرين ناقصًا، فإذا صام من وسط الشهر تحتسب المدة بالأيام باعتبار الشهر ثلاثين يومًا (1) .
219- وإذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر: فيرى مالك وأبو حنيفة وبعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أن الصوم يثبت فى ذمته وليس عليه شئ آخر بدلاً من الصوم. ويرى بعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أن عليه إطعام ستين مسكينًا قياسًا على كفارة الظهار، فقد نُص فيها على العتق وعلى الصيام ثم الإطعام عند العجز عن العتق والصيام (2) .
220- ولا يجب الصيام أصلاً إلا على بالغ عاقل (3) : وترتب على هذا أن الصيام يجب تأخيره لحين البلوغ أو الإفاقة عند من يقول بأن الكفارة واجبة على الصبى والمجنون.
* * *
العقوبات التبعية للقتل العمد
221- العقوبات التبعية للقتل عقوبتان: الأولى: الحرمان من الميراث، الثانية: الحرمان من الوصية.
أولاً: الحرمان من الميراث
222- الأصل فى ذلك قوله عليه السلام: "ليس للقاتل شئ من الميراث، وليس للقاتل ميراث بعد كصاحب البقرة".
وقد اختلف الفقهاء فى تطبيق النص اختلافًا كبيرًا بحيث لا يتفق مذهبان فى هذه المسالة.
_________
(1) مواهب الجليل ج4 ص127 , مجمع الأنهر ج1 ص426 , المهذب ج2 ص129 , الإقناع ج4 ص92.
(2) شرح الدردير ج4 ص254 , البحر الرائق ج8 ص329 , المهذب ج2 ص234 , المغنى ج10 ص41.
(3) مجمع الأنهر ج1 ص224 , مواهب الجليل ج2 ص395 , المهذب ج1 ص189.(2/185)
223- فالإمام مالك يرى أن القتل المانع من الميراث هو القتل العمد، سواء كان القتل مباشرة أو تسببًا وسواء اقتص من القاتل أو درئ عنه القصاص بسبب ما.
ويلاحظ أن القتل العمد عند مالك يشمل شبه العمد أيضًا لأنه يقسم القتل إلى عمد وخطأ. أما القتل الخطأ عند مالك فلا يحرم القاتل من ميراث المقتول وإنما يحرمه فقط من الدية التى وجبت بالقتل. واختلف فى مذهب مالك فى الصغير والمجنون إذا قتلا عمدًا هل يمنعان من الميراث أم لا؟ فرأى البعض أن لا يمنعا من الميراث لأن عمدهما كخطئهما، ولرأى البعض حرمانهما من الميراث، وهو الراجح فى المذهب.
وإذا كان القتل عمدًا ولكنه غير عدوان فلا يحرم من الميراث كالقتل دفاعًا عن النفس، فمن قتل ولده دفاعًا عن نفسه يرث ولده، والحاكم الذى ينفذ القصاص أو الحد على ولده يرثه (1) .
224- ويرى أبو حنيفة: أن القتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ وما جرى مجرى الخطأ - كل هذه الأنواع من القتل تحرم القاتل من الميراث بشروط:
أولها: أن يكون القتل مباشرًا فإن كان القتل بالتسبب فلا حرمان من الميراث ولو كان القتل عمدًا.
وثانيها: أن يكون القاتل بالغًا عاقلاً، فإن كان صغيرًا أو مجنونًا فلا حرمان.
وثالثها: أن يكون القتل فى العمد وشبه العمد عدوانًا فإن كان بحق كالقتل دفاعًا عن النفس فلا يكون القتل مانعًا من الميراث (2) .
225- واختلف أصحاب الشافعى: فمنهم من فرق بين القتل المضمون وبين القتل غير المضمون ورأى الحرمان من الميراث إذا كان القتل مضمونًا لأنه
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص432 , مواهب الجليل ج6 ص422.
(2) البحر الرائق ج8 ص488 - 500.(2/186)
قتل بغير حق، أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث لأنه قتل بحق.
ومنهم من قال: إن كان متهمًا باستعجال الميراث حرم من الميراث كما فى القتل الخطأ وكما لو حكم حاكم فى الزنا على أساس البينة على مورثه فإنه يحرم لأنه متهم فى قتله لاستعجال الميراث، وإن لم يكن متهمًا باستعجال الميراث فلا حرمان لو حكم عليه فى الزنا بإقراره.
والرأى الراجح فى المذهب غير هذين: وهو أن القاتل يحرم من الإرث فى كل حال سواء كان القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ وسواء كان مباشرة أو تسببًا، وسواء كان القتل بحق أو بغير حق، وساء كان القاتل بالغًا عاقلاً أو صغيرًا مجنونًا، وأصحاب هذا الرأى يرون أن الحرمان من الميراث قصد به سد الذرائع ومنع المورث من استعجال الميراث (1) .
226- ويرى أحمد أن القتل المضمون هو القتل المانع من الإرث، سواء كان عمدًا أو شبه عمد أو خطأ وسواء كان مباشرة أو تسببًا، وسواء كان من صغير أو مجنون أو من بالغ عاقل، أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث كالقتل دفاعًا عن النفس والقتل قصاصًا. ويعللون حرمان الصبى والمجنون من الميراث مع أن كليهما ليس أهلاً بأن ما فعله أحدهما هو فعل محرم لكنه لم يعاقب عليه عقوبة الحد لقصور أهليته، وامتناع القصاص لقصور الأهلية لا يمنع من حرمان الميراث، بل إن الاحتياط يقتضى المنع من الميراث صونًا للدماء (2) .
* * *
ثانيًا: الحرمان من الوصية
227- الأصل فى الحرمان من الوصية قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لقاتل"، "ليس لقاتل شئ" وذكره "الشئ" نكرة فى محل النفى يعم الميراث والوصية جميعًا.
_________
(1) المهذب ج2 ص26.
(2) الغقناع ج3 ص123 , أحكام المرأة ص586 وما بعدها , مجلة القانون والاقتصاد - السنة السادسة.(2/187)
وقد اختلف الفقهاء فى تفسير هذين النصين وتطبيقهما:
228- ففى مذهب مالك يفرقون بين القتل العمد والخطأ كما فرقوا فى الميراث، ويتفقون على أن القتل الخطأ لا يصلح سببًا للحرمان من الوصية، فالقاتل خطأ تصح الوصية له فى المال ولو لم يكن المقتول عالمًا بأنه هو قاتله، فإن علم بأنه قاتله وأوصى له صحت الوصية فى المال وفى الدية.
ولكنهم اختلفوا فى القتل العمد. فرأى بعضهم أن الوصية لا تصح إذا كان المقتول لا يعلم أن الموصى له قاتله، فإن علم بأنه قاتله وأوصى له بعد الجناية فالوصية تصح فى المال ولا تصح فى الدية، لأن الدية مال لم يجب إلا بالموت. وعلى هذا إذا كانت الوصية قبل الجريمة فإنها تبطل بارتكاب جريمة العمد إلا رأى المقتول البقاء على الوصية.
ويرى البعض الآخر أن الوصية تصح للقاتل عمدًا سواء علم الوصى بأنه قاتله أو لم يعلم، ويستوى عند أصحاب هذا الرأى أن تكون الوصية قبل القتل أو بعده فهى صحيحة فى الحالين (1) .
229- ويرى أبو حنيفة حرمان القاتل من الوصية فى القتل العمد العدوانى وشبه العمد العدوانى والخطأ وما جرى مجرى الخطأ بشرط أن يكون القتل مباشرًا لا قتلاً بالتسبب وأن يكون القاتل بالغًا عاقلاً، فإن كان القتل بالتسبب أو كان الإبل صغيرًا أو مجنونًا أو كان القتل ليس عدوانًا فلا يحرم من الوصية (2) ويرى أبو حنيفة ومحمد أن الوصية تصح إذا أجازها الورثة، ويرى أبو يوسف أنها لا تصح للقاتل ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة والقتل لا ينعدم بإجازة الورثة.
230- وفى مذهب الشافعى وأحمد نظريتان:
أما الأولى: فيرى أصحابها أن الوصية لا تصح لقاتل، وأصحاب هذه النظرية ينقسمون بعد ذلك
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص368 , شرح الدردير ج4 ص379.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص339 , 340.(2/188)
إلى فريقين: فريق يرى أن الوصية لا تصح ولو أجازها الورثة لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة فإجازة الورثة تكون هبة مبتدئة ينبغى أن تتوفر فيها شروط الهبة، وفريق آخر يرى أن الوصية تصح بإجازة الورثة.
والنظرية الثانية: يرى أصحابها أن الوصية صحيحة فى كل حال للقاتل دون حاجة لإجازة الورثة.
* * *
عقوبات القتل شبه العمد
231- العقوبات على القتل شبه العمد منها ما هو أصلى: وهو الدية والكفارة، ومنها ما هو بدل: وهو التعزير والصيام، ومنها ما هو تبعى: وهو الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية.
* * *
العقوبات الأصلية
أولاً: الدية:
232- الدية: هى العقوبة الأصلية الأساسية للقتل شبه العمد، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل".
وتعتبر الدية فى شبه العمد عقوبة أصلية لأنها ليست بدلاً من عقوبة أخرى، ولأنها العقوبة الأساسية لهذا النوع من القتل، ولكن الدية فى القتل العمد تعتبر عقوبة بدلية لا أصلية لأنها بدل من عقوبة القصاص وهى العقوبة الأصلية للقتل العمد.
233- الأجناس التى تجب فيها دية القتل شبه العمد: تجب دية القتل شبه العمد فى نفس الأجناس التى تجب فيها الدية فى القتل العمد. فهى عند الشافعى تجب فى الإبل وحدها، وعند مالك وأبى حنيفة تجب فى ثلاثة أجناس هى: الإبل والذهب والفضة، وعند أحمد وأبى يوسف ومحمد تجب فى ستة أجناس هى: الإبل والذهب والفضة والشعير والغنم والحلل.(2/189)
وقد بينا أسباب هذا الخلاف وسند كل فريق وأهمية هذا الخلاف، وما قلناه عن هذا كله فى دية القتل العمد يغنى عن إعادته هنا (1) .
234- مقدار الواجب من كل جنس: المقدار الواجب من كل جنس فى دية شبه العمد هو نفس المقدار الواجب فى دية القتل العمد، وقد سبق أن ذكرنا ما فيه الكفاية بمناسبة الكلام عن دية القتل العمد (2) .
235- هل تتساوى الديات لكل الأشخاص؟: تختلف الديات لسببين؛ أولهما: الجنس، وثانيهما: التكافؤ، والأول متفق عليه والثانى مختلف فيه، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بما فيه الكفاية فى الفقرة (212) وما قيل هناك هو ما يمكن أن يقال هنا.
236- أوصاف الإبل فى دية شبه العمد: هى نفس أوصافها فى دية العمد على الخلاف والوفاق إلى سبق ذكره هناك، مع ملاحظة أن شبه العمد يدخل فى العمد عند مالك إلا ما كان على وجه العب أو التأديب لأن القتل عنده إما عمد وإما خطأ.
237- هل تغلظ الدية فى شبه العمد؟: لا يرى التغليظ فى شبه العمد إلا أحمد للأسباب التى بيناها عند الكلام على التغليظ فى دية العمد، وصفة التغليظ وكيفيته هناك هى صفته وكيفيته هنا. ومن يقول من المالكية بشبه العمد يرى أن الدية تغلظ فى شبه العمد وهو ضرب المؤدب والأب ولده والأم والأجداد وفعل الطبيب والخاتن وهو كل من جاز فعله شرعًا، وقيل: اللطمة والوكزة والرمية والحجر والضرب بعصاة متعمدًا فهذا شبه العمد وتكون فيه دية مغلظة على الجانى وليست على العاقلة (3) ، والرأى المشهور فى مذهب مالك أنه لا يعرف شبه العمد.
_________
(1) راجع الفقرة 206.
(2) راجع الفقرة 207.
(3) مواهب الجليل ج6 ص226 , شرح الدردير ج4 ص237.(2/190)
238- على من تجب دية شبه العمد؟: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد وهم القائلون بالقتل شبه العمد أن دية شبه العمد تجب على العاقلة وليست فى مال الجانى، ويخالفهم فى هذا ابن سيرين والزهرى والحارث العكلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور وأبو بكر الأصم، ويرون أن دية القتل شبه العمد على القاتل فى ماله لأنها موجب فعله الذى تعمده فلا تحمله عنه العاقلة كما هو الحال فى العمد المحض، وهذا هو مقتضى مذهب مالك، لأن شبه العمد عنده فى حكم العمد، وهو يجعل الدية فى العمد فى مال القاتل، فكأن ما يعتبر شبه عمد عند مالك إذا وجبت فيه الدية وجبت فى مال القاتل لا فى مال العاقلة (1) .
وحجة القائلين بتحميل الدية العاقلة ما رواه أبو هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها وما فى بطنها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها" أى على عاقلة الجانية. ويقولون إن القتل العمد يختلف عن القتل شبه العمد، ففى الأول يقصد الجانى الفعل ويقصد القتل فغلظ على الجانى من كل وجه أما فى الثانى فيقصد الجانى الفعل ولا يقصد القتل، فغلظ عليه من وجه حيث جعلت عليه الدية مغلظة كما هو الحال فى دية العمد، وخففت عليه من وجه لأنه لا يقصد القتل وجعلت الدية على العاقلة كما هو الحال فى القتل الخطأ.
هل تجب الدية على الجانى ابتداء أم على العاقلة؟: اختلفوا فى التصوير القانونى لتحميل الدية، ففى مذهب الشافعى وأحمد أنها تجب على العقلة ابتداء ولا تجب على الجانى لأنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ورضاهم بها، فهم ملزمون رضوا أم لم يرضوا ولا تجب على غيرهم، والأرجح فى المذهب أنها تجب ابتداء على الجانى لأنه هو الذى ارتكب الجناية ثم تنتقل منه إلى العاقلة تخفيفًا عنه ومناصرة له، ولأن حفظ القاتل فى الواقع واجب على عاقلته فإذا لم يحفظوه فقد فرطوا، وهذا التفريط يقتضى منهم أن يتحملوا بعض نتائج ذنبه، خصوصًا وأن القاتل يقتل بظهر عشيرته فكانوا كالمشاركين له فى القتل وعلى هذا الرأى أبو حنيفة ومالك (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص255 , المغنى ج9 ص491 , المهذب ج2 ص209.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص255 , نهاية المحتاج ج7 ص350 , المغنى ج9 ص525 , 526.(2/191)
وتظهر نتيجة الفرق بين الرأيين إذا لم يكن للجانى عاقلة، أو كان له ولكنها لا تستطع حمل الدية فإن أخذنا بالرأى الأول وجب ألا يرجع على الجانى بالدية، وإن أخذنا بالرأى الثانى وجب أن يرجع عليه بها؛ لأنه هو الجانى المسئول عن الدية أصلاً (1) .
239- متى تؤدى دية شبه العمد؟: من المتفق علبه الأئمة الثلاثة أن دية شبه العمد ليست حالَّة وأنها تجب مؤجلة فى ثلاث سنوات فيؤدى فى آخر كل حول ثلثها ويعتبر بدء السنة عند الشافعى وأحمد من اليوم الذى تجب فيه الدية وهو يوم الموت ويرى أبو حنيفة أن السنة تبدأ من يوم الحكم بالدية لا من يوم الموت. وهذا هو ما يراه مالك فى دية الخطأ (2) .
وإذا كان الواجب دية واحدة فإنها تقسم فى ثلاث سنين فى كل سنة ثلثها، فإذا كان الواجب على شخص واحد أكثر من دية كأن قتل شخصين مثلاً فعليه لكل واحد منهما ثلث الدية فى كل سنة؛ لأن لكل واحد منهما دية مستقلة فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه، ولو وجبت الدية على عواقل كثيرة فإذا قتل عشرة مثلاً شخصًا وجبت الدية على عواقلهم وقُسط نصيب كل عاقلة على ثلاث سنوات. وفى الدية الناقصة كدية المرأة وجهان: أحدهما: أنها تقسم على ثلاث سنين لأنها بدل النفس فأشبهت الدية الكاملة فتأخذ حكمها، وثانيهما: الدية الناقصة يجب فيها فى العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها فى العام الثانى. والوجة الأول يقول به بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد (3) والثانى مذهب أبى حنيفة ويقول به بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد. ويرى مالك التأجيل على ثلاث سنوات فى الدية الكاملة، أما الدية الناقصة ففيها آراء مختلفة؛ منها أنها حالَّة ومنها أنها تؤجلَّ على أن ما يدفع لا يقل عن ثلث الدية الكاملة (4) .
_________
(1) الإقناع ج4 ص234.
(2) مواهب الجليل ج6 ص267.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص255 , 256 , المغنى ج9 ص492 , 494 , المهذب ج2 ص228.
(4) مواهب الجليل ج6 ص267.(2/192)
وإذا وجبت الدية بالصلح فهى حالَّة فى مال الجانى ما لم يكن هناك شرط بتأجيلها، وإذا وجبت بإقرار الجانى فيرى أبو حنيفة أنها تجب مؤجلة، ويرى أحمد أنها تجب حالة وهو رأى الشافعى ومالك (1) .
240- هل تحمل العاقلة كل الدية فى القتل شبه العمد؟: يرى أحمد أن العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية الكاملة فإن بلغ الثلث أو زاد عليها حملته العاقلة، وحجته ما روى عن عمر أنه قضى فى الدية أن لا يحمل منه شئ حتى تبلغ عقل المأمومة (عقل المأمومة ثلث الدية) ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجانى لأنه موجب جنايته وبدل متلفه، فكان عليه كسائر الجنايات والمتلفات، وإنما خولف فى القلق فصاعدًا تخفيفًا عن الجانى لكونه كثيرًا يجحف به (2) .
ويرى أبو حنيفة أن العاقلة لا تحمل ما دون نصف عشر الدية الكاملة ويحمله الجانى، فإن بلغ نصف عشر الدية حملته العاقلة، وحجته ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تعقل العاقلة عمدًا - إلى قوله - ولا ما دون أَرْش المُوضحة" (أرش الموضحة نصف عشر الدية الكاملة) (3) .
ويرى الشافعى أن العاقلة تحمل الجميع ما قل أو كثر من الدية؛ لأن ما ألزم بالكثير ألزم بالقليل من باب أولى (4) .
ويرى مالك أن الدية إذا بلغت ثلث دية المجنى عليه أو الجانى حملتها العاقلة فإذا كانت دون الثلث فهى على الجانى وحده (5) ، وفى المذهب رأى بأن العاقلة لا تحمل إلا ما زاد على الثلث، ومقتضى هذا الرأى أن الثلث يحمله الجانى وينظر فى هذا إلى مصلحة الجانى فإن كانت ديته أقل اعتبرت دون دية المجنى عليه، فلو جنى مسلم على مجوسية ما يبلغ ثلث ديتها أو ثلث ديته حملته عاقلته، ولو جنى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص256 , 257 , المغنى ج9 ص504 - 506.
(2) المغنى ج9 ص505 , 506.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص255.
(4) المهذب ج2 ص228.
(5) مواهب الجليل ج6 ص265.(2/193)
مجوسى أو مجوسية على مسلم ما يبلغ ثلث دية الجانى حملته العاقلة ولو كان أقل من ثلث دية المجنى عليه، ويجعل مالك وأحمد ما لا تحمله العاقلة حالاً لا مؤجلاً، أما أبو حنيفة فالديات كلها مؤجلة عنده (1) .
وإذا حملت العاقلة الدية فيرى أبو حنيفة ومالك أن يتحمل الجانى من الدية ما يحمله أفراد العاقلة، أما الشافعى وأحمد فيريان أن لا يحمل الجانى شيئًا. ويرى مالك أن يتحمل الجانى مع العاقلة. وتظهر أهمية هذه الآراء المختلفة إذا ما أخذنا بالرأى القائل بأن الديات تتفاوت بحسب الدين، فإن دية المجوسى وعابد الوثن أقل من ثلث الدية فلا تحملها عنه العاقلة. فإن دية المجوسى وعابد الوثن اقل من ثلث الدية فلا تحملها عنه العاقلة. طبقًا لرأى أحمد، وهى أكثر من نصف العشر لأنها 1/15 من الدية فتحملها العاقلة طبقًا لرأى أبى حنيفة والمرأة المجوسية ديتها تبلغ 1/30 فلا تحملها العاقلة فى رأى أبى حنيفة، وأحمد ولكن تحملها طبقًا لرأى الشافعى، والكتابية ديتها 1/4 الدية الكاملة فلا تحملها العاقلة طبقًا لرأى أحمد وتحملها طبقًا لرأى أبى حنيفة والشافعى.
241- هل تتحمل العاقلة الديات عن الإمام والحاكم؟: من المتفق عليه أن ما يجب على الإمام والحاكم فى عير الحكم والاجتهاد فهو على العاقلة إذا كان مما تحمله العاقلة، أما ما وجب عليه بسبب الحكم والاجتهاد ففيه نظريتان فى مذهب الشافعى وأحمد:
الأولى: أنه على عاقلته؛ لما روى عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء فأجهضت جنينها، فقال عمر لعلى: عزمت عليك لا تبرح حتى تقتسمها - أى الدية - على قومك. ولأن الحاكم جان فكان خطؤه على عاقلته كغيره.
الثانية: أنه فى بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر فى أحكامه واجتهاده فإيجاب العقل على عاقلته مجحف بهم، ولأنه نائب عن الله تعالى فى أحكامه وأفعاله فكان
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص257 , المغنى ج9 ص494 , مواهب الجليل ج6 ص265.(2/194)
أرش جنياته فى مال الله.
وأبو حنيفة من القائلين بالوجه الثانى (1) ومالك من القائلين بالوجه الأول.
242- العاقلة: العاقلة من يحمل العقل، وسميت عقلاً وهى الدية لأنها تعقل لسان ولى المقتول، وقيل: إنها سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل، والعقل هو المنع. ولا خلاف فى أن العاقلة هم العصبات وأن غيرهم كالإخوة لأم وسائر ذوى الأرحام والزوج ليسوا من العاقلة.
ومذهب الشافعى أن الأب والجد والابن وابن الابن لا يدخلون فى العاقلة، وهو رأى أحمد، وحجته ما رواه أبو هريرة عن الرسول عليه السلام قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله لى الله عليه وسلم فقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ". وفى رواية " ثم ماتت القاتلة فجعل النبى ميراثها لبنيها والعقل على العصبة " ولأن مال ولده ووالده كماله، ولهذا لم تقبل شهادتهما له. والدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل وتخفيفًا له فلو جعلناها على الأب والابن أجحفنا به لأن مالهما كماله (2) .
ومذهب مالك وأبى حنيفة وهو رأى لأحمد: أن الأباء والأبناء من العاقلة؛ لأن العقل أساسه التناصر وهم من أهله، ولأن العصبة فى تحمل العقل كَهُمْ فى الميراث فى تقديم الأقرب فالأقرب وآباؤه أقرب الناس إليه فكانوا أولى بتحمل عقله، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى - كما روى عمرو بن شعيب - بأن عقل المرأة بين عصبتها [من كانوا لا يرثون شيئًا إلا ما فضل عن ورثتها] وإن قتلت فعقلها بين ورثتها (3) .
ويدخل فى العاقلة سائر العصبات مهما بعدوا لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم
_________
(1) المغنى ج9 ص510 , المهذب ج2 ص277 , لمدونة ج16 ص83.
(2) المهذب ج2 ص228 , المغنى ح9 ص515.
(3) مواهب الجليل ج6 ص266 , بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص515.(2/195)
يكن وارث أقرب منهم، ولا يشترط أن يكونوا وارثين فى المال بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا.
وقد كان العقل قبل خلافة عمر رضى الله عنه بالتعصيب فلما وضع الديوان جعل العقل على أهل ديوان القاتل، وهم المقاتلة من الرجال البالغين ومن ثم يرى أبو حنيفة أن عاقلة الشخص أهل ديوانه ولكنه يقول: إن العاقلة هى العصبة إذا لم يوجد الديوان، واليوم لا ديوان فالعاقلة دون شك هم العصبة، ويرى مالك أن العاقلة هى العصبة ولكنه يجعل أهل الديوان مع العصبة ويبدأ بهم فى تقسيم الدية، أما الشافعى وأحمد فلا يريان أهل الديوان من العصبة.
ويشترك فى العقل الحاضر والغائب من العصبة طبقًا لرأى أبى حنيفة وأحمد؛ لأن الغائبين استووا مع الحاضرين فى التعصيب والإرث فاستووا فى تحمل العقل كالحاضرين، ولأنه معنى تعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب، ويرى مالك أن يخص العقل بالحاضر فقط لأن التحمل أساسه التناصر وهو بين الحاضر، وبعض الفقهاء فى مذهب الشافعى يأخذون بالرأى الأول والبعض يأخذون بالرأى الثانى (1) .
وتقسم الدية على العاقلة مع مراعاة الأقرب فالأقرب ولا يُحمل العقل إلا من يعرف نسبه من القاتل أو يعلم أنه من قوم يدخلون كلهم فى العقل، ومن لا يعرف منه ذلك لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيًا لا يلزم قريشًا كلهم التحمل فإن قريشًا وإن كانوا كلهم يرجعون لأب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم ينتسبون لأب يتميزون به، فيعقل عنهم من يشاركهم فى نسبهم إلى الأب الأدنى (2) .
ولا تُكلَّف العاقلة من المال ما يجحف بها ويشق عليها لأنه لزمها من غير جناية على سبيل المواساة للجانى والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجانى بما يشق على غيره ويجحف به، ولو كان الإجحاف مشروعًا كان الجانى أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء فعله، فإن لم يشرع فى حقه ففى حق غيره أولى.
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص400 , مواهب الجليل ج6 ص267 , المغنى ج9 ص518 , المهذب ج2 ص230.
(2) المغنى ج9 ص519.(2/196)
واختلف الفقهاء فى مقدار ما يحمله كل فرد فقال مالك وأحمد: يترك الأمر للحاكم يفرض على كل واحد ما يسهل عليه ولا يؤذيه، وفى مذهب مالك رأى يفرض ربع دينار على كل شخص، وفى مذهب أحمد رأى آخر يفرض نصف مثقال على الموسر وربع مثقال على متوسط الحال، وهو مذهب الشافعى ويرى أبو حنيفة أن لا يزيد ما يؤخذ من الفرد عن ثلاثة دراهم أو أربعة، كما يرى التسوية بين الغنى والمتوسط (1) ، والقائلون بنصف دينار وربعه اختلفوا، فبعضهم يرى هذا القدر هو الواجب فى السنوات الثلاث، والبعض يراه الواجب سنويًا.
والمفروض أن الدية تقسم على ثلاث سنوات، فالمبلغ المقدر على كل فرد هو أقصى القسط السنوى ويجب عليه فى آخر السنة، ومن مات أو افتقر أو جن قبل الحول لم يلزمه شئ من الدية؛ لأن تحميل الفقير إجحاف ولأن المرأة والصبى والمجنون ليسوا من أهل النصرة، ولكن هؤلاء إذا كانوا جناة يعقل عنهم.
وإذا لم يكن للجانى عاقلة أصلاً، أو كان له عاقلة فقيرة، أو عددها صغير لا تحمل كل الدية، فهناك نظريتان:
الأولى: يرى أصحابها أن يقوم بيت المال مقام العاقلة، فإذا لم يكن عاقلة أو كانت فقيرة أخذت الدية من بيت المال، وإن كانت عاقلة لا تحمل كل الدية أخذ باقيها من بيت المال، ويرى بعض أصحاب هذا الرأى أن ما يجب على بيت المال يدفع فورًا، لأن التأجيل للعاقلة قصد به التخفيف ولا حاجة للتخفيف إذا قام مقامها بيت المال، ويرى البعض أن الواجب يقسط على ثلاث سنوات على حسب المستحق على العاقلة، وأصحاب هذه النظرية مالك والشافعى، وهى ظاهر مذهب أبى حنيفة والراجح فى مذهب أحمد.
الثانية: ويرى أصحابها أن الدية تجب على مال القاتل لا على بيت المال، لأن الأصل أن القاتل هو المسئول عن الدية، وإنما حملتها العاقلة للتناصر والتخفيف، فإذا لم تكن عاقلة يرد الأمر لأصله كذلك فإن فى بيت المال حقوقًا
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص520 , مواهب الجليل ج6 ص267 , المهذب ج2 ص230.(2/197)
للنساء والصبيان والمجانين والفقراء وهؤلاء لا عقل عليهم فلا يجوز صرف ما يستحقونه فيما لا يجب عليهم وهذه النظرية رواية عن أبى حنيفة لمحمد ورأى فى مذهب أحمد (1) .
وإذا لم يمكن الأخذ من بيت المال، فيرى القائلون بأن الدية تجب ابتداء على العاقلة، وهم بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد، بأن الدية تسقط كلها إذا لم تكن عاقلة أو يسقط منها ما لم تحمله العاقلة إذا كان عددها صغيرًا، أما القائلون بأنها تجب على الجانى ابتداء فيرون إلزام الجانى بها أو بما بقى منها.
وإذا أخذنا بالرأى القائل بأن الغنى يدفع نصف دينار سنويًا والمتوسط يدفع ربع دينار، وافترضنا أن الفقراء ضعف عدد الأغنياء ومتوسطى الحال وأن متوسطى الحال ضعف الأغنياء وأن النساء والصبيان ضعف عدد الرجال، فإنه يجب ألا يقل عدد أفراد العائلة عن تسعة آلاف نفس، وإذا طبقنا هذا على ما يقول به أو حنيفة من تحمل الشخص أربعة دراهم، وجب أن يصل أفراد العاقلة إلى عشرة آلاف نفس.
وفى مذهب مالك يرى بعضهم أن أقل ما توزع عليهم الدية سبعمائة شخص، ويرى البعض أن أقلهم ألف، وإذا أخذنا بالفروض السابقة وصل عدد أفراد العاقلة إلى عشرة آلاف نفس.
243- أهمية نظام العاقلة: بينا فى الجزء الأول أهمية نظام العاقلة وتحملها الدية ودللنا على أنه نظام عادل وإن كان يلوح فى ظاهر الأمر أنه يحمل الإنسان وزر غيره، وقلنا إننا لو أخذنا بالقاعدة العامة فيحمل كل مخطئ وزره لكانت النتيجة أن تنفذ العقوبة على الأغنياء وهم قلة ولامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة، ويتبع هذا أن يحصل أولياء المجنى عليه أو هو نفسه على الدية كاملة إذا كان الجانى غنيًا وعلى بعضها إذا كان متوسط الحال، أما إذا كان الجانى فقيرًا
_________
(1) مواهب الجليل ج7 ص266 , بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص524 , المهذب ج2 ص228.(2/198)
وهو كذلك فى أغلب الأحوال فلا يحصل المجنى عليه من الدية على شئ، وهكذا تنعدم المساواة والعدالة بين المتهمين كما تنعدم بين المجنى عليهم. وقلنا إن هذا النظام قصد به أن يحصل المجنى عليهم على حقهم كاملاً وأنه يحقق العدالة والمساواة على جميع الوجوه، وقلنا أكثر من ذلك فليراجعه من شاء.
لكن هذا النظام على ما فيه من عدالة وتسوية بين المتهمين والمجنى عليهم لا يمكن أن يقوم فى عهدنا الحاضر لأن أساسه وجود العاقلة، ولا شك أن العاقلة ليس لها وجود الآن إلا فى النادر الذى لا حكم له وإذا وجدت فإن عدد أفرادها قليل لا تتحمل أن يفرض عليها كل الدية، ولقد كان للعاقلة وجود طالما احتفظ الناس بأنسابهم وقراباتهم وانتموا إلى قبائلهم وأصولهم، أما الآن فلا شئ من هذا بحيث يندر أن تجد شخصًا يعرف جده الثالث، وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين أخذ بهما الفقهاء من قبل، إما الرجوع على المجنى عليه بكل الدية، وإما الرجوع على بيت المال، والرجوع على المجنى عليه يؤدى إلى إهدار دماء أكثر المجنى عليهم لأن أكثر المتهمين فقراء وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التى تقوم على حفظ الدماء وحياطتها وعدم إهدارها، والرجوع إلى بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة ويحقق أغراض الشيعة والخوف من إرهاق الخزانة لا يجب أن يقف حائلاً دون تحقيق المساواة والعدالة ولا يصح أن يحول دون تحقيق أغراض الشريعة، فالحكومة تستطيع أن تدبر أمرها بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، ونستطيع أن نفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء أو العاطلين، فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، ولقد سبقتنا بعض البلاد الأوروبية إلى هذا العمل، فأنشأت صندوقًا لتعويض المجنى عليهم فى الجرائم إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التى تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام(2/199)
العاقلة، فنظام العاقلة يقوم اليوم فى (بعض) (1) وهى من البلاد الأوروبية، فأولى بنا وهو نظامنا أن نقيمه بيننا على الوجه الذى يتلاءم مع ظروفنا وحالاتنا.
ثانيًا: الكفارة:
244- تجب الكفارة عقوبة أصلية على القتل شبه العمد مع الدية: وقد سبق أن تكلمنا على الكفارة بمناسبة الكلام على عقوبة القتل العمد، وما قلناه هناك يغنى الاطلاع عليه عن إعادته هنا.
* * *
العقوبات البدلية
245- العقوبات البدلية فى القتل شبه العمد هى: أولاً: التعزير بدلاً من الدية. ثانيًا: الصيام بدلاً من الكفارة وهى عتق الرقبة أو التصدق بقيمتها. وقد استوفينا الكلام على التعزير والصيام بمناسبة عقوبات القتل العمد وما قلناه هناك يغنى عن إعادته هنا.
العقوبات التبعية
246- العقوبات التبعية فى القتل شبه العمد هى: أولاً: الحرمان من الميراث. ثانيًا: الحرمان من الوصية. وقد استوفينا الكلام عليهما فى باب القتل العمد ومن ثم فليس ما يدعم لتكرار القول هنا.
عقوبات القتل الخطأ
247- عقوبات القتل الخطأ منها ما هو أصلى وهو الدية والكفارة، ومنها هو ما بدل وهو التعزير والصيام، ومنها ما هو تبعى وهو الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية.
_________
(1) هكذا فى الأصل ونظن أنها اسم بلد لم يتحقق من اسمه.(2/200)
العقوبات الاصلية
أولاً: الدية:
248- هى عقوبة أصلية وليست بدلاً من عقوبة أخرى: لأن عقوبة الخطأ روعى فى تقديرها انعدام قصد الجانى فاكتفى بتقدير الدية عليه، ومقدارها هو نفس مقدار الدية فى العمد وشبه العمد أى مائة من الإبل.
249- وتجب دية القتل الخطأ مخمسة أى تؤخذ أخماسًا: عشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقَّة، وعشرون جَذَعة، وهذه الأوصاف متفق عليها بين الأئمة الأربعة، ودليلهم ما روى عبد الله بن مسعود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فى دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بنو مخاض" (1) .
250- ودية الخطأ على العاقلة دون خلاف طبقًا لقضاء الرسول عليه السلام، وعلة فرضها على العاقلة أن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمى كثيرة فإيجابها على الجانى فى ماله مجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفًا عنه إذ انعدام القصد عذر له فى فعله يشفع فى التخفيف عنه.
251- ولا خلاف فى أنها مؤجلة فى ثلاث سنين: وأساس التأجيل فى الدية هو قضاء الصحابة، فقد قضى عمر وعلى بجعل الدية فى القتل الخطأ على العاقلة فى ثلاث سنين، ولا مخالف لهما من الصحابة فاتبعهم فى ذلك أهل العلم، وعلة التأجيل أنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالاً كالزكاة.
وما لا تحمله العاقلة يجب حالاً عند مالك والشافعى وأحمد ولكن أبا حنيفة يرى التأجيل فيما يجب على العاقلة وما يجب على الجانى.
_________
(1) المغنى ج9 ص495 , المهذب ج2 ص209 , بدائع الصنائع ج7 ص254 , شرح الدردير ج4 ص236.(2/201)
252- وإذا كانت العاقلة تحمل الدية وهى عقوبة أصلية أساسية فهل تحمل أيضًا الكفارة وهى عقوبة مالية أصلية أخف بكثير من الدية؟.
يرى الفقهاء أن الكفارة فى مال الجانى وحده ولا تحمل العاقلة عنه شيئًا ولا بيت المال، ولكن فى مذهب الشافعى رأى بأن بيت المال يتحملها عن الجانى (1) .
253- ولا يرى مالك وأبو حنيفة التغليظ فى دية الخطأ، أما الشافعى وأحمد فيريان التغليظ، ولكن بينهما فرقًا هو أن أحمد يرى أن التغليظ فى العمد وشبه العمد والخطأ أما الشافعى فيرى التغليظ فى الخطأ، ولعل الشافعى لم ير التغليظ فى العمد وشبه العمد لأنه يوجب الدية فيهما مثلثة، أما أحمد فيوجبها مربعة، فكأن دية العمد وشبة العمد مغلظة بطبيعتها عند الشافعى ويوجب أحمد التغليظ للقتل فى الحرم، وللقتل فى الشهور الحرم، والقتل المحرم. واختلف فى المذهب فى التغليظ لقتل ذى الرحم المحرم فيرى البعض التغليظ لقتله ولا يرى البعض التغليظ. ويجوز عند أحمد أن يجمع بين أكثر من سبب من أسباب التغليظ وتغلظ الدية لكل سبب بأن يزاد عليها مقدار الثلث ومن ثم تصل الدية إلى ديتين إذا كان القتل فى الحرم والشهور الحرم شخصًا محرمًا (2) ، أما الشافعى فيرى التغليظ بالقتل فى الحرم وفى الشهور الحرم وبقتل ذى الرحم المحرم، واختلفوا فى المذهب فى القتل فى الحرم المدنى فرأى البعض أن القتل فيه سبب للتغليظ، ورأى البعض أن القتل فيه ليس سببًا للتغليظ وهو الرأى الراجح فى المذهب، وصفة التغليظ عند الشافعى هو إيجاب دية العمد بدلاً من دية الخطأ، فإن قتل ذا رحم محرم مثلاً فعليه ثلاثون حقَّة وثلاثون جَذَعّة وأربعون خَلَفة.
254- ولا تحمل العالقة دية القتل العمد: سواء درئ القصاص للشبهة أو وجبت الدية بالعفو أو الصلح، وهذا متفق عليه بين الأئمة؛ لأن العاقلة حملت فى الخطأ وشبه العمد لانعدام القصد إلى القتل ولعذر الجانى، أما العامد فلا عذر له
_________
(1) المغنى ج9 ص498.
(2) المغنى ج9 ص499 وما بعدها , المهذب ج2 ص209 , 210.(2/202)
فى جريمته ومن ثم لا يستحق تخفيفًا ولا معاونة.
255- وإذا جنى الرجل على نفسه خطأ ففيه روايتان:
الأولى: على عاقلته الدية لورثته إذا قتل نفسه. والقائلون بهذا الرأى بعض فقهاء مذهب أحمد، وحجتهم: "أن رجلاً ساق حمارًا فضربه بعصا كانت معه فطارت منها شظية ففقأت عينه فجعل عمر ديته على عاقلته وقال: هى يد من أيدى المسلمين"، ويحتجون بأنها ليست إلا جناية خطأ كأى جناية خطأ ديتها على العاقلة. ويترتب على هذا الرأى أنه إذا كانت العاقلة هم بعض الورثة لم يجب شئ عليهم لأنه لا يجب للإنسان شىء على نفسه، هذا إذا كان ما يجب عليهم من الدية يماثل نصيبه فى الميراث فإن كان أكثر سقط عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد، وإن كان نصيبه من الدية أقل من نصيبه فى الميراث فله ما بقى.
والرواية الثانية: يرى أصحابها أن الجناية هدر، وهذا ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى وهو رأى فى مذهب أحمد وحجتهم: أولاً: بارز عامر بن الأكوع مرحبًا يوم خبير فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يعلم أن النبى قضى فيه بدية ولا غيرها ولو وجبت لبينه النى عليه السلام. ثانيًا: أن وجوب الدية على العاقلة قصد منه مواساة الجانى والتخفيف عنه والجانى هنا هو نفس المجنى عليه فليس إذن ما يدعو للإعانة والمواساة.
وحكم شبه العمد هو حكم الخطأ فى هذه المسألة (1) .
ثانيًا: الكفارة:
256- تكلمنا على الكفارة بمناسبة الكلام على القتل العمد، وفيما قلناه كفاية.
العقوبات البدلية
257- هى الصيام فقط: وقد تكلمنا عليه من قبل، وليس ثمة تعزير باتفاق الفقهاء فى الخطأ اكتفاء بالعقوبتين الأصليتين وهما الدية والكفارة
_________
(1) المغنى ج9 ص209 وما بعدها.(2/203)
وبالعقوبات التبعية، على أنه ليس فى الشريعة ما منع أن يقدر الشارع عقوبة تعزيرية فى حالة العفو عن الدية إذا رأى ذلك فى صالح الجماعة.
العقوبات التبعية
258- هى الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية: وقد فصلنا الكلام عليهما من قبل بمناسبة الكلام على عقوبة القتل العمد، وفيما قلناه هناك ما يغنى عن إعادته هنا.
* * *
الفصل الثاني
الجناية على ما دون النفس
259- يعبر فقهاء الشريعة بالجناية على ما دون النفس عن كل أذى يقع على جسم الإنسان من غيره فلا يودى بحياته، وهو تعبير دقيق يتسع لكل أنوع الاعتداء والإيذاء التى يمكن تصورها؛ فيدخل فيه الجرح والضرب والدفع والجذب والعصر والضغط وقص الشعر ونتفه وغير ذلك. ويعبر قانون العقوبات المصرى عن نفس المعنى بالجرح والضرب فقط، وهو تعبير ناقص لا يتسع لغير الجرح والضرب من أنوع الإيذاء مما حمل المحاكم المصرية على التوسع فى تأويل هذا التعبير بما يجعله متفقًا مع اتجاه الشريعة، فحكمت محكمة النقض بأن عبارة الضرب والجرح تشمل كل فعل يقع على الجسم ويكون له تأثير ظاهرى أو باطنى، فمن يضغط على عنق إنسان أو يجذبه فيوقعه على الأرض يعد مرتكبًا لجريمة الضرب عمدًا.
260- الجنايات على ما دون النفس إما عمد أو خطأ: فالعمد هو ما تعمد فيه الجانى الفعل بقصد العدوان كمن قذف أحدًا بحجر بقصد إصابته. والخطأ هو ما تعمد فيه الجانى الفعل دون قصد العدوان كمن ألقى حجرًا من نافذة ليتخلص منه فأصاب أحد المارة، أو ما وقع فيه الفعل نتجة تقصير الجانى دون قصد منه كمن انقلب على نائم بجواره فكسر ضلوعه.(2/204)
والعمد وإن كان يختلف عن الخطأ فى ماهية الفعل وعقوبته إلا أنهما يتفقان فى كثير من الأحكام، ومن ثم جرى الفقهاء على الجمع بينهما عند شرح أحكامهما فيتكلمون عنهما دفعة واحدة. وإذا كان شراح القوانين يفرقون بين جرائم العمد والخطأ على أساس نوع الجريمة، ويتكلمون عن كل على حدة فإن فقهاء الشريعة يجعلون أساس الفرق هو محل الجريمة هل هو النفس أو ما دونها؛ لأن ما يقع على النفس يتحد فى كثير من أحكامه على اختلاف أنواعه كما بينا فيما سبق، والجرائم التى تقع على ما دون النفس تتحد فى كثير من أحكامها كما سنبين فيما بعد. ثم يفرقون بعد ذلك على أساس نوع الجريمة بين مختلف الجرائم التى تقع على ما دون النفس.
261- ويقسم الفقهاء الجناية على ما دون النفس سواء كانت الجناية عمدًا أو خطأ خمسة أقسام، ناظرين فى هذا التقسيم إلى نتيجة فعل الجاني؛ لأن الجانى فى الجناية على ما دون النفس يؤخذ بنتيجة فعله ولو لم يقصد هذه النتيجة بغض النظر عما إذا كانت الجناية عمدًا أو خطأ، وهذه الأقسام هى: أولاً: إبانة الأطراف أو ما يجرى مجرى الأطراف، ثانيًا: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها، ثالثًا: الشجاج، رابعًا: الجراح، خامسًا: ما لا يدخل تحت الأقسام الأربعة السابقة.
262- القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجرى مجراها: ويقصد من إبانة الأطراف قطعها وقطع ما يجرى مجراها، ويدخل تحت هذا القسم: قطع اليد والرجل والإصبع والظفر والأنف والذكر والأنثيين والأذن والشفة وفقء العين وقطع الأشفار والأجفان وقلع الأسنان وكسرها وحلق أو نتف شعر الرأس واللحية والحاجبين والشارب.
263- القسم الثانى: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها: ويقصد من ذلك تفويت منفعة العضو مع بقائه قائمًا فإذا ذهب العضو ذاته فالفعل من القسم الأول، ويدخل تحت هذا القسم: تفويت السمع والبصر والشم(2/205)
والذوق والكلام والجماع والإيلاد والبطش والمشى، ويدخل تحته أيضًا: تغير لون السن إلى السواد والحمرة والخضرة ونحوها، كما يدخل إذهاب العقل وغيره.
264- القسم الثالث: الشجاج: يقصد بالشجاج جراح الرأس والوجه خاصة. أما جراح الجسم فيما عدا الرأس والوجه فتسمى جراحًا، وتسمية جراح الجسم بالشجاج غلظ؛ لأن العرب تفصل بين الشجة وبين مطلق الجراحة، فتسمى ما كان فى الرأس والوجه شجه، وتسمى ما كان فى سائر البدن جراحة.
ويرى أبو حنيفة أن الشجاج لا تكون إلا فى الرأس والوجه فى مواضع العظم مثل الجبهة والوجنتين والصدغين والذقن دون الخدود، وباقى الأئمة يرون ما كان فى الرأس والوجه مطلقًا شجة.
265- والشجاج عند أبى حنيفة إحدى عشرة شجة (1) :
1- الخارصة: وهى التى تخرص الجلد أى تشقه ولا يظهر منها الدم.
2- الدامعة: وهى التى يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع فى العين.
3- الدامية: وهى التى يسيل منها الدم.
4- الباضعة: وهى التى تبضع اللحم أى تقطعه.
5- المتلاحمة: وهى التى تذهب فى اللحم أكثر مما تذهب الباضعة. ويرى محمد أن المتلاحمة قبل الباضعة وعرفها بأنها التى يتلاحم فيها الدم ويسود.
6- السمحاق: وهى التى تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم، واسم الجلدة السمحاق فسميت بها الشجة.
7- الموضحة: وهى التى تقطع الجلدة المسماة السمحاق وتُوضِح العظم أى تظهره ولو بقدر مغرز الإبرة.
8- الهاشمة: وهى التى تهشم العظم أى تكسرة.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص296.(2/206)
9-المنقلة: وهى التى تنقل العظم بعد كسرة أى تحوله عن مكانه.
10- الآمَّة: وهى التى تصل إلى أم الدماغ، وهى جلدة تحت العظم وفوق الدماغ أى المخ.
11- الدامغة: وهى التى تخرق تلك الجلدة وتصل إلى الدماغ.
266- ويرى مالك أن الشجاج عشرة فقط: ويسمى الأول دامية، والثانية خارصة، والثالثة سمحاقًا, والسادسة ملطاة, ويحذف مالك الثامنة وهى الهاشمة ويرى أنها تكون فى جراح البدن لا فى الرأس والوجه، ويتفق فيما عدا ذلك مع أبى حنيفة (1) .
267- ويرى الشافعى وأحمد أن الشجاج عشرة فقط: وهما يحذفان الثانية عند أبى حنيفة وهى الدامعة ويعترفان بالعشرة الباقية، ويسمى أحمد الدامية بهذا الاسم أو بالبازلة، ويسمى الشافعى وأحمد العاشرة بالمأمومة أو بالآمَّة (2) .
268- القسم الرابع: الجراح: ويقصد بالجراح ما كان فى سائر البدن عدا الرأس والوجه. والجراح نوعان: جائفة، وغير جائفة.
فالجائفة: هى التى تصل إلى التجويف الصدرى والبطنى سواء كانت الجراحة فى الصدر أو البطن أو الظهر أو الجبين أو بين الأنثيين أو الدبر أو الحلق.
وغير الجائفة: ما لم تكن كذلك؛ أى التى لا تصل إلى الجوف (3) .
269- القسم الخامس: ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة: ويدخل تحت هذا القسم كل اعتداء أو إيذاء لا يؤدى إلى إبانة طرف أو ذهاب معناه ولا يؤدى إلى شجة أو جرح، فيدخل تحته كل اعتداء لا يترك أثرًا أو ترك أثرًا لا يعتبر جرحًا ولا شجة.
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص222 , 223.
(2) المهذب ج2 ص212 , الشرج الكبير ج9 ص619 وما بعدها.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص296 , المهذب ج2 ص214 , الشرح الكبير ج9 ص628 , شرح الدردير ج4 ص248.(2/207)
الجناية على ما دون النفس عمدًا
270- الجناية على ما دون النفس عمدًا هى أن يتعمد الجانى ارتكاب فعل يمس جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته وأركان الجريمة اثنان:
الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته.
الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا.
الركن الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته:
271- يشترط لوقوع الجريمة أن يرتكب الجانى فعلاً يسمى جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامة هذا الجسم بأى حال، ولا يشترط أن يكون الفعل ضربًا أو جرحًا بل يكفى أن يكون أى فعل من أفعال الأذى أو العدوان على اختلاف أنواعها كالضرب والجرح والخنق والجذب والدفع والضغط والعصر.
272- وليس من الضرورى أن يستعمل الجانى أداة معينة للإيذاء والعض وحلق الشعر ونتفه ولوى الذراع وغير ذلك، فقد يستعمل يده أو رجله أو أسنانه وقد يستعمل عصًا أو سكينًا أو سيفًا أو بندقية أو مادة مضرة أو سامة، لأن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون أخرى فتستوى فيه كل الآلات.
وفى مذهب أحمد رأى يرى أن ما دون النفس فيه عمد وشبه عمد، ويفرق بينهما بأن فى الأول القصاص وفى الثانى الدية (1) , ويفرقون بين العمد وشبه العمد بأن الأول هو قصد الضرب بما يفضى إلى النتيجة غالبًا، والثانى هو قصد الضرب بما لا يفضى إلى النتيجة غالبًا مثل أن يضربه بحصاة لا يُوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه عمد (2) . ويظهر أنه هو الرأى الراجح فى المذهب، أما الرأى الآخر فيرى أن الجراح كلها عمد دون تفرقة وأن فيها القصاص لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] .
_________
(1) الإقناع ج4 ص189.
(2) الشرح الكبير ج9 ص428 , المغنى ج9 ص410.(2/208)
أما أبو حنيفة فلا يفرق بين العمد وشبه العمد إلا فى النفس، ويكفى عنده تعمد الفعل فيما دون النفس (1) ، وليس ما يمنع عند مالك والشافعى وأحمد أن يكون الجانى مسئولاً عن الجناية ولو لم تكن الجناية مباشرة لفعله، كمن طلب إنسانًا بسيف مجرد فهرب منه فخر به سقف فأصيب بجرح أو كسر؛ لأنه هو الذى ألجأ المجنى عليه للهرب بفعله.
ويرى الشافعى أن العمد فيما دون النفس إما أن يكون عمدًا محضًا أو شبه عمد، فالعمد المحض هو ما أدى إلى نتيجة الفعل غالبًا، أما شبه العمد فهو ما لم يؤد إلى نتيجة الفعل غالبًا؛ كمن لطم إنسانًا على رأسه فورمت ثم انشقت حتى وضحت فهذه شبه عمد لأن الغالب أن اللطمة لا تؤدى لإيضاح، ولو رماه بحصاة فورمت ثم أوضحت فهى شبه عمد لأن الغالب أن الرمى بالحصاة لا يؤدى للإيضاح (2) .
ومع أنهم وضعوا هذه القاعدة إلا أنهم يختلفون فى طبيعة تطبيقها، وهذا الخلاف مرجعه التقدير. فمثلاً ابن رشد يضرب مثلاً على شبه العمد للطمة التى تفقأ العين لأن اللطمة لا تفقأ العين غالبًا (3) بينما يرى الشافعى أن اللطمة التى تفقأ العين عمد محض لأن اللطم يؤدى غالبًا لفقأ العين (4) .
273- ويستوى أن يكون الفعل مباشرًا أو بالتسبب، فالضرب باليد وشد حبل رفيع فى طريق المجنى عليه ليتعثر فيه كلاهما يكون الجريمة.
274- ويصح أن يكون الفعل ماديًا كالضرب والجرح، ويصح أن يكون معنويًا كمن أذعر رجلاً فأصيب بشلل أو ذهب عقله أو سقط فجرح. ونص القانون المصرى كما ذكرنا من قبل لا يتسع للأفعال المعنوية، أما فى فرنسا فيعاقبون على الفعل المعنوى فيما دون النفس؛ لأن القانون الفرنسى يجعل فى حكم الضرب أنواع التعدى والإيذاء الأخرى بينما القانون المصرى لم يذكر إلا عبارة الضرب والجرح.
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص267 , البحر الرائق ج8 ص287 , بدائع الصنائع ج7 ص233 , الأم ج6 ص45.
(2) الأم ج6 ص46.
(3) بداية المجتهد ج2 ص341.
(4) الأم ج6 ص45.(2/209)
275- ويشترط أن يكون المجنى عليه معصومًا: فإن لم يكن كذلك فالفعل مباح ولا يعتبر جريمة، وقد تكلمنا عن العصمة بمناسبة الكلام على القتل وما قلناه هناك يغنى عن الإعادة هنا.
276- ويشترط ألا يؤدى الفعل لوفاة: فإذا أدى للوفاة فهو جناية على النفس قد تكون قتلاً عمدًا إذا ثبت أن الجانى تعمد الفعل وقصد القتل، وقد تكون قتلاً شبه عمد إذا ثبت أن الجانى تعمد الفعل ولم يقصد القتل.
الركن الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا:
277- لكى يكون الفعل جريمة عمدية يجب أن يصدر عن إرادة الجانى وأن يرتكب بقصد العدوان، فإن لم يرد الجانى الفعل أو أراده ولم يقصد العدوان فالفعل غير متعمد وإنما خطأ.
278- ويؤخذ الجانى بقصده المحتمل: فيسأل عن نتيجة الفعل الذى أتاه لا عما قصده وقت إحداث الفعل، فإن ترتب على الفعل ذهاب عضو أو إبطال منفعته أو إحداث موضحة أو جائفة أو اقل من ذلك، سئل عن نتيجة فعله ولو لم يكن يقصد إحداث هذه النتيجة بالذات وقت إتيان الفعل.
279- ويسأل الجانى عن قصده غير المحدود: فمن ألقى حجرًا على جماعة بقصد إصابة أحدهم سئل عن نتيجة عمله سواء كان يعرف أفراد هذه الجماعة أو لا يعرفهم.
وقد سبق أن تكلمنا عن الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية، كما تكلمنا عن الإذن فى الجرح واستعمال الحق وأداء الواجب، وما قلناه ينطبق هنا.
280- ويستوى فى الجريمة على ما دون النفس أن يتعمد الجانى الفعل دون أن يقصد القتل، أو أن يتعمد الفعل بقصد القتل ما دام الفعل لم يؤد للموت؛ لأن الشريعة لا تعاقب على الشروع فى القتل إذا كان الشروع يكوَّن جريمة(2/210)
تامة على ما دون النفس أيًا كانت نتيجة هذه الجريمة جرحًا أو شجة أو جائفة أو إتلافًا لعضو أو ذهاب معناه، وقد عللنا هذا الحكم بمناسبة الكلام على القتل العمد.
* * *
الجناية على ما دون النفس خطأ
281- سبق أن بينا تعريف الخطأ وأنواعه بمناسبة الكلام على القتل الخطأ كما بينا أركان جريمة القتل الخطأ، وما قيل هناك ينطبق بحذافيره هنا، ولا فرق إلا أن الفعل إذا أدى للوفاة فهو جناية على النفس أى قتل خطأ، وإذا لم يؤد للوفاة فهو جناية على ما دون النفس، ومن ثم لا داعى للكلام هنا عن الجريمة وأركانها لأنه تكرار لما قيل هناك.
282- فرق هام: ويجب أن نلاحظ أن الشريعة جعلت العقوبة للجناية على ما دون النفس فى حالة الخطأ متمشية مع نتيجة الفعل كما هو الحال فى العمد، فعقوبة من أتلف عضوًا أو أذهب منفعته أشد من عقوبة الجرح الذى شفى دون أن يتخلف عنه عاهة، وعقوبة من أذهب بصر إنسان أشد من عقوبة من أذهب نصف بصره وهكذا.
والشريعة تتفوق على القانونين المصرى والفرنسى فى هذا لأنهما يسويان فى العقوبة مهما اختلفت نتائج الفعل، وبعض شراح القانونين ينتقدون على المشرع أنه سوى بين عقوبة الإصابات المختلفة مع اختلاف نتائجها دون مبرر لهذه التسوية.
عقوبة الجناية على ما دون النفس
عقوبة الجناية على ما دون النفس تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقوبة الجناية على ما دون النفس عمدًا، وعقوبة الجناية على ما دون النفس شبه عمد، وعقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ.
العقوبة الأصلية للجناية على ما دون النفس عمدًا هى القصاص، وعند مالك:(2/211)
الدية مع القصاص (1) , فإذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب التى سنبينها فيما بعد حلت محله عقوبتان بدليتان الأولى الدية أو الأَرْش والثانية التعزير، ويلاحظ الفرق بين عقوبات الجناية عمدًا على النفس والجناية عمدًا على ما دون النفس، ففى النفس يعاقب بالكفارة عقوبة أصلية وبالصيام عقوبة بدلية وبالحرمان من الميراث والوصية عقوبة تبعية، أما هنا فلا يعاقب بهذه العقوبات لأنها قاصرة على القتل ومتعلقة به.
أولاً: القصاص
283- القصاص: هو العقوبة الأصلية للجناية على ما دون النفس عمدًا، أما الدية والتعزير فهما عقوبتان بدليتان تحلان محل القصاص، ويترتب على اعتبار القصاص أصلاً والدية والتعزير بدلاً أنه لا يجوز الجمع بين العقوبة الأصلية وبين عقوبة أخرى بدلاً منها لأن الجمع بين البدل والمستبدل ينافيان طبيعة الاستبدال، ويترتب على ذلك أيضًا أنه لا يجوز الحكم بالعقوبة البدلية إلا إذا امتنع الحكم بالعقوبة الأصلية.
وهناك نظريتان للجمع بين القصاص والدية، الأولى: يرى أصحابها أن القصاص يجمع مع الدية إذا لم يكن القصاص ممكنًا إلا فى بعض الجرح فيقتص مما يمكن القصاص فيه، وما لا يمكن القصاص فيه تحل العقوبة البدلية فيه محل القصاص، وعلى هذا تجمع الدية مع القصاص عقوبة لجرح واحد، وهذه النظرية يقول بها الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد.
أما النظرية الثانية: فتقوم على أنه لا يمكن الجمع بين العقوبة الأصلية والعقوبة البدلية فى جرح واحد، فإن اقتص فى بعض الجرح سقط حقه فى الباقى ولا شئ له وهو بالخيار إن شاء اقتص ولا شئ له وإن شاء أخذ الدية، وهذه نظرية مالك وأبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد.
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص224 , مواهب الجليل ج6 ص247.(2/212)
ويمتنع الحكم بالعقوبة الأصلية إذا امتنع القصاص أو سقط لسبب من الأسباب التى نذكرها بعد، وهذه الأسباب بعضها عام وبعضها خاص بما دون النفس.
* * *
أسباب امتناع القصاص العامة
284- أولاً: إذا كان القتيل جزءًا من القاتل: إذا كان القتيل جزءًا من القاتل امتنع الحكم بالقصاص، ويكون القتيل جزءًا من القاتل إذا كان ولده، فإذا جرح الأب ولده أو قطعه أو شجة فلا قصاص لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد الوالد بولده" أما الولد فيقتص منه لوالده طبقًا للنصوص العامة، ويدخل تحت لفظى الوالد والولد كل والد وإن علا، وكل ولد وإن سفل، وحكم الأم هو حكم الأب لأنها أحد الوالدين، والجدة كالأم سواء كانت من قبَل الأب أو الأم.
ويرى مالك القصاص من الأب فى القتل إذا لم يكن شك فى قصد القتل، ولكنه لا يرى القصاص من الأب فى غير القتل ويرى تغليظ الدية عليه، والتغليظ عند مالك هو تثليث الدية (1) .
وعلى هذا فليس ثمة خلاف بين الأئمة الأربعة فى امتناع القصاص من الوالد لولده إذا جنى عليه فيما دون النفس، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بتوسع عند الكلام على القتل العمد.
285- ثانيًا: انعدام التكافؤ: إذا انعدم التكافؤ بين المجنى عليه والجانى فلا قصاص وينظر إلى التكافؤ من ناحية المجنى عليه وحده لا من ناحية الجانى. وفى مذهب مالك هذا شرط التكافؤ فى النفس أما فيما دون النفس فهو يشترط التكافؤ من الوجهين، فعنده لو قطع كافر أو عبد يد مسلم لم يكن له أن يقتص منهما ولو قطعهما فليس لهما أن يقتصا منه (2) .
فإن كان المجنى عليه مكافئًا للجانى أو خيرًا منه وجب القصاص وإن كان لا يكافئه امتنع القصاص، ولا يشترط فى الجانى أن يكافئ المجنى عليه لأن شرط
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص256.
(2) مواهب الجليل ج6 ص245 , شرح الدردير ج4 ص222.(2/213)
التكافؤ وضع لمنع قتل الأعلى بالأدنى ولم يوضع لمنع قتل الأدنى بالأعلى.
وأساس التكافؤ عند مالك والشافعى وأحمد: الحرية والإسلام، وأساس التكافؤ عند أبى حنيفة: الحرية والجنس، وسنتكلم فيما يلى عن هذه الأسس الثلاثة:
1- الحرية: يرى مالك والشافعى وأحمد أن الحر لا يقتص منه إذا جرح العبد لأن العبد منقوص بالرق وهذا هو نفس رأيهم فى القتل، ويرى مالك أن لا يقتص من العبد للحر (1) .
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص من الأحرار والعبيد فيما دون النفس ولا قصاص فيما بين العبيد أنفسهم، وهو يخرج بهذا عن رأيه الذى التزمه فى القتل وهو القصاص من الحر للعبد ومن العبد للعبد، وعلة خروجه على هذا الرأى أنه يرى ما دون النفس خلق لوقاية النفس ولما كانت قيمة العبد تختلف عن دية الحر وقيمة العبد تختلف عن غيره من العبيد فلا يمكن أن تتماثل أطراف الأحرار مع العبيد ولا أطراف عبد مع عبد آخر ومن ثم امتنع القصاص بينهم، وهذا الرأى يتفق مع رأى أحمد (2) .
2- الإسلام: سبق أن تكلمنا على هذا الموضوع بما فيه كفاية بمناسبة الكلام على القتل فليراجع، ونلخص ما قلناه بأن مالكًا والشافعى وأحمد يرون أن الكافر لا يكافئ المسلم، والقاعدة عندهم أن لا قصاص من مسلم إذا قتل ذميًا.
أما أبو حنيفة فيرى أن الكافر يكافئ المسلم ما دام معصوم الدم وليس فى عصمته شبهة كالمستأمن مثلاً، ومن ثم فهو يوجب القصاص من كليهما للآخر.
وهم يسيرون على هذه القاعدة فيما دون النفس إلا أن مالكًا خرج عليها
_________
(1) المغنى ج9 ص348 - 351 , بدائع الصنائع ج7 ص310 , المهذب ج3 ص225 , 226.
(2) الشرح الكبير ج9 ص326.(2/214)
ورأى ألا قصاص بين المسلم والكافر بصفة مطلقة فيما دون النفس، فإذا جرح أحدهما الآخر فلا قصاص لانعدام التكافؤ، ولو أنه يقرر أن المسلم خير من الكافر لأن القصاص فيما دون النفس يقتضى المساواة بين الطرفين ولا مساواة (1) .
3- الجنس: القاعدة عند الأئمة الأربعة أن الأنثى يقتص منها للذكر والذكر يقتص منه للأنثى، وهذا فى القتل أى فى النفس، وقد طبق مالك والشافعى وأحمد هذه القاعدة أيضًا فيما دون النفس (2) ، وحجتهم أن من يجرى بينهم القصاص فى النفس يجرى بينهم فى الأطراف، أما أبو حنيفة فيخالف هذه القاعدة ولا يطبقها فيما دون النفس لأنه يسير على قاعدة أخرى فيما دون النفس هى اعتبار أن ما دون النفس كالأموال، وبتطبيق هذه القاعدة لا يجعل المرأة مماثلة للرجل لأن دية المرأة على النصف من دية الرجل ودية طرفها لا تماثل دية طرف الرجل، وإذا انعدمت المساواة بين أرشيهما امتنع القصاص فى طرفيهما سواء كان الجانى هو الذكر أو الأنثى (3) .
التماثل فى العدد: يشترط أبو حنيفة التماثل فى العدد بين المجنى عليه والجانى، فجب أن يكون الجانى واحدًا ليقتص منه فإن كان الجناة أكثر من واحد فلا قصاص إذا تعاونوا على ارتكاب فعل واحد كأن قطعوا يد رجل أو إصبعه أو أذهبوا سمعه أو بصره أو قلعوا له سنًا أو نحو ذلك من الجوارح التى يجب على الواحد فيها القصاص لو انفرد بالفعل، وعليهم دية الجارحة مقسمة عليهم بالتساوى، أما إذا ارتكب كل منهم منفردًا فعلاً يجب فيه القصاص فعلى كل منهم القصاص فيما فعله. وحجة أبى حنيفة أن المماثلة فيما دون النفس شرط أساسى للقصاص ولا مماثلة بين جارحة وجوارح، كيد واحدة وأيدٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ لا فى الذات ولا فى المنفعة ولا فى الفعل. أما فى الذات فلا شك فيه لأنه لا مماثلة بين العدد والفرد من حيث الذات،
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص245 , وراجع الفقرة 153 وما بعدها.
(2) المغنى ج9 ص378 , مواهب الجليل ج6 ص245 , المهذب ج3 ص190.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص310 , وراجع الفقرة 153 وما بعدها.(2/215)
وإذا كانت الصحيحة لا تقطع بالشلاء لفوات المماثلة من حيث الوصف مع التساوى فى الذات فأولى أن يمتنع القصاص لفوات المماثلة فى الذات. وأما فى المنفعة فلأن منفعة اليدين أكثر من منفعة يد واحدة ومن المنافع ما لا يتأتى إلا باليدين كالكتابة والخياطة. وأما فى الفعل فلأن الموجود من كل واحد قطع بعض اليد والجزاء قطع كل اليد من كل منهم وقطع اليد أكثر من قطع بعضها (1) .
ويفرق أبو حنيفة بين النفس وما دونها بأن الفعل فيما دون النفس يتجزأ لأنه قطع بعض الجارحة وترك البعض موجودًا، بخلاف النفس فإن إزهاقها لا يتجزأ، ورأى أبى حنيفة وجه فى مذهب أحمد.
ويرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من الجماعة للواحد، وحجتهم أن شاهدين شهدا عند على رضى الله عنه وعلى رجل بالسرقة فقطع علىٌّ يده، ثم جاءا بآخر فقالا هذا هو السارق وأخطأنا فى الأول فرد شهادتهما على الثانى وغرمهما دية الأول وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما. فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحد، ولأنه أحد نوعى القصاص فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأنفس.
ويرى الشافعى وأحمد أنه يجب للقصاص من الجماعة بالواحد أن يكون اشتراك الجماعة فى الطرف على وجه لا يتميز فيه أحدهما عن الآخر؛ إما بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطعه ثم يرجعوا عن شهادتهم، أو يكرهوا إنسانًا على قطع طرف فيجب قطع المكرهين كلهم والمكَره، أو يتعاونوا فى إلقاء حجر على المجنى عليه فتقطع طرفه أو يقطعوا يدًا ويقلعوا عينًا بضربه واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعًا حتى يقطع الطرف، فإن قطع كل واحد منهم من جانب أو قطع أحدهم بعض المفصل وأتم غيره أو ضرب كل واحد ضربة أو وضعوا منشارًا مثلاً على مفصله ثم مر كل واحد عليه
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص299.(2/216)
مرة حتى بانت اليد فلا قصاص فيه؛ لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك فى قطع جميعها، وإن كان فعل كل واحد منهم يمكن الاقتصاص فيه بمفرده اقتص منه (1) .
أما مالك ففرق بين حالة التمالؤ وعدم التمالؤ، فإن تمالئوا اقتص من كل منهم بقدر ما أحدثوا بالمجنى عليه سواء تميزت أفعال كل منهم أم لم تتميز، فإذا قلعوا عينه وقطعوا رجله ويده قلع لكل عينه وقطعت يده ورجله، أما إذا لم يكن تمالؤ فإن تميزت أفعالهم أخذ كل منهم بفعله، وإن لم تتميز أفعالهم فعليهم القصاص كما لو تمالؤوا، وهناك من يرى ألا قصاص عليهم وعليهم الدية (2) .
ولا يشترط الشافعى وأحمد التمالؤ فيما دون النفس ويكفى التوافق للقصاص من الجميع.
286- ثالثًا: أن يكون الفعل شبه عمد: يرى الشافعى وأحمد أن الجناية على ما دون النفس قد تكون عمدًا وقد تكون شبه عمد، فهى عمد إذا كان الفعل متعمدًا أو كان يؤدى غالبًا إلى النتيجة التى انتهى إليها، كمن ضرب غيره بسكين فقطع إصبعه أو بعصًا فكسر ذراعه أو أحدث برأسه تربنة.
وهى شبه عمد إذا كان الفعل متعمدًا ولكنه لا يؤدى غالبًا إلى النتيجة التى انتهى إليها، كمن لطم آخر ففقأ عينه أو رماه بحصاة فأحدثت ورمًا انتهى بموضحة. ويرتبان على تقسيم الجناية على ما دون النفس إلى عمد وشبه عمد أن القصاص يجب فى العمد فقط أما شبه العمد فيجب فيه الدية، وهما يسيران فى هذا التقسيم وفى ترتيب العقوبة على ما سارا عليه فى الجناية على النفس (3) .
أما مالك وأبو حنيفة فيريان أن الجناية على ما دون النفس لا تكون إلا عمدًا لأن مالك لا يعترف بشبه العمد والفعل عنده إما عمد أو خطأ، ولأن أبا حنيفة يرى أن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون أخرى فاستوت فيه
_________
(1) المغنى ج9 ص370 وما بعدها , المهذب ج2 ص190.
(2) شرح الدردير ج4 ص222.
(3) الشرح الكبير ج9 ص428 , الأم ج6 ص6.(2/217)
الآلات للدلالة على القصد، فكان الفعل عمدًا فى كل حال أى أن ما دون النفس لا يقصد إلا مجرد الاعتداء عليه، والاعتداء ممكن بأى آلة بعكس القتل فلا يكون إلا بآلة مخصوصة، ومن ثم كان توفر قصد الاعتداء كافيًا لاعتبار الفعل عمدًا فيما دون النفس ولم يكن هناك محل لاعتبار شبه العمد (1) , ويترتب على رأى مالك وأبى حنيفة أن الجناية على ما دون النفس يجب فيها القصاص فى كل حال ما دام الجانى قد تعمد الفعل.
287- رابعًا: أن يكون الفعل تسببًا: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن الجناية على ما دون النفس بالتسبب لا توجب القصاص لأن القصاص فعل مباشر فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه على طريق المباشرة؛ لأن أساس عقوبة القصاص هو المماثلة بين الفعلين، ويوجب أبو حنيفة الدية بدلاً من القصاص ولكن الأئمة الثلاثة لا يرون فرقًا بين الجناية بالتسبب والجناية المباشرة ويوجبون القصاص على الجانى فى الحالين.
288- خامسًا: أن تكون الجناية قد وقعت فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن لا قصاص من الجانى إذا كانت الجناية قد وقعت فى دار الحرب. ويرى بقية الأئمة القصاص سواء كانت الجناية فى دار الحرب أو دار الإسلام، وقد سبق أن تكلمنا على هذه المسألة وفيما ذكرناه غنى عن الإعادة (2) .
289- سادسًا: عدم إمكان الاستيفاء: يمتنع القصاص إذا لم يكن الاستيفاء ممكنًا لأن القصاص قائم على التماثل واستيفاء المثل بدون مكان استيفائه ممتنع، فيمتنع الاستيفاء ضرورة، فمثلاً إذا كان المجنى عليه مقطوع المفصل الأعلى من إبهام اليد اليمنى وجاء الجانى فقطع المفصل الثانى لنفس الإصبع فلا يمكن أن يقتص من الجانى إذا كان إبهام يده اليمنى سليمًا لأن القصاص يؤدى إلى قطع مفصلين والمقطوع مفصل واحد فينعدم التماثل. وكذلك لو أجاف الجانى المجنى عليه أو شجه آمةَّ أو دامغة فالقصاص لا يمكن فى هذه الحالات؛ لأنه لا يمكن إجافة الجانى أو شجه على وجه التماثل التام (3) , ومن ثم يتعذر القصاص بتعذر استيفائه، وينتقل
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص297.
(2) راجع الفقرة 160.
(3) بدائع الصنائع ج9 ص297.(2/218)
حق المجنى عليه إلى بدل القصاص وهو الدية.
290- أسباب امتناع القصاص الخاصة بما دون النفس: أسباب امتنع القصاص الخاصة بما دون النفس هى:
أولاً: عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف.
ثانيًا: عدم المماثلة فى المحل.
ثالثًا: عدم الاستواء فى الصحة والكمال.
وهذه الأسباب ترجع كلها إلى أساس واحد هو التماثل، فالقصاص يقتضى بطبيعته التماثل من كل وجه، التماثل فى الفعل والتماثل فى المحل والتماثل فى المنفعة.
291- أولاً: عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف: يشترط للقصاص أن يكون الاستيفاء ممكنًا بلا حيف، ولا يكون الاستيفاء ممكنًا بلا حيف من الأطراف إلا إذا كان القطع من مفصل، أو كان له حد ينتهى إليه، كمارن الأنف وهو ما لان منه، فإن كان القطع من غير مفصل أو لم يكن له حد ينتهى إليه كالقطع من قصبة الأنف أو من نصف الساعد أو من نصف الساق، فالفقهاء فى ذلك على رأيين، أولهما: يرى أنه لا قصاص ما دام القطع من غير مفصل وليس له حد ينتهى إليه لتعذر الاستيفاء. وعلى هذا الرأى أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، الرأى الثانى: يرى أصحابه أن يقتص من أول مفصل داخل فى محل الجناية وله حكومة فى الباقى حيث لا يمكن القصاص على وجه المماثلة من غير المفصل، فمن قطع ذراعه من نصف العضد كان له أن يقتص من المرفق ويأخذ حكومة عن نصف العضد، ومن قطع ذراعه من نصف الساعد كان له أن يقتص من الكوع ويأخذ حكومة عن نصف الساعد. وعلى هذا الرأى الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، ولكن بعض الفقهاء فى مذهب أحمد يرون أن المجنى عليه يستحق حكومة عن الزائد والبعض يرى أنه لا يستحق شيئًا (1) , تطبيقًا للمبدأ القائل بأنه لا يجمع فى فعل واحد بين قصاص ودية، أما مالك فيرى القصاص ولو كان القطع
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص298 , الشرح الكطبير ج9 ص348 , المهذب ج2 ص192 , 193 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص329.(2/219)
من غير مفصل إذا كان ذلك ممكنًا ولا خوف منه، فإن لم يكن كذلك فلا قصاص ولو رضى الجانى بالقطع من مفصل داخل فى الجناية، ومن المتفق عليه بين أبى حنيفة والشافعى وأحمد ألا قصاص فى كسر العظام لأن التماثل غير ممكن، والأمن من الحيف غير محقق.
ولكن مالكًا يرى القصاص إذا قرر الخبراء أنه ممكن ولا خوف منه على حياة المقتص منه (1) .
وإذا اصطحب الكسر بشجة كالهاشمة والمنقلة أو جرح من جراح الجسد فيرى الشافعى القصاص من الموضحة لأنها داخلة فى الجناية ويمكن القصاص فيها وله أرش الباقى حيث تعذر فيه القصاص، فانتقل إلى البدل، وهذا هو مذهب أحمد، إلا أن بعضهم يرى أن له أرش الباقى، والبعض يرى أن ليس له مع القصاص شئ لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين القصاص والدية، ويرى مالك القصاص من الجرح والعظم معًا فى جراح الجسد لا فى شجاج الرأس إن كان ممكنًا وإلا فلا، ويرى مالك أيضًا أن لا قصاص فى الشجاج فيما فوق الموضحة ولو بقدر الموضحة ولكن فى الجسد إذا كان جرح مصحوب بكسر فلا مانع فى القصاص، إذ كان ذلك ممكنًا فى الجميع وإلا فلا، أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص أصلاً.
ومن المتفق عليه أن لا قصاص فيما فوق الموضحة من الشجاج لأن الاستيفاء دون حيف غير ممكن، أما ما دون الموضحة فيرى مالك القصاص فيه لأنه يرى الاستيفاء ممكنًا دون حيف، بأن يقاس طول الجرح وعمقه ويقتص بمثله، وهو ظاهر مذهب أبى حنيفة إن كان القصاص من الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية، وهو رواية عن محمد، ورواية أخرى ألا قصاص فيما قبل الموضحة وهو رأى الشافعى وأحمد، وحجتهما أن ما دون الموضحة ليس له حد ينتهى إليه؛ لأن الموضحة تنتهى إلى العظم، أما ما دونها فليس كذلك، والقول بإمكان قياس عمق الجرح يؤدى إلى الاقتصاص من الباضعة أو السمحاق موضحة إذا
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص244 , المدونة ج16 ص122 , 123.(2/220)
كان اللحم أى لحم الشاج خفيفًا، أو الاقتصاص من السمحاق متلاحمة أو باضعة إذا كان لحم الشاج أخف من لحم المشجوج (1) . وأساس اختلاف الفقهاء فى جميع ما سبق هو اختلاف التقدير، أما قاعدتهم جميعًا فواحدة فمن رأى أن الاستيفاء ممكن فى حالة دون حيف قال به ومن رآه لا يمكن بغير حيف منع منه.
292- ثانيًا: عدم المماثلة فى الموضع: يشترط للقصاص التماثل فى الموضع أى فى حمل الجناية، فلا يؤخذ شئ إلا بمثله ولا يقتص من عضو إلا لما يقابله، فلا تؤخذ اليد إلا باليد لأن غير اليد ليس من جنسها، فهو ليس مثلاً لها إذ التجانس شرط للمماثلة ولا تؤخذ الرجل إلا بالرجل والإصبع إلا بالإصبع والعين إلا بالعين والأنف إلا بالأنف ولا يؤخذ الإبهام إلا بالإبهام ولا السبابة إلا بالسبابة ولا الوسطى إلا بالوسطى ولا البنصر إلا بالبنصر ولا الخنصر إلا بالخنصر لأن منافع الأصابع مختلفة فكانت كالأجناس المختلفة، ولا تؤخذ اليد اليمنى إلا باليد اليمنى ولا اليسرى إلا باليسرى لأن لليمين فضلاً على اليسار ولذلك سميت يمينًا، وكذلك الرجل، وكذلك أصابع اليدين والرجلين لا تؤخذ اليمنى منها إلا باليمنى ولا اليسرى إلا باليسرى، وكذلك الأعين كما قلنا وكذلك الأسنان لا تؤخذ الثنية إلا بالثنية ولا الناب إلا بالناب ولا الضرس إلا بالضرس لاختلاف منافعها فإن بعضها قواطع وبعضها طواحن وبعضها ضواحك، واختلاف المنفعة بين الشيئين يلحقهما بجنسين مختلفين ولا مماثلة عند اختلاف الجنس، وكذلك لا يؤخذ الأعلى منها بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لتفاوت المنفعة بين الأعلى والأسفل (2) .
293- ثالثًا: المساواة فى الصحة: يشترط للقصاص أن يتساوى العضوان فى الصحة والكمال فلا تؤخذ مثلاً عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد يد صحيحة
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص461 , 462 , بدائع الصنائع ج9 ص309 , مواهب الجليل ج6 ص246 , المهذب ج2 ص190.
(2) بدائع الصنائع ج9 ص297 , الشرح الكبير ج9 ص442 , المهذب ج2 ص190 وما بعدها , مواهب الجليل ج6 ص246.(2/221)
بيد شلاء ولا رجل صحيحة برجل شلاء لأن المقتص يأخذ فوق حقه؛ أما إذا أراد المجنى عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه وليس له مع القصاص أرش مقابل نقص الشلل لأن الشلاء كالصحيحة فى الخلقة، وإنما تنقص عنها فى الصفة والتماثل لا يشترط فى الصفات، ويحتاط الشافعى وأحمد فى أخذ الشلاء بالصحيحة فيشترطان أن يقرر أهل الخبرة أن قطع العضو الأشل لا يؤثر على حياة المقتص منه لأن الشلل علة وللعلل تأثيرها على الأبدان.
أما مالك فيرى أن لا تؤخذ الصحيحة بالشلاء، كما يرى أن لا تؤخذ الشلاء بالصحيحة ولو رضى المجنى عليه بها، إلا إذا كان العضو الأشل فيه نفع للجانى فإن لم يكن فيه نفع فلا قصاص.
ويرى مالك والشافعى وأحمد القصاص بين الأشلين للمساواة، ويرى بعض فقهاء مذهب الشافعى أن لا قصاص لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها على الأجسام.
أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص بين الأشلين لأنه يشترط التماثل فى الأرش لأنه يسلك بالأطراف مسلك الأموال والشلل يؤثر على كل عضو تاثيرًا مختلفًا فلا تصبح قيمتها واحدة، ومن ثم امتنع القصاص لعدم المساواة (1) , ويرى زفر القصاص عند تساوى الشلل.
ولا يؤخذ الكامل بالناقص فمثلاً لا تؤخذ يد ولا رجل كاملة الأصابع بيد أو رجل تنقص إصبعًا أو أكثر لانعدام المساوة، وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، ولكن يجوز أخذ الناقص بالكامل، فتؤخذ اليد أو الرجل الناقصة إصبعًا أو أكثر باليد أو الرجل الصحيحة، وليس للمقتص عند أبى حنيفة رأى فى مذهب أحمد، وله عند الشافعى ورأى فى مذهب أحمد أرش ما نقص لأنه وجد بعض حقه فاقتص فيه، وعدم بعضه فانتقل القصاص فيه إلى البدل وهو الأرش، أما مالك فيرى قطع اليد أو الرجل الناقصة إصبعًا واحدًا بالكاملة
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246 , البحر الرائق ج8 ص306 , 308 , بدائع الصنائع ج9 ص203 , المهذب ج2 ص193 , الشرح الكبير ج9 ص458 , 488.(2/222)
بلا غرم على الجانى ولا خيار للمجنى عليه فى نقص الإصبع، وله أن يختار بين القصاص وبين الدية إن كان النقص إصبعين فأكثر، أما الإصبع وبعض الآخر فلا خيار فيه للمجنى عليه لأنه نقص يسير لا يمنع المماثلة، ومن ثم فيتعين قطع الناقصة بالكاملة، أما إذا نقصت يد المجنى عليه أو رجله إصبعًا فالقود على الجانى الكامل الأصابع، ولا يغرم المجنى عليه الناقص الأصابع أرش الإصبع الزائد، ولا قصاص إن نقصت يد المجنى عليه أكثر من إصبع إذا كانت يد الجانى كاملة الأصابع (1) .
ولا تؤخذ يد ذات أظافر بيد لا أظافر لها، لكن تؤخذ اليد ذات الأظافر الصحيحة باليد ذات الأظافر المسودة أو المخضرة؛ لأن هذا الوصف لا يوجب نقصًا فى المنفعة ولأن الصحيح يؤخذ بالسقيم (2) .
وإذا قطع يد رجل وفيها إصبع زائدة وفى يد الجانى مثلها، فلا قصاص عند أبى حنيفة لأن الإصبع الزائدة نقص وعيب، ويرى أبو يوسف القصاص للتماثل والمساواة، وهو رأى الشافعى وأحمد ويتفق مع رأى مالك.
ويرى أبو حنيفة أن مقطوع الإبهام إذا قطع يد مقطوع الإبهام فلا قصاص لأن قطع الإبهام توهين للكف، ويسقط تقدير الأرش، فلا يعرف إلا بالحَزْر والظن، فتنعدم المماثلة وعند بقية الفقهاء القصاص واجب للتماثل (3) .
* * *
كيف طبق الفقهاء شروط القصاص الخاصة؟
أولاً: فى إبانة الأطراف وما يجرى مجراها
294- الجفن: يؤخذ الجفن بالجفن عند الشافعى وأحمد لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص، ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وجفن الضرير بجفن البصير، لأنهما متساويان فى السلامة من النقص وعدم الإبصار ليس نقصًا فى الجفن ذاته
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص298 , الشرح الكبير ج9 ص448 , 449 , المهذب ج8 ص193 , مواهب الجليل ج6 ص249 , شرح الدردير ج4 ص226 , البحر الرائق ج8 ص308.
(2) البحر الرائق ج8 ص308 , المواهب ج6 ص242.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص194.(2/223)
وإنما هو نقص فى غيره (1) , أما عند مالك وأبى حنيفة فلا قصاص فى جفون العين لأنه لا يمكن استيفاء المثل تمامًا من دون حيف (2) .
295- الأنف: يؤخذ الأنف بالأنف عند مالك والشافعى وأحمد، لقوله تعالى: {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45] ولا يجب القصاص فى الأنف إلا فى المارن، وهو ما لان منه لأنه ينتهى إلى مفصل، ويؤخذ الكبير بالصغير، والأقنى بالأفطس، والأشم بالأخشم الذى لا يشم؛ لأنهما متساويان فى السلامة من النقص وعدم الشم نقص فى غيره ويؤخذ البعض بالبعض، وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتص بالنصف والثلث من مارن الجانى ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأن أنف الجانى قد يكون صغيرًا وأنف المجنى عليه كبيرًا، فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة أدى ذلك إلى قطع جميع المارن بالبعض.
ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بين المنخرين بالحاجز، لأنه لا يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل، ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بالجذام، ولكن يؤخذ المارن الصحيح بالمارن المريض بالجذام ما دام لم يسقط منه شئ، وإن قطع من سقط بعض مارنه مارنًا صحيحًا للمجنى عليه أن يقتص من الموجود، وينتقل فى الباقى إلى البدل عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد وليس له شئ غير القصاص عند مالك وبعض فقهاء مذهب أحمد، وإن قطع الأنف من أصله اقتص من المارن لأنه داخل فى الجناية ويمكن القصاص فيه كما يرى الشافعى وأحمد، وينتقل فى الباقى إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فى الباقى لأنه عظم فانتقل فيه إلى البدل، كما يرى الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد وليس له شئ مع القصاص على ما يرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد، أما مالك فيرى القصاص من العظام كلما كان ذلك ممكنًا فإن لم يكن ممكنًا فلا قصاص (3) ,
_________
(1) المهذب ج2 ص191 , الشرح الكبير ج9 ص436.
(2) مواهب الجليل ج6 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص308.
(3) المدونة ج16 ص123 , مواهب الجليل ج6 ص227 , 228.(2/224)
أما أبو حنيفة فيرى القصاص فى الأنف إذا أخذ كل المارن، لأن له حدًا ينتهى إليه وهو ما لان منه، أما إذا قطع بعضه أو كان القطع من قصبة الأنف فلا قصاص لتعذر استيفاء المثل فى البعض، ولأنه لا قصاص من العظم، وإن كان أنف القاطع أصغر خُيِّر المقطوع أنفه الكبير إن شاء قطع وإن شاء أخذ الدية وكذلك إذا كان قاطع الأنف أخشم لا يجد الريح أو أخرم الأنف أو بأنفه نقصان من شئ أصابه فإن المقطوع مخير بين القطع وبين أخذ دية أنفه (1) .
العين: تؤخذ العين بالعين عند الفقهاء الأربعة لقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] ولأنها تنتهى إلى مفصل فجرى القصاص فيها، وتؤخذ العين السليمة بالضعيفة خلقة أو من كبر، فتؤخذ عين الشاب بعين الشيخ المريضة، وعين الكبير بعين الصغير والأعمش، ولا تؤخذ الصحيحة بالغائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه، وتؤخذ الغائمة بالصحيحة لأنها دون حقه ولا أرش، لأن التفاوت فى الصفة. ويستثنى أبو حنيفة من القصاص ما لو كانت عين المجنى عليه فيها بياض ولكن يبصر بها، وكذلك عين الجانى، فإنه لا قصاص فيهما (2) .
وإذا قلع الأعور عين صحيح فلا قود عليه وعليه دية كاملة عند أحمد، وحجته أن عمر وعثمان قضيا بهذا ولم يكن لهما مخالف فى عصرهما فصار إجماعًا.
أما مالك فيرى تخيير المجنى عليه فإن شاء اقتص وإن شاء أخذ دية كاملة، ويرى أبو حنيفة والشافعى أن للمجنى عليه القصاص ولا شئ عليه، وإن عفا فله نصف الدية فقط.
أما مالك فجعل له الدية كاملة، لأن عين الأعور هى كل بصره أى تساوى عينيين. ولو قلع الأعور عين مثله ففيه القصاص دون خلاف لتساويهما من كل وجه إذا كانت العين مثل العين فى كونها يمينًا أو يسارًا وإن عفا على الدية فله جميعها، لأنه ذهب بجميع بصره فأشبه ما لو قلع عين صحيح.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص306 , حاشية الطهطاوى ج4 ص268.
(2) حاشية الطهطاوى ج4 ص268.(2/225)
وإن قلع الأعور عين صحيح فالرأى الراجح فى مذهب أحمد: إن شاء اقتص ولا شئ له سوى ذلك لأنه قد أخذ جميع بصره، فإن اختار الدية فله دية واحدة، والرأى المرجوح يرى أن له ديتين، إحداهما: للعين التى تقابل عينه، والدية الثانية: لأجل العين الثانية. وعند مالك: للمجنى عليه القصاص ونصف الدية.
وإن قلع صحيح العينين عين أعور فله القصاص من مثلها ويأخذ نصف الدية لأن الجانى ذهب بجميع بصره وأذهب الضوء الذى بدله دية كاملة، وقد تعذر استيفاء جميع الضوء إذ لا تؤخذ عينان بعين واحدة، ولا أخذ يمنى بيسرى فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء، ويرى البعض أن ليس له إلا القصاص من غير زيادة أو العفو على الدية؛ لأن الزيادة هنا غير مثمرة فلم يكن لها بدل.
ويرى مالك أن الصحيح إذا فقأ عين الأعور فللأخير أن يقتص أو يأخذ دية كاملة لا نصف دية (1) .
296- الأذن: وتؤخذ الأذن بالأذن عند الأئمة الأربعة لقوله تعالى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45] ولأنه يمكن القصاص لانتهائه إلى حد فاصل. وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم، وأذن الأصم بأذن السميع، لأنهما متساويان فى السلامة من النقص، وعدم السمع نقص فى غير صوان الأذن، ويؤخذ بعض الأذن ببعضها ويراعى فى تقدير المقطوع نسبته إلى الباقى فيقدر بالجزء ولا يقدر بالمساحة؛ كما ذكر فى حالة الأنف.
ويؤخذ الصحيح بالمثقوب والمثقوب بالصحيح، لأن المثقوب ليس بنقص، وإنما تثقب الأذن للزينة، ولا يؤخذ صحيح بمشقوق لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المشقوق بالصحيح وله من الدية ما يقابل النقص عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، وليس له شئ عند باقى الفقهاء (2) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص249 , المغنى ج9 ص430 - 432 , المهذب ج2 ص191 , حاشية الطهطاوى ج4 ص268.
(2) مواهب الجليل ج6 ص22246 , المدونة ج16 ص113 , المهذب ج2 ص191 , الشرح الكبير ج9 ص430 , البحر الرائق ج8 ص303.(2/226)
297- الشفتان: وتؤخذ الشفة بالشفة، وهو ما بين جلد الذقن والخدين علوًا وسفلاً لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأنه ينتهى إلى حد معلوم والقصاص فيه ممكن، وهذا هو رأى الأئمة الأربعة، وفى مذهب الشافعى من يرى أن لا قصاص فى الشفتين لأنه قطع لحم لا ينتهى إلى عظم، وهو رأى مرجوح، وفى مذهب أبى حنيفة يرون القصاص فى الكل، ولا يرون القصاص فى الجزء لعدم إمكان القصاص بدون حيف (1) .
298- اللسان: ويؤخذ اللسان عن مالك والشافعى وأحمد لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن له حدًا ينتهى إليه، فاقتص فيه، ولا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه، ولا يرى مالك القصاص فى هذه إلا إذا كان فى اللسان منفعة للجانى كما هو الحال فى اليد الشلاء، وإن قطع نصف اللسان أو ثلثه أو ربعه اقتص من لسان الجانى فى مثل ذلك القدر، وفى مذهب الشافعى رأى يرى عدم القصاص فى البعض لأنه لا يؤمن أن يتجاوز القدر المستحق ولكنه رأى مرجوح، والمذهب أن ما يمكن القصاص فى كله يمكن القصاص فى بعضه (2) , أما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص فى اللسان كله أو بعضه إذ القاعدة عنده أن ما يتبعض وينبسط لا يمكن استيفاء القصاص فيه بصفة المماثلة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص فى كل اللسان إن استوعب قطعًا، إذ يمكن القصاص على وجه المماثلة بالاستيعاب (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص308 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص436.
