قلت: قال الشافعي: أي: لا يكثر من تعولون (1) .
وفيه دليل على أن على الرجل نفقة امرأته.
وقد أنكر على الشافعي بعض أهل العربية هذا التفسير، فأجاب البغوي بأن الكسائي قال: يقال: عال الرجل يعول: إذا كثر عياله، واللغة الجيدة: أعال.
وأجاب الزمخشري بأنه بيان حاصل المعنى، ووجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم؛ كقولهم: مانهم يمونهم: إذا أنفق عليهم، ومن كثر عياله لزمه أن يعولهم، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم ".
( [الأمور التي تضمنتها فتوى الرسول صلى الله عليه وسلم لهند] :)
وقال ابن القيم في حديث هند المتقدم:
" تضمنت هذه الفتوى أمورا:
أحدها: أن نفقة الزوجة غير مقدرة؛ بل بالمعروف لنفي تقديرها، وإن لم يكن تقديرها معروفا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم.
الثاني: أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الولد؛ كلاهما بالمعروف.
__________
(1) • قلت: لكن قال الحافظ ابن كثير - بعد أن أشار إلى قول الشافعي المذكور -: " ولكن في هذا التفسير ههنا نظر؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر؛ كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا، والصحيح قول الجمهور: {ذلك أدنى ألا تعولوا} ؛ أي: لا تجوروا ".
ثم ذكر الشواهد على ذلك من اللغة والشعر، وهو الذي جزم به ابن جرير في " تفسيره ". (ن)(2/305)
الثالث: انفراد الأب بنفقة أولاده.
الرابع: أن الزوج والأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه؛ فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف.
الخامس: أن المرأة إذا قدرت على أخذ كفايتها من مال زوجها؛ لم يكن لها إلى الفسخ سبيل.
السادس: أن ما لم يقدره الله - تعالى - ورسوله من الحقوق الواجبة؛ فالمرجع فيه إلى العرف.
السابع: أن من منع الواجب عليه، وكان سبب ثبوته ظاهرا؛ فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه؛ كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هندا ". انتهى حاصله.
( [النفقة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص] )
أقول: هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، فنفقة زمن الخصب؛ المعروف فيها غير المعروف في زمن الجدب، ونفقة أهل البوادي؛ المعروف فيها ما هو الغالب عندهم، وهو غير المعروف من نفقة أهل المدن، وكذلك المعروف من نفقة الأغنياء على اختلاف طبقاتهم غير المعروف من نفقة الفقراء، والمعروف من نفقة أهل الرياسات والشرف غير المعروف من نفقة أهل الوضاعات.
فليس المعروف المشار إليه في الحديث هو شيء متحد؛ بل مختلف باختلاف الاعتبار، وقد أوضحت المقام في كتابي " دليل الطالب "، فليراجع.(2/306)
وقال الماتن - رحمه الله - في " الفتح الرباني " في جواب سؤال في الفرض للزوجة ونحوها ما لفظه:
" قد اختلفت المذاهب في تقدير النفقة بمقدار معين وعدم التقدير:
فذهب جماعة من أهل العلم - وهم الجمهور - إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية، وقد اختلفت الرواية عن الفقهاء؛ فقال الشافعي: على المسكين والمتكسب مد، وعلى الموسر مدان، وعلى المتوسط مد ونصف.
وقال أبو حنيفة: على الموسر سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر، وعلى المعسر أربعة دراهم إلى خمسة.
قال بعض أصحابه: هذا التقدير في وقت رخص الطعام، وأما في غيره فيعتبر بالكفاية ". انتهى.
والحق: ما ذهب إليه القائلون بعدم التقدير؛ لاختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص؛ فإنه لا ريب أن بعض الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من بعض، وكذلك الأمكنة؛ فإن بعضها قد يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم مرتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا.
وكذلك الأحوال؛ فإن حالة الجدب تكون مستدعية لمقدار من الطعام أكثر من المقدار الذي تستدعيه حالة الخصب.
وكذلك الأشخاص؛ فإن بعضهم قد يأكل الصاع فما فوقه، وبعضهم قد يأكل نصف صاع، وبعضهم دون ذلك.(2/307)
وهذا الاختلاف معلوم بالاستقراء التام، ومع العلم بالاختلاف؛ يكون التقدير على طريقة واحدة ظلما وحيفا.
ثم إنه لم يثبت في هذه الشريعة المطهرة التقدير بمقدار معين قط؛ بل كان - صلى الله عليه وسلم - يحيل على الكفاية مقيدا لذلك بالمعروف؛ كما في حديث عائشة عند البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأحمد ابن حنبل، وغيرهم: أن هندا قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؛ إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
فهذا الحديث الصحيح؛ فيه الإحالة على الكفاية مع التقييد بالمعروف، والمراد به الشيء الذي يعرف، وهو خلاف الشيء الذي ينكر، وليس هذا المعروف الذي أرشد إليه الحديث شيئا معينا، ولا المتعارف بين أهل جهة معينة؛ بل هو في كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها، المتعارف بينهم.
مثلا؛ أهل صنعاء؛ المتعارف بينهم الآن أنهم ينفقون على أنفسهم وأقاربهم الحنطة والشعير والذرة، ويعتادون الإدام سمنا ولحما، فلا يحل أن يجعل طعام من تجب نفقته من طعام غير الثلاثة الأجناس المتقدمة: كالعدس، والفول، ولا من الشعير، والذرة فقط، ولا بدون إدام، ولا بإدام غير المعتاد كالزيت، والتلبينة، ونحو ذلك؛ فإن ذلك جميعه؛ وإن كان يصدق عليه لفظ الكفاية؛ لكنه لا يصدق عليه معنى المعروف، والعمل بالمطلق وإهمال قيده لا يحل.
وأما أهل البوادي المتصلة بصنعاء - والقريبة منها بمقدار بريد ودونه(2/308)
وفوقه -؛ فالمعروف عندهم هو الكفاية من أي طعام كان؛ من غير سمن، ولا لحم؛ إلا في أندر الأحوال؛ بل يكتفون تارة بالتلبينة، وتارة بما يقوم مقامها.
فالمتوجه شرعا على من وجبت عليه النفقة؛ أن يدفع إلى من كان في مثل صنعاء ما هو المعروف لديهم مما قدمنا، وإلى من كان في البوادي ما قدمنا مما هو المعروف لديهم، ويعتبر في كل محل بعرف أهله، ولا يحل العدول عنه إلا مع التراضي.
وكذلك الحاكم يجب عليه مراعاة المعروف بحسب الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والأشخاص؛ مع ملاحظة حال الزوج في اليسار والإعسار؛ لأن الله - تعالى - يقول: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} .
وإذا تقرر لك أن الحق عدم جواز تقدير الطعام بمقدار معين؛ فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار معين، بل المعتبر الكفاية بالمعروف.
وقد حكى صاحب " البحر " أنه قد قدر في اليوم أوقيتان دهنا من الموسر، ومن المعسر أوقية، ومن المتوسط أوقية ونصف.
وفي " شرح الإرشاد ": أنه يعتبر في الإدام تقدير القاضي باجتهاده عند التنازع، فيقدر في المد من الإدام ما يكفيه، ويقدر على الموسر ضعف ذلك، وعلى المتوسط بينهما، ويعتبر في اللحم عادة البلد للموسرين والمتوسطين كغيرهم.
قال الرافعي: وقد تغلب الفاكهة في أوقاتها فتجب.
ثم قال: وإنما يجب ما ذكر لزوجته إن لم تواكله حال كونها رشيدة، فإن(2/309)
واكلته وهي رشيدة سقطت نفقتها؛ ثم ذكر كلاما طويلا.
وأقول: المرجع ما هو معروف عند أهل البلد في الإدام جنسا، ونوعا، وقدرا، وكذلك في الفاكهة، لا يحل الإخلال بشيء مما يتعارفون به؛ إن قدر من تجب عليه النفقة على ذلك، وكذلك ما يعتاد من التوسعة في الأعياد ونحوها، ويدخل في ذلك مثل القهوة والسليط (1) .
وبالجملة؛ فقد أرشد الشارع إلى ما هو معروف من الكفاية، وليس بعد هذا الكلام الجامع المفيد شيء من البيان.
وأما ما أجاب به عن الحديث بعض من لم يتمرن بعلم الأدلة، ولم يتدرب بمسالك الاجتهاد؛ من أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم على طريقة الحكم؛ بل على طريقة الإفتاء؛ فهذه غفلة كبيرة، وبعد عن الحقيقة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفتي إلا بما هو حق وشرع.
وقد تقرر أن السنة: أقواله، وأفعاله، وتقريراته؛ لا مجرد أحكامه فقط التي تكون بعد الخصومة وحضور المتخاصمين، ولو كانت السنة ليست إلا الأحكام الكائنة على تلك الصفة؛ لم يبق منها حجة على العباد إلا أقل من عشر معشارها؛ لأن صدور الحكم منه صلى الله عليه وسلم على تلك الصفة؛ إنما وقع في قضايا محصورة؛ كقضية الحضرمي، والزبير، وعبد بن زمعة، والمتلاعنين.
فإن قلت: ما وجه ما يفعله كثير من القضاة في هذه الأزمنة؛ من تقدير
__________
(1) • الزيت الجيد.
وفي " النهاية " (2 / 389) لابن الأثير: " دهن الزيت؛ وهو عند أهل اليمن دهن السمسم ". (ن)(2/310)
النفقة بقدح من الطعام متنوعا؟
قلت: هو من تقدير الكفاية بالمعروف؛ لأن القدح يكفي غالب الأشخاص شهرا؛ لا سيما في مثل صنعاء، فيكون للشخص في كل يوم نصف صاع، يأتي المجموع في ثلاثين يوما خمسة عشر صاعا، وهي قدح ينقص صاعا.
فهذا فيه ملاحظة للمعروف باعتبار الغالب، ولكن إذا انكشف أنه لا يكفي؛ بأن يكون الشخص أكولا؛ فلا يحل العمل بذلك الغالب؛ لأن فيه إهمالا لما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من الكفاية، وهذا ليس فيه كفاية.
فالحاصل: أنه لا بد من ملاحظة أمرين:
أحدهما: الكفاية.
والثاني: كونها بالمعروف.
فإذا عُلم مقدار الكفاية؛ كان المرجع في صفاتها إلى المعروف، وهو الغالب في البلد، وإذا لم يُعلم حال الشخص في مقدار ما يكفيه، أو وقع الاختلاف بينه وبين من يجب عليه إنفاقه؛ كان القول قول من يدعي ما هو المتعارف به.
مثلا؛ إذا قال من له النفقة: لا يكفيه إلا قدحان، وقال من عليه النفقة: قدح؛ كان القول قول من عليه النفقة؛ بكونه مدعيا لما هو الغالب في العادة، وإذا تبين حال من له النفقة، وجب الرجوع إلى ذلك؛ لما عرفناك من أنه لا(2/311)
يحل الوقوف على مقدار معين على طريق القطع والبت.
ثم الظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "؛ أن ذلك غير مختص بمجرد الطعام والشراب؛ بل يعم جميع ما يُحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة؛ بحيث يحصل التضرر بمفارقتها، أو التضجر، أو التكدر، ويختلف ذلك بالأشخاص، والأزمنة، والأمكنة، والأحوال، ويدخل فيه الأدوية ونحوها، وإليه يشير قوله - تعالى -: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ؛ فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقات؛ أن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه، والرزق يشمل ما ذكرناه.
قال في " الانتصار ": ومذهب الشافعي: لا تجب أجرة الحمام وثمن الأدوية وأجرة الطبيب؛ لأن ذلك يراد لحفظ البدن؛ كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار.
وقال في " الغيث ": " الحجة أن الدواء لحفظ الروح؛ فأشبه النفقة ". انتهى.
قلت: هو الحق؛ لدخوله تحت عموم قوله: " ما يكفيك "، وتحت قوله: {رزقهن} ؛ فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ ما، والثانية عامة لأنها مصدر مضاف، وهي من صيغ العموم، واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق.
وبمجموع ما ذكرناه؛ يتقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة؛ هو ما يكفيه بالمعروف، وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له(2/312)
النفقة، وأنه يأخذ ذلك بنفسه حتى يرد ما أورده السائل من خشية السرف في بعض الأحوال؛ بل المراد تسليم ما يكفي على وجه لا سرف فيه؛ بعد تبين مقدار ما يكفي بإخبار المخبرين، أو تجريب المجربين؛ كما سبق، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بالمعروف "؛ أي: لا بغير المعروف، وهو السرف والتقتير.
( [الرشد شرط في المرأة لأخذ النفقة من الزوج بغير علمه] :)
نعم؛ إذا كان الرجل لا يسلم ما يجب عليه من النفقة؛ جاز لنا الإذن لمن له النفقة بأن يأخذ ما يكفيه إذا كان من أهل الرشد؛ لا إذا كان من أهل السرف والتبذير؛ فإنه لا يجوز لنا تمكينه من مال من عليه النفقة؛ لأن الله - تعالى - يقول: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} ؛ بل ورد ما يدل على عدم جواز دفع أموال من لا رشد لهم إليهم؛ كما في قوله - تعالى -: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ؛ فجعل الرشد شرطا لدفع أموالهم؛ فكيف يجوز دفع أموال غيرهم إليهم مع عدم الرشد؟ !
ولكن يجب علينا إذا كان من عليه النفقة متمردا، ومن له النفقة ليس بذي رشد؛ أن نجعل الأخذ إلى ولي من لا رشد له، أو إلى رجل عدل.
وأما ما ورد في بعض التفاسير؛ من أن المراد بالسفهاء في قوله - تعالى -: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} : تمكين المرأة من مال الرجل كما ذكره السائل؛ فذلك إنما هو باعتبار أن غالب نوع النساء خال عن الرشد؛ وإلا فلا شك أن عدم الرشد يوجد في غيرهن كالصبيان، والمجانين، ومن يلتحق بهم من البله، والمعتوهين، وكثير ممن {ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} .(2/313)
ولا نشك - أيضا - أن في النساء من لها من الرشد والكمال ما لا يوجد إلا في أفراد الرجال، ومنهن هند بنت عتبة المذكورة في الحديث؛ فإنها كانت من سروات (1) نساء قريش المشهورات بحسن العقل وكمال الفطنة؛ كما يعرف ذلك من عرف أخبارها، ومحاورتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مبايعته لها.
فالحاصل: أنه لا ملازمة بين القول بوجوب الكفاية في النفقة؛ وبين حضور السرف؛ بل الأمر كما قدمنا، والله أعلم.
( [نفقة المطلقة رجعيا واجبة على الزوج] :)
(والمطلقة رجعيا) ؛ لحديث فاطمة بنت قيس: أنه قال لها - صلى الله عليه وسلم -: " إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة "؛ أخرجه أحمد، والنسائي (2) .
وفي لفظ لأحمد: " فإذا لم يكن عليها رجعة؛ فلا نفقة ولا سكنى "؛ وفي إسناده مجالد بن سعيد.
وقد توبع، وأعل بالوقف، ولكن الرفع زيادة مقبولة إذا صح مخرجها أو حسن.
وقد أثبت لها القرآن الكريم السكنى؛ قال الله - تعالى -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا
__________
(1) • السري: الرئيس، والجمع: سراة، وجمع السراة: سروات؛ كما في " المصباح المنير ". (ن)
(2) وهو حديث صحيح؛ انظر " الصحيحة " (1711) .(2/314)
تخرجوهن من بيوتهن} ، ويستفاد من النهي عن الإخراج وجوب النفقة من السكنى، ويؤيده قوله - تعالى -: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} .
ويدل على وجوب النفقة، قوله - تعالى -: {وللمطلقات متاع بالمعروف} ، وقوله - تعالى - في آخر الآية الأولى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} ؛ وهو الرجعة، فكان ذلك في الرجعية.
( [لا نفقة للبائنة إلا أن تكون حاملا] :)
(لا بائنا) ؛ فالبائنة لا نفقة لها ولا سكنى؛ لحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المطلقة ثلاثا: " لا نفقة ولا سكنى ".
وفي " الصحيحين " وغيرهما عنها، أنها قالت: طلقني زوجي ثلاثا، فلم يجعل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نفقة ولا سكنى.
وقد صح حديثها؛ فلا نزاع.
وقد أخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، أنه قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نفقة لك؛ إلا أن تكوني حاملا ".
وقد أنكر عليها عمر وعائشة هذا الحديث، وقال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت؟ !
وقد قالت فاطمة حين بلغها ذلك: بيني وبينكم كتاب الله؛ قال الله - تعالى -: {فطلقوهن لعدتهن} ، حتى قال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد(2/315)
ذلك أمرا} ؛ فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ !
وقد ذهب إلى عدم وجوب النفقة والسكنى للبائنة: أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأتباعهم، وحكاه في " البحر " عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والإمامية.
وذهب الجمهور إلى أنه لا نفقة لها، ولها السكنى؛ لقوله - تعالى -: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} .
وقد تقدم ما يدل على أنها في الرجعية.
وذهب عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وأهل الكوفة إلى وجوب النفقة والسكنى.
( [لا نفقة للمعتدة من وفاة إلا أن تكون حاملا] :)
(ولا في عدة الوفاة؛ فلا نفقة ولا سكنى؛ إلا أن تكونا حاملتين) ؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك في غير الحامل، ولا سيما بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة، فإذا لم يكن عليها رجعة؛ فلا نفقة ولا سكنى ".
ويؤيده - أيضا - تعليل الآية المتقدمة بقوله - تعالى -: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ؛ وهو الرجعة، ولم يبق في عدة الوفاة ذلك الأمر.(2/316)
ويفيده - أيضا - مفهوم الشرط في قوله - تعالى -: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} ، وهي أيضا تدل على وجوب النفقة للحامل؛ سواء كانت في عدة الرجعي، أو البائن، أو الوفاة.
وكذلك يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: " لا نفقة لك؛ إلا أن تكوني حاملا ".
وقد روى البيهقي، عن جابر يرفعه - في الحامل المتوفى عنها - قال: " لا نفقة لها ".
قال ابن حجر: ورجاله ثقات؛ لكنه قال: المحفوظ وقفه.
فلو صح رفعه لكان نصا في محل النزاع.
وينبغي أن يقيد عدم وجوب السكنى لمن في عدة الوفاة؛ بما تقدم في وجوب اعتدادها في البيت الذي بلغها موت زوجها وهي فيه؛ فإن ذلك يفيد أنها إذا كانت في بيت الزوج بقيت فيه حتى تنقضي العدة، ويكون ذلك جمعا بين الأدلة؛ من باب تقييد المطلق أو تخصيص العام؛ فلا إشكال.
قال في " المسوى ":
" اختلف أهل العلم في السكنى للمعتدة عن الوفاة؛ فقال أبو حنيفة: لا سكنى لها؛ بل تعتد حيث شاءت، وقال مالك: لها السكنى، وللشافعي قولان كالمذهبين، ومنشأ ذلك تردده في تأويل حديث فريعة، فرأى مرة أن إذنه لها في الخروج حكم، وقوله: " امكثي في بيتك " استحباب، ورأى مرة أخرى أن إذنه صار منسوخا بقوله آخرا: " امكثي في بيتك ".(2/317)
أقول: يحتمل أن يكون إذنه لها من حيث إنها ذكرت أن زوجها لم يتركها في مسكن يملكه ". انتهى.
أقول: الحق؛ أن المتوفى عنها زوجها لا تستحق - في عدة الوفاة - لا نفقة ولا سكنى؛ سواء كانت حاملا أو حائلا؛ لزوال سبب النفقة بالموت، واختصاص آية السكنى بالمطلقة رجعيا، واختصاص آية إنفاق الحامل بالمطلقة كما تقدم.
فإذا مات وهي في بيته؛ اعتدت فيه؛ لا لأن لها السكنى؛ بل لوجوب الاعتداد عليها في البيت الذي مات وهي فيه.
مع أن في حديث الفريعة؛ أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن زوجها لم يتركها في منزل يملكه، فأمرها أن تعتد في ذلك المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه، وهو غير مملوك له.
وبهذا يتضح أن ذلك لا يستلزم وجوب السكنى من تركة الميت؛ بل هو أمر تعبد الله به المرأة، فإن كان المنزل ملكها فذاك، وإن كان ملك غيرها وجب عليها تسليم الأجرة مع الطلب؛ سواء كان ملكا لورثة الزوج أو لغيرهم.
وعلى هذا يحمل قوله - تعالى -: {غير إخراج} ، وقوله: {ولا يخرجن} ، وقوله: {ولا تخرجوهن} .
فتقرر بمجموع ما ذكر؛ أن المتوفى عنها مطلقا كالمطلقة بائنا - إذا لم تكن المطلقة بائنا حاملا - في عدم وجوب النفقة والسكنى، فإن كانت المطلقة بائنا حاملا فلها النفقة ولا سكنى لها.(2/318)
وأما المطلقة الرجعية؛ فلها النفقة والسكنى؛ سواء كانت حاملا أو حائلا.
وأما المطلقة قبل الدخول؛ فلا عدة عليها، فالنفقة ساقطة بلا ريب، وكذلك السكنى والمتعة المذكورة لها في القرآن؛ هي عوض عن المهر.
والملاعنة لا نفقة لها ولا سكنى؛ لأنها إن كانت كالمطلقة بائنا كانت مثلها في ذلك، وإن كانت كالمتوفى عنها زوجها فكذلك.
ولا ريب أن فرقتها أشد من فرقة المطلقة بائنا؛ لأن هذه يجوز نكاحها في حال من الأحوال؛ بخلاف تلك.
( [نفقة الوالد على ولده واجبة والعكس] :)
(وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر) ؛ لحديث هند بنت عتبة المتقدم، ويؤيده ما تقدم في الفطرة من وجوبها على الرجل ومن يمون.
وأما العكس؛ فلأن النفقة هي أقل ما يفيده قوله - تعالى -: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} ، وقوله: {وبالوالدين إحسانا} .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومالك لأبيك "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن الجارود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وحديث: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه؛ فكلوا من أموالهم "، أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم.
ويؤيد ذلك حديث: من أبر يا رسول الله؟ ! قال: " أمك "، قال: ثم(2/319)
من؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أباك "؛ وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي هريرة.
قال في " المسوى ":
" تجب على الابن نفقة الأبوين إذا كان موسرا وهما معسران؛ قال - تعالى -: {وبالوالدين إحسانا} ، وقال: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} .
ومن المعلوم؛ أنه ليس من الإحسان، ولا من المصاحبة بالمعروف؛ أن يموتا جوعا والولد في أرغد عيش.
قلت: على هذا أهل العلم؛ إلا أن الشافعي قال: إن كان واحد منهما قويا سويا يمكنه تحصيل قوته؛ لا تجب نفقته وإن كان معسرا.
وأوجب سائر الفقهاء نفقتهم عند الإعسار؛ ولم يشترطوا الزمانة ".
وفي " إعلام الموقعين ":
" وسأله صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " ثم أمك "، قال: ثم من؟ قال: " ثم أبوك "؛ متفق عليه.
قال الإمام أحمد: الطاعة للأب وللأم ثلاثة أرباع البر ".
( [نفقة المملوك واجبة على سيده] :)
(وعلى السيد لمن يملكه) : لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ".(2/320)
وحديث: " فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي ذر.
قلت: وذلك أنه مشغول بخدمته عن الاكتساب، فوجب أن يكون كفاية عليه.
وعليه أهل العلم.
( [النفقة على الأقرباء مستحبة لصلة الرحم] :)
(ولا تجب على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم) ؛ لعدم ورود دليل يخص ذلك؛ بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة، والرحم المحتاج إلى نفقة أحق الأرحام بالصلة.
وقد قال - تعالى -: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} ، {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} .
وعند أبي داود: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أبر؟ قال: " أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ومولاك الذي يلي ذلك، حق واجب، ورحم موصولة " (1) .
وقال: " ثم الأقرب فالأقرب ".
وفي المسألة مذاهب مختلفة؛ قد بسطها صاحب " الهدي " وغيره.
__________
(1) حديث ضعيف؛ انظر " إرواء الغليل " (7 / 230 / رقم 2163) .(2/321)
وأما ما قيل من أن المراد بمثل هذه الأدلة صلة الرحم؛ فقد أجيب عن ذلك بأن الله - سبحانه - سماه حقا.
على أنه لو سُلم؛ لم يكن قادحا في الاستدلال؛ فإن من ترك قريبه بغير نفقة ولا كسوة، مع حاجته إليهما؛ لم يكن واصلا لرحمه - لا لغة، ولا عرفا، ولا شرعا -.
ومن أنكر هذا فليخبرنا: ما هي الصلة التي تختص بها الرحم لأجل كونه رحما، ويمتاز بها عن الأجنبي؟ فإنه لا يمكنه أن يعين مسقطا للنفقة؛ إلا وكان أولى بإسقاط ما عداها.
فالحاصل: أن من وجد ما يكفيه، وكان له زيادة يستغني عنها؛ وجب عليه أن ينفقها على المحاويج من قرابته، ويقدم الأقرب فالأقرب كما دلت عليه الأدلة السالفة، وهذا هو معنى الغنى - أي: الاستغناء عن فضلة تفضل على الكفاية -، لا ما ذكره الفقهاء من تلك التقديرات التي لا ترجع إلى دليل عقل ولا نقل.
( [الكسوة واجبة وكذا السكن مع النفقة] :)
(ومن وجبت نفقته وجبت كسوته وسكناه) ؛ لما يستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها.(2/322)
(8 - باب الرضاع)
( [بكم رضعة يثبت حكم الرضاع] :)
(إنما يثبت حكمه بخمس رضعات) ؛ لحديث عائشة عند مسلم، وغيره: أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نُسخ بخمس رضعات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهن فيما يُقرأ من القرآن.
وللحديث طرق ثابتة في " الصحيح ".
ولا يخالفه حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحرم المصة ولا المصتان "؛ أخرجه أحمد، ومسلم، وأهل " السنن "، وكذلك حديث أم الفضل عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، والمصة والمصتان "، وفي لفظ: " لا تحرم الإملاجة (1) ولا الإملاجتان "، وأخرج نحوه أحمد، والنسائي، والترمذي من حديث عبد الله بن الزبير:
لأن غاية ما في هذه الأحاديث: أن المصة والمصتين، والرضعة والرضعتين، والإملاجة والإملاجتين؛ لا يحرمن.
وهذا هو معنى الأحاديث منطوقا، وهو لا يخالف حديث الخمس
__________
(1) هي الإرضاعة الواحدة؛ مثل المصة.
وفي " القاموس ": " ملج الصبي أمه - كنصر وسمع -: تناول ثديها بأدنى فمه ". (ش)(2/323)
الرضعات؛ لأنها تدل على أن ما دون الخمس لا يحرم.
وأما معنى هذه الأحاديث مفهوما - وهو أنه يحرم ما زاد على الرضعة والرضعتين -؛ فمدفوع بحديث الخمس، وهي مشتملة على زيادة، فوجب قبولها والعمل بها، ولا سيما عند قول من يقول: إن بناء الفعل على المنكر يفيد التخصيص.
والرضعة: هي أن يأخذ الصبي الثدي فيمتص منه، ثم يستمر على ذلك؛ حتى يتركه باختياره لغير عارض.
وقد ذهب إلى اعتبار الخمس: ابن مسعود، وعائشة، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن حزم، وجماعة من أهل العلم.
وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب.
وذهب الجمهور إلى أن الرضاع الواصل إلى الجوف يقتضي التحريم، وإن قل.
قال في " المسوى ":
" ذهب الشافعي إلى أنه لا يثبت حكم الرضاع بأقل من خمس رضعات متفرقات، وذهب أكثر الفقهاء - منهم مالك، وأبو حنيفة - إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم، وقال بعضهم: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحرم المصة ولا المصتان " (1) .
__________
(1) • " المسند " (6 / 31، 96، 216، 247، 339، 340) . (ن)(2/324)
ويحكى عن بعضهم أن التحريم لا يقع بأقل من عشر رضعات، وهو قول شاذ.
والظاهر أن عائشة وحفصة إنما كانتا تذهبان إلى عشر رضعات؛ تورعا وتشفيا للخاطر؛ لا من جهة حكم الشرع؛ كما ذكرنا في لبن الفحل.
قال البغوي: " قول عائشة: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن: أرادت به قرب عهد النسخ من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى كان بعض من لم يبلغه النسخ يقرأ على الرسم الأول؛ لأن النسخ لا يتصور بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويجوز بقاء الحكم مع نسخ التلاوة؛ كالرجم في الزنا حكمه باق مع ارتفاع التلاوة في القرآن، أو أن الحكم يثبت بأخبار الآحاد؛ ويجب العمل به، والقرآن لا يثبت بأخبار الآحاد؛ فلم يجز كتبه بين الدفتين ". انتهى.
وتمامه في كتابنا " إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ "، فليرجع إليه.
أقول: اعلم أن الأحاديث قد اختلفت في هذه المسألة اختلافا كثيرا، وكذلك اختلفت المذاهب، ونحن نعرفك بما هو الحق الذي يجتمع فيه جميع الأدلة فنقول:
أما ما ورد من الرضاع مطلقا من دون تقييد بعدد؛ فالأحاديث الواردة بذكر العدد تفيد تقييده؛ كما هو شأن المطلق والمقيد.
وقد أفاد حديث: " لا تحرم المصة والمصتان، والإملاجة والإملاجتان "،(2/325)
وحديث: " لا تحرم الرضعة الواحدة ": أن الرضعة والرضعتين لا تحرمان، فلو لم يرد إلا هذا؛ لكانت الثلاث مقتضية للتحريم، ولكنه ثبت في " الصحيح " عن عائشة، أنها قالت: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم قالت: خمس رضعات معلومات يحرمن، وصرحت بأن العشر منسوخة بالخمس، وصرحت أيضا بأنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، وليس من شرط القرآن تواتر النقل على ما هو الحق.
ولو سلم ذلك؛ فالقراءة الآحادية منزّلة منزلة أخبار الآحاد.
ولكن ههنا إشكال، وهو أن حديث: " لا تحرم المصة والمصتان "؛ دل بمفهوم العدد على أن الثلاث والأربع يثبت بهما التحريم، وحديث الخمس دل بمفهومه على أنهما لا يحرمان.
وأقول: قد تقرر في علم المعاني والبيان: أن الإخبار بالفعل المضارع يفيد الحصر، وصرح بذلك الزمخشري في " الكشاف "، ولا سيما إذا بني الفعل على المنكر؛ كما هو مقرر في مواطنه، فيكون قد انضم إلى مفهوم العدد في الخمس مفهوم الحصر، فلا يثبت التحريم بدونها.
ويؤيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ حديث سهلة بنت سهيل: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه " (1) ، وهذا التركيب في قوة: " إن ترضعيه خمسا تحرمي عليه "، فانضم إلى مفهومي العدد والحصر مفهوم الشرط، وكما تصلح هذه الأدلة لتقييد مطلق القرآن؛ تصلح أيضا لتقييد
__________
(1) • " المسند " (6 / 201، 271) . (ن)
قلت: وذكر الخمس رضعات خارج عن زاوية " الصحيحين "! والله أعلم.(2/326)
حديث: " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم "، وحديث: " الرضاعة من المجاعة " (1) ؛ هذا على فرض أن الرضعة والرضعتين تنبت اللحم، فيكون المراد أن المقتضي للتحريم من الرضاع الذي ينبت اللحم، والذي في زمن المجاعة هو ما كان على صفة مخصوصة؛ وهي خمس رضعات.
هذا تقرير الاستدلال على وجه تجتمع فيه الأدلة.
وأما الجواب عن الوجوه التي ذكروها في دفع ما ذكرناه من الأدلة؛ فقد بسطه الماتن - رحمه الله - في " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام "، فمن شاء الاطلاع على ذلك؛ فليراجعه.
( [لا يثبت حكم الرضاع إلا مع وجود اللبن] :)
(مع تيقن وجود اللبن) ؛ لأنه سبب ثبوت حكم الرضاع، فلو لم يكن وجوده معلوما، وارتضاع الصبي منه معلوما؛ لم يكن لإثبات حكم الرضاع وجه مسوغ.
قال في " الحجة البالغة ":
" يعتبر في الإرضاع شيئان:
أحدهما: القدر الذي يتحقق به هذا المعنى، فكان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات.
والثاني: أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل، وتشبّح صورة الولد؛
__________
(1) • " المسند " (6 / 174) . (ن)(2/327)
وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبّح وقيام الهيكل؛ كالشاب يأكل الخبز ". انتهى.
( [لا رضاع إلا ما كان في حولين] :)
(وكون الرضيع قبل الفطام) ؛ لحديث أم سلمة عند الترمذي - وصححه -، والحاكم - وصححه أيضا -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي (1) ، وكان قبل الفطام ".
وأخرج سعيد بن منصور، والدارقطني، والبيهقي، وابن عدي من حديث ابن عباس؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا رضاع إلا ما كان في الحولين ".
وقد صحح البيهقي وقفه، ورجحه ابن عدي، وابن كثير (2) .
وأخرج أبو داود الطيالسي، من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام ".
وقد قال المنذري: إنه لا يثبت.
__________
(1) • أي: في زمن الرضاع، والحديث في " الترمذي " (2 / 201) ؛ وسنده صحيح على شرطهما، ولا مقال فيه.
وقد تكلم في معنى الحديث في " الزاد " (4 / 255) . (ن)
(2) • وخالفهم ابن التركماني في " الجوهر النقي "، فرجح المرفوع؛ لأن الرفع زيادة، وقد جاء بها ثقة؛ وهو الهيثم بن جميل، فزيادته مقبولة؛ راجع (7 / 462) منه.
ولذلك صرح في " زاد المعاد " (4 / 241) بأن إسناده صحيح. (ن)(2/328)
وفي " الصحيحين " وغيرهما (1) من حديث عائشة، قالت: لما دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل، فقال: " من هذا؟ " قلت: أخي من الرضاعة، قال: " يا عائشة {انظرن من إخوانكن؛ فإنما الرضاعة من المجاعة ".
( [يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب] :)
(ويحرم به ما يحرم بالنسب) ، قد تقدم الاستدلال عليه فيمن يحرم نكاحه - من (كتاب النكاح) -؛ من أم، وأخت، وغيرهما.
( [قول المرضعة مقبول] :)
(ويقبل قول المرضعة) ؛ لما أخرجه البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما (2) ، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فأعرض عني، قال: فتنحيت، فذكرت ذلك له، فقال: " وكيف [وقد قيل؟} ] (3) وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ {"، فنهاه.
وفي لفظ: " دعها عنك "، وهو في " الصحيح ".
وفي لفظ آخر: " كيف وقد قيل؟} "، ففارقها عقبة.
__________
(1) • ك " المسند " (6 / 94، 138، 174، 214) . (ن)
(2) • زاد البخاري: فقال عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ن)
(3) • زيادة في رواية للبخاري في (العلم) (1 / 30 - 31) .
واللفظ الأول في (النكاح) من " البخاري " (6 / 126) . (ن)(2/329)
وقد ذهب إلى ذلك: عثمان، وابن عباس، والزهري، والحسن، وإسحاق، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وروي عن مالك.
وأما دفع الحجة بأنها شهدت على تقرير فعلها؛ فهذه قاعدة فقهية لم يرد بها كتاب الله، ولا سنة رسوله.
وهذا الحديث أول حجة يبطلها؛ فكيف يكون الأمر بالعكس؟ !
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
( [حكم إرضاع الكبير لتجويز النظر] :)
(ويجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر) ؛ لحديث زينب بنت أم سلمة، قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك هذا الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي} فقالت عائشة: ما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟ {وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله} إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه حتى يدخل عليك "؛ أخرجه مسلم، وغيره.
وقد أخرج نحوه البخاري من حديث عائشة (1) أيضا.
وقد روى هذا الحديث من الصحابة: أمهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل (2) ، وزينب بنت أم سلمة.
__________
(1) • " المسند " (6 / 39، 255، 269، 271) . (ن)
(2) • " المسند " (6 / 356) . (ن)(2/330)
ورواه من التابعين جماعة كثيرة، ثم رواه عنهم الجمع الجم.
وقد ذهب إلى ذلك: علي، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وابن علية، وداود الظاهري، وابن حزم؛ وهو الحق.
وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك.
قال ابن القيم:
" أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى؛ منهم عائشة، ولم يأخذ به أكثر أهل العلم، وقدموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرم بما قبل الفطام وبالصغر وبالحولين لوجوه:
أحدها: كثرتها؛ وانفراد حديث سالم.
الثاني: أن جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة - في شق المنع.
الثالث: أنه أحوط.
الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحما، ولا ينشز عظما، فلا يحصل به البعضية التي هي سبب التحريم.
الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته.
السادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها رجل قاعد،(2/331)
فاشتد ذلك عليه وغضب، فقالت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: " انظرن من إخوانكن من الرضاعة؛ فإنما الرضاعة من المجاعة "؛ متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وفي قصة سالم مسلك؛ وهو أن هذا كان موضع حاجة؛ فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بد، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك؛ فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد.
ولعل هذا المسلك أقوى المسالك، وإليه كان شيخنا يجنح، والله تعالى أعلم ". انتهى.
أقول: الحاصل: أن الحديث المتقدم صحيح، وقد رواه الجم الغفير عن الجم الغفير؛ خلفا عن سلف، ولم يقدح فيه من رجال هذا الشأن أحد، وغاية ما قاله من يخالفه؛ أنه ربما كان منسوخا، ويجاب بأنه لو كان منسوخا لوقع الاحتجاج على عائشة بذلك، ولم ينقل أنه قال قائل به؛ مع اشتهار الخلاف بين الصحابة.
وأما الأحاديث الواردة بأنه لا رضاع إلا في الحولين وقبل الفطام؛ فمع كونها فيها مقال؛ لا معارضة بينها وبين رضاع سالم؛ لأنها عامة وهذا خاص، والخاص مقدم على العام، ولكنه يختص بمن عرض له من الحاجة إلى إرضاع الكبير ما عرض لأبي حذيفة وزوجته سهلة؛ فإن سالما لما كان لهما كالابن، وكان في البيت الذي هما فيه، وفي الاحتجاب مشقة عليهما؛ رخص صلى الله عليه وسلم في الرضاع على تلك الصفة.(2/332)
فيكون رخصة لمن كان كذلك، وهذا لا محيص عنه.
قال في " المسوى ":
" يجب إحياء المولود بالإرضاع حولين كاملين؛ إلا إذا اجتمع رأي الوالدين عن تشاور منهما؛ على أن الفطام لا يضره؛ فحينئذ يجوز الفطام قبل الحولين، والمرضع يجوز أن تكون الوالدة أو الظئر المسترضعة، فإن لم تتيسر المسترضعة، أو لم يقدر الوالد على استئجارها؛ تعينت الوالدة؛ فإن أرضعت الوالدة؛ فليس لها إلا النفقة والكسوة بالمعروف مما كان بسبب الزوجية، وإن أرضعت الظئر فلها أجرها؛ قال - تعالى -: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله} .
قلت: الظاهر: أن الوالدات تعم المطلقات وغيرها، وقيل: تختص بالمطلقات؛ لأن سياق الآية في قصة المطلقات.
أقول: وحينئذ يؤخذ حكم غير المطلقات بالأولى؛ وقوله: {على المولود له} : يدل على أن الوالدة ما دامت زوجة أو معتدة لا تستحق الأجر، وعليه أبو حنيفة.
وقوله: {على الوارث مثل ذلك} : المراد منه وارث الأب، وهو(2/333)
الصبي؛ أي: مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب.
قوله: {فإن أرادا فصالا} ؛ يعني: قبل الحولين؛ قوله: {أن تسترضعوا} ؛ أي: المراضع؛ {أولادكم} ؛ أي: تأخذوا مراضع لأولادكم.
قوله: {ما آتيتم} ؛ أي: ما أردتم إيتاءه؛ كقوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة} ". انتهى.(2/334)
(9 - باب الحضانة)
( [الأولى بحضانة الطفل أمه؛ ما لم تنكح] :)
(الأولى بالطفل أمه ما لم تنكح) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني؟ فقال: " أنت أحق به ما لم تنكحي (1) "؛ أخرجه أحمد (2) ، وأبو داود، والبيهقي، والحاكم - وصححه -.
وقد وقع الإجماع على أن الأم أولى بالطفل من الأب.
وحكى ابن المنذر الإجماع على أن حقها يبطل بالنكاح، وقد روي عن عثمان أنه لا يبطل بالنكاح؛ وإليه ذهب الحسن البصري، وابن حزم، واحتجوا ببقاء ابن أم سلمة في كفالتها بعد أن تزوجت بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويجاب عن ذلك؛ بأن مجرد البقاء مع عدم المنازع لا يُحتج به؛ لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها.
__________
(1) • اختلف فيه؛ هل المراد مجرد العقد، أو العقد مع الدخول؟
فذهب إلى الأول: أبو حنيفة والشافعي، وإلى الثاني: مالك.
ومال ابن القيم إلى الأول، وذكر أنه قول الجمهور؛ فراجعه (4 / 186) . (ن)
(2) • رقم (677) وسنده عندهم حسن؛ وقد ذهب إلى تقويته ابن القيم (4 / 175) . (ن)(2/335)
واحتجوا أيضا بما سيأتي في حديث ابنة حمزة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن الحق لخالتها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وقد قال: " الخالة بمنزلة الأم ".
ويجاب عن هذا؛ بأنه لا يدفع النص الوارد في الأم، ويمكن أن يقال: إن هذا يكون دليلا على ما ذهبت إليه الحنفية؛ من أن النكاح إذا كان لمن هو رحم للصغير (1) ؛ فلا يبطل به الحق، ويكون حديث ابنة حمزة مقيدا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لم تنكحي ".
(ثم الخالة) أولى بعد الأم ممن عداها؛ لحديث البراء بن عازب في " الصحيحين " وغيرهما: أن ابنة حمزة اختصم فيها (2) علي وجعفر وزيد، فقال علي: أنا أحق بها؛ هي ابنة عمي {وقال جعفر: بنت عمي وخالتها؛ تحتي} وقال زيد: ابنة أخي! فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: " الخالة بمنزلة الأم " (3) ؛ والمراد بقول زيد: ابنة أخي؛ أن حمزة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث: أنه قد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن، فمقتضى التشبيه أن تكون الخالة أقدم من غيرها؛ من غير فرق بين الأب وغيره، وقد قيل: إن الأب أقدم منها إجماعا، وليس ذلك بصحيح، والخلاف معروف، والحديث يحج من خالفه.
__________
(1) • أي: المحتضن. (ن)
(2) • أي: في حضانتها. (ن)
(3) • تهور ابن حزم؛ فطعن في صحة هذه القصة بجميع طرقها، وقد رد عليه ذلك ابن القيم؛ فراجعه (4 / 202 - 203) . (ن)(2/336)
قال في " المسوى ":
" إذا فارق الرجل امرأته وبينهما ولد صغير؛ فالأم وأم الأم أولى بالحضانة من الأب: لرواية مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت القاسم ابن محمد يقول: كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار، فولدت له عاصم بن عمر، ثم إنه فارقها، فجاء عمر بن الخطاب قباء، فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام، فنازعته إياه، حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر: خل بينها وبينه، قال: فما راجعه عمر الكلام " (1) .
( [الأولى بحضانة الطفل بعد الأم الأب] :)
(ثم الأب) ؛ وإن لم يرد بذلك دليل يخصه؛ لكنه قد استفيد من مثل قوله صلى الله عليه وسلم للأم: " أنت أحق به ما لم تنكحي "؛ فإن هذا يدل على ثبوت أصل الحق للأب بعد الأم، ومن هو بمنزلتها؛ وهي الخالة، وكذلك إثبات التخيير بينه وبين الأم في الكفالة؛ فإنه يفيد إثبات حق له في الجملة.
وقال في " المسوى ": " روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيّر غلاما بين أبيه وأمه، ثم طبق بين الحديث والأثر بأن المولود إذا كان دون سبع سنين؛ فالأم أولى به، وإذا بلغ سبع سنين وعقل عقل مثله؛ خُيّر بين الأبوين؛ سواء كان ذكرا أو أنثى، فأيهما اختاره يكون عنده.
__________
(1) • قال ابن عبد البر: " هذا حديث مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة؛ تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل "؛ نقله في " الزاد " (4 / 176) ، ثم ساق الروايات في ذلك؛ فلتراجع. (ن)(2/337)
وأخذ هذا النوع من التطبيق؛ من قضاء علي - رضي الله تعالى عنه -؛ فإنه خيّر صبيا - كان ابن سبع سنين، أو ثمان سنين - بين الأم والعم، وقال لأخيه الصغير منه: وهذا أيضا لو قد بلغ مبلغ هذا لخيرته.
وقال أبو حنيفة: الأم أحق بالغلام حتى يأكل ويلبس وحده، وبالجارية حتى تحيض، ثم بعد ذلك الأب أحق بهما ".
أقول: الحق أن الحضانة للأم، ثم للخالة؛ للدليل الذي قدمنا، ولا حضانة للأب ولا لغيره من الرجال والنساء؛ إلا بعد بلوغ الصبي سن التمييز، فإن بلغ إليه؛ ثبت تخييره بين الأم والأب (1) ، وإذا عُدما كان أمره إلى أوليائه إن وجدوا؛ وإلا كان إلى قرابته الذين ليسوا بأولياء، ويقدم الأقرب فالأقرب.
ولكن ليس هذا الدليل اقتضى ذلك؛ بل لأن حضانة الصبي وكفالة أمره لا بد منه، والقرابة أولى به من الأجانب؛ بلا ريب، وبعض القرابة أولى من بعض، فأحقهم به - بعد عدم من وردت النصوص بثبوت حضانته - هو الأولياء؛ لكون ولاية النظر في مصالحه إليهم، ومع عدمهم تكون حضانته إلى الأقرب فالأقرب.
هذا ما يقتضيه النظر الصحيح، ومن رام الوقوف على جميع العلل التي علل بها المختلفون في التقديم والتأخير في باب الحضانة؛ فعليه ب " الهدي " لابن القيم، ولكنه لم يترجح لدي إلا ما ذكرته ههنا، وذكره الماتن.
__________
(1) • قلت: وينبغي أن لا يكون هذا على إطلاقه؛ بل يقيد بما إذا حصلت به مصلحة الولد؛ وإلا فلا يلتفت إلى اختيار الصبي؛ لأنه ضعيف العقل؛ وتفصيل هذا في " الزاد " (4 / 198) . (ن)(2/338)
وقد يقال: إن حديث: " أنت أحق به ما لم تنكحي "؛ يفيد ثبوت أصل الحق في الحضانة للأب بعد الأم، ومن هو بمنزلتها؛ وهي الخالة، فتكون أهل الحضانة الأم، ثم الخالة، ثم الأب.
( [الأولى بالطفل قرابته إذا انعدمت الأم والخالة والأب] :)
(ثم يعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحا) ؛ لأنه إذا عدمت الأم والخالة والأب؛ فالصبي محتاج إلى من يحضنه بالضرورة؛ والقرابة أشفق به، فيعين الحاكم من يقوم به منهم ممن يرى فيه صلاحا للصبي.
وقد أخرج عبد الرزاق، عن عكرمة، قال: إن امرأة عمر بن الخطاب خاصمته إلى أبي بكر في ولد عليها، فقال أبو بكر: هي أعطف، وألطف، وأرحم، وأحنى، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج.
فهذه الأوصاف تفيد أن أبا بكر جعل العلة: العطف، واللطف، والرحمة، والحنو.
( [يخير الصبي بين أبيه وأمه بعد ما يبلغ سن الاستقلال] :)
(وبعد بلوغ سن الاستقلال يخير الصبي بين أبيه وأمه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه.
__________
(1) • وهو كما قال الترمذي (2 / 286) ؛ فإن سنده متصل، ورجاله ثقات كلهم.
وثبته في " الزاد " (4 / 194) . (ن)(2/339)
وفي لفظ (1) : أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عتبة، وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استهما عليه "، قال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا أبوك وهذه أمك؛ فخذ بيد أيهما شئت "، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به.
أخرجه أهل " السنن "، وابن أبي شيبة؛ وصححه الترمذي، وابن حبان، وابن القطان.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني من حديث عبد الحميد بن جعفر الأنصاري (2) عن جده: أن جده أسلم - وأبت امرأته أن تسلم، فجاء بابن صغير له لم يبلغ، قال: فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب ههنا والأم ههنا، ثم خيره؛ وقال: " اللهم اهده "؛ فذهب إلى أبيه.
قال ابن القيم:
" الحضانة قضي فيها خمس قضايا:
إحداها: قضى بابنة حمزة لخالتها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وقال: " الخالة بمنزلة الأم "، فتضمن هذا القضاء: أن الخالة قائمة مقام الأم في الاستحقاق، وأن تزوجها لا يسقط حضانتها إذا كانت جارية.
__________
(1) • هذا اللفظ لأبي داود (1 / 357) وغيره، وسنده صحيح أيضا.
وصححه الحاكم (4 / 97) ؛ ووافقه الذهبي. (ن)
(2) • هو مع كونه من رجال مسلم؛ ففي حفظه شيء، ولهذا ضعف ابن القيم هذا الحديث، وحكى تضعيفه عن المنذري وغيره؛ فراجع " الزاد " (4 / 189 - 190) . (ن)(2/340)
القضية الثانية: أن رجلا جاء بابن له صغير لم يبلغ، فاختصم فيه هو وأمه، ولم يسلم، فأجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم الأب ههنا، وأجلس الأم ههنا، ثم خير الصبي وقال: " اللهم {اهده "، فذهب إلى أمه؛ ذكره أحمد.
القضية الثالثة: أن رافع بن سنان أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ابنتي فطيم - أو شبيهه -، وقال رافع: ابنتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقعد ناحية " وقال لها: " اقعدي ناحية "، فأقعد الصبية بينهما، ثم قال: " ادعواها "، فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم} اهدها "، فمالت إلى أبيها؛ فأخذها؛ ذكره أحمد.
القضية الرابعة: جاءته امرأة فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني ... الخ؛ ذكره أبو داود.
القضية الخامسة: جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء ... الخ؛ ذكره أبو داود.
فعلى هذه القضايا الخمس؛ تدور الحضانة؛ وبالله التوفيق ".
(فإن لم يوجد) من له في ذلك حق بنص الشرع (أكفله من كان له في كفالته مصلحة) ؛ لكونه محتاجا إلى ذلك، فكانت المصلحة معتبرة في بدنه كما اعتبرت في ماله.
وقد دلت على ذلك الأدلة الواردة في أموال اليتامى من الكتاب والسنة.(2/341)
(الكتاب العاشر: كتاب البيوع)(2/343)
(10 - كتاب البيوع)
(1 - أنواع البيوع المحرمة)
( [المعتبر في صحيح البيع: رضا الطرفين] :)
(المعتبر فيه مجرد التراضي) ، وحقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى.
والمراد هنا: أمارته كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به.
وعلى هذا أهل العلم.
(ولو بإشارة) ، وينعقد بالكناية (من قادر على النطق) ؛ لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعت منك، وبعتك؛ فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله - تعالى -: {تجارة عن تراض} ، فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط.
ولا بد من الدلالة عليه بلفظ، أو إشارة، أو كناية بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة كان، وبأي إشارة مفيدة حصل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، فإذا وجدت طيبة(2/345)
النفس مع التراضي؛ فلا يعتبر غير ذلك.
أقول: هذا غاية ما يستفاد من الأدلة؛ أعني: أن المعتبر في البيع هو مجرد التراضي، والمشعر بالرضا لا ينحصر فيما ذكروه من الألفاظ المخصوصة المقيدة بقيود، بل ما أشعر بالرضا ولو بكناية، أو إشارة، أو معاطاة من دون لفظ ولا ما في معناه؛ فإن البيع عند وجود المشعر بمطلق الرضا بيع صحيح، وعلى مدعي الاختصاص الدليل.
ولا ينفعه في المقام مثل حديث: " إذا بعت "، وحكاية مبايعته - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي، وما أشبه ذلك؛ لأنا لا نمنع من إشعار لفظ: (بعت) ونحوه بالرضا، وإنما نمنع دعوى التخصيص ببعض الأفراد التي لا تستفاد إلا من صيغ مخصوصة، ومن ههنا يلوح لك أن قولهم: (لا ربا في المعاطاة) باطل، وهكذا أخواته.
والحاصل: أنا لم نجد في الكتاب والسنة بعد ذكر مطلق البيع إلا قيد الرضا، والأمور المشعرة به أعم من الألفاظ التي اصطلح عليها الفقهاء، فيندرج تحت الرضا كل ما دل عليه؛ ولو إشارة من قادر، وكتابة من حاضر (1) .
( [أنواع البيوع المحرمة] :)
(1 -[بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام] :)
(ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) ؛ لحديث جابر في
__________
(1) • وقد أشبع القول في هذه المسألة ابن تيمية في " الفتاوى " (3 / 267 - 274 - خاتمة " إبطال التحليل ") . (ن)(2/346)
" الصحيحين " وغيرهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ".
(2 -[بيع الكلب والسنور] :)
(والكلب والسنور) ؛ لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي مسعود؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب.
وفيهما (1) أيضا من حديث أبي جحيفة نحوه.
وفي " صحيح مسلم " (2) ، وغيره من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور.
وأخرج النسائي بإسناد رجاله ثقات؛ قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب؛ إلا كلب صيد (3) .
__________
(1) لم يخرجه مسلم من حديث أبي جحيفة؛ بل حديث أبي جحيفة من أفراد البخاري؛ وانظر " المسند الجامع " (15 / 713) .
(2) • و " المسند " (3 / 286، 297، 339) . (ن)
(3) • قلت: أخرجه النسائي (2 / 231) ، والبيهقي (6 / 6) ؛ من طريق أبي الزبير، عن جابر ... مرفوعا به، وهو على شرط مسلم، لكن أبو الزبير مدلس، وقد عنعنه؛ وقد قال النسائي عقبه: " هذا منكر ".
وأعله البيهقي بأن قوله: " إلا كلب صيد " لم يرد في الأحاديث الصحيحة، قال: " وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح؛ في النهي عن الاقتناء ".
ثم الحديث رواه أحمد أيضا (3 / 317) .
وله شاهد من حديث أبي هريرة؛ رواه الترمذي (2 / 251) ، وقال: " لا يصح من هذا الوجه ".
قلت: رواه البيهقي (6 / 6) من وجه آخر، عن أبي هريرة، وضعفه.
وله شاهد آخر من حديث ابن عمر، وسنده ضعيف أيضا، كما قال الحافظ.
فلعل هذا الاستثناء يقوى بهذه الطرق والشواهد، ثم خرجته في " الصحيحة " (2971) . (ن)(2/347)
قال في " المسوى ":
" اختلفوا في بيع الكلب؛ فقال الشافعي: حرام، وقال أبو حنيفة: جائز، ويضمن متلفه ".
(3 -[بيع الدم] :)
(والدم (1)) ؛ لحديث أبي جحيفة في " الصحيحين "، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم ثمن الدم.
4 - ( [عسب الفحل] :)
(وعسب الفحل) : وهو ماء الفحل؛ يكريه صاحبه؛ لينزي به:
لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل.
ومثله في " صحيح مسلم " من حديث جابر.
وفي الباب أحاديث.
ورخص (2) في الكرامة؛ وهي ما يعطى على عسب الفحل؛ من غير شرط شيء عليه؛ كذا في " الحجة البالغة ".
__________
(1) • وهو حرام إجماعا - أعني: بيع الدم، وأخذ ثمنه -: " الفتح " (5 / 338) . (ن)
قلت: انظر التعليق (1) من الصفحة السابقة.
(2) • يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه حديث؛ رواه الترمذي (2 / 256) - وحسنه -؛ وسنده صحيح على شرط البخاري. (ن)(2/348)
(5 -[بيع المحرم] :)
(وكل حرام) : لما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث جابر: قيل: يا رسول الله {أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: " لا، هو حرام "، ثم قال:
" قاتل الله اليهود} إن الله لما حرم شحومها؛ جملوه (1) ثم باعوه؛ وأكلوا ثمنه ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود من حديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لعن الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم؛ فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء؛ حرم عليهم ثمنه ".
قال ابن القيم في " الإعلام ":
" وفي قوله: " حرام " قولان:
أحدهما: أن هذه الأفعال حرام.
والثاني: أن البيع حرام؛ وإن كان المشتري يشتريه لذلك.
__________
(1) بفتح الجيم والميم المخففة؛ أي: أذابوه، والجميل: الشحم المذاب. (ش)
(2) • في " المسند " (رقم 2221) ، 2678) .
وله فيه (رقم 2980، 3373) حديث آخر في الخمر؛ بلفظ: " إن الذي حرم شربها حرم بيعها ". (ن)(2/349)
والقولان مبنيان على أن السؤال؛ هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور؟ أو عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختاره شيخنا، وهو الأظهر (1) ؛ لأنه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع، فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا الانتفاع، فلم يرخص لهم في البيع، ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة، والله - تعالى - أعلم ". انتهى.
قلت: والأقرب إلى السنة ما ذهب إليه الماتن.
(6 -[بيع فضل الماء] :)
(وفضل الماء) (2) ؛ لحديث إياس بن عبد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء؛ رواه أحمد (3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -.
وقال القشيري: هو على شرط الشيخين.
ولحديث جابر عند مسلم، وأحمد، وابن ماجه بنحوه.
__________
(1) • بل هو الحق؛ لأن حديث جابر عند أحمد بلفظ: قال رجل: يا رسول الله! فما ترى في بيع شحوم الميتة؛ فإنها تدهن بها السفن ... الحديث.
وسنده صحيح؛ وانظر " الفتح " (4 / 337) . (ن)
(2) • معناه: ما فضل عن حاجته، وعن حاجة عياله وماشيته وزرعه: " معالم السنن " (5 / 122) . (ن)
(3) • في " المسند " (3 / 417) ؛ وزاد في آخره: قال: والناس يبيعون ماء الفرات، فنهاهم - يعني: إياس بن عبد -.
وسنده صحيح. (ن)(2/350)
وقد ورد مقيدا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ ".
وفي لفظ: " لا يباع فضل الماء ليمنع به الكلأ "؛ وهو في " مسلم ".
(7 -[بيع الغرر] :)
(وما فيه غرر كالسمك في الماء) ، وهو استتار عاقبة الشيء، وتردده بين جهتين ممكنتين؛ كبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.
وأخرج أحمد من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تشتروا السمك في الماء؛ فإنه غرر " (1) .
وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد رجح البيهقي وقفه، ولكنه داخل في بيع الغرر.
قال في " المسوى ":
" قال مالك: ومن الغرر والمخاطرة: أن يعمد الرجل قد ضلت دابته، أو أبق غلامه، وثمن شيء من ذلك خمسون دينارا، فيقول رجل: أنا آخذه منك بعشرين دينارا؛ فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارا، وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينار.
__________
(1) حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع " لشيخنا(2/351)
قال مالك: وفي ذلك أيضا عيب آخر؛ أن تلك الضالة إن وجدت؛ لم يدر زادت أم نقصت، أم ما حدث بها من العيوب؟ {وهذا أعظم المخاطرة.
قال مالك: والأمر عندنا: أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب؛ لأنه لا يدري أيخرج أم لا يخرج؟} فإن خرج لم يدر أيكون حسنا، أم قبيحا، أم تاما، أم ناقصا، أم ذكرا، أم أنثى؟ ! وذلك كله يتفاضل؛ إن كان على كذا فقيمته كذا، وإن كذا فقيمته كذا ". انتهى (1) .
(8 -[بيع حبل الحبلة] :)
(وحبل الحبلة (2)) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ كما في " مسلم "، وغيره من حديث ابن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة؛ أخرجه مالك.
__________
(1) • قال النووي: " النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع، فيدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعا، فلو أفرد لم يصح بيعه، والثاني: ما يتسامح بمثله؛ إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه.
فمن الأول: بيع أساس الدار، والدابة التي في ضرعها لبن، والحامل، ومن الثاني: الجبة المحشوة، والشرب من السقاء ".
قال: " وما اختلف العلماء فيه مبني على اختلافهم في كونه حقيرا، أو يشق تمييزه، أو تعيينه، فيكون الغرر فيه كالمعدوم، فيصح البيع، وبالعكس ": " الفتح " (4 / 284) .
وقد فصل ابن تيمية القول فيما يجوز من الغرر في فصل عقده في " القواعد النورانية " (ص 115 - 137) ، فراجعه؛ فإنه نفيس جدا. (ن) .
(2) • " بالتحريك: مصدر سمي به المحمول؛ كما سمي بالحمل، وإنما دخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، فالحبل الأول يراد به ما في بطون النوق من الحمل، والثاني حبل الذي في بطون النوق، وإنما نهي عنه لمعنيين: أحدهما: أنه غرر وبيع شيء لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة - على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج النتاج ": نهاية. (ن)(2/352)
وفي " الصحيحين ": كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة - وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها، ثم تحمل التي نتجت -؛ فنهاهم عن ذلك.
وقد قيل: إنه بيع ولد الناقة الحامل في الحال.
وقيل: بيع ولد ولدها؛ كما في الرواية.
وقد ورد النهي عن شراء ما في بطون الأنعام؛ كما في حديث أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجه، والبزار، والدارقطني، وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه ضعف.
وروى مالك؛ عن سعيد بن المسيب، أنه قال:
لا ربا في الحيوان، وإنما نهي من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة؛ فالمضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال محمد: هذه البيوع كلها مكروهة، ولا ينبغي مباشرتها؛ لأنها غرر عندنا.
وفي " المنهاج ":
" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبل الحبلة - وهو نتاج النتاج؛ بأن يبيع نتاج(2/353)
النتاج أو بثمن إلى نتاج النتاج -، وعن الملاقيح - وهي ما في البطون -، والمضامين - وهي ما في أصلاب الفحول - ".
(9 -[بيع المنابذة] :)
(والمنابذة) : أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه؛ على غير تأمل، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا؛ فهذا الذي نهي عنه.
(10 -[بيع الملامسة] :)
(والملامسة) : أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه؛ لحديث أبي سعيد في " الصحيحين "؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع.
وأخرج نحوه مالك في " الموطإ " من حديث أبي هريرة، وفسرهما بما تقدم.
ولفظ الماتن: الملامسة: لمس ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض؛ كذا في الرواية.
وفي الباب عن أنس عند البخاري.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال [في] " المحلى ": " والبطلان فيهما لعدم الرؤية، أو عدم الصيغة (1) ،
__________
(1) قوله: " أو عدم الصيغة "؛ أي: بعت واشتريت. اه. (ش)(2/354)
أو الشرط الفاسد؛ أي: لا خيار له إذا رآه "؛ كذا في " المسوى ".
(11 -[بيع المجهول] :)
(وما في الضرع، والعبد الآبق، والمغانم حتى تقسم، والثمر حتى يصلح، والصوف في الظهر، والسمن في اللبن) ؛ لحديث أبي سعيد - المتقدم - في النهي عن شراء ما في بطون الأنعام؛ فإن فيه النهي عن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد الآبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم.
وقد ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم؛ من حديث ابن عباس عند النسائي، ومن حديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود.
وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يُطعم (1) ، والصوف على الظهر، واللبن في الضرع، والسمن في اللبن؛ من حديث ابن عباس أيضا عند الدارقطني، والبيهقي؛ وفي إسناده عمر بن فروخ، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره.
وأحاديث النهي عن بيع الغرر تشد من عضد جميع ما في هذه الروايات؛ لأن الغرر يصدق على جميع هذه الصور.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛ نهى البائع والمبتاع.
وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي هريرة.
__________
(1) أي: يكون لها طعام؛ كما في " النهاية ".(2/355)
وفي " الصحيحين " من حديث أنس نحوه.
قال مالك:
" الأمر عندنا في بيع البطيخ، والقثاء، والخربز (1) ، والخربز: أن بيعه - إذا بدا صلاحه - حلال جائز، ثم يكون للمشتري ما ينبت حتى ينقطع ثمره ويهلك.
وليس في ذلك وقت مؤقت، وذلك أن وقته معروف، وربما دخلته العاهة، فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت، فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا؛ كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه ".
(12 -[بيع المحاقلة] :)
(والمحاقلة) : بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم.
قال مالك: المحاقلة كراء الأرض بالحنطة.
وقال في " المسوى ":
" المحاقلة: بيع الزرع بعد اشتداد الحب نقيا ".
(13 -[بيع المزابنة] :)
(والمزابنة) : بيع ثمر النخل بأوساق من التمر.
وقال مالك:
__________
(1) الخربز - بكسر الخاء والباء وبينهما راء ساكنة -: البطيخ؛ وأصل الكلمة فارسي. (ش)(2/356)
" المزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل ".
وقال في " المسوى ":
" المزابنة: بيع الثمر على الشجر بجنسه على الأرض.
قال مالك: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، وتفسير المزابنة: أن كل شيء من الجزاف الذي لا يُعلم كيله، ولا وزنه، ولا عدده؛ ابتيع بشيء مسمى من الكيل، والوزن، والعدد.
وذلك أن يقول الرجل للرجل؛ يكون له الطعام المصبر الذي لا يعلم كيله من الحنطة والتمر، أو ما أشبه ذلك من الأطعمة، أو يكون للرجل السلعة من الخبط، أو النوى، أو القضب، أو العصفر، أو الكرسف، أو الكتان، أو القز، أو ما أشبه ذلك من السلع، لا يعلم كيل شيء من ذلك، ولا وزنه، ولا عدده، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كِل سلعتك هذه، أو مر من يكيلها، أو زن من ذلك ما يوزن، أو اعدد منها ما كان يعد؛ فما نقص من كذا وكذا صاعا - لتسمية يسميها -، أو وزن كذا وكذا رطلا، أو عدد كذا وكذا؛ فما نقص من ذلك؛ فعلي غرمه حتى أوفيك تلك التسمية، فما زاد على تلك التسمية فهو لي؛ أضمن ما نقص من ذلك على أن يكون لي ما زاد.
فليس ذلك بيعا؛ ولكنه المخاطرة، والغرر والقمار يدخل هذا؛ لأنه لم يشتر منه شيئا بشيء أخرجه، ولكن ضمن له ما سمى من ذلك الكيل أو الوزن أو العدد؛ على أن يكون له ما زاد على ذلك، فإن نقصت تلك السلعة(2/357)
من تلك التسمية؛ أخذ من مال صاحبه ما نقص بغير ثمن أعطاه إياه، وإن زادت تلك السلعة على تلك التسمية؛ أخذ الرجل من مال رب السلعة مالا بغير ثمن ولا هبة، طيبة بها نفسه؛ فهذا يشبه القمار.
وما كان مثل هذا من الأشياء؛ فذلك يدخله.
قلت في " شرح السنة ": والعمل على هذا عند عامة أهل العلم.
والعلة في النهي: أن المساواة بينهما شرط، وما على الشجر لا يحرز بكيل ولا وزن، وإنما يكون تقديره بالخرص، وهو حدس وظن لا يؤمن فيه من التفاوت.
فأما إذا باع بجنس آخر من الثمار على الأرض أو على الشجر؛ يجوز؛ لأن المماثلة بينهما غير شرط، والتقابض شرط في المجلس، وقبض ما على الأرض بالنقل، وقبض ما على الشجر بالتخلية.
أقول: ومعنى هذا الكلام: أن سبب التحريم هو شبه الربا، ومعنى قول مالك؛ أن سبب التحريم معنى القمار، وكلا الأمرين صحيح ". انتهى.
(14 -[بيع المعاومة] :)
(والمعاومة) : بيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد، والجميع بيع غرر وجهالة.
(15 -[بيع المخاضرة] :)
(والمخاضرة) : بيع الثمرة خضراء قبل بدو صلاحها.(2/358)
دليل ذلك: حديث أنس عند البخاري، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمخاضرة، والمنابذة، والملامسة، والمزابنة.
وفي " الصحيحين " من حديث جابر، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، والمعاومة.
وفي الباب أحاديث.
(16 -[بيع العربون] :)
(والعربون) : هو أن يعطي المشتري البائع درهما أو نحوه قبل البيع؛ على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شيء؛ لما أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون.
ولا يعارض هذا ما أخرجه عبد الرزاق في " مسنده " عن زيد بن أسلم: أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان (1) في البيع؟ فأحله؛ لأن في إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف؛ وأيضا الحديث مرسل.
قال في " المسوى ":
" قال مالك: وذلك فيما نرى - والله تعالى أعلم -: أن يشتري الرجل العبد، أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشتراه منه، أو تكارى
__________
(1) العربون والعربان؛ بضم العين فيهما. (ش)
قلت: والحديث الوارد في النهي عن العربان: ضعفه شيخنا في " ضعيف الجامع " (6073) ، وغيره.
وقد وقفت للحديث على طرق؛ لم أفرغ لنقدها ودراستها.(2/359)
منه: أعطيتك دينارا، أو درهما، أو أقل، أو أكثر من ذلك؛ على أني إن أخذت السلعة، أو ركبت ما تكاريت منك؛ فالذي أعطيتك من ثمن السلعة، أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة، أو كراء الدابة؛ فما أعطيتك فهو لك بغير شيء.
قلت: وعليه أهل العلم.
في " المنهاج ": ولا يصح بيع العربون؛ بأن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من الثمن إن رضي السلعة؛ وإلا فهي هبة.
قال [في] " المحلى " (1) : وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد، والهبة إن لم يرض السلعة ". انتهى.
(17 -[بيع العصير إلى من يتخذه خمرا] :)
(والعصير إلى من يتخذه خمرا) ؛ لحديث: " لُعن بائع الخمر، وشاربها، ومشتريها، وعاصرها "؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه، ورجاله ثقات؛ من حديث أنس.
وأخرج نحوه أحمد، وابن ماجه، وأبو داود؛ وفي إسناده عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي (2) ، وقد قيل: إنه غير معروف. وقيل: إنه معروف، وهو
__________
(1) أي: قال ابن حزم في " المحلى ". (ش)
(2) • قلت: لكنه عند أبي داود مقرون بأبي علقمة - مولاهم -، وهو ثقة من رجال مسلم، وبقية رجال الحديث ثقات رجال مسلم، فالحديث صحيح الإسناد، فلا يضر رواية الغافقي له، بل يقويه؛ لأنه متابعة.
وقد أشار لهذا الحافظ؛ حيث قال في ترجمته من " التقريب ": " مقبول ".
وقد قال ابن تيمية: " إنه حديث جيد؛ وهو من رواية ابن عمر ". (ن)(2/360)
من أمراء الأندلس؛ وصحح الحديث ابن السكن.
وأخرج الطبراني في " الأوسط "، عن بريدة، مرفوعا:
" من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه؛ من يهودي، أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرا؛ فقد تقحم النار على بصيرة "؛ وإسناده حسن، كما قال الحافظ (1) .
وأخرجه أيضا البيهقي، وزاد: " أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرا ".
ويؤيده حديث أبي أمامة عند الترمذي (2) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تبيعوا القينات المغنيات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام ".
وفي الباب أحاديث.
وأخرج مالك، عن ابن عمر: أن رجالا من أهل العراق قالوا له: يا أبا عبد الرحمن {إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب؛ فنعصره خمرا فنبيعها؟ فقال عبد الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته، ومن سمع من الجن والإنس؛ أني لا آمركم أن تبيعوها، ولا تبتاعوها، ولا تعصروها، ولا تسقوها؛ فإنها رجس من عمل الشيطان.
__________
(1) • وفيه نظر؛ فقد قال الهيثمي بعد أن عزاه ل " الأوسط " (4 / 90) : " وفيه عبد الكريم بن عبد الكريم، قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب ".
ولعل الحافظ حسنه اعتمادا على توثيق ابن حبان لعبد الكريم هذا، كما نقله في " اللسان "، ولا يخفى أن توثيق ابن حبان وحده متكلم فيه، كما بينه الحافظ في مقدمة " لسانه "} (ن)
(2) ولا يصح. (ن)(2/361)
قلت: وعليه أهل العلم.
(18 -[بيع المعدوم بالمعدوم] :)
(والكالئ بالكالئ) أي: المعدوم بالمعدوم؛ لحديث ابن عمر عند الدارقطني، والحاكم - وصححه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ.
ولكنه اعترض على الحاكم بأنه وهم في تصحيحه؛ لأن في إسناده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف (1) .
ولكنه قد رواه الشافعي، بلفظ: " نهى عن الدَّين بالدَّين ".
ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ؛ دين بدين؛ وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي (2) ، وهو ضعيف، وقد قال أحمد فيه: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره.
وقال: " ليس في هذا أيضا حديث يصح، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين ". انتهى.
يعني: روي الإجماع على معنى الحديث، فشد ذلك من عضده؛ لأنه صار متلقى بالقبول، ويؤيده النهي عن بيع الملاقيح، والمضامين، وحبل الحبلة؛
__________
(1) • قلت: والصواب أن يقال: وهم الحاكم في إسناده؛ فإنه قال: " موسى بن عقبة "، وهذا ثقة، ولكن قد خطأه تلميذه البيهقي في " السنن " (5 / 290) ، وقال: " إنما هو موسى بن عبيدة ". (ن)
(2) • " الربذي ": نسبة إلى (الربذة) ؛ مدفن أبي ذر الغفاري قرب المدينة، كما في " القاموس ". (ن)(2/362)
لأن العلة في ذلك هي كونه بيع معدوم.
وتقويه أيضا الأحاديث الواردة في اشتراط التقابض؛ كحديث: " إذا كان يدا بيد "، وهو في " الصحيح "، وحديث: " ما لم تتفرقا وبينكما شيء ".
(19 -[بيع السلعة قبل قبضها] :)
(وما اشتراه قبل قبضه) ؛ لحديث جابر عند مسلم، وغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إذا ابتعت طعاما؛ فلا تبعه حتى تستوفيه ".
وأخرج مسلم - أيضا - وغيره، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حتى تستوفى.
وأخرج أحمد من حديث حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا اشتريت شيئا؛ فلا تبعه حتى تقبضه "؛ وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي (1) .
وأخرج أبو داود (2) ، والدارقطني، والحاكم، وابن حبان - وصححاه - من
__________
(1) وثقه ابن حبان، وكذبه التبوذكي. (ش)
• قلت: وابن حبان تناقض فيه؛ فإنه ذكره في " الضعفاء " أيضا؛ وقال: " لا يحل ذكره إلا بالقدح "، ولذلك جزم الحافظ في " التقريب " بضعفه.
لكن الحديث صحيح؛ فإن له شاهدا من حديث ابن عباس؛ أخرجه أبو داود (2 / 104) ؛ وسنده صحيح.
ثم رأيت حديث حكيم في " البيهقي " (5 / 313) ؛ من طريق أخرى - وحسنه -. (ن)
(2) • في " السنن " (2 / 104) ، و " المستدرك " (2 / 40) ، والبيهقي أيضا (5 / 314) ؛ ورجالهم ثقات؛ لكن فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه.
لكن تابعه جرير بن حازم عند الدارقطني (294) ؛ فثبت الحديث. (ن)(2/363)
حديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع؛ حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
وفي الباب أحاديث، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وفي " الحجة البالغة ":
" قيل: مخصوص بالطعام؛ لأنه أكثر الأموال تعاورا وحاجة، ولا ينتفع به إلا بإهلاكه، فإذا لم يستوفه؛ فربما تصرف فيه البائع، فيكون قضية في قضية.
وقيل: يجري في المنقول؛ لأنه مظنة أن يتغير ويتعيب، فتحصل الخصومة في الخصومة.
وقال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله.
وهو الأقيس بما ذكرنا في العلة ". انتهى.
قال في " المسوى ":
" قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا - الذي لا اختلاف فيه -: أنه من اشترى طعاما؛ برا، أو شعيرا، أو سلتا، أو ذرة، أو دخنا، أو شيئا من الحبوب القطنية، أو شيئا مما يشبه القطنية مما تجب فيه الزكاة، أو شيئا من الأدم كلها: الزيت، والسمن، والعسل، والخل، والجبن، واللبن، والشبرق، وما أشبه ذلك من الأدم؛ فإن المبتاع لا يبيع شيئا من ذلك؛ حتى يقبضه ويستوفيه ".(2/364)
وفي " شرح السنة ":
" اتفق أهل العلم على أن من ابتاع طعاما؛ لا يجوز له بيعه قبل القبض، واختلفوا فيما سواه:
فقال الشافعي، ومحمد: لا فرق بين الطعام، والسلع، والعقار في أن بيع شيء منها لا يجوز قبل القبض.
قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يجوز بيع العقار قبل القبض، ولا يجوز بيع المنقول.
وقال مالك: ما عدا المطعوم؛ يجوز بيعه قبل القبض.
قلت: كان الأمراء يكتبون للناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا، وكان الناس يبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها، ويعطون المشتري الصك ليمضي به ويقبضه؛ فذلك بيع الصكوك ". انتهى.
(20 -[بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان] :)
(والطعام حتى يجري فيه الصاعان) ؛ لحديث عثمان عند أحمد، والبخاري (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
__________
(1) • إطلاق العزو إليه يفيد أنه أخرجه موصولا؛ وليس كذلك؛ فإنما أخرجه (4 / 274) معلقا.
وقد وصله أحمد رقم (444) ، وابن ماجه، والبيهقي (5 / 315) ، وسنده صحيح، وإن كان فيه ابن لهيعة؛ فقد رواه عنه عبد الله بن يزيد المقري، وابن المبارك، والليث بن سعد.
وله طريق أخرى عن عثمان عند الدارقطني، والبيهقي.
وقد أشار الحافظ إلى تقوية الحديث؛ فراجع " الفتح ". (ن)(2/365)
" إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل ".
وأخرج ابن ماجه (1) ، والدارقطني، والبيهقي، من حديث جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري؛ وفي إسناده ابن أبي ليلى.
وفي الباب عن أبي هريرة بإسناد حسن (2) ، وعن غيره بأسانيد فيها مقال.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
(21 -[بيع الثنيا] :)
(ولا يصح الاستثناء في البيع) ؛ مثل أن يبيع عشرة أفراق إلا شيئا؛ لأن فيه جهالة مفضية إلى المنازعة، والمفسد هو المفضي إلى المنازعة.
(إلا إذا كان معلوما) ؛ لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
__________
(1) • (2 / 27) . (ن)
(2) • كذلك قال الحافظ في " الفتح " (4 / 279) .
لكن قال الهيثمي في " المجمع " (4 / 99) : " رواه البزار؛ وفيه مسلم بن أبي مسلم الجرمي؛ ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
قلت: مسلم - هذا - له ترجمة في " تاريخ بغداد " (13 / 100) ؛ وقال: " وكان ثقة "، وأورده ابن حبان في " الثقات "؛ وقال: " ربما أخطأ "؛ كما نقله الحافظ في " اللسان "؛ وذكر له حديثا برواية البيهقي؛ وقال: " إنه غير قوي "، فقال الحافظ: " قلت: وليس في إسناده من ينظر فيه؛ غير مسلم هذا ".
قلت: فهذا يدل على أن الحافظ أحفظ للرجال من شيخه الهيثمي.
وهذا الحديث رواه البيهقي أيضا (5 / 316) ، وذكر له شاهدا مرسلا؛ وقال: " إنه قوي بطرقه ". (ن)(2/366)
عن بيع الثنيا.
وزاد النسائي، والترمذي، وابن حبان - وصححاه -: " إلا أن تعلم " (1) .
والمراد: أن يبيع شيئا ويستثني منه شيئا مجهولا - لا إذا كان معلوما -؛ فيصح.
(ومنه) ؛ أي: من الثنيا المعلومة (استثناء) جابر (ظهر المبيع) ؛ أي: جمله إلى المدينة؛ بعد أن باعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديثه.
قال النووي في " شرح مسلم ":
" الثنيا المبطلة للبيع: قوله: بعتك هذه الصبرة إلا بعضها، أو هذه الأشجار إلا بعضها؛ فلا يصح البيع؛ لأن المستثنى مجهول.
ولو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو إلا ربعها، أو الصبرة إلا ثلثها، أو بعتك بألف إلا درهما: صح البيع باتفاق العلماء.
ولو باع الصبرة إلا صاعا منها؛ فالبيع باطل عند الشافعي.
وصحح مالك أن يستثني منها ما لا يزيد على ثلثها، وإذا باع ثمرة نخلات واستثنى عشرة آصع للبائع؛ فمذهب الشافعي، وأبي حنيفة، والعلماء كافة: بطلان البيع.
__________
(1) وصحح الزيادة الإمام النووي في " شرح صحيح مسلم ".(2/367)
وقال مالك، وجماعة من علماء المدينة: يجوز ذلك؛ ما لم يزد على قدر ثلث الثمرة ".
(22 -[البيع المفرق بين المحارم] :)
(ولا يجوز التفريق بين المحارم) ؛ لحديث أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من فرق بين والدة وولدها؛ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ".
أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني، والحاكم وصححه.
وحديث علي: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين؛ فبعتهما وفرقت بينهما، فذكرت ذلك له؛ فقال: " أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعا ".
أخرجه أحمد، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم (1) .
وحديث أبي موسى، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه (2) .
أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، ولا بأس بإسناده.
وحديث علي: أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
__________
(1) حديث صحيح بطرقه؛ انظر " غوث المكدود " (575) .
(2) ضعفه شيخنا في " أحاديث البيوع ".(2/368)
وردّ البيع (1) .
أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم - وصححه -؛ وقد أعل بالانقطاع.
وفي الباب أحاديث.
وقد قيل: إنه مجمع على ذلك؛ وفيه نظر.
أقول: الاختلاف في هذه المسألة - أعني: بيع أمهات الأولاد بين الصحابة - أشهر من نار على علم، وروي عن علي - كرم الله وجهه - الموافقة لعمر ومن معه في عدم جواز بيعهن، ثم صح عنه القول بجواز البيع.
وقد ذكر الماتن في " شرح المنتقى " متمسكات الجميع، فليرجع إليه.
والعجب ممن يزعم أن تحريم البيع قطعي.
وأما المدبر؛ فقد دلت الأدلة الصحيحة على جواز بيعه للحاجة؛ كالدَّين، والإعواز عن النفقة، ونحوهما.
(23 -[بيع الحاضر للباد] )
(ولا أن يبيع حاضر لباد) (2) ؛ لحديث ابن عمر، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن
__________
(1) يشهد له ما قبله من الأحاديث.
(2) • أي: سواء كان بأجرة أم لا؛ كما صرح في " النيل " (9 / 140) ؛ قال:
" وكما لا يجوز أن يبيع الحاضر للباد؛ كذلك لا يجوز أن يشتري له، وبه قال ابن سيرين والنخعي "، وراجع تمام كلامه فيه. (ن)(2/369)
يبيع حاضر لباد؛ أخرجه البخاري.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ".
وفي " الصحيحين " من حديث أنس، قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد؛ وإن كان أخاه لأبيه وأمه.
قلت: وعليه أهل العلم.
وفي " المنهاج ":
" بيع حاضر لباد؛ بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه؛ ليبيعه بسعر يومه، فيقول بلديّ: اتركه عندي لأبيعه على التدريج ".
وفي " الوقاية ":
" كره بيع الحاضر للبادي؛ طمعا في الثمن الغالي زمان القحط ". انتهى.
(24 -[بيع النجش] :)
(والتناجش) : وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة؛ لرفع ثمنها.
وعن ابن عمر عند مالك، قال: النجش: أن تعطيه في السلعة أكثر من ثمنها، وليس في نفسك اشتراء، فيقتدي بك غيرك.
وفي " الصحيحين "، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، وأن يتناجشوا(2/370)
وفيهما من حديث ابن عمر، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش.
وأخرجه مالك أيضا.
قلت: وعليه أهل العلم.
وفي " المنهاج ": " ومن المنهي عنه: النجش؛ بأن يزيد في الثمن لا لرغبة؛ بل ليخدع غيره فيشتريها ".
وفي " الوقاية ": " كره النجش ".
(25 -[بيع المسلم على المسلم] :)
(والبيع على البيع) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد، والنسائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ".
وهو في " الصحيحين " أيضا بنحو ذلك.
وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا: " لا يبيع الرجل على بيع أخيه ".
وقد ورد أن: " من باع من رجلين؛ فهو للأول منهما " (1) .
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وصححه أبو زرعة، وأبو حاتم، والحاكم.
وفي " الموطإ " من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبع
__________
(1) حديث ضعيف؛ كما في " الإرواء " (1853) .(2/371)
بعضكم على بعض ".
قلت: وعليه الشافعي.
وفي " المنهاج ":
" ومن المنهي عنه: البيع على بيع غيره قبل لزومه؛ بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثله، والشراء على الشراء؛ بأن يأمر البائع بالفسخ ليشتريه بأكثر ".
وفي " شرح السنة ":
" عند الحنفية: المراد بالبيع على بيع أخيه: هو السوم؛ لأن عنده؛ خيار المكان لا يثبت بالبيع، فلا يتصور بعد التواجب بيع الغير عليه ".
(26 -[الشراء من الركبان] :)
(وتلقي الركبان) ؛ بأن يتلقى طائفة يحملون متاعا إلى البلد، فيشتريه منهم قبل قدومهم ومعرفتهم بالسعر، وله الخيار إذا عرف الغبن؛ كذا في " المنهاج "؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُتلقى الجلب، فإن تلقاه إنسان فابتاعه؛ فصاحب السلعة فيها بالخيار؛ إذا ورد السوق.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن مسعود، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع.
وفيهما أيضا نحو ذلك من حديث ابن عمر، وابن عباس.(2/372)
وفي " الموطإ " من حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تلقوا الركبان للبيع، ولا يبع بعضكم على بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم ".
قلت: وعليه أهل العلم.
( [احتكار الطعام حرام] :)
(والاحتكار) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد (1) ، والحاكم، وابن أبي شيبة، والبزار، وأبي يعلى مرفوعا: " من احتكر الطعام أربعين ليلة؛ فقد برئ من الله وبرئ الله منه ". وفي إسناده أصبغ بن زيد، وفيه مقال (2) .
وأخرج مسلم (3) ، وغيره من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: " لا يحتكر إلا خاطئ ".
__________
(1) • رقم (4880) . (ن)
(2) • وقال الذهبي في " التلخيص " (2 / 12) : " فيه لين ". (ن)
قلت: وحديثه - هذا - موضوع؛ كما في " الضعيفة " (858 - 859) .
ومال شيخنا في " غاية المرام " (رقم 324) إلى ضعفه فحسب؛ لا إلى وضعه.
(3) • في " صحيحه " (5 / 56) ، وفي لفظ له: " من احتكر فهو خاطئ ".
وقد ذكره المنذري في " الترغيب " (3 / 26) بزيادة: " طعاما "، ثم عزاه لمسلم، وأبي داود، والترمذي، وصححه ابن حبان، وابن ماجه، قال: ولفظهما، قال: " لا يحتكر إلا خاطئ ".
وفيه وهمان:
الأول: أن اللفظ الثاني رواية لمسلم أيضا، وهو رواية أبي داود (2 / 98) ، وليست عنده الأولى.
الوهم الثاني: أن الزيادة المذكورة ليست عند مسلم ولا عند أحمد ممن خرج الحديث، وهو عند ابن ماجه (2 / 7) ، والترمذي (2 / 253) ، والبيهقي (6 / 29 - 30) ، و " المسند " (3 / 453، 6 / 400) . (ن)(2/373)
وأخرج نحوه أحمد، والحاكم من حديث أبي هريرة (1) .
قلت: وعليه أهل العلم.
قال النووي في " شرح مسلم ":
" قال أصحابنا: الاحتكار المحرم: هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه.
فأما إذا اشتراه، أو جاء من قرية وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في الوقت؛ فليس باحتكار، ولا تحريم فيه.
وأما غير الأقوات؛ فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال؛ هذا تفصيل مذهبنا ".
وفي " الهداية ":
" يكره الاحتكار في أقوات الآدمي والبهائم؛ إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله، ومن احتكر غلة ضيعته أو جلبه من بلد آخر؛ فليس بمحتكر ".
أقول: الحق: أن الأحاديث المطلقة في تحريم الاحتكار مقيدة بالطعام (2) ،
__________
(1) • قلت: ولفظه في " المستدرك " (2 / 12) ، وعند البيهقي (6 / 30) : " من احتكر يريد أن يغالي بها على المسلمين؛ فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله "؛ سكت عليه، وتعقبه الذهبي بأن فيه إبراهيم بن إسحاق العسيلي، كان يسرق الحديث، والمنذري (3 / 28) بأن فيه مقالا.
ثم إن عزوه ل " المسند " فيه نظر؛ فإني لم أجده عنده، ولم ينسبه إليه المنذري، ولا الحافظ في " القول المسدد " (ص 21) . (ن)
(2) • قلت: فيه نظر؛ فإن الأحاديث التي فيها قيد الطعام لا يصح فيها شيء؛ مثل حديث ابن عمر المتقدم، وحديث أبيه عمر - المذكور في " الترغيب " (3 / 26 - 27) -؛ فإنه ضعيف، مجهول، كما بينته فما علقته عليه.
وعلى فرض صحة شيء منها؛ فقد أجاب الشوكاني بأن لفظ الطعام في بعض الروايات لا يصلح(2/374)
فلا يصح ما قيل من تحريم احتكار قوت البهائم؛ والقياس له على قوت الآدمي قياس مع الفارق.
ولا يكون الاحتكار محرما إلا إذا كان لقصد أن يغلي ذلك على المسلمين - كما ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد والحاكم -؛ فاعتبار هذا القيد لا بد منه، فمن لم يقصد ذلك؛ لم يحرم عليه الاحتكار.
وظاهره: أن القاصد باحتكاره غلاء الأسعار على المسلمين داخل تحت النهي والوعيد؛ سواء كان بالمسلمين حاجة أم لا؛ لأن هذا القصد بمجرده كاف.
أما إجبار المحتكر على البيع فجائز - إن لم يكن واجبا -؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان على كل مكلف.
( [التسعير جائز عند الحاجة] :)
(والتسعير) ؛ لحديث أنس عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والبزار، وأبي يعلى: أن السعر غلا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! سعر لنا؛ فقال: " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى الله، وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال "؛ وصححه ابن حبان، والترمذي.
__________
لتقييد بقية الروايات المطلقة؛ بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق؛ وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام؛ إنما هو لمفهوم اللقب؛ وهو غير معمول به عن الجمهور، وما كان كذلك؛ لا يصلح للتقييد، على ما تقرر في الأصول.
وهذا هو التحقيق الحقيق بالقبول؛ فراجع كلامه في " النيل " (5 / 188) . (ن)(2/375)
وفي الباب أحاديث.
وفي " الهداية ":
" ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس؛ فإن كان أرباب الطعام يتحكمون، ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير؛ فحينئذ لا بأس به؛ بمشورة من أهل الرأي والبصر ". انتهى.
( [وضع الجوائح] :)
(ويجب وضع الجوائح) ؛ الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال؛ لحديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع الجوائح؛ أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود.
وأخرجه أيضا مسلم بلفظ: أمر بوضع الجوائح.
وفي لفظ لمسلم، وغيره: " إن كنت بعت من أخيك ثمرا، فأصابتها جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا؛ بم تأخذ مال أخيك؟ ! ".
وفي الباب عن عائشة في " الصحيحين ".
وعن أنس فيهما أيضا.
وقد ذهب إلى ذلك: الشافعي، وأبو حنيفة، والليث، وسائر الكوفيين.
قلت: وهو عند أبي حنيفة على الاستحباب، وعند الشافعي في القديم(2/376)
على الوجوب، وفي الجديد على الاستحباب.
( [لا يصح سلف وبيع] :)
(ولا يحل سلف وبيع) ؛ قال مالك:
" وتفسير ذلك: أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا؛ على أن تسلفني كذا وكذا، فإن عقدا بيعهما على هذا؛ فهو غير جائز، فإن ترك الذي اشترط السلف ما اشترط منه؛ كان ذلك البيع جائزا ".
قلت: وعليه أهل العلم.
وفي " شرح السنة ":
" هو أن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم؛ على أن تقرضني عشرة دراهم؛ والمراد بالسلف هنا القرض، فهذا فاسد؛ لأنه جعل العشرة وفق القرض ثمنا للثوب، فإذا بطل الشرط سقط بعض الثمن، وصار ما يبقى من المبيع بمقابلة الباقي مجهولا " (1) .
قال الماتن: قال مالك (2) : هو - أي: السلف هنا - أن تقرض قرضا، ثم تبايعه عليه بيعا يزداد عليه، وهو فاسد؛ لأنه إنما تقرضه على أن تحابيه في الثمن.
__________
(1) • لعل الأولى في التعليل قول ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 149) :
" فلأنه إذا أقرضه مئة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمئة؛ فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك ".
وهذا التعليل إنما يتمشى على تفسير السلف بما قاله مالك؛ كما لا يخفى! (ن)
(2) • في " النيل " (5 / 152) أنه أحمد لا مالك. (ن)(2/377)
وقد يكون السلف بمعنى السلم، وذلك مثل أن تقول: أبيعك عبدي هذا بألف؛ على أن تسلفني ماله في كذا وكذا.
( [لا يصح شرطان في بيع] :)
(ولا شرطان في بيع) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وكذلك صححه ابن خزيمة، والحاكم.
والشرطان في بيع؛ أن يقول: بعتك هذا بألف إن كان نقدا، وبألفين إن كان نسيئة (1) .
وقيل: هو أن يقول: بعتك ثوبي بكذا؛ وعلي قصارته وخياطته.
وفي " الحجة البالغة ":
" ومعنى الشرطين: أن يشترط حقوق البيع، ويشترط شيئا خارجا منها؛ مثل أن يهبه كذا، أو يشفع له إلى فلان، أو إن احتاج إلى بيعه لم
__________
(1) • وفسره ابن القيم بأن يبيعه السلعة بعشرة إلى أجل؛ على أن يشتريها منه نقدا بأقل منها، وهو بيع العينة الآتي في الكتاب.
وبهذا أيضا فسر حديث أبي هريرة الآتي قريبا: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا "، وحمل أحد الشرطين على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط ... الخ كلامه؛ فراجعه في " التهذيب " (5 / 144) . (ن)(2/378)
يبع إلا منه، ونحو ذلك.
فهذان شرطان في صفقة واحدة ".
( [لا يصح بيعتان في بيعة] :)
(ولا بيعتان في بيعة) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والترمذي - وصححه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة.
ولفظ أبي داود: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا ".
وأخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود؛ قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة.