(2) مواهب الجليل ج6 ص246 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص436.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص308.(2/227)
299- السن بالسن: ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] ولأنه محدود فى نفسه يمكن القصاص فيه دون حيف، ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويأخذ المكسور بالصحيح، ولا شئ له عند مالك وأبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، وله مقابل ما نقص من المكسور عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد؛ ولا قصاص فى قلع السن الزائد لتعذر المثل، وإن كان له سن زائد فى غير موضع المقلوع لم يؤخذ به، ويرى الشافعى القصاص فى السن الزائد إذا كان له مماثل وكذلك أحمد، ولا يرى ذلك أبو حنيفة.
ولا يقتص إلا من سن قد سقطت رواضعه ثم نبتت بعد ذلك، وإلا فلا قصاص، حيث إنها تعود بحكم العادة كما كانت قبل السقوط أو الكسر (1) .
300- اليد: وتؤخذ اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل بالأنامل بقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ، ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب القصاص.
وإذا كان القطع من مفصل الكوع أو المرفق فله القصاص باتفاق الفقهاء، أما إذا كان القطع من غير مفصل كالقطع من الكف أو الساعد أو العضد، فمالك يرى القصاص إذا أمكن ولم يخفف منه وإلا فلا قصاص وأبو حنيفة وأحمد والشافعى لا يرون القصاص لأن محل القطع عظم، لكن يجوز عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد أن يقتص المجنى عليه من أول مفصل داخل فى الجناية، ولا يجيز هذا أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد ولا يجيزه مالك حتى لو اتفق عليه الطرفان، ومن أجازه من فقهاء أحمد اختلفوا، فبعضهم يرى أن للمجنى
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص249 , 261 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص434 , البحر الرائق ج8 ص304 , 305.(2/228)
عليه أرش الباقى، وبعضهم يرى أن لا شئ له مع القصاص ومذهب الشافعى أن له أرش الباقى.
وقياسًا على ما سبق يكون الحكم فى الأعضاء ذات المفاصل وهى الأصابع والرجلين ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة الأصابع، فإن قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع، أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع، لم يكن للمجنى عليه أن يقتص منه عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد لأنه يأخذ أكثر من حقه، لكن الشافعى يجيز هو وبعض فقهاء مذهب أحمد أن يأخذ من أصابع الجانى ما يقابل الأصابع المقطوعة لأنها داخلة فى الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها، ولا يرى ذلك أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، أما مالك فيجيز القصاص بين اليد الكاملة واليد الناقصة إذا كان النقص فى الجانى أو المجنى عليه إصبعًا واحدة أيًا كانت، ولا مقابل للإصبع الزائدة فإن زاد النقص عن إصبع واحدة فلا قصاص ولا يجيز مالك ما يجيزه الشافعى من أخذ الأصابع دون الكف.
وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع، فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع، أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع، فللمجنى عليه أن يقتص من الكف، وليس له شئ عند أبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد؛ وله دية الإصبع الخامس والحكومة فى الإصبع السادس عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد لأنه وجد بعض حقه وعدم الباقى، فأخذ الموجود وانتقل فى المعدوم إلى البدل، أما الفريق الآخر فحجته أنه لا يجوز الجمع بين قصاص ودية فى عضو واحد. ورأى مالك تؤخذ الناقصة بالكاملة إذا كان النقص إصبعًا واحدًا ولا مقابل للناقص، فإن كان النقص أكثر من إصبع خُيِّر المجنى عليه بين القصاص والدية، فإن اقتص فلا شئ له.
ولا يؤخذ أصلى بزائد، فإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة لم يكن للمجنى عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجيز الشافعى وبعض فقهاء أحمد القصاص من الأصابع الأصلية(2/229)
على ما ذكرنا آنفًا، ومذهب مالك يجيز القصاص؛ لأن نقص إصبع واحدة لا يمنع من القصاص.
ويجوز أخذ الزائد بالأصلى، فإن قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية، فللمجنى عليه - عند الشافعى - أن يقتص من الكف لأنه دون حقه، ولا شئ له لنقصان إصبع أصلية، لأن الإصبع الزائدة تقوم مقامها، إذ أنها مثلها فى الخلقة. وفى مذهب أحمد رأى يرى أن لا قصاص لاختلاف الزائدة عن الأصلية، ورأى يرى القصاص إذا كانت الزائدة فى محل الأصلية، ورأى يرى القصاص مطلقًا لأن الزائدة لا عبرة بها.
ويظهر أن أبا حنيفة يجيز أخذ الزائد بالأصلى لأنه يعتبر الزيادة نقصًا، والقاعدة عنده أن الناقص يؤخذ بالكامل (1) .
والقاعدة عند مالك: أنه لا يؤخذ الكامل بالناقص ويؤخذ الناقص بالكامل، إلا إذا رضى المجنى عليه أن يأخذه دون مقابل النقص حتى لا يجمع بين قصاص ودية.
فمثلاً إذا قطع صاحب اليد السليمة أقطع الكف لم يقتص للأقطع من يد السليم حيث لا يؤخذ كامل بناقص، لكن إذا قطع أقطع الكف يد غيره من المرفق فللمجنى عليه القصاص بأن يقطع اليد الناقصة من المرفق وله أن يختار الدية، فإذا قطع اليد الناقصة فلا شئ له (2) .
ولا يجيز مالك لمن قطع من مفصل أن يقطع الجانى من مفصل أدنى منه داخل فى الجناية ولو رضى الجانى والمجنى عليه، لكن إذا وقع القصاص على هذا الشكل فقد أجزأ ولا يعاد لو طلب المجنى عليه استيفاء الباقي (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص249 , بدائع الصنائع ج7 ص298 , 303 , المهذب ج2 ص192 , 194 , الشرح الكبير ج6 ص437 , 499 , 450 , 455 , 456 , وفى شرح الدردير يجوز أخذ الزائد بالزائد.
(2) شرح الدردير ج4 ص225.
(3) المرجع السابق.(2/230)
ويقتص من الإصبع الزائد فى الإصبع الزائد المماثل - كما جاء فى شرح الدردير - إذا تساويا فى المحل، ولا يرى ذلك أبو حنيفة؛ لأن الزائد فى معنى المزلزل، ولا قصاص عنده فى مزلزل، حتى أنه يرى أن لا قصاص بين يدين فى كل منهما إصبع زائدة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص فى هذه الحالة للمساواة بين اليدين.
301- الإليتان: وتؤخذ الإليتان بالإليتين وهما الناتئتان بين الظهر والفخد، وهو رأى مالك، ويأخذ به بعض فقهاء مذهب الشافعى وأحمد، وحجتهم قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأن الإليتين ينتهيان إلى حد فاصل، فوجب فيهما القصاص كأى عضو له مفصل، أما البعض الآخر فيرى أن لا قصاص لأن الإليتين لحم متصل بلحم وليس له حد فاصل يؤمن معه الحيف، وهو رأى أبى حنيفة (1) .
302- ويؤخذ الذكر بالذكر: لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهى إلى حد فاصل يمكن الفصل فيه من غير حيف عند مالك والشافعى وأحمد.
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الذكر لأنه ينقبض وينبسط فلا يمكن القصاص على وجه المماثلة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص إذا استوعبت الذكر كله لأن له حدًا ينتهى إليه.
ويؤخذ بعضه ببعضه عند مالك وأحمد، وفى مذهب الشافعى رأيان أرجحهما أخذ البعض بالبعض، وعند أبى حنيفة تؤخذ الحشفة بالحشفة ولا قصاص فى بعضها ولا فى بعض الذكر غيرها.
ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصى لأنه كذكر الفحل فى الجماع وعدم الإنزال لمعنى فى غيره، ويقطع الأغلف بالمختون؛ لأنه يزيد على المختون بجلدة تستحق إزالتها بالختان، ولا يؤخذ صحيح بأشل؛ لأن الأشل ناقص بالشلل فلا يؤخذ به كامل (2) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص298 , 299 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص439.
(2) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص308 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص439.(2/231)
303- وتؤخذ الأنثيان بالأنثيين: لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهى إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه؛ فإن قطع أحد الأنثيين وقال أهل الخبرة يمكن أخذها من غير إتلاف الأخرى اقتص منه حتى لا تؤخذ أنثيان بواحدة، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد والظاهر من مذهب مالك، أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص فى الأنثيين حيث لا حد لهما ينتهيان إليه فيهما (1) .
304- الشفران: قياس مذهب مالك أن فى الشفُّرْين القصاص، وقياس مذهب أبى حنيفة أن لا قصاص فيهما، وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: أحدهما: يقول بالقصاص، والثانى: يرى أن لا قصاص، وحجة الأول أن لهما حدًا ينتهيان إليه، وحجة الثانى أن الشفرين لحم وليس لهما حد ينتهيان إليه (2) .
ثانيًا: فى إذهاب معانى الأطراف
305- المفروض فى تفويت منفعة الأطراف بقاء أعيانها: فإن ذهب المعنى مع الطرف دخل الفعل تحت إبانة الأطراف، لأن معنى الطرف يكون تابعًا للطرف فى هذه الحالة.
والأصل أنه لا قصاص فى تفويت منفعة معانى الأطراف لعدم إمكان الاستيفاء، ولكن معظم الفقهاء لا يرون مانعًا من محاولة القصاص فإن أمكن الاستيفاء فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإن لم يتمكن ألزم الجانى بالدية. وهم يفرقون بين ما إذا كان الفعل يجب فيه القصاص أو لا يجب فيه القصاص، فإن كان فيه القصاص استوفى القصاص فى الفعل المادى، فإن ذهبت المعانى المماثلة فقد انتهى الإشكال، وإن لم تذهب عمل على إذهابها بطريقة إن أمكن،
_________
(1) مواهب الجليل ج666 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص309 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص440.
(2) المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص440. ويرى مالك وأحمد والشافعى القصاص فى الأظفار , ويرى أبو حنيفة القصاص فى حلمة الثدى دون الثدى , وعند مالك وأبى حنيفة: لا قصاص فى شعر الرأس والحاجبين والشارب واللحية.(2/232)
فإن لم يكن ذلك فى الإمكان فقد امتنع القصاص لعدم إمكانه ووجبت الدية محله.
وإذا كان الفعل لا يجب فيه القصاص عمل على إذهاب المعانى بطريقة علمية إن أمكن ذلك، فإن ذهبت المعانى فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإلا وجب عليه الدية بدلاً من القصاص، وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (1) , أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص فى الفعل ولا فى ذهاب المعنى، ولو كان الفعل أصلاً يمكن القصاص فيه كالموضحة التى تذهب البصر، لأن القصاص على وجه المماثلة غير ممكن، إذ الفعل الذى يراد القصاص فيه جرح مذهب لمعنى طرف، وإحداث مثل هذا الجرح على وجه التماثل غير ممكن، ويرى أبو يوسف ومحمد القصاص فى الفعل إذا كان مما يجب فيه القصاص وفى المعنى الدية، وهناك رواية عن محمد عن ابن سماعة أن فى الفعل والمعنى القصاص معًا إذا كان القصاص من المعنى ممكنًا كالإبصار، أما إذا كان القصاص من المعنى غير ممكن فلا قصاص إلا فى الفعل، ويرى بعض أصحاب الشافعى أن لا قصاص فى السراية أصلاً، وهو رأى مرجوح وليس هو المذهب (2) .
ويضربون مثلاً لتطبيق القواعد السابقة فى حالة وجوب القصاص فى الفعل: رجل ضرب آخر فشجه مُوضحة ذهب معها سمعه أو بصره أو شمه، فللمجنى عليه عند مالك والشافعى وأحمد أن يقتص من الموضحة، فإن ذهب معها السمع أو البصر أو الشم فقد أخذ حقه، وإن لم يذهب عولج بما يذهب بصره أو سمعه أو شمه دون جناية على العين أو الأذن أو الأنف، فإن كان إذهاب المعانى يقتضى الجناية على هذه الأعضاء لم يجز إذهاب المعانى. ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الموضحة ولا فى غيرها، ويرى محمد وأبو يوسف القصاص فى الموضحة
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص224 , 225 , المهذب ج2 ص199 , 200 , الشرح الكبير ج9 ص241 , 242.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص307 , الشرح الكبير ج9 ص442.(2/233)
فقط، وهو رأى محمد عن ابن سماعة، ويرى بعض فقهاء مذهب الشافعى القصاص المباشر من الموضحة ومن العين، ولا يرى القصاص المباشر من السمع والشم لأنه غير ممكن.
ويضربون مثلاً فى حالة عدم القصاص: شجة وفوق الموضحة، لا قصاص فيها من الجرح، وإنما تبقى فقط محاولة إذهاب المعنى، على أن الشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد يرون أن يقتص موضحة فقط فى هذه الحالة.
* * *
ثالثًا: القصاص فى الشجاج
306- لا خلاف بين الفقهاء الأربعة على أن الموضحة من الشجاج فيها القصاص لإمكان الاستيفاء على وجه المماثلة إذ لها حد تنتهى إليه السكين وهو العظم، ولا خلاف بينهم أيضًا فى أنه لا قصاص فيما بعد الموضحة لتعذر الاستيفاء على وجه المماثلة؛ لأن الهامشة تهشم العظم، والمنقلة تنقله من مكانه بعد هشمه، والآمَّة لا يؤمن معها أن تصل السكين إلى المخ، وكذلك الدامغة.
أما ما قبل الموضحة من الشجاج فمختلف فيه. فمالك يرى القصاص فيها جميعًا لإمكان القصاص (1) , وأبو حنيفة يرى طبقًا لرواية الحسن أنه لا قصاص فى الشجاج إلا فى الموضحة والسمحاق إن أمكن القصاص فى السمحاق، بينما ذكر محمد فى الأصل أن القصاص واجب فى الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية، لأن استيفاء المثل ممكن بقياس الجراحة طولاً وعمقًا (2) .
ومذهب الشافعى وأحمد على أنه لا قصاص فى غير الموضحة من الشجاج، لأن ما فوق الموضحة يتعذر فيه الاستيفاء على وجه المماثلة، لكنهما يريان أن للمجنى عليه الحق فى أن يقتص، وهى بعض حقه، لأن ما فوق الموضحة يزيد عليها فإذا اقتص موضحة فقط فقد أخذ بعض حقه، ويرى الشافعى أن للمجنى عليه مع ذلك أن يأخذ الفرق بين دية الموضحة ودية تلك الشجة، لأن تعذر
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص246.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص309.(2/234)
القصاص على سبيل المماثلة ينقل حقة إلى البدل فيما لم يقتص منه، ويرى بعض فقهاء مذهب أحمد هذا الرأى، ويرى البعض الآخر أن لا شئ له مع القصاص حتى لا يجتمع القصاص والدية فى عضو واحد.
أما ما قبل الموضحة من الشجاج فيرى الشافعى وأحمد أن لا قصاص فيها لأنها جراحات لا تنتهى إلى عظم فليس لها حد معلوم تؤمن معه الزيادة، ولا عبرة عندهما بقياس عمق الجرح، لأن الأخذ بهذه الفكرة يؤدى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقًا، لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيرًا، بحيث يكون عمق باضعته كعمق موضحة الشاج أو سمحاقه، ولأننا لم نعتبر فى الموضحة عمقها فكذلك يجب أن يكون الحال فى غيرها (1) .
* * *
رابعًا: القصاص فى الجراح
307- اختلف الفقهاء اختلافًا بينًا فى الجراح، فمالك يرى القصاص فى كل جراح الجسد ولو كانت منقلة أو هاشمة، أى ولو كانت مصحوبة بكسر فى العظام، لأنه يرى القصاص ممكنًا على وجه المماثلة، ولا يمنع القصاص إلا إذا عظم الخطر منه كما فى عظام الصدر والعنق والصلب والفخذ فإذا لم يكن هناك خطر أصلاً أو كان خطر لم يعظم فالقصاص واجب (2) , ولا قصاص فى الجائفة.
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الجراح أصلاً، سواء كانت جائفة أو غير جائفة حيث لا يمكن الاستيفاء فيها على وجه المماثلة، لكن إذا أدى الجرح للموت وجب فيه القصاص إن كان الجانى متعمدًا القتل لأن الجراحة تصبح بالسراية نفسًا (3) .
ويرى الشافعى وأحمد القصاص فى جراح الجسد إذا كان الجرح فى معنى
_________
(1) المهذب ج2 ص190 , الشرح الكبير ج9 ص460 , 463.
(2) مواهب الجليل ج6 ص246.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص310.(2/235)
الموضحة أى إذا كان الجرح ينتهى إلى عظم كجروح الساعد والعضد والساق والفخد، فهذه يمكن المماثلة فيها فيجب فيها القصاص. ولكن بعض أصحاب الشافعى لا يرون القصاص فى جراح الجسد أيا كانت، وهو رأى مرجوح، وحجتهم أن موضحة الرأس لها أرش مقدر، أما جراح الجسد فلا، ورد عليهم بأن الأساس فى القصاص ليس الأرش وإنما قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] (1) .
وأساس اختلاف الفقهاء هو اختلاف التقدير، فمن رأى القصاص ممكنًا على وجه المماثلة فى معظم الجراح كمالك قال به، ومن رآه غير ممكن أصلاً كأبى حنيفة قال لا قصاص، ومن رآه ممكنًا فى الإيضاح فقط كالشافعى ومالك قال بالقصاص فيما أوضح العظم من الجراح فقط.
القصاص فى القسم الخامس
308- إذا لم يذهب الاعتداء بطرف أو بمعناه ولم يحدث شجة ولا جرحًا فلا قصاص طبقًا لرأى أغلب الفقهاء. فاللطمة والوكزة والوجأة وضربة السوط والعصا لا قصاص فيها إذا لم تترك أثرًا (2) .
ويستثنى مالك السوط، ويرى القصاص فى ضربة السوط ولو لم يحدث جرحًا أو شجة، ولكنه لا يرى القصاص فى اللطمة وضربة العصا إلا إذا تركت جرحًا أو شجة (3) ، ويرى شمس الدين بن قيم الجوزية - من فقهاء الحنابلة - القصاص فى اللطمة والضربة، لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل:126] فأمر بالمماثلة فى العقوبة والقصاص، فالواجب أن يفعل بالمعتدى كما فعل فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه، ولا ريب أن اللطمة باللطمة والضربة بالضربة أقرب إلى المماثلة المأمور بها
_________
(1) المهذب ج2 ص190 , الشرح الكبير ج9 ص460.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص399.
(3) مواهب الجليل ج6 ص246 , 247 , المدونة ج16 ص239 , الإقناع ج4 ص190.(2/236)
حسًا وشرعًا من التعزير بغير جنس اعتدائه وقدره وحقيقته. وقد استدل على صحة رأيه بأن أحمد بن حنبل قال بالقصاص من اللطمة والضربة، وأن أبا بكر وعثمان وعليًا وخالد ابن الوليد أقادوا من لطمة، وأن عمر بن عبد العزيز أقاد رجلاً صفعه آخر حتى سلح (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد القصاص من اللطمة إذا ذهبت بضوء العين (2) , ولكنهم لا يرون القصاص فى اللطمة وحدها.
استيفاء القصاص
309- مستحق القصاص: مستحق القصاص فيما دون النفس هو المجنى عليه دون غيره وله أن يستوفى القصاص إذا كان بالغًا عاقلاً، فإن لم يكن كذلك فيرى مالك وأبو حنيفة أن يقوم مقامه فى الاستيفاء الولى أو الوصي (3) , وهذا الرأى يأخذ به بعض الفقهاء فى مذهب أحمد.
ويرى الشافعى وأغلب الفقهاء فى مذهب أحمد أن الولى والوصى ليس لهما أن يستوفيا قصاصًا استحق للصغير أو المجنون، لأن القصاص للتشفى ولا يتوفر هذا المعنى فى قصاص الولى والوصى فينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون (4) .
ويعطى مالك للولى والوصى والقيم حق الاستيفاء فى النفس وفيما دونها، ويعطى أبو حنيفة للولى حق الاستيفاء فى النفس، وللولى والوصى والقَّيم حق الاستيفاء فيما دون النفس، ويعلل ذلك بأن تصرف الوصى لا يصدر عن كمال النظر والمصلحة فى حق الصغير لقصور فى الشفقة الباعثة عليه بخلاف الأب والجد ولذا لا يلى استيفاء القصاص فى النفس، أما ما دون النفس فيسلك بهما مسلك
_________
(1) أعلام الموقعين ج2 ص2 وما بعدها.
(2) المهذب ج2 ص199 , المغنى ج9 ص428.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص244 , مواهب الجليل ج6 ص252.
(4) الشرح الكبير ج9 ص383 , 384 , المهذب ج2 ص196.(2/237)
الأموال، وللوصى ولاية استيفاء المال، فأخيرُ له أن يستوفى القصاص فيما دون النفس، لأنه فى حكم استيفاء المال (1) .
310- هل يحبس الجانى إذا أخر القصاص؟: ومن يرى تأخير القصاص حتى البلوغ أو إفاقة المجنون لا يرى حبس الجانى حتى البلوغ أو الإفاقة ما دامت الجناية على ما دون النفس، بل يطلق سراح الجانى، أما إذا كانت الجناية على النفس فيحبس الجانى، ويترتب على هذا أنه لو أطلق سراح الجانى ثم مات المجنى عليه بالسراية تعين حبس الجانى؛ لأن الجناية أصبحت نفسًا (2) .
311- مدى سلطة الولى والوصى: تتأثر سلطة الولى والوصى طبقًا لاختلاف وجهة نظر الفقهاء فى عينية القصاص، فمن رأى أن القصاص واجب عينًا وأن الدية لا تجب بتنازل المجنى عليه عن القصاص على الدية وإنما تجب برضاء المجنى عليه - من رأى هذا كمالك وأبى حنيفة منعا الولى والوصى من العفو؛ لأن العفو لا يكون إلا من صاحب الحق، والحق للصغير والمعتوه وليس لهما، وإنما لهما ولاية استيفاء حق وجب للصغير وولايتهما مقيدة بالنظر للصغير، والعفو ضرر محض، لأنه إسقاط دون مقابل، وإنما يجوز للولى والوصى الصلح على القصاص مقابل مال بشرط أن لا يقل عن الدية أو الأرش، فإن صالحا على أقل من ذلك كان للصغير والمجنون الرجوع على الجانى بما نقص من الدية أو الأرش، ويقيد مالك الرجوع على الجانى بأن لا يكون معسرًا وقت الاتفاق، وإذا رجع المجنى عليه على الجانى لم يكن للجانى أن يرجع على الولى أو الوصى بما رجع عليه به المجنى عليه (3) .
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص229 , 230 , بدائع الصنائع ج7 ص244.
(2) الشرح الكبير ج9 ص385 , نهاية المحتاج ج7 ص284 , 288 , شرح الدردير ج4 ص220 , البحر الرائق ج8 ص299 , 300.
(3) نفس المراجع السابقة.(2/238)
والشافعى وأحمد لا يريان أن للولى حق الاستيفاء ولا يجعلان للوصى أو القيم دخلاً فى هذا الحق، ولكنهما يعطيان الولى حق العفو عن القصاص إلى الدية، ولا يعطيانه حق العفو مجانًا، ولولى المجنون أن يعفو على المال عند البعض بالشرط السابق، وليس له العفو عند البعض لأن نفقته فى بيت المال (1)
312- هل يصح قصاص الصغير والمجنون؟: العلة فى منع الصغير والمجنون من الاستيفاء قبل البلوغ والإفاقة أن القصاص حق، وأن استعماله يقتضى الأهلية فيمن يستعمله، فإذا وثب الصغير أو المجنون بالجانى ففعلا به مثل ما فعل بهما، كأن كان الجانى قطع يد الصغير فقطع الصغير يده، فيرى البعض أنه يصير مستوفيًا لحقه لأن عين حقه أتلفه، فأشبه ما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها، فإن المودع لديه لا يسأل عن الوديعة. ويرى البعض أن لا يعتبر مستوفيًا لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ويعتبر جانيًا على الجانى، وعلى الأخير أن يؤدى للصغير أرش يده ويرجع على عاقلة الصغير بأرش يده هو لأن عمد الصغير خطأ (2) .
313- من يلى الاستيفاء؟: لا يستوفى القصاص فيما دون النفس إلا بحضرة السلطان وتحت إشرافه، لأن القصاص فيما دون النفس يحتاج إلى الاجتهاد ويسهل فيه الحيف ولا يؤمن أن يحيف المقتص، فوجب أن يكون تحت إشراف السلطان.
ومذهب أبى حنيفة، وهو وجه فى مذهب أحمد، جواز الاستيفاء من المجنى عليه فيستوفى المجنى عليه لنفسه إن كان خبيرًا يحسن الاستيفاء، فإن لم يكن يحسنه وكل عنه من يحسنه، لأن القصاص حق له فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق، والمقصود من القصاص التشفى، وتمكين المجنى عليه من القصاص أبلغ فى التشفى، ولكن لما كان استعمال الحق يحتاج إلى خبرة خاصة
_________
(1) نهاية المحتاج ج8 ص284 , المهذب ج2 ص250 , الشرح الكبير ج9 ص385.
(2) الشرح الكبير ج9 ص386 , المهذب ج2 ص196.(2/239)
فإن المجنى عليه لا يمكَّن منه إلا إذا توفرت فيه هذه الخبرة، فإن لم تتوفر وكَّل عنه خبيرًا بالقصاص، والقائلون بهذا الرأى فى مذهب أحمد لا يرون مانعًا من تعيين رجل بأجر من بيت المال يكون خبيرًا بالقصاص، مهمته أن يستوفى نيابة عن المجنى عليه من الدين لا يحسنون الاستيفاء (1) .
ويرى مالك والشافعى - ورأيهما وجه فى مذهب أحمد - أن المجنى عليه ليس له أن يستوفى فيما دون النفس بأى حال، سواء كان يحسن القصاص أو لا يحسنه؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفى أن يحيف على الجانى أو يجنى عليه بما لا يمكن تلافيه، وإنما يتولى القصاص فى النفس من يُحْسنُهُ من الخبراء، ويقول مالك فى ذلك: "أحب إلى أن يولّى الإمام على الجراح رجلين عدلين، فإن لم يجد إلا واحدًا فأرى ذلك مجزئًا إن كان عدلاً" وعلى هذا يصح أن يكون المستوفى موظفًا مخصصًا بمهمة القصاص فيما دون النفس (2) .
كيفية الاستيفاء فى الشجاج والجراح: ذكرنا أن الاستيفاء فى الشجاج والجراح يكون بالمساحة، فيراعى طول الجراح وعرضها عند الشافعى وأحمد ولا يراعى العمق، أما مالك وأبو حنيفة فيراعون العمق فوق مراعاة الطول والعرض. والفرق بينهما وبين الشافعى وأحمد: أن الأولين يقولان بالقصاص من الشجاج قبل الموضحة كلها أو بعضها، أما الأخيران فيقولان بالقصاص من الموضحة فقط، ولما كانت الموضحة هى التى توضح العظم أى تظهره، فليس هناك ما يدعو لقياس العمق، لأن حد الجراحة هو إيضاح العظم أى إظهاره، أما ما قبل الموضحة فليس له حد معين فى عمقه، فاشترط قياس عمق الجرح لتحقق التماثل بين فعل الجانى والمقتص. والقاعدة عند الشافعى وأحمد اعتبار كل العضو.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246 , الشرح الكبير ج9 ص398 , 399.
(2) مواهب الجليل ج6 ص253 , 254 , المهذب ج2 ص197 , الشرح الكبير ج9 ص399.(2/240)
ولا يتقيد الشافعى وأحمد عند الاستيفاء بمكان الشجة والجراحة من العضو المصاب ما دام هذا المكان فى عضو الجانى لا يتسع للقصاص، ويعتبران عضو الجانى كله أعلاه وأسفله ووجهه وظهره محلاً للقصاص حتى تستوفى الجراحة المماثلة طولاً وعرضًا، ولكنهما يشترطان أن يبدأ من حيث بدأ الجانى إذا كانت الجراحة لا تأخذ كل العضو، وأن لا ينتقل القصاص من عضو إلى عضو آخر، فإذا لم يتسع عضو الجانى كله لمثل الجراحة التى بعضو المجنى عليه اكتفى بما اتسع له عضو الجانى فقط. وهذا لا يظهر إلا إذا كان عضو الجانى أصغر من عضو المجنى عليه أما إذا كانت مثله فالاستيفاء فى نفس المحل.
فمثلاً إذا كانت رأس الشاج أصغر من رأس المشجوج، وكانت الموضحة فى مقدم الرأس أو فى مؤخره أو قزعته وأمكن أن يستوفى قدرها فى موضعها من رأس الشاج لم يستوف فى غيرها. وإن كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الشاج استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذى شجه فى مثله لأن الجميع رأس، فإن كانت فى مقدم الرأس فلم يتسع لها مقدم الرأس استوفى بقية الشجة فى جانب الرأس. وإن كان قدرها يزيد على كل رأس الجانى لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لأنه قصاص فى غير العضو الذى جنى عله وهو الرأس. وإن أوضح الجانى كل رأس المجنى عليه، ورأس الجانى أكبر من رأس المجنى عليه، بدأ المجنى عليه بالقصاص من أى جانب شاء؛ لأن الرأس جميعها محل للجناية، وإن أراد أن يستوفى بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره، فهناك رأيان: رأى يقول بعدم جوازه لأنه يأخذ موضحين بموضحة، ورأى يقول بالجواز ما دام لا يجاوز قدر الجناية وموضعها وهو الرأس، إلا أن يقول أهل الخبرة إن فى ذلك زيادة ضرر أو شين.
أما إذا كان رأس الجانى هو الأكبر فللمجنى عليه أن يستوفى مثل شجته فى مكانها. وهذا هو رأى الشافعى وأحمد (1) .
_________
(1) المهذب ج2 ص190 , المغنى ج9 ص414 وما بعدها , مواهب الجليل ج6 ص246 , شرح الدردير ج4 ص223.(2/241)
أما أبو حنيفة فالقاعدة عنده أن الاستيفاء بحسب طول الشجة وعرضها ما أمكن بشرط أن لا يؤدى القصاص إلى إحداث شين الجانى أكثر من شين المجنى عليه، فإذا أخذت الشجة ما بين قرنى المشجوج وكانت تزيد على ما بين قرنى الشاج لصغر رأسه فليس للمشجوج أن يزيد على ما بين قرنى الشاج وله أن يأخذ الأرش إن شاء، وكذلك لو كانت الشجة لا تستوعب ما بين قرنى المشجوج فله أن يقتصها غير مستوعبة وإن شاء الأرش (1) .
كيفية القصاص فى الجراح: لا قصاص فى الجراح عند أبى حنيفة. ويرى أحمد والشافعى القصاص فيما أوضح العظام، أما مالك فيرى القصاص فى كل الجراح ما أمكن القصاص ما لم تكن مخوفة. والقاعدة التى أخذ بها مالك والشافعى وأحمد فى الشجاج هى قاعدتهم فى الجراح.
كيفية القصاص فى الأطراف: القاعدة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن لا قصاص إلا من المفصل فى الأطراف، أما مالك فيجيز القصاص من غير مفصل لأنه يجيز القصاص من العظام. فإذا كان القطع من غير مفصل فلا قصاص إلا عند مالك، لكن الشافعى وأحمد لا يريان مانعًا من القصاص من أول مفصل داخل فى الجناية، ولا يرى ذلك أبو حنيفة.
314- كيفية الاستيفاء: لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا يستوفى بآلة يخشى منها الزيادة ولو كانت هى الآلة المستعملة فى الجريمة، ولا يقاس الاستيفاء فى الجراح بالاستيفاء فى القتل لأن القتل اشترط فى استيفائه السيف، لأن السيف آلة القتل، وليس ثمة شئ يخشى التعدى إليه، فيجب أن يستوفى ما دون السيف بالآلة الملائمة للقصاص، ويتوقى ما يخشى منه الزيادة إلى محل لا يجوز استيفاؤه، ولقد
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص311.(2/242)
منعنا القصاص كلية فيما تخشى الزيادة فى استيفائه، فلأن يمنع الآلة التى يخشى منها الزيادة أولى، فإن كان الجرح موضحة أو ما أشبهها فيقتص بالموسى أو بحديدة ماضية معدة لذلك، ولا يستوفى إلا من له علم كما قدمنا كالجراّح ومن فى حكمه، وإن كان على موضع الجراحة شعر حلق، ثم تقاس الشجة بخشبة أو بخيط ويعلم طولها، ويقاس مثلها فى رأس الشاج وتعلم بخط بسواد أو بغيره، ثم تؤخذ حديدة عرضها عرض الشجة فيضعها فى أول المكان المعلم بالسواد ثم يجرها إلى آخره، وإن كان الفعل قطعًا من مفصل قطع الجراح مفصل الجانى بأرفق وأسهل ما يقدر عليه. وهكذا يراعى فى الاستيفاء أن يكون بما يؤمن معه الحيف والتعذيب، وأن يكون بآلة ماضية معدة للاستيفاء، وأن يكون الاستيفاء من خبير يأتى به على أرفق وجه وأسهله (1) .
وكل ذلك إنما هو تطبيق لشرط التماثل وأخذًا بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولُيحدَّ أحدكم شفْرتَه وليُرحْ ذبيحتَه".
ولا يقتص من الجانى فى حر شديد ولا برد شديد، حتى لا يكون للقصاص أثر على الجسم غير عادى، ولا يقتص من الجانى وهو مريض حتى يشفى من مرضه، ويعتبر النفاس مرضًا حتى تنتهى أيامه، وإذا وجب الحد على ضعيف الجسم يخاف عليه من الموت سقط الحد ووجبت عليه الدية (2) .
ولا قصاص فيما دون النفس على حامل حتى تضع حملها ولو كان الحمل بعد الجناية (3) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص254 , بدائع الصنائع ج7 ص309 , المهذب ج2 ص199 , المغنى ج9 ص412
(2) مواهب الجليل ج6 ص235.
(3) المغنى ج9 ص449.(2/243)
315- الاستيفاء عند تعدد المستحقين: إذا تعدد المستحقون وكان محل حق كل منهم غير محل الآخر فلكل منهم أن يستوفى حقه فى أى وقت يشاء، حيث لا يتوقف استيفاء حقه على استيفاء الآخرين.
أما إذا تعدد المستحقون لمحل واحد كأن قطع رجل يمنى رجلين، فإن محل القصاص للمجنى عليهما هو يمين الجانى. وحكم هذه الحالة عند مالك: أنه إذا حضر المجنى عليهما معًا أو حضر أحدهما وتغيب الآخر فإن يد الجانى تقطع وليس لهما شئ غير ذلك، وهذا تطبيق لنظريته، فإن القصاص واجب عينا، وإن حقهما تعلق بقطع يد الجانى، فإذا قطعت فقد انتهى حقهما (1) .
وتقول نظرية مالك: إنه إذا استحق أكثر من واحد القصاص من عضو اقتص من العضو ولو طلب أحدهم القصاص فقط ويسقط حق الباقين. وإذا استحق أكثر من واحد القصاص فى عضو واحد واختلفت حقوقهم بأن استحق أحدهم كل العضو واستحق بعضهم بعض العضو، كأن قطع لواحد السبابة اليمنى، وللثانى أصابعه، وللثالث يده من المعصم، وللرابع يده من المرفق، فكل هؤلاء يستحقون فى يد المرفق، فتقطع اليد من المرفق لهم جميعًا، ولا شئ لهم ما لم يكن الجانى قصد المثلة بهم فيقتص للأول فى السبابة، ثم تقطع بقية أصابعه، ثم تقطع اليد من المرفق.
ويرى أبو حنيفة أنهما إذا حضرا جميعًا فلهما أن يقطعا يمين الجانى ويأخذا منه دية يديهما نصفين لأنهما استويا فى سبب الاستحقاق، وقد وجب قطع اليد فى حق كل واحد منهما، فيستحق كل منهما قطع يده، ولا يحصل من كل منهما فى يد واحدة إلا قطع بعضها، فلم يستوف كل واحد مهما بالقطع إلا بعض حقه فيستوفى الباقى من الأرش.
وهذا الرأى تطبيق لنظرية أبى حنيفة فى وجوب القصاص عينًا، تلك
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص225 , مواهب الجليل ج6 ص248.(2/244)
النظرية التى قيدها فى حالة زوال محل القصاص بحق فيما دون النفس (1) .
وتقول نظرية أبى حنيفة: إنه إذا تجمعت حقوق فى عضو وجب استيفاء حق كل واحد بالقدر الممكن، بغض النظر عن أسبقية الاستحقاق فإذا وجد مع ذلك حق أحد المستحقين ناقصًا خُيِّر بين القصاص والدية ولا شئ له إذا اقتص، وإذا لم يتمكن أحد المستحقين من القصاص فله الدية.
أما الشافعى فيرى أنه إذا قطع أكثر من واحد فيقتص منه للأول وللباقين الدية، وإن سقط حق الأول بعفو أو صلح مثلاً اقتص للثانى، وهكذا إذا اقتص الواحد بعينه تعين حق الباقين فى الدية، لأن القود فاتهم بغير رضاهم. وإذا قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال فلم يعرف من قطع الأول أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة اقتص له وتعين حق الباقين فى الدية (2) .
وحجة الشافعى أن الجانى إذا قطعت يده لأحد المستحقين صارت حقًا له، ولا يمكن أن تكون مع ذلك حقًا لغيره فوجبت الدية للغير، والشافعى يطبق هنا نظريته فى القتل.
أما أحمد فيطبق أيضًا نظريته فى القتل ويرى أن المجنى عليهم إذا اتفقوا على قطع الجانى قطع لهم جميعًا، ولا شئ لهم فوق ذلك، لأن حقهم فى القطع وقد رضوا به فإن أراد أحدهم القود وأراد الباقون الدية قطع لمن أراد القود وتعين حق الباقين فى الدية (3) .
وأساس نظرية الشافعى وأحمد أنه: إذا تجمعت حقوق فى طرف واحد استوفى الحقوق كلها بالقدر الممكن بشرط تقديم الأسبق فى الاستحقاق، وإذا وجد حق أحد المستحقين ناقصًا خير بين القصاص والدية، ولا شئ له إذا اقتص عند بعض فقهاء مذهب أحمد، وله أرش الناقص عند الشافعى وبعض الفقهاء،
_________
(1) المغنى ج9 ص449.
(2) المهذب ج2 ص195.
(3) الشرح الكبير ج9 ص413 , المغنى ج9 ص449.(2/245)
وإذا لم يتمكن أحد المستحقين مع ذلك من القصاص فله الدية.
وإذا بادر أحدهم فقطعه فقد استوفى حقه ولا شئ للآخرين عند مالك، ولهم الدية عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد.
316- هل يمكن قطع أطراف الجانى قصاصًا؟: إذا استحقت كل أطراف الجانى قصاصًا اقتص منه فى جميعها بعكس ما عليه فى تنفيذ الحدود، فإذا قطع الجانى يدى رجل ورجليه قُطعت يداه ورجلاه لأنه المثل، ولأن استيفاء المثل ممكن. ولو قطع يمين رجل ويسار آخر قطعت يمينه لصاحب اليمين وقطعت يساره لصاحب اليسار؛ لأن هذا يحقق المماثلة. وهكذا يقطع من الجانى طرف بعد طرف كلما استحق ولم يكن ثمة مانع يمنع القصاص (1) .
317- إذا قطع إصبع شخص من المفصل من اليد اليمنى مثلاً ثم قطع اليمنى لشخص آخر - فيرى مالك أن تقطع اليد اليمنى فقط ولا يقطع الإصبع إلا إذا كان الجانى قد قصد المثلة فيقطع الإصبع ثم تقطع بعد ذلك اليد، وفى الحالين لا شئ للمجنى عليهما، لأن حقهما معلق بالقصاص دون غيره وقد اقتص من الجانى (2) .
ويرى أبو حنيفة أنهما إذا جاءا يطلبان القصاص مجتمعين يقتص أولاً فى الإصبع لأننا لو بدأنا بالقصاص فى اليد أبطلنا حق صاحب الإصبع فى القصاص، ولو بدئ بالإصبع لم يبطل حق صاحب اليد فى القصاص، لأنه يمكن من استيفائه مع النقصان ويخير صاحب اليد بين القصاص والدية، لأن الكف صارت معيبة بقطع الإصبع فوجد حقه ناقصًا فيثبت له الخيار كالأشل إذا قطع يد الصحيح. وإذا جاءا متفرقين فإن جاء صاحب الإصبع أولاً اقتص له حتى إذا جاء صاحب اليد خير على الوجه السابق، أما إذا جاء صاحب اليد أولاً اقتص له، لأن حقه ثابت فى اليد ولا يجوز منعه من استيفاء حقه لحق غائب يحتمل أن يحضر ويطالب ويحتمل أن لا يحضر ولا يطالب، فإن جاء
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص300.
(2) المواهب ج6 ص256 , شرح الدردير ج4 ص236.(2/246)
صاحب الإصبع بعد ذلك أخذ الأرش لتعذر استيفاء القصاص (1) .
ويرى الشافعى وأحمد أنهما إذا حضرا معًا قدم فى القصاص صاحب الأسبقية فى الاستحقاق، فإن كان قطع الإصبع أسبق قطعت إصبعه قصاصًا، وخير صاحب اليد بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الإصبع لأنه وجد بعض حقه، فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود. ويرى بعض فقهاء مذهب أحمد أن له القصاص فقط وليس له دية الإصبع كما هو مذهب أبى حنيفة؛ لأنه لا يجمع فى عضو واحد بين قصاص ودية، وإن كان قطع اليد سابقًا على قطع الإصبع قطعت يمينه قصاصًا ولصاحب الإصبع أرشها (2) . ويقاس على ما سبق ما لو قطع إصبع رجل من مفصل ثم قطع إصبع آخر من مفصلين ثم قطع إصبع ثالث كلها. وذلك كله فى إصبع واحدة كالسبابة مثلاً.
فعند مالك تقطع السبابة لهم جميعًا ولا شئ لهم إلا إذا كان الجانى قد قصد المثلة بهم فيقطع المفصل الأول للأول، والمفصل الثانى للثانى، والمفصل الثالث للثالث.
وعند أبى حنيفة إن جاءوا جميعًا يقطع المفصل الأعلى لصاحب المفصل الأعلى، ثم يخير صاحب المفصلين، إن شاء استوفى حقه قصاصًا من المفصل الأوسط ولا شئ له من الأرش، وإن شاء أخذ ثلثى دية إصبعه كاملة من مال القاطع. ويسلك أبو حنيفة هذه الطريقة لأن حق كل واحد من المجنى عليهم فى مثل ما قطع منه، فيجب إيفاء حقوقهم بقدر الإمكان وذلك فى البداية بما لا يسقط حق بعضهم، فالبداية بقطع المفصل الأعلى لا تسقط حق الآخرين فى القصاص أصلاً لإمكان استيفاء حقيهما من النقصان، ولكن البداية بالقصاص لصاحب الإصبع تسقط حق صاحب المفصل وصاحب المفصلين. أما إذا جاءوا متفرقين فإن جاء صاحب الإصبع أولاً قطعت له الإصبع، فإذا جاء الآخران فلهما أرش ما قطع منهما، وإن جاء صاحب المفصلين أولاً يقطع له المفصلان، ولصاحب المفصل الأعلى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص300 , 301.
(2) المهذب ج2 ص195 , 196 , الشرح الكبير ج9 ص412.(2/247)
الأرش، ولصاحب الإصبع الخيار بين أن يقتص من المفصل الباقى ولا شئ له، وإن شاء أخذ دية الإصبع. وإذا جاء صاحب المفصل أولاً فهو كما لو جاءوا معًا (1) .
أما الشافعى وأحمد فعندهما يقتص أولاً لمن جنى عليه أولاً، فإن كان صاحب الإصبع هو الذى جنى عليه أولاً اقتص له وللآخرين الأرش فيما قطع منهما، وإن قطع صاحب المفصلين أولاً اقتص له ولصاحب المفصل أرش ما قطع منه، وخُيِّر صاحب الإصبع بين أن يقتص فى المفصل الباقى ويأخذ أرش مفصليه عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد أو يقتص فقط ولا شئ كما يرى بعض فقهاء مذهب أحمد وبين أن يأخذ دية إصبعه كاملة. وإذا قطع صاحب المفصل أولاً اقتص له، فإذا كان صاحب الإصبع هو الثانى خُير على الوجه السابق، فإن اقتص تعين حق صاحب المفصلين فى الدية، وإن أخذ الدية ولم يقتص خير صاحب المفصلين بين أن يقتص من مفصل واحد على الوجه السابق وما فيه من خلاف وبين أخذ الدية، وإن كان صاحب المفصلين هو الثانى فى القطع خير بين القصاص والدية ثم خير بعده صاحب الإصبع (2) .
ويقاس على ما سبق قطع اليد اليمنى لشخص من المعصم وقطع نفس اليد لآخر من المرفق.
318- تكرر أفعال الجانى: وإذا قطع المفصل الأعلى من سبابة رجل ثم عاد فقطع المفصل الثانى منها، فيرى مالك القصاص من المفصل الثانى إلا إذا كان الجانى يقصد المثلة فيقطع المفصلان واحدًا بعد واحد (3) .
ويرى أبو حنيفة القصاص فى المفصل الأول ولا قصاص عنده فى المفصل الثانى وعليه أرشه، وكذلك الحكم عنده لو قطع إصبع رجل ثم قطع كفه بعد ذلك، أو لو قطع الكف ثم قطع الساعد، فعليه القصاص فيما قطعه أولاً فقط،
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص301.
(2) المغنى ج9 ص457 , 458 , المهذب ج2 ص196.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص236 , بدائع الصنائع ج7 ص301.(2/248)
وحجة أبى حنيفة أنه حين القطع الأول كان هناك تماثل بين المجنى عليه والجانى، أما فى القطع الثانى فلم يكن التماثل متحققًا لأن المجنى عليه كان مقطوعًا والجانى سليمًا. ولكن محمدًا وأبا يوسف يفرقان بين ما إذا كان القطع الثانى قبل بُرء الأول أو بعد البرء، فإن كان قبل البرء فالفعلان جناية واحدة والقصاص من القطع الثانى، وإن كانت بعد البرء فهما جنايتان متفرقتان ويجب القصاص فى الأولى دون الثانية (1) .
والقياس عند الشافعى وأحمد يؤدى إلى مثل رأى أبى يوسف ومحمد، أما إذا كان القطع الثانى بعد القصاص من قطع المفصل الأول، فالمماثلة متوفرة والقصاص فى الثانى لا خلاف فيه.
وإذا قطع غيره المفصل الأعلى، ثم جاء الجانى فقطع المفصل الثانى، فلا قصاص فى المفصل الثانى اتفاقًا لانعدام المساواة بين إصبع القاطع الثانى والمقطوع (2) .
وإذا قطع الجانى نصف المفصل الأعلى ثم عاد فقطع النصف الثانى لهذا المفصل فإن كان القطع الثانى بعد برء الأول، فهما جنايتان مستقلتان، ولا قصاص فيهما عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد حيث لا قصاص عندهم فى غير مفصل، أما عند مالك فعليه القصاص فى الجنايتين لأن القصاص فى العظام عنده واجب إذا كان ممكنًا وغير مخوف، وإذا كان القطع الثانى قبل برء الأول فعند مالك القصاص من القطع الثانى فقط ما لم يكن الجانى قد قصد المثلة فيقتص من القطعين. وعند أبى حنيفة أيضًا يقتص من القطع الثاني؛ لأن الفعلين يعتبران جناية واحدة، والقطع الثانى من مفصل. وليس فى مذهب الشافعى وأحمد ما يخالف رأى أبى حنيفة (3) .
وإذا قطع من رجل يمينه من المفصل فاقتص منه ثم إن أحدهما بعد ذلك
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص301.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص301.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص302.(2/249)
قطع من الآخر الذراع من المرفق، فلا يرى أبو حنيفة القصاص، لأن القصاص فيما دون النفس عنده يقتضى المساواة فى الأرش، لأنه يسلك بما دون النفس مسلك الأموال، وفى هذه الحالة لا يعرف التساوى، لأن الذراع ليس له أرش مقدر. ويخالفه أبو يوسف وزفر ويقولان بالقصاص؛ للتساوى والمماثلة ولأن القطع من مفصل (1) .
وعند مالك والشافعى وأحمد القياس يقتضى القصاص، لأنهم لا يسلكون بالأطراف مسلك الأموال، ولا يشترطون التساوى فى الأرش.
319- التداخل: معنى التداخل هو أن يدخل قصاص تحت آخر ويعتبر منفذًا بتنفيذ هذا الآخر. فلو قطع الجانى يد رجل ثم قتله، فيرى مالك أن القصاص فى الطرف يدخل فى القصاص فى النفس، فلا يقتص فى الطرف اكتفاء بالقصاص فى النفس، إلا إذا كان الجانى قد قطع بقصد المثلة ففى هذه الحالة فقط يقتص من الطرف قبل القصاص من النفس (2) .
ويرى أبو حنيفة والشافعى أن اليد لا تدخل فى النفس سواء كان القتل بعد البرء القطع أو قبله، ولولى الخيار إن شاء قطع يده ثم قتله وإن شاء اكتفى بالقتل. ويرى أبو يوسف ومحمد أن اليد تدخل فى النفس إذا كان القطع قبل البرء؛ لأن الجناية على ما دون النفس إذا لم يتصل بها البرء لا حكم لها مع الجناية على النفس، بل يدخل ما دون النفس فى النفس، أما إذا برئ القطع قبل القتل فلا تدخل اليد فى النفس لأن حكمها استقر قبل القتل (3) .
وفى مذهب أحمد اتفاق على أن القطع إذا برئ قبل القتل فلا يدخل ما دون النفس فى النفس، أما إذا كان القتل قبل برء القطع فقد اختلفوا، ففريق يرى
_________
(1) نفس المرجع السابق.
(2) شرح الدردير ج4 ص236.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص195.(2/250)
دخول ما دون النفس فى النفس، وفريق يرى أنه لا يدخل.
وإن قطع يد رجل وقتل آخر، فعند مالك يندرج الطرف فى النفس، فيقتل فقط ولا تقطع يده.
وعند أبى حنيفة والشافعى وأحمد تقطع يده أولاً سواء تقدم القطع أو تأخر لأن تقديم القتل يسقط من المقطوع، وإذا تقدم القطع لم يسقط حق المقتول. والقاعدة أنه إذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما (1) . وإذا كان أحد الفعلين عمدًا والثانى خطأ فلا تداخل، واعتبر كلا منهما بحكمه، سواء كان الثانى بعد برء الأول أو قبله، لأنهما جنايتان مختلفتان، فلا يحتملان التداخل، ويعطى لكل جناية حكمها، ففى العمد القصاص، وفى الخطأ الدية (2) .
أما إذا كان الفعلان خطأ أو شبه عمد، فيفرق الفقهاء بين ما إذا كان القتل بعد برء القطع أم قبله، ويدخلون الأطراف فى النفس إذا كان القتل قبل البرء، ولا يدخلون الأطراف فى النفس إذا كان القتل بعد البرء، فمن قطع يد شخص ثم قتله قبل البرء أُلزم بدية واحدة، ومن قطع شخصًا ثم قتله بعد برء القطع ألزم بأرش اليد ودية النفس، ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أن الطرف لا يدخل فى النفس سواء كان القتل بعد البرء أو قبله، لأن الجناية على الطرف انقطعت سرايتها بالقتل، فلا يسقط ضمانها كما لو اندملت. ولكنه رأى مرجوح فى المذهب (3) .
وإذا تعدد الجناة فقطع أحدهم يده مثلاً والثانى رجله ثم قتله ثالث، فلا يدخل ما دون النفس فى النفس كيفما كان بعد البرء أو قبله، لأن التداخل أساسه أن يكون الفاعل واحدًا.
_________
(1) المغنى ج9 ص396 , وتراجع ص386.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص303.
(3) شرح الدردير ج4 ص6 , المغنى ج9 ص387 , المهذب ج2 ص225.(2/251)
320- السراية: السراية هى أثر الجرح فى النفس أو فى عضو آخر، فإن لم يؤثر الجرح على النفس أو عضو آخر غير محله فلا سراية، وإذا سرى الجرح إلى النفس قيل إن هناك سراية النفس، وهو ما نسميه إفضاء للموت. وإذا سرى إلى عضو آخر قيل إن الجرح سرى إلى عضو آخر، والسراية إما أن تكون من فعل مأذون فيه أو مباح أو من فعل محرم.
321- السراية إلى النفس من فعل محرم: إذا جنى على ما دون النفس فسرى إلى النفس فهو قاتل متعمد عليه القصاص إن كان متعمدًا القتل، لأنه لما سرى بطل حكم ما دون النفس وتبين أن الفعل وقع قتلاً من حين وجوده، وإذا لم يكن متعمدًا القتل فلا قصاص؛ لأن الفعل قتل شبه عمد، ولا قصاص فى شبه العمد.
322- السراية إلى النفس من فعل مباح أو مأذون فيه: هناك أفعال مأذون فيها وأفعال مباحة، فلو أتى الإنسان فعلاً من هذه الأفعال فسرى إلى النفس، فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان المأذون فيه أو المباح النفس أو ما دونها، فإن كانت النفس مباحة كالمهدر دمه أو مأذونًا فى إتلافها كالمحكوم عليه بالقتل قصاصًا فلا عقوبة على الجرح إذا سرى إلى النفس ولا عقوبة عليه من باب أولى إذا لم يسر للنفس، وهذا مسلم به من الجميع، إلا أنهم اختلفوا فى حالة ما إذا استحق شخص قتلاً قصاصًا على آخر، فقطع يده ثم عفا عنه بعد ذلك، فرأى مالك وأبى حنيفة أن العافى مسئول عن قطع اليد، ورأى الشافعى وأحمد ومعهما أبو يوسف ومحمد أن لا مسئولية عليه، وقد بينا أدلة الفريقين من قبل فى العفو عن النفس.
أما إذا كان المباح أو المأذون فيه هو ما دون النفس، كقطع يد السارق أو قطع عضو من الجانى قصاصًا أو تأديب الزوجة والابن والتلميذ، فقد اختلف نظر الفقهاء فى مسئولية الجانى، وسنبين فيما يأتى تفصيل ذلك.(2/252)
تكلمنا فيما سبق على استعمال الحق وأداء الواجب فلا يفيد القول فيه، وبقى بعد ذلك أن نتكلم على سراية القود.
323- سراية القود: إذا اقتص شخص من طرف الجانى فسرى القصاص إلى نفس الجانى ومات فلا مسئولية على المقتص عند مالك والشافعى وأحمد، لأن السراية من فعل مأذون فيه ولا عقوبة عليه وما تولد عن المأذون فيه يعتبر مأذونًا فيه ضمنًا فلا عقاب عليه، وبذلك قضى عمر وعلى رضى الله عنهما، فعندهما أن من مات من حد أو قصاص لا دية له. وشأن القصاص شأن الحد فى السرقة، فإنه قطع مستحق مقدر، فإذا لم تضمن سرايته فى السرقة فلا تضمين فى القصاص.
ويرى أبو حنيفة أن من قطع طرف آخر قصاصًا فمات من ذلك ضمن ديته لأنه استوفى غير حقه إذ حقه القطع، وهو قد أتى بالقتل، لأن القتل اسم لفعل يؤثر فى فوات الحياة عادة وقد وجد، وكأن القياس أنه يجب القصاص، إلا أنه سقط للشبهة الناشئة عن استحقاق الطرف فدرئ القصاص ووجبت الدية. ويرى أبو حنيفة أن الأمر فى إقامة حد السرقة لا يختلف عن هذه الحالة إلا أن الضرورة إلى عدم إيجاب الضمان على الإمام؛ لأن إقامة الحد واجب عليه، والتحرز عن السراية ليس فى وسعه، فلو أوجب عليه الضمان لامتنع الأئمة عن إقامة الحدود، وفى تعطيل الحدود إخلال بالنظام العام، أما القطع قصاصًا فليس بواجب على مستحق القصاص دائمًا لأنه حقه وهو حر بالخيار فيه، إن شاء قطع وإن شاء عفا، والأولى به العفو لأن الله قد ندب إليه، فليس ثمة ضرورة توجب إسقاط الضمان. ويرى أبو يوسف ومحمد أن لا ضمان على المقتص (1) .
324- السراية إلى ما دون النفس: إذا كان الفعل مباحًا أو مأذونًا فيه فسرى إلى ما دون النفس، كأن قطع إصبعًا قصاصًا فشُلَّت اليد، أو ضرب زوجته
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص473 , بدائع الصنائع ج7 ص305 , المهذب ج2 ص202.(2/253)
على ذراعها فأتلفه، فالحكم هو ما ذكر فى السراية إلى النفس على الاختلاف والوفاق الذى ذكر من قبل.
أما إذا كان الفعل غير مباح ولا مأذون فيه، فيفرق بين ما إذا كانت السراية لمعنًى أو لعضو.
325- السراية لمعنى: إذا كان الاعتداء على طرف فسرى إلى طرف آخر فأذهب معناه مع بقاء الطرف الآخر سليمًا، فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان فعل الجانى يجوز فيه القصاص أو لا يجوز.
فإذا كان يجوز فيه القصاص كما لو شجه مُوضحة فأذهب بصره، فيرى مالك والشافعى وأحمد (1) أن يقتص من الشجة فإن ذهب البصر بالقصاص من الشجة فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإن لم يذهب عولج علميًا بما يزيل الإبصار دون جناية على الحدقة، فإن لم يزل الإبصار مع ذلك ففيه الدية.
ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الشجة ولا فى البصر وفيهما الأرش، ويرى محمد وأبو يوسف القصاص فى الموضحة والدية فى الإبصار. وهناك رواية أخرى عن محمد عن ابن سماعة فى نوادره بأن القصاص يجب فى الفعل والمعنى كلما أمكن القصاص فى المعنى فإن لم يكن القصاص فى المعنى ممكنًا اقتص من الفعل فقط وفى المعنى الدية، وحجته أن السراية تولدت من جناية يقتص فيها إلى عضو يمكن فيه القصاص، فوجب القصاص كما إذا سرى إلى النفس، أما حجة أبى يوسف فى عدم القصاص من المعنى بأن تلف المعنى حدث من طريق التسبب ولى بالسراية، لأن الشجة تبقى بعد ذهاب البصر، وحدوث السراية يوجب تغيير الجناية، كالقطع إذا سرى إلى النفس فإنه لا يبقى قطعًا بل يعتبر قتلاً، وهنا الشجة لم تتغير فدل ذلك على أن ذهاب البر ليس من طريق السراية بل من طريق التسبب، والجناية بالتسبب لا توجب القصاص (2) .
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص248 , نهاية المحتاج ج7 ص272 , المغنى ج9 ص430.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص307.(2/254)
أما إذا كان ذهاب المعنى بإصابة لا قصاص فيها فيقتص من المعنى دون الفعل بطريقة علمية لأنه لا قصاص فى الفعل، فإن زال فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإلا أخذ أرش الفعل والمعنى. وهذا رأى مالك والشافعى وأحمد.
أما أبو حنيفة وأصحابه فلا يرون القصاص اتفاقًا ما دام الفعل لا يقتص منه.
326- السراية لعضو: يختلف الحكم فى السراية لعضو بحسب ما إذا كانت الجناية مما يقتص فيه أو مما لا يقتص فيه، فإن كانت الجناية مما لا يقتص فيه فلا قصاص فى الجناية ولا فى سرايتها وفيهما الدية أو الأرش باتفاق. وإن كانت الجناية مما يقتص فيه فقد اختلف الفقهاء فى ذلك، فيرى مالك والشافعى أن القصاص فى الجناية فقط لا فيما سرت إليه، فإن أدى القصاص إلى مثل ما أدت إليه الجناية فقد استوفى المجنى عليه حقه، وإن لم يحصل فى الجانى مثل ما حصل فى المجنى عله فدية ما سرت إليه الجناية فى مال الجانى، فمثلاً إذا قطع إصبع رجل فتآكل منه الكف وجب القصاص فى الإصبع فقط لأنه أتلفه بجناية عمد ولا يجب فى الكف لأنه يباشره بالإتلاف (1) .
ويرى أحمد القصاص فيما سرت إليه الجناية كلما كانت السراية إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة مثل أن يقطع إصبعًا فتتآكل أخرى وتسقط أو تتآكل الكف وتسقط فالإصبع الأخرى التى سرت إليها الجناية والكف التى سرت إليها الجناية كلاهما يمكن مباشرته بالإتلاف فيقتص فيهما لذلك. وحجة أحمد فى ذلك أن ما وجب فيه القود بالجناية يجب بالسراية كما هو الحال فى النفس حيث يقتص من النفس فى حالة السراية إليها إذا كان الفعل الأصلى الجرح أو القطع مما يجب فيه القصاص، فإذا سرت الجناية إلى ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة فالقصاص فى الجناية دون السراية، كمن قطع إصبعًا فشُلَّت الكف أو شل بجواره إصبع آخر فالشلل لا يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة
_________
(1) المهذب ج2 ص14 , مواهب الجليل ج6 ص248 , شرح الدردير ج4 ص225.(2/255)
فامتنع فيه القصاص ووجبت الدية فيما حدث فيه الشلل (1) .
أما أبو حنيفة فالقاعدة عنده أن الجناية إذا حصلت فى عضو فسرت إلى عضو آخر والعضو الآخر لا قصاص فيه فلا قصاص فى العضو الأول أيضًا، فإذا قطع إصبعًا من يد رجل فشلت الكف فلا قصاص فيهما وعليه دية اليد؛ لأن الموجود من القاطع قطع مثل للكف ولا يمكن الإتيان بمثله على وجه المماثلة فيمتنع القصاص (2) .
وفضلاً عن هذا فإن الجناية واحدة فلا يجوز أن يجب بها ضمانان مختلفان، هما القصاص والمال، خصوصًا عند اتحاد المحل لأن الكف مع الإصبع بمنزلة عضو واحد.
وكذلك الحكم لو قطع مفصلاً من إصبع فشل ما بقى أو شلت الكف، فإن قال المقطوع أنا أقطع المفصل وأترك الباقى فليس له ذلك لأن الجناية وقعت غير موجبة القصاص من الأصل؛ لأن القطع جاء قطعًا مشلاً للكف والاستيفاء على وجه المماثلة غير ممكن فيمتنع القصاص. ومثل ذلك ما لو شجه فقتله فليس له أن يقتص منها موضحة ويترك الباقى [هذا جائز عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد] .
ويتفق أبو حنيفة فيما سبق مع أصحابه إلا أنهم اختلفوا فى الحالات التى يمكن القول فيها بأن المحل متعدد لا متحد. فمثلاً إذا قطع إصبعًا فشلت إلى جنبها أخرى، فأبو حنيفة لا يرى القصاص تطبيقًا للقاعدة التى سلفت، ولأنه يرى أن المحل متحد.
أما أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن فيرون القصاص فى الأولى والأرش فى الثانية؛ لأن المحل متعدد والفعل يتعدد بتعدد المحل حكمًا وإن كان متحدًا حقيقة لتعدد أثره وهنا تعدد الأثر فيجعل فعلين ويفرد كل واحد منهما بحكمه، ففى الأول القصاص وفى الثانية الدية.
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص470 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص306 , 307.(2/256)
وإذا قطع إصبعًا فسقطت إلى جنبها أخرى فلا قصاص عند أبى حنيفة، وعند أبى يوسف ومحمد القصاص فى الأولى أى فيما قطع والدية فيما سقط. بل إن محمدًا يرى - من رواية ابن سماعة - القصاص من الاثنين، لأن القاعدة عند محمد طبقًا لهذه الرواية أن الجراحة التى فيها القصاص إذا تولد عنها ما يمكن فيه القصاص وجب القصاص فيها جميعًا، وهنا يمكن القصاص من محل السراية المتولد من الجناية.
وإذا قطع إصبعًا عمدًا فسقطت معه الكف من المفصل فلا قصاص عند أبى حنيفة؛ لأن اسيفاء المثل وهو القطع المسقط للكف متعذر ولأن الكف مع الإصبع عضو واحد فكانت الجناية واحدة حقيقة وحكمًا وقد تعلق بها ضمان المال فلا يتعلق بها القصاص لأنه لا يجتمع ضمانان مختلفان بجناية واحدة. ويرى محمد القصاص للأسباب التى سبق بيانها. ويرى أبو يوسف القصاص فتقطع يده من المفصل، والفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة عند أبى يوسف أن الإصبع جزء من الكف والسراية تتحقق من الجزء إلى محله كما تتحقق من اليد للنفس والإصبعان عضوان مفردان ليس أحدهما جزء الآخر فلا تتحقق السراية من أحدهما للآخر، فوجب القصاص من الأولى دون الثانية (1) .
* * *
سقوط القصاص
327- يسقط القصاص فيما دون النفس لثلاثة أسباب هى: فوات محل القصاص - العفو - الصلح.
328- فوات محل القصاص: محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية، فإذا فات محل القصاص لأى سبب كمرض أو آفة أو باعتداء أو نتيجة استيفاء حق أو عقوبة سقط القصاص؛ لأن محله انعدام ولا يتصور وجود الشئ مع انعدام محله. وإذا سقط القصاص لم يجب للمجنى عليه شئ عند مالك أيًا كان سبب السقوط؛ لأن حق المجنى عليه فى القصاص عينًا فإذا سقط القصاص فقد
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص307.(2/257)
سقط حق المجنى عليه. وهذا تطبيق دقيق لنظرية مالك من أن موجب العمد هو القصاص عينًا وللمجنى عليه عند مالك إذا ذهبت الجارحة ظلمًا أن يقتص من قاطعها ظلمًا لأن حقه فى القصاص ينتقل من المقطوع ظلمًا إلى قاطعه (1) .
وأما أبو حنيفة - وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عينًا - فيفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلمًا، وبين فواته بحق تنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص، وفى الحالة الأولى لا يجب للمجنى عليه شئ، أما فى الحالة الثانية فيجب له الدية بدلاً من القصاص لأن الجانى قضى بالطرف أو الجارحة التى فاتت حقًا مستحقًا عليه فصار كأنه قائم وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ أو غيره (2) .
وعند الشافعى وأحمد للمجنى عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أيًا كان سبب ذهاب محل القصاص؛ لأن موجب العمد أحد شيئين غير عين القصاص فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجبًا.
329- العفو: العفو عن القصاص عند الشافعى وأحمد هو التنازل عن القصاص مجانًا أو على الدية، وهو فى الحالين إسقاط من جانب المجنى عليه لا يحتاج إلى رضاء الجانى، ويعتبر المتنازل عن القصاص مجانًا عافيًا والمتنازل عن القصاص على الدية عافيًا أيضًا؛ لأن لكليهما يسقط حقًا دون مقابل ممن أسقط له الحق، وهذا تطبيق لنظرية الشافعى وأحمد فى أن موجب العمد هو أحد شيئين: القصاص أو الدية، فمن تنازل عن القصاص مجانًا فقد تنازل عن حق له، ومن تنازل عن القصاص دون الدية فقد تنازل عن حق وتمسك بحق.
والعفو عند مالك وأبى حنيفة هو إسقاط القصاص مجانًا، أما التنازل على الدية فليس عفوًا عندهما، وإنما هو صلح لأنه يتوقف بحسب نظريتهما على رضاء الجانى بدفع الدية؛ لأنهما يريان أن الواجب هو القصاص عينًا.
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص213.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص246 , 298.(2/258)
330- من يملك العفو؟: يملك حق العفو المجنى عليه البالغ العاقل، فإذا لم يكن بالغًا أو عاقلاً ملكه وليه عند الشافعى وأحمد، أما عند مالك وأبى حنيفة فلا يملكه الولى ولا الوصى، وإنما يملكان حق الصلح فقط، وسلطة الولى عند الشافعى مقيدة بأن يعفو على الدية بشروط تكلمنا عنها سابقًا.
أما المجنى عليه البالغ العاقل فله أن يعفو مجانًا أو يعفو على الدية.
331- وإذا عفا المجنى عليه عن القصاص، أو عفا وليه على الدية عند الشافعى وأحمد فقد سقط القصاص بالعفو إذا برأ المجنى عليه من جراحة دون أن تسرى إلى عضو آخر، فإن سرت إلى عضو آخر كأن قطع إصبعه فعفا عنه ثم سرى الجرح إلى اليد فأتلفها، فيرى أبو حنيفة أن العفو صحيح سواء عن الجرح أو الجرح وما يحدث منه؛ لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها، أما الشافعى وأحمد فيفرقان بين ما إذا كان العفو شاملاً للجناية وما يحدث منها وفى هذه الحالة يصح العفو، وبين ما إذا كان العفو قاصرًا على الجرح فقط، ففى هذه الحالة يكون الجانى مسئولاً عن السراية، ولكن لا يقتص منه لأن القصاص فى الإصبع سقط بالعفو، ولا يجب فى الكف لأنها تلفت بالسراية مما يمتنع القصاص فيه، فإن كان العفو على الدية وجبت الدية فى اليد كلها، وإن كان العفو مجانًا وجبت الدية أو الأرش فيما سرت الجناية إليه فقط. والظاهر أن هذا هو الحكم عند مالك (1) .
* * *
الصلح
332- يجوز للمجنى عليه ولوليه ووصيه - إن كان غير بالغ أو غير عاقل - الصلح على القصاص بمقابل قد يساوى الدية وقد يزيد عليها، وليس للولى أو الوصى أن يصالح على أقل من الدية فإن صالح على أقل منها صح الصلح وسقط
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص246 , المهذب ج2 ص212 , المغنى ج9 ص472 , مواهب الجليل ج5 ص86 , 87 , شرح الدردير ج4 ص235.(2/259)
القصاص، ولكن للمجنى عليه أن يرجع على الجانى بما نقص عن الدية، ويشترط مالك للرجوع أن يكون الجانى معسرًا وقت الصلح.
وقد تكلمنا عن الصلح والفرق بينه وبين العفو ومن يملكه وشروطه وفصلنا الكلام فى هذا كله بمناسبة الكلام على الصلح على القصاص فى القتل العمد، وما قلناه هناك ينطبق هنا فليراجع.
* * *
العقوبات الأصلية الثانية
التعزير
333 - يرى مالك أن يعزر الجانى على ما دون النفس عمدًا سواء اقتص منه أم لم يقتص لدرء القصاص أو للعفو أو الصلح، على أن يراعى فى التعزير أن يختلف بحسب الأحوال، فمن اقتص منه عُزِّز بعقوبة مناسبة يراعى فى تقديرها أنه عوقب بعقوبة القصاص، ومن لم يقتص منه يعزر تعزيرًا شديدًا يردعه عن ارتكاب جريمته فى المستقبل. ويقرر مالك أنه يجب التعزير مع القصاص للردع والزجر ولتناهى الناس عن ارتكاب الجريمة، وأن الجانى إذا كان اقتص منه بمثل ما فعل فى المجنى عليه إلا أن هذا لا يمنع من تعزيره لأنه ظالم والظالم أحق أن يحمل عليه.
ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن لا تعزير مع القصاص؛ لأن الله قال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ، فجعل العقوبة القصاص دون غيره فمن فرض غيرها فقد زاد على النص. وهذا ما يراه بعض الفقهاء فى مذهب مالك (1) .
ويلوح أن الرأى الأخير أقرب إلى المنطق لأنه إذا كانت عقوبة القصاص تعجز عن ردع الجانى فلا شك أن عقوبة التعزير أعجز عن ردعه وتهذيبه.
334- وإذا كان الأئمة الثلاثة لا يوافقون على جعل التعزير عقوبة أصلية فليس عندهم ما يمنع من جعل التعزير عقوبة بدلية فى حالة سقوط القصاص أو
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص247 , شرح الدردير ج4 ص324.(2/260)
امتناعه لسبب من الأسباب إذا رأى أولياء الأمر ذلك، فيقضى بالتعزير سواء حلت الدية محل القصاص أو عفى عن الدية.
أما تقدير عقوبة التعزير وبيان نوعها فهذا متروك للسلطة التشريعية المختصة تختار نوع العقوبة وقدرها، أو تترك للقاضى يختار العقوبة من بين العقوبات التعزيرية المحددة، أو التى تحددها له.
* * *
العقوبات البدلية
أولاً: الدية
335- الدية: هى العقوبة البدلية الأولى لعقوبة القصاص، فإذا امتنع القصاص لسبب من أسباب الامتناع أو سقط لسبب من أسباب السقوط وجبت الدية ما لم يعف الجانى عنها أيضًا.
336- والدية كعقوبة لما دون النفس تكون عقوبة بدلية إذا حلت محل القصاص وهو عقوبة الجناية على ما دون النفس عمدًا. وتكون الدية عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد لا عمدًا محضًا. وقد بينا من قبل أن الشافعى وأحمد يقولان بشبه العمد فيما دون النفس.
337- والدية سواء أكانت عقوبة أصلية أو تبعية يقصد منها - إذا أطلقت - الدية الكاملة وهى مائة من الإبل، أما ما هو أقل من الدية الكاملة فيطلق عليه لفظ الأرْش، على أن الكثيرين يستعملون لفظ الدية فيما يجب أن يستعمل فيه لفظ الأرش.
338- والأرش على نوعين: أرش مقدر وأرش غير مقدر، فالأول هو ما حدد الشارع مقداره كأرش اليد والرجل، والثانى هو ما لم يرد فيه نص وترك للقاضى تقديره، ويسمى هذا النوع من الأرش حكومة.
339- وتجب الدية بتفويت مصلحة الجنس على الكمال: كإتلاف اليدين، ففى إتلافهما تفويت لمنفعة الجنس على الكمال، أما الأرش فيجب فى تفويت(2/261)
بعض منفعة الجنس دون بعضها الآخر كإتلاف يد واحدة أو إصبع واحدة، ففى اليد الأرش وفى الإصبع الأرش.
340- ما تجب فيه الدية الكاملة: تجب الدية الكاملة بتفويت منفعة الجنس وتفويت الجمال على الكمال، وهى تفوت بإبانة كل الأعضاء التى من جنس واحد أو بإذهاب معانيها مع بقاء صورتها، والأعضاء التى تجب فيها الدية أربعة أنواع: نوع لا نظير له فى البدن، ونوع فى البدن منه اثنان، ونوع فى البدن منه أربعة، ونوع فى البدن منه عشرة. وقد اختلف الفقهاء فى تحديد الأعضاء التى تدخل تحت هذه الأنواع ولكنه اختلاف محدود، وسنذكر ما تفق عليه وما اختلف فيه، وسنبين فيما بعد وجوه الاختلاف.
النوع الأول: ما لا نظير له فى البدن ويدخل تحته الأعضاء الآتية:
الأنف، اللسان، الذكر، الصلب، مسلك البول، مسلك الغائط، الجلد، شعر الرأس، شعر اللحية.
النوع الثانى: الأعضاء النى فى البدن منها اثنان وهى:
اليدان، الرجلان، العينان، الأذنان، الشفتان، الحاجبان، الثديان، الأنثيان، الشفران، الإليتان، اللحيان.
النوع الثالث: ما فى البدن منه أربعه وهو:
أشفار العينين - أى منابت الأهداب - الأهداب نفسها وهى الأشعار.
النوع الرابع: ما فى البدن منه عشرة وهو:
أصابع اليدين - أصابع الرجلين.
341- والمعانى تجب فى ذهابها الدية الكاملة، ومثلها: العقل والبصر والشم والسمع والذوق والجماع والإيلاد والمشى والبطش والكلام، وسنتكلم عن(2/262)
المعانى بعد الكلام عن الأعضاء؛ فنستوفى الكلام عن إبانة الأعضاء ثم نتكلم عن إذهاب المعانى.
342- الأنف: تجب الدية فى مارن الأنف وهو ما لان من الأنف، لما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فى الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية" ولأنه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة، والأخشم كالأشم فى وجوب الدية لأن عدم الشم نقص فى خير الأنف فلا يؤثر فى دية الأنف. وقطع جزء من الأنف فيه من الدية بقدره فإن قطع نصف الأنف أو ثلثه فعليه نصف الدية أو ثلثها.
وإن قطع المارن وقصبة الأنف فيرى الشافعى ورأيه وجه فى مذهب أحمد أن على الجانى الدية فى المارن وحكومة فى القبضة، ويرى مالك وأبو حنيفة ورأيهما وجه فى مذهب أحمد أن على الجانى الدية فقط لأن المارن والقصبة عضو واحد إلا إذا قطع المارن فبرئ ثم قطع بعد البرء القصبة ففيها حينئذ حكومة (1) .
343- اللسان: تجب الدية فى اللسان لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى اللسان الدية"، ولأن فيه جمالاً ومنفعة. والدية تجب فى اللسان الناطق فإن جنى على لسانه فخرس وجبت عليه الدية كاملة ولو بقى اللسان لأنه أتلف المنفعة المقصودة، وإن قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه وجبت من الدية بقدر ما ذهب من الكلام فإن ذهب بنصف الكلام وجب نصفها وإن ذهب أقل من ذلك أو أكثر وجب بقدره، وإن ذهب نطق بعض الحروف وجب له ما يقابلها من الدية.
وفى لسان الأخرس حكومة عند مالك وأبى حنيفة، أما الشافعى فيفرق بين ما إذا كانت الجناية أذهبت ذوق الأخرس أم لم تذهبه، فإن كانت أذهبته ففى اللسان الدية، وإن كانت لم تذهبه ففى اللسان حكومة، وفى مذهب أحمد
_________
(1) المهذب ج2 ص216 , المغنى ج9 ص599 , مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 312.(2/263)
من يرى أن الدية لا تجب فى لسان الأخرس إطلاقًا، ومنهم من يفرق بين ما إذا كانت الجناية أذهبت الذوق أم لا، فإن لم يكن الذوق أذهب فرأى يرى حكومة ورأى يرى ثلث الدية (1) . وفى لسان الطفل الذى لم ينطق بعدُ الدية عند مالك والشافعى وأحمد، ولكن أبا حنيفة يرى فيه حكومة.
344- الذكر: تجب فى الذكر الدية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الذكر الدية" ولأنه عضو لا نظير له فى البدن فى الجمال والمنفعة فكملت فيه الدية كالأنف واللسان. وفى شلل الذكر دية لأن الشلل يذهب بنفعه، وتجب الدية فى ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب، وفى قطع الحشفة وحدها الدية، لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالأصابع، وفى قطع بعض الحشفة بعض الدية بنسبة ما قطع إلى الحشفة على رأى، ونسبة ما قطع إلى كل الذكر على رأى آخر، وفى ذكر الخصى والعنين الدية عند الشافعى، وهو وجه فى مذهب مالك، ومذهب أحمد: العضو سليم فى نفسه والمانع من الجماع راجع لغيره، ويرى أبو حنيفة أن فى ذكر الخصى والعنين حكومة لأن العبرة عنده بالقدرة على الإيلاج، وهذا وجه فى مذهب مالك، أما الوجه الثانى فى مذهب أحمد لا يرى فى ذكر العنين والخصى حكومة وإنما يرى فى كل منهما ثلث الدية (2) , وفى عسيب الذكر - أى الذكر دون الحشفة - الحكومة بإجماع.
345- الصلب: وتجب فى الصلب الدية، لما روى الزهرى عن سعيد بن المسيب أنه قال: "قضت السنة أن فى الصلب الدية، وفى اللسان الدية، وفى الذكر الدية، وفى الأنثيين الدية"، ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة. وإذا
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص262 , البحر الرائق ج8 ص330 , المهذب ج2 ص117 وما بعدها , المغنى ح9 ص604 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل ج6 ص261 , 263 , البحر الرائق ج8 ص330 , المهذب ج2 ص222 , المغنى ج9 ص627.(2/264)
كسر الصلب فلم ينجز الكسر ففيه الدية على رأى فى مذهب أحمد، وعلى الرأى الآخر الذى يتفق مع آراء باقى الفقهاء فيه حكومة ما دام لا يعطل منفعة المشى أو الجماع فإن ذهبت بالكسر منفعة المشى والجماع ففيه الدية. وإن أحدَوْدَب الظهر ولم تذهب منفعة ما ففيه حكومة، وإن ذهب المشى والجماع معًا ففريق يرى فيهما دية واحدة وفريق يرى فيهما ديتين (1) .
346- مسلك البول ومسلك الغائط: إذا أتلف مسلك البول فلم يعد يستمسك البول أو أتلف مسلك الغائط فلم يعد يستمسك الغائط؛ ففى كل واحد منهما الدية لأن كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة كبيرة وليست فى البدن مثله، فوجب فى تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء التى لا نظير لها فى البدن، فإن نفع المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها؛ والنفع بهما كثير والضرر بغيرهما عظيم، فكان فى كل واحد منهما الدية كالسمع والبصر، وإن فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على الجانى ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، ولكن فى مذهب مالك رأيًا بأن فى كل من المسلكين حكومة (2) .
347- الجلد: يرى الشافعى أن الدية تجب فى الجلد إن سلخ جميعه، ويندر أن يعيش إنسان يسلخ كل جلده، ويرى مالك أن الدية تجب فى الجلد إذا فعل الجانى فعلاً جزمه أو برصه أو سوده، ولا يشترط أن يعم التجزيم أو التبريص أو التسويد كل الجلد، كذلك يوجب مالك الدية فى جلد الرأس.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , المهذب ج2 ص222 , المغنى ج9 ص626.
(2) مواهب الجليل ج6 ص263 , شرح الدردير ج4 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , المهذب ج2 ص223 , المغنى ج9 ص633.(2/265)
أما أبو حنيفة وأحمد فلا يوجبان الدية فى الجلد إطلاقًا ويريان الحكومة فى هذه الحالات (1) .
348- شعر الرأس وشعر اللحية والحاجبين: يرى أبو حنيفة أن الدية تجب فى إزالة شعر الرأس للرجل والمرأة وفى إزالة اللحية سواء كان ذلك بطريق الضرب فسقط الشعر، أو بطريق الحلق أو النتف، ويشترط ألا ينبت الشعر، وحجته أن الشعر للرجال والنساء جمال وفى إزالته وعدم إنباته تفويت للمنفعة على الكمال، وفى اللحية وحدها الدية، وفى شعر الرأس الدية، وما عدا ذلك من الشعور كشعر الشارب والحاجبين ففيه حكومة.
ويرى أحمد ما يراه أبو حنيفة، ولكنه يزيد عليه أنه يجعل الدية أيضًا فى شعر الحاجبين، ويشترط كأبى حنيفة عدم الإنبات (2) .
أما مالك والشافعى فلا يجب عندهما فى إتلاف الشعور إلا الحكومة؛ لأنه إتلاف جمال دون منفعة، والدية لا تجب إلا فى ما كان له منفعة (3) .
349- اليدان: تجب الدية فى اليدين لما روى معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى اليدين الدية" ويجب فى إحدى اليدين نصف الدية لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم حين أمره على نجران: "فى اليد خمسون من الإبل" واختلفوا فى معنى اليد، فرأى البعض أن لفظ اليد يطلق على كل الذراع إلى المنكب، ورأى البعض أنه يطلق على الكف فقط، وترتب على هذا الخلاف أنهم اختلفوا فى قطع اليد من بعد مفصل الكف كالقطع من نصف الذراع أو من المرفق أو من العضد أو من المنكب، فمن رأى أن اليد هى الكف قال فى اليد نصف الدية وفيما زاد عن الكف حكومة، وقال بهذا أغلب الفقهاء فى مذهب
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص242 , نهاية المحتاج ج7 ص314.
(2) المغنى ج9 ص597.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص312 , البحر الرائق ج8 ص331 , المهذب ج2 ص224 , المغنى ج9 ص597 , مواهب الجليل ج6 ص247 , شرح الدردير ج4 ص642.(2/266)
الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، وقال به أبو حنيفة ومحمد. ومن رأى أن اليد اسم للجميع حتى المنكب قال بأن فى الكف وما زاد علها نصف الدية؛ لأن ما زاد على الكف كله معتبر يدًا، وقد أخذ بهذا الرأى مالك ومعظم الفقهاء فى مذهب أحمد وبعض فقهاء مذهب الشافعى وأبو يوسف من فقهاء مذهب أبى حنيفة. ومن المتفق عليه عند الجميع أن الحكومة فى قطع الساعد الذى لا كف فيه، والخلاف منحصر فى حالة قطعهما معًا.
ويجب فى كل إصبع عشر الدية، لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بأن فى كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، ولا يفضل إصبع على إصبع لما روى عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأصابع كلها سواء عشر عشر من الإبل" ولأنه جنس ذو عدد تجب الدية فيه فتقسم على أعداده، وفى كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الإصبع، وفى كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع قسمت دية الإصبع على عدد أنامله. وإن جنى على يد فشلت أو على إصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب بشللها ما يجب فى قطعها؛ لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب فى إتلاف منفعتها ما وجب فى إتلافها. وإن قطع يدًا شلاَّء أو إصبعًا شلاء أو أنملة شلاء وجبت فيها الحكومة؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة (1) ، وفى مذهب أحمد رأى بأن فيها ثلث الدية.
350- الرجلان: يجب فى الرجلين الدية لما رواه معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فى الرجلين الدية" وفى أحد الرجلين نصف الدية لما رواه عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى الرجل نصف الدية" وفى الرجل نفس الخلاف الذى فى اليد، فالبعض يرى أن لفظ الرجل يشمل القدم حتى نهاية الفخذ،
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص332 - 336 , المهذب ج2 ص221 , المغنى ج9 ص620 , شرح الدردير ج4 ص242 , 246 , 247.(2/267)
والبعض يرى أنه يطلق على القدم فقط، وترتب على هذا الخلاف نفس ما ذكرناه فى اليدين.
ويجب فى كل إصبع من أصابع الرجلين عشر الدية، ويجب فى كل أنملة غير الإبهام ثلث دية الإصبع، وفى كل دية من الإبهام نصف دية الإصبع، لما ذكر فى اليد. وتجب الدية فى قدم الأعرج ويد الأعْسَم إن كانتا سليمتين لأن العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين وذلك ليس بنقص فى القدم، والعَسَم لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ وذلك ليس ينقص فى الكف، فلا يمنع هذا كمال الدية فى القدم والكف (1) .
351- العينان: تجب الدية فى العينين؛ لقوله عليه السلام من كتاب كتبه لعمرو بن حزم: "فى العين خمسون من الإبل" فأوجب فى كل عين خمسين فدل عل أنه يجب فى العينين مائة. وعين الأعور فيها نصف الدية عند أبى حنيفة والشافعى، وفيها الدية كاملة عند مالك وأحمد.
وتجب الدية بقلع العينين وبفقئهما، كما تجب بذهاب الإبصار مع بقاء العينين قائمتين.
352- الأذنان: تجب الدية فى الأذنين وفى أحدهما نصف الدية؛ لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الأذن خمسون من الإبل" فأوجب فى الأذن خمسين فدل على أنه يجب فى الأذنين الدية كاملة وهى مائة من الإبل، ولأن فى الأذنين جمالاً ظاهرًا ومنفعة مقصودة وهى أنها تجمع الصوت.
وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه الدية بقسطه؛ لأن ما وجبت الدية فى كله وجبت فى بعضه بقسطه كالأصابع.
وفى قطع الأذنين الدية ولو بقى السمع سليمًا، وهذا ما يراه أبو حنيفة والشافعى وأحمد وبعض فقهاء مذهب مالك، وحجتهم أن الأذنين فيهما منفعة
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص311 , 314 , المهذب ج2 ص221 , المغنى ج9 ص630 , شرح الدردير ج4 ص242 , 246 , 247 , البدائع ج7 ص214 , البحر الرائق ج8 ص331 , المهذب ج2 ص215 , المغنى ج9 ص585 , شرح الدردير ج4 ص242.(2/268)
مقصودة هى أنها تجمع الصوت، ولكن بعض فقهاء مذهب مالك يرى فى قطع الأذنين مع بقاء السمع سليمًا حكومة؛ لأن الأذنين فى رأيهم ليس فيها منفعة وإنما فيها جمال فقط وليس فى الجمال إلا الحكومة (1) .
353- الشفتان: تجب الدية فى الشفتين؛ لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الشفتين الدية"، ولأن فيهما جمالاً ظاهرًا ومنافع كثيرة، ويجب فى إحداهما نصف الدية لأن كل شفتين وجب فيهما الدية وجب فى إحداهما نصف الدية كالعينين والأذنين، وإن قطع بعض الشفة وجب فيه من الدية بقدره. فإن جنى عليهما فشلتا وجبت فيهما الدية لأنه أبطل منفعتهما، وإن تقلصتا شيئًا مع بقاء منفعتهما ففيهما حكومة (2) .
354- الحاجبان: يرى أبو حنيفة وأحمد أن فى الحاجبين الدية وفى أحدهما نصف الدية إذا أزيل الشعر بحيث لا ينبت. ويرى مالك والشافعى أن فى إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فلا تجب فيه الدية. أما أبو حنيفة وأحمد فيريان أنه جمال مقصود لذاته والمنفعة ثابتة له ففيه الدية (3) .
355- الثديان والحلمتان: تجب الدية فى ثديى المرأة لأن فيهما جمالاً ومنفعة وتجب فى إحداهما نصف الدية، وتجب الدية أيضًا كاملة فى الحلمتين إذا قطعتا دون الثديين وفى إحداهما نصف الدية؛ لأن فى الحلمتين منفعة الثديين. ويشترط مالك لوجوب الدية فى الحلمتين أن ينقطع اللبن أو يفسد، فإن لم يتوفر هذا الشرط ففى الحلمتين حكومة، أما باقى الأئمة فلا يشترطون هذا الشرط ويرون الدية فى الحلمتين مطلقًا.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص314 , المهذب ج2 ص216 , المغنى ج9 ص593.
(2) شرح الدردير ج4 ص242 , بدائع الصنائع ج7 ص214 , المهذب ج2 ص217 , المغنى ج9 ص603.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص311 , المغنى ج9 ص597 , المهذب ج2 ص224 , المواهب ج6 ص247.(2/269)
أما ثديا الرجل فليس فيهما إلا الحكومة عند مالك والشافعى لأن فى ذهابهما ذهاب جمال من غير منفعة. وفى مذهب الشافعى من يرى فى ثديى الرجل وحلمتيه الدية، ولكن هذا الرأى ليس المذهب، ولكنه يتفق مع مذهب أحمد فهو يرى أن فى ثديى الرجل وحلمتيه الدية، وحجته أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه من الرجل، ولأنهما عضوان يحصل بهما الجمال وليس فى البدن غيرهما.
ويرى أبو حنيفة أن فى ثديى الرجل وحلمتيه حكومة، وقد بنى رأيه على أن ثديى الرجل وحلمتيه ليس فيهما جمال ولا منفعة (1) .
356- الأنثيان: تجب الدية فى الأنثيين لما روى أن فى كتاب الرسول لعمرو بن حزم: " وفى البيضتين الدية " ولأن فيهما جمالاً ومنفعة فإن النسل يكون بهما وهما وكاء المشى، وفى كل واحدة منهما نصف الدية لأن وجوب الدية فى شيئين يوجب نصفها فى أحدهما. وإن أشل الأنثيين فعليه الدية كاملة حيث أذهب منفعتهما، فإن قطعهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة، ويرى أبو حنيفة ومن يقول من فقهاء مذهبى مالك وأحمد بأن ذكر الخصى والعنين فيه حكومة، ويرى هؤلاء جميعًا أنه إذا قطع الأنثيان مع الذكر مرة واحدة ففيهما ديتان، دية للأنثيين ودية للذكر، وكذلك الحكم لو قطع الذكر قبل الأنثيين، أما إذا قطع الأنثييان قبل الذكر ففى الأنثيين الدية وفى الذكر حكومة لأنه يصبح بعد قطع الأنثيين ذكر خصى وذكر الخصى فيه حكومة، أما القائلون بأن ذكر الخصى والعنين فيه الدية وهم الشافعية وبعض فقهاء مذهبى مالك وأحمد فيوجبون فى قطع الذكر والأنثيين ديتان سواء قطعت الأنثيين قبل الذكر أم بعده (2) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص311 , 323 , شرح الدردير ج4 ص243 , المهذب ج2 ص223 , المغنى ج9 ص623.
(2) المغنى ج9 ص628 , 629 , المهذب ج2 ص223 , بدائع الصنائع ج7 ص324 , مواهب الجليل ج6 ص261.(2/270)
357- الشفران: الشُّفْران أو الإسْكَتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم، وفى الشفرين دية كاملة إذا قطعا حتى ظهر العظم، وفى أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة فى المباشرة وليس فى البدن غيرهما من نوعهما (1) ، فإن جنى عليهما حتى أشلهما ففيهما الدية لأنه أزال المنفعة كما لو أنه قطعهما.
358- الإليتان: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن الدية تجب فى الإليتين، وأن نصف الدية يجب فى الإلية الواحدة؛ لأنهما عضوان من جنس واحد ليس فى البدن نظيرهما، ولأن فيهما جمالاً ظاهرًا ومنفعة كاملة. والإليتان هما ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين، وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذى تحتهما، وفى ذهاب بعضهما بقدره؛ لأن ما وجبت الدية فيه كله وجب فى بعضه بقدره، فإن جهل مقدار البعض وجبت فيه حكومة لأنه نقص تعذر تقديره.
ويرى بعض فقهاء مذهب مالك أن فى الإليتين حكومة فقط سواء أخذتا إلى العظم الذى تحتهما أو ذهب بعضهما (2) ، ويرى البعض الآخر أن فيهما الدية.
359- اللحيان: يرى الشافعى وأحمد أن فى اللحين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلي؛ لأن فيهما نفعًا وجمالاً وليس فى البدن مثلهما فكانت فيهما الدية كسائر ما فى البدن منه شيئان فى أحدهما نصف الدية، وإن قلنا بما عليهما من الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل دية الأسنان فى ديتهما (3) .