قال سماك: هو الرجل يبيع البيع؛ فيقول: بنسء كذا؛ وبنقد كذا.
ورجاله رجال الصحيح.
وما ذكره سماك: هو معنى البيعتين في بيعة، وقد تقدم تفسير الشرطين في بيعة بمثل هذا؛ وليس بصحيح؛ بل المراد بالشرطين في بيعة: أن البيع واحد شرط فيه شرطان، وهنا البيع بيعان.
قلت: وفي " شرح السنة ": " فسروا البيعتين في بيعة على وجهين:
أحدهما: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا؛ أو بعشرين نسيئة إلى سنة، فهو فاسد عند أكثر أهل العلم.(2/379)
فإذا باعه على أحد الأمرين في المجلس؛ فهو صحيح لا خلاف فيه.
والآخر: أن يقول: بعتك عبدي هذا بعشرين ديناراً؛ على أن تبيعني جاريتك؛ فهذا فاسد؛ لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارا، وشرط بيع الجارية، وذلك شرط لا يلزم، وإذا لم يلزم ذلك؛ بطل بعض الثمن، فيصير ما بقي من المبيع في مقابلة الباقي مجهولا.
أما إذا جمع بين شيئين في صفقة واحدة؛ بأن باع دارا وعبدا بثمن واحد؛ فهو جائز، وليس من باب البيعتين في بيعة، إنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين ".
وأما بيع الشيء بأكثر من سعر يومه مؤجلا (1) ؛ فأقول: الزيادة على سعر يوم البيع ليست من الربا في ورد ولا صدر؛ لأن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر، ولا تساوي بين الشيء وثمنه مع اختلاف جنسهما، فلا يصح أن يكون تحريم هذه الصورة لكونها ربا.
فإن قيل: إن تحريمها لكون الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط؛ فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل، والمسألة محتملة للبسط، وقد أفردها الماتن برسالة مستقلة سماها " شفاء العلل " في حكم الزيادة لأجل الأجل ".
ولكن يمكن الاستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه - (2) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • وأفتى السيد رشيد رضا في " المنار " (27 / 584) بأنه جائز وليس من الربا المحرم، والله أعلم. (ن)
(2) • وكذا الحاكم (2 / 45) . (ن)(2/380)
-: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا ".
وبما أخرجه أحمد، والبزار، والطبراني في " الكبير "، و " الأوسط " عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة.
قال سماك: هو الرجل يبيع المبيع، فيقول: هو بنساء كذا؛ وهو بنقد كذا.
قال في " مجمع الزوائد ": " رجال أحمد ثقات ".
فهذان الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة، ولهذا قال: " فله أوكسهما أو الربا ".
والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين.
وقد ذهب الجمهور إلى جواز بيع الشيء بأكثر من بيع يومه لأجل النساء، ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين على محل النزاع.
(وربح ما لم يضمن) ؛ لما تقدم في دليل: " لا يحل سلف وبيع "، وهو أن يبيع شيئا لم يدخل في ضمانه؛ كالبيع قبل القبض.
( [لا يصح بيع ما ليس عند البائع] :)
(وبيع ما ليس عند البائع) ؛ لحديث حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله! يأتيني الرجل؛ فيسألني عن البيع ليس عندي؛ أبيعه منه ثم أبتاعه(2/381)
من السوق؟ فقال: " لا تبع ما ليس عندك ".
أخرجه أحمد، وأهل " السنن " (1) - وصححه الترمذي - وابن ماجه -.
والمراد بقوله: " ما ليس عندك ": أي: ما ليس في ملكك وقدرتك.
وفي معنى بيع ما ليس عنده: أن يبيع مال غيره بغير إذنه؛ لأنه غرر؛ لا يدري هل يجيزه غيره أو لا؟ وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الفضولي، ويكون موقوفا على إجازة المالك.
وبيع القطوط - عند أهل العلم -؛ لا يجوز؛ حتى تصل إلى من كتبت له فيملك، ثم يبيع.
والقط: الصك؛ ومنه قوله - تعالى -: {عجل لنا قطنا} .
( [جواز خيار الشرط] :)
(ويجوز بشرط عدم الخداع) ؛ لحديث ابن عمر (2) في " الصحيحين "، قال: ذكر رجل (3) لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع؟ فقال: " من بايعت؛ فقل: لا خلابة ".
__________
(1) • منهم أبو داود (2 / 105) ، وابن ماجه (2 / 16) ، ولم يصححه كما أوهم المصنف، وإن كان الحديث عندهم صحيحا على شرط الشيخين. (ن)
(2) • له شاهد من حديث أنس عند الحاكم (4 / 101) ، وابن حبان، وأصحاب " السنن "، وغيرهم؛ وهو مخرج في " أحاديث البيوع ". (ن)
(3) • هو حبان بن منقذ، كما في رواية للدارقطني (ص 311) . (ن)(2/382)
وفي الباب أحاديث.
والخلابة: الخديعة، وظاهره أن من قال بذلك ثبت له الخيار؛ سواء غبن أو لم يغبن (1) .
( [ثبوت خيار المجلس] :)
(والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا) ؛ لحديث حكيم بن حزام في " الصحيحين "، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ".
وفيهما أيضا نحوه من حديث ابن عمر.
وأيضا في " الموطإ " من حديث ابن عمر بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المتبايعان؛ كل واحد منهما بالخيار على صاحبه؛ ما لم يتفرقا؛ إلا بيع الخيار ".
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب إلى إثبات خيار المجلس جماعة من الصحابة؛ منهم: علي
__________
(1) • قلت: هذا غير ظاهر، وإنما الظاهر من الحديث الخيار مع الغبن، وإنما يدل لما استظهره المؤلف حديث آخر بلفظ: " إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال؛ إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها "؛ أخرجه ابن ماجه (2 / 61) ، والدارقطني (ص 312) ؛ من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان ... مرسلا، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند الدارقطني؛ فإنما علة الحديث الإرسال.
وقد رواه ابن إسحاق أيضا، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، ولكنه قد عنعنه، وقد صرح بالتحديث في رواية، لكن ليس فيها قوله: " ثم أنت في كل سلعة ... "؛ رواه الدارقطني، لكنها عند البيهقي بسند حسن؛ فانظر " الصحيحة " (2874) ، فثبت الحديث والحمد لله، وقد ثبته المؤلف فيما يأتي. (ن)(2/383)
وأبو برزة الأسلمي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وغيرهم.
ومن التابعين: شريح، والشعبي، وطاوس، وعطاء، وابن أبي مليكة؛ نقل ذلك عنهم البخاري.
ونقل ابن المنذر القول به أيضا: عن سعيد بن المسيب، والزهري، وابن أبي ذئب من أهل المدينة، وعن الحسن البصري، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم.
وبالغ ابن حزم فقال: لا يعرف لهم مخالف من التابعين؛ إلا النخعي وحده.
وحكاه صاحب " البحر " أيضا عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وذهب الحنفية والمالكية وغيرهم إلى أنها إذا وجبت الصفقة؛ فلا خيار (1) .
والحق: القول الأول.
__________
(1) • قلت: وحمل هؤلاء التفرق في الحديث على التفرق بالأقوال، وهذا يبطله بعض ألفاظ الحديث مثل: " ... ما لم يتفرقا، فكانا جميعا ... "؛ أخرجه أحمد رقم (6006) ، والشيخان، و: " من اشترى بيعا، فوجب له؛ فهو بالخيار ما لم يفارقه صاحبه؛ إن شاء أخذ وإن شاء فارقه، فلا خيار له "؛ رواه الدارقطني (290) ، والحاكم (2 / 14) - وصححه، وافقه الذهبي؛ وهو كما قالا -، ورواه البيهقي أيضا (5 / 270) من حديث ابن عمر وابن عباس معا، وأخرجه الدارقطني (310) ، وعنه البيهقي (/ 271 5) من حديث ابن عمر، بلفظ: " حتى يتفرقا من مكانهما. . ".
وهذا ما فهمه رواة الحديث من الصحابة؛ فروى الطحاوي (2 / 202 - 203) عن أبي برزة: أنهم اختصموا إليه في رجل باع جارية - وفي رواية: فرسا -، فنام معها البائع، فلما أصبح قال: لا أرضاها، فقال أبو برزة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "؛ وكانا في خباء شعر؛ وسنده صحيح.
وقال ابن عمر: كنا إذا تبايعنا؛ [كان] كل واحد منا بالخيار؛ ما لم يتفرق المتبايعان، قال: فتبايعت أنا وعثمان، فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر، قال: فلما بعته طفقت أنكص القهقرى؛ خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه؛ أخرجه الدارقطني (291) ، والبخاري نحوه. (ن)(2/384)
(2 - باب الربا)
( [حكمه] :)
قال الله - تعالى -: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا} ، وقال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} ، وقال: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} .
واتفق أهل العلم أن الربا من الكبائر، وأنه إذا وقع هذا العقد فهو باطل، ولا يجب إلا رد رأس المال، وإن كان ذو عسرة فحكمه الإنظار إلى الميسرة.
أقول: هذا الحكم يستفاد من كتاب الله - تعالى -، قال - عز وجل -: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} ، ومفهوم الشرط يدل على جواز أخذ مال المربي مع عدم التوبة، ويستدل بهذه الآية أيضا على جواز أخذ ما ربح المربي من الربا، وهو ما زاد على رأس ماله؛ سواء تاب أو لم يتب.
فالحاصل: أن يجوز أخذ جميع ماله: الربح ورأس المال؛ مع عدم التوبة، ويجوز أخذ الربح فقط معها.
( [أصول الربويات] :)
(يحرم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير(2/385)
بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا مثلا بمثل يدا بيد) ، فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، والستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث.
كحديث أبي سعيد بلفظ: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح: مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (1) ؛ الآخذ والمعطي فيه سواء ".
وهو في " الصحيح "، وسائر الأحاديث في " الصحيحين "، وغيرهما هكذا؛ ليس فيها إلا ذكر الستة الأجناس.
وفي " الحجة البالغة ":
" وتفطن الفقهاء أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها، وأن الحكم متعد منها إلى كل ملحق بشيء منها ".
__________
(1) • زاد البيهقي (5 / 286) في رواية: " وكل ما يكال أو يوزن "، وفيه حبان بن عبيد الله العدوي أبو زهير؛ قال البيهقي عقب الحديث: " تكلموا فيه "، وتعقبه ابن التركماني بنقول عن الأئمة في توثيقه؛ فإن الحاكم أخرجه، وقال: " صحيح الإسناد "؛ ولم أجده الآن في " المستدرك "؛ ثم وجدته (2 / 42 - 43) .
ويشهد له حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجائهم بتمر جنيب، فقال: " أكل تمر خيبر هكذا؟ "، قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، أو الصاعين بالثلاثة، فقال: " لا تفعل، بع الجميع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا "، وقال في الميزان مثل ذلك؛ رواه البخاري، وكذا الطحاوي في " المشكل " (2 / 122) ، والبيهقي (5 / 585) .
وقال ابن تيمية في " المنتقى ": " وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها؛ لأنه قوله: " في الميزان "؛ أي: في الموزون؛ وإلا فنفس الميزان من أموال الربا ".
ويشهد له أيضا حديث عبادة، وأنس الآتي في الكتاب، ويأتي بيان ما فيه. (ن)(2/386)
في " شرح السنة ":
" اتفق العلماء على أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة التي نص الحديث عليها.
وذهب عامتهم إلى أن حكم الربا غير مقصور عليها بأعيانها؛ إنما ثبت لأوصاف فيها، ويتعدى إلى كل ما يوجد فيه تلك الأوصاف.
وذهبوا إلى أن الربا ثبت في الدراهم والدنانير بوصف؛ وفي الأشياء الأربعة بوصف آخر.
ثم اختلفوا في ذلك الوصف؛ فقال الشافعي: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية، وقال أبو حنيفة: بعلة الوزن، حتى إن الربا يجري في الحديد والنحاس والقطن.
وقال الشافعي في القديم: ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الطعم مع الكيل والوزن؛ كما قال سعيد بن المسيب.
وفي الجديد: ثبت فيها بوصف الطعم فقط، وأثبت في جميع الأشياء المطعومة مثل الثمار، والفواكه، والبقول، والأدوية.
وإنما قال ذلك في الجديد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الطعام بالطعام مثلا بمثل "؛ علق الحكم باسم الطعام، فدل على أن مأخذ الاشتقاق علة.
وقال أبو حنيفة: ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الكيل؛ حتى إن الربا يجري في الجص والنورة ".(2/387)
وسيأتي ما يدفع ذلك كله.
( [بيان ما يلحق بأصول الربويات] :)
(وفي إلحاق غيرها بها خلاف) ؛ هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها، فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء؛ مع الاتفاق في الجنس، أو تحريم النساء فقط؛ مع الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة؟
فقالت الظاهرية: إنه لا يلحق بها غيرها.
ورجحه في " سبل السلام " (1) ؛ وقال:
" قد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميناها: (القول المجتبى) ". انتهى.
وتفصيل ذلك في " مسك الختام ".
وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة، واختلفوا في العلة ما هي؟ فقيل: الاتفاق في الجنس والطعم، وقيل: الجنس والتقدير بالكيل والوزن والاقتيات، وقيل: الجنس ووجوب الزكاة، وقيل: الجنس والتقدير بالكيل والوزن.
وقد يستدل لمن قال بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني (2) ، والبزار، عن
__________
(1) • وكذا المقبلي في " العلم الشامخ " (ص 715) . (ن)
(2) • في " سننه " (ص 296) ؛ من طريق أبي بكر بن عياش، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن عبادة، وأنس ... به، ثم قال: " لم يروه غير أبي بكر، عن الربيع هكذا، وخالفه جماعة؛ فرووه(2/388)
الحسن؛ من حديث عبادة وأنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك؛ فإذا اختلف النوعان فلا بأس به ".
قد أشار إلى هذا الحديث صاحب " التلخيص " ولم يتكلم عليه، وفي إسناده الربيع بن صبيح؛ وثقه أبو زرعة وغيره، وضعفه جماعة، قال أحمد: لا بأس به، وقال يحيى بن معين - في رواية عنه -: ضعيف، وفي أخرى: ليس به بأس، وربما دلس، وقال ابن سعد والنسائي: ضعيف، وقال أبو زرعة: شيخ صالح، وقال أبو حاتم: رجل صالح. انتهى.
ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث (1) ، وقال في " التقريب ": " صدوق سيئ الحفظ ".
__________
عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة، وأنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بلفظ غير هذا اللفظ ".
قلت: وأبو بكر بن عياش ثقة؛ إلا أنه لما كبر ساء حفظه؛ كما في " التقريب "؛ فلا يحتج به عند المخالفة، ومثله الربيع بن صبيح؛ فإنه صدوق سيئ الحفظ، وللحديث علة أخرى، وهي عنعنة الحسن - وهو البصري -؛ فقد كان مدلسا على جلالته، ولفظ البزار كما في " المجمع " (4 / 115) : " الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل "؛ وهذا كما ترى يخالف لفظ الدارقطني، ويوافق لفظ الحديث الصحيح المتقدم الذي لا دليل فيه على الإلحاق المذكور، فعزوه لفظ الدارقطني تبعا للشوكاني (5 / 164) للبزار لا يخفى ما فيه!
لكن يشهد للحديث حديث أبي سعيد في رواية البيهقي، وسندها حسن على أقل الدرجات، كما تقدم بيانه قريبا؛ مع ما يشهد له من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معا، الذي ذكرته آنفا. (ن)
(1) • قلت: الظاهر أن المحدثين لا يريدون بهذه اللفظة: " صالح " المعنى المتبادر منها فقط؛ بل يريدون أنه صالح في الرواية أيضا، ألا ترى أن الذهبي ذكر في مقدمة " الميزان " أن من العبارات التي تقال في الرواة المقبولين: " صويلح " - هكذا مصغرا - فمن قيل فيه: " صالح " - مكبرا - فهو بالقبول أحرى، أقول هذا تحريرا للمراد من هذه اللفظة؛ وإلا فالربيع - هذا - قد عرفت ضعفه من قبل حفظه، لكن الحديث حسن أو صحيح لغيره. (ن)(2/389)
ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا الحديث؛ لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم؛ فإنه حكم بالربا الذي هو من أعظم معاصي الله - سبحانه وتعالى - على غير الأجناس التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التي هي من الكبائر ومن القطعيات الشرعية.
ومع هذا؛ فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع الجم والسواد الأعظم، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط.
وهذا الحديث - كما يدل على إلحاق غير الستة بها -؛ كذلك يدل على أن العلة الاتفاق في الكيل والوزن؛ مع اتحاد الجنس.
ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس: حديث ابن عمر في " الصحيحين "، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام؛ نهى عن ذلك كله.
وفي لفظ لمسلم: وعن كل ثمر بخرصه.
فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب (1) ؛ ورواية مسلم تدل على أعم من ذلك.
ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في " الموطإ "، عن سعيد بن
__________
(1) • هذه الدلالة غير ظاهرة؛ بل المراد من النهي ما فيه من الغرر، كما سبق في الكتاب عن مالك.
نعم؛ بيع ثمر النخل بالتمر كيلا فيه الأمران؛ الغرر والربا؛ فتأمل!
وبالجملة؛ فلا دليل في الحديث على الإلحاق المذكور. (ن)(2/390)
المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان.
وأخرجه أيضا الشافعي، وأبو داود في " المراسيل "، ووصله الدارقطني في " الغريب عن مالك "، عن الزهري، عن سهل بن سعد، وحكم بضعفه، وصوب الرواية المرسلة، وتبعه ابن عبد البر.
وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار، وفي إسناده ثابت بن زهير، وهو ضعيف.
وأخرجه أيضا من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضا، وأبو أمية ضعيف.
وله شاهد أقوى منه؛ من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم (1) ، والبيهقي، وابن خزيمة.
ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة، عند الترمذي في رخصة العرايا؛ وفيه: وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه (2) .
ومما يدل على أن المعتبر الاتفاق في الوزن: حديث أبي سعيد عند أحمد، ومسلم، بلفظ: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق؛ إلا
__________
(1) • في " المستدرك " (2 / 35) ، و " البيهقي " (5 / 288) ؛ وأعله بالخلاف في سماع الحسن من سمرة.
وسيأتي لفظ الحديث في الكتاب، ويأتي تحقيق القول فيه هناك؛ إن شاء الله تعالى. (ن)
(2) • هذا في الدلالة؛ مثل حديث ابن عمر في " الصحيحين "، وقد ذكرنا آنفا ما فيها. (ن)(2/391)
وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء ".
وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث أبي هريرة: " الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل ".
وعند مسلم، والنسائي، وأبي داود، من حديث فضالة بن عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب؛ إلا وزنا بوزن ".
ومما ورد في اعتبار الكيل: حديث ابن عمر المتقدم وفيه: " وإن كان كرما أن تبيعه بزبيب كيلا "، وما سيأتي قريبا من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم كيلها.
أقول: أما اختلاف مثبتي القياس في علة الربا؛ فليس على شيء من هذه الأقوال حجة نيرة، إنما هي مجرد تظننات وتخمينات؛ انضمت إليها دعاوى طويلة بلا طائل.
هذا يقول: العلة التي ذهب إليها ساقه إلى القول بها مسلك من مسالك العلة كتخريج المناط.
والآخر يقول: ساقه إلى ما ذهب إليه مسلك آخر كالسبر والتقسيم.
ونحن لا نمنع كون هذه المسالك تثبت بمثلها الأحكام الشرعية؛ بل نمنع اندراج ما زعموه علة في هذا المقام تحت شيء منها، فما أحسن الاقتصار على نصوص الشريعة؛ وعدم التكليف بمجاوزتها، والتوسع في تكليفات العباد بما هو تكليف محض.(2/392)
ولسنا ممن يقول بنفي القياس؛ لكنا نقول بمنع التعبد به فيما عدا العلة المنصوصة، وما كان طريق ثبوته فحوى الخطاب.
وليس ما ذكروه ههنا من هذا القبيل؛ فليكن هذا المبحث على ذكر منك؛ تنتفع به في مسائل كثيرة.
قال الماتن - رحمه الله - في كتابه " السيل الجرار ":
" ولا يخفاك أن ذكره صلى الله عليه وسلم للكيل والوزن في الأحاديث؛ لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها، فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث؟ {وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك؟} وأي مناط استفيد منها؛ مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي؛ كما قال: " مثلا بمثل سواء بسواء "؟ {
وأما الاتفاق في الجنس والطعم كما قال الشافعي، واستدلوا على ذلك بما ثبت في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث معمر بن عبد الله، قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الطعام بالطعام مثلا بمثل "، وكان طعامنا يومئذ الشعير؛ فأقول: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الطعام؛ فكان ماذا؟} وأي دليل على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق؟ {وأي فهم يسبق إلى كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب عليها القناطر وتبنى عليها القصور؟} ويقال: هذا دليل على أن كل ما له طعم كان بيعه بما له طعم متفاضلا ربا! مع أن أول ما يدفع هذا الاستدلال الذهب والفضة؛ اللذان هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة بذكر الأجناس التي تحرم فيها الربا.(2/393)
ومما يدفع القولين جميعا: أنه قد ثبت في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العدد؛ كما في حديث عثمان عند مسلم بلفظ: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين "، وفي رواية من حديث أبي سعيد: " ولا درهمين بدرهم "، ولا يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين، ولا من غيرهم.
وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعم، وزادت عليه الادخار والاقتيات؛ فوسعوا الدائرة بما ليس بشيء.
والحاصل (1) : أنه لم يرد دليل تقوم به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها ".
( [لا ربا مع اختلاف الأجناس] :)
(فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدا بيد) ؛ لما ثبت في " الصحيحين " من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الذهب بالذهب (2) ، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم؛ إذا كان يدا بيد ".
__________
(1) • قلت: قد ذكرنا فيما تقدم حديثين تقوم الحجة بكل منهما إذا انفرد، فكيف إذا اجتمعا؟ !
وقد أفادا أن العلة هي الوزن والكيل؛ وفيها كفاية، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات "، فقال (ص 75) :
" والعلة في تحريم ربا الفضل؛ الكيل أو الوزن مع الطعم؛ وهو رواية عن أحمد ". (ن)
(2) • فائدة: قال في " الفتح " (4 / 302) : " ويدخل في الذهب جميع أصنافه؛ من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلي، وتبر خالص ومغشوش.
ونقل النووي - تبعا لغيره في ذلك - الإجماع ". (ن)(2/394)
وفي الباب أحاديث.
( [لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة] :)
(ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي) ؛ لما وقع في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم: " مثلا بمثل، سواء بسواء، وزنا بوزن "؛ فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة والمساواة، ومما يدل على ذلك حديث جابر عند مسلم، وغيره، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر - لا يعلم كيلها - بالكيل المسمى من التمر "؛ فإن هذا يدل على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم.
(وإن صحبه غيره) ؛ أي: لا تأثير لمصاحبة شيء آخر لأحد المثلين؛ لحديث فضالة بن عبيد عند مسلم وغيره؛ قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا؛ فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " لا تباع حتى تفصل ".
وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف؛ منهم عمر بن الخطاب، وقال به الشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وذهب جماعة منهم الحنفية إلى جواز التفاضل؛ مع مصاحبة شيء آخر إذا كانت الزيادة مساوية لما قابلها (1) .
__________
(1) • أو كانت أكثر من الذهب الذي في الشيء، كما نقله الخطابي في " المعالم " (5 / 23) عن قول أبي حنيفة، وهو: " إن كان الثمن أكثر مما فيه من الذهب جاز، وإن كان مثله أو أقل منه لم يجز ".
وقد نقل عنه اشتراط الأكثرية التركماني في " الجوهر النقي " (5 / 292) .
وهذا خلاف ما نقله الشارح عن الحنفية؛ فليحقق! (ن)(2/395)
( [لا يجوز بيع الشيء من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس] :)
(ولا يبيع الرطب بما كان يابسا) ؛ لحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وكذلك حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة - المتقدمان -.
وفي " الموطإ " (1) حديث سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك.
قلت: وعليه الشافعي.
وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه؛ أحدهما رطب والآخر يابس؛ مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع اللحم الرطب بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وصاحبا أبي حنيفة.
وجوزه أبو حنيفة (2) وحده، ورده بالمتشابه من قوله - تعالى -: {وأحل
__________
(1) • (2 / 128) ، وعنه البيهقي (5 / 294) ؛ وسنده صحيح، رجاله رجال الشيخين غير زيد أبي عياش - وهو ابن عياش -، وهو صدوق؛ كما في " التقريب ".
وأخرجه أصحاب " السنن " - وصححه الترمذي، ثم الخطابي، ثم المنذري -؛ كما بينه في " مختصر السنن " (5 / 33 - 35) .
وهو في " المستدرك " (2 / 38 - 43) . (ن)
(2) • وخالفه صاحبه الإمام محمد؛ فأخذ بالحديث؛ كما صرح به في " الموطإ " (ص 331) . (ن)(2/396)
الله البيع وحرم الربا} ، وبالمتشابه من قياس في غاية الفساد، وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين؛ وإما أن يكون جنسا واحدا، وعلى التقديرين؛ فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر.
قال ابن القيم:
" وإذا نظرت إلى هذا القياس؛ رأيته مصادما للسنة أعظم مصادمة، ومع أنه فاسد في نفسه - بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعا بنية -؛ فهو أزيد أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتميزها، ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال؛ إذ هو ظن وحسبان، فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس، لو لم تأت به سنة، وحتى لو لم يكن ربا، ولا القياس يقتضيه؛ لكان أصلا قائما بنفسه يجب التسليم والانقياد له، كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة ". انتهى.
( [رخص صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا] :)
(إلا لأهل العرايا) ؛ لحديث زيد بن ثابت عند البخاري، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا؛ أن تباع بخرصها كيلا.
وفي لفظ (1) في " الصحيح ": رخص في العرية يأخذها أهل البيت (2)
__________
(1) • هذا يوهم أنه من حديث زيد بن ثابت؛ وليس كذلك؛ وإنما هو من حديث سهل بن أبي حثمة؛ كما في " البخاري " (4 / 309) . (ن)
(2) • الظاهر أنه الذي أعراها، ويحتمل أن يراد بالأهل من قصد إليه الشراء، كما في " الفتح " (4 / 312) وغيره.
وعلى الأول؛ فهو دليل لقول مالك الآتي تفسير العرية، ولكنه لا ينفي أن يكون غير هذه الصورة عرية؛ انظر " الفتح ". (ن)(2/397)
بخرصها تمرا يأكلونها رطبا.
وأخرج أحمد (1) ، والشافعي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم من حديث جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول - حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها -: " الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة ... ".
وفي الباب أحاديث.
والمراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن يشتروا من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجرة بخرصه تمرا.
والعرايا: جمع عرية، وهي في الأصل: عطية ثمر النخل دون الرقبة.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، ومن خالف فالأحاديث ترد عليه.
قلت: العرية: فعيلة بمعنى مفعولة؛ من عراه يعروه إذا قصده، وهي عقد مقصود.
أو: بمعنى فاعلة من عري يعرى إذا خلع ثوبه كأنها عريت (2) ، وهي:
__________
(1) • في " المسند " (3 / 360) ؛ وسنده حسن؛ فقد صرح عنده ابن إسحاق بالتحديث.
وأخرجه البيهقي (5 / 311) من طريق الحاكم وغيره؛ ولم أره في " البيوع " من " المستدرك "؛ والله أعلم.
وأخرجه الطحاوي (2 / 213) ؛ وزاد في رواية: وقال: " في كل عشرة أقناء قنو؛ يوضع في المسجد للمساكين "، وكذلك رواه أبو يعلى؛ كما في " المجمع " (4 / 103) . (ن)
(2) • قلت: كذا في " النهاية " لابن الأثير، وزاد: " كأنها عريت من جملة التحريم فعريت - أي: خرجت - ".
وقد ذكر أن في تفسير العرية اختلافا، ثم ذكر قولا في معنى ما في الكتاب من المراد، ثم لم يذكر غيره، فكأنه اعتمده.
واعلم أن للعرية صورا كثيرة، ذكرها الحافظ في " الفتح " (4 / 311) ، ويدور غالبها على أن البائع هو صاحب النخل، أو الذي وهبت له ثمرها، وهذا قد يبيعها المالك رقبتها أو لغيره.(2/398)
بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض، والعنب في الشجر بزبيب فيما دون خمسة أوسق.
وقال محمد (1) : وبهذا نأخذ.
ولفظ البخاري في: (باب تفسير العرايا) (2) : " قال مالك: العرية: أن يعري الرجل الرجل النخلة، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرخص له أن يشتريها منه بتمر.
وقال ابن إدريس (3) : العرية: لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد، ولا تكون بالجزاف.
ومما يقويه قول ابن أبي حثمة بالأوسق الموسقة.
وقال ابن إسحاق: في حديثه عن نافع عن ابن عمر: كانت العرايا؛ أن يعري الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين.
وقال يزيد (4) : عن سفيان بن حسين: العرايا: نخل كانت توهب
__________
ويشهد للأول تفسير بعض الصحابة؛ ففي " المسند " (5 / 365) عن بشر بن يسار، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رخص صلى الله عليه وسلم في العرية، قال: والعرية: النخلة أو النخلتان يشتريهما الرجل، بخرصهما من الثمر فيضمنهما؛ فرخص في ذلك.
وسنده صحيح على شرطهما.
ويشهد للآخر حديث زيد بن ثابت، قال: رخص في العرايا من النخلة والنخلتين توهبان للرجل.
رواه الطحاوي (2 / 215) بسند صحيح، ومسلم، والبيهقي (5 / 310) بنحوه. (ن)
(1) • في " موطإه " (ص 327) . (ن)
(2) • (3 / 310 - " فتح الباري ") . (ن)
(3) • هو الإمام الشافعي؛ فيما رجحه الحافظ. (ن)
(4) • تابعه محمد بن يزيد؛ وهو الواسطي؛ عند أحمد (5 / 192) . (ن)(2/399)
للمساكين؛ فلا يستطيعون أن ينتظروا بها، رخص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر ". انتهى.
أقول: العرايا؛ أصلها أن العرب كانت تطوع على من لا ثمر له؛ كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة، وهي عطية اللبن دون الرقبة.
قال الجوهري في " الصحاح ":
" العرية: هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلا محتاجا؛ بأن يجعل له ثمرها عاما؛ من عراه إذا قصده ". انتهى.
فرخص صلى الله عليه وسلم لمن لا نخل لهم أن يشتري الرطب على النخل بخرصها تمرا؛ كما وقع في " الصحيحين " وغيرهما من حديث زيد بن ثابت.
وفي لفظ في " الصحيحين " من حديثه: رخص في العرايا يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا؛ يأكلونها رطبا.
وفي لفظ لهما من حديثه: ولم يرخص في غير ذلك.
فهذا جائز، والذي أخبرنا بتحريم الربا، ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا، والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة، ومن منع ذلك؛ فقد تعرض لرد الخاص بالعام، ولرد الرخصة بالعزيمة، ولرد السنة بمجرد الرأي، وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة؛ كما روي عن أبي حنيفة - رحمه الله -، ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة؛ كما وقع في حديث جابر عند الشافعي، وأحمد، وصححه(2/400)
ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (1) ؛ فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك.
( [لا يجوز بيع اللحم بالحيوان] :)
(ولا بيع اللحم بالحيوان) ؛ لما تقدم (2) قريبا من حديث سعيد بن المسيب عند مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم.
وقال سعيد (3) : من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.
وقال: نهى عن بيع الحيوان باللحم.
وقال أبو الزناد: كل من أدركت من أهل العلم ينهون عن بيع الحيوان باللحم؛ أي: من جنسه، وكذا بغير جنسه من مأكول وغيره.
وفي " شرح السنة ":
" ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى تحريمه، وإليه ذهب الشافعي ".
وحديث ابن المسيب وإن كان مرسلا؛ لكن يتقوى بعمل الصحابة، واستحسن الشافعي مرسل ابن المسيب، وذهب جماعة إلى إباحته، واختارها المزني إذ لم يثبت الحديث، وكان فيه قول متقدم ممن يكون بقوله اختلاف، ولأن الحيوان ليس بمال الربا؛ بدليل أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين، فبيع اللحم
__________
(1) • ونحوه من حديث أبي هريرة عند البخاري (4 / 308) . (ن)
(2) • (ص 419) ؛ وقد ذكر له هناك طرقا وشواهد؛ تبعا للشوكاني في " النيل " (5 / 173) ، وقال هذا عقبها: " ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه ". (ن)
(3) • يعني: ابن المسيب؛ كما في " الموطإ " (337) لمحمد. (ن)(2/401)
بالحيوان بيع مال الربا بما لا ربا فيه، فيجوز ذلك في القياس؛ إلا أن يثبت الحديث فنأخذ به وندع القياس ".
وقال محمد في " الموطإ ": " وبهذا نأخذ؛ من باع لحما من لحم الغنم بشاة حية؛ لا يدري اللحم أكثر أو ما في الشاة أكثر؟ فالبيع فاسد مكروه، ولا ينبغي، وهذا مثل المزابنة والمحاقلة.
وكذا بيع الزيتون بالزيت، ودهن السمسم بالسمسم ".
أقول: والأحسن عندي أن معنى الحديث: أن يقول للقصاب: كم يخرج من هذه الشاة؟ فيقول القصاب: عشرون رطلا، فيقول: خذ هذه الشاة بعشرين رطلا من اللحم؛ إن خرج أكثر فلك، أو أقل فعليك.
وهذا نوع من القمار، ورجع الحديث إلى القياس.
( [يجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه] :)
(ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه) ؛ لحديث جابر عند أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي -؛ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين.
وأخرجه أيضا مسلم في " صحيحه ".
وأخرج أيضا مسلم، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي.(2/402)
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود من حديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبعث جيشاً على إبل كانت عنده، قال فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس، قال: فقلت: يا رسول الله! الإبل قد نفذت، وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم، فقال لي: " ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها؛ حتى ينفذ هذا البعث "، قال: وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها؛ حتى نفذت ذلك البعث، فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) • في " المسند " رقم (6593) ، وأبو داود (2 / 87) ، وكذا الطحاوي (2 / 229) ، والحاكم (2 / 56) ، والبيهقي (5 / 287) ؛ من طريق ابن إسحاق.
لكن قد صرح بالتحديث في رواية لأحمد رقم (7025) ، فقال: حدثني أبو سفيان الحرشي - وكان ثقة فيما ذكر أهل بلاده -، عن مسلم بن جبير - مولى ثقيف؛ وكان مسلم رجلا يؤخذ عنه وقد أدرك وسمع -، عن عمرو بن حريش الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
فهو سند حسن.
وأخرجه الدارقطني (ص 318) ، وله عنده طريق أخرى عن ابن جريج، أن عمرو بن شعيب أخبره، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وهذا سند صحيح؛ كما قال البيهقي (5 / 287) ؛ وهو الذي قواه الحافظ في " الفتح " (4 / 332) ؛ ليس إسناد ابن إسحاق كما يوهمه صنيع الشارح.
والحديث حسنه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 31) .
ونقل عن الإمام مالك - رضي الله عنه -، أنه كان يحمله على اختلاف المنافع والأغراض؛ فإن الذي كان يأخذه ابن عمرو إنما هو للجهاد، والذي جعله عوضه هو من إبل الصدقة؛ قد يكون مع بني المخاض، ومن حواشي الإبل ونحوها.
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أقوال العلماء في هذه المسألة وحققها، وذكر أن أعدل الأقوال؛ أنه لا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل؛ بل إن وجد أحدهما حرم الآخر، وهو قول مالك.
لكن الجنس عنده مقيد باتفاق الأغراض والمنافع؛ فيجوز بيع البعير البختي بالبعيرين من الحمولة، ومن حاشية إبله إلى أجل لاختلاف المنافع. (ن)(2/403)
وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال، وقوى في " الفتح " إسناده.
وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي -، وابن الجارود من حديث سمرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (1) .
وهو من رواية الحسن عن سمرة، ولم يسمع منه (2) .
وقد جمع الشافعي بين الحديثين؛ بأن المراد به النسيئة من الطرفين؛ فيكون ذلك من بيع الكالئ بالكالئ؛ لا من طرف واحد؛ فيجوز.
وفي " الموطإ " (3) : أن علي بن أبي طالب باع جملا له - يدعى عصيفر - بعشرين بعيرا إلى أجل، وأن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه؛ يوفيها صاحبها بالربذة.
وسئل ابن شهاب عن بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال الشافعي: يجوز سواء كان الجنس واحدا أو مختلفا، مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم، سواء باع واحدا بواحد أو باثنين.
__________
(1) في سماعه منه خلاف طويل، ورجح كثير من أئمة الحديث أنه سمع منه، ورجح بعضهم أنه لم يسمع منه إلا حديثا؛ وهو حديث العقيقة. (ش)
(2) • هذا وإن كان منقطعا؛ فهو صحيح؛ لوروده عن جماعة من الصحابة؛ منهم: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وابن عمر؛ من طرق يقوي بعضها بعضا؛ أخرجها الطحاوي (2 / 229) .
وانظر " الجوهر النقي " (5 / 288 - 290) ، و " تهذيب السنن " (5 / 27) ، والفتح (5 / 44) . (ن)
(3) • (2 / 148 - 149) ؛ وهو السائل لابن شهاب.
وسنده إلى علي بن أبي طالب منقطع، وإلى ابن عمر صحيح. (ن)(2/404)
وقال أبو حنيفة: لا يجوز.
وفي بيع الحيوان بالحيوان نسيئة خلاف.
( [لا يجوز بيع العينة] :)
(ولا يجوز بيع العينة) لحديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء؛ فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ".
أخرجه أحمد (1) وأبو داود، والطبراني، وابن القطان - وصححه -، وقال الحافظ: " رجاله ثقات ".
والمراد بالعينة - بكسر العين المهملة -: بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل؛ ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن.
ويدل على المنع من ذلك: ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين {إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمان مئة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بست مئة نقدا؟ فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت} إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل؛ إلا أن يتوب.
__________
(1) • في " المسند " (رقم 4825، 5007، 2562) - بإسنادين؛ أحدهما صحيح عند ابن القطان -، وأبو داود (2 / 100) بإسناد ثالث - حسنه شيخ الإسلام في " الفتاوى " (3 / 32 - 278) -.
ورواه الدولابي في " الكنى " (2 / 65) ، والبيهقي (5 / 316) . (ن)(2/405)
أخرجه الدارقطني (1) ، وفي إسناده الغالية بنت أيفع.
وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح، وقرر كلامه ابن كثير في " إرشاده ".
وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وجوز ذلك الشافعي، وأصحابه.
وقد ورد النهي عن العينة من طرق؛ عقد لها البيهقي في " سننه " بابا.
أقول: أما بيع أئمة الجور وشراؤهم - على وجه التجارة مع رعاياهم -؛ فهذه المسألة قد عمت وطمت وكادت تطبق الأرض، وقد رأينا في كتب التواريخ حكايات عن ملوك مصر من الجراكسة، وذلك من أشدها وأعظمها جرما: أنهم إذا أرادوا بيع شيء لهم؛ أكرهوا التجار على شرائه بأضعاف ثمنه، وإذا أراد أحد منهم الامتناع ضربوه ضربا مبرحا، وأخذوا ماله كرها.
ومن ذلك: أنهم يمنعون الناس من الشراء من أحد من التجار؛ حتى ينفق ما يريدون بيعه من أموالهم، فيرتفع ثمنه لأجل ذلك، وينفق سريعا.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" وفي الديار اليمنية من هذا القبيل أنواع: منها: أنهم يرسمون صرف القرش بمقدار محدود من الضربة التي يضربونها من الفضة المغشوشة بالنحاس المغلوبة بالغش؛ على وجه لا تكون الفضة الخالصة إلا مقدار نصف الفضة التي في القرش، ثم إن الرعايا لا تمتثل هذا الرسم، بل يتعاملون في المصارفة
__________
(1) • في " السنن " (ص 310 - 311) ، وكذا البيهقي (5 / 330 - 331) . (ن)(2/406)
بزيادة على ذلك إلى مقدار الثلث أو الربع من ذلك الرسم، فإذا كان النقد خارجا من مال الدولة إلى غيرهم من الأجناد ونحوهم؛ كان على ذلك الرسم الناقص، وإذا كان النقد داخلا إلى أموال الدولة من الرعايا؛ لم يقبلوا منهم إلا القروش الفرانسة، أو الصرف الزائد الذي يتعامل به الرعية فيما بينهم، فيأخذون ثلث أموال الرعية أو ربعها ظلما، وإذا تزايد صرف القروش بين الرعايا؛ أمر الأمراء بكسر السكة، ويضربون ضربة أخرى مثل المكسورة في الخالص والغش، أو أكثر منها غشا، ثم يمنعون التعامل بتلك الضربة الأولى، فيبيعونها الرعايا وزنا من الدولة، فيأتي ثمن القفلة (1) منها بنصف قفلة من الضربة الأخرى، وقد يزيد قليلا، أو ينقص قليلا، ثم يأخذون تلك السكة الأولى ويضربونها على تلك الضربة الأخرى، ويدفعونها إلى الرعايا بصرف قد رسموه، فيأكلون بهذه الذريعة نصف أموال العباد، أو قريبا من ذلك، والرعايا لا يقدرون على الاستمرار على الرسم الذي يرسمونه لهم في صرف القروش من تلك الضربة؛ لأنهم يحتاجون إلى القروش الفرانسة في كثير من الحالات؛ لكونه لا ينفق لهم في المعاملة لتجار سائر الأرض إلا هي.
ومن الأنواع التي يأكلون بها أموال الرعايا أكلا ظاهرا، ويتجرون فيها اتجارا بينا: أنهم يجعلون ضرائب على الباعة في الأسواق؛ يجبرونهم على تسليمها؛ شاءوا أم أبوا، ثم يأذنون لهم بالزيادة في الأسعار، فيبيعون بما شاءوا ويصنعون بالناس ما أرادوا، وليس عليهم إلا الوفاء بالضرائب، فإذا استغاث مستغيث بالناس من زيادة الأسعار، أو أراد منكر أن ينكر على الباعة ما يفعلونه؛ قالوا: هذه الزيادات للدولة؛ فيلقمون المنكر والمستغيث حجرا.
__________
(1) • " القفلة: الوازن من الدراهم ": " قاموس ". (ن)(2/407)
وكم أعدد لك من هذه الأحبولات الشيطانية، التي هي السحت بلا شك ولا شبهة، نسأل الله أن يصلح الجميع ". انتهى.
ومن هذا القبيل: أنواع المكوس على أهل الدور والتجارات والضرائب المتنوعة التي لا تكاد تنحصر على الرعايا في الأشياء المختلفة، وكل ذلك من جهة الدول، ولا شكوى في ذلك من الكفرة الفجرة الذين استولوا على أكثر البلاد الإسلامية؛ بل من ملوك الإسلام وولاة المسلمين المدعين للتدين بالدين المحمدي، والله - سبحانه وتعالى - يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وانظر في كتابنا " إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة "؛ يتضح عليك الحق في هذا الباب من الباطل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" اعلم أن باب المصارفة قد صار في هذه الأزمنة؛ بحيث لا يتمكن من الخلوص عن الدخول به في الربا البحت أحد؛ كما عرفناك فيما سبق ".
ثم إن الناس يحتاجون إلى التعامل بهذه الضربة في تصرفاتهم، ويضطرون إلى المصارفة بها إلى القرش الفرنجي بذلك المقدار المرسوم لهم، فيبيعون الفضة بالفضة مع العلم بالتفاضل، وهذا ربا بحت.
والعارف منهم يستروح إلى حيل قد رآها في كتب الفروع التي لا يرجع غالبها إلى دليل، وهي لا تغني من الحق شيئا.
وها نحن نعرفك بغالب ما يظنونه من الحيل مخلصا لهم من ورطة الربا.(2/408)
فمن ذلك: أن بعض المتفقهة - الذين لا يعرفون لعلوم الاجتهاد رسما - قد أفتاهم بأنه لا ربا في المعاطاة، وأن الصرف الذي يفعله الناس الآن هو معاطاة لعدم وقوع العقد، وهذا المقصر لا يدري بأن أدلة الكتاب والسنة مصرحة بتحريم الربا من غير نظر إلى عقد؛ بل لم يعتبر الله في البيع إلا مجرد الرضا.
ومن ذلك: ما قاله أيضا بعض المصنفين في الفروع؛ أن الغش في كل واحد من البدلين يكون مقابلا للفضة في الآخر، وهذا لا يرضى به عاقل قط، وكيف يرضى العاقل أن يبيع تسع أواقي فضة بأوقية نحاس؟ ! فإن كان مراد هذا القائل أن ذلك مخلص عن الربا - سواء رضي كل واحد من المتبايعين بالبدل أم لم يرض -؛ فهذا جهل لا علم.
ومن ذلك: أن الغش في كل واحد من البدلين يكون جريرة مسوغة للصرف، وهذا يرده حديث القلادة؛ فإنه قد انضم إلى الفضة غيرها، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مسوغا للبيع، بل أمر بالفصل والتمييز بين الفضتين.
وقد ذكروا غير هذه الأمور؛ مما هو من السقوط بمكان لا يخفى على من له أدنى فطنة.
فإن قلت: فهل من مخلص من هذه الورطة التي وقع الناس فيها؟
قلت: نعم؛ ثم مخلص أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما قاله لمن اشترى تمرا جيدا بتمر رديء؛ أحد التمرين جمع والآخر جنيب، وأخبره أنه(2/409)
اشترى الصاع الجيد بصاعين من الرديء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن ذلك ربا "، فسأل رسول الله: كيف يصنع؟ فقال: إنه يبيع التمر الرديء بالدراهم ثم يشتري بها التمر الجيد:
فهذه وسيلة شرعية ومعاملة نبوية، فمن أراد أن يصرف الدراهم المغشوشة بالقروش الفرنجية؛ فليشتر صاحب الدراهم - مثلا - بمقدار صرف القرش سلعة من صاحب القرش، ثم يبيعها منه بالقرش، ولا مخلص من ذلك إلا هذه الصورة.
ومن ظن أن ثم مخلصا في غيرها؛ فهو مخادع بنفسه بما هو صريح الربا المتوعد عليه بحرب من الله ورسوله.
وعلى الضارب لتلك الدراهم المغشوشة نصيبه من الإثم؛ لأنه حمل الناس على الربا، وألجأهم إلى الدخول فيه، وسن لهم هذه السنة الملعونة لقصد الحطام، وأكل أموال الناس بالباطل.
ولو كان ممتثلا لما أمر الله به من الرفق بالرعية، والعدل في القضية؛ لكان له بضرب الفضة الخالصة عن الغش مندوحة، وأقل أحوال المسلم أن يكون في رعاية مصالح الرعية؛ كالفرنج، فيجعل ضربته كضربتهم، حتى يرتفع الربا في المصارفة ". انتهى.(2/410)
(3 - باب الخيارات)
( [يجب على البائع بيان العيب] :)
(يجب على من باع ذا عيب أن يبينه؛ وإلا ثبت للمشتري الخيار) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه (1) ، والدارقطني، والحاكم، والطبراني - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب؛ إلا بينه ".
وقد حسن إسناده الحافظ في " الفتح ".
وأخرج نحوه أحمد (2) ، وابن ماجه، والحاكم في " المستدرك " من حديث واثلة مرفوعا، وفي إسناده أبو جعفر الرازي، وأبو سباع، والأول مختلف فيه، والثاني مجهول.
__________
(1) • في " السنن " (2 / 31) ، وفي " المستدرك " (2 / 8) ؛ وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط مسلم وحده؛ لأن تابعيّه - عبد الرحمن بن شماسة؛ لم يخرج له البخاري. (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 471) ، و " المستدرك " (2 / 9 - 10) ؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ مع أنه قال في أبي سباع ما ذكره الشارح.
لكن صنيعه يوهم أن ابن ماجه رواه من طريقه أيضا؛ وليس كذلك؛ فهو عنده (2 / 31 - 32) من طريق آخر عن واثلة، ولكنه ضعيف أيضا؛ من أجل معاوية بن يحيى - وهو الصدفي -؛ يرويه عنه بقية بن الوليد بالعنعنة. (ن)(2/411)
وأخرج ابن ماجه (1) ، والترمذي، والنسائي، وابن الجارود، والبخاري تعليقا من حديث العداء بن خالد قال: كتب لي النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله؛ اشترى منه عبدا - أو أمة - (2) ؛ لا داء (3) ، ولا غائلة، ولا خبثة (4) - بكسر الخاء -؛ بيع المسلم المسلم ".
ويؤيد هذه الأحاديث: حديث: " من غشنا فليس منا "؛ وهو في " صحيح مسلم "، وغيره (5) من حديث أبي هريرة.
فدلت هذه الأحاديث على أن من باع ذا عيب ولم يبينه؛ فقد باع بيعا لا يحل شرعا، فيكون المشتري بالخيار؛ إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع؛
__________
(1) • في " سننه " (2 / 32 - 33) ، وكذا الطحاوي في " المشكل " (2 / 233 - 234) ؛ ورجاله ثقات؛ غير عباد بن ليث الكرابيسي؛ فهو مختلف فيه، وقد ذكر ابن عدي أنه تفرد بهذا الحديث.
وتعقبه الحافظ في " التهذيب " بقوله: " بل رواه غيره؛ أوضحت ذلك في " تغليق التعليق " ... ".
قلت: فهو حديث ثابت. (ن)
(2) • شك من الراوي عن العداء؛ كما صرحت بذلك رواية الطحاوي. (ن)
(3) • أي: لا مرض.
ولا غائلة؛ يعني: الأخلاق المذمومة من الإباق والسرقات، ونحو ذلك، التي يغتال بها من سواه ومن ذلك قيل: قتل فلان فلانا قتل غيلة: " الطحاوي ". (ن)
(4) • في " النهاية ": " أراد بالخبثة الحرام، كما عبر عن الحلال بالطيب، والخبثة نوع من أنواع الخبيث، أراد أنه عبد رقيق؛ لا أنه من قوم لا يحل بينهم، كمن أعطى عهدا وأمانا، أو من هو حر في الأصل ". (ن)
(5) • واستدركه الحاكم (2 / 8 - 9) على مسلم؛ فوهم!
وعلمي أن مسلما أخرجه في " الإيمان ". (ن)(2/412)
لوجود المناط الشرعي وهو التراضي، وإن لم يرضه كان له رده؛ لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد؛ فلم يوجد المناط الشرعي، ولما ورد في رد المعيب؛ وسيأتي.
( [الدخل والمنفعة بضمان الأصل] :)
(والخراج بالضمان) ؛ لحديث عائشة - عند أحمد (1) ، وأهل " السنن "، والشافعي - وصححه الترمذي -، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، وابن القطان، وابن خزيمة -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان.
وفي رواية: أن رجلا ابتاع غلاما، فاستغله، ثم وجد به عيبا، فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الغلة بالضمان ".
والمراد بالخراج: الدخل والمنفعة؛ أي: يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه؛ أي: بسببه.
قال مالك - في الرجل يشتري العبد؛ فيؤاجره بالإجارة العظيمة أو القليلة، ثم يجد به عيبا؛ يرد منه -:
" إنه يرده بذلك العيب، وتكون له إجارته وغلته، وذلك الأمر الذي
__________
(1) • في " المسند " (6 / 80، 116، 161، 208، 237) ، و " المستدرك " (2 / 14 - 15) - وصححه - ووافقه الذهبي؛ وصححه الترمذي أيضا (2 / 260) .
وأحد سنديه صحيح. (ن)(2/413)
كانت عليه الجماعة ببلدنا، وذلك لو أن رجلا ابتاع عبدا، فبنى له دارا قيمة بنيانها ثمن العبد أضعافا، ثم يوجد به عيب يرد منه؛ رده، ولا يحسب للعبد عليه إجارة فيما عمل له ذلك؛ فكذلك تكون له إجارته إذا آجره من غيره لأنه ضامن له ".
قلت: وعليه أهل العلم.
( [من حق المشتري الرد إذا تبين له الغرر] :)
(وللمشتري الرد بالغرر) ؛ لأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه بالغرر، فإذا تبين له الغرر؛ كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي.
( [التصرية حرام تثبت الخيار للمشتري] :)
(ومنه) ؛ أي: من ذلك الغرر (المصرّاة، فيردها وصاعا من تمر) ؛ فإنه ثبت الخيار فيها بوجود الغرر الكائن بالتصرية، وهو حبس اللبن في الضروع؛ ليخيل للمشتري غزارته فيغتر.
وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر ".
وفي رواية مسلم، وغيره: " من اشترى مصراة؛ فهو منها بالخيار ثلاثة أيام (1) ؛
__________
(1) • الظاهر أنها تبتدئ منذ الحلبة الثانية؛ فإنه - حينئذ - يظهر كونها مصراة. (ن)(2/414)
إن شاء أمسكها؛ وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء (1) ".
قلت: وعليه الشافعي.
وفي " المنهاج ": " التصرية حرام؛ تثبت الخيار على الفور.
وقيل: يمتد ثلاثة أيام؛ فإن رد بعد تلف اللبن (2) ؛ رد معها صاع تمر.
وقيل: يكفي صاع قوت.
والأصح: أن الصاع لا يختلف بكثرة اللبن ".
وفي " شرح السنة ".
" قال أبو حنيفة: لا خيار له بسبب التصرية، وليس له ردها بالعيب بعد ما حلبها.
وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: يردها ويرد معها قيمة اللبن ".
قال في " الحجة البالغة ":
" واعتذر بعض من لم يوفق للعمل بهذا الحديث بضرب قاعدة من عند نفسه؛ فقال: كل حديث لا يرويه إلا غير فقيه، [إذا] (3) انسد باب الرأي فيه؛ يترك العمل به.
__________
(1) • الحنطة؛ سميت بها؛ لكون لونها السمرة. (ن)
(2) قوله: " تلف اللبن "؛ أي: حلبه، وعبر به عنه؛ لأنه بمجرد حلبه يسري إليه التلف. اه من " ابن حجر على المنهاج ". (ش)
(3) • زيادة لا بد منها. (ن)(2/415)
وهذه القاعدة - على ما فيها -: لا تنطبق على صورتنا هذه؛ لأنه أخرجه البخاري (1) عن ابن مسعود أيضا، وناهيك به {ولأنه بمنزلة سائر المقادير الشرعية يدرك العقل حسن تقدير ما فيه، ولا يستقل بمعرفة حكمه هذا القدر خاصة؛ اللهم إلا عقول الراسخين في العلم ". انتهى.
قال ابن القيم:
" ومنها رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس، وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل، فيقال: الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح والموافق للكتاب والسنة.
فالحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟} هذا من أبطل الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله - تعالى -، وكلام رسوله، وما عداهما فمردود إليهما.
فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع؛ فكيف يرد الأصل بالفرع؟ !
قال الإمام أحمد: إنما القياس أن يقيس على أصل، فأما أن يجيء إلى
__________
(1) • في " صحيحه " (4 / 293) موقوفا عليه، وكذلك أخرجه أحمد في " مسنده " رقم (4096) ؛ وقد روي مرفوعا؛ لكنه خطأ كما بينه الحافظ في " الفتح ".
وقد أخرجه أحمد أيضا (4 / 314) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وسنده إليه صحيح على شرط الشيخين موقوفا ومرفوعا؛ وروي من حديث ابن عمر من وجهين عنه، ومن حديث أنس، وعمرو بن عوف المزني.
وقال ابن عبد البر: " إنه حديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل "؛ كما في " الفتح ". (ن)(2/416)
أصل فيهدمه ثم يقيس؛ فعلى أي يقيس؟ {
وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس، وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس، وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح.
وأما القياس الباطل؛ فالشريعة كلها مخالفة له.
ويا لله العجب} كيف وافق الوضوء - بالنبيذ المشتد - الأصول حتى قبل؛ وخالف خبر المصراة الأصول حتى رد؟ ! ". انتهى.
والحاصل: أنه لم يرد ما يعارض حديث المصراة، ولم تصح الرواية بلفظ: " طعام أو بر "؛ بل الذي صح: الصاع من التمر.
وللحنفية أجوبة عن الحديث كثيرة، ليس على شيء منها أثارة من علم، وقد استوفاها الماتن في " شرح المنتقى "، ودفعها جميعها، ولا نؤثر على نصر الشارع شيئا، بل نقول: إذا تنازع بائع المصراة ومشتريها في قيمة اللبن المستهلك، وردّ المشتري صاعا من تمر؛ وجب على البائع قبوله، ولا يجاب إلى غيره ولو كان المثل موجودا.
نعم؛ إذا عدم التمر كان الواجب الرجوع إلى قيمته.
وكذلك إذا تراضى البائع والمشتري على قيمة أخرى؛ كان الرضا له حكمه.
وتمام هذا البحث في شرحنا ل " بلوغ المرام "؛ فليرجع إليه.
(أو ما يتراضيان عليه) ؛ لأن حق الآدمي مفوض إليه، فإذا رضي بأخذ(2/417)
عوض عنه؛ جاز ذلك؛ كما لو رضي بإسقاطه أو أخذ بعضه.
( [من خدع في بيعه فله الخيار] :)
(ويثبت الخيار لمن خدع) ؛ فإن كان مع شرط عدم الخداع؛ فلا ريب في ذلك (لما تقدم من حديث ابن عمر: أن رجلا كان يُخدع في البيوع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من بايعت فقل: لا خلابة "، وهو في " الصحيحين "، و " الموطأ "، وزاد فيه:
فكان الرجل إذا بايع يقول: لا خلابة.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لحبان بن منقذ الذي كان يخدع في البيوع خيار ثلاثة أيام؛ كما في حديث ابن عمر في رواية منه، وكذلك في حديث غيره، وأما إذا لم يشترط؛ فالبيع الذي وقع ليس هو بيع المسلم إلى المسلم؛ بل هو مشتمل على الخبث والخداع والغائلة، فللمخدوع الخيار لكونه كذلك، ولكون الخداع كشفا عن عدم الرضا المحقق، الذي هو المناط؛ كما تقدم تقريره.
قلت: اختلفوا في تفسير هذا الحديث؛ فقال المحلي: " لا خلابة ": عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام.
وفي رواية البيهقي، وابن ماجه: " ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال ".
وقال محمد: نرى أن هذا كان لذلك الرجل خاصة؛ يريد أنه خيار الغبن، وليس بمطرد.(2/418)
وفي " شرح السنة ":
" عند أحمد: الخبر عام في حق كافة الناس، إذا ذكر هذه الكلمة في البيع؛ كان له الرد إذا ظهر في بيعه الغبن، وسبيله سبيل من باع واشترى بشرط الخيار ".
في " المنهاج ": " لهما ولأحدهما شرط الخيار؛ وإنما يجوز في مدة معلومة، ولا تزيد على ثلاثة أيام ".
( [من باع قبل وصول السوق فله الخيار] :)
(أو باع قبل وصول السوق) ؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُتلقى الجلب؛ فإن تلقاه إنسان فابتاعه؛ فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق (1) .
وتلقي الجلب: هو أن يقدم ركب بتجارة، فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، وهذا مظنة ضرر للبائع؛ لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له، ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر.
( [البيعان بالخيار إذا وقع البيع على صورة محرمة] :)
(ولكل من المتبايعين - بيعا منهيا عنه - الرد) ؛ كتلك الصور المتقدمة؛ ووجهه: أن النهي إن كان مقتضيا للفساد المرادف للبطلان - كما تقرر في
__________
(1) • هذا اللفظ ليس لمسلم (5 / 5) . (ن)(2/419)
الأصول -؛ فوجود العقد كعدمه، وهو غير لازم لواحد منهما، فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم، وإن كان النهي غير مقتض للفساد؛ فوقوع العقد على صورة من تلك الصور؛ إن رضيه كل واحد منهما؛ فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا، وإن لم يحصل الرضا منهما، أو من أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع؛ فقد فقد المناط.
( [من اشترى شيئا ولم يره فله رده إذا رآه] :)
(ومن اشترى شيئا لم يره؛ فله رده إذا رآه) ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا:
" من اشترى ما لم يره؛ فله الخيار إذا رآه ".
أخرجه الدارقطني، والبيهقي (1) ، وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي، وهو ضعيف (2) ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛ وفي إسناده - أيضا - أبو بكر بن أبي مريم (3) ؛ وهو ضعيف (2) ، ومثل هذا لا تقوم به الحجة.
ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر؛ فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر؛ سواء كان بعناية
__________
(1) • في " سننه الكبرى " (5 / 268) ، والدارقطني (ص 290) ؛ وقال: " عمر بن إبراهيم؛ يقال له: الكردي، يضع الأحاديث، وهذا باطل لا يصح، لم يروه غيره، وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفا من قوله ".
وأخرجه قبله من مرسل مكحول، ثم قال: " هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف ". (ن)
(2) وقال الدارقطني: " كذاب خبيث "، وقال الخطيب: " غير ثقة ". (ش)
(3) وقال أبو زرعة: " ضعيف منكر الحديث ". (ش)(2/420)
البائع أم لا، وأيضا لا بد من حصول المناط الشرعي وهو التراضي، فإذا لم يرض المشتري بالمبيع عند رؤيته؛ فقد فقد الرضا وعدم المصحح.
( [من اشترى شيئا بخيار فله رده] :)
(وله رد ما اشتراه بخيار) ، وذلك نحو أن يشتري شيئا على أن له فيه الخيار مدة معلومة؛ لما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس بلفظ: " كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا؛ إلا بيع الخيار "، وفي لفظ: " إلا أن يكون صفقة خيار "، وهما في " الصحيحين "، وفيهما ألفاظ بهذا المعنى، ولكنه قد اختلف في تفسير بيع الخيار، فقيل هذا، وقيل غيره.
ويؤيد ثبوت خيار الشرط ما تقدم من حديث من كان يخدع في البيوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا بايعت فقل: لا خلابة "، وفي بعض الروايات: " ولك الخيار ثلاثة أيام "، وقد تقدم ذلك.
( [القول للبائع إذا اختلف البيعان] :)
(وإذا اختلف البيعان؛ فالقول ما يقوله البائع) ؛ لحديث ابن مسعود - عند أحمد (1) ، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الحاكم، وابن السكن - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) • في " المسند " (رقم 4442 - 4447) ، والدارقطني (ص 297 - 298) ، والبيهقي (5 / 331 - 334) ؛ من طرق عن ابن مسعود، وحسن بعضها البيهقي؛ ثم قال:
" وقد روي من أوجه بأسانيد مراسيل؛ إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قويا ".
ونقل الزيلعي (4 / 107) نحوه عن ابن الجوزي في " التحقيق ".
وكذلك قواه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 162) . (ن)(2/421)
" إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة؛ فالقول ما يقول صاحب السلعة؛ أو يترادان ".
وفي لفظ: " والمبيع قائم بعينه ".
وفي لفظ: " إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك؛ فالقول قول البائع ".
وفي لفظ: " ولا بينة لأحدهما ".
وفي الباب روايات كثيرة؛ قد استوفاها المصنف في " نيل الأوطار ".
وحاصلها يفيد أن القول قول البائع، وقد قيل: إن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين، وسيأتي.
وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه، فظاهر حديث: " القول ما يقول البائع ": أن القول قوله؛ سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، وظاهر حديث: " على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين ": أن القول قول المنكر مع يمينه؛ سواء كان بائعا أو غير بائع.
وقد تقرر أنه إذا تعارض عمومان - كما نحن بصدده -؛ وجب المصير إلى الترجيح إن أمكن؛ والترجيح ههنا ممكن، فإن حديث: " على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين " أصح من حديث: " فالقول قول البائع "؛ ومقتضى هذا الترجيح: أن القول لا يكون قول البائع؛ إلا إذا كان منكرا غير مدع؛ من غير فرق بين المبيع الباقي والتالف، ولكنه يرشد إلى الجمع ما رواه أحمد (1) في
__________
(1) الصواب: عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند "؛ لأنه روى في أثناء " مسند " أبيه - أحمد بن(2/422)
" زوائد المسند "، والدارمي، والطبراني من حديث ابن مسعود الذي فيه: " فالقول ما يقول البائع " بزيادة: " والسلعة قائمة "؛ ولكن في إسناد هذه الزيادة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف لسوء حفظه، فلا يصلح للجمع بين الحديثين بها.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا طويلا.
قال مالك:
" الأمر عندنا في الرجل يشتري السلعة، فيختلفان في الثمن؛ فيقول البائع: بعتكها بعشرة دنانير، ويقول المبتاع: ابتعتها منك بخمسة دنانير: أنه يقال للبائع: إن شئت فأعطها المشتري بما قال، وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك إلا بما قلت.
فإن حلف قيل للمشتري: إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع، وإما أن تحلف بالله ما اشتريتها إلا بما قلت، فإن حلف بريء منها، وذلك أن كل واحد منهما مدع على صاحبه ".
وفي " شرح السنة ":
" ولا فرق عند الشافعي بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة؛ في أنهما
__________
حنبل - أحاديث لم يروها عن أبيه؛ بل عن شيوخ آخرين. (ش)
• قلت: والظاهر أنه سقط من الكتاب من بعض النساخ: " عبد الله بن "؛ لدليلين:
الأول: أن مثل هذا لا يخفى على الشارح.
الثاني: أن جل عمدته في هذا " الشرح " على " نيل الأوطار "، وقد وقع فيه (5 / 190) عزو هذه الزيادة على الصواب! (ن)(2/423)
يتحالفان ويرد قيمة السلعة، وإليه رجع محمد بن الحسن.
وذهب أبو حنيفة إلى أنهما لا يتحالفان بعد هلاك السلعة عند المشتري، بل القول قول المشتري مع يمينه.
فإذا اختلفا في الأجل أو الخيار أو الرهن أو الضمين؛ فهو عند الشافعي كالاختلاف في الثمن يتحالفان، وقال أبو حنيفة: القول قول من ينفيها (1) ، ولا تحالف عنده إلا عند اختلاف الثمن ".
وفي " الحجة البالغة ":
" القول قول صاحب المال؛ لكن المبتاع بالخيار؛ لأن البيع مبناه على التراضي " (2) .
__________
(1) قوله: " ينفيها "؛ أي: الأجل والخيار وغيرها. (ش)
(2) لا نرى تعارضا بين حديث: " على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين "، وبين إثبات اليمين للبائع إذا اختلفا في القيمة؛ فإن السلعة ملك البائع بيقين، والمشتري يدعي أنه ملكها بثمن ادعاه، والبائع ينكر هذا ويتمسك بأصل بقائها في ملكه، وبأنها لم تخرج منه إلا بثمن أكثر مما قاله المشتري، فالمشتري في الحقيقة هو المدعي، وهو الناقل عن الأصل المتيقن؛ فعليه البينة، والبائع منكر دعوى المشتري ومتمسك بالأصل، فالقول قوله؛ مع يمينه إذا لم تكن بينة، وهذا هو الموافق للقواعد الصحيحة والقياس الجلي، والأحاديث تؤيده. (ش)(2/424)
(4 - باب السلم)
( [شروط السلم] :)
(1 -[أن يكون الثمن نقدا] :)
(هو) نوع مخصوص من أنواع البيع؛ فلا يجوز أن يكون المالان مؤجلين؛ لأن ذلك هو بيع الكالئ بالكالئ، وقد تقدم المنع منه؛ فلا بد أن يكون رأس المال مدفوعا عند العقد.
(2 -[أن يقبض الثمن في المجلس] :)
(أن يسلم رأس المال في مجلس العقد) ، وقد وقع الاتفاق على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس، وقد شرط في السلم جماعة من أهل العلم شروطا لم يدل عليها دليل.
(3 -[أن يكون البيع معلوما كيلا أو وزنا إلى أجل معلوم] :)
(على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوما إلى أجل معلوم) ؛ لما ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: " من أسلف؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ".(2/425)
وأخرج أحمد، والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله ابن أبي أوفى، قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط (1) من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى؛ قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك.
وفي لفظ لأحمد، وأهل " السنن " - إلا الترمذي -: وما نراه عندهم.
في " شرح السنة ":
" السلف له معنيان في المعاملات: أحدهما: القرض؛ والثاني: السلم.
ومعناه عند الشافعي: لو كان مؤجلا اشترط معرفة الأجل، ولو كان مكيلا أو موزونا؛ اشترط معرفة الكيل أو الوزن، وفهم معرفة الجنس والوصف بالأولى ".
وفي " الوقاية ":
" يصح فيما يعلم قدره وصفته؛ لا فيما لا يعلم قدره وصفته كالحيوان، وشروطه بيان جنسه ونوعه وصفته، وقدره معلوما، وأجله معلوما، وأقله شهر ".
وفي " الحجة البالغة ":
" قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين
__________
(1) • هم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، ويقال لهم: (النبط) : " فتح " (4 / 341) . (ن)(2/426)
والثلاث، فقال: " من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل ووزن إلى أجل معلوم "، وذلك لترتفع المناقشة بقدر الإمكان، وقاسوا عليها الأوصاف التي يبين بها الشيء من غير تضييق، ومبنى القرض على التبرع من أول الأمر، وفيه معنى الإعارة، فلذلك جازت النسيئة وحرم الفضل ". انتهى.
( [شروط لم يدل عليها دليل] :)
أقول: أما اعتبار الجنس والصفة؛ فليس في الحديث ما يدل عليه، وكذلك اشتراط تعيين المكان ليس في الحديث ما يدل عليه، وإنما اعتبر تعيين هذه الأمور لرفع التشاجر من بعد.
ولا يخفى أن الرجوع إلى النوع المعهود، أو الصفة المعهودة، أو إلى الأوسط من ذلك يرفع التشاجر، وكذلك يرفع التشاجر في تعيين المكان إلى الأصل، وهو عدم وجوب الإيصال على المسلم إليه، والرجوع إلى البلدة التي هي وطنه، أو بلد إقامته؛ يرفع ذلك أيضا.
فالحاصل: أن شروط السلم تعيين الجنس المسلم فيه؛ وكونه معلوما بكيل أو وزن، وكونه إلى أجل معلوم، فهذه ثلاثة شروط، ولم يدل الدليل على اشتراط غيرها.
( [إذا عجز البائع عن تسليم المبيع وأقاله المبتاع فله ما دفع إليه] :)
(ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله) ؛ لحديث ابن عمر - عند الدارقطني -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/427)
" من أسلف شيئا؛ فلا يشترط على صاحبه غير قضائه " (1) .
وفي لفظ: " من أسلف في شيء؛ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله ".
قال مالك:
" الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى، فحل الأجل، فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاع منه فأقاله؛ فإنه لا ينبغي له أن يأخذ إلا ورقه أو ذهبه، أو الثمن الذي دفع إليه بعينه ".
( [لا يتصرف المبتاع بالمبيع إلا بعد تسلمه] :)
(ولا يتصرف فيه قبل قبضه) ؛ لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسلم في شيء؛ فلا يصرفه إلى غيره ".
وفي إسناده عطية بن سعيد العوفي، وفيه مقال.
__________
(1) • قلت: ولكن هذا الحديث إسناده ضعيف؛ كما قال الحافظ (4 / 343) ، وقد تبع الشارح الماتن في السكوت عليه في " النيل " (5 / 193) ، وليس بحسن؛ فإنه عند الدارقطني (ص 308) ؛ من طريق عطية بن بقية، حدثني أبي: حدثني لوذان بن سليمان ... بسنده عن ابن عمر.
وعطية هذا؛ قال ابن حبان: " يخطئ ويغرب ".
ولوذان؛ قال ابن عدي: " مجهول، وما رواه لا يتابع عليه ".
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة - وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه -؛ وقد ذهب إلى الجواز مالك وأحمد؛ بشرط أن لا يربح فيه، بل يكون بقدر قيمة دين المسلم.
ورجح هذا الإمام ابن القيم في " تهذيب السنن "، وانتصر له بما لا يستغنى عن الاطلاع عليه؛ فراجعه؛ فإنه نفيس (5 / 111 - 117) . (ن)(2/428)
والمعنى: أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه (1) ، ولا يجوز بيعه قبل القبض.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك.
قال مالك:
" لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه، أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه؛ فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى ".
قلت: وعليه أهل العلم.
في " الوقاية ":
" ولم يجز التصرف في رأس المال والمسلم فيه؛ كالشركة والتولية قبل قبضه ".
وفي " المنهاج ":
" ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، ولا الاعتياض عنه " (1) .
__________
(1) • قلت: الظاهر جوازه؛ لأنه الأصل، والحديث المذكور ضعيف؛ فلا حجة فيه؛ على أنه لو صح لم يتناول محل النزاع، كما قال ابن القيم؛ لأنه لم يصرف المسلم فيه غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس المسلم؟
وهذا اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، قال:
" وهو الصحيح؛ فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه؛ كسائر الديون من القرض وغيره - قال -؛ وهو مذهب الشافعي "؛ انظر " التهذيب " (4 / 117 - 118) . (ن)(2/429)
(5 - باب القرض)
( [يجب على المقترض إرجاع ما اقترضه] :)
(يجب إرجاع مثله) ؛ لأنه إذا وقع التعاطي على أن يكون القضاء زائدا على أصل الدين؛ فذلك هو الربا، بل قد ورد ما يدل على أن مجرد الهدية من المستقرض للمقرض ربا؛ كما أخرجه البخاري (1) عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت (2) ؛ فلا تأخذنه فإنه ربا.
( [يجوز الإحسان من المقترض للمقرض بدون شرط] :)
(ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي عليه دين؛ فقضاني وزادني.
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة، قال: كان لرجل على
__________
(1) • في (المناقب) (7 / 103) ، قال الحافظ تعليقا على قوله: فإنه ربا:
" يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام؛ وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربا إذا اشترطه؛ نعم؛ الورع تركه! ".
قلت: لكن ابن سلام لم يتفرد بهذا؛ فقد روى البيهقي (5 / 349) نحوه عن أبي بن كعب بسند صحيح؛ فالوجه ما يأتي. (ن)
(2) • هو " الفصفصة؛ وهي الرطبة من علف الدواب "، فإذا جف، فهو قضب: " نهاية ". (ن)(2/430)
النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل، فجاء يتقاضاه، فقال: " أعطوه "، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: " أعطوه "، فقال: أوفيتني أوفاك الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خيركم أحسنكم قضاء ".
وأخرج نحوه مسلم، وغيره من حديث أبي رافع.
وهذا الحديثان - كما يدلان على جواز أن يكون القضاء أفضل -؛ يدلان على أنه يصح قرض الحيوان، وإليه ذهب الجمهور.
ومنع من ذلك الكوفيون (1) .
( [يحرم أي نفع يجره القرض للمقرض] :)
(ولا يجوز أن يجر القرض نفعا للمقرض) (2) ؛ لحديث أنس - عند ابن ماجه -: أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه، أو حمله على الدابة؛ فلا يركبها ولا يقبله؛ إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ".
وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهنائي، وهو مجهول، وفي إسناده أيضا
__________
(1) • واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وقد تقدم.
قال الحافظ (5 / 44) : " وادعى الطحاوي أنه ناسخ لحديث الباب (يعني: حديث أبي هريرة) ؛ وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن، فقد جمع بينهما الشافعي وجماعة؛ بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من الجانبين، ويتعين المصير إلى ذلك؛ فإن الجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما باتفاق، وإذا كان ذلك المراد من الحديث؛ بقيت الدلالة على جواز استقراض الحيوان والسلم فيه ". (ن)
(2) • يعني: قبل الوفاء. (ن)(2/431)
عتبة بن حميد الضبي، وقد ضعفه أحمد، والراوي عنه إسماعيل بن عياش، وهو أيضا ضعيف (1) .
وقد أخرج البخاري في " التاريخ "؛ من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" إذا أقرض فلا يأخذ هدية " (2) .
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود، وأبي كعب، وعبد الله بن سلام، وابن عباس في " السنن الكبرى " موقوفا عليهم:
إن كل قرض جر منفعة؛ فهو وجه من وجوه الربا ".
وأخرج البيهقي أيضا نحو ذلك في " المعرفة " عن فضالة بن عبيد؛ موقوفا عليه.
وقد تقدم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن سلام (3) .
__________
(1) • وهذا هو الحق؛ أن الحديث ضعيف، وقد أخطأ شيخ الإسلام؛ حيث حسنه في " الفتاوى " (3 / 127 - 128) .
وقد رددت عليه، وبينت ضعف الحديث من وجوه خمسة في " معجم الحديث "؛ فلا يغتر أيضا بتحسين السيوطي له، وتصحيح العزيزي { (ن)
(2) • لعله الحديث الأول، اختصره بعض الرواة؛ وإلا فليراجع سنده} (ن)
(3) • قال ابن تيمية - بعد ذكر حديث أنس المتقدم، وهذا الأثر وغيره -: " فنهى النبي صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه - المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء، وإن كان لم يشرط ذلك ولم يتكلم به؛ فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة، وألف مؤخرة، وهذا ربا، ولهذا جاز أن يزيده عند الوفاء، ويهدي له بعد ذلك؛ لزوال معنى الربا ". (ن)(2/432)
وقد أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة.
وفي رواية: " كل قرض جر منفعة فهو ربا ".
وفي إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك.
وما في الباب من الأحاديث (1) والآثار؛ يشهد بعضها لبعض.
__________
(1) • أما حديث أنس الأول؛ فضعيف كما سبق.
وأما الآخر؛ فإن كان من طريق آخر فينظر فيه؛ فإن صح وجب حمل الحديث والآثار على ما قبل الوفاء؛ توفيقا بينها وبين حديث أبي هريرة وما في معناه؛ فتأمل! (ن)(2/433)
(6 - باب الشفعة)
والأصل فيها دفع الضرر عن الجيران والشركاء.
( [ما سبب الشفعة؟] :)
(سببها الاشتراك في شيء ولو منقولا) ؛ لعموم الأحاديث الواردة في ذلك؛ كحديث جابر في " البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق (1) ؛ فلا شفعة.
وأخرجه أيضا بنحو هذا اللفظ أهل " السنن ".
وحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قسمت الدار وحدت؛ فلا شفعة فيها ".
أخرجه أبو داود، وابن ماجه، بإسناد رجاله ثقات (2) .
وأخرج مسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم.
وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: " الشفعة في كل شيء "،
__________
(1) • أي: بينت مصارف الطرق وشوارعها؛ كأنه من التصرف والتصريف: " فتح " (4 / 345) . (ن)
(2) وقد صححه شيخنا في الصحيحة " (1385) .(2/434)
ورجاله ثقات؛ إلا أنه أعل بالإرسال (1) .
وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به (2) .
( [القسمة تبطل الشفعة] :)
(فإذا وقعت القسمة فلا شفعة) ؛ لما في هذه الأحاديث من التصريح بأنها في الشيء الذي لم يقسم، ثم فسر القسمة بقوله: " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق؛ فلا شفعة ".
فالأحاديث الواردة في مطلق شفعة الجار - كأحاديث: " الجار أحق بسقبه (3) "، وهي ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما -؛ مقيدة بعدم القسمة؛ لأن الجار - كما يصدق على الملاصق -؛ يصدق على المخالط.
وأما تقييد شفعة الجار باتحاد الطريق - كما في حديث جابر عند أحمد،
__________
(1) • قال البيهقي (6 / 109) : " والصواب مرسل "؛ ثم ساقه بإسناد آخر عن ابن عباس؛ وضعفه.
(2) • هذا اختصار مخل {فالذي في " الفتح " - وعنه نقله الشوكاني (5 / 281) ، ثم الشارح -: " بإسناد لا بأس برواته "}
وفرق بين هذا وبين ما ذكره الشارح؛ فإنه أوهم أن إسناده لا بأس به، والحافظ صرح بأنه لا بأس في رواته، وهذا لا يستلزم نفي البأس عن السند؛ كما لا يخفى على المدقق؛ فإنه مع ثقة رواته؛ قد يكون فيه علة لا تمنع البأس عنه، وهذا هو الواقع في سند هذا الحديث؛ فإنه مع ثقة رجاله؛ فإن فيه عنعنة ابن جريج؛ فتأمل! (ن)
(3) • السقب - بفتح القاف -: القرب، وفيه لغتان: السين والصاد.
قال في " النهاية ": " ويحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونة بسبب قربه من جاره ".
وهذا الاحتمال أظهر عندي في معنى الحديث. (ش)(2/435)
وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الجار أحق بشفعة جاره؛ ينتظر بها إن كان غائبا؛ إذا كان طريقهما واحدا " -؛ فهذا الحديث يؤيد ما قلناه من أنه لا شفعة إلا للخليط؛ لأن الطريق إذا كانت واحدة؛ فالخلطة كائنة فيها، ولم تقع القسمة الموجبة لبطلان الشفعة؛ لعدم تصريف الطرق.
فالحق: أن سبب الشفعة هو واحد فقط، وهو الشركة قبل القسمة؛ والخلطة الكائنة بين الشريكين في المشترك بينهما، أو في طريقه، أو في مجاريه، أو منبعه، فما قيل من أن من أسبابها الاشتراك في الطريق، والاشتراك في قرار النهر أو مجاري الماء؛ هو راجع إلى السبب الذي ذكرناه؛ لأن الاشتراك في طريق الشيء، أو في سواقيه؛ هو اشتراك في بعض ذلك الشيء.
والحاصل: أن هذه الأحاديث مخصصة لذلك العموم؛ لأن الظاهر من قوله: " فلا شفعة "؛ أن القسمة مانعة من ثبوت الشفعة؛ سواء كانت القسمة بين المشتري والشفيع، أو متقدمة؛ كما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي.
وقد حقق الماتن المقام في رسالة مستقلة؛ أورد فيها جميع ما ورد في الشفعة من الأدلة، وجمع بينها جمعا نفيسا، فليرجع إليها (1) .
__________
(1) • قلت: لكن يعكر على حصر السبب بالشركة فقط؛ حديث الشريد بن سويد، قال: قلت: يا رسول الله! أرض - ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار - بيعت؟ قال: " الجار أحق بسقبه "؛ أخرجه الطحاوي (2 / 267) بسند صحيح.
وقد جمع بينه وبين الأحاديث المتقدمة: الشوكاني (5 / 282) بتقييده بحديث جابر المتقدم بلفظ: " إذا كان طريقهما واحدا "؛ قال: " فإنه يدل على أن الجوار لا يكون مقتضيا للشفعة؛ إلا مع اتحاد الطريق لا بمجرده ".
وهذا أعدل الأقوال؛ كما قال ابن القيم في " التهذيب " (5 / 167) . (ن)(2/436)
وقد حكى في " البحر " عن علي، وعثمان، وعمر، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وعبيد الله بن الحسن، والإمامية: أن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة.
وحكي عن أبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن سيرين: أن الشفعة تثبت بالجوار، واستدلوا بالأحاديث الواردة في شفعة الجار.
قال في " شرح السنة ":
" اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع (1) المنقسم؛ إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة؛ فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع، وإن باع بشيء متقوم من ثوب أو عبد؛ فليأخذ بقيمته.
واختلفوا في ثبوت الشفعة للجار:
قال الشافعي: لا شفعة للجار.
وذهب أبو حنيفة إلى ثبوت الشفعة للجار.
وفي " المنهاج ": " وكل ما لو قسم بطلت منفعته - كحمام ورحى -؛ لا شفعة فيه في الأصح (2) ".
__________
(1) • هو المنزل ودار الإقامة، وربع القوم محلتهم، والرباع جمعه. (ن)
(2) • الظاهر أن الصواب؛ له حق الشفعة في هذه الصورة أيضا، بل هو أولى؛ لأن دخول شريك جديد مع الشريك القديم مدعاة لإيجاد خلاف بينهما؛ الأمر الذي تضع الشريعة الذرائع في سبيله، وهذا يقتضي إبقاء حق الشفعة له؛ فتأمل! (ن)(2/437)
وفي " الموطإ ": عن عثمان بن عفان: لا شفعة في بئر ولا نخل (1) .
قال في " الحجة البالغة ": " أرى أن الشفعة شفعتان: شفعة يجب على المالك أن يعرضها على الشفيع، فيما بينه وبين الله، وأن يؤثره على غيره، ولا يجبر عليها في القضاء، وهي للجار الذي ليس بشريك.
وشفعة يجبر عليها في القضاء، وهي للجار الشريك فقط، وهذا وجه الجمع بين الأحاديث المختلفة في الباب ". انتهى.
والحق ما قدمناه.
( [بيان أنه لا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه] :)
(ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه) ؛ لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم - ربعة أو حائط -؛ لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه؛ فهو أحق به.
( [لا تبطل الشفعة بالتراخي] :)
(ولا تبطل بالتراخي) ؛ لما في الأحاديث الواردة في الشفعة من الإطلاق.
وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ: " لا شفعة لغائب
__________
(1) لفظ " الموطإ ": " لا شفعة في بئر ولا في فحل النخل "، وبين صاحب " النهاية " سببه؛ بأنه كان للقوم نخيل، ولهم فحل يلقحون منه نخيلهم، فلا شفعة فيه؛ لأنه لا يمكن قسمته.
وهذا خلاف ظاهر ما فهمه الشارح هنا. (ش)(2/438)
ولا لصغير، والشفعة كحل العقال ": ففي إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني، وهو ضعيف جدا، وقال ابن حبان: لا أصل للحديث، وقال أبو زرعة: منكر، وقال البيهقي: ليس بثابت، ولا يصح تأييد هذا الحديث الباطل بما روي من قول شريح؛ فإنه لا حجة في ذلك.
على أن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة أحكام: نفي شفعة الغائب، ونفي شفعة الصغير، واعتبار الفور، وقد هُجر ظاهره في الحكمين الأولين، فكان ذلك مفيدا لترك الاحتجاج به في الحكم الثالث، على فرض أنه غير باطل.
والحاصل: أنه ليس في اشتراط الفورية ما يصلح متمسكا كما لا يخفى على عارف، وقد ثبتت الشفعة بتلك الأحاديث الصحيحة، فتقييد الثبوت بقيد لا دليل عليه مستلزم لإبطال ما يستفاد من أحاديث الثبوت من الإطلاق بدون حجة؛ وذلك باطل.
فالحق: أن الشفعة لا تبطل بالتراخي؛ لأن دفع الضرر الذي شرعت لأجله لا يختص بوقت دون وقت.
وما قيل من أن إثباتها مع التراخي يستلزم الإضرار بالمشتري - لأن ملكه يكون معلقا -: ممنوع، والسند أن ملكه مستقر يتصرف به كيف يشاء، غاية ما هناك أن للشفيع حقا؛ متى طلبه وجب، وليس ذلك من التعليق في شيء، ولا إضرار في ذلك بحال (1) .
__________
(1) كلا؛ بل الضرر واقع على المشتري؛ فإن توقع طلب الشريك الشفعة يفوت عليه كثيرا من المقاصد، وإذا أراد أن يبيع باع بالبخس؛ لخوف المشتري الجديد أن يخرج من ملكه بالشفعة.
والحق: أن تقدير أن هذا الحق للشريك موكول إلى الحاكم؛ لأنه مما لا نص فيه، فإذا حد له أجلا؛ وجب الوقوف عنده. (ش)(2/439)
(7 - باب الإجارة)
( [الأدلة على مشروعية الإجارة] :)
قال الله - تعالى في قصة موسى وشعيب - عليهما السلام - {قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} ، وقال - تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} .
في هذه الآية مشروعية الإجارة مطلقا، ومشروعية الإجارة بتسليم نفسه للخدمة، وعليه أهل العلم، وتدل أيضا على أنه إن أطلق الخدمة؛ فهي محمولة على المتعارف، ولا يضرها الجهالة في الجملة؛ لأن الإرضاع والرعي لا يضبتان حق الضبط.
(تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي) ؛ لإطلاق الأدلة الواردة في ذلك؛ كحديث أبي سعيد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره.
أخرجه أحمد (1) ؛ ورجال إسناده رجال الصحيح.
__________
(1) • في " المسند " (3 / 59، 68، 71) ، وكذا البيهقي (6 / 120) ؛ من طريق إبراهيم، عن أبي سعيد مرفوعا؛ وقال البيهقي: " وهو مرسل بين إبراهيم - وهو النخعي - وأبي سعيد ".
قلت: فلم يفد أن رجاله رجال الصحيح!
وهو عند النسائي (2 / 147) موقوف من هذا الوجه. (ن)
قلت: قد انفصل شيخنا إلى تضعيفه في " الإرواء " (1490) .(2/440)
وأخرجه أيضا البيهقي، وعبد الرزاق، وإسحاق في " مسنده "، وأبو داود في " المراسيل "، والنسائي في (المزارعة) ؛ غير مرفوع (1) .
ولفظ بعضهم: " من استأجر أجيرا؛ فليسم له أجرته ".
ولإطلاق حديث أبي هريرة - عند البخاري، وأحمد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا؛ فاستوفى منه ولم يوفه أجره " (2) .
وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم دليلا عند هجرته إلى المدينة؛ كما في " البخاري " وغيره.
وثبت في حديث أبي هريرة عند البخاري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم "، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: " نعم؛ كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ".
وأخرج أحمد (3) ، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث سويد بن قيس، قال: جلبت أنا ومخرمة (4) العبدي بزا من هجر، فأتينا به مكة،
__________
(1) • ورجحه بعضهم. (ن)
(2) انظر الكلام عن هذا الحديث في " إرواء الغليل " (1489) لشيخنا.
(3) • في " المسند " (4 / 352) ، وأبو داود (2 / 84) ، والنسائي (2 / 226) ، والترمذي (2 / 268) ، وابن ماجه (2 / 25) ، والحاكم (2 / 30 - 31) ، والبيهقي (6 / 32 - 33) .
وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)
(4) • كذا وقع عند بعض المخرجين، وعند بعضهم " مخرقة " بالفاء ".
ونقل ابن التركماني عن ابن الصلاح أنه الصواب. (ن)(2/441)
فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجر، فقال له: " زن وأرجح ".
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر قدر أجرته؛ بل أعطاه ما يعتاده في مثل ذلك، وقد كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - يؤجرون أنفسهم في عصره صلى الله عليه وسلم، ويعملون الأعمال المختلفة، حتى إن عليا آجر نفسه من امرأة على أن ينزع لها كل ذنوب بتمرة، فنزع ستة عشر ذنوبا، حتى مجلت (1) يداه، فعدت له ست عشرة تمرة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأكل معه منها؛ أخرجه أحمد (2) من حديث علي بإسناد جيد.
وأخرجه أيضا ابن ماجه، وصححه ابن السكن.
وأخرجه البيهقي (3) ، وابن ماجه من حديث ابن عباس: أن عليا آجر نفسه من يهودي؛ يسقي له كل دلو بتمرة.
__________
(1) " مجلت يده: إذا ثخن جلدها، وظهر فيها ما يشبه البثر؛ من العمل في الأشياء الصلبة الخشنة "؛ قاله ابن الأثير. (ش)
(2) • لم أجده الآن، وقد ساق إسناده الزيلعي (4 / 133) ؛ وهو من طريق مجاهد عن علي، ثم نقل عن " التنقيح " أنه منقطع بين مجاهد وعلي، قال أبو زرعة: " مجاهد عن علي مرسل ".
قلت: وقد أخرجه البيهقي (6 / 119) بسند صحيح عن مجاهد، قال: خرج علينا علي معتجرا ببرد ... فذكر الحديث، فهذا فيه سماعه منه.
لكن قال الدوري: " قيل لابن معين: يروى عن مجاهد أنه قال: خرج علينا علي؟ فقال: ليس بشيء " انظر " التهذيب ". (ن)
(3) • في " سننه الكبرى " (6 / 119) ، وابن ماجه (2 / 85) ، وفيه حنش؛ واسمه: حسين بن قيس، وهو ضعيف.
لكن له عند ابن ماجه شواهد. (ن)(2/442)
وأما المانع الشرعي؛ فهو مثل الصور التي سيأتي ذكرها.
( [مشروعية تقدير الأجرة عند الاستئجار] :)
(وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار) ؛ لحديث أبي سعيد المتقدم.
( [إذا لم تقدر الأجرة عند الاستئجار فله أجرة مثيله] :)
(فإن لم تكن) أجرته (كذلك) ؛ أي: معلومة (استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذلك العمل) ؛ لحديث سويد بن قيس السابق، ولكون ذلك هو الأقرب إلى العدل.
وأما أجرة القسام فأقول: القسام أجير كسائر الأجراء، يستحق أجرته ممن عمل له، فإن كانت مسماة لم يستحق سواها، وإن كانت غير مسماة كانت له [أجرة] (1) مثله على حسب العمل، ولكنه لا يُجعل له من الأجرة ما يُجعل لمن يزاول الأعمال الوضيعة؛ لأن مرجع صناعة القسمة إلى العلم، وهو أشرف صناعة دينا ودنيا، ولا يجعل له ما يجعل للقسامين في هذا العصر من الأجرة؛ التي تكاد تبلغ إلى مقدار نصيب بعض المقتسمين، فإن ذلك من الظلم البحت، بل يسلك به مسلكا وسطا، وتكون الأجرة على مقدار الأنصباء، فيكون على كل واحد من الشركاء بمقدار نصيبه.
وأما ما يروى عن بعض أهل العلم؛ أن أجرة القسام تكون نصف عشر التركة، أو ربع عشرها؛ فمجازفة لا ترجع إلى دليل؛ بل إعانة لظلمة القسامين على أكل أموال الناس بالباطل، ولقد تفاحش كثير من الحكام
__________
(1) • زيادة لا بد منها. (ن)(2/443)
ونوابهم في هذا الأمر، وصنعوا صنيع من لا يخشى تبعة في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة!
مع أن من كان منهم يأخذ مقررا من بيت المال؛ لا يستحق على القسمة شيئا من الأجرة؛ لأنه قد صار مستغرق المنافع، فكما أنه لا يأخذ أجرة على قضائه؛ كذلك لا يأخذ أجرة على القسمة؛ لأن الكل من مصالح المسلمين؛ التي أخذ نصيبا من بيت المال في مقابلة القيام بها بحسب طاقته.
( [كسب الحجام مكروه وأجرة الكاهن والزانية حرام] :)
(وقد ورد النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن) ؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب.
أخرجه أحمد (1) برجال الصحيح.
وأخرجه أيضا الطبراني في " الأوسط ".
ومثله من حديث رافع بن خديج عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وهو أيضا في " صحيح مسلم " (2) .
وفي " الصحيحين "، وغيرهما، عن أبي مسعود البدري، قال: نهى النبي
__________
(1) • في " المسند " (2 / 299، 332، 347، 415، 500) من طرق عن أبي هريرة.
وروى بعضها الطحاوي بلفظ: " إن من السحت كسب الحجام "؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • (5 / 35) ؛ ولفظه: " ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث "، وفي رواية له: " شر الكسب ... " فذكرها.
واللفظان في " المسند " (4 / 140، 141، 3 / 465) (ن) .(2/444)
صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن.
(وعسب الفحل) ، وقد تقدم الكلام على ثمن الكلب، وعلى عسب الفحل في البيع.
والمراد بمهر البغي: ما تأخذه الزانية على الزنا، والمراد بحلوان الكاهن: عطية الكاهن لأجل كهانته، والحلوان بضم الحاء المهملة: مصدر حلوته إذا أعطيته.
وقد استدل بما تقدم بعض أهل الحديث، فقال: إنه يحرم كسب الحجام، وقد ورد في معنى ما تقدم أحاديث، وفي بعضها التصريح (1) بأنه خبيث وأنه سحت.
وذهب الجمهور إلى أنه حلال لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم؛ حجمه أبو طيبة، وأعطاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه (2) .
وفيهما أيضا من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم؛ وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه (3) .
والأولى الجمع بين الأحاديث؛ بأن كسب الحجام مكروه غير حرام؛ إرشادا منه صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأمور، ويؤيد ذلك حديث محيصة بن مسعود - عند أحمد،
__________
(1) • انظر التعليق المتقدم (رقم 2) في الصفحة السابقة. (ن)
(2) • يعني: من خراجه؛ كما صرح في رواية البخاري (4 / 258) . (ن)
(3) • " مصنف ابن أبي شيبة " (6 / 268) . (ن)(2/445)
وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات (4) -: أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن كسبه، فقال له: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: " لا "، قال: أفلا أتصدق به؟ قال: " لا "، فرخص له أن يعلفه ناضحه.
فلو كان حراما بحتا؛ لم يرخص له أن يعلفه ناضحه، ويستفاد منه أن إعطاءه صلى الله عليه وسلم الحجام لا يستلزم أن يأكله أهله، حتى لا تتعارض الأحاديث، فقد يكون مكروها لهم، ويكون وصفه بالسحت والخبث مبالغة في التنفير.
وقد يمكن الجمع؛ بأن المنع عن مثل ما منع منه محيصة، والإذن بمثل ما أذن له ورخص له فيه (1) .
__________
(4) كذا قال الحافظ في " الفتح " (4 / 363) ، وهو كما قال؛ فإنه عند أحمد (5 / 435) ، وأبي داود (2 / 96) ، والترمذي (2 / 257) - وحسنه -؛ ثلاثتهم، عن مالك، عن الزهري، عن ابن محيصة، عن أبيه: أنه استأذن رسول الله في إجارة الحجام؟ فنهاه عنها، فلم يزل يسأل ويستأذن، حتى أمره أن " اعلفه ناضحك ورقيقك "؛ وسنده صحيح.
وهو في " الموطإ " (3 / 141) ، لكن وقع في سنده ومتنه خطأ.
ورواه ابن ماجه (2 / 11) ، وأحمد أيضا من طرق أخرى عن الزهري ... به؛ دون قوله: " ورقيقك "؛ وهي زيادة ثابتة؛ لأن مالكا حجة، سيما وقد تابعه عليها عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عند الطحاوي (2 / 272) ، وهو ثقة من رجال البخاري.
وللحديث في " المسند " طريقان آخران؛ في كل منهما رجل مجهول، واللفظ الذي في الكتاب لهما؛ فما أحسن المصنف؛ إذ اختاره وأعرض عن اللفظ الصحيح { (ن)
(1) • قلت: وهذا هو الصواب الذي يقتضيه حديث محيصة، ولا ينهض معارضته بأحاديث إعطائه صلى الله عليه وسلم الأجرة للحجام؛ لأن الإعطاء غير الأخذ في بعض الأحوال؛ ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي السائل وهو غير مستحق للسؤال، ثم يقول: " إنما تكون تحت إبطه نارا "؟}
قال الحافظ في " الفتح ": " وذهب أحمد وجماعة إلى التفريق بين الحر والعبد؛ فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها، ويجوز الإنفاق على الرقيق والدواب منها، وأباحوها للعبد مطلقا، وعمدتهم حديث محيصة ".
وهذا هو الحق، وكيف يصح حمل النهي على التنزيه؛ مع التصريح بأن كسب الحجام سحت كما تقدم؟ ! (ن)(2/446)
( [نهى صلى الله عليه وسلم عن أجر المؤذن] :)
(وأجر المؤذن) ؛ لحديث عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص: " واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا "، وفي لفظ: " لا تتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا "، والحديث في " الصحيح " (1) .
( [نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان] :)
(وقفيز الطحان) ؛ لحديث أبي سعيد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان.
أخرجه الدارقطني، والبيهقي؛ وفي إسناده هشام أبو كليب (2) ؛ قيل: لا يعرف، وقد أورده ابن حبان في " الثقات "، ووثقه مغلطاي.
وقفيز الطحان: هو أن يطحن الطعام بجزء منه.
وقيل: المنهي عنه طحن الصبرة (3) - لا يعلم قدرها - بجزء منها.
__________
(1) ولكن؛ هل هذا يدل على كراهة أخذ المؤذن الأجر؟ لا أظن ذلك؛ بل يدل على أن على الإمام أن يبحث عمن لا يأخذ الأجر؛ ليكون أكثر ثوابا.
وأما أخذ المؤذن الأجر؛ فلم يرد فيه نهي، ويكون بمفهوم هذا الحديث خلاف الأولى؛ والأصل في الأشياء الإباحة، وما سكت الله عنه فهو عفو؛ كما في الحديث الصحيح. (ش)
• هذا وهم؛ فليس هو في " الصحيح "؛ وإن كان سنده صحيحا؛ انظر " نيل الأوطار " (2 / 49) .
وعزوه لحديث عبادة خطأ آخر؛ نشأ من عبارة المجد في " المنتقى " (5 / 242 - بشرح الشوكاني) ؛ فراجعه.
والحديث رواه الطحاوي أيضا (2 / 270) . (ن)
(2) • قال الذهبي في ترجمته - وقد ساق له هذا الحديث -: " هذا منكر، وراويه لا يعرف ".
وتوثيق ابن حبان لا يعتمد في مثل هذا. (ن)
(3) هي الطعام المجتمع كالكومة (ش) .(2/447)
( [جواز الاستئجار على تلاوة القرآن] :)
(ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن (1)) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، وغيره (2) : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ، أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما؟ فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا؟ {حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله} أخذ على كتاب الله أجرا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ".
وفي لفظ من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أصبتم؛ اقتسموا واضربوا لي معكم سهما "، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في " الصحيحين " بألفاظ.
وفي حديث خارجة بن الصلت، عن عمه؛ في رقية المجنون بفاتحة الكتاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خذها؛ فلعمري؛ من أكل برقية باطل؛ فقد أكلت برقية حق ".
أخرجه أحمد (3) ، وأبو داود، والنسائي.
__________
(1) • لو قال: على تلاوة القرآن على اللديغ ونحوه؛ لكان أدق؛ فإنه الذي يدل عليه الحديث، ولتخرج به التلاوة للاستماع إليها، والتلاوة للتذكير والتبليغ. (ن)
(2) • كالطحاوي (2 / 269) ، والدارقطني (ص 315 - 316) ، والبيهقي (6 / 134) ؛ من طرق عن عبيد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس - وصححه الدارقطني -.
وهو في (الطب) من " البخاري " (10 / 163) . (ن)
(3) • في " المسند " (5 / 210 - 211) ؛ وسنده حسن.
وسكت عليه المنذري في " مختصره " (5 / 368) . (ن)(2/448)
( [عدم جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن] :)
(لا على تعليمه) ، لحديث أبي بن كعب، قال: علمت رجلا القرآن، فأهدى لي قوسا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " إن أخذتها أخذت قوسا من نار "؛ فرددتها.
أخرجه ابن ماجه، والبيهقي، وقد أعل بالانقطاع، وتعقب، وأعل أيضا بجهالة بعض رواته، وتعقب (1) .
وله شاهد عند الطبراني من حديث الطفيل بن عمرو الدوسي، قال: أقرأني أبي بن كعب القرآن، فأهديت إليه قوسا، فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد تقلدها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تقلدها من جهنم ".
وعلى هذا يحمل حديث عبد الرحمن بن شبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به "؛ أخرجه أحمد (2) برجال الصحيح.
وأخرجه أيضا البزار، وله شواهد (3) .
__________
(1) • انظر تحقيقه في " نيل الأوطار " (5 / 243) . (ن)
(2) • في " المسند " (1 / 428، 444) ؛ من طريق يحيى بن أبي كثير. عن زيد بن سلام، عن جده عن أبي راشد الحبراني، عن ابن شبل؛ ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي (4 / 95، 7 / 168) .
وأبو راشد هذا؛ ليس من رجال الصحيح، ثم إن يحيى ابن أبي كثير مدلس، وقد عنعنه.
فقول الحافظ في " الفتح " (9 / 82) : " وسنده قوي "؛ غير قوي، فلعله قواه لشواهده التي أشار إليها الشارح.
ثم وجدت الحديث أخرجه الطحاوي (2 / 10) ، وقد صرح يحيى بالتحديث عنده في إحدى رواياته؛ فصح بذلك الحديث، والحمد لله على توفيقه! (ن)
(3) • انظر " سنن أبي داود " (1 / 132) ، و " المجمع " (7 / 167 - 168) و " الحاكم " (2 / 41) . (ن)(2/449)
وحديث عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرؤوا القرآن، واسألوا الله به؛ فإن من بعدكم قوما يقرؤون القرآن يسألون الناس به "؛ أخرجه أحمد، والترمذي - وحسنه -.
وفي الباب أحاديث.
ووجه المنع من أخذ الأجرة على تعليمه: أن ذلك من تبليغ الأحكام الشرعية؛ وهو واجب، وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وأصحابه، وأبو حنيفة، وبه قال عطاء، والضحاك، والزهري، وإسحاق، وعبد الله بن شقيق.
هذا؛ وقد مال الماتن في " حاشية الشفاء " إلى أن الجمع مقدم على الترجيح؛ قال:
" لأن حديث: " أحق ما أخذتم عليه أجرا القرآن " عام يصدق على التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء لأجل كونه قارئا، ونحو ذلك؛ فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم، وبعض أفراد العام فيه أدلة خاصة تدل على جوازه؛ كما دل العام على ذلك.
فمن تلك الأفراد: " أخذ الأجرة على الرقية، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها؛ فهكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام.
والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن، ولا سيما لما لا مدخل له فيما نحن بصدده؛ كما زعمه المصنف، والمقبلي.(2/450)
وبهذا تعلم أن ما ساقه في أدلة القائلين بجواز أخذ الأجرة على التعليم من حديث الرقية؛ لا دلالة فيه على المطلوب ".
( [جواز كراء العين مدة معلومة بأجرة معلومة] :)
(و) يجوز (أن يكري العين مدة معلومة بأجرة معلومة) ؛ لما ورد من إكراء الأراضي في عصره - صلى الله عليه وسلم -، كحديث رافع بن خديج في " الصحيحين "، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما بالورق فلم ينهنا.
وفي لفظ مسلم، وغيره: فأما شيء معلوم مضمون؛ فلا بأس به.
وسائر الأعيان لها حكم الأرض.
وفي " شرح السنة ":
" ذهب عامة أهل العلم إلى جواز كراء الأرض بالدراهم والدنانير وغيرها من صنوف الأموال؛ سواء كان مما تنبت الأرض أولا تنبت؛ إذا كان معلوما بالعيان أو بالوصف، كما يجوز إجارة غير الأراضي من العبيد والدواب وغيرها، وجملته: أن ما جاز بيعه جاز أن يجعل أجرة ".
قال محمد: لا بأس بكراء الأرض بالذهب والورق، وبالحنطة كيلا معلوما؛ وضربا معلوما، ما لم يشترط ذلك مما يخرج منها، فإن اشترط مما يخرج منها كيلا معلوما؛ فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا.(2/451)
( [جواز كراء الأرض بأجرة معلومة] :)
(ومن ذلك الأرض لا بشطر ما يخرج منها) ؛ لأن أحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من تمر أو زرع - وإن كانت ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما -؛ فهي منسوخة بمثل حديث رافع - المتقدم -، (1) وما ورد في معناه.
وفي المسألة مذاهب متنوعة، وأدلة مختلفة، واجتهادات مضطربة، قد أوضحها الماتن في " شرح المنتقى "، وفي رسالة مستقلة، وذكرتها في " مسك الختام ".
ومن أصرح أحاديث النهي: حديث جابر - عند مسلم وغيره -، قال: كنا نخابر (2) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصيب من القصري (3) ومن كذا ومن كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كانت له أرض؛ فليزرعها أو ليحرثها أخاه؛ وإلا فليدعها ".
__________
(1) • قلت: حديث رافع لا يدل على النسخ مطلقا؛ لأنه وارد فيمن أكرى أرضا على أن له ما يخرج من قطعة معينة منها، ولا يخفى ما في هذه المعاملة من الغرر؛ بخلاف المزارعة على قسم مسمى مما يخرج من جميعها، فهذا مما لا غرر فيه البتة، فكيف ينسخ هذا بما فيه غرر؟
وما الفرق بين إيجار الأرض بأجرة معلومة من النقدين، أو مما يخرج منها جميعها؟ ! (ن)
(2) • قد جاء بيان هذه المخابرة في رواية عن رافع بن خديج، قال: إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كرى إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون؛ فلا بأس به؛ رواه مسلم وغيره. (ن)
(3) قوله: " القصري ": قال النووي في " شرح مسلم ": " هو بقاف مكسورة، ثم صاد مهملة ساكنة، ثم راء مكسورة، ثم ياء مشددة؛ على وزن (القبطي) ؛ هكذا ضبطناه، وكذا ضبطه الجمهور؛ وهو المشهور.
قال القاضي: هكذا رويناه عن أكثرهم.
وعن الطبري: بفتح القاف والراء مقصور.
وعن ابن الخزاعي: ضم القاف مقصور.
قال: والصواب الأول، وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدياس ". اه.(2/452)
وفي حديث سعد بن أبي وقاص: أنه نهاهم أن يكروا بذلك، وقال: " أكروا بالذهب والفضة "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، ورجاله ثقات (1) .
وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة نحو حديث جابر.
وفي " الحجة البالغة ":
" اختلف الرواة في حديث رافع اختلافا فاحشا، وكان زيادة وجوه التابعين يتعاملون بالمزارعة، ويدل على الجواز حديث معاملة أهل خيبر.
وأحاديث النهي عنها محمولة على الإجارة بما على الماذيانات، أو قطعة معينة، وهو قول رافع (2) ، أو على التنزيه والإرشاد، وهو قول ابن عباس (3) ،
__________
(1) • كذا {وقد نقل هذا الشوكاني (5 / 236) عن الحافظ؛ لكن مع الاستثناء الآتي: " إلا أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه إلا إبراهيم بن سعد ".
وكذا قال الذهبي في " الميزان "، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال في " التقريب ": " مقبول ". (ن)
(2) • انظر التعليق المتقدم (رقم 1) من الصفحة السابقة. (ن)
(3) • قال المجد ابن تيمية: " وما ورد من النهي المطلق عن المخابرة والمزارعة؛ يحمل على ما فيه مفسدة، كما بينته هذه الأحاديث، أو يحمل على اجتنابها ندبا واستحبابا؛ فقد جاء ما يدل على ذلك: فروى عمرو بن دينار، قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة؛ فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها؟ فقال: إن أعلمهم - يعني: ابن عباس - أخبرني؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها، وقال: " لأن يمنح أحدكم أخاه؛ خير له من أن يأخذ خراجا معلوما "؛ رواه أحمد، والبخاري ".
قال الشوكاني في " النيل " (5 / 237) : " وهذا كلام حسن، ولا بد من المصير إليه للجمع بين الأحاديث المختلفة، وهذا الذي رجحناه فيما سلف ".
قلت: يعني (ص 234 - 235) من " النيل "، وقد صرح هناك بأنه لا سبيل إلى جعل ما فعله صلى الله عليه وسلم في خيبر منسوخا؛ لموته وهو مستمر على ذلك، وتقريره لجماعة من الصحابة عليه.
وهذا هو الحق، ومنه يتبين لك أن قوله في " المتن ": " ... لا بشطر ما يخرج منها "؛ غير صواب؛ فتأمل} (ن)(2/453)
أو على مصلحة خاصة بذلك الوقت من جهة كثرة مناقشتهم في هذه المعاملة حينئذ، وهو قول زيد - رضي الله تعالى عنه -، والله - تعالى - أعلم ".
" والمزارعة: أن يكون الأرض والبذر لواحد، والعمل والبقر من الآخر، والمخابرة: أن يكون الأرض لواحد، والبذر والبقر والعمل من الآخر، ونوع آخر يكون العمل من أحدهما والباقي من الآخر ". انتهى.
( [بيان أن من أفسد ما استؤجر عليه أو تلف ما استأجره ضمن] :)
(ومن أفسد ما استؤجر عليه، أو أتلف ما استأجره ضمن) ؛ لمثل حديث (1) : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححه -، وهو من حديث الحسن عن سمرة؛ وفي سماعه منه كلام مشهور.
والمراد: أن على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه.
وأخرج أبو داود (2) ، والنسائي، وابن ماجه، والبزار من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
__________
(1) • سيأتي. (ن)
(2) • في (الديات) (2 / 257 - 258) ، والدارقطني أيضا (ص 370، 516) ؛ من طريق الوليد ابن مسلم: ثنا ابن جريج، عن عمرو ... به.
وقال أبو داود: " هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري هو صحيح أم لا؟ ".
قلت: والوليد يدلس تدليس التسوية؛ فلعله أسقط الواسطة بين ابن جريج وعمرو؛ على أن ابن جريج مدلس أيضا؛ وقد عنعنه. (ن)
وانظر " الصحيحة " (635) .(2/454)
" من تطبب ولم يعلم منه طب؛ فهو ضامن ".
وقد أخرجه النسائي مسندا منقطعا.
ويؤيده حديث عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أيما طبيب تطبب على قوم؛ لا يعرف له تطبب قبل ذلك، فأعنت (1) ؛ فهو ضامن "؛ أخرجه أبو داود.
فالمتطبب إنما ضمن؛ لكونه أقدم على بدن المريض غير عالم بما يعلم به أهل هذه الصناعة، فكان ضامنا.
وهكذا من استؤجر على عمل معين، فأقدم على العمل فيها غير عالم بالصناعة، وأفسدها لتعاطيه؛ ضمن.
وهكذا من استأجر دابة ليركب عليها إلى مكان، فسار بها سيرا غير معتاد، فهلكت، أو ترك علفها، فماتت؛ فإنه ضامن.
__________
(1) أي: أضر المريض وأفسده.
والعنت: الفساد والغلط والخطأ، والإعنات: إدخال الضرر والإفساد. (ش)(2/455)
(8 - باب الإحياء والإقطاع)
( [من أحيا أرضا ميتة فهي له] :)
(من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره؛ فهو أحق بها، وتكون ملكا له) ؛ لحديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ".
أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وصححه الترمذي.
وفي لفظ: " من أحاط حائطا على أرض؛ فهي له "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والطبراني، والبيهقي، وصححه ابن الجارود من حديث الحسن، عن سمرة؛ مرفوعا:
" من أحاط حائطا على أرض فهي له " (1) .
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والنسائي من
__________
(1) صحيح؛ انظر " الإرواء " (1554) .
(2) • لم أجده عنده في مسند سعيد بن زيد، وهو عند أبي داود (2 / 50) بسند صحيح.
وقد أعله بالانقطاع؛ وليس بشيء. (ن)(2/456)
حديث سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق (1) ظالم حق " (2) .
وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من عمر أرضا ليست لأحد؛ فهو أحق بها ".
وأخرج أبو داود من حديث أسمر بن مضرس، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فقال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم؛ فهو له "؛ فخرج الناس يتعادون يتخاطون؛ أي: يجعلون في الأرض خطوطا علامة لما سبقوا إليه.
وصححه الضياء في " المختارة " (3) .
في " شرح السنة ":
" من أحيا مواتا - لم يجر عليه ملك أحد في الإسلام - يملكه، وإن لم يأذن السلطان؛ وبه قال الشافعي.
وذهب بعضهم إلى أنه يحتاج إلى إذن السلطان، وهو قول أبي حنيفة، وخالفه صاحباه.
__________
(1) • أحد عروق الشجرة، أي: لذي عرق. (ن)
(2) • قال في " النهاية ": " هو أن يجيء الرجل إلى أرض، قد أحياها رجل قبله، فيغرس فيها غرسا غصبا؛ ليستوجب به الأرض ". (ن)
(3) • رواه (1 / 58) بإسناد أبي داود (2 / 50) ، وفيه مجهولون كما بينته في " معجم الحديث "؛ ولهذا قال المنذري في " مختصره " (4 / 264) : " غريب ". (ن)(2/457)
وقوله: " ليس لعرق ظالم حق "؛ هو أن يغتصب أرض الغير، فيغرس فيها أو يزرع؛ فلا حق له، ويقلع غراسه وزرعه ".
وفي " المنهاج ":
" ولو سبق رجل إلى موضع من رباط مسبل - أي: وقف -، أو فقيه إلى مدرسة، أو صوفي إلى (خانقاه) ؛ لم يزعج منه، ولم يبطل حقه بخروجه لشراء حاجة ونحوه ". انتهى.
في " الحجة البالغة ":
" الأرض كلها بمنزلة مسجد أو رباط جعل وقفا على أبناء السبيل، وهم شركاء فيه، فيقدم الأسبق فالأسبق.
ومعنى الملك في حق الآدمي: كونه أحق بالانتفاع من غيره ". انتهى.
( [الأدلة على جواز إقطاع الإمام بعض رعيته لمصلحة] :)
(ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئا من الأرض الميتة أو المعادن أو المياه) ؛ لما في " الصحيحين " من حديث أسماء بنت أبي بكر: من أنها كانت تنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد، وأبو داود، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير حضر (1) فرسه، وأجرى الفرس حتى قام (2) ، ثم
__________
(1) الحضر - بضم الحاء وإسكان الضاد -: العدو. (ش)
(2) • أي: وقف؛ يعني: الفرس؛ يذكر ويؤنث. (ن)(2/458)
رمى بسوطه فقال: " أقطعوه حيث بلغ السوط "؛ وفي إسناده عبد الله بن عمر ابن حفص؛ وفيه مقال خفيف (1) .
وأقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - وائل بن حجر أرضا بحضرموت؛ كما أخرجه الترمذي، وأبو داود، وابن حبان، والبيهقي، والطبراني، والمنذري (2) ؛ بإسناد حسن، وصححه الترمذي.
وأخرج أحمد (3) من حديث عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: أقطعيني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا.
وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس، قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم البحرين، فقالوا: يا رسول الله {إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إنكم ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني ".
وأخرج أحمد (4) ، وأبو داود من حديث ابن عباس قال: أقطع النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • بل هو ضعيف كما في " التقريب ". (ن)
(2) • لا أدري ما وجه هذا؟} فليس من شأن المنذري تخريج الأحاديث - بالمعنى المشهور -، ولم يتكلم على سنده في " مختصر أبي داود " (4 / 258) !
والحديث رواه البيهقي أيضا (6 / 144) ؛ وعنده قصة دخول وائل على معاوية لما استخلف، وسنده صحيح. (ن)
(3) • رقم (1670) ؛ ورجاله ثقات رجال مسلم؛ إلا أن ظاهره الانقطاع بين عروة وعبد الرحمن. (ن)
(4) • رقم (2788) ، وأبو داود (2 / 48) ، والبيهقي (6 / 151) ؛ وإسناده حسن؛ بخلاف حديث عمرو بن عوف المزني؛ فإن سنده عندهم ضعيف جدا. (ن)(2/459)
بلال بن الحرث المزني معادن القبلية جلسيّها وغوريّها (1) ".
وأخرجاه أيضا من حديث عمرو بن عوف المزني.
وأخرج الترمذي، وأبو داود، والنسائي - وصححه ابن حبان، وحسنه (2) الترمذي - من حديث أبيض بن حمال: أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ استقطعه الملح، فقطع له، فلما أن ولى؛ قال رجل من المجلس: أتدري ما أقطعت له؟ إنما أقطعته الماء العد (3) ، قال: فانتزعه منه.
وفي الباب غير ذلك.
قال في " المنهاج ": " المعدن الظاهر - وهو ما يخرج بلا علاج -؛ لا يُملك بالإحياء، ولا يثبت فيه اختصاص بتحجر ولا إقطاع.
والمعدن الباطن - وهو ما لا يخرج إلا بعلاج؛ كذهب وفضة وحديد ونحاس -؛ لا يُملك بالحفر والعمل؛ في الأظهر ".
قال المحلي: " والثاني يُملك بذلك، وللسلطان إقطاعه على الملك، وكذا على عدمه في الأظهر، ولا يقطع إلا قدرا يتأتى في العمل عليه ".
__________
(1) القبلية - بفتح القاف والباء -: ناحية من ساحل البحر.
وجلسيها وغوريها - بفتح فسكون فيهما -: نسبة إلى جلس وغور: بمعنى المرتفع والمنخفض؛ أي: إعطاء ما ارتفع منها وما انخفض. (ش)
(2) • وفيه نظر؛ فإنه عنده (2 / 300) ، وكذا أبي داود (2 / 48) ؛ من طريق سمي بن قيس، عن شمير بن عبد الدار، عن أبيض؛ والأول مجهول، وشمير مقبول، كما في " التقريب ".
لكن رواه أبو داود، والدارمي (2 / 268) بإسناد آخر عن أبيض.
فالحديث حسن - إن شاء الله تعالى -. (ن)
(3) العد - بكسر العين -: الدائم الذي لا انقطاع له؛ مثل ماء العين وماء البئر. (ش)(2/460)
قال في " الحجة البالغة ":
" ولا شك أن المعدن الظاهر الذي لا يحتاج إلى كثير عمل: إقطاعه لواحد من المسلمين؛ إضرار بهم وتضييق عليهم ". انتهى.(2/461)
(9 - باب الشركة)
( [بيان أن الناس شركاء في الماء والنار والكلإ] :)
(الناس شركاء في الماء والنار والكلإ) ؛ لحديث أبي خداش (1) ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلإ والنار " (2) .
أخرجه أحمد، وأبو داود.
وقد رواه أبو نعيم في " الصحابة " في ترجمة أبي خداش (1) ، ولم يذكر الرجل، وقد سئل أبو حاتم عنه؟ فقال: أبو خداش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر: رجاله ثقات.
وقد أخرج الحديث ابن ماجه (3) عن ابن عباس، وفي إسناده عبد الله ابن خداش، وهو متروك، وقد صححه ابن السكن.
__________
(1) • اسمه حبان بن زيد الشرعبي، وهو تابعي لا صحابي؛ كما حققه الحافظ في " الإصابة ". (ن)
(2) • في " السنن " (2 / 102) ؛ وإسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر. (ن)
(3) • في " سننه " (2 / 91 - 92) .
وحديث أبي هريرة عنده صحيح الإسناد كما قال الحافظ، وسبقه البوصيري. (ن)(2/462)
وأخرج ابن ماجه أيضا من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يُمنع الماء والنار والكلأ " (1) ؛ قال ابن حجر: إسناده صحيح.
وأخرج الخطيب من حديث عمر نحو ما في الباب، وزاد: " والملح "، وفيه عبد الحكيم بن ميسرة.
ورواه الطبراني بسند حسن، عن زيد بن جبير، عن ابن عمر.
وله عنده طريق أخرى.
وأخرجه أبو داود من حديث بهيسة، عن أبيها.
وأخرجه ابن ماجه من حديث عائشة، أنها قالت: يا رسول الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: " الملح والماء والنار "، وإسناده ضعيف.
وأخرجه الطبراني، عن أنس بلفظ: " خصلتان لا يحل منعهما: الماء والنار " (2) .
وأخرجه العقيلي في " الضعفاء " من حديث عبد الله بن سرجس.
وأحاديث الباب تنتهض بمجموعها.
وقد خصص الحديث بما وقع من الإجماع على أن الماء المحرز في الجرار ملك.
__________
(1) • نصه عند ابن ماجه: " ثلاث لا يمنعن ... ". (ن)
(2) ضعيف بهذا اللفظ؛ " ضعيف الجامع ".(2/463)
قال في " الحجة ":
" يتأكد استحباب المواساة في هذه فيما كان مملوكا.
وما ليس بمملوك أمره ظاهر ". انتهى.
( [بيان توزيع الماء بين المستحقين] :)
وإذا تشاجر المستحقون للماء كان الأحق به الأعلى فالأعلى، يمسكه إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور (1) : أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل؛ أخرجه أبو داود (2) ، وابن ماجه.
قال ابن حجر في " الفتح ": " وإسناده حسن ".
وأخرجه الحاكم في " المستدرك ". من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وأعله الدارقطني بالوقف.
وأخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث ثعلبة بن مالك.
وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " من حديث أبي حاتم القرظي، عن أبيه، عن جده.
وأخرج ابن ماجه، والبيهقي، والطبراني من حديث عبادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) هو واد بالمدينة. (ش) .
(2) • في (الأقضية) (2 / 123) ، وابن ماجه (2 / 95) . (ن)(2/464)
قضى في شرب النخل من السيل: أن الأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء.
وأحاديث الباب صالحة للاحتجاج بها.
قال في " المنهاج ":
" والمياه المباحة - من الأودية والعيون والسيول والأمطار -؛ يستوي الناس فيها، فإن أراد الناس سقي أرضهم منها فضاق؛ سقى الأعلى فالأعلى، وحبس كل واحد الماء حتى يبلغ الكعبين.
وقال محمد: بهذا نأخذ؛ لأنه كان كذلك الصلح بينهم، ولكل قوم ما اصطلحوا وأسلموا عليه من عيونهم وسيولهم وأنهارهم وشربهم ".
( [لا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ] :)
(ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ ".
وفي لفظ مسلم: " لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ ".
وفي لفظ للبخاري: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ ".
وفي الباب أحاديث.(2/465)
وفي لفظ لأحمد: " ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه "، وهو أن يتغلب رجل على عين أو واد؛ فلا يدع أحدا يسقي منه ماشية إلا بالأجر؛ فإنه يفضي إلى بيع الكلإ المباح؛ يعني: يصير المرعى من ذلك بإزاء مال، وهذا باطل؛ لأن الماء والكلأ مباحان.
وقيل: يحرم بيع الماء الفاضل عن حاجته لمن أراد الشرب أو سقي الدواب.
وأما ماء البئر؛ فلا يُمنع من أراد شربه أو سقي بهائمه؛ كما في " الموطإ " من حديث عمرة بنت عبد الرحمن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يمنع نقع بئر "؛ أي: فضل مائها.
قلت: وعليه أهل العلم.
في " المنهاج ":
" وحافر بئر بموات للارتفاق أولى بمائها حتى يرتحل.
والمحفورة - أي في أرض موات للتملك، أو في ملك يتملك ماءها في الأصح، وسواء ملكه أم لا -: لا يلزمه بذل ما فضل عن حاجته لزرع، ويجب لماشية.
قال المحلي: في المحفورة للارتفاق - وقبل ارتحاله -؛ ليس له منع ما فضل عنه عن محتاج إليه للشرب؛ إذا استسقى بدلو نفسه، ولا منع مواشيه، وله منع غيره لسقي الزرع.(2/466)
قال محمد: وبهذا نأخذ؛ أيما رجل كانت له بئر؛ فليس له أن يمنع الناس منها؛ أن يستقوا منها بشفاههم.
أما لزرعهم ونخلهم؛ فله أن يمنع ذلك، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا ".
( [يصح للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي دواب المسلمين] :)
(وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد (1) ، وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع (2) للخيل؛ خيل المسلمين.
وأخرج أحمد (3) ، وأبو داود، والحاكم من حديث الصعب بن جثامة (4) ؛ وزاد: " لا حمى إلا لله ورسوله ".
__________
(1) • في " المسند " (رقم 5655، 6438، 6464) ؛ وفيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، كما في " الفتح ". (ن)
(2) موضع على عشرين فرسخا من المدينة، وهو بالنون. (ش)
(3) • في " المسند " (4 / 71، 73) ، وأبو داود (2 / 52) ، والبيهقي أيضا (6 / 146) .
ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الرحمن بن الحارث - وهو ابن عبد الله بن عباس -؛ فيه كلام من قبل حفظه.
ومن طريقه أخرجه الحاكم (2 / 61) - وصححه ووافقه الذهبي -؛ وفيه نظر؛ فقد رواه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب.
وقد رواه جماعة من الثقات الحفاظ عن الزهري، لم يذكروا فيه: " حمى النقيع "، بل روى هذا يونس عن الزهري من قوله بلاغا:
كذلك أخرجه البخاري، وأبو داود، والبيهقي - في رواية لهما -.
وكذلك قال البخاري في رواية عبد الرحمن بن الحارث: " هذا وهم "؛ نقله البيهقي. (ن)
(4) لعله سقط هنا لفظ: " مثله ". (ش)(2/467)
وهذه الزيادة في " صحيح البخاري "؛ (1) وفيه (2) : أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى شرف (3) والربذة.
قلت: وعليه الشافعي.
في " المنهاج ":
" والأظهر أن للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي نعم جزية، وصدقة وضالة، وضعيف من النجعة، ولا يحمي لغير ذلك ". انتهى.
لأن الحمى تضييق على الناس، وظلم عليهم، وإضرار لهم.
( [جواز الاشتراك في النقود والتجارات] :)
(ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات، ويقسم الربح على ما تراضيا عليه) ؛ لحديث السائب بن أبي السائب، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك؛ لا تداريني (4) ولا تماريني.
__________
(1) • وفي " ابن حبان " أيضا (1 / 304 - 305) . (ن)
(2) • هذا يوهم أنه عند البخاري من حديث الصعب؛ وليس كذلك؛ وإنما هو عنده عن الزهري بلاغا.
وكذلك أخرجه غيره، فانظر " صحيح أبي داود "، والذي بعده. (ن)
(3) • " شرف " - بفتح الشين المعجمة وفتح الراء؛ ولفظ البخاري: " الشرف " بالتعريف -؛ وهو والربذة موضعان بين مكة والمدينة.
ورواه بعضهم: " سرف " - بفتح السين المهملة وكسر الراء -، وهو موضع بقرب مكة، ولا يدخل عليه الألف واللام. (ش)
(4) • من المدارأة، أي: لا يشاغب ولا يخالف؛ قال في " النهاية ": " وهو مهموز، وروي في الحديث غير مهموز؛ ليزاوج " يماري ".
فأما المداراة في حسن الخلق والصحبة؛ فغير مهموز، وقد يهمز ". (ن)(2/468)
أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم - وصححه (1) -.
وفي لفظ لأبي داود، وابن ماجه: أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخي وشريكي؛ لا تداري ولا تماري.
وله طرق غير هذه.
وأخرج البخاري عن أبي المنهال: أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما أن " ما كان يدا بيده فخذوه، وما كان نسيئة فردوه ".
وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن ابن مسعود قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء؛ وفيه انقطاع (2) .
وأخرج أحمد (3) ، وأبو داود، عن رويفع بن ثابت، قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو (4) أخيه؛ على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف، وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح (5) .
__________
(1) • ووافقه الذهبي، وهو كما قالا؛ انظر " المستدرك " (2 / 61) ، و " البيهقي " (6 / 78) . (ن)
(2) • لأنه من رواية أبي عبيدة، عن ابن مسعود؛ ولم يسمع منه.
وكذلك أخرجه البيهقي، (6 / 79) ، والدارقطني (303) . (ن)
(3) • في " المسند " (4 / 108) ؛ وسنده ضعيف؛ فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وتابعيه شيبان بن أمية؛ مجهول. (ن)
(4) النضو - بكسر النون وإسكان الضاد -: هو المهزول من الإبل. (ش)
(5) النصل: حديدة السهم.
والريش: هو الذي يكون على السهم.
والقدح - بكسر القاف وإسكان الدال -: السهم قبل أن يراش وينصل. (ش)(2/469)
وأخرجه الدارقطني، والبيهقي.
( [جواز المضاربة ما لم تشتمل على حرام] :)
(وتجوز المضاربة) ، وهو في لغة أهل المدينة: القراض، والضرب بمعنى السفر، والمضاربة المعاملة على السفر، وأيضا الضرب بمعنى الشركة، والمضاربة المعاملة على الشركة.
اتفق أهل العلم على جواز المضاربة، ولا تجوز إلا على الدراهم والدنانير، وهو أن يعطي شيئا منها لرجل ليعمل ويتجر، فما يحصل من الربح يكون بينهما مناصفة، أو أثلاثا؛ على ما يتشارطان.
(ما لم تشتمل على ما لا يحل) ؛ لما روي عن حكيم بن حزام: أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك؛ فقد ضمنت مالي.
وقد قيل: إنه لم يصح في المضاربة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فعلها الصحابة: منهم حكيم المذكور، ومنهم علي كما رواه عبد الرزاق، ومنهم ابن مسعود كما رواه الشافعي، ومنهم العباس كما رواه البيهقي، ومنهم جابر كما رواه البيهقي أيضا، ومنهم أبو موسى وابن عمر كما رواه في " الموطإ "، والشافعي، والدارقطني، ومنهم عمر كما رواه الشافعي، ومنهم عثمان كما رواه البيهقي.
وقد روي في ذلك من المرفوع ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب،(2/470)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع "؛ ولكن في إسناده مجهولان.
أقول: قد صرح جماعة من الحفاظ بأنه لم يثبت في هذا الباب - أعني: المضاربة - شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل جميع ما فيه آثار عن الصحابة، وقد وقع إجماع من بعدهم على جواز هذه المعاملة؛ كما حكى ذلك غير واحد.
وصرح الحافظ ابن حجر بأنها كانت ثابتة في عصر النبوة، فقال:
" والذي نقطع به؛ أنها كانت ثابتة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعلم بها وأقرها، ولولا ذلك لما جازت البتة ". انتهى.
ولا يخفاك أن عدم الجواز الذي ذكره - على فرض عدم ثبوتها في أيام النبوة - مبني على أن الأصل عدم جواز كل معاملة لم يثبت فيها دليل، وهو غير مسلم؛ بل الأصل الجواز؛ ما لم تكن على وجه يستلزم ما لا يحل شرعا.
وعندي أن المضاربة داخلة تحت قول الله: {وأحل الله البيع} ، وتحت قوله - تعالى -: {تجارة عن تراض} ؛ بل كل ما دل على جواز البيع، وعلى جواز الإجارة، وعلى جواز الوكالة؛ دل عليها.
وبيان ذلك: ان المالك للنقد إذا دفعه إلى آخر، ووكله بالشراء له بنقده(2/471)
ما رآه، ووكله أيضا ببيعه، وجعل له أجرة على تولي البيع وتولي الشراء، وهي ما سماه له من الربح؛ فجواز البيع والشراء داخل تحت أدلة البيع والشراء، وجواز التوكيل بهما داخل تحت أدلة الوكالة، وجواز جعل جزء من الربح للوكيل داخل تحت أدلة الإجارة؛ فعرفت بهذا أن القراض غير خال من دليل يدل عليه العموم؛ بل الذي لم يثبت هو الدليل الذي يدل عليه بخصوصه، فلا وجه لما قاله الحافظ ابن حجر: أنها لو لم تثبت هذه المعاملة بخصوصها في عصر النبوة لما جازت البتة (1) .
واعلم أن هذه الأسامي التي وقعت في كتب الفروع - لأنواع من الشركة كالمفاوضة (2) والعنان والوجوه والأبدان - لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية؛ بل اصطلاحات حادثة متجددة، ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما ويتجرا؛ كما هو معنى المفاوضة المصطلح عليها؛ لأن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء؛ ما لم يستلزم ذلك التصرف محرما مما ورد الشرع بتحريمه.
__________
(1) كيف هذا؛ والأجرة إذا كانت مجهولة كانت غير جائزة؟ {
والمضاربة إذا ربح الشريك فيها معينا كانت غير جائزة أيضا؛ فإنها تكون ربا؟}
فلا يأتي ما قاسه الشارح وأراد به الرد على الحافظ ابن حجر. (ش)
(2) • شركة المفاوضة: هي أن يفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله؛ مع غيبته وحضوره؛ كذا في " بداية المجتهد " (2 / 210) .
وشركة العنان: هي أن تكون في شيء خاص دون سائر مالهما.
أو هو أن يكونا سواء في الشركة؛ لأن عنان الدابة طاقتان متساويتان: " قاموس ".
وشركة الوجوه: هي الشركة على الذمم؛ من غير صنعة ولا مال، وهي جائزة عند أبي حنيفة، باطلة عند مالك والشافعي؛ كما في " البداية " (2 / 211) .
وشركة الأبدان: هي الاشتراك في صنعة، وهي جائزة عند أبي حنيفة ومالك، وإن اختلفت الصنعة عند الأول. (ن)(2/472)
وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين وكونهما نقدا واشتراط العقد، فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره؛ بل مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف، وكذلك لا مانع من أن يشترك الرجلان في شراء شيء؛ بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من الثمن؛ كما هو معنى شركة العنان اصطلاحا، وقد كانت هذه الشركة ثابتة في أيام النبوة، ودخل فيها جماعة من الصحابة، فكانوا يشتركون في شراء شيء من الأشياء، ويدفع كل واحد منهم نصيبا من قيمته، ويتولى الشراء أحدهما أو كلاهما.
وأما اشتراط العقد والخلط؛ فلم يرد ما يدل على اعتباره.
وكذلك لا بأس أن يوكل أحد الرجلين الآخر أن يستدين له مالا، ويتجر فيه؛ ويشتركا في الربح؛ كما هو معنى شركة الوجوه اصطلاحا، ولكن لا وجه لما ذكروه من الشروط.
وكذلك لا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الآخر في أن يعمل عنه عملا استؤجر عليه؛ كما هو معنى شركة الأبدان اصطلاحا، ولا معنى لاشتراط شروط في ذلك.
والحاصل: أن جميع هذه الأنواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي؛ لأن ما كان منها من التصرف في الملك؛ فمناطه التراضي، ولا يتحتم اعتبار غيره، وما كان منها من باب الوكالة أو الإجارة؛ فيكفي فيه ما يكفي فيهما.
فما هذه الأنواع التي نوعوها والشروط التي اشترطوها؟ {وأي دليل عقل أو نقل ألجأهم إلى ذلك؟} فإن الأمر أيسر من هذا التهويل والتطويل؛ لأن(2/473)
حاصل ما يستفاد من شركة المفاوضة والعنان والوجوه: أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شيء وبيعه، ويكون الربح بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن، وهذا شيء واحد واضح المعنى، يفهمه العامي فضلا عن العالم، ويفتي بجوازه المقصر فضلا عن الكامل، وهو أعم من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن أو يختلف، وأعم من أن يكون المدفوع نقدا أو عرضا، وأعم من أن يكون ما اتجرا به جميع مال كل واحد منهما أو بعضه، وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما.
وهب أنهم جعلوا لكل قسم من هذه الأقسام - التي هي في الأصل شيء واحد - اسما يخصه؛ فلا مشاحة في الاصطلاحات؛ لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات، وتكلفهم لتلك الشروط، وتطويل المسافة على طالب العلم، وإتعابه بتدوين ما لا طائل تحته؟ {
وأنت لو سألت حراثا أو بقالا عن جواز الاشتراك في شراء الشيء وفي ربحه؛ لم يصعب عليه أن يقول: نعم.
ولو قلت له: هل يجوز العنان أو الوجوه أو الأبدان؛ لحار في فهم معاني هذه الألفاظ}
بل قد شاهدنا كثيرا من المتبحرين في علم الفروع؛ يلتبس عليه كثير من تفاصيل هذه الأنواع، ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض، اللهم! إلا أن يكون قريب عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه؛ فربما يسهل عليه ما يهتدي به إلى ذلك.(2/474)
وليس المجتهد من وسع دائرة الآراء العاطلة عن الدليل، وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل؛ فإن ذلك هو دأب أسراء التقليد؛ بل المجتهد من قرر الصواب وأبطل الباطل، وفحص في كل مسألة عن وجوه الدلائل، ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور المقصرين، فالحق لا يعرف بالرجال.
ولهذا المقصد؛ سلكنا في هذه الأبحاث مسالك لا يعرف قدرها إلا من صفى فهمه عن التعصبات، وأخلص ذهنه عن الاعتقادات المألوفات، والله المستعان.
( [بيان عرض الطريق إذا اختلف الشركاء] )
(وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اختلفتم في الطريق؛ فاجعلوه سبعة أذرع ".
وأخرج معناه عبد الله بن أحمد في " المسند " (1) ، والطبراني من حديث عبادة بن الصامت.
وأخرجه أيضا عبد الرزاق من حديث ابن عباس (2) .
وأخرجه أيضا ابن عدي من حديث أنس.
__________
(1) • (5 / 326 - 327) ؛ وسنده ضعيف لانقطاعه وجهالة أحد رواته.
وكذا أخرجه البيهقي (6 / 155) . (ن)
(2) • وأخرجه أيضا أحمد (رقم 2098) ، وابن ماجه (2 / 57) ، من طريق سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ وهذا سند صحيح.
وله في " المسند " طرق أخرى فيها ضعف، ويأتي قريبا بعضها. (ن)(2/475)
( [النهي عن منع الجار جاره أن يغرز خشبة في جداره] :)
(ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره ".
وروى نحوه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي عن جماعة من الصحابة.
( [بيان أنه لا ضرر ولا ضرار بين الشركاء] :)
(ولا ضرر ولا ضرار بين الشركاء) ؛ لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار؛ وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع ".
أخرجه أحمد (1) ، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني، وعبد الرزاق.
قال ابن كثير:
" أما حديث: " لا ضرر ولا ضرار "؛ فرواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت (2) ، وروي من حديث ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وهو حديث مشهور ". انتهى.
__________
(1) • في " المسند " (رقم 2867) - بهذا التمام -، وابن ماجة (2 / 57) - مفرقا بأسانيد -، والبيهقي (6 / 69) دون قوله: " لا ضرر ولا ضرار ".
وهذه الجملة فيها - عند أحمد وابن ماجه - جابر الجعفي؛ وهو ضعيف، لكن الحديث قوي لطرقه المذكورة في الكتاب. (ن)
(2) • وأخرجه عبد الله بن أحمد (5 / 326 - 327) ، والبيهقي (6 / 157) ؛ من طريق إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه.
وهذا سند ضعيف؛ للجهالة والانقطاع، قال الحافظ في ترجمة إسحاق هذا من " التقريب ": " أرسل عن عبادة، وهو مجهول الحال ".
وذهل عن هذا الشيخ أحمد شاكر، فصحح سنده في تعليقه على " المسند " (4 / 311) ! (ن)(2/476)
فحديث ابن عباس هو المذكور في الباب، وحديث عبادة أخرجه أيضا البيهقي، وحديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه (1) ، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي.
وقد رواه - من حديث ثعلبة بن مالك القرظي -: الطبراني في " الكبير "، وأبو نعيم.
( [بيان عقوبة من ضار شريكه] :)
(ومن ضار شريكه كان للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره) ؛ لحديث سمرة بن جندب: أنه كانت له عضد (2) من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله؛ فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: " فهبه لي؛ ولك كذا وكذا "؛ أمر أرغبه فيه، فأبى، فقال: " أنت مضار "؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: " اذهب فاقلع نخله ".
__________
(1) • ليس هو عند ابن ماجه.
وهو عند الدارقطني (ص 321، 522) ، والحاكم (2 / 57 - 56) ، والبيهقي (6 / 69) ؛ وقال: " تفرد به عثمان بن محمد - يعني: ابن عثمان بن ربيعة -، عن الدراوردي "؛ فتعقبه ابن التركماني بقوله: " بل تابعه عبد الملك بن معاذ؛ أخرجه أبو عمر في كتابيه " التمهيد "، و " الاستذكار " {".
قلت: وعبد الملك - هذا - لا يعرف، كما قال ابن القطان، والذهبي.
ومتابعه - عثمان بن محمد -؛ ضعفه الدارقطني، وعبد الحق.
ومع هذا؛ فالحاكم يقول في سند هذا الحديث: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي} (ن)
(2) العضد من النخل: الطريقة منه؛ قال ابن الأثير: " وقيل: إنما هو عضيد من نخل، وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد ". (ش)
• وقال الخطابي (5 / 239) : " يريد نخلا لم تتسق ولم تطل ". (ن)(2/477)
وهو من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه (1) ، عن سمرة، ولم يسمع منه.
وقد روى المحب الطبري في " أحاديث الأحكام " عن واسع بن حبان، قال: كان لأبي لبابة عذق (2) في حائط رجل، فكلمه ... ثم ذكر نحو قصة سمرة.
__________
(1) • هذا خطأ، والصواب: من رواية أبي جعفر محمد بن علي عن سمرة:
كذلك أخرجه أبو داود (2 / 123) ، والبيهقي (6 / 157) . (ن)
(2) العذق - بفتح العين وإسكان الذال -: النخلة. (ش)(2/478)
(10 - باب الرهن)
( [دليل مشروعية الرهن] :)
(يجوز رهن ما يملكه الراهن في دين عليه) .
الرهن جائز بالإجماع؛ وقد نطق به الكتاب العزيز، وتقييده بالسفر خرج مخرج الغالب، كما ذهب إليه الجمهور.
وقال مجاهد والضحاك والظاهرية: لا يشرع إلا في السفر.
وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيرا لأهله؛ كما أخرجه البخاري، وغيره من حديث أنس، وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة، وأخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن عباس، وصححه الترمذي، وصاحب " الاقتراح ".
وفي ذلك دليل على مشروعية الرهن في الحضر؛ كما قال الجمهور.
( [ينتفع بالمرهون إذا كان دابة تركب أو بهيمة تحلب] :)
(والظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون) ؛ لما أخرجه البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ".(2/479)
وللحديث ألفاظ.
والمراد: أن المرتهن ينتفع بالرهن وينفق عليه، وقد ذهب إلى ذلك أحمد وإسحاق والليث والحسن وغيرهم.
قال ابن القيم:
" وأخذ أحمد وغيره من أئمة الحديث بهذه الفتوى، وهو الصواب ".
وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء: لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء؛ بل الفوائد للراهن والمؤن عليه، قالوا: والحديث ورد على خلاف القياس.
ويجاب بأن هذا القياس فاسد الاعتبار، مبني على شفا جرف هار، ولا يصح الاحتجاج به؛ لما ورد من النهي عن أن تحلب ماشية الرجل بغير إذنه - كما في " البخاري " وغيره -؛ لأن العام لا يرد به الخاص؛ بل يبنى عليه.
وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين ":
" وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأعدلها، ولا يصلح للراهنين غيره، وما عداه ففساده ظاهر.
فإن الراهن قد يغيب، ويتعذر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن، ويشق عليه؛ أو يتعذر رفعه إلى الحاكم وإثبات الرهن إثبات غيبة الراهن.
وإثبات أن قدر النفقة عليه قدر حلبه وركوبه، وطلبه منه الحكم له بذلك(2/480)
في هذا؛ من العسر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة، فشرع الشارع الحكيم القيم بمصالح العباد.
وللمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره - وعليه نفقته -، وهذا محض القياس لو لم تأت به السنة الصحيحة ". انتهى.
ثم أطال في تخريج هذا القياس إلى ما لا يسعه هذا القرطاس.
( [لا يستحق المرتهن الرهن إذا لم يفكه الراهن] :)
(ولا يغلق (1) الرهن بما فيه) ؛ لحديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه وعليه غرمه ".
أخرجه الشافعي (2) والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وابن حبان في
__________
(1) قال ابن الأثير: " يقال: غلق - بكسر اللام - الرهن يغلق - بفتحها - غلوقا: إذا بقي في يد المرتهن، لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى: أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يستفكه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية: أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين؛ ملك المرتهن الرهن؛ فأبطله الإسلام ". (ش)
(2) • الشافعي (2 / 189 - 190) ، والدارقطني (ص 302 - 303) ، والحاكم (2 / 51 - 52) ، والبيهقي (6 / 39) ؛ من طرق عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
وقال الدارقطني: " إسناده حسن متصل ".
وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
ولا يعله أنه جاء مرسلا؛ لما ذكره الشارح، لا سيما والذين رووه موصولا جماعة ثقات، وتوهينهم ليس بالأمر اليسير.
وله شاهد من حديث عطاء، وسليمان بن موسى - معا - مرسلا؛ أخرجه الطحاوي (2 / 253) دون قوله: " من صاحبه ... ".
وقد نقل الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 320) أن قوله: " له غنمه ... . "؛ من كلام سعيد، وأيده الزيلعي؛ فيراجع! (ن)(2/481)
" صحيحه "، وحسن الدارقطني إسناده.
وقال الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام ": أن رجاله ثقات؛ إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله.
وأخرجه ابن ماجه من طريق أخرى (1) ، والرفع زيادة، وقد خرجت من مخرج مقبول.
والمراد بالغلاق هنا: استحقاق المرتهن له؛ حيث لم يفكه الراهن في الوقت المشروط.
وروى عبد الرزاق عن معمر؛ أنه فسر غلاق الرهن؛ بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بمالك فالرهن لك، قال: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا، إنما هلك من رب الرهن؛ له غنمه وعليه غرمه.
وقد روي أن المرتهن في الجاهلية كان يتملك الرهن؛ إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب، فأبطله الشارع.
والغنم والغرم - هنا - هو أعم مما تقدم؛ من أن الظهر يركب بنفقة المرهون، واللبن يشرب.
قال في " الحجة البالغة ":
" ومبنى الرهن على الاستيثاق، وهو بالقبض؛ فلذلك اشترط فيه.
ولا اختلاف عندي بين حديث: " لا يغلق الرهن "؛ وحديث: " الظهر
__________
(1) • هذا خطأ؛ فإنما أخرجه ابن ماجة (2 / 84) من الطريق السابق عن أبي هريرة. (ن)(2/482)
يركب " ... الخ؛ لأن الأول هو الوظيفة.
لكن إذا امتنع الراهن من النفقة عليه، وخيف الهلاك، وأحياه المرتهن؛ فعند ذلك ينتفع به بقدر ما يراه الناس عدلا ". انتهى.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال محمد: وبهذا نأخذ.
وتفسير قوله: " لا يغلق الرهن ": أن الرجل كان يرهن الرهن - أي: المرهون عند الرجل -؛ فيقول: إن جئتك بمالك إلى كذا وكذا؛ وإلا فالرهن لك بمالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغلق الرهن، ولا يكون للمرتهن بماله "، وكذلك نقول، وهو قول أبي حنيفة، وكذلك فسره مالك بن أنس.
وفي " شرح السنة ":
" معناه لا يستغلق بحيث لا يعود إلى الراهن، بل متى أدى الحق المرهون به؛ افتك وعاد إلى الراهن.
وروى الشافعي هذا الحديث مع زيادة، ولفظه: " لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه وعليه غرمه ".
قال الشافعي: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه.
وفيه دليل على أنه إذا هلك في يد المرتهن؛ يكون من ضمان الراهن، ولا يسقط بهلاكه شيء من حق المرتهن، وعليه الشافعي.(2/483)
وقال أبو حنيفة: قيمته إن كانت قدر الحق؛ يسقط بهلاكه الحق، وإن كانت أقل من الحق؛ يسقط بقدره، وإن كان أكثر من الحق؛ يسقط الحق.
وعند الشافعي: دوام القبض ليس بشرط في الرهن، فيستعمل الدابة المرهونة بالنهار، وترد إلى المرتهن بالليل، ولا يسافر عليها.
ولم يجوزه أبو حنيفة ".
أقول: الحق أن الرهن إذا تلف في يد المرتهن - بدون جنايته ولا تفريطه -؛ فهو غير مضمون عليه.
وإن كان بجنايته أو تفريطه؛ ضمنه للجناية عليه، أو التفريط؛ لا لكونه مستحقا حبسه؛ فإن الحبس للرهن بمجرده ليس بسبب للضمان.
والمدارك الشرعية واضحة المنار.(2/484)
(11 - باب الوديعة والعارية)
( [دليل مشروعية العارية] :)
أقول: العارية من مكارم الأخلاق ومحاسن الطاعات وأفضل الصلات؛ لأنها إباحة المالك لمنافع ملكه لمن له إليه حاجة، ولا ريب أن هذا الفعل داخل تحت نصوص الكتاب والسنة؛ فإن فيهما من الترغيب في ذلك ما لا يحيط به الحصر، ومن جملة ذلك قوله - تعالى -: {وتعانوا على البر والتقوى} ، وقوله: {ويمنعون الماعون} .
والحاصل: أن العارية - في لسان العرب والشرع - هي: إباحة المنافع بلا عوض، فما وجد فيه هذا المعنى كان من العارية؛ وما لا فلا.
( [تأدية الأمانة إلى صاحبها واجب] :)
(تجب على الوديع (1) والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخون من خانه) : لقوله - تعالى -: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك "؛ أخرجه أبو داود، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -
__________
(1) لم أجد وجها لاستعمال هذا الحرف في المعنى المراد هنا. (ش)(2/485)
من حديث أبي هريرة، وفي إسناده طلق بن غنام، عن شريك (1) .
وقد استشهد له الحاكم بحديث أبي التياح، عن أنس، وفي إسناده أيوب بن سويد، وهو مختلف فيه، وقد تفرد به؛ كما قال الطبراني.
وأخرجه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " من حديث أبي بن كعب، وفي إسناده من لا يعرف.
وأخرجه أيضا الدارقطني (2) عنه.
وأخرجه البيهقي، والطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف.
وأخرجه الدارقطني، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم من حديث أنس.
وأخرجه أحمد، وأبو داود، والبيهقي عن رجل من الصحابة؛ وفي إسناده مجهول غير الصحابي.
( [بيان أنه لا ضمان على مؤتمن] :)
(ولا ضمان عليه إذا تلفت) العين المستعارة أو المستودعة (بدون جنايته
__________
(1) • هذا يوهم أنهم أخرجوه عن شريك وحده، وهو ضعيف الحفظ كما هو معروف؛ وليس الأمر كما أوهم؛ بل رووه جميعا؛ أبو داود (2 / 108) ، والترمذي (2 / 252) ، والحاكم (2 / 46) ، والدارمي - أيضا - (2 / 264) ، والطحاوي في " المشكل " (2 / 338) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " (ص 30) ؛ من طريق شريك، وقيس بن الربيع - معا -؛ عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
فالإسناد بهذه المتابعة حسن، وقد قواه من ذكر المؤلف، وصححه الذهبي في " التلخيص "، ولا شك في صحة الحديث إذا نظر إلى شواهده المذكورة، ولهذا قواه السخاوي، والشوكاني، وغيرهما. (ن)
(2) • في " سننه " (ص 313) . (ن)(2/486)
وخيانته) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضمان على مؤتمن "؛ أخرجه الدارقطني (1) ؛ وفي إسناده ضعف.
وقد وقع الإجماع على أن الوديع لا يضمن؛ إلا لجناية منه على العين (2) ؛ لما أخرجه الدارقطني في الحديث السابق من طريق أخرى بلفظ:
" ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا المستودع غير المغل ضمان ".
والمغل: هو الخائن، والجاني خائن.
وأما المستعير؛ فقد ذهب إلى أنه لا يضمن - إلا لجناية أو خيانة -: الحنفية والمالكية، وحكى في " الفتح " عن الجمهور: أن المستعير يضمنها إذا تلفت في يده؛ إلا إذا كان التلف على الوجه المأذون فيه.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم (3) - وصححه - من حديث الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " على اليد
__________
(1) • (ص 306) ، ومن طريقه البيهقي (6 / 289) ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الحجبي، عن عمرو بن شعيب ... به.
ومحمد هذا ترجمه ابن أبي حاتم (3 / 2 / 323) ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا؛ فهو مجهول؛ وكأنه لذلك قال البيهقي: " إسناده ضعيف ".
لكن لم يتفرد به: فأخرجه الدارقطني من طريق عبيدة بن حسان، وابن ماجه (2 / 73) من طريق المثنى، والبيهقي تعليقا، والخلعي موصولا (20 / 50 / 2) ؛ من طريق ابن لهيعة، كلهم، عن عمرو بن شعيب ... .
فهذه طرق يشد بعضها بعضا؛ فالحديث في نقدي حسن، والله أعلم. (ن)
(2) • معناه عند أبي عبيد: هو الرجل؛ يكون لك عليه المال، فيجحدك ولا يعطيك، ثم يصير له عليك المال؛ فلا بأس أن تأخذ منه الذي أخذ منك، وتعطيه الباقي.
رواه الخرائطي بسند صحيح، وبه فسره الطحاوي. (ن)
(3) • (2 / 47) ، والدارمي (2 / 264) . (ن)(2/487)
ما أخذت حتى تؤديه "؛ وفي سماع الحسن عن سمرة مقال مشهور.
وأخرج أحمد، وأبو داود (1) ، والنسائي، والحاكم (2) من حديث صفوان بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ ! قال: " بل عارية مضمونة ".
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" وجميع هذه الأسباب داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي "؛ إن كان المراد على اليد ضمان ما أخذت، ولكن الظاهر أن المراد: على اليد حفظ ما أخذت حتى تؤديه، وذلك إنما يكون في الباقي، وليس فيه دليل على ضمان التالف (3) ".
( [لا يجوز منع الماعون] :)
(ولا يجوز منع الماعون: كالدلو والقدر) ؛ لحديث ابن مسعود، قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية؛ الدلو والقدر.
أخرجه أبو داود (4) ، وحسنه المنذري.
وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهما فسرا قوله - تعالى -:
__________
(1) • (2 / 111) . (ن)
(2) • والبيهقي وقواه، وله عند الحاكم (3 / 49) شاهد عن جابر. (ن)
(3) بل الظاهر من الحديث - ومن باقي الأحاديث -؛ أن على المستعير أن يؤدي ما استعاره، وأنه ضامن إلى أن تبرأ ذمته بالأداء؛ لأنه جعل الغاية الأداء، وما زعمه الشارح من تقدير أن على اليد حفظ ما أخذت؛ لا دليل عليه. (ش)
(4) • (1 / 263) ؛ من طريق عاصم بن أبي النجود، عن شقيق، عن ابن مسعود.
وهذا سند حسن. (ن)(2/488)
{ويمنعون الماعون} : أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم؛ من الفأس والدلو والحبل والقدر، وما أشبه ذلك.
وعن عائشة: الماعون: الماء والنار والملح.
وقيل: الماعون: الزكاة.
( [أمثلة على ما لا يجوز منع عاريته] :
(وإطراق الفحل، وحلب المواشي لمن يحتاج ذلك، والحمل عليها في سبيل الله) ؛ لما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها؛ إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر (1) ، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها "، قلنا: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: " إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله ".
والمراد بإطراق فحلها: عاريته من يحتاج أن يطرق به على ماشيته.
والمراد بمنحتها: أن يعطي المحتاج لينتفع بحلبها ثم يردها.
وأما الحمل عليها في سبيل الله؛ فإذا طلب ذلك من لا ماشية له من صاحب المواشي التي فيها زيادة على حاجته.
__________
(1) • هو المكان المستوي: " نهاية ". (ن)(2/489)
(12 - باب الغصب)
( [الأدلة على تحريم الغصب] :)
(يأثم الغاصب) ؛ لأنه أكل مال غيره بالباطل، أو استولى عليه عدوانا، وقد قال الله - تعالى -: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه ".
أخرجه الدارقطني (1) من طرق عن أنس مرفوعا؛ وفي أسانيدها ضعف.
وأخرجه أحمد (2) ، والدارقطني من حديث أبي حرة الرقاشي، عن عمه؛ وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان؛ وهو متكلم عليه.
وأخرجه الحاكم (3) من حديث ابن عباس.
__________
(1) • في " سننه " (ص 299 - 300) ؛ وفي الطريق الأولى داود بن الزبرقان؛ وهو متروك، وفي الطريق الأخرى من لم أعرفهم. (ن)
(2) • في " المسند " (5 / 72) ، وسنده حسن بالنظر لشواهده؛ ورواه البيهقي (6 / 100) . (ن)
(3) • لينظر، وقد أخرجه البيهقي (6 / 96 - 97) ؛ من طريق الحاكم وغيره، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، وسنده حسن.
وهو عند الدارقطني (ص 299) ؛ من طريق مقسم، عن ابن عباس؛ وفيه محمد بن عبيد الله - وهو العرزمي -؛ متروك.
ورواه البيهقي من حديث ابن عمر؛ وفيه موسى بن عبيدة؛ ضعيف.
لكن الحديث صحيح؛ لما تقدم من الشواهد، ولحديث أبي حميد الآتي (ن) .(2/490)
وأخرجه الدارقطني عنه من طريق أخرى.
وأخرجه البيهقي (1) ، وابن حبان، والحاكم في " صحيحيهما " من حديث أبي حميد الساعدي.
وقد أخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي - وحسنه - من حديث السائب بن يزيد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا، ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه ".
وحديث: " إنما أموالكم ودماؤكم عليكم حرام "؛ وهو ثابت في " الصحيحين "، وغيرهما.
وهو مجمع على تحريم الغصب عند كافة المسلمين، ومجمع على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا، وعلى تسليم عوضه إن كان تالفا.
( [ماذا يجب على الغاصب؟] :)
(ويجب عليه رد ما أخذ، ولا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه) ؛ كما تقدم دليله.
( [بيان حكم من زرع أو غرس في أرض غيره بالقوة] :)
(وليس لعرق ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من
__________
(1) • في " السنن الكبرى " (6 / 100) ، والطحاوي أيضا؛ وسنده صحيح، كما بينته في " معجم الحديث ". (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 221) ، وأبو داود (2 / 314) ، والترمذي (3 / 206) ، والبيهقي أيضا (6 / 100) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم. (ن)(2/491)
الزرع شيء، ومن غرس في أرض غيره غرسا رفعه) ؛ لحديث رافع بن خديج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من الزرع شيء، وله نفقته (1) ".
أخرجه أحمد (2) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والبيهقي، والطبراني، وابن أبي شيبة، والطيالسي، وأبو يعلى، وحسنه البخاري (3) .
وأخرج أبو داود، والدارقطني (4) من حديث عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحيا أرضا فهي له، وليس لعرق ظالم حق ".
قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم (5) ".
__________
(1) • قال الشوكاني: " والمراد به: ما أنفقه الغاصب على الزرع من المؤنة في الحرث، والسقي، وقيمة البذر وغير ذلك، وقيل: المراد بالنفقة قيمة الزرع، فتقدر قيمته ويسلمها المالك.
والظاهر الأول ". (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 141) ، وكذا الطحاوي في " المشكل " (3 / 280) ؛ وفيه شريك القاضي، وهو سيئ الحفظ، لكن تابعه قيس بن الربيع؛ عند البيهقي (6 / 136) .
فالحديث حسن، ويشهد له حديث أرض ظهير الآتي. (ن)
(3) هذا حديث صحيح، وضعفه بعضهم بشريك، وزعم أنه انفرد به، ولكن تابعه عليه قيس بن الربيع، وضعفهما إنما هو من قبل حفظهما، فاتفاقهما على روايته مؤذن بصحته. (ش)
(4) • في " سننه " (2 / 5) ، وكذا البيهقي (6 / 99) ؛ وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه. (ن)
(5) العم - بضم العين -: جمع عميمة؛ وهي النخلة الطويلة التامة في طولها والتفافها.
وقيل: هي القديمة. (ش)(2/492)
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والنسائي، وأخرجه البخاري تعليقا من حديث سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق " (1) .
أقول: الحق الحقيق بالقبول: أن الزرع لمالك الأرض، وعليه للغاصب ما أنفقه على الزرع (2) ؛ كما ثبت ذلك عند أهل " السنن "، ولفظه في رواية:
أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة، فرأى زرعا في أرض ظهير، فقال: " ما أحسن زرع ظهير {" قيل: ليس لظهير، قال: " أليست أرض ظهير؟} "، قالوا: بلى، ولكنه زرع (3) فلان، قال: " فخذوا زرعكم، وردوا عليه النفقة " ... الحديث (4) .
( [الانتفاع بالمغصوب حرام] :)
(ولا يحل الانتفاع بالمغصوب) ؛ لما تقدم من الأدلة القاضية بأنه لا يحل مال الغير - لا عينا ولا انتفاعا -، وقد ورد في غصب الأرض - التي لا ثمرة لغصبها إلا الانتفاع بها بالزرع ونحوه - أحاديث:
__________
(1) • حديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه. (ن)
(2) • وهو مذهب أحمد وإسحاق؛ كما نقله الترمذي (2 / 291) . (ن)
(3) • وفي رواية الطحاوي: " أزرع فلانا "؛ ونحوه عند النسائي. (ن)
(4) • أخرجه أبو داود (2 / 92) ، والنسائي (2 / 149) ، والطحاوي (3 / 281) ؛ من حديث رافع بن خديج؛ وسنده صحيح، رجاله كلهم ثقات.
وأعله البيهقي (6 / 136 - 137) بعلة غريبة، فقال: " أبو جعفر الخطمي - يعني: أحد رواته - لم أر البخاري ولا مسلما احتجا به في حديث "! (ن)(2/493)
منها: عن عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ظلم شبرا من الأرض؛ طوقه الله من سبع أرضين ".
وفيهما أيضا من حديث سعيد بن زيد نحوه.
وفي " البخاري " وغيره من حديث ابن عمر نحوه أيضا.
وفي " مسلم " من حديث أبي هريرة نحوه أيضا.
( [إذا أتلف المغصوب فعلى الغاصب قيمته أو مثله] :)
(ومن أتلفه فعليه مثله أو قيمته) ؛ لحديث عائشة: أنها لما كسرت إناء صفية الذي أهدت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها: " إناء كإناء؛ وطعام كطعام ".
أخرجه أحمد، وأبو داود (1) ، والنسائي، وحسنه الحافظ في " الفتح ".
وأخرج البخاري، وغيره من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها؛ فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام وقال: " كلوا "، ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسورة.
ولفظ الترمذي؛ قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في
__________
(1) • في " سننه " (2 / 112 - 113) ، والبيهقي أيضا (6 / 96) ؛ من طريق فليت، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة؛ وقال البيهقي: " فليت العامري، وجسرة فيهما نظر ".
قلت: لكن يشهد له حديث أنس عند الترمذي (2 / 287) ، وقال: " حديث حسن صحيح "؛ وترى لفظه في الكتاب. (ن)(2/494)
قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " طعام بطعام وإناء بإناء ".
وقد استدل بذلك من قال: إن القيمي يضمن بمثله، ولا يضمن بالقيمة؛ إلا عند عدم المثل، وهو الشافعي والكوفيون.
وقال مالك: إن القيمي يضمن بقيمته مطلقا.
قيل: لا خلاف في أن المثلي يضمن بمثله، ولكنه قد ورد في حديث المصراة - الثابت في " الصحيح " - ردها وصاعا من تمر.
واللبن مثلي.
والبحث مستوفى في مواطنه.(2/495)
(13 - باب العتق)
( [أحادث ترغب في العتق] :)
الترغيب في العتق قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة؛ كحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أعتق رقبة مسلمة؛ أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار؛ حتى فرجه بفرجه ".
وأخرج الترمذي (1) - وصححه - من حديث أبي أمامة وغيره من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أيما امرئ مسلم أعتق أمرأ مسلما؛ كان فكاكه من النار؛ يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امريء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين؛ كانتا فكاكه من النار؛ يجزي كل عضو منهما عضوا منه ".
وفي لفظ (2) :
" أيما امرأة مسلمة؛ أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار؛ يجزي كل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها "؛ وإسناده صحيح.
__________
(1) • (2 / 375) ؛ وإسناده حسن.
وله شاهد من حديث كعب بن مرة - أو مرة بن كعب - مرفوعا؛ أخرجه أبو داود (5 / 165) ، والبيهقي (10 / 272) ، وأحمد (4 / 235) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • لا داعي لهذا؛ فإن اللفظ المذكور هو تمام الحديث عند الترمذي. (ن)(2/496)
وفي الباب أحاديث.
( [بيان أن أفضل الرقاب أنفسها عند أهلها] :)
(أفضل الرقاب أنفسها) ؛ لما في " الصحيحين " من حديث أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله "، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنا ".
( [جواز العتق بشرط الخدمة] :)
(ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها) ؛ لحديث سفينة أبي عبد الرحمن، قال: أعتقتني أم سلمة، وشرطت علي أن أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش.
أخرجه أحمد (1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقال: لا بأس بإسناده.
وأخرجه الحاكم، وفي إسناده سعيد بن جهمان أبو حفص الأسلمي، وقد وثقه ابن معين وغيره، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه.
ووجه الحجة من هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا
__________
(1) • في " المسند " (5 / 221) ، وأبو داود (2 / 161) ، وابن ماجه (2 / 107) ، وكذا الحاكم (3 / 606) ، وزاد أبو داود:
فقلت: إن لم تشترطي علي؛ ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت.
وسنده حسن، وصححه الحاكم (2 / 214) ، ووافقه الذهبي. (ن)(2/497)
يخفى عليه مثل ذلك.
وقد قيل: إن تعليق العتق بشرط الخدمة يصح إجماعا.
( [الأدلة الدالة على أن من ملك رحمه عتق عليه] :)
(ومن ملك رحمه عتق عليه) ؛ لحديث سمرة - عند أحمد (1) ، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر ".
ولفظ أحمد: " فهو عتيق "؛ وهو من رواية الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال مشهور، وقال علي بن المديني: هو حديث منكر، وقال البخاري: لا يصح.
وأخرج النسائي، والترمذي، والحاكم من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر "، وهو من رواية ضمرة، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عنه؛ قال النسائي: حديث منكر، ولا نعلم أحدا رواه عن سفيان غير ضمرة، وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة بن ربيعة على هذا الحديث.
__________
(1) • في " المسند " (5 / 15، 18، 20) ، وأبو داود (3 / 164) ، والترمذي (2 / 290 - 291) ، وابن ماجه (2 / 107) ؛ وهو منقطع كما بينه الشارح.
وأخرجه الحاكم (2 / 214) من هذا الوجه، وقال: " حديث صحيح "، ووافقه الذهبي {
لكن يشهد له حديث ابن عمر الذي بعده، وقد أخرجه الحاكم، وابن ماجه، والترمذي معلقا، وقال: " وهو حديث خطأ عند أهل الحديث "، وذكر نحوه البيهقي، (10 / 289) .
ورده ابن التركماني في " الجوهر النقي "؛ بما خلاصته أن ضمرة ثقة، ولا يجوز توهيمه بدون حجة، وهو الصواب} (ن)(2/498)
لكنه قد وثقه يحيى بن معين وغيره، وحديثه في " الصحيحين "، وقد صحح حديثه - هذا - ابن حزم، وعبد الحق، وابن القطان.
وأخرج أبو داود، والنسائي عن عمر بن الخطاب موقوفا مثل حديث سمرة؛ وهو من رواية قتادة عنه؛ ولم يسمع منه.
أقول: الحاصل أن جميع الأخبار الواردة في عتق ذي الرحم لا تخلو عن مقال، ولكنها تنتهض بمجموعها للاستدلال.
ولا يعارضها حديث أبي هريرة - الآتي - عند مسلم.
وقد ذهب إلى أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه: أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد.
وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إنه يعتق عليه الأولاد والآباء والأمهات، ولا يعتق عليه غيرهم من قرابته، وزاد مالك: الإخوة.
ولا ينافي ما ذكرناه حديث أبي هريرة - عند مسلم وغيره - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجزي ولد عن والده؛ إلا أن يجده مملوكا؛ فيشتريه فيعتقه ":
لأن إيقاع العتق تأكيدا لا ينافي وقوعه بالملك.
وزاد في " حاشية الشفاء ": " لأن الإعتاق ههنا - وإن كان ظاهرا في الإنشاء بعد الشراء -؛ فهو لا يستلزم أن الشراء بنفسه لا يكون سببا ". انتهى.(2/499)
وقد تمسك بحديث أبي هريرة: الظاهرية، فقالوا: لا يعتق أحد على أحد (1)
( [بيان كفارة من أهان مملوكه] :)
(ومن مثّل (2) بمملوكه فعليه أن يعتقه) ؛ لحديث ابن عمر - عند مسلم، وغيره - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لطم مملوكه أو ضربه؛ فكفارته أن يعتقه ".
وفي " مسلم " أيضا؛ عن سويد بن مقرن، قال: كنا - بني مقرن - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أعتقوها "، وفي رواية (3) : " إذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها ".
وفي " مسلم " أيضا من حديث أبي مسعود البدري، قال: كنت أضرب غلاما بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي ... إلى أن قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله أقدر منك على هذا الغلام "، وفيه: قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، فقال: " لو لم تفعل للفحتك النار - أو لمستك النار - ".
__________
(1) • هذا يوهم أنه مذهب ابن حزم أيضا؛ باعتبار أنه في مقدمة الظاهرية، والواقع أنه قد خالفهم ههنا؛ فقال في " المحلى " (8 / 200) :
" ومن ملك ذا رحم محرمة؛ فهو حر ساعة يملكه ... ". (ن)
(2) • الأولى التعبير بقوله: " لطم "؛ لأنه منصوص عليه في الحديث الصحيح الآتي، ولأن التمثيل يدخل فيه بالأولوية. (ن)
(3) • يعني: لمسلم (5 / 90 - 91) ؛ وهي رواية لأحمد (3 / 447 - 448، 5 / 444) .(2/500)
(وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم) ؛ لحديث عمرو بن شعيب؛ عن أبيه، عن جده؛ في المملوك الذي جب سيده مذاكيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " علي بالرجل "، فلم يقدر عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهب؛ فأنت حر "؛ أخرجه أبو داود (1) ، وابن ماجه، وقد أخرجه أحمد؛ وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهو ثقة، ولكنه مدلس، وبقية رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضا الطبراني.
وقد حكى في " البحر " عن علي، والشافعية، والحنفية: أنه لا يُعتق العبد بمجرد المثلة، بل يؤمر السيد بالعتق؛ فإن تمرد؛ فالحاكم.
وقال مالك والليث وداود والأوزاعي: بل يعتق بمجردها.
قال النووي في " شرح مسلم ": " إنه أجمع العلماء على أن ذلك العتق ليس واجبا، وإنما هو مندوب؛ رجاء الكفارة وإزالة إثم اللطم.
وذكر من أدلتهم: إذنه صلى الله عليه وسلم بأن يستخدموها كما تقدم.
ودعوى الإجماع غير صحيحة، وإذنه صلى الله عليه وسلم بالاستخدام لا يدل على عدم الوجوب؛ بل الأمر قد دل على الوجوب، والإذن بالاستخدام دل على كونه وجوبا متراخيا إلى وقت الاستغناء عنها ". انتهى (2) .
__________
(1) • في " سننه " (2 / 246 - 247) ، وابن ماجه (2 / 151) ؛ من طريق سوار أبي حمزة، عن عمرو بن شعيب ... به.
وأحمد رقم (7096) ؛ من طريق الحجاج، عن عمرو ...
وقد تابعه ابن جريج عند أحمد أيضا رقم (6710) ؛ وكلاهما مدلس، ولم يصرحا بالسماع.
فالعهدة على رواية سوار؛ وهي حسنة - إن شاء الله -. (ن)
(2) • يعني: أن الأوامر المتقدمة مقيدة بالاستغناء، فإذا وجد وجب العتق؛ وإلا فلا. (ن)(2/501)
( [بيان حكم من أعتق عبدا له فيه شركاء] :)
(ومن أعتق شركا له في عبد؛ ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم؛ وإلا عتق نصيبه فقط واستُسعي العبد) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أعتق شركا له في عبد؛ وكان له مال يبلغ ثمن العبد؛ قوم عليه العبد قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد؛ وإلا فقد عتق عليه ما عتق "، زاد الدارقطني: " ورقّ ما بقي " (1) .
وأخرج أحمد (2) ، والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي المليح، عن أبيه: أن رجلا من قومه أعتق شقصا له من مملوك، فرُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل خلاصه عليه في ماله، وقال: " ليس لله شريك ".
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من أعتق شقيصا من مملوك؛ فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال؛ قُوّم المملوك قيمة عدل؛ ثم استُسعي في نصيب الذي لم يعتق؛ غير مشقوق عليه ".
ولا تنافي بين هذا وبين حديث ابن عمر؛ بل الجمع ممكن؛ وهو أن من
__________
(1) • في إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبي - وليس بالمشهور -، عن يحيى بن أيوب - وفي حفظه شيء -؛ كذا في " الفتح " (5 / 119) . (ن)
(2) • في " المسند " (5 / 74 - 75) ، ولم أجده عند النسائي وابن ماجه، ولم يعزه النابلسي في " الذخائر " (رقم 98) إلا لأبي داود؛ وهو عنده (2 / 161) ، والبيهقي أيضا (10 / 273 - 274) ؛ أخرجوه كلهم من طريق قتادة، عن أبي المليح ... به.
وفي رواية للبيهقي: " أعتق ثلث غلامه "؛ فهذا يدل على أن الغلام كله كان للذي أعتق بعضه، فلا دلالة فيه على المطلوب.
وسند الحديث صحيح، وقد رواه أحمد أيضا، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ مرفوعا. (ن)(2/502)
أعتق شركا له في عبد ولا مال له؛ لم يعتق إلا نصيبه، ويبقى نصيب شريكه مملوكا، فإن اختار العبد أن يستسعي لما بقي استُسعي؛ وإلا كان بعضه حرا وبعضه عبدا.
وأخرج أحمد (1) من حديث إسماعيل بن أمية، عن أبيه، عن جده، قال: كان لهم غلام - يقال له: طهمان أو ذكوان -، فأعتق جده نصفه، فجاء العبد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تعتق في عتقك، وترق في رقك "؛ قال: فكان يخدم سيده حتى مات؛ ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبراني.
قال في " المسوى ": " قلت: عليه الشافعي: أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره، وهو موسر بقيمة نصيب الشريك؛ يعتق عليه، ويكون ولاؤه كله للمعتق، وإن كان معسرا عتق نصيبه، ونصيب الشريك رقيق لا يكلف إعتاقه، ولا يستسعى العبد في فكه.
قوله: " فأعطى شركاءه حصصهم "؛ يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لا يعتق نصيب الشريك بنفس اللفظ ما لم يؤد إليه قيمته، وقال به الشافعي في القديم.
__________
(1) • في " المسند " (3 / 412) ومن طريقه البيهقي (10 / 274) ؛ وهو مرسل؛ لأن جد إسماعيل بن أمية؛ هو عمرو بن سعيد بن العاص؛ وليس له صحبة؛ كما قال البيهقي.
وقال الحافظ في " التقريب ": " تابعي ... ووهم من زعم أن له صحبة؛ وإنما لأبيه رؤية، وكان عمرو مسرفا على نفسه ". (ن)(2/503)
وثانيهما: أنه يعتق كله عليه بنفس الإعتاق، ولا يتوقف على أداء القيمة، وذلك لأن إعطاء القيمة والعتق حكمان لمن أعتق شركا له في عبد؛ يردان عليه جميعا، وقال به الشافعي في الجديد.
وقال أبو حنيفة: إن كان المعتق موسرا فالذي لم يعتق بالخيار؛ إن شاء أعتق نصيبه، وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه، فإذا أدى عتق، فكان الولاء بينها، وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه، ثم شريكه بعد ما ضمن رجع على العبد استسعاه، فإذا أداه عتق؛ وولاؤه كله له.
وقال صاحباه: لا يعتق نصيب الشريك بنفس الإعتاق؛ بل يُستسعى العبد، فإذا أدى قيمة النصف الآخر عتق كله، والولاء بينهما، ومأخذ قولهم حديث أبي هريرة مرفوعا: " من أعتق شقيصا في عبد؛ عتق كله إن كان له مال؛ وإلا يُستسعى غير مشقوق عليه "؛ رواه الشيخان.
قوله: " غير مشقوق عليه "؛ أي: لا يستغلى عليه في الثمن، وتأويل هذا الحديث على قول الشافعي: إن معنى " يستسعى ": يستخدم لسيده الذي لم يعتق إن كان معسرا، ومعنى " غير مشقوق عليه ": أنه لا يحمل من الخدمة فوق ما يلزمه؛ إنما يطالبه بقدر ما له فيه من الرق ". انتهى.
( [بيان أن الولاء لمن أعتق] :)
(ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق) : لحديث عائشة في " الصحيحين "، وغيرهما: أنها جاءت إليها بريرة تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن(2/504)
تحتسب عليك فلتفعل؛ ويكون لنا ولاؤك؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابتاعي فأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق "، ثم قام فقال: " ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى؟ ! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فليس له، وإن شرط مئة مرة، شرط الله أحق وأوثق ".
وللحديث طرق وألفاظ.
قال ابن القيم رحمه الله:
" قال شيخنا: الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - باشتراط الولاء تصحيحا لهذا الشرط، ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه؛ إذ أبى أن يبيع جارية للعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم الله - تعالى - وشرعه، فأمرها أن تدخل تحت شرطهم الباطل؛ ليظهر به حكم الله ورسوله في أن الشروط الباطلة لا تغير شرعه، وأن من شرط ما يخالف دينه؛ لم يجبر أن يوفي له بشرطه.
ولا يبطل من البيع به؛ وإن عرف فساد الشرط، وشرطه إلغاء اشتراطه ولم يعتبر، والله تعالى أعلم ".
قلت: وعليه أهل العلم: أن من أعتق عبدا يثبت له عليه الولاء ويرثه به، ولا يثبت الولاء بالحلف والموالاة، وبأن يسلم رجل على يدي رجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضاف الولاء إلى المعتق ب (الألف واللام) ، فأوجب ذلك قطعه عن غيره، كما يقال: الدار لزيد، فيه إيجاب الملك فيها لزيد وقطعها عن غيره، وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يثبت الولاء بعقد المولاة.(2/505)
( [جواز بيع المدبر للحاجة] :)
(ويجوز التدبير، فيعتق بموت مالكه، وإذا احتاج المالك جاز له بيعه) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه.
وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر - مرفوعا وموقوفا - بلفظ: " المدبر من الثلث ".
ورواه الدارقطني مرفوعا بلفظ: " المدبر لا يباع ولا يوهب، وهو حر من الثلث "، وفي إسناده عبيدة بن حسان (1) ، وهو منكر الحديث.
وقد ذهب إلى جواز بيع المدبر للحاجة: الشافعي، وأهل الحديث، ونقله البيهقي في " المعرفة " عن أكثر الفقهاء.
وحكى النووي عن الجمهور: أنه لا يجوز بيع المدبر مطلقا، وبه قال أبو حنيفة، وتعقبه الشافعي بما روي عن جابر، وتقدم.
وأجيب باحتمال أن يكون تدبيره مقيدا بشرط أو زمان.
ورد بأن اسم التدبير إذا أطلق؛ فيفهم منه التدبير المطلق لا غير.
واتفقوا على جواز وطء المدبرة.
ومن أجاز بيعه قال: يباع في الجناية.
أقول: قد دل الحديث على جواز البيع للحاجة، وليس فيه دلالة على
__________
(1) عبيدة - بفتح العين -؛ قال ابن حبان: " يروي الموضوعات عن الثقات ". (ش)(2/506)
عدم جوازه مع عدمها، ولم يرد ما يدل على ذلك إلا ما لا يحتج بمثله.
فالقائل بالجواز واقف في موقف المنع، وعلى مدعي عدمه بيان المانع، فإن قال المانع: العتق؛ قلنا: الناجز، وأما المشروط بشرط لم يقع؛ فممنوع كونه مانعا.
( [بيان جواز مكاتبة المملوك على مال يؤديه] :)
(ويجوز مكاتبة المملوك على مال يؤديه) ؛ لقوله - تعالى - {فكاتبوهم} الآية.
وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية، فقرر ذلك الإسلام، ولا أعرف خلافا في مشروعيتها.
قلت: وعليه أبو حنيفة.
وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد - بدلالة الكتاب - الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمتنع من كتابته إذا كان هكذا.
( [متى يصير المكاتب حرا؟] :)
(فيصير عند الوفاء حرا، ويعتق منه بقدر ما سلم) ؛ لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يودى (1) المكاتب بحصة ما أدى دية الحر، وما بقي دية العبد "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي (2) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، نحوه من حديث علي (2) .
__________
(1) أي: إذا قُتل خطأ كانت ديته بهذه الصفة، فالوجه عدم همز الواو، وكانت في الأصل مهموزة، وهو خطأ. (ش)
(2) • وإسناده صحيح، وقد تكلمت عليه في " الروض النضير في ترتيب معجم الطبراني الصغير " (رقم 473) . (ن)(2/507)
وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وذهب آخرون إلى أن حكم المكاتب حكم العبد حتى يوفي مال الكتابة.
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما عبد كوتب بمئة أوقية، فأداها إلا عشر أوقيات؛ فهو رقيق "؛ رواه أحمد (1) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححه -.
وفي لفظ لأبي داود: " المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم ".
ولا يعارض هذا ما تقدم.
فالجمع ممكن؛ بحمل هذا على ما لا يمكن تبعضه من الأحكام، وفي حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي؛ فلتحتجب منه "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - (2) .
فأثبت له ههنا حكم الحر؛ لأن العبد يجوز له أن ينظر إلى مولاته؛ لقوله - تعالى -: {أو ما ملكت أيمانهن} .
قال في " المسوى ":
" المكاتب عبد ما بقي عليه شيء، وعليه أكثر أهل العلم، فلا يرث من
__________
(1) • في " المسند " (رقم 6666، 6726، 6923، 6949) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • وفي " سنده " - عنده (2 / 250) ، وأبي داود (2 / 160) - نبهان - مكاتب أم سلمة -؛ وليس بمعروف العدالة، وفي " التقريب ": أنه مقبول؛ يعني: عند المتابعة؛ وهي مفقودة.
فالحديث لا يصح. (ن)(2/508)
قريبه شيئا، وإذا أصاب حدا ضرب حد العبد ".
( [بيان مصير المكاتب إذا عجز عن تسليم المال] :)
(وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة عاد في الرق) ؛ لكون المالك لم يعتقه إلا بعوض، وإذا لم يحصل العوض لم يحصل العتق، وقد اشترت عائشة بريرة بعد أن كاتبها أهلها؛ كما تقدم.
( [يحرم بيع الأمة التي ولدت له] :)
(ومن استولد أمته لم يحل له بيعها) ؛ لحديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من وطئ أمته فولدت له؛ فهي معتقة عن دبر منه ".
أخرجه أحمد (1) ، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وفي إسناده الحسين ابن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف.
وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس، قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أعتقها ولدها " (2) .
وأخرجه أيضا الدارقطني، وفي إسناده الحسين بن عبد الله، وهو ضعيف؛ كما تقدم.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عباس أيضا: " أم الولد
__________
(1) • في " المسند " (رقم 2759، 2912) ، والدارقطني (ص 479) . (ن)
قلت: وقد ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1771) .
(2) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1772) .(2/509)
حرة؛ وإن كان سقطا "، وإسناده ضعيف (1) .
وأخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم إبراهيم: " أعتقك ولدك "؛ وهو معضل.
وقال ابن حزم: صح هذا بسند رواته ثقات عن ابن عباس.
وأخرج الدارقطني (2) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقا ل: " لا يُبعن، ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع بها السيد ما دام حيا، وإذا مات فهي حرة ".
وقد أخرجه مالك في " الموطإ "، والدارقطني أيضا من قول ابن عمر (3) ، وأخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا.
وهذه الأحاديث - وإن كان في أسانيدها ما تقدم -؛ فهي تنتهض للاحتجاج بها، وقد أخذ بها الجمهور.
وذهب من عداهم إلى الجواز، وتمسكوا بحديث جابر، قال: كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • لأن فيه إبراهيم بن يوسف الحضرمي، والحكم بن أبان، وفيهما ضعف.
قال الحافظ في " التلخيص ": " والصحيح أنه من قول عمر ". (ن)
(2) • في " السنن " (ص 481) ؛ بسندين عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ وسنده صحيح.
لكن ذكر البيهقي (10 / 343) أن رفعه وهم لا يحل ذكره، وأن الصواب وقفه على عمر؛ كذلك رواه الجماعة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: نهى عمر
(ن)
(3) • قلت: الصواب من قول عمر؛ من رواية ابنه عنه، كما تقدم آنفا.
وكذلك هو عند مالك (3 / 5) ، والدارقطني. (ن)(2/510)
- وأبي بكر، فلما كان عمر؛ نهانا فانتهينا "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي (1) .
وأخرجه أيضا أحمد، وابن حبان والحاكم.
وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك.
والخلاف في المسألة - بين الصحابة فمن بعدهم - معروف مشهور.
( [تعتق الأمة بموت الذي استولدها] :)
(وعتقت بموته) ؛ أي: سيدها الذي استولدها؛ لقوله في الحديث المتقدم: " فهي معتقة عن دبر منه "؛ أي: في دبر حياته.
(أو بتخييره) ؛ أي: تخيير مستولدها (2) (لعتقها) ؛ لأن إيقاع العتق يوجب عتق من لم يوجب لعتقه سبب.
فمن قد وجد له سبب عتقه أولى بذلك، ولا سيما بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقها ولدها "؛ فإنه يدل على أنه قد وقع العتق بالولادة، ولكن بقي للسيد حق يوجب عليها بعض ما يجب على المملوك حتى يموت، فإذا نجز العتق؛ فقد رضي بإسقاط ذلك الحق.
__________
(1) • في " سننه " (10 / 347 - 348) بإسنادين صحيحين، عن جابر.
والدارقطني (ص 481) بأحدهما. (ن)
(2) كذا في الأصل، والصواب: " أو بتنجيزه؛ أي: تنجيز مستولدها ". (ش)(2/511)
(14 - باب الوقف)
( [تعريف الوقف] :)
قال في " الحجة البالغة ":
" وهو من التبرعات، كان أهل الجاهلية لا يعرفونه، فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لمصالح لا توجد في سائر الصدقات؛ فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالا كثيرا ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، وتجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبسا للفقراء وابن السبيل، يُصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله على ملك الواقف ". انتهى.
( [الأدلة على مشروعية الوقف] :)
(من حبّس ملكه في سبيل الله صار محبّسا) ؛ قد ذهب إلى مشروعيتة الوقف ولزومه جمهور العلماء.