360- أشفار العينين: تجب الدية فى أشفار العينين أى جفونهما عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد لأن فيهما جمالاً ظاهرًا ونفعًا كاملاً وهى أربعة ليس
_________
(1) المغنى ج9 ص639 , المهذب ج2 ص223 , البحر الرائق ج8 ص307 , مواهب الجليل ج6 ص261.
(2) المغنى ج9 ص625 , المهذب ج2 ص222 , البحر الرائق ج8 ص307 , المدونة ج16 ص113 , مواهب الجليل ج6 ص262.
(3) المغنى ج9 ص619 , المهذب ج2 ص220.(2/271)
مثلها فى البدن فتجب ربع الدية فى كل واحد منها، ويرى مالك أن فى الأشفار الاجتهاد أى الحكومة لأنه لم يرد نص (1) بأن فيها شيئًا مقدرًا والتقدير لابد من نص ولا يثبت بالقياس كما يرى بقية الأئمة.
361- أهداب العينين: يرى أبو حنيفة وأحمد أن فى أهداب العينين الأربعة الدية كاملة لأن فيها جمالاً ظاهرًا ونفعًا كاملاً، وفى ربع كل واحد منها الدية، لكن إذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففيها كلها دية واحدة؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدى مع الثدى والأصابع مع الكف.
ويرى مالك والشافعى أن فى الأهداب حكومة لأنها جمال لا منفعة فيه، وإذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففى مذهب الشافعى رأيان: رأى يرى أن لا شئ فى الأهداب لأنها شعر نابت فى العضو المتلف وهو الجفنين، ورأى يرى أن فى الجفنين الدية وفى الهدب الحكومة لأن فيه جمالاً (2) .
362- أصابع اليدين وأصابع الرجلين: تكلمنا عن أصابع اليدين والرجلين مع اليدين والرجلين فلا داعى لتكرار الكلام عنهما وفيما ذكر هناك الكفاية.
363- الأسنان: يجب فى كل سن خمس من الإبل؛ لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى السن خمس من الإبل"، ولما رواه عمرو بن شعيب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فى الأسنان خمس خمس" ويستوى السن بالناب والناب بالضرس فأرشها سواء؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء".
ويجب الضمان فى سن من ثغر وهو الذى أبدل أسنانه وبلغ حدًا إذا قلعت
_________
(1) المغنى ج9 ص592 , المهذب ج2 ص215 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 324 , مواهب الجليل ج6 ص247.
(2) مواهب الجليل ج6 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 344 , المهذب ج2 ص219 , المغنى ج9 ص593.(2/272)
سنه لم يعد بدلها، فأما سن الصبى الذى لم يثغر فلا يجب بقلعها فى الحال شئ لأن العادة عود سنه، فإن مضت مدة ييأس من عودها وجب أرشها وإذا عادت لم يجب فيها أرش، ولكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة، وإن عادت خارجة عن صف الأسنان بحيث لا ينتفع بها ففيها الدية، وإن كان ينتفع بها ففيها حكومة.
وإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها فى الحال فإن عادت لم تجب الدية وعليه ردها وإن كان قد أخذها، وهذا رأى أبى حنيفة وأحمد، ويرى مالك أنه لا يرد شيئًا لأن العادة أنها لا تعود فإن عادت فهى هبة مجردة وفى مذهب الشافعى يأخذ البعض برأى مالك والبعض بالرأى المضاد.
وتجب دية السن فيما ظهر من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنًا وما فى اللثة يسمى سنْخًا، فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السِّنْخ ففى السن أرشها وفى السنخ ححومة كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعت السن بسنخها لم يجب فيها أكثر من الأرش، وإن كسر بعض السن ففيه من أرشه بقدر ما كسر.
وإن قلع سنًا مضطربة لكسر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط العام وجب أرشها، وكذلك إذا ذهب بعض منافعها وبقى بعضها فى رأى أحمد، أما مذهب الشافعى ففيه رأيان: رأى يرى الأرش، ورأى يرى أن مقدار النقص يجهل قدره فيكون فيها الحكومة، أما إذا ذهبت منافعها كلها ففيها حكومة أو ثلث ديتها على رأى فى مذهب أحمد.
وإن قلع سنًا فيها داء أو أَكلَة فإن لم يذهب شئ من أجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة، وإن سقط من أجزائها شئ سقط من أرشها بقدر الذاهب ووجب الباقى.
وإن جنى عليه فتغير لون السن إلى السواد أو الخضرة أو الحمرة أو الصفرة ففى مذهب مالك فيها الأرش إن كان التغير إلى الخضرة والحمرة والصفرة يساوى(2/273)
التغير إلى السواد وإلا فحكومة، ومذهب أبى حنيفة فيها الأرش إذا كانت الصفرة بمنزلة السواد، وعند الشافعى يجب فيها حكومة فى جميع الحالات فى رأى، وفى رأى تجب الدية فى السواد إذا زالت المنفعة وإلا فحكومة، وهذا أحد الرأيين فى مذهب أحمد، والرأى الثانى: فى التسويد الدية (1) .
وإذا جنى على أسنانه كلها دفعة واحدة ففيها مائة وستون من الإبل بحساب كل سن خمس من الإبل، وهذا رأى مالك وأبى حنيفة وأحمد، ولو أن هذا المقدار يزيد عن دية كاملة؛ لأن النص جعل أرش كل سن خمسًا من الإبل. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما: يأخذ بما يراه الأئمة الثلاثة وهو الرأى الراجح، وحجته أن ما ضمن على انفراد لا ينقص ضمانه بانضمام غيره إليه، وثانيهما: أنه لا يجب فى الأسنان كلها إذا قلعت دفعة واحدة إلا دية واحدة لأنه جنس ذو عدد فلا يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين.
إذهاب المعاني
364- القاعدة أن العضو إذا ذهب بمنفعته لم تجب فيه إلا دية واحدة: كالعينين إذا قلعتا فذهب ضوءهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة هى دية العينين لأن الضوء فيهما وهما محله. ومثل ذلك سائر الأعضاء إذا ذهبت بنفعها لم يجب فيها إلا دية واحدة وهى دية العضو لا المنفعة؛ لأن نفعها فيها فدخلت ديته وديتها، ولأن منافعها تابعة لها تذهب بذهابها فوجبت دية العضو دون المنفعة.
أما إذا بقى العضو وذهبت منفعته فتجب الدية فى المنفعة الذاهبة، فمن ضرب إنسانًا على رأسه فأذهب بصره أو سمعه وجبت عليه دية البصر أو السمع.
والمنافع كثيرة منها ما هو حاسة كالسمع والبصر والشم والذوق واللمس، ومنها ما هو معنى كالمشى والبطش والعقل والنطق. وقد اختلف الفقهاء فى تحديد المعانى التى تجب فيها الدية كما سنبين لنا فيما بعد.
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص263 , بدائع الصنائع ج7 ص310 , المهذب ج2 ص219 , المغنى ج9 ص611.(2/274)
365- (1) السمع: فى السمع الدية لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى السمع الدية" ولما روى عن أبى قلابة أن رجلاً رمى آخر بحجر فى رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه، فقضى عمر رضى الله عنه بأربع ديات والرجل حى.
وإن أذهب السمع فى إحدى الأذنين وجبت نصف الدية، وإن قطع الأذنين فذهب السمع وجب عليه ديتان لأن السمع فى غير الأذن فلا تدخل دية أحدهما فى الآخر، إلا أن بعض فقهاء مذهب مالك يرون فى السمع دية وفى الأذنين حكومة لأنهم يرون من الأصل أن الأذنين ليس فيهما إلا الحكومة (1) .
366- (2) البصر: وفى البصر الدية لأنه منفعة العينين، وكل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما، وفى ذهاب إبصار العين الواحدة نصف الدية، وليس فى إذهاب العينين بنفعهما أكثر من دية واحدة كاليدين لأن العينين هما محل البصر (2) .
367- (3) الشم: وفى الشم الدية لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "فى المشام الدية" وإن قطع أنفه فذهب شمه فعليه ديتان لأن الشم فى غير الأنف فلا تدخل دية أحدهما فى الآخر كالسمع مع الأذن والبصر مع أجفان العين والنطق مع الشفتين (3) ، وإن جنى عليه فذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الدية كما تجب فى إذهاب البصر من أحد العينين والسمع من أحد الأذنيين.
368- (4) الذوق: يرى مالك وأبو حنيفة أن فى الذوق الدية، وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما: يرى فى الذوق الدية، والثانى لا يرى فيه الدية، وتجب الدية إذا ذهبت
_________
(1) المغنى ج9 ص595 , المهذب ج2 ص216 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 وما بعدها , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2) الشرح الكبير ج9 ص593 , المهذب ج2 ص215 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 وما بعدها.
(3) المغنى ج9 ص599 , 602 , المهذب ج2 ص217 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.(2/275)
حاسة الذوق تمامًا فإن ذهب بعضها دون بعض وجب من الدية بقدر ما ذهب فقط (1) .
369- (5) الكلام: تجب الدية فى الكلام، فإذا جنى عليه فخرس وجبت الدية كاملة وإن فقد بعض الكلام دون بعض وجب من الدية بقدر ما نقص (2) ، وإذا قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه ففيها جميعًا دية واحدة؛ لأن دية الكلام والذوق تدخل فى دية اللسان، أما إذا جنى عليه فأذهب كلامه وذوقه مع بقاء اللسان ففيهما ديتان، مع مراعاة ما ذكرنا من الخلاف عند الكلام على الذوق.
370- (6) العقل: تجب الدية فى ذهاب العقل لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى العقل الدية" ولما كان العقل من أكبر المعانى قدرًا وأعظم أثرًا من جميع الحواس، وبه يتميز الإنسان من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدى به إلى مصالحه ويتقى ما يضره ويدخل فى التكليف، فقد رأى بعض الفقهاء أن يعطى العقل حكم النفس كأبى حنيفة وأصحابه والشافعى فى رأيه القديم. وإن ذهب العقل بجناية لا توجب أرشًا كاللطمة أو التخويف ونحوها ففيه الدية لا غير، وإن أذهبه بجناية لها أرش مقدر كالموضحة أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح أو الطرف عند مالك والشافعى طبقًا لرأيه الجديد وهو المذهب وكذلك عند أحمد، أما أبو حنيفة فيرى كما يرى الشافعى قديمًا والرأى الأخير فى مذهب مالك أن يدخل أرش الجرح أو الطرف فى دية العقل، لأن الواجب فى العقل دية النفس، والعقل يقوم مقام النفس من حيث المعنى، لأن جميع منافع النفس تتعلق به فكان تفويته تفويت النفس معنى، ولا شك أنه إذا أدت الشجة أو قطع الطرف إلى الموت دخلت الشجة والطرف فى دية النفس، فهكذا تدخل فى دية العقل، على أن زفر والحسن بن زياد لا يريان التداخل.
وإن جنى
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص593 , المهذب ج2 ص219 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2) المغنى ج9 ص604 وما بعدها , الشرح الكبير ج9 ص594 , 604 , المهذب ج2 ص218 , 219 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.(2/276)
عليه فأذهب عقله وشمه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح، مع مراعاة الخلاف السابق فى مذهب أبى حنيفة، ومع مراعاة أن أبا حنيفة ومحمد يقولان بالتداخل مع العقل فقط دون غيره من المعانى، أما أبو يوسف فيقول بالتداخل مع كل المعانى الباطنة كالعقل والشم والكلام والجماع والذوق، أما البصر فلا لأنه معنى ظاهر، ومن القضايا المشهورة فى عهد عمر أن رجلاً رمى آخر بحجر فأذهب عقله وسمعه وبصره وكلامه، فقضى عليه عمر بأربع ديات وهو حى، لكن إذا مات المجنى عليه من الجناية لم تجب إلا دية واحدة، لأن ديات المنافع كلها تدخل فى دية النفس كديات الأعضاء (1) .
371- المشى والجماع: إذا ذهب المشى أو القدرة على الجماع ففى كل منهما الدية كاملة، والمعروف أن الصلب يؤثر على هذين المعنيين، فإذا كسر صلبه وأبطل جماعه فعليه ديتان لا دية واحدة كما هو رأى مالك حيث لا يرى اندراج دية الصلب فيه، وقياسًا على هذا إذا أبطل صلبه فأبطل جماعه ومشيه وجبت عليه ثلاث ديات، فإذا لم يبطل صلبه فعليه ديتان، وعلة عدم الاندراج أن الصلب ليس هو محل المنفعة فعضو المشى الأقدام وعضو الجماع الذكر.
وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: رأى يرى أن فى ذهاب المشى والجماع ديتان لأنهما منفعتان مختلفتان، ورأى يرى أن فيهما دية واحدة لأنهما منفعة عضو واحد كما لو قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه، وقياس مذهب أبى حنيفة أن يكون فيهما دية واحدة (2) .
372- الصعر: وتجب الدية فى الصًّعَر، وهو أن يضربه مثلاً فيصير
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص594 وما بعدها , المهذب ج8 ص217 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243.
(2) الشرح الكبير ج9 ص596 , 597 , 605 , المهذب ج2 ص222 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص243.(2/277)
الوجه إلى جانب، وأصل الصعر داء يأخذ البعير فيلتوى منه عنقه، قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أى: لا تعرض عنهم بوجهك تكبرًا كإمالة وجه البعير الذى به الصعر، فمن جنى على إنسان جناية تعوج عنقه حتى صار وجهه فى جانب، فيرى أبو حنيفة وأحمد أن فيه الدية، ويرى الشافعى فى الصعر الحكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، وهو قياس مذهب مالك (1) .
373- معان أخرى: يرى أبو حنيفة الدية فى البطش والإيلاد، وظاهر مذهبه أن كل معنى يفوت تجب فيه الدية (2) .
أما عند مالك فيحدد بعض الشراح المعانى بعشر وهى: العقل - والسمع - والبصر - والشم - والنطق - والصوت - والذوق - وقوة الجماع والنسل - وتغيير لون الجلد ببرص أو تسويد أو تجذيم - والقيام والجلوس (3) .
ولكن بعض الشراح لا يرى مانعًا من القياس على هذه العشر ويضيف إليها اللمس، ويرى أحمد أن فى تسويد الوجه الدية (4) ، وفى ذهاب القدرة على الأكل الدية (5) ، بينما يرى الشافعى فى تسويد الوجه حكومة جريًا على قاعدته التى لا توجب الدية إلا فى زوال منفعة.
ويرى الشافعى وجوب الدية فى إبطال الكلام وفى إبطال الصوت وفى إبطال قوة المضغ وفى إبطال قوة الإمناء وقوة الحبل والإحبال وإذهاب لذة الجماع ولذة الطعام (6) .
والظاهر من مذهب الشافعى وأحمد أن المعانى التى تجب فيها الدية ليست
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص598.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص296 , 311.
(3) مواهب الجليل ج6 ص260 , شرح الدردير ج4 ص241.
(4) الشرح الكبير ج9 ص596.
(5) نهاية المحتاج ج7 ص321 , 323.
(6) نهاية المحتاج ج7 ص321 , 323.(2/278)
محددة على وجه التعيين، فما ذكر فى الكتب أمثلة على المعانى التى تذهب وفيها الدية.
374- ويجب أن نلاحظ فى هذا المقام الفرق الظاهر بين اتجاه مالك والشافعى من ناحية فى تعيين المعانى التى تجب فيها الدية وبين اتجاه أبى حنيفة وأحمد، فالأولان لا يجعلان فى المعنى دية إلا إذا كان فى فوات المعنى فوات منفعة، أما الأخيران فيجعلان فى المعنى دية إذا كان فى فوات المعنى فوات الجمال ولو لم يكن قد فاتت به منفعة.
375- ما يجب فى فوات بعض المعنى: القاعدة عند الفقهاء أنه إذا فات المعنى كله وجبت فيه الدية، فإن فات بعضه وجب فيه بعض الدية بنسبة ما فات، هذا إذا كان التبعض معروفًا كذهاب الإبصار من عين دون أخرى، أو كذهاب السمع من أذن دون أخرى، أو كان الذاهب ممكن التقدير، أما إذا كان الغائب لا يمكن معرفة قدره فيرى الشافعى وأحمد أن فيه حكومة، وهذا هو قياس مذهب أبى حنيفة، أما مالك فيرى أن يقابل النقص بما يناسبه من الدية فى كل حال، وفى حالة تعذر التقدير الدقيق يقدر الناقص بأدنى ما يمكن وأكثر ما يمكن، وفى العمد يلزم المتعمد بالأكثر لأنه ظالم، والظالم أحق بأن يحمل عليه، وفى الخطأ يلزم المخطئ بأقل ما يمكن (1) .
ما يجب فيه أرش مقدر
376- يجب الأرش المقدر فى الأطراف وفى الشجاج والجراح:
الأطراف التى لها أرش مقدر: شمل كلامنا عما تجب فيه الدية من الأطراف الكلام عن الأطراف التى يجب فيها أرش مقدر، ففى كل اثنين من البدن فيهما كمال الدية وفى أحدهما نصف الدية، وهذا هو الأرش المقدر، كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والأنثيين والثديين، فأرش اليد المقدر نصف دية
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص243 , المهذب ج2 ص215 - 217 , 219 , المغنى ج9 ص596 , 599, الشرح الكبير ج9 ص599 , 602.(2/279)
العينين معًا، وأرش الرجل نصف دية الرجلين معًا، وأرش العين الواحدة هو نصف دية العينين، وهكذا. ولكن مالكًا وأحمد يخالفان باقى الفقهاء فى عين الأعور.
وفى أصابع اليدين والرجلين فى كل إصبع عشر الدية، وما كان من الأصابع فيه ثلاث مفاصل ففى كل مفصل ثلث أرش الإصبع، وما كان فيه مفصلان ففى كل واحد منهما نصف الأرش، وما وجبت الدية فى أربعة منه ففى الواحد منه ربع دية وهذا هو أرشه المقدر، ففى أشفار العينين الدية، وفى ثلاثة منها ثلاثة أرباع الدية، وفى الاثنين نصفها، وفى الواحد ربع الدية، وهذا هو أرشه المقدر.
وفى كل سن - كما عرفنا - خمس من الإبل، وهذا هو الأرش المقدر للسن.
وهكذا نستطيع أن نعرف الأطراف التى فيها أرش مقدر إذا رجعنا للأطراف التى فيها الدية الكاملة والتى لها نظائر فى البدن، أما الأطراف التى لا نظائر لها فى البدن ففيها الدية الكاملة وحدها، والأرش المقدر يجب أن يكون أقل من الدية.
* * *
أرش الشجاج
377- عرفنا مما سبق عدد الشجاج وأسماءها وأن مكانها الرأس والوجه، وبقى أن نعرف إن كان لهذه الشجاج أرش مقدر أم لا.
ومن المتفق عليه أن ما قبل الموضحة من الشجاج ليس له أرش مقدر سواء على رأى القائلين بأنها خمسة أو القائلين بأنها ستة، وهناك رواية عن أحمد بأن فى الدامية بعيرًا وفى الباضعة بعيرين وفى المتلاحمة ثلاثة وفى السمحاق أربعة، وحجته أن زيد بن ثابت قضى بهذا، ولكن هذا الرأى ليس المذهب (1) .
أما ما يجب فيه أرش مقدر من الشجاج فهو الموضحة وما بعدها؛ أى الهاشمة والمنقلة والآمةَّ والدامغة.
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص619 , شرح الدردير ج4 ص240 , بدائع الصنائع ج7 ص316 , المهذب ج2 ص212.(2/280)
378- الموضحة: يجب فى الموضحة خمس من الإبل لما روى من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى الموضحة خمس من الإبل" ولما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى عليه السلام أنه قال: "فى المواضح خمس خمس". ويجب الأرش فى كل موضحة، فى الصغيرة والكبيرة، وفى البارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يقع على الجميع. وأرش موضحة الوجه والرأس سواء عند الأئمة الأربعة. ولكن لأحمد رأى مخالف يرى فيه أن يكون أرش موضحة الوجه مضاعفًا لأن شينها أكثر ولأنها ظاهرة ولا يسترها الشعر كما هو الحال فى موضحة الرأس (1) .
ولا يجب مع الأرش شىء آخر عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد ولو برئت الموضحة على شين، والمشهور عند مالك أنه إذا برئت على شين موضحة الوجه أو الرأس أُخذ من الجانى حكومة مقابل الشين، وهذه الحكومة علاوة على الأرش (2) .
ولا يجب الأرش إلا فى موضحة الرأس والوجه، أما موضحة الجسد فليس فيها شئ مقدر وإنما فيها الحكومة، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين. وإن أزال الحاجز بينهما قبل البرء فهما موضحة واحدة عليه أرشها، فإن اندملتا ثم أزال الحاجز فعليه أرش ثلاث مواضح؛ لأنه استقر عليه أرش الأولين بالاندمال، ثم لزمته الثالثة. وإن اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله أو بسراية لأخرى، فعليه أرش موضحتين، أما إذا زال الحاجز بفعل المجنى عليه أو بفعل أجنبى فعلى الأول أرش موضحتين، وعلى الأجنبى أرش موضحة؛ لأن فعل كل لا ينبنى على فعل الآخر، فانفرد كل بحكم جنايته، وهذا هو مذهب الشافعى وأحمد.
وإذا شجه فى رأسه شجه بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة، لم يلزمه
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص621.
(2) شرح الدردير ج4 ص241.(2/281)
أكثر من أرش موضحة؛ لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من ذلك فلأن لا يلزمه فى الإيضاح فى البعض أكثر من ذلك أولى (1) .
379 - الهاشمة: ويجب فى الهاشمة - وهى التى توضح العظم - عشر من الإبل، ولم يعرف عن النبى - صلى الله عليه وسلم - تقدير فيها، وإنما هو مروى عن زيد بن ثابت. والهاشمة فى الرأس والوجه والرأس خاصة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد. أما مالك فلا يعرف الهاشمة إلا فى جراح البدن، ويضع بدلاً منها - أى الهاشمة - المنقلة فى الوجه والرأس (2) .
ولو ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففى مذهب أحمد والشافعى رأيان: أولهما يوجب الحكومة لأنه كسر عظم من غير إيضاح، والثانى يوجب خمسًا من الإبل لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر من الإبل وقد وجد الهشم ففيه خمس من الإبل (3) .
380 - المنقلة: وتجب فى المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى المنقلة خمس عشرة من الإبل" والمنقلة زائدة على الهاشمة فهى التى تكسر العظام وتزيلها عن مواضعها فيحتاج إلى نقل العظم ليلتئم.
381- الآمة: وتسمى الآمَّة والمأمومة، وهى الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ، وأرشها ثلث الدية لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى المأمومة ثلث الدية"، ولما روى عكرمة بن خالد أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قضى فى المأمومة بثلث الدية.
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص623 وما بعدها , المهذب ج2 ص212 , 213 , شرح الدردير ج4 ص240 , 241.
(2) شرح الدردير ج4 ص223 , الشرح الكبير ج9 ص625 , 626 , المهذب ج2 ص213 , بدائع الصنائع ج7 ص316.
(3) المهذب ج2 ص213 , الشرح الكبير ج9 ص625 , 626.(2/282)
382- الدامغة: ويوجب الفقهاء فى الدامغة ثلث الدية، ويرى بعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أنه يجب فيهما ثلث الدية لمساواتها بالآمة وحكومة فيما زاد عنها لأنها تزيد عنها خرق جلدة الدماغ ولا يهتم الفقهاء كثيرًا بالدامغة لأنها تؤدى غالبًا للموت (1) .
* * *
أرش الجراح
383- الجراح كما علمنا على نوعين: جائفة وغير جائفة، فأما غير الجائفة فهى الجراحات التى لا تصل إلى جوف، والواجب فيها الحكومة، فإن أوضح عظمًا فى غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة لأنها لا تشارك نظائرها من الشجاج التى فى الرأس والوجه فى الاسم ولا تساويها فى الشين والخوف على المجنى عليه منها ولذلك لم تساوها فى تقدير الأرش.
أما الجائفة وهى التى تصل إلى الجوف من البطن أو الظهر أو الصدر أو الورك فالواجب فيها ثلث الدية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الجائفة ثلث الدية".
وإن خرقه من جانب فخرج من جانب آخر فهما جائفتان عند مالك وأبى حنيفة وأحمد، أما فى مذهب الشافعى فاختلفوا فى الثقب الحاصل من الداخل إلى الخارج فاعتبره بعضهم جائفة وهو الرأى الراجح فى المذهب لأنها جراحة نافذة للموت وتساوى الآتية من الخارج ومن ثم أوجبوا فيها أرش الجائفة، أما حجة الرأى المضاد فأوجبوا فى الجراحة الثانية حكومة، لأن الجائفة عندهم ما تصل من الخارج إلى الداخل (2) .
* * *
_________
(1) الشرح الكبير ج9 ص627 , 628 , وباقى المراجع كما هى.
(2) شرح الدردير ج4 ص240 , 241 , بدائع الصنائع ج7 ص318 , 319 , المهذب ج2 ص214 , الشرح الكبير ج9 ص629.(2/283)
هل تتساوى الديات لكل الأشخاص الأنثى ثم بعدها التكافؤ
384- دية الأنثى فيما دون النفس: يرى أبو حنيفة والشافعى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل نفسًا وجرحًا وأطرافًا (1) ، فأرش إصبع الرجل عشرة من الإبل وأرش إصبع المرأة خمس من الإبل، وأرش الهاشمة فى الرجل عشر من الإبل وفى المرأة خمس، وأرش الجائفة فى الرجل ثلث ديته وأرش الجائفة فى المرأة ثلث ديتها، وهى على النصف من دية الرجل.
أما مالك وأحمد فعندهما أن أرش جراح المرأة يساوى أرش جراح الرجل إلى ثلث الدية فإن جاوز الأرش ثلث الدية فللمرأة نصف ما يجب للرجل، فمثلاً إذا قطع لامرأة ثلاث أصابع أخذت أرشها ثلاثين من الإبل كما يأخذ الرجل لأن الأرش لم يجاوز ثلث الدية، فإذا كان المقطوع أربع أصابع أخذت أرشها عشرين من الإبل لأن أرش الأصابع الأربع أربعون من الإبل، وهذا القدر يزيد على ثلث الدية فتأخذ النصف فقط (2) ، وهذه القاعدة مطلقة غير مقيدة بقيد عند أحمد، أما مالك فيقيدها بقيدين:
أولهما: اتحاد الفعل أو ما فى حكمه، ويقصد باتحاد الفعل الضربة الواحدة ولو أصابت أكثر من محل، كما لو ضرب الجانى المجنى عليها ضربة واحدة فأصابت يديها معًا أو يدها ورجلها، ويقصد بما فى حكم اتحاد الفعل تعدد الضربات فى فور واحد سواء أصابت محلاً واحدًا أم أكثر، فإذا اتحد الفعل أو كان فى حكم المتحد فإن للمجنى عليها أرش إصابتها كاملاً، وإذا لم يزد مجموعة على ثلث الدية فإن زاد فلها النصف فقط، ولا ينظر إلى كل إصابة وحدها فمثلاً لو ضربها ضربة واحدة أو ضربتين فى فور واحد فأصاب إصبعين من كل يد فمجموع أرش الاصابع الأربع أربعون من الإبل، وهذا المجموع يزيد على ثلث الدية فيكون المستحق لها النصف فقط، ولو ضربها فأصاب أربعة أصابع من يد واحدة فالحكم هو نفس ما سبق.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص312 , نهاية المحتاج ج7 ص303.
(2) شرح الدردير ج4 ص48.(2/284)
والقيد الثانى: هو اتحاد المحل، ويراعى هذا القيد سواء اتحد الفعل أو لم يتحد الفعل، فمثلاً إذا ضربها فأصاب من يدها اليمنى ثلاث أصابع فدية الأصابع الثلاث ثلاثون من الإبل وهى لا تبلغ ثلث الدية فتستحقها كلها، فلو ضربها هو أو غيره مرة ثانية فأصاب إصبعًا أخرى من نفس اليد فأرشها خمس من الإبل لأن مجموع أرش هذه الإصبع مع أرش الثلاث المقطوعة سابقًا يزيد على ثلث الدية. وكذلك الحكم لو أصابت من المرة الثانية هذه الإصبع وإصبعين من اليد الأخرى فإنه يأخذ خمسًا من الإبل فى الإصبع الرابعة من اليد اليمنى وعشرين فى الإصبعين المقطوعين من اليسرى لأنه قطع بضربته ثلاث أصابع أرشها لا يبلغ ثلث الدية فتستحق عن كل إصبع عشرة من الإبل؛ لكن لما كان الإصبع الرابع من اليد اليمنى تطبق فيه قاعدة اتحاد المحل فلا تستحق فيه إلا خمسًا من الإبل، وتراعى قاعدة اتحاد المحل على الرأى الراجح فى الأصابع فقط ولا تراعى فى الأسنان ولا فى المواضح والمناقل، وتراعى قاعدة اتحاد الفعل وما فى حكمه فى كل الأحوال فلو شجت المرأة منقلتين فى فور واحد فأرشهما ثلاثون من الإبل لأن مجموع أرشهما لا يبلغ ثلث الدية، ولو شجت أربع مناقل فى فور واحد أو بضربة واحدة فمجموع أرشها ستون من الإبل وهو يزيد على ثلث الدية فيكون لها النصف من دية الرجل وهو ثلاثون من دية الإبل، فإذا أصيبت بعد شفائها بمنقلة أخرى أو منقلتين أخذت أرشهما كاملاً لأنه لا يبلغ ثلث الدية ولأن قاعدة اتحاد المحل لا تراعى فى المناقل (1) .
385- الأرش غير المقدر أو الحكومة: يجب الأرش غير المقدر فى الجنايات الواقعة على ما دون النفس مما لا قصاص فيها وليس لها أرش مقدر، ويسمى الأرش غير المقدر فى اصطلاح الفقهاء حكومة أو حكومة العدل.
ومعنى الحكومة عند الأئمة الأربعة: أن تقدر قيمة المجنى عليه باعتباره عبدًا قبل الجرح ثم تقدر قيمته بعد الجرح والبُرْء منه ثم تعرف نسبة النقص فى القيمة
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص249 , مواهب الجليل ج6 ص264 , 265.(2/285)
ثم يؤخذ من الدية بنسبة هذا النقص، فذلك هو ما يستحقه المجنى عليه، ولكن يشترط أن لا تبلغ الحكومة أرش جرح مقدر. فمثلاً إذا كان الجرح مما قبل الموضحة كالسمحاق فلا يجوز أن يبلغ أرش الموضحة، وحكى عن مالك أنه ما تخرجه الحكومة كائنًا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت فى سائر البدن.
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أن يكون التقدير بالنسبة للعضو الذى حدثت به الإصابة لا بالنسبة لنفس، أى أنه علم نسبة النقص قدر النقص على أساس دية العضو الذى أصيب لا على أساس دية النفس، فإن كان النقص هو العشر مثلاً والجناية على اليد فالحكومة عشر دية اليد لا عشر دية النفس، وإن كانت الجناية على إصبع فالحكومة عشر دية الإصبع. وحجة هؤلاء أن اعتبار دية النفس قد يؤدى إلى أن تزيد الحكومة على دية الطرف الذى حدثت به الجناية.
وطريقة التقدير على أساس فرض المجنى عليه عبدًا لا تصلح اليوم لأن الرقيق أبطل من العالم فلا يمكن معرفة القيم المختلفة.
ولقد علمنا أن بعض الفقهاء فى مذهب أحمد والشافعى يرون أن ما قبل الموضحة إذا أمكن معرفة قدره من الموضحة وجب فيها على قدر ذلك من أرش الموضحة، ولعل هذه الطريقة يمكن استخدامها الآن فى تقدير الحكومة؛ فيقدر كل ما فيه حكومة على أساس ما فوقه مما له أرش مقدر.
ويشترط الفقهاء فى تقدير الحكومة أن يكون التقدير بمعرفة ذوى عدل من الفنيين فيأخذ القاضى بقولهما، وأن يكون التقدير بعد البرء لا قبله، ويصح أن يجتهد القاضى فى التقدير.
ومن المتفق عليه أن الحكومة تجب إذا شفى الجرح على شين، فإذا شفى على غير شين فقد اختلفوا، فيرى أحمد والشافعى أن الحكومة تجب ولو شفى الجرح على غير شين، ويرى مالك التعزير فقط، ويرى أبو يوسف أن فيها حكومة الألم، ويرى محمد أن فيها أجرة الطبيب (1) .
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص239 , 240 , بدائع الصنائع ج7 ص324 , المهذب ج2 ص224 , 225, الشرح الكبير ج9 ص637 , نهاية المحتاج ج7 ص327 , الإقناع ج4 ص223.(2/286)
وحين يقول بعض الفقهاء إن الجروح إذا برئت على غير شين ليس فيها شئ فمعنى ذلك أن ليس فيها مال، أما التعزير فواجب فيها طبقًا للقواعد العامة؛ لأن الجناية اعتداء، وكل اعتداء ليس فيه حد مقدر فيه التعزير.
وكل جناية لم تترك أثرًا إطلاقًا كاللطمة واللكم والضرب بمثقل لا يترك أثرًا ولا يلون الجسم ليس فيها ضمان وإنما فيها التعزير.
386- مقدار الدية فيما دون النفس عمدًا هو مقدار الدية فى النفس عمدًا: مائة من الإبل، وهى مربعة على ما يرى مالك وأبو حنيفة وأحمد، ومثلثة على ما يرى الشافعى ومحمد بن الحسن كما ذكرنا قبلاً.
وإذا كان المستحق أقل من دية كاملة روعيت النسبة فى أوصاف الإبل، فمثلاً إذا كان الأرش عشرة من الإبل كان أرباعًا أو أثلاثًا على حسب الرأيين المختلفين اللذين ذكرناهما.
387- الأجناس التى تجب فيها الدية: هى نفس الأجناس التى سبق الكلام عليها فى العمد فى النفس.
388- تغليظ الدية: يرى بعض فقهاء مذهب أحمد أن الدية تغلظ فى العمد وفى الخطأ وفى النفس وما دون النفس، ويرى البعض أنها لا تغلظ إلا فى القتل الخطأ فقط وأنها لا تغلظ فيما دون النفس (1) .
ويرى مالك أنها تغلظ فيما دون النفس فى العمد فى حالة واحدة وهى جنايات الوالد على ولده، وكيفية لتغليظ عنده تثليث الدية (2) ، أما أبو حنيفة والشافعى فلا يريان التغليظ فيما دون النفس، ولكن الشافعى يرى التغليظ فى الخطأ فيما دون النفس كما هو الحال فى النفس، كما ورد ذلك فى الجزء السابع من نهاية المحتاج.
_________
(1) المغنى ج9 ص500 , الإقناع ج7 ص215.
(2) شرح الدردير ج4 ص37.(2/287)
389- من يحمل الدية فى العمد؟: يحمل الدية فى العمد الجانى فى كل الأحوال باتفاق الفقهاء، ولكن مالكًا يستثنى فى حالة العمد أرش الجراح التى لا يمكن القصاص فيها خوف تلف الجانى كالجائفة والآمة وكسر العمد، ويرى أن العاقلة تحمل مع الجانى ما يبلغ ثلث دية الجانى والمجنى عليه من هذه الجراح بشرط أن لا تكون الجناية قد تثبتت على الجانى بالاعتراف لأن العاقلة لا تحمل اعترافًا (1) .
390- هل تجب الدية حالة؟: تجب الدية حالَّة فى العمد عند مالك والشافعى وأحمد، وتجب مؤجلة إلى ثلاث عند أبى حنيفة وما يحمله مالك للعاقلة من العمد يجب مؤجلاً إذا زاد على ثلث دية المجنى عليه أو الجانى (2) ، والمعتبر فى التأجيل أن الدية الكاملة تؤجل فى ثلاث سنوات، فلا يقل القسط عن ثلث الدية، وما زاد عن الثلث يدفع فى السنة الثانية، فإن كان الواجب أكثر من الثلثين دفع ما زاد عن الثلثين فى السنة الثالثة.
391- التداخل فى الديات: تكلمنا فيما سبق عن التداخل بمناسبة الكلام على ديات الأطراف والمعانى، ونرى أنه من الأفضل أن تجمع أحكام التداخل فى مكان ليكون ذلك أعوان على فهمها.
تداخل ديات الأطراف: لا تتداخل دية طرف فى طرف، وإنما تتداخل دية بعض الطرف فى دية بعضه الآخر إذا كانت دية البعض هى دية الكل، أو كانت دية الكل تشمل دية البعض.
فاليد طرف فيها دية واحدة إذا قطعت الكف مع الأصابع، وإذا قطعت الأصابع وحدها ففيها الدية، فإذا قطعت الكف بعد ذلك ففيها حكومة لأن ديتها
_________
(1) شرح الدردير ج4 ص250 , بدائع الصنائع ج7 ص255 , المغنى ج9 ص488 , المهذب ج2 ص209.
(2) شرح الدردير ج4 ص250.(2/288)
دخلت فى دية الأصابع ومثل اليد الرجل، والأجفان فيها الدية، والأهداب فيها الدية أيضًا على رأى، فإذا قطع الأجفان مع الهدب ففيهما دية واحدة لأنهما عضو واحد، وإذا قطعت الأهداب ففيها الدية فإذا قطعت الأجفان بعدها ففيها حكومة لأن ديتها دخلت فى دية الأهداب.
وفى الثدى الدية، وفى حلمة الثدى الدية، وإذا قطع الثدى والحلمة معًا ففيهما دية واحدة لأن العضو واحد، فإذا قطعت الحلمة وحدها فيها الدية، وإذا قطع الثدى بعد ذلك ففيه حكومة لأن ديته دخلت فى دية الحلمتين.
وفى الذكر الدية، وفى الحشفة الدية، فإذا قطع الذكر كله ففيه دية واحدة، وإذا قطعت الحشفة وحدها فلا دية للباقى، لأن ديته تدخل فى دية الحشفة.
وفى الأنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام فنصفه، وفى الظفر خمس دية الإصبع عند أحمد، فلو قطعت الأنملة من الظفر فأرش الأنملة هو الواجب، لأن أرش الظفر دخل فى أرش الأنملة.
تداخل ديات المعانى: لا تتداخل دية معنى فى معنى آخر ولو كان محلهما واحدًا، فكل معنى مستقل له دية مستقلة لا تدخل فى معنى غيره، وإنما تتداخل ديات المعانى فى ديات محلها من الأطراف، فإذا كان الطرف محلاً لمعنى فزال المعنى وحده وبقى الطرف وجبت الدية فى المعنى، وإذا زال الطرف مع المعنى دخلت دية المعنى فى دية الطرف ووجبت دية واحدة، فالعين محل الإبصار فإذا فقئت العين فزال الإبصار وجبت دية واحدة لزوال الطرف وهو العين ومعناه وهو الإبصار، وإذا بقيت العين قائمة وزال الإبصار وجبت دية واحدة للمعنى.
تداخل أروش الجراح والشجاج: لا تدخل أروش الجراح والشجاج بعضها فى بعض إلا إذا اتصل بعضها ببعض قبل الاندمال بفعل الجانى أو بالسراية، فمن أوضح آخر موضحتين أو أجافه جائفتين بينهما حاجز ثم خرق الحاجز أو ذهب الحاجز بالسراية فعليه أرش موضحة واحدة وجائفة واحدة، فإذا زال الحاجز بفعل غير الجانى وبغير السراية فعليه أرش موضحتين وجائفتين.(2/289)
تداخل ما دون النفس فى النفس: وهناك بعد ذلك تداخل أعم، وهو تداخل ديات ما دون النفس فى دية النفس، ولكن لا تدخل دية ما دون النفس فى النفس إلا إذا كانت الأفعال كلها من نوع واحد كأن كانت كلها عمدًا أو خطأ أو شبه عمد، وكانت الجناية على النفس قبل برء الجنايات على ما دون النفس؛ فإذا توفر هذان الشرطان دخل ما دون النفس فى النفس ووجبت دية واحدة فقط. أما إذا برئ بعض ما دون النفس قبل الجناية على النفس فلا يدخل فى النفس إلا ما لم يندمل، وتجب ديات ما برئ قبل الجناية على النفس، ودية النفس. والفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة أن ما برئ قبل النفس استقر حكمه وثبت فى ذمة الجانى، فإن قتل عمدًا والجنايات على الأطراف خطأ وجبت ديات الأطراف ودية النفس، وكذلك لو كان القتل خطأ والجنايات الأخرى عمدًا ولو كان الجانى واحدًا وهذا هو الرأى الراجح (1) .
* * *
العقوبات البدلية الثانية
التعزير
392- تكلمنا عن التعزير كعقوبة بدلية للقصاص فى حالة الجناية على النفس، وما قلناه هناك ينطبق مع مراجعة ما كتبناه عن التعزير كعقوبة أصلية.
عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ
393- عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ هى الدية أو الأرش: وهى العقوبة الأصلية الوحيدة وليس ثمة من عقوبة بدلية لازمة للدية، ولكن إذا شاءت الهيئة التشريعية أن تجعل لهذه الجناية عقوبة تعزيرية أصلية أو بدلية فليس فى نصوص الشريعة ما يمنع هذا. وإذا كان مالك يوجب التعزير فى العمد ولا يوجبه
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص303 , نهاية المحتاج ج7 ص324 , المغنى ج9 ص386 , 396.(2/290)
فى الخطأ فليس معنى ذلك أنه يمنع من التعزير فى الخطأ وإنما معناه أنه رأى عقوبة التعزير واجبة فى العمد للردع ولم يرها كذلك فى حالة الخطأ.
والدية يقصد منها الدية الكاملة، والأرش يقصد به ما هو أقل من الدية، والأرش مقدر وغير مقدر، وقد تكلمنا عن هذه المعانى جميعها بمناسبة الكلام على الدية فى العمد، ولا فرق بين ما قيل هناك وما يمكن أن يقال هنا.
394- ومقادير الدية وما تجب فيه كاملة وناقصة وما تجب فيه الحكومة كل ذلك قد تكلمنا عنه بمناسبة الكلام على الجناية على ما دون النفس عمدًا، والواقع أنه لا فرق بين عقوبة الدية فى العمد والخطأ من حيث الوجوب وما تجب فيه، والأجناس التى تجب فيها الدية، وغير ذلك من المواضع التى تكلمنا فيها بمناسبة الكلام على الدية، ونستطيع أن نحصر الفرق بين الديات فى الخطأ وبينها فى العمد فيما يأتى:
1- من يحمل الدية؟: يحملها فى العمد الجانى كما ذكرنا إلا ما استثناه مالك، ويحملها فى الخطأ باتفاق العاقلة، ويرى الشافعى وأحمد أن الجانى لا يحمل مع العاقلة شيئًا، ويرى أبو حنيفة ومالك أنه يحمل معها، والمقدار الذى تحمله العاقلة يختلف بحسب آراء الفقهاء لما ذكرنا فى القتل الخطأ.
2- أوصاف الإبل: الدية فى الخطأ تجب مخمسة باتفاق الفقهاء.
3- التغليظ فى الخطأ: يرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد كما يرى الشافعى التغليظ فيما دون النفس ولكن الظاهر (1) أن المذهب هو عدم التغليظ ولا يرى أحد من الأئمة الآخرين التغليظ فى الخطأ فيما دون النفس.
4- تأجيل الدية: تجب دية الخطأ مؤجلة فى ثلاث سنين إذا كانت كاملة.
* * *
_________
(1) المغنى ج9 ص500 , الإقناع ج4 ص215 , نهاية المحتاج ج7 ص301.(2/291)
الفصل الثالث
الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه
أى الجناية على الجنين أو الإجهاض
395- يعبر الحنفية عن هذه الجناية بالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه؛ لأن الجنين يعتبر نفسًا من وجه، ولا يعتبر كذلك من وجه آخر، فيعتبر نفسًا من وجه لأنه آدمى، ولا يعتبر كذلك لأنه لم ينفصل عن أمه، ويعللون ذلك بأن الجنين ما دام مختبئًا فى بطن أمه فليس له ذمة صالحة أو كاملة ولا يعتبر أهلاً لوجوب الحق عليه لكونه فى حكم جزء من الأم، لكنه لما كان منفردًا بالحياة فهو نفس وله ذمة وباعتبار هذا الوجه يكون أهلاً بوجوب الحق له من إرث ونسب ووصية ... إلخ (1) .
ولذلك اعتبر نفسًا من وجه إذا نظرنا إلى أنه أهل لوجوب الحق له، ولم يعتبر كذلك من وجه آخر إذا نظرنا إلى أنه ليس أهلاً لوجوب الحق عليه وصار نفسًا من كل وجه؛ فإذا انقلب على مال إنسان فأتلفه ضمنه، وإذا زوجه وليه لزمه مهر امرأته فى ماله.
396- ويعبر المالكية والشافعية والحنابلة عن هذه الجناية بالجناية على الجنسين، ولكن اختلاف الفقهاء فى التعبير عن الجناية ليس له أية أهمية لأن ما يقصده هؤلاء من تعبيرهم هو ما يقصده الآخرون بالذات، ومحل الجناية عندهم جميعًا هو إجهاض الحامل والاعتداء على حياة الجنين، أو هو كل ما يؤدى إلى انفصال الجنين عن أمه (2) .
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص389.
(2) أسنى المطالب ج4 ص89 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , الإقناع ج4 ص209.(2/292)
397- ما يجهض الحامل: تقع هذه الجناية كلما وجد ما يوجب انفصال الجنين عن أمه، وقد ينفصل الجنين حيًا وقد ينفصل ميتًا، وتعتبر الجناية تامة بحدوث الانفصال بغض النظر عن حياة الجنين أو موته، وإن كان لكل حالة عقوبتها الخاصة؛ إذ العقوبة فى هذه الجناية تختلف باختلاف نتائج الفعل كما سنبين ذلك عند الكلام على العقوبة.
ولا يشترط فى الفعل المكون للجناية أن يكون من نوع خاص، فيصح أن يكون عملاً ويصح أن يكون قولاً، ويصح أن يكون الفعل ماديًا ويصح أن يكون معنويًا.
ومن الأمثلة على الفعل المادى: الضرب، والجرح، والضغط على البطن، وتناول دواء أو مواد تؤدى للإجهاض، وإدخال مواد غريبة فى الرحم، أو حَمل حمْل ثقيل (1) .
398- ومن الأمثلة على الأقوال والأفعال المعنوية: التهديد، والإفزاع، والترويع كتخويف الحامل بالضرب أو القتل، والصياح عليها فجأة، وطلب ذى شوكة لها أو لغيرها أو دخول ذى شوكة عليها (2) . ومن الوقائع المشهورة فى هذا الباب أن عمر رضى الله عنه بعث إلى امرأة كان يدخل عليها فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هى فى الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدًا فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فأشار بعهم أن ليس عليك شئ، إنما أنت والِ ومؤدب، وصمت على فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا فى هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك (3) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص516 , 519.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج5 ص31 , حاشية ابن عابدين ج5 ص516 , 519 , نهاية المحتاج ج7 ص360 , المغنى ج9 ص552 , 557 , الإقناع ج3 ص209.
(3) المغنى ج9 ص579.(2/293)
ومن الأمثلة على الأفعال المعنوية: تجويع المرأة أو صيامها، فلو صامت فأدى الصوم إلى الإجهاض كانت مسئولة عن الجناية، ومثل ذلك شم ريح ضار بالحامل (1) .
ويرى بعض الفقهاء أن من يشتم امرأة شتمًا مؤلمًا يسأل جنائيًا إذا أدى شتمه إلى إجهاض المرأة (2) .
ويصح أن يقع الفعل المكون للجناية من الأب أو الأم أو من غيرهما، وأيًا كان الجانى فهو مسئول عن جنايته ولا أثر لصفته على العقوبة المقررة للجريمة.
399- انفصال الجنين: ولا تعتبر الجناية على الجنين قائمة ما لم ينفصل الجنين عن أمه، فمن ضرب امرأة على بطنها أو أعطاها دواء فأزال ما ببطنها من انتفاخ أو أسكن حركة كانت تشعر بها فى بطنها لا يعتبر أنه جنى على الجنين لأن حكم الولد لا يثبت إلا بخروجه ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح فى البطن سكنت، فهناك شك فى وجود أو موت الجنين، ولا يجب العقاب بالشك، وهذا هو رأى الفقهاء الأربعة وأساسه عدم اليقين من وجود الجنين أو موته (3) .
ولكن الزهرى يرى أن على الجانى العقوبة لأن الظاهر أنه قتل الجنين.
والرأى الذى يجب العمل به اليوم بعد تقدم الوسائل الطبية أنه إذا أمكن طبيًا القطع بوجود الجنين وموته بفعل الجانى فإن العقوبة تجب على الجانى، وهذا الرأى لا يخالف فى شئ رأى الأئمة الأربعة لأنهم منعوا العقاب للشك، فإذا زال الشك وأمكن القطع وجبت العقوبة، ولا يكفى انفصال الجنين لمسئولية الجانى بل يجب أن يثبت أن الانفصال جاء نتيجة لفعل الجانى، وأن علاقة السببية قائمة بين فعل الجانى وانفصال الجنين.
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص360 , شرح الزرقانى ج8 ص31.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31.
(3) المغنى ج9 ص538 , أسنى المطالب ج4 ص89 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517.(2/294)
400- والجنين هو كل ما طرحته المرأة مما يعلم أنه ولد: ويرى مالك مسئولية الجانى عن كل ما ألقته المرأة مما يعلم أنه حمل سواء كان تام الخلقة أو كان مضغة أو علقة أو دمًا. ويرى أشهب من فقهاء المالكية أن لا مسئولية عن طرح الدم، وإنما المسئولية عن طرح العلقة والمضغة، بينما يرى ابن القاسم المالكى أيضًا مسئولية الجانى عن الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، لا الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار يذوب لأن هذا لا شئ فيه (1) .
401- ويرى أبو حنيفة والشافعى مسئولية الجانى عما تطرحه المرأة إذا استبان بعض خلقه، فإذا ألقت مضغة لم يتبين فيها شئ من خلقه فشهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور فالجانى مسئول أيضًا (2) .
402- ويرى الحنابلة مسئولية الجانى إن أسقطت المرأة ما فيه صورة آدمى، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمى فلا مسئولية حيث لا دليل على أنه جنين، وإذا ألقت مضغة فشهد ثقات أن فيه صورة خفية كان الجانى مسئولاً جنائيًا. وإن شهدوا أنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور ففيه وجهان: أصحهما: لا مسئولية عنه لأنه لم يتصور فهو فى حكم العلقة ولأن الأصل البراءة فلا مسئولية بالشك، والثانى: يسأل لأنه مبتدأ خلق آدمى أشبه ما لو تصور (3) .
والجنين قد ينفصل عن أمه حيًا وقد ينفصل ميتًا، وللتفرقة بين الحالتين أهمية كبرى لأن العقوبة تختلف باختلاف الحالين.
وتثبت الحياة للجنين بكل ما يدل على الحياة من الاستهلال - أى الصياح - والرضاع والتنفس والعطاس وغير ذلك، ومجرد الحركة لا يعتبر دليلاً قاطعًا على الحياة لأن الحركة قد تكون من اختلاج الجسم إثر خروجه من ضيق فوجب أن تكون الحركة بحيث تقطع بحياة الجنين، أو أن يكون هناك دليل آخر على الحياة (4) .
_________
(1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31 , بداية المجتهد ج2 ص348.
(2) حاشية ابن عابدين ج5 ص519 , نهاية المحتاج ج7 ص362.
(3) المغنى ج9 ص539.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص33 , أسنى المطالب ج4 ص89 , حاشية ابن عابدين ج5 ص537.(2/295)
403- ويشترط الحنابلة لاعتبار الجنين منفصلاً حيًا أن تكون الحياة مستقرة فيه، فلا يكون فى حالة نزع أو فى الرمق الأخير، وأن يكون سقوطه أو انفصاله لوقت يعيش لمثله أى أن يكون لستة أشهر فصاعدًا، فإن كان لدون ذلك اعتبر أنه انفصل ميتًا ولو انفصل والحياة فيه لأنها حياة لا يتصور بقاؤها، ولأن الجنين لا يعيش غالبًا إذا انفصل لأقل من ستة أشهر وبهذا الرأى قال المزنى من أصحاب الشافعى (1) .
404- ويعتبر المالكية والحنفية والشافعى الجنين منفصلاً حيًا عن أمه ولو انفصل لأقل من ستة أشهر ما دام قد انفصل وفيه الحياة، ولا يعتبرونه منفصلاً ميتًا إلا إذا انفصل فاقد الحياة. وإذا علمت حياته قبل تمام الانفصال كما لو خرج رأسه فصرخ مرارًا ثم تم انفصاله ميتًا فيعتبر أنه انفصل ميتًا لا حيًا لأن العبرة بحالة الجنين عند تمام الانفصال (2) .
405- ويشترط مالك وأبو حنيفة لمسئولية الجانى عن قتل الجنين أن يكون انفصال الجنين قد حدث فى حياة الأم، فإن انفصل عنها بعد وفاتها فلا يسأل الجانى عن قتله إذا انفصل ميتًا لأن موت الأم سبب ظاهر لموته إذ حياته بحياتها وتنفسه بتنفسها فتحقق موته بموتها فضلاً عن أنه يجرى مجرى أعضائها وموتها يسقط حكم أعضائها، وعلى هذا فمن المشكوك فيه أن تكون وفاة الجنين نتيجة لفعل الجانى، ولا ضمان ولا عقاب بالشك.
أما إذا انفصل الجنين حيًا بعد موت الأم فالجانى مسئول عن قتله وعليه ديته إذا مات بفعله، فإن لم يمت فعليه التعزير، وإذا انفصل بعضه ميتًا فى حياتها ثم انفصل كله بعد موتها فحكمه حكم انفصاله كله ميتًا بعد موتها (3) .
406- ويرى الشافعى وأحمد مسئولية الجانى سواء انفصل الجنين بعد
_________
(1) المغنى ج9 ص550 , 552.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص361.
(3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 , حاشية ابن عابدين ج5 ص518.(2/296)
وفاة الأم أو فى حياتها، وسواء انفصل حيًا أو ميتًا؛ لأن الجنين تلف بجناية الجانى وعلم ذلك بخروجه فوجبت المسئولية كما لو سقط فى حياتها، ولأنه لو سقط حيًا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتًا، وليس صحيحًا أن حكمه حكم أعضاء الأم لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتًا ثم ماتت لم يضمنه كأعضائها، وفضلاً عن ذلك فهو آدمى موروث فلا يدخل فى ضمان أمه، وكذلك الحكم لو انفصل بعضه من بطن أمه وخرج باقية أو لم يخرج حيث تيقن وجود الجنين أولاً وتيقن قتله ثانيًا (1) .
407- ونستطيع أن نقول بعد تقدم الوسائل الطبية أن الرأى الذى يجب العمل به هو مسئولية الجانى إذا تبين بصفة قاطعن أن الانفصال ناشئ عن فعل الجانى سواء انفصل الجنين فى حياة أمه أو بعد وفاتها، وسواء انفصل كله أو بعضه. وهذا الرأى يتفق مع كل المذاهب لأن الذين يمنعون المسئولية يمنعونها للشك وعدم التيقن فإذا زال الشك بالوسائل الطبية الحديثة وجبت المسئولية.
408- قصد الجانى: مذهب مالك على أن الجناية على الجنين قد تكون عمدية وقد تكون خطأ، فهى عمدية إذا تعمد الجانى الفعل، وهى غير عمدية إذا أخطأ الجانى بالفعل. ويتفق مذهب مالك مع الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى (2) .
409- والقائلون بأن الجناية عمدية يختلفون فى وجوب القصاص من الفاعل إذا انفصل الجنين حيًا ثم مات بسبب الجناية، فبعض المالكية يوجب القصاص والبعض يوجب الدية، وأصحاب الرأى الراجح فى المذهب يوجبون القصاص إذا كان الفعل فى الغالب مؤديًا لنتيجة كالضرب على الظهر والبطن، ويوجبون الدية إذا لم يكن الفعل مؤديًا لنتيجة غالبًا كالضرب على اليد والرجل (3) .
_________
(1) المغنى ج9 ص538 , أسنى المطالب ج4 ص90.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 , بداية المجتهد ج2 ص438 , نهاية المحتاج ج7 ص363.
(3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33.(2/297)
410- وأصحاب الرأى الراجح فى مذهب الشافعى يرون مع الحنفية والحنابلة أن الجناية على الجنين لا تكون عمدًا محضًا وإنما هى شبه عمد أو خطأ، فهى شبه عمد إذا تعمد الجانى الفعل وهى خطأ إذا أخطأ به.
ولا تعتبر الجناية عمدية حال تعمد العمل لأن العمد المحض بعيد التصور لتوقفه على العلم بوجود الجنين وبحياته، كما يتوقف على قد قتله وهو بعيد التصور (1) .
ويحتج هذا الفريق لرأيه بما روى عن جابر بن عبد الله أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جعل فى الجنين غُرَّة على عاقلة الضارب، والعاقلة لا تحمل العمد، فلو اعتبر الرسول العمد فى هذه الجناية لَماَ جعل الغرة على العاقلة.
411- وتظهر أهمية التفرقة بين العمد وغير العمد فى حالة انفصال الجنين حيًا، حيث يرى بعض القائلين بعمدية الجناية القصاص من الجانى بينما العقاب على غير العمد هو الدية، أما فى حالة انفصال الجنين ميتًا فلا فرق بين العمد وغير العمد فى نوع العقوبة؛ لأن العقوبة متفق عليها فى كل الأحوال وهى الغرة، وإنما يظهر الفرق فى صفة العقوبة حيث تغلظ الغرة فى حالة العمد وشبه العمد ولا تغلظ فى حالة الخطأ (2) ، كذلك يظهر الفرق فى تحمل العقوبة حيث تكون فى مال الجانى وحده فى حالة العمد، وتكون فى ماله أو مال العاقلة وحدها فى حالتى شبه العمد والخطأ، على حسب التفصيل الذى ذكرناه عند الكلام على تحمل الديات (3) .
412- العقوبة المقررة للجناية على الجنين: تختلف العقوبة المقررة للجناية على الجنين باختلاف نتائج فعل الجانى، وهذه النتائج لا تخرج عن خمس:
الأولى: أن ينفصل الجنين عن أمه ميتًا، الثانية: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت بسبب الفعل، الثالثة: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت أو يعيش بسبب آخر غير الفعل، الرابعة: أن لا ينفصل الجنين عن أمه
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص619 , البحر الرائق ج8 ص389 , 390 , المغنى ج9 ص544 , نهاية المحتاج ج7 ص363.
(2) أسنى المطالب ج4 ص94.
(3) راجع الفقرة 389.(2/298)
أو ينفصل بعد وفاتها، الخامسة: أن يترتب عل الفعل إيذاء الأم أو إصابتها بإصابات تشفى منها أو تؤدى لموتها. وسنتكلم عن هذه النتائج واحدة بعد أخرى والعقوبات المقررة لها.
413- أولاً: انفصال الجنين عن أمه ميتًا: إذا انفصل الجنين عن أمه ميتًا فعقوبة الجانى هى دية الجنين، ودية الجنين غرة عبدًا أو أمَة قيمتها خمس من الإبل.
والأصل فى الغرة ما روى عن عمرو رضى الله عنه أنه استشار الناس فى إمْلاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبى - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغُرَّة عبد أو أمة، فقال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى الرسول أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولها ومن معهم " (1) .
والغرة فى اللغة الخيار، وسمى العبد والأمة غرة لأنهما من أنفس الأموال. ويشترط الفقهاء فى العبد أو الأمة شروطًا خاصًا لم نر داعيًا لذكرها بعد أن أبطل الرق فى العالم، وبعد أن أجمع الفقهاء على تقدير الغرة بخمس من الإبل.
414- وتجب الغرة فى الجنين الذكر وفى الجنين الأنثى: ولا فرق فى قيمة ما يجب لكل منهما، ويقدر الفقهاء دية الجنين الذكر بنصف عشر الدية الكاملة، ودية الجنين الأنثى بعشر دية الأم، ولما كانت دية المرأة نصف دية الرجل فالنتيجة أن دية الجنين الأنثى تساوى نصف عشر الدية الكاملة (2) .
وتجب الغرة فى حالتى العمد والخطأ معًا، ولا فرق بين الحالتين إلا أن دية الجنين تغلظ فى حالة العمد وتخفف فى حالة الخطأ (3) ، وإلا أنها حالَّة فى مال الجانى
_________
(1) المغنى ج9 ص535.
(2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص32 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , أسنى المطالب ج4 ص94 , المغنى ج9 ص541.
(3) أسنى المطالب ج4 ص94.(2/299)
المتعمد لا تحمل العاقلة منها شيئًا، أما فى حالة الخطأ ويلحق بها شبه العمد فتحمل العاقلة الدية وحدها أو مع الجانى على حسب الآراء المختلفة التى فصلناها عند الكلام على الدية فى القتل.
والغرة تورث على الجنين على فرائض الله، وفى مذهب مالك رأى مرجوح بأنها للأم دون غيرها وهو مذهب الليث، ومن المتفق عليه أن القاتل لا يرث شيئًا من الغرة إذ لا ميراث للقاتل (1) .
وتتعدد الغرة بتعدد الأجنة، فلو ألقت الحامل جنينين حيين فعلى الجانى غرتان، وإذا ألقت ثلاثة فعلية ثلاثة، وهكذا (2) .
وإذا ماتت الأم بعد وجوب الغرة فلا تدخل الغرة فى دية الأم بل تجب الغرة للجنين والدية للأم (3) .
415- ثانيًا: انفصال الجنين عن أمه حيًا وموته بسبب الفعل: إذا انفصل الجنين عن أمه حيًا ومات بسبب فعل الجانى فالعقوبة القصاص عند من يراه من القائلين بوجود العمد، أو هى الدية الكاملة عند غيرهم من القائلين بأن الفعل عمد أو القائلين بأنه شبه عمد، وكذلك العقوبة الدية باتفاق فى حال الخطأ، والفرق بين دية العمد وشبه العمد والخطأ ليس فى عدد الإبل وإنما فى صفاتها، أو هو الفرق بين التغليظ والتخفيف، كما أن دية العمد تكون فى مال الجانى وتكون حالَّة دائمًا، بينما دية شبه العمد والخطأ ليست حالة وتحمله العاقلة وحدها أو مع الجاني؛ على حسب مختلف الآراء.
والدية الكاملة للجنين يختلف مقدارها باختلاف نوع الجنين، فدية الذكر دية رجل ودية الأنثى دية امرأة؛ أى نصف دية الرجل.
_________
(1) المغنى ج9 ص542 , أسنى المطالب ج4 ص93 , حاشية ابن عابدين ج5 ص518 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , بداية المجتهد ج2 ص348.
(2) أسنى المطالب ج4 ص90 , المغنى ج9 ص543 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , شرح الزرقانى ج8 ص33.
(3) نفس المراجع السابقة.(2/300)
وتتعدد الديات بتعدد الأجنة، فلو ألقت المرأة جنينين ذكرين أو ثلاثة كان على الجانى ثلاث ديات كاملة.
وإذا ماتت الأم بسبب الجناية فلا تدخل دية الجنين فى ديتها، ولا تدخل ديتها فى ديات الأجنة ولو تعددت.
416- ثالثًا: انفصال الجنين حيًا ولم يمت: إذا انفصل الجنين حيًا وعاش أو مات بسبب آخر غير الجناية كأن قتله آخر أو امتنعت الأم عن إرضاعه حتى مات فعقوبة الجناية على الجنين هى التعزير لا غير؛ لأن موت الجنين حدث بسبب غير فعله، أما العقوبة على قتل الجنين بعد انفصاله فهى عقوبة القتل العادى لأن الجريمة ليست إلا إزهاق روح إنسان حى.
والعقوبة التعزيرية التى توقع على الجانى يقدرها القاضى ويعينها من بين مجموعة العقوبات التعزيرية ما لم يكن ولى الأمر قد عين هذه العقوبة وقدرها.
417- رابعًا: انفصال الجنين بعد وفاة الأم أو عدم انفصاله: إذا لم يترتب على الجناية انفصال الجنين أو ماتت الأم قبل انفصاله أو انفصل عنها بعد وفاتها فالعقوبة على الجناية فى هذه الحالات جميعًا هى التعزير ما دام لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله وأن موت الأم لا دخل له فى ذلك (1) .
418- خامسًا: أن يترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو موتها: إذا ترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو قطع طرف من أطرافها أو موتها فعلى الجانى عقوبة هذه الأفعال بغض النظر عن العقوبات المقررة للجناية على الجنين؛ لأن العقوبات الأخيرة خاصة بالجنين وليست خاصة بما يصيب أمه، فإذا أعطى رجل امرأة دواء بقصد إجهاضها فماتت بعد أن انفصل ولدها ميتًا فعليه دية المرأة باعتبار أنه قتلها قتلاً شبه عمد وعليه غرة دية الجنين، وإذا ماتت بسبب الفعل بعد انفصال ولدها حيًا فعلى الجانى ديتان: دية المرأة ودية الجنين.
_________
(1) راجع ما كتبناه عن انفصال الجنين.(2/301)
وإذا ضرب شخص امرأة بالسيف فى بطنها قاصدًا قتلها فاسقط منها جنينين أحدهما أصابه السيف فنزل ميتًا والثانى نزل حيًا ثم مات وماتت المرأة؛ فعلى الجانى القصاص فى قتل المرأة وعليه دية كاملة للجنين الذى نزل حيًا، وغرة للجنين الذى نزل ميتًا،
وإذا ضربها فقطع ذراعها فألقت ولدها ميتًا فعليه القصاص فيما فعل بالمرأة وعليه غرة دية الجنين.
وإذا ضربها ضربًا لم يترك أثرًا فأجهضت جنينًا انفصل عنها ميتًا فعليه التعزير فى ضرب المرأة وعليه غرة دية الجنين.
419- الكفارة: وهناك عقوبة أخرى للجناية على الجنين هى عقوبة الكفارة (1) ، ويعاقب الجانى بها كلما ألقت الأم جنينها سواء ألقته حيًا أو ميتًا، وسواء كان الجانى هو الأم أو أجنبى عنها، وإن ألقت الأم أجنة ففى كل جنين كفارة، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد (2) .
وإذا اشترك جماعة فى الجناية فألقت المرأة جنينًا فديته عليهم بالحصص وعلى كل منهم كفارة.
ويجعل مالك الكفارة مندوبًا إليها فى الجناية على الجنين وليست واجبة (3) .
أما أبو حنيفة فيفرق بين انفصال الجنين ميتًا وانفصاله حيًا ويوجب الكفارة فى الحال الثانية دون الأولى (4) .
* * *
_________
(1) راجع ما كتب عن الكفارة فهو متمم لما يقال هنا.
(2) أسنى المطالب ج4 ص95 , المغنى ج9 ص556 وما بعدها.
(3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص39.
(4) حاشية ابن عابدين ج5 ص518 , 519.(2/302)
إثبات الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين
420- اختلف الفقهاء فى تحديد الأدلة التى تثبت عن طريقها الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين، فرأى جمهور الفقهاء أن هذه الجنايات لا تثبت إلا عن طرق ثلاث هى:
(1) الإقرار. ... ... (2) الشهادة. ... ... (3) القسامة.
ورأى بعض الفقهاء أنها تثبت أيضًا عن طريق قرائن الأحوال، وعلى هذا تكون طرق إثبات هذه الجناية أربع طرق هى:
(1) الإقرار. ... (2) الشهادة. ... (3) القسامة. ... (4) قرائن الأحوال.
وسنتكلم عن هذه الطرق واحدة بعد أخرى.
الإقرار
421- الإقرار لغة: هو الإثبات، من قر الشئ يقر قرارًا إذا ثبت. وشرعًا: الإخبار عن حق أو الاعتراف به. والأصل فى الإقرار: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وفسرت شهادة المرء على نفسه بالإقرار وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ} إلى قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أى: فليقر بالحق، وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة:102] ، وقوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، إلى آيات أخرى.
وأما السنة: فما روى أن ماعزًا أقر بالزنا فرجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الغامدية، وفى قضية العسيف قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اغْدُ يا أُنَيْس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها".
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار لأنه إخبار ينفى التهمة والريبة عن المقر، ولأن العاقل لا يكذب على نفسه كذبًا يضر بها، ولهذا كان الإقرار أكد من الشهادة وكان حجة فى حق المقر يوجب عليه الحد والقصاص والتعزير كما يوجب عليه الحقوق المالية.(2/303)
422- والإقرار على قوته حجة قاصرة على نفس المقر لا تتعداه إلى غير كما يرى جمهور الفقهاء، فإذا اعترف بكر بأنه قتل زيدًا وأن عليًا شاركه جريمة القتل، فإن هذا الاعتراف يكون حجة قاصرة على بكر فقط ما دام على ينكره، فإذا سلم به على فإنه يؤاخذ لا باعتراف بكر وإنما باعترافه هو، وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو داود عن سهل بن معد أن رجلاً جاء الرسول فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (1) . ولكن الإقرار يمكن أن يتعدى إلى غير المقدر عند من يرون الإثبات بقرائن الأحوال، إذا أمكن اعتبار إقرار المقر قرينة على غير المقر.
423- ويشترط فى الإقرار المثبت للجناية أن يكون مبينًا مفصلاً قاطعًا فى ارتكاب الجانى الجناية، أما الاعتراف المجمل الذى يمكن أن يفسر على أكثر من وجه فلا تثبت به الجناية، فمن أقر مثلاً بقتل شخص لا يمكن اعتباره مسئولاً جنائيًا إذا فصل اعترافه عن كيفية القتل وأداته، فقد يكون المعترف طلب من القتيل أن يؤدى عملاً أو يذهب إلى مكان معين فقتل فيه، فاعتقد أنه تسبب فى قتله واعترف بالقتل على هذا الأساس، ويجب أن يبين إن كان القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ؛ لأن لكل نوع من أنواع القتل أركانًا وعقوبات خاصة، ويجب أن يبين ظروف التل وسببه فقد يكون القتل وقع استعمالاً لحق أو أداء لواجب ولا مسئولية فى مثل هذه الحالة، فالإقرار الذى يؤخذ به الجانى هو الإقرار المفصل المثبت لارتكاب الجريمة ثبوتًا لا شك فيه.
424- والأصل فى الاستفصال والتبين هو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءه ماعز يعترف بالزنا ويكرر اعترافه، فسأل - صلى الله عليه وسلم - هل به جنون أو هو
_________
(1) فتح القدير ج4 ص158 , المغنى ج10 ص168.(2/304)
شارب خمر وأمر من يشم رائحته، وجعل يستفسر عن الزنا فقال له: "لعلك قبلت أو غمزت" وفى رواية: "هل صاحبتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم قال: هل جامعتها؟ قال: نعم" وفى حديث ابن عباس: "أنكتها؟ قال: نعم، قال: دخل ذلك منك فى ذلك منها؟ قال نعم. قال: كما يغيب المرود فى المُكْحُلة والرشاء فى البئر؟: نعم قال: تدرى ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتى الرجل من امرأته حلالاً. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرنى، فأمر به فرجم". فدل جميع ذلك على أنه يجب الاستفصال والتبين (1) .
ويشترط بعد تفصيل الإقرار أن يكون الإقرار صحيحًا، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر من عاقل مختار.
425- إقرار زائل العقل: إذا أقر بجريمة من فقد عقله لأى سبب كشرب دواء أو شرب مسكر أو نوم أو إغماء أو جنون، فإن إقراره لا يعتبر إقرارًا صحيحًا ولا يؤاخذ به ولكن لو أعاد المقر إقراره بعد زوال حالة الإغماء أو النوم وبعد زوال أثر السكر أو أثر الدواء وبعد زوال الجنون، فإنه يؤاخذ بإقراره الجديد لأنه صدر صحيحًا (2) .
ويتفق أبو حنيفة والشافعى مع مالك وأحمد فيما سبق إلا فى شرب الدواء والمسكر، فيرى أبو حنيفة أن إقرار السكران بطريق محظور هو إقرار صحيح، وأن السكران يؤخذ بإقراره إذا أقر وهو سكران إلا فى الحدود الخالصة حقًا لله، والقتل ليس منها، وكذلك الجناية على ما دون النفس وعلى الجنين (3) ؛ لأن عقوبتها القصاص أو الدية وهى من حقوق الأفراد. أما إذا كان السكر
_________
(1) سبل السلام ج4 ص 7 , 8.
(2) المغنى ج5 ص271 وما بعدها وج10 ص170 , 171 , مواهب الجليل ج4 ص43.
(3) حاشية الطهطاوى ج3 ص328 , 346 , حاشية ابن عابدين ج4 ص621.(2/305)
بطريق غير محظور فلا يؤخذ السكران بإقراره فى كل الأحوال إلا إذا أعاد الإقرار بعد زوال سكره.
ويرى الشافعى أن من شرب دواء مزيلاً للعقل بغير حاجة ومن شرب مسكرًا عالمًا بأنه مسكر يؤخذ بإقراره فى كل الأحوال، لأنه شرب ما يعلم أنه يزيل عقله فوجب أن يتحمل نتيجة عمله تغليظًا عليه لينزجر (1) ، فإذا دعت الحاجة لشرب الدواء المزيل للعقل أو شرب المسكر وهو يعلم أنه مسكر، فإنه لا يؤخذ بإقراره إلا إذا أقر ثانية بعد زوال سكره.
426- ومن المتفق عليه أن المسكر لا يشترط فيه أن يكون خمرًا، فيصح أن يكون أى مادة مسكرة أو مخدرة ما دامت تؤدى إلى غيبة العقل، ولهذا يعرف الفقهاء السكر بأنه غيبة العقل من تناول الخمر أو ما يشبه الخمر.
ويعتبر الإنسان سكران إذا فقد عقله فلم يعد يعقل قليلاً ولا كثيرًا ولا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، وهذا هو رأى أبى حنيفة (2) ، ويرى محمد وأبو يوسف أن السكران هو الذى يغلب على كلامه الهذيان وحجتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران وهذا الرأى يتفق مع الرأى الراجح فى كل من المذهب المالكى والشافعى والحنبلى (3) .
427- إقرار المكرَه: قبل أن نعرف حكم إقرار المكره ينبغى أن نعرف شيئًا عن الإكراه.
تعريف الإكراه: يعرف الإكراه بأنه فعل يفعله الإنسان بغيره
_________
(1) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283 , 284.
(2) بدائع الصنائع ج5 ص118.
(3) المغنى ج10 ص335 , أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص284.(2/306)
فيزول رضاه أو يفسد اختياره (1) . ويعرف بأنه ما يفعل بالإنسان مما يضر أو يؤلمه (2) .
ويرى البعض أن حد الإكراه هو أن يهدد المكرَه قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يُؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أُكره عليه وغلبت على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع مما أكرهه عليه (3) .
والإكراه فى الشريعة على نوعين: نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار، وهو ما خفيف فيه تلف النفس، ويسمى إكراهًا تامًا أو إكراهًا ملجئًا. ونوع يعدم الرضاء أو يفسده ولكنه لا يؤثر على الاختيار، وهو ما لا يخاف فيه التلف عادة كالحبس والقيد والضرب الذى لا يخشى منه التلف ويسمى إكراهًا ناقصًا أو إكراهًا غير ملجئ (4) .
والإكراه التام يؤثر فيما يقتضى الرضاء والاختيار معًا كارتكاب الجرائم، فمن أكره على جريمة قتل مثلاً ينبغى أن يكون الإكراه الواقع عليه بحيث يعدم رضاه ويفسد اختياره، أما الإكراه الناقص فلا يؤثر إلا على التصرفات التى تحتاج إلى الرضاء كالإقرار والبيع والإجارة وما أشبه.
428- ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد - ورأيهم مرجوح - أن الإكراه يقتضى شيئًا من العذاب مثل الضرب والخنق وعصر الساق وما أشبه وأن التوعد بالعذاب لا يكون إكراهًا.
ويستدلون على ذلك بقصة عمار بن ياسر حين أخذه الكفار فأرادوه على الشرك بالله فأبى عليهم فلما غطوه فى الماء حتى كادت روحه تزهق أجابهم إلى ما طلبوا، فانتهى إليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكى فجعل يسمح الدموع من عينيه ويقول: "أخذك المشركون فغطوك فى الماء وأمروك
_________
(1) البحر الرائق ج8 ص79.
(2) مواهب الجليل ج4 ص45.
(3) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص282.
(4) البحر الرائق ج8 ص80.(2/307)
أن تشرك بالله ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم" ويستدلون بما قاله عمر رضى الله عنه: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته فهؤلاء يرون أن الإكراه يستلزم فعلاً ماديًا يقع على المكرَه فيحمله على إتيان ما أكره عليه، فإن لم يكن الإكراه ماديًا وسابقًا على الفعل الذى يأتيه المكرَه فلا يعتبر الفاعل مكرهًا فى رأيهم (1) .
429- ويرى أصحاب الرأى الراجح فى مذهب أحمد ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى من أن الوعيد بمفرده إكراه، وأن الإكراه لا يكون غالبًا إلا بالوعيد بالتعذيب أو بالقتل أو بالضرب أو بغير ذلك، أما ما مضى من العقوبة فإنه لا يندفع بفعل ما أكره عليه، ولا يخشى منه شيئًا بعد وقوعه، إنما الخشية والخوف مما يهدد به، فإذا وقع الفعل المهدد به انتهت الخشية وذهب الخوف، فالذى يندفع إذن بإتيان الفعل المكرَه عليه وهو ما يتوعد به من العقوبة أو التعذيب لا ما وقع منها فعلاً (2) .
وعلى هذا فالإكراه يصح أن يكون ماديًا ويصح أن يكون معنويًا، والإكراه المادى هو ما كان التهديد والوعيد فيه واقعًا، أما الإكراه المعنوى فهو ما كان الوعيد والتهديد فيه منتظر الوقوع.
شروط الإكراه: يشترط لوجود الإكراه توفر الشروط الآتية، فإن لم تتوفر فلا يعتبر الإكراه قائمًا ولا يعتبر المقر مكرهًا:
430- أولاً: أن يكون الوعيد مما يستضر به بحيث يعدم الرضاء أو يفسده: كالضرب والحبس والقيد والتجويع، فإذا لم يكن لتنفيذ الوعيد أثر على الرضاء انتفى وجود الإكراه، وتقدير الوعيد الذى يستضر به مسألة موضوعية تختلف باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها، فقد يكون الشئ إكراهًا
_________
(1) المغنى ج8 ص260 , الشرح الكبير ج8 ص243.
(2) المغنى ج8 ص261 , البحر الرائق ج8 ص80 , أسنى المطالب ج3 ص282 , 283 , مواهب الجليل ج3 ص45 , 46.(2/308)
فى حق شخص دون آخر وفى سبب دون آخر، فبعض الأشخاص قد لا يتضرر من الضرب عدة أسواط، والبعض قد يتضرر من ضربة سوط واحد، بل قد يتضرر من صفعة أو فرك أذن، والبعض قد يرحب بمكثه فى السجن أمدًا طويلاً والبعض قد يضره ضررًا كبيرًا بقاؤه فى السجن ليلة واحدة.
ويعتبر الوعيد إكراهًا إذا وجه لنفس المكره، وهذا متفق عليه، فإذا وجه لغيره فهناك اختلاف؛ فيرى المالكية أن الوعيد إكراه ولو وقع على أجنبى (1) . ويرى بعض الحنفية أن الوعيد ليس إكراهًا إذا وقع على غير المكره، ولكن بعضهم يرى أنه إكراه إذا وقع على الولد أو الوالد أو على ذى رحم محرم، وهذا يتفق مع رأى الشافعية (2) ، ويرى الحنابلة أن الوعيد إكراه إذا وقع على الابن أو الأب (3) .
وليس من الضرورى أن يكون الإكراه بالوعيد بالإيذاء المادى، بل يكفى لوجود الإكراه الوعيد بالمنع من استعمال الحقوق، فمن يمنع زوجته من زيارة أهلها إلا إذا أقرت بجريمة، ومن يمنع ابنته من الزفاف أو الذهاب إلى دار الزوجية إلا إذا اعترفت بجريمة فإنه يحملها على الإقرار كرهًا (4) .
كذلك من يمنع عن آخر طعامه أو شرابه حتى يقر بجريمة فإنه يعتبر مكرهًا فى إقراره. وأمر صاحب السلطان يعتبر فى ذاته إكراهًا دون حاجة إلى اقترانه بالوعيد أو التهديد، وأمر غيره إكراهًا إلا إذا كان المأمور يعلم أنه إن لم يطع وقعت عليه وسائل الإكراه (5) .
وأمر الزوج لزوجته فى حكم أمر السلطان إن كانت تخشى الأذى إذا لم
_________
(1) مواهب الجليل ج4 ص45.
(2) حاشية ابن عابدين ج5 ص110 , أسنى المطالب وحاشية الشهاب ج3 ص283.
(3) الإقناع ج4 ص4.
(4) حاشية ابن عابدين ج5 ص120.
(5) حاشية ابن عابدين ج5 ص112.(2/309)
تطعه فإن أطاعته وهى لا تخشى أذى إذا لم تطعه فلا يعتبر الأمر إكراهًا (1) .
والوعيد بإتلاف المال إكراه عند مالك والشافعى إذا لم يكن المال يسيرًا، فإن كان المال يسيرًا فلا إكراه. وتقدير ما إذا كان المال يسيرًا أو غير يسير يرجع فيه إلى الشخص نفسه ومقدار ثروته، فقد يكون المال يسيرًا بالنسبة لشخص وغير يسير بالنسبة لآخر (2) .
والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن الوعيد بإتلاف المال ليس إكراهًا ولو كان إتلاف المال يلحق ضررًا جسيمًا بصاحبه؛ لأن محل الإكراه الأشخاص لا الأموال. ولكن بعض فقهاء الحنفية يرون الوعيد بإتلاف المال إكراهًا، وأصحاب هذا الرأى يختلفون فيما بينهم، فيشترط بعضهم أن يكون الوعيد بإتلاف كل المال ليكون إكراهًا، والبعض لا يشترط إتلاف كل المال ويكفى لاعتبار الإكراه قائمًا أن يكون الوعيد بإتلاف جزء من المال يستضر بإتلافه (3) .
ويجب أن يكون الوعيد بفعل محذور أى غير مشروع، فإن كان الفعل المهدد به مشروعًا فلا يعتبر الإكراه قائمًا، فمن كان محكومًا عليه بالجلد أو الحبس فهدد بتنفيذ العقوبة عليه إن لم يرتكب جريمة فارتكبها فعليه عقوبتها ولا يعتبر أنه كان فى حالة إكراه لأن الفعل الذى هدد به مشروع (4) .
431- ثانيًا: أن يكون الوعيد بأمر حال يوشك أن يقع إن لم يستجب المكره: فإن كان الوعيد بأمر غير حالًّ فليس ثمة إكراه لأن المكرَه لديه من الوقت ما يسمح له بحماية نفسه فيلجأ للسلطات العامة أو يهرب من المكره،
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120.
(2) مواهب الجليل ج4 ص45 , أسنى المطالب ج3 ص283 , الإقناع ج4 ص4.
(3) البحر الرائق ج8 ص82 , بدائع الصنائع ج7 ص176 وما بعدها , حاشية ابن عابدين ج5 ص110 , 121.
(4) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , أسنى المطلب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص260.(2/310)
ولأنه ليس فى الوعيد غير الحال ما يحمله على المسارعة بتلبية طلب المكره ويرجع فى تقدير ما إذا كان الوعيد حالاً أو غير حالًّ إلى ظروف المكره وإلى ظنه الغالب المبنى على أسباب معقولة، ويعتبر الوعيد حالاً كلما عجز المكره عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره إلى غير ذلك من أنواع الدفع (1) .
وإذا كان الوعيد بأمر آجل فإنه لا يعتبر إكراهًا كقوله: لأضربنك غدًا إن لم تقر بكذا أو تفعل كذا. ولكن الأذرعى من فقهاء الشافعية يرى أن فى النفس من هذه المسالة شيئًا وأنه إذا غلب على ظن المقر إيقاع ما هدد به لو لم يفعل فإنه يعتبر مكرهًا ولاسيما إذا عرف أن من عادة المهدد إيقاع ذلك الوعيد (2) .
432- ثالثًا: أن يكون المكره قادرًا على تحقيق وعيده: لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة فإن لم يكن المكره قادرًا على فعل ما هدد به فلا إكراه، ولا يشترط فى المكره أن يكون ذا سلطان كحاكم أو موظف؛ لأن العبرة بالقدرة على الفعل المهدد به لا بصفة المكره (3) .
433- رابعًا: أن يغلب على ظن المكرهَ أنه إذا لم يجب إلى ما دعى إليه تحقق ما أوعد به: فإن كان يعتقد أن المكره غير جاد فيما أوعد به أو كان يستطيع أن يتفادى الوعيد بأى طريقة كانت ثم أتى الفعل بعد ذلك فإنه لا يعتبر مكرهًا، ويجب أن يكون ظن المكره مبنيًا على أسباب معقولة (4) .
432- حكم إقرار المكرَه: وإذا توفر الإكراه على الوجه السابق وأقر المكره على نفسه بجريمة فإن إقراره يكون باطلاً ولا يؤخذ به لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتى
_________
(1) أسنى المطالب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص261 , حاشية ابن عابدين ج5 ص109.
(2) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283.
(3) حاشية ابن عابدين ج5 ص109 , المغنى ج8 ص261 , أسنى المطالب ج3 ص282.
(4) أسنى المطالب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص261 , حاشية ابن عابدين ج5 ص109.(2/311)
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولأنه قول أكره عليه بغير حق، والأصل أن العاقل لا يتهم بقصد الإضرار بنفسه، فإذا أقر مختارًا قُبل إقراره لانتفاء التهمة ولوجود الداعى إلى الصدق، ولكن إذا اُكره الشخص على الإقرار فأقر فإنه يغلب على الظن أنه قصد بإقراره دفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق فلم يقبل إقراره، فإذا أقر بقتل أو قطع أو سرقة أو غير ذلك تحت تأثير الإكراه لم يجب عليه بإقراره عقاب (1) لاحتمال كذب الإقرار ومما يؤثر فى هذا الباب قول عمر رضى الله عنه: "ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته" أو على حسب ما يرويه البعض: "ليس الرجل على نفسه بأمين إن جوَّعت أو خوَّفت أو أوثقت"، ومما يؤثر عن شريح أنه كان يقول: "القيد كره، والسجن كره، والوعيد والضرب كره" (2) ، ويؤثر عن ابن شهاب أنه قال فى رجل اعترف بعد جلده: ليس عليه حد (3) .
وإذا أقر فى حال الإكراه بغير ما أكره مثل أن يكره على الإقرار بجريمة ما فيقر بأخرى فإقراره فيما يتعلق بهذه الجريمة الأخرى صحيح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو أقر به ابتداء دون إكراه (4) .
أما إقراره بالجريمة التى أكره على الإقرار بها فهو إقرار باطل لا يؤخذ به، إلا أن يقر ثانية بالجريمة بعد إخلاء سبيله وهو مختار غير مكره فإنه يؤخذ بإقراره الجديد (5) .
435- والإقرار الصادر تحت تأثير الإكراه باطل ولو قامت الدلائل على صحته، كأن يرشد السارق عن المسروقات أو القاتل عن جثة القتيل، فإذا
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , البحر الرائءق ج8 ص80 , المغنى ج10 ص172 , ج5 ص272 , 373 , أسنى المطالب ج2 ص290 وما بعدها , مواهب الجليل ج4 ص44 , 45.
(2) المبسوط للسرسخى ج9 ص185.
(3) المغنى ج10 ص172.
(4) المغنى ج5 ص273.
(5) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , بدائع الصنائع ج7 ص189.(2/312)
استمر على إقراره بعد أن أصبح فى أمن من الإكراه اعتبر استمراره إقرارًا جديدًا، وهذا متفق عليه إلا من القائلين فى مذهب مالك بصحة إقرار المكره، وما يؤثر فى هذا الباب أن الحسن بن زياد الفقيه الحنفى قال بجواز ضرب السارق حتى يقر، ضربًا لا يقطع اللحم ولا يبين العظم، وأفتى مرة بهذا ثم ندم وأتبع السائل إلى باب الأمير فوجده قد ضرب السارق حتى أقر بالمال المسروق وجاء به، ومع ذلك فقد خرج المحسن بن زياد وهو يقول: ما رأيت جورًا أشبه بالحق من هذا (1) .
436- ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أنه إذا ضرب ليقر فهذا إكراه، أما إذا ضرب ليصدق فى القضية فأقر حال الضرب أو بعده فإقراره صحيح ولا يعتبر مكرهًا، لأن المكره من أكره على شئ واحد وهو هنا إنما ضرب ليصدق ولا ينحصر الصدق فى الإقرار، ولكن أصحاب هذا الرأى يكرهون مع هذا أن يلزم المقر بإقراره إلا بعد أن يراجع ويقر ثانيًا من غير أن يضرب أو يهدد. ويؤخذ على أصحاب هذا الرأى تمسكهم بالإقرار الثانى مع أن هذا الإقرار الثانى فيه نظر إذا غلبت على ظنه أنه إذا أنكر أعيد ضربه، والرأى الراجح فى المذهب هو عدم قبول الإقرارين لأنهما صادران من مكره (2) .
437- ومن ادعى الإكراه لا تقبل دعواه لمجرد ادعائه؛ لأن الأصل عدم الإكراه، إلا أن تكون هناك قرينة على صحة الادعاء، كالقيد والحبس والقبض والوضع تحت الحراسة، فى مثل هذه الحالات تقبل دعوى الإكراه ولمن يدعيه أن يثبته، ويستوى فى هذه الحال أن يكون القبض والحبس والقيد بحق أو بغير حق، كحالة الحبس الاحتياطى، وكحالة القبض بغير حق (3) .
_________
(1) المبسوط للسرخسى ج9 ص180.
(2) أسنى المطالب ج2 ص290 , 291.
(3) أسنى المطالب ج2 ص299 , المغنى ج5 ص273.(2/313)
وإذا أكره حاكم أو قاض شخصًا ليقر بجريمة عقوبتها القتل أو القطع كالقتل والسرقة فأقر بها وقتل أو قطعت يده اقتص ممن أكرهه (1) .
438- رجوع المقر عن إقراره: وإذا كان الإقرار صادرًا من غير إكراه فعدل عنه المقر، قُبل منه الرجوع عن إقراره فيما كان حقًا لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطه، فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التى لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل منه الرجوع عن إقراره بها، وهذه القاعدة متفق عليها، فإذا أقر بزنا ثم عدل عن إقراره لم يؤخذ بإقراره لأن الزنا متعلق بحقوق الله تعالى التى تدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطها، أما إذا أقر بقتل أو جرح أو قطع أو إسقاط جنين، فإنه يؤاخذ بإقراره ولو عدل عنه لأن الجنايات الواقعة على النفس وما دونها وعلى الجنين كلها متعلقة بحقوق الآدميين ولو أن بعضها يعاقب عليه بالقصاص، ولو أن القصاص مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات (2) . لكن إذا ثبت أن الإقرار مكذوب فلا يؤاخذ المقر بإقراره سواء عدل عنه أو لم يعدل، وسواء كان متعلقًا بحقوق الله تعالى أو بحقوق الآدميين.
وعدول المقر عن إقراره لا أثر له أيًا كان نوع الجريمة التى أقر بها ما دامت الجريمة ثابتة قَبل المقر بغير الإقرار، كأن تكون ثابتة بشهادة الشهود.
* * *
الشهادة
439- الشهادة هى الطريق المعتاد لإثبات الجرائم: وأغلب الجرائم تثبت عن طريق الشهادة وأقلها يثبت بغير الشهادة من طرق الإثبات، ولهذا كان للشهادة كطريق من طرق الإثبات أهمية كبرى فى إثبات الجرائم.
والأصل فى الشهادة الكتاب والسنة:
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , بدائع الصنائع ج7 ص189 , 190.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص107 , بدتئع الصنائع ج7 ص232 , 233 , حاشية الطهطاوى ج3 ص346 , أسنى المطالب ج4 ص150 , المغنى ج2 ص288.(2/314)
الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2] ، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] .
وأما السنة: فما روى وائل بن حجر قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال الحضرمى: يا رسول الله هذا غلبنى على أرض لى، فقال الكندى: هى أرضى وفى يدى فليس له فيها حق، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - للحضرمى: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه" (1) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته" (2) .
ويفرق الفقهاء فى إثبات القتل والجراح بين الجرائم التى توجب عقوبة بدنية كالقصاص أو الجلد والحبس أو غيرهما من العقوبات البدنية التعزيرية وبين الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية والغرامة.
440- الجرائم التى توجب عقوبة بدنية: العقوبة البدنية إما أن تكون القصاص وإما أن تكون عقوبة تعزيرية.
إثبات الجرائم الموجبة للقصاص: يشترط الفقهاء فى إثبات الجرائم الموجبة للقصاص بالشهادة أن يشهد بالجريمة رجلان عدلان، ولا يقبل الفقهاء فى إثبات هذا النوع من الجرائم شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة شاهد ويمين المجنى عليه، وذلك لأن القصاص إراقة دم عقوبة على جناية فيحتاط له لدرئه باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود، وهذا هو رأى جمهور الفقهاء (3) .
ويرى الأوزاعى والزهرى أن الجريمة التى توجب القصاص تثبت بما تثبت به الأموال، فيكفى فى إثباتها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ويؤيد الشوكانى هذا الرأى (4) .
_________
(1) المغنى ج12 ص2.
(2) نيل الأوطار ج6 ص310.
(3) مواهب الجليل ج6 ص275 , حاشية الطهطاوى ج3 ص220 , أسنى المطالب ج4 ص105 , المغنى ج7 ص41.
(4) نيل الأوطار ج6 ص311.(2/315)
441- ومن يشترط الشاهدين فيما يوجب القصاص لا يفرق بين القصاص فى النفس والقصاص فيما دون النفس، ويوجب فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص مطلقًا شهادة رجلين عدلين، إلا مالكًا فإنه لا يوجب شهادة العدلين إلا فى القصاص فى النفس فقط، أما إذا كان القصاص فيما دون النفس فيجيز مالك إثبات الجريمة الموجبة للقصاص بشاهد واحد ويمين المجنى عليه، ولا يقيس مالك الجراح بالأموال وإنما هو مبدأ أخذ به لأنه استحسنه، وقد سئل ابن القاسم فى هذا فقيل له: لم قال مالك ذلك فى جراح العمد وليست بمال؟ قال: قد كلمت مالكًا فى ذلك فقال: إنه شئ استحسناه، وما سمعت فيه شئيًا (1) .
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب مالك جواز شهادة المرأتين ويمين المدعى فى جراح العمد، ولا يرى البعض ذلك (2) .
والشاهدان اللذان تثبت بشهادتهما الجريمة الموجبة للقصاص ليس أحدهما المجنى عليه، فإذا كان شاهد واحد والمجنى عليه لم يكمل نصاب الشهادة لأن المجنى عليه يعتبر مدعيًا لا شاهدًا وأقواله تصلح لَوْثًا أى قرينة ولكنها لا تقوم مقام الشهادة.
أما فى حالة إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس بشاهد ويمين المجنى عليه تبعًا لرأى مالك فإن الجريمة تثبت بشهادة الشاهد الواحد ولا يعتبر المجنى عليه شاهدًا ثانيًا ولو أنه يؤدى اليمين لأنه لا يسأل كشاهد، وإنما يحلف اليمين على صحة شهادة الشاهد، فاليمين مقصود بها تقوية شهادة الشاهد.
وهناك من الفقهاء من لا يشترط نصابًا معينًا فى الشهود فيكفى عنده لإثبات الجريمة الموجبة للقصاص أن يشهد بها شاهد واحد إذا رجح القاضى صدق شهادته (3) ، والذين يشترطون شهادة رجلين فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص275 , شرح الزرقانى ج8 ص59.
(2) تبصرة الحكام ج1 ص241.
(3) الطرق الحكمية ص66 - 78 , طرق الإثبات الشرعية ص181.(2/316)
لا يجيزون إثبات الجريمة بأقل من ذلك ولو عفا المجنى عليه أو وليه عن القصاص إلى الدية وهى مال، وما يوجب المال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة رجل ويمين المدعي؛ على التفصيل الذى سنذكره فيما بعد، وحجتهم أن الواجب بالجناية أصلاً هو القصاص لا الدية وإنما وجبت الدية بالعفو أو الصلح والعفو والصلح كلاهما حق ثابت للمجنى عليه أو وليه، أما طريقة الإثبات فليست من حقه بل هى حق الجماعة، وهذا لا يؤدى العفو أو الصلح فى العمد إلى جواز الإثبات بما يثبت به المال، وفضلاً عن ذلك فإنه يجب أن يثبت للمجنى عليه حق القصاص قبل كل شئ حتى يثبت له العفو أو الصلح عن هذا الحق (1) .
442- الجرائم التى توجب تعزيرا بدنيًا: إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى مع القصاص فيشترط فى إثباتها ما يشترط فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص، وقد بينا ما يشترطه الفقهاء على اختلاف وجهات نظرهم.
أما إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى دون القصاص فيرى الشافعى وأحمد أن الجريمة لا تثبت إلا بما تثبت به الجريمة الموجبة للقصاص أى بشهادة رجلين عدلين؛ لأن العقوبات البدنية خطيرة فيجب الاحتياط فيها بقدر الإمكان فلا تثبت بما تثبت به الأموال من شهادة رجل وامرأتين وشهادة رجل ويمين المجنى عليه (2) .
443- والأصل عند مالك أن العقوبات البدنية لا تكون إلا بشهادة رجلين ولكنه أجاز فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس أن تثبت بشهادة رجل واحد ويمين المجنى عليه، وأوجب على الجانى فى الوقت نفسه عقوبة التعزير مع عقوبة القصاص (3) .
ومعنى هذا أن عقوبة التعزير البدنية تثبت والجريمة الموجبة لها بشاهد ويمين المدعى، ويمكن القول بأن القصاص أشد من التعزير فإذا تبتت الجريمة الموجبة
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص105 , المغنى ج10 ص42.
(2) أسنى المطالب ج4 ص360 , الإقناع ج4 ص445.
(3) مواهب الجليل ج6 ص247.(2/317)
للقصاص بشاهد ويمين فأولى أن تثبت بذلك الجريمة الموجبة للتعزير. كما يمكن القول بأنه إذا ثبتت الجريمة الموجبة للتعزير البدنى فى الجراح بشاهد ويمين فإن كل جريمة أخرى موجبة للتعزير البدنى يصح أن تثبت بشاهد ويمين قياسًا على هذا. ويرى بعض المالكية التعزير فى بعض الجرائم بشهادة شاهد واحد دون يمين (1) .
444- والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن العقوبات البدنية لا تثبت بأقل من شاهدين عدلين ولكنهم يجيزون فى التعزير أن يكون أحد الشاهدين هو المجنى عليه ويقبلون فيه شهادة رجل وامرأتين على خلاف بين أبى حنيفة وصاحبيه، بل يرون أنه يكفى للتعزير شهادة شاهد وأحد عدل (2) ، أو شهادة المدعى وحده مع نكول الجانى عن اليمين (3) ، والنكول ليس إلا قرينة تقوى شهادة المجنى عليه الذى لا يعتبر فى الأصل شاهدًا تبعًا لقواعد الشريعة كذلك يجيزون إثبات جرائم التعزير بالشهادة على الشهادة بل يكتفون فى التعزير بعلم القاضى (4) .
445- إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة مالية: تثبت الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية أو الغرامة بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى، وكل ما شرع فيه اليمين والشاهد يثبت بشهادة الشاهد ونكول المدعى عليه (5) ، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد، وحجتهما أنها شهادة عكس ما يقصد به المال والمال يثبت على هذا الوجه فوجب أن تقبل هذه الشهادة فى كل قتل أو جرح موجب للمال كما يقبل فى البيع والإجازة، ولا تقاس الشهادة فى الجناية الموجبة للمال بالشهادة فى الجناية الموجبة للقصاص؛ لأن القصاص عقوبة يحتاط لإسقاطها ودرئها فاحتيط فى الشهادة على أسبابها (6) .
_________
(1) تبصرة الحكام ج1 ص260 , 261.
(2) حاشية ابن عابدين ج3 ص258 , 259.
(3) شرح فتح القدير ج3 ص213.
(4) حاشية ابن عابدين ج3 ص258 , 260.
(5) المغنى ج12 ص12.
(6) المغنى ج10 ص42 , أسنى المطالب ج4 ص105 , الإقناع ج4 ص246.(2/318)
ويرى بعض الحنابلة أن الجناية سواء أوجبت القصاص أو غير القصاص لا تثبت بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل واحد ويمين المدعى، وإنما تثبت بشهادة رجلين كما يثبت القصاص والحدود، فلا معنى للتفرقة بين جنايتين ومن نوع تقعان على آدمى (1) .
ويرى المالكيون أن الجرائم التى توجب عقوبة مالية تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى أو شهادة امرأتين ويمين المدعى (2) .
446- ويختلف رأى الشافعى وأحمد عن رأى مالك فى أن مالكًا يجيز شهادة المرأتين واليمين ولا يجيزها الشافعى وأحمد. وحجة مالك أن المرأتين أقيمتا مقام الرجل فى الأموال فيقاما مقامه فيما يوجب المال من الجرائم. وحجة الشافعى وأحمد أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة، وأن شهادة المرأتين ضعيفة فقويت بشهادة الرجل معهما، واليمين ضعيفة فلو شهدت المرأتان مع اليمين لضم ضعيف إلى ضعيف (3) .
447- ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن ما يوجب المال يثبت بشهادة رجلين أو بشهادة رجل وامرأتين ولا يثبت بشاهد ويمين ولا بامرأتين ويمين (4) ، وحجتهم أن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] فمن زاد على ذلك فقد زاد على النص والزيادة فى النص نسخ، ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" فحصر اليمين فى جانب المدعى عليه كما حصر البينة فى جانب المدعى. ويرد على الحنفيين بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد الواحد واليمين وأن الزيادة فى النص ليست نسخًا وإنما هى تعزير له، وأن الحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه وأن الآية واردة فى شهادة التحمل لا فى شهادة الأداء ولذا قال تعالى:
_________
(1) المغنى ج10 ص42 , المغنى ج12 ص9.
(2) تبصرة الحكام ج1 ص241.
(3) المغنى ج12 ص13.
(4) حاشية ابن عابدين ج4 ص515 , 516 , حاشية الطهطاوى ج3 ص221.(2/319)
{أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] فالنزاع فى الأداء لا فى التحمل.
والحديث الذى يتمسك به الحنفية ضعيف وليس هو للحصر، بدليل أن اليمين تشرع فى حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها، وفى حق الأمناء لظهور خياناتهم، وفى حق الملاعن، وفى القسامة وغير ذلك (1) .
ولقد شرعت اليمين من جانب المدعى عليه حيث لم يترجح جانب المدعى بشئ إلا مجرد الادعاء، ففى هذه الحالة يكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوته بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب هذا الأصل، فإذا ترجع جانب المدعى بلَوْث أو نكول أو شهادة شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة إذن فى جانب أقوى المتداعين (2) .
ويلاحظ أن الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية مالية تثبت عند الحنفية بما تثبت به الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية بدنية، فلا فرق فى إثبات الجرائم التعزيرية ولو تنوعت عقوباتها واختلفت.
ويلاحظ أيضًا أن الحنفيين يتشددون فى إثبات الجرائم الموجبة للحدود والقصاص والعقوبات المالية غير التعزيرية بينما يتساهلون فى إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة تعزيرية، بل إنهم يتساهلون فى إثبات هذا النوع من الجرائم أكثر مما يتساهلون فى إثبات العقود المالية المحضة، ولعل مرجع ذلك التساهل إلى أن الجرائم التعزيرية هى أكثر الجرائم وقوعًا والعقوبات التعزيرية هى أكثر العقوبات تطبيقًا، فوجب التساهل فى إثبات هذه الجرائم حرصًا على مصلحة الجماعة وصيانة لنظامها.
448- ويرى ابن القيم أن الجرائم الموجبة للعقوبات المالية تثبت بشهادة شاهد واحد دون يمين كلما وثق به القاضى (3) .
ويجيز الفقهاء عامة شهادة الرجل الواحد أو المرأة الواحدة للضرورة ويقبلون مثل
_________
(1) المغنى ج12 ص10 , 11.
(2) الطرق الحكمية ص66 , 75.
(3) الطرق الحكيمة ص66 , 88.(2/320)
هذه الشهادة فى إثبات نفس الجريمة كشهادة المعلم على الجرائم التى تقع بين الصبيان وكشهادة المرأة على جريمة وقعت فى حمام ويقبلون شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة كذلك فى إثبات أثر الجريمة ونتائجها كشهادة الطبيب أو الداية على أن الضرب أحدث جرحًا داخليًا بالرحم، وكشهادة الطبيب بأن الضرب أو الجرح نشأ عنه فقد منفعة عضو من الأعضاء.
ويقبل الفقهاء شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة للضرورة سواء كانت الجريمة مما يوجب عقوبة بدنية كالقصاص أو عقوبة مالية كالدية (1) .
449- ولا تثبت الجريمة بالشهادة إلا مع زوال الشبهة وانتفاء الشك: فيجب أن تكون الشهادة مثبتة للجريمة بصفة قاطعة، فإذا لم تكن كذلك بطلت الشهادة ما لم يكن بعض الشهادة متيقنًا ففى هذه الحالة يثبت القدر المتيقن، فمن شهد بأنه رأى جماعة يضربون شخصًا قطع ذراعه أثناء الحادث ولم يشهد بمن قطع الذراع فلا يثبت قطع الذراع ضد أحدهم ولكن يثبت الضرب عليهم لأنه القدر المتيقن أى المقطوع به فى أقوال الشاهد. ومما يؤثر فى هذا الباب أن شريحًا شهد عنده رجل بالقتل فقال: أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات، فقال له شريح: فمات منه؟ فأعاد الرجل قوله الأول فقال له شريح: قم فلا شهادة لك (2) .
القسامة
450- معنى القسامة: القسامة معناها لغة: القَسَم أى اليمين، وهى تعنى أيضًا الوسامة، فيقال: فلان قسيم أى وسيم، ويذهب أهل اللغة إلى أنها القوم الذين يحلفون سُمُّوا باسم المصدر، كما يقال: رجل رضًى ورجل عَدْل.
ومعنى القسامة فى اصطلاح الفقهاء: الأيمان المكررة فى دعوى القتل، يقسم
_________
(1) تبصرة الحكام ج1 ص258 , 262 , حاشية الطهطاوى ج3 ص221 , 235 , أسنى المطالب ج4 ص360 , 363 , المغنى ج10 ص15 , 18.
(2) المغنى ج10 ص43 , أسنى المطالب ج4 ص105.(2/321)
بها أولياء القتيل لإثبات القتل على المتهم، أو يقسم بها المتهم على نفى القتل عنه (1) .
مصدر القسامة التشريعى: كانت القسامة طريقًا من طرق الإثبات فى الجاهلية فأقرها الإسلام، فقد روى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى سلمة بن عبر الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه أقر القسامة على ما كانت عليه فى الجاهلية.
وعن سهل بن أبى حَثْمَة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومُحيِّصة بن مسعود إلى خيبر وهى يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومُحيِّصة وحوُيِّصة ابنا مسعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كَبِّرْ كَبِّرْ، وهو أحدث القوم فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد شيئًا ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبى - صلى الله عليه وسلم - من عنده" رواه الجماعة. وفى رواية متفق عليها: "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته. فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم. قالوا: يا رسول الله قوم كفار ... " وذكر الحديث بنحوه، وهو حجة لمن قال: لا يقسمون على أكثر من واحد، وفى لفظ لأحمد: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا ثم نسلمه".
وفى رواية متفق عليها: "فقال لهم: تأتون بالبنية على من قتله. فقالوا ما لنا من بينة. قال: فيحلفون. قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة" (2) . وروى الإمام أحمد عن
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص286 , أسنى المطالب ج4 ص98 , المغنى ج10 ص2 , طرق الغثبات الشرعية ص484 , نيل الأوطار ج6 ص311.
(2) نيل الأوطار ج6 ص311 , 312.(2/322)
أبى سعيد الخدرى قال: وجُد قتيل بين قريتين فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - فذرع بينهما فوُجد إلى أحدهما أقرب فألقاه إلى أقربهما؛ أى حملهم ديته. وكذلك روى عن عمر رضى الله عنه فى قتيل وُجد بين وازعة وأرحب وكتب إليه عامله بذلك، فكتب إليه عمر أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم، فوجد القتيل إلى وازعة أقرب فأُلزموا القسامة والدية (1) . وأخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة والبيهقى عن الشعبى أن قتيلاً وُجد بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم عمر خمسين يمينًا كل رجل ما قتلته ولا علمت له قاتلاً ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق. وأخرج نحوه الدارقطنى والبيهقى عن سعيد بن المسيب، وفيه أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم (2) . وفى رواية أخرى أنهم قالوا: أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال عمر: أما أيمانكم فلحقن دمائكم وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم (3) .
وأخرج البخارى والنسائى عن ابن عباس أن أول قسامة كانت فى الجاهلية فى بنى هاشم، كان رجل من بنى هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه فى إبله، فمر به رجل من بنى هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثنى بعقال أشد به عروة جوالقى لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالاً فشد به عروة جوالقة فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرًا واحدًا، فقال الذى استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ فحذفه بعصًا كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمين فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهده وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عنى رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فإذا شهدت فناد يا قريش، فإذا أجابوك فناد ى آل بنى هاشم، فإن أجابوك فسل عن أبى
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص292 , طرق الغثبات الشرعية ص448.
(2) نيل الأوطار ج6 ص214.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص291.(2/323)
طالب فأخبره أن فلانًا قتلنى فى عقال، ومات المستأجر، فلما قدم الذى استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك. فمكث حينًا ثم إن الرجل الذى أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بنى هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرنى فلان أن أبلغك رسالة أن فلانًا قتله فى عقال. فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدى مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بنى هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب أحب أن تجير ابنى هذا برجل من الخمسين ولا تصير يمينه حيث تصير الأيمان، ففعل فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما منى ولا تصير يمينى حيث تصير الأيمان، فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا.
قال ابن عباس: فوالذى نفسى بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف (1) .
451- اختلاف الفقهاء فى شرعية القسامة: وبالرغم من النصوص السابقة فإن الفقهاء اختلفوا فى القسامة، فرأى الجمهور أن يعتبر القسامة كطريق من طرق الإثبات فى جريمة القتل وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة والمذهب الظاهرى والمذهب الشيعى، وأنكر بعض الفقهاء القسامة ومنهم سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علّية ويرى هؤلاء أنه لا يجوز الحكم بمقتضى القسامة لأنها مخالفة لأصول التشريع الإسلامى، إذ الأصل فى الشريعة أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعًا أو شاهد حسًا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتيل بل قد
_________
(1) نيل الأوطار ج6 ص312 , 313 , طرق الإثبات الشرعية ص478.(2/324)
يكونون فى بلد والقتيل فى بلد آخر (1)
ومن حجتهم أن الأيمان ليس لها تأثير فى إشاطة الدماء وأن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا يرى أصحاب هذا الرأى فى الأحاديث التى يستند إليها القائلون بالقسامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بالقسامة وإنما كانت القسامة حكمًا جاهليًا فتلطف لهم رسول الله ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينًا - أعنى لولاة الدم وهم الأنصار - قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هى السنة، وإذا كانت هذه الآثار غير نص فى القسامة بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (2) .
ويرد الفريق الآخر على هذه الحجج بأن القسامة سنة مقررة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وأنه يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكانوا بالمدينة والقتيل بخيبر ولأن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئًا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذى باعه، وكذلك
_________
(1) لذلك روى البخارى عن أبى قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه , فقال: ما تقولون فى القسامة؟ فأضب القوم , وقالوا: نقول إن القسامة القود بها حق , قد اقاد بها الخلفاء , فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونَصيَنَى للناس , فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد أرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه زنا بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا , قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفى بعض الروايات: = =قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهاتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز فى القسامة أنهم إن أقاموا شاهدى عدل أن فلاناً فأقده ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا (بداية المجتهد ج2 ص357 , طرق الإثبات الشرعية ص490) ..
(2) بداية المجتهد ج2 ص358.(2/325)
إذا وجد شيئًا بخطه أو بخط أبيه جاز أن يحلف ولو أنه لا يعلمه أو لا يذكره، وكذلك إذا باع شيئًا لم يعلم فيه عيبًا فادعى عليه المشترى أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئًا من العيب، ولكن الحالف على كل حال لا يحلف إلا بعد الإثبات وغلبه ظن يقارب اليقين (1) .
452- وليس ثمة ما يمنع من أن تكون الأيمان سبيلاً لإشاطة الدماء - أى إهدارها - ما دامت الأيمان تؤدى إلى إثبات الجريمة على الجانى لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته" وفى رواية مسلم: "يسلم إليكم" وفى لفظ: "وتستحقون دم صاحبكم" وأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين. وإذا كانت القسامة طريق الإثبات العمد فقد وجب بها القصاص وهو عقوبة العامد كالبينة سواء بسواء، وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحوال أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة فى الطائف، وهذا نص ولأن الشارع جعل القول قول المدعى مع يمينه احتياطًا للدم فإن لم يجب القود سقط هذا المعنى (2) . على أن أغلب القائلين بالقسامة لا يرون أن القسامة تؤدى للقصاص بل يرون أنها توجب الدية فقط، فالقسامة على رأى هؤلاء لا تؤدى لإشاطة الدماء.
453- وأما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر فإن بعض القائلين بالقسامة لا يخرجون على هذا الأصل كالحنفيين، فإنهم يرون اليمين دائمًا فى جانب المنكر حتى فى القسامة فيحلفون المدعى عليه، وأما القائلين بتحليف المدعى فالقاعدة عندهم أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعين، فأى الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عرض القسامة أولاً على المدعين فلما أبوا جعلها فى جانب المدعى عليهم، وقد جعلت فى جانب المدعين لأن جانبهم ترجح باللوث (3) ، واليمين تكون
_________
(1) الشرح الكبير ج10 ص5.
(2) الشرح الكبير ج10 ص39 , 40.
(3) أعلام الموقعين ج1 ص118 , الشرح الكبير ج10 ص28 وما بعدها.(2/326)
فى جانب المدعى عليه إذا لم يترجح المدعى بشئ غير الدعوى، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوله بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب الأصل فكانت اليمين من جهته، فإذا ترجح المدعى بلوث أو بنكول أو شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة فى جانب أقوى المتداعين فأيهما قوى جانبه شرعت اليمين فى حقه (1) .
وفضلاً عما سبق فإن حديث البينة على من ادعى واليمين على من أنكر روى عن ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالصيغة الآتية: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر إلا فى القسامة" فاستثنى الحديث القسامة وهذا الاستثناء زيادة فى الحديث يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة (2) .
454- لماذا شرعت القسامة؟: الأصل فى القسامة أنها شرعت لحفظ الدماء وصيانتها، فالشريعة الإسلامية تحرص أشد الحرص على حفظ الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، ولما كان القتل يكثر بينما تقل الشهادة عليه لأن القاتل يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت القسامة حتى لا يفلت المجرمون من العقاب وحتى تحفظ الدماء وتصان (3) .
ولقد كان من حرص الشريعة على حياطة الدماء ما دعا أحمد إلى القول بأن من مات من زحام الجمعة أو فى الطواف فديته فى بيت المال وبمثل هذا قال إسحاق، وقال به عمر وعلي؛ فإن سعيدًا يروى عن إبراهيم أن رجلاً قتل فى زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله، فقال على: يا أمير المؤمنين لا يُطَلُّ دم امرئ مسلم، إن علمتَ قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال. وقال الحسن والزهرى فيمن مات من الزحام: ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم (4) .
_________
(1) الطرق الحكيمة ص74.
(2) الشرح الكبير ج10 ص31.
(3) بداية المجتهد ج2 ص358.
(4) المغنى ج10 ص9 , 10.(2/327)
ولعل فى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى قرر القسامة ما يؤيد هذا النظر، ففى رواية متفق عليها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "تأتون بالبينة على من قتله؟ فقالوا: ما لنا من بينة قال: فتحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُطَلَّ دمه فوداه بمائه من إبل الصدقة" (1) ، وهذا ما جعل الحنابلة يرون أنه إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال، وما جعلهم يرون إلزام المدعى عليه الدية إذا نكل عن الحلف.
455- والقسامة عند أبى حنيفة شرعت فوق ما سبق لعلاج التقصير فى النصرة وحفظ الموضع الذى وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ لأن إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرًا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير، زجرًا عن ذلك وحملاً على تحصيل الواجب وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية؛ لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ. ولهذا يرى أبو حنيفة أن القتيل إذا وجد فى موضع اختص به واحد أو جمعة إما بالملك أو باليد ويتهمون أنهم قتلوه فعليهم شرعًا القسامة دفعًا للتهمة، والدية لوجود القتيل بين أظهرهم (2) .
456- هل شرعت القسامة للإثبات أم لنفى؟: يرى مالك والشافعى وأحمد أن القسامة شرعت لإثبات الجريمة ضد الجانى كلما انعدمت أدلة الإثبات الأخرى أو لم تكن كافية بذاتها لإثبات الجريمة على الجانى، فإذا لم يكن مثلاً إلا شاهد واحد على القاتل أو لم يكن هناك شهود ولكن وجدت قرينة على أن القتل حصل من المتهم كان لولاة القتيل أن يثبتوا الجريمة على المتهم بطريق القسامة (3) .
ويرى أبو حنيفة أن القسامة دليلاً مثبتًا للفعل المحرم وإنما هى دليل
_________
(1) نيل الأوطار ج6 ص312.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص290.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص59 , نهاية المحتاج ج7 ص376 , المغنى ج10 ص7.(2/328)
نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل؛ لأن المدعين - طبقًا لرأيه - لا يحلفون وإنما يحلف أهل المحلة بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وفى الوقت ذاته تجب عليهم الدية لوجود القتيل بين أظهرهم ويأخذ أبو حنيفة بهذا الرأى لأنه يرى أن البينة دائمًا على من ادعى واليمين على من أنكر، فإذا لم يعترف أحد أهل المحلة بالقتل وأنكروا كانت عليهم القسامة لأنهم مدعى عليهم وهم يدفعون بالقسامة التهمة الموجهة إليهم فتكون القسامة دليل نفى لهم (1) .
457- الجرائم التى تجوز فيها القسامة: من المتفق عليه أن القسامة لا تكون إلا فى جريمة القتل فقط، فلا قسامة فى جرح ولا فى قطع عضو أو فقد منفعة ولا قسامة فى ضرب أو إيذاء أو اعتداء أيًا كان نوعه ما لم يؤد للموت، ويستوى أن يكون القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ، ففى كل قتل أيًا كان نوعه القاسمة (2) .
متى تكون القسامة؟: لا محل للقسامة عند أبى حنيفة إلا إذا كان القاتل مجهولاً، فإن كان معلومًا فلا قسامة ويتبع فى إثبات الجريمة ونفيها طرق الإثبات العادية (3) .
458- أما مالك والشافعى وأحمد فمحل القسامة عندهم أن يكون القاتل معينًا وأن يكون هناك لَوْث، فإن كان القاتل مجهولاً فلا قسامة عند الأئمة الثلاثة، ولكن الغزالى وهو من الفقهاء الشافعيين يرى أن لا بأس من أن يكون القاتل مجهولاً بين معينين فإن حكمه حكم المعين كما إذا اتهم ولى القتيل عشرة وقال: القاتل أحدهم (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289 , 291.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص50 , بدائع الصنائع ج7 ص286 , نهاية المحتاج ج7 ص372 , الشرح الكبير ج10 ص3.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص288.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص50 , أسنى المطالب ج4 ص99 , نهاية المحتاج ج7 ص368 , المغنى ج10 ص4.(2/329)
واللوث عند مالك والشافعى هو أمر ينشأ عن غلبة الظن بصدق المدعى (1) ، أو هو قرينة توقع فى القلب صدق المدعى (2) ، كوجود جثة القتيل فى محلة أعدائه، أو تفرق جماعة عن قتيل، أو رؤية المتهم على رأس القتيل ومعه سكين، وقول واحد ممن تقبل شهادته لوث.
وهناك خلاف بين المالكية والشافعية على ما يعتبر لوثًا، فالمالكية يعتبرون ادعاء المجنى عليه على المتهم قبل وفاته لوثًا ولا يعتبره الشافعيون كذلك، والإشاعة المتواترة لوث عند الشافعيين وليست كذلك عند المالكيين (3) .
واللوث عند أحمد على الرواية المرجوحة هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغْنٌ يغلب على الظن أنه قتله.
واللوث على الرواية الراجحة هو ما يغلب على الظن صدق المدعى كالعداوة المذكورة سابقًا، وكأن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثًا فى حق كل واحد منهم، وكأن يزدحم الناس فى مضيق فيوجد فيهم قتيل، وكأن يوجد قتيل ولا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله، وهذا الرأى الثانى موافق لما يراه مالك والشافعى (4) ، وتعدد اللوث لا يمنع من القسامة كما لو قال المجنى عليه قبل موته قتلنى فلان، وكان هناك شاهد عدل يشهد بأنه رأى المتهم يقتل المجنى عليه فالقسامة واجبة مع تعدد اللوث ولا ينفى تعدد اللوث عنها إلا عند من يأخذون بالقرائن ويرونها كافية وحدها لإثبات الجريمة (5) ، وإذا وجد قتيل ولم يكن لوث فلا قسامة عند مالك والشافعى وأحمد وإن عين أولياء القاتل، والدعوى فى هذه الحالة كسائر الدعاوى إن كانت بينة
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص50.
(2) أسنى المطالب ج4 ص98.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص69 , 371 , شرح الزرقانى ج8 ص50 , 55.
(4) المغنى ج10 ص7 , 12.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص94.(2/330)
حكم للمدعين بها وإن كان إقرار حكم به وإلا فالقول قول المنكر، وهذا يخالف مذهب أبى حنيفة الذى يرى القسامة بوجود الجثة وبها أثر القتل.
459- وإذا أدعى أولياء القتيل القتل ولم توجد الجثة فى محل المدعى عليهم ولم تكن عداوة ولا لوث فلا قسامة عند الجميع. ويرى البعض فى هذه الحالة أن لا يحلف المدعى عليه. وحجة القائلين بهذا أن الدعوى لا يقضى فيها بالنكول فلا يستحلف فيها كالحدود، ويرى البعض أنه يستحلف والقائلون بهذا يحتجون بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" ويرون أن النص يوجب اليمين لعمومه وأن النص صريح فى انطباقه على دعوى القتل حيث يقول: "لادعى قوم دماء رجال وأموالهم" وادعاء الدماء هو ادعاء القتل. والقائلون بهذا يختلفون، فبعضهم يرى أن يحلف المدعى عليه يمنًا واحدة وهو الرأى الراجح، والبعض يرى أن يحلف خمسين يمينًا وهو الرأى المرجوح. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين فيرى البعض أنه لا يجب عليه شئ بنكوله، ويرى البعض أن النكول لا يجب به غير الدية، ويرى البعض أن ترد اليمين على المدعى إذا نكل المدعى عليه فتكون قسامة ويحلف المدعون خمسين يمينًا؛ لأن النكول يعتبر لوثًا فى هذه الحالة فتتوفر شروط القسامة (1) .
460- وظاهر مما سبق أن القسامة تكون عند مالك والشافعى إذا علم القاتل وانعدمت البينة المثبتة للقتل وكان لوث، فإن كانت بينة تثبت القتل أو كان إقرار فلا قسامة، ومعنى هذا أن القسامة عندهم دليل خاص مثبت للقتل إذا انعدم دليله الأصيل.
ويختص مالك بنوع من القسامة يوجبه مع توفر الدليل على القتل، وذلك فى حالة ما إذا أصيب المجنى عليه فى جريمة القتل فلم يمت فى الحال واستمر وقتًا ما يأكل ويشرب ويتكلم ثم مات بعدها فتجب القسامة على أولياء القتيل يحلفون
_________
(1) المغنى ج 10 ص3 , 7.(2/331)
بالله أن القتيل مات من إصابته. وهذا النوع من القسامة ليس إلا دليلاً من نوع خاص على أن الوفاة نشأت عن الإصابة، وليس له معنى فى عصرنا الحاضر بعد أن أصبح الأطباء قادرين على تعيين سبب الوفاة.
أما القسامة عند أبى حنيفة فلا تكون إلا إذا وجدت جثة القتيل فى محلة وكان القاتل مجهولاً، وهى ليست دليلاً على القتل وإنما هى دليل نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل، فهم يحلفون بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وتجب عليهم الدية فى الوقت ذاته لوجود القتيل بين أظهرهم.
والقسامة عند ابن حزم تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلاً خمسين يمينًا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود، وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلاً (1) .
فالقسامة عند ابن حزم تجمع بين مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك والشافعى وأحمد، فيأخذ من مذهب أبى حنيفة سبب وجوب القسامة، ويأخذ من مذهب الأئمة الثلاثة كيفية القسامة.
461- والقسامة عند أبى حنيفة أشبه ما تكون بما تفعله جيوش الاحتلال فى البلاد المحتلة فى عصرنا الحاضر فى حالة الاعتداء على رجال الجيش المحتل وفى حالة الثورات إذ تفرض غرامة على كل قرية قتل فيها جندى لم يعلن قاتله أو ارتكبت فيها جريمة هامة لم يعلم مرتكبها، وتحصل الغرامة من جميع سكان القرية على السواء.
والواقع أن القسامة عند أبى حنيفة تعتبر بحق وسيلة طيبة لإظهار الفاعلين فى حوادث القتل؛ لأن أهل القرية إذا علموا أنهم سيلزمون دية القتيل الذى لا يظهر قاتله اجتهدوا فى منع المشبوهين من الإقامة بين ظهرانيهم وأخذوا على أيدى سفهائهم ومجرميهم، كما أن كل من كان لديه معلومات عن القتل سابقة أو
_________
(1) بداية المجتهد ج2 ص360.(2/332)
لاحقة لن يتأخر فى الغالب عن تبليغها للجهات المختصة، بل إنهم قد يحملون القاتل على أن يقدم نفسه ويعترف بجرمه.
462- كيفية القسامة: القسامة عند مالك والشافعى وأحمد على أولياء القتيل، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يحلف خمسون رجلاً منكم وتستحقون دم صاحبكم"، وعلى هذا أن يحلف أولياء القتيل ابتداء خمسين يمينًا.
ويستحب أن يستظهر فى ألفاظ اليمين فى القسامة تأكيدًا فيقول الحالف: والله الذى لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فإن اقتصر على لفظ والله كفى، ويصح أن يقول والله أو بالله وتالله وكل ما زاد على هذا تأكيدًا، ويشترط فى اليمين أن تكون على البت وأن تكون قاطعة فى ارتكاب المتهم الجريمة بنفسه أو بالاشتراك مع غيره، وعلى الحالف أن يبين ما إذا كان الجانى تعمد الفعل أم لم يتعمد فيقول مثلاً: "والله إن فلان ابن فلان قتل فلانًا منفردًا بقتله ما شركه غيره" وإن كانا اثنين قال: "منفردين بقتله ما شركهما غيرهما" ثم يقول: عمدًا أو خطأ.
فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ. ويشترط فى يمين المدعى عليه ما يشترط فى يمين المدعى من البت والقطع ببراءته فيقول مثلاً: والله ما قتلته ولا شاركت فى قتله ولا فعلت سببًا مات منه ولا كان سببًا فى موته ولا معينًا على موته.
فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا أيمان المدعى عليهم برئ المتهمون وكانت دية القتيل فى بيت المال على رأى أحمد، وهو رأى لا يأخذ به بقية الأئمة. وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا على رأى فى مذهب أحمد ولم يحبسوا على الرأى الآخر، وحبسوا لمدة سنة على رأى مالك، فإن لم يحلفوا عززوا. أما الشافعى فيرى أن ترد الأيمان على المدعين فإن لم يحلفوا فلا شئ على المدعى عليهم وإن حلفوا وجبت العقوبة على المدعى عليهم (1) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص55 , 59 , نهاية المحتاج ج7 ص373 , الشرح الكبير ج10 ص40 , 47.(2/333)
أما أبو حنيفة فيرى أن القسامة على أهل المحلة ابتداء فإن حلفوا وجبت عليهم الدية. وعنده أن الحلف لحقن دماء الحالفين لأن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف فى المحلة عائد عليهم وهم المتهمون فى القتل فكانت القسامة والدية عليهم (1) .
ويحلف خمسون رجلاً من أهل المحلة: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، وإذا امتنع المدعى عليهم من الحلف حُبسوا حتى يحلفوا ولكن امتناعهم لا يسقط عنهم الدية (2) .
463- من يدخل القسامة؟: يدخل القسامة على رأى الشافعى كل الورثة سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ فتدخل الزوجة والبنت كما يدخل الابن والزوج، وتوزع الأيمان عليهم بحسب نصيبهم من الإرث. ويجبر الكسر؛ لأن اليمين الواحدة لا تتبعض فلو حلف تسعة وأربعون حلف كلٌّ يمينًا، وفى قول: يحلف كل من الورثة خمسين يمينًا؛ لأن العدد يعتبر كيمين واحدة، فإذا ردت اليمين على المدعى عليهم حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا كاملة (3) .
464- وفى مذهب أحمد روايتان:
أولاهما: أن الأيمان تختص بالورثة دون غيرهم وبالرجال دون النساء، فعلى هذه الرواية تقسم الأيمان بين الورثة من الرجال سواء كانوا من ذوى الفروض أو العصبات كل على قدر إرثه إن كانوا جماعة وإن كانوا واحدًا حلفها وحده، فإن انقسمت الأيمان فى حالة التعدد من غير كسر مثل أن يرث المقتول ابنان أو أخ وزوج حلف كل منهما خمسًا وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر جبر عليهم مثل زوج وابن، يحلف الزوج ثلاثة عشر يمينًا والابن ثمانية وثلاثين يمينًا؛ لأن تكميل الخمسين واجب لا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن البعض الآخر فوجب تكميل اليمين المنكسرة فى حق كل واحد منهم، وهناك من يرى أن يحلف كل وارث
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص291.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص289.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص379.(2/334)
خمسين يمينًا سواء تساووا فى الميراث أو اختلفوا فيه؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة فى سائر الدعاوى (1) .
ثانيتهما: أن يحلف من العصبة خمسون رجلاً كل واحد يمينًا، وهو قول لمالك، وعلى هذا يحلف الوارثون من العصبة فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة الأقرب منهم فالأقرب (2) .
465- ويفرق مالك بين حالة الخطأ وحالة العمد، ففى الخطأ يحلف أيمان القسامة من يرث القتيل وإن كان واحدًا ولو أخًا لأم أو امرأة، وإذا تعدد الورثة حلف كل وارث على قدر إرثه، فإن كان وارث واحد حلف الأيمان كلها وتجبر اليمين عند الكسر على أكثر كسرها، ولو كان صاحب الكسر الأكبر أقل نصيبًا فى الميراث كابن وبنت، على الابن ثلاثة وثلاثون يمينًا وثلث، وعلى البنت ستة عشر يمينًا وثلثان، فتحلف البنت سبعة عشر يمينًا والابن ثلاثة وثلاثين.
أما فى العمد فلا يحلف إلا العصبة، ولا يحلف فى العمد أقل من رجلين من العصبة، ويستوى أن يكون العاصب وارثًا أم غير وارث، ولا تحلف النساء فى العمد، وللولى إن كان واحدًا أن يستعين بعاصبه هو ولو لم يكن عاصبًا للقتيل، كامرأة مقتولة ليس لها عصبة غير ابنها وله إخوة من أبيه فله أن يستعين بهم (3) .
466- ويرى أبو حنيفة أن القسامة لا تجب إلا على الرجال، فلا تجب على صبى ولا مجنون ولو وجد القتيل فى ملك أحدهما؛ لأن القسامة يمين وهما ليسا من أهل اليمين؛ ولأن القسامة تجب على من هو من أهل النصرة وهما ليسا من أهل النصرة، فلا تجب القسامة عليهما وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل فى ملكهما. وهناك خلاف فى هذا المذهب على ما إذا كانا يدخلان فى الدية مع العاقلة، فيرى
_________
(1) الشرح الكبير ج10 ص32 , 33.
(2) الشرح الكبير ج10 ص40 , 41.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص56 , 57.(2/335)
البعض دخولهما لأنهما مؤخذان بالضمان المالى لأفعالهما وهو الرأى الراجح، أما إذا وجد القتيل فى ملك غيرهما فمن المتفق عليه أنهما لا يدخلان فى الدية مع العاقلة.
ولا تدخل المرأة فى القسامة والدية فى قتيل وجد فى غير ملكها لأن وجوبها بطريق النصرة وهى ليست من أهلها وإن وجد فى دارها أو فى قرية لها لا تكون بها غيرها فعليها القسامة فتستحلف ويكرر عليها الأيمان على الرأى الراجح (1) .
ما يجب بالقسامة: تجب الدية بالقسامة فى الخطأ وشبه العمد، وهذا متفق عليه.
467- أما فى العمد فيرى مالك أن القصاص يجب بالقسامة إذا كان المتهم واحدًا، فإذا تعدد المتهمون وجب القصاص بالقسامة على واحد فقط يعينه أولياء القتيل ويحلفون أنه مات من ضربه أو جرحه.
ويرى ابن رشد أنه يجوز أن يقتص بالقسامة من أكثر من واحد إذا اختلفت الأفعال التى أدت للقتل، كمن يمسك شخصًا لآخر ثم يقول له اضربه اقتله فيفعل ذلك، فإنهما يقتلان معًا بالقسامة لأن الموت كان نتيجة لفعليهما معًا، ولأن فعل كل منهما يخالف فعل الآخر، أما إذا اتحد الفعل المؤدى للموت فلا يقتص إلا من واحد (2) .
468- ورأى الشافعى القديم جواز القصاص بالقسامة فى العمد، ولكن رأيه الآخر أنه لا تجب بالقسامة إلا الدية سواء كان الفعل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ.
والرأى الأول قائم على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تستحقون دم صاحبكم".
والرأى الثانى قائم على قوله: "إما أن يدوا صاحبكم، أو يؤذنوا بحرب من الله ورسوله" وقد فسرت عبارة "دم صاحبكم" بـ "بدل دم صاحبكم" جمعًا بين الدليلين (3) .
ويرى أبو حنيفة أنه لا يجب بعد القسامة إلا الدية فى العمد وغير العمد؛ لأن القسامة جعلت لحقن دماء المدعى عليهم.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص294 , 295.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص59.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص375.(2/336)
ويرى أحمد أن يقتص بالقسامة فى العمد ما لم يمنع مانع شرعى من القصاص (1) .
469- شروط القسامة: لا تجب القسامة إلا إذا توفرت الشروط الآتية:
أولاً: أن يثبت أن الموت نتيجة القتل، فإن كان مات حتف أنفه أو تساوى احتمال موته حتف أنفه بموته قتيلاً فلا قسامة.
ثانيًا: أن يكون لَوْث، طبقًا لما يراه مالك والشافعى وأحمد، وقد بينا معنى اللوث، فإن لم يكن لوث فلا قسامة. أما أبو حنيفة فلا يشترط إلا أن توجد الجثة فى محلة وبها أثر القتل، فإن لم توجد الجثة على هذا الوجه فلا قسامة وإذا أصيب القتيل بجرح فى محلة فحمل إلى أهله فمات من تلك الجراحة وجبت القسامة والدية عند أبى حنيفة ولا يراهما أبو يوسف بحجة أنه أصيب فى المحلة ولم يمت فيها ولا قسامة فيما دون النفس. ويرد عليه بأن القتيل مات من الجراحة فكأن الجراحة وقعت قتلاً من وقت حدوثها.
ويشترط الحنفيون أن يوجد من القتيل أكثر بدنه، فإن وجد ففيه القسامة والدية لأن للأكثر حكم الكل فيسمى قتيلاً، أما إذا وجد عضو من أعضائه فلا قسامة فيه ولا دية، وإن وجد النصف الذى فيه الرأس ففيه القسامة والدية وإن وجد الرأس وحده فلا قسامه ولا دية. ولا يشترط بقية الأئمة هذه الشروط، فالقسامة واجبة سواء وجد كل الجثة أو وجد بعضها (2) .
ثالثًا: أن لا يعلم القاتل عند أبى حنيفة فإن علم فلا قسامة. أما عند مالك والشافعى وأحمد فيشترط للقسامة تعين القاتل، فإذا لم يعين فلا قسامة.
رابعًا: أن يتقدم أولياء القتيل بدعواهم أى باتهامهم لأن الدعوى لا تسمح على غير معين عند مالك والشافعى وأحمد ولأن القسامة يمين مقصود به دفع التهمة عند أبى حنيفة ولا تجب اليمين قبل الدعوى والاتهام (3) .
_________
(1) الشرح الكبير ج10 ص39.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص288.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص50 , نهاية المحتاج ج7 ص369 , الغقناع ج4 ص240 , بدائع الصنائع ج7 ص288.(2/337)
خامسًا: أن لا يكون هناك ادعاء متناقض، كأن يكون الأولياء قد ادعوا على شخص أنه انفرد بالقتل ثم عادوا فادعوا على آخر بأنه هو القاتل، أو كأن يدعى بعض الأولياء أن شخصًا هو القاتل ويبرئه البعض الآخر من القتل أو يدعوه على غيره، فإذا وجد مثل هذا التناقض امتنعت القسامة ويشترط فى التناقض المانع من القسامة أن يكون بحيث ينفى الاتهام عن المتهم.
سادسًا: أن ينكر المدعى عليهم القتل فإذا اعترفوا به فلا قسامة.
سابعًا: ويشترط أبو حنيفة المطالبة بالقسامة لأن اليمين حق المدعى وحق المدعى يوفى بطلبه، ولذا كان الاختيار فى حال القسامة لأولياء القتيل لأن الأيمان حقهم فلهم أن يختاروا من يتهمونه ويستحلفون صالحى العشيرة الذين يعلمون أنهم لا يحلفون كذبًا، وإذا طولب من عليه القسامة باليمين فنكل عنها حبس حتى يحلف أو يقر لأن اليمين حق مقصود لنفسه وليست وسيلة للدية إذ الدية مفروضة مع اليمين ويرى أبو يوسف أن لا يحبس الناكل ويحكم بالدية (1) .
ثامنًا: ويشترط أبو حنيفة أيضًا أن يكون الموضع الذى وجدت فيه الجثة ملكًا لأحد وفى يد أحد، فإن لم يكن ملكًا لأحد ولا فى يد أحد فلا قسامة ولا دية.
وإذا وجدت الجثة فى مكان عام التصرف فيه للعامة لا لجماعة محصورين لا تجب القسامة وتجب الدية من بيت المال.
470- وإذا وجد القتيل فى فلاة لا يملكها أحد فلا قسامة ولا دية إذا كانت بحيث لا يسمع الصوت فى القرى والأمصار القريبة، فإذا كانت بحيث يسمع الصوت وجبت القسامة والدية على أقرب المواضع إلى الجثة، وإذا كان المكان قريبًا من عدة قرى وجبت القسامة والدية على أقرب القرى إليه، وإن كان قريبًا من المصر فعلى أقرب أحياء المصر الدية والقسامة، وهذا هو قضاء عمر بن الخطاب.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289.(2/338)
ولا قسامة فى قتيل وجد فى المسجد الجامع ولا فى الشوارع أو الجسور أو الطرق العامة؛ لأنها محلات عامة بمعنى الكلمة، وتجب الدية فى بيت المال.
ولا قسامة فى قتيل وجد فى سوق عامة إلا إذا كان السوق ملكًا لفرد أو أفراد أو مستأجرًا لهم.
واختلف فى قتيل السجن، فرأى البعض القسامة على المسجونين ولم يرها البعض الآخر (1) .
* * *
القرائن
471- عرفت الشريعة الإسلامية القرائن من يوم وجودها، وبنى الكثير من أحكام الشريعة على أساس القرائن، من ذلك أن القسامة تقوم على أساس القرينة سواء وجد لوث أم لم يوجد فأساس القسامة عند من لا يشترطون اللوث وجود القتيل فى محلة المتهمين؛ لأن وجود الجثة فى المحلة قرينة على أن القتل حدث من سكانها، وأساس القسامة عند من يشترطون اللوث أن وجود اللوث قرينة على أن المتهم هو القاتل، فرؤية شخص على مقربة من الجثة ملوث بالدماء لوث وهذا اللوث قرينة على أن هذا الشخص هو القاتل. ومن ذلك النكول عند من يرى أن النكول يؤدى إلى إثبات الجريمة، فإن ثبوت الجريمة عن طريق النكول إثبات بالقرينة إذ النكول ليس إلا قرينة على أن الاتهام الموجه للمتهم صحيح (2) .
ومن ذلك إثبات الزنا بالحمل فإن الحمل قرينة على الوطء المحرم المعتبر زنا (3) .
ومن ذلك إثبات شرب الخمر بانبعاث رائحتها من فم المتهم، فإن ثبوت الجريمة أساسه القرينة المستفادة من انبعاث رائحة الخمر من فم المتهم والتى تفيد أنه شرب الخمر (4) .
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص289 , 290.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص 376، المغنى ج10 ص 6، شرح الزرقانى ج8 ص107، طرق الإثبات الشرعية ص 438 وما بعدها.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص 81، المغنى ج10ص 192.
(4) المغنى ج10 ص322، شرح الزرقانى ج8 ص 113، الطرق الحكمية ص6.(2/339)
ومن ذلك ثبوت السرقة على من يوجد فى حيازته المال المسروق، وأساس الثبوت هنا هو القرينة المستفادة من وجود المال فى حيازة المتهم والتى تدل غالبًا على أنه هو الذى سرقه (1) .
ومن ذلك جواز دفع اللقطة لمن يصفها بمميزاتها، وكذلك الوديعة والمسروقات، ما دام صاحب اللقطة أو الوديعة أو المال المسروق مجهولًا، وأساس هذا الحكم القرينة المستفادة من بيان صفات ومميزات الشىء والتى تدل على أن من وصفه هو صاحبه (2) .
وليس يخلو مذهب فقهى من المذاهب الإسلامية من الاعتماد على القرائن فى استنباط الأحكام الفرعية، كما أن كثيرًا من الأحكام الأساسية أقامتها الشريعة على أساس القرائن، كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش"، فإن قيام الزوجية جعل دليلًا لإثبات الدعاوى الجنائية والمدنية ولهم فى ذلك آثار مشهورة (3) .
وبالرغم من إقامة كثير من أحكام الشريعة على القرائن واتجاه القضاء من وقت نزول الشريعة إلى الأخذ بالقرائن، فإن جمهور الفقهاء لا يسلم باعتبار القرائن دليلًا. عامًا من أدلة الإثبات فى الجرائم اللهم إلا فيما نص عليه بنص خاص كالقسامة، ولعل عذرهم فى ذلك أن القرائن فى أغلب الأحوال قرائن غير قاطعة وأنها تحمل أكثر من وجه، فإذا اعتمد عليها كدليل لإثبات الجريمة فقد اعتمد على دليل مشكوك فيه لا يمكن التسليم مقدمًا بصحته.
أما أقلية الفقهاء فيرون الأخذ بالقرائن فى إثبات الجرائم مع الاعتدال، ومن
_________
(1) الطرق الحكمية ص 6.
(2) طرق الإثبات الشرعية ص 518.
(3) طرق الإثبات الشرعية ص 63 - 66.(2/340)
هؤلاء ابن القيم فإنه يرى أن الحاكم إذا أهمل الحكم بالقرائن أضاع حقًا كثيرًا وأقام باطلًا كبيرًا، وأنه إن توسع وجعل معوله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع فى أنواع من الظلم والفساد (1) .
* * *
النكول عن اليمين وردها
472 - اختلف الفقهاء فى اعتبار النكول عن اليمين طريقًا من طرق الإثبات، فرأى بعضهم أن المدعى إذا لم يقم بينة على ما ادعاه ولم يقر المدعى عليه كان على المدعى عليه أ، يحلف على نفى المدعى به، فإن نكل عن الحلف قضى للمدعى بما يدعيه بنكول المدعى عليه، وهذا هو رأى أبى حنيفة والمشهور من مذهب أحمد. ورأى البعض أن نكول المدعى عليه لا يكفى وحده لثبوت المدعى به، بل ترد اليمين على المدعى فإن حلف اليمين المردودة قضى له بما يدعيه، وهذا هو مذهب مالك والشافعى، وقد صوبه أحمد فقال: ما هو ببعيد يحلف ويستحق، وعلى هذا لا تكون الدعوى ثابتة بالنكول وإنما باليمين المردودة (2) .
473 - واختلف الفقهاء بعد ذلك فيما إذا كان يمكن الحكم بالنكول واليمين المردودة فى الجرائم، فرأى مالك أنه لا يجوز الحكم باليمين المردودة فى الجرائم سواء كانت حدودًا أو قصاصًا أو تعازير، وسواء أوجبت عقوبة بدنية أو عقوبة مالية، وعلى هذا فإذا لم تكن بينة ونكل المتهم عن الحلف فلا ترد اليمين على المدعى لأن حلفها ليس له أثر (3) .
474 - ويرى الشافعى: أنه يحكم باليمين المردودة فى الجرائم المتعلقة بحقوق الآدميين كالقتل والضرب والشتم، سواء كانت العقوبة قصاصًا أو دية أو تعزيرًا، وكذلك فى جرائم التعازير المتعلقة بالأمور العامة كطرح الحجارة فى الطريق
_________
(1) الطرق الحكمية ص 3، 4..
(2) المغنى ج12 ص124، الطرق الحكمية ص 84 وما بعدها، طرق الإثبات الشرعية ص 438، 459 أسنى المطالب ج4 ص 404 وما بعدها، تبصرة الحكام ج1 ص 169..
(3) تبصرة الحكام ج1 ص 174 وما بعدها..(2/341)
وإفساد الآبار، أما فى جرائم الحدود فالقاعدة ألا يحكم فيها باليمين المردودة إلا فى بعض الحالات الاستثنائية (1) .
475 - ويرى أبو حنيفة وصاحباه: القضاء بالنكول ولكنهم اختلفوا فى تفسير النكول، فقال أبو حنيفة: إنه بذل من جهة المدعى عليه، وقال الصاحبان: إنه قرار، وقد أدى هذا الخلاف إلى اختلافهم فى بعض المسائل، ويمكن تلخيص رأى الأحناف فيما يختص بالقضاء بالنكول فى الجرائم فيما يأتى:
1 - فى جرائم الحدود واللعان لا يستحلف المنكر اتفاقًا: إما على قوله فلان البذل لا يصح فى شئ منها، وإما على قولهما فلان النكول إقرار فيه شبهة لأنه هو فى نفسه سكوت أو تصريح بالامتناع عن اليمين والحدود تدرأ بالشبهات، واللعان فى معنى الحد لأنه قائم مقام حد القذف فى حق الزوج وقائم مقام حد الزنا فى حق المرأة.
2 - فىجرائم القصاص والدية: إذا كانت الجريمة توجب المال صح التحليف فيها والحكم بالنكول اتفاقًا، لأن الأموال يصح فيها البذل من جهة، وتثبت بالإقرار مطلقًا من جهة أخرى.
أما إذا كانت الجريمة مما يوجب القصاص استحلف المدعى عليه باتفاق غير انه إذا نكل عن اليمين لزمه القصاص على قول أبى حنيفة لأنه بذل، وبذل ما دون النفس جائز كما تقدم. وأما على قولهما فلا قصاص بل يلزمه الأرش لأن النكول عندهما إقرار فيه شبهة.
476 - وإذا كان النكول عن اليمين فى الجناية على النفس حبس حتى يحلف أو يقر على قول أبى حنيفة لتعذر القضاء بالنكول، إذ النفس لا يصح فيها البذل. وعلى قولهما يحكم عليه بالدية بنكوله لأن النكول إقرار فيه شبهة (2) .
3 - فى جرائم التعازير: يصح طبقًا لرأى الصاحبين الحكم فيها بالنكول
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص 403، 406 ونفس المرجع ص 104، المغنى ج 10 ص 7.
(2) طرق الإثبات الشرعية ص 438، 443..(2/342)
لأن النكول إقرار لا شبهة فيه فى التعازير إذ الإقرار فيها لا يجوز العدول عنه، ويصح طبقًا لرأى أبى حنيفة الحكم فى هذه الجرائم بالنكول إذا أوجبت عقوبة مالية لأن المال مما يصح بذله، أما إذا أوجبت عقوبة بدنية فلا يصح الحكم بالنكول، وهذا هو قياس رأى أبى حنيفة وصاحبيه.
وفى مذهب أحمد رأيان: أولهما: أنه لا يقضى بالنكول إلا فى المال، فأما غير المال وما لا يقصد به المال فلا يقضى فيه بالنكول (1) .
ومقتضى هذا الرأى لا يحكم بالنكول فى جرائم الحدود ولا فى جرائم التعازير التى توجب المال، ويحكم فى جرائم القصاص والدية بالنكول على أن تكون العقوبة مالية.
والرأى الثانى: يرى الحكم بالقصاص على الناكل إذا كان القصاص فيما دون النفس (2) .
* * *
الباب الثانى فى الحدود
مسائل عامة عن الحدود
477 - تعريف الحد: الحد لغة: هو المنع، واصطلاحًا: هو العقوبة المقدرة حقًا لله تعالى (3) .
ويطلق لفظ الحد عادة على جرائم الحدود وعلى عقوباتها، فيقال: ارتكب الجانى حدًا ويقال: عقوبته حد، وإذا أطلق لفظ الحد على الجريمة فإنما يقصد تعريف الجريمة بعقوبتها، أى بأنها جريمة ذات عقوبة مقدرة شرعًا، فتسمية الجريمة بالحد تسمية مجازية.
ويرى بعض الفقهاء أن الحد هو العقوبة المقدرة شرعًا (4) .
_________
(1) المغنى ج 12ص 126..
(2) نفس المراجع السابقة، والإقناع ج4 ص 453.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص 113، شرح الزرقانى ج8 ص 115، الإقناع ج 4 ص 244، شرح الأزهار ج4 ص 333، المحلى لابن حزم ج 11 ص 118..
(4) شرح فتح القدير ج4 ص113.(2/343)
ويدخل تحت الحد بهذا المعنى جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية؛ لأن عقوباتها جميعًا مقدرة شرعًا.
والمشهور هو تخصيص لفظ الحد لجرائم الحدود وعقوباتها دون غيرها (1) .
وتعريف عقوبة الحد بأنها العقوبة المقدرة حقًا لله تعالى يؤدى إلى هذا التخصيص، وبهذا العريف تخرج العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية، لأن هذه العقوبات وإن كانت مقدرة شرعًا إلا أنها مقررة حقًا للأفراد، كذلك تخرج عقوبات جرائم التعازير لأنها جميعًا عقوبات غير مقدرة.
ومعنى أن العقوبة مقدرة أن الشارع عين نوعها وحدد مقدارها ولم يترك اختيارها أو تقديرها لولى الأمر أو القاضى.
ومعنى أن العقوبة مقررة حقًا لله تعالى أنها مقررة لصالح الجماعة وحماية نظامها، والفقهاء حينما ينسبون العقوبة لله جل شأنه ويقولون إنها حق لله يعنون بذلك أنها لا تقبل الإسقاط لا من الأفراد ولا من الجماعة.
وتعتبر العقوبة حقًا لله تعالى كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة لهم، فكل جريمة يرجع فسادها إلى العامة وتعود منفعة عقوبتها إليهم تعتبر العقوبة المقررة عليها حقًا لله، تأكيدًا لتحصيل المنفعة ودفع المضرة والفساد، لأن اعتبار العقوبة لله يؤدى إلى عدم إسقاطها بإسقاط الأفراد والجماعة لها (2) .
478 - الحد والجناية: ويعبر بعض الفقهاء عن جريمة الحد بلفظ الجناية، ويكتبون عن جرائم الحدود تحت عنوان الجنايات (3) .
والجناية لغة: اسم لما يجنيه المرء من شر وما اكتسبه. وفى الاصطلاح الفقهى: اسم لفعل محرم شرعًا. ولفظ الجناية مرادف اصطلاحًا للفظ الجريمة، ولما كانت الحدود جرائم فقد صح أن
_________
(1) نفس المرجع السابق..
(2) شرح فتح القدير ج4 ص112، 113، بدائع الصنائع ج7 ص 56.
(3) المحلى لابن حزم ج11 ص118، 373.(2/344)
تسمى بالجنايات، ولا يغير من ذلك أن عقوباتها مقدرة؛ لأن تسمية الجريمة بالحد إنما هى تسمية مجازية، كما قلنا من قبل.
ويبقى بعد ذلك أن نعرف أنه إذا كان كل حد جناية، فإن كل جناية ليست حدًا؛ لأن من الجنايات جرائم التعازير وعقوباتها غير مقدرة، وإذا لم تكن عقوبة الجريمة مقدرة فالجريمة ليست حدًا بل إنها لا تكون حدًا إلا إذا كانت عقوبتها مقررة حقًا لله تعالى على الرأى المشهور.
479 - جرائم الحدود: جرائم الحدود سبع وهى:
(1) الزنا.
(2) القذف.
(3) الشرب.
(4) السرقة.
(5) الحرابة أو المحاربة.
(6) البغى
(7) الردة.
وهذا ما يراه جمهور الفقهاء، ولكن ابن حزم يخرج البغى من جرائم الحدود ويدخل جريمة جحد العارية (1) .
وسنخصص لكل جريمة من هذه الجرائم كتابًا، أما جريمة جحد العارية فسنتناولها أثناء الكلام على جريمة السرقة، إذ أن ما يعتبره ابن حزم جحدًا للعارية يعتبره جمهور الفقهاء سرقة.
* * *
_________
(1) المغنى ج 10ص 140، المهذب ج ص 198، شرح فتح القدير ج4 ص 137.(2/345)
الكتاب الأول
الزنا
تمهيد:
480 - الزنا فى الشريعة والقانون: تختلف جريمة الزنا فى الشريعة الإسلامية عنها فى القوانين الوضعية، فالشريعة الإسلامية تعتبر كل وطء محرم زنًا وتعاقب عليه سواء حدث من متزوج أو غير متزوج، أما القوانين الوضعية فلا تعتبر كل وطء محرم زنًا، وأغلبها يعاقب بصفة خاصة على الزنا الحاصل من الزوجين فقط كالقانون المصرى والقانون الفرنسى، ولا تعتبر ما عدا ذلك زنًا وإنما تعتبره وقاعًا أو هتك عرض.
ولا يعاقب القانون المصرى على الوقاع إلا فى حالة الاغتصاب، فإن كان بالتراضى فلا عقاب عليه ما لم يكن الرضا معيبًا.
ويعتبر القانون المصرى الرضا معيبًا إذا لم يبلغ المفعول به ثمانية عشر عامًا كاملة - ولو وقت الجريمة بناء على طلبه هو - فإن بلغها اعتبر رضاه صحيحًا، والعقوبة فى حالة الرضا العيب بسيطة لأن الفعل يعتبر جنحة.
ويدخل اللواط فى هتك العرض طبقًا لقانون العقوبات المصرى سواء لاط الفاعل بامرأة وبرجل.
ويعاقب القانون المصرى الرجل والمرأة معًا فى حالة الزنا، أما فى الوقاع وهتك العرض فلا يعاقب القانون إلا طرفًا واحدًا هو الفاعل سواء أتى المفعول به فى القبل أو فى الدبر، وعلة ذلك أن القانون يبيح الفعل طالما كان مصحوبًا برضاء المفعول به، فإن كان رضاه منعدمًا أو معيبًا اعتبر مجنيًا عليه لا جانيًا(2/346)
481 - أساس عقوبة الزنا فى الشريعة والقانون: وتعاقب الشريعة الإسلامية على الزنا باعتباره ماسًا بكيان الجماعة وسلامتها، إذ أنه اعتداء شديد على نظام الأسرة، والأسرة هى الأساس الذى تقوم عليه الجماعة، ولأن فى إباحة الزنا إشاعة للفاحشة وهذا يؤدى إلى هدم الأسرة ثم إلى فساد المجتمع وانحلاله، والشريعة تحرص أشد الحرص على بقاء الجماعة متماسكة قوية.
أما العقوبة فى القوانين الوضعية فأساسها أن الزنا من الأمور الشخصية التى تمس علاقات الأفراد ولا تمس صالح الجماعة، فى معنى للعقوبة عليه ما دام عن تراضٍ إلا إذا كان أحد الطرفين زوجًا ففى هذه الحالة يعاقب على الفعل صيانة لحرمة الزوجية.
482 - الواقع يشهد للشريعة: ولعل ما حدث فى أوربا والبلاد الغربية عامة يؤيد نظرية الشريعة، فقد تحللت الجماعات الأوربية وتصدعت وحدتهم وذهب ريحها وما لذلك من سبب إلا شيوع الفاحشة والفساد الخلقى والإباحية التى لا تعرف حدًا تنتهى إليه، وما أشاع الفاحشة وأفسد الأخلاق ونشر الإباحية إلا إباحة الزنا وترك الأفراد لشهواتهم واعتبار الزنا من الأمور الشخصية التى لا تمس صالح الجماعة.
ولعل أشد ما تواجهه البلاد غير الإسلامية اليوم من أزمات اجتماعيه وسياسية يرجع إلى إباحة الزنا، فقد قل النسل فى بعض الدول قلة ظاهرة تنذر بفناء هذه الدول أو توقف نموها، وترجع قلة النسل أولا وأخيرًا إلى امتناع الكثيرين عن الزواج، وإلى العقم الذى انتشر بين الأزواج.
ولا يمتنع الرجل عن الزواج إلا لأنه يستطيع أن ينال من المرأة ما يشاء فى غير حاجة إلى الزواج، ولأنه لا يثق فى أن المرأة ستكون له وحده بعد الزواج، وقد اعتاد أن يجدها مشاعًا بينه وبين الغير قبل الزواج.
والمرأة التى كانت أمنيتها الأولى الزواج، ووظيفتها التى خلقت من أجلها إدارة البيت وتربية الأولاد، هذه المرأة أصبحت فى كثير من الأحوال تنفر من(2/347)
الزواج ولا ترضى أن تستأسر لرجل تنال ما عنده، بينما هى تستطيع أن تنال ما عند عشرات الرجال دون أن تثقل نفسها بالقيود والأغلال.
وقد أدى شيوع الزنا إلى مقاومة الحمل من جهة وانتشار الأمراض السرية من جهة أخرى، وإذا كانت مقاومة الحمل تؤدى فى كثير من الأحوال إلى عقم النساء، فإن انتشار الأمراض السرية يؤدى فى الغالب إلى عقم الرجال والنساء على السواء.
وكانت المرأة تعيش فى كنف الرجل فى ظل الزواج، فلما أضرب الرجال عن الزواج كان لابد للمرأة من أن تعيش، فاضطرت إلى مزاحمة الرجل فى ميدان العمل لتنال قوتها، فأدى هذا إلى تفشى البطالة وشيوع المبادئ الهدامة وألقى بشعوب أوربا فى بحر لجى يزخر بالفوضى والاضطراب.
ويستطيع الإنسان أن يرتب على هذه المفاسد الاجتماعية نتائجها الخطيرة دون أن يخطئ الحساب، ولو تدبر هذه النتائج القائلون بأن الزنا علاقة شخصية لعلموا أن الزنا من أخطر الجرائم الاجتماعية، وأن مصلحة الجماعة تقتضى تحريمه فى كل الصور، والمعاقبة عليه أشد العقاب، وعلى هذا الأساس حرمت الشريعة الإسلامية الزنا لتتجنب الوصول إلى تلك النتائج المخيفة، وقررت أشد العقوبات للزناة حتى أنها اعتبرت من يزنى بعد إحصانه غير صالح للبقاء لأنه مثل سئ وليس للمثل السئ فى الشريعة حق البقاء.
ولقد كانت البلاد الإسلامية على العموم أكثر البلاد إقبالا على الزواج وبعدًا عن الإباحية، ولكن إباحة الزنا فيها على الطريقة الأوربية نقل إليها نفس الأمراض التى يشكو منها المجتمع الأوربى، فقد أصبح الرجال يعرضون عن الزواج لأنهم ينالون حاجتهم من المرأة دون زواج، وبدأت المرأة لا تهتم بالاتصال بالرجل كزوج لأنها تستطيع أن تتصل به كما تشاء من غير طريق الزواج، وقد صحب الإعراض عن الزواج قلة النسل والعقم وتفشى الأمراض السرية، وبدأ النساء يتطلعن إلى مساواتهن بالرجال، ويزاحمنهم فى شتى الأعمال، وانحط مستوى الأخلاق(2/348)
والآداب العامة، وغاض الحياء من الوجوه والنفوس، ولا علاج لهذا كله إلا بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها ونبذ القوانين الوضعية والمبادئ الواهية التى تقوم عليها.
* * *
الفصل الأول
أركان جريمة الزنا
483 - تعريف الزنا: يعرف الزنا عند المالكيين بأنه: وطء مكلف فرج آدمى لا ملك له فيه باتفاق تعمدًا (1) .
ويعرفه الحنفيون بأنه: وطء الرجل المرأة فى القبل فى غير الملك وشبهه الملك (2) .
ويعرفه الشافعيون بأنه: إيلاج الذكر بفرج محرم لعينه خال من الشبهة مشتهًى طبعا (3) .
ويعرفه الحنابلة بأنه: فعل الفاحشة فى قبل أو دبر (4) .
ويعرفه الظاهريون بأنه: وطء من لا يحل النظر إلى مجردها مع العلم بالتحريم أو هو وطء محرمة العين (5) .
ويعرفه الزيديون بأنه: إيلاج فرج فى فرج حى محرم قبل أو دبر بلا شبهة (6) .
484 - أركان جريمة الزنا: ظاهر مما سبق أن الفقهاء يختلفون فى تعريف الزنا، ولكنهم مع هذا الاختلاف يتفقون فى أن الزنا هو الوطء المحرم المتعمد، ومؤدى هذا أنهم متفقون على أن لجريمة الزنا ركنين: أولهما: الوطء المحرم، وثانيهما: تعمد الوطء؛ أو القصد الجنائى.
_________
(1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج 8 ص 74، 75، مواهب الجليل ج6 ص 290، حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج4 ص313.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 138، الزيلعى ج3 ص163، البحر الرائق ج5 ص 3، بدائع الصنائع ج7 ص 33..
(3) نهاية المحتاج ج7 ص402، أسنى المطالب ج4 ص 125، المهذب ج2 ص 283، شرح البجيرمى على المنهج ج4 ص 209.
(4) الإقناع ج4 ص250، المغنى والشرح الكبير ج10 ص151.
(5) المحلى لابن حزم ج11 ص 229، 256.
(6) شرح الأزهار ج4 ص336.(2/349)
وسنتناول أثناء الكلام على هذين الركنين وجوه الخلاف بين الفقهاء.
الركن الأول: الوطء المحرم
485 - الوطء المعتبر زنا: هو الوطء فى الفرج، بحيث يكون الذكر فى الفرج كالميل فى المكحلة والرشاء فى البئر، ويكفى لاعتبار الوطء زنا أن تغيب الحشفة على الأقل فى الفرج أو مثلها إن لم يكن للذكر حشفة، ولا يشترط على الرأى الراجح أن يكون الذكر منتشرًا.
وإدخال الحشفة أو قدرها يعتبر زنا ولو دخل الذكر فى هواء الفرج ولم يمس جدره، كما أنه يعتبر زنا سواء حدث إنزال أم لم يحدث.
ويعتبر الوطء زنا ولو كان هناك حائل بين الذكر والفرج مادام هذا الحائل خفيفًا لا يمنع الحس واللذة (1) .
والقاعدة أن الوطء المحرم المعتبر زنا هو الذى يحدث فى غير ملك، فكل وطء من هذا القبيل زنا عقوبته الحد ما لم يكن هناك مانع شرعى من هذه العقوبة.
أما إذا حدث الوطء أثناء قيام الملك فلا يعتبر الفعل زنا ولو كان الوطء محرمًا، لأن التحريم فى هذه الحالة عارض، فوطء الرجل زوجته الحائض أو النفساء أو الصائمة أو المحرمة أو التى ظاهر منها أو آلى منها - كل ذلك محرم ولكنه لا يعتبر زنا (2) .
_________
(1) راجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى ج8 ص 74، شرح فتح القدير ج4 ص 115، حاشية ابن عابدين ج 3 ص194، أسنى المطالب ج 4 ص 125، نهاية المحتاج ج7 ص 402، المغنى والشرح الكبير ج10 ص 151، الإقناع ج 4 ص 253، المحلى ج11 ص 229، 391، شرح الأزهار ج4 ص336.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 79، شرح فتح القدير ج4 ص 140، حاشية اين عابدين ج3 ص 294، أسنى المطالب ج5 ص126، نهاية المحتاج ج7 ص 101 المغنى والشرح الكبير ج10 ص 151، بدائع الصنائع ج7 ص 35، المحلى ج 11 ص255، 256، شرح الأزهار ج4 ص336.(2/350)
وإذا لم يكن الوطء على الصفة السابقة فلا يعتبر زنا يعاقب عليه شرعًا بالحد وإنما يعتبر معصية يعاقب عليها بعقوبة تعزيرية ملائمة (1) ، ولو كانت المعصية فى ذاتها مقدمة من مقدمات الزنا كالمفاخذة؛ أى الإيلاج بين الفخذين، وكالمباشرة خارج الفرج، كذلك يعزر على كل ما يعتبر معصية ولو لم يكن وطئًا فى ذاته كالقبلة والعناق والخلوة بالمرأة الأجنبية والنوم معها فى فراش واحد؛ لأن هذه جميعًا أفعال محرمة كما أنها من مقدمات الزنا (2) .
والأصل فى الشريعة الإسلامية أن من حرمت مباشرته فى الفرج لاعتباره زانيًا أو لائطًا حرمت مباشرته فيما دون الفرج باعتباره عاصيًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجهم حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ اْلعَادُونَ} (المؤمنون:5 - 7) .
وتحرم الشريعة الخلوة بامرأة غير محرم، وذلك لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان" (3) ، فإذا حرمت الخلوة بها فلأن تحرم المباشرة أولى.
ومن القواعد الأصولية فى الشريعة: قاعدة أن ما أدى للحرام فهو حرام، فإن فعل الجانى ما لا يوجب الحد فعقوبته التعزير سواء كان ما فعله وطئًا لم تتم شروطه كالإيلاج بين الفخذين أو فى الفم، أو كان ما فعله ليس وطئًا كالخلوة بالمرأة الأجنبية، وكالعناق والقبلة والنوم معها فى فراش واحد، لأن هذه جميعًا أفعال محرمة فضلا عن أنها من مقدمات الزنا وتؤدى إليه.
_________
(1) راجع ما كتبناه عن المعاصى والحدود والتعازير فى الجزء الأول من التشريع الجنائى الإسلامى ص 67 وما بعدها وص 111 وما بعدها.
(2) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 4 ص313، شرح فتح القدير ج4 ص 150، أسنى المطالب ج4 ص125، الأحكام السلطانية للماوردى ص 206، الإقناع ج 4 ص253، المغنى والشرح الكبير ج 10 ص163، شرح الأزهار ج4 ص336، المحلى ج 11 ص229.
(3) رواه أحمد.(2/351)
وإذا استطعنا بتطبيق القواعد السابقة أن نعرف الأفعال المحرمة فمن السهل أن نعرف بعد ذلك ما يعتبر منها وطئًا وما يعتبر من هذا الوطء زنا.
ويلاحظ أن الشريعة إذا كانت تفرق بين الوطء وما دونه وتعاقب على الأول بعقوبة الحد وعلى الثانى بعقوبة تعزيرية، فإن الشريعة مع هذا تعتبر الفعل فى الحالتين جريمة تامة، ولا تعتبر الوطء جريمة تامة وما دون الوطء شروعًا فى الجريمة كما هو الحال فى القوانين الوضعية (1) .
486 - الوطء فى الدبر: يستوى عند مالك والشافعى وأحمد والشيعة والزيدية أن يكون الوطء المحرم فى قبل أو دبر من أنثى أو رجل، ويشاركهم فى هذا الرأى محمد وأبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة (2) ، وحجتهم فى التسوية أن الوطء فى الدبر مشارك للزنا فى المعنى الذى يستدعى الحد وهو الوطء المحرم، فهو داخل تحت الزنا دلالة، فضلا عن أن القرآن سوى بينهما فقال جل شأنه والخطاب موجه لقوم لوط: {إِنَكُمْ لَتَأْتُونُ الْفَاحَشَةَ} [العنكبوت: 28] وقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِجَالَ شَهْوَةً مّنَ دُونِ الّنِسَاءِ} [الأعراف: 81] وقال {وَاللاَّتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسّاَئِكُمْ} [النساء: 15] وقال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوُهمَا} [النساء: 16]
فجعل الوطء فى الدبر فاحشة، والوطء فى القبل فاحشة، فسمى أحدهما بما سمى به الآخر. روى أبو موسى الأشعرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (3) .
_________
(1) فصلنا الكلام على هذه الملاحظة فى الجزء الاول من التشريع الجنائى الإسلامى ص 296 - 300.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 75، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج 10ص 160، شرح الأزهار ج4 ص336، بدائع الصنائع ج 7 ص34شرح الزرقانى ج8 ص 75، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج 10ص 160، شرح الأزهار ج4 ص336، بدائع الصنائع ج 7 ص34.
(3) أخرجه البيهقى وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن، وقال لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد ورواه أبوالفتح الأزدى فى الضعفاء، والطبرانى فى الكبير من وجه آخر وفيه المفضل البجلى وهو مجهول، وأخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده عنه. يراجع فى كل ما سبق: نيل الأوطار ج7ص 30.(2/352)
ويرى أبو حنيفة أن الوطء فى الدبر لا يعتبر زنا سواء أكان الموطوء ذكرًا أم أنثى، وحجته أن الإتيان فى القبل يسمى زنا والإتيان فى الدبر يسمى لواطًا، واختلاف الأسامى دليل على اختلاف المعانى، ولو كان اللواط زنا ما اختلف أصحاب الرسول فى شأنه، فضلا عن أن الزنا يؤدى إلى اشتباه الأنساب وتضييع الأولاد وليس الأمر كذلك فى اللواط، كما أن العقوبة تشرع دائمًا لما يغلب وجوده والزنا وحده هو الغالب لأن الشهوة المركبة فى الرجل والمرأة تدعو إ ليه، أما اللواط فليس فى طبيعة المحل ما يدعو إليه (1) .
أما الظاهريون فلا يرون اللواط زنا وإنما يرونه معصية فيها التعزير، وحجتهم أن اللواط غير الزنا وأنه لم يرد نص ولا أثر صحيح يعطى اللواط حكم الزنا (2) .
487 - وطء الزوجة فى دبرها: ومن المتفق عليه أن إتيان الزوجة فى دبرها لا يعاقب عليه بعقوبة الحد؛ لأن الزوجة محل للوطء ولأن الرجل يملك وطء زوجته.
ولكن الفقهاء اختلفوا فى تكييف الفعل، فيرى أحمد وأبو يوسف ومحمد صاحبًا أبى حنيفة أن الفعل زنًا يعاقب عليه أصلا بعقوبة الحد، ولكن هذه العقوبة تدرأ لشبهة الملك وللاختلاف فى حلية الفعل (3) . ومن ثم يعاقب على الفعل بعقوبة تعزيرية.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص43، شرح فتح القدير ج4 ص150.
(2) المحلى ج11 ص380، 385.
(3) يعتبر الفقهاء القائلون بالشبه أن الاختلاف على حل الفعل وحرمته يعتبر بذاته شبهة تدرأ الحد ويرجع الخلاف فى الحكم إلى اختلافهم فى تفسير قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) نساؤكم حرث لكن فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين " [البقرة: 222، 223] فقد روى عن ابن عمر وعن الشافعى، وقيل إن الشافعى قال بذلك فى القديم، وبعض أصحاب مالك لا يرون عنه هذه الرواية، وقد أفتى متأخرو أصحابه بالتحريم، أما جمهور الفقهاء فيرون تحريم إتيان الزوجة فى الدبر مستدلين بنص القرآن وما ورد فى التحريم من أحاديث ضعيفة يقوى بعضها بعضًا، يراجع: نيل الأوطار ج6ص120 وما بعدها، المحلى ج69، 70.(2/353)
ويرى المالكيون والشافعيون والشيعة الزيدية أن الفعل لا يعتبر زنًا لأن الزوجة محل لوطء الزوج وللزوج أن يستمتع بها، ولكن المالكين والزيديين يرون أن الفعل مع ذلك محرم ويعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، أما الشافعيون فلا يرون التعزير على الفعل إلا عند العودة له بعد نهى الحاكم عنه، فالجريمة عندهم جريمة اعتياد ولا تقع إلا بعد النهى عنها، فإذا لم يكن النهى فلا عقاب لأن الفعل قبل النهى مختلف فى إباحته، على أن بعضهم يرى العقوبة على تكرار الفعل ولا يصرح باشتراط النهى عن الفعل، ومعنى ذلك أن الفعل عندهم محرم لا شك فى تحريمه، فلا حاجة لأن ينهى عنه الحاكم.
ويرى أبو حنيفة أن الفعل لا يعتبر زنًا للأسباب التى سبق بيانها، ولكنه معصية يعاقب عليها بالتعزير.
وكذلك الأمر عند الظاهرين، فهم لا يعتبرون الإتيان فى الدبر بصفة عامة زنًا ولكنهم يرونه معصية يعزر عليها (1) .
488 - وطء الأموات: ووطء المرأة الأجنبية الميتة لا يعتبر زنًا عند أبى حنيفة، وكذلك استدخال المرأة ذكر الأجنبى الميت فى فرجها، وهذا القول رأى فى مذهب الشافعى وأحمد.
والقائلون بذلك يوجبون التعزير فى الفعل، وحجتهم أن الوطء فى الميتة ومن الميت كلا وطء لأن عضو الميت مستهلك، ولأنه عمل تعافه النفس ولا يشتهى عادة، فلا حاجة إلى الزجر عن الفعل، والحد إنما يجب للزجر وعلى هذا الرأى الشيعة الزيدية (2) .
والرأى الثانى فى مذهبى الشافعى وأحمد يقوم على أن الفعل يعتبر زنًا يجب فيه الحد إذا لم يكن بين زوجين لأنه وطء محرم بل هو أعظم من الزنا وأكثر
_________
(1) يراجع فى كل ما سبق: مواهب الجليل ج6 ص291، شرح فتح القدير ج4 ص150، نهاية المحتاج ج7 ص404، أسنى المطالب ج4 ص126، المغنى ج 10ص 162، المحلى ج11 ص380 وج 10 ص 69، شرح الأزهار ج4 ص336.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص152، نهاية المحتاج ج7 ص405، المغنى ج10 ص152، شرح الأزهار ج4 ص336.(2/354)
إثمًا، حيث انضم إلى الفاحشة هتك حرمة الميت (1) .
وأصول الظاهريين تقتضى أن يكون رأيهم متفقًا مع هذا الرأى.
ويرى مالك أن من أتى ميتة فى قبلها أو دبرها حال كونها غير زوج له فإنه يعتبر زانيًا ويعاقب بعقوبة الزنا لالتذاذه بذلك الفعل، بخلاف من وطأ زوجته الميتة فإنه لا حد عليه، وبخلاف إدخال المرأة ذكر ميت غير زوج فى فرجها فإنها تعزر ولا تحد فيما يظهر لعدم اللذة (2) .
489 - وطء البهائم: ووطء البهائم والحيوانات على العموم لا يعتبر زنًا عند مالك وأبى حنيفة ولكنه معصية فيها التعزير، وفى حكمة أن تمكن المرأة من نفسها حيوانًا كقرد مثلا، ولا يرون الفعل زنا لأن اعتباره كذلك يوجب فيه عقوبة الحد وهى مشروعه للزجر وإنما يحتاج للزجر فيما طريقه منفتح سالك، وهذا ليس كذلك لأنه لا يرغب فيه العقلاء ولا السفهاء وإن اتفق لبعضهم ذلك لغلبة الشبق، فالفعل إذن لا يفتقر إلى الزاجر لزجر الطبع عنه (3) .
وللشافعى وأحمد رأيان أرجحهما يتفق مع رأى أبى حنيفة ومالك، والرأى الثانى يعتبر الفعل زنًاَ ولكنه يعاقب عليه بالقتل فى كل الأحوال، وسند هذا الرأى ما وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" وهو حديث لا يصححه الكثيرون (4) .
وبعض الشافعيين يعتبر الفعل زنًا قياسًا على إتيان الرجل والمرأة ويجعلون عقوبة المحصن الرجم وعقوبة غير المحصن الجلد والتغريب (5) . وهذا الذى يراه بعض الشافعيين هو الرأى الراجح فى مذهب الشيعة الزيدية وإن كان بعضهم يرى ما يراه مالك وأبو حنيفة (6) .
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص405، المغنى ج10ص 152.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص76.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص152.
(4) المغنى ج10 ص 163، نهاية المحتاج ج7 ص405، أسنى المطالب ج4 ص126.
(5) نهاية المحتاج ج8 ص405.
(6) شرح الأزهار ج4 ص336.(2/355)
والشافعيون والحنابلة يرون أن المرأة التى تمكن من نفسها حيوانًا عليها ما على واطئ البهيمة (1) . على أن بعض الشافعيين يصرحون بأن ليس على المرأة إلا التعزير (2) .
ويرى الحنابلة فى كل الأحوال قتل البهيمة المأتية سواء عزر الواطئ أو قتل، ومن يرى من الشافعيين قتل الواطئ يرى أيضًا قتل البهيمة، أما الزيديون فيكرهون لحمها وشرب لبنها ولا يرون قتلها (3) .
ويرى الظاهريون أن واطئ البهيمة ليس زانيًا، لأن فعله ليس زنًا، ولم يرد نص بإلحاقه بالزنا، ولكن لما كان وطء البهيمة محرمًا أصلا ففاعل ذلك فاعل منكر مرتكب معصية عقوبتها التعزير وليس فى فعله ما يبيح قتل البهيمة أو ذبحها (4) .
490 - وطء الصغير والمجنون امرأة أجنبية: لا حد على الصغير أو المجنون فى وطء المرأة الأجنبية لعدم أهليتها، إذ الصغير لا يؤخذ بالحد إلا بعد بلوغه، والمجنون لا يؤخذ به إلا فى حال إفاقته؛ على أن الصغير يعزر على الفعل إن كان مميزًا.
وقد اختلف فى حكم المرأة التى يطؤها الصبى أو المجنون، فرأى أبو حنيفة أن المرأة التى يطؤها الصبى أو المجنون لا حد عليها ولو كانت مطاوعة وإنما عليها التعزير، وحجته أن الحد يجب على المرأة ليس لأنها زانية فإن فعل الزنا لا يتحقق منها إذ هى موطوءة وليست بواطئة، وتسميتها فى القرآن زانية مجاز لا حقيقة إنما يجب عليها الحد لكونها مزنيًا بها، ولما كان فعل الصبى والمجنون لا يعتبر زنًا عند أبى حنيفة فلا تكون مزنيًا بها (5) .
_________
(1) الإقناع ج4 ص253، أسنى المطالب ج4 ص126.
(2) أسنى المطالب ج4 ص126، نهاية المحتاج ج7 ص404.
(3) أسنى المطالب ج4 ص125، المغنى ج10 ص164، شرح الأزهار ج4 ص336، 337.
(4) المحلى ج11 ص386 - 388.
(5) شرح فتح القدير ج4 ص156، بدائع الصنائع ج7 ص34.(2/356)
ويرى مالك رأى أبى حنيفة فى حالة ما إذا كان الواطئ صبيًا، ولكنه يرى حد المرأة إذا طاوعت المجنون، وحجته فى هذه التفرقة أن المرأة تنال لذة من المجنون ولا تنال من الصبى (1) .
أما الشافعى فيرى أن تُحَدَّ المرأة فى الحالتين ولو لم يعاقب الصبى والمجنون، لأن العقاب امتنع عن الصبى والمجنون لمعنى يخصه هو، فليس للمرأة - وقد ارتكبت الجريمة - أن تستفيد من ظروف شريكها الخاصة، وعلى هذا الرأى الظاهريون والزيديون (2) .
ويرى زفر من أصحاب أبى حنيفة رأى الشافعى، وهو رواية عن أبى يوسف وحجتهما أن كلًا من الزانى والزانية مؤاخذ بفعله، وقد فعلت المرأة ما هى به زانية لأن حقيقة زناها انقضاء شهوتها بآلته وقد وجد ذلك (3) .
وفى مذهب أحمد رأيان أرجحهما يتفق مع مذهب الشافعى، والثانى يفرق - كمذهب مالك - بين ما إذا كان الواطئ صبيًا أو مجنونًا، ويرى أصحاب هذا الرأى الثانى أن تحد المرأة إذا طاوعت المجنون ولا تحد إذا وطئها صبى لم يبلغ سنة عشر سنوات، فإذا بلغ هذه السن حدت. ويؤخذ على هذا الرأى أنه قائم على تحديد السن، والتحديد إنما يكون بالتوقيف أى بنص، ولا توقيف فى هذا الأمر (4) .
491 - وطء العاقل البالغ صغيرة أو مجنونة: واختلف أيضًا فى وطء العاقل البالغ لصغيرة أو مجنونة، فيرى مالك أن الواطئ يُحدُّ لإتيان المجنونة الكبيرة، ويحد كذلك لإتيان الصغيرة مجنونة أو غير مجنونة كلما أمكنه وطؤها ولو كان الوطء غير ممكن لغيره، فإذا لم يكن وطء الصغيرة ممكنًا للواطئ فلا حد وإنما يعزر على الفعل (5) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص78.
(2) أسنى المطالب ج4 ص128، المحلى ج11 ص146، شرح الأزهار ج4 ص338.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص156.
(4) المغنى ج10 ص152.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص76.(2/357)
ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن العاقل البالغ إذا زنا بمجنونة أو صغيرة يجامع مثلها وجب عليه الحد لأن فعله زنًا، ولأن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من جانبه (1) .
ويختلف مذهب مالك عن مذهب أبى حنيفة فى أن مالكًا يجعل الحد منوطًا بإمكان الجانى وطء الصغيرة ولو أن مثلها لا يجامع، أو لو كان الوطء غير ممكن لغيره، بينما يجعله أبو حنيفة منوطًا بصلاحية الصغيرة للجماع بصفة عامة.
ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة فى هذه الناحية (2) .
ويرى الشافعيون حد العاقل البالغ إذا زنًا بمجنونة أو صغيرة مادام الوطء قد حدث فعلًا ولا يقيدون العقوبة بأى قيد (3) . وعلى هذا مذهب الظاهريين (4) .
وفى مذهب أحمد رأيان يتفق أحدهما مع مذهب الشافعى، أما الثانى فيخالفه فى حالة وطء الصغيرة مجنونة أو غير مجنونة، ويفرق أصحاب هذا الرأى بين ما إذا كانت الصغيرة يمكن وطؤها أو لا يمكن، فإن كان الوطء ممكنًا فهو زنًا يوجب الحد لأنها كالكبيرة فى ذلك، وإن كانت الصغيرة لا تصلح للوطء فلا حد على من وطئها وإنما عليه التعزير، وبعض أصحاب هذا الرأى يحدد سن الصغيرة التى لا تصلح للوطء بتسع سنوات؛ وحجته أن الصغيرة لا تشتهى فى هذه السن وأن وطأها يشبه ما لو أدخل إصبعه فى فرجها (5) .
والقائلون بحد المرأة إذا وطئها صبى أو مجنون وبحد الرجل إذا وطئ مجنونة أو صبية يتفق رأيهم مع نص المادة (39) من قانون العقوبات المصرى، وهى تقضى بأن الظروف الخاصة بأحد الفاعلين لا يتعدى أثرها إلى غيره منهم. على أن القائلين بالرأى المضاد لا يخالفون هذا المبدأ لذاته، ولكنهم يطبقون
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص156.
(2) شرح الأزهار ج2 ص338.
(3) أسنى المطالب ج2 ص128.
(4) المحلى ج10 ص471، ج11 ص256.
(5) المغنى ج10 ص152.(2/358)
قاعدة درء الحدود والشبهات، إذ يرون أن الجريمة لا تقع إلا من اثنين بطبيعة الحال ولا يمكن أن تتم إلا باجتماعهما، ويرون فى إعفاء أحدهما من العقوبة شبهة فى حق الآخر تدعو إلى درء الحد عنه والاكتفاء بتعزيره.
492 - الوطء بشبهة: لا يصحح الظاهرين ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" (1) . ولذلك فهم يرون أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة ولا أن تقام بشبهة وإنما هو الحق الله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" (2) . وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة (3) . لقول الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] .
أما باقى الفقهاء فيصححون حديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وهم متفقون على أن الوطء بشبهة لا حد فيه، ولكنهم اختلفوا فيما يعتبر شبهة، وأساس الخلاف فى اعتبار الشبهة هو الاختلاف فى التقدير، فيرى البعض أن حالة معينة تعتبر شبهة، ويرى البعض أنها لا تعتبر كذلك.
_________
(1) حديث "ادرءوا الحدود بالشبهات" روى عن على مرفوعًا وفيه المختار بن نافع، قال عنه البخارى إنه منكر الحديث، وأصح ما جاء فيه حديث سفيان الثورى عن عاصم عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود قال: "ادرءوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم"، وروى عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضًا موقوفًا وروى منقطعًا وموقوفًا على عمر، ورواه ابن حزم فى كتاب الإيصال عن عمر موقوفًا عليه، وروى من طرق آخر أثبتها مؤلف نيل الأوطار ج7 ص19، ويعضد ذلك الحديث المروى عن أبى هريرة: "ادرءوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا" رواه ابن ماجه، والحديث المروى عن عائشة: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة" رواه الترمذى والحاكم والبيهقى.
(2) رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
(3) المحلى ج11 ص153.(2/359)
والشبهة هى ما يشبه الثابت وليس بثابت، وقد اهتم الحنفيون والشافعيون بتقسيم الشبهة وتنويعها بينما لم يهتم غيرهم من الفقهاء بهذا الأمر، واكتفوا بإيراد ما يعتبر شبهة وعلة اعتباره شبهة، على أن الشبهات عند الجميع لا يمكن حصرها لأن أساسها فى الغالب الوقائع وهى لا تحصر. ويقسم الشافعيون الشبهة ثلاثة أقسام (1) .
الأول: شبهة فى المحل: كوطء الزوجة الحائض أو الصائمة أو إتيان الزوجة فى دبرها؛ فالشبهة هنا قائمة فى محل الفعل المحرم؛ لأن المحل مملوك للزوج ومن حقه أن يباشر الزوجة، وإذا لم يكن له أن يباشرها وهى حائض أو صائمة أو أن يأتيها فى الدبر، إلا أن ملك الزوج للمحل وحقه عليه يورث شبهة، وقيام هذه الشبهة يقتضى درء الحد، سواء اعتقد الفاعل بحل الفعل أو بحرمته؛ لأن أساس الشبهة ليس الاعتقاد والظن وإنما أساسها محل الفعل وتسلط الفاعل شرعًا عليه.