قال الترمذي: " لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين ".
وجاء عن شريح أنه أنكره.(2/512)
وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه؛ إلا زفر.
وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف، أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة - يعني: الدليل -؛ لقال به.
وقال القرطبي: راد الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه.
ومما يدل على صحته ولزومه؛ حديث أبي هريرة - عند مسلم، وغيره -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله؛ إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ".
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن عمر أصاب أرضا بخيبر، فقال: يا رسول الله! أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه؛ فما تأمرني؟ فقال: " إن شئت حبّست أصلها، وتصدقت بها "، فتصدق بها عمر - على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث - في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل؛ لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم؛ غير متمول.
وأخرج النسائي، والترمذي - وحسنه -، والبخاري - تعليقا - من حديث عثمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة؛ وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: " من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين؛ بخير له منها في الجنة؟ "، فاشتريتها من صلب مالي.
وفي " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما خالد؛ فقد حبس أدرعه(2/513)
وأعتده (1) في سبيل الله ".
( [للواقف أن يجعل غلات الموقوف لمن شاء] :)
(وله أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في الحديث السابق: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها "، فإطلاق الصدقة يشعر بأن للواقف أن يتصدق بها كيف شاء؛ فيما فيه قربة.
وقد فعل عمر ذلك، فتصدق بها على الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل؛ كما تقدم.
والحاصل: أن الوقف الذي جاءت به الشريعة - ورغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه -؛ هو الذي يُتقرب به إلى الله - عز وجل -، حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها، فلا يصح أن يكون مصرفه غير قربة؛ لأن ذلك خلاف موضوع الوقف المشروع؛ لكن القربة توجد في كل ما أثبت فيه الشرع أجرا لفاعله؛ كائنا ما كان.
فمن وقف - مثلا - على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة؛ كان وقفه صحيحا؛ لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة: " أن في كل كبد رطبة أجرا ".
ومثل هذا: لو وقف على من يخرج القذارة من المسجد، أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طريقهم؛ كان ذلك وقفا صحيحا؛ لورود الأدلة الدالة على
__________
(1) الأعتد - بضم التاء وبكسرها -: جمع قلة للعتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح، والدواب، وآلة الحرب. (ش)(2/514)
ثبوت الأجر لفاعل ذلك.
فقس على هذا غيره مما هو مساو له في ثبوت الأجر لفاعله، وما هو آكد منه في استحقاق الثواب.
( [جواز الأكل من وقفه وأن يجعل نفسه عليه] :)
(وللمتولي عليه أن يأكل منه بالمعروف) ؛ لما تقدم في وقف عمر الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم.
(وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين) ؛ لما تقدم في حديث عثمان من قوله صلى الله عليه وسلم: " فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين ".
( [بطلان وقف من أراد مضارة لوارثه] :)
(ومن وقف شيئا مضارة لوارثه كان وقفه باطلا) ؛ لأن ذلك مما لم يأذن به الله - سبحانه -؛ بل لم يأذن إلا بما كان صدقة جارية ينتفع بها صاحبها؛ لا بما كان إثما جاريا وعقابا مستمرا.
وقد نهى الله - تعالى - عن الضرار في كتابه العزيز عموما وخصوصا، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عموما؛ كحديث: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " - وقد تقدم -، وخصوصا؛ كما في ضرار الجار، وضرار الوصية، ونحوهما.
والحاصل: أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومخالفة فرائض الله - عز وجل -: فهي باطلة من أصلها؛ لا تنعقد بحال.
وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا(2/515)
لم يرد التقرب إلى الله - تعالى -؛ بل أراد المخالفة لأحكام الله - عز وجل -، والمعاندة لما شرعه لعباده، وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني، فليكن هذا منك على ذُكر؛ فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة {
وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف؛ إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم، فيقفه على ذريته؛ فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله - عز وجل -؛ وهو انتقال الملك بالميراث، وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف يشاء، وليس أمر غنى الورثة أو فقرهم إلى هذا الواقف؛ بل هو إلى الله - عز وجل -.
وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا؛ بحسب اختلاف الأشخاص.
فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك.
ومن هذا النادر: أن يقف على من تمسك بالصلاح من ذريته، أو اشتغل بطلب العلم؛ فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا، والقربة متحققة، والأعمال بالنيات، ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم؛ أولى وأحق.
( [بيان حكم المال الموقوف الذي يوضع في مكان لا يستفاد منه] :)
(ومن وضع مالا في مسجد أو مشهد (1) لا ينتفع به أحد؛ جاز صرفه في
__________
(1) • هو محضر الناس؛ كما في " القاموس ".
وليس يريد المؤلف به المعنى المتعارف عليه؛ وهو المكان الذي دفن فيه أحد الصالحين؛ فإن هذا غير مشروع} (ن)(2/516)
أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما يوضع في الكعبة وفي مسجده - صلى الله عليه وسلم -) ؛ لحديث عائشة - في " صحيح مسلم " وغيره -، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال: بكفر -؛ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ".
فهذا يدل على جواز إنفاق ما في الكعبة إذا زال المانع، وهو حداثة عهد الناس بالكفر، وقد زال ذلك، واستقر أمر الإسلام، وثبت قدمه في أيام الصحابة؛ فضلا عن زمان من بعدهم.
وإذا كان هذا هو الحكم في الأموال التي في الكعبة؛ فالأموال التي في غيرها من المساجد أولى بذلك؛ بفحوى الخطاب.
فمن وقف على مسجده - صلى الله عليه وسلم -، أو على الكعبة، أو على سائر المساجد شيئا يبقى فيها لا ينتفع به أحد؛ فهو ليس بمتقرب ولا واقف ولا متصدق؛ بل كانز يدخل تحت قوله - تعالى -: {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} الآية.
ولا يعارض هذا ما روى أحمد، والبخاري، عن أبي وائل، قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، فقال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ {قلت: لم يفعله صاحباك، فقال: هما المرآن يُقتدى بهما "}
لأن هذا - من عمر ومن شيبة بن عثمان بن طلحة - اقتداء بما وقع من(2/517)
النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ وقد أبان حديث عائشة السبب الذي لأجله ترك صلى الله عليه وسلم ذلك.
أقول: وفي " حاشية الشفاء ":
" وأما أموال المساجد؛ فإن كانت كالأموال التي يقفها الواقفون عليها؛ ليحصل من غلاتها ما يحتاج إليه من عمارة ونحوها، وما يقوم بمن يحييها بالصلاة والتلاوة وتدريس العلوم؛ فلا شك أن هذا من أعظم القرب، ولا يحل لمسلم أن يأخذ منه شيئا.
وإن كان ذلك من الأمور التي لمجرد الزخرفة - التي هي من علامات القيامة، أو للمباهاة والمكاثرة -؛ فهو من إضاعة المال؛ بل من وضعه في معاصي الله؛ فيكون أخذه وصرفه في مصالح المسلمين من باب القيام بواجبين:
أحدهما: النهي عن المنكر.
والثاني: توقي إضاعة المال المنهي عنها بالدليل الصحيح.
وأما وضع الحلي في الكعبة، والدراهم والدنانير والجواهر النفيسة؛ فلا أستبعد أن يكون فاعله من الكانزين الذين قال الله - عز وجل - فيهم: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} ، ولا أرى على من أخذها - ليصرفها في مصالح المؤمنين؛ أو يدفع بها مفاسدهم بأسا، ولم يرد - ما يدل على المنع ". انتهى.(2/518)
وقد أوضح الماتن الكلام فيها في " شرح المنتقى "، فليراجع.
( [تحريم الوقف على القبور لتزيينها أو زخرفتها] :)
(والوقف على القبور - لرفع سمكها، أو تزيينها، أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة - باطل) ؛ لأن رفعها قد ورد النهي عنه؛ كما في حديث علي: أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه.
وهو في " مسلم " وغيره.
وكذلك تزيينها، وأشد من ذلك ما يجلب الفتنة على زائرها؛ كوضع الستور الفائقة، والأحجار النفيسة، ونحو ذلك؛ فإن هذا مما يوجب أن يعظم صاحب ذلك القبر في صدر زائره من العوام، فيعتقد فيه ما لا يجوز.
وهكذا إذا وقف للنحر عند القبور ونحوه مما فيه مخالفة لما جاء عن الشارع.
أما إذا وقف على إطعام من يفد إلى ذلك القبر، أو نحو ذلك؛ فهذا هو وقف على الوافد لا على القبر (1) ، وما صنع الواقف بوقفه على القبر إلا ما يعرضه للإثم؛ فقد يكون ذلك سببا للاعتقادات الفاسدة.
وبالجملة: فالوقف على القبور مفسدة عظيمة ومنكر كبير؛ إلا أن يقف على القبر - مثلا - لإصلاح ما انهدم من عمارته؛ التي لا إشراف فيها ولا رفع ولا تزيين
__________
(1) • كأنه يقول أن لا شيء في هذا! والصواب أن يقال بمنعه؛ سدا للذريعة. (ن)(2/519)
فقد يكون لهذا وجه صحة؛ وإن كان غير القبر أحوج إلى ذلك؛ كما قال الصديق - رضي الله تعالى عنه -: الحي أولى بالجديد من الأكفان؛ أو كما قال.(2/520)
(15 - باب الهدايا)
( [فائدة الهدية] :)
جمع هدية؛ قال في " الحجة البالغة ":
" إنما يبتغى بها إقامة الألفة فيما بين الناس، ولا يتم هذا المقصود إلا بأن يرد إليه مثله؛ فإن الهدية تحبب المهدي إلى المهدى له؛ من غير عكس.
وأيضا؛ فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، ولمن أعطى الطول على من أخذ، فإن عجز فليشكره، وليظهر نعمته؛ فإن الثناء أول اعتداد بنعمته وإضمار لمحبته، وأنه يفعل في إيراث الحب ما تفعل الهدية، ومن كتم فقد خالف عليه ما أراده، وناقض مصلحة الائتلاف، وغمط حقه.
ومن أظهر ما ليس في الحقيقة؛ فلذلك كذب ". انتهى.
( [دليل مشروعية الهدية] :)
(يشرع قبولها ومكافأة فاعلها) ؛ لحديث أبي هريرة - عند البخاري -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لو دعيت إلى كراع (1) أو ذراع؛ لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع؛ لقبلت ".
__________
(1) • هو ما دون الركبة من الساق: " نهاية ". (ن)(2/521)
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - نحوه من حديث أنس.
وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية، قالت: قلت يا رسول الله {تكره رد اللطف؟ قال: " ما أقبحه} لو أهدي إلي كراع لقبلته " (1) .
وأخرج أحمد (2) برجال الصحيح؛ من حديث خالد بن عدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من جاءه من أخيه معروف - من غير إشراف ولا مسألة -؛ فليقبله ولا يرده؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليه ".
وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها.
والأحاديث في قبول الهدية والمكافأة عليها كثيرة، وذلك معلوم منه صلى الله عليه وسلم.
( [جواز تبادل الهدايا بين المسلم والكافر] :)
(وتجوز بين المسلم والكافر) : لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا الكفار، ويهدي لهم، كما أخرجه أحمد (3) ، والترمذي، والبزار من حديث علي،
__________
(1) ضعفه الهيثمي في " المجمع " (4 / 1499) ؛ ولعل ما قبله يشهد له.
(2) • في " المسند " (4 / 220 - 221) ؛ وسنده صحيح على شرطهما، وانظر تعليقي على " الترغيب " (2 / 16) . (ن)
قلت: وأصله في " صحيح مسلم " (1045) بنحوه؛ من حديث عمر بن الخطاب.
(3) • في " المسند " (رقم 747، 1234) ، والترمذي (2 / 388) من طريق ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -؛ وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".
كذا قال! وثوير متفق على تضعيفه؛ بل قال الثوري فيه: " ركن من أركان الكذب ". (ن)(2/522)
قال: أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقبل منه، وأهدى له قيصر؛ فقبل منه، وأهدت له الملوك؛ فقبل منها.
وأخرج أبو داود (1) من حديث بلال: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم عظيم فدك.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة سندس.
وأخرج أبو داود (2) من حديثه: أن ملك الروم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستقة (3) سندس؛ فلبسها.
وفيهما أيضا من حديث علي: أن أكيدر دومة الجندل (4) أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا، فقال: " شققه خمرا بين الفواطم (5) ".
وأخرج البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر، قال: أتتني أمي راغبة
__________
(1) • في " السنن " (2 / 46 - 47) ، وكذا البيهقي (6 / 80 - 81) ؛ وإسناده صحيح. (ن)
(2) • قلت: هو في " سننه " (2 / 174 - 175) ؛ من طريق علي بن زيد، عن أنس.
وعلي هذا: هو ابن جدعان؛ وفيه ضعف. (ن)
(3) بضم الميم وإسكان السين المهملة وفتح التاء - ويجوز أيضا فتح الميم -: هي فراء طوال الأكمام، جمعها (مساتق) ، وأصل الكلمة فارسي، ووقع في الأصل بالشين المعجمة، وهو خطأ. (ش)
(4) دومة الجندل - بفتح الدال وضمها -: حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طيئ.
وأكيدر - بالتصغير -: اسم ملكها، وكان نصرانيا فأسلم، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما في يده، ثم نقض الصلح، فأجلاه عمر.
وقيل: إنه قتل في عهد أبي بكر؛ قتله خالد بن الوليد، وهو صحيح. (ش)
(5) • أراد بهن: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - زوجة علي -، وفاطمة بنت أسد - أمه -، وفاطمة بنت حمزة - عمه -: " نهاية ". (ن)(2/523)
في عهد قريش وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: " نعم "، قال ابن عيينة (1) : فأنزل الله فيها: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} .
وقد أخرج أحمد، والطبراني من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة؛ فإن ردت إلي فهي لك "؛ وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي؛ وثقه يحيى ابن معين وغيره، وضعفه جماعة (2) .
والأحاديث في قبوله - صلى الله عليه وسلم - لهدايا الكفار كثيرة جدا.
وأما ما أخرجه أحمد (3) ، وأبو داود، والترمذي، وابن خزيمة - وصححاه - من حديث عياض بن حمار: أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية، أو ناقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أسلمت؟ ". قال: لا، قال: " إني قد نهيت عن زبد المشركين ".
__________
(1) • هو أحد رواة هذا الحديث.
وسبب نزول الآية معضل، وقد جاء موصولا في " المسند " (4 / 4) ، عن ابن الزبير؛ وفيه ضعف. (ن)
(2) • وفي " الفتح " (5 / 169) : " وإسناده حسن "؛ كذا قال! وانظر " الإرواء " (6 / 62) . (ن)
(3) • في " المسند " (4 / 162) من طريق الحسن بن عياض - وإسناده صحيح إن كان الحسن سمعه من عياض -، وأبو داود (2 / 47) ، والترمذي (2 / 389) ؛ من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عياض؛ وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
قلت: وإسناده حسن. (ن)(2/524)
وأخرج موسى بن عقبة في " المغازي " عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أن عامر بن مالك - الذي يقال له: ملاعب الأسنة - قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له؛ فقال: " إني لا أقبل هدية مشرك " (1) .
قال في " الفتح " (2) : " رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل، قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا ".
وقيل: إنما رد ذلك إليهم لقصد الإغاظة؛ أو لئلا يميل إليهم، ولا يجوز الميل إلى المشركين.
وأما قبوله لهدية من تقدم ذكره؛ فهو لكونهم قد صاروا من أهل الكتاب.
وقيل: إن الرد في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه.
ويمكن أن يكون النهي لمجرد الكراهة التي لا تنافي الجواز؛ جمعا بين الأدلة.
وزبد المشركين: هو بفتح الزاي، وسكون الموحدة، بعدها دال مهملة.
قال في " الفتح ": " هو الرفد ". انتهى.
( [الرجوع بالهدية حرام] :)
(ويحرم الرجوع فيها) ؛ لكون الهدية هي هبة - لغة وشرعا -، وقد ورد
__________
(1) صححه شيخنا في " الصحيحة " (1727) ، وانظر (1707) .
(2) • (5 / 175) . (ن)(2/525)
في ذلك حديث ابن عباس - عند البخاري، وغيره -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه "؛ وهو في " مسلم " أيضا.
وفي لفظ للبخاري: " ليس لنا مثل السوء ".
وأخرج أحمد (1) ، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم - من حديث ابن عمر، وابن عباس، رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها؛ كمثل الكلب؛ أكل حتى إذا شبع قاء، ثم رجع في قيئه ".
وقد دل قوله: " لا يحل " على تحريم الرجوع من غير نظر إلى التمثيل الذي وقع الخلاف فيه؛ هل يدل على الكراهة أو التحريم؟ !
وقد ذهب إلى التحريم جمهور العلماء؛ إلا هبة الوالد لولده؛ كذا قال في " الفتح ".
( [تجب التسوية بالهدايا بين الأولاد] :)
(وتجب التسوية بين الأولاد) ؛ لحديث جابر - عند مسلم وغيره -، قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلاما وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، فقال: " له
__________
(1) • في " المسند " (رقم 2119، 4810) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن طاوس، عنهما؛ وسنده صحيح؛ وكذلك رواه أبو داود (2 / 109) . (ن)(2/526)
إخوة؟ "، قال: نعم، قال: " فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ "، قال: لا، قال: " فليس يصلح هذا؛ وإني لا أشهد إلا على حق ".
وفي لفظ لأحمد من حديث النعمان بن بشير: " لا تشهدني على جور؛ إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم " (1) .
وفي " الصحيحين " من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ "، فقال: لا، فقال: " فأرجعه ".
وفي لفظ لمسلم من حديثه: " اتقوا الله واعدلوا في أولادكم "، فرجع أبي في تلك الصدقة.
وكذا في " البخاري "؛ ولكنه بلفظ: " العطية ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديثه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: " اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم ".
وأخرج الطبراني، والبيهقي (2) ، وسعيد بن منصور من حديث ابن عباس؛ بلفظ: " سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء "، وفي إسناده سعيد بن يوسف؛ وفيه ضعف، وقد حسن في " الفتح " إسناده.
__________
(1) ضعيف بهذا اللفظ؛ وانظر " غاية المرام " رقم (274) .
(2) • أخرجه (6 / 177) ؛ من طريق سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وسعيد بن يوسف؛ قال الحافظ في " التقريب ": " ضعيف ". (ن)(2/527)
وهذه الأحاديث تدل على وجوب التسوية، وأن التفضيل باطل جور يجب على فاعله استرجاعه، وبه قال طاوس، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وبعض المالكية.
وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فقط، وأجابوا عن الأحاديث بما لا ينبغي الالتفات إليه.
والحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتسوية بين الأولاد، وقد تولى الله - سبحانه - كيفية ذلك في محكم كتابه، وسمى التفضيل جورا، فمن زعم أنه يجوز التفضيل لسبب من الأسباب - كالبر ونحوه -؛ فعليه الدليل، ولا ينفعه المجيء بما هو أعم من هذا الحديث المقتضي للأمر بالتسوية.
والمقام محتمل للتطويل والبسط، وقد جمع الماتن - رحمه الله - فيه رسالة مستقلة، وذكر في " شرح المنتقى " ما أجاب به القائلون بعدم وجوب التسوية، وهي وجوه عشرة، وأجاب عن كل واحد منها.
وأوضحت المقام أيضا في كتابي: " دليل الطالب على أرجح المطالب "، فليراجع.
قال ابن القيم - في حديث نعمان بن بشير المتقدم -:
" هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه، وقامت به السماوات والأرض، وأثبتت عليه الشريعة، فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام، فرد بالمتشابه من قوله: " كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين "، فكونه أحق به(2/528)
يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء، وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب.
ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم، والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان ". انتهى.
وفي " شرح السنة ": " ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن تفضيل بعض الأولاد على بعض في النحل مكروه، ولو فعل نفذ.
وقد فضل أبو بكر عائشة بجداد (1) عشرين وسقا؛ نحلها إياه دون سائر أولاده.
وفي الحديث دليل على أن الوالد إذا وهب لولده شيئا؛ جاز له الرجوع فيه، وكذلك الأمهات والأجداد.
وأما غير الوالدين؛ فلا رجوع لهم فيما وهبوا وسلموا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: " العائد في هبته كالعائد في قيئه ".
وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا رجوع له فيما وهب لولده ".
( [متى يحرم قبول الهدايا ومتى يكره ردها؟] :)
(والرد لغير مانع شرعي مكروه) ؛ لما قدمنا في أول البحث من الأدلة، فإن كان ثم مانع شرعي من قبول الهدية؛ لم يحل قبولها، وذلك كالهدايا
__________
(1) • بالفتح والكسر: صرام النخل؛ وهو قطع ثمرتها: " نهاية ". (ن)(2/529)
لأهل الولايات؛ توصلا إلى أن يميلوا مع المهدي؛ فإن ذلك رشوة، وستأتي الأدلة الدالة على تحريمها.
وقد ورد في هدايا الأمراء ما يفيد أنها لا تحل، وسيأتي الكلام على طرق حديث هدايا الأمراء في (كتاب القضاء) .
والعلة أنها تؤول إلى الرشوة: إما في الحكم؛ أو في شيء مما يجب قيام الأمراء به.
ومن ذلك: الهدية إلى من يعلم المهدي القرآن، وقد تقدم الدليل على ذلك في الإجارات.
وهكذا حلوان الكاهن، ومهر البغي، ونحوهما.
ومن ذلك: الهدية لمن يقضي للمهدي حاجة؛ لحديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها؛ فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ".
أخرجه أبو داود (1) من طريق القاسم بن عبد الرحمن الأموي - مولاهم - الشامي؛ وفيه مقال.
وبالجملة: فكل مانع شرعي - قام الدليل على ما نعيته من قبول الهدايا -؛ له حكم ما ذكرناه.
__________
(1) • في " السنن " (2 / 109) ، وكذا أحمد (5 / 261) ؛ ورجال الأول كلهم ثقات، رجال مسلم غير القاسم، وهو حسن الحديث. (ن)(2/530)
(16 - باب الهبات)
( [متى تكون الهبة بحكم الهدية؟] :)
(إن كانت بغير عوض؛ فلها حكم الهدية في جميع ما سلف) ؛ لكون الهدية هبة لغة وشرعا، والفرق بينهما إنما هو اصطلاح جديد.
فإذا كانت الهبة بغير عوض؛ كانت المكافأة عليها مشروعة، وتجوز للكافر ومنه، ولا يحل الرجوع فيها.
وتجب التسوية بين الأولاد، ويكره الرد بغير مانع شرعي.
( [متى تكون الهبة بيعا] :)
(وإن كانت بعوض؛ فهي بيع، ولها حكمه) ؛ لأن المعتبر في التبايع إنما هو التراضي والتعاوض، وهما حاصلان في الهبة بعوض؛ إذا كان ذلك واقعا عند التواهب، وأما إذا كان في الموهوب له مكافأة - غير مرادة للواهب عند الهبة - فهي كالهدية.
وبالجملة؛ فتنطبق - على الهبة بغير عوض - الأدلة المتقدمة في الهدية، وتنطبق - على الهبة بعوض - الأدلة المتقدمة في البيع، وقد تقدمت؛ فلا حاجة إلى إيرادها ههنا.(2/531)
( [ما هي العمرى؟] :)
(والعمرى) : بضم العين المهملة، وسكون الميم مع القصر - عند الأكثر -؛ وهي مأخوذة من العمر، وهو الحياة؛ سميت بذلك؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار، ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدة عمرك وحياتك، فقيل لها: عمرى؛ لذلك.
( [ما هي الرقبى؟] :)
(والرقبى) : بوزن العمرى: مأخوذة من المراقبة؛ لأن كل واحد منهما يرقب الآخر؛ متى يموت لترجع إليه؟ وكذا ورثته يقومون مقامه، هذا أصلهما لغة.
( [بيان أن العمرى والرقبى يوجبان الملك للمعمَر والمرقب ولعقبه أبدا] :)
(توجبان الملك للمعمر والمرقب ولعقبه من بعده؛ لا رجوع فيهما) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العمرى ميراث لأهلها - أو قال: جائزة - ".
وفيهما من حديث جابر، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له.
وفي لفظ لمسلم: " فمن أُعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا ولعقبه ".(2/532)
وفي لفظ لأحمد (1) ، ومسلم (2) ، وأبي داود: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت؛ فإنها ترجع إلى صاحبها.
ولكن قد قيل: إن ذلك من كلام أبي سلمة مدرج (3) في حديث جابر؛ فلا تقوم بهذه الرواية الحجة، ولا تصلح لتقييد الأحاديث المطلقة؛ كالحديثين المتقدمين.
وحديث زيد بن ثابت - عند أحمد (4) ، وأبي داود، وابن ماجه، وابن
__________
(1) • (3 / 136) . (ن)
(2) • (5 / 68) . (ن)
(3) • فيه نظر، ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا، وغالب الظن أنه اختلط عليه الأمر بحديث آخر فيه زيادة في آخره، مال الحافظ إلى أنها مدرجة!
ونص هذا الحديث عن جابر أيضا: " أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد؛ فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى صاحبها؛ من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث "؛ أخرجه مسلم (5 / 67 - 68) ، وأحمد (3 / 399) ؛ من طريق ابن جريج: أخبرني ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر؛ مرفوعا.
وهكذا أخرجه مالك في " الموطإ " (2 / 225) - ومن طريقه مسلم -، عن ابن شهاب ... به.
ثم أخرجه مسلم؛ من طريق الليث، عن ابن شهاب ... به، دون قوله في آخره: " من أجل ... "؛ وبين في رواية أخرى؛ من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري أن هذه الزيادة من قول أبي سلمة؛ قال الحافظ في " الفتح " (5 / 182) : " وقد أوضحته في كتاب " المدرج " ... ".
فتبين أن المدرج في حديث جابر؛ إنما هو التعليل، وأما أصل الحديث بجميع رواياته؛ فصحيح لا علة فيها.
وهي جميعها تتفق مع الرواية التي ذكرها الشارح؛ وإنما الفرق؛ أن تلك تدل - بطريق المفهوم - على ما دلت عليه في رواية الشارح - بطريق المنطوق -؛ فتأمل (ن)
(4) • في " المسند " (5 / 189) ، والبيهقي (6 / 175) ؛ بسند صحيح. (ن)(2/533)
حبان - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعمر عمرى؛ فهي لمعمره حياته ومماته، لا ترقبوا؛ من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث ".
وأخرج أحمد، والنسائي (1) من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تعمروا ولا ترقبوا؛ فمن أعمر شيئا أو أرقبه؛ فهو له حياته ومماته "؛ ورجال إسناده ثقات.
وورد في محل النزاع ما أخرجه النسائي (2) من حديث جابر بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى - أن يهب الرجل - الرجل ولعقبه - الهبة، ويستثني إن حدث بك حدث ولعقبك؛ فهي إلي وإلى عقبي -؛ أنها لمن أعطاها ولعقبه.
وهكذا ما أخرجه أحمد من حديث جابر: أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها، فماتت، فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها بينهم ميراثا؛ ورجاله رجال الصحيح (3) .
وقد أخرجه - أيضا - أبو داود.
__________
(1) • (3 / 294) . (ن)
قلت: وصححه شيخنا في " الإرواء " (1609) .
(2) • في " السنن " (2 / 137) ، والبيهقي (6 / 172) ؛ بسند صحيح. (ن)
(3) • قلت: وهو صحيح، وقد ساق إسناده في " نصب الراية " (4 / 128) .
وهو عند أبي داود (2 / 11) من طريق أخرى عن جابر؛ ورجاله ثقات؛ إلا أن حبيب بن أبي ثابت مدلس، وقد عنعنه؛ ومن طريقه أخرجه البيهقي (6 / 174) . (ن)(2/534)
فهذا وما قبله؛ يفيد أنها تكون للوارث وإن لم يذكر؛ بل ذكر الموروث؛ بل وإن استثنى وقال: إن حدث بك حدث فهي إلي؛ فإن ذلك لا يفيد، بل يكون للمعمر والمرقب ولورثته من بعده.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من الشافعية.
وذهب الجمهور إلى أنه إذا قال: هي لك ما عشت؛ فإذا مت رجعت إلي؛ فهي عاريّة مؤقتة، ترجع إلى المعمر عند موت المعمر، وتمسكوا برواية جابر المتقدمة.
وقد قدمنا ما قيل فيها من الإدراج (1) .
ثم اعلم أن الهبة تصح بمجرد الإيجاب، ولا تفتقر إلى قبول، ولكنها تبطل بالرد، ومن زعم أنها لا تتم إلا بالقبول احتاج إلى الدليل.
ولا حجة لمن اشترط القبض في الهبة (2) ، ومن كان له صبر على الفاقة وقلة ذات اليد، فلا بأس بالتصدق بأكثر ماله أو بكله، ومن كان يتكفف الناس إذا احتاج؛ لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره، وهذا هو وجه الجمع بين الأحاديث الدالة على أن مجاوزة الثلث غير مشروعة، وبين
__________
(1) • قلت: قد بينت آنفا أن لا إدراج؛ فلم يتم الجواب.
والصواب أن يقال: إن رواية جابر ليست مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من قوله، وقد عارضه حديثه الآخر عند أحمد وغيره، وهو المرفوع إليه صلى الله عليه وسلم؛ فهو مقدم على الموقوف؛ كما لا يخفى! (ن)
(2) • وأما حديث: " لا تجوز الهبة إلا مقبوضة "؛ فلا أصل له؛ كما أشار لذلك في " نصب الراية " (4 / 121) . (ن)(2/535)
الأدلة التي دلت على مشروعية التصدق بزيادة على الثلث.
وأما رجوع الوالد في هبة الولد؛ فيستدل على ذلك بما أخرجه أهل السنن، وصححه الترمذي من حديث ابن عمر، وابن عباس قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده ".
وظاهر الحديث تحريم الرجوع في الهبة مطلقا؛ إلا ما تقدم تخصيصه؛ إلا أن يصح ما أخرجه الحاكم (1) من حديث الحسن، عن سمرة - مرفوعا - بلفظ: " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم، لم يرجع "؛ ورواه الدارقطني (2) من حديث ابن عباس؛ قال ابن الجوزي: وهما ضعيفان، وقال الحافظ: في إسناد الثاني ضعف.
فإذا انتهضا للاحتجاج؛ كانا مخصصين لذي الرحم من العموم، وكذلك إذا صح حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حزم (3) مرفوعا بلفظ: " الواهب أحق
__________
(1) • ضعفه البيهقي (6 / 181) ، وراجع " إعلام الموقعين " (2 / 399) . (ن)
(2) • قلت: إنما روى الدارقطني (ص 307) عن ابن عباس حديثا آخر؛ لفظه: " من وهب هبة فارتجع بها؛ فهو أحق بها ما لم يثب عليها، ولكنه كالكلب يعود في قيئه ".
وفي سنده كذاب ومتروك. (ن)
(3) • في " المحلى " (10 / 130) ؛ من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة؛ مرفوعا.
ثم ضعفه ابن حزم بالانقطاع بين عمرو وأبي هريرة، وضعف إبراهيم هذا.
وبالجملة؛ فالحديث ضعيف من جميع طرقه، فلا يصلح للتخصيص. (ن)(2/536)
بهبته ما لم يثب فيها (4) ".
وأخرج الطبراني في " الكبير " عن ابن عباس مرفوعا: " من وهب هبة؛ فهو أحق بها حتى يثاب عليها " (5) ، وقد ضعف حديث أبي هريرة: ابن الجوزي، وصححه الحاكم (6) من قول عمر.
فإن صح الحديثان أو أحدهما؛ كانا مخصصين للهبة التي لم يثب عليها، فيجوز الرجوع فيها.
وأما حديث " الصحيحين " بلفظ: " العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه ".
وزاد البخاري: " ليس لنا مثل السوء "، وثبت بلفظ: " لا يحل " كما في حديث ابن عمر، وابن عباس، والرواية التي فيها: " كالكلب يعود في قيئه "؛ ليست إلا المبالغة في الزجر.
وليس المراد بالحديث إلا تمثيل فعل الراجع في الهبة بالكلب العائد في قيئه، وهذه صورة في غاية الشناعة والفظاعة.
وليس المراد بيان ما يجوز للكلب من الرجوع في قيئه، وليس في الشرع
__________
(4) • أعله الدارقطني والبيهقي بالوقف. (ن)
(5) • فيه ابن أبي ليلى؛ وهو ضعيف لسوء حفظه. (ن)
(6) • الذي صححه من قول عمر؛ إنما هو البيهقي والدارقطني.
والحاكم صححه مرفوعا عن ابن عمر.
وتعقب بأن الصواب وقفه على عمر. (ن)(2/537)
ما يدل على ألفاظ مخصوصة، ولا على مجلس، ولا على قبض.
ومن زعم أن في الشريعة ما يدل على شيء من ذلك؛ فهو مطالب بالدليل، والفرق بين الحقوق والأملاك - وجعل كل واحد منهما مختصا بشيء مما تحت يد الثابت عليه -؛ إنما هو مجرد اصطلاح من بعض أهل الفروع.
وإذا عرفت ذلك هان عليك الخطب، ولم تحتج إلى الاشتغال بما في ذلك من التفاريع والتفاصيل.(2/538)
(الكتاب الحادي عشر: كتاب الأيمان)(2/539)
(11 - كتاب الأيمان)
( [ما تنعقد به اليمين] :)
(الحلف إنما يكون باسم) من أسماء (الله تعالى) ؛ وهو ظاهر، (أو صفة له) من صفات ذاته؛ لحلفه - صلى الله عليه وسلم - ب " مقلب القلوب "؛ كما في حديث ابن عمر في " صحيح البخاري "، وغيره، وقال: كان أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: " لا ومقلب القلوب ".
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زيد بن حارثة: " وأيم الله؛ إن كان لخليقا للإمارة ".
وهكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحلف بقوله: " والذي نفسي بيده "، وهو في " الصحيح "
وحكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبرئيل - عليه السلام -، أنه قال: " وعزتك؛ لا يسمع بها أحد إلا دخلها "؛ يعني: الجنة، وهو في " الصحيح " أيضا.
والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
( [الحلف بغير الله وصفاته: حرام] :)
(ويحرم بغير ذلك) ؛ أي: بغير اسم الله - تعالى - وصفاته؛ فإن أهل(2/541)
الجاهلية كانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة معظمة، وكانوا يعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب حرما في ماله وأهله، فلا يقدمون على ذلك.
ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم، فنهوا عن ذلك؛ كما في حديث ابن عمر - عند مسلم، وغيره -: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه، فقال: " إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا؛ فليحلف بالله أو ليصمت ".
وفي لفظ: " ومن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ".
وفي حديث أبي هريرة - عند أبي داود (1) والنسائي، وابن حبان، والبيهقي -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون ".
وأخرج أبو داود (2) ، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد كفر "، وفي لفظ: " فقد أشرك ".
__________
(1) • عزاه إليه غير واحد، وقيده الحافظ (11 / 448) ، فقال: " في رواية ابن داسة "؛ وسكت الحافظ على إسناده.
وقد أخرجه النسائي (2 / 139) ، والبيهقي (10 / 29) بإسناد صحيح على شرطهما. (ن)
(2) • لينظر؛ فإني لم أجده عنده.
وهو عند الترمذي (2 / 371) ، والحاكم (4 / 297) ، والبيهقي - أيضا - (10 / 29) ، وأحمد (رقم 4904، 5222، 5256، 5346، 5375) ؛ من طريق سعد بن عبيدة، عن ابن عمر؛ مرفوعا؛ وقال الترمذي: " حديث حسن "، والحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
وأعله البيهقي بأن ابن عبيدة لم يسمعه من ابن عمر؛ بينهما رجل كندي، ثم ساق سنده بذلك، وهو إعلال صحيح؛ لكنه لا يسقط به الحديث؛ لثبوت سماع ابن عبيدة إياه عن ابن عمر في حادثة أخرى غير قصة الكندي؛ كما أخرجه أحمد بالرقمين (5222، 5256) ؛ وسنده صحيح متصل. (ن)(2/542)
وهو عند أحمد من هذا الوجه.
وفي لفظ للترمذي، والحاكم: " فقد كفر وأشرك ".
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ":
" وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد، ولا أقول بذلك، وإنما المراد عندي اليمين المنعقدة، واليمين الغموس باسم غير الله - تعالى - على اعتقاد ما ذكرنا ".
وقال في " المسوى ":
" قال الشافعي: من حلف بغير الله؛ فهو يمين مكروهة، وأخشى أن يكون معصية.
فإن قيل: أليس قد أقسم الله ببعض مخلوقاته فقال: {والسماء ذات البروج} ، {والشمس وضحاها} ؟ {أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي؟} : " أفلح - وأبيه - إن صدق "؟ !
فالجواب يكون بوجهين:
أحدهما: أن فيه إضمارا معناه: ورب السماء، ورب الشمس، ورب أبيه، ونحو ذلك حيثما وقع.
وثانيهما - وهو الأصح -: أن النهي إنما وقع عما كان على قصد التعظيم للمحلوف باسمه، كالحلف بالله يقصد بذكره التعظيم؛ دون ما كانت العرب تستعمله؛ تؤكد به كلامها؛ من غير ذلك التعظيم.(2/543)
أقول: الحلف باسم غير الله - تعالى - على اعتقاد تعظيمه - بحيث يكون الحنث مع ذكر اسمه موجبا عنده للعقوبة في الدنيا والآخرة -: شرك.
وبغير هذا التعظيم: مكروه لأجل المشابهة؛ مثل ما ذكروا من التفصيل في النهي عن القول ب (مطرنا بنوء كذا وكذا) ". انتهى.
وفي حديث " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " من حلف باللات والعزى؛ فليقل: لا إله إلا الله "، ولا ريب أن الإنسان إنما يحلف بما هو عظيم عنده، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالف أن يحلف بالله أو يصمت.
فمن حلف باللات والعزى؛ كان معظما لهما، ومن عظمهما كفر، ومن كفر لم يرجع إلى الإسلام إلا بكلمة الإسلام؛ وهي: لا إله إلا الله.
( [لا حنث على من حلف واستثنى] :)
(ومن حلف فقال: إن شاء الله؛ فقد استثنى، ولا حنث عليه) ؛ لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث "؛ أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، وابن حبان.
ولفظ ابن ماجه: " فله ثنياه ".
ولفظ النسائي: " فقد استثنى ".
وأخرجه الحاكم (1) ، وقد صححه ابن حبان.
__________
(1) • في " المستدرك " (4 / 303) ؛ بلفظ ابن ماجه؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
وهو عنده من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة؛ كما يوهم صنيع المصنف!
وكذلك رواه النسائي (2 / 141، 145) عن ابن عمر، ولم أره عنده من حديث أبي هريرة. (ن)(2/544)
وأخرج أبو داود، عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم قال: " والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم قال: والله لأغزون قريشا "، ثم سكت، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم لم يغزهم.
قال أبو داود: إنه قد أسنده غير واحد عن ابن عباس (1) ، وقد رواه البيهقي موصولا ومرسلا.
ويؤيد أحاديث الباب ما في " الصحيحين ": " أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة " ... الحديث؛ وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قال: إن شاء الله؛ لم يحنث ".
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وادعى ابن العربي الإجماع على ذلك، فقال: " أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله؛ يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا ".
وفي " الموطإ " عن ابن عمر: من قال: والله، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يفعل الذي حلف عليه؛ لم يحنث.
قال مالك: أحسن ما سمعت في الثنيا: أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه، وما كان من ذلك نسقا يتبع بعضه بعضا قبل أن يسكت؛ فإذا سكت وقطع كلامه؛ فلا ثنيا له.
__________
(1) • هذا اختصار مخل لكلام أبي داود؛ يوهم خلاف قصده؛ فإنه قال (2 / 78) : " وقد أسند هذا الحديث غير واحد عن شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ".
قلت: والمسند والمرسل؛ مداره على شريك - وهو القاضي -؛ وهو سيئ الحفظ.
ومن طريقه أخرجه البيهقي (10 / 47) ؛ وأشار لتضعيفه. (ن)(2/545)
قلت: وعلى هذا أهل العلم؛ أن الاستثناء إذا كان موصولا باليمين؛ فلا حنث عليه.
أقول: ثم اعلم أن اعتبار الأعراف في الأيمان لا بد منه؛ فإن الحالف عند حلفه من شيء - أو على شيء - لا يخطر بباله غير العرف الذي غلب عليه في محاوراته، فلو فرض أن عرفه فيما حلف عليه مخالف لاسمه اللغوي أو الشرعي؛ كان العرف مقدما:
أما إذا كان ممن لا يعرف الشرع أو اللغة فظاهر، وأما إذا كان ممن يعرفها فكذلك أيضا؛ لأن خطور المعنى العرفي أسبق من خطور غيره بالبال؛ إلا أن يقول: أردت ذلك؛ فإنه يقبل منه؛ إن كان لا يتعلق بالمعنى العرفي حق للغير.
( [يكفر عن يمينه من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه] :)
(ومن حلف على شيء؛ فرأى غيره خيرا منه؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه) ؛ لما ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عبد الرحمن ابن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حلفت على يمين؛ فرأيت غيرها خيرا منها؛ فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك ".
وفي لفظ: " فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير ".
وفي لفظ للنسائي، وأبي داود (1) : " فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير ".
__________
(1) • في " سننه " (2 / 141) ، وكذا أحمد (5 / 63) ؛ من طريق جرير بن حازم، قال: سمعت الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سمرة ... به.
وأخرجه أبو داود (2 / 77) ، ومن طريق البيهقي (10 / 73) ؛ عن قتادة، عن الحسن ... به،(2/546)
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عدي بن حاتم، ومن حديث أبي هريرة نحوه.
وفي " الصحيحين " من حديث أبي موسى: " لا أحلف على يمين؛ فأرى غيرها خيرا منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني ".
وفي الباب أحاديث.
قلت: قال الله - تعالى -: {واحفظوا أيمانكم} ، واختلفوا في وجه الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة:
فقال أبو حنيفة: قوله - تعالى - مخصوص بما إذا كان المحلوف عليه معصية؛ إذ من المعلوم أن الله - تعالى - لا يأمر بمعصية؛ فمن حلف على معصية - كترك الكلام مع أبيه -؛ حنث وكفّر.
__________
وهذا سند صحيح.
وقد أخرجه أبو عوانة في " صحيحه "، كأبي داود - كما في " الفتح " (11 / 515) -.
وله شاهد من حديث عائشة مرفوعا؛ أخرجه الحاكم (4 / 301) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري وحده؛ لأن أبا الأشعث - واسمه أحمد بن المقدام -، وشيخه محمد بن عبد الرحمن الطفاوي؛ لم يخرج لهما مسلم شيئا.
وله شاهد آخر عن أم سلمة، أخرجه الطبراني في " الكبير "، ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الله بن حسن لم يسمع من أم سلمة، كما في " المجمع " (4 / 185) .
وهذه الطرق تدفع احتمال خطأ هذه الرواية.
وقد قال الحافظ في " بلوغ المرام ": " إن إسناد أبي داود والنسائي صحيح ".
وفيها رد على أبي حنيفة ومن تابعه؛ فإنهم قالوا: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، والحديث يدل على استحباب تقديمها؛ إن لم يدل على الوجوب.
وقد ذهب إلى خلاف قول أبي حنيفة؛ الجمهور؛ ومعهم قول أربعة عشر صحابيا، كما في " الفتح " (11 / 514) ، وانظر " نيل الأوطار " (8 / 199) . (ن)(2/547)
وقال الشافعي: مخصوص بما إذا حلف على معصية، أو حلف على ترك مندوب، أو فعل مكروه؛ لقوله - تعالى -: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا} ؛ أي: مانعا لكم عن البر.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير "؛ فقال أبو حنيفة:
لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، فمعناه: فليقصد أداء الكفارة كقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} .
وقال الشافعي: يجوز تقديمها على الحنث [إن لم] (1) يكفر بالصوم (2) ، وعلى قياس هذا؛ كل حق مالي تعلق بشيئين يجوز تقديمه على الشيئين؛ كالزكاة إذا تم النصاب ولم يتم الحول ".
( [لا يأثم بالحنث من أكره على اليمين] :)
(ومن أُكره على اليمين؛ فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها) ؛ لكون فعل المكره كلا فعل، وقد رفع الله - تعالى - الخطاب به في التكلم بكلمة الكفر، فقال - تعالى -: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، ولحديث: " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (3) .
__________
(1) • زيادة لا بد منها. (ن)
(2) • قلت: هذا قياس على استسلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من العباس زكاة سنتين.
واستثناء الصوم فيه؛ لأنه عبادة محضة، وكان يكون هذا الاستثناء صحيحا؛ لو لم يصح الحديث بلفظ: " ثم ".
أما وقد صح؛ فهو بعمومه يشمل الصوم أيضا؛ فلا يصح هذا الاستثناء. (ن)
(3) منكر بهذا اللفظ؛ وإنما يصح بلفظ: " إن الله تجاوز لأمتي ... "؛ وانظر " إرواء الغليل " (82) .(2/548)
وهو حديث فيه مقال طويل (1) .
وتكليف الحالف بيمينه التي أكره عليها؛ من تكليف ما لا يطاق، وهو باطل بالأدلة العقلية والنقلية.
( [من علم كذب يمينه فهي غموس] :)
(واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها) ؛ لحديث ابن عمر، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ فذكر الحديث، وفيه: " اليمين الغموس "، وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: " التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب "؛ أخرجه البخاري.
قال مالك: " وعقد اليمين: أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه بعشرة دنانير، ثم يبيعه بذلك، أو يحلف ليضربن غلامه، ثم لا يضربه، ونحو هذا؛ فهذا الذي يكفر صاحبه عن يمينه، وليس في اللغو كفارة.
وأما الذي يحلف على الشيء - وهو يعلم أنه آثم -، ويحلف على الكذب - وهو يعلم -؛ ليرضي به أحدا، أو ليعتذر به إلى معتذر له، أو ليقطع به مالا؛ فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة ".
قلت: الغموس هي الحلف على ما يعلم بطلانه؛ لا على ما يظن صدقه؛ فإنه خارج عن الأقسام الثلاثة، والحلف على الظن لا يجوز؛ لأن الله - سبحانه - قد نهى عن اتباع الظن - والعمل به - نهيا عاما مخصصا بأمور؛ ليس الحلف منها.
__________
(1) تفصيله في " تلخيص الحبير " للحافظ ابن حجر؛ المطبوع مع " المجموع " للنووي (ج 4: ص 112) . (ش)(2/549)
ومن زعم أنه يجوز الحلف على الظن؛ فهو مطالب بدليل صالح لتخصيص ذلك.
ولا نسلم صدق اسم الاعتقاد على الظن؛ بل هو أخص منه، ولو سلم دخوله تحته بالمعنى العام؛ فلا نسلم أن الاعتقاد الذي يكون مطابقته صدقا هو ذلك العام، ولو سلمنا أنه العام؛ فلا نسلم أن كل صدق بهذا المعنى يجوز الحلف عليه؛ بل الذي يجوز الحلف عليه؛ هو نوع من أنواع الصدق خاص، وهو ما كان معلوما؛ لا ما كان مظنونا.
ومن زعم غير هذا فعليه الدليل.
( [معنى اللغو في اليمين، وبيان حكمه] :)
(ولا مؤاخذة باللغو) : لقوله - تعالى -: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} .
وفي " البخاري " (1) عن عائشة، أنها قالت: أنزلت هذه الآية: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} في قول الرجل: لا والله، بلى والله.
وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة، وجماعة من التابعين.
وأخرج أبو داود (2) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو كلام
__________
(1) • (11 / 464) . (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 75) ، ومن طريقه البيهقي (10 / 49) ؛ وفيه حسان بن إبراهيم، وهو ثقة، ولكنه كان يغلط في الشيء ولا يتعمد؛ كما قال ابن عدي وغيره، وهو يرويه عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عنها.(2/550)
الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله ".
وأخرجه أيضا البيهقي، وابن حبان.
وصحح الدارقطني الوقف؛ قال أبو داود: رواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفا.
وذهبت الحنفية إلى أن لغو اليمين: أن يحلف على الشيء يظنه، ثم يظهر خلافه، وبه قال جماعة.
وقيل: أن يحلف وهو غضبان.
والخلاف في ذلك طويل، وتفسير الصحابة الآية الكريمة مقدم على تفسير غيرهم.
قلت: الأيمان ثلاثة أقسام: لغو لا كفارة فيها، ومنعقدة تجب فيها الكفارة إن حنث، وغموس اختلفوا في كفارتها.
قالت عائشة: لغو اليمين؛ قول الإنسان: لا والله.
وقال مالك: أحسن ما سمعت في هذا: أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك؛ فهو اللغو.
وذهب الشافعي في تفسير اللغو إلى قول عائشة.
__________
قال أبو داود: " روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ ... موقوفا على عائشة، وكذلك رواه الزهري، وعبد الملك بن أبي سليمان، ومالك بن مغول - كلهم -؛ عن عطاء، عن عائشة ... موقوفا ".
قلت: وداود - هذا - ثقة فيه ضعف مثل حسان؛ لكن يرجح روايته - الموقوفة - هذه المتابعات لإبراهيم الصائغ موقوفا. (ن)(2/551)
وأبو حنيفة إلى ما حسنه مالك.
أقول: الأولى أن يقال: إن اللغو لما وقعت في كتاب الله عز وجل مقابلة للمعقودة - وقد تقرر أن تعقيد اليمين قصدها، والمراد عقد القلب بها؛ كما صرح به صاحب " الكشاف " -؛ فاللغو: هي ما لم يقصد؛ كقول الرجل: لا والله، وبلى والله؛ في محاوراته من غير قصد لليمين؛ سواء كان في حال اليمين أم لا.
فلو لم يرد في اللغو إلا وقوعها في القرآن مقابلة للمعقودة؛ لكان القول بأنها ما ذكرناه متعينا، فكيف وقد فسرت عائشة اللغو المذكورة في القرآن بما قلنا؟ !
( [من حق المسلم على المسلم إبرار قسمه] :)
(ومن حق المسلم على المسلم إبرار قسمه) : لما ثبت في " الصحيحين " من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كما في حديث البراء (1) ، وغيره.
وأخرج أحمد من حديث أبي الزاهرية، عن عائشة: أن امرأة أهدت إليها تمرا، فأكلت بعضه، وبقي بعضه، فقالت: أقسمت عليك؛ إلا أكلت بقيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبريها؛ فإن الإثم على المحنث "؛ ورجاله رجال الصحيح (2) .
( [بيان كفارة اليمين في كتاب الله] :)
(وكفارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز) ؛ وهو قوله - تعالى -: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك
__________
(1) • قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار المقسم؛ أخرجه البخاري (11 / 459) . (ن)
(2) قاله الهيثمي في " المجمع " (4 / 182 - 183) ؛ وإسناده حسن.(2/552)
كفارة أيمانكم إذا حلفتم} .
قلت: ذهب ابن عمر إلى أن {أو} ههنا للتقسيم؛ لا للتخيير، وتعقبه عامة أهل العلم بالقياس الجلي على فدية الحلق في الإحرام، فقالوا: يتخير الرجل بين: أن يطعم عشرة من المساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة؛ فإن عجز عنها صام ثلاثة أيام.
وأما قدر الإطعام والكسوة؛ فكان ابن عمر يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين؛ لكل مسكين مد من حنطة - مختصر (1) -.
وقال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين؛ أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم.
قال مالك: " أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة: أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا ثوبا، وإن كسا النساء كساهن ثوبين ثوبين، درعا وخمارا، وذلك أدنى ما يجزئ كلا في صلاته ".
قلت: على هذا الشافعي في الإطعام، وقال في الكسوة أولا مثل ما قال مالك، ثم رجع، وقال: " إن اختار الكسوة؛ فعليه لكل مسكين ثوب واحد من قميص، أو سراويل، أو مقنعة، أو إزار؛ يصلح لكبير أو صغير؛ لصحة إطلاق الكسوة على كل ذلك سواء ".
وقال أبو حنيفة: " الإعتاق والإطعام كما مر في الظهار، وأما الكسوة؛ فلكل واحد ثوب يستر عامة بدنه؛ فلا يجوز السراويل والإزار، ونحوهما ".
__________
(1) أي: الأثر مختصر؛ وانظر " المسوى بشرح الموطأ " (2 / 409)(2/553)
قال مالك: " فأما التوكيد؛ فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد، يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين؛ كقوله: والله لا أنقصه من كذا وكذا؛ يحلف بذلك مرارا ثلاثا، أو أكثر من ذلك، قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين ".
أقول: الذي في القرآن الكريم؛ إطعام عشرة مساكين، ومعناه الحقيقي أن يجعل لهم طعاما يأكلونه مرة واحدة؛ من غير تقدير بمقدار معين، ولا على صفة معينة؛ من اجتماعهم، أو كونه في وقت مخصوص؛ بل ما يصدق عليه مسمى إطعام العشرة - لغة -.
ولا ريب أنه يقال لمن أطعم عشرة - ليلا أو نهارا، مجتمعين أو مفترقين -: إنه مطعم لذلك القدر.
فما وقع الجزم به من اعتبار إطعام العشرة مرتين؛ لا وجه له.
وأما الظن من حديث كفارة الظهار (1) فغير ظاهر؛ فإنه وقع الاختلاف الطويل العريض في مقدار العرق (2) من التمر، أو المكتل، وهل الإعانة منه صلى الله عليه وسلم فقط؟ أو منه ومن المرأة؟
__________
(1) • يعني: حديث المجامع في رمضان، المتقدم في الكتاب؛ وفيه ذكر الكفارة؛ وهي مثل كفارة الظهار، ولذلك سماه المؤلف: " حديث كفارة الظهار ".
أو أنه اشار إلى ما في بعض طرق الحديث أنه ظاهر من امرأته في رمضان، وأنه وطئها، فأمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة.
لكن الحافظ استظهر أنهما قصتان؛ فراجع " فتح الباري " (4 / 132) . (ن)
(2) • بفتحتين، وهو المكتل؛ كما فسر في نفس الحديث. (ن)(2/554)
ثم هو مهجور الظاهر؛ فإنه أمر أوس بن الصامت أن ينفقه على نفسه؛ كما ثبت في " الصحيح " (1) .
[انتهى المجلد الثاني من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "، ويتلوه: المجلد الثالث - منه -، وأوله: 12 - كتاب النذر]
__________
(1) • ليس في " الصحيح " تسميته الرجل؛ وإنما وقعت تسميته ب " سلمة - أو سليمان - بن صخر " في قصة المظاهر في رمضان؛ وقد سبقت الإشارة إلى أنها قصة أخرى، غير قصة المجامع في رمضان؛ وتلك أخرجها ابن أبي شيبة؛ كما في " الفتح ". (ن)(2/555)
(الكتاب الثاني عشر: كتاب النذر)(3/5)
(12 - كتاب النذر)
( [متى يصح النذر؟] :)
(إنما يصح إذا ابتغي به وجه الله، فلا بد أن يكون قربة، ولا نذر في معصية الله) ؛ لأنه قد ورد النهي عن النذر؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: " إنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من مال البخيل ".
وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة نحوه.
ثم ورد الإذن بالنذر في الطاعة، والنهي عنه في المعصية؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه "؛ وعلى ذلك يحمل قوله - تعالى -: {يوفون بالنذر} .
وقد أخرج الطبري بسند صحيح، عن قتادة في قوله - تعالى -: {يوفون بالنذر} ، قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وما افترض عليهم، فسماهم الله أبرارا.
وورد بلفظ الحصر: أنه لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله؛ كما أخرجه(3/7)
أحمد (1) ، وأبو داود، وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ".
وأخرج مسلم (2) ، وغيره من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نذر نذرا في معصية؛ فكفارته كفارة يمين ".
وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين " (3) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
( [من أنواع نذر المعصية] :)
(1 -[عدم التسوية بين الأولاد في العطاء] :)
(ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد) ؛ لما قدمنا في كتاب الهدايا.
__________
(1) • في " المسند " رقم (6714، 6732، 6975) ، وأبو داود (1 / 342) ؛ وسنده حسن. (ن)
(2) • هذا خطأ؛ إذ إن مسلما لم يخرجه، بل أبو داود (2 / 81) ، والبيهقي (10 / 45، 72) من طريقين، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن كريب، عن ابن عباس ... مرفوعا به.
وهو قطعة من حديث في النظر، ويأتي لفظه في الكتاب؛ وإسناده عندي صحيح.
وروي من وجه آخر عن ابن عباس؛ أخرجه البيهقي وضعفه.
وإنما روى مسلم (5 / 80) عن عقبة بن عامر مرفوعا: " كفارة النذر كفارة اليمين ". (ن)
(3) • إسناده ضعيف، رواه النسائي (2 / 145 - 146) ، والطحاوي، والبيهقي، وغيرهم، لكن يشهد له ما قبله، ولذلك حسنه ابن تيمية في " نظرية العقد " (ص 55 - 56) .
وهو عندي حديث صحيح لا شك فيه؛ لما سبق؛ ولأن الطحاوي أخرجه (3 / 37) من طريق أخرى عن عائشة مرفوعا؛ وإسناده صحيح. (ن)(3/8)
(2 -[المفاضلة بين الورثة خلافا للشرع] :)
(أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله - تعالى -) ؛ لأن المخالفة لذلك معصية ولا نذر في معصية، كما تقدم.
(3 -[النذر على القبور] :)
(ومنه النذر على القبور) ؛ لكون ذلك ليس من النذر في الطاعة، ولا من النذر الذي يبتغى به وجه الله - تعالى -؛ بل قد يكون من النذر في المعصية؛ إذا كان يتسبب عنه اعتقاد باطل في صاحب القبر؛ كما يتفق ذلك كثيرا.
وقد أخرج أبو داود (1) بإسناد صالح عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني القسمة؛ فكل مالي في رتاج الكعبة (2) ، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفّر عن يمينك [وكلم أخاك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يمين عليك ولا نذر] (3) ، ولا تنذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك ".
__________
(1) • في " سننه " (2 / 76) ، وكذا البيهقي (10 / 66) ، والحاكم (4 / 300) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن ابن المسيب؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي.
وأعله الشوكاني بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر، فهو منقطع.
قلت: لم يتفق على عدم سماعه منه؛ بل قال أحمد: قد رأى عمر وسمع منه، وإذ لم يقبل سعيد عن عمر؛ فمن يقبل؟ ! فالحديث صحيح كما قال الحاكم والذهبي. (ن)
(2) • أي: لها؛ كما سيأتي في الكتاب. (ن)
(3) • من " السنن ". (ن)(3/9)
وأخرج مالك (1) والبيهقي بسند صحيح - وصححه ابن السكن -، عن عائشة: أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة؛ إن كلم ذا قرابة؟ فقالت: يكفر عن اليمين.
وإذا كان هذا في الكعبة؛ فغيرها من المشاهد والقبور بالأولى.
قلت: اختلف أهل العلم في النذر إذا خرج مخرج اليمين؛ مثل أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي عتق رقبة، أو: إن دخلت الدار فلله علي أن أصوم، أو أصلي، فهذا نذر أخرج مخرج اليمين؛ لأنه قصد به منع نفسه عن الفعل؛ كالحالف يقصد بيمينه منع نفسه عن الفعل، فأصح قولي الشافعي: أنه بمنزلة اليمين؛ عليه الكفارة إن حنث (2) ، والمشهور من مذهب أبي حنيفة: أن عليه الوفاء بما سمى الرتاج الباب، وجعل ماله في رتاج الكعبة؛ معناه: جعله لها، كنى عنها بالباب؛ لأنه يدخل إليها منه ".
(4 -[النذر على المساجد لتزخرف] :)
(وعلى ما لم يأذن به الله) ؛ كالنذر على المساجد لتزخرف، أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم؛ فإن ذلك من النذر في المعصية، وأقل الأحوال: أن يكون النذر على ما لم يأذن به الله خارجا عن النذر، الذي أذن الله به، وهو النذر في الطاعة، وما ابتغي به وجه الله.
__________
(1) • في " الموطأ " (2 / 34) ؛ وسنده على شرط الشيخين. (ن)
(2) • وهو الأصح - إن شاء الله -؛ وهو قول عائشة، وعطاء، وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي (10 / 65) : " ومن قال به؛ قاله في كل ما حنث فيه؛ سواء في عتق أو طلاق ".
قلت: وقد تقدم قريبا قول عمر فيمن نذر ماله في رتاج الكعبة، وأنه اعتبره يمينا. (ن)(3/10)
فيشمل هذا كل نذر على مباح، أو مكروه، أو محرم.
( [لا يجب النذر في فعل لم يشرعه الله] :)
(ومن أوجب على نفسه فعلا لم يشرعه الله؛ لم يجب عليه) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، وغيره قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إذ هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلم وأن يصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه ليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه ".
وأخرج أحمد (1) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - نحوه -؛ فيمن نذر أن لا يزال في الشمس حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله ".
قلت: وعلى هذا أهل العلم.
( [لا يجب النذر على الإنسان فيما لا يطيقه] :)
(وكذلك إن كان) النذر (مما شرعه الله وهو لا يطيقه) ؛ لم يجب عليه الوفاء به؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى (2) بين ابنيه، فقال: " ما هذا؟ ! ". قالوا: نذر أن يمشي، قال:
" إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني "، وأمره أن يركب.
__________
(1) • وإسناده حسن، وقد تقدم قريبا، وهذا أحد ألفاظه. (ن)
(2) " أي: يمشي بينهما معتمدا عليهما؛ من ضعفه وتمايله "؛ قاله ابن الأثير. (ن)(3/11)
زاد النسائي في رواية: " نذر أن يمشي إلى بيت الله ".
وأخرج أبو داود بإسناد صحيح (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من نذر نذرا لم يسمه؛ فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه؛ فكفارته كفارة يمين ".
وأخرجه أيضا ابن ماجه، وزاد: " من نذر نذرا أطاقه فليف به ".
ومن ذلك: أمره صلى الله عليه وسلم لمن نذر أن يمشي إلى الكعبة بالركوب؛ كما في " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر.
وفي " مسند أحمد "، و " سنن أبي داود " من حديث ابن عباس.
وفي " مسند أحمد " من حديث عقبة بن عامر.
قلت: ذهب أبو حنيفة والشافعي - في أصح قوليه - إلى أن عليه دم شاة.
وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إلا على وجه الاحتياط - لحديث أنس - في مثل هذه الصورة، ولم يذكر هديا ولا قضاء.
( [تجب كفارة اليمين على من نذر في معصية، أو نذر فيما لا يطيقه] :)
(ومن نذر نذرا لم يسمه، أو كان معصية، أو لا يطيقه؛ فعليه كفارة
__________
(1) • هو كما قال، وهو حديث ابن عباس الذي عزاه الشارح آنفا (ص) لمسلم خطأ. ثم تبين أنه معلول بالوقف: " الإرواء " (8 / 210) . (ن)(3/12)
يمين) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه، والترمذي - وصححه (1) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة يمين ".
وهو في " صحيح مسلم " دون قوله: " إذا لم يسمه ".
وقد تقدم حديث ابن عباس - قريبا - فيمن نذر نذرا لم يسمه.
وأخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من نذر نذرا في معصية؛ فكفارته كفارة يمين "، كذا نسبه صاحب " المنتقى " إلى مسلم (2) ؛ وفيه نظر.
وهو عند أبي داود، وابن ماجه، وأحمد.
وأخرج أحمد، وأهل " السنن ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين "، وفي إسناده مقال (3) .
__________
(1) الترمذي (2 / 368) - من طريق أبي الخير -، وابن ماجه (1 / 653) ، وكذا البيهقي (/ 45 10) - من طريق خالد بن يزيد -، كلاهما عن عقبة.
وفيه - عندهما - إسماعيل بن رافع، وهو ضعيف، وعند الترمذي أبو بكر بن عياش وفيه ضعف.
لكن يشهد له حديث ابن عباس المتقدم قريبا. (ن)
(2) • كذا قال! وهو وهم منه، أو من ناسخ نسخته من " المنتقى "؛ فإنما عزاه - في نسختنا التي عليها شرح الشوكاني - (8 / 203) لأبي داود فقط. (ن)
(3) • قلت: لكن رواه الطحاوي من طريق أخرى، ليس فيه المقال المشار إليه؛ وإسناده صحيح كما سبق منا.
ورواه أحمد (6 / 247) من طريق ثالثة: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ وهو صحيح أيضا، وهي غير طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة التي أعلت بالانقطاع، وقد ساقها أحمد قبيل هذه الطريق؛ فكأنه - رحمه الله - عقبها بهذه؛ ليشير إلى تقويتها.
ثم وجدت له متابعا عن أبي سلمة؛ أخرجه الطيالسي (1 / 248) : حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عنها ".
وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن ابن أبي كثير مدلس، وقد عنعنه (ن) .(3/13)
وأخرج أبو داود، وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر نذرا لم يطقه؛ فكفارته كفارة يمين ".
وهكذا أمر صلى الله عليه وسلم المرأة التي نذرت أن تمشي - وهي لا تطيق - بأن تكفر؛ كما أخرجه أحمد، وأبو داود.
( [يجب الوفاء بالنذر المباح] :)
أقول: النذر بالمباح يصدق عليه مسمى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به.
ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود (1) : أن المرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت إذا انصرفت من غزوتك سالما أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: " أوفي بنذرك ".
وضرب الدف إذا لم يكن مباحا فهو إما مكروه، أو أشد من المكروه؛ ولا يكون قربة أبدا، فإن كان مباحا؛ فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروها؛ فالإذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأولى (2) .
__________
(1) • في " سننه " (2 / 81) ، ومن طريقه البيهقي (10 / 77) بإسناد حسن؛ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وله شاهد من حديث بريدة؛ رواه الترمذي (4 / 316) - وصححه -، والبيهقي، وأحمد (5 / 353) ؛ وإسناده صحيح.
ورواه ابن أبي شيبة أيضا، وابن حبان في " صحيحيه " (رقم 1193) ؛ وانظر " نصب الراية " (3 / 300 - 301) . (ن)
(2) • قلت: كلا؛ لأن الأصل في الضرب بالدف أنه لا يجوز؛ لأنه من آلات الملاهي؛ وهي محرمة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تفي بنذرها؛ لأنه اقترن بإظهار الفرح بقدومه صلى الله عليه وسلم سالما، فصار فعله =(3/14)
وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذرا لم يسمه يدل على وجوب الكفارة بالأولى في المباح.
فالحاصل: أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين: إما وجوب الوفاء به؛ أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء.
ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الإذن لمن نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة؛ بأن تختمر وتركب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها مع ذلك بصيام ثلاثة أيام.
وفي رواية: أنه أمرها بأن تهدي بدنة.
ومثل ذلك حديث الشيخ الذي نذر أن يمشي، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه "؛ فإنه لا يعارض ما قدمنا - لوجهين -:
الأول: أن عدم التصريح بوجوب الكفارة عليه لا ينافي الأحاديث المصرحة بوجوبها.
والثاني: أنه رآه يضعف عن ذلك؛ كما في الرواية: أنه رآه يهادى بين ابنيه، ولهذا قال: " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه ".
__________
= كبعض القرب؛ كضرب الدف في النكاح؛ أفاده الخطابي في " معالم السنن ".
فليس في الحديث دلالة واضحة على الوفاء بالمباح؛ فالأولى الاستدلال بما ثبت في الشرع أن النذر يمين، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى البيت فعجزت: " تكفر عن يمينها ".
ومعلوم أن من حلف على مباح أن يفعله؛ وجب عليه أن يبر في يمينه أو الكفارة، فكذلك في نذر المباح؛ عليه الوفاء أو الكفارة، ولا فرق، وراجع لهذا كلام ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 373 - 376) . (ن)(3/15)
ومحل النزاع من نذر بمباح مقدور له من غير تعذيب لنفسه، ثم تعذيب النفس إن كان من قبيل المعصية، فقد ثبت أن في نذر المعصية كفارة يمين، وإن كان لكونه يلحق بغير المقدور، فقد ثبت أن من نذر فيما لا يملك؛ فعليه كفارة يمين، وما ليس بمقدور للإنسان داخل فيما لا يملكه.
وقد أخرج أبو داود حديثا، وفيه: " ومن نذر نذرا لا يطيقه؛ فكفارته كفارة يمين ".
والحاصل: أن النذر إن كان بطاعة مقدورة وجب الوفاء به؛ سواء كانت تلك الطاعة واجبة أو مندوبة، وإن كان بغير طاعة فهو: إما من المباح؛ أو الحرام؛ أو المكروه، فإن كان من المباح فقد تقدم، وإن كان من الحرام؛ فقد ثبت وجوب الكفارة فيه مع المنع من الوفاء به، وإن كان مكروها؛ فهو إما أن يكون لاحقا بالحرام أو بالمباح.
إن كان الأول وجبت الكفارة، ولم يجز الوفاء به.
وإن كان الثاني فقد تقدم.
هذا خلاصة الكلام في أنواع النذر، ولا دليل بيد من لم يوجب الوفاء، ولا الكفارة في المندوب والمباح:
( [يلزم المشرك الوفاء إذا نذر بطاعة ثم أسلم] :)
(ومن نذر بقربة وهو مشرك، ثم أسلم؛ لزمه الوفاء) ؛ لحديث عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال: قلت: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية(3/16)
أن أعتكف في المسجد الحرام، فقال: " أوف بنذرك ".
وأخرج أحمد (1) ، وابن ماجه عن ميمونة بنت كردم (2) : أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني نذرت أن أنحر ببوانة (3) ، فقال: " أبها وثن أو طاغية؟ ". قال: لا، قال: " أوف بنذرك "، ورجال إسناده رجال الصحيح.
وأخرج أبو داود نحوه من حديث ثابت بن الضحاك، وإسناده صحيح.
( [ماذا على من نذر كل ماله؟] :)
(ولا ينفذ النذر إلا من الثلث) ؛ لحديث كعب بن مالك في " الصحيحين ":
__________
(1) • في " المسند " (3 / 419) ، وابن ماجه (1 / 353 - 354) ؛ من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، عن ميمونة بنت كردم ... به، والسياق لابن ماجه.
وقال أحمد: عنها، عن أبيها؛ فجعله من مسند أبيها.
والصواب الأول؛ فقد أخرجه ابن ماجه؛ من طريق أخرى، عن عبد الله بن عبد الرحمن هذا، عن يزيد بن مقسم، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... بنحوه.
وعبد الله - هذا - فيه ضعف، وإن أخرج له مسلم، وقد اضطرب في إسناد هذا الحديث كما ترى.
وقد رواه عبد الله بن يزيد بن مقسم، عن سارة بنت مقسم، عن ميمونة.
وسارة - هذه - لا تعرف؛ فالحديث من هذا الوجه ضعيف؛ لجهالة بعض رواته؛ واضطرابه.
لكن أخرجه أبو داود (2 / 80) ؛ من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - بإسناد صحيح.
وابن ماجه، والبيهقي، عن ابن عباس بسند ضعيف. (ن)
(2) كردم؛ بوزن؛ جعفر، وميمونة هذه صحابية، وحديثها في " مسند أحمد " (ج 6: ص 366) ، وذكره ابن الأثير في " أسد الغابة " (ج 5: ص 552) ، وابن سعد في " الطبقات (ج 8: ص 222) ، وابن حجر في " الإصابة " (ج 8: ص 195) ، ونسبه أيضا إلى " سنن أبي داود ". (ش)
(3) بوانة - بضم الباء وتخفيف الواو -: هضبة وراء ينبع، قريبة من ساحل البحر؛ كما في " معجم البلدان ". (ش)(3/17)
أنه قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك ".
وفي لفظ لأبي داود (1) : إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة، قال: " لا " قلت: فنصفه؟ قال: " لا "، قلت: فثلثه؟ قال: " نعم ".
وفي إسناده محمد بن إسحاق.
وفي لفظ لأبي داود أنه قال له: " يجزي عنك الثلث ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب
__________
(1) • في " سننه " (2 / 81) ؛ عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن جده.
وليست علة هذا اللفظ عنعنة ابن إسحاق؛ فقد صرح بالتحديث، وإنما هي المخالفة؛ فقد رواه جماعة من الثقات الحفاظ عن الزهري، لم يذكروا فيه: " الثلث " بل: " البعض "، كما في الكتاب.
وكذلك أخرجه أبو داود - في رواية -، وأحمد (3 / 454، 456، 459، 459، 460) ، (6 / 387، 389) ، والبيهقي (10 / 67 - 68) . (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 452 - 453، 502) ، ولم أجده في " سنن أبي داود " مع أنه قد عزاه إلى كتاب النذور من " سننه " النابلسي في " الذخائر " وليس فيه؛ فلعله في بعض النسخ.
وقد رواه البيهقي (10 / 68) ؛ وقال: إنه مختلف في إسناده ولا يثبت، ولا يصح الاحتجاج به؛ فإن أبا لبابة إنما أراد أن يتصدق بماله شكرا لله حين تاب الله عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك بعض ماله؛ كما قال لكعب؛ ولم يبلغنا أنه نذر شيئا أو حلف على شيء ".
وذكر نحوه ابن القيم في " التهذيب " (4 / 384 - 385) ، ثم اختار في المسألة أن يتصدق به ويمسك عليه بعضه، وهو ما يكفيه ويكفي عياله، هذا إذا كان ناذرا.
وأما إذا كان حالفا بالصدقة؛ أجزأه كفارة يمين، وهذا هو الأقرب؛ والله أعلم (ن) .(3/18)
الله عليه قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله - عز وجل - ولرسوله، فقال: " يجزي عنك الثلث ".
قلت: وهو قول أهل العلم في الجملة.
ولو حلف الرجل بصدقة ماله، أو قال: مالي في سبيل الله.
فقال قوم: عليه كفارة يمين، وهو من نذر اللجاج، وعليه الشافعي.
وقال مالك: يخرج ثلث ماله، لحديث أبي لبابة المذكور.
وقال أبو حنيفة: ينصرف ذلك إلى كل ما يجب فيه الزكاة من عينه من المال؛ دون ما لا زكاة فيه من العقار والدواب ونحوها.
( [وفاء الولد بنذر أبيه بعد موته مجزئ] :)
(وإذا مات الناذر بقربة، ففعلها عنه ولده؛ أجزأه ذلك) ؛ لحديث ابن عباس: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقضه عنها "، أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح.
وأصل القصة في " الصحيحين ".
وفي " البخاري ": " أن ابن عمر أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء ثم ماتت، أن تصلي عنها ".
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس نحو ذلك بإسناد صحيح.(3/19)
وقد روي عنهما خلاف ذلك.
قلت: هو القول القديم للشافعي: إن من فاته شيء من رمضان، وتمكن من قضاءه، ثم مات ولم يقض، وكذا النذر والكفارة؛ تدارك عنه وليه؛ إما بالصوم عنه؛ أو الإطعام من تركته.
قال النووي: القديم ههنا أظهر.
وقال محمد: ما كان من نذر، أو صدقة، أو حج قضاها الولي أجزأ ذلك إن شاء الله - تعالى -، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.(3/20)
(الكتاب الثالث عشر: كتاب الأطعمة)(3/21)
(13 - كتاب الأطعمة)
(1 - باب المحرمات من الأطعمة)
( [الأصل في الأشياء: الحل. والحرام: ما حرمه الله ورسوله] :)
(الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو عفو) ؛ لمثل قوله - تعالى -: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية؛ فإن النكرة في سياق النفي تدل على العموم، ولمثل حديث سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء؟ فقال:
" الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم "، أخرجه ابن ماجه، والترمذي، وفي إسناد ابن ماجه سيف بن هارون (1) البرجمي، وهو ضعيف (2) .
__________
(1) • هذا يوهم أن ابن هارون ليس في سند الترمذي، مع أنه أخرجه (3 / 44) من طريقه أيضا؛ فتنبه!
وسيف - هذا - ضعيف متروك، كما قال الدارقطني في " سؤالات البرقاني " عنه (رقم 196 - نسختي المصورة) .
فقول ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 305) : " وهذا إسناد جيد "؛ غير جيد. (ن)
قلت: وانظر " غاية المرام " (3) لشيخنا.
(2) قال الترمذي (ج 1 ص 322 - طبع بولاق) : " هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ".
ورواه أيضا الحاكم في " المستدرك " (ج 4: ص 115) شاهدا، وفي إسناد الجميع سيف بن هارون البرجمي، وقد ضعفه جماعة؛ منهم ابن حبان، ووثقه أبو نعيم، وصحح الطبري حديثه في " التهذيب "، وقال البخاري: " مقارب الحديث ". (ش)(3/23)
وفي " الصحيحين " من حديث سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما؛ من سأل عن شيء لم يحرم على الناس؛ فحرم من أجل مسألته ".
وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
وأخرجه البزار وقال: سنده صالح، والحاكم (1) - وصححه - من حديث أبي الدرداء، ورفعه بلفظ: " ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا "، وتلا: {وما كان ربك نسيا} .
وأخرج الدارقطني (2) من حديث أبي ثعلبة رفعه:
" إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت
__________
(1) • في " المستدرك " (2 / 375) ، وعنه البيهقي (10 / 12) ، ووافقه الذهبي على تصحيحه؛ وهو كذلك. (ن)
انظر - أيضا - " غاية المرام " (2) .
(2) • لم أجده الآن في " سننه " من حديث أبي ثعلبة؛ وإنما أخرجه (ص 550) من حديث أبي الدرداء، وفيه متهم.
وإنما أخرجه عن أبي ثعلبة الحاكم (4 / 115) ، والبيهقي عنه (10 / 12 - 13) ؛ من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة؛ وهو منقطع. (ن)(3/24)
عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ".
وفي الكتاب والسنة مما يتقرر به هذا الأصل الكثير الطيب، فيتوجه الاقتصار في رفع الحل على ما ورد فيه دليل يخصه، ومن التخصيص قوله - تعالى - في آخر تلك الآية: {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} ، وكذلك قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} إلى آخر الآية.
( [المحرمات من الأطعمة في كتاب الله] :)
(فيحرم ما في الكتاب العزيز) :
(1 -[الميتة] :)
وهو قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} ؛ أي: ما مات حتف أنفه.
(2 -[الدم المسفوح] :)
{والدم} ، وهو المسفوح؛ صرح بذلك في الآية؛ والمفسر قاض على المبهم، وهذا مما ينقض به قول القائل: المبهم على إبهامه، والمفسر على تفسيره؛ فإنهم اتفقوا في هذه الآية على التقييد.
(3 -[لحم خنزير] :)
{ولحم الخنزير} ، وكل شيء من الخنزير حرام، وتخصيص اللحم بالذكر؛ لأنه يقصد في العادة، والخنزير حيوان مسخ بصورته قوم.
ولم يزل نوح ومن بعده من الأنبياء يحرمون الخنزير، ويأمرون بالتبعد(3/25)
عنه؛ إلى تنزل عيسى - عليه السلام - فيقتله، ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه، وهجر أمره أشد ما يكون.
(4 -[كل حيوان لم يذكر اسم الله عند ذبحه] :)
{وما أهل لغير الله به} ؛ أي: ذكر اسم غير الله عند ذبحه.
(5 -[المنخنقة] :)
{والمنخنقة} : هي التي تختنق فتموت.
(6 -[الموقوذة] :)
{والموقوذة} : هي المقتولة بالعصا.
(7 -[المتردية] :)
{والمتردية} : هي التي تتردى من مكان عال فتموت.
(8 -[النطيحة] :)
{والنطيحة} : هي التي تنطحها أخرى فتموت.
(9 -[ما أكل السبع] :)
{وما أكل السبع} : يريد: ما بقي مما أكل السبع؛ لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلقه، أو لبته، فجرّ ذلك إلى تحريم الأشياء.(3/26)
{إلا ما ذكيتم} ؛ أي: ما أدركتم من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرة فذبحتموه.
أما ما صار إلى حالة المذبوح؛ فهو في حكم الميتة.
(10 -[ما ذبح على النصب] :)
{وما ذبح على النصب} : قيل: مفرد كعنق، وقيل: جمع نصاب، وهو الشيء المنصوب من حجر ونحوه؛ أمارة للطاغوت.
والجمع بينه وبين ما أهل لغير الله به يدل على الفرق بينهما.
وذلك لأن المذبوح عند النصب قصد به تعظيم الطاغوت دلالة؛ وإن لم يتلفظ باسمه؛ فهو بمنزلة ما أهل لغير الله به.
{وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق} ، إلى قوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} .
قلت: قد اتفق المسلمون على ذلك في الجملة؛ وإن كان لهم في التفاصيل اختلاف.
(11 -[كل ذي ناب من السباع] :)
(وكل ذي ناب من السباع) ؛ لخروج طبيعتها من الاعتدال، وبشكاسة أخلاقها، وقسوة قلوبها؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني عند مسلم، ومالك، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام "، وفي(3/27)
الباب أحاديث في " الصحيحين "، وغيرهما.
والمراد بالناب: السن الذي خلف الرباعية؛ جمعه: أنياب، وكل ذي ناب يتقوى به ويصاد، وقال في " النهاية ": " هو ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا؛ كالأسد والذئب والنمر ونحوها ".
قال في " القاموس ": " السبع - بضم الباء -: المفترس من الحيوان ". انتهى.
وأراد بذي ناب: ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم؛ مثل: الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر، وعلى هذا أهل العلم.
إلا أن الشافعي ذهب إلى إباحة الضبع والثعلب.
وقال أبو حنيفة: هما حرامان كسائر السباع.
أقول: قد قيل: إنه لا ناب للضبع، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس؛ كذا قال ابن رسلان في " شرح السنن ".
وعلى تسليم أن لها نابا؛ فيخصصها (1) من حديث كل ذي ناب؛ حديث جابر؛ فإنه قيل له: الضبع صيد؟ قال: نعم، فقال له السائل: آكلها؟ قال: نعم، فقال له: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ أخرجه أبو داود (2) ، وابن
__________
(1) • لا داعي للتخصيص؛ فقد نفى ابن القيم أن تعد الضبع من السباع؛ لغة أو عرفا؛ انظر " إعلام الموقعين "، و " تحفة الأحوذي ". (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 144) ، والبيهقي (9 / 318) ، والطحاوي أيضا (1 / 384) ، وأحمد (3 / 297، 318، 322) ؛ من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، عن جابر؛ وإسناده صحيح على شرط مسلم.(3/28)
ماجه، والنسائي، والترمذي - وصححه -.
وصححه أيضا البخاري، وابن حبان، وابن خزيمة، والبيهقي.
ولا يعارض هذا الحديث الصحيح ما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة ابن جزء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع؟ فقال: " أو يأكل الضبع أحد؟ {". وفي رواية: " ومن يأكل الضبع؟} "؛ لأن في إسناده عبد الكريم أبا أمية، وهو متفق على ضعفه، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف (1) .
(12 -[كل ذي مخلب من الطير] :)
(وكل ذي مخلب من الطير) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم، وغيره، قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير ".
__________
= وله طريق أخرى عند الطحاوي، والبيهقي عن جابر؛ وفيه التصريح برفع أكلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنده حسن، وصححه الحاكم (1 / 453) من هذا الوجه، ووافقه الذهبي.
وتعصب التركماني؛ فضعف الحديث من الطريقين! (ن)
(1) الحديث في " الترمذي " (ج 1: ص 331) ، وفي " طبقات ابن سعد " (ج 7: قسم 1: ص 33) .
وعبد الكريم: هو ابن أبي المخارق، وكنيته أبو أمية، ووقع في الأصل: " عبد الكريم بن أمية "؛ وهو خطأ.
والحديث ضعيف؛ قال الترمذي: " ليس إسناده بالقوي، لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم، عن عبد الكريم أبي أمية ".
ولم يخرجه أحمد في " المسند " على سعته وعظمه. (ش)(3/29)
والمخلب: بكسر الميم، وفتح اللام؛ قال أهل اللغة: المراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان، ويباح منه الحمام والعصفور؛ لأنهما من المستطاب.
(13 -[الحمر الإنسية] :)
(و) من ذلك (الحمر الإنسية) ، وكان كثير من أهل الطباع السليمة من العرب يحرمونه، ويشبه الشياطين، وهو يرى الشيطان فينهق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" إذا سمعتم نهيق الحمار؛ فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى شيطانا " (1) ، ويضرب به المثل في الحمق والهوان.
وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة، وأطيبهم نفسا؛ كما في حديث البراء بن عازب في " الصحيحين "، وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية.
وفيهما من حديث ابن عمر، وأبي ثعلبة الخشني نحوه.
وفي الباب غير ذلك، وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
قلت: وأما الحمار الوحشي فاتفقوا على إباحته؛ كذا في " المسوى "، وأهدي له صلى الله عليه وسلم الحمار الوحشي فأكله (2) ؛ كذا في " الحجة البالغة ".
__________
(1) • حديث صحيح أخرج الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة مرفوعا. (ن)
(2) • صحيح؛ أخرجه البخاري (4 / 19 - 21، 21، 21 - 22، 23 - 24، 5 / 152 - 153) ؛ من حديث أبي قتادة الأنصاري، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان محرما في خروجه إلى الحديبية. (ن)(3/30)
(14 -[الجلالة] :)
(و) من ذلك (الجلالة (1) قبل الاستحالة) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد، وأبي داود (2) ، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها.
وأخرج أحمد (3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي، وابن دقيق العيد، من حديث ابن عباس: النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها.
وأخرج أحمد (4) ، والنسائي، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحو ذلك.
وفي الباب غير ذلك.
__________
(1) • هي الدابة التي تأكل الجلة؛ وهي البعر من الإبل وغير الإبل.
وقيد ذلك ابن حزم (7 / 410) بذوات الأربع خاصة، قال: " ولا يسمى الدجاج ولا الطير جلالة "، قال الحافظ: " والمعروف التعميم ".
قلت: وظاهر الحديث يشهد لابن حزم؛ لقرينة ذكر اللبن فيه؛ فتأمل!
قال ابن حزم: (7 / 429) : " وقد صح عن أبي موسى تحليل الدجاج، وإن كان يأكل القذر ".
وقال البغوي في " شرح السنة " (3 / 183 / 2) : " ثم الحكم في الدابة التي تأكل العذرة؛ أن ينظر فيها؛ فإن كانت تأكلها أحيانا؛ فليست بجلالة، ولا يحرم بذلك أكلها؛ كالدجاج ونحوها ... ". (ن)
(2) • أبو داود (2 / 142) ، وابن ماجه (2 / 286) ؛ والترمذي (3 / 89) ؛ وفيه ابن إسحاق، وقد عنعنه، لكن يشهد له ما بعده. (ن)
(3) • في " المسند " (رقم 1989، 2161، 2671، 2952، 3142، 3143) ، وأبو داود فيما سبق، وكذا الترمذي، والنسائي (2 / 210) ، والبيهقي (9 / 333) ؛ وإسناده على شرط البخاري، وهو أصح أحاديث الباب، كما قال الحافظ في " الفتح " (9 / 533) . (ن)
(4) • في " المسند " (2 / 219) ، وأبو داود أيضا (2 / 145) ؛ وسنده حسن، كما قال الحافظ. (ن)(3/31)
وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، والثوري، والشافعية.
وذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة فقط.
وظاهر النهي التحريم (1) .
والعلة تغير لحمها ولبنها، فإذا زالت العلة - بمنعها عن ذلك حتى يزول الأثر (2) -؛ فلا وجه للتحريم؛ لأنها حلال بيقين؛ إنما حرمت لمانع؛ وقد زال.
قال في " الحجة البالغة ":
" الجيفة وما تأثر منها خبيث في جميع الأمم والملل، فإذا تميز الخبيث من غيره ألقي الخبيث وأكل الطيب، وإن لم يكن التميز حرم أكله؛ ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها؛ لأنها لما شربت أعضاؤها النجاسة وانتشرت في أجزائها؛ كان حكمها حكم النجاسات، أو حكم من يتعيش بالنجاسة ".
أقول: الاستحالة مطهرة، والأولى أن يقال في طهارة ما استحال: إن العين التي حكم الشارع بنجاستها لم تبق اسما، ولا صفة، فإن حكمه بنجاسة العذرة مقيد بكونها عذرة، فإذا صارت رمادا فليست بعذرة.
__________
(1) • وبه جزم ابن دقيق العيد، كما في " الفتح ". (ن)
(2) • وهذا هو الصحيح؛ جواز أكل الجلالة إذا زالت رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر، كما في " الفتح "؛ فليس في ذلك أيام محدودة، وإن صح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا. (ن)(3/32)
فمن ادعى بقاء النجاسة مع ذهاب الاسم والصفة؛ فعليه الدليل.
(15 -[الكلب] :)
(و) من ذلك (الكلاب) ، ولا خلاف في ذلك يعتد به.
وهو مستخبث، وقد وقع الأمر بقتله عموما وخصوصا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل ثمنه - كما تقدم - وسيأتي -.
وتقدم أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
وقد جعله بعضهم داخلا في ذوات الناب من السباع.
قال في " الحجة البالغة ":
" ويحرم الكلب والسنور؛ لأنهما من السباع، ويأكلان الجيف، والكلب شيطان ".
(16 -[الهر] :)
(و) من ذلك (الهر) ؛ لحديث جابر عند أبي داود، وابن ماجه، والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها.
وفي إسناده عمر بن زيد (1) الصنعاني، وهو ضعيف.
لكن يشد من عضده ما ثبت من النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور، وهو في " الصحيح "، وقد تقدم.
ولا فرق بين الوحشي والأهلي، وللشافعية وجه في حل الوحشي.
__________
(1) في الأصل: " يزيد "، وهو خطأ. (ش)(3/33)
(17 -[كل ما كان مستخبثا] :)
(و) من ذلك (ما كان مستخبثا) لقوله - تعالى -: {ويحرم عليهم الخبائث (1) } .
فما استخبثه الناس من الحيوانات - لا لعلة ولا لعدم اعتياد؛ بل لمجرد الاستخباث - فهو حرام.
وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالأكثر؛ كحشرات الأرض، وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها، ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة، فتندرج تحت قوله: {ويحرم عليهم الخبائث} .
وقد أخرج أبو داود، عن ملقام بن تلب [، عن أبيه] (2) ، قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما.
وقد قال البيهقي: إن إسناده غير قوي، وقال النسائي: ينبغي أن يكون
__________
(1) • الظاهر أن المراد بالخبائث ما حرمه الشارع؛ وهذا معنى ما نقله ابن كثير عن بعض العلماء، فكل ما أحل الله من المأكل؛ فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه؛ فهو خبيث ضار في البدن والدين.
وإلا؛ فالرجوع إلى استخباث الناس مشكل؛ فإنه ما يدرينا أنهم لم يختلفوا؟ ثم إذا اختلفوا؛ فما يدرينا بالأكثرية؟ ثم هي إذا ثبتت؛ فقد تكون نسبية؛ أعني: بالنسبة لبعض البلاد دون بعض، ثم إذا سلمنا كونها غير نسبية؛ فأين الدليل الشرعي على أنها دليل شرعي؟ ! (ن)
(2) • زيادة لا بد منها. (ن)(3/34)
ملقام بن تلب ليس بالمشهور (1) .
وهذا الحديث ليس فيه ما يخالف الآية، وغايته عدم سماعه لشيء من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يدل على العدم.
وقد أخرج ابن عدي، والبيهقي، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الرخمة (2) ؛ وفي إسناده خارجة بن مصعب، وهو ضعيف جدا، فلا ينتهض للاحتجاج به.
وأخرج أحمد، وأبو داود، من حديث عيسى بن نميلة الفزاري، عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ؟ فتلا هذه الآية: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خبيثة من الخبائث "، فقال ابن عمر: إن كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال.
وعيسى بن نميلة ضعيف (3) ، فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من
__________
(1) وقال ابن حزم: " مجهول "، وقال ابن حجر في " الإصابة ": " ذكره البخاري وغيره في التابعين ".
وأبوه صحابي لم يرو عنه غيره.
وحديثه رواه أيضا ابن سعد (ج 7: قسم 1: ص 28) ، وذكره ابن الأثير في " أسد الغابة " (ج 1 ص 212) ، وفيهما أنه رواه عن أبيه.
وملقام؛ بكسر الميم، ويقال: بالهاء. (ش)
(2) هي طائر أبقع على شكل النسر خلقة؛ إلا أنه مبقع بسواد وبياض؛ قاله في " اللسان ". (ش)
(3) لم أجد أحدا ضعف عيسى بن نميلة؛ بل وثقه ابن حبان.
وأبوه؛ قال الذهبي: " لا يعرف ". (ش)(3/35)
أدلة الحل العامة.
وقد قيل: إن من أسباب التحريم الأمر بقتل الشيء كالخمس؛ الفواسق والوزغ (1) ونحو ذلك، والنهي عن قتله؛ كالنملة والنحلة والهدهد والصرد (2) والضفدع ونحو ذلك، ولم يأت عن الشارع ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله، أو نهي عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك، ولا ملازمة عقلية ولا عرفية، فلا وجه لجعل ذلك أصلا من أصول التحريم.
بل إن كان المأمور بقتله أو المنهي عن قتله مما يدخل في الخبائث؛ كان تحريمه بالآية الكريمة، وإن لم يكن من ذلك؛ كان حلالا عملا بما أسلفنا من أصالة الحل، وقيام الأدلة الكلية على ذلك، ولهذا قلنا:
( [الكلام فيما عدا السابق] :)
(وما عدا ذلك فهو حلال) ، قال الشافعي: ما لم يرد فيه نص تحريم، ولا تحليل، ولا أمر بقتله، ولا نهي عن قتله؛ فالمرجع فيه إلى العرب من سكان البلاد والقرى دون أجلاف البوادي، فإن استطابته العرب، أو سمته باسم حيوان حلال؛ فهو حلال، وإن استخبثته، أو سمته باسم حيوان حرام؛ فهو حرام.
فأما ما أمر الشرع بقتله، أو نهى عن قتله؛ فلا يكون حلالا، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خمس يقتلن في الحل والحرم ... " الحديث، وأمر بقتل الوزغ، ونهى عن قتل أربعة من الدواب:
__________
(1) • هو سام أبرص. (ن)
(2) • هو طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم، نصفه أبيض، ونصفه أسود. (ن)(3/36)
النملة، والنحلة، والصرد، والهدهد.