الثانى: شبهة فى الفاعل: كمن يطأ امرأة زُفَّت إليه على أنها زوجته ثم تبين أنها ليست زوجته، وأساس الشبهة ظن الفاعل واعتقاده بحيث يأتى الفعل وهو يعتقد أنه لا يأتى محرمًا، فقيام هذا الظن عند الفاعل يورث شبهة يترتب عليها درء الحد، أما إذا أتى الفاعل وهو عالم بأنه محرم فلا شبهة.
الثالث: شبهة فى الجهة أو الطريق: ويقصد من هذا التعبير الاشتباه فى حل الفعل وحرمته، وأساس هذه الشبهة الاختلاف بين الفقهاء على الفعل، فكل ما اختلفوا على حله أو جوازه كان الاختلاف فيه شبهة يدرأ بها الحد، فمثلا يجيز أبو حنيفة النكاح بلا ولى، ويجيز مالك النكاح بلا شهود، ويجيز ابن عباس نكاح المتعة، ولا يجيز جمهور الفقهاء هذه الأنكحة، ونتيجة هذا الخلاف أن لا حد على الوطء فى تلك الأنكحة المختلف عليها، لأن الخلاف يقوم شبهة تدرأ الحد
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص126.(2/360)
ولو كان الفاعل يعتقد بحرمة الفعل؛ لأن هذا الاعتقاد فى ذاته ليس له أثر مادام الفقهاء مختلفين على الحل والحرمة.
ويقسم الحنفيون الشبهة قسمين:
الأول: الشبهة فى الفعل (1) : يسمونها شبهة اشتباه، وشبهة مشابهة. وهى شبهة وفى حق من أشتبه عليه الفعل دون من لم يشتبه عليه. وتثبيت هذه الشبهة فى حق من اشتبه عليه الحل والحرمة، ولم يكن ثمة دليل سمعى يقيد الحل بل ظن غير الدليل دليلًا، كمن يطأ زوجته المطلقة ثلاثًا أو بائنًا على مال فى عدتها، وتعليل ذلك أن النكاح إذا كان قد زال فى حق الحل أصلًا لوجود المبطل لحل المحلية وهو الطلاق، فإن النكاح قد بقى فى حق الفراش والحرمة على الأزواج فقط، ومثل هذا الوطء حرام فهو زنًا يوجب الحد، إلا إذا ادعى الواطئ الاشتباه وظن الحل، لأنه بنى ظنه على نوع دليل وهو بقاء النكاح فى حق الفراش وحرمة الأزواج فظن أنه بقى فى حق الحل أيضاص، وهذا وإن لم يصلح دليلًا على الحقيقة لكنه لما ظنه دليلًا اعتبر فى حقه درءًا لما يندرئ بالشبهات.
ويشترط لقيام الشبهة فى الفعل أن لا يكون هناك دليل على التحريم أصلا، وأن يعتقد الجانى الحل، فإذا كان هناك دليل على التحريم، أو لم يكن الاعتقاد بالحل ثابتا فلا شبهة أصلا، وإذا ثبت أن الجانى كان يعلم بحرمة الفعل وجب عليه الحد (2) .
الثانى: الشبهة فى المحل: ويسمونها الشبهة الحكمية، أو شبهة الملك. وتقوم
_________
(1) يحصر الحنفيون شبهة الفعل فى جريمة الزنا فى ثمانية مواضع، منها وطء المطلقة ثلاثًا فى العدة أو بائنًا على مال وكذا المختلعة، أما بقية المواضع فخاصة بالجوارى ولا محل للتعرض لها بعد إبطال الرق.
... وبقية الفقهاء يخالفون الحنفيين فى ذلك ولا يرون شبهة فى هذه المواضع الثمانية، ومن ثم فهم لا يعترفون بشبهة الفعل فى جريمة الزنا. راجع: شرح الزرقانى ج8 ص77، مواهب الجليل ج6 ص292، أسنى المطالب ح4 ص127، المغنى ج10 ص154.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص140، 144، بدائع الصنائع ج7 ص36.(2/361)
هذه الشبهة على الاشتباه فى حكم الشرع بحل المحل، فيشترط فى هذه الشبهة أن تكون ناشئة عن حكم من أحكام الشريعة، وهى تتحقق بقيام دليل شرعى ينفى الحرمة، ولا عبرة بظن الفاعل، فيستوى أن يعتقد الفاعل الحل أو يعلم الحرمة، لأن الشبهة ثابتة بقيام الدليل الشرعى لا بالعلم وعدمه.
ويحصر الحنفيون شبهة المحل فى جريمة الزنا فى ستة مواضع أحدها وطء المطلقة طلاقًا بائنًا بالكنايات مجتهد فيه لاختلاف الصحابة رضى الله عنهم، والمعروف عن عمر أنه كان يقول فى الكنايات إنها رواجع، والطلاق الرجعى لا يزيل الملك، فاختلافهم أورث شبهة (1) .
والشافعيون والحنابلة من رأى الحنفيين فى وطء المطلقة بائنًا بالكنايات، أما المالكيون فيرى بعضهم الرأى السابق، بينما يرى البعض الآخر أن لا شبهة فى هذا الوطء (2) .
قسم ثالث: ويرى أبو حنيفة أن الشبهة تثبت أيضًا بالعقد ولو كان العقد متفقًا على تحريمه وكان الفاعل عالمًا بالتحريم وبالاتفاق عليه كما هو الحال فى نكاح المحارم.
فالشبهة إذن على رأى أبى حنيفة ثلاثة أنواع: شبهة فى الفعل، وشبهة فى المحل، وشبهة فى العقد.
ولكن أصحاب أبى حنيفة لا يقولون بشبهة العقد، وهم فى ذلك متفقون مع ما يراه جمهور الفقهاء (3) .
_________
(1) نفس المرجعين السابقين.
(2) مواهب الجليل ج6 ص292، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص154، الإقناع ج4 ص254.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص143.(2/362)
493 - وطء المحارم: ووطء المحارم زنًا يجب فيه الحد، فإذا تزوج شخص ذات محرم منه فالنكاح باطل اتفاقًا، فإن وطئها فعليه الحد فى قول مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والزيديين، وفى قول أبى يوسف، ومحمد من أصحاب أبى حنيفة.
ولكن أبا حنيفة نفسه يرى أن من تزوج امرأة لا يحل له نكاحها كأمه أو ابنته أو عمته أو خالته فوطئها لم يجب عليه الحد ولو اعترف بأنه يعلم بأنها محرمة عليه، وإنما يعاقب على فعله بعقوبة تعزيرية.
ويسقط أبو حنيفة الحد فى هذه الحالة للشبهة، وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذى هو سبب للإباحة، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد الذى يندرئ بالشبهات.
ويُرد على أبى حنيفة بأن الوطء حدث فى فرج مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك، والواطئ من أهل الحد عالم بالتحريم فلا عذر له ويلزمه الحد أما العقد فهو باطل ولا أثر له مطلقًا فهو كأن لم يوجد وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة (1) .
494 - الوطء فى نكاح باطل: وكل نكاح مجمع على بطلانه - كنكاح خامسة أو متزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة ثلاثًا قبل أن تنكح زوجًا آخر - إذا وطئ فيه فهو زنًا موجب للحد، ولا عبرة بوجود العقد ولا أثر له، وبذلك قال مالك والشافعى وأحمد والظاهريون والزيديون، وهو ما قال به أبو يوسف ومحمد صاحبًا أبى حنيفة (2) .
_________
(1) يراجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى ج8 ص76، شرح فتح القدير ج4 ص147، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص152، المحلى ج11 ص256، شرح الأزهار ج4 ص348.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص76، 77، شرح فتح القدير ج4 ص143، 144، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص154، المحلى ج11 ص246، 248، شرح الأزهار ج4 ص348.(2/363)
ولكن أبا حنيفة يرى أن وجود العقد شبهة تدرأ الحد، ومن ثم فعقوبة الوطء عنده هى التعزير (1) .
495 - الوطء فى نكاح مختلف عليه: لا يجب الحد فى النكاح مختلف على صحته، كنكاح المتعة والشغار والتحليل والنكاح بلا ولى أو شهود ونكاح الأخت فى عدة أختها البائن ونكاح الخامسة فى عدة الرابعة البائن، لأن الاختلاف بين الفقهاء على صحة النكاح يعتبر شبهة فى الوطء والحدود تدرأ بالشبهات، إلا عند الظاهريين ولذلك فهم يرون الحد فى كل وطء قام على نكاح باطل أو فاسد (2) .
496 - الوطء بالإكراه: من المتفق عليه أنه لا حد على مكرهة على زنًا لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمَ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّمَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ولقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (3) . ولأن الإكراه يعتبر شبهة عند القائلين بالشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
ومن المتفق عليه أنه لا فرق بين الإكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها، وبين الإكراه بالتهديد، فقد استكرهت امرأة على عهد الرسول فدرأ عنها الحد (4) . وأتى عمر بإماء من إماء الإمارة استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء، كما جاءته امرأة استسقت راعيًا فأبى أن يسقيها إلا
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص143، 148.
(2) . شرح الزرقانى ج8 ص75، شرح فتح القدير ج4 ص148، أسنى المطالب ج4 ص126، المغنى ج10 ص155، المحلى ج11 ص249، شرح الأزهار ج4 ص348.
(3) المحلى ج7 ص334.
(4) رواه الترمذى، وراجع التاج ج3 ص36.(2/364)
أن تمكنه من نفسها ففعلت، فقال لعلى: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئًا وتركها. وإذا أُكره الرجل على الزنا فعليه الحد، وهو الرأى المرجوح فى مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية، وحجة أصحاب هذا الرأى أن المرأة تكره لأن وظيفتها التمكين أما الرجل فلا يكره ما دام ينتشر، لأن الانتشار دليل الطواعية، ومقتضى هذا الرأى أنه إذا لم يكن انتشار وثبت الإكراه فلا حد.
والرأى الراجح فى هذه المذاهب جميعًا أنه لا حد على الرجل إذا أُكره لأن الإكراه يتساوى أمامه الرجل والمرأة، فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه، ولأن الانتشار قد يكون طبعًا وهو دليل على الفحولية أكثر مما هو دليل على الطواعية، ولأن القول بأن التخويف ينافى الانتشار غير صحيح، لأن المكره يخوف عند ترك الفعل لا عند إتيانه والفعل فى ذاته لا يخاف منه، وفضلا عن ذلك فإن الإكراه شبهة والحدود تدرأ عندهم بالشبهات (1) ويرى الظاهرين أنه لا حد على مكرهة أو مكره، فلو أمسكت امرأة حتى زُنى بها، أو أُمسك رجل فأُدخل إحليله فى فرج امرأة فلا شىء عليه ولا عليها سواء انتشر أو لم ينتشر، أمنى أو لم يمن، أنزلت هى أم لم تنزل، لأنهما لم يفعلا شيئًا أصلا، الانتشار والإمناء فعل الطبيعة الذى خلقه الله تعالى فى المرء أحب أم كره لا اختيار له فى ذلك (2) .
وإذا مكنت المرأة مكرها من نفسها دون أن يقع عليها إكراه فعليها الحد دونه، لأن فعلها زنًا، ولأنها ليست مكرهة، ولا عبرة بإعفاء الرجل من العقاب
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص80، شرح فتح القدير ج4 ص157، 166، أسنى المطالب ج4 ص127، المهذب ج2 ص284، المغنى ج10 ص158، شرح الأزهار ج4 ص348.
(2) المحلى ج8 ص331.(2/365)
فإنه أعفى لإكراهه على الفعل، وليس لها أن تستفيد من ظرف الرجل وهو ظرف خاص به، وهذا مسلم به فى جميع المذاهب.
497 - الخطأ فى الوطء: الخطأ إما خطأ فى وطء مباح، وإما خطأ فى وطء محرم. فالخطأ فى الوطء المباح لا عقوبة عليه لانعدام القصد، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ثم هو بعد ذلك شبهة تدرأ الحد عند القائلين بالشبهة، فمن زفت إليه غير زوجته وقيل هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه باتفاق، وكذلك الحكم إذا لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته فوطئها، أو دعا زوجته فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، لا حد عليه فى كل ذلك عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والزيديين، وحجتهم أنه وطء اعتقد الفاعل إباحته بما يعذر مثله فيه، وأنه أشبه بوطء من زفت إليه غير زوجته.
ولكن أبا حنيفة يرى الحد على من وجد امرأة فى فراشه فوطئها، لأن المسقط هو شبهة الحل، ولا شبهة هنا أصلا سوى أن وجدها على فراشه ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه؛ هذا لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من صديقاتها وقريباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل، وكذلك الحكم إذا كان أعمى، إلا إذا دعاها فأجابته أجنبية وقالت أنا زوجتك، وهذا إذا لم تطل الصحبة وتشابهت النغمات ولم يستطع التمييز.
أما الخطأ فى الوطء المحرم فلا يعفى مع العقوبة وليس شبهة باتفاق، فمن دعا محرمة عليه فأجابته غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعلية الحد، فإن دعا(2/366)
محرمة عليه فأجابته زوجته فوطئها يظنها الأجنبية التى دعاها فلا حد عليه، لانتفاء حرمة الفرج لعينة، وإن أثم باعتبار ظنه (1) .
498 - الرضاء بالوطء: الرضاء بالوطء لا يعتبر شبهة باتفاق، فمن وطئ امرأة أجنبية أباحت نفسها له فهو زان، ولو كان ذلك بإذن وليها أو زوجها، لأن الزنا لا يستباح بالبذل والإباحة، وليس لأحد أن يحل ما حرم الله، فإن أحلت امرأة نفسها فإحلالها نفسها باطل وفعلها زنًا محض.
ولو أن امرأة دلست نفسها أو غيرها لأجنبى فوطئها يظن أنها امرأته فلا حد على الرجل والمرأة الموطوءة زانية، أما المدلسة فلا تعتبر زانية وعليها التعزير (2) .
499 - الزواج اللاحق: والزواج اللاحق بالمزنى بها يعتبر شبهة تدرأ الحد فى رواية أبى يوسف عن أبى حنيفة، فمن زنا بامرأة ثم تزوجها لا يحد طبقًا لهذه الرواية لأن المرأة تصير مملوكة للزوج بالنكاح فى حق الاستمتاع فحصل الاستيفاء من محل مملوك فيصير شبهة تدرأ الحد.
وفى رواية الحسن ومحمد أن الزواج العارض بعد الزنا لا يعتبر شبهة، لأن الوطء وقع زنًا محضًا لمصادفته محلا غير مملوك للواطئ، ولأن الزواج ليس له أثر رجعى فلا يمتد أثره لوقت الوطء.
والرواية الأخيرة تتفق مع ما يراه جمهور الفقهاء، فهم يرون أن من زنًا بامرأة ثم تزوجها فلا أثر لزواجه على الجريمة التى ارتكبها ولا على العقوبة المقررة لها؛ لأن الحد قد وجب بالزنا السابق فلا يسقطه اللاحق (3) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص147، نهاية المحتاج ج7 ص404، المغنى ج10 ص155، المحلى ج11 ص246، شرح الأزهار ج4 ص348.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص80، نهاية المحتاج ج7 ص406، المغنى ج10 ص156، المحلى ج11 ص246.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص62، شرح فتح القدير ج4 ص159، المغنى ج10 ص194، المحلى ج11 ص252.(2/367)
500 - وطء من وجب عليها القصاص: ومن وجب له القصاص على امرأة فوطئها وجب عليه الحد، ولا يعتبر استحقاقه القصاص عليها شبهة تدرأ الحد، لأن حق القصاص إذا أباح له قتلها فإنه لا يبيح له فرجها أو الاستمتاع بها (1) .
501 - المساحقة: وتسمى السحق والتدالك، وهى إتيان المرأة المرأة، والفعل متفق على تحريمه لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7] ولما كانت المرأة لا تحل لملك يمينها وكان منها ذا محرم، فإذا أباحت المرأة فرجها لغير زوجها من امرأة أو رجل فهى لم تحفظه وهى من العادين.
ويروى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فىهذا الباب قوله: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفض الرجل إلى الرجل فى ثوب واحد، ولا تفض المرأة إلى المرأة فى الثوب الواحد" (2) . وهذا النص صحيح فى تحريم السحاق لأنه إفضاء المرأة إلى المرأة.
ويستدل البعض بما رواه أبو موسى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (3) .
ومن المتفق عليه أن لا حد فى الفعل وأن عقوبته التعزير لأنه معصية لا حد فيها، وإذا كان حديث أبى موسى - على فرض صحته - قد وصف الفعل بأنه زنًا فإن ذلك لا يلحقه بالزنا المعاقب عليه بالحد، لأن السحاق مباشرة دون إيلاج
_________
(1) المغنى ج10 ص195.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى، وراجع: نيل الأوطار ج6 ص16.
(3) نيل الأوطار ج7 ص30.(2/368)
والزنا المعاقب عليه بالحد يقتضى الإيلاج، فكان السحاق مما يجب فيه التعزير لا الحد كما لو باشر الرجل والمرأة دون الفرج أى دون إيلاج (1) .
502 - الاستمناء: واستمناء الرجل بيد امرأة أجنبية لا يعتبر زنًا، وكذلك إدخال الرجل الأجنبى إصبعه فى فرج امرأة، ولكن كلا الفعلين معصية فيه التعزير على الرجل والمرأة سواء حدث إنزال أو لم يحدث.
أما استمناء الرجل بيده - ويسمى بالخضخضة وجلد عميرة - فمختلف فيه فالمالكيون والشافعيون يحرمونه مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون5: 7] ، فالرجل المسلم مطالب بحفظ فرجه إلا على اثنين زوجه وملك يمينه، فإن التمس لفرجه منكحًا سوى زوجته وملك يمينه فهو من العادين؛ أى المجاوزين ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، وعلى هذا مذهب الزيدين.
ويحرم الحنفيون الاستمناء إذا كان لاستجلاب الشهوة، إما إذا غلبت الشهوة الرجل ولم يكن له زوجة ولا أمة فاستمنى بقصد تسكينها فالرجاء أنه لا وبال عليه، ويجب الاستمناء عندهم إذا خيف الوقوع فى الزنا بدونه.
والحنابلة لا يرون شيئًا على من استمنى بيده خوفًا من الزنا أو خوفًا على بدنه أى صحته إذا لم يكن له زوجة أو أمة ولم يقدر على الزواج وإلا حرم الاستمناء.
ويرى ابن حزم أن الاستمناء مكروه ولا إثم فيه لأن مس الرجل ذكره بشماله مباح بإجماع الأمة كلها، فإذا هو مباح فليس هنالك زيادة على المباح
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص150، نهاية المحتاج ج7 ص404، المهذب ج2 ص286، المغنى ج10 ص162، المحلى ج11 ص390، شرح الأزهار ج4 ص336.(2/369)
إلا التعمد لنزول المنى فليس ذلك حرامًا أصلا لقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، وليس هذا ما فصل لنا تحريمه فهو حلال لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] .
ويقول ابن حزم: إنه يكره الاستمناء لأنه ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفضائل. وروى لنا أن الناس تكلموا فى الاستمناء فكرهته طائفة وأباحته أخرى، وممن كرهه ابن عمر وعطاء وممن أباحه ابن عباس والحسن وبعض كبار التابعين، وقال الحسن: كانوا يفعلونه فى المغازى، وقال مجاهد: كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون بذلك.
وما قيل فى استمناء الرجل يقال عن المرأة إذا عرضت فرجها شيئًا دون أن تدخله حتى ينزل أو مست فرجها بشمالها حتى ينزل، والحكم فى ذلك هو حكم الاستمناء فى المذاهب المختلفة (1) .
503 - العجز عن ادعاء الشبهة: يرى أبو حنيفة أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة يعتبر بذاته شبهة دارئة للحد، فالزانى الأخرس والزانية لا يحدان ولو ثبت الزنا ضدهما بشهادة الشهود، لأنهما يعجزان عن ادعاء الشبهة، ومن المحتمل أن يدعياها لو استطاعا النطق، وكذلك الشأن فى المجنون الذى زنا حال إفاقته، بل يذهب أبو حنيفة إلى أن الأخرس لا يحد بإقراره إذا أقر كتابة أو إشارة، لأن الإقرار المعتبر عنده هو الإقرار بالخطاب والعبارة دون الكتابة والإشارة، فلو كتب الأخرس الإقرار فى كتاب أو أشار إشارة معلومة فإنه لا حد عليه، لأن الشرع
_________
(1) راجع فى كل ما سبق: حاشية ابن عابدين [ج7 ص215] ، شرح فتح القدير [ج4 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص125] ، المهذب [ج2 ص286] ، الأحكام السلطانية للماوردى [ص206] ، الإقناع [ج4 ص271] ، المحلى [ج11 ص293] ، شرح الأزهار [ج4 ص336 = =وج2 ص197] . وراجع أيضًا: تفسير ابن كثير [ج3 ص239] ، تفسير المحيط لأبى حيان [ج6 ص397] ، تفسير الآلوسى [ج5 ص486] ، تفسير روح البيان [ج4 ص61] ، تفسير القرطبى [ج12 ص105] ، تفسير الطبرى [ج18 ص6] .(2/370)
علق وجوب الحد على البيان المتناهى، والبيان لا يتناهى إلا بالصريح وهو الخطاب والعبارة، ولا يتناهى بالكتابة والإشارة (1) .
ويرى الزيديون ما يراه أبو حنيفة من أن الخرس والجنون شبهة تدرأ الحد، ولكنهم يرون أن إقرار الأخرس صحيح إذا فهمت إشارته أو كان إقراره كتابة (2) .
وعند المالكين والشافعيين والحنابلة أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة لا يعتبر شبهة، ويقولون بحد الأخرس والمجنون إذا ثبت الزنا بالبينة، كذلك يقبلون إقرار الأخرس بالكتابة وإقراره بالإشارة كلما أمكن فهم إشارته دون شك فيها (3) .
ويرى الظاهريون أنه إذا كانت البينة فلا معنى للإنكار ولا للإقرار (4) . وهم فوق هذا لا يعترفون بالشبهة ولا يرون درء الحدود بالشبهات، ومقتضى هذين المبدأين أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة لا أثر له على الحد.
504 - إنكار أحد الزانيين: يرى أبو حنيفة أن إنكار أحد الزانيين يعتبر شبهة إذا أقر الآخر ولم يكن دليل غير الإقرار، فلا يعاقب المنكر لأنه لا دليل عليه إلا إقرار المتهم الآخر والإقرار حجة قاصرة على المقر. ولا يحد المقر لأننا صدقنا المنكر فى إنكاره فصار المقر محكومًا بكذبه، وتعليل ذلك أن الحد انتفى فى حق المنكر بدليل موجب للنفى عنه فأورث شبهة الانتفاء فى حق المقر، إذ الزنا فعل واحد لا يقع إلا من شخصين فإن تمكنت فيه الشبهة نفذت إلى طرفيه، وهذا لأن المقر بالزنا ما أقر بالزنا مطلقًا وإنما أقر بالزنا مع آخر منكر فإذا درأ الشرع عن هذا الآخر عين ما أقر به المقر فيندرئ الفعل عن المقر ضرورة.
ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان ما يراه مالك والشافعى وأحمد والزيديون
_________
(1) بدائع الصنائع [ج7 ص50] ، شرح فتح القدير [ج4 ص117] .
(2) شرح الأزهار [ج4 ص159، 350] .
(3) نهاية المحتاج [ج7 ص410] ، تبصرة الحكام [ج2 ص71] ، المغنى [ج10 ص171] .
(4) المحلى [ج8 ص250] .(2/371)
من أن المقر يحد بإقراره، ولا يؤثر على عقوبته إنكار الطرف الآخر، لأن الإقرار حجة فى حق المقر، وعدم ثبوت الزنا فى حق المنكر لا يورث شبهة العدم فى حق المقر.
أما الظاهريون فعندهم أن إنكار أحد الزانيين لا يؤثر على عقوبة المقر، لأنهم لا يسقطون الحد بالشبهة، ولأن القعدة عندهم أن من أقر إقرارًا تامًا بحق فى مال أو دم أو بشرة، وكان عاقلاً بالغًا غير مكره ولم يصل إقراره بما يفسده، فقد لزمه إقراره ولا رجوع له بعد ذلك، فإن رجع لم ينتفع برجوعه، وقد لزمه ما أقر به على نفسه من دم أو حد أو مال (1) .
505 - ادعاء أحد الطرفين الزوجية: وإذا أقر أحد الطرفين بالزنا فادعى الطرف الآخر الزوجية، فيرى أبو حنيفة وأحمد أن لا يحد منهما لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق، وبتقدير صدق مدعى النكاح منهما يكون ادعاء النكاح شبهة، ويسقط الحد لاحتمال صدق دعوى النكاح.
ويرى مالك والشافعى حد المقر ما لم يثبت قيام الزوجية، وأصول الظاهرين والزيديين تقتضى الأخذ بهذا الرأى (2) .
وإذا ضبط شخص يطأ امرأة فادعى الرجل والمرأة الزوجية فالقول قولهما على ما يرى جمهور الفقهاء ما لم يشهد الشهود بزناهما، إلا أن مالكًا يوجب عليهما أن يثبتا الزوجية.
فإذا شهد الشهود بزناهما فلا يسقط ادعاء الزوجية الحد إلا إذا أقاما البينة
_________
(1) تبصرة الحكام [ج2 ص38] ، شرح فتح القدير [ج4 ص120، 158] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص168] ، المحلى [ج8 ص520 وج11 ص153] ، شرح الأزهار [ج4 ص348] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص158] ، المغنى [ج10 ص158] ، المرفقة [ج16 ص3، 41] ، أسنى المطالب <4 ص134] .(2/372)
على النكاح؛ لأن الشهادة بالزنا تنفى كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما، ويرى البعض إسقاط الحد إذا لم يعلم كونها أجنبية عنه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة (1) .
ويرى ابن حزم التفريق بين ما إذا كانا غريبين أو معروفين، فإن كانا غريبين أو لا يعرفان فلا شئ عليهما، ولا يعرض لهما ولو قامت البينة على الوطء، ولا يكلفان إقامة البينة على النكاح. وإن كانت المرأة معروفة ومعروف أن لا زوج لها فإن أمكن ما يقول الواطئ فلا شئ عليهما، لأن أصل دمائهما وأبشارهما على التحريم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" (2) ، فلا يجوز إباحة ما حرم الله إلا بتعيين لا شك فيه، وإن كان كذبهما متيقنًا فالحد واجب عليهما (3) .
506 - بقاء البكارة: وعدم زوال البكارة يعتبر شبهة فى حق المشهود عليها بالزنا عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية، فإذا شهد أربعة على امرأة بالزنا، وشهد ثقات من النساء بأنها عذراء، فلا حد عليها للشبهة ولا حد على الشهود.
ولكن مالكًا يرى الحد على المرأة، لأن المثبت مقدم عنده عن النافى، ولأن من المحتمل أن يحصل الوطء دون أن يترتب عليه إزالة البكارة، ولزفر صاحب أبى حنيفة رأى مماثل، هو أيضًا رأى الظاهريين، ولكن ابن حزم الظاهرى يرى أن الحكم يختلف بحسب ما يقرر النساء على صفة عذرتها، فإن قلن إنها عذرة يبطلها إيلاج الحشفة ولابد وأنه صفاق عند باب الفرج فقد أيقنا بكذب الشهود وأنهم وهموا، فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم، وإن قلن إنها عذرة واغلة فى داخل الفرج لا يبطلها إيلاج الحشفة فقد أمكن صدق الشهود إذ
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص58] ، المغنى [ج10 ص162] .
(2) رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
(3) المحلى [ج11 ص242، 244] .(2/373)
بإيلاج الحشفة يجب الحد فيقام الحد عليها، لأنه لم نتيقن كذب الشهود ولا وهمهم (1) .
وسواء سقط الحد بالشبهة أو باليقين من أن الإيلاج يزيل البكارة فإنه يبقى بعد ذلك أن الفعل الذى شهد عليه الشهود معصية يجب فيها التعزير.
الركن الثانى: تعمد الوطء
507 - يشترط فى جريمة الزنا أن يتوفر لدى الزانى أو الزانية نية العمد أو القصد الجنائى: ويعتبر القصد الجنائى متوفرًا إذا ارتكب الزانى الفعل وهو عالم أنه يطأ امرأة محرمة عليه، أو إذا مكنت الزانية من نفسها وهى تعلم أن من يطأها محرم عليها.
فإن أتى أحدهما الفعل متعمدًا وهو لا يعلم بالتحريم فلا حد عليه، كمن زُفَّت إليه غير زوجته فوطئها على أنها زوجته، أو كمن زفت إلى غير زوجها فمكنته من نفسها معتقدة أنه زوجها، وكمن وجد فى فراشه امرأة فوطئها معتقدًا أنه زوجها، وكمن تزوجت ولها زوج آخر كتمته عن زوجها الأخير فلا مسئولية على الزوج الأخير ما دام لا يعلم بالزواج الأول، وكمن مكنت مطلقها طلاقًا بائنًا من نفسها وهى لا تعلم أنه طلقها.
ويشترط أن يعاصر القصد الجنائى إتيان الفعل المحرم، فمن قصد أن يزنى بامرأة ثم تصادف أن وجدها فى فراشه فأتاها على أنها امرأته لا يعتبر زانيًا لانعدام القصد الجنائى وقت الفعل، كذلك لو قصد إتيان امرأة أجنبية فأخطأها وأتى امرأته فإنه لا يعتبر زانيًا ولو كان يعتقد أنه يأتى الأجنبية لأن الوطء الذى حدث غير محرم.
والأصل فى الشريعة الإسلامية أنه لا يحتج فى دار الإسلام بجهل الأحكام (2) ،
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، حاشية ابن عابدين [ج3 ص220] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص189] ، المحلى [ج11 ص263] ، شرح الأزهار [ج4 ص350] .
(2) راجع مبحث "أثر الجهل على المسئولية" فى الجزء الأول من كتاب التشريع الجنائى [ص373] وما بعدها.(2/374)
فلا يقبل من أحد أن يحتج بجهل تحريم الزنا، وبالتالى انعدم القصد الجنائى، ولكن الفقهاء يبيحون استثناء الاحتجاج بجهل الأحكام بمن لم تيسر له ظروفه أن يجهل التحريم، أو كمجنون أفاق وزنا قبل أن يعلم بتحريم الزنا، ففى هاتين الحالتين وأمثالهما يكون الجهل بالأحكام علة لانعدام القصد الجنائى (1) .
وإذا ادعى الجانى الجهل بفساد نوع من أنواع النكاح أو ببطلانه مما يعتبر الوطء فيه زنًا، فيرى البعض أن لا يقبل احتجاجه بجهل الحكم، لأن فتح هذا الباب يؤدى إلى إسقاط الحد، ولأن المفروض فى كل فرد أن يعلم ما حرم عليه. ويرى البعض قبول الاحتجاج لأن معرفة الحكم تحتاج لفقه وتخفى على غير أهل العلم، وأصحاب هذا الرأى الأخير يجعلون الجهل بالحكم شبهة تدرأ الحد عن الجانى ولا تعفيه من عقوبة التعزير، ومما يؤثر من قضاء الصحابة فى هذا الباب أن امرأة تزوجت فى عدتها على عهد عمر رضى الله عنه، فلما عرض عليه الأمر قال: هل علمتما؟ فقالا: لا. فقال: لو علمتما لرجمتكما، فجلدهما أسواطًا ثم فرق بينهما. وأتت امرأة إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه فقالت: إن زوجى زنا بجاريتى. فقال الزوج: صدقت هى ومالها لى حل، فدرأ علىٌّ عن الرجل الحد بادعاء الجهالة (2) .
ويلاحظ أن هناك فرقًا بين قبول الاحتجاج بجهل تحريم الزنا وقبول الاحتجاج بجهل فساد النكاح أو بطلانه، فقبول الاحتجاج الأول يؤدى إلى إعفاء الجانى من العقوبة على أساس انعدام قصده الجنائى، وقبول الاحتجاج الثانى عند من يقبله لا يعدم القصد الجنائى وإنما يقوم الاحتجاج شبهة تؤدى إلى درء الحد ولا تمنع من عقوبة التعزير.
* * *
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص78] ، شرح فتح القدير [ج4 ص116] ، المهذب [ج2 ص384] ، المغنى [ج10 ص156] ، المحلى [ج11 ص178] ، شرح الأزهار [ج4 ص348] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص147] ، المهذب [ج2 ص285] ، المغنى [ج10 ص156] ، المحلى [ج11 ص188] .(2/375)
الفصل الثانى
عقوبة الزنا
508 - التطور التشريعى لعقوبة الزنا: كانت عقوبة الزنا فى صدر الإسلام الحبس فى البيوت، والإيذاء بالتعيير أو الضرب، والأصل فى ذلك قوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 15، 16] .
وقد اختلف الفقهاء فى تفسير هذين النصين، فرأى لبعض أن النص الأول جاء بحكم النساء فقط وليس فيه حكم الرجال، وأن النص الثانى عطف على النص الأول عطفًا متصلاً بقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} ، فكان هذا حكمًا زائدًا للرجال مضافًا إلى ما قبله من حكم النساء، وعلى هذا فحكم النساء الزوانى كان الحبس فى البيوت حتى يَمُتْنَ أو يجعل الله لهن سبيلاً بحكم آخر، وحكم الرجال الزناة كان الأذى (1) .
ورأى البعض أن النص الأول مبين لعقوبة الثيب، وأن النص يبين عقوبة البكر، وحجتهم أن المراد بقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: من الآية15] الثيب؛ لأن قوله من نسائكم إضافة زوجية كقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ، ولا فائدة نعلمها فى إضافته ههنا إلا اعتبار الثيوبة، كذلك فإن النصين قد جاءا بعقوبتين إحداهما أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والأخرى للأبكار كالرجم والجلد (2) .
_________
(1) المحلى [ج11 ص229 [وما بعدها.
(2) المغنى [ج10 ص119] .(2/376)
وهناك فريق ثالث رأى أن النص الثانى وهو قوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: من الآية16] ناسخ لقوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: من الآية15] ، والقائلون بهذا الرأى يحملون قوله عز وجل: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} على أن المراد به الزانى والزانية (1) .
ومن المتفق عليه أن هذين النصين نسخا بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2، 3] ، وبقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والشيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" (2) .
وقد استقر الحكم بعد ذلك على جلد غير المحصن وتغريبه مع خلاف فى التغريب، وعلى رجم المحصن دون جلده مع خلاف فى الجلد، وسنتعرض لهذه الخلافات فيما بعد.
وعقوبة الرجم مسلَّم بها من جميع المسلمين، ولا ينكرها إلا طائفة الأزارقة من الخوارج، لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن فى حد التواتر، على أن الرجم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل.
فأما قوله فهو: أ - ما ذكرنا: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً ... . إلخ".
ب - ما رواه أبو هريرة وزيد بن خالد قالا: "إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لى بكتاب الله، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل، قال: إن ابنى كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته وإنى أخبرت أن على ابنى الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبرونى أن على ابنى جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله
_________
(1) المحلى [ج11 ص229] .
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.(2/377)
- صلى الله عليه وسلم -: والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغْدُ يا أُنَيَسْ - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت بأمرها فأمرها فأمر بها رسول اله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت" (1) .
جـ - ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (2) .
وأما فعله: فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز والغامدية، كما أمر برجم يهوديين زنيا، وذلك كله ثابت مما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -:
أ - فقد روى أبو هريرة قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى المسجد فناده فقال: يا رسول إنى زنيت، فأعرض عنه حتى ردد أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به فارجموه. قال ابن شهاب: فأخبرنى من سمع من جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه" (3) .
ب - وروى سليمان بن بريدة عن أبيه، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرنى، فقال: "ويحك ارجعى فاستغفرى الله وتوبى إليه، فقالت: أراك تريد أن تردَّنى كما رددت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، قال: أنت؟ قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعى ما فى بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية؟ فقال: إذن لا ترجمها وتدع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلىَّ رضاعه يا نبى الله، قال: فرجمها" (4) .
_________
(1) رواه الجماعة.
(2) رواه الجماعة.
(3) متفق عليه.
(4) رواه مسلم والدار قطنى.(2/378)
جـ - وروى ابن عمر أن اليهود أتوا النبى - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: "ما تجدون فى كتابكم؟ فقالوا: نسخم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وجاءوا بقارئ لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هى تلوح، فقال- أو قالوا -: يا محمد فيها الرجم، ولكننا كنا نتكاتمه فيما بيننا، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما، قال: فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه" (1) .
وإذا كان الشارع قد فرق فى العقوبة بين المحصن وغير المحصن، فذلك لأن المحصن إذا زنا بعد أن توفرت موانع الزنا لديه كان زناه فى غاية القبح، ووجب أن تكون عقوبته فى غاية الشدة.
ونلخص مما سبق أن عقوبة الزنا نوعان:
(1) عقوبة البكر. ... ... ... (2) عقوبة المحصن.
* * *
المبحث الأول
عقوبة البكر
509 - عقاب البكر الزانى: إذا زنا البكر سواء كان رجلاً أو امرأة عوقب بعقوبتين: أولاهما الجلد، والثانية التغريب، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (2) .
ويلاحظ أن الشريعة تفرق بين عقوبة الأحرار وعقوبة الأرقاء فى الزنا، فتخفف عقوبة الرقيق وتشدد عقوبة الحر، مراعية فى ذلك ظروف كل منهما، ولكننا لن نتعرض هنا إلا للعقوبة المقررة للأحرار ناظرين فى ذلك إلى أن الرق ألغى فى كل أنحاء العالم، وأن لا حاجة تدعو إلى بيان عقوبة الرقيق.
510 - أولا: عقوبة الجلد: إذا زنا البكر عوقب بالجلد مائة جلدة
_________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.(2/379)
لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (1) .
وعقوبة الجلد حد، أى عقوبة مقدرة، فليس للقاضى أن ينقص منها أو يزيد فيها لأى سبب من الأسباب أو ظرف من الظروف، وليس له أن يوقف تنفيذها أو أن يستبدل بها غيرها، كما أن ولى الأمر لا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك العفو عنها كلها أو بعضها.
وسنتكلم عن طريقة الجلد وشروطه عند الكلام على تنفيذ العقوبة.
511 - ثانيًا: التغريب: إذا زنا البكر جلد مائة جلدة وغرب عامًا، والتغريب هو العقوبة الثانية للزانى، ولكن الفقهاء يختلفون فى وجوبها.
فأبو حنيفة وأصحابه يرون أن التغريب ليس واجبًا، ولكنهم يجيزون للإمام أن يجمع بين الجلد والتغريب إن رأى فى ذلك مصلحة، فعقوبة التغريب عندهم ليست حدًا كالجلد وإنما هى عقوبة تعزيرية، ومن هذا الرأى الشيعة الزيدية (2) .
ويرى مالك والشافعى وأحمد وجوب الجمع بين الجلد والتغريب، ويعتبرون التغريب حدًا كالجلد، وحجتهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"، وما روى عن عمر وعلىَّ أنهما جلدا وغربَّا ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة فصار عملهما إجماعًا (3) .
ومن يرى هذا الرأى الظاهريون فإنهم يرون التغريب حدًا بتصريح النص (4) .
512 - تغريب المرأة: ويرى مالك أن التغريب جعل للرجل دون المرأة، لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأن الأمر لا يخلو إن غُرِّبت أن تُغرَّب ومعها مَحرَم
_________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
(2) بدائع الصنائع [ج7 ص39] ، شرح فتح القدير [ج4 ص134، 136] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] .
(3) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المهذب [ج2 ص284] ، المغنى [ج10 ص133] .
(4) المحلى [ج11 ص183، 188] .(2/380)
أو أن تغرب دون محرم، والأصل أنه لا يجوز أن تغرب دون محرم، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذى محرم"، ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وإن غربت بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفى من لا ذنب له، وإن كُلِّفت بحمل أجرته ففى ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد به الشرع، وبما لا يمكن أن يحدث مثله للرجل.
ولهذا يخصص المالكيون الخبر الوارد فى التغريب، ويجعلونه فى حق الرجل دون المرأة، إذ يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه على أنه ليس على الزانى أكثر من العقوبة المذكورة فيه، ووجوب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك، وفضلاً عما سبق فإن العمل بعموم النص يؤدى إلى فوات حكمته؛ لأن الحد وجب زجرًا عن الزنا، وفى تغريبها إغراء به وتمكين منه (1) .
ويرى الشافعى وأحمد والظاهريون أن التغريب عقوبة واجبة على كل من الرجل والمرأة (2) .
513 - ماهية التغريب: اختلف الفقهاء فى ماهية التغريب، فقال مالك وأبو حنيفة إن التغريب معناه الحبس، فيحبس المغرَّب فى البلد الذى يغرب إليه مدة لا تزيد على سنة، فالتغريب عند المالكيين والحنفيين معناه الحبس فى بلد غير البلد الذى وقعت فيه الجريمة، ومن هذا الرأى الزيديون (3) .
ويرى الشافعى وأحمد أن التغريب معناه النفى من البلد الذى حدث فيه الزنا إلى بلد آخر، على أن يراقب المغرَّب بحيث بالمراقبة فى البلد الذى غرب إليه، ولا يحبس فيه، فالتغريب عند الشفعيين والحنابلة هو الوضع تحت المراقبة
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المغنى [ج10 ص133] .
(2) أسنى المطالب [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص134] ، المحلى [ج11 ص332] .
(3) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، شرح فتح القدير [ج4 ص270] ، حاشية ابن عابدين [ج3 ص203] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] .(2/381)
فى بلد آخر (1) . ومن هذا الرأى الظاهريون (2) .
ويشترط بعض الفقهاء فى التغريب أن يكون لمسافة لا تقل عن مسافة القصر (3) . ويرى البعض أن يكون النفى من عمل الحاكم إلى عمل غيره دون التقيد بمسافة معينة، فلو نفى إلى قرية تبعد عن محل الحادث ميلاً لكفى، كما يجوز أن ينفى من مصر إلى مصر لأن النفى ورد مطلقًا فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم (4) .
والمقصود من المراقبة أن يمنع الزانى من العودة إلى بلدة قبل انتهاء المدة، أو إلى ما دون مسافة القصر على رأى البعض، ويرى البعض أن المراقبة مقصود بها إلزام المغرَّب بالإقامة فى البلد المغرب إليه، فلا يُمكَّن من الضرب فى الأرض (5) .
وإذا كانت القاعدة عند الشافعيين أن التغريب معناه النفى إلا أنهم يجيزون حبس المغرَّب إذا خيف رجوعه إلى البلد الذى غرب منه (6) .
ويرى الشافعيون إعادة تغريب المغرب إذا رجع إلى البلد الذى غرب منه، على أن تستأنف المدة من جديد ليتوالى الإيحاش وحتى لا تفرق السنة (7) . أما الحنابلة فيرون إعادة التغريب فى حالة الرجوع على أن يبنى على مدة التغريب السابقة بحيث يعاد تغريبه ليكمل ما بقى من الحول لا ليبدأ حولاً جديدًا (8) .
وإذا زنا المغرَّب فى البلد الذى غرب إليه جلد، وغرب إلى بلد آخر، ودخلت المدة الباقية من التغريب الأول فى مدة التغريب الثانية لتجانس الحدين. وهذا متفق عليه فى مذهب مالك والشافعى وأحمد، ولكن الظاهريين يرون أن
_________
(1) أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المغنى [ج10 ص136] .
(2) المحلى [ج11 ص182] .
(3) مسافة القصر مختلف عليها، مذهب مالك والشافعى وأحمد وآخرون إلى أن الصلاة تقصر فى أربعة برد وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط، وقال أبو حنيفة والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاث أيام، وقال الظاهريون: إن المسافة ميل فأكثر. بداية المجتهد [ج1 ص131] ، المحلى [ج5 ص1] وما بعدها.
(4) أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المهذب [ج2 ص288] ، المغنى [ج10 ص136] .
(5) أسنى المطالب [ج4 ص130] .
(6) أسنى المطالب [ج4 ص130] :
(7) أسنى المطالب [ج4 ص130] .
(8) الإقناع [ج4 ص252] .(2/382)
تستتم مدة التغريب الأولى ثم تبدأ فى الثانية (1) ؛ لأن القاعدة عندهم أن ما وجب من حد لا يجزئ عنه حد آخر.
وإذا زنا الغريب غُرِّب إلى غير بلده، وإذا زنا فى البلد الذى غرب إليه غرب إلى بلد آخر غير الذى غرب منه، ويرى بعض المالكيين أن سجن الغريب فى البلدة التى زنا فيها يعتبر تغريبًا له، ولكن الشافعيين والحنابلة يشترطون أن يُغرَّب عنها (2) .
* * *
المبحث الثانى
عقوبة المحصن
514 - تشديد عقوبة المحصن: فرقت الشريعة بين المحصن والبكر فى عقوبة الزنا، وخففت عقوبة البكر وشددت عقوبة المحصن، وجعلت عقوبة البكر الجلد والتغريب وعقوبة المحصن الجلد والرجم، ومعنى الرجم القتل رميًا بالحجارة وما أشبهه.
وعلة التخفيف على البكر هى علة التشديد على المحصن، فالشريعة الإسلامية تقوم على الفضيلة وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وتوجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلا وهو الزواج، كما توجب عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوة فعقابه أن يجلد مائة جلدة ويُغرَّب سنة، وشفيعه فى هذه العقوبة الخفيفة تأخيره فى الزواج الذى أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن ثم أتى الجريمة فعقوبته الجلد والرجم، لأن الإحصان يسد الباب على الجريمة، ولأن الشريعة لم تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة، فلم تجعل الزواج أبديًا حتى لا يقع
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، أسنى المطالب [ج4 ص130] ، الإقناع [ج4 ص252] ، المحلى [ج11 ص134] .
(2) نفس المراجع السابقة.(2/383)
فى الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن تجعل العصمة فى يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق فى كل وقت، وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن، وبهذا فتحت الشريعة للمحصن أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام، فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التى تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع أن تنقطع المعاذير التى تدعو لتخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بعقوبة الاستئصال التى لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح.
515 - الرجم: فأما الرجم فعقوبة معترف بها من جميع الفقهاء إلا طائفة الأزارقة من الخوارج لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن فى حد التواتر، وعندهم أن عقوبة المحصن وغير المحصن هى الجلد مستندين لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .
والرجم هو قتل الزانى رميًا بالحجارة وما أشبهها.
والأصل فى الرجم كما بينا (1) هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فالرجم إذن سنة قولية وسنة فعلية فى وقت واحد.
516 - الجلد: والجلد هى العقوبة الثانية للزانى المحصن طبقًا للنصوص: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" (2) .
لكن الفقهاء يختلفون على ما إذا كانت عقوبة المحصن هى الرجم وحده، أو هى الرجم والجلد معًا.
وحجة القائلين بالجلد مع الرجم أن القرآن جعل الجلد عقوبة أساسية للزنا، وذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ثم جاءت السنة بالرجم فى حق الثيب، والتغريب فى حق البكر، فوجب الجمع
_________
(1) تراجع الفقرة [508] وما كتبناه عن التطور التشريعى لعقوبة الزنا.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى.(2/384)
بينهما، وقد فعل ذلك على بن أبى طالب حيث جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديث الرسول صريح فى الجمع بين الجلد والرجم: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة"، وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله، وإذا كان نص الحديث قد جعل للبكر عقوبتين الجلد والتغريب، وجعل للمحصن عقوبتين الجلد والرجم، وقد سلمنا بعقوبتى البكر، فقد وجب التسليم بعقوبتى الثيب، فيجلد أولاً ثم يرجم ثانيًا، وبهذا الرأى قال بعض الفقهاء، منهم الحسن وإسحاق وابن منذر، وعليه مذهب الظاهريين والشيعة الزيدية، وهو رواية فى مذهب أحمد (1) .
وحجة القائلين بأن العقوبة هى الرجم دون الجلد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية ورجم يهوديين، ولم يرد عنه أنه جلد واحدًا منهم، وأن الرسول فى حادث العسيف قال: "اغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا اعترفت فارجمها" (2) ، ولم يأمر بجلدها، وكان هذا آخر الأمرين من رسول الله فوجب تقديمه. هذا من جهة النصوص. أما من جهة المعنى فإن القاعدة العامة أن الحد الأصغر ينطوى فى الحد الأكبر؛ لأن الحد إنما وضع لزجر، ولا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وأصحاب هذا الرأى هم جمهور الفقهاء. هم يسلمون بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم يعتبون الجلد منسوخًا أو داخلاً فى الرجم، ومن أصحاب هذا الرأى مالك وأبو حنيفة والشافعى، وهو رواية عن أحمد (3) .
وهناك رأى ثالث يرى أصحابه أن الثيب إن كان شيخًا جُلد ورُجم، وإن كان شيبًا رُجم ولم يجلد؛ لما روى عن أبى ذر قال: "الشيخان يجلدان ويرجمان، والثيبان يرجمان، والبكران يجلدان وينفيان" (4) ، وعن أبى بن كعب ومسروق مثل
_________
(1) بداية المجتهد [ج2 ص363] ، المغنى [ج10 ص124] ، المحلى [ج11 ص233] وما بعدها، شرح الأزهار [ج4 ص2244] .
(2) رواه الجماعة.
(3) بداية المجتهد [ج2 ص363] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص133] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص125] .
(4) المحلى [ج11 ص234] .(2/385)
هذا (1) . ولعل أساس هذا الرأى أن زنا الشيخ مذموم، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" (2) .
517 - حالات مختلفة على عقوبتها: وهناك حالات بعينها مختلف على العقوبة الواجبة فيها، ويرجع هذا إما إلى الاختلاف على تكييف هذه الحالات، وإما إلى الاختلاف على النصوص التى تحكمها، وسنتكلم على هذه الحالات فيما يلى:
518 - حالة اللواط: يترتب على اعتبار اللواط زنًا أن يعاقب عليه بعقوبة الزنا، ولكن القائلين باعتبار اللواط زنًا اختلفوا فى عقوبته:
فقال مالك: إن عقوبة اللواط الرجم مطلقًا سواء الفاعل والمفعول به محصنين أو غير محصنين (3) .
وفى مذهب الشافعى وأحمد ثلاثة آراء (4) :
أولها: أن اللواط حكمه حكم الزنا، فيعاقب اللائط والملوط به بعقوبة الزنا، فمن كان محصنًا رجم ومن لم يكن محصنًا جُلد وغُرِّب. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو موسى الأشعرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" (5) ؛ ولأنه حد يوجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب.
ثانيها: أن اللائط هو الذى يرجم أما الملوط به فلا يرجم وإنما يُجلد ويُغرَّب فى كل الأحوال، سواء كان ذكرًا أو أنثى محصنًا أو غير محصن؛ لأن الإحصان
_________
(1) المحلى [ج11 ص234] .
(2) رواه مسلم والنسائى.
(3) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، مواهب الجليل [ج6 ص296] .
(4) نهاية المحتاج [ج7 ص403، 404] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] ، المهذب [ج2 ص285] ، المغنى [ج10 ص161] ، الإقناع [ج4 ص253] .
(5) أخرجه البيهقى وأبو داود والطيالسى، وراجع: نيل الأوطار [ج7 ص30] .(2/386)
جعل للقُبُل وهو يؤتى فى الدُبر ولا يتصور فى الدبر إحصان. وعلى هذا فالملوط به إذا اعتبر فعله زنًا فهو زنًا من غير محصن ما دام الإحصان لم يجعل للدبر.
ثالثها: أن عقوبة اللائط والملوط به القتل فى كل حال، أى سواء كان محصنًا أو غير محصن. وفى قتله رأيان: رأى يرى القتل رجمًا. ورأى يرى القتل بالسيف. وحجة القائلين بالقتل ما رواه ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (1) ، وقد كان إطلاق القتل فى الحديث حجة لمن قال بأن القتل يكون بالسيف فى كل حال. وفسر آخرون القتل بالرجم لأنه وطء يجب به الحد، فكان القتل بالرجم كما هو الحال فى الزنا.
ويرى أبو حنيفة أن اللواط ليس زنًا فلا يعاقب عليه بعقوبة الزنا وإنما يعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، ولا مانع عند أبى حنيفة من أن يحبس حتى يموت أو يتوب، وإذا اعتاد اللواط يقتل سياسة لا حدًا، أما أبو يوسف ومحمد فيريان اللواط زنًا يعاقب عليه بعقوبة الزنا فيجلد من لم يحصن ويرجم المحصن (2) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان: أحدهما أن حكم اللواط هو حكم الزنا، فيرجم المحصن، ويجلد من لم يحصن. والثانى أن يقتل الفاعل والمفعول به فى كل حال (3) .
أما الظاهريون فيرون اللواط شيئًا آخر غير الزنا، فهو معصية يُعزَّر عليها (4) .
519 - حالة وطء المحارم: يرى جمهور الفقهاء أن من وطئ محرمًا عوقب بعقوبة الزانى فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب. ولكن بعضهم يرى - وهو رأى لأحمد - (5) أن من وطئ ذات محرم حده القتل فى كل حال؛
_________
(1) رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه والبيهقى.
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص150] ، بدائع الصنائع [ج7 ص24] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص336] .
(4) المحلى [ج11 ص285] .
(5) المغنى [ج10 ص153] .(2/387)
لما رواه البراء قال: "لقيت عمى ومعه الراية فقلت: إلى أين تريد؟ قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل ينكح امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه وآخذ ماله" (1) ، ولما رواه الجورجانى وابن ماجه بإسنادهما عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه" (2) .
ويرى الظاهريون أن من وقع على امرأة أبيه بعقد أو بغير عقد فإنه يقتل محصنًا كان أو غير محصن، وبخمس ماله، وساء كانت أمه أو غير أمه، دخل بها أبوه أو لم يدخل. وأما من وقع على غير امرأة أبيه من سائر ذوات محارمه بصهر أو رضاع فهو زان وعليه حد الزنا فقط (3) ، وعلة ذلك أن امرأة الأب ورد فيها نص صريح هو حديث البراء، أما من عداها من المحارم فلم يصح فى شأنهن نص خاص، فمن وقع على واحدة منهن كان زانيًا طبقًا للنصوص العامة.
520 - حالة وطء البهائم: لا يعتبر وطء البهائم والحيوانات على العموم زنًا عند مالك وأبى حنيفة والظاهريين، وإنما هو معصية فيها التعزير. وكذلك الحكم فى تمكين المرأة حيوانًا من نفسها. وعلى هذا الرأى الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد (4) .
أما الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى وأحمد فيرى أصحابه أن الفعل يعتبر زنًا ولكنه يعاقب عليه بالقتل فى كل الأحوال (5) ، لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوه البهيمة" (6) .
وبعض الشافعيين يعتبر الفعل زنًا قياسًا على إتيان الرجل المرأة، ويجعلون
_________
(1) رواه الخمسة، راجع: نيل الأوطار [ج7 ص28] .
(2) راجع: نيل الأوطار [ج7 ص31] .
(3) المحلى [ج11 ص256] .
(4) شرح الزرقانى [ج8 ص78] ، شرح فتح القدير [ج4 ص152] ، المحلى [ج11 ص386، 388] .
(5) المغنى [ج10 ص163] ، نهاية المحتاج [ج7 ص405] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .
(6) رواه أحمد وأبو داود والترمذى.(2/388)
عقوبة المحصن الرجم وعقوبة غير المحصن الجلد والتغريب (1) . وهذا الذى يراه بعض الشافعيين هو الرأى الراجح فى مذهب الشيعة الزيدية، وإن كان بعضهم يرى ما يراه مالك وأبو حنيفة (2) .
ويرى الشافعيون والحنابلة أن المرأة التى تمكِّن من نفسها حيوانًا عليها ما على واطئ البهيمة (3) ، وإن كان بعض الشافعيين يصرحون بأنه ليس على المرأة إلا التعزير (4) .
* * *
المبحث الثالث
الإحصان
521 - الإحصان شرط الرجم: رأينا فيما سبق أن الشريعة الإسلامية تفرق فى العقوبة بين المحصن وغير المحصن، وتعاقب الأول بالرجم دون الثانى، ومعنى هذا أن الشريعة تجعل الإحصان شرطًا للرجم، فإذا انعدم الإحصان امتنع الرجم.
وإذا كان الإحصان شرطًا فى الرجم، فإن الإحصان فى نفس الوقت مجموعة شروط تكون هيئة واحدة أو مجموعة أجزاء لعلة واحدة، وكل واحد من هذه المجموعة يعتبر بذاته شرطًا أو علة لوجوب الرجم.
522 - معنى الإحصان: الإحصان لغة معناه: الدخول فى الحصن أو المنع، قال تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] ، ويقال: أحصن إذا دخل فى الحصن.
وللإحصان فى القرآن أكثر من معنى، فقد جاء بمعنى التزويج فى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، وجاء بمعنى الحرية فى
_________
(1) نهاية المحتاج [ج7 ص405] .
(2) شرح الأزهار [ج4 ص336] .
(3) الإقناع [ج4 ص253] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .
(4) نهاية المحتاج [ج4 ص404] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .(2/389)
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، وجاء بمعنى العفة فى قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] ، وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} [المائدة: 5] ، وجاء بمعنى الإسلام والزواج فى قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] ، وجاء بمعنى الحرية والبلوغ والعفة فى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
523 - أنواع الإحصان: الإحصان فى الجرائم على نوعين: إحصان الرجم، وإحصان القذف، وسنتكلم هنا على إحصان الرجم، أما إحصان القذف فمحل الكلام عليه جريمة القذف.
وإحصان الرجم شرعًا: هو عبارة عن اجتماع صفات اعتبرها الشارع لوجوب الرجم، أو هو مجموعة من الشروط إذا توفرت فى الزانى كان عقابه الرجم بدلاً من الجلد.
524 - شروط الإحصان: اتفق الفقهاء على بعض شروط الإحصان فى جريمة الزنا، واختلفوا على البعض الآخر، وسنبين فيما يلى شروط الإحصان سواء منها ما اتفق عليه وما اختلف فيه:
أولاً: الوطء فىنكاح صحيح: يشترط لقيام الإحصان أن يكون وطء فى نكاح صحيح، وأن يكون الوطء فى القُبُل لقوله عليه السلام: "والثيب بالثيب الجلد والرجم"، والثيابة تحصل بالوطء فى القبل (1) .
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص131] ، بدائع الصنائع [ج7 ص37] ، المغنى [10 ص126] ، بداية المجتهد [ج2 ص364] ، شرح الأزهار [ج4 ص342] .(2/390)
ولا خلاف فى أن عقد النكاح الخالى من الوطء لا يحصل به إحصان، ولو حصلت فيه خلوة صحيحة (1) أو وطء فيما دون الفرج، أو وطء فى الدبر، لأن كل هذا لا تعتبر به المرأة ثيبًا ولا تخرج عن حد الأبكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب عام.
والوطء الذى يؤدى إلى الثيابة هو الإيلاج فى القبل على وجه يوجب الغسل، أو هو تغييب الحشفة أو مثلها فى القبل سواء أنزل أو لم ينزل، ولا يكفى مثل هذا الوطء وحده لوجود الإحصان بل يجب أن يكون الوطء فى نكاح؛ لأن النكاح هو الإحصان لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] يعنى المتزوجات، فإن كان الوطء فى غير نكاح كالزنا ووطء الشبهة فلا يصير به الواطئ محصنًا دون خلاف.
ويشترط فى النكاح أن يكون صحيحًا، فإن كان فاسدًا فإن الوطء فيه لا يحصن كما يرى جمهور الفقهاء (2) .
ويشترط إذا كان الوطء فى نكاح صحيح أن لا يكون وطئًا محرمًا كالوطء فى الحيض أو الإحرام، فإن الوطء الذى يحرمه الشارع لا يحصن ولو كان فى نكاح صحيح (3) .
ثانيًا: البلوغ والعقل: وهما شرطا الأهلية للعقوبة، كما أنهما لازمان فى كل جريمة، ويجب توفرهما فى المحصن وغير المحصن وقت ارتكاب الجريمة طبقًا للقواعد العامة، إلا أنهما اشترطا أيضًا فى الإحصان لأن اشتراطهما وقت ارتكاب الجريمة لا يغنى عن اشتراطهما فى الإحصان، فيشترط إذن أن يكون
_________
(1) يرى الهادى من فقهاء الزيدية اعتبار الإحصان بالخلوة، ولكنهم يتأولون رأيه ويقولون إنه أراد الخلوة مع الدخول. شرح الأزهار [ج4 ص342] .
(2) المغنى [ج10 ص126 [، الإقناع [ج4 ص350] ، المهذب [ج2 ص283] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص130، 133] ، شرح الأزهار [ج4 ص343] .
(3) أسنى المطالب [ج4 ص128] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] .(2/391)
الوطء الذى يحصن حاصلاً من بالغ عاقل، فإذا حصل الوطء من صبى أو مجنون ثم بلغ وعقل بعد الوطء لم يكن بالوطء السابق محصنًا، وإذا زنا عوقب على أنه غير محصن (1) .
على أن بعض أصحاب الشافعى يرون - ورأيهم هو المرجوح فى المذهب - أن الواطئ يصير محصنًا بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون، فلو بلغ أو أفاق فزنا رجم دون حاجة إلى حصول وطء جديد بعد البلوغ والإفاقة، وحجتهم أن الوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون وطء مباح، فيجب أن يثبت به الإحصان؛ لأنه إذا صح النكاح قبل البلوغ فإن الوطء يصح تبعًا له.
ويرد على ذلك بأن الرجم عقوبة الثيب ولو اعتبرت الثيوبة حاصلة بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون لوجب رجم الصغير والمجنون، وهذا ما لا يقول به أحد، كذلك فإن هناك فرقًا بين الإحصان والإحلال، وكل إحلال لا يترتب عليه إحصان، كما أن الإحصان شرط عقوبة الرجم، ولو كان الإحلال يقوم مقام الإحصان لما كان ثمة ما يدعو لاشتراط الإحصان (2) .
ثالثًا: وجود الكمال فى الطرفين حال الوطء: أو بتعبير آخر: ينبغى أن تتوفر شروط الإحصان فى الواطئ والموطوءة حال الوطء الذى يترتب عليه الإحصان، فيطأ مثلاً الرجل العاقل امرأة عاقلة، فإذا لم تتوفر هذه الشروط فى أحدهما فهما معًا غير محصنين. فإذا كان الجانى متزوجًا ودخل بزوجته فى نكاح صحيح ولكنها مجنونة أو صغيرة، فالجانى غير محصن ولو كان هو نفسه بالغًا عاقلاً، هذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد (3) .
ولكن مالكًا لا يشترط توفر شروط الإحصان فى الزوجين لإحصانهما معًا،
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص130، 131] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص128] ، شرح الأزهار [ج4 ص343] .
(2) المهذب [ج2 ص283] ، المغنى [ج10 ص128] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص130، 133] ، المغنى [ج11 ص128] .(2/392)
وعنده أنه يكفى أن تتوفر شروط الإحصان فى أحد الزوجين ليكون محصنًا بغض النظر عما إذا كان الزوج الآخر تتوفر فيه هذه الشروط أم لا، فشرط تحصين الذكر عنده أن تتوفر فيه شروط الإحصان مع إطاقة موطوءته له ولو كانت صغيرة أو مجنونة، وتتحصن الأنثى عند مالك بتوفر الإحصان فيها وببلوغ واطئها ولو كان مجنونًا (1) .
وفى مذهب الشافعى رأيان أحدهما يتفق مع رأى أبى حنيفة وأحمد، وثانيهما يتفق مع مذهب مالك (2) .
وفى مذهب الشيعة الزيدية نفس الرأيين، ثم رأى ثالث يرى أن المجنون لا يحصن العاقل بأى حال (3) ، وإن أحصن البالغ من لم يبلغ.
والذين يشترطون اجتماع شروط الإحصان فى الزوجين يعللون ذلك بأن اجتماع هذه الصفات فى الزوجين يشعر بكمال حالهما وبكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين، ويرون أن تخلف أحد هذه الشروط أو بعضها يشعر بالنقص، فاقتضاء الشهوة من المجنونة والصغيرة قاصر ولا يبلغ بالرجل حد الكمال، والمحصن لا تغلظ له العقوبة إلا على أساس أنه فى حال الكمال تغنيه عن التفكير فى الحرام (4) .
رابعًا: الإسلام: ويجعل أبو حنيفة ومالك الإسلام شرطًا من شروط الإحصان، وحجتهما حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما استشاره حذيفة فى زواج كتابية: "دعها فإنها لا تحصنك". ولكن الشافعى وأحمد لا يريان الإسلام شرطًا من شروط الإحصان، ويوافقهما أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة، وحجتهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين، ولو كان الإسلام شرطًا فى الإحصان لما رجمهما، فضلاً عن أن الأديان عامة تحرم الزنا كما يحرمه
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] .
(2) المهذب [ج2 ص283] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص343، 344] .
(4) شرح فتح القدير [ج4 ص131] ، المغنى [ج10 ص128] .(2/393)
الإسلام. ويتفق المذهب الظاهرى مع مذهب الشافعى وأحمد فى هذه الوجهة، أما المذهب الزيدى ففيه الرأيان وأرجحهما ما يقول به الشافعى وأحمد (1) .
ويترتب على هذا الخلاف أن المسلم المتزوج من كتابية إذا زنا لا يرجم فى رأى أبى حنيفة لأنه لا يعتبر محصنًا، إذ الكتابية لا تحصن المسلم، وكان يحب أن يكون هذا هو الحكم عند مالك لولا أنه لا يشترط الكمال فى الزوجين، ومن ثم فإن الكتابية فى رأيه تحصن المسلم، فإذا زنا المسلم المتزوج من كتابية رجم عند مالك، كما يرجم عند الشافعى وأحمد والظاهريين وبعض الزيديين؛ لأن هؤلاء لا يعتبرون الإسلام شرطًا من شروط الإحصان.
525 - زنا المحصن بغير محصن: بينا فيما سبق شروط الإحصان ما اتفق عليه منها وما اختلف فيه، وإذا كان بعض الفقهاء يوجب توفر هذه الشروط فى كل من الزوجين لاعتبار أحدهما محصنًا، فإن الفقهاء جميعًا لا يشترطون إحصان كل من الزانيين لوجوب الرجم على أحدهما، ويرون رجم من توفرت فيه شروط الإحصان من الزانيين، فإذا كان أحد الزانيين محصنًا والثانى غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن.
* * *
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص133] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص129] ، المحلى [ج11 ص158] ، شرح الأزهار [ج4 ص344] .(2/394)
الفصل الثالث
الأدلة على الزنا
526 - الأدلة المثبتة للزنا: لا يثبت جريمة الزنا المعاقب عليها بالحد إلا بأدلة خاصة هى:
(1) الشهادة. ... ... (2) الإقرار ... ... (3) القرائن ... (4) اللعان.
وسنتكلم عن هذه الأدلة واحدًا بعد الآخر، مع ملاحظة أن الإثبات بالقرائن مختلف عليه.
المبحث الأول
الشهادة
527 - عدد شهود الزنا: من المتفق عليه أن الزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة شهود، وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم، لقوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وقوله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
ولقد جاءت السنة مؤكدة لنصوص القرآن، ومن ذلك أن سعد بن عبادة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو وجدت مع امرأى رجلاً أمهله(2/395)
حتى آتى بأربعة شهداء؟ فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: نعم"، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لهلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء: "البينة وإلا حد فى ظهرك" (1) ، وروى عنه أنه قال: "أربعة شهداء وإلا فحد فى ظهرك" (2) .
وليس لكل إنسان أن يشهد فتقبل شهادته، وإنما الشاهد الذى تقبل شهادته هو من توفرت فيه شروط معينة، بعضها عام يجب توفره فى كل شهادة، وبعضها خاص يجب توفره فى الشهادة على الزنا.
528 - الشروط العامة للشهادة: للشهادة شروط عامة يجب أن تتوفر فى كل شهادة أيًا كان موضوعها، وهذه الشروط هى:
529 - أولا: البلوغ: يشترط فى الشهد أن يكون بالغًا، فإذا لم يكن كذلك فلا تقبل شهادته، ولو كان فى حالة تمكنه من أن يعى الشهادة ويؤديها، ولو كان حاله حال أهل العدالة، وذلك لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والصبى ليس من الرجال، وليس ممن ترضى شهادته، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (3) ، ولأن الصبى لا يؤتمن على حفظ أمواله فأولى أن لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره، وإذا كانت شهادة الصبى لا تقبل فى الأموال فلأن لا تقبل فى الجرائم أولى وفيها عقوبة متلفة للنفس أو للعضو (4) .
وإذا كانت القاعدة العامة فى الشريعة أن لا تقبل شهادة من هو دون البلوغ
_________
(1) رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائى.
(2) رواه النسائى.
(3) أخرجه ابن ماجه وابن حبان والدارقطنى والطبرانى والحاكم فى المستدرك، وراجع: نيل الأوطار [ج6 ص160] .
(4) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، شرح فتح القدير [ج4 ص169] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص513، 525] ، المهذب [ج2 ص342] ، الإقناع [ج4 ص436] ، المحلى [ج9 ص420] ، شرح الأزهار [ج4 ص192، 193] .(2/396)
فإن مالكًا يرى استثناءً من هذه القاعدة قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض فى الدماء بشروط خاصة أهمها: أن يكون الشاهد مميزًا؛ أى ممن يعقل الشهادة، وأن لا يحضر الحادث كبير. وقد أجاز مالك شهادة الصبيان فى هذه الحالة للضرورة (1) .
وما يراه مالك هو رواية مذهب أحمد، حيث يرى قبول شهادة الصبيان فى الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التى تجارحوا عليها؛ لأن الظاهر صدقهم وضبطهم، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لاحتمال أن يُلقَّنوا. وروى عن أحمد رواية ثالثة تتلخص فى أن شهادة الصبى تقبل إن كان ابن عشر، ولكن البعض يخصص هذه الرواية بغير الحدود والقصاص (2) .
وفى مذهب الزيدية رأى مرجوح يرى أصحابه جواز شهادة الصبيان بعضهم على بعض فى الشجاج ما لم يتفرقوا، ويتأول بعضهم هذا الرأى فيقول: إن الشهادة تقبل للتأديب لا للحكم (3) .
530 - ثانيًا: العقل: يشترط فى الشاهد أن يكون عاقلاً. والعاقل من عرف الواجب عقلاً، والضرورى وغيره، والممكن والممتنع، وما يضره وما ينفعه غالبًا، فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه، ولكن تقبل الشهادة ممن يجن أحيانًا فى حالة إفاقته إذا كان يفيق إفاقة يعقل معها الشهادة، ولا تقبل شهادة المجنون لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" كما أن شهادة المجنون لا تقبل للمعنى المانع من قبول شهادة الصبى (4) .
_________
(1) مواهب الجليل [ج6 ص177] .
(2) المغنى [ج12 ص27] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص193] .
(4) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، المهذب [ج2 ص342] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] ، الإقناع [ج4 ص439] ، شرح فتح القدير [ج4 ص169] ، البحر الرائق [ج7 ص85] ، المحلى [ج9 ص429] .(2/397)
531 - ثالثًا: الحفظ: يشترط فى الشاهد أن يكون قادرًا على حفظ الشهادة، وفهم ما وقع بصره عليه، مأمونًا على ما يقول، فإن كان مغفلاً لم تقبل شهادته. ويلحق بالغفلة كثرة الغلط والنسيان، ولكن تقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط، لأن أحدًا لا ينفك من الغلط.
والعلة فى عدم قبول شهادة المغفل - ولو كان عدلاً - أنه لا يؤمن على ما يقول ولا تمنع عدالته من أن يغتفل، فيشهد على الرجل مثلاً ولا يعرفه يتسمى له بغير اسمه، كما أنه يخشى عليه أن يُلقَّن فيأخذ بما أُلقى إليه. لكن إذا لم يكن فى الشهادة ما يدعو إلى التلبيس تقبل شهادة المغفل نحو قوله: رأيت هذا الشخص قتل هذا الشخص، أو رأيت فلانًا يطأ فلانة (1) .
على أن أبا يوسف صاحب أبى حنيفة يؤثر عنه أنه كان يجيز شهادة المغفل ولا يجيز تعديله، لأن التعديل يحتاج إلى الرأى والتدبير، والمغفل لا يستقصى فى ذلك، بينما كان محمد يرد شهادة الصوام القوام المغفل ويقول: إنه شر من الفاسق فى الشهادة (2) .
والزيديون يردون شهادة من غلب عليه السهو النسيان، فإن تساوى ضبطه ونسيانه فالأكثرون لا يصححون شهادته، والأقلون يجعلونها موضع اجتهاد (3) .
532 - رابعًا: الكلام: يشترط فى الشاهد أن يكون قادرًا على الكلام، فإن كان أخرس فقد اختلف فى قبول شهادته: ففى مذهب مالك يقبلون شهادة الأخرس إذا عرفت إشارته، وفى مذهب أحمد لا يقبلون شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته، إلا إذا كان يستطيع الكتابة فأدى الشهادة بخطه،
_________
(1) مواهب الجليل [ج6 ص154] ، المهذب [ج2 ص342] ، أسنى المطالب [ج4 ص353] ، الإقناع [ج4 ص437] .
(2) البحر الرائق [ج7 ص85] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص197] .(2/398)
وفى مذهب أبى حنيفة لا يقبلون شهادة الأخرس سواء كانت بالإشارة أو بالكتابة، وفى مذهب الشافعى خلاف على قبول شهادة الأخرس، منهم من قال: تقبل لأن إشارته كعبارة الناطق فى نكاحه وطلاقه، فكذلك فى الشهادة، ومنهم من قال: لا تقبل لأن إشارته أقيمت مقام العبارة فى موضع الضرورة، وقد قبلت فى النكاح والطلاق للضرورة لأنهما لا يستفادان إلا من جهته، ولا ضرورة تدعو لقبول إشارته فى الشهادة لأنها تصح من غيره بالنطق، ومن ثم لا تجوز إشارته، وفى مذهب الزيدية رأيان: أحدهما أن شهادة الأخرس لا تصح إطلاقًا، والثانى أنها تصح (1) .
533 - خامسًا: الرؤية: يشترط فى الشاهد أن يرى ما يشهد به، فإن كان الشاهد أعمى فقد اختلف فى قبول شهادته، فالحنفيون لا يقبلون شهادة الأعمى؛ لأن أداء الشهادة يحتاج إلى أن يشير الشاهد إلى المشهود له والمشهود عليه، ولأن الأعمى لا يميز إلا بالنغمة وفى تمييزه شبهة، وهم لا يقبلون شهادة من كان أعمى وقت أداء الشهادة ولو كان بصيرًا وقت تحمل الشهادة، بل إنهم يردون شهادة البصير الذى عمى بعد أداء الشهادة وقبل القضاء؛ لأنهم يشترطون الأهلية فى الشاهد وقت القضاء لتكون شهادته حجة.
والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن شهادة الأعمى لا تقبل سواء فيما كان طريقه الرؤية، وما كان طريقه السماع والشهرة والتسامع. ولكن أبا يوسف يجيز شهادة الأعمى فيما طريقه السماع مطلقًا، ويجيزها فيما طريقه الرؤية إذا كان بصيرًا وقت التحمل أعمى عند الأداء، إذا كان يعرف الخصوم بأسمائهم وأنسابهم. ويرى زفر أن شهادة الأعمى تجوز فقط فى غير الحدود والقصاص فيما يجرى فيه التسامع كالنسب والموت، وهذا القول رواية عن أبى حنيفة (2) .
_________
(1) مواهب الجليل [ج6 ص154] ، الإقناع [ج4 ص436] ، البحر الرائق [ج7 ص85] ، المهذب [ج2 ص342] ، شرح الأزهار [ج4 ص192] .
(2) البحر الرائق وحاشية منحة الخالق [ج7 ص84، 85] ، طرق الإثبات الشرعية [ص409، 410] .(2/399)
ويقبل المالكيون شهادة الأعمى فى الأقوال ولو كان قد تحملها بعد العمى، ما دام فطنًا لا تشتبه عليه الأصوات ويتيقن المشهود له والمشهود عليه، فإن شك فى شئ من ذلك لم تجز شهادته، أما شهادة الأعمى فى المرئيات فلا تقبل إلا أن يكون تحملها بصيرًا ثم عمى وهو يتيقن عين المشهود له أو يعرفه باسمه ونسبه (1) .
ويجيز الشافعيون شهادة الأعمى فيما يثبت بالاستفاضة كالنسب والموت؛ لأن طريق العلم به السماع، والأعمى كالبصير فى السماع، ولا يجيزون أن يكون شاهدًا فى الأفعال كالقتل والغصب؛ لأن طريق العلم بها البصر، ولا شاهدًا فى الأموال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق إذا كان المشهود عليه خارجًا عن يده؛ لأن شهادته ستقوم على العلم بالصوت وحده، والصوت يشبه الصوت، فأما إذا كان المشهود عليه فى يده كرجل أقرَّ ويدُ الأعمى على رأسه فشهد وهو فى يده لم يفارقه فتقبل الشهادة الشهادة لأنها عن علم ويقين. وإذا تحمل الشهادة وهو بصير قبلت شهادته إذا كان الخصوم معروفين له بالاسم والنسب، أو إذا كان المشهود عليه فى يده لم يفارقه بعد العمى. ويرى بعض فقهاء المذهب قبول شهادة الأعمى مطلقًا فى الأقوال إذا عرف الصوت (2) .
وفى مذهب أحمد يجيزون شهادة الأعمى كلما تيقن الصوت، أى أنهم يجيزون شهادته فى الأقوال مطلقًا. أما فى الأفعال فيجيزون شهادته فى كل ما تحمله قبل العمى إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه (3) .
ومذهب الزيديين لا يكاد يختلف عن مذهب الشافعى، فالقاعدة عندهم أن شهادة الأعمى لا تصح فيما يفتقر إلى الرؤية عند الأداء، فإذا شهد بما يحتاج إلى المعاينة عند أداء الشهادة لا تقبل شهادته إلا أن يكون المشهود عليه فى يده من
_________
(1) مواهب الجليل [ج6 ص154] .
(2) المهذب [ج2 ص353] ، أسنى المطالب [ج4 ص361] .
(3) المغنى [ج12 ص61، 62] .(2/400)
قبل ذهاب بصره؛ كثوب متنازع عليه، فإذا لم تكن المعاينة لازمة عند الأداء قبلت شهادة الأعمى فيما يثبت بطريق الاستفاضة كالنسب والنكاح، فإن كان مما لا يثبت بطريق الاستفاضة قبلت شهادته فقط فيما تحمله قبل ذهاب بصره، لأن الشهادة على الصوت وحده لا تصح، على أن البعض يرى قبول الشهادة كلما عرف الأعمى الصوت على وجه اليقين (1) .
أما الظاهريون فيقبلون شهادة الأعمى مطلقًا فى الأقوال والأفعال، وفيما تحمله قبل العمى وفيما تحمله بعده، ويردون على من يقولون إن الأصوات تشتبه بأن الصور أيضًا تشتبه، وما يجوز لمبصر أو أعمى أن يشهد إلا بما يوقن ولا يشك فيه، وأن الأعمى لو لم يقطع بصحة اليقين على من يكلمه لما حل له أن يطأ امرأته إذ لعلها أجنبية، ولا يعطى أحدًا دينًا عليه إذ لعله غيره، ولا أن يبيع من أحد ولا أن يشترى، وأن الله جل شأنه أمر بقبول البينة ولم يشترط أعمى من مبصر، وما كان ربك نسيًا (2) .
534 - سادسًا: العدالة: لا خلاف فى اشتراط العدالة فى سائر الشهادات، فيجب أن يكون الشاهد عدلاً لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، ولقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، فأمر جل شأنه بقبول شهادة العدل وبالتوقف فى نبأ الفاسق، والشهادة نبأ.
وقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذى غَمَر (3) على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع (4) لأهل البيت" (5) .
_________
(1) شرح الأزهار [ج4 ص199، 200] .
(2) المحلى [ج9 ص433] .
(3) الغمر: الحقد والإجنة.
(4) القانع: هو التابع الذى ينفق عليه أهل البيت.
(5) رواه أحمد وأبو داود والترمذى.(2/401)
وفى رواية أخرى: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذى غمر على أخيه" (1) .
ويفسر بعض الفقهاء الخيانة بحيث تشمل جميع ما افترض الله تعالى على العباد القيام به أو اجتنابه من صغير ذلك وكبيره، ولا يخصها بأمانات الناس، ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] .
والعدالة كما يعرفها المالكيون هى المحافظة الدينية على اجتناب الكبائر وتوقى الصغائر وأداء الأمانة وحسن المعاملة، وليست العدالة أن يمحص الإنسان الطاعة حتى لا تشوبها معصية إذ ذلك متعذر لا يقدر عليه إلا الأولياء والصديقون، لكن من كانت الطاعة أكثر حاله وأغلبها عليه، وهو مجتنب للكبائر محافظ على ترك الصغائر، فهو العدل (2) .
ويعرف الحنفيون العدالة بأنها الاستقامة على أمر الإسلام، واعتدال العقل ومعارضة الهوى، وليس لكمالها حد يدرك، فيكتفى لقبولها بأدنى حدودها وهو رجحان جهة الدين والعقل على الهوى والشهوة، وعندهم ان العدل هو من لم يطعن عليه فى بطن ولا فرج، وهو من يكون مجتنبًا للكبائر غير مصر على الصغائر، ومن يكون صلاحه أكثر من فساده، وصوابه أكثر من خطئه، ومن تكون مروءته ظاهرة (3) .
ويعرف الشافعيون العدالة بأنها اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، فمن تجنب الكبائر والصغائر فهو عدل، ومن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر وكان ذلك نادرًا من أفعاله لم يفسق ولم ترد شهادته؛ لأنه لا يوجد من يمحص الطاعة ولا يخلطها بمعصية، وإن كان ذلك غالبًا فى أفعاله فسق ورُدت شهادته؛
_________
(1) رواه أبو داود.
(2) مواهب الجليل [ج6 ص150] .
(3) البحر الرائق [ج7 ص104] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص225] .(2/402)
لأنه من استجاز الإكثار من الصغائر استجاز أن يشهد بالزور، فالحكم معلق على الغالب من أفعاله (1) .
ويعرف الحنابلة العدالة بأنها استواء أحوال الشخص فى دينه واعتدال أقواله وأفعاله، ويعتبر لها شيئان: أولهما: الصلاح فى الدين وهو من وجه أداء الفرائض بسننها الراتبة، فلا تقبل الشهادة ممن داوم على تركها لفسقه، ومن وجه آخر اجتناب المحرم فلا يرتكب كبيرة ولا يدمن على صغيرة. وثانيهما: استعمال المروءة؛ وهو الإتيان بما يجمِّله ويزيِّنه، وترك ما يدنِّسه ويَشينه (2) .
ويلاحظ أن فقهاء المذاهب السابقة يلحقون المروءة بشرط العدالة، لأن ترك المروءة يدل على عدم المحافظة وهى لازم العدالة.
والمروءة عند المالكيين هى المحافظة على فعل ما تَرْكُه مباح يوجب الذم عرفًا، كترك الملئ الانتعال فى بلد يستقبح فيه مشى مثله حافيًا، وعلى ترك ما فِعْلُه مباح يوجب ذمه عرفًا؛ كالأكل فى السوق، وفى حانوت الطباخ لغير الغريب. ولا يراد بالمروءة نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة وحسن الشارة، بل المراد التصون، والسمت الحسن، وحفظ اللسان، وتجنب المجون والسخف، والارتفاع عن كل خلق ردئ يرى أن من تخلق به لا يحافظ معه على دينه وإن لم يكن فى نفسه حرمة (3) .
والمروءة عند الحنفيين أن لا يأتى الإنسان بما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل، وقيل: السمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق دنئ. والمروءة عند محمد هى الدين والصلاح (4) .
والمروءة عند الشافعيين هى الإنسانية، وهى مشتقة من المرء. وعندهم أن من ترك الإنسانية لم يؤمن أن يشهد الزور؛ لأن من لا يستحى من الناس فى
_________
(1) المهذب [ج2 ص343] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] .
(2) الإقناع [ج4 ص437] ، المغنى [ج12 ص32] .
(3) مواهب الجليل [ج6 ص152] .
(4) البحر الرائق [ج7 ص100] .(2/403)
ترك المروءة لم يبال بما يصنع (1) . ويستدلون على ذلك بما روى أبو مسعود البدرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
والمروءة عند الحنابلة هى تمسك الإنسان بما يجمله ويزينه وترك ما يشينه، أو هى اجتناب الأمور الدنيئة المزرية بالإنسان من فعل أو قول أو عمل (2) .
والعدل فى المذهب الزيدى هو ما كان منزهًا عن محظورات دينه. فالعدالة عندهم إذن هى التنزه عن المحظورات الدينية (3) ، ويعرفها بعضهم بأنها ملازمة التقوى والمروءة.
والعدل عند الظاهريين هو من لم تعرف له كبيرة ولا مجاهرة بصغيرة. والكبيرة هى ما سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبيرة أو ما جاء فيه الوعيد، والصغيرة ما لم يأت فيه وعيد. وهم لا يشترطون المروءة لتحقق العدالة ويرون الاكتفاء بالطاعة واجتناب المعصية؛ لأنه إذا كانت المروءة من الطاعة فالطاعة تغنى عنها، وإن لم تكن من الطاعة فلا يجوز اشتراطها فى أمور الديانة إذ لم يأت بذلك قرآن ولا سنة (4) .
واختلف الفقهاء فى ثبوت العدالة، فرأى أبو حنيفة والظاهريون أن العدالة تفترض فى الشاهد حتى يثبت جرحه، بمعنى أنه إذا لم يجرح المشهود عليه الشاهد قبلت الشهادة دون أن يكون على القاضى أن يتحرى عن عدالة الشاهد، وحجة أبى حنيفة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس عدول بعضهم على بعض إلا محدودًا فى قذف"، وما جاء فى كتاب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا فى حد، أو ظنينًا فى ولاء أو قرابة"، وحجة الظاهريين أن فاعل الكبيرة فاسق وأن من عداه عدل؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
_________
(1) المهذب [ج2 ص343] .
(2) المغنى [ج12 ص33] ، الإقناع [ج4 ص437] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص194] ، البحر الزخار [ج5 ص50] .
(4) المحلى [ج9 ص393، 395] .(2/404)
سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] ، وما كفره الله وأسقطه لا محل لأحد أن يذم به صاحبه ولا أن يصفه به (1) .
ويرى المالكيون والشافعيون والحنابلة والزيديون، ومعهم أبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفى، أن يتحرى القاضى عن عدالة الشهود ولو لم يجرحهم المشهود عليه؛ لأن القضاء قائم على شهادة العدل فوجب أن يتأكد القاضى من توفر صفة العدالة فى الشاهد ليقبل شهادته (2) .
535 - سابعًا: الإسلام: يشترط فى الشاهد أن يكون مسلمًا، فلا تقبل شهادة غير المسلم سواء كانت الشهادة على مسلم أو غير مسلم. وهذا هو الأصل الذى يسلم به جميع الفقهاء، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، ولكن هذا الأصل المتفق عليه له استثناءات مختلف عليها:
الاستثناء الأول: شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض:
يرى الحنفيون قبول شهادة الذميين على مثلهم والحربين على مثلهم، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض، ولأنهم من أهل الولاية على أنفسهم وأولادهم فيكونون من أهل الشهادة على جنسهم (3) .
ويرى الزيديون قبول شهادة غير المسلم على ملته دون غيرهم من الملل، فلا تجوز شهادة اليهود على النصارى ولا شهادة النصارى على اليهود (4) .
ويرى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قبول شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض
_________
(1) البحر الرائق [ج7 ص69] ، المحلى [ج9 ص393] .
(2) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص312] ، الإقناع [ج4 ص400] ، البحر الرائق [ج7 ص69] ، المحلى [ج9 ص393، 394] .
(3) البحر الرائق [ج7 ص102، 104] .
(4) شرح الأزهار [ج4 ص193] .(2/405)
تحقيقًا للمصلحة العامة وتحقيقًا للعدالة، وهما بذلك يرجحان رواية ضعيفة عن أحمد بجواز قبول الشهادة (1) .
ولا يقبل المالكيون والشافعيون شهادة غير المسلمين، هذا يتفق مع الرواية المشهورة فى مذهب أحمد - وهى الرواية المعمل بها - كما يتفق مع المذهب الظاهرى (2) .
الاستثناء الثانى: شهادة غير المسلمين على المسلمين فى الوصية حال السفر:
يرى الحنابلة أنه إذا شهد بوصية المسافر الذى مات فى سفره شهود من غير المسلمين قبلت شهادتهم إذا لم يوجد غيرهم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْت} [المائدة: 106] .
ويتفق رأى الظاهريين مع رأى الحنابلة فى قبول شهادة غير المسلم إذا لم يوجد غيرهم.
أما المالكيون والحنفيون والشافعيون والزيديون فلا يقبلون شهادة غير المسلم فى هذه الحالة، وحجتهم أن من لا تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل فى الوصية كالفاسق، ولأن الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى. واختلفوا فى تأويل الآية، فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء، ومنهم من قال: المراد بقوله {مِنْ غَيْرِكُمْ} أى من غير عشيرتكم، ومنهم من قال: معنى الشهادة فى الآية هو اليمين (3) .
الاستثناء الثالث: شهادة غير المسلم على المسلم عند الضرورة:
يرى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قبول شهادة غير المسلم على المسلم فى كل
_________
(1) الطرق الحكمية [ص157، 163] .
(2) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] ، المغنى [ج12 ص53] ، المحلى [ج9 ص406] .
(3) المغنى [ج12 ص51] ، مواهب الجليل [ج6 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] ، المحلى [ج9 ص406] ، الطرق الحكمية [ص163، 171] .(2/406)
ضرورة حضرًا وسفرًا فى كل شئ عُدم فيه المسلمون، قياسًا على قبول شهادتهم فى الوصية، لأن شهادتهم قبلت فى الوصية للضرورة فتقبل فى كل ضرورة.
وفى مذهب أحمد رواية بقبول شهادة السبى بعضهم لبعض فى النسب إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه، وهذا للضرورة.
ويجيز مالك شهادة الطبيب غير المسلم حتى على المسلم للحاجة استثناء واحدًا فى مذهبه، أما بقية الفقهاء فلا يقبلون شهادة غير المسلم (1) .
536 - انتفاء موانع الشهادة: يشترط فى الشاهد أن لا يقوم به مانع يمنع شرعًا من قبول شهادته، والموانع التى تمنع من قبول الشهادة هى:
أ - القرابة: تمنع القرابة من قبول الشهادة عند مالك: من ذلك أنه لا يقبل شهادة الأبوين لأولادهما، ولا شهادة الأولاد لأبويهم، ولا يقبل شهادة الزوجين أحدهما للآخر (2) .
ويمنع أبو حنيفة من قبول شهادة الأصل لفرعه، والفرع لأصله، وأحد الزوجين للآخر (3) .
وفى مذهب الشافعى: لا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا، ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا، على أن بعض فقهاء المذهب يرى قبولها. أما شهادة أحد الزوجين للآخر فلا مانع منها عند الشافعيين (4) .
وفى مذهب أحمد: لا تقبل شهادة عمودى النسب بعضهم لبعض من والد وإن علا ولو من جهة الأم، وولد وإن سفل من ولد البنين والبنات. كذلك لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه (5) .
وحجة من يمنع الشهادة للقرابة ما رواه ابن عمر عن رسول الله - صلى الله
_________
(1) نفس المراجع السابقة، والمغنى [ج12 ص54] ، الطرق الحكمية [ص159، 171، 174] .
(2) مواهب الجليل [ج6 ص154] .
(3) البحر الرائق [ج7 ص87، 89] .
(4) المهذب [ج2 ص347] .
(5) الإقناع [ج4 ص421] .(2/407)
عليه وسلم - أنه قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى حِنَة"، والظنين المتهم، والقريب متهم بمحاباة قريبه.
ويرى الظاهريون والزيديون أن القرابة لا تمنع من قبول الشهادة ما دام الشاهد عدلاً، فكل عدل مقبول لكل أحد وعليه (1) .
ب - العداوة: وجمهور الفقهاء لا يقبلون شهادة العدو على عدوه إذا كانت العداوة من الشاهد والمشهود عليه فى أمر الدنيا كالأموال والمواريث والتجارة ونحوها. أما إذا كانت غضبًا لله لفسقه وجراءته على الله لغير ذلك لم تسقط. ولذلك تجوز شهادة المسلم على غير المسلم لأن عداوة الدين عامة، والمعتبر فى عدم قبول الشهادة العداوة الخاصة، وعلى هذا مذهب مالك والشافعى وأحمد والمذهب الزيدى (2) .
وفى مذهب أبى حنيفة يرى المتأخرون أن شهادة العدو لا تقبل على عدوه إن كانت العداوة دنيوية؛ لأن المعاداة لأجل الدنيا حرام، فمن عادى لأجل الدنيا لا يؤمن منه التقول على عدوه. أما إذا كانت العداوة لأجل الدين فإنها لا تمنع من قبول الشهادة؛ لأنها تدل على كمال دين الشاهد وعدالته، وهذا لأن المعاداة قد تكون واجبة كأن رأى فيه منكرًا ولم ينته بنهيه.
أما المتقدمون من فقهاء المذهب فيرون أن العداوة بسبب الدنيا لا تمنع من الشهادة ما لم يفسق الشاهد بسببها أو يجلب منفعة أو يدفع بها عن نفسه مضرة.
ويرى أبو حنيفة نفسه أن شهادة العدو على عدوه تقبل إن كان عدلاً، ولكن المتأخرين خالفوا رأيه لما رواه أبو داود مرفوعًأ: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذى غَمَر على أخيه". والغمر هو الحقد (3) .
_________
(1) المحلى [ج9 ص415] ، شرح الأزهار [ج4 ص198، 199] .
(2) مواهب الجليل [ج6 ص159] ، أسنى المطالب [ج4 ص252] ، المهذب [ج4 ص252] ، المهذب [ج2 ص348] ، المغنى [ج12 ص55] ، شرح الأزهار [ج4 ص197] .
(3) البحر الرائق [ج7 ص93، 94] .(2/408)
ويرى الظاهريون أن الحكم يتعلق بنفس الشاهد، فإن كانت عداوته للمشهود له تخرجه إلى ما لا يحل فهى جرحة فيه ترد شهادته لكل أحد وفى كل شئ، وإن كانت العداوة لا تخرج الشاهد إلى ما لا يحل فهو عدل مقبول الشهادة.
ويرد الظاهريون الحديث السابق من كل طرقه، لأن فى رواته مجهولين أو لأنه مرسل، ويحتجون بقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، ويرون أن الله أمرنا بالعدل على أعدائنا فصح أن من حكم بالعدل على عدوه أو صديقه أو لهما أو شهد وهو عدل على عدوه أو صديقه أو لهما فشهادته مقبولة وحكمه نافذ (1) .
جـ - التهمة: وهى أن يكون بين الشاهد والمشهود له ما يبعث على الظن بأن الشاهد يحابى المشهود له بشهادته، أو أن يكون للشاهد مصلحة تعود عليه من أداء الشهادة، ويدخل تحت التهمة القريب لقريبه والعدو على عدوه، ولكنا رأينا أن نخص القرابة والعداوة بالكلام على حدة لما لهما من أهمية خاصة.
والشهادات التى يتهم فيها الشاهد كثيرة، من ذلك شهادة الشريك لشريكه، وشهادة الأجير لمن يستأجره، وشهادة الخادم لمخدومه، وشهادة السائل، وشهادة الوكيل لموكله، وشهادة من يدفع بالشهادة عن نفسه ضررًا أو يجر لنفسه نفعًا.
والأصل فى عدم قبول الشهادة للتهمة قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] ، وما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجوز شهادة ظنين"، وأنه قال: "لا تجوز شهادة ذى الظنة ولا ذى الحِنَة"، والظنة: التهمة، والحنة: العداوة.
والفقهاء لم يتفقوا على كل الحالات التى ترد فيها الشهادة للتهمة، فبعضهم يرد الشهادات فى كل الحالات التى سبق ذكرها، وبعضهم يردها فى حالات دون حالات، أو من وجه دون وجه، ومنشأ ذلك اختلاف وجهات النظر عند التطبيق.
ويمكن القول بأن جمهور الفقهاء فى مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى
_________
(1) المحلى [ج9 ص412، 420] .(2/409)
وأحمد وزيد لا يقبلون الشهادة للتهمة على اختلاف بينهم فى التطبيق. أما الطاهريون فلا يرون الشهادة للتهمة، ويرون قبول الشهادة ما دام الشاهد عدلاً (1) .
537 - الشروط الخاصة للشهادة على الزنا: يشترط أن تتوفر فى شاهد الزنا - بعد الشروط العامة التى ذكرناها - شروط خاصة هى:
أولاً: الذكورة: يشترط جمهور الفقهاء فى شهود الزنا أن يكونوا رجالاً كلهم، ولا يقبلون فى الزنا شهادة النساء، ذلك أن النصوص قاطعة فى أن عدد الشهود لا يقل عن أربعة (2) ، وأن شهادة الرجل تعادل شهادة امرأتين: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] ، وإذا كان لفظ الأربعة اسم لعدد الشهود فإن ذلك يقتضى الاكتفاء بشهادة أربعة، ولا شك فى أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم إذ أن أقل ما يجزئ فى هذه الحالة خمسة على فرض أن فيهم امرأة واحدة، وهذا مخالف للنص، كذلك فإن فى شهادة النساء شبهة لتطرق الضلال إليهن والقاعدة عند جمهور الفقهاء أن الحدود تدرأ بالشبهات.
ومذاهب الفقهاء الأربعة (3) تقوم على اشتراط الذكورة فى الشاهد، وكذلك مذهب الشيعة الزيدية (4) ، على أن اشتراط الذكورة إذا كان له محل فى شهادة الإثبات فلا محل لاشتراطه فى شهادة النفى، ومن ثم يجوز أن يكون شهود النفى من النساء.
_________
(1) المحلى [ج9 ص412، 420] ، مواهب الجليل [ج6 ص154، 177] ، البحر الرائق [ج7 ص86، 107] ، أسنى المطالب [ج4 ص349] ، المغنى [ج12 ص49، 60] ، شرح الأزهار [ج4 ص195، 199] .
(2) راجع الفقرة [51] .
(3) مواهب الجليل [ج6 ص180] ، شرح فتح القدير [ج4 ص114] ، المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص175] .
(4) شرح الأزهار [ج4 ص185، 186] .(2/410)
وقد روى عن عطاء وحماد أنهما قبلا شهادة ثلاثة رجال وامرأتين فى الزنا (1) .
ويرى ابن حزم أنه يجوز أن يقبل فى الزنا امرأتان مسلمتان عدلتان مكان كل رجل، فيكون الشهود ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجلاً واحدًا وست نسوة، أو ثمانى نسوة فقط لا رجال معهم (2) .
هل يصح أن يكون الزوج شاهدًا؟: لا يجيز مالك والشافعى وأحمد أن يكون الزوج أحد الشهود على زوجته الزانية، لأن الزوج يقذف الزوجة بالزنا، أو لأنه متهم بدعواه أن الزوجة خائنة (3) .
ويرى أبو حنيفة أن يكون الزوج أحد الشهود الأربعة، وأنه غير متهم فى شهادته لأن التهمة ما توجب جر نفع، والزوج ملحق على نفسه بهذه الشهادة لحوق العار وخلو الفراش خصوصًا إذا كان له منها أولاد صغار (4) . وعلى هذا مذهب الزيديين (5) .
ويفرق ابن حزم بين ما إذا جاء الزوج قاذفًا وبين مجيئه شاهدًا، فإن جاء الزوج قاذفًا فلابد من أربعة شهود سواه وإلا حُدَّ أو يلاعن، فإن لم يكن قاذفًا لكن جاء شاهدًا فإن كان عدلاً ومعه ثلاثة عدول فهى شهادة تامة وعلى المشهود عليها حد الزنا (6) .
ثانيًا: الأصالة: ويشترط أبو حنيفة الأصالة فى الشهود، أى أن يكونوا شهدوا الحادث بأنفسهم، فلا تقبل عنده شهادة الشاهد على الشاهد (7) أى الشهادة السماعية، كما أنه لا يقبل كتاب القاضى إلى القاضى، أى أنه لا يقبل شهادة شهود الإثبات أمام قاضٍ غير القاضى الذى ينظر الدعوى ويفصل فيها إذا شهدوا كلهم
_________
(1) المغنى [ج10 ص175] .
(2) المحلى [ج9 ص395] .
(3) المدونة [ج16 ص8] ، المهذب [ج2 ص384] ، الإقناع [ج4 ص442] .
(4) شرح فتح القدير [ج4 ص114] .
(5) شرح الأزهار [ج4 ص337] .
(6) المحلى [ج11 ص261، 263] .
(7) تسمى شهادة الشاهد السماعية، وتسمى أيضًا بالإرعاء، لأن الأصيل يسترعى السامع ليسمع شهادته.(2/411)
أو بعضهم أمام الأول فأرسل شهادتهم إلى الأخير، لأن كتاب القاضى يعتبر بذاته شهادة على شهادة.
والعلة فى منع الشهادة على الشهادة قيام الشبهة فى صحة الشهادة المنقولة، ذلك أن الاحتياط واجب فى الحدود، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، فلا تقبل الشهادة للشبهة فى صحتها.
ويرتب أبو حنيفة على عدم قبول شهادة الفروع (1) أنه إذا جاء الأصول بعد رد شهادة الفروع فشهدوا بأنهم عاينوا الحادث وذكروا نفس ما شهد به الفروع من الزنا، فلا تقبل شهادة الأصول أيضًا لأن شهادتهم قد ردها الشرع من وجه برد شهادة الفروع فى عين الحادثة التى شهد بها الأصول إذا هم قائمون مقامهم فيصار ذلك شبهة فى درء الحد عن المشهود عليه بالزنا (2) .
والأصل عند أبى حنيفة هو قبول الشهادة على الشهادة، ولكنه لا يقبلها استثناء فى الحدود والقصاص (3) .
والأصل عند الشافعى أن الشهادة تجوز فى حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من حقوق الله تعالى؛ لأن الحاجة تدعو لذلك عند تعذر شهادة الأصل بالموت والمرض والغيبة، أما الحدود المقررة حقًا خالصًا لله تعالى وهى حد الزنا وحد السرقة وقطع الطريق وشرب الخمر ففيها يقولان: أحدهما أنه يجوز فيها الشهادة على الشهادة لأنه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة كحقوق الآدميين. والثانى: أنه لا يجوز لأن حدود الله تعالى مبنية على الدرء والإسقاط فلا يثب إلا بما يؤكدها ويوثقها، والشهادة على الشهادة فيها من الشبهة ما يمنع من التأكيد والتوثيق، وهذا هو الرأى الراجح فى المذهب (4) ،
_________
(1) تسمى شهادة من عاين الحادث شهادة الأصول، وتسمى شهادة الناقلين عن الأصول شهادة الفروع.
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص171] .
(3) حاشية ابن عابدين [ج4 ص544] .
(4) المهذب [ج2 ص355] ، أسنى المطالب [ج4 ص377] ، نهاية المحتاج [ج8 ص151] .(2/412)
والقاعدة عند الشافعى أن ما يثبت بالشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضى إلى القاضى، وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة الذى كتب له الشهادة فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة (1) .
ويرى أحمد أن الشهادة على الشهادة لا تقبل إلا فى حق يقبل فيه كتاب القاضى إلى القاضى، وترد فيما يرد فيه (2) ، ولا يقبل كتاب القاضى عند أحمد فى حد الله تعالى كالزنا، ويقبل فى كل حق آدمى من المال وما يقصد به المال كالدية والقصاص والقذف، ويعللون التسوية بين كتاب القاضى والشهادة على الشهادة بأن كتاب القاضى ليس إلا شهادة على شهادة (3) .
ولا يقبل الزيديون الشهادة على الشهادة فى الزنا، لأن القاعدة عندهم أن الشهادة على الشهادة (أو الإرعاء) تجوز فى جميع الحقوق إلا الحد والقصاص (4) .
ولا يشترط مالك الأصالة فى الشهود، فتجوز عنده الشهادة على الشهادة فى الحدود وغير الحدود، كما يقبل كتاب القاضى إلى القاضى فى الحدود وغير الحدود.
ويشترط فى مذهب مالك أن ينقل عن كل شاهد أصيل شاهدان، ويجوز أن ينقل الشاهدان عن شاهد واحد أو عن أكثر من شاهد، ولكن لا يجوز بحال أن ينقل شاهد واحد عن شاهد أصيل ولو مع يمين المدعى، ويشترط فى الشاهدين الناقلين أن لا يكون أحدهما شاهدًا أصيلاً، كأن يشهد شخص على معاينة الجريمة، ويشهد مع غيره على شهادة آخر عاين الجريمة (5) .
وفى الزنا يجوز أن يشهد أربعة على شهادة أربعة أو يشهد كل اثنين على شهادة واحد أو شهادة اثنين، أو يشهد ثلاثة على شهادة ثلاثة ويشهد اثنان على شهادة الرابع،
_________
(1) المهذب [ج2 ص355] .
(2) الإقناع [ج4 ص447] .
(3) الإقناع [ج4 ص406] .
(4) شرح الأزهار [ج4 ص186، 205] .
(5) شرح الزرقانى [ج7 ص195] .(2/413)
أما إذا شهد اثنان أو ثلاثة على شهادة الأربعة فلا تقبل الشهادة، لأنهم يوجبون أن لا يكون عدد الشهود السماعيين أقل من عدد الشهود الأصليين (1) .
وإذا شهد اثنان على شهادة ثلاثة وشهد اثنان على شهادة الرابع لم تصح الشهادة، لأنه لا يصح أن يكون عدد الشهود السماعيين أقل من عدد الأصليين، وكذلك الحكم لو أدى الرابع الشهادة بنفسه أو نقل ثلاثة وواحد عن كل الأربعة إذ الرابع لم ينقل عنه اثنان (2) .
ويجوز عند مالك أن تجتمع شهادة النقل بشهادة الأصل ويلفق منهما شهادة واحدة فى الزنا وغيره، كأن يشهد اثنان على رؤية الزنا وينقل اثنان عن كل واحد من الاثنين الآخرين، أو يشهد ثلاثة بالرؤية وينقل اثنان عن كل واحد من الاثنين الآخرين، أو يشهد ثلاثة بالرؤية وينقل اثنان عن الرابع، فتتم الشهادة فى هاتين الصورتين وتعتبر شهادة مقبولة، لكن إذا نقل اثنان عن ثلاثة وشهد الرابع بنفسه فلا تقبل الشهادة لأن النقل غير صحيح إذ الاثنان لا ينقلان عن ثلاثة (3) .
وعند الظاهريين تقبل الشهادة على الشهادة فى كل شئ ويقبل فى ذلك واحد على واحد؛ لأن الله تعالى أمرنا بقبول شهادة العدول، والشهادة على الشهادة شهادة عدول فقبولها واجب، ولا فرق بين واحد وبين اثنين فى تبيين الحق خصوصًا وأن ما ينقله شاهد السماع خبر والخبر يؤخذ من الواحد الثقة (4) .
والقاعدة عند جمهور الفقهاء (5) أن الشهادة على الشهادة لا يجوز الحكم بها إلا عند تعذر حضور الشهود الأصلاء، كأن يموت الشاهد الأصيل، أو يمرض
_________
(1) مواهب الجليل [ج6 ص198، 199] .
(2) شرح الزرقانى [ج7 ص195، 196] .
(3) شرح الزرقانى [ج7 ص196] .
(4) المحلى [ج9 ص438] وما بعدها.
(5) يرى أبو يوسف ومحمد بن الحسن قبول الشهادة على شهادة الحاضر فى المصر وإن كان صحيحًا، ويرى مثل ذلك ابن حزم، وحجته أنه لم يجد لمن منع من قبول الشهادة على شهادة الحاضر حجة أصلاً لا من قرآن ولا من سنة ولا من قول أحد السلف ولا قياس ولا معقول، المحلى [ج9 ص438، 439] .(2/414)
مرضًا يمنعه من الانتقال، أو أن يكون غائبًا، أو مجهول المكان، فإذا كان حضور الأصيل ممكنًا لم تقبل الشهادة على الشهادة، لأن شهادة الأصل أقوى لكونها مثبتة لنفس الحق أما الشهادة على الشهادة فتثبت شهادة الشاهد الأصيل (1) .
ورأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد فى كتاب القاضى إلى القاضى يتفق مع قاعدة القانون المصرى فى المسائل الجنائية، إذ يوجب أن يسمع الشهود القاضى الذى يحكم فى القضية. أما رأى مالك والظاهريين فيتفق مع قاعدة القانون المصرى فى المسائل المدنية، إذ يجيز فى المسائل المدنية أن يسمع الشهود قاض غير الذى يحكم فى القضية ثم يرسل بالشهادة مكتوبة إلى زميله الذى ينظر موضوع القضية.
ثالثًا: أن لا يتقادم الحد: يشترط أبو حنيفة لقبول الشهادة أن لا يكون حادث الزنا قد تقادم، والأصل فى مذهب أبى حنيفة، أن شهادة الشهود بحد متقادم لا تقبل إلا فى حد القذف خاصة، وعلة التفرقة بين القذف وغيره من الحدود أن الشاهد لا يستطيع أن يتقدم بشهادته فى القذف إلا بعد رفع الدعوى، ولا يحرك الدعوى إلا المقذوف، فإذا تأخر الشاهد حتى رفعت الدعوى فلا تهمة، أما بقية الحدود فيجوز لشاهد فيها أن يتقدم لشهادته دون حاجة لشكوى من المجنى عليه.
ويحتج الحنفيون لفكرة التقادم بأن الشاهد طبقًا لقواعد الشريعة مخير إذا شهد الحادث بين أداء الشهادة حسبة لله تعالى لقوله جل شأنه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وبين أن يتستر على الحادث لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه فى الآخرة"، فإذا سكت الشاهد عن الحادث حتى قدم عليه العهد دل بذلك على اختيار جهة الستر، فإذا شهد بعد ذلك فهو دليل على أن الضغينة هى التى حملته على الشاهدة، ومثل هذا لا تقبل شهادته للتهمة
_________
(1) مواهب الجليل [ج6 ص198] ، المهذب [ج2 ص355] ، الإقناع [ج4 ص447] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص544] .(2/415)
والضغينة، وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ذغن ولا شهادة لهم. ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليه هذا القول فيكون إجماعًا، والمستفاد من قول عمر أن الشهادة المتأخرة تورث التهمة ولا شهادة لمتهم طبقًا لقواعد الشريعة العامة (1) .
ومع أن أبا حنيفة يقول بالتقادم على الوجه السابق، فإنه يرد الشهادة المتقادمة، ويقبل الإقرار بما سوى الشرب. ويؤيده فى هذا أبو يوسف ولكن محمد بن الحسن يرى رد الشهادة المتقادمة ويقبل الإقرار مطلقًا حتى بالشرب القديم (2) .
ويستخلص مما سبق أن الحنفيين لا يجعلون للتقادم أثرًا على الجريمة، فالجريمة قائمة مهما تقادم عليها العهد، ومن الواجب أن يعاقب مرتكبها، ولكنهم يجعلون للتقادم أثرًا على الشهادة بحيث إذا تأخرت الشهادة عن الوقت المناسب ردت للتهمة، ورد الشهادة يؤثر من طريق غير مباشر على الجريمة إذ لا يعاقب الجانى عليها لانعدام الأدلة.
وهناك رأى آخر نقل عن ابن أبى ليلى وخلاصته: أن لا تقبل الشهادة ولا الإقرار أيضًا إذا تقادما (3) .
ولا يمنع التقادم عند أبى حنيفة من قول الشهادة إلا إذا كان تأخر الشاهد بشهادته لغير عذر ظاهر، فإن كان التأخر فى الشهادة لعذر ظاهر قبلت الشهادة، كبعد المسافة عن محل القاضى أو كمرض الشاهد أو غير ذلك من الموانع الحسية (4) .
ولم يقدر أبو حنيفة للتقادم حدًا، وفوض الأمر للقاضى يقدره طبقًا
_________
(1) بدائع الصنائع [ج7 ص46] ، شرح فتح القدير [ج4 ص162] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص162] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص162] .
(4) شرح فتح القدير [ج4 ص165] .(2/416)
لظروف كل حالة؛ لأن اختلاف الأعذار يجعل التوقيت متعذرًا، ولكن بعض فقهاء المذهب قدروا التقادم بشهر وقدره البعض الآخر بستة أشهر (1) .
أما مالك والشافعى وأصحابهما ومعهم الزيديون والظاهريون فلا يعترفون بالتقادم ويقبلون الشهادة المتأخرة والإقرار بجريمة قديمة ولا يردونهما لقدمهما (2) .
وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما يتفق مع رأى أبى حنيفة، والثانى يتفق مع رأى مالك والشافعى، وهو الرأى المعمول به فى المذهب (3) .
رابعًا: أن تكون الشهادة فى مجلس واحد: يشترط عند مالك وأبى حنيفة وأحمد أن يتقدم شهود الزنا بشهادتهم فى مجلس قضائى واحد، وليس من الضرورى عند أحمد أن يأتى الشهود مجتمعين، فيصح أن يأتوا متفرقين ما دام مجلس القضاء منعقدًا، فإذا انقضى المجلس فلا تقبل شهادة المتأخر منهم، واعتبر من أدى الشهادة قاذفًا ما دام أن عددهم أقل من أربعة، أما مالك وأبو حنيفة فيشترطان تجمع الشهود عند بدء الشهادة، فإن جاءوا متفرقين يشهدون واحدًا بعد الآخر لا تقبل شهادتهم ويحدون وإن كثروا، فالشرط إذن اجتماعهم فى مجلس واحد وقت أداء الشهادة، أما إذا جاء بعضهم فجلس فى أماكن الشهود فلما بدأت المحكمة سماع الشهود لم يكن عددهم متكاملاً فلما سئل أحدهم جاء الثانى ولما سئل الثانى حضر الثالث وهكذا، فإن شهادتهم لا تقبل ويعتبرون قذفة (4) .
ولا يشترط الشافعيون والزيديون والظاهريون هذا الشرط، ويستوى عندهم أن يأتى الشهود متفرقين أو مجتمعين، وأن تؤدى الشهادة فى مجلس واحد أو أكثر
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص165] .
(2) المغنى [ج10 ص187] ، المحلى [ج11 ص144] ، شرح الأزهار [ج4 ص339] .
(3) المغنى [ج10 ص187] .
(4) مواهب الجليل [ج6 ص179 [، شرح الزرقانى [ج7 ص176 وج8 ص81] ، شرح فتح القدير [ج4 ص120] ، بدائع الصنائع [ج7 ص48] ، المغنى [ج10 ص178، 179] .(2/417)
من مجلس، وحجتهم أن الله تعالى قال: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] فذكر الشهود ولم يذكر المجلس، وقال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] ، ولأن كل شهادة مقبولة تقبل إن تقبل إن اتفقت ولو تفرقت فى مجلس كسائر الشهادات (1) .
ويحتج أصحاب الرأى المضاد بعمل عمر رضى الله عنه، فقد شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة وهم أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد ولم يشهد زياد فحد عمر الثلاثة، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع فى مجلس آخر، ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم. وأما الآية فإنها لم تتعرض لشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا مثلاً، ولأن قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] لا يخلو من أن يكون مطلقًا فى الزمان كله أو مقيدًا، ولا يصح أن يكون مطلقًا لأنه يمنع من جواز جلدهم، لأنه ما من زمن ألا يجوز أن يأتى فيه بأربعة شهداء أو يكلمهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به، وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد به المجلس لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة (2) .
خامسًا: أن يكون عدد الشهود أربعة: إذا شهد على الزنا أقل من أربعة شهود لم تقبل شهادتهم وحدوا حد القذف عند مالك وأبى حنيفة والزيديين (3) ؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
والرأى الراجح فى مذهب الشافعى ومذهب أحمد يتفق مع رأى مالك وأبى حنيفة، أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه أن لا يحد الشهود إذا نقص عددهم
_________
(1) المغنى [ج10 ص187] ، المهذب [ج2 ص350] ، شرح الأزهار [ج4 ص337] ، المحلى [ج11 ص259] .
(2) المغنى [ج10 ص178] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص170] ، شرح الزرقانى ج7 ص197] ، المغنى [ج10 ص179] ، شرح الأزهار [ج4 ص338] .(2/418)
عن أربعة ما دام أنهم قد جاءوا مجئ الشهود؛ أى تقدموا لأداء الشهادة حسبة له تعالى، ولم يكن ثمة ما يدفعهم للشهادة غير ذلك، ولأن الشهادة على الزنا أمر جائز والجائز لا عقاب عليه، ولأن إيجاب العقاب يؤدى إلى الامتناع عن الشهادة خشية أن يتوقف أحد الشهود عن الشهادة (1) .
ويرى الظاهريون أن الشاهد بالزنا لا يحد أصلاً سواء كان معه غيره أم لم يكن إذ الحد شرع للقاذف الرامى ولم يشرع لشهداء أو البينة، وقد فرق القرآن والسنة بين الشهد من البينة وبين القاذف الرامى فلا يحل البتة أن يكون لأحدهما حكم الآخر (2) .
ويرد أصحاب الرأى المخالف بأن الثابت من قضاء عمر أنه حد الشهود الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة حينما لم يكمل الرابع الشهادة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد.
وإذا تبين أن الشهود الأربعة ليس لكلهم أو لبعضهم أهلية الشهادة كأن كان أحدهم فاسقًا أو محدودًا فى قذف، فيرى مالك سقوط الشهادة وأن على الشهود جميعًا الحد؛ لأنها شهادة لم تكمل، هذا إذا تبين انعدام الأهلية قبل الحكم، أما إذا كان ذلك بعد الحكم فلا حد على واحد منهم؛ لأن الشهادة تمت باجتهاد القاضى (3) .
ويرى أبى حنيفة (4) حد الشهود سواء تبين انعدام الأهلية قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل التنفيذ، أما إذا كان العلم بانعدام الأهلية بعد التنفيذ فإن كان الحد جلدًا فكذلك يحد الشهود ولا يضمنون أرش الضرب فى قول أبى حنيفة، وعند محمد وأبى يوسف يجب الأرش فى بين المال. وإن كان الحد رجمًا فلا يحد الشهود لأنه تبين أن كلامهم وقع قذفًا، ومن قذف حيًا ثم مات
_________
(1) المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص179] .
(2) المحلى [ج11 ص260] .
(3) شرح الزرقانى [ج7 ص198] .
(4) بدائع الصنائع [ج7 ص48] .(2/419)
المقذوف سقط الحد وتكون الدية فى بيت المال إذ يعتبر الخطأ حاصلاً من القاضى، وخطأ القاضى فى بيت المال، لأنه عامل لعامة المسلمين وبيت المال مالهم.
ويفرقون فى مذهب أبى حنيفة بين الشهود باعتبار أهليتهم للتحمل والأداء، فمنهم من هو أهل للتحمل والأداء على وجه القصور كالفساق لتهمة الكذب، ومنهم من هو أهل للتحمل والأداء على وجه كالصبيان والمجانين والكفار، ومنهم من هو أهل للتحمل دون الأداء كالمحدودين فى قذف العميان، والنوع الأول يحكم بشهادته وتثبت الحقوق بها، والثانى يجب التوقف فى شهادته حتى يظهر صدقه، والثالث لا شهادة له أصلاً، والرابع تصح شهادته متحملاً ولا تقبل منه مؤديًا.
ويرتبون على هذه التفرقة أن من فقد أهلية التحمل أو الأداء أو هما معًا يعتبر قاذفًا بشهادته، فإذا شهد أربعة عميان أو كفار أو محدودون فى قذف حدوا القذف، وإذا شهد أربعة بالزنا أحدهم أعمى أو كافر أو محدود فى قذف وجب على الأربعة حد القذف، الأول لانعدام أهليته والثلاثة لأن الشاهدة لم تكمل، أما إذا شهد بالزنا أربعة فساق فإن الحد يسقط عن المشهود عليه لعدم الثبوت وعن الشهود لثبوت شبهة الثبوت إذ أنهم أهل للشهادة على وجه القصور، وكذلك الحال إذا شهد أربعة أحدهم فاسق (1) .
وعند الشافعى أنه إذا شهد أربعة بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم فإن كان الرد بسبب ظاهر بأن كان أحدهم عبدًا أو كافرًا أو متظاهرًا بالفسق كان الأمر كما لو لم يتم العدد، لأن وجود هذا الشاهد كعدمه فلا يكمل العدد، وإن كان الرد بسبب خفى كالفسق الباطن ففيه وجهان: أن حكمه حكم ما لو نقص العدد لأن عدم العدالة كعدم الوجود، والوجه الثانى: أنهم لا يحدون قولاً واحدًا؛ لأنه إذا كان الرد بسبب باطن لم يكن من جهتهم تفريط فى الشهادة فهم معذورون
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص169، 170] .(2/420)
فلا حد عليهم، وإن كان الرد بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب الحد عليهم (1) . وفى مذهب أحمد ثلاث روايات إن كان الشهود غير مرضيين كلهم أو أحدهم، الأولى: عليهم الحد لأنها شهادة لم تكمل فوجب الحد على الشهود كما لو كانوا ثلاثة، والثانية: لا حد عليهم لأنهم جاءوا أربعة شهداء فدخلوا فى عموم الآية لأن عددهم كمل ورد الشهادة لمعنى غير تفريطهم، فأشبه ما لو شهد أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم أو فسقهم، والثالثة: إذا كانوا فساقًا فلا حد عليهم وإن لم يكونوا كذلك وكانوا غير مرضى الشهادة كالكفار والعميان فعليهم الحد (2) .
ويلاحظ بهذه المناسبة ما سبق أن قلناه من أن فى مذهب الشافعى وأحمد رأيًا يرى أصحابه أن لا يُحد الشهود إذا نقض عددهم ما دام أنهم قد جاءوا مجئ الشهود.
ومذهب الزيديين على أنه إذا كمل عدد الشهود سقط حد القذف عنهم ولو لم تكمل عدالتهم، لكن إذا لم يكونوا عدولاً لم يحد المقذوف، وكذلك لو كان أحد الشهود غير أهل للشهادة كالأعمى والمجنون، فإن الحد يسقط عن الشهود وعن المقذوف (3) ، ومعنى ما سبق أن الشهود لا يحدون إلا فى حالة واحدة هى أن لا يكمل عددهم أربعة.
أما الظاهريون فقد رأينا من قبل أنهم لا يرون حد الشاهد سواء كان وحده أو كان معه غيره، ذلك أن الحد جعل للقاذف لا للشاهد.
ومن المتفق عليه أن شاهد السماع لا حد عليه إذا لم تقبل شهادته أو لم يكمل عدد الشهود؛ لأن شهادته لا تعتبر قذفًا إذ أنه ينقل عن غيره والمفروض أنه حسن النية (4) ، فإذا شهد ثلاثة بأنهم رأوا الزنا وشهد الرابع بأنه سمع من آخر بأنه رأى الزنا لم تكمل الشهادة وحُدَّ شهود الرؤية عند من يرى حد الشهود إذا لم
_________
(1) المهذب [ج2 ص350] .
(2) المغنى [ج10 ص181] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص354، 355] .
(4) بدائع الصنائع [ج7 ص48] .(2/421)
تكمل الشهادة (1) ، ولم يحد شاهد السماع. أما إذا شهد اثنان بالسماع وشهد ثلاثة بالرؤية فتقبل الشهادة وتعتبر كاملة عند مالك والظاهريين، ولا تقبل عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والزيديين، ويحد الشهود الثلاثة عند أبى حنيفة والزيديين وعلى الرأى الراجح فى مذهبى الشافعى وأحمد.
وتقبل شهادة الشهود ولو اعترفوا بأنهم تعمدوا النظر إلى فرج المرأة ولا تبطل شهادتهم بذلك لأن أداء الشهادة فى الزنا يقتضى النظر إلى عين الفرج فيكون النظر مباحًا للشهود بقصد إقامة الشهادة، كما يباح للطبيب بقصد علاج المرض (2) .
وإذا رجع الشهود عن الشهادة أو واحد منهم، فيرى مالك أن يحد الشهود الراجعون عن شهادتهم حد القذف إذا كان الرجوع بعد الحكم سواء كان قبل الاستيفاء أو بعده، أما إذا كان الرجوع قبل الحكم فيحد جميع الشهود ولو كان الرجوع من أحدهم فقط لأن الشهادة لم تكمل (3) .
والأصل عند مالك أن الرجوع عن الشهادة قبل الحكم يسقط الشهادة لاعتراف الشهود بأنهم كانوا على وهم أو شك أو كانوا غير عدلين. أما إذا كان الرجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء فالشهادة لا تسقط، ولكن ينقض الحكم إذا تبين كذب الشهادة، كأن يتبين أن المتهم بالزنا مجبوب أو يظهر الشخص المدعى بقتله، وإذا كان الرجوع بعد الحكم وبعد الاستيفاء فلا تسقط الشهادة، ولا ينقض الحكم ولكن يعاقب الشهود (4) .
_________
(1) يحد الشهود فى هذه الحالة طبقًا لمذهب مالك وأبى حنيفة وزيد وعلى الرأى الراجح فى مذهب الشافعى ومذهب أحمد، ولكنهم لا يحدون طبقًا لمذهب الظاهريين لأنهم يجيزون شهادة السماع ويجيزون أن ينقل الواحد عن واحد.
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص176] ، المهذب [ج2ص352] ، المغنى [ج10 ص177] ، شرح الزرقانى [ج7 ص177] ، مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح الأزهار [ج4 ص388] .
(3) شرح الزرقانى [ج7 ص197] .
(4) شرح الزرقانى [ج7 ص196] .(2/422)
ويرى أبو حنيفة أنه إذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم، فإذا رجع أحدهم بعد الإمضاء فعليه ربع الدية وعليه حد القذف، ويرى زفر أن لا يحد، فإذا لم يحد المشهود عليه بالزنا حتى يرجع أحدهم - أى أن الرجوع يكون بعد القضاء وقبل الإمضاء - فإن الشهود يحدون جميعًا، وقال محمد وزفر: يحد الراجع وحده لأن الشهادة تأكدت بالقضاء، وإذا رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعًا، وقال زفر: يحد الراجع وحده (1) .
والقاعدة عند الشافعى أنه إذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء، أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء، فإن كان قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين فى الشهادة كاذبين فى الرجوع، ويحتمل أن يكونوا صادقين فى الرجوع كاذبين فى الشهادة، ولا حكم مع الشك، فإن رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان فى حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن هذه الحقوق تسقط بالشبهة، والرجوع شبهة ظاهرة، وإن رجعوا بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم.
ويترتب على هذه القواعد أنه إذا شهد أربعة بالزنا فرجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع حد القذف، وفى فقهاء المذهب من لا يرى حده لأنه أضاف الزنا للمشهود عليه بلفظ الشهادة دون قصد القذف وهو رأى مرجوح، وأما الثلاثة فلا حد عليهم قولاً واحدًا لأنه ليس من جهتهم تفريط ولأنهم شهدوا والعدد تام ورجوع الراجع لا يمكنهم الاحتراز منه، فإن رجعوا كلهم وقالوا تعمدنا الشهادة وجب عليهم الحد.
أما إذا رجعوا كلهم أو بعضهم بعد الحكم وقبل التنفيذ حد الراجع دون من لم يرجع. وإذا كان الرجوع بعد الحكم وبعد التنفيذ فكذلك الحكم، إلا إذا كانت العقوبة الرجم فعلى الشهود القود إذا تعمدوا فى شهادتهم ما يوجب القتل، وعليهم الضمان فى حالة الخطأ (2) .
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص172] .
(2) المهذب [ج2 ص350، 358] ، المغنى [ج10 ص182] .(2/423)
وعند أحمد: إذا رجع الشهود عن الشهادة أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد فى أصح الروايتين، وهذا يتفق مع مذهب أبى حنيفة، والثانية: يحد الثلاثة دون الراجع لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم فيسقط عنه الحد، ولأن فى درء الحد عنه تمكينًا له من الرجوع الذى تحصل به مصلحة المشهود عليه، وفى إيجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفًا من الحد (1) .
والمذهب الزيدى على أن رجوع الشهود قبل الحكم يبطل الشهادة، وكذلك الحال فى الرجوع بعد الحكم وقبل التنفيذ (2) ، ولذلك يحد الشهود حد القذف إذا رجعوا قبل تنفيذ الحكم، ويجب عليهم الأرش أو القصاص إذا كان الرجوع بعد تنفيذ الحكم (3) .
والقاعدة عند الظاهريين أن رجوع الشاهد عن شهادته قبل الحكم مبطل للشهادة وأن رجوعه عنها بعد الحكم مؤدٍّ لفسخ الحكم (4) ، وقد رأينا فيما سبق أنهم لا يرون حد الشاهد بالزنا أصلاً سواء كان معه غيره أو لم يكن (5) ، ويترتب على ذلك أنه إذا رجع أحد الشهود أو كلهم فلا حد على أحد منهم لأن الحد على القاذف لا على الشاهد.
وتقبل الشهادة على الخصى والعنين لتصور حصول الزنا منهما ولإمكان انتشار الآلة، بخلاف المجبوب فلا تقبل الشهادة عليه إذ لا يتصور منه الوطء.
وإذا شهد الشهود بحصول الزنا فدفعت المرأة بأنها عذراء عرضت على امرأة أو أكثر فإذا شهدن بأنها كذلك درئ الحد عنها، وتكفى شهادة امرأة واحدة إذا لم يوجد غيرها وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد، لأن شهادة المرأة الواحدة مقبولة عندهما فيما لا يطلع عليه الرجال، وعلى هذا المذهب الزيدى
_________
(1) المغنى [ج10 ص182] .
(2) شرح الأزهار [ج4 ص215] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص222، 348] .
(4) المحلى [ج9 ص429] .
(5) المحلى [ج11 ص260] .(2/424)
أيضًا (1) ، وأساس درء الحد احتمال كذب شهود الإثبات أو وهمهم، واعتبار ذلك شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
ويشترط الشافعى شهادة أربع نسوة، فإذا شهدن بأنها بكر لم يجب عليها الحد، لأنه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل، ويحتمل أن تكون عائدة لأن البكارة تعود إذا لم يبالغ فى الجماع، فلا يجب الحد مع الاحتمال، ولا يجب الحد أيضًا على الشهود؛ لأنه إذا درئ الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية والشهود كاذبون وجب أن يدرأ الحد عن الشهود لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون (2) .
ويشترط ابن حزم شهادة أربع نسوة لدرء الحد (3) ، ولكنه لا يكتفى بأن يقرر النساء أنها عذراء ويوجب أن يصفن عذريتها، فإن قلن إنها عذرة يبطلها إيلاج الحشفه ولابد وأنه صفاق عند باب الفرج فقد أيقنا بكذب الشهود وأنهم وهموا فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم، وإن قلن إنها عذرة واغلة فى داخل الفرج لا يبطلها إيلاج الحشفة فقد أمكن صدق الشهود، إذ بإيلاج الحشفة يجب الحد، فيقام الحد عليها حينئذ لأنه لم يتيقن كذب الشهود ولا وهمهم (4) .
ولا يدرأ ابن حزم الحد بالشبهة لأن المذهب الظاهرى لا يعترف بالشبهة كما قدمنا.
ورأى ابن حزم فى قبول شهادة النساء فى حالة ادعاء البكارة مخالف لفقهاء المذهب الظاهرى الذين يرون إهمال شهادة النفى والأخذ بشهادة الإثبات (5) .
أما مالك فلا يدرأ الحد ولو شهد أربع نسوة بأن المتهمة بالزنا عذراء، وحجته أن شهود الإثبات عاينوا الزنا، وأن الإيلاج ممكن مع بقاء البكارة، كما أن المثبت مقدم على النافى (6) .
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص169] ، المغنى [ج10 ص189] ، شرح الأزهار [ج4 ص350] .
(2) المهذب [ج2 ص351] .
(3) المحلى [ج9 ص395، 405] .
(4) المحلى [ج11 ص263، 264] .
(5) المحلى [ج11 ص263] .
(6) شرح الزرقانى [ج8 ص81] .(2/425)
شهود الإحصان: يرى مالك والشافعى وأحمد أنه يكفى فى إثبات الإحصان شهادة رجلين، لأنه حالة فى الشخص لا علاقة لها بواقعة الزنا، فلا يشترط أن يشهد بالإحصان أربعة رجال كما هو الحال فى الزنا (1) .
وفى مذهب أبى حنيفة يكفى أيضًا رجلان لإثبات الإحصان، ولكن فقهاء المذهب يرون أن الإحصان يثبت برجلين أو برجل وامرأتين، عدا زفر فيشترط أن يثبت برجلين (2) .
والمذهب الزيدى على أنه يكفى فى إثبات الإحصان عدلان ولو رجل وامرأتان (3) .
أما المذهب الظاهرى فلا يفرق فيه الفقهاء بين إثبات الزنا وإثبات الإحصان، وعدم التفرقة معناه أن الزنا والإحصان معًا يثبتان بأربعة شهود (4) .
وكل زنًا أوجب الحد لا يقبل فيه أقل من أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، ويدخل فى ذلك اللواط ووطء المرأة فى دبرها ووطء البهائم عند من يعطى هذه الأفعال حكم الزنا، أما من يعتبرها جرائم تعزيرية فيكتفى فى إثباتها بما يثبت به التعزير، وهو يثبت بشاهدين كما يرى البعض (5) ، ويثبت برجل وامرأتين، وبأربع نسوة، وبرجل واحد أو امرأتين مع يمين الطالب، كما يثبت النكول والإقرار (6) .
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى ومذهب أحمد أن كل وطء لا يوجب الحد ويوجب التعزير لا يثبت إلا بأربعة شهود؛ لأنه فاحشة ولأنه الإيلاج فى فرج
_________
(1) شرح الزرقانى [ج7 ص197] ، المهذب [ج2 ص359] ، الإقناع [ج4 ص451] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص176] .
(3) شرح الأزهار [ج4 ص343] .
(4) المحلى [ج9 ص395] .
(5) المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص190، 191] .
(6) المحلى [ج9 ص396] ، بدائع الصنائع [ج7 ص65] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص515] وما بعدها، مواهب الجليل [ج6 ص180] وما بعدها.(2/426)
محرم، فإن لم يكن الفعل وطئًا كالمباشرة دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين (1) .
سادسًا: أن يقتنع القاضى بشهادة الشهود: ولا يستلزم أداء الشهود للشهادة أن يحد المتهم بالزنا ما لم يقتنع القاضى بصحة الشهادة، فإذا اختلف الشهود فى وصف الفعل أو فى زمانه أو مكانه اختلافًا ينبئ بكذبهم أو كذب بعضهم رفضت شهادتهم، وهناك خلاف على حد الشهود فى هذه الحالة بين من يرون الشهود إذا لم تكمل الشهادة أو لم تقبل، فيرى البعض حدهم لأنهم شهدوا على وقائع مختلفة ليس على واقعة منها أربعة شهود فهم قذفة، ويرى البعض أن لا يحدوا وقد أدوا الشهادة، ويرى البعض أن يترك الأمر للقاضى ليقدر كل حالة بظروفها ولاحتمال أن تكون شبهة تدرأ الحد عن الشهود.
ويحاول الفقهاء فى كتبهم أن يأتوا على أهم وجوه الاختلاف بين الشهود: من ذلك أن يشهد اثنان أنه زنا بها فى هذا البيت، ويشهد اثنان أنه زنى بها فى بيت آخر، أو أن يشهد اثنان بأنه زنا بها فى بلد غير البلد الذى شهد صاحباهما، أو أن يختلفوا على اليوم أو الشهر أو السنة التى وقع فيها الزنا، فإن كان هذا الخلاف فالجميع قذفة عند مالك وعند بعض فقهاء مذهب الشافعى وأحمد وعند زفر من فقهاء المذهب الحنفى، بينما يرى أبة حنيفة وبعض فقهاء مذهب الشافعى وأحمد أن لا حد على الشهود لأنهم كملوا أربعة (2) .
ويرى ابن الماجشون من فقهاء المالكية أن شهادة الشهود تصح ولو اختلفوا إذا كان الخلاف فيما لو لم يذكروه تمت شهادتهم ولم يلزم الحاكم أن يسألهم عنه (3) .
وإذا شهد اثنان أنه زنا بها فى زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنا بها فى زاوية أخرى منه وكانت الزاويتان متباعدتين فالقول فيهما كالقول فى البيتين، وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحُدَّ المشهود عليه فى رأى أبى حنيفة وأحمد،
_________
(1) المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص190، 191] .
(2) مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح فتح القدير [ج4 ص164] ، المهذب [ج2 ص357] ، المغنى [ج10 ص183] .
(3) مواهب الجليل [ج6 ص179] .(2/427)
وعند الشافعى ومالك وزفر لا حد على المشهود عليه لأن الشهادة لم تكمل (1) .
وإن شهد اثنان بأنه زنا بها مكرهة، وشهد اثنان بأنه زنا بها مطاوعة، فلا حد عليها إجماعًا لأن الشهادة لم تكمل على فعل موجب لحد المرأة، أما الرجل فقد اختلفوا فيه، فرأى البعض أن لا حد عليه لأن البينة لم تكمل على فعل واحد؛ فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين، وذلك يمنع من قبول الشهادة أو يكون شبهة فى درء الحد، ولا يخرج المر على أن يكون قول واحد منهما مكذبًا للآخر، ولا يصح هذا إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة فى أحدهما ومكرهة فى الآخر، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدى المطاوعة قاذفان لها ولم تكمل البينة فلا تقبل شهادتهما على غيرها، وهذا هو رأى مالك وأبى حنيفة وأحد الوجهين فى مذهبى الشافعى وأحمد.
ورأى البعض أن الحد واجب على الرجل لأن الشهادة كملت على وجود الزنا منه بعد أن أجمع الشهود على أنه أتى الفعل، واختلاف الشهود إنما هو فى فعل المرأة لا فى فعل الرجل، فلا يمنع هذا الاختلاف من كمال الشهادة عليه، وهذا هو رأى أبى يوسف ومحمد من فقهاء الحنفية ووجه فى مذهبى الشافعى وأحمد.
أما الشهود ففيهم ثلاثة أوجه: أحدها: لا حد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم. وثانيها: عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنا ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم. وثالثها: يجب الحد على شاهدى المطاوعة لأنهما قذفا المرأة بالزنا ولم تكمل شهادتهما عليها، أما شاهدا الإكراه فلا يجب الحد عليهما لأنهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهما على الرجل وإنما انتفى عنه الحد للشبهة (2) .
_________
(1) مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح فتح القدير [ج4 ص167] ، المهذب [ج2 ص357] ، المغنى [ج10 ص183] .
(2) يراجع فى كل ما سبق: مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح فتح القدير [ج4 ص166] ، المهذب [ج2 ص357] ، المغنى [ج10 ص185] .(2/428)
ويرى الزيديون أن الاختلاف لا أهمية له إلا إذا كان على حقيقة الفعل وهو الإيلاج أو مكان الفعل أو وقته أو كيفيته من اضطجاع أو قيام أو غير ذلك، فإن اتفقت شهادة الشهود على ذلك لزم الحد، وإن اختلف فى شئ منه أو أجملوا ولم يفصلوا لم تصح شهادتهم ولا حد عليهم لكمال البينة (1) .
والقاعدة عند الظاهريين أن ما لا تتم الشهادة إلا به فإن الاختلاف فيه مفسد للشهادة، وعندهم أن الشهادة تتم فى الزنا إذا كانت على حصول الزنا من رجل بامرأة أجنبية عنه، وكان الشهود على يقين من ذلك، فإذا اختلف الشهود بعدها فى المكان أو فى الزمان أو فى وصف المزنى بها فلا عبرة باختلافهم، لأن ذكر ذلك والسكوت عنه سواء، ومن ثمَّ تكون الشهادة تامة والحد واجب مع الاختلاف فى هذه المسائل (2) .
ومن المتفق عليه أن الشهادة على الزنا لا تستلزم قيام دعوى سابقة على الشهادة فيجوز أن يتقدم الشهود بالشهادة دون قيام دعوى الزنا ويترتب على تقدمهم بالشهادة قيام الدعوى، ويحتج الفقهاء فى هذا الوجه بقضية أبى بكرة حيث شهد هو وأصحابه على المغيرة من غير تقدم دعوى، وبقضية الجارود حيث شهد هو وآخر على قدامة بن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى.
والعلة فى عدم اشتراط قيام الدعوى فى الزنا أن الحد فى الزنا حق الله تعالى فلا تفتقر الشهادة به إلى قيام الدعوى، لأن الدعوى فى سائر الحقوق إنما تكون من المستحق، وهذا لا حق فيه لأحد من الآدميين فيدعيه، ولو توقفت الشهادة على قيام الدعوى لما أقيمت الشهادة ولا الدعوى (3) .
ويشترط لصحة الشهادة ولتكون مقنعة للقاضى أن تكون مبنية لماهية الزنا وكيفيته ومتى كان وأين وقع وبمن زنا، وعلى القاضى أن يستفصل الشهود فى هذا كله ليصل إلى حقيقة الأمر.
_________
(1) شرح الأزهار [ج4 ص338] .
(2) المحلى [ج11 ص147] .
(3) المغنى [ج10 ص188] .(2/429)
فأما عن ماهية الزنا فلأن الزنا اسم يقع على أنواع لا توجب الحد، فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه"، ولا شك أن الحد لا يجب إلا بوطء الفرج بحيث يكون الذكر فى الفرج كالميل فى المُكْحُلة.
وأما عن الكيفية فلاحتمال أن يريد الشهود بالزنا الجماع فيما دون الفرج، لأن ذلك يسمى جماعًا حقيقة أو مجازًا ولكنه لا يوجب الحد.
وأما عن الزمان فلاحتمال أن يشهد بعض الشهود على واقعة غير التى يشهد عليها البعض الآخر، ولاحتمال أن يشهد الشهود بزنا متقادم، والتقادم على رأى أبى حنيفة يمنع من قبول الشهادة كما قدمنا، ولاحتمال أن يشهدوا على زنًا وقع منه وهو صغير.
وأما عن المكان فلاحتمال أن يكون الزنا الذى يشهد به البعض وقع فى بلد غير البلد الذى يشهد البعض الآخر بحصول الزنا فيه، أو لاحتمال أن يكون الزنا وقع فى دار الحرب أو البغى ومثل هذا الزنا لا يعاقب عليه فى رأى أبى حنيفة.
وأما عن المزنى بها فلاحتمال أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها، وإذا كان أبو حنيفة يشترط لقبول الشهادة أن يعرف الشهود الرجل والمرأة، فإن غيره لا يشترط ذلك ويترك لمن ادعى حل الوطء أن يقيم البينة عليه.
وإذا أنكر المتهم الإحصان وشهد به الشهود فعليهم أن يبينوا شروطه، وعلى القاضى أن يستفصل منهم ذلك لاحتمال أنهم يجهلون ماهية الإحصان.
وعلى القاضى أن يستفصل كل مسقطات الحد كما عليه أن يستفصل كل ما يثبته، وأن يتحرى عدالة الشهود وصحة عقولهم وأبصارهم وانتفاء العداوة بينهم وبين المشهود عليه، وغير ذلك مما ترد به الشهادة، حتى يأتى حكمه صحيحًا غير مشوب بعيب (1) .
_________
(1) يراجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى [ج7 ص177] ، شرح فتح القدير [ج4 ص115، 165] ، المهذب [ج2 ص354] ، الإقناع [ج4 ص433] ، شرح الأزهار [ج4 ص351] .(2/430)
علم القاضى: وإذا شهد القاضى حادث الزنا وقت وقوعه فليس له أن يقضى بعلمه على ما يراه جمهور الفقهاء، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وهو أحد قولى الشافعى وعليه أكثر الشافعيين، وحجتهم قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وقوله: {فَإِذْا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، ولأن القاضى كغيره من الأفراد لا يجوز له أن يتكلم بما شهده ما لم تكن لديه البينة الكاملة، ولو رمى القاضى زانيًا بما شهده منه وهو لا يملك على ما يقول البينة الكاملة لكان قاذفًا يلزمه حد القذف، وإذا كان قد حرم على القاضى النطق بما يعلم فأول أن يحرم عليه العمل به.
ويستدلون أيضًا بما روى عن أبى بكر رضى الله عنه من قوله: "لو رأيت رجلاً على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندى".
وعندهم أن القاضى إذا كان قد شهد الحادث ومعه ثلاثة غيره فله أن يتنحى عن القضاء ويشهد، فإذا لم يتنح عن القضاء فليس له أن يعتبر علمه متممًا لشهادة الثلاثة (1) .
أما الرأى الثانى فى مذهب الشافعى فيقوم على جواز أن يحكم القاضى بعلمه، وسند هذا الرأى ما رواه أبو سعيد الخدرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع أحدكم هيبته الناس أن يقول فى حق إذا رآه أو علمه أو سمعه"، ويقول أصحاب هذا الرأى: إنه إذا جاز للقاضى أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن، فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى (2) .
والمذهب الزيدى لا يجيز للقاضى أن يحكم بعلمه فى الحدود إلا فى حد القذف ويجيز له أن يحكم بعلمه فيما عدا ذلك، فيحكم بعلمه فى القذف والقصاص والأموال سواء علم ذلك قبل قضائه أو بعده، ويحتجون لذلك بقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ
_________
(1) شرح الزرقانى [ج7 ص150] ، بدائع الصنائع [ج7 ص52] ، المغنى [ج10 ص191] ، المهذب [ج2 ص320] .
(2) المهذب [ج2 ص320] .(2/431)
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، ويرون أن علم القاضى ابلغ من الشهادة وأن من حكم بعلمه فقد حكم بما أراه الله (1) .
أما الظاهريون فيرون أنه فرض على القاضى أن يقضى بعلمه فى الدماء والقصاص والأموال والفروج والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه لأنه يقين الحق ثم بالإقرار ثم بالبينة، وحجتهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه.."، فصح أن القاضى عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره، وصح أن فرضنا على القاضى أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطى كل ذى حق حقه وإلا فهو ظالم (2) .
* * *
المبحث الثانى
الإقرار
538 - يثبت الزنا أيضًا بالإقرار الزانى: ويشترط أبو حنيفة وأحمد أن يقر الزانى بالزنا أربع مرات قياسًا على اشتراط الشهود الأربعة، ولما رواه أبو هريرة فقال: أتى رجل من الأسلميين (وهو ماعز) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى المسجد فقال: يا رسول الله إنى زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول إنى زنيت، فأعرض عنه، حتى قال ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبك جنون؟ "، قال: لا، قال: "أحصنت؟ "، قال: نعم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به فارجموه". ولو وجب الحد بالإقرار مرة واحدة لم يعرض عنه رسول الله لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله. وروى نعيم بن هزال هذا الحديث وفيه: "حتى قالها أربع مرات، فقال له رسول الله: "إنك قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة" رواه أبو داود، وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هى الموجبة.
وروى أبو برزة الأسلمى أن أبا بكر الصديق قال لهذا المقر عند النبى - صلى الله
_________
(1) شرح الأزهار [ج4 ص320] .
(2) المحلى [ج9 ص427] .(2/432)
عليه وسلم -: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا دليل من وجهين: أحدهما: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ. والثانى: أن أبا بكر قد علم أن هذا من حكم النبى - صلى الله عليه وسلم - ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه، وعلى هذا يجب أن يتعدد الإقرار وأن يكون أربع مرات فإن قل عنها فلا يعتبر (1) .
أما مالك والشافعى فمن رأيهما الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة؛ لأن الإقرار إخبار والخبر لا يزيد بالتكرار، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فعلق الرجم على مجرد الاعتراف والظاهر الاكتفاء بأقل ما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة، أما إعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ماعز حتى أقر أربع مرات فراجع إلى أن الرسول استنكر عقله، ولذا أرسل لقومه مرتين يسألهم عن عقله حتى أخبروه بصحته فأمر برجمه (2) .
ويشترط أبو حنيفة أن تكون الأقارير الأربعة فى مجالس مختلفة للمقر نفسه ولو حدثت فى مجلس واحد للقاضى (3) .
ويستوى عند أحمد أن تكون الأقارير الأربعة فى مجلس واحد أو مجالس متفرقة، فإذا أقر أربع مرات فى مجلس واحد أو فى مجالس متفرقة فالإقرار صحيح (4) .
ويشترط لقبول الإقرار أن يكون مفصلاً مبينًا لحقيقة الفعل بحيث تزول كل شبهة فى الإقرار خصوصًا وأن الزنا يعبر به عما لا يوجب الحد كالوطء خارج الفرج، والأصل فى الاستفصال والتبين هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءه ماعز يعترف بالزنا ويكرر اعترافه فسأل - صلى الله عليه وسلم - هل به جنون
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص117] ، المغنى [ج10 ص165] .
(2) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص118] .
(4) المغنى [ج10 ص167] .(2/433)
أو هو شارب خمر وأمر من يشم رائحته، وجعل يستفسره عن الزنا فقال له: "لعلك قبلت أو غمزت؟ "، وفى رواية أخرى: "هل ضاجعتها؟ " قال: نعم، قال: "فهل باشرتها؟ " قال: نعم، قال: "هل جامعتها؟ " قال: نعم، وفى حديث ابن عباس: "أنكتها؟ " لا يُكَنِّى، قال: نعم، قال: دخل ذلك منك فى ذلك منها؟ قال: نعم، قال: وكما يغيب المرود فى المكحلة والرشاء فى البئر؟ قال: نعم، قال: أتدرى ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتى الرجل من امرأته حلالاً. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرنى، فأمر به فرجم. فدل ذلك كله على أنه يجب فى الإقرار أن يكون مفصلاً مبينًا لحقيقة الفعل المقر به (1) .
ويترتب على هذا أن الزانى إذا أقر فلا يؤخذ إقراره قضية مسلمة، وعلى القاضى لكى يتحقق من صحة إقراره أن يتحقق أولاً من صحة عقله كما فعل الرسول مع ماعز، قال: "أبك خبل أم بك جنون؟ " وبعث لقومه يسألهم عن حاله، فغذا عرف القاضى أن الزانى صحيح العقل سأله عن ماهية الزنا وكيفيته ومكانه وعن المزنى بها وعن زمان الزنا، فإذا بين ذلك كله على وجه يجعله مسئولاً جنائيًا سأله أمحصن هو أم لا، فإن اعترف بالإحصان سأله عن ماهيته. وسؤال المقر عن زمان الزنا ليس المقصود منه النظر إلى القادم وإنما احتمال أن يكون الزنا وقع قبل البلوغ، والإقرار على قوته حجة قاصرة على نفس المقر لا تتعداه إلى غيره، فمن أقر بأنه زنا بإمرأة أخذ باعترافه أما المرأة فإن أنكرت فلا مسئولية عليها، وإن اعترفت أيضًا أُخذت باعترافها لا باعتراف الرجل، وعلى هذا جرت سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو داود عن سهل بن سعد أن رجلاً جاء الرسول فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (2) .
_________
(1) سبل السلام [ج4 ص7، 8] ، المغنى [ج10 ص167] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] ، شرح فتح القدير [ج4 ص115] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص120، 158] ، المغنى [ج10 ص168] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المهذب [ج2 ص285] .(2/434)
ولا يشترط حضور شريك المقر فى الزنا فى مجلس الإقرار كما لا يشترط ذلك فى الشهادة، فلو أقر شخص بأنه زنا بامرأة غائبة أقيم عليه الحد. ويصح الإقرار بالزنا ولو جهل المقر شخصية شريكه فى الزنا لأنه بنى إقراره على حقيقة الحال، وإذا أقر الرجل أنه زنا بامرأة فكذبته فهو مأخوذ بإقراره وعليه الحد دونها، كما يرى مالك والشافعى وأحمد (1) ؛ لأن الإقرار حجة فى حق المقر وعدم ثبوت الزنا فى حق غير المقر لا يورث شبهة ما فى حق المقر.
ولكن أبا حنيفة يرى أن لا يحد الرجل المقر لأن الحد انتفى فى حق المنكر بدليل موجب للنفى عنه فأورث شبهة الانتفاء فى حق المقر؛ لأن الزنا فعل واحد يتم بهما فإن تمكنت فيه شبهة تعدت إلى طرفيه، وهذا لأنه ما أقر بالزنا مطلقًا إنما أقر بالزنا بفلانة وقد درأ الشرع عن فلانة وهو عين ما أقر به فيندرئ عنه ضرورة، بخلاف ما لو أطلق فقال زنيت، فإنه وإن احتمل كذبه لكن لا موجب شرعى يدفعه، وبخلاف ما لو كانت غائبة لأن الزنا لم ينتف فى حقها بدليل يوجب النفى وهو الإنكار. ويتفق رأى أبى يوسف ومحمد مع رأى الأئمة الثلاثة (2) .
ويشترط بعد تفصيل الإقرار أن يكون الإقرار صحيحًا، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر عن عاقل مختار، فيجب أن يكون المقر عاقلاً مختارًا لأن المكره والمجنون لا حكم لكلامهما والقلم مرفوع عنهما، وقد روى عن على رضى الله عنه أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"، وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
539 - إقرار زائل العقل: ينقل ما كتب عن ذلك فى القتل ويضاف إليه: وإن كان يجن مرة ويفيق مرة أخرى فأقر فى إفاقته أنه زنا وهو مفيق فعليه الحد
_________
(1) أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص168] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص158] .(2/435)
دون خلاف لأن الزنا الموجب للحد وقع منه فى حال تكليفه والقلم غير مرفوع عنه وإقراره وجد فى حال يعتبر فيها كلامه، فإن أقر فى إفاقته ولم يضف الزنا إلى حال الإفاقة لم يجب الحد؛ لأنه يحتمل أن الزنا وقع فى حال الجنون ولا يجب الحد مع الاحتمال (1) .
540 - إقرار النائم: والنائم مرفوع عنه القلم، فلو زنا بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه الزنا حال نومه، فلا حد عليه؛ لأن القلم مرفوع عنه، ولو أقر فى حال نومه لم يلتفت لإقراره لأن كلامه غير معتبر ولا يدل على صحة مدلولة (2) .
ويشترط أبو حنيفة فى المقر أن يكون قادرًا على النطق لأن الإقرار عنده يجب أن يكون بالخطاب والعبارة لا بالكتاب والإشارة، وعنده أن الأخرس لو أقر فى كتاب وأشار إلى صحة صدوره منه إشارة معلومة لم يقبل إقراره لأن الشريعة علقت الحد على البيان المتناهى والبيان لا يتناهى إلا بالصريح والإشارة والكتابة بمنزلة الكناية، ولكن الأئمة الثلاثة يقبلون إقرار الأخرس إذا فهمت إشارته (3) .
ومن المتفق عليه أن البصر لا يعتبر شرطًا فى الإقرار، فإقرار الأعمى بالزنا صحيح، ولا يقبل الإقرار ممن لا يتصور وقوع الفعل منه كالمجبوب إذ لا يمكن أن يقع منه الفعل لانعدام الآلة، ويقبل إقرار الخصى والعنين لتصور الزنا منهما إذ لا يشترط لتحقق الوطء أكثر من دخول الحشفة فى الفرج ولو بغير انتشار (4) .
541 - أثر التقادم على الإقرار: لا أثر للتقادم على الإقرار بالزنا عند من يقول بالتقادم؛ لأن أثر التقادم على الشهادة بنى على تمكن التهمة والضغينة، أما الإقرار فلا تهمة فيه لأن المرء لا يُتهم فيما يقر به على نفسه (5) .
_________
(1) المغنى [ج10 ص170] .
(2) المغنى [ج10 ص170] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص117] ، بدائع الصنائع [ج7 ص49] ، المغنى [ج10 ص171] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] .
(4) المغنى [ج10 ص171] ، بدائع الصنائع [ج7 ص50] .
(5) شرح فتح القدير [ج4 ص161] .(2/436)
542 - التحايل على الإقرار: ولا يصح للقاضى أن يحتال للحصول على الإقرار، وليس له أن يشجع المقر على الإقرار، ولا بأس من أن يظهر الكراهة للإقرار كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ماعز حيث أعرض عنه عند إقراره، وقد كان عمر رضى الله عنه يقول: "اضربوا المعترفين" أى بالزنا (1) .
ويشترط أبو حنيفة أن يكون الإقرار فى مجلس القضاء فإن أقر فى غير مجلس القاضى فلا تقبل الشهادة على هذا الإقرار؛ لأنه إما أن يقر وإما أن ينكر، فإن أقر كانت الشهادة لغوًا وكان الحكم للإقرار لا للشهادة، وإن أنكر اعتبر إنكاره رجوعًا عن الإنكار والرجوع عن الإقرار صحيح فى الحدود الخالصة حقًا لله كحد الزنا (2) .
ولا يشترط مالك والشافعى وأحمد أن يكون الإقرار فى مجلس القضاء، فيجوز أن يكون من المقر فى مجلس القضاء ويجوز أن يحصل فى غير مجلس القضاء ويشهد به الشهود فى مجلس القضاء، ولكنهم اختلفوا فى الشهادة بالإقرار، فرأى مالك أن الشهادة على الإقرار تقبل فإذا أنكر حصول الإقرار اعتبر إنكاره رجوعًا (3) .
ويرى الشافعى قبول الشهادة على الإقرار، فإن أنكر حصول الإقرار منه لم يقبل إنكاره ولا يعتبر عدولاً عن الإقرار لأنه تكذيب للشهود والقاضى. أما إن أكذب نفسه فى إقراره فإن تكذيبه يعتبر رجوعًا عن الإقرار (4) .
ورأى أحمد قبول الشهادة بالإقرار بشرط أن يشهد بالإقرار أربعة، فإن أنكر أو صدقهم دون أربع مرات فلا حد عليه؛ لأن إنكاره يعتبر رجوعًا، ولأن تصديقهم لا يكفى فيه مرة واحدة لأن الإقرار عند أحمد يشترط فيه أن يكون أربع مرات (5) .
ويلاحظ أن الإقرار يثبت عند مالك والشافعى بشهادة شاهدين فقط.
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص121] ، المغنى [ج10 ص188] ، المهذب [ج2 ص364] .
(2) بدائع الصنائع [ج7 ص50] .
(3) شرح الزرقانى [8 ص81] .
(4) أسنى المطالب [ج4 ص132] .
(5) الإقناع [ج4 ص255] .(2/437)
543 - الإقرار فى مجلس القضاء: وإذا أقر الزانى بالزنا ثم رجع عن إقراره سقط عنه الحد؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقًا فى الرجوع وهو الإنكار، ويحتمل أن يكون كاذبًا فيه، فإن كان صادقًا فى الإنكار فهو كاذب فى الإقرار، وإن كان كاذبًا فى الإنكار فهو صادق فى الإقرار، وهذا الاحتمال يورث شبهة فى الحد والحدود تدرأ بالشبهات. وقد روى أن ماعزًا لما أقر بالزنا بين يدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقنه الرجوع، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلك قبلتها لعلك مسستها. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لامرأة متهمة بالسرقة: أسرقت؟ قولى لا، ما أخالك سرقت. وليس ذلك إلا تلقينًا للرجوع عن الإقرار، ولو لم يكن الحد محتمل السقوط بالرجوع ما كان للتلقين معنى، وتلك هى السنة للإمام والقاضى إذا أقر عنده أحد بشئ من أسباب الحدود الخالصة أن يعرض له بالرجوع.
544 - الرجوع عن الإقرار: ويصح الرجوع عن الإقرار قبل القضاء وبعد القضاء، ويصح قبل الإمضاء وأثناء الإمضاء، فإذا رجع أثناء الإمضاء أوقف تنفيذ العقوبة، والرجوع عن الإقرار قد يكون دلالة كهرب المرجوم أثناء الرجم أو الجلد، فإذا هرب لم يؤخذ ثانية للتنفيذ لأن الهرب دلالة الرجوع، والأصل فى ذلك أنه لما هرب ماعز تبعوه حتى قتلوه ولما ذكر ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلا تركتموه"، وهذا دليل على أن الهرب دليل الرجوع وأن الرجوع مسقط للحد، ويعتبر مالك وأبو حنيفة وأحمد مجرد الهرب وقت التنفيذ رجوعًا دون حاجة إلى التصريح بالرجوع، أما الشافعية فيرون أن الهرب ذاته ليس رجوعًا ولكنه يقتضى الكف عنه لاحتمال أنه قصد الرجوع، فإذا كف فرجع سقط الحد وإذا لم يرجع تحتم تنفيذ الحد (1) .
وكما يصح الرجوع عن الإقرار بالزنا يصح الرجوع عن الإقرار بالإحصان، فإذا أقر شخص بأنه زنا وهو محصن فله أن يرجع عن إقراره بالزنا وله أن يثبت
_________
(1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، بدائع الصنائع [ج7 ص61] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص173، 195] .(2/438)
على الإقرار بالزنا ويعدل عن الإقرار بالإحصان، فإذا فعل سقط حد الرجم ووجب حد الجلد (1) .
وإذا اجتمعت الشهادة مع الإقرار فمذهب أبى حنيفة على أن الشهادة تبطل باعتراف المشهود عليه قبل القضاء اتفاقًا، أما إذا كان الإقرار بعد القضاء بالحد على أساس الشهادة فيرى أبو يوسف سقوط العقوبة لأن الإمضاء فى الحدود من القضاء ولأن شرط الشهادة هو عدم الإقرار، أما محمد فلا يسقط العقوبة فى هذه الحالة (2) .
وترتب على ما سبق أن من يثبت عليه الزنا بشهادة الشهود ثم أقر فحكم عليه بالعقوبة يسقط عنه الحد إذا رجع عن الإقرار سواء كان رجوعه صريحًا أم دلالة. ويرى مالك وأحمد أن الزانى إذا تمت عليه البينة وأقر على نفسه إقرارًا صحيحًا ثم رجع عن إقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه لأنه ثابت من وجه آخر بشهادة الشهود (3) .
وفى مذهب الشافعى يرون أنه إذا ثبت الحد بالبينة ثم أقر المشهود عليه بعد ذلك عدل عن إقراره، فإن عدوله لا يسقط الحد الثابت بالبينة وإلا كان الإقرار ذريعة لإسقاط العقوبات.
أما إذا أقر بالزنا أولاً ثم قامت بينة بزناه فرجع عن إقراره فهناك آراء مختلفة، فالبعض يرى أن الرجوع لا يسقط الحد لبقاء حجة البينة كما لو شهد عليه ثمانية مثلاً فردت شهادة أربعة، والبعض يرى سقوط الحد بالرجوع لأنه لا أثر للبينة مع الإقرار وقد بطل الإقرار بالرجوع، والبعض يرى أن العبرة بالدليل الذى استند عليه الحكم. فإن كان الحكم قد استند إلى البينة والإقرار معًا أو على البينة وحدها فإن الرجوع لا يسقط الحد، أما إذا استند الحكم على الإقرار، وحده فإن الرجوع يسقط الحد. ويرى البعض أنه عند اجتماع الإقرار مع الشهادة يجب
_________
(1) بدائع الصنائع [ج7 ص61] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص124] .
(3) الإقناع [ج4 ص256] .(2/439)
أن يسند الحكم على الشهادة فيما يتعلق بحقوق الله لأن البينة أقوى من الإقرار، أما فيما يتعلق بحقوق الآدميين فيجب أن يستند الحكم على الإقرار لأنه أقوى من الشهادة ولأن الإقرار فى حقوق الآدميين لا يؤثر على الرجوع. ويرى البعض أن الحكم يستند فى الحالين إلى الإقرار والشهادة معًا (1) .
وإذا سمع القاضى الإقرار فى غير مجلس القضاء فليس له أن يقضى على أساس ما سمع (2) .
وهذا هو مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد، أما الشافعى ففى مذهبه رأيان أرجحهما يرى أن لا يقضى القاضى على أساس ما رآه أو علمه أو سمعه، والثانى يرى أصحابه أن يقضى القاضى بما رآه أو سمعه أو علمه (3) .
القرائن
545 - القرائن: القرينة المعتبرة فى الزنا هى ظهور الحمل فى امرأة غير متزوجة أو لا يعرف لها زوج، ويلحق بغير المتزوجة من تزوجت بصبى لم يبلغ الحلم أو بمجبوب، ومن تزوجت بالغًا فولدت لأقل من ستة أشهر.
والأصل فى اعتبار قرينة الحمل دليلاً على الزنا قول أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - وفعلهم: فعمر رضى الله عنه يقول: الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنًا إذا أقامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف. وروى عن عثمان رضى الله عنه أنه أُتى بامرأة ولدت لستة أشهر كاملة فرأى عثمان أن ترجم، فقال علىّ: ليس لك عليها سيبل قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . وروى عن على رضى الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إن الزنا زنيان: زنا سر وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمى، وزنا
_________
(1) أسنى المطالب [ج4 ص132] .
(2) بدائع الصنائع [ج7 ص52] ، شرح الزرقانى [ج8 ص84] .
(3) المهذب [ج2 ص320] .(2/440)
العلانية أن يظهر الحبل والاعتراف.
هذا هو قول الصحابة ولم يظهر لهم مخالف فى عصرهم فيكون إجماعًا.
والحمل ليس قرينة قاطعة على الزنا بل هو قرينة تقبل الدليل العكسى، فيجوز إثبات أن الحمل حدث من غير زنًا، ويجب درء الحد عن الحامل كلما قامت شبهة فى حصول الزنا أو حصوله طوعًا، فإذا كان هناك مثلاً احتمال بأن الحمل كان نتيجة وطء بإكراه أو بخطأ وجب درء الحد، وإذا كان هناك احتمال بأن الحمل حدث دون إيلاج لبقاء البكارة امتنع الحد، إذ قد تحمل المرأة من غير إيلاج بأن يدخل ماء الرجل فى فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها أو نتيجة وطء خارج الفرج. ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أنه إذا لم يكن دليل على الزنا غير الحمل فادعت المرأة أنها أُكرهت أو وُطئت بشبهة فلا حد عليها، فإذا لم تدع إكراهًا ولا وطًأ بشبهة فلا حد عليها أيضًا ما لم تعترف بالزنا؛ لأن الحد أصلاً لا يجب إلا ببينة أو بإقرار (1) .
546 - اللعان: أما مالك فيرى أن ظهور الحمل فى غير المتزوجة يوجب عليها الحد دون حاجة لإقرار منها، وأن ادعاءها الإكراه والوطء بشبهة لا يكفى وحده لدرء الحد عنها بل عليها أن تقيم دليلاً أو قرينة على صحة دفاعها، كأن تثبت أنها بلغت عمن أكرها، أو أن أناسًا شهدوها متعلقة به تستغيث عقب الإكراه، أو أنهم شهدوها تستغيث والدماء تلوث ملابسها بعد أن أزيلت بكارتها (2) .
تنفيذ العقوبة
547 - مقدار الحد: إذا ثبت الزنا دون شبهة وجب على القاضى أن يحكم بعقوبة الحد وهى رجم المحصن وجلد غير المحصن مائة جلدة وتغريبه.
_________
(1) المغنى [ج10 ص192] ، شرح الزرقانى [ج8 ص81] .
(2) المغنى [ج10 ص192] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] .(2/441)
مقارنة بين الشريعة والقانون عن الأدلة على الزنا
548 - التكييف الشرعى لحد الزنا: يكيف الفقهاء حد الزنا بأنه حق لله تعالى، والأصل عندهم أن الحد يعتبر حقًا لله تعالى إذا استوجبته المصلحة العامة وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم.
وكل جناية ذات حد يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة عقوبتها تعود عليهم فتعتبر العقوبة المقررة عليها حقًا لله تعالى، تأكيدًا لتحقيق النفع ودفع المضرة وحتى لا تسقط العقوبة بإسقاط الأفراد لها.
وتمتاز عقوبة الحد عن غيرها من العقوبات بأنها لا تقبل عفوًا ولا صلحًا ولا إبراء ولا تخفيضًا ولا استبدالً.
هذا هو تكييف الفقهاء للحد، وهو تكييف ليس بعيدًا عن نظرة شراح القوانين الوضعية للعقوبة، فهم يعتبرونها حق الجماعة لأن المصلحة العامة تستوجبها. وقد يظن أن الاختلاف واقع فى الأساس لا فى المعانى، ولكن الواقع أن الخلاف فيهما معًا، فالحد يختلف عن العقوبة فى القوانين الوضعية بأنه لا يقبل العفو ولا الاستبدال والعقوبة فى القوانين الوضعية تقبلهما، ولعل اعتبار الحد حقًا لله هو الذى منع قبول العفو والاستبدال؛ لأن الأفراد والجماعة ليس لهم العفو عما هو حق الله وليس لهم تبديل ما أمر به الله، ولو كان الحد حق الجماعة لأمكن أن يعفو عنه ممثل الجماعة أو يستبدل به غيره. على أن الشريعة نوعًا من العقوبات التقديرية شرع للمصلحة العامة ويعتبر حق الجماعة، ولممثل الجماعة أن يعفو عنه وأن يستبدل به غيره من عقوبات التعازير، وهذا النوع من العقوبة هو الذى يتفق تمام الاتفاق فى التكيف مع العقوبات المقررة فى القوانين الوضعية.
549 - تعدد العقوبات: وإذا تعددت العقوبات المحكوم بها على الجانى نفذت جميعًا ما لم تتداخل أو يجبُّ بعضها البعض الآخر.
التداخل: معنى التداخل هو أن الجرائم فى حالة التعدد تتداخل عقوباتها(2/442)
بعضها فى بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة ولا ينفذ على الجانى إلا عقوبة واحدة كما لو كان قد ارتكب جريمة واحدة.
ويحدث التداخل فى حالتين:
الأولى: إذا كانت الجرائم جميعها من نوع واحد كالزنا المتعدد والسرقات المتعددة والشرب المتعدد، ففى هذه الحالة تتداخل العقوبات المتعددة ويجزى عنها جميعًا عقوبة واحدة، فإذا ارتكب الجانى جريمة أخرى من نفس النوع بعد إقامة العقوبة عليه وجبت لهذه الجريمة الأخرى عقوبة ثانية، أما إذا ارتكب أى جريمة أخرى من نفس النوع قبل تنفيذ العقوبة عليه فإن عقوبة الجريمة الجديدة تتداخل مع عقوبات الجرائم السابقة ما دامت جميعًا من نوع واحد، والعبرة فى التداخل بتنفيذ العقوبة لا الحكم بها فالعقوبات تتداخل ما دامت لم تنفذ ولو تعددت الأحكام الصادرة بها، أى أن صدور الحكم بعقوبة ما لا يمنع من تداخلها فى عقوبة أخرى.
ويحدث التداخل ما دامت الجرائم من نوع واحد ولو اختلف أركانها وعقوباتها كالزنا من محصن تتداخل عقوبته مع عقوبة الزنا من غير محصن لأن الجريمتين من نوع واحد، ولا عبرة باختلاف الأركان ونوع العقوبة ولكن فى مثل هذه الحالة تكون العقوبة الأشد هى الواجبة، فمن زنا وهو بكر ثم زنا وهو محصن عوقب على الجريمتين بعقوبة واحدة هى عقوبة الرجم.
الثانية: إن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعًا عقوبة واحدة بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة أى لتحقيق غرض واحد كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، فهذه الجرائم قد حرمت لحماية مصلحة الأفراد فإذا أكل شخص ميتة ثم شرب دمًا ثم أكل لحم الخنزير تداخلت عقوبات هذه الجرائم الثلاث وأجزأ عنها عقوبة واحدة.
الجبُّ: معنى الجب فى الشريعة هو الاكتفاء بتنفيذ العقوبة التى يمتنع مع(2/443)
تنفيذها تنفيذ العقوبات الأخرى، ولا ينطبق هذا المعنى إلا على عقوبة القتل فإن تنفيذها يمنع بالضرورة من تنفيذ غيرها، ومن ثم فهى فى الشريعة العقوبة الوحيدة التى تجب ما عداها، وهناك خلاف على نظرية الجب ومداها، وقد فصلنا القول عن تعدد العقوبات والتداخل والجب فى القسم العام ونكتفى هنا بما ذكرنا (1) .
550 - من الذى يقيم الحد؟: من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فى استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولى الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه. وحضور الإمام ليس شرطًا فى إقامة الحد لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازمًا فقال: "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم، وأُتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه".
لكن إذن الإمام بإقامة الحد واجب، فما أقيم حد على عهد رسول الله إلا بإذنه، وما أقيم حد على عهد الخلفاء إلا بإذنهم، ومما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذا قوله: "أربع إلى الولاة: الحدود والصدقات والجمعات والفئ". والإذن بإقامة الحد إما أن يكون إذنًا مؤقتًا يصدر بمناسبة كل حالة، وإما أن يكون إذنًا دائمًا يصدر إلى النواب والحكام بإقامة الحد على المحكوم عليهم بحد (2) .
وهناك خلاف بين أبى حنيفة من ناحية ومالك والشافعى وأحمد من ناحية أخرى على ما إذا كان للسيد أن يقيم الحد على عبيده، ولم نر داعيًا للتعرض لهذا المبحث بعد أن ألغى الرقيق فى العالم.
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص208] ، شرح الزرقانى [ج8 ص108] ، المغنى [ج10 ص197] ، الإقناع [ج4 ص249] ، أسنى المطالب [ج4 ص157] .
(2) المغنى [ج10 ص146] وما بعدها، شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المهذب [ج2 ص287] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، شرح الزرقانى [ج8 ص84] .(2/444)
551 - علانية التنفيذ: يجب أن يقام الحد علانيةً، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، وتتوفر العلانية دائمًا كلما كان الحد رجمًا إذ المفروض أن عدد الرماة غير محدود وأنه يجب أن يكون من الكثرة بحيث يقضى على المرجوم بسرعة، أما فى الجلد فيكفى فى إقامة الحد شخص واحد. ولذلك اختلف فى عدد من يحضر الجلد ففسر البعض كلمة طائفة بأنها شخص واحد ومقيم الحد، وقال البعض إنها شخصان غير مقيم الحد، وقال البعض إنها أربعة، وقال البعض: إنها عشرة (1) .
552 - كيفية التنفيذ فى الرجم: إذا كان المرجوم رجلاً أقيم قائمًا ولم يوثق بشئ ولم يحفر له ولم يمسك أو يربط سواء ثبت الزنا عليه ببينة أو إقرار؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر لماعز ولا للجهنية ولا لليهوديين، قال أبو سعيد: "لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز خرجنا إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا". وإذا هرب المرجوم وكان مقرًا لم يتبع وأوقف التنفيذ، أما إذا كان مشهودًا عليه اُّتبع ورُجم حتى يموت، لكن إذا لم يصبر المرجوم المشهود عليه ولم يمكن إقامة الحد إلا بربطه رُبط، أما إذا كان المرجوم امرأة فيجيز أبو حنيفة والشافعى الحفر لها إلى صدرها لأن ذلك أستر لها، ويأخذ بذلك بعض الفقهاء فى مذهب أحمد، ولكن الرأى الراجح فى مذهب أحمد هو عدم الحفر، وهو مذهب مالك.
ويرى أبو حنيفة جواز الحفر للمرأة فى كل حال، أما الشافعية والحنابلة القائلون بالحفر فيرون الحفر فى حالة ما إذا كان الحد ثابتًا بالبينة فقط فإن كان ثابتًا بالإقرار فلا حفر؛ لأن ذلك يعطلها عن الهرب، والهرب كما قلنا يعتبر رجوعًا عن الإقرار والرجوع عن الإقرار مسقط للحد. وإذا رُجمت المرأة دون حفر شدت عليها ثيابها لكى لا تنكشف ولأن ذلك أستر لها (2) .
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] .(2/445)
والسنة أن يحاط بالمرجوم فيرمى من جميع الجوانب، ويرى البعض أن يُصَفَّ الرماة ثلاثة صفوف كصفوف الصلاة كلما رجمه صف تنحوا. وحجة ما قاله علىٌّ حين رجم شراحة الهمزانية حيث أحاط الناس بها وأخذوا الحجارة، فقال لهم: ليس هكذا الرجم إذن يصيب بعضكم بعضًا، صُفوا كصف الصلاة صفًا خلف صف (1) .
ويشترط أبو حنيفة عند ثبوت الزنا بشهادة الشهود أن يبدأ الشهود بالرجم ثم الإمام أو نائبه ثم الناس بحيث لو امتنع الشهود عن البدء سقط الحد عن المشهود عليه، ولكن امتناع الشهود لا يترتب عليه حدهم لأن امتناعهم ليس صريحًا فى رجوعهم عن الشهادة (2) .
ولا يشترط الشافعى وأحمد بداءة الشهود ولكنهما يريان ذلك سنة مستحبة، وهو رواية عن أبى يوسف من أصحاب أبى حنيفة حيث يرى أن البداءة مستحبة لا مستحقة (3) ، ولكنهما لا يوجبان حضور الشهود والإمام ولا يرتبان على التخلف عن الحضور نتيجة ما.
أما مالك فلا يعرف بداءة الشهود والإمام ولا يعتبرها سنة مستحبة؛ لأن الحديث الوارد فيها لم يصح عنده (4) .
وحجة أبى حنيفة ما روى عن علىّ لما أراد أن يرجم شراحة الهمزانية حيث قال: "الرجم رجمان: رجم سر ورجم علانية، فرجم العلانية أن يشهد على المرأة ما فى بطنها وتعترف بذلك فيبدأ فيه الإمام ثم الناس، ورجم السر أن يشهد أربعة فيبدأ فيه الإمام ثم الناس، ورجم السر أن يشهد أربعة فيبدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس". وقد تم هذا فى محضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد فيكون إجماعًا. كما أن فى الأمر ببداية الشهود احتيال لدرء الحد؛
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص123] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص122] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص123] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] ، المغنى [ج10 ص124، 138] .
(4) شرح الزرقانى [ج8 ص83] .(2/446)
لأن الشاهد قد يجترئ على الشهادة الكاذبة ولكنه لا يجرؤ على القتل إذا علم أنه شهد كاذبًا (1) .
ويرتب أبو حنيفة على رأيه أن الشهود إذا امتنعوا من البداءة أو غابوا فلم يحضروا اليوم المحدد للتنفيذ أو ماتوا قبل يوم التنفيذ فإن ذلك يؤدى إلى امتناع التنفيذ، ولكن محمدًا من أصحاب أبى حنيفة يرى أنه إذا تعذرت البداية من الشهود نفذ الحد كأن كانوا مرضى أو مقطوعى الأيدى (2) .
ويشترط أبو حنيفة أن تبقى للشهود أهلية أداء الشهادة عند التنفيذ فلو بطلت الأهلية بفسق أو ردة أو جنون أو عمى أو خرس أو بحد للقذف فلا يقام الحد على المشهود عليه، وحجة أبى حنيفة أن طروء أسباب الجرح على الشهادة وقت التنفيذ بمثابة طروئها وقت القضاء وأسباب الجرح عند القضاء تبطل الشهادة، ولا يرى الأئمة الثلاثة هذا الشرط والعبرة عندهم بالأهلية وقت القضاء لا بعده، ورأيهم يتفق مع قواعد القوانين الجنائية الوضعية، ويظهر أن ابا حنيفة قصد من رأيه درء الحد تطبيقًا للحديث المشهور: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، ولكن لا يمكن العمل برأيه الآن ما دام التنفيذ ليس من اختصاص الهيئة القضائية، على أن بعض شراح القوانين الوضعية يرون جعل التنفيذ مكملاً للقضاء وهذا يتفق مع نظرية أبى حنيفة (3) .
ويقام حد الرجم فى أى وقت فى الصيف وفى الشتاء وفى الصحة والمرض لأنه حد مهلك فلا معنى للتحرز من الهلاك: ولكنه لا يقام على الحامل حتى تضع لأن إقامته تؤدى إلى هلاك الولد والحكم لم يصدر ضده، وسنتكلم عن التنفيذ على الحامل فيما بعد. ويستحسن لكل راجم أن يتعمد مقتلاً وأن يتقى الوجه، كما يستحسن أن يكون وقف الرامى من المرجوم بحيث لا يبعد عنه فيخطئه، وجميع بدن المرجوم للرجم، ويختار أن يتقى الوجه لأن الرجم حد مهلك فكلما أسرع بالمحكوم عليه إلى الهلاك كان أولى.
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص122، 123] .
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص123] ، المغنى [ج10 ص187] .(2/447)
ولا يقام الحد فى المساجد اتفاقًا، ويستحسن أن يقام فى كل مكان متسع بعيدًا عن المساكن حتى لا يؤدى التنفيذ إلى إصابة أحد غير المرجوم.
ويرمى المرجوم بحجارة معتدلة الحجم وما يقوم مقام الحجارة كالمدر والخزف، ففى خبر ماعز أنه رمى بالعظام والمدر والخزف، ولا يرمى المرجوم بالحصيات الخفيفة حتى لا يطول تعذيبه، ولا يرمى بالصخرات الكبيرة لئلا تدمغه فيفوت به التنكيل المقصود، والمختار أن تكون ملء الكف.
وليس هناك عدد محدد للحجارة التى يرمى بها المرجوم فقد تصيب الحجارة مقاتله فيموت سريعًا بعد أن يرمى بعدد قليل من الحجارة، وقد لا تصيب الأحجار مقتلاً إلا بعد وقت فيحتاج الأمر إلى قذفه بعدد كبير من الحجارة، والمقصود من الرجم القتل فيرجم المحكوم عليه حتى يقتل ولا يقوم مقام الرجم أى فعل آخر يؤدى للموت كقطع الرقبة بالسيف أو كشنق المرجوم، وإذا هلك المرجوم سلمت جثته لأهله ولهم أن يصنعوا بها ما يصنع بسائر الموتى فيغسلونه ويكفنونه ويصلون عليه ويدفنونه، وبهذا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد رجم ماعز حيث سئل عما يصنع بجثته فقال: "اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم".
553 - كيفية التنفيذ فى الجلد: يضرب المحكوم عليه بسوط ضربًا متوسطًا مائة ضربة، ويشترط أن لا يكون السوط يابسًا لئلا يجرح أو يبرح، وأن لا يكون به عقد فى طرفه الذى يصيب الجسم لأنها تؤدى إلى ما يؤدى يبس السوط (1) .
ويشترط أن لا يكون للسوط أكثر من ذنب واحد فإذا لم يكن لذلك احتسبت الضربة ضربات بعدد ما للسوط من أذناب، فإن كان للسوط ذنبان احتسبت الضربة ضربتين، وإن كان ثلاثة احتسبت الضربة ثلاث ضربات، وهكذا (2) .
ويرى مالك وأبو حنيفة أن تنزع عن الرجل المحدود ثيابه إلا ما يستر عورته (3) .
ويرى الشافعى وأحمد أن لا يجرد المجلود من ثيابه وأن يترك عليه
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص126] ، الإقناع [ج4 ص245] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص126] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص126] ، شرح الزرقانى [ج8 ص114] .(2/448)
القميص والقميصان، أما إن كان عليه فروة أو ملابس شتوية أو جبة محشوة نزعت (1) .
ويرى مالك ضربه قاعدًا ولا يمسك المرجوم ولا يربط وقت الضرب، إلا إذا امتنع فلم يقف أو لم يصبر على الوقوف أو الجلوس فلا بأس فى هذه الحالة بربطه أو إمساكه (2) . ويضرب الرجل قائمًا غير ممدود عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد. أما المرأة فتضرب وهى جالسة لأنه أستر لها.
ولا يجمع الضرب فى عضو واحد لأنه يفضى إلى تلف ذلك العضو أو تمزيق جلده وهو غير جائز، بل يفرق الضرب على سائر الأعضاء إلا الوجه والفرج، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اتق وجهه ومذاكيره"، وإلا الرأس لتخوف التلف والهلاك، وهذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد، وإن كان أبو يوسف يرى ضرب الرأس ضربة واحدة، وفى مذهب أحمد يرون اتقاء البطن أيضًا والمواضع الأخرى القاتلة، وهو ما يقول به بعض فقهاء الحنفية (3) .
ويرى بعض الشافعية رأى أبى حنيفة وأحمد، ولكن البعض يرى مع مالك أن يكون الضرب فى الظهر فقط (4) ، ورأيهما يتفق مع المعمول به فى مصر فى تنفيذ الأحكام التى تصدر بالجلد على رجال الجيش والبوليس فإن الضرب قاصر على الظهر فقط.
وحد الجلد فى الزنا أشد الحدود ضربًا لقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ، وتفسر الرأفة بتخفيف الضرب، ولكن الفقهاء يشترطون أن يكون الضرب بين بين فلا هو بالمبرح ولا بالخفيف، وليس للجلاد أن يمد يده بالسوط بعد الضرب لأن مد السوط فى الضرب بمنزلة ضربة أخرى، وعليه أن يرفع السوط لأعلى بعد أن يمس جسم المحدود دون أن يسحب، وليس للجلاد أن يرفع يده إلى ما فوق رأسه
_________
(1) المهذب [ج2 ص287] ، الإقناع [ج4 ص246] .
(2) شرح فتح القدير [ج4 ص128] ، الإقناع [ج4 ص245] ، المهذب [ج2 ص287] .
(3) شرح فتح القدير [ج4 ص126، 127] ، الإقناع [ج4 ص246] .
(4) المهذب [ج2 ص288] ، شرح الزرقانى [ج8 ص114] .(2/449)
ولا يبدى إبطه فى رفع يده لأن الضرب يكون شديدًا فى هذه الحالة يخشى منه الهلاك وتمزيق الجلد (1) .
ويشترط فى إقامة حد الجلد أن لا يؤدى إلى هلاك المحدود لأنه حد زاجر لا حد مهلك، فلا يقام فى الحر الشديد ولا البرد الشديد إذا خشى الهلاك، ولا يقام على المريض حتى يبرأ ولا على النفساء حتى ينقضى نفاسها ولا على الحامل حتى تضع. وهذا ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد. ولكن البعض الآخر يرى أن يؤخر للحمل فقط وأن لا يؤخر الجلد لمرض أو لحر أو لبرد، ولكنه يقام بسوط يؤمن معه التلف فإن خشى من السوط أقيم بأطراف الثياب وما أشبه مما يتحمله المحدود. وعلى هذا فلا خلاف بين الرأيين لأن كليهما ينظر إلى عدم هلاك المحدود وأن يكون التنفيذ بحيث يحتمله (2) .
554 - التنفيذ على الحامل: من المتفق عليه أن الحد لا يقام على حامل حتى تضع سواء كان الحمل من زنًا أو غيره، والأصل فى ذلك حديث الغامدية فقد روى أن امرأة من بنى غامد جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرة بالزنا وهى حامل وقالت إنها حبلى من الزنا، فقال لها: "ارجعى حتى تضعى ما فى بطنك"، فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية، فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه"، فقام رجل من الأنصار فقال: إلىَّ رضاعه يا نبى الله، فرجمها. وقد جرى صحابة الرسول من بعده على هذا، فيروى أن امرأة زنت فى أيام عمر رضى الله عنه فهمَّ عمر برجمها وهى حامل، فقال له معاذ: إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على حملها، فقال: عجز النساء أن يلدن مثلك، ولم يرجمها. وروى عن على رضى الله عنه أنه قال مثل هذا.
والعلة فى عدم إقامة الحد على الحامل أن فى إقامة الحد عليها فى حال حملها
_________
(1) شرح فتح القدير [ج4 ص128] ، الإقناع [ج4 ص246] ، المهذب [ج2 ص288] .