وبالجملة: فتحل الطيبات، وتحرم الخبائث لقوله - تعالى -: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ، والطيبات: ما تستطيبه العرب، وتستلذه من غير أن [يكون قد] ورد بتحريمه نص من كتاب أو سنة.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" إن القول بكراهية أكل الأرنب لا مستند له؛ بخلاف الضب؛ فإنه قد ورد النهي عن أكله؛ كما أخرجه أبو داود (1) .
__________
(1) • أخرجه في " سننه " (2 / 143) ؛ من طريق إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي راشد الحبراني، عن عبد الرحمن بن شبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب.
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (9 / 326) ؛ وضعفه بقوله: " تفرد به إسماعيل؛ وليس بحجة، وما مضى في إباحته أصح منه ".
وقال الخطابي في " المعالم " (5 / 310) : " ليس إسناده بذاك "؛ وأقره المنذري في " مختصر السنن "، ثم الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 195) .
وأما ابن التركماني؛ فرد ذلك بأن ضمضم حمصي، " وابن عياش إذا روى عن الشاميين؛ كان حديثه صحيحا ... ".
وهذا تعقب صحيح! لكن الذي حمل هؤلاء الأئمة على تضعيف حديث ابن عياش هذا؛ كونه مخالفا لما في " الصحيحين " وغيرهما؛ سيما وأن شيخه ضمضم قد ضعفه أبو حاتم، وإن وثقه ابن معين وغيره، والله أعلم.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر صرح في " الفتح " (9 / 547) بأن إسناد الحديث حسن، ثم رد على البيهقي والخطابي تضعيفهما، ثم حمله على أن النهي فيه كان أول الأمر عند تجويز أن يكون الضب مما مسخ، كما في حديث مسلم، ثم لما علم أن الممسوخ لا نسل له - كما في قوله: " إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا؛ وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك؛ رواه مسلم (8 / 55) -؛ أذن فيه، وكان هو صلى الله عليه وسلم يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه. (ن)(3/37)
وثبت في " صحيح مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب، ولا أدري لعل هذا منها ".
والنهي حقيقة في التحريم، لولا ما ثبت في " الصحيحين " من حديث جماعة من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بأكل الضب، فقال لهم: " كلوه فإنه حلال، ولكن ليس من طعامي "؛ فإن هذا الحديث يصرف النهي عن حقيقته إلى مجازه - وهو الكراهة -.
وحديث تردده صلى الله عليه وسلم في كونه ممسوخا مؤيد لذلك.
وأما أكل التراب؛ فلم يصح في المنع منه شيء؛ لكنه من أسباب العلل الصعبة، التي يتأثر عنها انحلال البنية، وقد نهى الله - سبحانه - عن قتل الأنفس.(3/38)
(2 - باب الصيد)
وكان الاصطياد ديدناً للعرب، وسيرة فاشية فيهم؛ حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم، فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم.
( [ما يجوز الاصطياد به] :)
(ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح (1) كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه) ؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني في " الصحيحين "، قال: قلت يا رسول الله {إنا بأرض صيد أصيد بقوسي، وبكلبي المعلم، وبكلبي الذي ليس بمعلم؛ فما يصلح لي؟ فقال: " ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ".
( [يشترط للصيد بالمعراض أن يخزق] :)
وفي " الصحيحين "، من حديث عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله} إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله؟ قال: " إذا
__________
(1) • هي الحيوانات التي يصطاد بهن؛ الكلاب الضواري، والفهود، والصقور، وأشباهها، وسميت جوارح؛ من الجرح، وهو الكسب، كما تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا؛ أي: كسبهم خيرا؛ كذا في " تفسير ابن كثير " (2 / 15 - 16) . (ن)(3/39)
أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله؛ فكل ما أمسك عليك "، قلت: وإن قتلن؟ ! قال: " وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها "، قال: قلت: فإني أرمي بالمعراض (1) الصيد فأصيد، قال: " إذا رميت بالمعراض فخزق (2) فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ".
وفي رواية: " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاة ".
وفي لفظ من حديثه عند أحمد، وأبي داود: قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا؛ فإنما أمسكه عليك ".
وفي " الصحيحين " من حديثه: " فكل مما أمسكن عليك؛ إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ".
وفي حديث ابن عباس عند أحمد (3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل؛ فإنما أمسكه على نفسه، فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل؛ إنما أمسكه على صاحبه ".
__________
(1) بوزن مفتاح: هو سهم لا ريش له. (ش)
(2) قال النووي في " شرح مسلم ": " وأما خزق؛ فهو بالخاء المعجمة والزاي، ومعناه: نفذ ". (ش)
(3) • في " المسند " (رقم 2049) ؛ وإسناده حسن - إن شاء الله -. (ن)(3/40)
وقد أخرج أحمد (1) ، وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله {إن لي كلابا مكلبة؛ فأفتني في صيدها؟ قال: " إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك "، فقال: يا رسول الله} ذكي وغير ذكي؟ ، قال: " ذكي وغير ذكي " قال: وإن أكل منه؟ ، قال: " وإن أكل منه " قال: يا رسول الله! أفتني في قوس، قال: " كل ما أمسك عليك قوسك "، قال: ذكي وغير ذكي؟ ، قال: " ذكي وغير ذكي " قال: فإن تغيب عني؟ قال: " وإن تغيب عنك ما لم يصل (2) - يعني: يتغير - أو تجد فيه أثر غير سهمك ".
وقد قال ابن حجر: إنه لا بأس بإسناده.
__________
(1) • في " المسند " (رقم 6725) ، وأبو داود (2 / 11) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر؛ وهذا سند حسن، وقال ابن كثير (2 / 17) : " جيد "، والحافظ في " الفتح " (/ 494 9) : " لا بأس بسنده "، وله شاهد من حديث أبي ثعلبة نفسه؛ أخرجه أبو داود (2 / 10) ، ومن طريقه البيهقي (9 / 237) ؛ عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عنه؛ قال الحافظ ابن كثير: " إسناد جيد ".
وأعله البيهقي بأنه مخالف لما في " الصحيحين " من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة، وليس فيه ذكر الأكل - يعني: وإن أكل الكلب؛ وهذا إعلال صحيح؛ لأن داود بن عمرو؛ في حفظه ضعف، فلا يحتج بما تفرد به وخالف.
لكن حديث عمرو بن شعيب ثابت كما سبق، وهو معارض لحديث عدي وابن عباس.
وقد جُمع بين الحديثين بحمل المنع على ما إذا أكل في حال صيده؛ لأنه أمسك لنفسه، والإباحة على ما إذا أكل منه بعد أن أمسكه لصاحبه.
وقد استحسن هذا الجمع ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 140) ، وابن كثير في " التفسير ". (ن)
(2) صل اللحم يصل - بفتح الياء وكسر الصاد؛ وأصل أيضا -: أنتن؛ مطبوخا كان أو نيئا (ش) .(3/41)
وفيه نظر؛ لأن في إسناده (1) داود بن عمرو الأودي الدمشقي، وفيه مقال وخلاف.
وقد أخرج نحو هذا الحديث أبو داود، من حديث أبي ثعلبة نفسه، ولا ينتهض هذا لمعارضة ما في " الصحيحين " من النهي عن أكل ما أكل منه الكلب.
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، من حديث عدي بن حاتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه؛ فكل ما أمسك عليك ".
وقد أكل صلى الله عليه وسلم من حمار الوحش الذي صاده أبو قتادة طعنا برمحه، وهو في " الصحيح "، وقد تقدم في الحج.
وقد ذكر الله في كتابه العزيز تحليل ما صيد بالجوارح، فقال: {وما علمتم من الجوارح} الآية، وأباح الأكل، فقال: {فكلوا مما أمسكن عليكم} .
__________
(1) • هذا وهم من المؤلف - رحمه الله -؛ فإن ابن حجر إنما قال هذا في حديث عبد الله بن عمرو، وليس في سنده داود بن عمرو الذي فيه المقال المذكور، وإنما هو في حديث أبي ثعلبة نفسه الذي أشار إليه الشارح - وسبق عليه الكلام آنفا -.
ولا داعي لادعاء التعارض بين الحديثين؛ ما أمكن التوفيق بينهما بما سبق. (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 257) ، وأبو داود (2 / 10) ، وعنه البيهقي (9 / 238) ؛ عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي.
وهذا سند ضعيف من أجل مجالد، وقد تفرد بذكر: " الباز " دون كل من روى الحديث عن الشعبي من الحفاظ، كما قال البيهقي؛ فهي زيادة منكرة. (ن)(3/42)
وقد دل ما ذكرناه من هذه الأدلة على ما اشتمل عليه المتن؛ من أن ما صيد بالجارح والجوارح كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه.
( [الصيد بغير ما يشرع يحتاج إلى التذكية] :)
(وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية) ، وقد نزّل صلى الله عليه وسلم المعراض إذا أصاب فخزق منزلة الجارح، واعتبر مجرد الخزق؛ كما في حديث عدي بن حاتم المذكور.
وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال: قلت: يا رسول الله! إنا قوم نرمي؛ فما يحل لنا؟ قال: " يحل لكم ما ذكيتم، وما ذكرتم اسم الله عليه فخزقتم فكلوا " (1) ، فدل على أن المعتبر مجرد الخزق.
وإن كان القتل بمثقل؛ فيحل ما صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يُرمى بها بالبارود، والرصاص؛ لأن الرصاص تخزق خزقا زائدا على خزق السلاح، فلها حكمه - وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك -.
( [الصيد بالبنادق اليوم حلال] :)
وعبارة الماتن في " حاشية الشفاء ":
" أقول: ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف، ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة.
__________
(1) لم أجده في " المسند " بهذا اللفظ، وذكر السيوطي في " الدر المنثور " نحوه من رواية ابن أبي حاتم.(3/43)
ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشا - أو نحوه - فوق رماد دقيق، أو تراب دقيق، وغرزت فيه شيئا يسيرا من أصلها، ثم ضربتها بالسيف المحدد - ونحو ذلك من الآلات - لم يقطعها وهي على هذه الحالة.
ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها، فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم؛ لا من عقل، ولا من نقل.
وما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة؛ كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد (1) بلفظ: " ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت "؛ فالمراد بالبندقة هنا: هي التي تتخذ من طين، فيرمي بها بعد أن تيبس.
وفي " صحيح البخاري ": قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة.
وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن.
وهكذا ما صيد بحصى الخذف، فقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف (2) وقال: " إنها لا تصيد صيدا، ولا تنكأ (3) عدوا؛ لكنها تكسر السن وتفقأ العين ".
__________
(1) • في " المسند " (4 / 380) ؛ ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ لكنه منقطع بين إبراهيم النخعي وعدي؛ بينهما همام بن الحارث:
أخرجه البخاري، (9 / 496) ، ومسلم (6 / 56) ، وأحمد أيضا، لكن بلفظ آخر. (ن)
(2) الخذف: رميك بحصاة أو نواة؛ تأخذها بين سبابتيك؛ أو تجعل مخذفة من خشب ترمي بها بين الإبهام والسبابة؛ قاله في " اللسان ". (ش)
(3) الرواية " تنكأ " بالهمز، وروي: " تنكي " - بكسر الكاف بدون همزة -.
قال الشوكاني: " قال ابن سيده: نكى العدو نكاية: أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم؛ فظهر أن الرواية صحيحة، ولا معنى لتخطئتها ". (ش)(3/44)
( [الصيد بالرمي بالحجارة لا يحل] :)
ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحددة إذا لم تخزق؛ فإنه وقيذ لا يحل.
وأما إذا خزقت حل؛ قال في " المسوى ": " يحل ما اصطاد بكلبه إذا ذكر اسم الله عليه، عند إرساله وكان الكلب معلما، قال تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} ".
( [متى يكون الحيوان الصائد معلما؟] :)
والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء: إذا أُشليت استشلت (1) ، وإذا زُجرت انزجرت، فإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل.
فإذا وجد ذلك منها مرارا - وأقله ثلاث مرات - كانت معلمة يحل صيدها.
(1 -[إذا أرسله صاحبه استرسل] :)
وعلى هذا كله أهل العلم في الجملة.
وأكثر أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسر من سباع البهائم كالفهد والكلب، ومن سباع الطير كالبازي والصقر؛ مما يقبل التعليم، فيحل صيد جميعها.
__________
(1) أشلى الكلب: إذا دعاه باسمه، وأشلاه على الصيد: دعاه فأرسله عليه؛ لكن حذف " فأرسله " تخفيفا. (ش)(3/45)
(2 -[إذا زجره صاحبه انزجر] :)
والمكلب: هو الذي يغري الكلاب على الصيد ويعلمها.
{فكلوا مما أمسكن} : أراد أن الجارحة المعلمة إذا جرحت بإرسال صاحبها، فأخذت الصيد وقتلته؛ كان حلالا.
(3 -[أن لا يأكل من الصيد] :)
قلت: وهذا هو مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، ثم تعقبه الشافعي بحديث عدي بن حاتم المذكور، وهو مذهب أبي حنيفة، وسمع مالك أهل العلم يقولون في البازي والعقاب والصقر وما أشبه ذلك: إنه إذا كان معلما يفقه كما تفقه الكلاب المعلمة؛ فلا بأس بأكل ما قتلوه مما صادت؛ إذا ذكر اسم الله على إرسالها.
قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا: أن المسلم إذا أرسل كلب المجوسي الضاري، فصاد أو قتل؛ أنه إذا كان معلما؛ فأكْل ذلك الصيد حلال لا بأس به (1) ؛ وإن لم يذكه المسلم، وإنما مثل ذلك مثل المسلم يذبح بشفرة المجوسي، أو يرمي بقوسه، أو بنبله فيقتل بها، فصيده ذلك وذبيحته حلال لا بأس بأكله.
قال مالك: " إذا أرسل المجوسي كلب المسلم الضاري على صيد فأخذه؛ فإنه لا يؤكل ذلك الصيد إلا أن يذكى، وإنما مثل ذلك قوس المسلم ونبله
__________
(1) • وأما حديث جابر: نهينا عن صيد كلب المجوس وطائره؛ فقد ضعفه الترمذي (2 / 341) ، والبيهقي (9 / 245) . (ن)(3/46)
يأخذها المجوسي، فيرمي بها الصيد فيقتله، وبمنزلة شفرة المسلم يذبح به المجوسي؛ فلا يحل أكل شيء من ذلك ". انتهى.
( [لا يحل الصيد إذا اشترك فيه كلبان معلم وغير معلم] :)
(وإذا شارك الكلب المعلم كلب آخر لم يحل صيدهما) ؛ لما تقدم في حديث عدي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لم يشركها كلب ليس معها ".
وفي لفظ له في " الصحيحين " قال: قلت: يا رسول الله! إني أرسل كلبي وأسمي؟ قال: " إن أرسلت كلبك وسميت، فأخذ فقتل فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه "؛ قلت: إني أرسل كلبي أجد معه كلبا؛ لا أدري أيهما أخذه؟ قال: " فلا تأكل؛ فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره "، وفي لفظ له: " فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره، وقد قتل فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله ".
( [لا يحل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه] :)
(وإذا أكل الكلب المعلم - ونحوه - من الصيد؛ لم يحل؛ فإنما أمسك على نفسه) ؛ لما تقدم من الأدلة على ذلك، وتقدم أيضا ترجيحها على حديث عبد الله بن عمرو (1) .
( [حكم الصيد إذا وجد بعد أيام] :)
(وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه ميتا - ولو بعد أيام في غير ماء - كان حلالا ما لم ينتن؛ أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه) ؛ لحديث أبي ثعلبة
__________
(1) • قلت: الأولى الجمع بين الحديثين بما سبق (ص) ؛ فراجعه. (ن)(3/47)
الخشني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته؛ فكله ما لم ينتن "، أخرجه مسلم وغيره.
وفي " الصحيحين "، من حديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيد؟ قال: " إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل فكل؛ إلا أن تجده قد وقع في ماء؛ فإنك لا تدري؛ الماء قتله أو سهمك ".
وفي لفظ من حديثه لأحمد، والبخاري؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رميت الصيد؛ فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل ".
وفي لفظ لمسلم نحوه.
وفي لفظ للبخاري من حديثه: إنا نرمي الصيد، فنقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم نجده ميتا وفيه سهمه؟ قال: " يأكل إن شاء ".
وفي لفظ للترمذي (1) - وصححه - قال: قلت: يا رسول الله! أرمي الصيد، فأجد فيه سهمي من الغد؟ قال: " إذا علمت أن سهمك قتله؛ ولم تر فيه أثر سبع؛ فكل ".
قلت: وعلى هذا أهل العلم في الجملة.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 342) ، وكذا أحمد (4 / 377) ؛ وسندهما صحيح على شرطهما، ورواه النسائي أيضا (2 / 197) . (ن)(3/48)
(3 - باب الذبح)
( [تعريف الذبح] :)
(هو ما أنهر الدم) ؛ أي: أساله، (وفرى) ؛ أي: قطع (الأوداج) ، وهما عرقان بينهما الحلقوم.
( [الأداة التي يصح بها الذبح] :)
(وذُكر اسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه) ؛ كخشب وغيره؛ (ما لم يكن سنا أو ظفرا) ؛ لحديث رافع بن خديج في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قلت: يا رسول الله! إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه؛ فكلوا؛ ما لم يكن سنا أو ظفرا، سأحدثكم عن ذلك؛ أما السن فعظم؛ وأما الظفر فمدى الحبشة ".
وأخرج أبو داود (1) من حديث ابن عباس، وأبي هريرة قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان؛ وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأدواج، وفي إسناده عمرو بن عبد الله الصنعاني، وهو ضعيف.
وأخرج أحمد، والبخاري من حديث كعب بن مالك: أنها كانت لهم
__________
(1) • في " السنن " (2 / 7) ، وكذا الحاكم (4 / 113) من طريق عمرو بن عبد الله، عن عكرمة عنهما، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)(3/49)
غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا، فكسرت حجرا فذبحتها، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك، وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - أو أرسل إليه -؟ فأمره بأكلها.
وفيه دليل على أن ذبح النساء والرقيق جائز، وعليه أهل العلم.
وأخرج أحمد (1) ، والنسائي، وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت: أن ذئبا نيّب في شاة، فذبحوها بمروة، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان من حديث عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله {إنا نصيد الصيد، فلا نجد سكينا إلا الظرار (2) وشقة العصا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أمرّ (3) الدم بما شئت، واذكر اسم الله عليه " (4) ؛ والظرار: الحجر أو المدر.
__________
(1) • في " المسند " (5 / 183 - 184) ، والنسائي (2 / 207) ، وابن ماجه (2 / 283 - 284) ؛ من طريق حاضر بن مهاجر، عن سليمان بن يسار، عنه.
وحاضر - هذا - مجهول، كما جزم به الذهبي، ومع ذلك فقد أقر الحاكم على تصحيح هذا الحديث في " التلخيص " (4 / 114) } (ن)
(2) هو بالظاء المشالة؛ قال في " القاموس " في فصل الظاء: " الظر، - بالكسر -، والظرر، والظررة: الحجر، أو المدر المحدد منه ". ا. هـ المراد منه.
وضبط - بالقلم - الظرر والظررة: بضم ففتح. (ش)
(3) • في إسناده عندهم مري بن قطري لا يعرف؛ كما قال الذهبي. (ن)
(4) • يجوز فيه " امر "؛ من مرى الضرع، ويروى " أمر "؛ من مار يمور، إذا جرى وأماره غيره.
وقد جاء في " سنن أبي داود " و " النسائي ": " أمرر " براءين مظهرتين، ومعناه: اجعل الدم يمر؛ أي: يذهب، قال في " النهاية ": " فعلى هذا؛ من رواه مشددا يكون قد أدغم؛ وليس بغلط ". (ن)(3/50)
وأخرج البخاري، وغيره من حديث عائشة: أن قوما قالوا: يا رسول الله {إن قوما يأتوننا باللحم؛ لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: " سموا عليه أنتم وكلوا "، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر.
وهذا لا ينافي وجوب التسمية على الذابح؛ بل فيه الترخيص لغير الذابح إذا شك في اللحم؛ هل ذكر عليه اسم الله عند الذبح أم لا؟ فإنه يجوز له أن يسمي ويأكل.
( [لا دليل على استحباب استقبال القبلة عند الذبح] :)
وأما استقبال القبلة؛ فليس في السنة ما يدل على هذا.
فإن كان الدال على استقبال القبلة هو قوله في الحديث: " فلما وجههما "؛ فليس فيه أنه وجههما إلى القبلة؛ بل المراد وجههما للذبح.
وقد تقرر أن حذف المتعلق مشعر بالعموم.
وإن كان الاستدلال بقوله: " وجهت وجهي "؛ فكذلك أيضا ليس فيه دلالة على ذلك.
ولا أعلم دليل يدل على مشروعية (1) الاستقبال حال الذبح.
__________
(1) التعبير بالمشروعية غير دقيق؛ فإنه لا خلاف في مشروعية، ولم يقل أحد: إنه مكروه أو حرام؛ وإنما الخلاف في استحبابه فقط. (ش)
• قلت: لا غبار على تعبير الشارح؛ فإنه أراد بالمشروعية الندب والاستحباب كما يدل عليه السياق، وإذ لا دليل على الاستحباب؛ فهو مكروه غير مشروع؛ لأنه داخل في عموم الأدلة الناهية عن الابتعاد في الدين؛ وهذا منه، فتأمل} (ن)(3/51)
قال الماتن في " السيل الجرار ":
" ليس على هذا دليل لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قياس.
وما قيل من أن القول بندب الاستقبال في الذبح قياس على الأضحية! فليس بصحيح؛ لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه، بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع، والندب حكم من أحكام الشرع، فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة ". انتهى.
( [تعذيب الذبيحة حرام] :)
(ويحرم تعذيب الذبيحة) ؛ لحديث شداد بن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته "؛ أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه.
وأخرج أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: " إذا ذبح أحدكم فليجهز "؛ أي: يتمها.
وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف (1) .
قلت: في اختيار أقرب طريق لإزهاق الروح اتباع داعية الرحمة؛ وهي
__________
(1) • قلت: وهو - على ضعفه - قد اضطرب في إسناده على وجوه ثلاثة، وخالفه غيره؛ فرواه منقطعا؛ لم يذكر فيه تابعه، وقد بينت ذلك في " التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب " (2 / 104) . (ن)(3/52)
خلة يرضى بها رب العالمين، ويتوقف عليها أكثر المصالح المنزلية والمدنية.
( [المثلة بالذبيحة حرام] :)
(والمثلة بها) ؛ لما ورد في تحريمها من الأحاديث الثابتة في " الصحيح " وغيره، وهي عامة.
( [يحرم الذبح لغير الله] :)
وتحريم (ذبحها لغير الله) ؛ لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من لعن من ذبح لغير الله؛ كما في " صحيح مسلم " وغيره، ولقوله - تعالى -: {وما أهل لغير الله} .
وكان أهل الجاهلية يتقربون إلى الأصنام والنجوم بالذبح لأجلهم؛ إما بالإهلال عند الذبح بأسمائهم؛ وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم، فنهوا عن ذلك، وهذا أحد مظان الشرك.
وأما الذبح للسلطان؛ وهل هو داخل في عموم ما أهل به لغير الله أم لا؟ فقد أجاب الماتن - رحمه الله - في بحث له على ذلك بما لفظه:
" اعلم أن الأصل الحل؛ كما صرحت به العمومات القرآنية والحديثية، فلا يحكم بتحريم فرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع إلا بدليل ينقل ذلك الأصل المعلوم من الشريعة المطهرة؛ مثل تحريم ما ذبح على النصب، والميتة، والمتردية، والنطيحة، والموقوذة، وما أهل به لغير الله، ولحم الخنزير، وكل شيء خرج من ذلك الأصل بدليل من الكتاب، أو السنة المطهرة؛ كتحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وتحريم الحمر الإنسية.(3/53)
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أصول التحريم: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو وقوع الأمر بالقتل، أو النهي عنه، أو الاستخباث، أو التحريم على الأمم السالفة، إذا لم ينسخ؛ فلا بد للقائل بتحريم فرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع من اندراجه تحت أصل من هذه الأصول، فإن تعذر عليه ذلك؛ فليس له أن يتقول على الله ما لم يقل.
فإن من حرم ما أحله الله كمن حلل ما حرم الله، فلا فرق بينهما، وفي ذلك من الإثم ما لا يخفى على عارف.
ولا شك أن البراءة الأصلية بمجردها كافية - على ما هو الحق -؛ فكيف إذا انضم إليها من العمومات مثل قوله - تعالى -: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية، وقوله: {أحل لكم الطيبات} ، وقوله: {والطيبات من الرزق} ، وقوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، وقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} ، وقوله: {يحل لهم الطيبات} ؟ !
والحاصل: أن الواجب وقف التحريم على المنصوص على حرمته، والتحليل على ما عداه، وقد صرح بذلك حديث سلمان عند الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه؛ فهو مما عفا عنه " (1) .
وأخرج أبو داود (2) ، عن ابن عباس موقوفا: كان أهل الجاهلية يأكلون
__________
(1) • إسناده ضعيف جدا، لكن معناه صحيح ثابت في أحاديث أخرى؛ سبق بعضها. (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 144) ، وكذا الحاكم (4 / 115) ، وصححه؛ ووافق الذهبي.
ثم أخرجه الحاكم (2 / 317) نحوه، وقال: " صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي. (ن)(3/54)
أشياء، ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله تعالى نبيه، وأنزل كتابه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} .
وأخرج الترمذي، وأبو داود، من حديث قبيصة بن هلب [عن أبيه] (1) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال له رجل: إن من الطعام طعاما أتحرج منه؟ فقال: " ضارعت النصرانية! لا يختلجن في نفسك شيء ".
( [اختلاف العلماء في جواز الذبح للسلطان] :)
إذا تقرر هذا:
فمسألة السؤال - أعني: ما ذبح من الأنعام لقدوم السلطان -، والاستدلال على تحريم ذلك بقوله - تعالى -: {وما أهل به لغير الله} فاسد.
فإن الإهلال: رفع الصوت للصنم ونحوه، وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى؛ كذا قال الزمخشري في " الكشاف "، والذابح عند قدوم السلطان لا يقول عند ذبحه: باسم السلطان، ولو فرض وقوع ذلك؛ كان محرما بلا نزاع، ولكنه يقول: باسم الله.
وقد استدل على ذلك بما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث أمير
__________
(1) في الأصل بحذف (عن أبيه) ؛ وصححناه من " سنن أبي داود " بشرح " عون المعبود " (ج 3: ص 412) ؛ وقبيصة تابعي، وأبوه صحابي.
والحديث حسنه الترمذي كما قال المنذري. (ش)(3/55)
المؤمنين علي - كرم الله وجهه (1) -: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لعن الله من ذبح لغير الله ... " الحديث.
وليس ذلك الاستدلال بصحيح؛ فإن الذبح لغير الله - كما بينه شراح هذا الحديث من العلماء -: أن يذبح باسم غير الله؛ كمن ذبح للصنم، أو للصليب أو لموسى، أو لعيسى، أو للكعبة، أو نحو ذلك؛ فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة؛ سواء كان الذابح مسلما، أو يهوديا، أو نصرانيا؛ كما نص على ذلك الشافعي وأصحابه.
قال النووي في " شرح مسلم ": " فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له - وكان غير الله تعالى -، والعبادة له؛ كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا ". انتهى.
وهذا إذا كان الذبح باسم أمر من تلك الأمور؛ لا إذا كان لله، وقصد به الإكرام لمن يجوز إكرامه؛ فإنه لا وجه لتحريم الذبيحة ههنا كما سلف.
وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه؛ أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله.
قال الرافعي: " هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم ". انتهى.
وهذا هو الصواب.
__________
(1) الأصل اجتناب مثل الدعاء؛ لأنه مما يكثر استعماله الروافض، فتنبه.(3/56)
وفي " روضة الإمام النووي ": " من ذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله؛ أو لرسول الله لأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذا لا يمنع الذبيحة؛ بل تحل " (1) ، قال: " ومن هذا القبيل الذبح الذي يذبح عند استقبال السلطان استبشارا بقدومه؛ فإنه نازل منزلة الذبح للعقيقة لولادة ". انتهى.
وقد أشعر أول كلامه أن من ذبح للسلطان تعظيما له - لكونه سلطان الإسلام - كان ذلك جائزا؛ مثل الذبح له لأجل الاستبشار بقدومه؛ إذ لا فرق بين ذلك وبين الذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله.
وذكر الدواري: أن من ذبح للجن، وقصد به التقرب إلى الله - تعالى - ليصرف عنه شرهم؛ فهو حلال، وإن قصد الذبح لهم فهو حرام ". انتهى.
وهذا يستفاد منه حل ما ذبح لإكرام السلطان بالأولى، وذلك هو الحق؛ لما أسلفناه من أن الأصل الحل، وأن الأدلة العامة قد دلت عليه، وعدم وجود ناقل عن ذلك الأصل، ولا مخصص لذلك العموم، والله أعلم ". انتهى كلام الشوكاني.
وفيه دليل على التفرقة بين ما يذبح للتقرب إلى غير الله - تعالى - وبين ما يذبح لغيره من الاستبشار ونحوه؛ كالذبح للعقيقة، والوليمة، والضيافة، ونحوها، فالأول يحرم، والثاني يحل.
قال ابن حجر المكي في " الزواجر ":
__________
(1) في النفس من هذه الإباحة شيء.(3/57)
" وجعل أصحابنا مما يحرم الذبيحة أن يقول: باسم الله، واسم محمد، أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجر (اسم) الثاني، أو (محمد) إن عرف النحو فيما يظهر، أو أن يذبح كتابي لكنيسة، أو لصليب، أو لموسى، أو لعيسى، ومسلم للكعبة، أو لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أو تقربا لسلطان، أو غيره، أو للجن.
فهذا كله يحرم المذبوح، وهو كبيرة ".
قال: " ومعنى ما أهل به لغير الله: ما ذبح للطواغيت والأصنام؛ قاله جمع.
وقال آخرون: يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله.
قال الفخر الرازي: وهذا القول أولى؛ لأنه أشد مطابقة للفظ الآية.
قال العلماء: لو ذبح مسلم ذبيحة، وقصد بذبحه التقرب بها إلى غير الله - تعالى -؛ صار مرتدا، وذبيحته ذبيحة مرتد ". انتهى كلام " الزواجر ".
وقال صاحب " الروض ":
" إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر ". انتهى.
قال الشوكاني في " الدر النضيد ":
" وهذا القائل من أئمة الشافعية، وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم كفرا عنده؛ فكيف الذبح لسائر الأموات؟ ! ". انتهى.(3/58)
قال الشيخ الفاضل - مفتي الديار النجدية - عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي؛ في كتابه " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " في (باب ما جاء في الذبح لغير الله) : " قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم " (1) في الكلام على قوله - تعالى -: {وما أهل به لغير الله} : إن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله؛ مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود؛ فسواء لفظ به أو لم يلفظ! .
وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله؛ كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله.
فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح، أو الزهرة؛ فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة، وقصد به ذلك أولى؛ فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله.
وعلى هذا؛ فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم؛ وإن قال فيه: باسم الله؛ كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة؛ الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح، والبخور، ونحو ذلك.
وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال؛ لكونه يجتمع في الذبيحة مانعان:
__________
(1) • (ص 124 - طبعة الخانجي) . (ن)(3/59)
الأول: أنه مما أهل لغير الله به.
والثاني: أنها ذبيحة مرتد.
ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن ذبائح الجن (1) .
قال الزمخشري: " كانوا إذا اشتروا دارا، أو بنوها، أو استخرجوا عينا؛ ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك ". انتهى كلام " فتح المجيد ".
وقد نقل الشوكاني أيضا العبارة المتقدمة لشيخ الإسلام في رسالته " الدر النضيد "، واستدل به على تحريم ما ذبح لغير الله - تعالى -؛ سواء لفظ به الذابح عند الذبح أو لم يلفظ؛ وهذا هو الحق.
( [الطعن أو الرمي للحيوان كالذبح إذا ند] :)
(وإذا تعذر الذبح لوجه جاز الطعن والرمي، وكان ذلك كالذبح) ؛ لحديث أبي العشراء عن أبيه: قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: " لو طعنت في فخذها لأجزأك "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وفي إسناده مجهولون، وأبو العشراء لا يعرف من أبوه، ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة، فهو مجهول، فلا تقوم الحجة بروايته.
والذي يصلح للاستدلال به حديث رافع بن خديج في " الصحيحين "،
__________
(1) • رواه البيهقي بسند ضعيف. (ن)(3/60)
وغيرهما، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فند (1) بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش (2) ، فما فعل منها هذا؛ فافعلوا به هكذا ".
( [ذكاة الجنين ذكاة أمه] :)
(وذكاة الجنين ذكاة أمه) ؛ لحديث أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجه، وأبي داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان - وصححه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال في الجنين: " ذكاته ذكاة أمه "؛ وللحديث طرق يقوي بعضها بعضا.
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة تشهد له.
قلت: وعليه الشافعي، ووافقه محمد بن الحسن (3) .
وقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى يخرج حيا فيذكى.
أقول: وأما التمسك بالآية الكريمة؛ فلا يخفى أنه من معارضة الخاص بالعام، وقد تقرر أن الخاص مقدم على العام.
__________
(1) ند البعير: إذا شرد وذهب على وجهه. (ش)
(2) الأوابد: جمع آبدة؛ وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنس. (ش)
(3) • ولكنه قيد الحكم بقيد ليس في الحديث، فقال في " الموطإ " (284) : " وبهذا نأخذ إذا تم خلقه، فذكاته ذكاة أمه؛ فلا بأس بأكله، فأما أبو حنيفة؛ فكان يكره أكله حتى يخرج حيا فيذكى، وكان يروي عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: لا تكون ذكاة نفس ذكاة نفسين ".
وظاهر الحديث؛ أنه يؤكل مطلقا، سواء تم خلقه أو لا، وبه قال الشافعي وأحمد. (ن)(3/61)
وقد قال ابن المنذر: إنه لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء؛ أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه؛ إلا ما روي عن أبي حنيفة - رحمه الله -.
قال ابن القيم: " وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه؛ بأنها خلاف الأصول، وهو تحريم الميتة؛ فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة استثنى السمك والجراد من الميتة، فكيف وليست بميتة؟ {فإنها جزء من أجزاء الأم، والذكاة قد أتت على جميع أعضائها، فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة، والجنين تابع للأم جزء منها، فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة؛ ولو لم ترد السنة بالإباحة، فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟} ".
فقد اتفق النص، والأصل، والقياس؛ ولله الحمد.
( [ما قطع من الحيوان الحي فهو ميتة] :)
(وما أبين من الحي فهو ميتة) ؛ لحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما قطع من بهيمة وهي حية؛ فما قطع منها فهو ميتة "؛ أخرجه ابن ماجه، والبزار، والطبراني، وقد قيل: إنه مرسل.
هذا يدل على تحريم الأكل، ولا ملازمة بينه وبين النجاسة؛ كما عرفت غير مرة.
وأخرج أحمد (1) ، والترمذي، وأبو داود، والدارمي من حديث أبي واقد
__________
(1) • في " المسند " (5 / 218) ، وسنده حسن، وصححه الحاكم (4 / 239) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
ولولا أن في أحد رواته - وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ضعفا - لصححناه، ولكن الحديث صحيح على كل حال لشواهده المذكورة في الكتاب، وله شاهد آخر عن أبي سعيد الخدري صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري فقط، (ن)(3/62)
الليثي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما قطع من البهيمة وهي حية؛ فهو ميتة ".
وأخرج ابن ماجه، والطبراني، وابن عدي نحوه من حديث تميم الداري.
قلت: وكان أهل الجاهلية يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه تعذيبا ومناقضة لما شرع الله - تعالى - من الذبح.
( [أحل السمك والجراد من الميتة، والكبد والطحال من الدماء] :)
(وتحل ميتتان ودمان: السمك والجراد) ، وعليه أهل العلم.
(والكبد والطحال) ، وهما عضوان من أعضاء بدن البهيمة؛ لكنهما يشبهان الدم، فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم الشبهة فيهما، وليس في الحوت والجراد دم مسفوح؛ فلذلك لم يشرع فيهما الذبح.
ووجهه حديث ابن عمر عند أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والشافعي، والبيهقي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أحل لنا ميتان ودمان؛ فأما الميتتان؛ فالحوت والجراد، وأما الدمان؛ فالكبد والطحال ".
وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف (1) .
__________
(1) • قلت: لكنه لم يتفرد به؛ بل تابعه أخواه أسامة وعبد الله؛ عند البيهقي (1 / 254) ، وهما ثقتان - على ضعف يسير في حفظهما -، فالحديث - على هذا - حسن على أقل الدرجات.
ثم هو صحيح، فقد تابعهم عند البيهقي أيضا سليمان بن بلال؛ إلا أنه أوقفه على ابن عمر، وإسناده صحيح.
وهو في معنى المسند المرفوع، كما قال البيهقي؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا كذا؛ هو كقوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وهذا في حكم المرفوع؛ كما هو مقرر في مصطلح الحديث. (ن)(3/63)
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات؛ نأكل الجراد.
وفيهما - أيضا - من حديث جابر: أن البحر ألقى حوتا ميتا، فأكل منه الجيش، فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " كلوا رزقا أخرج الله لكم، أطعمونا منه إن كان معكم "، فأتاه بعضهم بشيء.
وفي " البخاري " عن عمر؛ في قوله - تعالى -: {أحل لكم صيد البحر} قال: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به.
وفيه، عن ابن عباس، قال: طعامه ميتته؛ إلا ما قذرت منها.
وفيه، قال ابن عباس: كل من صيد البحر؛ صيد يهودي، أو نصراني، أو مجوسي. انتهى.
وإلى هذا ذهب الجمهور، فقالوا: ميتة البحر حلال؛ سواء ماتت بنفسها أو بالاصطياد.
وذهبت الحنفية إلى أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي، أو بإلقاء الماء له، أو جزره عنه، وأما ما مات أو قتله حيوان غير آدمي؛ فلا يحل.
واستدلوا بما أخرجه أبو داود من حديث جابر - مرفوعا - بلفظ:
" ما ألقاه البحر أو جزر عنه؛ فكلوا، وما مات فيه فطفا؛ فلا تأكلوه؛ وفي إسناده يحيى بن سليم، وهو ضعيف الحفظ.(3/64)
وقد روي من غير هذا الوجه، وفيه ضعف.
قلت: ظاهر القرآن والحديث إباحة ميتات البحر كلها، والمراد منها كل ما يعيش في البحر، فإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح كالسمك، فكل ذلك حلال بأنواعه، ولا حاجة إلى ذبحه؛ سواء يؤكل مثله في البر، كالبقر والغنم؛ أو لا يؤكل، كالكلب والخنزير، والكل سمك وإن اختلفت الصور؛ بخلاف ما يعيش في الماء؛ فإذا أخرج دام حيا، فإن كان طائرا كالبط فذبح؛ فحلال، ولا يحل ميتتها.
وإن كان غيرها - كالضفدع، والسرطان، والسلحفاة، وذوات السموم؛ كالحية، والعقرب -؛ فحرام، وعليه الشافعي.
أقول: وعلى هذا فقوله - تعالى -: {أحل لكم صيد البحر} ؛ المراد منه: ما يصطاد بالقصد والاختيار، وقوله: {وطعامه} المراد منه: ميتات البحر؛ مما لم يصد بالاختيار، كنى به عن الميتة كراهية لذكر الميتة في مقام التحليل.
وقوله: {متاعا لكم} : إباحته لأهل الحضر.
وقوله: {وللسيارة} ؛ المراد منه: إباحته للأهل السفر.
وقال أبو حنيفة: جميع حيوانات البحر حرام؛ إلا السمك المعروف.
أقول: الحق أن كل حيوان بحري حلال على أي صورة كان؛ {أحل لكم صيد البحر} ، " هو الطهور ماؤه والحل ميتته "، فمن جاءنا بدليل يصلح(3/65)
لتخصيص هذا العموم؛ قبلناه.
( [الضرورات تبيح المحظورات] :)
(وتحل الميتة للمضطر) ؛ لقوله تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} ، وقد ثبت تحليل الميتة عند الجوع من حديث أبي واقد الليثي عند أحمد، والطبراني، برجال ثقات (1) ، ومن حديث جابر بن سمرة عند أحمد (2) ، وأبي داود بإسناد لا مطعن فيه، ومن حديث الفجيع العامري عند أبي داود (3) .
وقد اختلف في المقدار الذي يحل تناوله، وظاهر الآية أنه يحل ما يدفع الضرورة؛ لأن من اندفعت ضرورته فليس بمضطر.
قال في " المسوى ": " أما ذبائح أهل الكتاب فتحل بنص الكتاب: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} .
أقول: معنى الآية باتفاق المفسرين: ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم، وذبائحكم حلال لهم.
__________
(1) • هو كما قال، ولكنه منقطع؛ فإنه عند أحمد (5 / 218) ؛ من طريق حسان بن عطية، عن أبي واقد؛ وهذا مرسل كما في " تهذيب التهذيب ".
ومن هذا الوجه؛ أخرجه الدارمي (2 / 88) . (ن)
(2) • في " المسند " (5 / 87، 88، 97، 104) ، وأبو داود (2 / 146) .
وإسنادهما حسن. (ن)
(3) • قلت: وفي سنده عقبة بن وهب العامري، ليس بالمشهور قال الذهبي: " لا يعرف، وخبره لا يصح ".
قلت: ويعني هذا الذي أشار إليه المؤلف، وفي لفظه ما يدل على أن المضطر يباح له من الميتة ما يحتاجه منها، فهو لو صح؛ لكان حجة على المؤلف. (ن)(3/66)
قيل: أي فائدة في الحل لهم؛ وهم كفار ليسوا من أهل الشرع؟ {
فقال الزجاج: معناه حلال لكم أن تطعموهم، وأقول: معناه: حلال لهم إذا التزموا شريعتنا أكلوها.
وكان اليهود يزعمون أن بني إسرائيل لا يحل لهم ذبائح العرب، فبين الله - تعالى - أن الأحكام الشرعية لا تتفاوت بالنسبة إلى قوم دون قوم.
وعليه أهل العلم؛ أن ذبائح اليهود والنصارى حلال لنا، وذبائح المجوس لا تحل ".
وفي " الموطإ ": سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟ فقال: لا بأس بها، وتلا هذه الآية: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} .
قلت: عليه أبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا تحل ذبيحة المتنصر بعد التحريف والنسخ (1) ، والمشكوك فيه.
( [ذبائح المسلمين على اختلاف نحلهم حلال] :)
أقول: ذبائح جميع المسلمين - على اختلاف نحلهم، وتبيان طرائقهم -
__________
(1) • وقد ضعف هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات " (3 / 193) ؛ وهو حري بالضعف، واستغرب هذا القول من مثل الإمام الشافعي؛ لأن أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم - وفيهم نزلت الآية المذكورة -؛ إنما كان كتابهم محرفا بنص القرآن، ولا فرق بين من كان منتسبا إلى من كان أبوه أو جده في ذلك الدين قبل التحريف أو بعده} (ن)(3/67)
حلال؛ لأن الله - جل جلاله - إنما نهانا عن أكل ما لم يذكر عليه اسمه، وكل مسلم لا يذبح إلا ذاكرا لاسم الله تحقيقا أو تقديرا؛ على أي مذهب كان.
وذبائح أهل الكتاب تابعة لتحليل أطعمتهم؛ إما لصدق اسم الطعام عليها؛ أو لأنها من الإدام اللاحق للطعام.
ويؤيده أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي أهدتها له اليهودية من خيبر بعد طبخها لها.
ولا نسلم أن ذبائحهم مما لم يذكر عليه اسم الله، فإنهم يذبحون لله، وليسوا كأهل الكفر من غيرهم.
فالحاصل: أن الذبح الذي تحل به الذبيحة ما في حديث رافع بن خديج بلفظ: " ما أنهر الدم وذكر الله عليه فكلوا "؛ أخرجه الجماعة كلهم.
وذبيحة المسلم - على أي مذهب كان، وفي أي بدعة وقع - هي مما يذكر عليه اسم الله، ومع الالتباس؛ هل وقعت التسمية من المسلم أو لا؟
قد دل الدليل على الحل؛ لما أخرجه البخاري، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث عائشة: قالت: يا رسول الله! إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحمان؛ لا ندري أذكروا اسم الله عليها؛ أم لم يذكروا؛ أنأكل منها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذكروا اسم الله وكلوا ".
فأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة التسمية مشعر بأن ذبيحة من لم يسم - سواء كان مسلما أو غير مسلم - حلال.(3/68)
ويحمل قوله - تعالى -: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} على عدم الذكر الكلي عند الذبح، وعند الأكل، وهو الظاهر من نفي ذكر اسم الله.
فاللحم إذا سمى عليه الآكل عند الأكل - والذابح كافر لم يسم - يكون مما ذكر عليه اسم الله - تعالى -، وهذا من الوضوح بمكان، ولا عبرة بخصوص السبب؛ وهو كون عائشة كان سؤالها عن اللحمان التي يأتي بها من المسلمين من كان حديث عهد بالجاهلية؛ بل الاعتبار بعموم اللفظ - كما تقرر في الأصول -.
والحق: أن ذبيحة الكافر حلال إذا ذكر عليها اسم الله، ولم يهل بها لغير الله؛ كالذبح للأوثان ونحوها.
فإن قلت: الكافر لا يذكر اسم الله على الذبيحة، وقد قال - تعالى -: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وقال: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} وقال صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه "،
قلت: هذا لا يتم إلا بعد العلم بأن الكافر لا يذكر اسم الله على ذبيحته.
وأما الاحتجاج لعدم اشتراط التسمية بحديث اللحمان المتقدم؛ فليس فيه دليل على عدم اشتراط التسمية مطلقا؛ بل عدم اشتراطها عند الذبح.
وأما حديث: " ذبيحة المسلم حلال؛ ذكر اسم الله أو لم يذكر (1) "؛ فهو إما مرسل؛ أو موقوف؛ فكيف ينتهض لمعارضة الكتاب العزيز؟ !
__________
(1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (2537) .(3/69)
ثم هو خاص بالمسلم، والنزاع في الكافر، وكذلك الحديث الأول خاص بالمسلم؛ لقوله: " إن قوما حديثو عهد بالجاهلية "، فلا يتم الاستدلال به على عدم اشتراط التسمية مطلقا.
وحاصل البحث: أنه إذا ذبح الكافر ذاكرا لاسم الله عز وجل، غير ذابح لغير الله، وأنهر الدم، وفرى الأوداج؛ فليس في الآية ما يدل على تحريم هذه الذبيحة الواقعة على هذه الصفة.
فمن زعم أن الكافر خارج من بعد ذلك بعد أن ذبح لله تعالى وسمى؛ فالدليل عليه (1) .
وأما ذبح الكافر لغير الله؛ فهذه الذبيحة حرام؛ ولو كانت من مسلم.
وهكذا إذا ذبح غير ذاكر لاسم الله - عز وجل -؛ فإن إهمال التسمية منه كإهمال التسمية من مسلم حيث ذبحا جميعا لله - عز وجل -.
وإذا عرفت هذا؛ لاح لك أن الدليل على من قال باشتراط إسلام الذابح؛ لا على من قال بأنه لا يسقط، فلا حاجة إلى الاستدلال على عدم الاشتراط بما لا دلالة فيه على المطلوب؛ كالاحتجاج بقوله (2) صلى الله عليه وسلم: " لم ينه عن ذبائح المنافقين "؛ فإن المنافقين كان يعاملهم صلى الله عليه وسلم معاملة المسلمين في جميع الأحكام؛ عملا بما أظهروه من الإسلام، وجريا على الظاهر.
__________
(1) • الدليل هو مفهوم قوله - تعالى -: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} . (ن)
(2) لعل صوابه: بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه ... الخ. (ش)
قلت: بل هو نص حديث مرفوع رواه أبو داود في " المراسيل " (رقم 378) ، وضعفه الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 183) .(3/70)
وأما ما يقال من حكاية الإجماع على عدم حل ذبيحة الكافر؛ فدعوى الإجماع غير مسلمة، وعلى تقدير أن لها وجه صحة؛ فلا بد من حملها على ذبيحة كافر ذبح لغير الله، أو لم يذكر اسم الله تعالى.
وأما ذبيحة أهل الذمة؛ فقد دل على حلها القرآن الكريم: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} .
ومن قال: إن اللحم لا يتناوله الطعام؛ فقد قصر في البحث، ولم ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب؛ كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية، وجعلت فيها سما، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها.
ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم؛ إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع.
فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح.
قلت: إن صح شيء من هذا (1) ؛ فالكلام في ذبيحته كالكلام في ذبيحة المسلم، إذا وقعت على أحد هذه الوجوه، وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا؛ لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.
__________
(1) • يشير إلى أنه لا يشترط شيء من ذلك في طعام أهل الكتاب؛ كأنه تمسك بعموم الآية: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} .
واختار شيخ الإسلام اشتراط ذلك في بحث له مفيد في " اقتضاء الصراط المستقيم " (ص 120 - 123) .
ومن حجته؛ أن آية {وما أهل لغير الله به} ) - وما في معناها - عمومه محفوظ لم يخص منه صورة؛ بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب؛ فإنه يشترط له الذكاة المبيحة؛ فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ... الخ كلامه؛ فراجعه. (ن)(3/71)
(4 - باب الضيافة)
( [حكم الضيافة في الإسلام] :)
(يجب على من وجد ما يقري به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك، وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يحرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه؛ كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه) ؛ لحديث عقبة بن عامر في " الصحيحين " قال: قلت: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا؛ فما ترى؟ قال: " إن نزلتم بقوم؛ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ".
وفيهما من حديث أبي شريح الخزاعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه جائزته "، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: " يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه "؛ أي: يضيق صدره.
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود، من حديث المقدام: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما؛ كان
__________
(1) • في " المسند " (4 / 130، 132، 133) ؛ وسنده صحيح، كما ذكر الشارح، ثم خرجته في " الصحيحة " (2204) . (ن)(3/72)
دينا له عليه؛ إن شاء اقتضاه؛ وإن شاء تركه "، وإسناده صحيح.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، من حديث أبي هريرة نحوه، وإسناده صحيح.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الضيافة مندوبة لا واجبة، واستدلوا بقوله: " فليكرم ضيفه جائزته "؛ قالوا: والجائزة هي العطية والصلة، وأصلها الندب.
ولا يخفى أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب، وأدلة الباب مقتضية لذلك؛ لأن التغريم لا يكون للإخلال بأمر مندوب، وكذلك قوله: " واجبة "؛ فإنه نص في محل النزاع، وكذلك قوله: " فما كان وراء ذلك فهو صدقة ".
قال في " المسوى ":
" وفي قوله: " جائزته " قولان:
أحدهما: يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له، ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف، إن شاء فعل؛ وإن شاء ترك.
والثاني: أن جائزته أن يعطيه ما يجوز به مسافر يوما وليلة (1) ".
( [تحريم أكل طعام الغير بدون إذنه] :)
(ويحرم أكل طعام الغير بغير إذنه) ؛ لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم
__________
(1) • لعل هذا التفسير هو الأقرب إلى الصواب؛ بدليل أن الجائزة أمر زائد على ضيافة الثلاثة أيام في حديث أبي شريح، والله أعلم. (ن)(3/73)
بينكم بالباطل} ، وكل ما دل على تحريم مال الغير دل على ذلك؛ لأنه مال.
وإنما خص منه ما ورد فيه دليل يخصه؛ كالضيف إذا حرمه من يجب عليه ضيافته؛ كما مر.
( [أمثلة على أكل مال الغير] :)
(ومن ذلك: حلب ماشيته، وأخذ ثمرته وزرعه لا يجوز إلا بإذنه؛ إلا أن يكون محتاجا إلى ذلك؛ فليناد صاحب الإبل، أو الحائط، فإن أجابه؛ وإلا فليشرب، وليأكل غير متخذ خبنة (1)) ؛ للأدلة العامة والخاصة.
أما العامة؛ فظاهر كالآية الكريمة، وحديث خطبة الوداع، ونحو ذلك.
وأما الأدلة الخاصة فمثل: حديث ابن عمر في " الصحيحين ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه؛ أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فينتثل (2) طعامه؟ وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ".
وأخرج أحمد من حديث عمير مولى آبي اللحم، قال: " أقبلت مع سادتي نريد الهجرة، حتى إذا دنونا من المدينة، قال: فدخلوا وخلفوني في ظهرهم، فأصابتني مجاعة شديدة، قال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة،
__________
(1) • الخبنة: معطف الإزار وطرف الثوب؛ أي: لا يأخذ منه في ثوبه. (ن)
(2) انتثله؛ أي: استخرجه وأخذه. (ش)(3/74)
فقالوا: لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها، قال: فدخلت حائطا، فقطعت منه قنوين، فأتاني صاحب الحائط، وأتى بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره خبري، وعلي ثوبان، فقال لي: " أيهما أفضل؟ "، فأشرت إلى أحدهما، فقال: " خذه وأعط صاحب الحائط الآخر "، فخلى سبيلي "، وفي إسناده ابن لهيعة (1) .
وله طريق أخرى عند أحمد، وفي إسنادها أيضا أبو بكر بن يزيد بن المهاجر؛ غير معروف الحال.
وقد أعل هذا الحديث بأن في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد ابن زيد، وهو ضعيف (2) .
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عمر، قال: سئل
__________
(1) • وكذا في " النيل " (8 / 127) - نقلا عن " مجمع الزوائد " -!
ولم أجد لهذا الحديث في " المسند " إلا طريقا واحدا؛ أخرجه (5 / 223) من طريق عبد الرحمن ابن إسحاق: حدثني أبي، عن عمه، وعن أبي بكر بن زيد بن المهاجر، أنهما سمعا عميرا ...
قلت: وهذا سند حسن عندي؛ فإن رجاله كلهم ثقات معروفون، وأبو بكر بن زيد بن المهاجر: هو محمد بن زيد بن المهاجر، كما جزم به الحافظ في " التعجيل "، وهو ثقة من رجال مسلم؛ وعبد الرحمن بن إسحاق: هو ابن عبد الله بن الحارث بن كنانة العامري؛ ثقة أيضا من رجال مسلم، وفيه ضعف يسير؛ وأبوه ثقة؛ وعمه لم أعرفه؛ ولا يضر؛ فإنه مقرون بأبي بكر.
ثم وجدت الحديث في " المستدرك " (4 / 132 - 133) ؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)
(2) • هذا مشكل؛ فإن محمد بن زيد: هو أبو بكر، وهو ثقة عندنا - كما سلف -، ومجهول الحال عند المؤلف؛ فكيف يقول الآن: " وهو ضعيف ".
وإن رجعنا الضمير إلى عبد الرحمن بن إسحاق؛ فهو خطأ أيضا؛ لأنه ليس في هذه المنزلة من الضعف؛ بحيث يسوغ القول فيه أنه ضعيف. (ن)(3/75)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يدخل الحائط؟ فقال: " يأكل غير متخذ خبنة ".
وأخرج أبو داود، والترمذي، - وصححه - من حديث سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم على ماشية؛ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب، ولا يحمل "، وهو من سماع الحسن عن سمرة، وفيه مقال معروف.
وأخرج أحمد، وابن ماجه، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم، من حديث أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم حائطا، فأراد أن يأكل؛ فليناد صاحب الحائط ثلاثا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل؛ فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد: يا صاحب الإبل {أو: يا راعي الغنم} فإن أجابه وإلا فليشرب ".
وأخرج الترمذي، وأبو داود، من حديث رافع، قال: كنت أرمي نخل الأنصار، فأخذوني، فذهبوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رافع {لم ترمي نخلهم؟ "، قال: قلت يا رسول الله} الجوع. قال: " لا ترم؛ وكل ما وقع؛ أشبعك الله وأرواك " (1) .
وأخرج أبو داود، والنسائي، من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع، وفيها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحائط: " ما علّمت إذ كان جاهلا، ولا أطعمت إذ كان جائعا؟ ! " (2) .
__________
(1) حديث ضعيف؛ وانظر " الإرواء " (2518) .
(2) • صححه الحاكم (4 / 133) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)(3/76)
والمراد بالخبنة: ما يحمله الإنسان في حضنه؛ وهي: بضم الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وبعدها نون.
ويمكن الجمع بين الأحاديث: بأن تغريم النبي صلى الله عليه وسلم لآبي اللحم لعدم المناداة منه، ولو فرضنا عدم صحة الجمع بهذا؛ كانت أحاديث الإذن عند الحاجة مع المناداة أرجح.(3/77)
(5 - باب آداب الأكل)
فقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - آدابا يتأدبون بها في الطعام؛ كما ستأتي.
(1 -[التسمية] :)
(تُشرع للآكل التسمية) ؛ لحديث عائشة عند أحمد (1) ، وأبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي - وصححه - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: بسم الله؛ فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله على أوله وآخره ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث جابر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مبيت لكم، ولا عشاء، وإذا دخل، فلم يذكر الله عند دخوله؛ قال الشيطان:
__________
(1) • في " المسند " (6 / 143، 207، 246، 265) ، وأبو داود (2 / 140) ، والترمذي (/ 102 3) ؛ عن أم كلثوم، عن عائشة.
وأم كلثوم - هذه - لم أجد من وثقها، ومع ذلك؛ فالترمذي يقول في حديثها هذا: " حديث حسين صحيح ".
وله شاهد من حديث أمية بن مخشي عند ابن السني (رقم 455) ، ورجاله ثقات؛ غير المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي، وهو مستور؛ فالحديث به حسن - إن شاء الله -. (ن)(3/78)
أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر الله عند طعامه؛ قال: أدركتم المبيت والعشاء ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه "؛ الحديث.
وأخرج الترمذي (1) ، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنه لو سمى لكفى لكم "، وقال: حسن صحيح.
وفي الباب أحاديث.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال النووي: الأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم (2) ، فإن قال: بسم الله. حصلت السنة.
(2 -[الأكل باليمين] :)
(والأكل باليمين) ؛ لحديث ابن عمر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل
__________
(1) • في إسناده أم كلثوم التي في الإسناد السابق. (ن)
(2) لا دليل على هذه الأفضلية، ولا تحصل السنة إلا بالسنة {فتأمل}(3/79)
بشماله، ويشرب بشماله.
قلت: وعليه أهل العلم.
(3 -[الأكل من حافتي الطعام] :)
(ومن حافتي الطعام لا من وسطه) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه ".
وأخرجه أبو داود (1) بلفظ:
" إذا أكل أحدكم طعاما؛ فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل من أعلاها ".
(4 -[الأكل مما يليه] :)
(ومما يليه) ؛ لحديث عمر بن أبي سلمة في " الصحيحين "، وغيرهما قال: كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: " يا غلام! سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ".
(5 -[لعق الأصابع والصحفة] :)
(ويلعق أصابعه والصحفة) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره: أن النبي
__________
(1) • في " سننه " (2 / 140) ؛ وإسناده صحيح، وصححه الحاكم (4 / 116) ، ووافقه الذهبي. (ن)(3/80)
صلى الله عليه وسلم كان إذا طعم طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال:
" إذا وقعت لقمة أحدكم؛ فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان "، وأمرنا أن نسلت (1) القصعة، وقال:
" إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ".
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها (2) ".
وأخرج مسلم من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال:
" إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ".
قال في " الحجة البالغة ":
" وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا، فقربنا إليه شيئا، فبينا يأكل؛ إذ سقطت كسرة من يده، وتدهدهت في الأرض، فجعل يتبعها، وجعلت تتباعد عنه، حتى تعجب الحاضرون بعض العجب، وكابد هو في تتبعها بعض الجهد، ثم إنه أخذها فأكلها، فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان إنسانا (3) ، وتكلم على لسانه، فكان فيما تكلم: إني مررت بفلان وهو يأكل، فأعجبني ذلك الطعام، فلم يطعمني منه شيئا، فخطفته من يده، فنازعني حتى أخذه مني.
__________
(1) سلت القصعة من الثريد: إذا مسحه. (ش)
(2) • قال النووي: " المراد: إلعاق غيره ممن لا يتقذر ذلك؛ من زوجة، وخادم، وولد، ولو ألعقها شاة ونحوها ". (ن)
(3) قارن بكتابي " برهان الشرع في إثبات المس والصرع ".(3/81)
وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر؛ إذ تدهده بعضها، فوثب إليه إنسان فأخذه وأكله، فأصابه وجع في صدره ومعدته، ثم تخبطه الشيطان، فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهده.
وقد قرع أسماعنا شيء كثير من هذا النوع، حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز، وإنما أريد به حقيقتها، فمن العلم الذي أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم حال الملائكة والشياطين، وانتشارهم في الأرض ". انتهى.
(6 -[الحمد عند الفراغ] :)
(والحمد عند الفراغ والدعاء) ؛ لحديث أبي أمامة عند البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: " الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه؛ غير مكفي (1) ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ".
وأخرج أحمد، وأبو داود (2) ، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، والبخاري في " التاريخ " من حديث أبي سعيد، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ".
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه - (3) من حديث معاذ بن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) • أي: غير محتاج إلى أحد، لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم: " خطابي ". (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 150) ، والترمذي (4 / 247) بسند ضعيف؛ لما سيأتي تحقيقه في الأشربة (ن)
(3) • وليس بحسن؛ فإنه من رواية أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون؛ قال الذهبي: " ضعفه يحيى، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ". (ن)
قلت: وقد انتهى الشيخ - أخيرا - إلى حسنه؛ فانظر " الإرواء " (1989) .(3/82)
" من أكل طعاما، فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ".
وأخرج أبو داود (1) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم {بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه.
وإذا سُقي لبنا؛ فليقل: اللهم} بارك لنا فيه وزدنا منه؛ فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن ".
وأخرجه الترمذي بنحوه وحسنه، ولكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف.
وقد رواه عن محمد بن حرملة.
قال أبو حاتم: بصري لا أعرفه!
(7 -[أن يستوي جالسا] :)
(ولا يأكل متكئا) ؛ لحديث أبي ححيفة عند البخاري، وغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أنا فلا آكل متكئا ".
قلت: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث في العرب، وعاداتهم
__________
(1) • في " السنن " (2 / 135) ، والترمذي (4 / 247) ؛ عن علي بن زيد، عن عمر بن حرملة، عن ابن عباس؛ وحسنه الترمذي؛ وليس كذلك؛ لما ذكره الشارح. (ن)
قلت: ثم حسنه الشيخ بطرقه في " الصحيحة " (2320) .(3/83)
أوسط العادات، ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم، والأخذ بها أحسن، ولا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا سيرة إمامها في كل نقير وقطمير.
وما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان (1) ، ولا في سكرجة (1) ، ولا خبز له مرقق، ولا رأى شاة سميطا (2) بعينه قط، وما رأى منخلا - كانوا يأكلون الشعير غير منخول -.
__________
(1) • هو ما يوضع عليه الطعام.
والسكرجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم، وهي فارسية، وأكثر ما يوضع فيه الكوامخ ونحوها. (ن)
(2) • أي: مشوية؛ فعيل بمعنى مفعول. (ن)(3/84)
(الكتاب الرابع عشر: كتاب الأشربة)(3/85)
(14 - كتاب الأشربة)
( [كل مسكر خمر وكل مسكر حرام] :)
(كل مسكر حرام) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام "، فيشمل ذلك جميع أنواع الخمر؛ من الشجرتين وغيرهما، فيتناوله قوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر} الآية.
وفي لفظ لمسلم: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ".
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال صلى الله عليه وسلم:
" كل شراب أسكر فهو حرام ".
وفيهما نحوه من حديث أبي موسى.
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ":
" وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحاديث كثيرة؛ من طرق لا تحصى، وعبارات مختلفة، فقال: " الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة ".(3/87)
وكذلك اتفقت جميع الملل والنحل على قبحه بالمرة.
وليس الأمر كما يظنه من لا بصيرة له؛ من أنه حسن بالنظر إلى الحكمة العملية؛ لما فيه من تقوية الطبيعة! فإن هذا الظن من باب اشتباه الحكمة الطبية بالحكمة العملية.
والحق أنهما متغايرتان، وقد نزل تحريم الخمر؛ وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل.
( [مم يكون الخمر؟] :)
والخمر: ما خامر العقل.
وقال: لقد حرمت الخمر حين حرمت، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا: البسر والتمر، وكسروا دنان الفضيخ (1) حين نزلت، وهو يقتضيه قوانين التشريع؛ فإنه لا معنى لخصوصية العنب، وإنما المؤثر في التحريم كونه مزيلا يدعو قليله إلى كثيره، فيجب به القول.
ولا يجوز لأحد اليوم أن يذهب إلى تحليل ما اتخذ من غير العنب، واستعمل أقل من حد الإسكار.
نعم؛ كان ناس من الصحابة والتابعين لم يبلغهم الحديث في أول الأمر، فكانوا معذورين؛ ولما استفاض الحديث، وظهر الأمر كرابعة النهار، وصح حديث: " ليشربن ناس من أمتي الخمر؛ يسمونها بغير اسمها "؛ لم يبق عذر، أعاذنا الله - تعالى - والمسلمين من ذلك ". انتهى.
__________
(1) • شراب يتخذ من البسر المفضوخ؛ أي: المشدوخ. (ن)(3/88)
وتمام هذا البحث في " مسك الختام "، فليرجع إليه.
( [ما أسكر كثيره فقليله حرام] :)
(وما أسكر كثيره فقليله حرام) ، لحديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والترمذي وحسنه، وابن حبان، والدارقطني - وأعله بالوقف -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" كل مسكر حرام؛ وما أسكر الفرق (1) منه؛ فملء الكف منه حرام "، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا عمرو بن سالم الأنصاري مولاهم المدني؛ قال المنذري: لم أر أحدا قال فيه كلاما، وقال الحاكم: هو معروف بكنيته؛ يعني: أبا عثمان (2) .
وأخرج أحمد (3) ، وابن ماجه، والدارقطني - وصححه -، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
وأخرجه أبو داود (4) ، والترمذي - وحسنه -، وقال ابن حجر: رجاله ثقات -، من حديث جابر.
__________
(1) بفتح الفاء وإسكان الراء؛ هو مئة وعشرون رطلا - ويقال: بفتح الراء -، وهو مكيال يسع تسعة عشر رطلا، والأول هو الذي اعتمده صاحب " اللسان " وشراح الحديث. (ش)
(2) • قال الحافظ في " التقريب ": مقبول. (ن)
قلت: لكن وفقه أبو داود؛ فحديثه هذا صحيح؛ وانظر " الإرواء " (2376) .
(3) • برقم (5648) ؛ وفي سنده أبو معشر، واسمه: نجيح، وهو ضعيف.
وفي " سنن ابن ماجه " (2 / 332) ضعف أيضا وانقطاع؛ لكن يشهد له الأحاديث الآتية. (ن)
(4) • في " سننه " (2 / 129) ، وكذا أحمد (3 / 343) ؛ وسنده صحيح لا علة له.
وكذلك رواه ابن ماجه. (ن)(3/89)
وأخرجه أيضا أحمد (1) ، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وفي الباب أحاديث.
قال في " المسوى ":
" وعليه الشافعي، وأبو حنيفة؛ إلا أن الشافعي يقول: كل ما خامر العقل فهو خمر، قليله وكثيره حرام، يجب منه الحد؛ سواء كان من عنب، أو تمر، أو عسل، أو غير ذلك؛ وسواء كان نيئا أو مطبوخا.
وفي مذهب أبي حنيفة: النيء من ماء العنب إذا اشتد هو الخمر، والمسكر من فضيخ التمر حرام؛ يحد منه دون سائر المسكرات ". انتهى.
( [ما هي الآنية التي يجوز الانتباذ بها؟] :)
(ويجوز الانتباذ في جميع الآنية) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم (2) ، فاشربوا في كل وعاء؛ غير أن لا تشربوا مسكرا ".
وفي لفظ لمسلم - أيضا -، وغيره: " نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفا لا
__________
(1) • في " المسند " (2 / 167، 179) ؛ وابن ماجه (2 / 332) ؛ من طريقين عن عمرو؛ فهو إسناد حسن. (ن)
(2) الأدم: الجلد. (ش)(3/90)
يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام ".
وفي الباب أحاديث مصرحة بنسخ ما قد كان وقع منه صلى الله عليه وسلم؛ من النهي عن الانتباذ في الدباء، والنقير، والمزفت، والحنتم (1) ، ونحوها؛ كما هو مذكور في الأحاديث المروية في " الصحيحين "، وغيرهما.
ذهب قوم إلى بقاء الحظر فيها، وبه قال مالك وأحمد.
( [حكم انتباذ جنسين مختلطين] :)
(ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا.
وفيهما من حديث أبي قتادة نحوه.
ولمسلم نحوه من حديث أبي سعيد.
وله - أيضا - نحوه من حديث أبي هريرة.
وفي الباب أحاديث.
ووجه النهي عن انتباذ الخليطين؛ أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط، فيظن المنتبذ أنه لم يبلغ حد الإسكار وقد بلغه.
__________
(1) جرار مدهونة خضرة، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة.
وإنما نهى عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها من أجل دهنها. (ن)(3/91)
قال النووي:
" ومذهب الجمهور: أن النهي في ذلك للتنزيه لا للتحريم، وإنما يحرم إذا صار مسكرا، ولا تخفى علامته.
وقال بعض المالكية: هو للتحريم ".
وقد ورد ما يدل على منع انتباذ جنسين؛ سواء كان مما ذكر في الأحاديث السابقة أم لا، وهو ما أخرجه النسائي، وأحمد، من حديث أنس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين شيئين فيُنبذا؛ يبغي أحدهما على صاحبه "، ورجال إسناده ثقات (1) .
قال في " المسوى ":
" اختلف أهل العلم؛ فذهب جماعة إلى تحريمه؛ وإن لم يكن الشراب المتخذ منه مسكرا لظاهر الحديث، وبه قال مالك وأحمد.
وقال الأكثرون: هو حرام إذا كان مشتدا ومسكرا؛ إذ المعنى فيه الإسكار، وإنما خص ذكره؛ لأنه كان من عادتهم اتخاذ النبيذ المسكر بذلك.
وقال الليث: إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعا؛ لأن أحدهما يشد صاحبه ".
( [حكم تخليل الخمر] :)
(ويحرم تخليل الخمر) ؛ لحديث أنس عند أحمد، وأبي داود، والترمذي
__________
(1) • فيه نظر؛ فإنه من طريق وقاء بن إياس؛ وفيه ضعف، وقال الحافظ: " لين الحديث ".
والحديث في " سنن النسائي " (2 / 324) . (ن)(3/92)
وصححه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر يتخذ خلا؟ فقال: " لا ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، من حديثه - أيضا -: أن أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: " أهرقها "، قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: " لا ".
وقد عزاه المنذري في " مختصر السنن " إلى مسلم.
وله حديث ثالث نحوه أخرجه الدارقطني.
وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه.
قال ابن القيم:
" وفي الباب عن أبي الزبير وجابر، وصح ذلك عن عمر بن الخطاب، ولا نعلم له في الصحابة مخالفا، ولم يزل أهل المدينة ينكرون ذلك.
قال الحاكم: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: قدمت المدينة أيام مالك، فتقدمت إلى قاض، فقلت: عندك خل خمر؟ فقال: سبحان الله! في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم قدمت بعد موت مالك، فذكرت ذلك لهم، فلم ينكر علي أحد.
وأما ما روي عن علي من اصطناعه الخمر، وعن عائشة: أنه لا بأس به؛ فهو خل الخمر إذا تخللت بنفسها لا باتخاذها ". اه.(3/93)
وفي " الحجة البالغة ":
" سئل عن الخمر يتخذ خلا؟ قال: " لا "، قيل: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: " إنه ليس بدواء، ولكنه داء ".
أقول: لما كان الناس مولعين بالخمر، وكانوا يتحيلون لها حيلا؛ لم تتم المصلحة إلا بالنهي عنها على كل حال؛ لئلا يبقى عذر لأحد ولا حيلة ". انتهى.
( [جواز شرب العصير والنبيذ قبل تخمره] :)
(ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أبي داود (1) ، والنسائي، وابن ماجه، قال: علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش (2) فقال:
" اضرب بهذا الحائط؛ فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ".
وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير، قال: اشربه ما لم يأخذه شيطانه؟ قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 134) ، والنسائي (2 / 334) ، وابن ماجه (2 / 334) ؛ عن خالد بن عبد الله بن حسين، عن أبي هريرة؛ وخالد هذا لم يوثقه غير ابن حبان؛ فهو مجهول الحال، وفي " التقريب ": " مقبول ".
قلت: ولا أعلم أحدا تابعه على هذا السياق؛ فالحديث غير مقبول، والله أعلم. (ن)
(2) قوله: " فتحينت " - بالتاء والحاء؛ كما هو كذلك في أبي داود وغيره -؛ أي: ترقبت وقت إفطاره.
وقوله: " ينش "؛ أي: يغلي. (ش)(3/94)
وأخرج مسلم، وغيره من حديث ابن عباس: أنه كان يُنقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب، فيشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقي الخادم أو يهراق.
قال أبو داود: ومعنى يسقي الخادم: يبادر به الفساد.
( [ما هي مدة الانتباذ؟] :)
(ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام) ؛ لحديث ابن عباس المذكور.
وقد أخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة: " أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي فتعشى شرب على عشائه، وإن فضل شيء صبته أو أفرغته، ثم تنتبذ له بالليل، فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه، قالت: نغسل السقاء غدوة وعشية "، وهو لا ينافي حديث ابن عباس - المتقدم - أنه كان يشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة؛ لأن الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية، والكل في " الصحيح ".
( [آداب الشرب] :)
(1 -[أن يتنفس ثلاثا] :)
(وآداب الشرب أن يكون ثلاثة أنفاس) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثا.
وفي لفظ لمسلم: أنه كان يتنفس في الشراب ثلاثا، ويقول: " إنه أروى وأمرأ " (1) ، والمراد أنه كان يتنفس بين كل شربتين في غير الإناء.
__________
(1) • وزاد أبو داود (2 / 135) : " وأبرأ ". (ن)(3/95)
(2 -[أن لا يتنفس في الإناء] :)
وأما التنفس في الإناء فمنهي عنه؛ لحديث أبي قتادة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - (1) ، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتنفس في الإناء، أو ينفخ فيه.
وأخرج أحمد، والترمذي (2) - وصححه -، من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب، فقال الرجل: القذاة أراها في الشراب، فقال: " أرقها "، فقال: إني لا أروى من نفس واحد، قال: " فأبِن؟ القدح إذاً عن فيك "، قلت: وعلى هذا أهل العلم. والنهي عن التنفس فيه، من أجل ما يخاف أن يبرز شيء من ريقه أو مخاطه فيقع في الماء.
وقد تكون النكهة من بعض من يشرب متغيرة، فتتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطفه.
ثم إنه من فعل الدواب، إذا كرعت في الأواني كرعت، ثم تنفست فيها، ثم عادت فشربت، فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه.
__________
(1) • وهو كما قال؛ وإسناده رجال البخاري. (ن)
(2) • في " سننه " (3 / 113) ؛ وسنده حسن - إن شاء الله تعالى -. (ن)(3/96)
والنفخ فيه يكون لأحد معنيين: فإن كان من حرارة الشراب؛ فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى؛ فليمطه بأصبع أو خلال، وإن تعذر فليرقها؛ كما جاء في الحديث.
(3 -[أن يشرب باليمين] :)
(وباليمين) ؛ لما تقدم في آداب الأكل.
(4 -[أن يشرب قاعدا] :)
(ومن قعود) ؛ لأن الشرب قاعدا من الهيئات الفاضلة، وأقرب لجموم النفس والري، وأن تصرف الطبيعة الماء في محله؛ لحديث أبي سعيد عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما.
وأخرج مسلم أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقئ " (1) .
ولا يعارض هذا حديث ابن عباس في " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم قائما، ولا ما أخرج البخاري، وغيره من حديث علي: أنه شرب وهو قائم، ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت، ولا ما أخرجه أحمد (2) ، وابن ماجه، والترمذي
__________
(1) قلت: وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ؛ وإنما يصح الشطر الأول منه، فانظر " الصحيحة " (175) .
(2) • في " المسند " (رقم 5874) ، وابن ماجه (2 / 310) ، والترمذي (3 / 111) ؛ وإسناده صحيح.
وله في " المسند " (رقم 4765، 4833) طريق أخرى عن ابن عمر؛ وإسناده حسن. (ن)(3/97)
- وصححه - من حديث ابن عمر، قال: " كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام " (1) ؛ لأنه يمكن الجمع بأن الكراهة للتنزيه؛ وإن كان قوله: " فمن نسي فليستقئ " يشعر بعدم الجواز في حق من قصد مخالفة السنة (2) ؛ على أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة، ويخصص القول الشامل له وللأمة، فيكون الفعل خاصا به؛ كما تقرر في الأصول.
قلت: وعليه أكثر أهل العلم؛ رأوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما نهي أدب وإرفاق؛ ليكون تناوله على سكون وطمأنينة، فيكون أبعد من أن يكون منه فساد في المعدة؛ كالكباد وغيره.
(5 -[أن يشرب الأيمن فالأيمن] :)
(وتقديم الأيمن فالأيمن) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب، ثم أعطى الأعرابي، وقال: " الأيمن فالأيمن ".
وفيهما من حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه، وعن يمنيه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: " أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ "، فقال الغلام: والله يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحدا، فتله؛ أي: وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده.
قال في " الحجة البالغة ":
__________
(1) انظر " علل ابن أبي حاتم " (2 / 9)
(2) لعل الأولى أن يقال - بل الصواب أن يقال -: في حق من لم يستطع؛ يشعر بعدم الجواز إلا لعذر. (ن)(3/98)
" أراد بذلك قطع المنازعة، فإنه لو كانت السنة تقديم الأفضل؛ ربما لم يكن الفضل مسلّما بينهم، وربما يجدون في أنفسهم من تقديم غيرهم حاجة ". اه
(6 -[الساقي آخر القوم شربا] :)
(ويكون الساقي آخرهم شربا) ؛ لحديث أبي قتادة عند ابن ماجه، وأبي داود، والترمذي - وصححه - وقال المنذري: رجال إسناده ثقات -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ساقي القوم آخرهم شربا ".
وقد أخرجه أيضا مسلم بلفظ: قلت: لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الساقي آخرهم شربا ".
(7، 8 -[التسمية على الشرب، والحمد في آخره] :)
(ويسمي في أوله، ويحمد في آخره) ؛ لحديث ابن عباس عند الترمذي (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا الله إذا أنتم شربتم، واحمدوا الله إذا أنتم رفعتم ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي،
__________
(1) • في " سننه " (3 / 113) ، وضعفه بقوله: " هذا حديث غريب؛ ويزيد بن سفيان الجزري: هو أبو فروة الرهاوي ".
قلت: وهو ضعيف، كما في " التقريب "، فعزو الحديث للترمذي، وحذف كلامه الذي يدل على ضعفه؛ ليس من الصواب في شيء! (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 32، 98) ، وأبي داود (2 / 150) ، والترمذي (4 / 247) ، وابن ماجه (2 / 307) ، وابن السني - أيضا (رقم 458) من طريق النسائي -؛ وليس عند أحد منهم: " وشرب "؛ إلا الترمذي، وسنده ضعيف.
ثم إن في إسناد الحديث اختلافا، ذكره الحافظ في " التهذيب " (3 / 300) ؛ فالحديث ضعيف من أصله، والله أعلم. (ن)(3/99)
والبخاري في " التاريخ " من حديث أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: " الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وجعلنا مسلمين ".
( [حكم التنفس في السقاء، والنفخ فيه والشرب من فمه] :)
(ويكره التنفس في السقاء، والنفخ فيه) ؛ وقد تقدمت أدلة ذلك في الشرب ثلاثة أنفاس.
(والشرب من فمه) لأنه إذا ثنى فم القربة فشرب منه؛ فإن الماء يتدفق وينصب في حلقه دفعة، وهو يورث الكباد، ويضر بالمعدة، ولا يتميز عنده في دفق الماء وانصبابه القذاة ونحوها.
ودليله حديث أبي سعيد في " الصحيحين " قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية؛ أن يشرب من أفواهها (1) .
وفي رواية لهما: " واختناثها: أن يقلب رأسها ثم يشرب منه ".
وفي " البخاري " من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من في السقاء.
__________
(1) • وسببه ما في " مسند ابن أبي شيبة " بإسناد صحيح عن أبي سعيد: شرب رجل من سقاء، فانساب في بطنه جنان؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره؛ وكذا أخرجه الإسماعيلي - كما في " الفتح " (10 / 74) -.
ولا ينفي هذا أن يكون النهي لعلة أخرى؛ فقد قالت عائشة: نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء؛ لأن ذلك ينتنه.
رواه الحاكم (4 / 140) - وصححه -، وقال الذهبي: " إنه على شرط مسلم ".
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (10 / 75) : " سنده قوي ". (ن)(3/100)
وزاد أحمد: قال أيوب: فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية.
وزاد في " الحجة البالغة ": " فدخلت في جوفه ".
وفي " البخاري "، وغيره من حديث ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء.
وهذا لا يعارضه ما رواه ابن ماجة (1) ، والترمذي - وصححه -، من حديث كبشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من في قربة معلقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته ".
وأخرج أحمد (2) ، وابن شاهين، والترمذي في " الشمائل "، والطبراني، والطحاوي، من حديث أم سليم نحوه.
وأخرج أبو داود (3) ، والترمذي من حديث عبد الله بن بسر نحوه - أيضا -؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم قد يكون لبيان الجواز، فتحمل أحاديث النهي على الكراهة لا على التحريم.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 336) ، والترمذي (3 / 114) ؛ وسنده صحيح.
وزاد ابن ماجه في آخره: تبتغي بركة موضع في رسول الله صلى الله عليه وسلم! (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 119) ، و " الشمائل " (1 / 313) ، والطحاوي في " شرح المعاني " (2 / 358) ؛ عن البراء بن زيد ابن بنت أنس، عن أنس، عنها؛ والبراء هذا مجهول. (ن)
(3) • في " السنن " (2 / 134) ، والترمذي؛ وأعله بأن فيه عبد الله بن عمر العمري؛ يضعف من قبل حفظه. (ن)(3/101)
وقد يكون ما فعله صلى الله عليه وسلم لعذر، فتحمل أحاديث النهي على عدم العذر.
وقد جزم ابن حزم بالتحريم (1) .
وروي عن أحمد أن أحاديث النهي ناسخة.
( [حكم المائع إذا وقعت فيه نجاسة] :)
(وإذا وقعت النجاسة في شيء من المائعات؛ لم يحل شربه، وإن كان جامدا ألقيت وما حولها) ؛ لحديث ميمونة عند البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت؟ فقال: " ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم ".
وأخرج أبو داود (2) والنسائي - في لفظ لهما من هذا الحديث -: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تقع في السمن؟ فقال: " إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه "، وصححه ابن حبان.
وأخرج أحمد، وأبو داود (3) ، والترمذي من حديث أبي هريرة، قال:
__________
(1) وهو اختيار شيخنا الألباني - حفظه الله -؛ فانظر " السلسلة الصحيحة " (175 - 177) .
(2) في " سننه " (2 / 149) ، ورجال الإسنادين رجال الصحيح.
لكن مداره على معمر، وقد حكم العلماء بخطإه في قوله: " إن كان جامدا "، وبينوا أن الصواب في الحديث الإطلاق، كما في الرواية الأولى؛ راجع " فتح الباري " (9 / 549 - 550) ، و " الفتاوى " لشيخ الإسلام، و " تهذيب السنن " (5 / 336 - 341) لابن القيم.
وعلى هذا؛ فالحديث حجة على المؤلف في التفصيل الذي ذكره؛ ولهذا قال الحافظ:
" واستدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد: أن المانع إذا حلت فيه نجاسة لا ينجس إلا بالتغير؛ وهو اختيار البخاري، وقول ابن نافع من المالكية، وحكي عن مالك ". (ن)
(3) • انظر التعليق السابق. (ن)(3/102)
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن فماتت؟ فقال: " إن كان جامدا فخذوها وما حولها، ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعا فلا تقربوه ".
وقد أخرجه أيضا النسائي.
وحكم غير الفأرة - مما هو مثلها في النجاسة والاستقذار - حكمها إذا وقع في سمن أو نحوه.
قلت: وعليه أهل العلم؛ ومعناه عندهم: إذا كان جامدا؛ فإن كان مائعا تنجس كله، فلا يجوز أكله بالاتفاق، وجوز أبو حنيفة بيعه، ولم يجوزه الشافعي.
( [حكم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة] :)
(ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة) ؛ لحديث حذيفة في " الصحيحين "، وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ".
وفيهما - أيضا - من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ".(3/103)
ولفظ مسلم: " إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة ".
وأخرج مسلم من حديث البراء بن عازب، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الفضة؛ فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة.
وأخرج أحمد، وابن ماجه من حديث عائشة نحو حديث أم سلمة.
قلت: الجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف، وعليه أهل العلم.
وفي حكمها الذهب.
ورخص الشافعي في تضبيب الإناء بقليل من الفضة عند الحاجة؛ لحديث أنس: أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب (1) سلسلة من فضة.
قال الشيخ محيي الدين بن إبراهيم النحاس في " تنبيه الغافلين ":
" ومنها استعمال أواني الذهب والفضة للرجال والنساء في الأكل، والشرب، والادهان، والاكتحال، ونحو ذلك.
وكذا قال الشيخ شمس الدين ابن القيم وغيره.
ولا فرق بين أن تكون الآنية كبيرة؛ كالصحن، والزبدية ونحوهما، أو صغيرة؛ كالمكحلة، والميل، والإبرة، ونحوها.
وكما يحرم استعمال أواني الذهب والفضة يحرم اتخاذها لغير استعمال على الرجال، والنساء، ويحرم على الصائغ عملها.
__________
(1) هو الصدع والشق.(3/104)
ومن قدم إليه طعام في آنية ذهب، أو فضة، ولم يستطع الإنكار؛ فطريقه أن يأخذ الطعام من الآنية، ويضعه في وعاء آخر، أو على الخبز، أو في يده الشمال، ثم يأكل منه؛ لأن ذلك ليس بأكل فيها، وكذلك إذا أراد الاكتحال من كحل في مكحلة فضة؛ أفرغ منه في شيء ثم اكتحل منه، والله تعالى أعلم ". اه.
( [حكم استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب] :)
أقول: استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب فيها؛ لم يرد ما يدل على المنع منه، ولم يثبت إلا المنع من الأكل والشرب فيها فقط.
ومن زعم تحريم غيرهما؛ لم يقبل إلا بدليل؛ لأن الأصل الحل، فلا ينقل عنه إلا بناقل.
وأما التحلي بهما؛ فلم يرد ما يمنع من ذلك إلا في الذهب (1) .
__________
(1) • كأنه يشير إلى حديث: " الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، حل لأناثها "؛ أخرجه الطحاوي (2 / 345 - 346) ، ورجاله كلهم ثقات؛ غير هشام بن أبي رقية، ترجمه ابن أبي حاتم (2 / 457) ؛ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقد ذكره في " التعجيل " برواية جماعة من الثقات عنه، ثم قال: " وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ".
قلت: فمثله حديثه حسن؛ بل صحيح في الشواهد؛ وهذا منه؛ فإن له شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة، ساقها الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 222 - 325) ، وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من علة؛ فمجموعها يدل على أن للحديث أصلا، سيما وقد صحح بعضها الترمذي، والحاكم، وغيرهما.
والحديث عزاه الحافظ (10 / 243) لأحمد، والطحاوي، وصححه.
وعزوه لأحمد بهذا اللفظ خطأ؛ فإنه إنما رواه من الطريق المذكور بلفظ آخر؛ انظر (4 / 156) من " المسند ". (ن)(3/105)
وأما الفضة؛ فلم يرد شيء؛ بل قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالفضة؛ فالعبوا بها كيف شئتم (1) ".
هذا خلاصة ما ينبغي القول به في الاستعمال والتحلي، وللماتن - رحمه الله تعالى - أبحاث جليلة المقدار راجحة الأنظار في ذلك، فلتراجع.
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في " سننه " في (باب ما جاء في الذهب للنساء) عن أبي هريرة مطولا، وهذا بعضه. (ش)(3/106)
(الكتاب الخامس عشر: كتاب اللباس)(3/107)
(15 - كتاب اللباس)
( [دليل وجوب ستر العورة في الملإ والخلاء] :)
(ستر العورة واجب في الملأ والخلاء) ؛ لحديث حكيم بن حزام، عن أبيه، عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه - (1) ، قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها؟ وما نذر؟ فقال: " احفظ عورتك؛ إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها "، فقلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: " فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه " (2) .
__________
(1) • ووافقه الذهبي في " تلخيصه " ل " المستدرك " (4 / 180) . (ن)
(2) • ظاهره يدل على وجوب ستر العورة في الخلوة، وفيه خلاف؛ وقد حمله الشافعية على الندب.
قال المناوي: " وممن وافقهم ابن جرير، فأول الخبر في " الآثار " على الندب، قال: لأن الله - تعالى - لا يغيب عنه شيء من خلقه؛ عراة أو غير عراة ".
وإلى هذا ذهب البخاري؛ حيث قال: " باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، ومن تستر؛ فالستر أفضل ".
ثم ساق هذا الحديث معلقا، وحديث أبي هريرة مسندا في اغتسال موسى وأيوب - عليهما السلام - في الخلاء عريانين.
قال الحافظ: " ووجه الدلالة منه على ما قال ابن بطال؛ أنهما ممن أمرنا بالاقتداء بهما، وهذا إنما يأتي على رأي من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، والذي يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قص القصتين ولم يتعقب شيئا منهما، فدل على موافقتهما؛ وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق؛ لبينه، فعلى هذا يجمع بين الحديثين بحمل حديث بهز على الأفضل، وإليه أشار في الترجمة، ورجح بعض الشافعية تحريمه، والمشهور عند متقدميهم - كغيرهم - الكراهة ". (ن)(3/109)
وقد اختلف أهل العلم في حد العورة، وكذلك اختلفت الأدلة، وقد استوفاها الماتن في " شرح المنتقى ".
( [حكم لباس الحرير للذكور والإناث] :)
(ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير) ؛ لحديث عمر في " الصحيحين "، وغيرهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ".
وفيهما نحوه من حديث أنس.
وفيهما - وغيرهما - من حديث ابن عمر: أنه رأى عمر حلة من إستبرق، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ابتع هذه فتجمل بها للعيد وللوفود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما هذه لباس من لا خلاق له ".
وأخرج أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه من حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها "، وفي إسناده سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى، قال أبو حاتم: إنه لم يلقه.
وقد صححه (1) أيضا ابن حزم.
وروي من حديث علي عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله
__________
(1) وهو الصواب؛ فانظر " إرواء الغليل " (277) .(3/110)
في شماله، ثم قال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي "، زاد ابن ماجه: " حل لإناثهم "، وهو حديث حسن.
وأخرج البيهقي بإسناد حسن نحوه.
وأخرج البزار من حديث عمرو بن جرير البجلي (1) نحوه أيضا، وفي إسناده قيس بن أبي حازم.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذكر المهدي في " البحر " أنه مجمع على تحريم الحرير للرجال، وقال فيه: إنه خالف في ذلك ابن علية.
وانعقد الإجماع بعده على التحريم.
وقال القاضي عياض: إنه حكي عن قوم إباحته.
وقال أبو داود: إنه لبس الحرير عشرون نفسا من الصحابة.
( [الخلاف في جواز لبس الحرير المشوب] :)
__________
(1) هنا خطأ غريب؛ فإن عبارة " نيل الأوطار " نصها: " وعن عمر - يعني: في الباب - عند البزار والطبراني، وفيه عمرو بن جرير البجلي؛ قال البزار: لين الحديث ".
وهذا هو الصواب؛ لأنه ليس في الصحابة من اسمه عمرو بن جرير البجلي؛ بل عمرو بن جرير أبو سعيد البجلي؛ يروي عن إسماعيل بن أبي خالد؛ كذبه أبو حاتم، وقال الدارقطني: متروك الحديث، وله ترجمة في " لسان الميزان " (ج 4: ص 358) .
وقيس بن أبي حازم - الذي أعل به الشارح الحديث اعتباطا -؛ تابعي جليل ثقة إمام، روى له الشيخان وغيرهما. (ش)(3/111)
وقد اختلف أهل العلم في الحرير المشوب بغيره.
واستدل المانعون من لبسه بما ورد من منعه صلى الله عليه وسلم للبس حلة السيراء؛ كما في " الصحيحين " من حديث علي، ولكنه قد وقع الخلاف في تفسير حلة السيراء ما هي؟
فقيل: إنها ذات الخطوط، وقيل: المختلفة الألوان.
وهذان التفسيران لا يدلان على مطلوب من استدل بذلك على المنع من لبس المشوب؛ على أنه قد قيل: إنه الحرير المحض.
واستدل من لم يقل بتحريم المشوب - بل حرم الخالص فقط - بمثل حديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود، قال:
" إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز "، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وفيه ضعف (1) .
والمصمت بضم الميم الأولى، وفتح الثانية المخففة؛ وهو: الذي جميعه حرير لا يخالطه قطن ولا غيره.
وهذا البحث طويل الذيول.
__________
(1) • لكن تابعه عكرمة بن خالد - وهو ثقة - عند أحمد (رقم 2858) ، وعنه الحاكم (4 / 192) ؛ وقال: " صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري فقط، وصححه أيضا الحافظ في " الفتح " (10 / 242) ، قال:
" وأخرجه الطبراني بسند حسن؛ بلفظ: إنما نهى رسول الله عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب؛ فلا بأس به ". (ن)(3/112)
أقول: مسألة تحريم مشوب الحرير من المعارك التي تحتمل البسط.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" وقد طالت المراجعة فيها بيني وبين شيخي المجتهد المطلق السيد عبد القادر بن أحمد الكوكباني - رحمه الله - أيام قراءتي عليه، فكان جميع ما حرره وحررته نحو سبع رسائل، وقد لخصت ما ظهر لي في المسألة في " شرح المنتقى " باختصار، فليرجع إليه ".
قلت: وحاصله ترجيح التحريم؛ كما قررته في " هداية السائل إلى أدلة المسائل "؛ فليراجع.