(2) شرح الزرقانى [ج8 ص84] ، شرح فتح القدير [ج4 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] ، الإقناع [ج4 ص246] ، المغنى [ج10 ص140، 141] .(2/450)
اتلافًا لمعصوم وهو الحمل ولا سبيل إليه، وإذا كانت هى غير معصومة من إقامة الحد فإن من القواعد الأساسية أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وألا تصيب العقوبة غير الجانى والعقوبة التى تصيب الحامل تتعدى إلى حملها، وسواء كان الحد رجمًا أو جلدًا فإنه لا ينفذ على الحامل حتى تضع حملها لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الجلد وربما سرى الجلد إلى نفس الأم فيفوت الولد بفواتها.
وإذا وضعت الأم حملها فإن كان الحد رجمًا لم ترجم حتى تسقيه اللِّبَأ، ثم إن كان له من يرضعه أو يتكفل برضاعه رجمت وإلا تركت حتى تفطمه (1) .
وإذا وضعت الأم حملها وكان الحد جلدًا فيرى مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن لا يقام عليها الحد حتى تشفى من نفاسها وتصبح قوية يؤمن تلفها إن أقيم عليها الحد، ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد إقامة الحد فى الحال بسوط يؤمن معه التلف فإن خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول - يعنى شمراخ النخل - وأطراف الثياب. وحجة هذا الفريق الآخر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر بضرب المريض الذى زنى فقال: "خذوا مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة". أما حجة القائلين بتأخير الحد ما روى عن على رضى الله عنه أنه قال: إن أمَة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرنى أن أجلدها فإذا هى حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها, فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد" (2) .
وإذا لم يكن الحمل ظاهرًا فلا يؤخر الحد ولو كان من المحتمل أن تكون حملت من الزنا؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهودية والجهينية ولم يسأل عن استبرائهما، وقال لأنيس: أذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمهما، ولم يأمره بسؤالها عن استبرائهما، ورجم علىٌ شراحة ولم يستبرئها. وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، فإذا ادعت المرأة الحمل فيرى أحمد وبعض الشافعية قبول قولها وحبسها حتى يتبين
_________
(1) المغنى [ج10 ص138] ، المهذب [ج2 ص198] ، شرح فتح القدير [ج4 ص137] .
(2) المغنى ج 10ص 140، المهذب ج ص 198، شرح فتح القدير ج4 ص 137.(2/451)
أمرها دون حاجة إلى التحقيق من صحة ادعائها لأن الحمل الحديث وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة البينة عليه فيقبل قولها فيه (1) .
ويرى بعض الشافعية وأبو حنيفة أن لا يقبل ادعاء المرأة إلا بعد استطلاع من له خبرة من النساء فيقررن أن ادعاءها صحيح وإلا نفذ عليها الحد (2) .
ويرى مالك أن يؤخر تنفيذ الحد سواء كان جلدًا أو رجمًا على الزانية المتزوجة إذا مكث ماء الزنا ببطنها أربعين يومًا ولو كان الزوج قد استبرأها، وتؤخر أيضًا إذا لم يستبرئها الزوج ولو لم يمض على الزنا أربعون يومًا، وتؤخر المرأة فى الحالين لحيضة؛ أى حتى تحيض مرة واحدة إن أمكن حملها خشية أن يكون بها حمل ويقوم مقام الحيضة. فمن لم تحض بعد مرور ثلاثة أشهر لم تحض فيها بحيث لا يظهر عليها الحمل فإن ظهر عليها الحمل أٌخرت حتى تضع. أما غير المتزوجة فلا يؤخر تنفيذ الحد عليها إن لم تمض على ماء الزنا أربعون يومًا فى بطنها أو مضى عليه هذه المدة ولم يكن فى الإمكان حملها، فإن كان الحمل ممكنًا أُخر تنفيذ الحد عليها لحيضة، على التفصيل السابق (3) .
الواجب هو الجلد فالحكم يختلف باختلاف ما إذا كان المريض يرجى شفاؤه أو لا يرجى شفاؤه.
المريض الذى يرجى شفاؤه: إذا كان المريض يرجى شفاؤه فيرى مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن لا يجلد حتى يشفى من مرضه؛ لأن إقامة الحد حال المرض قد يؤدى لتلف المريض، وحجتهم ما روى من حديث على حين كٌلف بجلد أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فوجدها حديثة عهد
_________
(1) المهذب ج ص198، المغنى ج 10ص 114، الإقناع ج4 ص 247.
(2) المهذب ج ص198، شرح فتح القدير ج4 ص 137.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص 84.(2/452)
بنفاس فخشى إن جلدها أن يقتلها، فعاد إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "يا على أفرغت" قال: أتيتها ودمها يسيل، فقال: "دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد" (1) .
ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن الحد يقام ولا يؤخر لأن الحد واجب فلا يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة، ويحتج هذا الفريق بأن عمر رضى الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون فى مرضه ولم يؤخره، وأنتشر ذلك فى الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعًا (2) (6) ، ويعتبر الفقهاء النفاس مرضًا.
المريض الذى لا يرجى شفاؤه: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن المريض الذى لا يرجى شفاؤه من مرضه يقام عليه الحد فى الحال ولا يؤخر، ولكنهم يشترطون أن يقام الحد بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير وشمراخ النخل، فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة بمائة شمراخ لأنه زنا، ولأن المريض الميؤوس من شفائه إما أن يترك لمرضه فلا ينفذ عليه الحد أو ينفذ عليه كاملا فيفضى ذلك إلى موته فتعين التوسط فى الأمر وجلده جلدة واحدة بمائة شمراخ، وليس ثمة ما يمنع من أن تقوم الضربة الواحدة بمائة شمراخ مقابل المائة ضربة كما قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا َ تَحْنَثْ} [النور:44] ، فهذا أولى من ترك أو قتل المريض بما لا يوجب القتل (3) .
ولكن مالكًا لا يأخذ بهذا الرأى ويرى ضرب المريض الذى لا يرجى شفاؤه مائة جلدة، ولا يرى فى ضربه بالعِثْكال إلا جلدة واحدة.
* * *
_________
(1) شرح فتح القديرج4 ص 137، أسنى المطالب ج4ص 133، ج10 ص 141.
(2) المغنى ج10ص 141.
(3) المغنى ج10ص 142، شرح فتح القدير ج4 ص 137، أسنى المطالب ج4 ص 134.(2/453)
موانع التنفيذ
556 - يمتنع التنفيذ إذا جد ما يسقط الحد بعد الحكم به: ومسقطات الحد هى:
أولا: يسقط الحد برجوع المقر عن إقراره إذا كان الزنا ثابتًا بالإقرار سواء كان الإقرار صريحًا أو ضمنيًا، وقد سبق أن فصلنا الكلام على الرجوع ومتى يسقط الحد.
ثانيًا: عدول الشهود: ويسقط الحد بعدول الشهود عن شهاداتهم قبل التنفيذ كلهم أو بعضهم ما دام عدد الشهود الباقين على شهادتهم أقل من أربعة.
ثالثًا: تكذيب أحد الزانيين للآخر: أو ادعاؤه النكاح إذا كان الزنا ثابتًا بإقرار أحدهما، وهو مذهب أبى حنيفة، أما الأئمة الثلاثة فيرون أن التكذيب لا يسقط الحد وأن ادعاء النكاح لا يسقطه إلا إذا أقام الدليل على وجود النكاح.
رابعًا: بطلان أهلية شهادة الشهود قبل التنفيذ وبعد الحكم، وهو مذهب أبى حنيفة ولا يوافقه عليه الأئمة الثلاثة.
خامسًا: موت الشهود قبل الرجم خاصة، وهو مذهب أبى حنيفة أيضًا ولا يأخذ به الأئمة الثلاثة.
سادسًا: زواج الزانى من المزنى بها، والقائل بهذا هو أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة، وحجته أن النكاح يورث شبهة تدرأ الحد لأنه يعطى الزوج حق الملك والاستمتاع، ولكن فقهاء المذهب لا يوافقونه على هذا الرأى لأن الفعل وقع زنًا وكان سابقًا على الزواج (1) .
* * *
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 62.(2/454)
الكتاب الثانى
القذف
تمهيد:
557 - تعريف القذف: القذف فى الشريعة الإسلامية نوعان: قذف يحد عليه القاذف، وقذف يعاقب عليه بالتعزير.
فأما ما يحد فيه القاذف فهو رمى المحصن بالزنا أو نفى نسبه، وأما ما فيه التعزير فهو الرمى بغير الزنا ونفى النسب سواء كان من رمى محصنًا أو غير محصن، ويلحق بهذا النوع السب والشتم ففيهما التعزير أيضًا.
والكلام هنا مقصود به جريمة القذف المعاقب عليها بالحد وأن الكلام على هذا النوع من القذف يشمل القذف والسب الذى يجب فيه التعزير. وقد سكت الفقهاء عن بيان الفروق بين القذف بنوعيه وبين السب والشتم، ولكن الظاهر من تتبع أقوالهم وأمثلتهم فى أبواب الزنا والقذف والتعزير أنهم يعتبرون القول قذفًا كلما ً رمى القاذف المجنى عليه بواقعة تحتمل التصديق والتكذيب ويمكن إثباتها بطبيعتها كالرمى بالزنا والرشوة، ويعتبرون القول سبًا إذا كان مارمى به المجنى عليه ظاهر الكذب ولا يقبل الإثبات بداهة؛ كمن قال لآخر: يا كلب يا حمار، أو قال لبصير: يا أعمى، فرمى الإنسان بأنه كلب أو حمار ورمى البصير بأنه أعمى هو قول ظاهر الكذب ولا يقبل بداهة إثبات صحته.
558 - قاعدة الشريعة فى إثبات القذف والسب: القاعدة فى الشريعة أن من رمى إنسانًا بواقعة أو صفة محرمة ما، وجب عليه أن يثبت صحة ما رماه(2/455)
به، فإن عجز عن إثباته أو امتنع وجبت عليه العقوبة، أما من سب إنسانًا أو شتمه فعليه العقوبة وليس له الحق فى إثبات صحة ما قال؛ لأن ما قاله ظاهر الكذب ولا يمكن إثباته بطبيعة الحال، أما من رمى شخصًا بما ليس معصية فلا يعفيه صحة القذف من العقاب لأنه بالرغم من صحة قوله قد آذى المقذوف والإيذاء محرم فى الشريعة، ولأن ما قذف به لا تحرمه الشريعة ولا تؤاخذ عليه فلا يصح أن يعزز به.
559 - بين الشريعة والقانون: يختلف قانون العقوبات المصرى عن الشريعة من هذه الوجهة كل الاختلاف، فالقاعدة فيه أن ليس لمن قذف إنسانًا بشىء أن يثبت صحة ما قذفه به وعليه العقوبة ولو كان الظاهر أن ما قاله صدق لا شك فيه، والأساس الذى يقوم عليه القانون المصرى هو حماية حياة الأفراد الخاصة وهو نفس الأساس الذى تقوم عليه القوانين الأوروبية؛ لأن مصدرها جميعًا واحد هو القانون الرومانى، فالقانون الوضعى يقوم فى جرائم القول على قاعدة النفاق والرياء ويعاقب الصادق والكاذب على السواء، والمبدأ الأساسى فى هذا القانون أنه لا يجوز أن يقذف امرؤ آخر أو يسبه أو يعيبه فإن فعل عوقب سواء كان صادقًاَ فيما قال أو مختلقًا لما قال.
وإذا كان هذا المبدأ يحمى البرآء من ألسنة الكاذبين الملفقين فإنه يحمى الملوثين والمجرمين والفاسقين من ألسنة الصادقين، وإذا كان هذا المبدأ قد عنى بحماية حياة الأفراد الخاصة فإنه قد أدى إلى إفساد الأفراد والجماعة على السواء؛ لأن القانون حين يعاقب على الصدق لا يمنع الصادق من قول الحق فقط وإنما يدفعه إلى الكذب ويشجعه على النفاق والرياء، كما أن القانون لا يصلح الفرد المعوج السيرة بحمايته وإنما يشجعه بهذه الحماية على الإمعان فى الفساد بل إنه ليغرى كثيرًا من الصالحين بسلوك طريق الفساد ما دام أنهم قد أمنوا من التشنيع والانتقاد، وهكذا تفسد الجماعة وتهدر الأخلاق الفاضلة لأن القانون يحمى من لا يستحق الحماية على الإطلاق.(2/456)
بهذا المبدأ الذى قام عليه القانون ينعدم الفرق بين الخبيث والطيب والمسىء والمحسن وينعدم الحد بين الرذيلة والفضيلة، وبهذا المبدأ انحط المستوى الأخلاقى بين الشعوب فالطيب لا يستطيع أن ينتقد الخبيث، والخبيث سادر فى غيه ذاهب إلى نهاية طوره لأنه لا يخشى رقيبًا ولا حسيبًا من الجماهير. ولا يستطيع امرؤ طبقًا لهذا المبدأ القانونى أن يسمى الأسماء بمسمياتها وأن يصف الموصوفات بأوصافها، ولا يستطيع أن يقول للمفترى يا كاذب، فإن قالها فقد باء بالعقوبة وباء الزانى والسارق والكاذب - فوق حماية القانون - بالتعويض المالى على ما نسب إليهم من قول هو عين الحق والصدق.
ذلكم هو مبدأ القانون فى جرائم القول: يحرم على الناس أن يقولوا الحق، وأن يتناهوا عن المنكر، وأن يحطوا من قدر المسئ ليرفعوا من قدر المحسن والإحسان. وقد شعر واضعو القانون المصرى بخطورة هذا المبدأ على الشعب إذا طبق على إطلاقه فاستثنوا منه حالات أربع هى:
1 - حالة الطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية أو مكلف بخدمة عامة: فإن الطاعن لا يعاقب على طعنه إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة بشرط أن يثبت الطاعن حقيقة كل فعل أسنده إلى المقذوف (1) .
وقد تقرر هذا الاستثناء بإسقاط الموظف والنائب والمكلف بخدمة عامة إذ أن أعمالهم معرضة للانتقاد فيدعوهم ذلك إلى الإحسان ما استطاعوا.
2 - حالة دعوة الأمة إلى الانتخاب: فإن نص المادة 68 من قانون الانتخاب يبيح الأقوال الصادقة عن سلوك المرشح وأخلاقه أثناء المعركة الانتخابية بالرغم من تحريم قانون العقوبات لهذه الأقوال فى الأوقات العادية، وقد جعلت هذه الإباحة ليستطيع كل مرشح وكل ناخب أن يقول ما يعرف عن سلوك
_________
(1) المادة رقم 302 من قانون العقوبات المصرى.(2/457)
المرشح وأخلاقه دون خوف من العقاب ليسهل على الناخبين أن يميزوا بين المرشحين ويختاروا من يصلح للنيابة عنهم بعد أن يسمعوا عنه كل ما يتعلق بسلوكه وأخلاقه.
3 - حالة انعقاد البرلمان: فإن أعضاءه لا يؤخذون على ما يبدون من الأفكار والآراء فى المجلسين طبقًا لنص المادة 109 من الدستور، وقد وضع هذا النص لتمكين نواب الأمة من أن يقولوا ما يشاءون دون تحرج أو خوف من المحاكمة والعقاب. ويلاحظ أن هذه الحالة تختلف عن الحالتين السابقتين فى أن القاذف فى الحالتين السابقتين لا ينجو من العقاب إلا إذا كان صادقًا فيما قال، أما عضو البرلمان فلا يحاكم ولا يعاقب سواء كان صادقًا فيما قال أو مختلقًا لما قال.
4 - حالة المحاكمة والتقاضى: فالمادة 309 من قانون العقوبات تنص على الإعفاء من العقاب على القذف والسب الذى يحدث من الخصوم أو وكلائهم فى دفاعهم الشفوى أو الكتابى أمام المحاكم ولا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية.
ويلاحظ أن القاذف والساب لا يعاقب جنائيًا على قذفه أو سبه سواء كان صادقًا أو كاذبًا فيما قال. هذا هو مبدأ القانون المصرى فى جرائم القول، وهو نفس المبدأ الذى تأخذ به القوانين الوضعية بصفة عامة، وهى مستثنيات المبدأ فى مصر، وهى لا تكاد تختلف كثيرًا عما فى معظم القوانين الوضعية.
والعيب الفنى فى نصوص القانون المصرى هو التناقض الظاهر وانعدام الانسجام، فبينما المبدأ الأساسى يقوم على حماية الحياة الخاصة للأفراد إذ بالاستثناءات تقوم على إباحة الحياة الخاصة والعامة.
وبينما المبدأ الأساسى هو تحريم القول الصادق والكاذب على السواء إذ ببعض الاستثناءات تبيح القول الصادق فقط، وبعضها يبيح القول الصادق والقول الكاذب معًا، وليس بعد هذا تناقض ولا اضطراب. والعيب الخلقى الاجتماعى أن القانون حين قرر حماية الحياة الخاصة للأفراد قد قضى بإفساد الحياة العامة(2/458)
للجماعة؛ لأن الأفراد هم الذين يكونون الجماعة وإذا صلحوا صلحت الجماعة، ولا يمكن أن يتصور وجود جماعة صالحة أفرادها فاسدون، ولا شك أن حماية حياة الأفراد الخاصة تؤدى إلى إفساد أخلاقهم وهدم الوازع الأدبى فى نفوسهم فإنما يحاول إقامة بيت من لبنات تالفة غير متماسكة، فلا يكاد ينتهى من بنائه حتى يخر عليه من السقف أو ينقض من القواعد.
أما المبدأ الأساسى للجرائم القولية فى الشريعة فأساسه تحريم الكذب والافتراء وإباحة الصدق فى كل الأحوال، ولذلك فلا عقاب فى الشريعة على من يقول الحق، ولا مؤاخذة على من يسمى الأشياء بمسمياتها والموصوفات بأوصافها، ولا عقاب على من يقول للزانى يا زانى إذا أثبت أنه زانٍ، ولا عقاب على من يقول للسارق إنك سارق إذا أثبت أنه سارق، ولا عقاب على من يقول للكاذب إنك كاذب إذ لم يَعْدُ قول الحق.
وليس لهذا المبدأ استثناءات، فكل إنسان يستطيع أن يطعن فى أعمال الموظفين العموميين والنواب والمكلفين بخدمات عامة وينسب إليهم عيوبهم ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وله أن يتعدى أعمالهم العامة إلى أعمالهم وحياتهم الخاصة ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وليس لهم أن يتضرروا من عيوبهم ولا من الصفات القائمة فى أعمالهم أو أشخاصهم.
ولم تحم الشريعة الإسلامية الحياة الخاصة للموظفين العموميين ومن فى حكمهم كما تفعل القوانين الوضعية، لأن الشريعة لا تحمى النفاق والرياء والكذب، ولأن الشخص الذى لا يستطيع أن يسير سيرة حسنة فى حياته الخاصة ليس أهلًا فى نظر الشريعة لأن يتولى شيئًا من أمور الناس فى حياتهم العامة.
وكل إنسان فى وقت الانتخابات وفى غير الانتخابات يستطيع طبقًا للشريعة أن يقول للمحسن هذا محسن وللمسىء هذا مسىء ما دام يستطيع أن يثبت إساءة المسىء، وكل إنسان سواء كان عضوًا فى البرلمان أو فى أى هيئة أخرى أو كان(2/459)
عاطلًا من عضوية الهيئات على الإطلاق له الحق فى أن ينسب ما يشاء إلى من شاء ما دام يستطيع أن يثبت ما ينسبه إلى هؤلاء، فليس فى الشريعة - كما فى القانون - ما يدعو إلى تحليل الصدق فى وقت الانتخابات وتحريمه فى غير ذلك من الأوقات؛ لأن الشريعة توجب الصدق على الدوام ولا تحرمه فى أى ظرف من الظروف أو زمن من الأزمان.
وليس فى الشريعة - كما فى القانون - ما يدعو إلى تحليل الصدق والكذب معًا لأعضاء البرلمان والمتقاضين؛ لأن ذلك يجعل الصدق والكذب بمنزلة سواء، والشريعة توجب الصدق كل الوجوب وتحرم الكذب كل التحريم فلا تجمع فى حكم واحد بين المتناقضين، ولأن أعضاء البرلمان هم أهل الرأى والشورى فإذا أُحل لهم الكذب وأمنوا العقوبة عليه كانوا أقرب إلى مظنة الوقوع فيه، وما قيمة الرأى والمشورة من قوم يظن فيهم أنهم لا يصدقون فى كل الأحوال ولأن الشريعة الإسلامية تقوم على المساواة، وفى تميز أعضاء البرلمان والمتقاضين خروج على مبدأ المساواة.
هذه هى الشريعة الإسلامية تقوم على حماية الحياة العامة من الغش والرياء وحماية الأفراد من مسايرة الأهواء، وترى الصدق فضيلة تستحق التشجيع لا العقاب، وترى أن الفرد الفاسد أحق بأن يتحمل وزر عمله وأن لا يتضرر من نتائجه، ومن ثَمَّ أباحت إثبات القذف، فإن استطاع القاذف إثبات ما قال فلا عقاب عليه، وليس للمقذوف أن يتضرر من القذف لأنه نتيجة عمله هو لا عمل القاذف، فإن عجز القاذف عن الإثبات فهو ظالم يستحق العقوبة، ويجب أن نلاحظ أن فى إيقاع العقوبة على القاذف بعد إباحة إثبات القذف له وعجزه عن الإثبات دليلًا قاطعًا على عدم صحة القذف، أما إيقاع العقوبة على القاذف مع منعه من إثبات القذف كما هو الحال فى القانون فإنه لا يبرئ مما يقذف به , ولا يقطع بكذب القاذف. ومن هذا يتبين أن نظرية الشريعة أكرم وأفضل للمجنى عليه والجانى من نظرية القانون الوضعى.(2/460)
وإذا كان القاذف لا يعاقب على القذف إذا أثبت صحته فليس معنى ذلك إهدار المقذوف طول حياته بحيث يقذف ولا يعاقب قاذفه، وإنما للمقذوف أن يستعيد عصمته بتوبته وصلاحه، فإن تاب وصلح حاله عوقب قاذفه عقوبة تعزيرية إذا كان يعلم بتوبة المقذوف وانصلاح حاله وكان يقصد من القذف إيذاءه (1) .
بل إن قاذف أى شخص بمعصية يعزر على القذف ما دام المقذوف قد عوقب من قبل على معصيته لأن القذف كان لمجرد الإيذاء (2) .
560 - النصوص الواردة فى القذف: الأصل فى تحريم القذف الكتاب والسنة:
فأما الكتاب فقول الله تعالى: {واَلَّذِينَ يَرمْوُنَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُنَ الْمُحْصَنَاتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
وأما السنة: فقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله , والسحر، وقتل النفس التى حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
* * *
المبحث الأول
أركان جريمة القذف
561 - ذكرنا أن القذف الذى يجب به الحد هو رمى المحصن بالزنا أو نفى النسب عنه. وظاهر من هذا التعريف أن أركان جريمة القذف التى يجب بها الحد ثلاثة:
1 - الرمى بالزنا أو نفى النسب. ... 2 - أن يكون المقذوف محصنًا.
3 - القصد الجنائى.
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 204.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 300، 301.(2/461)
الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب:
562 - يتوفر هذا الركن كلما رمى الجانى المجنى عليه بالزنا أو نفى نسبه مع عجزه عن إثبات ما رماه به. والرمى بالزنا قد يكون نفيًا لنسب المجنى عليه وقد لا يكون، فمن قال لشخص يا ابن الزنا فقد نفى نسبه ورمى أنه بالزنا، ومن قال لشخص يا زانى فقد رماه بالزنا ولم ينف نسبه. فالرمى بالزنا يكون نفيًا لنسب المجنى عليه إذا تعدى القذف لأمه، أما نفى النسب فيقتضى دائمًا رمى أم المقذوف أو أحد أمهاته بالزنا. فمن نسب شخصًا إلى غير أبيه أو إلى غير جده فقد نسب الزنا لأم هذا الشخص أو جدته (1) .
وإذا كان القذف بغير الزنا أو نفى النسب فلا حد فيه، كالقذف بالكفر أو السرقة الزندقية أو شرب الخمر أو أكل الربا أو خيانة الأمانة إلى غير ذلك، ويعاقب على فعل هذا القذف بالتعزير، وكذلك يعزر على القذف بالزنا ونفى النسب إذا لم تستوف شروط الحد.
ويعزر أيضًا على كل قذف لا ينسب فيه للمقذوف معصية ولو كانت وقائع القذف صحيحة، إذا كان القذف مما يؤلم المقذوف ويؤذى شعوره، كأن ينسب للمقذوف أنه عنين أو عقيم أو مجنون أو مريض بالشلل أو السل، أو أنه أسود اللون أو بشع الخلقة، أو أنه من أسرة وضيعة.
والعبرة فى تحديد الإيلام والإيذاء بما جرى عليه العرف أى بما تعارف عليه الناس. ويعاقب القاذف فى هذه الحالة بالذات سواء صح ما نسب للمقذوف أو لم يصح؛ لأنه إذا صح ما نسبه للمقذوف فإنه ليس فيه ما يشين ولا ما تحرمه الشريعة،
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 190، 193، شرح الزرقانى ج8 ص 85، 86، المغنى ج10 ص 210، 215، المهذب ج2 ص 289، 291.(2/462)
فالقذف ليس إلا إيذاء للمقذوف وإيلام له دون مبرر. وإذا لم يصح ما نسبه للمقذوف فإنه وإن لم يكن فيه ما يشين أو ما تحرمه الشريعة إلا أنه افتراء يؤلم المفترى عليه ويؤذيه والشريعة تعتبر الإيذاء دون مبرر شرعى جريمة يعاقب عليها.
والفرق بين هذه الحالة والحالات السابقة التى يعفى فيها من العقاب أن القاذف يؤذى المقذوف ويؤلمه فى كل الأحوال ولكنه يعفى من العقاب فى الأحوال السابقة لأن للإيذاء مبررًا شرعيًا وهو إتيان المقذوف ما تحرمه الشريعة، أما فى الحالة الأخيرة فليس هناك مبرر شرعى للإيذاء.
والرمى باللواط عند مالك والشافعى وأحمد حكمه حكم الرمى بالزنا؛ لأنهم يعتبرون اللواط زنًا واللائط زانيًا سواء كان فاعلا أو مفعولا به، امرأة أو رجلا، فإذا ثبت أن القاذف أراد من القذف أن المقذوف يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد. أما أبو حنيفة فلا يرى حد القاذف باللواط ويرى تعزيره لأنه لا يعتبر اللواط زنًا ومن ثم لا يعتبر الرمى باللواط رميًا بالزنا (1) .
وإذا نسب القاذف للمقذوف أنه لوطى وادعى أنه أراد أن المقذوف من قوم لوط فلا عبرة بادعائه ويجب حد القذف عند مالك ويحده أيضًا الشافعى إلا إذا أراد أنه على دين قوم لوط.
أما أحمد فاختلفت عنه الرواية، فروى عنه أنه يوجب الحد على القاذف إذا قال للمقذوف: يا لوطى وروى عنه أنه فرق بين ما إذا قال القاذف: أردت أن دينه دين لوط، وفى هذه لا حد عليه، وبين ما إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط، وفى هذه عليه الحد. ووجه الإعفاء من الحد أن القاذف فسر كلامه بما لا يوجب الحد فاعتبر التفسير متصلًا بالقذف، والقاعدة أن مثل هذا التفسير لو اتصل بعبارة القذف من وقت القذف لم يجب الحد، أما الرواية الثالثة فيرى أحمد أن القاذف إذا كان فى غضب فهو أهل لأن يقام عليه الحد لأن الغضب قرينة تدل على
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص 209، شرح فتح القدير ج4 ص 150، 190.(2/463)
إرادة القذف بخلاف حال الرضا. والراجح فى المذهب هو الرواية الأولى؛ لأن كلمة لوطى لا يفهم منها الآن إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فى اللواط صراحة لفظ الزانى فى الدلالة على الزنا ولأن قوم لوط لم يبق منهم باقية فلا يحتمل أن ينسب إليهم أحد (1) .
ومن قذف إنسانًا بإتيان بهيمة فعلية الحد عند من يعتبر إتيان البهيمة فى حكم الزنا، وهذا ما يراه بعض الشافعية والحنابلة، ولا حد عليه ولكن يعزر عند من لا يعتبرون إتيان البهائم زنًا وهم مالك وأبو حنيفة وأكثر الشافعية والحنابلة (2) .
والقاعدة العامة عند الفقهاء أن كل ما يوجب حد الزنا على فاعلة يوجب حد القذف على القاذف به، وكل ما لا يجب حد الزنا بفعله لا يجب الحد على القاذف به، فمن قذف إنسانًا بالمباشرة دون الفرج أو بالوطء بالشبهة فلا حد عليه وإنما عليه التعزير لأنه لم يقذفه بما فيه حد الزنا، ومن قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطء مستكرهة فلا حد عليه التعزير لأنه قذفها بما ليس فيه حد الزنا (3) . هذه هى القاعدة العامة عند الفقهاء ومتفق عليها ولكنهم يختلفون فى تطبيقها لاختلافهم فيما يوجب حد الزنا.
ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن الوالد وإن علا إذا قذف ولده وإن نزل لم يجب عليه الحد سواء كان القاذف رجلا أو امرأة؛ لأن عقوبة القذف وإن كانت حدًا إلا أنها متعلقة بحقوق الأفراد، ولأن القذف حق لا تستوفى عقوبته إلا بالمطالبة فهو أشبه بالقصاص، ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص، وإذا كان من المسلم به أن الابن لا يقتص من الأب ولا يقطع فى سرقة
_________
(1) نفس المرجع السابق.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 78، شرح فتح القدير ج4 ص 152، نهاية المحتاج ج7 ص 405، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج10 ص 163، 210.
(3) المغنى ج10 ص 210، شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 193، المهذب ج2 ص 289.(2/464)
ماله فأولى أن لا يحد فى قذفه. ويرتب أصحاب هذا الرأى على ما يقولون أن الوالد لو قال لولده من زوجته المتوفاه يا ابن الزانية لم يكن للولد أن يرفع على والده الدعوى، لكن إذا كان لها ابن آخر من غيره استطاع أن يرفع دعوى القذف لأن حد القذف يثبت لكل من المستحقين على الانفراد، ويترتب على هذا الرأى أيضًا أنه لو قذف الزوج زوجته فى حياتها فرفعت دعوى القذف ثم ماتت قبل الحكم فيها ولم يكن لها ورثة غير أولادها م الزوج القاذف فإن الدعوى تسقط حتى عند من لا يسقطون الدعوى بالوفاة؛ لأن ورثة المتوفاة أولاد القاذف وليس لهم أن يطالبوه بحد القذف "الدعوى تسقط دائمًا عند أبى حنيفة بالوفاة وليس للورثة أن يحلوا محل المقذوف لأن حق القذف ليس من الحقوق المالية التى تورث" (1) .
وفى مذهب مالك رأيان: أحدهما يتفق مع الرأى السابق، وثانيهما: للابن أن يطالب أباه بحد القذف لأن نص القذف عام فينطبق على الأب كما ينطبق على غيره، ولأن العقوبة حد والحد حق الله فلا يمنع من إقامتها قرابة الولادة، ولكن القائلين بهذا الرأى يسلمون بأن الابن يفسق بمطالبته بحد أبيه، أى أن عدالة الابن تسقط لمباشرته سبب عقوبة أبيه لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، ويقول: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] (2) .
ولا يشترط فى القذف أن يكون بلغة معينة فيصح أن يكون باللغة العربية ويصح أن يكون بغيرها من اللغات، ويشترط فى القذف أن يكون صريحًا وصريح القذف ما لا يحتمل غيره فإن احتمل غيره فهو كناية أو تعريض. فمن قال يا زانى أو أنت زان، فقد جاء بقذف صريح. وإن قال: أبوك زان أو أمك زانية أو يا ابن الزانى أو يا ابن الزانية، فهو قذف صريح للأم والأب. وإن قال: يا ابن الزنا أو يا ولد الزنا كان قذفًا صريحًا أيضًا لأن معناه أنك مخلوق من ماء الزنا. أما
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 197، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص208.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 197، المغنى ج10 ص 208، شرح الزرقانى ج8 ص 87.(2/465)
إن قال: ما أنا بزان وليست أمى بزانية، أو قال: يا ابن منزلة الركبان أو ذات الراية، أو قال لامرأة: فضحت زوجك وجعلت له قرونًا أو أفسدت فراشه ونكست رأسه، فذلك هو التعريض أو الكناية.
ولا خلاف فى أن القذف الصريح معاقب عليه بعقوبة الحد، أما القذف القائم على التعريض والكناية فمختلف على عقوبته، فيرى أبو حنيفة - وما يراه رواية فى مذهب أحمد - أن لا حد على القذف بالتعريض أو الكناية وإنما فيه التعزير، وحجة أصحاب هذا الرأى ما روى أن رجلًا قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأتى ولدت غلامًا أسود؛ يعرض بنفيه، فلم يعاقبه الرسول على ذلك القول، وأن الله تعالى فرق بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فأباح التعريض بها فى العدة وحرم التصريح فقال جل شأنه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فىِ أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا} [البقرة: 235] فإذا كان الشرع قد فرق بين التعريض والتصريح فيما يعزر عليه فأولى أن يفرق بينهما من أن يعاقب عليه بعقوبة الحد التى تدرأ بالشبهات، وفضلًا عن ذلك فإن التعريض والكناية يحتمل غيره والاحتمال شبهة والحدود تدرأ بالشبهات (1) (19) .
والأصل عند الشافعى أن لا حد إلا فى القذف الصريح ولكنه يوجب الحد من القذف بالتعريض والكناية إذا ثبت أن القاذف نوى بما قال القذف لأن الكناية مع النية بمنزلة الصريح، أما إذا لم ينو بما قاله من تعريض أو كناية القذف لم يجب الحد سواء كان ذلك فى حال الخصومة أو غيرها لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفًا من غير نية (2) .
ويرى مالك الحد فى القذف بالتعريض أو الكناية إذا فهم منه القذف أو دلت القرائن على أن القاذف قصد القذف، ولكنه يستثنى من ذلك الأب فإذا
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213.
(2) المهذب ج2 ص 290.(2/466)
عرض الأب بولده أو قذفه بالكناية فلا حد عليه لبعده عن التهمة فى قذف ولده أما إذا صرح فعليه الحد. ويعتبر مالك الخصام من القرائن على القذف، فمن قال فى خصام لآخر ما أنا بزان فكأنه قال يا زانى، أو قال: أما أنا فلست بلائط فكأنه قال يا لائط، أو قال: أما أنا فأبى معروف فكأنه قال: أبوك ليس بمعروف (1) .
وهناك رواية أخرى عن أحمد بأن القاذف تعريضًا أو كناية عليه الحد، وحجة أصحاب هذا الرأى أن النص عام فى عقاب القاذف فإذا ثبت القذف فقد وجب الحد سواء كان القذف صريحًا أو تعريضًا أو كناية، وأن هذا هو قضاء عمر فقد شاور عمر الصحابة فيمن قال لصاحبه: ما أبى بزان ولا أمى بزانية، قد مدح أباه وأمه، فقال عمر: قد عرض بصاحبه وجلده الحد. ومن المشهور عن عمر أنه كان يجلد الحد فى التعريض، وأنه قضاء عثمان. وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلًا قال لآخر يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض به بقذف الرجال، ولأن الأصل أن الكناية مع القرينة الصادقة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذى لا يحتمل إلا ذلك المعنى. ويرد هذا الفريق على القائلين بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب على التعريض بأن العقاب فى القذف معلق على الشكوى من المقذوف، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب من عرض بزوجته لأنها لم تتقدم بالشكوى (2) .
ولا يشترط لعقوبة الحد أن يتلفظ القاذف بعبارات القذف بل يكفى لعقابه أن يصادق عليها، فمن قال لآخر: أمك زانية، فقال ثالث صدقت، كان كلاهما قاذفًا وإذا قال رجل لآخر: أشهد أنك زان أو أنك تنسب لغير أبيك، فقال ثالث: وأنا أشهد بمثل ما شهدت به، كان الأول والثالث قاذفين وعليهما الحد (3) .
ولا يبقى القاذف من عقوبة الحد إن كان قذفه جاء ردًا لقذف وجهه إليه
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، مواهب الجليل ج6 ص 301.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 215.(2/467)
المقذوف فمن قال لآخر: يا زانى، فقال له الآخر: لا بل أنت، فإنهما يحدان ولا يسقط الحد بتبادل القذف ولا بتكافؤ السيئات (1) .
ولكن القاذف يعفى من الحد إذا صدقه المقذوف، فمن قال لأجنبية عنه: أنت زانية، فقالت: بك زنيت، فلا حد عليه وعليها حدان، حد الزنا لاعترافها به وحد القذف لقذفها الرجل بالزنا. أما إذا صدر هذا القول من الرجل لزوجته فلا حد على أحدهما: لا حد على الرجل لأنها صدقته، ولا حد عليها لأنه يجوز أن تكون زانية حقيقية ولأنه يجوز أن تكون قصدت نفى الزنا، كما يقول الرجل لغيره سرقت، فيقول معك سرقت ويريد أنى لم أسرق كما لم تسرق، ولأنه يجوز أن يكون معناه: ما وطئنى غيرك، فإن كان ذلك زنًا فقد زنيت، فهذه الاحتمالات معناها الشبهة فى مؤدى قولها ولا حد مع شبهة (2) .
وإذا استعمل القاذف أفعل التفضيل فى القذف فقال مثلا: أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، فعليه الحد عن مالك وأحمد (3) .
أما فى مذهب أبى حنيفة فيرى البعض الحد ولا يراه البعض الآخر، وحجتهم أن أفعل يستعمل فىالترجيح للعلم فكأنه قال: أنت أعلم منى بالزنا، وحجة الفريق الأول أن استعمال أفعل التفضيل قذف لأن معناه أن فلانًا زان وأنت أزنى منه وأنه فى الناس زناة وأنت أزنى منهم (4) .
ويرى الشافعى أنه إذا قال لغيره: أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس، لم يكن قذفًا من غير نية؛ لأن لفظة أفعل لا تستعمل إلا فى أمر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما فيه بمزية، وما ثبت أن فلانًا زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم، وإن قال:
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 201، نهاية المحتاج ج7 ص 417.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 202، المهذب ج2 ص 290، شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10ص 216
(4) شرح فتح القدير ج4 ص 191، 211.(2/468)
فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس، فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه (1) .
وإذا قال القاذف لشخص: أنت أزنى من فلان، فهو قاذف لهذا الشخص، ولكن هل يكون قاذفًا لفلان أيضًا؟ فيه وجهان: أولهما: يكون قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل للتفضيل فيقتضى اشتراك الاثنين فى اصل الفعل وتفضيل أحدهما على الآخر فيه، ثانيهما: قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل كقول الله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى} [يونس: 35] ، وقال تعالى: {فَأَىُّ الْفَرِيقَيْن أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] .
وقوله على لسان لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أى من أدبار الرجال ولا طهارة فى أدبار الرجل.
ويلاحظ أن الشافعى يشترط لاعتبار القول قذفًا أن يريد القائل القذف، وأن بعض الفقهاء فى مذهب أبى حنيفة لا يعتبرون ذلك قذفًا كما ذكرنا فى الفقرة السابقة (2) .
وإذا استعمل القاذف فى القذف ألفاظًا مشتركة تفيد الزنا وتفيد غيره كقوله: زنأت فى الجبل؛ بالهمزة، فيرى بعض أن العبرة بما يفهمه عامة الناس من العبارة وأنه قذف لأن عامة الناس لا يفهمون من العبارة إلا أنها قذف، وقال البعض إنه قذف إذا كان القاذف عاميًا وكان المعنى العامى يستعمل فى القذف لأنه لا يريد به إلا القذف وإن كان من أهل العلم باللغة فهو ليس قذفًا (3) .
استعمال صيغة المبالغة أو صيغة الترخيم لا ينفى وجوب الحد على القاذف، فمن قال لرجل: يا زانية، أو قال لامرأة: يا زانى، فهو قذف صريح، ذلك هو رأى مالك والشافعى وأحمد (4) .
_________
(1) المهذب ج2 ص 290، 291.
(2) المغنى ج10ص 216.
(3) المغنى ج10ص 216، شرح فتح القدير ج 4 ص200 , المهذب ج10 ص 291.
(4) مواهب الجليل ج6 ص 304، المهذب ج2 ص 291 المغنى ج10 ص 217.(2/469)
ويرى أبو حنيفة وأصحابه حد القاذف لو قال لامرأة يا زانى؛ لأن الترخيم شائع ولا يمكن أن يفهم من هذا اللفظ إلا الرمى بالزنا، أما إذا استعمل القاذف صيغة المبالغة فقال للرجل يا زانية، فلا حد عليه عند أبى حنيفة وأبى يوسف وإنما عليه التعزير لأنه رماه بما يستحيل منه إذ الزانية هى المرأة وهى محل للوطء والرجل ليس محلًا له، ويرى محمد من أصحاب أبى حنيفة حد القاذف بصيغة المبالغة لأن التاء فى الزانية أضيفت للمبالغة وليست للتأنيث (1) .
وإذا رمى القاذف رجلا بالزنا وعيَّن المزنى بها كأن قال: زنيت بفلانة، فهو قاذف للرجل والمرأة معًا، أو قال له يا زانى ابن الزانى وكان الأب موجودًا فهو قاذف للأب وابنه، أو قال لامرأة يا زانية بنت الزانية فهو قاذف للمرأتين (2) .
ويشترط فى القذف أن يكون المقذوف معلومًا فإن كان مجهولا فلا حد على القاذف، فمن قال لجماعة: ليس فيكم زان إلا واحد، أو قال لرجلين: أحدكما زان، لم يحد لأن المقذوف مجهول وما جعل الحد إلا لدفع العار عن المقذوف (3) .
ويجب أن يكون القذف مطلقًا عن الشرط والإضافة إلى وقت معين، فإن كان كذلك فلا حد عليه فيه؛ لأن ذكر الشرط والوقت يمنع وقوعه قذفًا للحال، فمن قال لآخر: إن دخلت هذه الدار فأنت زان فدخلها فلا يعتبر قاذفًا. ومن قال لآخرين: من قال عنى كذا وكذا فهو زان فقال رجل أنا قلت ذلك؛ فلا حد، ومن قال لغيره: أنت زان أو ابن الزانية غدًا أو رأس الشهر، فجاء الغد أو رأس الشهر فلا حد عليه (4) .
ولا يعتبر نقل القذف قذفا من الناقل إذا نقله للمقذوف كلف بذلك أم لم يكلف به، بشرط أن يثبت أنه ناقل وأن تكون الصيغة دالة على أنه مكلف
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 191.
(2) المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42.
(3) المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص 46، المغنى ج10 ص 225.(2/470)
بالنقل أو أنه يروى عن غيره، فمن قال لآخر: اذهب إلى فلان فقل له يا زانى، فذهب الآخر وقال ذلك للمقذوف، فلا حد عليه، أما إذا اقتصر على عبارة القذف فقط فهو قاذف. ويرى كل من أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن الناقل لا يعتبر قاذفًا إذا كذبه المنقول عنه حيث لم يثبت أنه ناقل (1) .
وإذا رمى القاذف بالزنا خصيًا أو مجبوبًا أو مريضًا فعليه الحد عند أحمد، وحجته أن نص القذف عام ينطبق على كل قذف وكل مقذوف فيستوى أن يكون المقذوف قادرًا على الوطء أو عاجزًا عنه، لأن إمكان الوطء أمر خفى لا يعلمه الكثير من الناس فلا ينتفى العار عند من لم يعلمه بدون الحد، ويرى مالك وأبو حنيفة والشافعى أن لا حد على قاذف أحد هؤلاء ما دامت الواقعة المقذوف بها تالية للعجز عن الوطء لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحد للعلم بكذب القاذف والحد إنما يجب لنفى العار، ولكن امتناع الحد لا يمنع من تعزير القاذف لأنه آذى المقذوف (2) .
ويشترط أبو حنيفة لحد القاذف أن يكون القذف فى دار الإسلام فإن كان القذف فى دار الحرب أو فى دار البغى فلا حد على القاذف؛ لأنه لا ولاية للإمام على دار الحرب ولا على دار البغى وقت القذف (3) .
ولكن الأئمة الثلاثة يرون حد القاذف على قذفه ولو وقع فى دار الحرب أو دار البغى ما دام أنه يلتزم أحكام الإسلام. ومن نفى شخصًا عن أبيه كأن قال له لست لأبيك فإنه يحد باتفاق، ولكن أبا حنيفة يشترط أن تكون أم المنفى نسبه حرة مسلمة لأن القذف فى الحقيقة قذف للأم، ويفرق بين ما إذا كان النفى فى حالة الغضب فيوجد الحد وبين ما إذا
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 44، المهذب ج2 ص 293، المغنى ج10 ص 216.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 203.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص 45.(2/471)
كان النفى فى غير حالة الغضب فلا يوجد الحد، لاحتمال أن يكون المراد بالنفى غير حقيقة كأن يكون المقصود المعايبة على عدم التشبه بالأب فى محاسن أخلاقه، وعلى هذا يتوقف الحد وعدمه على القرينة، وهذا يتفق مع رأى بعض الشافعية، أما البعض الآخر فهم يرون مع مالك وأحمد الحد سواء نفى النسب فى غضب أو غيره، ويرى أبو حنيفة أيضًا أن من نفى نسب شخص عن جده فقال لست ابن فلان لجده، فلا حد عليه لأنه صادق فى كلامه، لأن الإنسان ليس ابن جده. وكذلك إذا نسب شخصًا لعمه أو خاله أو زوج أمه لا يحد لأن كلًا منهم يسمى أبًا، فالعم يسمى أبًا لقوله تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيِلَ وإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وإسماعيل كان عمًا له، والخال أب، ولأن زوج الأم أب للتربية (1) .
ولكن مالكًا يرى الحد فى كل هذه الحالات (2) . ولا يشترط الشافعى وأحمد هذا الشرط، ويحد القاذف عندهما ولو لم تكن الأم حرة أو مسلمة، وقد توقف مالك فى حالة ما إذا كانت الأم كافرة أو أمَة، ورأى ابن القاسم أن يحد من ينفى النسب ولو كانت المكافرة أو أمة (3) ، أما من ينفى شخصًا عن أمه فلا حد عليه بالإجماع لأنه لم يقذف أحدًا بالزنا (4) ، ومن نفى شخصًا عن قبيلته فعليه الحد عند مالك وأحمد ولا حد عليه عند أبى حنيفة (5) ، وفى مذهب الشافعى قولان، ومن نفى شخصًا عن جنسه بأن قال له: أنت نبطى أو رومى أو لست عربيًا فعليه الحد عند مالك ولا حد عليه عند أبى حنيفة، وفى مذهب الشافعى وأحمد قولان: أحدهما: عليه الحد لأنه أراد نفى نسبه لأن الله تعالى علق الحد على الرمى بالزنا، والثانى: لا حد عليه لأنه يحتمل غير القذف احتمالاً كثيرًا (6) ، أما إذا كان المنفى جنسه غير عربى فلا حد عليه.
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 194، 200.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 300، 301.
(3) المغنى ج10 ص 215، المهذب ج2 ص 291، شرح فتح القدير ج4 ص 193، مواهب الجليل ج6 ص 298.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص 194.
(5) شرح فتح القدير ج4 ص 199، الغنى ج10 ص215..
(6) شرح الزرقانى ج8 ص88، 89 المهذب ج2 ص291، المغنى ج10 ص 215.(2/472)
وإذا قذف الملاعنة أجنبى فعليه الحد عند مالك والشافعى وأحمد (1) ، ويفرق أبو حنيفة بين من لاعنت بولد ومن لاعنت بغير ولد، فمن قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد، أما من قذف ملاعنة بولد فلا حد عليه سواء كان الولد حيًا أو ميتًا وقت القذف (2) .
ومن قذف شخصًا بالزنا فحد لقذفه ثم قذفه ثانية بذلك الزنا فلا يحد بالقذف الثانى وإنما عليه التعزير عند الشافعى وأحمد؛ لأن نفى العار عن المقذوف وتكذيب القاذف قد تم بالحد الأول، ولأن أبا بكر شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضى الله عنه، ثم أعاد القذف فأراد أن يجلده ثانية فقال له علىٌّ: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك، فترك عمر رضى الله عنه جلده. ومعنى عبارة علىٍّ أنك إن أردت أن تجلده ثانية فقد جعلت شهادته شهادتين وإذا كانت شهادته شهادتين فقد كمل عدد شهود الزنا على المغيرة فوجب عليه الرجم لأن أبا بكر ومن معه حدوا لنقص عدد الشهود واحدًا (3) ، اما مالك فيرى أن يحد مرة ثانية إذا كرر قذفه بعد تنفيذ الحد الأول (4) .
الركن الثانى: إحصان المقذوف:
563 - يشترط فى المقذوف أن يكون محصنًا رجلًا كان أو امرأة: والأصل فى شرط الإحصان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصنَاَتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِناَتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْياَ واَلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] والمقصود
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص87، المغنى ج10 ص225، المهذب ج2 ص 293.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 203.
(3) المغنى ج10 ص 234، المهذب ج2 ص 293.
(4) شرح الزرقانى ج8 ص88.(2/473)
بالإحصان فى الآية الأولى العفة عن الزنا على رأى (1) ، والحرية على رأى (2) ومعنى الإحصان فى الآية الثانية: الحرية، فالمحصنات معناها الحرائر والغافلات معناها العفائف والمؤمنات معناه المسلمات، وقد استدل الفقهاء من النصين على أن الإيمان - أى الإسلام - والحرية والعفة عن الزنا شروط فى الإحصان.
وقد ورد لفظ المحصنات فى القرآن بمعانٍ متعددة، فوردت بمعنى العفائف على حسب ما بينا، وجاءت بمعنى المتزوجات فى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْماَنُكُمْ} [النساء: 24] وقوله: {مُحْصَنَاتُ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] وجاءت بمعنى الحرائر فى قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطْعِ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنِكحَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتاَبَ مِنَ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وقوله {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، وجاءت بمعنى الإسلام فى قوله تعالى: {فَإذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] .
ويعتبر الشخص محصنًا إذا كان بالغًا عاقلا حرًا مسلمًا عفيفًا عن الزنا، والبلوغ والعقل شرطان عامان يجب توفرهما فى الجانى فى كل جريمة ولا يجب توفرهما أصلًا فى المجنى عليه، ولكن الفقهاء يشترطون البلوغ والعقل أيضًا فى المقذوف وهو المجنى عليه لإعتباره محصنًا يعاقب على قذفه بالحد، وعلة اشتراط البلوغ والعقل فى المقذوف أنه يرمى بالزنا وهو جريمة لا تقع إلا من بالغ عاقل ولأن زنا الصبى والمجنون لا يجب فيه الحد ولكن الفقهاء مع هذا يختلفون فى شرط البلوغ، فيرى أحمد فى رواية أن البلوغ شرط فى الإحصان لأنه أحد شرطى التكليف فأشبه العقل ولأن زنا الصبى لا يوجب حدًا فلا يجب الحد بالقذف به، ويرى أحمد فى رواية أخرى أن البلوغ ليس شرطًا فى الإحصان مادام المقذوف الواقعة التى قذف فيها فيستطيع الوطء إن كان ذكرًا ويطيق الوطء إن كان أنثى، فعلى هذه الرواية يجب أن يكون المقذوف كبيرًا يجامع مثله ولو لم يكن
_________
(1) المغنى ج10 ص 201.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 401.(2/474)
بالغًا، ويحددون السن الأدنى للغلام بعشر سنوات وللجارية بتسع (1) .
ولا يشترط مالك البلوغ فى الأنثى ولكنه يشترطه فى الغلام، ويعتبر الصبية محصنة إذا كانت تطيق الوطء أو كان مثلها يوطأ ولو لم تبلغ فعلا (2) ؛ لأن الحد جعل لنفى العار ومثل هذه الصبية يلحقها العار. أما أبو حنيفة والشافعى فيشترطان البلوغ من المقذوف ذكرًا كان أم أنثى (3) .
ومن المتفق عليه أن يكون المقذوف مسلمًا رجلا كان أو امرأة، ولكنهم اختلفوا فى حالة نفى النسب إذا كانت أم المنفى نسبة رقيقًا أو غير مسلمة؛ لأن نفى النسب عن ولدها المسلم ليس إلا رميًا لها بالزنا، فاشترط أبو حنيفة فى حالة نفى النسب أن تكون الأم مسلمة وأن تكون حرة فإن لم تكن كذلك فلا حد على القاذف (4) .
وفى مذهب مالك لا يشترط فى أم المنفى نسبة أن تكون مسلمة أو حرة ويجب عندهم الحد على القاذف ولو كانت أم النفى نسبه كافرة أو أمة (5) وهو رأى ابن القاسم، أما مالك فقد توقف فى هذه المسألة، ورأى الشافعى وأحمد يتفق مع ما قال به ابن القاسم فى مذهب مالك (6) .
ومعنى العفة عن الزنا عند أبى حنيفة أن لا يكون المقذوف وطئ فى عمره وطئًا حرامًا فى غير ملك ولا نكاح فاسد فسادًا مجمعًا عليه، فإن كان قد فعل شيئًا من هذا سقطت عفته سواء كان الوطء زنًا موجبًا للحد أم لا. وإن كان وطئ وطئًا حرامًا ولكنه فى ملك أوفى نكاح صحيح أو فى نكاح فاسد فسادًا غير مجمع عليه فلا تسقط عفته، فإذا وطئ مثلًا امرأة زفت إليه غير امرأته سقطت عفته للوطء الحرام فى غير ملك ولا نكاح ولكنه لا يحد
_________
(1) المغنى ج10 ص 202.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 298، 300.
(3) المهذب ج2 ص 289، شرح فتح القدير ج4 ص 192.
(4) شرح فتح القدير ج4 ص 193.
(5) مواهب الجليل ج6 ص300.
(6) المغنى ج10 ص 215.(2/475)
على الزنا لقيام دليل ظاهر استباح به الفعل، أما إذا وطئ زوجته النفساء أو الحائض أو الصائمة أو المحرمة أو التى ظاهر منها لم تسقط عفته لقيام النكاح حقيقة ولو أن الوطء فى ذاته محرم (1) .
والعفة عند مالك هى سلامة المقذوف من فعل الزنا قبل قذفه وبعده ومن ثبوت حده عليه لأن ثبوت الحد يستلزم فعل الزنا (2) .
وعلى هذا يشترط فى المقذوف لاعتباره عفيفًا أن لا يكون قد وطئ وطئًا يوجب حد الزنا وأن لا يكون قد ثبت عليه حد الزنا، فإن كان قد فعل شيئًا من هذا أو ثبت عليه حد الزنا فهو غير عفيف. وإن كان قد وطئ وطئًا محرمًا لا حد فيه فهو عفيف.
ومعنى العفة عند الشافعى هى سلامة المقذوف قبل القذف وبعده عن فعل ما يوجب حد الزنا عليه فإن أتى ما يوجب حد الزنا فهو غير عفيف. أما إن وطئ فى غير ملك وطئًا محرمًا لا يجب به الحد كمن وطئ امرأة ظنها زوجته أو وطئ فى نكاح مختلف فى صحته ففيه وجهان: أحدهما: أنه وطء محرم لم يصادف ملكًا فيسقط العفة والإحصان كالزنا، وثانيهما: أنه وطء لا يجب به الحد فلا يسقط العفة والإحصان كما لو وطئ زوجته وهى حائض (3) .
ولا يشترط أحمد العفة المطلقة كما يشترطها أبو حنيفة، ولا العفة الفعلية عن الزنا كما يشترطها مالك والشافعى، وإنما يكتفى بالعفة الظاهرة عن الزنا فمن لم يثبت عليه الزنا ببينة أو إقرار ومن لم يحد للزنا فهو عفيف وإن كان تائبًا من زنًا أو ملاعنة (4) .
ويرى مالك وأبو حنيفة والشافعى أن يكون الإحصان متوفرًا قبل القذف وبعده حتى تنفذ العقوبة، فمن قذف محصنًا فلا حد عليه إذا ارتكب المحصن قبل تنفيذ الحكم ما يجعله مثلًا غير عفيف وإنما على القاذف التعزير. ولكن أحمد
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص42.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 300.
(3) المهذب ج2 ص 290.
(4) الإقناع ج4 ص260.(2/476)
يرى عليه الحد لأن الإحصان لا يشترط إلا وقت القذف ولا يشترط بعده (1) .
وحجة الأئمة الثلاثة أن شروط الإحصان تعتبر إلى حالة إقامة الحد بدليل أنه لو أرتد أو جن لم يقم عليه الحد ولأن وجود الزنا منه يقوى قول القاذف ويدل على تقدم هذا الفعل منه.
أما أحمد فيرى أن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شروط الوجوب وأن القول باستدامة الشروط قول غير صحيح لأن هذه الشروط للوجوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب فقط. أما إذا جن من وجب له الحد فإن الحد لا يسقط وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة فأشبه ما لو غاب من له الحد، وإن ارتد من له الحد لم يملك المطالبة لأن حقوقه وأمواله تزول أو تكون موقوفة (2) .
وإذا تخلف شرط من شروط الإحصان فى المقذوف فلا حد على القاذف وإنما عليه التعزير إذا عجز عن إثبات القذف، فمن قذف مجنونًا أو كافرًا أو رفيقًا فعليه التعزير.
* * *
الركن الثالث
القصد الجنائى
564 - يعتبر القصد الجنائى متوفرًا كلما رمى القاذف المجنى عليه بالزنا أو نفى نسبه وهو يعلم أن ما رماه به غير صحيح. ويعتبر عالمًا بعدم صحة ما رماه به ما دام قد عجز عن إثبات صحته، ويعتبر العجز عن صحة القذف قرينة لا تقبل الدليل على علمه بعدم صحة القذف، فليس له أن يدعى أنه بنى اعتقاده على صحة القذف على أسباب مقبولة لأنه كان يجب عليه قبل أن يقذف المجنى عليه أن يكون الدليل المثبت للقذف حاضرًا فى يده، وهذا هو ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء: "ايت
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص 300، المغنى ج10 ص 219، شرح فتح القدير ج4 ص 204 وما بعدها.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص 199، بدائع الصنائع ج7 ص 292.(2/477)
بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد فى ظهرك" مع أن هلال شهد واقعة الزنا بنفسه ولم يخلصه من الحد إلا نزول حكم اللعان، وهذا هو ما يدل عليه نص القرآن الصريح فى قوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعةِ شُهدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُلْئِكَ عِندَ الله هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
ولعل هذا هو الذى جعل جمهور الفقهاء يقولون بحد شهود الزنا باعتبارهم قذفة إذا كانوا أقل من أربعة، وإذا كان البعض لا يرى حدهم فإنه لا يرى حدهم إذا جاءوا مجئ الشهود أى إذا تقدموا للشهادة حسبة لله دون دافع شخصى، فأما إن جاءوا مجئ القذفة فلا خلاف فى حدهم.
ولا يشترط بعدما تقدم أن يقصد القاذف الإضرار بالمجنى عليه، ولا عبرة بالبواعث التى حملته على القذف.
هل تشترط العلانية فى القذف؟
565 - لا تشترط الشريعة الإسلامية العلانية فى القذف كما تشترطها القوانين الوضعية، ومن ثم تعاقب الشريعة القاذف سواء قذف المجنى عليه فى محل عام أو محل خاص على مشهد من الناس أو فيما بينهما فقط.
وأساس عدم اهتمام الشريعة بالعلانية أنها تزن كرامة الإنسان بميزان واحد وترى أن قيمة الإنسان لا تتغير بتغير الظروف، فقيمته أمام نفسه تساوى قيمته أمام الناس، وحرصه على كرامته فى السر يجب أن لا يقل عن حرصه على كرامته فى العلانية، والشريعة توجب على المرء أن يكون سره كعلنه وتعيب أناسًا بأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، وقاعدتها الأساسية تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق، وتدعو الناس أن يذروا ظاهر الإثم وباطنه ولهذا فهى لا تميز بين جريمة ارتكبت فى السر وأخرى فى العلانية لأن الجريمة فى الشريعة محرمة لذاتها لا لظروفها، فمن ارتكب جريمة فى السر لم يشهدها أحد عوقب عليها كما لو ارتكبها علانية على ملأ من الناس.(2/478)
أما القوانين الوضعية فلها شأن آخر إذ تميز بين أفعال القذف التى ارتكبت علنًا وأفعال القذف التى ارتكبت فى غير علانية، وتعاقب على الأولى دون الثانية، فهى تعاقب إذا عاقبت لأن القذف فى الغالب سمعه فريق من الناس، ولا تعاقب فى غير العلانية لأن القذف لم يصل إلى أسماع الكثيرين من الناس.
وهكذا تزن القوانين كرامة الإنسان بميزانين وتجعل له قيمتين، فتحافظ على كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت قيمته أمام الناس، وتهدر كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت دون أن يشتهر ذلك بين الناس.
وهكذا تفرض القوانين الوضعية على الناس حياة الرياء والنفاق وتصرفهم عن الجوهر وتغريهم وتجعل منهم أشخاصًا لا كرامة لهم ولا عزة فيهم، وتعلمهم أن يستحلوا لأنفسهم ما يشاءون فى الخفاء وأن يتظاهروا بالبراءة والطهارة، وأن لا يغضبوا لكرامتهم ولا يثوروا إذا مست فى الخفاء وأن يتظاهروا بالغضب إذا مست فى علانية.
والمبدأ الذى أخذت به القوانين الوضعية فى العلانية متمم لمبدأ عدم جواز إثبات القذف، وكلاهما أساسه فرض حياة الرياء والنفاق على الناس لأن معنى عدم جواز الإثبات هو أن يعاقب الصادق والكاذب على السواء وأن لا يستطيع إنسان أن يقول الحق ويصف الناس والأشياء وصف حق إلا إذا عرض نفسه للعقاب، فإذا لم يرد أن يكون عرضة للعقاب وجب عليه أن يعيش كاذبًا لا يقول الحق ولا يعرف الصراحة.
ومبدأ الشريعة فى عدم اشتراط العلانية متمم لمبدأ جواز إثبات القذف، كلاهما أساسه فرض الحياة الفاضلة على الجمهور وأخذه بالاستقامة والاعتزاز بالكرامة، وشتان بين توجيه الشريعة وتوجيه القانون، فالشريعة تعاقب على الجريمة لذاتها لا لظروفها، بينما القانون يعاقب على ظروف الجريمة ولا يهتم بذات الجريمة. والشريعة لا تحمى الفاسقين المفسدين من ألسنة الصادقين المصلحين بينما تحمى البرآء الغافلين من ألسنة الكاذبين المدعين. أما القانون فيتكفل بحماية(2/479)
الفاسقين المفسدين ولو تبين فسقهم، ويعاقب الصادقين المصلحين ولو ثبت صدقهم وصلاحهم، ثم هو بعد ذلك لا يسمح للبرآء الغافلين أن يبرئوا أنفسهم مما ادعاه عليهم الكاذبون، لأن عقاب القاذف دون أن يسمح له بإثبات قذفه يؤدى إلى منع المقذوف من إثبات براءته فيعاقب القاذف لمجرد القذف سواء كان صحيحًا أم كاذبًا، ويبقى المقذوف البرئ وقد لصقت به الفرية لا يستطيع منها فكاكًا ولا خلاصًا.
* * *
المبحث الثانى
دعوى القذف
566 - يشترط فى إقامة دعوى القذف مخاصمة المقذوف، أى أن يتقدم المقذوف بشكواه، فإذا قدمت الشكوى من غيره لم يجزأن تقام الدعوى على أساس شكوى الغير؛ كذلك لو تقدم الشهود بشهادتهم حسبة لله لم تقبل منهم الشهادة لأن الشهادة لا تقبل قبل قيام الدعوى، والدعوى لا تقوم إلا بشكوى المقذوف.
ومن المسلم به بين الفقهاء أن القذف حد من حدود الله، والقاعدة العامة فى الشريعة أن خصومة المجنى عليه ليست شرطًا فى إقامة دعوى متعلقة بحد من الحدود، ولكنهم يستثنون من هذه القاعدة العامة حد القذف ويوجبون فى إقامة دعوى القذف خصومة المجنى عليه ناظرين إلى أن الجريمة وإن كانت حدًا إلا أنها تمس المقذوف مساسًا شديدًا وتتصل بسمعته وعرضه اتصالًا وثيقًا، ولأن للقاذف حق إثبات قذفه فلو أثبته أصبح المقذوف مسئولًا عن جريمة الزنا كلما رمى بهذه الجريمة ووجبت عليه عقوبتها، ولهذه النتائج الخطيرة كان من الحكمة أن يعلق رفع دعوى القذف على شكوى المقذوف.
567 - من يملك الخصومة؟ يملك المقذوف وحده حق الخصومة فى دعوى القذف إن كان حيًا، فلا تقبل الخصومة من غيره مهما كانت صلته بالمقذوف ولو كان فى القذف مساس به، اللهم إلا إذا كان القذف يعتبر قذفًا(2/480)
مباشرًا له، فإذا قذف شخص بأنه زنا بامرأة معينة اعتبر الرجل والمرأة مقذوفين وكان لكل منهما حق الخصومة فى دعوى القذف، ولكن ليس لغيرهما أن يحرك الدعوى فليس لزوج المرأة أو ولدها أو أحد أبويها أن يحرك دعوى القذف ولو أن القذف يمسه لأن القذف لم يمسه إلا عن طريق الرأة المقذوفة وهى صاحبة الحق فى الخصومة، وليس لأبناء الرجل أو أبويه أو زوجته حق الخصومة فى دعوى القذف لنفس السبب.
وإذا حرك المقذوف دعوى القذف ثم مات قبل الفصل فى الدعوى سقطت الدعوى بموته فى رأى أبى حنيفة؛ لأن حق الخصومة فى دعوى القذف حق مجرد ليس مالا ولا بمنزلته فلا يورث (1) .
ولكن مالكًا والشافعى وأحمد يرون أن حق الخصومة يورث فيحل الورثة فى الدعوى محل المقذوف، فإذا لم يكن للمقذوف وارث سقطت الدعوى.
وفى مذهب مالك يرون فى حالة موت المقذوف دون وارث أن للمقذوف أن يوصى بشخص بأن يقوم مقامه فى الدعوى، فإذا أوصى على هذا الوجه حل الوصى محله فى الدعوى ولم تسقط الدعوى بموت المقذوف (2) .
وإذا مات المقذوف بعد القذف وقبل الشكوى سقط حق المخاصمة ولم يكن لورثة المقذوف أو عصابته أن يخاصموا القاذف إلا إذا كان المقذوف قد مات وهو لا يعلم بالقذف (3) ؛ لأن سكوته عن الشكوى يعنى أنه لا يريدها أو أنه عفا عن القاذف.
وإذا كان المقذوف ميتًا فجمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة يبيحون رفع الدعوى على القاذف بناء على شكوى ممن يملك حق المخاصمة فإذا لم يكن هناك من يملك هذا الحق امتنع رفع الدعوى إلا عند الشافعى كما قدمنا. ولكنهم اختلفوا فيمن يملك حق المخاصمة فى هذه الحالة، فرأى مالك أن أصول المقذوف وفروعه
_________
(1) المدونة ج16 ص 20.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 305.
(3) المدونة ج16 ص 20، مواهب الجليل ج 6 ص 305.(2/481)
الذكور يملكون حق المخاصمة وأن أجداد المقذوف لأمه يملكون هذا الحق، فإن لم يكن أحد من هؤلاء كان حق المخاصمة للعصبة وللبنات والأخوات والجدات (1) .
ويرى أبو حنيفة أن الخصومة يملكها ولد المقذوف الميت ذكرًا كان أم أنثى وابن ابنه وبنت ابنه وإن سفلوا، ووالده وإن علا. ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف أن أولاد البنات يملكون الخصومة أيضًا ولا يرى محمد ذلك (2) .
ويرى الشافعى أن حق الخصومة يملكه كل وارث، وفى مذهب الشافعى رأى أن الخصومة لجميع الورثة إلا من يرث بالزوجية، ورأى آخر أن الخصومة للعصبات دون غيرهم (3) .
ويعلل الفقهاء إعطاء الورثة حق المخاصمة فى قذف الميت بأن معنى القذف هو إلحاق العار بالمقذوف والميت ليس محلا لإلحاق العار به فلم يكن معنى القذف راجعًا إليه بل إلى أهله الأحياء الذين يلحقهم العار بقذف الميت، ولما كان أهل الميت يتصلون به بصلة الجزئية وكان قذف الإنسان قذفًا لأجزائه فكأن القذف واقعٌ على أهل الميت من حيث المعنى، ولذلك تثبت لهم حق الخصومة لدفع العار عن أنفسهم. أما إذا كان المقذوف حيًا وقت القذف فقد أضيف إليه القذف وقت أن كان محلًا قابلًا للقذف صورة ومعنى فلحق العار به وانعقد القذف موجبًا حق الخصومة له خاصة (4) .
ويرجع اختلاف الفقهاء على من يملك حق المخاصمة إلى الاختلاف فى تقدير من يلحقهم عار القذف، فالبعض رأى أنه يلحق كل الورثة، والبعض رأى أنه يلحق الورثة إلا من يرث بالزوجية، والبعض رأى أنه لا يلحق إلا العصبات، والبعض رأى أنه لا يلحق إلا من يعتبر القذف نفيًا لنسبه.
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص 55، شرح فتح القدير ج4 ص 194.
(2) المهذب ج 2 ص 292.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص 55، الشرح الكبير ج 10 ص 230.
(4) مواهب الجليل ج 6 ص 305، المهذب ج2 ص 292، شرح فتح القدير ج 4 ص 195، المغنى ج10 ص 209.(2/482)
ولكن الفقهاء مع هذا متفقون على أن من له حق المخاصمة يستطيع أن يخاصم دون توقف على غيره ممن له نفس الحق ولو كان هذا الغير أقرب درجة للميت؛ أى أن الأبعد درجة من الميت يستطيع أن يخاصم ولو لم يخاصم الأقرب (1) .
وإذا كان الفقهاء يعللون المخاصمة بأنها لدفع العار عن المخاصم من أصول الميت أو فروعه أو ورثته أو عصباته وكان للأبعد أن يخاصم مع وجود الأقرب فمعنى ذلك أن الدعوى قصد منها حماية الأحياء لا حماية الميت ودفع العار عنهم لا عنه خصوصًا وأن القذف يتعدى دائمًا المقذوف إلى غيره؛ إذ القذف فى الشريعة معناه رمى المقذوف بالزنا أو نفى النسب عنه فالمقذوف إذا رمى بالزنا تعداه القذف إلى غيره. ومن رمى امرأة بالزنا تعداها القذف على أقل تقدير إلى أولادها، والمقذوف إذا قذف بما ينفى نسبه تعداه القذف إلى أصوله وفروعه وورثته.
568 - بين الشريعة والقانون: الرأى السائد فى القوانين الوضعية اليوم أن القوانين توضع لحماية الأحياء دون الأموات، ومن ثم فقذف الميت لا عقاب عليه إلا إذا تعدى أثر القذف إلى الأحياء من ورثة المقذوف أو ذوى قرباه فلا مانع إذن من المحاكمة والعقاب. وبعض القوانين لا يعلق رفع الدعوى على شكوى المقذوف أو ورثته كما هو الحال فى القانون المصرى، ولكن بعض القوانين يشترط لرفع الدعوى شكوى المقذوف كما هو الحال فى القانون الفرنسى، فإذا مات المجنى عليه سقط بموته حق الشكوى، إلا إذا قصد من القذف المساس بكرامة أسرة المقذوف وذويه الأحياء فيحق لهم حينئذ أن يرفعوا الشكوى باسمهم. واتجاه القوانين الوضعية فى قذف الأموات لا يكاد يختلف عن اتجاه الشريعة. فدعوى القذف فى الشريعة تمس دائمًا أسرة المقذوف وأهله، فإذا
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 198.(2/483)
أجازت الشريعة للورثة رفع الدعوى دون قيد فإن هذا يساوى تمامًا ما أجازته القوانين الوضعية للورثه من رفع الدعوى فى حالة مساس القذف بهم؛ لأن القوانين لا تقصر القذف على نسبة الزنا ونفى النسب كما هو الحال فى الشريعة، وإنما تعتبر القوانين قاذفًا كل من أسند لغيره واقعة توجب احتقاره، ومن المسلم به أن كثيرًا مما يعتبر قذفًا فى القوانين لا يمس ورثة المقذوف أو أهله الأحياء، أما نسبة الزنا للمقذوف ونفى النسب عنه فلا شك أنه يمسهم، ومن ثم يمكن القول أن القوانين تجيز دائمًا دون قيد لورثة المقذوف وأهله الأحياء أن يرفعوا الدعوى فى هاتين الحالتين على القاذف.
أما تعليق الدعوى على شكوى المقذوف فقد رأينا بعض القوانين كالقانون الفرنسى يتفق مع الشريعة فى هذا المبدأ، وأن قوانين أخرى منها القانون المصرى لا تعلق رفع الدعوى على شكوى القاذف.
569 - هل حد القذف حق لله أم حق للعبيد؟: يقسم الفقهاء الحقوق التى تنشأ عن الجرائم إلى نوعين: حقوق لله تعالى وحقوق للآدميين، ويعتبرون الحق لله كلما كان خالصًا لله أو كان حق الله فيه غالبًا، ويعتبرون الحق للعبد كلما كان خالصًا للعبد أو كان حق العبد غالبًا فيه. وتنشأ حقوق الله عن الجرائم التى تمس مصالح الجماعة ونظامها، وأما حقوق الآدميين فتنشأ عن الجرائم التى تمس الأفراد وحقوقهم.
وحين ينسب الفقهاء الحق لله يعنون بذلك أن الحق لا يقبل الإسقاط من الأفراد ولا من الجماعة، وتعتبر العقوبة فى الشريعة حقًا لله تعالى كلما استوجبتها المصلحة العامة وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم، فكل جريمة يرجع فسادها للعامة وتعود منفعة عقوبتها عليهم تعتبر العقوبة عليها حقًا لله تأكيدًا لتحصيل المنفعة ودفع المضرة والفساد، لأن اعتبار العقوبة حقًا لله يؤدى إلى عدم إسقاطها بإسقاط الجماعة والأفراد لها. ومع أن الفقهاء يقسمون الحقوق إلى حقوق لله وحقوق للأفراد إلا أن(2/484)
الكثيرين منهم يرون بحق أن كل ما يمس حق الجماعة الخالص أو حق الأفراد الخالص يعتبر حقًا لله تعالى لأن كل حكم شرعى إنما شرع ليمتثل ويتبع، ومن حق الله على عباده
أن يمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه ويعملوا بشريعته، فكل حكم إذن فيه حق لله من هذه الوجهة، وإذا قيل إن حكمًا ما يرتب حقًا مجردًا للفرد فإن هذا القول لا يعتبر صحيحًا على إطلاقه وإنما يصح إذا غلبنا حق العبيد فى الأمور الدنيوية، كذلك فإن ما يعتبر حقًا خالصًا لله يمس دون شك مصالح الأفراد لأن الشريعة إنما وضعت لتحقيق مصالح الأفراد. وقد ينشأ الحقان معًا عن الجريمة الواحدة كما هو الحال فى جريمة السرقة، فإنه ينشأ عنها حق لله تعالى؛ أى حق للجماعة فى عقاب الجانى، وحق للمجنى عليه فى استرداد ماله المسروق أو أخذ مقابله.
وقد ينشأ عن الجريمة حق واحد فقط كما هو الحال فى جريمة الردة فإنه لا ينشأ عنها إلا حق واحد هو حق الجماعة فى عقاب الجانى. والأصل فى الشريعة أن فرض العقوبة واستيفاءها حق لله تعالى ولكن استيفاء بعض العقوبات جعلت استثناءً حقًا للأفراد وهى عقوبات جرائم الاعتداء على حياتهم
وأجسامهم أى القتل والجرح والضرب، فقد جعلت الشريعة استيفاء عقوبة القصاص وعقوبة الدية حقًا للأفراد ولهم أن يتمسكوا بها أو يتنازلوا عنها، فإذا تنازلوا عنها كان للجماعة أن تعاقب الجانى بالعقوبة الملائمة لظروف الجريمة والمجرم، وعلى هذا فإن جعل استيفاء بعض العقوبات من حق الأفراد لا يسلب الجماعة حقها فى فرض عقوبات أخرى على هذه الجرائم ولا يمنع من تنفيذ هذه العقوبات الأخرى.
ومن المتفق عليه أن جريمة القذف فيها حقان: حق لله تعالى وحق للمقذوف ولكن الفقهاء يختلفون على أى الحقين هو الأقوى، فأبو حنيفة يغلب حق الله على حق العبد ويجعل الجريمة متعلقة بحق الله تعالى، وبعض الحنفية يرى أن(2/485)
حق القذف متعلق بحقوق الأدميين وحقوق الله وأن الحق الغالب فيه هو حق الآدميين (1) .
والشافعى وأحمد يغلبان حق العبد على حق الله ويجعلان الجريمة متعلقة بحقوق الآدميين. ومالك يغلب حق العبد قبل الشكوى ويغلب حق الله تعالى بعد الشكوى، فالجريمة عنده متعلقة بحقوق الآدميين قبل الشكوى ومتعلقة بحقوق الله تعالى بعد الشكوى. ويغلب الشافعى وأحمد حق العبد لأن العبد فى حاجة إلى حقه أكثر من حاجة الجماعة إلى حقها، ويغلب أبو حنيفة حق الجماعة على حق العبد لأن ذلك يؤدى إلىحفظ حق الجماعة وحق العبد معًا بينما تغليب حق العبد يؤدى إلى إهدار حق الجماعة (2) .
ولأن ولى الأمر يعتبر نائبًا عن الأفراد ونائبًا عن الجماعة فيستطيع أن يقوم على حق الجماعة وحق الفرد إذا غلب حقه لا يمثل إلا نفسه فلا يستطيع أن يرعى حق الجماعة، أما مالك فيغلب حق العبد قبل الشكوى باعتبار أن حق الجماعة لا يبدأ فى الظهور إلا بعد الشكوى فإذا لم تكن شكوى فلا حق إلا حق الآدمى، أما بعد الشكوى فيوجد حق الجماعة، وإذا وجد حق الجماعة تغلب على حقوق الآدميين (3) .
570 - ويترتب على الاختلاف فى تغليب أحد الحقين على الأخر نتائج كثيرة أهمها:
1 - أن تغليب حق الآدميين على حقوق الله يؤدى إلى القول بأن الحقوق الناشئة للمقذوف عن جريمة القذف تورث لأن الإرث يجرى فى حقوق العباد، بينما القائلون بتغليب حق الله على حق الآدمى لا يرون الإرث فى حق المخاصمة،
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 198.
(2) مواهب الجليل ج6 ص 305.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص 198.(2/486)
إذ الحد وإن كان والآدمى يرث الآدمى فيما كان مالا أو متصلا بالمال وحق المخاصمة ليس شيئًا من هذا.
2 - العفو: فمن غلب حق الله على حق الآدميين كأبى حنيفة رأى أن المقذوف ليس له أن يعفو عن القاذف بعد ثبوت الجريمة عليه، فإن عفا كان عفوه باطلا، لأن الحد حق من حقوق الله فليس للفرد أو الجماعة إسقاطه ولا يسقط بالعفو كسائر الحدود. ومن غلب حق العبد على حق الله كالشافعى وأحمد رأى المقذوف له أن يعفو عن القاذف إلى وقت إقامة الحد، فإن عفا عنه سقط الحد، على إنه إذا تعدد المقذوفين وكانت الجريمة محكومًا فيها بحد واحد فيشترط لسقوط الحد أن يكون العفو من جميع المقذوفين، فإذا عفا البعض دون البعض وجب الحد لمن لم يعف ولم يسقط بعفو من عفا (1) .
ولمالك آراء متعددة فى العفو أولها: أن العفو يصح إلى ما قبل التبليغ فإذا لم يعف المقذوف وبلغ عن الحادث فلا عفو بعدها. وثانيها: أن العفو يصح إلى ما قبل سماع الشهود، فإن أدى الشهود شهادتهم فلا عفو بعدها.
وثالثها: أن العفو جائز قبل التبليغ وبعده كلما قصد المقذوف من العفو أن يستر على نفسه (2) . والقائلون بالعفو يجيزون أن يكون العفو صريحًا أو ضمنيًا، ويرتبون على العفو قبل التبليغ عدم جواز رفع الدعوى لسقوط حق المقذوف فى الشكوى بالعفو.
* * *
_________
(1) المغنى ج10 ص 204، المهذب ج2 ص 292.
(2) المدونة ج 16 ص 16، مواهب الجليل ج 6 ص 305.(2/487)
المبحث الثالث
الأدلة على القذف
يثبت القذف بالطرق الآتية:
571 - أولا شهادة الشهود: ويشترط فى شهود القذف ما يشترط فى شهود الزنا من البلوغ والعقل والحفظ والقدرة على الكلام والعدالة والإسلام وانعدام القرابة وانعدام العداوة وانعدام التهمة. كذلك يشترط فى شهود القذف الذكورة والأصالة، وقد تكلمنا عن هذه الشروط جميعًا بمناسبة الكلام على الشهادة فى الزنا.
عدد الشهود: فيما يختص بإثبات التهمة يكفى لإثبات واقعة القذف على القاذف شهادة شاهدين فقط. أما فيما يختص بنفى التهمة فللمتهم بالقذف أن يتبع إحدى الطرق الآتية:
الأولى: أن ينكر واقعة القذف ثم يستشهد على عدم حصول القذف بمن شاء من الرجال والنساء دون التقيد بعدد معين.
الثانية: أن يدعى أن المقذوف اعترف بصحة القذف، ويكفى لتأييد هذا الدفاع شهادة رجلين أو رجل وامرأتين (1) .
الثالثة: أن يعترف بالقذف ويبدى استعداده لإثبات صحة القذف، وفى هذه الحالة يجب عليه أن يستشهد على صحة الواقعة المقذوف بها أربعة شهود يشترط فيهم ما يشترط فى شهود إثبات جريمة الزنا على أن لا يكون القاذف أحدهم لأنه لا يعتبر شاهدًا.
الرابعة: إذا كان زوجًا فاعترف بالقذف فله أن يلاعن الزوجة، ويرى أبو حنيفة أن للقاذف أن يثبت صحة القذف بأربعة شهود غيره، فإن شهدوا بصحة القذف فلا يحد المقذوف حد الزنا إذا كانت الشهادة على زنًا متقادم (2) .
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص210.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص210.(2/488)
لأن الأصل عنده أن الشهادة لا تقبل عند التقادم ولكنها قبلت هنا لإسقاط الحد عن القاذف وليس لإيجاب الحد على المقذوف. ويخالف أبا حنيفة فى هذا الأئمة الثلاثة ويرون حد المقذوف حد الزنا إذا ثبت الزنا عليه ولو كان متقادمًا لأنهم لا يعترفون بالتقادم "إلا على رأى لأحمد كما ذكرناه".
ويرى أبو حنيفة أن لا أثر للتقادم على القذف لأن الدعوى فى القذف شرط فلا يمكن التقدم بالشهادة حسبة ولا تقبل مثل هذه الشهادة قبل الدعوى، وما دامت الدعوى تأخرت لأسباب خاصة بالمقذوف فليس من هذا ما يدعو إلى اتهام الشهود وليس فيه ما يفيد معنى الضغينة والتهمة كما هو الحال فى الزنا والشرب مثلًا، إذ الدعوى فى هاتين الجريمتين ليست شرطًا (1) .
572 - ثانيًا: الإقرار: يثبت القذف بإقرار القاذف أنه قذف المجنى عليه، ولا يشترط العدد فى الإقرار فيكتفى أن يقر مرة واحدة فى مجلس القضاء (2) .
ويرى أبو حنيفة جواز الشهادة على الإقرار فى القذف إذا حدث فى غير مجلس القضاء؛ لأن إنكار الإقرار بالقذف لا قيمة له ولا يعتبر رجوعًا عن الإقرار (3) ، ولأن الرجوع عن الإقرار فى القذف لا أثر له على الحد لأن حد القذف حق العبد من وجه، وحق العبد لا يحتمل السقوط بالرجوع بعد ثبوته كما هوالحال فى القصاص (4) . ولا يقبل الرجوع عند أحمد (5) .
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 161، بدائع الصنائع ج 7 ص 46.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص210.
(3) بدائع الصنائع ج 7 ص 50.
(4) بدائع الصنائع ج 7 ص 50.
(5) بدائع الصنائع ج 7 ص 61.(2/489)
ويصح الإقرار فى القذف ولو مع السكر كما هو الحال فى الخصومة المالية؛ لأن للعبد حقًا فى القذف (1) .
ومن المتفق عليه فى مذهب أبى حنيفة أن للقاضى أن يقضى بعلمه فى القذف على أن يكون العلم فى زمان القضاء ومكانه، ولكنهم اختلفوا على جواز القضاء بعلمه إذا كان العلم فى غير زمان القضاء أو مكانه (2) .
573 - ثالثًا: اليمين: يثبت القذف عند الشافعى باليمين إذا لم يكن لدى المقذوف دليل آخر فله أن يستحلف القاذف فإن نكل القاذف ثبت القذف فى حقه بالنكول.
ويرى الشافعى أيضًا أن يستحلف القاذف المقذوف إذا لم يكن لدى القاذف بينة على صحة القذف، فإن نكل المقذوف عن اليمين اعتبر القذف صحيحًا ودرئ الحد عن القاذف، ولا يرى الشافعى الاستحلاف فى شئ من الحدود إلا فى القذف فقط لأنه حق العبد ولأن الرجوع عن الإقرار فى القذف باطل ولأن النكول عن اليمين بمثابة الإقرار. أما فى الحدود الأخرى فلا يرى الاستحلاف فيها لأنها حق الله من ناحية ولأن الرجوع عن الإقرار فيها صحيح (3) .
وفى مذهب أبى حنيفة يرى بعضهم الاستحلاف ولا يراه البعض الآخر، فمن قال بالاستحلاف اعتبر ما فى القذف من حق العبد، على أن القائلين بالاستحلاف اختلفوا فمنهم من رأى القضاء بالحد بالنكول، ومنهم من رأى القضاء بالتعزير عند النكول بدلًا من الحد، ومن قال بعدم الحلف اعتبر حق الله سبحانه وتعالى وأنه هو الحق الغالب فألحقه بسائر حقوق الله تعالى الخالصة وهى لا تقضى بها باليمين ولا بالنكول (4) .
ولا يرى مالك وأحمد جواز الإثبات باليمين فى القذف فليس للقاذف أو
_________
(1) الإقناع ج4 ص 259.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 52.
(3) أسنى المطالب ج4 ص 402، 404.
(4) بدائع الصنائع ج 7 ص 52.(2/490)
المقذوف أن يستحلف الآخر (1) .
ولأحمد رأى قديم بجواز القضاء بالنكول فى القذف، ولكن المذهب أنه لا يقضى بالنكول فى غير المال وما يقصد به المال (2) .
* * *
المبحث الرابع
عقوبة القذف
574 - للقذف عقوبتان: الأولى أصلية وهى الجلد والثانية تبعية وهى عدم قبول الشهادة والأصل فى العقوبتين قوله تعالى: {وَالَّذيِنَ يَرْمُنَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةُ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحيمٌ} [النور: 4، 5] .
عقوبة الجلد: عقوبة الجلد مقدارها ثمانون جلدة، وهى لا تقبل استبدالا ولا إنقاصًا، ليس لولى الأمر حق العفو عن العقوبة، أما المقذوف فله الحق فى العفو عنها على رأى البعض وليس له العفو على رأى البعض الآخر، كما بينا من قبل.
عدم قبول الشهادة: من المتفق عليه أن القاذف يجب عليه مع الحد سقوط شهادته لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} .
وقد اختلفوا فى سقوط الشهادة مع التوبة، فرأى أبو حنيفة أن شهادة القاذف تسقط وإن تاب، ورأى مالك والشافعى وأحمد أن القاذف تقبل شهادته إن تاب، وأساس اختلافهم فى هذه المسألة هو اختلافهم فى تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} ، فمن رأى أن الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور فى قوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} قال: التوبة ترفع الفسق ولا تؤثر على عدم قبول
_________
(1) شرح الزرقانى ج 8 ص 91، تبصرة الحكام ج 1ص 174، الإقناع ج4 ص259.
(2) المغنى ج12 ص 126.(2/491)
الشهادة، ومن رأى أن الاستثناء يعود إلى الجملة السابقة كلها ويتناول الأمرين جميعًا قال: التوبة ترفع الفسق وتمنع من رد الشهادة.
ويرى أبو حنيفة ومالك أن شهادة القاذف لا تسقط إلا بالحد. أما الشافعى وأحمد فيسقطان شهادة القاذف بثبوت المعصية عليه؛ أى بعجزه عن إثبات صحة القذف ولو لم يحد (1) .
575 - تعدد العقوبات: إذا تعددت العقوبات، فإما أن تكون كلها عن جرائم قذف، وإما أن تكون عن جرائم قذف وجرائم أخرى، وفى الحالتين تتداخل العقوبات على الوجه الآتى:
576 - تداخل عقوبات القذف: اختلف فى تداخل عقوبات القذف، فرأى مالك وأبو حنيفة أن عقوبات القذف تتداخل إلى وقت تنفيذها، فمن قذف غير مرة فحد فهو لذلك كله، سواء قذف فردًا واحدًا أو أفرادًا، وسواء كان القذف بكلمة أو بكلمات فى يوم واحد أو أيام مختلفة، وسواء اتحدت عبارات القذف أم اختلفت، طلب بعضهم الحد أم كلهم، فإذا أقيم الحد فقذف أحدًا بعد ذلك حُد له من جديد.
وإذا كان مالك وأبو حنيفة قد اتفقا فى هذا فإنهما اختلفا فيما إذا قذف أحدًا أثناء تنفيذ العقوبة، فرأى مالك أن القذف إذا كان بعد تنفيذ أكثر الحد كمل الحد الأول ووجب للقذف الثانى حد كامل، وإن كان بعد تنفيذ أقل الحد وجب للقذف الجديد حد جديد إلا بقدر ما استوفى من الحد الأول. وظاهر مما سبق أن مالك لا يرى التداخل بعد بدء التنفيذ إذا كان قد نفذ أكثر الحد ويرى التداخل بقدر ما بقى من الحد إذا كان قد نفذ أقله. أما أبو حنيفة فيرى التداخل ما دام لم يتم التنفيذ ولو كان الباقى من الحد سوط واحد فلو ضرب
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص 206، شرح الزرقانى ج7 ص 165، بداية المجتهد ج2 ص 370، المهذب ج2 ص 348، المغنى ج12 ص 74.(2/492)
القاذف تسعة وسبعين سوطًا ثم قذف قذفًا لا يضرب إلا ذلك السوط الواحد للتداخل (1) .
ويرى الشافعى أنه إذا قذف شخصًا واحدًا عدة مرات قبل أن يحد فإن العقوبات تتداخل ويجرى عنها جميعًا حد واحد إذا كان القذف بزنًا واحد، وكذلك الحكم على الرأى الراجح ولو قذفه كل مرة بزنًا آخر لأن العقوبات كلها من جنس واحد لمستحق واحد فتتداخل كما لو زنا ثم زنا، أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه تعدد الحد بتعدد وقائع القذف لأن القذف من حقوق الآدميين ولا تداخل فيها.
إذا قذف جماعة فوجه لكل واحد منهم القذف على انفراد وجب لكل واحد منهم حد ولا تداخل مهما تعددت الحدود، وإن قذفهم بكلمة واحدة فيه قولان، قال فى القديم: يجب حد واحد لأن كلمة القذف واحدة فوجب حد واحد كما لو قذف امرأة واحدة. وقال فى الجديد: يجب لكل واحد منهم حد لأنه الحق العار بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد كما لو انفرد بقذف كل واحد منهم، وهذا هو الرأى المعمول به فى المذهب.
وإذا كانت كلمة عبارة القذف تعتبر قذفًا لشخصين كما لو قذف زوجته برجل ولم يلاعن، فيرى البعض أن على القاذف حدين لأنه قذف شخصين، ويرى البعض أن على القاذف حدًا واحدًا لأن القذف بزنًا واحد.
أما إذا كان عبارة القذف تعتبر قذفًا لشخصين وكان القذف بأكثر من زنًا واحد فلا خلاف فى أن على القاذف حدين، كما لو قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية.
وإن وجب عليه حد لاثنين فإن وجب لأحدهما قبل الآخر وتشاحنا قُدِّم السابق منهما لأن حقه أسبق، وإن وجب عليه لهما فى حالة واحدة بأن قذفهما معًا وتشاحنا أقرع بينهما.
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 88، 92، شرح فتح القدير ج4 ص 208، حاشية ابن عابدين ج3 ص 243.(2/493)
وإن وجب حدان فحد لأحدهما لم يحد للآخر حتى يبرأ ظهره من الحد الأول؛ لأن الموالاة بين الحدين تؤدى إلى التلف (1) .
ويرى أحمد أنه إذا قذف رجل شخصًا مرات فم يحد فحد واحد سواء قذفه بزنًا واحد أو بزينات، وإذا قذف جماعة بكلمات فلكل واحد منهم حد ولا تتداخل الحدود فى هذه الحالة مهما تعددت لأنها من حقوق الآدميين.
وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم، وهناك رواية عن أحمد أنه يلزمه لكل واحد منهم حد كامل، وإذا طلبوا الحد جملة حد لهم، فإن طلبه أحدهم أقيم الحد لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل فأيهم طالب به استوفاه وسقط باستيفائه فلم يكن لغيره أن يطالب به، وإن أسقطه أحدهم كان لغيره أن يطالب به ويستوفيه.
وروى عن أحمد رواية أخرى: أنهم إذا طلبوه دفعة واحدة فحد واحد، وكذلك إن طلبوه واحدًا بعد واحد إلا أنه لم ينفذ حتى طلبه الكل فحد واحد، وإن طلبه واحد فأقيم له ثم طلبه آخر أقيم له، وكذلك جميعهم لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع أستيفاؤه بجميعهم، وإذا طلبه واحد منفردًا كان استيفاؤه له وحده فلا يسقط حق الباقين بغير استيفائهم أو إسقاطهم.
وإذا قال لرجل يا ابن الزانيين فهو قاذف لهما بكلمة واحدة فإن كانا ميتين ثبت الحق لولدهما ولم يجب إلا حد واحد. وإن قال يا زانى ابن الزانى فهو قذف لهما بكلمتين فإن كان أبوه حيًا فلكل واحد منهما حد، وكذلك لو قال يا زانى ابن الزانية وكانت أمه على قيد الحياة وإن كانت ميتة فالقذفان جميعًا له، وإن قال زنيت بفلانة فهو قذف لهما بكلمة واحدة (2) .
577 - هل تتداخل عقوبة القذف مع عقوبات الجرائم الأخرى؟: يرى مالك أن حد القذف يتداخل مع حد الشرب لاتحاد الموجب أى أن
_________
(1) المهذب ج2ص292.
(2) المغنى ج10 ص 331، 334.(2/494)
موجب كل من الحدين ثمانون جلدة فإذا أقيم عليه أحدهما سقط عنه الآخر، ولو لم يقصد عند إقامته الحد إلا واحدًا فقط ثم ثبت أنه شرب أو قذف فإنه يكفى بما ضرب له عما ثبت، وكذلك الحكم لو سرق لأول مرة وقطع يمين آخر فإن الحدين يتداخلان لاتحاد الموجب (1) . ولا يرى الأئمة الثلاثة ما يراه مالك من التداخل بين حد القذف وحد الشرب وفيما عدا ما سبق فإن من المتفق عليه أن حد القذف لا يتداخل مع أية عقوبة أخرى ولو كانت القتل؛ سواء كان القتل حقًا لله كرجم الزانى المحصن أو حقًا للعبد كالقصاص، فحد القذف ينفذ مع القتيل ومع غيره ويقدم على القتل لأن فيه حق الآدمى وحقوق الآدميين لا يتسامح فيها كما يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد، ولأن حد القذف جُعل لدفع العار فلا يجبه القتل لئلا يقال للمقذوف: ما لك لم يُضرب لك فلان حد الفرية (2) ؟!
كيفية تنفيذ العقوبة: راجع ما كتب عن الجلد فى الزنا وما كتب خاصة عن القذف.
578 - مسقطات العقوبة:
1 - رجوع الشهود عن شهادتهم.
2 - تصديق المقذوف للقاذف.
3 - تكذيب المجنى عليه لشهوده. وهذا عند أبى حنيفة خاصة، ويرى مالك أنه إذا كذب شهوده قبل سماعهم لم تسمع شهادتهم، فإذا كذبهم بعد الشهادة لم يلتفت لقوله.
4 - بطلان أهلية الشهود قبل التنفيذ، وهو شرط خاص بأبى حنيفة لأن القاعدة عنده أن الإمضاء من القضاء.
* * *
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 108.
(2) المدونة ج16 ص 12، شرح الزرقانى ج8 ص 108، شرح فتح القدير ج4 ص 209، بدائع الصنائع ج7 ص 63، المهذب ج2 ص 305، المغنى ج10 ص 321 وما بعدها.(2/495)
الكتاب الثالث
الشرب
579 - حرمت الشريعة الإسلامية الخمر تحريمًا قاطعًا لأنها تعتبر الخمر أم الخبائث وتراها مضيعة للنفس والعقل والصحة والمال. وقد حرصت الشريعة على أن تبين للناس من أول يوم أن منافع الخمر مهما يقال فى منافعها ضئيلة لا تتعادل مع أضرارها الجسيمة، وذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِماَ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُماَ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِماَ} [البقرة: 219] .
ولقد حرمت الشريعة الإسلامية الخمر من ثلاثة عشر قرنًا، ووضع التحريم موضع التنفيذ من يوم نزول النصوص المحرمة، وظل العالم الإسلامى يحرم الخمر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين حيث بدأت البلاد الإسلامية تطبق القوانين الوضعية وتعطل الشريعة الإسلامية، فأصبحت الخمر مباحة لشاربيها كما هو الحال فى مصر ولا عقاب علىشربها أو السكر منها اللهم إلا إذا وجد شاربها فى حالة سكر بِّين فى محل عام، فإن كان السكر بينًا وكان السكر فى محل خاص فلا عقاب عليه؛ أى أن العقوبة التى يقررها القانون المصرى ليست على شرب الخمر ولا على السكر وإنما على وجود السكران فى محل عام.
وفى الوقت الذى يستبيح فيه المسلمون الخمر بالرغم من تحريم الإسلام لها تنتشر الدعوة إلى تحريم الخمر فى كل البلاد غير الإسلامية، فلا تجد بلدًا ليس فيه جماعة أو جماعات تدعو إلى تحريم الخمر وتبين بكل الوسائل أضرارها العظيمة التى تعود على شاربيها بصفة خاصة وعلى الشعوب بصفة عامة،(2/496)
وقد اندفعت هذه الجماعات إلى المناداة بتحريم الخمر بعد ما أثبته العلم من أن شرب الخمر مضر بالصحة وأنه يضعف الجسم والعقل بصفة عامة ويؤدى إلى قلة النسل وانحطاطه من الناحيتين الجسمانية والعقلية، وكذلك ثبت أن شرب الخمر يؤدى إلى ضعف الإنتاج، وهذا الذى أثبته العلم الحديث يؤيد مطلقًا نظرية الشريعة الإسلامية. وقد ترتب على الدعوة القوية لتحريم الخمر أن ابتدأت الدول غير إسلامية تضع فكرة تحريم الخمر موضع تنفيذ من القرن الحالى. فالولايات المتحدة الأمريكية أصدرت من عدة سنين قانونًا يحرم الخمر تحريمًا تامًا. وقد أصدرت الهند من سنتين قانونًا مماثلا. وهاتان هما الدولتان الكبيرتان اللتان حرمتا الخمر، أما أكثر الدول فقد استجابت للدعوة استجابة جزئية فحرمت تقديم الخمر وتناولها فى المحلات العامة فى أوقات معينة من النهار أو أيام معينة من العام، كما حرمت تقديمها أو بيعها لمن لم يبلغوا سنًا معينة.
ونستطيع أن نقول بعد ذلك إن العالم غير الإسلامى أصبح اليوم مهيئًا لفكرة تحريم الخمر بعد أن ثبت علميًا أنها تضر بالشعوب ضررًا بليغًا، وأن الدعوة إلى التحريم تأخذ طريقها ويشتد ساعدها كل يوم وتجد من العلماء والمصلحين كل تعضيد، وأن اليوم الذى تحرم فيه كل الدول الخمر تحريما ً قاطعًا لم يعد بعيدًا، وأن العالم غير الإسلامى قد بدأ يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية ويسير على أثرها فسجل على نفسه بذلك أنه استجاب للحق بعد أن ظل يدعى إليه ثلاثة عشر قرنًا فلا يستجيب.
ولقد كان هذا حريًا أن يدفع البلاد الإسلامية إلى المسارعة بتحريم الخمر وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ولكن المسلمين لا يزالون يغطون فى نومهم، عاجزين عن الشعور بما حولهم، بل عاجزين عن الشعور بأنفسهم، وسيأتى قريبًا اليوم الذى يصبح فيه تحريم الخمر عامًا فى كل الدول فتتم معجزة الشريعة الإسلامية(2/497)
ويتحقق ما نادت به من ثلاثة عشر قرنًا على أيدى أناس لا ينتمون للإسلام ولا يعرفون من حقائقه شيئًا.
580 - النصوص الخاصة بالخمر: الأصل فى التحريم القرآن والسنة، على أن نصوص القرآن لم تحرم الخمر دفعة واحدة بل جاء التحريم تدريجيًا، وأول نصوص التحريم قوله تعالى: {ياَ أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ثم جاء القرآن بعد ذلك بتأثيم شاربها فى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْر وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نًَّفْعِهِماَ} [البقرة: 219] ثم نزل التحريم القاطع فى قوله تعالى: {ياَ أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِرِ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوُه} [المائدة: 90] .
أما السنة: فيقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" عن ابن عمر، وقوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" عن جابر، وعن عائشة قوله: "كل مسكر حرام وما أسكر منه الغرف فملء الكف منه حرام"، وعن عبد الله بن عمر: "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه". وقوله: "من شرب الخمر فاجلدوه".
581 - معنى الشرب عند الفقهاء: اختلف الفقهاء فى تحديد معنى الشرب، فهو عند مالك والشافعى وأحمد: شرب المسكر سواء سمى خمرًا أم لم يسم خمرًا، وسواء كان عصيرًا للعنب أو لأى مادة أخرى كالبلح والزبيب والقمح والشعير والأرز، وسواء أسكر قليله أو أسكر كثيره (1) .
أما أبو حنيفة: فالشرب عنده قاصر على شرب الخمر فقط، سواء كان ما شرب كثيرًا أو قليلا والخمر عنده اسم لما يأتى:
ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد. وعند أبى يوسف ومحمد: ماء العنب إذا غلا واشتد فقد صار خمرًا قذف بالزبد أو لم يقذف به.
ماء العنب إذا طبخ فذهب أقل من ثلثيه وصار مسكرًا.
نقيع البلح والزبيب
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 112، أسنى المطالب ج4 ص 158، المغنى ج10 ص326.(2/498)
إذا غلا واشتد وقذف بالزبد على رأى أبى حنيفة أو إذا غلا واشتد ولو لم يقذف بالزبد على رأى أبى يوسف ومحمد، ويستوى أن يكون البلح رطبًا أو بُسْرًا أو تمرًا. وما عدا هذه الأنواع الثلاثة لا يعتبر خمرًا عند أبى حنيفة، فعصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع البلح والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير وغير ذلك من المواد نقيعًا كان أو مطبوخًا؛ كل ذلك لا يعتبر خمرًا وشربه حلال إلا ما بلغ السكر، فإن أسكر فلا يعاقب على شربه وإنما يعاقب على السكر منه. وحجة أبى حنيفة فى هذا الرأى ما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه أشار إلى النخلة والكرمة وقال: "الخمر من هاتين الشجرتين"، وما روى عنه من قوله: "حرمت الخمرة لعينها، والمسكر من كل شراب" (1) .
فأبو حنيفة إذن يفرق بين الخمر والمسكر ويحرم شرب الخمر قليلًا كان أو كثيرًا أما ما عدا الخمر من المواد المسكرة فيسميه مسكرًا لا خمرًا، والمسكر عنده لا يعاقب على شربه كالخمر وإنما يعاقب على السُّكر منه؛ لأن المسكر ليس حرامًا فى ذاته وإنما الحرام هو الكمية الأخيرة منه التى تؤدى للسكر، فلو شرب شخص ثلاثة أقداح ولم يسكر ثم شرب الرابع فسكر فالمحرم هو القدح الرابع.
ولقد أدت التفرقة بين الخمر والمسكر إلى أن يفرق أبو حنيفة بين عقوبة الشرب وعقوبة السكر، وأن يقول بأن الحد حدان: حد الشرب وهو قاصر على شرب الخمر سواء سكر الشارب أم لم يسكر، قلَّ ما شربه أو كَثُر. وحد السكر فلا عقاب عليه. أما باقى الأئمة فلحد عندهم واحد هو حد الشرب. ويجب على كل من شرب مسكرًا سواء سمى خمرًا أو سمى باسم آخر، وسواء سكر الشارب أم لم يسكر ما دام أن الكثير من الشراب يسكر؛ لأن القاعدة عندهم أن ما أسكر كثيره فقليلة حرام.
ورأى الأئمة الثلاثة هو الرأى المتبع فى العالم الإسلامى، إلا أننا رأينا أن
_________
(1) بدائع الصنائع ج5 ص112 وما بعدها، المغنى ج10 ص327.(2/499)
نتكلم على حد الشرب وحد السكر معًا ببيان رأى الحنفيين، ولأن بعض الفقهاء يرى حد غير المسلم إذا سكر (1) ، فكان الكلام على حد السكر واجبًا من هذين الوجهين، على أن البعض الآخر يرى تعزير الذمى على السكر (2) .
والقاعدة عند فقهاء الشريعة أن الخمر مباح لغير المسلمين ما دام دينهم لا يحرمها تطبيقًا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمرنا بتركهم وما يدينون" ولكن لما كان السكر مما تحرمه الأديان جميعًا فقد رأى بعض الفقهاء حد غير المسلم على السكر ورأى البعض تعزيره، ولا خلاف فى أن غير المسلم يعزر على التظاهر بالشرب ولو لم يسكر ولو أن الشرب مباح له. على أنه ليس فى قواعد الشريعة ما يمنع من تطبيق حد الشرب على غير المسلمين إذا تبين أن السماح لهم بشرب الخمر يؤدى إلى الفساد الاجتماعى، ولا شك أن عدم تحريم الشرب عليهم يؤدى هذا إلى الفساد؛ لأن السماح لهم بالشرب يقتضى وجود الخمر فى البلاد ويشجع المسلمين على شرب الخمر، وهذا وحده يؤدى إلى هدم قواعد التحريم. وإذا كانت الدول المسيحية والبوذية تحرم الخمر على رعاياهم مسيحيين وبوذيين ومسلمين فأولى بالدول الإسلامية أن تحرم الخمر على رعاياها أيًا كانت ديانتهم ومذاهبهم.
* * *
_________
(1) بدائع الصنائع ج5 ص113.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص 112.(2/500)
المبحث الأول
أركان الجريمة
لجريمة الشرب ركنان: الأول الشرب الثانى: القصد الجنائى.
الركن الأول: الشرب
582 - يتوفر هذا الركن عند مالك والشافعى وأحمد كلما شرب الجانى شيئًا مسكرًا، ولا عبرة باسم المشروب ولا بالمادة التى استخرج منها، فيستوى أن يكون المشروب مستخرجًا من العنب أو البلح أو القمح أو الشعير أو القصب أو التفاح أو أى مادة أخرى، كذلك لا عبرة بقوة الإسكار فى المشروب فما أسكر كثيره فقليلة حرام ولو كان لا يؤدى فعلا للإسكار، فإذا كان المشروب لا يسكر منه الإنسان عادة إلا إذا شرب عشرة أقداح أو أكثر، فالقدح الواحد محرم ولو أنه لا يسكر فعلًا وبعض القدح محرم كذلك فيتوفر ركن الشرب بشرب القليل أو الكثير مادام الكثير من المشروب يؤدى إلى الإسكار، فإذا كان الكثير من الشراب لا يؤدى للسكر فهو غير محرم (1) .
ولا يتوفر ركن الشرب عند أبى حنيفة إلا إذا كان المشروب خمرًا، وقد علمنا فيما سبق معنى الخمر عنده، فإن لم يكن المشروب خمرًا لم يتوفر ركن الشرب ولو كان الشرب مسكرًا ولو أدى للسكر فعلا (2) .
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص112، أسنى المطالب ج4 ص 158، المغنى ج10 ص 328.
(2) بدائع الصنائع ج5 ص 112، 118 شرح فتح القدير ج4 ص 181 وما بعدها.(2/501)
ومن المتفق عليه أنه لا يشترط لتوفر ركن الشرب أن يؤدى الشرب للسكر، فيكفى لقيام الجريمة مجرد الشرب ولو كان من المستحيل أن تؤدى الكمية التى شربت للسكر لأن الشرب محرم لعينه (1) .
ولا عقاب إذا لم يكن المشروب مسكرًا أصلا ولو شرب على أنه مسكر، وإن كان الشارب يأثم فيما بينه وبين ربه.
ويشترط أن تكون المادة المسكرة مشروبًا، فإن لم تكن كذلك فلا حد فيها وإنما فيها التعزير كالحشيش والداتورة (2) .
ويحد على الشرب ولو أن المادة المسكرة دخلت الفم أو الجوف على غير هيئة الشراب، فخلط المسكر بالطعام أو عجنه به (3) .
وتعتبر المادة المسكرة ولو خلطت بماء ما دامت مميزاتها محفوظة من رائحة ولون وطعم وتأثير، فإن خلطت بماء حتى زالت كل مميزاتها زوالا تامًا فلا يعتبر الخليط مسكرًا وإنما هو ماء عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد (4) . والراجح فى مذهب مالك تحريم المخلوط ولو استهلك فيه المسكر (5) . ويكفى لاعتبار الجانى شاربًا أن يصل المشروب إلى حلقة ومن باب أولى إلى جوفه، فإن لم يصل المشروب إلى الحلق كأن تمضيض به ثم مجه فلا يعتبر شاربًا (6) .
ويشترط المالكية والحنيفة أن تصل الخمر إلى الجوف عن طريق الفم، فإن وصلت عن غير هذا الطريق كالأنف أو الشرج مثلًا درئ الحد للشبهة، على أن
_________
(1) بدائع الصنائع ج5 ص 112، شرح الزرقانى ج8 ص 113، أسنى المطالب ج4 ص 158، المغنى ج10 ص 328.
(2) شرح الزرقانى ج8 ص112، 114، حاشية ابن عابدين ج3 ص 224، نهاية المحتاج ج8 ص 12.
(3) الإقناع ج4 ص 267، المغنى ج10 ص 330.
(4) الإقناع ج4 ص 267، المغنى ج10 ص 330.
(5) المغنى ج10 ص 330.
(6) أسنى المطالب ج4 ص159، حاشية ابن عابدين ج3 ص 328، 329 نهاية المحتاج ج8 ص 10.(2/502)
درء الحد لا يمنع من التعزير (1) .
وفى مذهب الشافعى ثلاثة آراء أحدها كرأى المالكى، والثانى: يحد ولو لم تصل الخمر للجوف عن طريق الفم كما لو استعط أو احتقن، والثالث: يحد فى السعوط دون الحقنة (2) .
وفى مذهب أحمد رأيان: أن ما وصل عن طريق الحلق فيه الحد كالشرب والاستعاط، وما وصل عن طريق الشرج فلا حد فيه. والرأى الثانى يوجب الحد فى الحالين (3) . ويعتبر شاربًا من شرب الخمر أو المسكر لدفع العطش وهو يستطيع استعمال الماء، وكن من يشرب مضطرًا لدفع غصته لا حد عليه للاضطرار لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وكذلك حكم من أكره على الشرب سواء كان الإكراه ماديًا أو أدبيًا لقول النبى عليه الصلاة والسلام: "عفى لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، واختلف فيمن شرب لدفع عطش مهلك، فمذهب أبى حنيفة وهو يتفق مع الرأى الراجح فى مذهب مالك والشافعى أن لا حد على الشارب (4) .
أما أحمد فيفرق بين ما إذا شربها الشارب صرفًا أو ممزوجة بشىء يسير لا يروى من العطش، ففى هذه الحالة على الشارب الحد، أما إذا شربها ممزوجة بما يروى من العطش أبيح الشرب لدفع الضرورة (5) .
وفى التداوى بالخمر خلاف، فالرأى الراجح فى مذهب مالك والشافعى أن التداوى بالخمر فيه الحد إذا شربها المريض، أما إذا استعملها لطلاء جسمه فلا حد؛ لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تداوى بالخمر فلا شفاه الله"،
_________
(1) أسنى المطالب ج4 ص159، المغنى ج10 ص 329، شرح الزرقانى ج8 ص 114.
(2) بدائع الصنائع ج5 ص 113، أسنى المطالب ج4 ص159، الإقناع ج4 ص 267.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص 114.
(4) الإقناع ج4 ص 267، المغنى ج10 ص332، شرح الزرقانى ج8 ص 112.
(5) شرح الزرقانى ج8 ص 112، بدائع الصنائع ج7 ص 40.(2/503)
"إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها" (1) . ويرى أبو حنيفة إباحة الشرب للتداوى، أما أحمد فيحرمه ويرى فى الشرب للتداوى الحد (2) .
السكر
583 - لا وجود لحد السكر إلا إذا كان الشرب مباحًا، والسكر هو المحرم كما هو الحال عند غير المسلمين أو كما يقول أبو حنيفة وأصحابه فى غير الخمر، فإن كان الشرب غير مباح فالحد حد الشرب لا حد السكر ولو أدى الشرب إلى السكر فعلا.
فالسكر إذا درجة تأتى بعد الشرب وهى نتيجة له، ولذلك يجب أن تتوفر فى جريمة السكر أركان جريمة الشرب وأن يؤدى الشرب بعد ذلك إلى السكر، فإن لم يؤد للسكر فلا حد على الشرب ولا على السكر ولو قصد الجانى أن يشرب ليسكر.
ويحد الجانى على السكر إذا شرب المادة المسكرة وهو عالم بأن كثيرها مسكر ولو شرب منها قليلا ما دام أن الشرب قد أدى فعلا للسكر، ويحد كذلك ولو لم يقصد من الشرب السكر ما دام قد سكر وذلك أخذًا بقصده الاحتمالى إذ كان عليه أن يتوقع أن الشرب ربما أدى للسكر (3) . واختلف فى بيان السكر المستوجب للحد، فرأى أبو حنيفة أن السكران هو من فقد عقله فلم يعد يعقل قليلًا لا وكثيرًا ولا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة (4) .
ويرى أبو يوسف ومحمد أن السكران هو الذى يغلب على كلامه الهذيان وحجتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاة َ وأَنتُمْ سُكَاَرَى حَتَّى تََعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران، ورأيهما يتفق مع رأى بقية الأئمة (5) .
* * *
_________
(1) نهاية المحتاج ج8 ص 11.
(2) المغنى ج 10ص 329.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص 183.
(4) بدائع الصنائع ج5 ص118.
(5) المغنى ج10 ص335.(2/504)
الركن الثانى: القصد الجنائى
584 - يتوفر القصد الجنائى عند الفاعل كلما أقدم على الشرب عالمًا أنه يشرب خمرًا أو مسكرًا، فإن شرب المادة المسكرة وهو لا يعلم أن كثيرها مسكر فلا حد عليه ولو سكر فعلا. كذلك لا حد إذا شرب مادة مسكرة وهو يظنها مادة أخرى لا تسكر، ولا عقاب على الفاعل فى هذه الحالة ولو تبين أن الشرب كان نتيجة لخطأ جسيم أو لعدم الاحتياط؛ لأن الجريمة عمدية فيشترط فيها تعمد الفعل.
ويعتبر القصد الجنائى غير متوفر إذا كان الجانى يجهل تحريم الشرب، ولو كان يعلم أن المشروب مسكر، ولكن لا يقبل الجهل ممن نشأ فى بلاد المسلمين لأن نشأته بينهم تجعل العلم بالتحريم مفروضًا فيه، أما من نشأ فى بلاد غير إسلامية فيقبل منه الادعاء بالجهل إذا ثبت أنه يجهل حقيقة تحريم الشرب، ويرى مالك جواز الاحتجاج بجهل العقوبة (1) .
ويقبل الادعاء بجهل التحريم لكن لا يقبل منه الادعاء بجهل العقوبة (2) .
عقوبة الشرب
585 - يعاقب على الشرب بالجلد ثمانين جلدة عند مالك وأبى حنيفة، وهو رواية عن أحمد. ويرى الشافعى وقوله رواية أخرى عن أحمد أن الحد أربعون جلدة فقط، ولكن لا بأس عنده من ضرب المحدود ثمانين جلدة إذا رأى الإمام ذلك، فيكون الحد أربعين وما زاد عليه تعزير. ويعاقب على السكر عند أبى حنيفة بنفس عقوبة الشرب فالحد عنده مقرر للسكر والشرب معًا.
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص 113.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص 40، شرح فتح القدير ج4 ص 183، نهاية المحتاج ج8 ص 10، شرح الزرقانى ج8 ص 113، المغنى ج10 ص 331، الإقناع ج4 ص 267.(2/505)
سبب اختلاف الفقهاء فى مقدار الحد أن القرآن لم يحدد العقوبة وأن الروايات لا تقطع بإجماع الصحابة على رأى فى حد الخمر، فالقرآن وإن كان قد حرم الخمر فإنه لم يعين لها حدًا، كما أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعين للخمر حدًا فكان يضرب فيها القليل والكثير ولكنه لم يزد عن أربعين، وجاء أبو بكر وضرب فى الخمر أربعين، وروى عن أبى بكر أنه سأل أصحاب الرسول كم بلغ ضربه لشرب الخمر، فقدوره بأربعين وروى عن أبى سعيد الخدرى وعن على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - ضرب فى الخمر أربعين. فلما جاء زمن عمر رضى الله عنه تحير أمر الناس على شرب الخمر، فاستشار عمر الصحابة فى حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبى عبيدة بالشام. وروى أن عليًا رضى الله عنه قال فى المشورة: نرى أن نجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون. وقد روى عن معاوية بن حصين بن المنذر الرقاش أنه قال: شهدت عثمان رضى الله عنه وقد أُتى بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أنه رآه يشرب الخمر وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلى: أقم عليه الحد، فقال على لعبد الله ابن جعفر: أقم عليه الحد فأخذ السوط وجلده، وعلىُّ يعد إلى أن بلغ أربعين قال حسبك، جلد النبى - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إلىَّ.
وكذلك روى عن على ٍّ رضى الله عنه أنه قال: ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت فأجد فى نفسى منه شيئًا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه لنا.
فمن رأى من الفقهاء أن حد الخمر ثمانون اعتبر أن الصحابة أجمعوا على هذا, والإجماع مصدر من المصادر التشريعية, ومن رأى أن الحد أربعون احتج بما فعله على من جلد الوليد بن عقبة أربعين جلدة, وقوله: جلد النبى أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلى. ويرى أصحاب هذا الرأى(2/506)
أن فعل النبى - صلى الله عليه وسلم - حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، وأن الإجماع لا ينعقد على ما يخالف فعل النبى وأبى بكر وعلى، ويحملون الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز إذا رآه الإمام (1) .
والأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفواً ولا صلحاً ولا إسقاطاً إذا كانت من حقوق الله الخالصة، ولما كان حد الشرب من حقوق الله الخالصة فليس للأفراد أو الجماعة إسقاطه أو العفو عنه، على أننا إذا اعتبرنا رأى الشافعى فى أن الحد أربعون جلدة فقط وأن مازاد على ذلك تعزير فإنه يجوز لولى الأمر أن يعفو عن العقوبة المعتبرة تعزيراً كلها أو بعضها؛ لأن الشريعة تجعل لولى الأمر أن يعفو عن العقوبة فى جرائم التعزير، أما الجزء المعتبر حداً فلا يمكن إسقاطه ولا العفو عنه.
ومن المتفق عليه أن العقوبة لا تنفذ على السكران حتى يفيق؛ لأن العقوبة جعلت للتأديب والزجر، والسكران لا يشعر تماماً بما يحدث له (2) .
ويرى البعض أنه إذا جلد قبل الإفاقة أجزأ واعتد به، ويرى البعض أن يعاد الحد ولا يقيد بالتنفيذ الحادث وقت السكر، ويفرق البعض بين ما إذا كان عنده ميز أم لا، فإن كان عنده ميز وقت الجلد ولو كان قبل صحوه، وأما إن كان طافحاً أعيد عليه الحد، وإن لم يحس فى أوله وأحس فى أثنائه حسب له من أول إحساسه بالضرب (3) .
586- التداخل: إذا تعددت جرائم الشرب والسكر قبل تنفيذ الحكم فى إحداها تداخلت عقوبات هذه الجرائم، سواء حكم بها أولم يحكم بها ما دامت
_________
(1) المغنى ج10 ص329، شرح فتح القدير ج4 ص185، أسنى المطالب ج4 ص160، شرح الزرقانى ج8 ص113.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص158، شرح الزرقانى ج8 ص113، أسنى المطالب ج4 ص160، المغنى ج10 ص335.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص113، أسنى المطالب ج4 ص160.(2/507)
كلها قد وقعت قبل تنفيذ إحدى العقوبات واكتفى فيها بتنفيذ عقوبة واحدة، فإذا وقعت جريمة أخرى بعد تنفيذ العقوبة وجبت لها عقوبة خاصة.
والتداخل يكون من ثلاثة وجوه:
أولاً: تتداخل عقوبات الشرب كما تتداخل عقوبات السكر المتعدد إلى الوقت الذى تنفذ فيه إحداها.
ثانياً: تتداخل عقوبة السكر مع عقوبة الشرب، فلو سكر ذمى ثم أسلم قبل تنفيذ العقوبة وشرب تداخل حد السكر مع حد الشرب، وكذلك الحال عند الحنفية فإن حد السكر يتداخل مع حد الشرب، فلو سكر شخص ثم شرب قبل تنفيذ عقوبة السكر اكتفى بتنفيذ عقوبة واحدة.
ثالثاً: يتداخل حد الشرب مع حد القتل سواء كان القتل من حدود الله أو حقاً لآدمى، كما لو شرب وزنا وهو محصن أو شرب وقتل شخصاً، فلا تنفذ إلا عقوبة القتل التى تجب عقوبة الشرب؛ لأن كل عقوبة يقصد بها التأديب والزجر ولا حاجة مع القتل للزجر ولا فائدة فى تنفيذ ما دون القتل، وإذا انعدمت الفائدة التى شرع الحد من أجلها أصبح تنفيذه غير مشروع.
وهذا هو رأى مالك وأبى حنيفة وأحمد (1) .
أما الشافعى فيرى أن عقوبة القتل لا تجب ما دونها ويجب تنفيذ العقوبات كلها، فمثلاً إذا شرب شخص وسرق وزنا وهو محصن جلد للشرب وقطع للسرقة ثم قتل بعد ذلك (2) .
ولا يتداخل حد الشرب عند أبى حنيفة وأحمد مع أى عقوبة أخرى إلا مع عقوبة القتل، ولكن مالكاً يرى أن حد الشرب يتداخل مع القذف لأن موجبهما واحد، والقاعدة عنده: تتداخل الحدود كلما اتحدت موجباتها (3) .
587- كيفية تنفيذ الجلد: ينفذ الجلد على الوجه الذى سبق ذكره فى تنفيذ الجلد فى الزنا، ويرى البعض أن المحدود فى الخمر لا يجرد من ملابسه لأن
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص108، شرح فتح القدير ج4 ص209، بدائع الصنائع ج7 ص63، المغنى ج10 ص321 وما بعدها.
(2) أسنى المطالب ج4 ص157.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص108.(2/508)
حد الخمر من أخف الحدود فوجب إبقاء ملابسه عليه إظهاراً لتتخفيف، ولكن الرأى الراجح هو أن لا فرق فى التنفيذ بين حد الخمر وغيره وأن الشارع أظهر التخفيف فى نقصان عدد الجلدات (1) .
ويرى البعض أنه إذا اجتمعت حدود لله من أجناس مختلفة أخر حد الشرب عنها جميعا لأنه ثابت بما لا يتلى (2) . وهو رأى أبى حنيفة، ولكن البعض يرى تقديم حد الشرب على غيره على أنه إذا تأخر فليس للتأخير أثر ما ووقع الموقع (3) ، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد لأنهما يريان تقديم الأخف على الخفيف، أما مالك فيستوى عنده أن يقدم الأخف أو الأشد ولولى الأمر أن يبدأ بأيهما أراد (4) .
* * *
المبحث الثاني
الأدلة على الشرب
588- أولاً: شهادة الشهود: يثبت الشرب والسكر بشهادة الشهود ويشترط أن لا يقل عدد الشهود على رجلين تتوفر فيهما شروط الشهادة التى سبق ذكرها بمناسبة الكلام عن الزنا.
ويشترط أبو حنيفة وأبو يوسف أن تكون الرائحة قائمة وقت الشهادة أى رائحة الخمر أو السكر, فالشهادة عندهما مقيدة بوجود الرائحة ولا يشترط أن توجد الرائحة فعلاً وقت التحقيق ويكقى أن يشهد بها الشاهدان, فيجوز أن يشهد الشاهدان بالشرب أو السكر فيشم المحقق رائحة الخمر أو المسكر, ويجوز أن يشهد الشهود على الشرب أو على السكر وعلى وجود الرائحة وقت أخذ الجاني, أما محمد فلا يشترط وجود الرائحة مع الشهادة بالشرب أو السكر, وحجة أبى
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص186.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص209.
(3) الإقناع ج4 ص248، أسنى المطالب ج4 ص157.
(4) المدونة ج16 ص48.(2/509)
حنيفة وأبى يوسف أن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة وأن ابن مسعود كان يشترط الرائحة ولا إجماع إلا برأيه (1) .
ويشترط أبو حنيفة وأصحابه لقبول الشهادة عدم التقادم أى مضى زمن على وقوع الجريمة, وقد تكلمنا عن التقادم على الكلام على الزنا, ولكن أبا حنيفة وأبا يوسف يجعلان مدة التقادم فى الشرب والسكر مقدرة بزوال الرائحة، فإذا سكت الشهود عن الحادث حتى زالت الرائحة فقد تقادمت الشهادة وامتنع قبولها.
ولكن محمداً يقدر مدة التقادم بشهر (2) . "على أنه من المسلم به لدى الجميع أنه لا تقادم إذا أخذ الشهود الجانى وريحها توجد فيه أو سكران من غيرها وريح ذلك الشراب يوجد منه وذهبوا به إلى الإمام فى مكان بعيد فانقطع الريح قبل أن ينتهوا به؛ لأن التأخير ليس أساسه سكوت الشهود على الجريمة وإنما يرجع لبعد المسافة فلا تهمة فى هذا التأخير. ومما يؤثر فى ذلك أن قوماً شهدوا عند عثمان على عقبة بشرب الخمر وكان بالكوفة فحمل إلى المدينة فأقام عليه الحد, ولا شك أن الرائحة قد زالت عندما وصل الشهود إلى المدينة ولكن التقادم لم يعتبر لأن التأخير كان بعذر وهو بعد المسافة عن الإمام" (3) .
ولا يسلم بقية الأئمة بنظرية أبى حنيفة فى عدم قبول الشهادة بالتقادم, وإن كان هناك رأى لأحمد يتفق مع رأى أبا حنيفة ولكنه غير معمول به فى المذهب, وقد سبق أن بينا ذلك عند الكلام عن الزنا.
589- ثانياً: الإقرار: تثبت الجريمة بإقرار الجاني, ويكفى فى الإقرار مرة واحدة فى المذاهب الأربعة, وإن كان أبو يوسف يرى أن كل إقرار يسقط بالرجوع بعدد الإقرار فيه كعدد الشهود (4) . ويسرى على
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص178 وما بعدها.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص164, 165.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص181.
(4) بدائع الصنائع ج7 ص50.(2/510)
الإقرار هنا ما يسرى على الإقرار فى الزنا. وإذا أقر الجانى وهو سكران فحكم إقراره [يراجع ما كتب فى القتل عن إقرار السكران] .
ويشترط أبو حنيفة وأبو يوسف أن لا يكون الإقرار قد تقادم, فإذا كان قد تقادم لم يقبل من المقر, وحد التقادم عندهما هو ذهاب الرائحة, فمن أقر بشرب الخمر أو السكر بعد ذهاب الرائحة لم يقبل إقراره, ولكن محمداً لا يرى بطلان الإقرار بالتقادم لأن عدم القبول للتقادم سببه التهمة والإنسان لا يتهم على نفسه فإذا أقر أخذ بإقراره مهما مضى على الحادث (1) .
590- الرائحة: يرى مالك أن الرائحة وحدها تعتبر دليلاً على الشبر ولو لم يشهد أحد برؤية الجانى وهو يشرب, فإن شهد شخصان بقيام الرائحة فى فم الشارب أو شهد أحدهما برؤيته يشرب وشهد الثانى بأنه شم من فيه رائحة الخمر فعلى الجانى الحد, وهذا الرأى رواية عن أحمد.
ولكن أبا حنيفة والشافعى ورأيهما الرواية الراجحة لأحمد يريان أن الرائحة لا تعتبر وحدها دليلاً على الشرب, ويرى أبو حنيفة كما قدمنا أن الرائحة يجب أن يثبت وجودها مع الشهادة بالشرب, وهو يخالف فى هذا الشافعى وأحمد, والقائلون بالحد بالرائحة يحتجون بأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد فيه رائحة الخمر, وبما روى عن عمر أنه قال: إنى وجد من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا, فقال عمر: إنى سائل عنه فإن كان مسكراً جلدته, ويحتجون بأن الرائحة تدل على الشرب فجرى مجرى الإقرار. أما الذين لا يقبلون الرائحة دليلاً فيرون أن الرائحة يجوز أن تكون من غير الشرب فيحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت فى فيه مجها, أو أكل نبتاً أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر, وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد لأن الحد يدرأ بالشبهات (2) .
591- السكر: يعتبر أبو حنيفة وجود الشخص فى حالة سكر دليلاً
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص180, 181.
(2) المغنى ج10 ص332, شرح الزرقانى ج8 ص113, نهاية المحتاج ج8 ص14, شرح قتح القدير ج4 ص184.(2/511)
على أنه سكر من غير الخمر, فإذا شهد اثنان على شخص بأنهما وجداه فى حالة سكر ووجدت فيه رائحة المسكر عند هذا الشخص أو شهد الشاهدان بأنهما اشتما رائحة المسكر وجب عليه حد السكر (1) . ولا يرى الشافعى فى السكر دليلاً على الشرب لاحتمال أنه احتقن أو استعط أو أنه شربها لعذر من غلط أو إكراه (2) , ورأى الشافعى رواية فى مذهب أحمد (3) .
وإذا كان مالك يرى الحد لمجرد الرائحة كما يراه أحمد فى أحد رأييه فإن الحد يجب عندهما لوجود الشخص فى حالة سكر من باب أولى؛ لأن السكر لا يكون إلا بعد الشرب (4) .
592- القىء: لا يعتبر القىء وحده دليلاً عند أبى حنيفة لكن إذا ثبت من القىء وجود رائحة الخمر وكان الجانى أخذ فى حالة سكر أو شهد عليه شاهدان بالشرب فإن الجريمة تثبت عليه؛ لأن أبا حنيفة كما ذكرنا يشترط مع الشرب ومع السكر الرائحة (5) .
أما الشافعى فلا يرى القىء دليلاً على الشرب لما سبق ذكره, وهذا رأى لأحمد.
أما مالك وهو يوجب الحد بالرائحة كما يوجبه أحمد فى أحد رأييه فيجب أن يكون القىء عندهما دليلاً يثبت به الحد من باب أولى لأنه لا يتقيأ إلا بعد الشرب.
ومن يثبت الحد بالقىء فإنه يحتج بما حدث فى محاكمة قدامة والوليد بن عقبة فقد شهد علقمة الخفى على قدامة فقال: أشهد أنى رأيته يتقيؤها فقال عمر: من قاءها فقد شربها وضربه الحد.
أما ما حدث فى محاكمة الوليد بن عقبة فقد شهد عليه رجلان فشهد أحدهما أنه رآه يشربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها, فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها, وكان ذلك كله بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد فكان إجماعاً (6) , أما من
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص178 وما بعدها.
(2) نهاية المحتاج ج8 ص14.
(3) المغنى ج10 ص332.
(4) المغنى ج10 ص332.
(5) شرح فتح القدير ج4 ص178, 184.
(6) المغنى ج10 ص332.(2/512)
لا يرى القىء دليلاً على الشرب فيرى أن هذا من عمر وعثمان اجتهاد وليس فيه إجماع (1) .
593- هل يقضى القاضى بعلمه؟: وليس للقاضى أن يقضى بعلمه فى الشرب والسكر ولو عاين الحادث بنفسه أو أقر له به الجانى ما دام ذلك فى غير مجلس القضاء.
594- امتناع التنفيذ: يمتنع التنفيذ كلما سقطت العقوبة, وهى تسقط بما يأتى:
1- الرجوع عن الإقرار إذا لم يكن دليل إلا هو.
2- رجوع الشهود عن شهادتهم إذا لم يكن دليل إلا الشهادة.
3- بطلان أهلية الشهود للشهادة بعد الحكم وقبل التنفيذ, وهو شرط أبى حنيفة خاصة.
* * *
_________
(1) نهاية المحتاج ج8 ص14.(2/513)
الكتاب الرابع
السرقة
595- أنواع السرقة: السرقة فى الشريعة الإسلامية نوعان:
(1) سرقة عقوبتها حد. ... ... (2) سرقة عقوبتها التعزير.
والسرقة المعاقب عليها بالحد نوعان:
أ - سرقة صغرى ... ب - سرقة كبرى.
فأما السرقة الصغرى فهى أخذ مال الغير خفية أى على سبيل الاستخفاء (1) .
أما السرقة الكبرى فهى أخذ مال الغير على سبيل المغالبة, وتسمى السرقة الكبرى حرابة. وسنفصل القول فيها فيما بعد.
والفرق بين السرقة الصغرى والسرقة الكبرى هو أن السرقة الصغرى يؤخذ فيها المال دون علم المجنى عليه ودون رضاه, ولابد لوجود السرقة الصغرى من توفر هذين الشرطين معاً فإذا لم يتوفر أحدهما فلا يعتبر الفعل سرقة صغرى, فمن سرق من دار متاعاً على مشهد من صاحب الدار دون استعمال القوى والمغالبة لا يعتبر فعله سرقة صغرى وإنما يعتبر فعله اختلاساً, ومن خطف مالاً من آخر لا يعتبر فعله سرقة صغرى وإنما يعتبر فعله خطفاً أو نهباً, والاختلاس والغصب والنهب كلها صور من صور السرقة ولكن لا حد فيها, ومن أخذ متاعاً من دار برضاء صاحبها وفى غير حضوره لا يعتبر سارقاً.
أما السرقة الكبرى فيأخذ فيها المال بعلم المجنى عليه
_________
(1) حاشية ابن عابدين ج3 ص265, بدائع الصنائع ج7 ص65, شرح فتح القدير ج4 ص219, الروض النضير ج4 ص228, نهاية المحتاج ج7 ص418, أسنى المطالب ج14 ص137, المغنى ج10 ص239, كشاف القناع ج4 ص77, المحلى ج11 ص337, مواهب الجليل ج6 ص305.(2/514)
ولكن بغير رضاه وعلى سبيل المغالبة. فإن لم تكن مغالبة فالفعل اختلاس أو غصب أو نهب ما دام الرضاء غير متوافر.
596- السرقة المعاقب عليها بالتعزير: هى نوعان: أولهما: يدخل فيه كل سرقة ذات حد لم تتوفر شروط الحد فيها أو درأ فيها الحد للشبهة كأخذ مال الابن وأخذ المال المشترك, ويستوى أن تكون السرقة فى الأصل صغرى أو كبرى. وثانيهما: هو أخذ مال الغير دون استخفاء؛ أى بعلم المجنى عليه وبدون رضاه وبغير مغالبة, ويدخل تحت هذا النوع الاختلاس والغصب والنهب, مثل أن يأخذ السارق ملابس آخر خلعها ووضعها بجواره ثم يهرب بها على مرأى من المجنى عليه, ومثل أن يخطف شخص من آخر ورقة مالية كان يمسكها بين أصابعه. وهذا النوع من السرقة لا حد فيه أى لا قطع فيه لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع على نباش ولا منتهب ولا خائن", ولا تخرج السرقات فى الشريعة الإسلامية عن هذه الأنواع الأربعة, ويطلق الفقهاء عادة لفظ السرقة دون تمييز على السرقة الصغرى, وإذا تكلموا على السرقة وأحكامها فإنما يقصدون السرقة الصغرى بينما يسمون السرقة الكبرى الحرابة أو قطع الطريق, أما ما عدا ذلك من نهب وغصب واختلاس فيطلقون عليه لفظ الاختلاس بصفة عامة.
والسبب الذى دعا الفقهاء إلى إطلاق لفظ السرقة على السرقة الصغرى دون تمييز أن عقوبتها قطع اليد, وأن أكثر السرقات تقع على سبيل الاستخفاء أى تقع سرقة صغرى. والقاعدة العامة التى يسير عليها الفقهاء أنهم يعنون عناية تامة بالجرائم المعاقب عليها بحد أو قصاص, فيبينون أركانها وشروطها ويفصلون أحكامها ولا يتركون صغيرة ولا كبيرة إلا بينوا حكمها. أما الجرائم المعاقب عليها بالتعزير فلا يعنون بها تلك العناية ولا يتعرضون إلا للمهم منها, وما يتعرضون له يكتفون ببيان أحكامه مجملة, وإن كانوا قد عنوا بالتعازير عامة فيما يختص بأنواع العقوبات وحد كل عقوبة وسلطة القاضى وولى الأمر. ولعل عذر الفقهاء فى أخذهم بهذه الطريقة أن أكثر جرائم التعزير يترك لأولى الأمر تحديد الأفعال المكونة لها(2/515)
والعقوبات التى تقع على مرتكبيها, وأن هذه الجرائم يختلف النظر إليها باختلاف البلدان ونوع الحكومات, فكان من المعقول أن لا يهتم بتفصيل أحكام الجرائم التعزيرية كما تفصل أحكام الجرائم الثابتة وهى جرائم الحدود والقصاص, خصوصاً وأن فكرة تجميع الأحكام التشريعية والأفعال المحرمة فى مجامع تنشر على الناس لم تكن ظهرت بعد.
ويجب أن نلاحظ أن الفقهاء حين يتكلمون على السرقة الصغرى يتناول كلامهم بالضرورة السرقة المعاقب عليها بالتعزير بنوعيها, إذ النوع الأول ليس إلا سرقة فيها الحد تخلف فيها شرط من شروط الحد, ولأن النوع الثانى وهو ما يطلق عليه الاختلاس ولا يختلف عن السرقة الصغرى إلا فى بعض الشروط التى يجب توفرها فى السرقة دون الاختلاس, فكان الكلام على السرقة شاملاً للاختلاس فكل سرقة صغرى إذا انتفت بعض شروطها تصبح اختلاساً.
ويمكننا أن نحصر أوجه الخلاف بين السرقة الصغرى والاختلاس فيما يأتى:
1- عقوبة السرقة القطع وعقوبة الاختلاس التعزير.
2- الركن المادى فى السرقة الأخذ على سبيل الاستخفاء, وفى الاختلاس الأخذ دون استخفاء.
3- يشترط فى السرقة أن سكون المسروق فى حرز ولا يشترط ذلك فى الاختلاس.
4- يشترط فى السرقة أن يبلغ المسروق نصاباً معيناً ولا يشترط ذلك فى الاختلاس.
ونستطيع بعد معرفة الفرق بين السرقة والاختلاس أن نقول بأن أحكام الاختلاس فى الشريعة تكاد تكون نفس أحكام القانون المصرى فى السرقات المعتبرة جنحاً, وإذا كان ثمة فرق بين الشريعة والقانون فى بعض الحالات كما فى حالة اعتبار القانون للاختلاس الحاصل على متعهد النقل سرقة وعدم اعتباره خيانة أمانة كما هو الحال فى الشريعة فإن القانون يجب اتباعه فى هذه الحالة لأن الجريمة من الجرائم التعزيرية وهى محرمة اعتبرت فى تكييفها سرقة أو خيانة أمانة, ولولى(2/516)
الأمر سلطة كبرى فى تحديد عقوبات الجرائم التعزيرية فإذا عاقب عليها بعقوبة السرقة فإن أمره يجب أن يطاع.
وإذا قارنا الشريعة الإسلامية بالقانون المصرى فيما يختص بالسرقات وجدنا أن الشريعة تعاقب على نفس الأفعال التى يعاقب عليها القانون باعتبارها سرقة, فالشريعة تعاقب على أخذ المال خفية (السرقة الصغرى) , وعلى أخذه مغالبة أى بإكراه وتهديد فى طرق العامة وغيرها (السرقة الكبرى أو الحرابة) , وعلى أخذه بغير استخفاء وبغير مغالبة (الاختلاس) , وكذلك القانون يعاقب على اختلاس المال سواء كان الاختلاس بعلم المجنى عليه أو بغير علمه, أى سواء أخذ خفية أو غير خفية, ما دام ذلك دون رضاه وبغير إكراه, ويعتبر القانون الأفعال التى من هذا النوع جنحاً, كذلك يعاقب القانون على الاختلاس مغالبة أى بإكراه أو تهديد فى الطرق العمومية وغيرها وتعتبر الأفعال التى من هذا النوع جنايات.
ولقد كانت القوانين الوضعية تعاقب حتى الثورة الفرنسية على اختلاس منفعة الشىء على اختلاس حق حيازته, على اعتبار أن اختلاس المنفعة واختلاس الحيازة سرقة, كذلك كانت هذه القوانين تخلط بين السرقة والتبديد والغصب وتعتبرها جميعاً سرقة متأثرة فى ذلك بأحكام القانون الرومانى الذى أخذت عنه, أما الشريعة الإسلامية فإنها على قدمها وقد وجدت من أكثر من ثلاثة عشر قرناً لم تخلط بين سرقة الشىء والانتفاع به أو استرداد حيازته, ولم تخلط بين السرقة وبين الجرائم الأخرى الواقعة على الأموال كالغصب والتبديد.
وسنرى عندما نستعرض الأفعال المكونة لجريمة السرقة على وجه التفصيل أنها لا تختلف شيئاً عما وصلت إليه أرقى القوانين الوضعية الحديثة, ولست أريد من هذا أن أبين للناس مدى دقة فقه الشريعة وصفاته وإنما أريد أن أبين للناس أن القانون الوضعى حين يتطور مرة بعد مرة إنما يسير فى أثر الشريعة ويأخذ بمبادئها. وحين يقال إنه وصل إلى الكمال يكون قد أوشك(2/517)
أن يبلغ فقط بعض ما بلغته الشريعة, وأن اليوم الذى تأخذ فيه القوانين الوضعية عن الشريعة قد أصبح قريباً جداً وأقرب مما يظن أكثر الناس.
* * *
المبحث الأول
أركان السرقة
597- عرفنا السرقة فيما سبق بأنها أخذ مال الغير خفية. وظاهر من هذا التعريف أن أركان السرقة أربعة:
(1) الأخذ خفية. ... ... ... (2) أن يكون المأخوذ مالاً.
(3) أن يكون المال مملوكاً للغير. ... ... (4) القصد الجنائى.
الركن الأول: الأخذ خفية
598- معنى الأخذ خفية: هو أن يأخذ الشىء دون علم المجنى عليه ودون رضاه, كمن يسرق أمتعة شخص من داره فى غيبته أو أثناء نومه, أو من يسرق حاصلات من جرن فى غيبة صاحبها أو أثناء نومه, فإن كان الأخذ فى حضور المجنى عليه ودون مغالبة فالفعل اختلاس لا سرقة, وإن كان الأخذ دون علم المجنى عليه ولكن برضاه فالفعل لا يعتبر جريمة.
ويجب فى الأخذ أن يكون تاماً, فلا يكفى لتكون الجريمة أن تصل يد الجانى للشىء المسروق بل لابد أن يكون الأخذ بحيث تتوفر فيه ثلاثة شروط:
أولها: أن يخرج السارق الشىء المسروق من حرزه المعد لحفظه.
ثانيهما: أن يخرج الشىء المسروق من حيازة المجنى عليه.
ثالثها: أن يدخل الشىء المسروق فى حيازة السارق.
فإذا لم يتوفر أحد هذه الشروط اعتبر الأخذ غير تام, وكانت عقوبته التعزير لا القطع. فمن تسور داراً ليسرق منها فضبط قبل أن يصل إلى شىء مما فى الدار أو ضبط وهو يجمع المتاع, ومن دخل زريبة ليسرق(2/518)
منها دابة ففك قيدها أو اعتلى ظهرها ثم ضبط قبل أن يخرج بها, ومن دخل جرناً ليسرق منه قمحاً فى غرارة مثلاً فضبط وهو يملأ الغرارة أو ضبط بعد ملئها وهو يحاول أن يحملها أو ضبط بعد أن حملها وقبل أن يخرج بها من الجرن- فكل هؤلاء لا يعتبر أحدهما آخذاً خفية لأن ما أتاه من الأفعال لم يخرج الشىء المراد سرقته من حرزه أى المحل المعد لحفظه وما دام المال لم يخرج من حرزه فهو لم يخرج من حيازة المجنى عليه ولم يدخل فى حيازة الجاني (1) .
ويترتب على اشتراط الأخذ التام أن لا يقطع فى سرقة لم تتم, فكل ما نعتبره اليوم شروعاً فى سرقة يعاقب عليه بالتعزير ولا يعاقب عليه بالقطع.
ولكن أصحاب المذهب الظاهرى يوجبون القطع فى الشروع كلما وضع السارق يده على الشىء المسروق ولو لم يخرج به من حرزه, فمن أخذ وهو يجمع المتاع من منزل المجنى عليه وقبل أن يحمله ويخرج به أو أخذ وهو يحمله وقبل أن يخرج به قطع ما دام قد بدأ فعل السرقة؛ لأن ما وقع منه يجعله سارقاً وأن الظاهريين لا يشترطون الحرز فى السرقة, ولهذا فهم يعتبرون الأخذ تاماً بمجرد تناول الشىء المسروق بقصد سرقته ولو لم يخرج الشىء من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة الجانى حيازة فعليه ونهائية (2) , وإن كانوا يفرقون بين السرقة والاختلاس ويرون القطع فى السرقة دون الاختلاس.
وعبارة الأخذ خفية فى الشريعة يقابلها الاختلاس فى القوانين الوضعية, ويشترط ليكون الاختلاس تاماً فى القانونين المصرى والفرنسى أن يخرج الشىء من حيازة المجنى عليه وأن يدخل فى حيازة الجاني, ومعنى هذا أن الشريعة
_________
(1) المغنى ج10 ص249, المهذب ج2 ص295, 297, كشاف القناع ج4 ص79, نهاية المحتاج, أسنى المطالب ج4 ص138, 141 وما بعدها, شرح فتح القدير ج4 ص240, 241, بدائع الصنائع ج7 ص65, شرح الزرقانى ج8 ص98, المدونة ج16ص72, شرح الأزهار ج4 ص367.
(2) المحلى ج11 ص319, 337.(2/519)
تشترط زيادة على ما تشترطه القوانين الوضعية أن يخرج السارق الشىء المسروق من حرزه, وهذه الزيادة شرط لابد من توفره فى كل سرقة معاقب عليها بالقطع عند أصحاب المذاهب الأربعة والشيعة الزيدية, أما الظاهريون فلا يشترطون الإخراج من الحرز كما قدمنا بل أنهم لا يشترطون للقطع إخراج الشىء من حيازة المجنى عليه وإدخاله فى حيازة الجاني, ويكتفون بأن يتناول الجانى الشىء بقصد سرقته لاعتباره آخذاً له خفية ومستحقاً لعقوبة القطع.
وتتفق المذاهب الأربعة والشيعة عدا مذهب الظاهريين, وتتفق الشريعة مع القانون المصرى والفرنسى إذا كانت السرقة واقعة على مال غير محرز. فهذه السرقة لا قطع فيها وعقوبتها التعزير, ويكفى فيها لاعتبار الأخذ تاماً أن يخرج الشىء المسروق من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة السارق, فمثلاً إذا سرق الجانى دابة المجنى عليه أثناء سيرها فى الطريق دون حارس فإن مجرد ركوبه للدابة يعتبر أخذاً تاماً لها لأنه يدخلها فى حيازة الجانى ويخرجها من حيازة المجنى عليه.
وتتفق الشريعة أيضاً مع القانون المصرى والفرنسى إذا كان الفعل الحاصل من الجانى مما يعتبر فى الشريعة اختلاساً فإن الاختلاس عقوبته التعزير لا القطع, ويكفى فى حالة الاختلاس لاعتبار الفعل تاماً أن يخرج الشىء المختلس من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة المختلس, فمن خالس المجنى عليه وخطف من يده ورقة مالية أو أخذ ثوبه من جواره فإن الاختلاس يعتبر تاماً بمجرد دخول الورقة المالية أو الثوب فى حيازة المختلس ولو لم يبرح محل الاختلاس.
وإخراج الشىء المسروق من حرزه يتبعه دائماً إخراج هذا الشىء من حيازة المجنى عليه, فمن سرق من زريبة أو منزل أو دكان يعتبر أنه أخرج المسروق من حيازة المجنى عليه بمجرد إخراج المسروقات من الزريبة أو المنزل أو الدكان, وكذلك من يسرق من جيب إنسان يعتبر أنه أخرج المسروقات من حيازة المجنى عليه بمجرد إخراج المسروقات من الجيب؛ لأن الجانى فى هذه الأحوال جميعاً يزيل عن المسروقات يد المجنى عليه.(2/520)
وإخراج الشىء المسروق من حيازة المجنى عليه لا يتوقف دائماً على خروج السارق به من الحرز, فقد يخرج المسروق من حيازة المجنى عليه مع بقاء الجانى فى الحرز ومع عدم خروج المسروق من الحرز, ومثال ذلك أن يبتلع السارق المسروقات فى الحرز إذا كانت مما لا يفسد بالابتلاع كجواهر أو نقود ابتلعها السارق داخل الحرز, ففى هذه الحالات وأشباهها تدخل المسروقات فى حيازة السارق وتخرج من حيازة المجنى عليه قبل أن يخرج السارق من الحرز وقبل أن يعتبر الأخذ تاماً لأنه لا يتم إلا بالخروج من الحرز (1) .
أما إذا كان الشىء الذى ابتلع فى الحرز مما يفسد بالابتلاع كاللبن أو الحلوى وما أشبهه فالفعل لا يعتبر سرقة فى الشريعة وإنما هو إتلاف, والقاعدة فى الشريعة أن كل ما استهلك فى محل الحادث فهو متلف أو مسروق, سواء استهلك بواسطة أكله أو شربه أو تمزيقه أو تحريفه إلى غير ذلك (2) .
ويرى أبو حنيفة أن إخراج الشىء المسروق من حرزه ومن حيازة المجنى عليه لا يستتبعه حتماً دخوله فى حيازة الجاني, ومثل ذلك أن يأخذ السارق متاعاً ويلقى به إلى خارج المنزل ثم يخرج ليأخذه فيجد أن غيره عثر عليه وأخذه, أو أن يسرق اللص دابة حتى يخرجها من الزريبة فإذا خرجت تلقاها لص آخر فأخذها. ففى هاتين الحالتين وأمثالهما يرى أبو حنيفة أن المسروق لم يدخل فى حيازة السارق لأنه لا يدخل فى حيازة السارق إلا إذا خرج من حيازة المجنى عليه ويد الآخر تظل قائمة على الشىء حتى يخرج من حرزه, فبالإخراج تزول يد المالك (3) .
فإذا أخرج اللص الشىء من الحرز زالت عنه يد المالك فإذا عثر عليه لص
_________
(1) المغنى ج10 ص216, شرح الأزهار ج4 ص364, المهذب ج2 ص297, كشاف القناع ج2 ص79, 80, مواهب الجليل ج6 ص318.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص241.(2/521)
آخر فأخذه فقد اعترضت يد اللص الأخير يد اللص الأول الذى أخرج المسروق, ولم يدخل المسروق فى حيازة السارق وإنما دخل فى حيازة اللص الثاني, ويسمى أبو حنيفة هذه النظرية بنظرية اليد المعترضة, ويترتب عليها عدم قطع يد السارق ولو أنه أخرج المسروق من الحرز, ويرى أن العقوبة هى التعزير (1) .
وإذا ألقى السارق بالمسروق خارج الحرز ثم ضبط قبل أن يخرج ليأخذه فلا يعتبر أن المسروق دخل فى حيازته لأن يده لم تكن ثابتة عليه وقت إخراجه ولو بقى الشىء فى خارج الحرز لم يأخذه أحد حتى ضبط السارق (2) , أما إذا رمى بالشىء خارج الحرز ثم خرج فأخذه فعليه القطع.
ولكن زفر يرى أن لا يقطع السارق فى هذه الحالة, وحجته أن الأخذ من الحرز لا يتم إلا بالإخراج منه, والرمى ليس بإخراج, والأخذ من الخارج ليس أخذاً من الحرز. ورد عليه بأن المال بإلقائه فى الخارج أصبح فى حكم يد السارق وإن كانت يده غير ثابتة عليه, فإذا خرج فأخذه فقد ثبتت يده عليه وأن الرمى ليس إلا الأخذ من الحرز (3) , ولكن مالكاً والشافعى وأحمد يرون أن المسروق يدخل فى حيازة السارق حكماً بمجرد خروجه من حيازة المجنى عليه ولو لم يضع السارق يده عليه وضعاً مادياً، وإذن فاليد المعترضة لا يحتاز المسروق إلا بعد دخوله فى حيازة السارق (4) .
ومن ثم تتم شروط الأخذ خفية، وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (5) ، فهم يرون أنه يكفى لقطع السارق أن يخرج المسروق بأى وسيلة وأن يكون الإخراج بفعله حملاً أو رمياً أو جراً أو إكراهاً أو تدليساً سواء أخذه بعد إخراجه أو تركه أو أخذه، غيره ويعتبر الأخذ تاماً عندهم بالإخراج ولو رد الجانى المسروق لحرزه بعد إخراجه.
_________
(1) نفس المراجع السابقة.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص65.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص65.
(4) المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص138، مواهب الجليل ج6 ص308، المغنى ج10 ص259، المدونة ج16 ص71.
(5) شرح الأزهار ج4 ص367.(2/522)
والأخذ خفية على نوعين: فهو إما أن يكون أخذاً مباشراً، وإما أن يكون أخذاً بالتسبب. فأما الأخذ المباشر فهو أن يتولى السارق أخذ المتاع وإخراجه من الحرز بنفسه، أو أن يؤدى فعله مباشرة إلى إخراجه كأن يدخل الحرز فيحمل المسروق أو يلقى به إلى خارج الحرز، أو أن يدخل يده فى الحرز فيأخذ المسروق أو يلتقطه بِمحْجَن، أو أن يبطر جيباً فيسقط منه المال، أو ينقب حرزاً فيه طعام أو حب فينثال منه إلى الخارج، إلا أن بعض الفقهاء يجعل لهذه القاعدة استثناءات سنتحدث عنها فيما بعد، وإذا حمل السارق المسروق إلى خارج الحرز، أو ألقى بالمسروق إلى خارج الحرز، أو أدى فعله المباشر إلى إخراج المسروق من الحرز، فإن شروط الأخذ خفية تكون تامة ويقطع السارق بسرقته (1) .
أما إذا ضبط قبل أن يخرج المسروق من الحرز أو قبل أن يؤدى فعله إلى إخراجه فلا قطع عليه إلا فى رأى الظاهريين وحدهم؛ لأنهم يعتبرون السرقة تامة بمجرد تناول الجانى للشىء المسروق ولأنهم لا يعتبرون الحرز. وعند باقى الفقهاء على الجانى التعزير ولا قطع عليه لأن شروط الأخذ خفية لن تتم، وقد سبق الكلام على هذه النقطة.
وإذا ضبط السارق بعد إلقاء المتاع المسروق خارج الحرز وقبل أن يخرج من الحرز لأخذه، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ لم يتم لأن المسروق وإن كان قد أخرج من الحرز ومن حيازة المجنى عليه إلا أنه لم يدخل فى حيازة السارق الفعلية أو لأن يد السارق لم تثبت على المسروق فلا يعتبر فى حيازته (2) فعلاً، وإن كان الحنفية يعتبرون الشىء فى حيازة السارق حكماً بإلقائه ما لم تكن هناك يد معترضة؛ أى شخص يضع يده على الشىء (3) ، وهم متفقون على قطع السارق فيما ألقاه خارج الحرز ثم خرج فأخذه، ولا يخالفهم فى هذا إلا زفر، وقد بينا من قبل سبب خلافه.
_________
(1) المهذب ج2 ص297، شرح الأزهار ج4 ص367، المغنى ج10 ص259، فتح القدير ج4 ص241، سرح الزرقانى ج8 ص97.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص65.
(3) شرح فتح القدير ج4 ص244.(2/523)
ويرى بقية الأئمة ومعهم الشيعة الزيدية أن الشىء المسروق يدخل فى حيازة السارق حكماً بمجرد إلقائه إلى خارج الحرز وأن الحيازة الحكمية تكفى لاعتبار الأخذ تاماً كالحيازة الفعلية سواء بسواء، فإذا ألقى السارق بالمسروق خارج الحرز فقد تمت السرقة سواء خرج السارق فأخذه أو وجد أن غيره قد استولى عليه، وسواء ضبط السارق قبل خروجه من الحرز أم لم يضبط. إلا أن الإمام مالكاً تردد فى اعتبار السرقة تامة فى حالة ضبط السارق داخل الحرز بعد إلقاء المسروقات فى خارجه، ولكن المذهب على اعتبار السرقة تامة (1) ، وإذا أخرج السارق المتاع المسروق من بعض الدار إلى ساحتها فلا يعتبر الأخذ تاماً لأن الدار جميعها حرز واحد ولأن المتاع لم يخرج بعد من الحرز. ولا يخالف فى هذا إلا الظاهريون؛ لأنهم يعتبرون السرقة تامة بمجرد تناول السارق للشىء المسروق ولو لم يبرح مكانه. أما إذا كانت الدار مكونة من بيوت أو غرف مستقلة يعتبر كل منها مسكناً مستقلاً فالأخذ من أحد البيوت أو الغرف يعتبر تاماً إذا أخرج السارق المتاع المسروق إلى ساحة الدار المشتركة أو ضبط فيها ومعه المسروقات؛ لأن كل بيت أو غرفة حرز مستقل وليس له علاقة بساحة الدار، فإذا أخرج السارق المسروقات إلى ساحة الدار فقد أخرج المسروق من حرزه (2) .
وإذا استهلك الجانى الشىء أو أتلفه داخل الحرز فهو متلف للشىء لا سارق له، فأما إذا خرج بشىء منه بعد إتلافه فهو سارق لما خرج به إذا بلغ نصاباً، وتقدر قيمة المسروق بما خرج به لا بما أتلفه، وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (3) ،
_________
(1) المدونة ج16 ص71، شرح الزرقانى ج8 ص98، المهذب ج2 ص297، المغنى ج10 ص259، شرح الأزهار ج4 ص367.
(2) نهاية المحتاج ج8 ص439، المغنى ج10 ص260، المهذب ج2 ص297، كشاف القناع ج4 ص80، بدائع الصنائع ج7 ص66، شرح فتح القدير ج4 ص243، شرح الزرقانى ج8 ص100، مواهب الجليل ج6 ص308.
(3) المغنى ج10 ص261، المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص138، مواهب الجليل ج6 ص308، شرح الزرقانى ج8 ص99.(2/524)
وبهذا الرأى تأخذ الشيعة الزيدية (1) .
وهذا ما يراه أبو حنيفة ومحمد إلا أن أبا يوسف يرى أن من أتلف الشىء داخل الحرز ثم خرج بالمتلف وقيمته نصاباً فإنه لا يقطع لأنه بالإتلاف ضمن قيمة الشىء والمضمونات تملك عند أداء الضمان أو اختياره من وقت الأخذ، فلو ضمن السارق قيمة المسروق لملكه من وقت الأخذ فلو قطع لقطع فى ملك نفسه (2) .
وإذا ابتلع الجانى المسروق داخل الحرز فيفرقون بين ما يفسد بالابتلاع كالطعام والشراب وما لا يفسد به كالجواهر والنقود، فأما ما يفسد بالابتلاع فلا يعتبر ابتلاعه أخذاً أى سرقة وإنما يعتبر إتلافاً ويعاقب عليه بعقوبة التعزير، وأما ما لا يفسد بالابتلاع ففيه آراء:
أولها: الابتلاع يعتبر استهلاكاً للشىء فهو إتلاف لا سرقة، وتظهر وجاهة هذا الرأى فى حالة ما إذا لم يخرج الشىء من جوف الجانى وبقى به.
وثانيهما: أن الابتلاع يعتبر أخذاً كما لو خرج الشىء فى وعاء، وتظهر وجاهة هذا الرأى فى حالة خروج المسروق من جوف الجانى، وعلى هذا الرأى المالكية وبعض الشافعية (3) .
وثالثهما: يفرق بين خروج المسروق بعد ابتلاعه وعدم خروجه فإن خرج فالفعل سرقة وإن لم يخرج فالفعل إتلاف (4) .
ورابعها: وهو للحنابلة، فبعضهم يعتبر الفعل إتلافاً فى كل حال، وبعضهم يعتبره سرقه إذا خرج الشىء الذى بلع فإذا لم يخرج فهو إتلاف (5) .
وإذا استهلك الجانى أو ابتلع بعض الشىء ثم خرج ببعضه الباقى فهو متلف لما استهلك أو ابتلع إن كان يفسد بالابتلاع وسارق لما خرج به من الحرز إذا تمت فيه شروط الأخذ خفية، مع مراعاة وجود الخلاف والآراء المختلفة التى سبق
_________
(1) شرح الأزهار ج4 ص364.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص264، بدائع الصنائع ج7 ص70، 71، 84.
(3) شرح الزرقانى ج8 ص99.
(4) أسنى المطالب ج4 ص184، المهذب ج2 ص297.
(5) المغنى ج10 ص261.(2/525)
عرضها، وإذا كان للإخراج من الحرز أهمية فى بيان الأخذ التام من غيره فإن له أهمية قصوى فى حالة تعدد الجناة؛ لأن القاعدة فى الشريعة أن عقوبة القطع على من أخرج الشىء المسروق من حرزه فقط أما من لم يخرجه فعليه التعزير.
599- نظرية الهتك المتكامل: وإذا كان السارق واحداً فنقب الحرز كما لو كان منزلاً مثلاً وأدخل يده فى الثقب وأخذ المتاع أو مد قصبة أو محجناً فأخذه به، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ لم يتم لأن السارق لم يدخل الحرز وهتك الحرز هتكاً متكاملاً شرط لتكامل الجناية ولا يتصور تكامل الهتك فيما يمكن الدخول منه إلا بالدخول فعلاً، أما مثل الصندوق والغرارة فلا يمكن الدخول فيهما فالأخذ التام منهما باليد دون دخول يعتبر هتكاً متكاملاً، وتسمى هذه النظرية بنظرية الهتك المتكامل (1) ، ولكن الأئمة الثلاثة ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة والشيعة الزيدية يرون الأخذ تاماً سواء دخل السارق الحرز أو لم يدخله؛ لأن ركن السرقة الأخذ من الحرز وليس دخول الحرز، فكلما أمكن الأخذ من الحرز دون دخوله فهو أخذ تام (2) .
600- تعدد الجناة: وإذا اشترك فى السرقة اثنان فدخل أحدهما الحرز وبقى الثانى فى خارجه وناول الداخل للخارج المسروق من وراء الجدار أو من فتحة الباب أو من نقب فى الحائط، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ غير تام بالنسبة للداخل والخارج معاً؛ فأما بالنسبة للداخل فلأنه وإن كان قد أخرج المتاع بفعله من الحرز ومن حيازة المجنى عليه إلا أن المتاع لم يدخل فى حيازة الداخل وإنما دخل فى حيازة زميله الذى كان فى الخارج ومن ثم فالأخذ غير تام بالنسبة للداخل. ورأى أبى حنيفة فى هذه المسألة تطبيق لنظرية اليد المعترضة التى سبق
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص66.
(2) المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص147، المغنى ج10 ص259، كشاف القناع ج4 ص80، مواهب الجليل ج6 ص310، شرح فتح القدير ج4 ص245، شرح الأزهار ج4 ص367، 368.(2/526)
بيانها، أما بالنسبة للخارج فإن المسروق قد دخل فى حيازته فإنه لم يخرج المسروق من حرزه ومن حيازة المجنى عليه، ومن ثم كانت شروط الأخذ غير تامة بالنسبة له.
ويتفق الأئمة الثلاثة والشيعة الزيدية وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبى حنيفة على اعتبار الأخذ تاماً بالنسبة للداخل، ويرون أن المتاع المسروق يدخل فى حيازة الداخل الذى أقام زميله الخارج مقامه بتسليم المسروقات إليه، ولكنهم إذا خالفوا رأى أبى حنيفة بالنسبة للداخل فإنهم يرون رأيه بالنسبة للخارج (1) .
والمفروض فى المسألة السابقة أن الداخل أخرج يده بالمسروقات إلى خارج الحرز فناولها زميله الخارج، أما إذا أدخل الخارج يده فى الحرز فأخذ المتاع المسروق من يد زميله الموجود داخل الحرز، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ لا يعتبر تاماً بالنسبة لأيهما، فأما الخارج فلأنه لم يدخل الحرز فيهتكه هتكاً متكاملاً، وهذا تطبيق لنظرية الهتك المتكامل، وأما الداخل فلأنه لم يخرج المسروق من الحرز ولكن الأئمة الثلاثة والشيعة الزيدية وأبا يوسف صاحب أبى حنيفة يرون أن الأخذ يعتبر تاماً بالنسبة للخارج لأنه أخرج المتاع المسروق من الحرز ومن حيازة المجنى عليه وأدخله فى حيازة نفسه، ولأن ركن السرقة هو الأخذ وقد أخذ المسروق وليس ركن السرقة الدخول فى الحرز، أما بالنسبة للداخل فيتفق رأى هؤلاء الفقهاء مع رأى أبى حنيفة (2) .
وإذا وضع الداخل المسروقات فى وسط الثقب فمد الخارج يده لأخذها بحيث اجتمعت أيديهما فى الثقب بموضع لم يخرجه الداخل من الحرز ولم يخرجه الخارج من الحرز فتعاونا معاً على إخراجه وأخرجاه من الحرز فالأخذ تام
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص65، شرح فتح القدير ج4 ص243، المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص147، مواهب الجليل ج6 ص310، شرح الزرقانى ج8 ص104، كشاف القناع ج4 ص80، المغنى ج10 ص299، شرح الأزهار ج4 ص368.
(2) نفس المراجع السابقة.(2/527)
بالنسبة لكليهما فى رأى مالك (1) ، وهو كذلك عند أحمد وأبى يوسف من فقهاء الحنفية (2) ، ولكن الشافعى يرى أن الأخذ لا يعتبر تاماً بالنسبة للداخل والخارج معاً؛ لأن الداخل لم يخرجه من تمام الحرز ولأن الخارج لم يأخذه من داخل الحرز (3) .
أما عند أبى حنيفة فلا يعتبر أحدهما آخذاً؛ لأن الخارج لم يدخل الحرز ويهتكه هتكاً متكاملاً ولأن الداخل لم يخرجه من الحرز، وعلى فرض أنه أخرجه فإن يداً أخرى اعترضت يده.
وإن دخل أحدهما إلى الدار فربط المسروقات بحبل وكان طرف الحبل مع آخر فى الخارج فجر المسروقات حتى أخرجها من الحرز، فالأخذ تام بالنسبة للخارج عند الشافعى وأحمد وأبى يوسف والشيعة الزيدية وليس تاماً بالنسبة للداخل. أما عند أبى حنيفة فالأخذ ليس تاماً أيضاً بالنسبة للخارج تطبيقاً لنظرية الهتك المتكامل (4) .
وإذا دخلا معاً فى الحرز فصعد أحدهما إلى سطح المنزل وجمع الثانى المتاع المسروق فربطه بحبل فجره على السطح وألقى به إلى الخارج, فالأخذ تام بالنسبة لكليهما عند مالك وأبى حنيفة وأحمد وليس تاماً عند الشافعى إلا بالنسبة لمن ألقى به إلى الخارج (5) , فأما الشافعى فيرى أن الأخذ تام لمن أخرج المسروق أما من لم يخرجه فلا يعتبر الأخذ تاماً له, وهو يسير فى هذا على القاعدة العامة, أما من اعتبروا الرابط مخرجاً للمتاع فإنهم يعتبرونه كذلك على أسس مختلفة, فمالك يعتبره مخرجاً لأن فعل الربط جاء مصاحباً للإخراج وهو يعتبر الشخصين مخرجين كلما تصاحب فعلاهما الإخراج, وأبو حنيفة وأحمد
_________
(1) المدونة ج16 ص73.
(2) كشاف القناع ج4 ص80، شرح فتح القدير ج4 ص243.
(3) أسنى المطالب ج4 ص146.
(4) نفس المراجع السابقة.
(5) المدونة ج16 ص73, كشاف القناع ج4 ص80, المغنى ج10 ص298, شرح فتح القدير ج4 ص244, 245, أسنى المطالب ج4 ص138.(2/528)
يعتبران من يدخل الحرز مخرجاً للمسروق ولو لم يحمل من المسروق شيئاً ما دام شريكه أو شركاؤه قد احتملوه (1) .
وسنتكلم على هذه القاعدة بتوسع عند الكلام على الإعانة, وتأخذ الشيعة الزيدية بهذه القاعدة (2) على أن فيهم من يأخذ برأى الشافعى.
وإذا بطل الحرز قبل إخراج المسروقات منه فلا تتم شروط الأخذ خفية لأن شروط الإخراج من الحرز تنعدم وتكون السرقة سرقة مال غير محرز ولا قطع فيها وإنما فيها التعزير, ومثل ذلك أن يؤذن للسارق بدخول الحرز لأن الإذن يبطل الحرز فى حق المأذون له, وكذلك الحارس على الشىء المسروق فى حالة ما إذا كان المال محرزاً بحارس. أما إذا بطل الحرز بعد إخراج المسروقات فإن ذلك لا يؤثر على السرقة التى تمت بتمام شروط الأخذ خفية.
وسنتكلم على ما يبطل الحرز عند الكلام عن الحرز. ويبطل الحرز عند الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية بفتح الباب والثقب ولكنه لا يبطل بهما عبد مالك وأبى حنيفة, فإذا ثقب شخص حرزاً أو فتح بابه ولم يسرق شيئاً فجاء آخر ودخل الحرز وسرق منه متاعاً فلا قطع على أحدهما عند الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية؛ لأن الأول لم يأخذ شيئاً فلا يسأل عن السرقة وإنما يسأل عن إتلاف الحائط, ولأن الثانى أخذ المتاع من غير حرز والسرقة من غير حرز لا قطع فيها.
أما مالك وأبو حنيفة فيريان أن الأخذ تام بالنسبة للثانى الذى دخل الحرز وأخذ المتاع لأن الثقب لم يخرج المكان عن كونه حرزاً (3) .
ويرتب الحنابلة على القول بأن الثقب يبطل الحرز أن الجانى لو ثقب فى ليلة ولم يأخذ شيئاً فعلم المالك بهتك الحرز وأهمله ثم جاء الناقب فى ليلة تالية قبل إعادة الحرز فسرق ما فى المنزل أو جاء فى نفس الليلة من إحداث الثقب فسرق فإن الأخذ لا يعتبر تاماً لأن السرقة من غير حرز. وكذلك الشأن عند الحنابلة
_________
(1) شرح فتح القدير ج4 ص244, المغنى ج10 ص247, 298, كشاف القناع ج4 ص80.
(2) شرح الأزهار ج4 ص366.
(3) شرح الأزهار ج7 ص370, المغنى ج10 ص299, أسنى المطالب ج4 ص147, شرح الزرقانى ج8 ص109, شرح فتح القدير ج4 ص243 وما بعدها.(2/529)
فى حالة الإخراج على دفعات فإذا نقب الجانى الحرز فأخرج ما دون النصاب ثم دخل فأخرج ما يتم به النصاب, فإن كان ذلك فى وقتين متباعدين أو ليلتين لم يجب القطع لأن كل واحدة منهما سرقة مفردة والأولى دون النصاب هو والثانية, وكذلك إن كانا فى ليلة واحدة وبينهما مدة طويلة, أما إذا تقاربا فهما سرقة واحدة لبناء الفعلين أحدهما على الآخر, وإذا بنى فعل أحد الشريكين على فعل شريكه فبناء فعل الواحد بعضه على بعض أولى (1) . أما إذا علم المالك بهتك الحرز وأهمله فكل أخذ يعتبر مستقلاً مهما تقاربت المدة بين الأخذين, والأخذ بعد العلم أخذ من غير حرز (2) . ويلاحظ أن الحرز لا يبطل بالنسبة لمحدث النقب إلا بعلم المالك أو باستشهار هتكه, أما بالنسبة للغير فيبطل فى الحال. ويرتب الشافعية على القول بأن النقب يبطل الحرز بأن الجانى لو نقب فى ليلة وسرق فى أخرى كان أخذه تاماً موجباً للقطع, إلا إذا كان النقب ظاهراً يراه الطارقون والمارة أو علم المالك به بعد الحرز (3) .
أما الشأن عندهم فى حالة الإخراج على دفعات فلم يتفقوا عليه. فإذا نقب شخص حرزاً ثم أخرج منه نصاباً على دفعات, فبعضهم يرى الأخذ تاماً ولو أن الإخراج على دفعات لأن بعض فعله ينبنى على البعض الآخر. والبعض يرى أن ما أخذه بعد الدفعة الأولى لا يعتبر أخذاً تاماً لأنه أخذ من حرز مهتوك. والبعض يرى أن ما أخذ قبل اشتهار هتك الحرز أو علم المالك بع يعتبر أخذاً تاماً, وما أخذ بعده لا يعتبر كذلك (4) .
ويتفق رأى الشيعة الزيدية مع ما يراه الحنابلة (5) .
ويلاحظ أن الحرز يبطل فى الحال بالنسبة للغير أما بالنسبة للناقب فلا يبطل
_________
(1) المغنى ج10 ص262.
(2) كشاف القناع ج4 ص81.
(3) أسنى المطالب ج4 ص147.
(4) المهذب ج2 ص295, أسنى المطالب ج4 ص138, نهاية المحتاج ج6 ص420.
(5) شرح الأزهار ج4 ص368.(2/530)
إلا على الوجه الذى سبق بيانه وطبقاً للآراء المختلفة التى عرضناها, فلو نقب شخص حرزاً فجاء آخر وسرق ما فى داخل الحرز فلا يعتبر أخذه تاماً لأنه أخذ من غير حرز. أما الإخراج على دفعات عند مالك وهو لا يرى بطلان الحرز بالنقب ولا فتح الباب فحكمه أن العبرة بقصد الجاني, فإن قصد الجانى ابتداء أخذ المسروق ولكنه أخرجه على دفعات فالأفعال كلها سرقة واحدة, ويستدل على قصد الجانى بإقراره أو القرائن سواء كان يستطيع أن يخرج المسروق كله مرة واحدة ولكنه لم يخرج أو كان لا يستطيع أن يخرج إلا على دفعات, أما إذا قصد الأخذ فى كل دفعة قصداً مستقلاً فكل دفعة تعتبر سرقة مستقلة فإن أخرج فيها نصاباً قطع وإلا لم يقطع (1) .
أما أبو حنيفة فيرى فى حالة الإخراج على دفعات اعتبار كل دفعة وحدها, فإن بلغ النصاب وحدها استحق المخرج القطع وإلا فلا, ولو أن المخرج قصد أن لا يخرج فى كل مرة نصاباً تحايلاً منه (2) .
والإخراج من الأحراز يختلف باختلاف نوع الحرز, فإذا كان الحرز حرزاً بالمكان كالمنزل أو الدكان فيجب أن يخرج السارق بالسرقة من جميع الحرز حتى يعتبر الأخذ تاماً, فمن سرق متاعاً من منزل يجب أن يخرج به إلى الخارج من المنزل, فإن نقله من غرفة إلى أخرى فلا يعتبر الأخذ تاماً ما لم تكن الغرفة التى نقل إليها المتاع المسروق حرزاً مستقلاً عن الغرفة التى كان فيها, وإذا نقله إلى ساحة المنزل فلا يعتبر الأخذ تاماً إلا إذا كان المنزل مكوناً من مساكن مختلفة والساحة مشتركة للجميع ففى هذه الحالة يعتبر الأخذ تاماً. أما إذا كان الحرز حرزاً بالحافظ فإنه يكفى لاعتبار الأخذ تاماً أن يفصل بالمسروق عن مكانه أو ينفصل به عن الحارس, فالنشال يعتبر أخذه تاماً بمجرد أخذه النقود من جيب المجنى عليه وبمجرد شق الجيب وسقوط النقود منه ولو على الأرض.
601- التعاون على الإخراج: الأصل أنه لا يقطع فى السرقة إلا
_________
(1) شرح الزرقانى ج8 ص96.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص77, 78.(2/531)
الشخص الذى يخرج المسروق من الحرز سواء حمله إلى خارج الحرز أو رماه إلى الخارج, ولكن الكثيرين من الفقهاء جروا على قطع كل من تعاونوا على إخراج المسروق وإن كان بعضهم لم يحمل بالذات شيئاً؛ لأن الحمل والإخراج يعتبر حاصلاً منهم معنى لا مادة.
وفى اصطلاح هؤلاء الفقهاء أن المعين على إخراج المسروق هو من يعين السارق على إخراج الشىء المسروق من الحرز سواء كانت الإعانة مادية أو معنوية, وهم يلحقون المعين على السرقة بمن يباشر السرقة ويعطونه حكمه لأن السارق وحده غالباً وإنما يتعاون مع غيره, فلو جعل القطع على المباشر وحده لانفتح باب السرقة وانسد باب القطع (1) .
والفقهاء الذين يلحقون المعين بالمباشر متفقون على أن القطع على من يعين فقط فى إخراج الشىء المسروق من الحرز لأنه يعتبر مخرجاً له, فإن كان العون فى غير ذلك كاشتراك فى النقب أو كسر الباب أو فتحه بمفتاح مصطنع أو مساعدة على تسلق الحائط للدخول فى الحرز أو مساعدة فى حمل المسروقات بعد إخراجها من الحرز لم يقطع المعين على كل ذلك وأشباهه, فلو اتفق اثنان مثلاً على سرقة منزل وتعاونا على نقب الحائط ثم دخل أحدهما وبقى الآخر فى الخارج يرقب الطريق وأخرج الداخل المسروقات من الحرز مرة بعد أخرى دون أن يستعين بزميله وبعد إخراجها تعاونا على حملها, فالقطع على الداخل وحده وعلى الخارج التعزير؛ لأنه لا يعتبر معيناً على الإخراج ما دام لم يتعاون مع المباشر فى إخراج الشىء المسروق من الحرز.
ومع أن الفقهاء يتفقون على ما سبق إلا أنهم اختلفوا فى الأفعال التى تعتبر إعانة بحيث لا يتفق مذهب مع آخر فى تحديد هذه الأفعال, وسنستعرض فيما يلى آراء المذاهب المختلفة فيمن يعتبر معيناً على إخراج المسروق.
فمالك يرى أن المعين على الإخراج قد تحدث منه الإعانة وهو فى خارج
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص66.(2/532)
الحرز وقد تحدث منه الإعانة وهو فى داخل الحرز. فأما الإعانة من خارج الحرز فمثله أن يضع الدخل المتاع المسروق فى وسط النقب ويمد الخارج يده لأخذه فتجتمع أيديهما فى النقب بموضع لم يخرجه الداخل من الحرز ولم يخرجه الخارج من الحرز وإنما هو بين, فإذا تناول الخارج المتاع على هذا الوجه فهو معين على إخراجه لأن فعل كل منهما لم يستقل بإخراج المسروق ولأن فعل كل منهما جاء مصاحباً لفعل الآخر. ومثل ذلك أن يربط الداخل المتاع بحبل يجره من فى الخارج فإذا فعل فهو معين على الإخراج. فالقاعدة إذن عند مالك أن الخارج يعتبر معيناً على الإخراج إذا كان فعل الداخل لا يجعله مستقلاً بالإخراج وإذا تصاحب فعلاهما فى حال الإخراج (1) .
أما الإعانة من داخل الحرز فتكون بالتعاون فى حمل المسروق إلى خارج الحرز أو بالتعاون فى حمله على أحد السارقين أو بعضهم أو فى حمله على دابة وبشرط أن يكون هذا التعاون ضرورياً, كأن يكون المسروق ثقيلاً فلا يستطيع إخراجه إلا كثيرون أو لا يستطيع حمله شخص واحد إلا أن يضعه عليه اثنان أو ثلاثة أو أكثر, فإذا كان المسروق خفيفاً فحمله واحد فخرج به وهم معه أو أعانوه على حمله وهو يستطيع حمله دون إعانة كالثوب والصرة فلا إعانة لأن التعاون على الإخراج ليس ضرورياً ولا قطع إلا على من حمل المسروق فأخرجه.
وإذا اقتضى إخراج المسروق التعاون فى حمله لإخراجه فالحاملون جميعاً مباشرون للسرقة ما دام أنهم قد حملوه حتى أخرجوه من الحرز, فإذا حملوه فوضعوه على شخص منهم أو على دابة فالمباشر هو مخرج والباقون معينون, وفى هاتين الحالتين يكفى لقطع المباشرين والمعينين أن تبلغ قيمة المسروق نصاباً واحداًً. وإذا اشترك كثيرون فى إخراج المسروقات من الحرز ولم تكن هناك ضرورة للتعاون وإنما أخرج كل منهم شيئاً يحمله وهم شركاء فى كل ما أخرجوه فالمخرجون جميعاً مباشرون ولا يقطع منهم إلا من بلغت قيمة ما أخرجه نصاباً,
_________
(1) المدونة ج16 ص73, شرح الزرقانى ج8 ص106.(2/533)
ويعزر من أخرج دون النصاب.
ولا يعتبر معيناً عند مالك من يدخل الحرز أو يبقى فى خارجه دون أن يأتى عملاً مادياً يشترك به فى إخراج المسروقات على الوجه الذى سبق بيانه, فمن وقف داخل الحرز ليحمى حامل المسروقات, أو ليمنع السكان من الحركة أو الاستغاثة, أو ليرشد اللصوص على مكان النقود, فإنه لا يعتبر مباشراً ولا معيناً ولا قطع عليه وإنما عليه التعزير (1) .
ويشترط أبو حنيفة لاعتبار الشخص معيناً أن يدخل الحرز, فإن لم يدخل الحرز فلا يعتبر معيناً ولو ساعد فعله على إخراج المسروقات من الحرز. ورأيه هذا تطبيق آخر لنظريته فى هتك الحرز هتكاً متكاملاً.
والمعين فى مذهب أبى حنيفة هو من دخل الحرز مطلقاً, سواء أتى عملاً مادياً عاون به على إخراج المسروقات كأن وضعها على ظهر آخر فأخرجها الآخر, أو أتى عملاً معنوياً يساعد على إخراج المسروقات من الحرز كوقوفه للحراسة أو لمنع الغوث أو للإشراف على نقل المسروقات من الحرز, ويعتبر مجرد وجوده داخل الحرز إعانة معنوية على إخراج المسروقات من الحرز ولو كانت الحالة لا تقتضى وجود المعين (2) .
على أن الإعانة لا يجب فيها القطع فى مذهب أبى حنيفة إلا إذا خص كل مباشر وكل معين نصاب, فإذا كانت قيمة ما أخرج لا تكفى ليصيب كل منهم نصاباً فلا قطع وإنما التعزير (3) . وإذا اشترك جماعة فى سرقة فخرج كل منهم ببعض المسروقات وبعضهم يحمل ما قيمته نصاباً فأكثر وبعضهم يحمل أقل من نصاب فعليهم القطع جميعاً إذا كانت قيمة المسروقات فى مجموعها تكفى لأن يصيب كل منهم نصاباً (4) . وفى هذا يختلف مذهب مالك عن مذهب أبى حنيفة.
_________
(1) المدونة ج16 ص68, 69, شرح الزرقانى ج8 ص96.
(2) شرح فتح القدير ج4 ص244, بدائع الصنائع ج7 ص66.
(3) بدائع الصنائع ج7 ص78, شرح فتح القدير ج4 ص225.
(4) نفس المراجع السابقة.(2/534)
أما مذهب أحمد فيتفق أولاً مع مذهب مالك فى أن الإعانة قد تحدث من شخص خارج الحرز وقد تحدث ممن فى داخله, وكذلك يتفق المذهبان فى تحديد الإعانة من الخارج ولكنهما يختلفان فى الإعانة ممن فى الداخل.
ويتفق مذهب أحمد مع مذهب أبى حنيفة فى الإعانة من الداخل فيعتبر معيناً عند أحمد كل من يدخل الحرز, سواء أتى عملاً مادياً كإعانة غيره على حلم المسروقات أو أتى عملاً معنوياً تمنع الغوث أو لم يأت عملاً ما.
وفى مذهب أحمد يقطع المباشر والمعين إذا بلغت قيمة ما أخرج نصاباً واحداً, وإذا اشترك جماعة فى السرقة فليس من الضرورى أن يبلغ ما حمله كل منهم نصاباً بل يكفى أن يبلغ كل ما أخرجوه من الحرز نصاباً واحداً لا غير ليقطعوا به هم ومن أعانوهم على الإخراج, سواء من الداخل أو من الخارج. وفى هذا يخالف مذهب أحمد مذهبى مالك وأبى حنيفة (1) .
أما فى مذهب الشافعى فلا يعترفون بالإعانة من خارج الحرز ولا بالإعانة من داخله, والمعين فى كل الأحوال عليه التعزير ولا قطع عليه, ويقطع الشافعى المشتركين فى السرقة بشرطين:
أولهما: أن يشترك السارق فى إخراج المسروق من الحرز كأن يكون شيئاً ثقيلاً فيتعاون السارقون عل حمله لخارج الحرز أو أشياء متعددة فيحمل كل منهما شيئاً, فمن أخرج منهم شيئاً خارج الحرز فهو سارق.
ثانيهما: أن يختص كل من السارقين نصاباً إذا وزعت عليهم قيمة كل ما أخرجوه بغض النظر عما أخرجه كل منهم, فقد يخرج أحدهم نصاباً أو أكثر وقد يخرج أقل من نصاب (2) .
وإذا لم يشترك السارقون وكان كل منهم مستقلاً فى فعله وقصده عن الآخر فالعبرة بما يخرجه كلٌّ. فمن أخرج نصاباً قطع إذا توفرت الشروط الأخرى, ومن
_________
(1) المغنى ج10 ص295, 296, كشاف القناع ج4 ص79.
(2) المهذب ج2 ص249, 297, نهاية المحتاج ج7 ص421.(2/535)