قال في " المسوي ":
" الحلة السيراء: التي فيها خطوط كالسيور، وهي برود من الحرير، أو الغالب فيها الحرير، والقسي: ثياب مضلعة من الحرير؛ أي: منقوشة بصورة الضلاع (1) وأشباهه، قيل: نسبة إلى قس قرية بساحل البحر، وقيل: إلى القز بالزاي، فأبدل من الزاي السين.
وعلى هذا أهل العلم أن الحرير حرام على الرجال دون النساء، ويرخص في موضع إصبع، أو إصبعين، أو ثلاث، أو أربع من أعلام الحرير، ورخص بعضهم في لبسه لأجل الحكة والقمل ". اه.
وفي حديث علي عند مالك: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي،
__________
(1) • كذا! والصواب: " الأضلاع "، ففي " النهاية ": " القسية ... ثياب مضلعة فيها حرير؛ أي: فيها خطوط عريضة كالأضلاع ". (ن)(3/113)
وعليه أهل العلم.
وفي " الأنوار ": " يجوز لبس الكتان والقطن والصوف والخز وإن كانت نفيسة ".
(إذا كان فوق أربع أصابع) ؛ لحديث عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [أصبعيه] (1) الوسطى والسبابة وضمهما.
وفي لفظ لمسلم وغيره: نهى عن لبس الحرير؛ إلا موضع أصبعين، أو ثلاثة أو أربعة (2) .
قال في " الحجة البالغة ":
" لأنه ليس من باب اللباس، وربما تقع الحاجة إلى ذلك، ونهى عن لبس الحرير والديباج والقسي والمياثر والأرجوان ". اه.
( [جواز لبس الحرير للرجال بقصد التداوي] :)
(إلا للتداوي) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما.
__________
(1) • كذا في " مسلم " (6 / 140) ، واللفظ له. (ن)
(2) • و " أو " هنا للتنويع والتخيير؛ فقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه؛ بلفظ: " إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا - يعني: إصبعين، وثلاثا، وأربعا - "، وعند النسائي بلفظ: لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربع أصابع.
كذا في " الفتح " (10 / 236) . (ن)(3/114)
قال في " الحجة البالغة ":
" لأنه لم يقصد حينئذ به الإرفاه، وإنما قصد به الاستشفاء ".
( [حكم افتراش الحرير] :)
(ولا يفترشه) - أي: الحرير - لحديث حذيفة عند البخاري، قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه، وقال: " هو لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة ".
وفي معنى ذلك أحاديث، وهذا نص في محل النزاع.
وأما الاسترواح بالقياس على جواز افتراش ما فيه تصاوير؛ فقياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.
قال ابن القيم:
" ولم لم يأت هذا النص؛ لكان النهي عن لبسه متناولا لافتراشه؛ كما هو متناول للالتحاف به، وذلك لبس لغة وشرعا؛ كما قال أنس: قمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس.
ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي؛ لكان القياس المحض موجبا لتحريمه؛ إما قياس المثل؛ أو قياس الأولى.
فقد دل على تحريم الافتراش النص الخاص، واللفظ العام، والقياس الصحيح.
ولا يجوز رد ذلك كله بالمتشابه من قوله - تعالى -: {خلق لكم ما في(3/115)
الأرض جميعا} ، ومن القياس على ما إذا كان الحرير بطانة الفراش دون ظهارته؛ فإن الحكم في ذلك التحريم على أصح القولين، والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها؛ كحشو الفراش.
فإن صح الفرق بطل القياس، وإن بطل الفرق منع الحكم.
وقد تمسك بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء؛ فحرموه على الرجال والنساء، وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي، وقابلهم من أباحه بنوعين.
والصواب التفصيل؛ وأن من أبيح له لبسه أبيح له افتراشه، ومن حرم عليه حرم عليه، وهذا قول الأكثرين، وهي طريقة العراقيين من الشافعية ". اه.
وفي " تنبيه الغافلين ":
" الجلوس على الحرير والالتحاف به حرام على الرجال.
وصحح الرافعي تحريم افتراشه على النساء.
وخالفه النووي في ذلك.
وحكى ابن الرفعة عن بعض العلماء أنه لا ينعقد النكاح بحضور الجالس على الحرير، واستبعد.
وحكم القز (1) في التحريم حكم الحرير على الأصح، إذا كان على صبي
__________
(1) • هي " القسي " - بفتح القاف وتشديد المهملة -؛ وهو الحرير؛ نسبته إلى " قس ": بلد على ساحل مصر من جهة الشام، كما في " الفتح ". (ن)(3/116)
غير بالغ ثوب حرير؛ قال الغزالي:
" الصحيح أن ذلك منكر يجب نزعه عنه إن كان مميزا؛ بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " هذان حرامان على ذكور أمتي ".
وكما يجب منع الصبي عن شرب الخمر؛ لا لكونه مكلفا؛ ولكن لكونه يأنس به، فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه، كذلك شهوة التزين بالحرير.
وأما الصبي الذي لا تمييز له؛ فيضعف - يعني: التحريم - في حقه، ولا تخلو عن احتمال، والعلم فيه عند الله تعالى ". هذا كلام الغزالي.
وصحح النووي الجواز مطلقا، والله - تعالى - أعلم ". اه.
وروي عن ابن عباس، وأنس: أنه يجوز افتراش الحرير، وإليه ذهب الحنفية، واستدل لهم بأن افتراش الحرير إهانة، وليس هذا مما يستدل به على المسائل الشرعية على فرض عدم المعارض؛ فكيف وقد عارضه الدليل الصحيح الصريح؟ !
( [لبس الثوب المعصفر حرام] :)
(ولا المصبوغ بالعصفر) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو عند مسلم وغيره، قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ ثوبين معصفرين، فقال: " إن هذه من ثياب الكفار؛ فلا تلبسها ".
وأخرج مسلم، وغيره - أيضا - من حديث علي، قال: " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي،(3/117)
وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر ".
وفي الباب أحاديث.
والعصفر يصبغ الثوب صبغا أحمر على هيئة مخصوصة، فلا يعارضه ما ورد في لبس مطلق الأحمر؛ كما في " الصحيحين " من حديث البراء، قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه ".
وفي الباب أحاديث؛ يجمع بينها بأن الممنوع منه هو الأحمر الذي صبغ بالعصفر، والمباح هو الأحمر الذي لم يصبغ به (1) .
( [لبس ثوب الشهرة حرام] :)
(ولا ثوب شهرة) ؛ لحديث ابن عمر:
" من لبس ثوب شهرة في الدنيا؛ ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ورجال إسناده ثقات (2) .
والمراد به الثوب الذي يشهر لابسه بين الناس، ويلحق بالثوب غيره من
__________
(1) • هذا هو الصواب؛ خلافا لقول ابن القيم في " الزاد " (1 / 172) : " والذي يقوم عليه الدليل؛ تحريم لباس الأحمر، أو كراهيته كراهية شديدة ".
على أني أقول: إن النهي عن المصبوغ بالعصفر معلل في حديث ابن عمر بأنه من ثياب الكفار؛ وبانتفاء العلة ينتفي المعلول، والله أعلم. (ن)
(2) • وسنده حسن، كما بينته في " حجاب المرأة المسلمة " (ص 88) (ن) .(3/118)
الملبوس ونحوه مما يشهر به اللابس له لوجود العلة.
( [لبس ثوب الرجل للمرأة حرام، والعكس] :)
(ولا ما يختص بالنساء، ولا العكس) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي (1) : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبس الرجل ".
وفي " صحيح البخاري "، وغيره من حديث ابن عباس، قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء ".
وفي الباب أحاديث.
( [التحلي بالذهب للرجل حرام] :)
(ويحرم على الرجال التحلي بالذهب لا بغيره) ؛ لما تقدم من الأحاديث الواردة في تحريم الذهب، وهو لا يكون إلا حلية؛ إذ لا يمكن لبسه.
وأما ما يخلط في بعض الثياب بالحرير أو بغيره، فهو فضة لا ذهب، وإن سماه الناس ذهبا.
ومن الأدلة على ذلك ما ورد في المنع من خاتم الذهب، وما ورد فيمن حلى حبيبا له ولو بخربصيصة (2) .
__________
(1) • وصححه الحاكم (4 / 194) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي؛ فأصابا. (ن)
(2) الخربصيصة - بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الراء، وفتح الباء، وصادين مهملتين بينهما ياء مثناة -: هي الهنة تتراءى في الرمل، لها بصيص كأنها عين جرادة.
والمراد هنا: الشيء الحقير من الحلي.
وقع في " الأصل " بالجيم بدل الخاء؛ وهو خطأ. (ش)(3/119)
وقد جمع الماتن رسالة مستقلة في تحريم التحلي بقليل الذهب وكثيره.
وجمع أيضا رسالة مستقلة في تحلي النساء بالذهب، وهل يجوز ذلك أم لا؟ فليرجع إليهما.
قال المجد في " القاموس ": " خربصيصة؛ أي: شيء من الحلي "، ونحوه في " تاج اللغات ".
وفي " نهاية الحديث ": " الخربصيصة: الهنة التي تتراءى في الرمل، لها بصيص كأنها عين جرادة.
قال في " الحجة البالغة ": " ومن تلك الرؤوس الحلي المترفة وهنا أصلان:
أحدهما: أن الذهب هو الذي يفاخر به العجم، ويفضي جريان الرسم بالتحلي به إلى الإكثار من طلب الدنيا - دون الفضة -، ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب وقال: " ولكن عليكم بالفضة؛ فالعبوا بها " (1) .
والثاني: أن النساء أحوج إلى التزين ليرغب فيهن أزواجهن، ولذلك جرت عادة العرب والعجم جميعا بأن يكون تزينهن أكثر من تزينهم، فوجب أن يرخص لهن أكثر مما يرخص لهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها ".
وقال صلى الله عليه وسلم في خاتم ذهب في يد رجل: " يعمد أحدكم إلى جمر من نار فيجعله في يده "، ورخص عليه السلام في خاتم الفضة؛ لا سيما لذي
__________
(1) • هو تمام الحديث الآتي: " من أحب ... "؛ وسنده صحيح، كما قال المنذري (2 / 273) . (ن)(3/120)
سلطان، وقال: " ولا تتمه مثقالا " (1) ؛ ونهى النساء عن غير المقطع من الذهب، وهو ما كان قطعة واحدة كبيرة، قال: " من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه من ذهب ".
وذكر على هذا الأسلوب الطوق والسوار.
وكذا جاء التصريح بقلادة من ذهب، وسلسلة من ذهب، وبين المعنى في هذا الحكم حيث قال: " أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به " (2) .
وكان لأم سلمة أوضاح (3) من ذهب، والظاهر أنها كانت مقطعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أحل الذهب للإناث "؛ معناه: الحل في الجملة.
هذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث، ولم أجد لها معارضا.
ومذهب الفقهاء في ذلك معلوم ومشهور، وهو التحليل مطلقا بلا فرق بين المقطع وغيره، والله - تعالى - أعلم بحقيقة الحال ".
__________
(1) • ولكنه حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وأحمد، واستغربه الترمذي؛ لأن فيه أبا طيبة المروزي؛ وهو ضعيف. (ن)
(2) • رواه أبو داود، والنسائي؛ عن ربعي بن خراش، عن امرأته، عن أخت لحذيفة؛ مرفوعا: " يا معشر النساء {ما لكن في الفضة ما تحلين به؟} أما إنه ... . ".
وامرأة ربعي مجهولة؛ فالحديث ضعيف. (ن)
قلت: وانظر " آداب الزفاف " (ص 259) لشيخنا.
(3) • الأوضاح؛ قال في " النهاية ": " هي نوع من الحلي يعمل من الفضة، سميت بها لبياضها، واحدها وضح ".
فلعل تسميتها هنا أوضاحا؛ مع أنها من الذهب؛ للمعانها! (ن)(3/121)
( [حكم التختم باليمين، واليسار، والسبابة، والوسطى] :)
أقول: وأما التختم؛ فقد أخرج أبو داود من حديث عمر، والنسائي من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يتختم في يساره.
وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث علي، والترمذي، والنسائي - أيضا - من حديث أبي رافع، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتختم في يمينه ".
فالكل جائز بدون كراهة، ولم يرد النهي إلا عن التختم في السبابة والوسطى؛ كما أخرجه مسلم، وأهل " السنن " من حديث علي بلفظ: نهائي أن أجعل الخاتم في هذه أو في التي تليها، وأشار إلى السبابة.(3/122)
(الكتاب السادس عشر: كتاب الأضحية)(3/123)
(16 - كتاب الأضحية)
( [الباب الأول: أحكام الأضحية] )
( [مشروعية الأضحية] :)
(تشرع لأهل كل بيت) ؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري، قال: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، أخرجه ابن ماجه، والترمذي - وصححه - (1) .
وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث أبي سريحة (2) بإسناد صحيح.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث مخنف (3) بن سليم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" يا أيها الناس! على كل أهل بيت في كل عام أضحية " (4) .
__________
(1) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم. (ن)
(2) • في الأصل: (شريحة) ؛ بالشين المعجمة؛ والصواب: (سريحة) ؛ بالسين المهملة المفتوحة، بعدها راء مكسورة.
وحديثه هذا؛ صححه الحاكم (4 / 228) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)
(3) بكسر الميم، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح النون.
ووقع في الأصل بالحاء المهملة؛ وهو خطأ. (ش)
(4) حديث حسن؛ انظر " صحيح سنن ابن ماجه " (2 / 200) .(3/125)
وفي إسناده أبو رملة، واسمه عامر؛ قال الخطابي: مجهول.
( [حكم الأضحية] :)
وقد اختلف في وجوب الأضحية، فذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة، وبه قال مالك، وقال: لا أحب لأحد ممن قوي على ثمنها أن يتركها، وعليه الشافعي.
وذهب ربيعة، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والليث، - وبعض المالكية - إلى أنها واجبة على الموسر، وحكي عن مالك، والنخعي.
وتمسك القائلون بالوجوب بمثل حديث: " على كل أهل بيت أضحية " المتقدم، وبمثل حديث أبي هريرة عند أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم - وقال ابن حجر في " الفتح ": " رجاله ثقات؛ لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب؛ قاله الطحاوي وغيره (1) - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من وجد سعة فلم يضح؛ فلا يقربن مصلانا ".
ومن أدلة الموجبين: قوله - تعالى - {فصل لربك وانحر} ، والأمر للوجوب.
وقد قيل: إن المراد تخصيص الرب بالنحر لا للأصنام، ومن ذلك حديث جندب بن سفيان البجلي في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول
__________
(1) • قلت: قد رواه مرفوعا غير واحد من الثقات؛ كما بينته في " التعليق على الترغيب "؛ فهو صحيح مرفوعا وموقوفا. (ن)(3/126)
الله - صلى الله عليه وسلم -:
" من كان ذبح قبل أن يصلي؛ فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا؛ فليذبح باسم الله ".
ومن حديث جابر نحوه.
وجعل الجمهور حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى عمن لم يضح من أمته بكبش - كما في حديث جابر عند أحمد (1) ، وأبي داود، والترمذي، وأخرج نحوه أحمد، والطبراني، والبزار من حديث أبي رافع بإسناد حسن (2) - قرينة صارفة لما تفيده أدلة الموجبين.
ولا يخفى أنه يمكن الجمع بأنه ضحى عن غير الواجدين من أمته؛ كما يفيده قوله: " من لم يضح من أمته "، مع قوله: " على كل أهل بيت أضحية ".
وأما مثل حديث: " أمرت بالأضحى ولم يكتب عليكم " ونحوه؛ فلا تقوم بذلك الحجة؛ لأن في أسانيدها من رمي بالكذب ومن هو ضعيف بمرة.
__________
(1) • في " المسند " (3 / 375) ؛ عن أبي عياش، عن جابر.
وأبو عياش - هذا - لم يوثقه أحد؛ فهو مجهول. (ن)
(2) • كلا؛ بل هو ضعيف، فيه علة خفية؛ وهي أن الحديث من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين، عن أبي رافع؛ كذا أخرجه أحمد (6 / 8، 391، 392) .
وابن عقيل - هذا - مختلف فيه، وقد اختلف عليه في إسناده، كما بينه الحافظ في " الفتح " (10 / 7 - 8) .
وعلي بن الحسين إنما أدرك من حياة أبي رافع نحو ثلاث سنوات؛ فيبعد أن يكن سمع الحديث منه وحفظه. (ن)
قلت: وآخر ما وصل إليه شيخنا فيه: أنه صحيح، كما تراه مفصلا في " الإرواء " (1138) .(3/127)
( [الشاة تجزئ عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة] :)
(وأقلها شاة) ؛ لما تقدم.
وقال المحلي: " البعير والبقرة تجزئ عن سبعة، والشاة تجزئ عن الواحد.
وإن كان له أهل بيت حصلت بجميعهم، وكذا يقال في كل واحد من السبعة؛ يعني: المشتركين في البدنة والبقرة.
فالتضحية سنة كفاية لكل أهل بيت، وسنة عين لمن ليس له بيت.
وعند الحنفية: الشاة لا تجزئ إلا عن واحد، والبقرة والبدنة لا تجزئان إلا عن سبعة سبعة.
ولم يفرقوا بين أهل البيت وغيره.
وتأويل الحديث عندهم أن الأضحية لا تجب إلى على غني، ولم يكن الغني في ذلك الزمان غالبا إلا صاحب البيت، ونسبت إلى أهل بيته على معنى أنهم يساعدونه في التضحية، ويأكلون لحمها، وينتفعون بها.
ويصح اشتراك سبعة في بدنة أو بقرة، وإن كانوا أهل بيوت شتى، وهو قول العلماء، وقاسوا الأضحية على الهدي، ولا أضحية عن الجنين، وهو قول العلماء ".
( [بيان وقت الأضحية] :)
(ووقتها بعد صلاة عيد النحر) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
" من كان ذبح قبل أن نصلي؛ فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا؛ فليذبح باسم الله "، وهو في " الصحيحين " - كما تقدم قريبا -.(3/128)
وفي " الصحيحين " من حديث أنس عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ".
قال ابن القيم: " ولا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سأله أبو بردة بن نيار عن شاة ذبحها يوم العيد؟ فقال: " أقبل الصلاة؟ "، قال: نعم، قال: " تلك شاة لحم " الحديث.
قال: وهو صحيح صريح في أن الذبح قبل الصلاة لا يجزئ؛ سواء دخل وقتها؛ أو لم يدخل، وهذا الذي ندين الله به قطعا، ولا يجوز غيره ". اه.
وفي الباب أحاديث، وفيه التصريح بأن المعتبر صلاة الإمام.
ويمتد (إلى آخر أيام التشريق) ؛ لحديث جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " كل أيام التشريق ذبح "، أخرجه أحمد، وابن حبان في " صحيحيه "، والبيهقي، وله طرق يقوي بعضها بعضا (1) .
وقد روي أيضا من حديث جابر، وغيره.
وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة، ومن بعدهم.
والخلاف في المسألة معروف.
وفي " الموطأ " عن ابن عمر: الأضحى يومان بعد يوم الأضحى، ومثل ذلك عن علي بن أبي طالب (2) ، وعليه الحنفية.
__________
(1) • أحدها حسن الإسناد؛ عند الدارقطني، كما بينته في " التعليقات الجياد ". (ن)
(2) • الذي نقله ابن القيم في " الزاد " عن علي بلفظ: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده؛ وجزم بنسبته إليه.
وهذا خلاف ما عزاه المصنف إلى علي. (ن)(3/129)
ومذهب الشافعية: أنه يمتد وقته إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق؛ لحديث الحاكم الدال على ذلك.
( [أفضل الأضحية] :)
(وأفضلها) أي: الضحايا (أسمنها) ؛ لحديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين ... الحديث، وهو عند أحمد وغيره بإسناد حسن (1) .
وأخرج البخاري من حديث أبي أمامة بن سهل، قال: " كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون ".
أقول: الحق أن أفضل الأضحية الكبش الأقرن؛ كما ورد الحديث بذلك عن عبادة بن الصامت عند أبي داود (2) ، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي مرفوعا بلفظ: " خير الأضحية الكبش الأقرن ".
وأخرجه أيضا الترمذي.
وأخرجه أيضا ابن ماجه، والبيهقي، من حديث أبي أمامة، وفي إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف.
__________
(1) • فيه نظر؛ فإنه في " المسند " (6 / 392) ؛ عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين، عن أبي رافع؛ وقد سبق قريبا بيان ما فيه من الوهن. (ن)
(2) • وفي سنده حاتم بن أبي نصر؛ وهو مجهول.
وعفير بن معدان؛ إنما هو في سند حديث أبي أمامة فقط؛ وهو واه كما قال المنذري في " الترغيب " (2 / 103) . (ن)(3/130)
والأضحية هي غير الهدي، وقد ورد النص فيها، فوجب تقديمه على القياس.
وحديث الكبش الأقرن نص في محل النزاع، فإن كان خاصا بالفحل فظاهر، وإن كان شاملا له وللخصي؛ فالأفضلية لا تختص بالخصي، وتضحية النبي صلى الله عليه وسلم بالخصي لا تستلزم أن يكون أفضل من غيره؛ بل غاية ما هناك أن الخصي يجزئ.
( [يجزئ في الأضحية جذع من الضأن] :)
(ولا يجزئ ما دون الجذع من الضأن) ؛ لحديث جابر عند مسلم، وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تذبحوا إلا مسنة؛ إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " (1) .
وأخرج أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نعم - أو: نعمت - الأضحية الجذع من الضأن (1) " وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجوز الجذع من الضأن ضحية " (1) .
وفي " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر، قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحايا بين أصحابه، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله! أصابني جذع؟ فقال: " ضح به ".
__________
(1) هذه أحاديث ضعيفة؛ تجد الكلام عليها مفصلا في " السلسلة الضعيفة " (64 - 65) .(3/131)
وقد ذهب إلى أنه يجزئ الجذع من الضأن الجمهور.
ومن زعم أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد، أو عن ثلاثة فقط، أو زعم أن غيرها أفضل منها؛ فعليه الدليل.
ولا يفيده ما ورد في الهدي، فذلك باب آخر.
( [يجزئ في الأضحية ثني من المعز] :)
(و) لا يجزئ دون (الثني من المعز) ، وهو ما استكمل سنتين، وطعن في الثالثة؛ لحديث أبي بردة في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال: يا رسول الله! إن عندي داجنا جذعة من المعز؟ فقال: " اذبحها؛ ولا تصلح لغيرك ".
وأما ما روي في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عقبة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ضح به أنت ".
والعتود من ولد المعز: ما أتى عليه حول؛ فقد أخرج البيهقي عنه بإسناد صحيح، أنه قال: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنما أقسمها ضحايا بين أصحابي، فبقي عتود منها؟ فقال: " ضح به أنت، ولا رخصة لأحد فيه بعدك " (1) .
وقد حكى النووي الاتفاق على أنه لا يجزئ الجذع من المعز.
قلت: اتفقوا على أنه لا يجوز من الإبل والبقر والمعز دون الثني.
والجذع من الضأن يجزئ عندهم.
__________
(1) انظر " إرواء الغليل " (1144) .(3/132)
ولا تجزئ مقطوعة الأذن؛ إلا أن أبا حنيفة قال: إن كان المقطوع أقل من النصف؛ فيجوز.
( [الأضحية التي لا تجزئ] :)
(ولا الأعور والمريض والأعرج والأعجف (1) وأعضب القرن والأذن (2)) ؛ لحديث البراء عند أحمد، وأهل " السنن "، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها (3) ، والكسير التي لا تنقي (4) ؛ أي: التي لا مخ لها.
__________
(1) الأعجف: الهزيل، وشاة عجفاء: هزيلة؛ وجمع الأعجف: عجاف؛ على غير قياس. (ش)
(2) هو ما ذهب نصف قرنه أو أذنه. (ش)
(3) الضلع - بفتح الضاد واللام -: الميل والاعوجاج.
قلت: هذا كلام صحيح بالجملة؛ أن الضلع - بفتح الضاد المعجمة واللام - هو الميل؛ وهو الذي ذكره ابن الأثير في " النهاية " (3 / 96) .
لكن. . نص ابن الأثير نفسه (3 / 158) على أن الرواية؛ (الظلع) ؛ بفتح الظاء المعجمة، بعدها لام ساكنة، فقال تحت (باب الظاء مع اللام) :
" الظلع - بالسكون -: العرج. . "، ثم قال:
" ومنه حديث الأضاحي: (ولا العرجاء البين ظلعها ". (ش)
(4) الكسير؛ فعيل بمعنى مفعول - وفي " الأصل ": الكسيرة بالهاء، وهو خطأ -: هي المنكسرة الرجل التي لا تقدر على المشي.
ومعنى " لا تنقي " - بضم التاء، وإسكان النون، وكسر القاف -: أنها لا نقي - بكسر النون، وإسكان القاف - لها.
والنقي: المخ. (ش)(3/133)
وقد وقع في رواية: العجفاء، بدل: الكسيرة.
وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث علي، قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي بأعضب القرن والأذن "، قال قتادة: العضب: النصف فأكثر من ذلك.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، والبخاري في " تاريخه " (1) قال:
" إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسيرة، فالمصفرة: التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة: التي ذهب قرنها من أصله، والبخقاء: التي تبخق عينها (2) ، والمشيعة: التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا، والكسيرة: التي لا تنقي "، وهذا التفسير هو أصل الرواية.
وفي الباب أحاديث.
وأما مسلوبة الألية؛ فأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي من حديث أبي سعيد، قال: اشتريت كبشا أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: " ضح به "، وفي إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف جدا.
__________
(1) يعني: من حديث عتبة بن عبد السلمي. (ش)
(2) قوله: " عينها "؛ قال في " القاموس ": " البخق - محركة -: أقبح العور وأكثره غمصا، أو أن لا يلتقي شفر عينه على حدقته.
بخق - كفرح ونصر -، والعين البخقاء والباخقة والبخيق والبخيقة: العوراء ". ا. هـ المراد منه. (ش)
قلت: والحديث ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1149) .(3/134)
( [كيف يوزع لحم الأضحية؟] :)
(ويتصدق منها ويأكل ويدخر) ؛ لحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلوا وادخروا وتصدقوا "، وهو في " الصحيحين ".
وفي الباب أحاديث.
( [مكان ذبح الأضحية:)
(والذبح في المصلى أفضل) إظهارا لشعائر الدين؛ لحديث ابن عمر عند البخاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يذبح وينحر بالمصلى.
( [ما يسن لمن أراد أن يضحي] :)
(ولا يأخذ من له أضحية من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي) ؛ لحديث أم سلمة عند مسلم، وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليسمك عن شعره وأظفاره ".
وفي لفظ لمسلم، وغيره - أيضا -: " من كان له ذبح يذبحه؛ فإذا أهل هلال ذي الحجة؛ فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي ".(3/135)
وقد اختلف العلماء في ذلك:
فذهب سعيد بن المسيب، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وداود، وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية.
وقال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه.
وحكى المهدي في " البحر " عن الشافعي وغيره: أن ترك الحلق والتقصير لمن أراد التضحية مستحب. وقال أبو حنيفة: لا يكره.(3/136)
(2 - باب الوليمة)
( [الفصل الأول: أحكام وليمة العرس] )
( [حكم الوليمة في العرس] :)
(هي مشروعة) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بعد عوف: " أوْلم ولو بشاة "، وقد أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على نسائه، فأولم على صفية بتمر وسويق؛ كما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان من حديث أنس.
وأخرج مسلم، وغيره من حديثه: " أنه جعل وليمتها التمر والأقط والسمن "، وهو في " الصحيحين " بنحو هذا.
وفيه التصريح بأنه ما كان فيها من خبز ولا لحم.
وفي " الصحيحين " أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أولم على شيء من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة.
وقد قال بوجوب وليمة العرس مالك، وقيل: إن المشهور عنه أنها مندوبة.(3/137)
وروي الوجوب عن أحمد، وبعض الشافعية، وأهل الظاهر، وهو الحق.
ولم يأت في الأحاديث ما يشعر بصرف الأوامر بالوليمة عن المعنى الحقيقي (1) .
وأما كونها بشاة فأكثر، فيمكن أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم صارفا للوجوب على فرض عدم الاختصاص به، ويمكن أن يكون الأمر بالشاة فما فوقها مقيدا بالتمكن من ذلك، فيكون واجبا مع التمكن.
وذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة.
( [حكم إجابة الداعي إلى وليمة العرس] :)
(ويجب الإجابة إليها) ، لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: " شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ".
وفيهما من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها ".
وفي لفظ لهما من حديثه: " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ".
وفي آخر لمسلم، وغيره من حديثه: " من دعي فلم يجب؛ فقد عصى الله ورسوله ".
__________
(1) وهذا هو الصواب - إن شاء الله -.(3/138)
وفي " مسلم "، وغيره من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك ".
وفي لفظ من حديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره:
" إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم ".
وقد نقل ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي الاتفاق على وجوب الإجابة إلى وليمة العرس.
قال في " الفتح ": وفيه نظر.
نعم؛ المشهور من أقوال العلماء الوجوب.
وصرح جمهور الشافعية، والحنابلة بأنها فرض عين، ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية، والحنابلة أنها مستحبة.
وحكى في " البحر " عن الشافعي أن الإجابة إلى وليمة العرس مستحبة كغيرها.
والأدلة المذكورة تدل على الوجوب؛ لا سيما بعد التصريح بأن من لم يجب فقد عصى الله ورسوله.
أقول: أحاديث الأمر بإجابة دعوة الوليمة معناها حقيقة الوجوب، مقيدة بعدم المانع من منكر، أو مباهاة، أو حضور الأغنياء فقط، أو نحو ذلك.
ولم يأت ما يدل على صرف تلك الأوامر عن معناها الحقيقي، ووقع(3/139)
الخلاف في إجابة دعوة غير العرس؛ هل تجب أم لا؟
فمن قال بالوجوب استدل بالرواية المطلقة المذكورة.
ومن قال بعدم الوجوب قال: المطلقة محمولة على المقيدة.
وقد أوضح الماتن ما هو الحق (1) في " شرح المنتقى ".
قال البغوي: " من كان له عذر؛ وكان الطريق بعيدا يلحقه المشقة؛ فلا بأس أن يتخلف ".
وفي " الأنوار ": " من شروط وجوب الإجابة إلى الوليمة أن يعم عشيرته، أو جيرانه، أو أهل حرفته؛ أغنياءهم وفقراءهم، فإن خص الأغنياء فلا يجب، ولو دعا أهل حرفته - وهم أغنياء - لزمتهم الإجابة ".
قال في " المسوى ": " في كونه شرطا لوجوب الإجابة نظر؛ لأن معنى كلام أبي هريرة إثبات الشرية لهذا الطعام بوجه من الوجوه، وإثبات المعصية لمن لم يأتها وذلك صادق بأن يكون تخصيص الأغنياء مكروها للداعي، ولا يكون مانعا لتأكد الإجابة ".
( [من يجيب إذا اجتمع الداعيان؟] :)
(ويقدم السابق ثم الأقرب بابا) ؛ لحديث حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن رجل من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) • وهو وجوب الإجابة؛ ومن الأدلة على ذلك؛ قوله صلى الله عليه وسلم: " من دعي إلى عرس أو نحوه؛ فليجب "؛ رواه مسلم، وأبو داود في رواية عن ابن عمر.
انظر " الشوكاني " (6 / 152 - 153) . (ن)(3/140)
" إذا اجتمع الداعيان؛ فأجب أقربهما بابا؛ فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا، وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وفي إسناده زيد (1) بن عبد الرحمن الدالاني، وقد وثقه أبو حاتم، وضعفه ابن حبان (2) .
وأخرج البخاري، وغيره من حديث عائشة: أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي جارين؛ فإلى أيهما أهدي؟ فقال: " إلى أقربهما منك بابا "، فهذا يشعر باعتبار القرب في الباب.
( [شروط وجوب إجابة الدعوة] :)
(ولا يجوز حضورها إذا اشتملت على معصية) ؛ لحديث علي عند ابن ماجه (3) بإسناد رجاله رجال الصحيح، قال: صنعت طعاما؛ فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء، فرأى في البيت تصاوير، فرجع.
وأخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مطعمين: عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل وهو منبطح على بطنه "، وفي إسناده انقطاع (4) .
__________
(1) • الصواب: " يزيد " كما في كتب الرجال، وهو مشهور بكنيته: أبو خالد. (ن)
(2) • وهذا هو الصواب؛ أنه ضعيف لكثره خطإه، ثم هو مدلس. (ن)
(3) • في " سننه " (2 / 323) ، وسنده صحيح.
وله عنده شاهد من حديث سفينة - رضي الله عنه -. (ن)
(4) • كذا قال! ولا أدري وجهه، بل لا معنى له؛ فإن الإسناد متصل؛ فإنه من طريق كثير بن هشام: ثنا جعفر بن برقان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
وقد سكت عنه أبو داود، وتبعه المنذري (5 / 353) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي. =(3/141)
وقد ورد النهي عن القعود على المائدة التي تدار عليها الخمر من حديث عمر عند أحمد بإسناد ضعيف (1) ، ومن حديث جابر عند الترمذي - وحسنه -.
وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، والترمذي، والحاكم من حديثه مرفوعا.
وفي الباب غير ذلك.
ويؤيده أدلة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر؛ ومن ذلك:
" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ".
وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
__________
= ثم رجعت إلى الشوكاني؛ فإذا به يقول (6 / 157) : " وهو من رواية جعفر بن برقان، عن الزهري؛ ولم يسمع منه ".
أقول: ولم أجد قبل الشوكاني من نفى سماعه من الزهري! بل ظاهر عبارات الأئمة أنه سمع منه، ولكنهم ضعفوا حديثه عنه خاصة، كما قال أحمد: " إذا حدث عن غير الزهري؛ فلا بأس به، وفي حديث الزهري يخطئ "؛ ونحوه عن ابن معين وغيره، وقال الحافظ في " التقريب ": " صدوق يهم في حديث الزهري "، وقال في " التهذيب ": " ومما أنكره العقيلي من حديثه عن الزهري حديث: " نهى عن مطعمين ... " الحديث ". (ن)
قلت: ثم حكم الشيخ في " الإرواء " (1982) بنكارة هذا الحديث؛ فانظره.
(1) • وهو كما قال، ولكن الحديث صحيح؛ لأن له طرقا كثيرة وشواهد أوردها المنذري في " الترغيب " (1 / 88 - 90) ، وقد تكلمت عليها في " التعليق الرغيب ".
ومن أقواها؛ حديث جابر المذكور؛ فقد صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ: " إسناده جيد "، وهو كما قالوا، لولا أن أبا الزبير رواه عن جابر بالعنعنة.
لكن رواه الترمذي من طريق ليث، عن طاوس، عن جابر؛ فهذه متابعة قوية؛ بيد أن ليثا - وهو ابن أبي سليم - فيه ضعف من قبل حفظه، فيصلح شاهدا للطريق الأول. (ن)(3/142)
( [الباب الثاني: أحكام العقيقة] )
( [حكم العقيقة] :)
(والعقيقة مستحبة) ، يدل على مشروعيتها حديث سلمان بن عامر الضبي عند البخاري، وغيره قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى ".
وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، وصححه الترمذي، والحاكم، وعبد الحق من حديث الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل غلام رهينة بعقيقته؛ يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه ".
وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا هذا الحديث (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
__________
(1) • ويشهد لسماعه لهذا الحديث عن سمرة ما ساقه النسائي (2 / 189) عقب هذا الحديث بسنده الصحيح، عن حبيب بن الشهيد؛ قال له محمد بن سيرين: سل الحسن ممن سمع حديثه في العقيقة؟ فسألته؟ فقال: سمعته من سمرة. فالحديث صحيح. (ن)(3/143)
العقيقة؟ فقال: " لا أحب العقوق "، وكأنه كره الاسم، فقالوا: يا رسول الله {إنما نسألك عن أحدنا يولد له؟ قال: " من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل؛ عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة ".
فكان هذا الحديث دليلا على أن الأحاديث الواردة في رهن الغلام بعقيقته ليست على الوجوب؛ بل للاستحباب فقط، ولو كان واجبا لم يكن مفوضا إلى الإرادة (1) ، ولما قال: لمن أحب أن ينسك.
والأولى في تفسير قوله: " مرتهن بعقيقته ": أن العقيقة لما كانت لازمة؛ شبهت - باعتبار لزومها للمولود - بالرهن باعتبار لزومه.
وقيل: إن معنى كونه مرهونا بعقيقته: أنه لا يسمى، ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها، وبه صرح صاحب " المشارق "، و " النهاية ".
وقال أحمد بن حنبل: " إن معناه: إذا مات وهو طفل ولم يعق عنه؛ لم يشفع لأبويه ".
قلت: العقيقة سنة عند أكثر أهل العلم؛ إلا عند أبي حنيفة؛ فإنه قال: ليست بسنة.
( [ما يذبح عن الغلام والبنت] :)
(وهي شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى) - وبذلك قال الشافعي - لحديث عمرو بن شعيب المذكور؛ ولحديث عائشة عند أحمد، والترمذي، وابن حبان، والبيهقي - وصححه الترمذي - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) قلت: ويرد عليه مثل قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} ؛ فليس كل ما فوض إلى الإرادة يكون دليلا على صرف الأوامر إلى الاستحباب؛ فافهم}(3/144)
" عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة ".
وأخرج نحوه أحمد، والنسائي، والترمذي، والحاكم، والدارقطني، وصححه الترمذي من حديث أم كرز الكعبية.
والمراد بقوله: " مكافأتان ": المستويتان أو المتقاربتان.
ولا يعارض هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه عبد الحق وابن دقيق العيد من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا؛ لأن الأحاديث المتقدمة متضمنة للزيادة، وهي أيضا خطاب مع الأمة، فلا يعارضها فعله صلى الله عليه وسلم؛ كما تقرر في الأصول، والزيادة مقبولة إذا كانت غير منافية.
فلا يكون الفاعل للعقيقة متسننا؛ إلا إذا ذبح عن الذكر شاتين لا شاة واحدة.
وقد وقع الإجماع على أن العقيقة عن الأنثى شاة.
وأما الذكر فذهب الجمهور إلى أن العقيقة عنه شاتان.
وقال مالك: شاة.
وقال المحلي: " يحصل أصل السنة في عقيقة الذكر بشاة وكمال السنة شاتان.
وقال الشافعي: العقيقة في الأكل والتصدق كالأضحية، ويسن طبخها، ولا يكسر عظمها ". اهـ.(3/145)
أقول: ليس على شيء مما ذكروه - من عدم الكسر، والفصل من المفاصل، وجميع العظام، ودفنها، وغير ذلك - دليل من كتاب ولا سنة، لا من عقل؛ بل هذه الأمور خيالات شبيهة بما يقع من النساء، ونحوهن من العوام؛ مما لا يعود على فاعله بنفع دنيوي ولا ديني.
( [وقت الذبح] :)
(يوم سابع المولود) ؛ لحديث سمرة المتقدم، ولأنه لا بد من فصل بين الولادة والعقيقة، فإن أهله مشغولون بإصلاح الوالدة والولد في أول الأمر، فلا يكلفون حينئذ بما يضاعف شغلهم.
وايضاً؛ فرب إنسان لا يجد شاة إلا بسعي، فلو سن كونها في أول يوم لضاق الأمر عليهم، والسبعة أيام مدة صالحة للفصل المعتد به غير الكثير.
( [وقت التسمية، وأحب الأسماء] :)
(وفيه يسمى) ، وأحب الأسماء إلى الله - تعالى - عبد الله وعبد الرحمن - كما في الحديث - لأنهما أشهر الأسماء، ولا يطلقان على غيره - تعالى -، بخلاف غيرهما، وأنت تستطيع أن تعلم من هذا سر استحباب تسمية المولود بمحمد وأحمد (1) .
فإن طوائف الناس أولعوا بتسمية أولادهم بأسماء أسلافهم المعظمين عندهم، وكان يكون ذلك تنويها بالدين، وبمنزلة الإقرار بأنه من أهله؛ وأصدق الأسماء همام، وحارث، وأخناها ملك الأملاك.
__________
(1) وحديث: " أحب الأسماء ما عبد وحمد ": فلا أصل له! ، انظر " الضعيفة " (408 - 411) .(3/146)
( [وقت الحلق، والأذان في أذن المولود] :)
(ويحلق رأسه) ، وإماطة الأذى للتشبيه بالحاج، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة (1) .
والسر فيه أن الأذان من شعائر الإسلام، وأعلام الدين المحمدي.
ومن خاصية الأذان أن الشيطان يفر منه، والشيطان يؤذي الولد في أول نشأته؛ حتى ورد في الحديث أن استهلاله لذلك (2) .
( [حكم التصدق بوزن شعر المولود ذهبا أو فضة] :)
(ويتصدق بوزنه ذهبا أو فضة) ؛ لأمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة الزهراء - عليها السلام - أن تحلق شعر رأس الحسن، وتصدق بوزنه من الورق. أخرجه أحمد، والبيهقي، وفي إسناده ابن عقيل، وفيه مقال (3) .
ويشهد له ما أخرجه مالك، وأبو داود في " المراسيل "، والبيهقي من حديث جعفر بن محمد - زاد البيهقي - عن أبيه عن جده: " أن فاطمة وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، فتصدقت بوزنه فضة ".
وأخرج الترمذي والحاكم من حديث علي، قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة، وقال:
__________
(1) ضعيف " الضعيفة " (321) .
(2) كما في " صحيح البخاري " (4274) .
(3) • والمتقرر فيه أنه حسن الحديث؛ إلا عند المخالفة.
ولحديثه شواهد ذكرها المؤلف؛ ترتقي بها إلى الصحة. (ن)(3/147)
" يا فاطمة! احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة "، فوزناه، فكان وزنه درهما أو بعض درهم.
وأخرج الطبراني في " الأوسط " عن ابن عباس، قال:
" سبعة من السنة في الصبي يوم السابع: يسمى، ويختن، ويماط عنه الأذى، ويثقب أذنه، ويعق عنه، ويحلق رأسه، ويلطخ بدم عقيقته، ويتصدق بوزنه ذهبا أو فضة "، وفي إسناده رواد بن الجراح، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات.
وفي لفظه ما ينكر؛ وهو ثقب الأذن، والتلطخ بدم العقيقة.
وقد أخرج أبو داود (1) ، والنسائي، بإسناد صحيح من حديث بريدة الأسلمي، قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة، ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام؛ كنا نذبح شاة، ونحلق رأسه، ونلطخه بزعفران.
وقد أخرج نحوه ابن حبان، وابن السكن، وصححاه من حديث عائشة.
وقد ذهب الظاهرية، والحسن البصري إلى وجوب (2) العقيقة، وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة، وقيل: إنها عنده تطوع.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 9) ؛ وهو صحيح، كما قال المؤلف. (ن)
(2) • وكذلك قال الليث بن سعد، كما قال في " الفتح " (9 / 482) ، قال:
" وقد جاء الوجوب أيضا عن أبي الزناد، وهي رواية عن أحمد ". (ن)(3/148)
(الكتاب السابع عشر: كتاب الطب)(3/149)
(17 - كتاب الطب)
وحقيقته: التمسك بطبائع الأدوية الحيوانية، والنباتية، أو المعدنية، والتصرف في الأخلاط نقصا وزيادة.
والقواعد الملية تصححه؛ إذ ليس فيه شائبة شرك، ولا فساد في الدين والدنيا؛ بل فيه نفع كثير، وجمع لشمل الناس.
( [مشروعية التداوي بالحلال] :)
(يجوز التداوي) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله ".
وأخرج البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:
" ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ".
وأخرج أحمد، وأبو داود (1) ، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -، وصححه أيضا ابن خزيمة، والحاكم من حديث أسامة: قالت الأعراب: يا رسول
__________
(1) • في " سننه " (2 / 150) ؛ وسنده صحيح. (ن)(3/151)
الله {ألا نتداوى؟ قال: " نعم عباد الله} تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء؛ إلا داء واحدا "، قالوا: يا رسول الله {وما هو؟ قال: " الهرم ".
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي (1) - وحسنه - من حديث أبي خزامة، قال: قلت: يا رسول الله} أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها؛ هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله ".
قلت: وعلى هذا اتفق المسلمون؛ لا يرون به بأسا.
( [التوكل مع الصبر أفضل] :)
(والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر) ؛ لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته امرأة سوداء، فقال: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك "، قالت: أصبر.
وفي " الصحيحين " أيضا من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) • في " السنن " (3 / 169) ؛ عن أبي خزامة، عن أبيه، ثم رواه في المكان المشار إليه وفي موضع آخر (3 / 199 - 200) ؛ عن ابن أبي خزامة، عن أبيه، ثم قال:
" وقد روى غير واحد هذا: عن سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه؛ وهذا أصح ".
قلت: فعلى هذا؛ فأبو خزامة هو تابعي الحديث ليس صحابيّه، وهو مجهول كما في " التقريب " وغيره؛ فالحديث ضعيف، ومن هذا الوجه رواه الحاكم (4 / 199) .
ورواه عن صالح الأخضر، عن الزهري، عن عروة عن حكيم بن حزام ... به، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي {
قلت: وصالح - هذا - ضعيف، وقد خالف ثقتين روياه عن الزهري بالسند الأول} (ن)
قلت: ثم حسنه شيخنا في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " (11) .(3/152)
" يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب؛ هم الذي لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ".
ولا يخالف هذا ما تقدم من الأمر بالتداوي، فالجمع ممكن بأن التفويض أفضل مع الاقتدار على الصبر؛ كما يفيده قوله: " إن شئت صبرت ".
وأما مع عدم الصبر على المرض، وصدور الحرج، والحرد، وضيق الصدر من المرض؛ فالتداوي أفضل؛ لأن فضيلة التفويض قد ذهبت بعدم الصبر (1) .
( [التداوي بالمحرمات حرام] :)
(ويحرم بالمحرمات) ؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث، أخرجه مسلم، وغيره.
وأخرج أبو داود من حديث أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا
__________
(1) خالف الشارح ما سار عليه في كتابه من أوله؛ وهو إبقاء العام على عمومه، وأن الأمر للوجوب إلا إن دل دليل على صرفه عنه؛ وهذا هو الحق عند الأصوليين والمحدثين والفقهاء، وجمع بين أحاديث الأمر بالتداوي وبين الأحاديث الأخرى بجمع غير منطبق على القواعد الصحيحة.
والحق: أن التداوي واجب، وتركه حرام؛ لورود الأمر به صريحا في غير ما حديث، وأن الكي بالنار - وهو نوع منه - جائز، وتركه أفضل؛ للأحاديث الأخرى الدالة على الترغيب في تركه.
وأما الرقى والدعاء؛ فليسا من أنواع الدواء، فمن فعلهما على طريقهما الشرعي فحسن، ومن تركهما فهو أفضل له؛ وبذلك يظهر أن لا تعارض بين الأحاديث أصلا، والله أعلم. (ش)(3/153)
بحرام "، في إسناده إسماعيل بن عياش (1) .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالخمر؛ كما في " صحيح مسلم "، وغيره.
وفي " البخاري " عن ابن مسعود، أنه قال:
" إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ".
وقد ذهب إلى تحريم التداوي بالأدوية النجسة والمحرمة الجمهور.
ولا يعارض هذا إذنه صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل؛ كما في " الصحيح "؛ لأنها لم تكن نجسة ولا محرمة، ولو سلمنا تحريمها؛ لكان الجمع ممكنا ببناء العام على الخاص.
قال في " المسوى ":
" اختلف أهل العلم في التداوي بالشيء النجس:
فأباح كثير منهم التداوي به إلا الخمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للرهط العرنيين شرب أبوال الإبل، وأما الخمر فقال: " إنها ليست بدواء، ولكنها داء ".
وقال بعضهم: لا يجوز التداوي بالنجس، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث، والمراد به خبث النجاسة.
وقال آخرون: المراد به الخبيث من جهة الطعم والسم ". اه.
__________
(1) • ليس هو علة الحديث؛ بل شيخه ثعلبة بن مسلم، وهو شامي، لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ: " مستور ".
ولكن الحديث صحيح - من حيث معناه - لشواهده. (ن)(3/154)
وفي " الحجة البالغة ":
" إلا المداواة بالخمر؛ إذ للخمر ضراوة لا تنقطع، والمداواة بالخبيث - أي: السم ما أمكن العلاج بغيره - فإنه ربما يفضي إلى القتل، والمداواة بالكي - ما أمكن بغيره - لأن الحرق بالنار أحد الأسباب التي تنفر منها الملائكة ". اه.
وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في كتابي " دليل الطالب إلى أرجح المطالب ".
( [الكي يكره تنزيهاً] :)
(ويكره الاكتواء) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري - وغيره (1) -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي "، وفي لفظ: " وما أحب أن أكتوي ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - من
__________
(1) سيورده المصنف - بعد - معزواً إلى " الصحيحين ".
(2) • في " المسند (4 / 427، 430) ، والترمذي (3 / 162) ، وابن ماجه (2 / 352) ، وكذا الحاكم (4 / 213) ، كلهم عن الحسن، عن عمران، به؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي {وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
قال المنذري في " اختصار السنن " (5 / 351) : " وفيما قاله نظر؛ فقد ذكر غير واحد من الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران ".
ولكن قد صح متصلا: عند أبي داود (2 / 152) ، وأحمد أيضا (4 / 444، 446) ، والحاكم (4 / 416) ؛ عن مطرف، عن عمران؛ وهذا سند صحيح على شرط مسلم، ومطرف - هذا -: هو ابن عبد الله بن الشخير، وقد لقي عمران؛ وليس هو ابن طريف كما توهم المنذري} ثم هو من شيوخ الحسن البصري، فلعله هو الواسطة بينه وبين عمران في هذا الحديث!
ولعله لما سبق؛ قال الحافظ في " الفتح " (10 / 126) : " وسنده قوي ". (ن)(3/155)
حديث عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي، فاكتوينا؛ فما أفلحنا ولا أنجحنا.
وقد ورد ما يدل على أن النهي عن الكي للتنزيه لا للتحريم؛ كما في حديث جابر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين.
وأخرج الترمذي (1) - وحسنه - من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد ابن زرارة من الشوكة.
ووجه الكراهة: أن في ذلك تعذيبا بالنار، ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار، وقد قيل: إن وجه الكراهة غير ذلك.
وقد جمع بين الأحاديث بجموعات غير ما ذكرنا.
( [مشروعية الحجامة] :)
(ولا بأس بالحجامة) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن كان في شيء من أدويتكم خير؛ ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي ".
__________
(1) • في " سننه " (3 / 162) ؛ وكذا الطحاوي في " شرح المعاني " (2 / 385) ؛ عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس؛ وهذا سند صحيح إذا كان الزهري سمعه من أنس.
وهو في " المستدرك " (4 / 417) من هذا الوجه. (ن)(3/156)
وقد تقدم حديث ابن عباس مثله.
وقد ثبت من حديث أنس عند الترمذي، وأبي داود بإسناد صحيح (1) ، قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل (2) ، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين.
وأخرج أبو داود (3) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من احتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين؛ كان شفاء من كل داء "، ولا بأس بإسناده.
وفي الباب أحاديث متضمنة لذكر الأيام التي ينبغي فيها الحجامة.
وليس المراد هنا إلا الاستدلال على جوازها.
قلت: وعلى هذا عمل المسلمين.
__________
(1) • وقال الحاكم (4 / 210) : " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وفيه علة دقيقة؛ وهي: أنه من رواية قتادة عن أنس؛ وقتادة يدلس، وقد عنعنه. (ن)
(2) الأخدعان: عرقان في جانب العنق.
والكاهل: ما بين الكتفين. (ش)
(3) • في " سننه " (2 / 151) ، وكذا الحاكم (4 / 210) ؛ من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا.
وهذا إسناد حسن، وفي الجمحي ضعف يسير، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي.
وللحديث شاهدان أشار إليهما الحافظ في " الفتح "، (10 / 166) ، فالحديث بهما صحيح (ن) .(3/157)
( [مشروعية الرقية بالوارد] :)
(و) لا بأس (بالرقية) ، وحقيقتها: تمسك بكلمات لها تحقق في المثال وأثر.
والقواعد الملية لا تدفعها؛ ما لم يكن فيها شرك؛ لا سيما إذا كان من القرآن أو السنة، أو ما يشبههما من التضرعات إلى الله - تعالى -.
وكل حديث فيه نهي عن الرقي والتمائم والتولة (1) ؛ فمحمول على ما فيه شرك، أو انهماك في التسبب بحيث يغفل عن الباري جل شأنه.
وفي " المسوى ": اختلفت الأحاديث في الاسترقاء، ووجه الجمع: أن تحمل على الأحوال المتغايرة، فالمنهي من الرقى ما كان فيه شرك، أو كان يذكر فيه مردة الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو؟ ولعله يدخل فيه سحر أو كفر.
وأما ما كان بالقرآن، وبذكر الله - تعالى - فإنه مستحب.
ثم للرقية أنواع؛ بعضها مأثور (2) عن السلف؛ فقد روي عن عائشة أنها كانت لا ترى بأسا أن يعوذ في الماء - أي: يقرأ التعوذ، وينفث في الماء - ثم يعالج به المريض.
وقال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض.
__________
(1) التولة - بكسر التاء المثناة، وفتح الواو -: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. (ش)
(2) وجل هذا مما لم يصح سنده! فتنبه.(3/158)
وأمر ابن عباس رجلا أن يكتب لامرأة تعسر عليها الولادة آيتين من القرآن وكلمات، ثم يغسل وتسقى.
وسئل سعيد بن المسيب عن الصحف الصغار يكتب فيها القرآن؛ تعلق على النساء والصبيان؟ فقال: لا بأس بذلك إذا جعل في كبر (1) من ورق، أو شيء من الأديم، أو يخرز عليه.
وقد روي النفث في الأحاديث المرفوعة.
( [مشروعية الرقية من العين وغيرها] :)
(بما يجوز من العين وغيرها) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره، قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحمة (2) والنملة.
والمراد بالحمة: السم من ذوات السموم، وبالنملة: القروح تخرج من الجنب.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عوف بن مالك، قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: " اعرضوا علي رقاكم؛ لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ".
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر، قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) • أي: طبل صغير؛ وهو بفتحتين. (ن)
(2) بضم الحاء وفتح الميم المخففة. (ش)(3/159)
فقالوا: يا رسول الله {إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى؟ قال: فعرضوها عليه، فقال: " ما أرى بأسا؛ فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه ".
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله؛ نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه؛ جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها أعظم بركة من يدي.
وما ورد من الأدلة الدالة على النهي عن الرقى، وأنها من الشرك؛ فهي محمولة على الرقية بما لا يجوز؛ كالتي تكون بأسماء الشياطين والطواغيت، ونحو ذلك.
وكذلك يحمل على هذا ما ورد في حديث المغيرة بن شعبة عند أحمد (1) ، وابن ماجه، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اكتوى أو استرقى؛ فقد برئ من التوكل ".
وقد ورد في " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين.
وأخرج أحمد (2) ، والنسائي، والترمذي - وصححه - من حديث أسماء بنت عميس: " أنها قالت: يا رسول الله} إن بني جعفر تصيبهم العين؛
__________
(1) • في " المسند " (4 / 249، 251، 252، 253) ؛ عن عقار بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه؛ ومن هذا الوجه رواه الآخرون.
وهذا سند حسن؛ عقار - هذا - وثقه العجلي، وابن حبان، وقال الحافظ: " صدوق "، وقد صححه الحاكم (4 / 415) ، ووافقه الذهبي. (ن)
(2) • في " المسند " (6 / 438) ؛ وسنده صحيح.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم (7 / 13 - 14) زيادة: " وإذا استغسلتم فاغتسلوا ". (ن)(3/160)
أفنسترقي لهم؟ قال: " نعم؛ فلو كان شيء سابق القدر سبقته العين ".
وأخرج نحوه مسلم، وغيره من حديث ابن عباس.
وفي الباب أحاديث.
وفيها ذكر الاستغسال من العين - أي: غسل وجه العائن، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخل (1) إزاره في قدح - ثم يصب الماء على من أصيب بالعين على رأسه وظهره من خلفه.
أخرج ذلك أحمد (2) ، ومالك في " الموطأ "، والنسائي، وصححه ابن حبان.
قال الزهري: يؤتى الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه فيمضمض، ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على كفه اليمنى في القدح، ثم يغسل يده اليمنى فيصب على يده اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبة اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبة اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبة واحدة.
__________
(1) • وهو الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن؛ ذكره المازري؛ كما في " الفتح ". (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 486 - 487) ؛ بسند صحيح.
وكذلك رواه في " الموطأ " (3 / 118 - 119) . (ن)(3/161)
(الكتاب الثامن عشر: كتاب الوكالة)(3/163)
(18 - كتاب الوكالة)
هي أن يكون أحدهما يعقد العقود لصاحبه.
( [مشروعية الوكالة] :)
(يجوز لجائز التصرف أن يوكل غيره في كل شيء ما لم يمنع منه مانع) ؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في قضاء الدين؛ كما في حديث أبي رافع: أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن يقضي الرجل بكره، - وقد تقدم -.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في استيفاء الحد؛ كما في حديث: " واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها "، وهو في " الصحيح " (1) - وسيأتي -.
وثبت عنه التوكيل في القيام على بدنة، وتقسيم جلالها وجلودها، وهو في " الصحيح " (2) .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في حفظ زكاة رمضان؛ كما في " صحيح البخاري " من حديث أبي هريرة.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه، وقد
__________
(1) • أي " البخاري " (8 / 171) ، و " مسلم " (5 / 121) ؛ واللفظ لمسلم. (ن)
(2) • " صحيح مسلم ". (ن)(3/165)
تقدم في الضحايا.
وثبت (1) عنه صلى الله عليه وسلم أنه وكل أبا رافع، ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة، وقد تقدم.
وثبت عنه (2) صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر: " إذا أتيت وكيلي؛ فخذ منه خمسة عشر وسقا "؛ كما أخرجه أبو داود، والدارقطني.
وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ما يفيد جواز الوكالة، فلا يخرج عن ذلك إلا ما منع منه مانع، وذلك كالتوكيل في شيء لا يجوز للموكل أن يفعله ويجوز للوكيل؛ كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر، أو الخنزير، أو نحو ذلك؛ فإن ذلك لا يجوز، ولا يكون محللا للثمن؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه "، وقد تقدم.
وقد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على جواز التوكيل؛ كقوله
__________
(1) • في ثبوت هذا نظر؛ فإنه من رواية سليمان بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع ... الحديث؛ رواه مالك (1 / 320 - 321) ، وهذا مرسل.
ووصل الترمذي وغيره له - من طريق مطر الوارق، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع -؛ لا يعطيه قوة؛ لأنه لم يسنده غير مطر، كما قال الترمذي؛ ومطر هذا سيئ الحفظ، فلا يحتج بما خالف فيه الثقات.
وإذا عرفت هذا؛ فلا يهمنا البحث في سماع سليمان من أبي رافع، أم لا {كما فعل الشوكاني (5 / 228) ؛ لأنه لو صح سماعه منه لكان مرسلا؛ لما عرفت من ضعف مطر؛ فتنبه} (ن)
(2) • وفي ثبوت هذا نظر - أيضا -، وإن حسنه الحافظ - على ما نقله الشوكاني -؛ فإنه من رواية محمد بن إسحاق، عن وهب بن كيسان، عن جابر؛ أخرجه أبو داود (2 / 122) ، وعنه البيهقي (6 / 80) ، وعلق بعضه البخاري (6 / 180) .
وعلته عنعنه ابن إسحاق؛ فإنه مدلس. (ن)(3/166)
- تعالى -: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ، وقوله: {اجعلني على خزائن الأرض} .
وقد أورد البخاري في الوكالة ستة وعشرين حديثا؛ ستة معلقة، والباقية موصولة، وقد قام الإجماع على مشروعيتها.
( [بيان حكم بيع الوكيل بزيادة على ما أذن به الموكل] :)
(وإذا باع الوكيل بزيادة على ما رسمه موكله؛ كانت الزيادة للموكل) ؛ لما ثبت في " صحيح البخاري "، وغيره من حديث عروة البارقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به له شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب لربح فيه.
وأخرج الترمذي من حديث حكيم بن حزام: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار ... فذكر نحو حديث عروة البارقي، وفي إسناده انقطاع؛ لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت، عن حكيم، ولم يسمع منه.
وأخرج أبو داود من حديث أبي حصين، عن شيخ من أهل المدينة، عن حكيم نحو ذلك، وفيه هذا الشيخ المجهول.
وقد ذهب إلى ما ذكرنا الجمهور.
وقال الشافعي - في الجديد - وأصحابه: إن العقد باطل - أي: عقد البيع الواقع من الوكيل في مثل الصورة المذكورة - لأنه لم يأمره الموكل بذلك.(3/167)
( [حكم مخالفة الوكيل للموكل إلى ما هو أنفع] :)
(وإذا خالفه إلى ما هو أنفع أو إلى غيره ورضي به؛ صح) ؛ لكون الرضا مناطا مسوغا لذلك ومجوزا له، وإذا لم يرض؛ لم يلزمه ما وقع من الوكيل مخالفا لما رسمه له؛ لعدم المناط المعتبر.
وقد ثبت في " البخاري "؛ وغيره من حديث معن بن يزيد، قال: كان أبي خرج بدنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت بها، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لك ما نويت يا يزيد {ولك يا معن} ما أخذت ".
ولعل هذه الصدقة صدقة تطوع لا صدقة فرض، فقد وقع الإجماع على أنها لا تجزئ في الولد (1) .
__________
(1) وفي هذا الإجماع نظر؛ ليس هنا موضع بحثه.(3/168)
(الكتاب التاسع عشر: كتاب الضمانة)(3/169)
(19 - كتاب الضمانة)
( [ماذا يجب على من ضمن على حي أو ميت] :)
(يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال؛ أن يغرمه عند الطلب) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي من حديث أبي أمامة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " الزعيم غارم (1) "، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه ثقة في الشاميين، وقد رواه هنا عن شامي، وهو شرحبيل بن مسلم، فلم يصب ابن حزم في تضعيف الحديث بإسماعيل بن عياش.
وقد أخرجه النسائي من طريقين: إحداهما من طريق أبي عامر الوصابي (2) ، والأخرى من طريق حاتم بن حريث؛ كلاهما عن أبي أمامة.
وقد صححه ابن حبان من طريق حاتم هذه، وحاتم قد وثقه الدارمي.
__________
(1) الزعيم: الكفيل.
والغارم: الضامن. (ش)
(2) هو أبو عامر لقمان بن عامر الوصابي الحمصي.
ووقع في الأصل: " عامر الوصالي " {وهو خطأ من وجهين: في الاسم والنسبة.
و" الوصابي " - بفتح الواو، وتشديد الصاد المهملة، وآخره باء -: نسبة إلى " وصاب "؛ بطن من حمير؛ كذا ضبطه الذهبي في " المشتبه "؛ والسمعاني في " الأنساب "، والزبيدي في " شرح القاموس ".
وضبطه ابن حجر في " التقريب " بتخفيف الصاد} وهو خطأ. (ش)(3/171)
وقد أخرج الحديث ابن ماجه، والطبراني من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أنس.
وأخرجه ابن عدي من حديث ابن عباس، وضعفه بإسماعيل بن زياد السكوني، ورواه أبو موسى المديني في " الصحابة " من طريق سويد بن جبلة.
قال الدارقطني: لا تصح له صحبة، وحديثه مرسل؛ قال: وبعضهم يقول: له صحبة.
ورواه الخطيب في " التلخيص " من طريق ابن لهيعة، عن عبد الله بن حبان الليثي (1) ، عن رجل، عن آخر منهم.
وأخرج البخاري، وغيره من حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه الدين، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله! وعلي دينه، فصلى عليه.
وأخرج هذه القصة الترمذي من حديث أبي قتادة، وصححه.
وأخرجهما أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم من حديث جابر.
وفي لفظ من حديث جابر هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة: " قد أوفى الله حق الغريم، وبرئ منه الميت "، قال: نعم، فصلى عليه، فلما
__________
(1) حبان - هنا - في الأصل بالباء الموحدة.
وفي " تلخيص الحبير " (ص 250) بالياء المثناة؛ ولم أجد له ترجمة، ولم أصل إلى تصحيح اسمه. (ش)(3/172)
قضاها قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الآن بردت عليه جلده ".
أخرج ذلك أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، وصححه ابن حبان، والحاكم.
(ويرجع على المضمون عنه إن كان مأمورا من جهته) (1) ؛ لكون الدين عليه، والأمر منه للضمين بالضمانة؛ كالأمر له بالتسليم، فيرجع عليه لذلك.
( [ماذا يجب على من ضمن بإحضار شخص؟] :)
(ومن ضمن بإحضار شخص؛ وجب عليه إحضاره؛ وإلا غرم ما عليه) ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " الزعيم غارم ".
والخلاف في الضمانة معروف، وهذا خلاصة ما ورد به الشرع.
__________
(1) • بخلاف ما إذا ضمن متبرعا؛ فإنه لا يرجع على المضمون عنه بشيء. (ن)(3/173)
(الكتاب العشرون: كتاب الصلح)(3/175)
(20 - كتاب الصلح)
( [مشروعية الصلح] :)
(هو جائز بين المسلمين) ؛ لقوله - تعالى -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} .
( [متى يحرم الصلح؟] :)
(إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا) ؛ لحديث عمرو بن عوف عند أبي داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، وابن حبان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما "، وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، وهو ضعيف جدا؛ وقد صحح الحديث الترمذي! فلم يصب.
وقد اعتذر له ابن حجر، فقال: كأنه اعتبر بكثرة طرقه؛ وذلك لأنه رواه أبو داود، والحاكم من طريق كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة؛ قال الحاكم: " على شرطهما (1) ".
__________
(1) • ليس هذا في نسختنا من " المستدرك "، وقد أخرجه في موضعين منه (4 / 101) ، (2 / 49) ؛ بل سكت عليه، وقال الذهبي في أحد الموضعين: " لم يصححه، وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره "، وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ".
قلت: فمثله حسن الحديث، لا سيما إذا كان لحديثه شواهد كهذا؛ وإن كان غالبها ضعيفا جدا؛ وانظر " الدارقطني " (300) . (ن)(3/177)
وصححه ابن حبان، وحسنه الترمذي.
وأخرجه أيضا الحاكم من حديث أنس، ومن حديث عائشة.
[وكذلك] أخرجه الدارقطني.
( [دليل جواز الصلح عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول] :)
(ويجوز عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول) ؛ لحديث أم سلمة عند أحمد (1) ، وأبي داود، وابن ماجه، قالت: جاء رجلان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في مواريث بينهما قد درست؛ ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن (2) بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار؛ يأتي بها إسطاما (3) في عنقه يوم القيامة "، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما (4) ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه "، وفي إسناد هذا الحديث أسامة بن زيد بن أسلم المدني، وفيه مقال، ولكن أصل الحديث في " الصحيحين ".
__________
(1) • في " المسند " (6 / 320) ، وأبو داود (2 / 115) ؛ بسند حسن. (ن)
(2) في " النهاية ": " أراد أن بعضكم يكون أعرف بالحجة، وأفطن لها من غيره ". (ش)
(3) الإسطام والسطام - بكسر أولهما -: الحديدة التي تحرك بها النار، وتسعر؛ أي: اقطع له ما يسعر به النار على نفسه؛ قاله ابن الأثير. (ش)
(4) توخى الحق: قصده وتعمد فعله.
والمعنى: اذهبا فاقصدا الحق فيما تصنعانه من القسمة، واقترعا ليظهر سهم كل واحد منكما، وليأخذ ما تخرجه القرعة من القسمة. (ش)(3/178)
وقد استدل به على جواز الصلح، والإبراء من المجهول.
وأخرج البخاري من حديث جابر: أن أباه قُتل يوم أحد شهيداً وعليه دَين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: " سنغدو عليك "، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل، ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها (1) ، فقضيتها، وبقي لنا من ثمرها.
وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول.
أقول: إسقاط الشيء فرع العلم به، فمن جهل ما يريد إسقاطه؛ فإما أن يعلمه بوجه من الوجوه، أو يجهله من جميع الوجوه، فإن علمه بوجه من الوجوه على صورة تتميز عنده بعض تميز - بحيث يغلب في ظنه أنه من الجنس الفلاني، وأن مقداره لا يجاوز كذا - فهذا يصح إسقاطه.
وإن كان مجهولا من جميع الوجوه - بحيث لا يعرف جنسه، ولا مقداره كيفا ولا كما - فهذا لا يصح إسقاطه؛ لأنه قد يكون على صفة لو علم بها لم تطب نفسه بالإسقاط.
( [دليل جواز الصلح في حد القتل] :)
(وعن الدم كالمال بأقل من الدية أو أكثر) ؛ لكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال، فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله - تعالى -:
__________
(1) جده جدا - من باب قتل -: قطعه، فهو جديد؛ فعيل بمعنى مفعول.
والجداد - بفتح الجيم وكسرها -: صرام النخل؛ وهو قطع ثمرتها. (ش)(3/179)
{أو إصلاح بين الناس} ، وتحت قوله صلى الله عليه وسلم: " الصلح جائز ".
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل متعمدا دُفع إلى أولياء المقتول؛ فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة (1) وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وذلك عقل العمد، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك تشديد العقل "، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه مقال (2) .
( [دليل جواز الصلح عن إنكار وسكوت] :)
(ولو عن إنكار) ؛ لعموم الأدلة، واندراج الصلح عن إنكار تحتها، ولم يأت من منعه ببرهان.
وقد ذهب إلى جوازه الجمهور، وحكى في " البحر " عن الشافعي، وابن أبي ليلى أنه لا يصح الصلح عن إنكار.
وقد ثبت في " الصحيح " عن كعب في قصة المتخاصمين في المسجد في
__________
(1) • هو من الإبل: ما دخل في السنة الرابعة إلى آخرها، والجذعة من الإبل: ما دخل في السنة الخامسة، والخلفة: الحامل من النوق: " نهاية ". (ن)
(2) • هذا خطأ فاحش؛ يدل على أن المصنف كان لا يرجع في تخريج الأحاديث إلى الأصول!
ذلك لأن هذا الحديث ليس فيه ابن جدعان - هذا - عند مخرجيه: أحمد (رقم 6717) ، والترمذي (2 / 304) وابن ماجه (2 / 137) ؛ بل هو عندهم من طرق؛ عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب ... به؛ وحسنه الترمذي فأصاب.
وقد تابعه محمد بن إسحاق، عن عمرو ... عند أحمد (رقم 7033) . (ن)(3/180)
دين، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدَّين أن يضع شطر دينه، ويتعجل الباقي، وهو دليل على جواز الصلح مع الخصام، ووضع البعض واستيفاء البعض.
قال في " الحجة البالغة ": ومنه وضع جزء من الدين؛ كقصة ابن أبي حدرد (1) ، وهذا الحديث أحد الأصول في باب المعاملات.
أقول: الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار؛ نحو أن يدعي رجل على آخر مائة دينار، فينكره في جميعها، فيصالحه على النصف من ذلك المقدار؛ لأن مناط الصلح التراضي، والمنكر قد رضي بأنه يكون عليه بعض ما أنكره، وأي مقتض يمنع هذا؟ !
وإن كان مثل حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، فهذا قد سلم بعضا مما أنكره طيبة به نفسه، وإن كان غير ذلك فما هو؟
ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين؛ إن كان التنازع بينهما في المقدار؛ فهو أيضا صلح عن إنكار، وقد جوزه الشارع.
وإن كان التنازع بينهما في التعجيل والتأجيل؛ فهو أيضا صلح عن إنكار؛ لأن منكر الأجل قد صولح، على أن يتعجل البعض من دينه، ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل.
__________
(1) ستأتي في كتاب القضاء، في الكلام على جواز الشفاعة من القاضي للإصلاح بين الخصمين. (ش)(3/181)
(الكتاب الحادي والعشرون: كتاب الحوالة)(3/183)
(21 - كتاب الحوالة)
وهي جائزة، وعليه أهل العلم.
( [دليل مشروعيتها] :)
(من أحيل على مليء فليحتل) ، ويقبل ذلك لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" مطل الغني ظلم، ومن أحيل على مليء فليحتل "، وفي لفظ لهما: " وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ".
وقد أخرج نحوه ابن ماجه، وأحمد، والترمذي من حديث ابن عمر، وفي إسناد ابن ماجه إسماعيل بن توبة (1) ، وهو صدوق، وبقية رجاله رجال " الصحيح ".
وفي " شرح السنة ":
" قوله: " أتبع أحدكم " بالتخفيف معناه: إذا أحيل أحدكم على مليء
__________
(1) قال الخليلي: كان عالما كبيرا مشهورا.
وقال ابن حبان في " الثقات ": " مستقيم الأمر في الحديث ". (ش)
• ولكن فوقه - في السند - هشيم؛ مدلس؛ وإن كان من رجال الشيخين؛ وقد عنعن.
قلت: والخليلي؛ هو أبو يعلى الخليل بن عبد الله القزويني، توفي سنة (446) . (ن)(3/185)
فليتبع؛ أي: فليحتل؛ أي: فليقبل الحوالة، يقال: أتبعت غريمي على فلان، فتبعه؛ أي: أحلته، فاحتال، وقوله: " فليتبع ": ليس ذلك على طريق الوجوب (1) ؛ بل على طريق الإباحة؛ أي: الندب؛ إن اختار قبل الحوالة، وإن شاء لم يقبل ". انتهى.
وقد قيل: إنه يشترط في صحتها رضا المحيل - بلا خلاف -، والمحتال - عند الأكثر -، والمحال عليه - عند بعض أهل العلم -.
قال في " الحجة ":
" هذا أمر استحباب لأن فيه قطع المناقشة.
( [هل تبرأ ذمة المحيل بالحوالة؟] :)
(وإذا مطل المحال أو أفلس؛ كان للمحال أن يطالب المحيل بدينه) لكون الدين باقيا بذمة المحيل لا يسقط عنه؛ إلا بتسليمه إلى المحتال من المحال عليه، فإذا لم يحصل التسليم؛ كان دينه باقيا كما كان قبل الحوالة (2) ، ويستفاد ذلك من قوله: " على مليء "، فإن من مطل أو أفلس؛ ليس بالمليء الذي أرشد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الدين أن يقبل الحوالة عليه.
قال يحيى: سمعت مالكا يقول: الأمر عندنا في الرجل يحيل الرجل
__________
(1) • قلت: وهذا هو مذهب الجمهور.
وذهب أهل الظاهر، وأكثر الحنابلة، وأبو ثور، وابن جرير إلى الوجوب؛ وإليه ذهب الصنعاني في " سبل السلام " (3 / 80) ، وهو الأقرب؛ لأنه لا دليل على صرفه إلى الندب. (ن)
(2) • وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في " الاختيارات العلمية " (78) . (ن)(3/186)
عل الرجل بدين له عليه؛ إن أفلس الذي أحيل عليه، أو مات، ولم يدّع وفاء؛ فليس للمحتال على الذي أحاله شيء، وأنه لا يرجع على صاحبه الأول، قال مالك، وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا.
فأما الرجل يتحمل له الرجل بدين له على رجل آخر، ثم يهلك المتحمل، أو يفلس؛ فإن الذي تحمل له يرجع على غريمه الأول؛ كذا في " الموطأ ".
قلت: وعليه الشافعي.
وفي " شرح السنة ":
" إذا قبل الحوالة؛ تحول الدين من المحيل إلى ذمة المحال عليه، ولا رجوع للمحتال على المحيل من غير عذر، فإن أفلس المحال عليه، أو مات، ولم يترك وفاء؛ قال الشافعي: لا رجوع له على المحيل بحال، وقال أبو حنيفة: يرجع إذا أفلس، أو مات، ولم يترك وفاء ".(3/187)
(الكتاب الثاني والعشرون: كتاب المفلس)(3/189)
(22 - كتاب المفلس)
( [بيان ما يجوز لأهل الدين أخذه من المدين] :)
(يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه) ؛ أي: مع المفلس (إلا ما كان لا يستغنى عنه؛ وهو المنزل، وستر العورة، وما يقيه البرد، ويسد رمقه ومن يعول) ؛ لحديث أبي سعيد عند مسلم، وغيره قال: أصيب رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال: تصدقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: " خذوا ما وجدتم؛ وليس لكم إلا ذلك ".
وأخرج الدارقطني (1) ، والبيهقي، والحاكم وصححه من حديث كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كان عليه.
وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا، قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا، وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان؛ حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول
__________
(1) • في " سننه " (523) ، والبيهقي (9 / 48) ، والحاكم (3 / 273) ؛ وقال: " صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي. (ن)(3/191)
الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله؛ حتى قام معاذ بغير شيء.
قال عبد الحق: المرسل أصح، وقال ابن الطلاع في " الأحكام ": هو حديث ثابت (1) .
فأفاد ما ذكرناه أن أهل الدين يأخذون جميع ما يجدونه مع المفلس.
لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه، أو أخرجوه من منزله، أو تركوه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه، ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك.
( [ما حكم من أدرك ماله عند المدين المفلس؟] :)
(ومن وجد ماله عنده بعينه؛ فهو أحق به) ؛ لأنه كان في الأصل ماله من غير مزاحمة، ثم باعه ولم يرض في بيعه بخروجه من يده إلا بالثمن، فكان البيع إنما هو بشرط إيفاء الثمن، فلما لم يؤد؛ كان له نقضه ما دام المبيع قائما بعينه، فإذا فات المبيع لم يمكن أن يرد البيع، فصار دينه كسائر الديون.
ودليله حديث حسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وجد متاعه عند مفلس بعينه؛ فهو أحق به "، أخرجه أحمد، وأبو داود (2) ، وقال ابن حجر في " الفتح ": إسناده حسن؛ ولكن سماع الحسن، عن سمرة فيه مقال معروف.
__________
(1) ضعيف؛ وانظر " بيان الوهم والإيهام " (1 / 323) لابن القطان، و " الإرواء " (1435) لشيخنا.
(2) • قلت: وكذا الدارقطني (301) ؛ ولفظه: " من وجد عين ماله عند رجل؛ فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه "؛ وهو لفظ أبي داود أيضا (2 / 108) .
ولا يخفى أنه أعم من اللفظ الذي ذكره الشارح، ومن حديث أبي هريرة الآتي. (ن)
قلت: وانظر " ضعيف سنن أبي داود " لشيخنا.(3/192)
وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس؛ فهو أحق به من غيره ".
وفي لفظ لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي يعدم: " إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه؛ أنه لصاحبه الذي باعه ".
وفي لفظ لأحمد: " أيما رجل أفلس، فوجد رجل عنده ماله، ولم يكن اقتضى من ماله شيئا؛ فهو له ".
وأخرج الشافعي (1) ، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم - وصححه - عن أبي هريرة، أنه قال في مفلس أتوه به: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" من أفلس أو مات، فوجد الرجل متاعه بعينه؛ فهو أحق به ".
وأخرج مالك في " الموطأ "، وأبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقتض الذي باعه
__________
(1) • في " المسند " (2 / 191 - من " البدائع ") ، وأبو داود (2 / 107) ، وكذا ابن ماجه (2 / 63) ، والحاكم (2 / 50 - 51) ، وكذا البيهقي (6 / 46) ؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي.
وهو من أوهامهما؛ فإن في سنده عند الجميع أبا المعتمر بن عمرو بن نافع؛ قال الذهبي - نفسه - في " الميزان ": " لا يعرف "، وقال الحافظ: " مجهول الحال "، وكذا جهله ابن عبد البر وغيره.
فالحديث ضعيف السند، منكر المتن؛ لمخالفة الطريق الآتي. (ن)(3/193)
من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعينه؛ فهو أحق به، وإن مات المشتري؛ فصاحب المتاع أسوة الغرماء " (1) .
وقد وصله أبو داود فقال: عن أبي هريرة، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه ههنا روى عن الزبيدي (2) ، وهو شامي، وهو قوي في الشاميين.
وقد ذهب إلى أن البائع أولى بعين ماله الموجود عند المفلس الجمهور، وخالفت في ذلك الحنفية، فقالوا: لا يكون أولى به، والحديث يرد عليهم.
وقد ذهب الجمهور أيضا إلى أن المشتري إذا كان قد قضى بعض الثمن؛ لم يكن البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه؛ بل يكون أسوة الغرماء؛ كما أفاده ما تقدم في الرواية من قوله: " ولم يكن اقتضى من ماله شيئا " (3) ، وقال الشافعي: إن البائع أولى به.
وهكذا إذا مات المشتري والسلعة قائمة؛ فذهب مالك وأحمد إلى أنها تكون أسوة الغرماء (3) وقال الشافعي: البائع أولى بها.
__________
(1) • قلت: وهذا المرسل صحيح، وكذا الذي وصله أبو داود.
ولم يتفرد به ابن عياش، كما بينه ابن القيم في " التهذيب " (5 / 175 - 176) ، وصحح الحديث هناك؛ فراجعه. (ن)
(2) • كان في الأصل: (الحارث الزبيدي) ، والصواب ما أثبتناه.
واسمه: محمد بن الوليد الحمصي. (ن)
(3) • قلت: وهو الصواب؛ لصحة الحديث بذلك، كما سبق. (ن)(3/194)
( [متى يكون صاحب المتاع أسوة كالغرماء؟] :)
(وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع دينه؛ كان الموجود أسوة الغرماء) ؛ لأن ذلك هو العدل؛ لأن الديون اللازمة مستوية في استحقاق قضائها من مال المفلس، وليس بعضها بأولى به من بعض إلا لمخصص، ولا مخصص ههنا.
وقد أشار إلى هذا ما تقدم في الرواية من قوله: " فصاحب المتاع أسوة الغرماء ".
( [هل يجوز حبس من تبين إفلاسه؟] :)
(وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه) ؛ لأنه خلاف حكم الله - سبحانه - قال - تعالى -: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} .
(و) لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليّ الواجد (1) ظلم) ، وهو حديث صحيح قد تقدم في الباب الذي قبل هذا (2) .
والمفلس ليس بواجد. (يحل عرضه وعقوبته) .
وأما إذا لم يتبين إفلاسه، ولا كونه واجدا؛ فهذا محل اللبس، والواجب
__________
(1) اللي: المطل.
والواجد: القادر على قضاء دينه. (ش)
قلت: تخريجه في التعليق بعد الآتي - من كلام شيخنا -.
(2) • لم يتقدم إلا باللفظ الآتي. (ن)(3/195)
البحث عن حاله بحسب الإمكان؛ حتى يتبين كونه واجدا؛ فيعاقب بالحبس أو نحوه؛ كما دل عليه حديث: " مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته ".
وفي لفظ: " لي الواجد ظلم "، والكل (1) في " الصحيح "، أو تبين كونه غير واجد فينظر إلى ميسرة.
وأما حبس من تبين إفلاسه؛ فلا يحل بوجه؛ فإنه ظلم بحت.
قال في " الحجة البالغة ": " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ".
أقول: هو أن يغلظ له في القول، ويحبس، ويجبر على البيع إن لم
__________
(1) • ليس كما قال.
ولقد خبط الشارح في هذا الحديث خبط عشواء! فالحديث: " مطل الغني ظلم " في " الصحيحين "، لكن ليس تمامه: " يحل عرضه وعقوبته "، فراجعه في الكتاب السابق.
وهذا التمام إنما هو للحديث الآخر؛ وهو: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته "؛ رواه أبو داود (2 / 122) ، والنسائي (2 / 234) ، وابن ماجه (2 / 80) ، والحاكم (4 / 102) ، والبيهقي (6 / 51) ، وأحمد (4 / 388 - 389) من طريق وبر بن أبي دليلة - شيخ من أهل الطائف -، عن محمد بن ميمون بن مسيكة - وأثنى عليه خيرا -، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، مرفوعا؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وكذا العراقي في " تخريج الإحياء " (3 / 132) ، وعلقه البخاري (5 / 47) بصيغة التمريض: " ويذكر "، وقال الحافظ: " وإسناده حسن "، وذكر الطبراني أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد.
قلت: وفيه عندي ضعف؛ لأن ابن مسيكة - هذا - لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير ابن أبي دليلة، ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " مقبول "؛ يعني: عند المتابعة؛ وإلا فلين الحديث.
وما دام أنه لم يتابع كما أفاده الطبراني؛ فالحديث لين؛ هذا هو الذي تقتضيه قواعد الحديث، وإن كانوا صححوه كما رأيت، والله أعلم.
ثم إن الحديث أورده ابن تيمية في " المنتقى "، بلفظ: " لي الواجد ظلم ... "؛ ولفظة: " ظلم " لا أصل لها في شيء من مصادر الحديث التي وقفت عليها. (ن)
قلت: انظر " إرواء الغليل " (1434) لشيخنا.(3/196)
يكن له مال غيره.
وفي " شرح السنة ":
" وهذا قول أهل العلم: إن مال المفلس يقسم بين غرمائه على قدر ديونهم، فإن نفد ماله وفضل الدين ينظر إلى الميسرة.
قال مالك: إذا كان على رجل مال وله عبد لا شيء له غيره، فأعتقه؛ لم يجز عتقه، وعند الشافعي تصرف المديون نافذ ما لم يحجر عليه القاضي، ثم بعد الحجر لا ينفذ تصرفه في ماله ".
وفي " شرح السنة " - أيضا -:
" أما المعسر فلا حبس عليه؛ بل ينظر؛ فإنه غير ظالم بالتأخير، وهذا قول مالك والشافعي؛ فإن كان له مال يخفيه؛ حبس وعزر حتى يظهر ماله.
وذهب شريح إلى أن المعسر يحبس، وهو قول أهل الرأي ".
( [متى يجوز الحجر على المفلس؟] :)
(ويجوز للحاكم أن يحجره عن التصرف في ماله، ويبيعه لقضاء دينه) ؛ لحجره - صلى الله عليه وسلم - على معاذ كما تقدم، وكذلك يبيع الحاكم مال المفلس لقضاء دينه؛ كما فعله صلى الله عليه وسلم في مال معاذ.
( [متى يجوز الحجر على المبذر؟] :)
(وكذلك يجوز له الحجر على المبذر، ومن لا يحسن التصرف) ؛ لقوله(3/197)
- تعالى -: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} ؛ قال في " الكشاف ": السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها، والخطاب للأولياء، وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم؛ كما قال - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم} ، وقال: {فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} .
والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} .
ومما يدل على ذلك عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على قرابة حبان أن يحجر عليه؛ صح ذلك (1) ، ويدل على ذلك رده صلى الله عليه وسلم للبيضة التي تصدق بها من لا مال له؛ كما أخرجه أبو داود (2) ، وصححه ابن خزيمة من حديث جابر.
وكذلك رده صلى الله عليه وسلم صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه؛ كما أخرجه أهل " السنن "، وصححه (3) الترمذي، وابن حبان من حديث أبي سعيد.
وكذلك رده صلى الله عليه وسلم عتق من أعتق عبدا له عن دبر، ولا مال له غيره؛ كما
__________
(1) • تقدم الكلام عليه في " البيوع ". (ن)
(2) • في " سننه " (1 / 265) ، وكذا الدارمي (1 / 391) ، والبيهقي (4 / 181) ، وكذا الحاكم (1 / 413) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وفيه نظر {لأنه عند الجميع من رواية ابن إسحاق معنعنا، وهو مدلس.
ثم إن فيه جملة استنكرتها، وهي قوله عن البيضة: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته}
فهذه المعاملة منه صلى الله عليه وسلم بعيدة عما عرف من حلمه - عليه السلام -؛ لا سيما والرجل لم يصنع شيئا إلا أنه ألح مرارا بهذه الصدقة. (ن)
(3) • وكذا صححه الحاكم (1 / 414) ، ووافقه الذهبي؛ وسنده حسن عندي. (ن)(3/198)
أشار إلى ذلك البخاري، وترجم عليه: " باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل، وإن لم يكن حجر عليه الإمام ".
وأخرج الشافعي في " مسنده " (1) ، والبيهقي عن عروة بن الزبير، قال: ابتاع عبد الله بن جعفر بيعا، فقال علي - رضي الله عنه - لآتين عثمان فلأحجرن عليه، فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير، فقال: أنا شريكك في بيعتك، فأتى عثمان، فقال: احجر على هذا، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: أأحجر على رجل شريكه الزبير؟ !
ففي هذه القصة دليل على أن الحجر كان عندهم أمرا معروفا ثابتا في الشريعة، ولولا ذلك لأنكره بعض من اطلع على هذه القصة، ولكان الجواب من عثمان على علي بأن هذا غير جائز، وكذلك الزبير وعبد الله بن جعفر؛ لو كان مثل هذا الأمر غير جائز؛ لكان لهما عن تلك الشركة مندوحة.
وقد ذهب إلى جواز الحجر على السفيه الجمهور، وعليه أهل العلم.
وفي " الوقاية ":
" الحجر: منع نفاذ تصرف قولي، وسببه الصغر والجنون والرق؛ فإن أتلفوا شيئا ضمنوا ".
وفي " المنهاج ":
" ولا يصح من المحجور عليه بسفه بيع ولا شراء ولا عتاق وهبة ونكاح بغير إذن وليه، ويصح بإذن الولي نكاحه؛ لا التصرف المالي في الأصح ".
__________
(1) • (2 / 191 - من " البدائع ") ، والبيهقي (6 / 61) . (ن)(3/199)
( [متى يمكن اليتيم من ماله؟] :)
(ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله حتى يؤنس منه الرشد) ؛ لقوله - تعالى -: {فإن آنستم منهم رشدا} .
في " المنهاج ":
" حجر الصبي يرتفع ببلوغه رشيدا، فلو بلغ غير رشيد دام الحجر ".
وفي " الوقاية ":
" فإن بلغ غير رشيد؛ لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، وصح تصرفه قبله وبعده؛ يسلم إليه ولو بلا رشد ".
( [هل يجوز لولي اليتيم أن يأكل من ماله؟] :)
(ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف) ؛ لقوله - تعالى -: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} .
وقد ثبت في " الصحيحين "، عن عائشة أنها قالت: " نزلت هذه الآية في ولي اليتيم؛ إذا كان فقيرا أنه يأكل منه بالمعروف ".
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني فقير، وليس لي شيء، ولي يتيم؟ فقال: " كل من مال يتيمك؛ غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل (2) ".
__________
(1) • في " المسند " (رقم 6747، 7022) ؛ وسنده حسن. (ن)
(2) أي: جامع؛ يقال: مال مؤثل، ومجد مؤثل؛ أي: مجموع. (ش)(3/200)
والمراد بقوله: " ولا مبادر " ما في قوله - تعالى -: {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا} ؛ أي: مسرفين ومبادرين كبر الأيتام، فهذه الآية والحديث مخصصان لقوله - تعالى -: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} .
في " شرح السنة ": " اختلفوا في ذلك؛ فذهب قوم إلى أنه يأكل ولا يقضي، وعليه أحمد، وآخرون إلى أنه يأكل ويرد مثله إذا كبر ".
أقول: اختاره محمد بن الحسن.
والولي يتجر في أموال اليتامى ويضارب، ويفعل ما فيه الغبطة.
قال مالك: قال عمر بن الخطاب: اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة.
وكانت عائشة تعطي أموال اليتامى من يتجر لهم فيها.
قال مالك: لا بأس بالتجارة في أموال اليتامى لهم (1) ، وإذا كان الولي مأمونا فلا أرى عليه ضمانا.
قلت: وعليه الشافعي -[كما] في " المنهاج " -: وله - أي: للولي - بيع ماله بقرض ونسيئة للمصلحة، ويزكي ماله، وينفق عليه بالمعروف.
__________
(1) سبق القول في هذه المسألة، وتخريج الأحاديث والآثار الواردة فيها.(3/201)
(الكتاب الثالث والعشرون: كتاب اللقطة)(3/203)
(23 - كتاب اللقطة)
( [ما يفعل من وجد لقطة] :)
(من وجد لقطة فليعرف عفاصها) : وهو الوعاء الذي تكون فيه من جلد، أو خرقة، أو غير ذلك؛ من العفص: وهو الثني والعطف، وبه سمي الجلد الذي يكون على رأس القارورة (1) .
(ووكاءها) وهو الخيط الذي يشد به الوعاء، قيل: فائدة المعرفة: أنه لو ادعاها أحد ووصفها دفعها إليه.
وقيل: أن لا تختلط بماله اختلاطا لا يمكن معه التمييز إذا جاء مالكها.
في " شرح السنة ":
" قال الشافعي: إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه أنه صادق؛ فله أن يعطيه، ولا أجبره عليه إلا ببينة؛ لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها. وفي " الهداية ": فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء ". انتهى (2) .
__________
(1) • يعني: سمي عصافا؛ كما صرح في " النهاية ".
ولعله سقط من قلم المؤلف. (ن)
(2) • قلت: وهذا خلاف ظاهر قوله [صلى الله عليه وسلم] الآتي: " فهو أحق بها "، وقوله: " فأعطها إياه ".
قال الخطابي: " إن صحت هذه اللفظة؛ لم يجز مخالفتها ". =(3/205)
( [كيف تسلم اللقطة إلى صاحبها؟] :)
(فإن جاء صاحبها دفعها إليه) ؛ لحديث عياض بن حمار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، أو ليحفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء صاحبها؛ فلا يكتم؛ فهو أحق بها، وإن لم يجيء صاحبها، فهو مال الله يؤتيه من يشاء "، أخرجه أحمد (1) ، وابن ماجه، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان.
وفي " الصحيحين " من حديث زيد بن خالد، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الذهب والورق؟ فقال: " اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ".
وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: " ما لك ولها؟ ! دعها؛ فإن معها حذاءها وسقاءها؛ ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها ".
وسأله عن الشاة؟ فقال: " خذها؛ فإنما هي لك، أو لأخيك (2) ، أو للذئب ".
وفي لفظ لمسلم: " فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها ووكاءها؛
__________
= قال الحافظ (5 / 59) : " قلت: قد صحت، فتعين المصير إليها "؛ يعني: من حديث أبيّ الآتي. (ن)
(1) • في " المسند " (4 / 162، 266) ، وأبو داود (1 / 270) ، وسنده صحيح. (ن)
(2) • قال الحافظ: (5 / 62) : " والمراد به ما هو أعم من صاحبها، أو من ملتقط آخر ".
قلت: بل المراد صاحبها؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعا؛ بلفظ: " لك، أو لأخيك، أو للذئب؛ احبس على أخيك ضالته ".
وسنده حسن؛ أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (4 / 135) (ن) .(3/206)
فأعطها إياه؛ وإلا فهي لك ".
وفي " مسلم "، وغيره (1) من حديث أبي بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " عرفها؛ فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها؛ فأعطها إياه؛ وإلا فاستمتع بها ".
فدل ما ذكرناه على أنه إذا جاء صاحبها دفعها إليه.
وفي " إعلام الموقعين ":
" قال: يا رسول الله! فاللقطة يجدها في سبيل العامرة؟ قال: " عرفها حولا؛ فإن وجدت باغيها فأدها إليه؛ وإلا فهي لك " قال: ما يوجد في الخراب؟ قال: " فيه وفي الركاز الخمس ". ذكره أحمد، وأهل السنن ".
قال ابن القيم: " والإفتاء بما فيه متعين وإن خالفه من خالفه، فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه ". انتهى.
( [متى يجوز له صرف اللقطة؟] :)
(وإلا عرف بها حولا، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه، ويضمن مع مجيء صاحبها) ؛ يعني: إن جاء صاحبها بعد ذلك عرفها له، إن كان قد أتلفها، وأرجعها بعينها إن كانت باقية؛ كما يفيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ".
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب التعريف بعد الحول.
__________
(1) ك " البخاري " (5 / 59) . (ن)(3/207)
وقد ورد في لفظ للبخاري - من حديث أبيّ - ما يدل على أن التعريف يجب بعد الحول، ولفظه: قال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " عرفها حولا "، فعرفتها، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته ثانيا، فقال: " عرفها حولا "، فلم أجد، ثم أتيته ثالثا، فقال: " احفظ وعاءها وعددها ووكاءها؛ فإن جاء صاحبها؛ وإلا فاستمتع بها "، فاستمتعت بها، فلقيته - بعد - بمكة (1) .
وقد وقع الاختلاف بين الحفاظ في هذه الرواية:
فعن بعضهم: أن الزيادة على العام غلط؛ كما جزم بذلك ابن حزم.
قال ابن الجوزي: والذي يظهر لي أن سلمة أخطأ فيها، ثم ثبت واستمر على عام واحد.
وجمع بعضهم بأن الزيادة على العام محمولة على مزيد الورع.
والكلام في ذلك يطول.
والمراد بقوله في الحديث: " ولتكن وديعة عندك ": أنه يجب ردها، فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب الرد؛ لعوضها بعد الاستنفاق بها.
قال في " المسوى ":
__________
(1) • تنبيه: قوله: فلقيته - بعد - بمكة؛ ليس من كلام أبيّ؛ بل من كلام شعبة، والضمير يعود إلى شيخه سلمة بن كهيل، وتمامه في " الصحيحين ": فقال: لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولا واحدا؟ !
وفي رواية لمسلم (5 / 136) قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: " عرفها عاما واحدا " (ن) .(3/208)
" قوله: " عرف سنة " عليه الشافعي وأبو حنيفة.
وخص منه الحقير؛ لحديث علي: أنه التقط دينارا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه (1) .
وفي " المنهاج ":
" والأصح أن الحقير لا يعرف سنة؛ بل زمنا يظن أن صاحبه يعرض عنه غالبا ".
وفي " الوقاية ": " عرفت مدة لا تطلب بعدها ".
( [المبالغة في تعريف لقطة مكة] :)
(ولقطة مكة) المكرمة زادها الله شرفا (أشد تعريفا من غيرها) ؛ لما ثبت في " الصحيح ": " أنها لا تحل لقطة مكة إلا لمعرف ".
مع أن التعريف لا بد منه في لقطة مكة وغيرها؛ فحمل ذلك على المبالغة في التعريف؛ لأن الحاج قد يرجع إلى بلده ولا يعود، فاحتاج الملتقط لها إلى المبالغة في التعريف، وقد قيل غير ذلك.
__________
(1) • رواه أبو داود (1 / 271) بسند حسن؛ كما في " التلخيص الحبير " (ص 261 - طبع الهند) .
وأعله البيهقي بالاضطراب.
وفي رواية عنده: فأمره أن يعرفه؛ وفي سنده انقطاع؛ انظر " الجوهر النقي " (6 / 187 - 188) . (ن)(3/209)
( [هل يجوز له أن ينتفع بالشيء الحقير من اللقطة؟] :)
(ولا بأس بأن ينتفع الملتقط بالشيء الحقير - كالعصا والسوط ونحوهما - بعد التعريف به ثلاثا) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث جابر، قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به.
وفي إسناده المغيرة بن زياد، وفيه مقال، وقد وثقه وكيع، وابن معين، وابن عدي (1) .
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: " لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ".
وقد أخرج أحمد، والطبراني، والبيهقي من حديث يعلى بن مرة مرفوعا:
" من التقط لقطة يسيرة؛ حبلا أو درهما أو شبه ذلك؛ فليعرفها ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك؛ فليعرفه ستة أيام ".
زاد الطبراني: " فإن جاء صاحبها؛ وإلا فليتصدق بها ".
وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، وهو ضعيف.
__________
(1) • قلت: وشيخه فيه عند أبي داود (1 / 272) أبو الزبير، وقد عنعنه.
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (6 / 195) ؛ وقال: " في رفع هذا الحديث شك، وفي إسناده ضعف ". (ن)(3/210)
وأخرج عبد الرزاق من حديث أبي سعيد: أن عليا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدينار وجده في السوق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عرفه ثلاثا "، ففعل، فلم يجد أحدا يعرفه، فقال: " كله " (1) .
وأما إذا كان الشيء مأكولا؛ فلا يجب التعريف به؛ بل يجوز أكله في الحال؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في التمرة.
( [ما يلتقط من الدواب] :)
(وتلتقط ضالة الدواب إلا الإبل) ؛ للحديث المتقدم عن زيد بن خالد، وإلحاق سائر الدواب بالشاة؛ لكونها مثلها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ".
ولا يخرج من ذلك إلا الإبل؛ كما صرح به صلى الله عليه وسلم، ومما يفيد ذلك ما أخرجه مسلم من حديث زيد بن خالد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأوي (2) الضالة إلا ضال ما لم يعرفها "؛ فإن الضالة تصدق على الشاة وغيرها، وقد قيد ذلك بالتعريف؛ فدل على جواز الالتقاط، وخرجت الإبل بالحديث الآخر.
في " المنهاج ":
" والحيوان الممتنع من صغار السباع بقوة؛ أو بعدو أو طيران؛ إن وجد بمفازة فللقاضي التقاطه، ويحرم التقاطه للتملك، وإن وجد بقرية فالأصح جواز التقاطه للتملك، وما لا يمتنع منها - كشاة - يجوز التقاطه في القرية والمفازة، ولا فرق عند أبي حنيفة بين أن يكون بهيمة أو غيرها.
__________
(1) • وفي سنده انقطاع؛ فانظر " الجوهر النقي " (6 / 187) ، و " التلخيص ". (ن)
(2) • في " اللسان ": " أويت الإبل؛ بمعنى آويتها ". (ن)(3/211)
(الكتاب الرابع والعشرون: كتاب القضاء)(3/213)
(24 - كتاب القضاء)
( [من يصح منه القضاء؟] :)
(إنما يصح قضاء من كان مجتهدا) ؛ لما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراه الله، ولا يعرف العدل إلا من كان عارفا بما في الكتاب والسنة من الأحكام، ولا يعرف ذلك إلا المجتهد؛ لأن المقلد إنما يعرف قول إمامه دون حجته.
وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من كان مجتهدا؛ لا من كان مقلدا، فما أراه الله شيئا؛ بل أراه إمامه ما يختاره لنفسه.
ومما يدل على اعتبار الاجتهاد: حديث بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة؛ فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق، وجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار "،
أخرجه ابن ماجه، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، والحاكم - وصححه -، وقد جمع ابن حجر طرقه في جزء مفرد (1) .
__________
(1) انظر " الإرواء " (2614) لشيخنا.(3/215)
ووجه الدلالة منه أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا.
( [المقلد لا يجوز له أن يتقلد القضاء] :)
وأما المقلد؛ فهو يحكم بما قال إمامه، ولا يدري أحق هو أم باطل؟ فهو القاضي الذي قضى للناس على جهل، وهو أحد قاضيي النار.
ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله - تعالى -: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ، و {الظالمون} ، و {الفاسقون} ، ولا يحكم بما أنزل الله إلا من يعرف التنزيل والتأويل.
ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال له: " بما تقضي؟ "، قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ "، قال: فبسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد؟ "، قال: فبرأيي.
قال الماتن: وهو حديث مشهور (1) ، قد بينت طرقه ومن خرجه في بحث مستقل.
ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة، ولا رأي له، بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب أو السنة فيقضي به، أو ليس بموجود فيجتهد برأيه.
فإذا ادعى المقلد أنه حكم برأيه؛ فهو يعلم أنه يكذب على نفسه؛
__________
(1) • ولكن إسناده ضعيف؛ فيه الحارث بن عمرو؛ مجهول، كما في " التقريب " وغيره.
وقد بين الحافظ ضعف الحديث في " التلخيص " (ص 401) . (ن)
قلت: وانظر " السلسلة الضعيفة " (881) ؛ وقد كنت كتبت منذ أكثر من عشر سنوات جزءا في تخريجه والكلام عليه؛ عنوانه " الإيناس "، ولم يطبع {}(3/216)
لاعترافه بأنه لا يعرف كتابا ولا سنة، فإذا زعم أنه حكم برأيه؛ فقد أقر على نفسه أنه حكم بالطاغوت.
وللسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رسالة مستقلة في تيسير الاجتهاد سماها: " إرشاد النقاد "، فليرجع إليها.
أقول: الحاصل أن المقلد ليس ممن يعقل حجج الله إذا جاءته؛ فضلا عن أن يعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح.
بل لا ينبغي أن ينسب المقلد إلى العلم مطلقا، ولهذا نقل عضد الدين الإجماع على أنه لا يسمى المقلد عالما (1) .
وأما ما صار يستروح إليه من جوز قضاء المقلد من قلة المجتهدين في الأزمنة الأخيرة، وأنه لو لم يل القضاء إلا من كان مجتهدا لتعطلت الأحكام! فكلام في غاية السقوط، فالمجتهدون في كل قطر، ولكنهم في زمان غربة:
فمنهم من يخفي اجتهاده مخافة صولة المقصرين.
ومنهم من يحتقره المقلدون عن أن يكون مجتهدا لضيق أعطانهم، وحقارة عرفانهم، وتبلد أذهانهم، وجمود قرائحهم، وخمود أفكارهم، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله.
ولقد عرفت مشايخي الذين أخذت عنهم العلم؛ فأكثرهم مجتهدون.
__________
(1) • ونقله - أيضا - ابن عبد البر في " جامع بيان العلم "، وابن القيم " في إعلام الموقعين "، وأبو الحسن السندي في حاشيته على " سنن ابن ماجه "، والفلاني في " إيقاظ الهمم "، وغيرهم. (ن)(3/217)
وفي مدينة صنعاء من المجتهدين من يستغنى به عن القضاة المقلدين في جميع الأقطار اليمنية، مع أنه لا يسلم لهم الاجتهاد إلا من كان مثلهم أو مقاربا لهم.
وأما أسراء التقليد؛ فهيهات أن يذعن واحد منهم لأحد بالاجتهاد مع أن العلوم المعتبرة في الاجتهاد عند هؤلاء المقلدين؛ هي العلوم الخمسة المذكورة في كتب أصول الفقه (1) ، وهي بالنسبة إلى ما يحفظ من وصفناه من المجتهدين شيء يسير.
قال الماتن - رحمه الله -: " ومن غريب ما أحكيه لك: أنه لما كثر الخلط من قضاة حضرة الخلافة؛ استأذنت الخليفة - حفظه الله - في جمعهم لقصد ترغيبهم في العدل، وترهيبهم عن الجور، فاجتمع منهم نحو أربعين قاضيا، فسألتهم عن شيء مما يتعلق بشروط القضاء المدونة في كتب الفروع؟ فلم يهتد أحد منهم إلى الجواب على وجه الصواب؛ بل اعترفوا جميعا بالقصور عن فهم دقائق التقليد؛ فضلا عن معرفة علوم الاجتهاد أو بعضها!
وليت أنهم إذا قصروا في العلم لم يقصروا في الورع، فإن الورع يردع صاحبه عن المجازفة، ويرشده إلى أن شفاء العي السؤال، ويكفه عن التسلق لأموال المسلمين، ويرده عن التسرع إليها بأدنى شبهة.
ولعمري أن القاضي إذا جمع بين الجهل وعدم الورع أشد على عباد الله من الشيطان؛ لأنه يقضي بين الناس بالطاغوت؛ موهما لهم أنه إنما يقضي
__________
(1) • وهي معرفة العربية، وأصول الفقه والمعاني والبديع، ومعرفة الآيات القرآنية الشرعية، ومعرفة جملة من الأخبار النبوية؛ انظر " تيسير الاجتهاد " (23 - 26) . (ن)(3/218)
بينهم بالشريعة المطهرة، ثم ينصب الحبائل لاقتناص أموالهم، ويأكلها بالباطل؛ ولا سيما أموال اليتامى والنساء.
اللهم {أصلح عبادك، وتداركهم من كل ما لا يرضيك ". انتهى.
فإن قلت: حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عليا إلى اليمن قاضيا، فقال: يا رسول الله} بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء؟ قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدري، وقال: " اللهم اهده وثبت لسانه "، قال علي: فوالذي فلق الحبة؛ ما شككت في قضاء بين اثنين. أخرجه أهل " السنن "، وغيرهم (1) ؛ هل يدل على جواز قضاء من ليس بمجتهد؛ لقوله: أنا شاب ولا أدري ما القضاء؟ !
قلت: من تمسك بهذا؛ فليأتنا برجل يدعو للقاضي الذي لا علم له بالقضاء بمثل هذه الدعوة النبوية؛ حتى لا يشك بعدها كما لم يشك علي - كرم الله وجهه - بعد تلك الدعوة، فإذا فعل هذا فنحن لا نخالفه.
والكلام على هذه المسألة يحتمل البسط، وقد قضينا عنها الوطر في كتابنا: " ظفر اللاضي (2) بما يجب في القضاء على القاضي "؛ فليراجع، فإن فيه ما يشفي العليل، ويهدي إلى سواء السبيل.
( [ما هي صفات القاضي؟] :)
(متورعا عن أموال الناس، عادلا في القضية، حاكما بالسوية) ؛ لكون من
__________
(1) له طرق في " المسند " (636، 666، 1445) ؛ هو بها ثابت.
(2) • من لضى؛ إذا حذق بالدلالة. " لسان ". (ن)(3/219)
لم يتورع عن أموال الناس لا يتورع عن الرشوة، وهي تحول بينه وبين الحق؛ كما سيأتي.
وهكذا من لم يكن عادلا - لجرأة فيه أو مداهنة أو محاباة - فهو يترك الحق وهو يعلم به، فهو أحد قضاة النار؛ لأنه عرف الحق وجار في الحكم.
قال في " الحجة البالغة ":
" أقول: لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلا بريئا من الجور والميل، وقد عرف منه ذلك، وعالما يعرف الحق؛ لا سيما في مسائل القضاء.
والسر في ذلك واضح، فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها ".
أقول: وأما توليه القضاء من جهة الظلمة؛ فالسلطان الذي أوجب الله طاعته في كتابه العزيز، وتواترت الأحاديث الصحيحة بذلك؛ هو من كان مسلما لم يفعل ما يوجب كفرا بواحا (1) ، وكان مقيما لأعظم أركان الإسلام وأجل شعائره؛ وهو الصلاة؛ فهذا هو السلطان الذي تجب على الناس طاعته، وامتثال أوامره، ويحرم عليهم أن ينزعوا أيديهم من طاعته، ولكن بشرط أن لا يكون ما يأمر به معصية؛ لما ثبت أن: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، وأن " الطاعة في المعروف "، فإذا أمر بما هو من الطاعة وجب الامتثال، وأمره للعالم بأن يكون قاضيا هو أمر بطاعة يجب امتثاله بنص الكتاب والسنة.
__________
(1) بفتح الباء والواو؛ أي: جهارا؛ من باح بالشيء: إذا أعلنه.(3/220)
ولا يقدح في ذلك كونه مرتكبا لشيء مما لا يحل له، أو يظلم الرعية في بعض ما لا يحل له، فإن ذلك أمر آخر لا يوجب سقوط طاعته، ونعم القدوة السلف الصالح، فقد كانوا يعملون لسلاطين بني أمية الأعمال، ويلون لهم القضاء؛ مع كونهم في العلم والعمل بمكان لا يجهله أحد، وسلاطين تلك الأزمنة فيهم من يستحل الدماء بغير حقها، والأموال بدون حلها (1) .
نعم؛ القضاء قد ورد فيه ما يدل على الترغيب تارة والترهيب أخرى، بل ورد في الإمارة - التي هي أعم من القضاء - ما يشعر بأن تجنبها أولى.
( [الجمع بين أحاديث الترغيب في القضاء والترهيب منه] :)
والجمع بين الأحاديث - فيما يظهر لي - يرجع إلى الأشخاص:
فمن علم من نفسه القيام بالحق، والصدع به، وعدم الضعف في الأمر، وقوة الصلابة في القضاء والعفة عن الأموال، والتسوية بين القوي والضعيف؛ فالدخول في القضاء أولى له إن لم يكن واجبا عليه؛ بشرط أن يكون في العلم على الصفة التي قدمنا ذكرها.
ومن كان يضعف عن هذه الأوصاف؛ فالترك أولى به، وقد يجب عليه الترك.
ومما يرشد إلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: " إني أراك ضعيفا "، ثم أرشده إلى عدم الدخول في الإمارة؛ كما ثبت ذلك في الحديث المشهور (2) .
__________
(1) قارن بكتابي " صيحة نذير بخطر التكفير ".
(2) رواه مسلم (1826) .(3/221)
وقد أوضحت المقام في رسالتي في القضاء، وبسطت المقال على مسائل الإمامة في كتابي " إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة "، وهما هما في هذين البابين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو المستعان، وبه التوفيق.
( [ما حكم من يحرص على القضاء؟] :)
(ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه) ؛ لحديث عبد الرحمن بن سمرة في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه - (1) من حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده ".
وأخرج البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" إنكم ستحرصون على الإمارة؛ وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ".
__________
(1) • قلت: وفيه نظر؛ لأن مداره على عبد الأعلى الثعلبي، عن بلال بن مرداس الفزاري؛ والأول ضعفه الجمهور؛ كما قال الشوكاني (8 / 214) ، والآخر جهله ابن القطان، وإن وثقه ابن حبان.
ثم إن في سنده اختلافا بينه الترمذي نفسه في " سننه " (2 / 275) ؛ وانظر " التلخيص " (ص 410) . (ن)(3/222)
ولا ينافي هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه (1) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره؛ فله الجنة، ومن غلب جوره عدله؛ فله النار "؛ لأن إثم الطلب قد لزمه بالطلب، وحصل له الثواب بعد ذلك بالعدل الغالب على الجور.
قال الماتن في " نيل الأوطار ":
" وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف، واشتروه بالأموال ممن هو أجهل منهم؛ حتى عمت البلوى بهم جميع الأقطار اليمنية ". اه.
قلت: ومثل ذلك وقع في الحرمين الشريفين من جهة الترك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
( [هل يحل للإمام تولية من طلب القضاء؟] :)
(ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك) ؛ أي: حريصا على القضاء أو طالبا له؛ لحديث أبي موسى في " الصحيحين "، قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله {أمِّرنا على بعض ما ولاك الله - عز وجل -، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: " إنا - والله - لا نولي هذا العمل أحدا يسأله؛ أو أحدا يحرص عليه ".
__________
(1) • كذا قال} وهو فيه تبع للشوكاني (8 / 214) !
وفيه علة ظاهرة؛ وهي الجهالة؛ لأنه عند أبي داود (2 / 113 - 114) ؛ من طريق موسى بن نجدة.
قال الذهبي: " لا يعرف "، وقال الحافظ: " مجهول ". (ن)(3/223)
والسر فيه: أن الطالب لا يخلو غالبا من داعية نفسانية؛ من مال أو جاه، أو التمكن من انتقام عدو، ونحو ذلك، فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات.
( [حكم أخذ الأجر على القضاء] :)
أقول: وأما أخذ الرزق على القضاء؛ فمال الله موضوع لمصالح المسلمين، ولهذا قيل له: بيت مال المسلمين.
ومن أعظم مصالح دينهم ودنياهم القاضي العادل في أحكامه، العارف من الشريعة المطهرة بما يحتاج إليه في حله وإبرامه؛ بل ذلك هو المصلحة التي لا توازنها مصلحة؛ لأنه يرشدهم إلى مناهج الشرع، ويفصل خصوماتهم بأحكام الله، فهو المتحمل لأعباء الدين، المترجم عنه لمن يحتاج إليه من المسلمين، فرزقه من بيت المال من أهم الأمور؛ ولا سيما إذا استغرق أوقاته في فصل خصوماتهم، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدون، ومن بعدهم من السلف الصالح يقسمون أموال الله بين المسلمين، ويجعلون للعلماء نصيبا موفرا.
فالقاضي إذا كان متورعا عن أموال العباد، قائما بمصالح الحاضر منهم والباد؛ فقد استحق ما يكفيه من بيت المال من جهات؛ منها كونه من المسلمين، ومنها كونه عالما، ومنها كونه قاضيا.
وأما ما اعتاده جماعة من القضاة من أخذ الأجرة من الخصوم على الرقوم، فمن كان مكفيا من بيت مال المسلمين؛ لا يحل له ذلك! لأنه قد(3/224)
قبض أجرته من بيت المال، وإن أظهر من يأتيه أن نفسه طيبة به، فالذي أوجب طيبها كونه قاضيا، وكون الأعراف قد جرت بمثل ذلك، وإلا فهو لا يسمح له بماله لو لم يكن كذلك، وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة.
وأما إذا لم يكن مكفيا من بيت المال؛ فشرط الحل أن يأخذ مقدار أجرته بطيبة من نفس من يقصده، ويكون كالأجير له حكمه؛ لكونه غير مؤجر من بيت مال المسلمين.
( [القاضي المتأهل على خطر عظيم] :)
(ومن كان متأهلا للقضاء؛ فهو على خطر عظيم) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني، وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من جعل قاضيا بين الناس؛ فقد ذبح بغير سكين (1) ".
قال في " الحجة البالغة ":
__________
(1) • حديث صحيح؛ فرواه أحمد (2 / 365) ، وأبو داود (2 / 113) ، وابن ماجه (2 / 48) ، والدارقطني (ص 511) ، والحاكم، وكذا النسائي في " الكبرى " (3 / 2) ، (4 / 91) ، والبيهقي (10 / 96) ؛ من طريق عثمان بن محمد الأخنسي، والترمذي (2 / 275) ، والدارقطني، وكذا أبو داود، والبيهقي؛ عن عمرو ابن أبي عمرو - كلاهما -، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وصححه الحاكم، والذهبي، والعراقي في " تخريج الإحياء " (3 / 280) .
وأعله المنذري (5 / 205) بالأخنسي هذا {فسها عن المتابعة التي ذكرتها، وتبعه على هذا السهو الشوكاني (8 / 217) ، وكذا المؤلف؛ إلا أن هذا وقع في وهم آخر؛ وهو أنه ذكر أن الأخنسي هذا في سند الحديث الذي بعد هذا} وليس كذلك؛ لما سترى. (ن)(3/225)
" هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل، وأن الإقدام عليه مظنة للهلاك؛ إلا أن يشاء الله ". انتهى.
وأخرج أحمد (1) ، وابن ماجه، والبيهقي من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" ما من حاكم يحكم بين الناس؛ إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على جهنم، ثم يرفع رأسه إلى الله - عز وجل - فإن قال: ألقه، ألقاه في مهوي، فهوى أربعين خريفا "، وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنسي، وفيه مقال (2) .
وأخرج ابن ماجه، والترمذي وحسنه، والحاكم في " المستدرك "، وابن حبان من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وكله إلى نفسه ".
وفي لفظ الترمذي: " فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان ".
وفي الباب أحاديث مشتملة على الترهيب، وأحاديث مشتملة على الترغيب، وقد استوفاها الماتن في " شرح المنتقى ".
__________
(1) • في " المسند " (رقم 4097) ، وابن ماجه (2 / 49) ، والبيهقي (10 / 96 - 97) ؛ عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله.
ومجالد فيه ضعف. (ن)
(2) وثقه ابن معين، والبخاري، وابن حبان. (ش)(3/226)
( [إذا أصاب القاضي له أجران، وإذا أخطأ له أجر] :)
(وله مع الإصابة أجران، ومع الخطأ أجر؛ إن لم يأل جهدا في البحث) ؛ يعني: بذل طاقته في اتباع الدليل؛ وذلك لأن التكليف بقدر الوسع، وإنما وسع الإنسان أن يجتهد، وليس في وسعه أن يصيب الحق البتة.
ودليله حديث عمرو بن العاصي الثابت في " الصحيحين "، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ".
وقد ورد في روايات (1) : " أنه إذا أصاب فله عشرة أجور ".
( [الرشوة حرام وخاصة على القاضي] :)
(وتحرم عليه الرشوة) ؛ وفي " الأنوار " في تفسير الرشوة وجهان:
الأول: أن الرشوة هي التي يشترط على قابلها الحكم بغير الحق، أو الامتناع عن الحكم بالحق.
والثاني: بذل المال لأحد ليتوسل بجاهه إلى أغراضه، إذا كان جاهه بالقضاء والعمل، فذلك هو الرشوة.
ويحرم على الرعية إعطاء الرشوة للحاكم ليتوسلوا بذلك إلى ظلم، ويحرم على الحاكم أخذها؛ قال الله - تعالى -: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم
__________
(1) • قلت: وكلها ضعيفة منكرة، لا يستشهد بشيء منها، والعمدة في الباب على حديث " الصحيحين ". (ن)(3/227)
بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} ؛ كذا في " المسوى ".
وروى مالك بإسناده أن عبد الله بن رواحة قال ليهود خيبر: فأما ما عرضتم من الرشوة؛ فإنما هي سحت، وإنا لا نأكلها.
( [الهدية حرام على القاضي] :)
(والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضيا) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد (1) ، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان - وصححه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -، وابن حبان، والطبراني، والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو - كحديث أبي هريرة -.
وأخرج أحمد، والحاكم من حديث ثوبان، قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي والرائش - يعني: الذي يمشي
__________
(1) • في " المسند " (2 / 387) ، والترمذي (2 / 279) ، والحاكم (4 / 103) ؛ عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة - وحسنه الترمذي -.
وعمر - هذا - فيه ضعف، وقد تفرد بقوله: " في الحكم ".
فهذا القدر من حديثه ضعيف، وسائره صحيح؛ لأن له شواهد. (ن)
قلت: وانظر " الضعيفة " (1235) .(3/228)
بينهما -، وفي إسناده ليث بن أبي سليم؛ قال البزار: إنه تفرد به.
وفي إسناده أيضا أبو الخطاب؛ قيل: وهو مجهول.
وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم، وعن عائشة، وأم سلمة - أشار إليهما الترمذي -.
وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة، وقد استدل على تحريم الرشوة بقوله - تعالى -: {أكالون للسحت} ؛ كما روي عن الحسن، وسعيد بن جبير أنهما فسرا الآية بذلك.
وحكي عن مسروق عن ابن مسعود: أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ فقال: لا؛ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ، و {الظالمون} ، و {الفاسقون} ؛ ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته، فيهدي لك، فإن أهدى لك فلا تقبل.
وقد سبق حديث في هذا المعنى في كتاب الهدايا.
ويدل على تحريم الهدية التي أهديت للقاضي لأجل كونه قاضيا حديث: " هدايا الأمراء غلول ".
أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث ابن حميد؛ قال ابن حجر: وإسناده ضعيف.
ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز.
وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث أبي هريرة؛ قال ابن حجر:(3/229)
وإسناده أشد ضعفا.
وأخرجه سنيد بن داود في " تفسيره " من حديث جابر، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف.
وأخرجه الخطيب في " تلخيص المتشابه " من حديث أنس، بلفظ: " هدايا العمال سحت ".
وأخرج أبو داود من حديث بريدة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: " من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا؛ فما أخذه بعد ذلك فهو غلول ".
وقد بوب البخاري في أبواب القضاء " باب هدايا العمال "، وذكر فيه حديث ابن اللتبية المشهور (1) .
ومما يؤيد ذلك أن الهدية للقاضي لأجل كونه قاضيا نوع من الرشوة عاجلا أو آجلا.
قال ابن القيم:
" أما الهدية؛ ففيها تفصيل:
" فإن كانت بغير سبب الفتوى - كمن عادته يهاديه، أو من لا يعرف أنه مفت - فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافئ عليها.
__________
(1) انظر " فتح الباري " (ج: 13: ص 132 - 135) . (ش)(3/230)
وإن كانت بسبب الفتوى؛ فإن كانت سببا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له؛ لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.
وأما أخذ الرزق من بيت المال؛ فإن كان محتاجا إليه جاز له ذلك.
وإن كان غنيا عنه ففيه وجهان - وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم -؛ فمن ألحقه بعامل الزكاة؛ قال: النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ.
وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي؛ بل القاضي أولى بالمنع.
وأما أخذ الأجرة؛ فلا يجوز؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه؛ كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة، أو سئل عن حلال أو حرام، فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعا، ويلزمه رد العوض ولا يملكه ". انتهى.
( [قضاء القاضي وهو غضبان] :)
(ولا يجوز له الحكم حال الغضب) : لحديث أبي بكرة في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ".
ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن الزبير، عن أبيه في " الصحيحين "، وغيرهما: أنه اختصم هو وأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير:(3/231)
" اسق يا زبير {ثم أرسل الماء إلى أخيك "، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله} أن كان ابن عمتك؟ {فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " اسق يا زبير} ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (1) "؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في غضبه ورضائه، بخلاف غيره؛ فإن الغضب يحول بينه وبين الحق، ويختلط حال الغضب، ويتشوش خاطره، ويتكدر ذهنه، ويذهل عن الصواب.
فلا يصلح الاستدلال بقضائه صلى الله عليه وسلم حال غضبه لهذا الفرق.
فالحق: أن حكم الحاكم حال الغضب حرام.
وأما كونه يصح أو لا يصح؛ فينبغي النظر في نفس الحكم، فإن كان واقعا على الصواب فالاعتبار بذلك، ومجرد صدوره حال الغضب لا يوجب بطلانه، وهو صواب، وإن كان واقعا على خلاف الصواب فهو باطل.
وإذا التبس الأمر: هل هو صواب أو خطأ؟ - كما يحصل الاشتباه في كثير من مسائل الخلاف - فالاعتبار بما رآه الحاكم صوابا؛ لأنه متعبد باجتهاده، فإن وجد حكمه الواقع حال الغضب بعد سكون غضبه صحيحا موافق لما يعتقده حقا؛ فهو صحيح لازم للمحكوم عليه، وإن كان آثما بإيقاع الحكم حال الغضب - كما تقدم - فلا ملازمة بين الإثم وبطلان الحكم، ثم ظاهر النهي التحريم.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح حكم الغضبان إن وافق الحق.
__________
(1) • هو الجدار؛ والمراد به أصل الحائط، وقيل: أصول الشجر، والصحيح الأول؛ كذا في " النيل ". (ن)(3/232)
قال ابن القيم:
" ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد، أو جوع مفرط، أو هم مقلق، أو خوف مزعج، أو نعاس غالب، أو شغل قلب مستول عليه، أو حال مدافعة الأخبثين، بل متى أحس من نفسه شيئا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله، وكمال تثبته وتبينه؛ أمسك عن الفتوى، فإن أفتى في هذه الحال بالصواب صحت فتياه، ولو حكم في هذه الحال؛ فهل ينفذ حكمه أو لا ينفذ؟
فيه ثلاثة أقوال: النفوذ، وعدمه، والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ؛ وبين أن يكون سابقا على فهم الحكومة فلا ينفذ في مذهب الإمام أحمد ".
( [متى يسوي القاضي بين الخصمين؟] :)
(وعليه التسوية بين الخصمين؛ إلا إذا كان أحدهما كافرا) ؛ لحديث علي عند أبي أحمد الحاكم في " الكنى ": أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي، فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك؛ لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا تساووهم في المجالس "، وقد قال أبو أحمد الحاكم بعد إخراجه: إنه منكر.
وأورده ابن الجوزي في " العلل " من هذا الوجه، وقال: لا يصح.(3/233)
ورواه البيهقي (1) من وجه آخر من طريق جابر الجعفي، عن الشعبي، قال: خرج علي إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعا، فعرف علي الدرع ... وذكر الحديث، وفي إسناده عمرو بن سمرة (2) ، عن جابر الجعفي، وهما ضعيفان.
وأخرج أحمد وأبو داود، والبيهقي، والحاكم - وصححه - من حديث عبد الله بن الزبير، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم.
وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير؛ وهو ضعيف.
( [لا يقتصر على السماع من أحد الخصمين دون الآخر] :)
(والسماع منهما قبل القضاء) ؛ لحديث علي عند أحمد، وأبي داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان - وصححه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي! إذا جلس إليك الخصمان؛ فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما
__________
(1) • في " السنن " (10 / 136) ، لكن ليس فيه: " لا تساووهم في المجالس ".
ولفظه: " لا تصافحوهم، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، ولجوهم إلى مضايق الطرق، وصغروهم كما صغرهم الله ". (ن)
(2) • الصواب: " شمر " كما في البيهقي وغيره.
وقول المؤلف فيه: " ضعيف "؛ فيه تسامح سبقه إليه الشوكاني (8 / 229) تبعا لابن حجر في " التلخيص " (405) ؛ فإنه كذاب وضاع، قال فيه الحاكم - على تساهله -: " كان كثير الموضوعات عن جابر الجعفي، وليس يروي تلك الموضوعات الفاحشة عن جابر غيره "، وقال أبو نعيم نحوه.
أقول: فإذا لم يثبت في هذا الباب حديث؛ فالواجب - حينئذ - التسوية مطلقا، بدون الاستثناء المذكور؛ لعموم قوله - تعالى -: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} . (ن)(3/234)
سمعت من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء "؛ وللحديث طرق (1) .
( [على القاضي أن يسهل الدخول عليه] :)
(و) يجب عليه (تسهيل الحجاب) ؛ لحديث عمرو بن مرة عند أحمد (2) ، والترمذي، والحاكم، والبزار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة (3) والمسكنة؛ إلا أغلق الله باب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته ".
وأخرج أبو داود (4) ، والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي - مرفوعا - بلفظ:
" من تولى شيئا من أمر المسلمين؛ فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم؛ احتجب الله عنه دون حاجته "؛ قال ابن حجر في " الفتح ": إن سنده جيد.
وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ:
__________
(1) • وقد ذكرها وتكلم عليها الحافظ في " التلخيص " (401) ، وصحح بعض طرقه الحاكم (4 / 93) ، ووافقه الذهبي. (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 231) ؛ من طريق أبي حسن، عن عمرو بن مرة.
وأبو حسن - هذا -: هو الجزري، وهو مجهول؛ كما في " التقريب ".
ومن طريقه أخرجه الحاكم (4 / 94) ، وصححه، ووافقه الذهبي. (ن)
قلت: وهو حديث صحيح؛ كما في " الصحيحة " (629) .
(3) الخلة - بفتح الخاء -: الحاجة والفقر. (ش)
(4) • في " سننه " (2 / 25) ؛ وسنده صحيح.
ورواه الحاكم (4 / 95) ؛ وفي سنده بقية؛ وقد عنعنه. (ن)(3/235)
" أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم؛ احتجب الله عنه يوم القيامة "؛ قال ابن أبي حاتم: هو حديث منكر.
(بحسب الإمكان) ؛ لأن لنفسه عليه حقا، ولأهله عليه حقا، فلا يلزمه استيعاب كل أوقاته، فإن ذلك يكدر ذهنه ويشوش فهمه، ولا يحتجب كل أوقاته، فإن ذلك ظلم لأهل الخصومات.
وقد ثبت في " الصحيح " من حديث أبي موسى: أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على قف (2) البئر.
وثبت في " الصحيح " أيضا في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا: أن عمر استأذن له الأسود لما قال له: يا رباح! استأذن لي.
وقد ثبت في " الصحيح " أيضا: أنه كان لعمر حاجب يقال له: يرفأ.
( [حكم اتخاذ القاضي للأعوان] :)
(ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة) ؛ لما ثبت في " البخاري " من حديث أنس: أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.
وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم.
( [يجوز للقاضي الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح] :)
(و) يجوز للحاكم (الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح) ؛ لحديث هامش
(2) قف البئر - بضم القاف -: هو الدكة التي تجعل حولها.(3/236)
كعب بن مالك في " الصحيحين " وغيرهما: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى: " يا كعب {" فقال: لبيك يا رسول الله} قال: " ضع من دينك هذا "، وأومأ إليه؛ أي: الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله! قال: " قم فاقضه ".
وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح؛ لأنه شفاعة لمن عليه الدين باستيضاع من له الدين بعضه، وفيه إرشاد إلى الصلح أيضا.
وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة، والقاضي داخل في عموم الأدلة.
( [حكم القاضي لا يحلل الحرام] :)
(وحكمه ينفذ ظاهرا فقط) ؛ لحديث أم سلمة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن (1) بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ".
وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحل الحرام.
قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا
__________
(1) • أي: أبلغ - كما في رواية في " الصحيحين " - (ن) .(3/237)
الحديث الصحيح وللإجماع المذكور.
وبالجملة؛ فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا، ويحلل الحرام، وقد جاؤوا في هذا المقام بما لا ينفق على من له في العلم قدم.
وتفصيل ذلك في " نيل الأوطار " و " مسك الختام ".
واللحن مفتوحة الحاء: الفطنة، يقال: لحنت للشيء - بكسر الحاء - ألحن له لحنا، أي: فطنت، وأما اللحن بسكون الحاء؛ فهو: الخطأ.
قال في " المسوى ":
" اتفق أهل العلم عن أن القضاء في الدماء والأملاك المطلقة لا ينفذ إلا ظاهرا.
واختلفوا في العقود والفسوخ؛ فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينفذ القضاء فيها ظاهرا وباطنا؛ حتى لو شهد شاهدان زورا أن فلانا طلق امرأته، فقضى به القاضي؛ وقعت الفرقة بينهما بقضائه، ويجوز لكل من الشاهدين أن ينكحها.
وقال الشافعي: لا ينفذ باطنا.
وأما المسائل المختلف فيها؛ مثل أن يقضي حنفي بشفعة الجار لرجل لا يعتقد ثبوتها، أو مات رجل عن جد وأخ؛ فقضى القاضي بالميراث للجد على مذهب الصديق - رضي الله تعالى عنه -، والمحكوم له يرى رأي زيد، أو مات رجل عن خال لا يرى توريث ذوي الأرحام؛ فقضى له القاضي بالمال؛ فأكثر أصحاب الشافعي على أنه ينفذ ظاهرا وباطنا؛ لأنه أمر مجتهد فيه لا يتصور(3/238)
ظهور الخطأ فيه يقينا في الدنيا.
وفي الحديث دليل على أن كل مجتهد ليس بمصيب؛ إنما الإصابة لواحد.
وإثم الخطأ موضوع عن الآخر؛ لكونه معذورا فيه؛ وعليه أكثر أهل العلم.
وفي الحديث دليل على أن بينة المدعي مسموعة بعد يمين المدعى عليه، وعليه الشافعي (1) ". انتهى.
(فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقا للواقع) لما تقرر أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني - في إيقاع أو وقوع - فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا، فلا يحل به الحرام ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه، ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع.
ويجبر من امتنع منه، فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له بباطل لم يحلل له قبوله، ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق.
ومن قال: ينفذ حكم الحاكم ظاهرا وباطنا؛ فمقالته باطلة، وشبهتها داحضة، وقد دفعها الله - عز وجل - في كتابه العزيز بقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} ، ودفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار ".
__________
(1) أين الاستدلال على هذا في الحديث الذي سبق؟ {وسيأتي في آخر (كتاب الخصومة) اختيار المصنف والشارح عدم قبول البينة بعد اليمين، ولم يأت هناك بشيء من الأحاديث للاستدلال على أحد القولين} (ش)(3/239)
هذا على تقدير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها، والذي في كتبهم تخصيص ذلك بما عدا الأموال.
ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب! ومن لا يقول بذلك؛ لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر، وما هو الحكم عند الله - عز وجل - وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران "، فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى، ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي.
وبهذا نعرف أن المراد بقول من قال: كل مجتهد مصيب؛ أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ؛ لا من الإصابة التي تنافيه؛ والله أعلم.(3/240)
(الكتاب الخامس والعشرون: كتاب الخصومة)(3/241)
(25 - كتاب الخصومة)
( [البينة على المدعي] :)
(على المدعي البينة) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه "؛ كما في " الصحيحين " من حديث الأشعث بن قيس.
وأخرجه مسلم من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: " ألك بينة؟ "، قال: لا، قال: " فلك يمينه ".
( [اليمين على المنكر] :)
(وعلى المنكر اليمين) : لحديث ابن عباس في " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه.
وأخرجه البيهقي (1) بإسناد صحيح بلفظ: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ".
وأخرج ابن حبان من حديث ابن عمر نحوه.
وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه.
__________
(1) • في " السنن الكبرى " (10 / 252) ؛ وسنده صحيح كما قال. (ش)(3/243)
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وروي عن مالك أنه لا يتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط؛ لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل.
وهو رد للرواية بمحض الرأي.
(1 -[يحكم الحاكم بالإقرار] :)
(ويحكم الحاكم بالإقرار) ؛ وليس في ذلك خلاف، ودلالة الكتاب العزيز على لزوم حكم الإقرار للمقر، وفيه من ذلك الكثير الطيب؛ فإن الله سبحانه رتب في كتابه العزيز أحكاما وعقوبات على حصول أمور هي إقرارات؛ وإن لم يذكر فيها لفظ الإقرار، وهو أقوى مستندات الحكم إذا لم يكن معلوم البطلان، ولزوم المقر لما أقر به؛ وجواز الحكم للحاكم بإقراره لا يحتاج إلى إيراد الأدلة عليه؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسفك به الدماء، ويقيم الحدود، ويقطع الأموال؛ بل اكتفى به في أعظم الأمور وهو الرجم؛ كما وقع من المقر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث: " واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها "، وهو في " الصحيح " كما سيأتي؛ فكيف بالإقرار فيما هو أخف من الرجم؟
(2 -[الحكم بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين] :)
(و) الحكم (بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين) ؛ لنص القرآن الكريم، وليس في ذلك خلاف إذا كان الشهود مرضيين؛ كما قال - تعالى -: {ممن ترضون من الشهداء} .(3/244)
(3 -[يحكم الحاكم بشهادة رجل ويمين المدعي] :)
(أو رجل ويمين المدعي) ؛ لحديث ابن عباس - عند مسلم وغيره -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد؛ وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والبيهقي، من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد؛ وهو من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر.
قد روي من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق؛ أخرجه أحمد، والدارقطني.
وقد صحح حديث جابر أبو عوانة، وابن خزيمة.
وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي من حديث أبي هريرة، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد، ورجال إسناده ثقات، وصححه أبو حاتم وأبو زرعة.
وأخرجه ابن ماجه، وأحمد من حديث سرق، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا الراوي له عن سرق؛ فإنه مجهول.
وقد ذكر ابن الجوزي في " التحقيق " عدد من روى هذا الحديث - يعني: حكمه صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين من الصحابة -؛ فزاد على عشرين صحابيا (1) .
وإليه ذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم.
__________
(1) • ذكره الحافظ في " التلخيص " (ص 410) ؛ وقال: " وأصح طرقه: حديث ابن عباس، ثم حديث أبي هريرة ". (ن)(3/245)
ويروى عن زيد بن علي، والزهري، والنخعي، وابن شبرمة، والحنفية: أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين.
وأحاديث هذا الباب ترد عليهم.
قلت: قال مالك في " الموطأ ": مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد؛ يحلف صاحب الحق مع شاهده، ويستحق حقه، فإن نكل أو أبى أن يحلف؛ أُحلف المطلوب؛ فإن حلف سقط عنه ذلك الحق، وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه.
قال مالك: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة، ولا يقع ذلك في شيء من الحدود، ولا في نكاح، ولا في طلاق، ولا في عتاقة، ولا في سرقة، ولا في فرية.
قال مالك: ومن الناس من يقول: لا يكون اليمين مع الشاهد الواحد، ويحتج بقول الله - تبارك وتعالى -: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} ؛ يقول: فإن لم يأت برجل وامرأتين فلا شيء له، ولا يحلف مع شاهده.
قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول؛ أن يقال له: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا؛ أليس يحلف المطلوب: ما ذلك الحق عليه؛ فإن حلف بطل ذلك عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق: إن حقه لحق، وثبت حقه على صاحبه؟ فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس، ولا ببلد من البلدان، فبأي شيء أخذ هذا؟ وفي أي كتاب الله وجده؟ فإذا أقر(3/246)
بهذا فليقر باليمين مع الشاهد، وإن لم يكن ذلك في كتاب الله، وإنه ليكفي ذلك ما مضى من السنة، ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب وموقع الحجة؛ ففي هذا يجيء بيان؛ إن شاء الله تعالى.
قال في " المسوى ":
" وعلى هذا أهل العلم؛ إلا مسألة القضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدعي في الأموال خاصة:
قال الشافعي: يجوز ذلك.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز.
وقد قال - تعالى - في حد القذف: {فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} ، وقال في الطلاق: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، وقال في الدَّين: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} .
وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - وهو عامل على الكوفة -: أن اقض باليمين مع الشاهد.
وإن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا: هل يقضى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم.
والحاصل: أن شهود الزنا أربعة، وشهود سائر الحقوق اثنان، وشهود(3/247)
الأموال رجلان؛ أو رجل وامرأتان، فإن لم يتيسر؛ قضي بيمين المدعي مع الشاهد الواحد ".
أقول: الحق: أن الحكم بالشاهد العدل واليمين واجب، وقد ثبت ذلك في السنة ثبوتا لا ينكره إلا من لا يعرف السنة.
وجملة من رواه من الصحابة زيادة على عشرين رجلا، وللمانعين من ذلك أجوبة خارجة عن الإنصاف.
وأشف ما تمسكوا به: أن الله تعالى أمر بإشهاد رجلين، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " شاهداك أو يمينه ".
ولا يخفاك أنه ليس في ذلك ما يفيد الحصر؛ بل غاية ما فيه: أن مفهومه يدل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين، ولا حكم لهذا المفهوم مع وجود المنطوق؛ وهو القضاء بالشاهد واليمين؛ مع أن هذا المفهوم هو مفهوم لقب؛ وهو مما لا يعمل به نحارير الأصول؛ كما ذلك معروف.
وقد استوفى الماتن حجج الجميع في " شرح المنتقى "، فليرجع إليه.
(4 -[يجوز للحاكم أن يحكم بيمين المنكر] :)
(و) يجوز الحكم (بيمين المنكر) ؛ لما قدمنا من أن اليمين على المنكر.
وقد ثبت في " صحيح مسلم " من حديث وائل بن حجر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للكندي: " ألك بينة؟ "، قال: لا، قال: " فلك يمينه "، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر؛ لا يبالي على ما حلف(3/248)
عليه، وليس يتورع من شيء؟ ! فقال: " ليس لك منه إلا ذلك ".
(5 -[يجوز للحاكم أن يحكم بيمين الرد] :)
(و) يجوز الحكم (بيمين الرد) ؛ لأن من عليه الحق قد رضي بها؛ سواء قلنا: إنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر؛ أم لا.
وقد استدل من لم يجعلها مستندا بمفهوم الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: " ولكن اليمين على المدعي عليه "؛ كما في بعض ألفاظ حديث ابن عباس عند مسلم وغيره، ولقوله في حديث وائل: " ليس لك منه إلا ذلك ".
ولكن هذا إنما يفيد أنها لا تجب على المدعي إذا ردها المنكر.
وأما أنه يفيد عدم جواز الحكم بيمين الرد، إذا طلبها المنكر ورضي بها؛ وقبل ذلك المدعي فحلف؛ فلا.
وأما ما رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق:
فلو صح؛ لكان صالحا لتخصيص ما تقدم؛ ولكن في إسناده محمد بن مسروق، وهو غير معروف، وفي إسناده أيضا إسحاق بن الفرات، وفيه مقال (1) .
وقد أشار القرآن الكريم إلى رد اليمين بقوله: {أن ترد أيمان بعد أيمانهم) (2) ، ولكن فيه احتمال؛ إذ يمكن أن يكون المراد برد اليمين عدم قبولها.
__________
(1) وانظر " الإرواء " (2642) لشيخنا.
(2) • أي: إلى الورثة {بعد أيمانهم} ؛ أي: إيمان الشهيدين اللذين ظهر أنهما استحقا الإثم بالكذب، أو الكتمان في الشهادة؛ انظر: " تفسير المنار " (7 / 215 - 224) الآيات (109 - 112) من سورة المائدة. (ن)(3/249)
وأما النكول؛ فلا يجوز الحكم به؛ لأن غاية ما فيه: أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها، وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق؛ بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله: " ولكن اليمين على المدعى عليه ".
فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد الأمرين: إما اليمين التي نكل عنها؛ أو الإقرار بما ادعاه المدعي، وأيهما وقع؛ كان صالحا للحكم به؛ كما مر.
(6 -[يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه] :)
(و) يجوز الحكم (بعلمه) ؛ لأن ذلك من العدل والحق اللذين أمر الله بالحكم بهما، وليس في الأدلة ما يدل عى المنع من ذلك.
وحديث: " شاهداك أو يمينه "؛ لا حصر فيه.
ومما يؤيد جواز الحكم بعلم الحاكم: ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي: " ألك بينة؟ "؛ فإن البينة ما يتبين بالأمر، وليس بعد العلم بيان، بل هو أعلى أنواع البيان؛ فإنه لا يحصل من سائر المستندات للحكم إلا مجرد الظن بأن المقر صادق في إقراره، والحالف بار في يمينه، والشاهد صادق في شهادته، وإذا جاز الحكم بمستند لا يفيد إلا الظن؛ فكيف لا يجوز الحكم بالعلم واليقين؟
وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة.
وقد احتج أهل كل مذهب بحجج لا تصلح، ولا تنطبق على محل النزاع.
وأقربها: ما أخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم من حديث أبي هريرة، قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للمدعي: " أقم البينة "، فلم(3/250)
يقمها، فقال للآخر: " احلف "، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد فعلت، ولكن غفر لك بإخلاص (لا إله إلا الله) ".
وفي رواية الحاكم: " بل هو عندك؛ ادفع إليه حقه " (1) .
وأما أقوال الصحابة؛ فلا تقوم بها الحجة؛ إلا إذا أجمعوا على ذلك - عند من يقول بحجية الإجماع -.
أقول: حكم القاضي بعلمه؛ هذا هو الحق، ومن منع من ذلك لم يأت بحجة واضحة، وليس في الأدلة المقتضية لوجوب الشاهدين - أو اليمين، أو ما يقوم مقام أحدهما - دليل يدل على انحصار مستند الحكم فيها، ولا ريب أن الحاصل عن مثل الشهادة من عدلين، أو يمين من ثقة، أو نكول، أو إقرار: هو مجرد الظن للحاكم فقط؛ لأن من الجائز أن يكذب الشاهدان، ويفجر الحالف في يمينه، ويكذب المقر في إقراره.
وأما العلم؛ فلا يكون إلا عن مشاهدة، أو ما يقوم مقامها، وهو أولى من الظن بلا نزاع.
وقد تقرر في الأصول: أن فحوى الخطاب معمول به عند جميع المحققين، وهذا منه؛ فإن العلم أولى من الظن عقلا وشرعا ووجدانا، والأدلة.
__________
(1) • في صحته نظر؛ فإن في سنده عطاء بن السائب؛ وكان قد اختلط.
وقد اضطرب في سنده كما تراه في " نيل الأوطار " (8 / 242) .
ومن ذلك أن الحاكم أخرجه (4 / 95) ؛ عن عطاء، عن أبي يحيى، عن ابن عباس ... به نحوه؛ فجعله من مسند ابن العباس، لا من مسند أبي هريرة.
وقد رواه شعبة؛ عن عطاء ... مختصرا جدا ليس فيه موضع الشاهد.
وسماع شعبة منه قديم؛ فهو صحيح مختصرا. (ن)(3/251)
العامة شاملة له - كالآيات التي ذكروها -.
وتخصيص الحدود بقول عمر (1) مما لا يرتضيه الإنصاف؛ لأن المقام من مجالات الاجتهاد، واجتهاده ليس بحجة على غيره.
ودعوى الإجماع؛ هي من تلك الدعاوى التي قد عرفناك بها غير مرة.
وقد حقق الماتن هذا البحث في " شرح المنتقى " (2) بما لم أجده لغيره.
( [من لا تقبل شهادته] :)
(1 -[غير العدل] )
(ولا تقبل شهادة من ليس بعدل) ؛ لقوله - تعالى -: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (3) ، وقوله - تعالى -: {ممن ترضون من الشهداء} (4) ، وقوله - تعالى -:
__________
(1) • يعني: قوله: لولا أن يقول الناس: زاد عمر آية في كتاب الله؛ لكتبت آية الرجم؛ رواه البخاري.
قلت: وهذا ليس صريحا فيما نحن فيه، ويعارضه ما هو أصرح منه؛ وهو حكم عمر بعلمه على أبي سفيان في قصة رواها ابن عبد البر؛ انظر " الجوهر النقي " (10 / 143) . (ن)
(2) • (8 / 239 - 242) . (ن)
(3) • هذه الآية في إمساك المطلقة أو مفارقتها. (ن)
(4) • قال شيخ الإسلام في " الاختيارات " (ص 211) - تعليقا على هذه الآية -: " يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيدا بينهم، ولا ينظر إلى عدالته، كما يكون مقبولا عليهم فيما ائتمنوه عليه، وقوله تعالى في آية الوصية والرجعة: {اثنان ذوا عدل} ؛ أي: صاحبا عدل.
العدل في المقال: هو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان، كما بينه الله - تعالى - في قوله: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} ، والعدل في كل زمان ومكان وطائفة بحسبها، فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر، وبهذا يمكن الحكم بين الناس؛ وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات - كما كان الصحابة -؛ لبطلت الشهادات كلها أو غالبها ". (ن)(3/252)
{إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية.
وقد حكى في " البحر " الإجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق.
قلت: شرط الشاهد كونه مسلما حرا مكلفا؛ أي: عاقلا بالغا ضابطا ناطقا عدلا ذا مروءة؛ ليست به تهمة، وعليه أكثر أهل العلم في الجملة؛ غير أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل:
فشهادة الذمي لا تقبل عند الشافعي على الإطلاق.
وقال أبو حنيفة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة، وإن اختلفت مللهم.
وشهادة الصبيان لا تقبل عند الأكثرين؛ إلا عند مالك في الجراح فيما بينهم خاصة؛ ما لم يصلوا إلى أهل بيتهم.
وأثر عبد الله بن الزبير - أنه كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح؛ معارض بقول ابن عباس: إنها لا تجوز؛ لأن الله - تعالى - يقول: {ممن ترضون من الشهداء} .
وحد العدالة: أن يكون محترزا عن الكبائر، غير مصر على الصغائر.
والمروءة: هي ما تتصل بآداب النفس؛ مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإذا كان الرجل يظهر من نفسه شيا مما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب؛ يعلم به قلة مروءته، وترد شهادته؛ وإن كان ذلك مباحا.(3/253)
(2 و 3 -[الخائن] و [العدو] :)
(ولا) تقبل شهادة (الخائن ولا ذي العداوة) ؛ وإن كان مقبول الشهادة على غيره؛ لأنه متهم في حق عدوه، ولا يؤمن أن تحمله عداوته على إلحاق ضرر به، فإن شهد لعدوه تقبل؛ إذا لم يظهر في عداوته فسق.
(4 و 5 -[المتهم] و [القانع] :)
(والمتهم والقانع لأهل البيت) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عند أحمد (1) ، وأبي داود، والبيهقي -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر (2) على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت "، والقانع: الذي ينفق عليه أهل البيت.
ولأبي داود في رواية: " ولا زان ولا زانية ".
قال ابن حجر في " التلخيص ": " وسنده قوي ".
والغمر - بكسر المعجمة، وسكون الميم، بعدها راء مهملة -: الحقد؛ أي: لا تقبل شهادة العدو على العدو.
وأخرج الترمذي، والدارقطني، والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا؛ بلفظ: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر لأخيه، ولا ظنين (3) ،
__________
(1) • في " المسند " (رقم 6698، 6899، 6940) ، وأبو داود (4 / 117) ، وابن ماجه (2 / 65) ؛ من طرق عن عمرو ... به.
ورواه البيهقي (10 / 155) ؛ وإسناده حسن، كما قال العراقي في " التخريج " (3 / 130) . (ن)
(2) • حقد. (ن)
(3) الظنين: المتهم؛ فعيل بمعنى مفعول؛ من الظنة - بكسر الظاء -؛ وهي التهمة والشك. (ش)(3/254)
ولا قرابة "، وفي إسناده يزيد بن زياد الشامي، وهو ضعيف.
وقد أخرج الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر نحوه، وفي إسناده عبد الأعلى، وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي، وهما ضعيفان.
وأخرج أبو داود في " المراسيل " من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث مناديا: أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين.
ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة (1) "، يعني: الذي بينك وبينه عداوة.
ورواه الحاكم من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة يرفعه مثله؛ قال ابن حجر: وفي إسناده نظر (2) .
والمراد بالمتهم: هو من يظن به أنه يشهد زورا لمن يحابيه؛ كالقانع، والعبد لسيده.
وقد حكى في " البحر " الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده.
قال في " المسوى ":
" ولا تجوز شهادة الوالد لولده (3) ولا الولد لوالده، ويجوز عليهما.
__________
(1) الحنة - بكسر الحاء وفتح النون المخففة -: العداوة؛ وهي لغة قليلة في الإحنة. (ش)
(2) • قلت: وذلك لأن في سنده - عند الحاكم (4 / 99) - مسلم بن خالد الزنجي؛ وهو صدوق كثير الأوهام، كما في " التقريب ".
ولكن حديثه هذا صحيح؛ لما له من الشواهد المتقدمة. (ن)
(3) • والحق أن شهادة كل منهما تقبل في الآخر، والعكس قول مبتدع، لم يكن عليه الصحابة، كما بينه ابن القيم في المكان الذي سأشير إليه قريبا.(3/255)
وكذا لا تقبل شهادة من جر إلى نفسه نفعا؛ كمن شهد لرجل بشراء دار وهو شفيعها، أو شهد للمفلس واحد من غرمائه بدين على رجل، أو شهد على رجل أنه قتل مورثه؛ فهذه كلها مواضع التهمة.
واتفقوا على قبول شهادة الأخ للأخ وسائر الأقارب.
واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه؛ فلم يجزها أبو حنيفة، وأجازها الشافعي.
أقول: الحق: أن القرابة - بمجردها - ليست بمانعة؛ سواء كانت قريبة أو بعيدة؛ إنما المانع التهمة، فإذا كان القريب ممن تأخذه حمية الجاهلية، ولا يردعه عن العصبية دين ولا حياء؛ فشهادته غير مقبولة.
وإن كان على العكس من ذلك؛ فشهادته مقبولة (1) .
والأصل في المنع من قبول شهادة المتهم حديث: " لا تقبل شهادة ذي الظنة والحنة "؛ والظنة: هي التهمة، ولم يرد ما يدل على منع شهادة القريب لأجل القرابة.
(6 -[القاذف] :)
(والقاذف) : لقوله - تعالى -: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ، بعد قوله: {والذين يرمون المحصنات} ، وقد وقع الخلاف في كتب التفسير والأصول في
__________
(1) • وقد حقق هذا البحث ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 131 - 144) ، وصحح ما ذهب إليه الشارح، وقال: " إنه نص عليه أحمد "؛ فراجعه؛ فإنه نفيس. (ن)(3/256)
حكم التوبة المذكورة في آخر الآية:
قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الذي يجلد الجلد ثم تاب وأصلح؛ تجوز شهادته، وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك.
قلت: وعليه الشافعي.
وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة القاذف لا ترد بالقذف، فإذا حد فيه؛ ردت شهادته على التأبيد؛ وإن تاب.
وأصل المسألة: أن الاستثناء يعود إلى الفسق فقط في قول أهل العراق، وإلى الفسق وعدم قبول الشهادة جميعا في قول أهل الحجاز.
وقال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين يحد؛ لأن الحدود كفارات، فكيف تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه؟ {وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا؛ كيف لا تقبلون توبة القاذف؛ وهو أيسر ذنبا؟}
قيل: معنى قول أبي حنيفة؛ أن القاذف ما لم يحد يحتمل أن يكون صادقا وأن يكون معه شهود تشهد بالزنا، فإذا لم يأت بالشهداء وأقيم عليه الحد؛ صار مكذبا بحكم الشرع؛ لقوله - تعالى -: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} (1) ، فوجب رد شهادته.
ثم رد شهادة المحدود في القذف تأبيدي عنده؛ لقوله - تعالى -: {ولا
__________
(1) • الآية بتمامها: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} . (ن)(3/257)
تقبلوا لهم شهادة أبدا} ، والتأبيد ينافي التعليق؛ فلا يجري فيه القياس.
وقال الواحدي: أبد كل إنسان؛ مقدار مدته فيما يتصل بقصته، يقال: الكافر لا يقبل منه شيء أبدا؛ معناه: ما دام كافرا.
كذلك القاذف لا تقبل شهادته أبدا ما دام قاذفا، فإذا زال عنه الكفر زال عنه أبده، وإذا زال عنه الفسق زال أبده؛ لا فرق بينهما في ذلك (1) .
(7 -[البدوي على صاحب القرية] :)
(ولا) تقبل شهادة (بدوي على صاحب قرية) ؛ لحديث أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ".
أخرجه أبو داود (2) ، وابن ماجه، والبيهقي.
قال المنذري: رجال إسناده احتج بهم مسلم في " صحيحيه ".
قال في " النهاية ":
__________
(1) • وقد مال إلى هذا ابن القيم - رحمه الله -؛ حيث عقد فصلا خاصا لهذه المسألة في " الإعلام " (1 / 145 - 152) ؛ أورد فيه حجج الفريقين وما لها وما عليها، ثم استقر بحثه على ما ذكرنا؛ وهو الأقرب إلى الحق، وظاهر النص القرآني: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} . (ن)
(2) في " سننه " (2 / 117) ، وكذا الحاكم (4 / 99) ؛ عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة؛ مرفوعا.
وهذا سند حسن، وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: " لم يصححه المؤلف؛ وهو حديث منكر على نظافة سنده "! ولم يظهر لي وجه النكارة.
والحديث رواه ابن ماجه أيضا. (ن)(3/258)
" إنما كره شهادة البدوي؛ لما فيه من الخفاء في الدين، والجهالة بأحكام الشرع، ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ".
وبنحو هذا قال الخطابي.
وروي نحوه عن أحمد بن حنبل، وذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب أحمد، وبه قال مالك وأبو عبيد، وذهب الأكثر إلى القبول.
قال ابن رسلان:
" وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو، والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم ". انتهى.
وهذا توجيه قوي، ومحمل سوي.
( [حكم من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة] :)
(وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة) ؛ لأنه لم يرد ما يمنع من ذلك حتى يخصصه من عموم الأدلة.
وأيضا حديث قبول خبر المرضعة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد خبرها: " كيف وقد قيل؟ "، ورتب على خبرها التحريم - وقد تقدم في الرضاع -؛ وهي شهدت على تقرير فعلها كما لا يخفى.
ولم يستدل المانع إلا على (1) أن الشاهد إذا شهد على تقرير قوله أو فعله؛ لم يخل من تهمة، وقد قيدنا ذلك بانتفاء التهمة.
__________
(1) لعل صوابه: إلا بأن الشاهد ... إلخ. (ش)(3/259)
وأما تحليف الشهود عند الريبة؛ فالظاهر أنه من جملة التثبت المأمور به؛ ولا سيما مع فساد الزمان، وتواثب كثير من الناس على شهادة الزور، وكثيرا ما يتحرج بعض المتساهلين في الشهادة عن اليمين الفاجرة، والبعض بالعكس من ذلك.
ولم يرد دليل على المنع من تحليف الشهود.
وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {فيقسمان بالله} ؛ ففي انطباقه على محل النزاع خلاف.
وأما تفريق الشهود؛ فهو من أعظم ما يستعان به على الفرق بين صدق الشهادة وكذبها؛ ولا سيما إذا سألهم الحاكم عن بعض الأحوال التي لا يجوز تواطؤهم عليها.
قال الماتن - رحمه الله - في " حاشية الشفاء ":
" ولقد انتفعت بتفريق الشهود، وتنويع سؤالهم، وقل ما تصح شهادة بعد ذلك، والحاكم لا يحل له التساهل؛ بل يجب عليه إكمال البحث عن كل ما يتوصل به إلى كشف الحقيقة، وهذا منه ".
( [شهادة الزور من أكبر الكبائر] :)
(وشهادة الزور من أكبر الكبائر) ؛ لحديث أنس - في " الصحيحين "، وغيرهما - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر، أو سئل عن الكبائر؟ فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين "، وقال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ! قول الزور - أو قال: شهادة الزور - ".(3/260)
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي بكرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ {"، قلنا: بلى يا رسول الله} قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين "، وكان متكئا؛ فجلس وقال: " ألا وقول الزور؛ وشهادة الزور "، فما زال يكررها؛ حتى قلنا: ليته سكت!
ثم أقول: المراد بالشهادة: الإخبار بما يعلمه الشاهد عند التحاكم بأي لفظ كان، وعلى أي صفة وقع، ولا يعتبر إلا أن يأتي بكلام مفهوم يفهمه سامعه، فإذا قال مثلا: رأيت كذا وكذا، أو: سمعت كذا وكذا؛ فهذه شهادة شرعية.
وقد أحسن المحقق ابن القيم - رحمه الله - حيث قال في " فوائده ":
" ليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل؛ لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ". انتهى.
وقد تقرر في محله: أن اشتراط الألفاظ إنما هو صنيع من لم يمعن النظر في حقائق الأشياء، ولا وصل إلى أن يعقل أن الألفاظ غير مرادة لذاتها، وإنما هي قوالب للمعاني تؤدى بها، فإذ قد حصلت التأدية للمعنى المراد؛ فاشتراط زيادة على ذلك لم تدل عليه رواية ولا دراية.
( [ما يلزم إذا تعارضت البينتان] :)
(وإذا تعارض البينتان، ولم يوجد وجه ترجيح؛ قسم المدعى) ؛ لحديث أبي(3/261)
موسى - عند أبي داود (1) ، والحاكم، والبيهقي -: أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث كل واحد منهما بشاهدين، فقسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين.
وقد أخرج نحوه ابن حبان من حديث أبي هريرة (2) - وصححه -.
وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث تميم بن طرفة.
ووصله الطبراني عن جابر بن سمرة.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قسمة المدعى؛ إذا لم يكن للخصمين بينة:
فأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي من حديث أبي موسى: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة؛ فجعلها بينهما نصفين.
وثبتت قسمة المدعى عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المذكور أولا؛ بزيادة ذكرها النسائي، فقال: ادعيا دابة وجداها عند رجل، فأقام كل منهما شاهدين،
__________
(1) • (2 / 120) ، والحاكم (4 / 95) ، والبيهقي (10 / 257) ؛ وقال: " والحديث معلول عند أهل الحديث؛ مع الاختلاف في إسناده على قتادة ".
وأما الحاكم فقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي.
وهذا هو الأقرب؛ فإن الاختلاف الذي أشار إليه البيهقي لا يضر، وبيان ذلك لا يتسع له المكان. (ن)
(2) • وكذلك رواه البيهقي (10 / 258) ؛ وسنده صحيح إذا سلم من الاختلاف الذي سبق في كلام البيهقي. (ن)(3/262)
فلما أقام كل واحد منهما شاهدين؛ نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما (1) .
( [حكم يمين المنكر في حال انعدام بينة المدعي] .)
(وإذا لم يكن للمدعي بينة؛ فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا) ؛ لحديث الأشعث بن قيس - في " الصحيحين "، وغيرهما -، قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " شاهداك أو يمينه "، فقلت: إنه إذن يحلف ولا يبالي {فقال: " من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: " ألك بينة؟ "، قال: لا، قال: " فلك يمينه "، فقال: يا رسول الله} الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء {فقال: " ليس لك منه إلا ذلك ".
( [حكم بينة المدعي بعد يمين المنكر] :)
(ولا تقبل البينة بعد اليمين) ؛ لما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه ".
فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي؛ فهي مستند للحكم صحيح، ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها؛ لأنه لا يحصل بكل واحد منهما إلا مجرد ظن، ولا ينتقص الظن بالظن.
وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم، والخلاف معروف.
__________
(1) • تكرار لا وجه له} (ن)(3/263)
( [ما هي شروط المعترف؟] :)
(ومن أقر بشيء - عاقلا بالغا غير هازل ولا بمحال عقلا أو عادة -؛ لزمه ما أقر به كائنا ما كان) ؛ لما تقدم.
وأما تقييده بكون المقر عاقلا بالغا؛ فلأن المجنون والصبي ليسا بمكلفين؛ فلا حكم لإقرارهما.
وأما تقييده بكونه غير هازل؛ فلكون إقرار الهازل ليس هو الإقرار الذي يجوز أخذه به.
وهكذا إذا أقر بما يحيله العقل أو العادة؛ لأن كذبه معلوم، ولا يجوز الحكم بالكذب.
(ويكفي مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها؛ كما سيأتي) ؛ لكون المقر بالشيء على نفسه قد لزمه إقراره.
واعتبار التكرار في الحدود سيأتي أنه لم يثبت عليه دليل يوجب المصير إليه.(3/264)
(الكتاب السادس والعشرون: كتاب الحدود)(3/265)
(26 - كتاب الحدود)
(1 - باب حد الزاني)
والزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان؛ قال - تعالى -: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} ، وعلى هذا اتفق المسلمون؛ وإن كان لهم في حد الزنا اختلاف.
( [حد البكر الزاني] :)
(إن كان بكرا حرا جلد مئة جلدة) ؛ لقوله - تعالى -: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} .
وفي قوله: {لا تأخذكم بهما رأفة} : نهي عن تعطيل الحدود، وقيل: نهي عن تخفيف الضرب؛ بحيث لا يحصل وجع معتد به، وقوله: {ليشهد عذابهما} ؛ قيل: يجب حضور ثلاثة فما فوقهم، وقيل: أربعة بعد شهود الزنا، وقال أبو حنيفة: الإمام والشهود إن ثبت الزنا بالشهود.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
(وبعد الجلد يغرب عاما) ؛ لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في(3/267)
" الصحيحين "، وغيرهما: أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله {أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم؛ فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قل "، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا؛ فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمئة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم؟ فأخبروني أن على ابني جلد مئة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده؛ لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغد يا أنيس} - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمهما "، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فرجمت.
قال مالك: العسيف: الأجير.
وفي " البخاري "، وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن؛ بنفي عام وإقامة الحد عليه.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر؛ جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم ".
وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن: الجمهور؛ حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب " الإجماع " الاتفاق على نفي الزاني البكر؛ إلا عن الكوفيين.(3/268)
وقد حكى ابن المنذر أنه عمل بالتغريب: الخلفاء الراشدون، ولم ينكره أحد؛ فكان إجماعا.
ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة، وغاية ما تمسكوا به؛ عدم ذكره في بعض الأحاديث، وذلك لا يستلزم العدم.
واختلف من أثبت التغريب؛ هل تغرب المرأة أم لا؟ فقال مالك والأوزاعي: لا تغريب على المرأة؛ لأنها عورة، وظاهر الأدلة عدم الفرق.
قلت: والتغريب من جملة الإيذاء الذي أمر به القرآن، قال: {فآذوهما} ، وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يغرب.
( [حد الثيب الزاني] :)
(وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر) ؛ بما تقدم من الأدلة وبغيرها؛ كرجمه صلى الله عليه وسلم لماعز، ورجمه صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية، ورجمه للغامدية (1) ، والكل في " الصحيح ".
(ثم يرجم حتى يموت) ؛ والرجم كان متلوا ثم نسخت تلاوته.
وأيضا يتناوله الإيذاء، وعلى هذا أكثر أهل العلم.
وتكلموا في ترتيب هذه الدلائل مع حديث عبادة: " الثيب بالثيب جلد
__________
(1) قصة ماعز واليهوديين والغامدية؛ لم يذكر فيها الجلد، وإنما اقتصر الرواة فيها على حكاية الرجم، فكيف يستدل بها الشارح على وجوب الجلد؟ {لا أدري} (ش)(3/269)
مئة والرجم "، وجمع علي - كرم الله وجهه - بين الرجم والجلد:
فقالوا: الجلد منسوخ فيمن وجب عليه الرجم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين، ولم يجلد واحدا منهم، وقال لأنيس الأسلمي: " فإن اعترفت فارجمها "، ولم يأمر بالجلد، وهذا آخر الأمرين؛ لأن أبا هريرة قد رواه، وهو متأخر الإسلام، فيكون ناسخا لما سبق من الحدين: الجلد والرجم، ثم رجم الشيخان أبو بكر، وعمر في خلافتهما، ولم يجمعا بين الرجم والجلد.
قال في " المسوى ":
" في حديث عبادة ما يدل على أنه من آخر أحكام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن لفظه: " خذوا عني " إلخ؛ فيه إشارة إلى قوله - تعالى -: {أو يجعل الله لهن سبيلا} ، فهو متأخر عن هذه الآية، وهذه الآية في سورة النساء، وهي من آخر ما نزل، فلا تدل رواية أبي هريرة إياه على النسخ.
بل الظاهر عندي؛ أنه يجوز للإمام أن يجمع بين الجلد والرجم، ويستحب له أن يقتصر على الرجم؛ لاقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الرجم.
والحكمة في ذلك: أن الرجم عقوبة تأتي على النفس، فأصل الرجم المطلوب حاصل به، والجلد زيادة عقوبة رخص في تركها، فهذا هو وجه الاقتصار على الرجم عندي، والعلم عند الله تعالى ".
( [يثبت الزنا بالإقرار مرة والتربيع فيه للتثبت] :)
(ويكفي إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد(3/270)
الاستثبات) ؛ لأن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة.
فمن أوجب تكرار الإقرار في فرد من أفراد الشريعة؛ كان الدليل عليه، ولا دليل ههنا بيد من أوجب تربيع الإقرار؛ إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أو أمر غيره بأن يكرر الإقرار، ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات.
وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول؛ لقصد التثبت في أمره، ولهذا قال له - صلى الله عليه وسلم -: " أبك جنون؟ "، ووقع منه صلى الله عليه وسلم السؤال لقوم ماعز عن عقله؟ وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار مرة واحدة.
كما ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: " واغد يا أنيس {إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها ".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه رجم الغامدية، ولم تقر إلا مرة واحدة؛ كما في " صحيح مسلم "، وغيره.
وكما أخرجه أبو داود، والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة (1) .
__________
(1) • رواه أبو داود (2 / 232 - 233) ، وكذا البيهقي (8 / 218) ، وأحمد (3 / 479) ؛ من طريق محمد بن عبد الله بن علاثة: ثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن خالد ... به.
وهذا سند فيه ضعف؛ لأن ابن علاثة، وشيخه عبد العزيز؛ كلاهما صدوق سيئ الحفظ؛ كما في " التقريب ".
ثم إن في الاستدلال بالحديث نظرا؛ لأن الاعتراف وقع من الرجل مرتين - عند أبي داود، والبيهقي -} (ن)(3/271)
ومن ذلك: حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها، فأمر برجمه، ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل، فرجمه.
وفي رواية: أنه عفا عنه، والحديث في " سنن النسائي " و " الترمذي " (1) .
ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية؛ فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار، فلو كان الإقرار أربع مرات شرطا في حد الزاني؛ لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة له في عدة قضايا.
فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد - بعد صدور الإقرار مرة - على من كان أمره ملتبسا في ثوب العقل وعدمه، والصحو والسكر؛ ونحو ذلك.
وأحاديث إقامة الحد - بعد الإقرار مرة - على من كان معروفا بصحة العقل ونحوه.
وأما اعتبار كون الشهود أربعة؛ فذلك لمزيد الاحتياط في الحدود؛ لكونها تسقط بالشبهة، ولا وجه للاحتياط بعد الإقرار؛ فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقى بعده ريبة؛ بخلاف شهادة الشهود عليه، وهذا أمر واضح.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 334 - 335) ؛ وصححه بالرواية الأولى.
والرواية الأخرى عند البيهقي (8 / 284) واشار إلى أنها خطأ.
قلت: وفي سند هذه أسباط بن نصر؛ وهو كثير الخطأ، كما في " التقريب ".
وللرواية الأولى طريق آخر عند الترمذي والبيهقي (8 / 235) .
ولها شاهد من حديث سهل بن سعد عند الحاكم (4 / 270) ؛ وصححه، ووافقه الذهبي؛ وفيه نظر؛ لأنه من طريق مسلم بن خالد الزنجي؛ وفيه ضعف، لكن لا بأس فيه في الشواهد. (ن)(3/272)
وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم.
وحكاه صاحب " البحر " عن أبي بكر، وعمر، والحسن البصري، ومالك، وحماد، وأبي ثور، والبتي، والشافعي.
وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار.
أقول: هذه المسألة من المعارك.
والحق: أن الإقرار الذي يستباح به الجلد والرجم؛ لا يشترط فيه أن يكون زيادة على مرة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم وأمر بالرجم، وجلد بمجرد الإقرار مرة واحدة؛ كما ثبت ذلك في عدة أحاديث.
وأما سكوته صلى الله عليه وسلم في مثل قضية ماعز حتى أقر أربعا؛ فليس فيها أن ذلك شرط؛ بل غاية ما فيها أن الإمام إذا تثبت في بعض الأحوال حتى يقع الإقرار مرات؛ كان له ذلك.
وقد بسط الماتن المسألة في " شرح المنتقى "، فليرجع إليه، فالمقام حقيق بالتحقيق.
( [أو يثبت الزنا بأربعة شهداء] :)
(وأما الشهادة فلا بد من أربعة) ؛ ولا أعلم في ذلك خلافا، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
قال في " المسوى ":(3/273)
" يثبت الزنا بالإقرار وبأربعة شهداء؛ قال الله - تعالى -: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} ".
قلت: على هذا أهل العلم.
(ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت؟ {"، فقال: لا؛ يا رسول الله} قال: " أفنكتها؟ " - لا يكني - قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه.
أخرجه البخاري، وغيره من حديث ابن عباس.
وأخرج أبو داود، والنسائي، والدارقطني من حديث أبي هريرة، قال: جاء الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما - أربع مرات -؛ كل ذلك يعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة، فقال: " أنكتها؟ "، قال: نعم، قال: " كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ "، قال: نعم ... الحديث، وفي إسناده ابن الهصهاص (1) .
قال البخاري: حديثه في أهل الحجاز؛ ليس يعرف إلا بهذا الواحد (2) .
وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا، والقصة معروفة.
__________
(1) اسمه عبد الرحمن بن الصامت.
ووقع هنا، وفي " شرح أبي داود " (ج 4: ص 256) بالصاد المهملة، وهو خطأ؛ صوابه بالضاد المعجمة؛ كما في " التهذيب "، و " التقريب "، و " الخلاصة ". (ش)
(2) صوابه: " إلا بهذا الواحد "، كما في " شرح أبي داود " و " التهذيب ". (ش)(3/274)
( [الشبهات مسقطة للحد] :)
(ويسقط) الحد (بالشبهات المحتملة) ؛ لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادرأوا الحدود على المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة "، أخرجه الترمذي.
وقد رواه الترمذي أيضا من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة.
وقد أعل الحديث بالوقف (1) .
وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا؛ بلفظ: " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا " (2) .
وقد روي من حديث علي مرفوعا: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " (3) .
وروي نحوه عن عمر، وابن مسعود بإسناد صحيح.
وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه ويقويه.
ومما يؤيد ذلك؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو كنت راجما أحداً بغير بينة لرجمتها "؛ يعني: امرأة العجلاني؛ كما في " الصحيحين " من حديث ابن عباس.
__________
(1) وضعفه شيخنا في " الإرواء " (2355) .
(2) ضعفه في " الإرواء " (2356) .
(3) ضعفه في " الإرواء " (2316) .(3/275)
( [الرجوع عن الإقرار مسقط للحد] :)
(وبالرجوع عن الإقرار) ؛ لحديث أبي هريرة - عند أحمد، والترمذي -: أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد؛ حتى مر برجل معه لحي (1) جمل؛ فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: " هلا تركتموه {".
قال الترمذي: " إنه حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ". انتهى.
ورجال إسناده ثقات.
وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث جابر نحوه، وزاد: أنه لما وجد مس الحجارة صرخ: يا قوم} ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه؛ قال: " فهلا تركتموه وجئتموني به! ".
وقد أخرج البخاري، ومسلم طرفا من هذا الحديث.
وفي الباب روايات.
وقد ذهب إلى ذلك أحمد، والشافعية، والحنفية، وهو مروي عن مالك في قوله له.
__________
(1) اللحي: عظم الحنك. (ش)(3/276)
وقد ذهب ابن أبي ليلى، والبتي، وأبو ثور، ورواية عن مالك، وقول للشافعي أنه لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار.
( [تبطل الشهادة ويندفع الإقرار لوجود مانع النكاح في المرأة أو الرجل] :)
(وبكون المرأة عذراء (1) أو رتقاء (2) ، وبكون الرجل مجبوبا أو عنينا) : لكون المانع موجودا، فتبطل به الشهادة أو الإقرار؛ لأنه قد علم كذب ذلك قطعا، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية، فذهب فوجده يغتسل في ماء، فأخذ بيده، فأخرجه من الماء ليقتله، فرآه مجبوبا؛ فتركه، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، والقصة مشهورة، وهذا معناه.
قلت: وقد أخرج مسلم وغيره ما حكاه الماتن، وذكره جمع من أهل السير.
( [تحرم الشفاعة في الحدود] :)
(وتحرم الشفاعة في الحدود) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم - وصححه - من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فهو مضاد لله في أمره ".
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي
__________
(1) • يقال: إنه يمكن أن تقع في الزنا وتظل عذراء! (ن)
(2) الرتق ضد الفتق، والرتقاء: المرأة التي التصق ختانها؛ فلا يصل الرجل إليها؛ لشدة انضمام فرجها. (ش)(3/277)
سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له:
" أتشفع في حد من حدود الله؟ {".
وفي لفظ: " لا أراك تشفع في حد من حدود الله ".
وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، وصححه الحاكم، وابن الجارود (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له - لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه -: " هلا كان قبل أن تأتيني به} ".
وفي الباب أحاديث.
( [مشروعية الحفر للمرجوم] :)
(ويحفر للمرجوم إلى الصدر) ؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحفر للغامدية إلى صدرها، وهو في " صحيح مسلم "، وغيره: أنه حفر لماعز حفرة، ثم أمر به فرجم؛ كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز.
وأخرجها أحمد، وزاد: فحفر له حفرة، فجعل فيها إلى صدره.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج، عن أبيه: أنه اعترف رجل بالزنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحصنت؟ "، قال: نعم، فأمر برجمه، فذهبنا فحفرنا له؛ حتى أمكننا، ورميناه بالحجارة حتى هدأ.
وقد ثبت في " مسلم "، وغيره من حديث أبي سعيد، قال: لما أمرنا
__________
(1) يعني: من حديث صفوان بن أمية؛ وسيأتي في أول باب السرقة. (ش)(3/278)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك؛ خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه.
ويؤيد هذا؛ ما وقع في حديث غيره أنه هرب؛ كما تقدم، ولكن ترك الحفر له لا ينافي ثبوت مشروعية الحفر.
قال ابن القيم - بعد تخريج حديث ماعز المتقدم بألفاظ -:
" وكل هذه الألفاظ صحيحة، وفي بعضها أنه أمر فحفرت له حفيرة؛ ذكرها مسلم، وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر (1) ؛ وإن كان مسلم روى له في " الصحيح "؛ فالثقة قد يغلط، على أن أحمد وأبا حاتم قد تكلما فيه.
وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية، فسرى إلى ماعز، والله تعالى أعلم ". انتهى.
أقول: وجمع بين الحديثين؛ بأنه قد كان حفر له حفرة صغيرة، ثم خرج منها، ورجموه وهو قائم؛ كما تدل عليه رواية أبي سعيد.
وأما الحفر للمرأة فثابت.
وقد اختلف في مشروعيته، والحق أنه مشروع.
__________
(1) • قال الحافظ في " التقريب ": " صدوق لين الحديث ".
وقد تابعه على القصة علقمة بن مرثد؛ فلم يذكر الحفر، كما أنه قال: عن سليمان بن بريدة، عن أبيه؛ بينما قال الأول: عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه.
وكلاهما في " صحيح مسلم " (5 / 119 - 120) . (ن)(3/279)
( [متى يقام الحد على الحبلى من الزنا؟] :)
(ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها؛ إن لم يوجد من يرضعه) ؛ لحديث سليمان بن بريدة، عن أبيه - عند مسلم، وغيره -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة - من غامد من الأزد -، فقالت: طهرني يا رسول الله {فقال: " ويحك} ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه "، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ {قال: " وما ذاك؟ "، قالت: إني حبلى من الزنا، قال: " أنت؟ "، قالت: نعم، فقال لها: " حتى تضعي ما في بطنك "، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: " إذن؛ لا نرجمها وندع ولدها صغير السن، ليس له من يرضعه "، فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعه يا نبي الله} قال: " فارجمها ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عمران بن حصين: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله! أصبت حدا فأقمه علي، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: " أحسن إليها؛ فإذا وضعت فأتني "، ففعل، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت ... الحديث.
وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وابن عباس.
وأحاديثهم عند مسلم.(3/280)
وقد اختلفت الروايات؛ ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة، وفي بعضها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر رجمها إلى الفطام، فجاءت بعد ذلك فرجمت، وقد جمع بينهما بجموعات.
( [جواز الجلد بعثكال للزاني الضعيف] :)
(ويجوز الجلد حال المرض بعثكال (1) ونحوه) ؛ لحديث أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عبادة، قال: كان بين أبياتنا رجل ضعيف مخدج، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وكان ذلك الرجل مسلما، فقال: " اضربوه حده "، قالوا: يا رسول الله! إنه أضعف مما تحسب؛ لو ضربناه مئة قتلناه، فقال: " خذوا له عثكالا فيه مئة شمراخ (2) ، ثم اضربوه به ضربة واحدة "، قال: ففعلوا.
رواه أحمد (3) ، وابن ماجه، والشافعي، والبيهقي.
ورواه الدارقطني، عن فليح، عن أبي سالم، عن سهل بن سعد.
ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد الخدري.
__________
(1) العثكال: العذق من أعذاق النخل. (ش)
(2) الشمراخ: الغصن من أغصان العثكال. (ش)
(3) • في " المسند " (5 / 222) ، وابن ماجه (2 / 121) ، والبيهقي (8 / 330) ؛ وفيه محمد ابن إسحاق، وقد عنعنه.
لكن رواه الشافعي (2 / 288) ؛ من طريقين، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن رجلا ...
وسنده صحيح؛ فإن رجاله كلهم ثقات، وأبو أمامة - هذا -؛ اسمه أسعد؛ وهو صحابي صغير. (ن)(3/281)
ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار.
وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه.
وإسناد الحديث حسن.
وقد أخرج مسلم (1) ، وغيره من حديث علي، قال: إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها؛ فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن [أنا جلدتها] (2) أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أحسنت؛ اتركها حتى تماثل ".
وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول؛ بأن المريض إذا كان مرضه مرجوا أمهل، كما في الحديث الآخر، وإن كان مأيوسا جلد؛ كما في الحديث الأول.
وقد حكى في " البحر " الإجماع على أنه تمهل البكر: حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو.
فإن كان مأيوسا؛ فقال أصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول؛ إن احتمله.
( [حد اللواط: القتل للفاعل والمفعول به بكرا أم محصنا] :)
(ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرا؛ وكذلك المفعول به إذا كان مختارا) ؛ لحديث ابن عباس - عند أحمد (3) ، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي،
__________
(1) • (5 / 125) . (ن)
(2) في الأصل: أجلدها؛ والصواب ما أثبتناه. (ن)
(3) • في " المسند " (2727، 2732) ، والبيهقي (8 / 232) ؛ من طرق عن عكرمة، عنه.
فهو سند صحيح.
وقد صح القول بمقتضاه من رواية ابن عباس؛ كما يأتي. (ن)(3/282)
والحاكم، والبيهقي -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به ".
قال ابن حجر: رجاله موثقون؛ إلا أن فيه اختلافا.
وأخرج ابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به؛ أحصنا أو لم يحصنا "، وإسناده ضعيف.
قال ابن الطلاع في " أحكامه ":
" لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به "، رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة (1) ". انتهى.
وأخرج البيهقي (2) ، عن علي: أنه رجم لوطيا.
قال الشافعي: وبهذا نأخذ؛ نرجم اللوطي؛ محصنا كان أو غير محصن.
وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر (3) : أنه جمع الناس في حق رجل
__________
(1) • حديث أبي هريرة؛ رواه ابن عساكر في " تحريم الابنة " (1 / 166) . (ن)
(2) • في " سننه " (8 / 232) ؛ وفيه رجل لم يسم؛ وهو الراوي عن علي.
نعم؛ سماه في رواية: " يزيد "؛ قال الراوي: أراه ابن مذكور، لكن فيه رجل آخر لم يسم.
ثم رأيت الدوري رواه في " ذم اللواط " (2 / 159) ؛ من طريق آخر، وسمى الرجل: " يزيد بن قيس الخارفي ". (ن)
قلت: وانظر " إرواء الغليل " (2350) .
(3) • هذا يوهم أنه متصل؛ وليس كذلك؛ فقد أخرجه البيهقي بسنده؛ من طريق صفوان بن =(3/283)
ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب، قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة؛ صنع الله بها ما قد علمتم؛ نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقوه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار.
وأخرج أبو داود (1) ، عن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس: في البكر يوجد على اللوطية؛ يرجم.
وأخرج البيهقي (2) ، عن ابن عباس أيضا: أنه سئل عن حد اللوطي؟ فقال: ينظر أعلى بناء في القرية؛ فيرمى به منكسا، ثم يتبع الحجارة.
وقد اختلف أهل العلم في عقوبة اللواط - بعد اتفاقهم على تحريمه، وأنه من الكبائر -:
فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرا؛ سواء كان فاعلا أو مفعولا به، وإليه ذهب الشافعي.
__________
= سليم: أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق في خلافته، يذكر له أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر جمع الناس ... إلخ.
وهذا مرسل كما قال البيهقي؛ لأن صفوان هذا تابعي، ثم إن في الطريق إليه إبراهيم بن علي، وهو ابن أبي رافع المديني - نزيل بغداد -؛ ضعيف، وكذبه بعضهم.
ثم وجدته في " تحريم الابنة " لابن عساكر (163 / 1 - 2) ؛ من طريق غيره؛ فهو مرسل فقط. (ن)
(1) • في " سننه " (2 / 238) ، وعنه البيهقي (8 / 232) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • قلت: وسنده صحيح، وكذلك رواه الدوري (1 / 159) ، (2 / 160) . (ن)(3/284)
وحكى صاحب " شفاء الأوام " إجماع الصحابة على القتل.
وحكى البغوي عن الشعبي، والزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق: أنه يرجم محصنا كان أو غير محصن.
وروي عن النخعي أنه قال: لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين؛ لرجم اللوطي.
وقال المنذري: حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك (1) .
وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني.
وقال الشافعي: في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا؛ إن كان محصنا رجم؛ وإلا جلد وغرب، وحد المفعول به الجلد والتغريب، وفي قول: كالفاعل، وفي قول: يقتل الفاعل والمفعول به.
وقال أبو حنيفة: يعزز باللواط، ولا يجلد ولا يرجم (2) .
أقول: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الفاعل والمفعول به، وصح عن الصحابة امتثال هذا الأمر، وقتلهم لمن ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من غير
__________
(1) • حرق عبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك؛ رواه الدوري في " ذم اللواط " في الأثر السابق عن صفوان بن سليم مرسلا. (ن)
(2) • ونقل الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (2 / 455) عن الإمام أبو حنيفة أنه قال في اللوطي: إنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط.
قلت: وهذا قول ابن عباس؛ كما تقدم (ن) .(3/285)
فرق بين بكر وثيب، ووقع ذلك في عصرهم مرات، ولم يظهر في ذلك خلاف من أحد منهم؛ مع أن السكوت في مثل إراقة دم امرئ مسلم لا يسوغ لأحد من المسلمين، وكان في ذلك الزمن: الحق مقبول من كل من جاء به؛ كائنا من كان.
فإن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزاني؛ فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل؛ سواء كان محصنا أو غير محصن.
وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنا؛ ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي.
( [حد ناكح البهيمة: التعزير] :)
(ويعزز من نكح بهيمة) ؛ لكون (1) الحديث المروي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وقع على بهيمة؛ فاقتلوه واقتلوا البهيمة ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
فقد روى الترمذي، وأبو داود من حديث أبي رزين، عن ابن عباس، أنه قال: من أتى بهيمة فلا حد عليه.
وقال: إنه أصح من الحديث الأول (2) .
__________
(1) لعل خبر " كون " سقط من الأصل، والمراد واضح؛ وهو أن الحديث ضعيف. (ش)
• قلت: بل هو حديث صحيح؛ روي من طرق عن عكرمة، عن ابن عباس، كما بينه المعلق أحمد شاكر في تعليقه على " المسند "، فراجع (رقم 2420) . (ن)
(2) • قلت: وفي هذا نظر من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا موقوف وذاك مرفوع، ولا يعارض بالموقوف؛ لأن العبرة برواية الراوي لا برأيه.
الثاني: أن هذا من رواية عاصم ابن بهدلة؛ وفي حفظه ضعف، ومثله راوي الحديث المرفوع عمرو بن أبي عمرو، وكلاهما حسن الحديث.
فلو جاز إيجاد التعارض بين روايتيهما؛ لرجحت رواية عمرو على رواية عاصم؛ لأنه لم يتفرد بها كما سبقت الإشارة إليه؛ بخلاف رواية عاصم؛ فكيف ولا تعارض بينهما كما سبق بيانه آنفا؟ ! (ن)(3/286)
قال: والعمل على هذا عند أهل العلم.
وقد روى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل؛ ولكن في إسناده عبد الغفار (1) ؛ قال ابن عدي؛ إنه رجع عنه، وذكر أنهم كانوا لقنوه.
وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة؛ كما حى ذلك صاحب " البحر ".
ووقع الخلاف بين أهل العلم.
فقيل: يحد كحد الزاني.
وقيل: يعزر فقط؛ إذ ليس بزنا.
وقيل: يقتل.
ووجه ما ذكرنا من التعزير: أنه فعل محرما مجمعا عليه، فاستحق العقوبة بالتعزير، وهذا أقل ما يفعل به.
والحاصل: أن من وقع على بهيمة؛ فقد ورد ما يدل على أنه يقتل، ولكن لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة، ولا وقع من الصحابة مثل ما وقع في اللواط، وفي النفس شيء من دخوله تحت أدلة الزنا العامة.
فالظاهر التعزير فقط؛ من غير فرق بين بكر وثيب.
__________
(1) هو عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير؛ ولم أجد له ترجمة؛ انظر " تلخيص الحبير " (ص 352) . (ش)(3/287)
( [حد المملوك نصف حد الحر] :)
(ويجلد المملوك نصف جلد الحر) ؛ لقوله - تعالى -: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} ، ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد؛ كما حكى ذلك صاحب " البحر ".
وقد أخرج عبد الله بن أحمد في " المسند " (1) من حديث علي، قال: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمة سوداء زنت؛ لأجلدها الحد، فوجدتها في دمها، فأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إذا تعالت من نفاسها؛ فاجلدها خمسين "، وهو في " صحيح مسلم "؛ كما تقدم بدون ذكر الخمسين.
وأخرج مالك في " الموطإ " عن عبد الله بن عياش المخزومي (2) ، قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.
وذهب ابن عباس إلى أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج؛ تمسكا بقوله - تعالى -: {فإذا أحصن} الآية.
وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا: الإسلام.
__________
(1) • رقم (1142) ؛ وفيه عبد الأعلى الثعلبي؛ وهو ضعيف.
وله في " المسند " (رقم 820) طريق آخر، ورجاله ثقات، لكن حجاج - وهو ابن أرطاة - مدلس؛ وقد عنعنه. (ن)
(2) عياش؛ بالياء والشين المعجمة. (ش)
• قلت: وهو مستور؛ انظر " الجرح " (2 / 2 / 125) . (ن)(3/288)
قلت: الإحصان في كلام العرب: المنع، ويقع في القرآن والسنة على الإسلام والحرية والعفاف والتزوج؛ لأن الإسلام يمنعه عما لا يباح له، وكذلك الحرية والعفاف والتزوج.
وقوله - تعالى -: {والمحصنات من النساء} ؛ أراد: المزوجات.
وقوله - تعالى -: {أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم} ؛ أراد به: الحرائر.
وقوله - تعالى -: {والذين يرمون المحصنات} ؛ أراد: العفاف.
وقوله - تعالى -: {محصنين غير مسافحين} ؛ أراد: المتزوجين.
وقوله - تعالى -: {فإذا أحصن} ؛ أي: تزوجن.
وعلى هذا أهل العلم (1) .
__________
(1) • هذا خطأ من الشارح - رحمه الله -؛ فإن قوله - تعالى -: {فإذا أحصن} ؛ معناه: أسلمن؛ عند جمهور أهل العلم؛ كما قال الشوكاني (7 / 101) ؛ خلافا لابن عباس ومن تبعه.
وقد قال الشافعي: " وإنما تركنا قوله بما مضى من السنة الصحيحة، وأقاويل الأئمة "؛ ذكره البيهقي (8 / 243) .
أقول: هذا لبيان أن ما عليه الجمهور خلاف ما أوهمه الشارح!
وإلا؛ فظاهر الآية يؤيد قول ابن عباس؛ فإن نصها: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ... فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} الآية.
وقد ثبت في " الصحيحين ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: " إن زنت؛ فاجلدوها ... " الحديث.
والجمع بين الآية والحديث يقتضي إقامة الحد عليها مطلقا.
وعليه؛ فالشرط المذكور في الآية لا مفهوم له؛ والله أعلم. (ن)(3/289)
( [من يحد المملوك؟] :)
(ويحده سيده أو الإمام) ؛ لعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد.
ولحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا زنت أمة أحدكم؛ فتبين زناها؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت؛ فليجلدها الحد ولا يثرب (1) عليها، ثم إن زنت الثالثة؛ فليبعها ولو بحبل من شعر ".
وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه: جماعة من السلف.
قال الشافعي: للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان.
وقال أبو حنيفة: يرفعه المولى إلى السلطان، ولا يقيمه بنفسه.
__________
(1) أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. (ش)(3/290)
(2 - باب السرقة)
(1 -[من شروط القطع أن يكون السارق مكلفا] :)
(من سرق مكلفا مختارا) ، وقد تقدم وجه اشتراط التكليف والاختيار.
(2 -[أن يكون المسروق من حرز] :)
(من حرز) ؛ أي: مال محرز، واستدل على ذلك بما أخرجه أبو داود (1) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها؟ قال: " فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عطنه ففيه القطع؛ إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن " قال: يا رسول الله! فالثمار وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: " من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة؛ فليس عليه شيء (2) ، ومن احتمل؛ فعليه ثمنه
__________
(1) هذه الرواية ليست رواية أبي داود؛ بل نسبها صاحب " المنتقى " ل " مسند أحمد "، و " سنن النسائي "؛ وهي في " سنن النسائي " بلفظ قريب من هذا اللفظ (ج 2: ص 261) . (ش)
• قلت: هذا اللفظ هو بتمامه لأحمد (رقم 6683) ؛ إلا أنه قال في أوله: سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية له (رقم 6891) ؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلا من مزينة يسأله.
وهو في " سنن أبي داود " (1 / 270) ، (2 / 225 - 226) ، و " الحاكم " (4 / 381) ، و " البيهقي " (8 / 263، 278) .
وكذا الترمذي (2 / 261) مختصرا - وحسنه -. (ن)
قلت: وقد حسنه شيخنا في " الإرواء " (2413) .
(2) • أي: وهو ذو حاجة؛ كما في رواية. (ن)(3/291)
مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه؛ ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ".
وقد أخرجه - أيضا - أحمد، والنسائي، والحاكم - وصححه -، وحسنه الترمذي.
والحريسة (1) : التي ترعى وعليها حرس.
وكذا حديث: " لا قطع في ثمر ولا كثر (2) " - عند أحمد (3) ، وأهل " السنن "، والحاكم، وصححه ابن حبان، والبيهقي من حديث رافع بن خديج.
وقد ذهب إلى اعتبار الحرز: الأكثر.
وذهب أحمد وإسحاق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره، واستدلوا على عدم الاعتبار -؛ وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم -؛
__________
(1) الحريسة: هي ما يحرس بالجبل.
وفي الأصل: الحرسية؛ وهو خطأ؛ انظر " النسائي " (ج 2: ص 261) ، و " الشوكاني " (ج 7: ص 300) . (ش)
• و " المستدرك " (4 / 381) . (ن)
(2) الكثر - بفتح الكاف والثاء -: جمار النخل. (ش)
(3) • في " المسند " (3 / 463 - 464) ، (4 / 140 - 142) ؛ عن محمد بن يحيى بن حبان، عن رافع؛ وهذا منقطع.
لكن وصله النسائي (2 / 261) ، والترمذي، والبيهقي (8 / 263) ، فقالوا: عن محمد - هذا -، عن عمه واسع بن حبان، عن رافع؛ وهذا سند صحيح.
وله شاهد من حديث أبي هريرة؛ راجع " التلخيص " (ص 356) . (ن)(3/292)
بما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، ومالك في " الموطإ " (1) ، والشافعي، والحاكم - وصححه - (2) من حديث صفوان بن أمية، قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي؛ فسرقت، فأخذنا السارق، فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله! أفي خميصتي ثمن ثلاثين درهما؟ أنا أهبها له، قال: " فهلا كان قبل أن تأتيني به؟ ".
وأخرج أحمد (3) ، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء؛ ثمنه ثلاثة (4) دراهم.
وقد أخرج مسلم معناه.
وقد روي نحو حديث صفوان؛ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وضعف إسناده ابن حجر.
ويجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز؛ بأن المساجد حرز لما دخل إليها، ولو كان على صاحبه، فيكون الحرز أعم مما وقع تبيينه في كتب الفقه، ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد الوديعة، وسيأتي.
__________
(1) • (3 / 49) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) في " المستدرك " (ج 4: ص 380) ؛ ولم نر فيه تصحيحه له. (ش)
(3) • ومن طريقه رواه أبو داود (2 / 225) ، والنسائي (2 / 258) ؛ وسنده صحيح.
وأصله في " مسلم " (5 / 113) ؛ لكنه لم يسق لفظه؛ بل أحال على حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا: قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم. (ن)
(4) • وهي تساوي ربع دينار في ذلك الوقت، كما كان الأمر في زمان عثمان بن عفان على ما يأتي مني. (ن)(3/293)
ويمكن أن يكون ذلك خاصا بما ورد فيه، فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره.
قال في " المسوى ":
" ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في سرقة شيء من الفواكه الرطبة، ولا الخشب، ولا الحشيش؛ عملا بعموم حديث رافع.
وتأوله الشافعي على معنى اشتراط الحرز، وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها؛ فلا تكون محرزة، وإنما خرج الحديث مخرج العادة، يوضح ذلك حديث الجرين، وقطع عثمان في أترجة (1) ".
قال في " الحجة البالغة ":
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل، فإذا آواه المراح أو الجرين (2) ؛ فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ".
أقول: أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرز شرط القطع، وسبب ذلك: أن غير المحرز يقال فيه: الالتقاط، فيجب الاحتراز عنه ".
قلت: والحرز ما يعده الناس حرزا لمثل ذلك المال، فالمتبن حرز للتبن، والإصطبل للدواب، والمراح للغنم، والجرين للثمار.
__________
(1) • رواه مالك؛ عن عمرة بنت عبد الرحمن: أن سارقا سرق في زمان عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تقوم، فقومت بثلاثة دراهم - من صرف اثني عشر درهما بدينار -؛ فقطع عثمان يده. (ن)
(2) هو موضع تجفيف التمر. (ش)(3/294)
وأما إذا كان المال في صحراء أو في مسجد؛ فإنما حرزه أن يكون له ناظر؛ بحسب ما جرت العادة من النظر، وعليه أهل العلم في الجملة.
(3 -[أن يبلغ المسروق ربع دينار] :)
(ربع دينار فصاعدا) ؛ لحديث عائشة - في " الصحيحين " وغيرهما -، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا.
وفي رواية لمسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ".
وفي لفظ لأحمد (1) : " اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا في ما هو أدنى من ذلك "، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما.
وفي رواية للنسائي؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن "، قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار.
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: " قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن؛ ثمنه ثلاثة دراهم.
وقد عرفت أن الثلاث الدراهم هي صرف ربع دينار؛ كما تقدم في رواية أحمد.
قال الشافعي: وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما بدينار، وهو موافق لما في تقدير
__________
(1) • في " المسند " (6 / 80) ؛ وسنده حسن. (ن)(3/295)
الديات من الذهب بألف دينار، ومن الفضة باثني عشر ألف درهم.
وقد ذهب - إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم -: الجمهور من السلف والخلف، ومنهم الخلفاء الأربعة.
وفي المسألة اثنا عشر مذهبا؛ قد أوضحها الماتن في " شرح المنتقى ".
وأما ما روي من حديث أبي هريرة - في " الصحيحين " وغيرهما -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله السارق يسرق البيضة؛ فتقطع يده، ويسرق الحبل؛ فتقطع يده ":
فقد قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي ثلاثة دراهم؛ كذا في " البخاري "، وغيره.
قال في " الحجة البالغة ":
" الحاصل: أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شيء واحد في زمانه صلى الله عليه وسلم ثم اختلف بعده، ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه، فاختلف المسلمون في الحديثين الأخيرين:
فقيل: ربع دينار.
وقيل: ثلاثة دراهم.
وقيل: بلوغ المال إلى أحد القدرين، وهو الأظهر عندي.
وهذا شرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فرقا بين التافه وغيره؛ لأنه لا يصلح للتقدير(3/296)
جنس دون جنس؛ لاختلاف الأسعار في البلدان، واختلاف الأجناس - نفاسة وخساسة - بحسب اختلاف البلاد.
فمباح قوم وتافههم؛ مال عزيز عند آخرين، فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن.
وقيل: لا يعتبر فيها، وأن الحطب - وإن كان قيمته عشرة دراهم - لا يقطع فيه ".
قال في " المسوى ":
" ذهب الشافعي إلى حديث عائشة؛ أن نصاب السرقة ربع دينار.
وذهب مالك إلى حديث ابن عمر.
والجواب من قبل الشافعي عن حديث ابن عمر: أن الشيء التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم، وكانت الثلاثة دراهم تبلغ قيمتها ربع دينار.
يوضح ذلك حديث عثمان (1) ؛ فإنه يدل على أن العبرة بالذهب، ومن أجل ذلك ردت قيمة الدراهم إليه بعد ما قومت الأترجة بالدراهم.
ويوضح ذلك أيضا: وقوع اثني عشر ألف درهم موضع ألف دينار في الدية.
وقال أبو حنيفة: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم ".
__________
(1) • يعني حديث الأترجة المتقدم (ص 298) . (ن)(3/297)
أقول: أصح ما روي: أن ثمن المجن ثلاثة دراهم، وهي ربع دينار، وقد ورد التقدير بربع دينار في الروايات الصحيحة، والنهي عن القطع فيما دونه، فنصاب السرقة: إما ثلاثة دراهم أو ربع دينار؛ هذا هو الحق.
وما روي من زيادة ثمن المجن؛ فقد بين سقوط الاستدلال به في " شرح المنتقى ".
( [يقطع الكف الأيمن للسارق] :)
(قطعت كفه اليمنى) ؛ لقوله - تعالى -: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} .
قلت: اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق أول مرة؛ تقطع يده اليمنى، ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى، واختلفوا فيما إذا سرق ثالثا بعد قطع يده ورجله؛ فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى (1) ، ثم إذا سرق أيضا تقطع رجله اليمنى، ثم إذا سرق أيضا يعزر ويحبس.
وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ ولكن يعزر ويحبس.
( [تثبت السرقة بأحد أمرين] :)
(1 -[إقرار السارق مرة واحدة] :)
(ويكفي الإقرار مرة واحدة) ؛ لما قدمنا في الباب الأول.
__________
(1) • وقد صح هذا عن أبي بكر وعمر؛ عند البيهقي (8 / 284) . (ن)(3/298)
وقد قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - يد سارق المجن، وسارق رداء صفوان، ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار.
وأما ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من قوله للسارق الذي اعترف بالسرق: " ما إخالك سرقت! "، قال: بلى - مرتين أو ثلاثا -؛ فهذا هو من باب الاستثبات؛ كما تقدم.
وقد ذهب إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة: مالك والشافعية والحنفية.
وذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى اعتبار المرتين.
والحق: هو الأول.
(2 -[شهادة عدلين] :)
(أو شهادة عدلين) ؛ لكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين.
( [لا بأس بتلقين السارق ما يسقط عنه الحد] :)
(ويندب تلقين المسقط (1)) ؛ لحديث أبي أمية المخزومي - عند أحمد، وأبي داود، والنسائي بإسناد رجاله ثقات (2) -: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص اعترف
__________
(1) • أي: النادم.
في " القاموس ": " وسقط في يده وأسقط - مضمومتين -: زل، وأخطأ، وندم وتحير ". (ن)
(2) • فيه نظر؛ فإنه في " المسند " (5 / 293) ، و " أبي داود " (2 / 224) ، و " النسائي " (2 / 255) ، وكذا " الدارمي " (2 / 173) ، و " البيهقي " (8 / 276) ؛ عن أبي المنذر - مولى أبي ذر -، عن أبي أمية المخزومي.
قلت: وأبو المنذر - هذا - لا يعرف؛ كما قال الذهبي.
لكن له شاهد من حديث أبي هريرة بسند صحيح؛ يأتي بعده. (ن)(3/299)
اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما إخالك سرقت {"، قال: بلى - مرتين أو ثلاثا -.
وقد روي عن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قال: لا، وسمى أبا بكر وعمر.
أخرجه عبد الرزاق.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
( [يحسم موضع القطع في زيت مغلي] :)
(ويحسم موضع القطع) ؛ لئلا يسري فيهلك؛ فإن الحسم سبب عدم السراية؛ لما أخرجه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي - وصححه ابن القطان - (1) من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله} إن هذا قد سرق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما إخاله سرق {"، فقال السارق: بلى يا رسول الله} فقال: " اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به "، فقطع؛ فأتي به، فقال: تب إلى الله "، فقال: قد تبت إلى الله، قال: " تاب الله عليك ".
( [يستحب أن تعلق يد السارق في عنقه للعبرة] :)
(وتعلق اليد في عنق السارق) ؛ لما أخرجه أهل " السنن " - وحسنه
__________
(1) • وصححه الحاكم أيضا (4 / 381) ؛ وهو كما قال، وبيض له الذهبي.
وهو عند البيهقي (8 / 271، 275، 276) . (ن)(3/300)
الترمذي - من حديث فضالة بن عبيد قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق؛ فقطعت يده، ثم أمر بها، فعلقت في عنقه.
وفي إسناده الحجاج بن أرطاة؛ قال النسائي: هو ضعيف لا يحتج بحديثه (1) .
قال في " الحجة البالغة ":
" إنما فعل هذا للتشهير، وليعلم الناس أنه سارق، وفرقا بين ما يقطع اليد ظلما؛ وبين ما يقطع حدا ".
( [يسقط الحد إذا عفا صاحب المال قبل رفعه إلى السلطان] :)
(ويسقط بعفو المسروق عليه (2) قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده؛ فقد وجب) ؛ لحديث صفوان المتقدم.
وأخرج النسائي (3) ، وأبو داود، والحاكم - وصححه - من حديث عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من
__________
(1) • لكن ثبت التعليق من فعل علي - رضي الله عنه -؛ أخرجه البيهقي (8 / 275) ؛ من طريقين، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنه.
وهذا سند صحيح. (ن)
(2) • لعله: (عنه) . (ن)
(3) • في " السنن "، وأبو داود (2 / 223) ، وعنه البيهقي (8 / 331) ، والحاكم (4 / 383) ؛ وقال: " صحيح الإسناد "؛ ووافقه الذهبي.
وفيه نظر؛ فإن مداره على ابن جريج، عن عمرو بن شعيب؛ ولم يصرح بسماعه منه عند الجميع، وهو مدلس، كما بينه الذهبي نفسه وغيره.
ولهذا؛ فقول الحافظ ابن حجر في " الفتح " - فيما نقله الشوكاني (7 / 114) -: " وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح "؛ ليس بصحيح، ولو كان كذلك لكان الحديث حسنا. (ن)(3/301)
حد فقد وجب ".
قلت: وعليه أهل العلم.
ويحرم الشفاعة للسارق - إذا بلغ أمره السلطان - أن لا يقطع يده.
( [لا قطع في أربعة] :)
(1 -[الأكل من الثمر ولم يحمل إلى بيته] :)
(ولا قطع في ثمر ولا كثر؛ ما لم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة (1) ؛ وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب.
والكثر: جمار النخل أو طلعها.
وإلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك؛ بل قال: " وضرب نكال "؛ ليجمع له بين عقوبة المال والبدن.
والخبنة: ما يحمله الإنسان في حضنه، وقد تقدم ضبطها وتفسيرها.
(2 و 3 و 4 -[الخائن] و [المنتهب] و [المختلس] :)
(وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع) ؛ لحديث جابر - عند أحمد،
__________
(1) الخبنة - بضم الخاء وإسكان الباء -: معطف الإزار وطرف الثوب؛ أي: لا يأخذ منه في ثوبه؛ قاله ابن الأثير. (ش)(3/302)
وأهل " السنن "، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي (1) ، وابن حبان -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ".
وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر.
وأخرج ابن ماجه أيضا والطبراني من حديث أنس نحوه.
قلت: وعلى هذا أهل العلم.
( [جاحد العارية سارق يقام عليه الحد] :)
(وقد ثبت القطع في جحد العارية) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: كانت امرأة مخزومية (2) تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 332) ؛ ومداره عند الجميع على ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر؛ وابن جريج وأبو الزبير مدلسان، وقد أجيب عن ذلك بأن ابن جريج صرح بالتحديث عند عبد الرزاق في " مصنفه "، وكذا النسائي فيما ذكروا؛ فالظاهر أنه في " الكبرى " له.
قلت: وكذا عند الدارمي أيضا (2 / 175) .
وبأنه تابعه عن أبي الزبير: المغيرة بن مسلم، وأشعث بن سوار عند النسائي (2 / 262) .
وأما عنعنة أبي الزبير؛ فأجاب عنها الحافظ في " التلخيص " (ص 356) بقوله: إنه غير قادح؛ فقد أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " عن ابن جريج، وفيه التصرح بسماع أبي الزبير له من جابر.
قلت: فإذا صح هذا؛ فالحديث صحيح، لا سيما وله شاهد من حديث ابن عوف مختصرا: " ليس على المختلس قطع "؛ وسنده صحيح؛ كما قال الشارح تبعا للحافظ. (ن)
(2) • وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال؛ كما في رواية لأبي داود (2 / 227) .
ولها شاهد من حديث جابر عند النسائي (2 / 256) ؛ وإسناد حديث ابن عمر عندهما صحيح. (ن)(3/303)
وأخرج أحمد، والنسائي، وأبو داود، وأبو عوانة في " صحيحه " من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة.
وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية؛ من لم يشترط الحرز، وهم من تقدم.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع يد جاحد العارية؛ قالوا: لأن الجاحد للعارية ليس بسارق لغة، وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق.
ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقا لغة؛ فهو سارق شرعا، والشرع مقدم على اللغة.
وقد ثبت الحديث من طريق عائشة، وابن عمر كما تقدم، وكذا من حديث جابر، وابن مسعود (1) ، وغير هؤلاء.
وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود (1) عند ابن ماجه، والحاكم - وصححه -: أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت: أنها سرقت حليا.
__________
(1) • هذا خطأ، تبع الشارح فيه الشوكاني (7 / 111) ؛ فالحديث عند ابن ماجه (2 / 113) ، والحاكم (4 / 379) من حديث مسعود بن الأسود، ليس هو عن ابن مسعود!
ثم إن في سنده محمد بن إسحاق؛ وهو مدلس، وقد عنعنه.
وبه أعله البوصيري. (ن)(3/304)
فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية (1) .
__________
(1) • لا حاجة لهذا الجمع بعد ثبوت ضعف الحديثين.
أما حديث مسعود؛ فلعنعنة ابن إسحاق، وأما حديث حبيب؛ فلإرساله.
والتسليم بهذا الجمع يقضي على القول بأن القطع ثبت في جحد العارية؛ كما لا يخفى. (ن)(3/305)
(3 - باب حد القذف)
رمي المحصنات بالزنا كبيرة؛ قال الله - تعالى -: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} ، واتفق على ذلك المسلمون.
( [حد القاذف ثمانون جلدة] :)
(من رمى غيره بالزنا؛ وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة) ؛ لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} .
وقد أجمع أهل العلم على ذلك، واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا؟
فذهب الأكثر إلى الأول، وروى مالك (1) عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء - هلم جرا -؛ فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين.
وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف؛ لعموم الآية.
أقول: الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد، والغضاضة بقذف
__________
(1) • (3 / 45) . (ن)(3/306)
العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد؛ لا من الكتاب ولا من السنة.
ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله - تعالى - في حد الزنا: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} ، ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف، فإلحاق أحد الحدين بالآخر فيه إشكال؛ لا سيما مع اختلاف العلة، وبكون أحدهما حقا لله محضا، والآخر مشوبا بحق آدمي.
قال في " المسوى ":
" من رمى إنسانا بالزنا؛ فإن كان المقذوف محصنا؛ يجب على القاذف جلد ثمانين إن كان حرا، فإن كان عبدا فجلد أربعين، فإن كان المقذوف غير محصن؛ فعلى قاذفه التعزير.
وكذا لا حد في النسبة إلى غير الزنا؛ إنما فيه التعزير ".
( [شرائط الإحصان] :)
وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة من الزنا.
حتى إن من زنى في أول بلوغه، ثم تاب وحسنت حالته، وامتد عمره، فقذفه قاذف؛ لا حد عليه.
وعلى هذا أهل العلم.
وإذا عفا المقذوف؛ لم يجلد قاذفه، وإذا قذف أبوا رجل وقد هلكا؛(3/307)
فله المطالبة بالحد.
وفي " الأنوار ":
" حد القاذف وتعزيره حق الآدمي، يورث عنه، ويسقط بعفوه وعفو وارثه؛ إن مات أو قذفه ميتا، وهو حق جميع الورثة ".
وفي " الهداية ":
" لا يصح عفو المقذوف عندنا، وفيها لو قال: يا ابن الزانية! وأمه ميتة محصنة، فطالب الابن بحد القذف؛ حد القاذف؛ لأنه قذف محصنة، ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه، وهو الوالد والولد.
ومذهب الشافعية والحنفية: أن الوالد لا يجلد بقذف ولده.
وإذا قذف جماعة؛ جلد حدا واحدا، وعليه أبو حنيفة.
وقال الشافعي: إذا اختلف المقذوف فلا تداخل، والتعريض الظاهر ملحق بالصريح، وعليه مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلحق به ولا يحد إلا بالصريح ".
أقول: التحقيق: أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله - عز وجل -: هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل - لغة، أو شرعا، أو عرفا - على الرمي بالزنا، ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك، ولم يأت بتأويل(3/308)
مقبول يصح حمل الكلام عليه، فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة.
وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا، أو يحتمله احتمالا مرجوحا، وأقر أنه أراد الرمي بالزنا؛ فإنه يجب عليه الحد.
وأما إذا عرض بلفظ محتمل، ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا؛ فلا شيء عليه؛ لأنه لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال.
( [يثبت حد القذف بأمرين] :)
(1 -[إقرار القاذف] :)
(ويثبت ذلك بإقراره مرة) ؛ لكون إقرار المرء لازما له.
ومن ادعى أنه يشترط التكرار مرتين؛ فعليه الدليل، ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة.
(2 -[شهادة عدلين] :)
(أو بشهادة عدلين) ؛ كسائر ما تعتبر فيه الشهادة؛ كما أطلقه الكتاب العزيز.
( [القاذف ساقط العدالة حتى يتوب] :)
(وإذا لم يتب لم تقبل شهادته) ؛ لقوله - تعالى -: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ، ثم ذكر بعد ذلك التوبة.(3/309)
( [يسقط الحد عن القاذف بأمرين] :)
(1 -[إذا جاء القاذف بأربعة شهود] )
(فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود) ؛ يشهدون على المقذوف بأنه زنى (سقط عنه الحد) ؛ لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفا؛ بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة، فيقام الحد على الزاني.
(2 -[إذا أقر المقذوف بالزنا] :)
(وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا) ؛ فلا حد على من رماه به؛ بل يحد المقر بالزنا.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلد أهل الإفك؛ كما في " مسند أحمد "، و " أبي داود "، و " ابن ماجه "، و " الترمذي " - وحسنه -، وأشار إلى ذلك البخاري في " صحيحه ".
فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن.
ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا؛ حيث لم تكمل الشهادة، وذلك معروف ثابت.(3/310)
(4 - باب حد الشرب)
شرب الخمر كبيرة، وعليه أهل العلم.
( [شروط وجوب الحد] :)
(من شرب مسكرا مكلفا مختارا) ؛ وقد تقدم دليله.
( [كم حد شارب الخمر، وبم يضرب؟] :)
(جلد على ما يراه الإمام؛ إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر؛ ولو بالنعال) ؛ لما ثبت في " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين.
وفي " مسلم " من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر؛ استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر.
وفي " البخاري " وغيره من حديث عقبة بن الحارث، قال: جيء بالنعيمان - أو ابن النعيمان (1) - شاربا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه، فكنت فيمن ضربه بالنعال والجريد.
__________
(1) • الراجح أنه النعيمان - لا ابنه -؛ كما حققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على " المسند " (9 / 71 - 72) . (ن)(3/311)
وفيه أيضا من حديث السائب بن يزيد، قال: كنا نؤتى بالشارب - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمرة أبي بكر، وصدرا من إمرة عمر -؛ فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا؛ حتى كان صدرا من إمرة عمر؛ فجلد فيها أربعين؛ حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين (1) .
وفيه أيضا من حديث أبي هريرة نحوه.
وفي الباب أحاديث يستفاد من مجموعها: أن حد السكر لم يثبت تقديره عن الشارع، وأنه كان يقام بين يديه على صور مختلفة؛ بحس ما يقتضيه الحال.
فالحق: أن جلد الشرب غير مقدر؛ بل الذي يجب فعله؛ هو إما الضرب باليد، أو بالعصا، أو النعل، أو الثوب على مقدار يراه الإمام؛ من قليل أو كثير، فيكون على هذا من جملة أنواع التعزير.
وفي " الصحيحين "؛ عن علي أنه قال: ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت، وأجد في نفسي شيئا؛ إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وديته؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه.
قلت: وعليه أهل العلم؛ إلا أن الشافعي يقول: أصل حد الخمر أربعون، وما زاده عمر على الأربعين كان تعزيرا (2) ؛ لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) عتوا؛ من العتو: وهو التجبر، والمراد هنا انهماكهم في الطغيان، والمبالغة في الفساد في شرب الخمر؛ قاله ابن حجر (ج 12: ص 59) .
ولفظ الحديث الذي هنا؛ ليس لفظ البخاري؛ بل هو لفظ أحمد في " المسند " (ج 3: ص 449) . (ش)
(2) • وهو الأظهر؛ كما قال ابن تيمية في " منهاج السنة " (3 / 139) . (ن)(3/312)
أتي بشارب، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب؛ فقومه أربعين، فضرب أربعين حياته، ثم عمر، حتى تتايع الناس، فاستشار عمر؛ فضرب ثمانين، ثم قال علي - حين أقام الحد على وليد بن عقبة لما بلغ أربعين -: حسبك؛ جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي.
قال في " الحجة البالغة ":
" ثم قال: - أي النبي صلى الله عليه وسلم -: " بكتوه "، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله؟ {ما خشيت الله؟} ما استحييت من رسول الله (1) ؟ ! وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ ترابا من الأرض، فرمى به وجهه ". انتهى.
وروى مالك، عن ابن شهاب: أنه سئل عن حد العبد في الخمر؟ فقال: بلغني أن عليه نصف الحد في الحر، وأن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر قد جلدوا عبيدهم نصف حد الحر في الخمر.
ولا يجوز للإمام أن يعفو عن حد.
قال سعيد بن المسيب: ما من شيء؛ إلا يحب الله أن يعفو عنه؛ ما لم يكن حدا.
قلت: وعليه أهل العلم.
__________
(1) • رواه - بنحوه - البيهقي (8 / 312) عن أبي هريرة، ورجاله ثقات؛ غير عبيد بن شريك؛ فلم أعرفه. (ن)(3/313)
( [يثبت الحد على شارب الخمر بالإقرار أو بشهادة عدلين] :)
(ويكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين) ؛ لمثل ما تقدم، ولعدم وجود دليل يدل على اعتبار التكرار.
(ولو على القيء) ؛ لكون خروجها من جوفه يفيد القطع بأنه شربها، والأصل عدم المسقط، ولهذا حد الصحابة الوليد بن عقبة لما شهد عليه رجلان؛ أحدهما أنه شربها؛ والآخر أنه تقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها؛ كما في " مسلم "، وغيره.
( [قتل شارب الخمر في الرابعة: منسوخ] :)
(وقتله في الرابعة منسوخ) ؛ لما رواه الترمذي (1) ، والنسائي، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن شرب الخمر فاجلدوه؛ فإن عاد في الرابعة فاقتلوه "، ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة؛ فضربه ولم يقتله.
ومثله ما أخرج أبو داود، والترمذي من حديث قبيصة (2) بن ذؤيب، وفيه: ثم أتي به - يعني: في الرابعة -؛ فجلده ورفع القتل.
__________
(1) • قلت: الترمذي إنما رواه معلقا (2 / 330) .
وإنما وصله النسائي في " السنن الكبرى " له، كما ذكر غير واحد، وكذا البيهقي (8 / 314) ، والحاكم (4 / 373) ؛ عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر.
وابن إسحاق مدلس وقد عنعنه؛ ومع ذلك صححه أحمد شاكر (9 / 69) ! (ن)
(2) • بفتح القاف؛ وهو من أولاد الصحابة؛ فالحديث مرسل كما جزم ابن التركماني (8 / 313) ، قال:
" وفيه علة أخرى؛ وهي أن الزهري لم يسمعه من قبيصة؛ رواه الطحاوي " في الرد على الكرابيسي "، عن ابن شهاب، أنه بلغه، عن قبيصة بن ذؤيب ... فذكر الحديث؛ وسنده على شرط مسلم ". (ن)(3/314)
وفي رواية لأحمد (1) من حديث أبي هريرة: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكران في الرابعة؛ فخلى سبيله.
أقول: قد وردت الأحاديث بالقتل في الثالثة في بعض الروايات، وفي الرابعة في بعض، وفي الخامسة في بعض (2) ، وورد ما يدل على النسخ من فعله صلى الله عليه وسلم، وأنه رفع القتل عن الشارب، وأجمع على ذلك جميع أهل العلم، وخالفه فيه بعض أهل الظاهر (3) .
( [جواز التعزير في المعاصي التي لا توجب حدا] :)
(والتعزير في المعاصي التي لا توجب حدا ثابت؛ بحبس أو ضرب أو نحوهما، ولا يجاوز عشرة أسواط) ؛ لحديث أبي بردة بن نيار في " الصحيحين "، وغيرهما -، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ".
__________
(1) • عزوه لأحمد من حديث أبي هريرة خطأ؛ فإن الذي عنده (رقم 7898) من حديثه؛ إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: " إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة.
فاضربوا عنقه "، قال الزهري: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل سكران في الرابعة، فخلى سبيله.
فهذا القدر مرسل من قول الزهري؛ فلا يصح. (ن)
(2) • أكثر الأحاديث على أن القتل في الرابعة.
وقد استقصى الكلام عليها، وخرج طرقها: المحقق أحمد شاكر بما لا يوجد في غيره، فراجعه (9 / 49 - 92) .
وهو بحث عظيم حقق فيه أن القتل في الرابعة محكم غير منسوخ، وهو الصواب؛ ولكننا نرى أنه من باب التعزير؛ إذا رآه الإمام قتل، وإن لم يره لم يقتل؛ بخلاف الجلد؛ فهو الحد الذي لا بد منه، كما حكاه هو نفسه عن ابن القيم؛ وإن لم يرتضه! (ن)
(3) • وإليه مال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (7 / 483) . (ن)(3/315)
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد " -؛ من حديث بهز بن حكيم [، عن أبيه، عن جده] (2) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلا في تهمة يوما وليلة.
وقد ثبت أن عمر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يربط خالد بن الوليد بعمامته (3) ، لما عزله عن إمارة الجيش - كما في كتب السير -؛ وسبب ذلك أنه استنكر منه إعطاء شيء من أموال الله.
وتقدم في باب السرقة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وضرب نكال ".
أقول: هذا الفصل يراد به كل عقوبة ليست بحد من الحدود المتقدمة والآتية؛ فمنها الضرب، ولكن يكون عشرة أسواط فما دون؛ لحديث أبي بردة المتقدم، ولا تجوز الزيادة على ذلك.
ولكن ليس في هذا الحديث ما يدل على وجوب التعزير؛ بل غاية ما فيه الجواز فقط، وقد اطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جماعة ارتكبوا ذنوبا لا توجب حدا؛ فلم يضربهم، ولا حبسهم، ولا نعى ذلك عليهم؛ كالمجامع في نهار رمضان، والذي لقي امرأة فأصاب منها ما
__________
(1) • لم أجده في " المسند "، ولم يعزه إليه الحافظ في " التلخيص " (ص 361) .
وصححه الحاكم (4 / 102) ، ووافقه الذهبي؛ وهو حسن فقط. (ن)
(2) • زيادة لا بد منها. (ن)
(3) • لم يذكر هذه الرواية ابن كثير في " البداية " (7 / 18) ، وإنما ذكر أمر عمر لأبي عبيدة بنزع عمامة خالد عن رأسه وأن يقاسمه ماله نصفين.
والنزع هنا؛ ليس ليربط بها؛ كما هو ظاهر؛ فالله أعلم بصحة هذه الرواية. (ن)(3/316)
يصيب الرجل من زوجته؛ غير أنه لم يجامعها، وغير ذلك كثير.
ومن أنواع التعزير: الحبس، ويجوز الحبس مع التهمة، وهكذا يجوز حبس من كان يخشى على المسلمين من معرته وإضراره بهم لو كان مطلقا؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بقدر الإمكان، ولا يمكن القيام بهما في حق من عرف بذلك؛ إلا بالحيلولة بينه وبين الناس بالحبس.
ومنها: النفي؛ كما فعله صلى الله عليه وسلم بجماعة من المخنثين.
ومنها ترك المكالمة، كما فعله صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الذين تخلفوا عنه؛ حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
ومنها: الشتم الذي لا فحش فيه؛ كقول الله - تعالى - حاكيا عن موسى - عليه السلام -: {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين} ، ومن ذلك: قول يوسف - عليه السلام - لإخوته: {أنتم شر مكانا} ؛ لما نسبوه إلى السرقة.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: " إنك امرؤ فيك جاهلية " - كما في " البخاري " (1) - لما سمعه - صلى الله عليه وسلم - يسب امرأة.
وفي " مسلم: أن رجلا أكل بشماله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " كل بيمينك "، فقال: لا أستطيع، فقال: " لا استطعت! ما منعه إلا الكبر "، قال: فما رفعها إلى فيه.
__________
(1) هو فيه (30) ، وفي " مسلم " (1661) - كذلك -.(3/317)
وفي " مسلم ": " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد؛ فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا ".
وفي " مسلم " أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " لا وجدت ".
وفي " الترمذي ": " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد؛ فقولوا: لا أربح الله تجارتك ".
وقال صلى الله عليه وسلم للخطيب: " بئس خطيب القوم أنت "؛ أخرجه مسلم، وغيره.
ووقع منه صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس شيء كثير.
وكذلك وقع من الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح - من ذلك - ما يرشد إلى جوازه؛ إذا ظن فاعله تأثيره في المرتكب للذنب.(3/318)
(5 - باب حد المحارب)
( [عقوبة الحرابة] :)
(هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن: القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو نفي من الأرض) ؛ لقوله - تعالى -: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} .
قلت: أكثر أهل العلم على أن هذه الآية نزلت في أهل الإسلام لا الكفار؛ بدليل قوله - تعالى -: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} ، والإسلام يحقن الدم؛ سواء أسلم قبل القدرة عليه أو بعدها.
وإنما أضاف الحرب إلى الله ورسوله؛ إيذانا بأن حرب المسلمين كأنه حرب الله - تعالى - ورسوله.
أقول: ظاهر القرآن الكريم: أن من صدق عليه أنه محارب لله ورسوله، ساع في الأرض فسادا؛ فإن عقوبته: إما القتل، أو الصلب، أو القطع من خلاف، أو النفي من الأرض؛ من غير فرق بين كونه قتل أو لم يقتل.
والظاهر: أنه لا يجمع له بين هذه الأنواع، ولا بين اثنين منها، ولا(3/319)
يجوز تركه عن أحدها؛ هذا معنى النظم القرآني.
فإن قلت: كيف عقوبة الصلب؟ هل يفعل به ما يصدق عليه مسمى الصلب ولو كان قليلا؟
قلت: يفعل به ما يصدق عليه أنه صلب عند أهل اللغة؛ فإن كان الصلب عندهم هو الذي يفضي إلى الموت فذاك، وإن كان أعم منه؛ فالامتثال يحصل بفرد من أفراده (1) .
وقال الشافعي: المكابرون في الأمصار قطاع.
وقال أبو حنيفة: لا.
وظاهر مذهب الشافعي في صفة الصلب: أنه يقتل ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب ثلاثا، ثم ينزل ويدفن.
وقيل: يصلب حيا، ثم يطعن حتى يموت مصلوبا.
وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى على قاطع الطريق.
ومعنى النفي عند الحنفية: الحبس حتى يرى عليه أثر الصلاح.
وعند الشافعي: للإمام أن يحبس أو يغرب أو يطلبه للتعزير، والطلب نفي أيضا؛ لأنه حامل على هربه.
__________
(1) • تردد المصنف - هنا - في معنى الصلب، وجزم في (ص 327) بأن يشمل النوعين؛ فتنبه! (ن)(3/320)
( [الإمام مخير في الحكم على المحاربين بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي] :)
(يفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا لكل من قطع طريقا - ولو في المصر - إذا كان قد سعى في الأرض فسادا (1)) ؛ هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز؛ من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب (2) ؛ فإن الله - سبحانه - قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} ، فضم إلى محاربة الله ورسوله - أي: معصيتهما - السعي في الأرض فسادا، فكان ذلك دليلا على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فسادا؛ كان حده ما ذكره الله في الآية.
ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق - وهم العرنيون -؛ كان دخول من قطع طريقا تحت عموم الآية دخولا أوليا.
ثم حصر الجزاء في قوله: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} ، فخير بين هذه الأنواع؛ فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحا منها.
فإن لم يكن إمام؛ فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات.
فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم، ولم يأت من الأدلة النبوية ما
__________
(1) • وحكاه ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (28 / 310) عن بعض أهل العلم.
ولكنه في مكان آخر صرح بأن الآية ليست على التخيير ولا على الترتيب؛ بل بحسب الجرائم؛ في بحث له هام ودقيق؛ فليراجع في (16 / 75 - 79) . (ن)
(2) • استصوبه ابن تيمية (28 / 315) . (ن)(3/321)
يصرف ما يدل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب.
وأما ما روي عن ابن عباس؛ كما أخرجه الشافعي في " مسنده ": أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا الأموال؛ صلبوا.
وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال؛ قتلوا ولم يصلبوا.
وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا؛ قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا؛ نفوا من الأرض:
فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة على أحد.
ولو فرضنا أنه في حكم التفسير للآية - وإن كان مخالفا لها غاية المخالفة -: ففي إسناده ابن أبي يحيى؛ وهو ضعيف جدا (1) ، لا تقوم بمثله الحجة.
وأما ما روي عن ابن عباس أيضا: أن الآية نزلت في المشركين - كما أخرجه أبو داود، والنسائي عنه (2) -:
فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين، وقد كانوا أسلموا؛ كما في الأمهات.
__________
(1) • بل هو كذاب، كما شهد به يحيى بن سعيد القطان، وابن معين، وابن المديني، وغيرهم؛ واسمه إبراهيم بن محمد. (ن)
(2) هو إلى الضعف أقرب، وانظر تفصيل ذلك في كتاب " مرويات ابن عباس في التفسير " (1 / 327) للدكتور عبد العزيز الحميدي.(3/322)
ولو سلمنا ما روي عن ابن عباس؛ لم تقم به حجة من قال باختصاص ما في الآية بالمشركين؛ لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ؛ لا بخصوص السبب.
على أن في إسناد ذلك: علي بن الحسين بن واقد، وهو ضعيف.
وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف؛ كالحسن البصري، وابن المسيب، ومجاهد.
وأسعد الناس بالحق: من كان معه كتاب الله.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرنيين: أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية، وهو القطع؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس.
والمراد بالصلب المذكور في الآية: هو الصلب على الجذوع أو نحوها حتى يموت؛ إذا رأى الإمام ذلك، أو يصلبه صلبا لا يموت فيه؛ فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت، والصلب الذي لا يفضي إلى الموت.
ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت؛ لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل؛ لأن الصلب هو قتل خاص.
وأما النفي من الأرض؛ فهو طرده من الأرض التي أفسد فيها.
وقد قيل: إنه الحبس؛ وهو خلاف المعنى العربي.(3/323)
( [توبة المحارب قبل القدرة عليه] :)
(فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك) ؛ لنص القرآن بذلك، وهو قوله - تعالى -: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} .
قلت: معناه عند الشافعي: إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه؛ يسقط عنه من العقوبة ما يختص بقطع الطريق.
فإن كان قتل يسقط تحتم القتل، ويبقى عليه القصاص، فالولي فيه بالخيار؛ إن شاء استوفاه، وإن شاء عفا عنه.
وإن كان قد أخذ المال؛ سقط عند قطع اليد والرجل، وقيل في سقوط قطع اليد: حكمه حكم السارق في البلد إذا تاب.
وإن كان قد قتل وأخذ المال؛ سقط عنه تحتم القتل والصلب.
وإذا تاب بعد القدرة؛ لا يسقط عنه شيء من العقوبات.
ولا يسقط سائر الحدود بالتوبة قبل القدرة عليه، وهذا أظهر قولي الشافعي.
والقول الثاني: أن كل عقوبة تجب حقا لله تعالى - مثل عقوبات قاطع الطريق، وقطع السرقة، وحد الزنا، والشرب -؛ تسقط بالتوبة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) .
__________
(1) هو نص حديث صحيح؛ انظر تخريجه في " الضعيفة " (تحت الحديث 615) لشيخنا(3/324)
وأقول: الآية ليس فيها إلا الإشارة إلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة، وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب.
ولو سلم القطع؛ فذلك في الذنوب التي أمرها إلى الله، فيسقط بالتوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله.
وأما الحقوق التي للآدميين - من دم، أو مال، أو عرض -: فليس في الآية ما يدل على سقوطها.
ومن زعم أن ثم دليلا يدل على السقوط؛ فما الدليل على هذا الزعم؟ !(3/325)
(6 - باب من يستحق القتل حدا)
(1 -[الحربي] :)
(هو الحربي) ، ولا خلاف في ذلك؛ لأوامر الله - عز وجل - بقتل المشركين في مواضع من كتابه العزيز، ولما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا متواترا من قتالهم، وأنه كان يدعوهم إلى ثلاث، ويأمر بذلك من يبعثه للقتال.
((2) [المرتد] )
(والمرتد) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من بدل دينه فاقتلوه "؛ وهو للبخاري وغيره من حديث ابن عباس.
وحديث: " لا يحل دم امرئ مسلم؛ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان ... " الحديث؛ وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن مسعود.
ولحديث أبي موسى في " الصحيحين " أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " اذهب إلى اليمن "، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه؛ ألقى له وسادة، وقال: انزل؛ وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى يقتل؛ قضاء الله ورسوله!(3/326)
قال في " المسوى ":
" من ارتد عن الإسلام؛ إن كان في منعة من قومه؛ جمع الإمام - المسلمين - وقاتلهم؛ قال - تعالى -: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} ؛ وفي هذه الآية إخبار عما علم الله - تعالى - وقوعه.
وقد ارتد أكثر العرب في زمن أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه -؛ فبعث إليهم المسلمين؛ وقاتلهم حتى رجعوا.
وعلى هذا أهل العلم.
ومن ارتد عن الإسلام وليس له منعة؛ قتل.
وعليه أهل العلم؛ إذا كان المرتد رجلا ".
( [أقوال العلماء في المرتدة] :)
واختلفوا في المرتدة؛ قال الشافعي: تقتل، وقال أبو حنيفة: لا تقتل؛ ولكن تحبس حتى تسلم.
أقول: الأدلة الدالة على قتل المرتد عامة، ولم يرد ما يقتضي تخصيصها.
وأما حديث النهي عن قتل النساء؛ فذلك إنما هو في حال الحرب؛ فإن(3/327)
النساء المشركات لا يقتلن، وليس ذلك محل النزاع.
ثم قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قتل عدة نساء؛ كاللاتي أمر بقتلهن يوم الفتح؛ لما كان يقع منهن السب له، وكذلك قتل امرأتين من بني قريظة، وغير ذلك.
ثم ليس النهي عن قتل النساء مستلزما لتركهن على الكفر؛ إذا امتنعن من الإسلام والجزية؛ فإنه لا يجوز التقرير على الكفر.
فإذا قالت امرأة: لا أسلم أبدا، ولا أعطي الجزية، وصممت على ذلك؛ كان تركها حينئذ كافرة غير جائز لأحد من المسلمين.
ومن ههنا؛ يلوح لك أن النهي عن قتل النساء؛ إنما هو لأجل كونهن مستضعفات، يحصل منهن الانقياد للإسلام بدون ذلك، وليس عندهن غناء في القتال.
ولهذا كان سبب النهي عن قتلهن: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة؛ فقال: " ما كانت هذه لتقاتل {"، ثم نهى عن قتلهن.
فانظر كيف جعل النهي عن قتلهن معللا بعدم المقاتلة؟}
( [بيان خطإ من قال: إن المتأول كالمرتد] :)
وأما قول بعض أهل العلم: إن المتأول كالمرتد؛ فههنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله، بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين؛ من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان.(3/328)
بل لما غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين؛ لقنهم الزمان بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، والسراب في البقيعة (1) .
في الله وللمسلمين من هذه الفاقرة (2) التي هي أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين!
وأنت - إن بقي فيك نصيب من عقل، وبقية من مراقبة الله - عز وجل -، وحصة من الغيرة الإسلامية -: علمت - وعلم كل من له علم بهذا الدين - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام؟ قال - في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه -: إنه إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والأحاديث بهذا المعنى متواترة.
فمن جاء بهذه الأركان الخمسة، وقام بها حق القيام؛ فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك؛ كائنا من كان، فمن جاءك بما يخالف هذا - من ساقط القول، وزائف العلم بالجهل -؛ فاضرب به في وجهه، وقل له: قد تقدم هذيانك هذا: برهان محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه -:
(دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر)
__________
(1) كذا الأصل، وصوابه القيعة: جمع قاع؛ كالجيرة: جمع جار.
والقاع: ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب. (ش)
(2) الفاقرة: الداهية التي تكسر الظهر. (ش)(3/329)
وكما أنه تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام؛ فقد حكم لمن آمن - بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره - بالإيمان، وهذا منقول عنه نقلا متواترا.
فمن كان هكذا؛ فهو المؤمن حقا، وقد ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين، والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه: ما يدل - بفحوى الخطاب - على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية؟ {فإن هذه جناية لا تعدلها جناية، وجرأة لا تماثلها جرأة}
وأين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه في " الصحيح " أيضا -: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه "؟ {
ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه في " الصحيح " أيضا -: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "؟}
ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم؛ عليكم حرام "؟ {وهو أيضا في " الصحيح ".
وكم يعد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية؟}
والهداية بيد الله - عز وجل -: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} ": هذا ما أفاده الماتن العلامة في " السيل ".
وقال أيضا: " اعلم أن الحكم على الرجل المسلم - بخروجه من دين(3/330)
الإسلام ودخوله في الكفر -؛ لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه؛ إلا ببرهان أوضح من شمس النهار؛ فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة - المروية من طريق جماعة من الصحابة - أن: " من قال لأخيه: يا كافر {فقد باء بها أحدهما "؛ هكذا في " الصحيح ".
وفي لفظ آخر في " الصحيحين "، وغيرهما: " من دعا رجلا بالكفر؛ أو قال: عدو الله} وليس كذلك؛ إلا حار عليه "؛ أي: رجع.
وفي لفظ في " الصحيح ": " فقد كفر أحدهما ".
ففي هذه الأحاديث - وما ورد موردها - أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن السراع في التكفير.
وقد قال - عز وجل -: {ولكن من شرح بالكفر صدرا} ؛ فلا بد من شرح الصدر بالكفر، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه.
فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك؛ لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام.
ولا اعتبار بصدور فعل كفري؛ لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر.
ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر؛ وهو لا يعتقد معناه.
فإن قلت: قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما؛ كما تقدم،(3/331)
وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع؛ كما في حديث: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "، ونحوه مما ورد مورده، وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر؛ وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر {
قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل، ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث؛ فعليك أن تقرها كما وردت، وتقول: من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر؛ فهو كما قال.
ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافرا؛ إلا من شرح بالكفر صدرا، فحينئذ تنجو من معرة الخطر، وتسلم من الوقوع في المحنة؛ فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه، ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة.
فكيف إذا كان على نفسه - إذا أخطأ - أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا؟}
أفهذا يقود إليه العقل؛ فضلا عن الشرع؟ !
ومع هذا؛ فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب، وقد أمكن هنا بما ذكرناه، فتعين المصير إليه.
فحتم على كل مسلم؛ أن لا يطلق كلمة الكفر؛ إلا على من شرح به صدرا، ويقصر ما ورد مما تقدم على مورده:(3/332)
(وهذا الحق لي به خفاء ... فدعني عن بنيات (1) الطريق)
و (يأبى (2) الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح)
وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولا كفريا صدر من كافر؟ ! فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما يأبى عنه الحصر؛ من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار.
وهكذا؛ لا يحكم بكفر من كفر مكرها؛ فقد استثناه القرآن الكريم بقوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ؛ وكفى به ". اه.
(3 -[الساحر] :)
(والساحر) ؛ لكون عمل السحر نوعا من الكفر؛ ففاعله مرتد يستحق ما يستحقه المرتد.
وقد روى الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم من حديث جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حد الساحر ضربة بالسيف ".
قال الترمذي: " والصحيح عن جندب موقوفا ".
__________
(1) بنيات الطريق - بالتصغير -: هي الطرق الصغار التي تتشعب من الجادة. (ش)
(2) (ويأبى) ؛ الواو للعطف؛ وليست من البيت. اه. (ش)(3/333)
قال: " والعمل على هذا عند بعض أهل العلم؛ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس.
وقال الشافعي: " إنما يقتل الساحر؛ إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملا دون الكفر؛ لم نر عليه قتلا ". اه.
وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف.
وأخرج أحمد، وعبد الرزاق، والبيهقي: أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بشهر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة.
والأرجح ما قاله الشافعي؛ لأن الساحر إنما يقتل لكفره، فلا بد أن يكون ما عمله من السحر موجبا للكفر.
قال في " المسوى ":
" السحر كبيرة "؛ قال - تعالى -: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} ، واختلف في ذلك أهل العلم.
فقال مالك وأحمد: يقتل الساحر.
وقال الشافعي ما تقدم.
ولو قتل الساحر رجلا بسحره، وأقر: إني سحرته، وسحر يقتل غالبا؛ يجب عليه القود عند الشافعي، ولا يجب عند أبي حنيفة.
ولو قال: سحري قد يقتل وقد لا يقتل؛ فهو شبع عمد.(3/334)
ولو قال: أخطأت إليه من غيره؛ فهو خطأ تجب فيه الدية المخففة، وتكون في ماله؛ لأنه ثبت باعترافه؛ إلا أن تصدقه العاقلة فتكون عليهم ".
أقول: لا شك أن من تعلم السحر بعد إسلامه؛ كان بفعل السحر كافرا مرتدا، وحدّه حد المرتد، وقد تقدم.
وقد ورد في الساحر بخصوصه أن حده القتل، ولا يعارض ذلك ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره (1) ؛ فقد يكون ذلك قبل أن يثبت أن حد الساحر القتل، وقد يكون ذلك لأجل خشية معرة اليهود - وقد كانوا أهل شوكة - حتى أبادهم الله، وفل شوكتهم، وأقلهم وأذلهم.
وقد عمل الخلفاء الراشدون على قتل السحرة، وشاع ذلك وذاع، ولم ينكره أحد.
(4 -[الكاهن] :)
(والكاهن؛ لكون الكهانة نوعا من الكفر؛ فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر.
__________
(1) • قصة السحر هذه صحيحة ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عائشة.
وله شاهد من حديث زيد بن أرقم عند النسائي (2 / 172) ، وأحمد (4 / 367) بسند صحيح؛ كما قال العراقي في " تخريج الإحياء " (2 / 336) .
وله طريق أخرى عند الحاكم (4 / 360) - وصححه، ووافقه الذهبي -.
فلا يلتفت إلى من طعن في صحة هذه القصة من جهة المعنى؛ فإن الأمر سهل لا يمس مقام النبوة بسوء مطلقا؛ إلا إن كان يمسه بشيء كونه - عليه السلام - بشرا! (ن)(3/335)
وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر؛ فبالأولى الكاهن إذا كان معتقدا بصحة الكهانة.
ومن ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من أتى كاهنا أو عرافا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
وفي الباب أحاديث.
(5 -[الساب لله أو لرسوله أو للكتاب أو للسنة أو للإسلام] :)
(والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين) ، وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح، ففاعلها مرتد؛ حده حده.
وقد أخرج أبو داود من حديث علي: أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها.
ولكنه من رواية الشعبي، عن علي، وقد قيل: إنه ما سمع منه.
وأخرج أبو داود (1) ، والنسائي من حديث ابن عباس: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلها، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمها؛ ورجال إسناده ثقات.
وأخرج أبو داود (2) ، والنسائي عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر،
__________
(1) • في " سننه " (2 / 221) ، والنسائي (2 / 171) ، وسنده صحيح. (ن)
(2) • وسنده صحيح أيضا، وقال النسائي عقبه " هذا الحديث أحسن الأحاديث وأجودها " (ن) .(3/336)
فتغيظ علي رجل، فاشتد غضبه، فقلت: أتأذن لي يا خليفة رسول الله! أن أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إلي، فقال ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله؛ ما كان لبشر بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قتله.
ونقل أبو بكر الفارسي - أحد أئمة الشافعية - في كتاب " الإجماع " أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح؛ كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة.
وخالفه القفال؛ فقال: كفر بالسب، فيسقط القتل بالإسلام.
قال الخطابي: لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما. اه.
وإذا ثبت ما ذكرنا في سب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فبالأولى من سب الله - تبارك وتعالى -؛ أو سب كتابه أو الإسلام، أو طعن في دينه وكفر؛ من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان.
أقول: وقريب من هذا: من جعل سب الصحابة شعاره ودثاره؛ فإنه لا مقتضى لسبهم قط، ولا حامل عليه أصلا؛ إلا غش الدين في قلب فاعله، وكراهة الإسلام وأهله، فإن هؤلاء هم أهله على الحقيقة؛ أقاموه بسيوفهم، وحفظوا هذه الشريعة المطهرة، ونقلوها إلينا كما هي.(3/337)
فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأقمأ (1) المشتغلين بثلبهم وتمزيق أعراضهم المصونة.
وقد رأينا في التواريخ ما صار يفعله أهل مصر والشام والمغرب؛ من قتل من كان كذلك؛ بعد مرافعته إلى حكام الشريعة، وحكمهم بسفك دمائهم.
وهذا؛ وإن كان عندنا غير جائز - لما عرفناك من عصمة دم المسلم، حتى يقوم الدليل الدال على جواز سفكه -؛ ولكن فيه القيام التام بحقوق أساطين الإسلام.
(6 -[الزنديق] :)
(والزنديق) ؛ وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ويعتقد بطلان الشرائع؛ فهذا كافر بالله وبدينه، مرتد عن الإسلام أقبح ردة؛ إذا ظهر منه ذلك بقول أو فعل.
وقد اختلف أهل العلم؛ هل تقبل توبته أم لا؟
والحق: قبول التوبة.
قال في " المسوى " - " في باب حكم الخوارج والقدرية وأشباههم -: " قال الشافعي: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات وأكفروهم؛ لم يحل بذلك قتالهم.
__________
(1) القماءة: الذلة والصغار.
وأقمأه: صغره وذلّله. (ش)(3/338)
بلغنا أن عليا - رضي الله تعالى عنه - سمع رجلا يقول: (لا حكم إلا لله) في ناحية المسجد، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل! لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال.
وقال أهل الحديث من الحنابلة: يجوز قتلهم.
أقول: الظاهر عندي - دراية ورواية - قول أهل الحديث:
أما رواية؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأين (1) لقيتموهم فاقتلوهم ".
وأما قول علي؛ فمعناه: أن الإنكار على الإمام والطعن فيه لا يوجب قتلا؛ حتى ينزع يده من الطاعة، فيكون باغيا أو قاطع طريق، وإذا أنكر ضروريا من ضروريات الدين؛ يقتل لذلك لا للإنكار على الإمام.
بيان ذلك: أن المفتي إذا سئل عن بعض أفعال زيد؟ حكم بالجواز، وإذا سئل عن بعضها الآخر؟ حكم بالفسق، ثم إذا سئل عن بعضها الآخر؟ حكم بالكفر؛ فههنا لم يظهر هذا الرجل عنده إلا الإنكار في مسألة التحكيم، فحكم حسبما أظهر، ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة، أو إنكار الحوض [أو] الكوثر، وما يجري مجرى ذلك من الثابت في الدين بالضرورة؛ لحكم بالكفر.
__________
(1) • الصواب: " فأينما "، والحديث في " البخاري " (12 / 241) بلفظ: " سيخرج قوم في آخر الزمان؛ حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول - وفي رواية: قول خير - البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ". (ن)(3/339)
وأما حديث: " أولئك الذين نهاني الله عنهم "؛ ففي المنافقين دون الزنادقة.
بيان ذلك: أن المخالف للدين الحق؛ إن لم يعترف به، ولم يذعن له لا ظاهرا ولا باطنا؛ فهو الكافر، وإن اعترف بلسانه وقلبه على الكفر؛ فهو المنافق، وإن اعترف به ظاهرا وباطنا؛ لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين ضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة؛ فهو الزنديق.
كما إذا اعترف بأن القرآن حق، وما فيه من ذكر الجنة والنار حق؛ لكن المراد بالجنة الابتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة، والمراد بالنار هي الندامة التي تحصل بسبب الملكات المذمومة، وليس في الخارج جنة ولا نار؛ فهو الزنديق؛ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أولئك الذين نهاني الله عنهم "؛ في المنافقين دون الزنادقة.
وأما دراية؛ فلأن الشرع كما نصب القتل جزاء للارتداد؛ ليكون مزجرة للمرتدين وذبا عن الملة التي ارتضاها؛ فكذلك نصب القتل في هذا الحديث وأمثاله جزاء للزندقة؛ ليكون مزجرة للزنادقة، وذبا عن تأويل فاسد في الدين لا يصح القول به.
ثم التأويل تأويلان:
تأويل لا يخالف قاطعا من الكتاب والسنة واتفاق الأمة.
وتأويل يصادم ما يثبت بقاطع؛ فذلك الزندقة.
فكل من أنكر الشفاعة، أو أنكر رؤية الله يوم القيامة، أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، أو أنكر الصراط والحساب - سواء قال: لا أثق بهؤلاء الرواة، أو قال: أثق بهم لكن الحديث مؤول، ثم ذكر تأويلا فاسدا لم(3/340)
يسمع ممن قبله -؛ فهو الزنديق.
وكذلك من قال في الشيخين أبي بكر وعمر - مثلا -: ليسا من أهل الجنة؛ مع تواتر الحديث في بشارتهما، أو قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة، ولكن معنى هذا الكلام: أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنبي، وأما معنى النبوة - وهو كون الإنسان مبعوثا من الله - تعالى - إلى الخلق، مفترض الطاعة - معصوما من الذنوب ومن البقاء على الخطإ فيما يرى -؛ فهو موجود في الأئمة بعده؛ فذلك هو الزنديق.
وقد اتفق جماهير المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجري هذا المجرى، والله - تعالى - أعلم ". اه.
( [متى يقام حد القتل على المستحقين؟] :)
(بعد استتابتهم) ؛ لحديث جابر عند الدارقطني، والبيهقي: أن امرأة - يقال لها: أم مروان - ارتدت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عليها الإسلام؛ فإن تابت وإلا قتلت.
وله طريقان (1) ضعفهما ابن حجر.
__________
(1) • أخرجهما البيهقي (8 / 203) ، وضعف الطريق الأول بقوله: " فيه بعض من يجهل "، وفي الطريق الأخرى معمر بن بكار السعدي، قال الذهبي: " صويلح "، قال العقيلي: " في حديثه وهم، ولا يتابع على أكثره "، قال الحافظ: " وذكر ابن أبي حاتم [فلم يذكر فيه جرحا، وذكره] في الثقات.
قلت: فمثله حسن الحديث عند المتابعة كما هنا.
ويشهد له حديث عائشة الآتي بعده، وعليه عمل الصحابة، قال ابن عبد البر: " لا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد ".
وقد ساق بعض الآثار عنهم في ذلك البيهقي، فتراجع. (ن)(3/341)
وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف، عن عائشة: أن امرأة ارتدت يوم أحد، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب؛ فإن تابت وإلا قتلت.
وأخرج أبو الشيخ في " كتاب الحدود " عن جابر: أنه - صلى الله عليه وسلم - استتاب رجلا أربع مرات؛ وفي إسناده العلاء بن هلال، وهو متروك.
وأخرجه البيهقي من وجه آخر.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي: أن أبا بكر استتاب امرأة - يقال لها: أم قرفة -، كفرت بعد إسلامها، فلم تتب؛ فقتلها.
قال ابن حجر: وفي السير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل أم قرفة (1) يوم قريظة، وهي غير تلك.
وأخرج مالك في " الموطأ " (2) ، والشافعي: أن رجلا قدم على عمر بن
__________
(1) أم قرفة؛ في " الزرقاني على المواهب ": " بكسر القاف، وسكون الراء، وتاء التأنيث ". (ش)
(2) • (2 / 211) ، وعنه الشافعي (2 / 281 - 282) ؛ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل ...
ومحمد بن عبد الله - هذا - أورده ابن أبي حاتم (2 / 2 / 300) ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
وأما ابنه عبد الرحمن؛ فروى (2 / 2 / 281) عن ابن معين أنه ثقة، ولم يوردهما السيوطي في " إسعاف المبطإ برجال الموطإ "؛ وله من هذا القبيل الشيء الكثير {
وهذا الأثر رواه البيهقي من طريق مالك، ثم روى (8 / 207) قصته في جماعة ارتدوا فقتلوا، فاسترجع عمر، فقيل له: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟} قال: نعم، كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الإسلام فإن أبوا استودعناهم السجن.
وسنده حسن. (ن)(3/342)
الخطاب من قبل أبي موسى، فسأله عن الناس؟ فأخبره، فقال: هل من مغربة خبر (1) ؟ قال: نعم؛ رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال قربناه فضربنا عنقه، فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا؛ واستتبتموه؟ {لعله يتوب ويراجع أمر الله، اللهم} إني لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة؛ ثم كيفيتها.
والظاهر: أنه يجب تقديم الدعاء إلى الإسلام قبل السيف؛ كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو أهل الشرك، ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال، ولا يقاتلهم حتى يدعوهم.
فهذا ثبت في كل كافر، فيقال للمرتد: إن رجعت إلى الإسلام؛ وإلا قتلناك، وللساحر، والكاهن، والساب لله، أو لرسوله، أو للإسلام، أو للكتاب، أو للسنة، أو للطاعن في الدين، أو الزنديق: قد كفرت بعد إسلامك؛ فإن رجعت إلى الإسلام؛ وإلا قتلناك، فهذه هي الاستتابة، وهي واجبة؛ كما وجب دعاء الحربي إلى الإسلام.
وأما كونه يقال للمرتد بأي نوع من تلك الأنواع مرتين أو ثلاثة، أو في ثلاثة أيام، أو أقل أو أكثر؛ فلم يأت ما تقوم به الحجة في ذلك.
بل يقال لكل واحد من هؤلاء: ارجع إلى الإسلام، فإن أبى قتل مكانه.
__________
(1) (مغربة) - بضم الميم، وفتح الغين، وتشديد الراء المكسورة -؛ أي: هل من خبر جديد جاء من بلد بعيد؟ قاله في " اللسان ".(3/343)
قال في " المسوى ":
" اختلفت الروايات عن أبي حنيفة والشافعي في ذلك:
في " المنهاج ": ويجب استتابة المرتد والمرتدة، وفي قول: يستحب وهي في الحال، وفي قول: ثلاثة أيام؛ فإن أصرّا قتلا.
وفي " الهداية ": " إذا ارتد المسلم عن الإسلام؛ عرض عليه الإسلام، فإن كانت له شبهة؛ كشفت عنه، ويحبس ثلاثة أيام؛ فإن أسلم وإلا قتل.
وفي " الجامع الصغير ": يعرض عليه الإسلام؛ فإن أبى قتل.
قيل: تأويل الأول؛ أنه إن استمهل يمهل ثلاثة أيام.
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يستحب أن يؤجله؛ طلب ذلك أو لم يطلب ". اه.
أقول: الأدلة الصحيحة المصرحة بقتل المرتد؛ لم يثبت في شيء منها الاستتابة؛ بل فيها الأمر بالقتل للفور.
وما ورد عن بعض الصحابة من إنكار قتل المرتدين قبل الاستتابة؛ فليس بحجة، ولا يصلح لتقييد ما ثبت عن الشارع، ودعوى أن ذلك إجماع - بواسطة عدم الإنكار - دعوى باطلة.
فالحق: أن المرتد يقال له: ارجع إلى الإسلام، فإن أجاب وجب حقن دمه، وإن لم يجب تعين قتله في ذلك الوقت، وقد حصل الدعاء المشروع بمجرد قولنا له: ارجع إلى الإسلام.(3/344)
(والزاني المحصن واللوطي مطلقا والمحارب) ، وقد تقدم الكلام فيهم.
( [لم يصح في قتل الديوث شيء] :)
وأما الديوث؛ فلم يصح في قتله شيء.
وأصل دم المسلم العصمة، وليس كل معصية مبيحة للقتل؛ بل معاصي مخصوصة ورد الشرع بها، ولا سيما بعد ورود الحصر في حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم؛ إلا بإحدى ثلاث "؛ وليس هذا منها.
فالحاصل: أن الديوث من أعظم العصاة؛ مع ما في ذلك من الهجنة المنافية للدين والمروءة.
وأما أنه يقتل؛ فلا؛ ولا كرامة.
( [حكم الإسلام في الباطنية] :)
وأما قتل الباطنية؛ فالحق أنهم - مع تسترهم بالكفر -؛ لا يحل قتل أحد منهم؛ إلا بعد أن يفعل أو يقول ما هو كفر بدون تأويل؛ ولا سيما والمشهور عنهم؛ أنهم يظهرون لعوامهم الإسلام والصلاح، ويوهمونهم أنهم على الحق.
فإن صح هذا؛ فجميع عوامهم لا يعلمون أنهم على الكفر؛ بل يعتقدون أنهم على الحق؛ فهم إلى تعريفهم بالحق أحوج منهم إلى القتل، فلا يجوز قتل أحد من الباطنية - وهم البواهر في أرض الهند - إلا بعد أن يظهر منه كفر بواح؛ لأن كلمتهم إسلامية، ودعوتهم نبوية؛ وإن كانوا على شفا جرف هار من أمور الدين.(3/345)
(الكتاب السابع والعشرون: كتاب القصاص)(3/347)
(27 - كتاب القصاص)
( [الدليل على وجوب القصاص] :)
ووجوبه بنص الكتاب العزيز: {كتب عليكم القصاص في القتلى} ، {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} ، وبمتواتر السنة كحديث: " لا يحل دم امرئ مسلم؛ إلا بإحدى ثلاث "؛ منها: " والنفس بالنفس "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن مسعود.
وفي " مسلم "، وغيره من حديث عائشة.
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين؛ إما أن يفتدي؛ وإما أن يقتل ".
وأخرجه أحمد (1) ، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" من أصيب بدم أو خبل - والخبل الجراح -؛ فهو بالخيار بين إحدى
__________
(1) • في " المسند " (4 / 31) ، والبيهقي (8 / 52) ، وسنده ضعيف لما ذكره الشارح.
لكن له طريق أخرى عند أبي داود (2 / 245) ، وأحمد (4 / 32) مختصرا، مثل حديث أبي هريرة وسنده صحيح، وصححه الترمذي (2 / 309) . (ن)(3/349)
ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة؛ فخذوا على يده ".
وفي إسناده سفيان بن أبي العوجاء السلمي، وفيه مقال، وفيه أيضا محمد بن إسحاق، وقد عنعن.
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله - تعالى - لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر} الآية، {فمن عفي له من أخيه شيء} ، قال: فالعفو: أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف: أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان، {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} : فيما كتب على من كان قبلكم، ولا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب القصاص عند وجود المقتضي وانتفاء المانع.
( [على من يجب القصاص؟] )
(يجب على المكلف المختار) ، وقد تقدم وجهه (العامد) ؛ لما أخرجه أبو داود (1) ، والنسائي، والحاكم - وصححه - من حديث عائشة بلفظ:
" لا يحل قتل مسلم؛ إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله ورسوله؛ فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض ".
__________
(1) • في " سننه " (2 / 219) ، والحاكم (4 / 467) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)(3/350)
وأخرج الترمذي (1) ، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ بلفظ: " من قتل متعمدا؛ أسلم إلى أولياء المقتول؛ فإن أحبوا قتلوا ... " الحديث.
وهي معلوم - بالأدلة والإجماع من أهل الإسلام -: أن القصاص لا يجب إلا مع العمد، ولا بد أن يكون عدوانا؛ لأن من قتل - عمدا مقتولا يستحق القتل شرعا -: لم يجب القصاص عليه.
( [أنواع القتل ثلاثة] :)
(1 -[عمد محض] :)
قلت: عند الشافعي: القتل على ثلاثة أنواع:
عمد محض: وهو أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا؛ سواء كان بمحدد أو مثقل؛ فيجب فيه القصاص عند وجود المكافئ، أو الدية مغلظة في مال الجاني حالة.
(2 -[شبه العمد] :)
والثاني: شبه العمد: وهو أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبا؛ بأن ضربه بعصا خفيفة - أو حجر صغير - ضربة أو ضربتين فمات؛ فلا يجب فيه القصاص، ويجب به الدية مغلظة على عاقلته،
__________
(1) • في " سننه " (2 / 304) - وحسنه، وابن ماجه (2 / 137) ؛ من طريق محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو ... به.
قلت: وهذا سند حسن. (ن)(3/351)
مؤجلة إلى ثلاث سنين، فإن كان المضروب صغيرا أو مريضا يموت منه غالبا، أو كان قويا - غير أن الضارب والى عليه بالضرب حتى مات -: يجب القَوَد.
(3 -[الخطأ المحض] :)
والثالث: الخطأ المحض: وهو أن لا يقصد ضربه، وإنما قصد غيره فأصابه، أو حفر بئرا فتردى فيه إنسان، أو نصب شبكة حيث لا يجوز، فتعلق بها رجل ومات؛ فلا قود عليه، وتجب الدية مخففة على العاقلة في ثلاث سنين.
ثم القتل ينقسم باعتبار المقتولين إلى أقسام، ولكل قسم حكم يخصه؛ إما في القود، وإما في الدية، وإما فيهما جميعا: قتل الحر، وقتل العبد، وقتل الذكر، وقتل الأنثى، وقتل المسلم، وقتل الكافر، وقتل الجنين.
ولا اعتبار لكون المقتول شريفا أو وضيعا، جميلا أو دميما، صغيرا أو كبيرا؛ غنيا أو فقيرا.
وإذا وجب القود على إنسان، فترك له شيء من الدم - بأن عفا أحد الورثة -: صار موجبه الدية للآخرين، وسيأتي تفصيلها.
( [لا دليل على إنكار القصاص في دار الحرب] :)
وأما إنكار القصاص في دار الحرب مطلقا؛ فلا وجه له من كتاب، ولا سنة، ولا قياس صحيح، ولا إجماع؛ فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها،(3/352)
فما أوجبه الله - تعالى - على المسلمين من القصاص؛ ثبت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها؛ مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش؛ إلا مجرد الخيال المبني على الهباء؛ فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض، يجب الحكم له به على خصمه، وهو مفوض إلى اختياره.
وغاية ما ثبت في هذا: ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية، وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين؛ فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام، ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل؛ وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع؛ من لزوم القصاص ولزوم الأرش.
( [من حق الورثة التنازل عن القصاص وطلب الدية] :)
(إن اختار ذلك الورثة؛ وإلا فلهم طلب الدية) ؛ لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين ".
( [اتفاق العلماء في قتل المرأة بالرجل والعبد بالحر والكافر بالمسلم] :)
(وتقتل المرأة بالرجل، والعكس، والعبد بالحر، والكافر بالمسلم) ؛ لما أخرج مالك، والشافعي من حديث عمرو بن حزم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن: أن الذكر يقتل بالأنثى.
ورواه أبو داود، والنسائي؛ من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري. . مرسلا.(3/353)
ورواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي - موصولا مطولا - من حديث الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده.
وفي هذا الحديث كلام طويل، وقد صححه ابن حبان، والحاكم (1) ، والبيهقي.
وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، يستغنى بشهرته عن الإسناد؛ لأنه أشبه بالمتواتر في مجيئه؛ لتلقي الناس له بالقبول.
وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم: " قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره - الزهري - بالصحة لهذا الكتاب " (2) .
ومما استدل به على ذلك: ما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث
__________
(1) • ووافقه الذهبي (1 / 395 - 397) ، وفيه نظر؛ لأنه من رواية سليمان بن داود، عن الزهري
وسليمان - هذا -؛ الراجح أنه سليمان بن أرقم، كما قال الذهبي نفسه في ترجمة ابن داود.
وابن أرقم ضعيف جدا. (ن)
(2) لم أجده مطولا في " النسائي "؛ كما قال الشارح؛ إلا أن يكون في " السنن الكبرى " للنسائي ولم نرها.
وهو في " مستدرك الحاكم " مطولا (ج 1: ص 395) . (ش)(3/354)
أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء به، فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فرضّ رأسه بين حجرين.
وقد استوفى الماتن ذلك البحث في " شرح المنتقى ".
وإلى ذلك: ذهب الجمهور، واختلفوا؛ هل تستوفي ورثة الرجل من ورثة المرأة نصف الدية أم لا؟
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على قتل الرجل بالمرأة؛ إلا رواية عن علي، وعن الحسن، وعطاء.
ورواه البخاري عن أهل العلم؛ هذا في قتل الرجل بالمرأة.
وأما قتل المرأة بالرجل؛ فالأمر واضح، وهكذا قتل العبد بالحر، والكافر بالمسلم، والفرع بالأصل، وليس في ذلك خلاف.
( [اختلاف العلماء في قتل الرجل بالمرأة، والحر بالعبد والمسلم بالكافر] :)
وأما العكس من هذه الصور الثلاث؛ فقد قيل: إنه يقتل الحر بالعبد، وهو محكي عن الحنفية، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وقتادة، والثوري؛ هذا إذا كان العبد مملوكا لغير القاتل.
وأما إذا كان مملوكا له؛ فقد حكى في " البحر " الإجماع على أنه لا يقتل السيد بعبده؛ إلا عن النخعي.
وهكذا حكى الخلاف - عن النخعي وبعض التابعين -: الترمذي.(3/355)
واستدل المثبتون بما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي - من حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع (1) عبده جدعناه "، وفي إسناده ضعف؛ لأنه من رواية الحسن، عن سمرة، وفي سماعه منه خلاف مشهور.
واستدل المانعون بقوله - تعالى -: {الحر بالحر والعبد بالعبد} .
وفي الاستدلال بالآية إشكال كالإشكال في استدلال من استدل بقوله - تعالى -: {النفس بالنفس} .
واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقد به، وأمره أن يعتق رقبة.
وفي إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه رواه عن الأوزاعي، وهو شامي، وإسماعيل قوي في الشاميين.
وفي إسناده أيضا محمد بن عبد العزيز الشامي، وهو ضعيف.
وأخرج البيهقي، وابن عدي من حديث عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده "؛ وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي، وهو منكر الحديث؛ كما قال البخاري.
__________
(1) الجدع: قطع الأنف والأذن والشفة، وهو بالأنف أخص، فإذا أطلق غلب عليه؛ قاله ابن الأثير. (ش)(3/356)
وأخرج الدارقطني والبيهقي، من حديث ابن عباس مرفوعا: " لا يقتل حر بعبد "؛ وفي إسناده جويبر، وغيره من المتروكين.
وأخرج البيهقي عن علي قال: من السنة: أن لا يقتل حر بعبد؛ وفي إسناده جابر الجعفي، وهو متروك.
وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث عمرو بن شعيب.
وفي الباب أحاديث تشهد لهذه وتقويها (1) .
( [الدليل على عدم قتل المؤمن بالكافر] :)
(لا العكس) ؛ أي: لا يقتل مؤمن بكافر؛ لحديث علي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا لا يقتل مؤمن بكافر ".
وأخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم - وصححه -.
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه.
وأخرجه ابن حبان في " صحيحيه " من حديث ابن عمر.
وأخرج البخاري وغيره عن علي: أنه قال له أبو جحيفة (2) : هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة؛
__________
(1) انظر تحقيق الكلام على هذه الروايات - وبيان صحيحها من ضعيفها - في " إرواء الغليل " (208 - 214) .
(2) قوله: أبو جحيفة؛ بتقديم الجيم على الحاء. اه. من
__________
الأصل. (ش)(3/357)
إلا فهماً يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال:
" المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ".
وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقتل المسلم بالكافر الحربي.
وأما بالذمي؛ فذهب إلى ذلك الجمهور، وبه قال أبو حنيفة (1) .
ولم يأت من ذهب إلى قتل المسلم بالذمي بما يصلح للاستدلال به.
قال مالك: الأمر عندنا: أن لا يقتل مسلم بكافر؛ إلا أن يقتله المسلم قتل غيلة؛ فيقتل به (2) .
قلت: وعليه الشافعي؛ إلا أنه أسقط هذا الاستثناء؛ لأن الأحاديث الصحيحة في هذا الباب - مثل حديث علي وعبد الله بن عمر - ساكتة عنه.
( [لا يقتل الأصل بالفرع] :)
(والفرع بالأصل لا العكس) ؛ أي: لا يقتل الأصل بالفرع؛ لحديث: " لا يقتل الوالد بالولد ".
__________
(1) • المعروف عن أبي حنيفة أنه يقول بقتل المسلم بالذمي.
فالظاهر أن في عبارة الكتاب سقطا، ولعله من الطابع؛ انظر " نيل الأوطار " (7 / 9) ؛ وقد ذكر فيه حجج من قال بقوله، وردها كلها، وفيها حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد، وأنه ضعيف؛ فراجعه. (ن)
(2) • وحجته في ذلك قصة رويت عن عمر، وقد أشار الشافعي إلى تضعيفها. (ن)(3/358)
أخرجه الترمذي من حديث عمر، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة (1) .
ولكن له طريق أخرى عند أحمد، والبيهقي، والدارقطني، ورجال إسنادها ثقات.
وأخرج نحوه الترمذي أيضا من حديث سراقة، وفي إسنادها ضعف.
وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس.
وقد أجمع أهل العلم على ذلك، لم يخالف فيه؛ إلا البتي ورواية عن مالك.
( [يثبت القصاص في الأعضاء والجروح؟] :)
(ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها والجروح مع الإمكان) ؛ لقوله - تعالى -: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} ، وهي - وإن كانت حكاية عن بني إسرائيل -؛ فقد قرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن الربيع كسرت ثنية جارية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص.
وأما تقييد ذلك بالإمكان؛ فلكون بعض الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها؛ كعدم إمكان الاقتصار على مثل ما في المجني عليه، وخطاب الشرع
__________
(1) • وقد تابعه محمد بن عجلان عند الدارقطني، والبيهقي؛ وسنده حسن.
وحديث ابن عباس له إسناد صحيح عند الدارقطني، كما بينت ذلك في فصل خاص عندي لهذا الحديث. (ن)(3/359)
محمول على الإمكان من دون مجاوزة للمقدار الكائن في المجني عليه، فإذا كان لا يمكن إلا بمجاوزة للمقدار، أو بمخاطرة وإضرار؛ فالأدلة الدالة على تحريم دم المسلم، وتحريم الإضرار به - بما هو خارج عن القصاص - مخصصة لدليل الاقتصاص.
قلت: إن كل طرف له مفصل معلوم، فقطعه ظالم من مفصله من إنسان اقتص منه؛ كالإصبع يقطعها من أصلها، أو اليد يقطعها من الكوع، أو من المرفق، أو الرجل يقطعها من المفصل؛ يقتص منه.
وكذلك لو قلع سنه، أو قطع أنفه، أو أذنه، أو فقأ عينه، أو جب ذكره، أو قطع أنثييه؛ يقتص منه.
وكذلك لو شجه موضحة (1) في رأسه أو وجهه؛ يقتص منه.
ولو جرح رأسه دون الموضحة، أو جرح موضعا آخر من بدنه، أو هشم العظم؛ فلا قود فيه؛ لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه.
وكذلك لو قطع يده من نصف الساعد؛ فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع، وله أن يقتص من الكوع، ويأخذ حكومة لنصف الساعد.
وعلى هذا أكثر أهل العلم في الجملة، وفي التفاصيل لهم اختلاف.
( [يسقط القصاص بإبراء أحد الورثة] :)
(ويسقط بإبراء أحد الورثة، ويلزم نصيب الآخرين من الدية) : لما تقدم من
__________
(1) من: أوضحت الشجة بالرأس فهي موضحة؛ يعني: كشف العظم. (ش)(3/360)
كون أمر القصاص والدية إلى الورثة، وأنهم بخير النظرين، فإذا أبرأوا من القصاص سقط، وإن أبرأ أحدهم سقط؛ لأنه لا تبعض، ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية.
وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وعلى المقتتلين أن ينحجزوا؛ الأول فالأول؛ وإن كانت امرأة ".
وأراد بالمقتتلين: أولياء المقتول.
وينحجزوا؛ أي: ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كانت امرأة (1) .
وقوله: " الأول فالأول "؛ أي: الأقرب فالأقرب.
هكذا فسر الحديث أبو داود.
وفي إسناده حصن بن عبد الرحمن - ويقال: ابن محصن - أبو حذيفة الدمشقي؛ قال أبو حاتم الرازي: لا أعلم من روى عنه غير الأوزاعي، ولا أعلم أحدا نسبه (2) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى: أن يعقل (3) عن المرأة
__________
(1) حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع ".
(2) وذكره ابن حبان في " الثقات ". (ش)
(3) العقل: هو الدية، وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول؛ أي: شدها في عقلها؛ ليسلمها إليهم؛ قاله ابن الأثير. (ش)(3/361)
عصبتها (1) من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها.
وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد وثقه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد (2) .
فقوله: وهم يقتلون قاتلها: يفيد أن ذلك حق لهم؛ يسقط بإسقاطهم أو إسقاط بعضهم.
وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه.
( [متى يؤخر القصاص؟] :)
(فإذا كان فيهم صغير ينتظر في القصاص بلوغه) ؛ دليله: ما قدمنا من أن ذلك حق لجميع الورثة، ولا اختيار للصبي قبل بلوغه (3) .
( [متى يهدر القصاص؟] :)
(ويهدر ما سببه من المجني عليه) ؛ لحديث عمران بن حصين في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فيه، فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل؟ ! لا دية لك ".
وفيهما أيضا من حديث يعلى بن أمية (4) .
__________
(1) • أي أقاربها من جهة أبيها. (ن)
(2) حديث حسن: " الإرواء " (2302) .
(3) هي خلافية، والخلاف مفصل في " بداية المجتهد " (ج 2: ص 336 - 337) لابن رشد. (ش)
(4) يعني: نحوه. (ش)(3/362)
وإلى ذلك ذهب الجمهور.
( [ما حكم من أمسك رجل ليقتله آخر] )
(وإذا أمسك رجل وقتل آخر؛ قتل القاتل وحبس الممسك) ؛ لحديث ابن عمر - عند الدارقطني (1) -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" إذا أمسك الرجل الرجل، وقتله الآخر؛ يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك "، وهو من طريق الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر.
ورواه معمر، وغيره، عن إسماعيل؛ قال الدارقطني: والإرسال أكثر.
وأخرجه أيضا البيهقي، ورجح المرسل، وقال: إنه - موصولا - غير محفوظ.
قال ابن حجر: ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان.
وأخرج الشافعي، عن علي: أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا، وأمسكه آخر، قال: يقتل القاتل، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت.
وقد ذهب إلى ذلك: الحنفية والشافعية، ويؤيده قوله - تعالى -: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .
وبالجملة: فقتل القاتل مندرج تحت الأدلة المثبتة للقصاص.
وأما حبس الممسك؛ فذلك نوع من التعزير استحقه بسبب إمساكه للمقتول.
وقد روي عن النخعي، ومالك، والليث: أنه يقتل الممسك كالمباشر للقتل؛ لأنهما شريكان.
__________
(1) • وكذا أبو نعيم في " الحلية " (7 / 160) . (ن)(3/363)
وفي " الموطإ ": أن عمر بن الخطاب قتل نفرا - خمسة أو سبعة - برجل واحد قتلوه قتل غيلة، وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء؛ لقتلتهم جميعا.
قال مالك: الأمر عندنا: أنه يقتل في العمد الرجال الأحرار بالرجل الحر الواحد، والنساء بالمرأة كذلك، والعبيد (1) بالعبد كذلك أيضا.
في " المسوى ":
" والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم؛ قالوا: إذا اجتمع جماعة على قتل واحد يقتلون به قصاصا ". اه.
أقول: إذا اشترك جماعة من الرجال - أو الرجال والنساء في قتل رجل عمدا بغير حق -؛ قتلوا به كلهم، وهذا هو الحق؛ لأن الأدلة القرآنية والحديثية لم تفرق بين كون القاتل واحدا أو جماعة.
والحكمة التي شرع القصاص لأجلها - وهي حقن الدماء وحفظ النفوس -: مقتضية لذلك.
ولم يأت من قال بعدم جواز قتل الجماعة بالواحد بحجة شرعية؛ بل غاية ما استدلوا به على المنع تدقيقات ساقطة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير (2) ؛ كما فعله الجلال في " ضوء النهار "، والمقبلي.
__________
(1) في الأصل: " بالعبيد "، وهو خطأ صححناه من " الموطإ " (ص 342 - طبع الهند) . (ش)
(2) القبيل: ما وليك، والدبير: ما خالفك.
ويقال: القبيل: فتل القطن، والدبير: فتل الكتان والصوف.
ومعنى قولهم: " ما يعرف قبيله من دبيره ": ما يدري شيئا؛ ملخص من " اللسان ".
وجعله الزمخشري من المجاز؛ وهو ظاهر. (ش)(3/364)
وقد نقض الماتن ذلك في أبحاث أجاب بها على بعض علماء العصر، واستوفى جميع الحجج.
وقوله: قتلوه غيلة؛ أي: حيلة، يقال: اغتالني فلان: إذا احتال حيلة يتلف بها ماله.
ويقال: الغيلة؛ هي أن يخدعه؛ حتى يخرجه إلى موضع يخفى فيه، ثم يقتله.
تمالأ عليه أهل صنعاء؛ أي: تعاونوا عليه، واجتمعوا إليه.
قال في " الهدي ":
" وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا؛ فلا يسقط العفو، ولا نعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخنا وأفتى به ". اه.
وقال قبل هذا ما لفظه:
" وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرتهم؛ فإنه من المعلوم: أن كل واحد منهم - يعني: العرنيين - لم يباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ". اه.
( [ما هي عقوبة قتل الخطإ] :)
(وفي قتل الخطإ الدية والكفارة) ؛ لنص الكتاب العزيز؛ على ما في النظم القرآني من القيود والتفاصيل.(3/365)
وقد وقع الإجماع على وجوب الدية والكفارة في الجملة، وإن وقع الخلاف في بعض الصور؛ كوجوب الكفارة من مال الصغير إذا قتل؛ لأن عمده خطأ.
والخلاف في وجوب الكفارة من ماله معروف، فمن لم يوجبها؛ جعل إيجابها من باب التكليف، فقال: لا تجب إلا على مكلف، ومن أوجبها؛ جعله من خطاب الوضع، وهكذا المجنون.
والكفارة هي ما ذكر الله - سبحانه -: من تحرير الرقبة وما بعده من الإطعام الصوم.
وأما الدية؛ فسيأتي بيانها، وبيان الخطإ المحض، والخطإ الذي هو شبه العمد.
( [ما هو قتل الخطإ؟] :)
(وهو ما ليس بعمد أو من صبي أو مجنون) ؛ قال مالك في " الموطإ ": " الأمر المجتمع عليه عندنا: أنه لا قود بين الصبيان، وأن عمدهم خطأ؛ ما لم تجب عليهم الحدود ويبلغوا الحلم، وأن قتل الصبي لا يكون إلا خطأ ".
قلت: وعلى هذا أكثر أهل العلم.
( [على من تجب دية قتل الخطأ؟] )
(وهي على العاقلة، وهم العصبة (1)) ؛ لحديث أبي هريرة - في
__________
(1) • العصبة: الأقارب من جهة الأب؛ لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم؛ أي: يحيطون به ويشتد بهم: " نهاية ". (ن)(3/366)
" الصحيحين " - قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان - سقط ميتا - بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة (1) توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها.
وفي لفظ لهما: وقضى بدية المرأة على عاقلتها.
وفي " مسلم "، وغيره من حديث جابر، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة (2) .
وأخرج أبو داود، وابن ماجه (3) : أن امرأتين - من هذيل - قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ميراثها لزوجها وولدها ".
وصححه النووي؛ وفي إسناده مجالد، وهو ضعيف (4) .
وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب - قريبا - وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن تعقل عن المرأة عصبتها ... الحديث.
__________
(1) • في " النهاية ": " الغرة ": العبد نفسه، وأصل الغرة: البياض الذي يكون في وجه الفرس ... ، والغرة عند الفقهاء: ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء، وإنما تجب الغرة في الجنين إذا سقط ميتا، فإن سقط حيا ثم مات؛ ففيه الدية كاملة ". (ن)
(2) بضم العين، وإنما دخلت الهاء لإفادة المرة الواحدة؛ قاله الشوكاني. (ش)
(3) يعني: من حديث جابر. (ش)
(4) قلت: لكن حديثه هذا حسن؛ كما في " صحيح سنن ابن ماجة " (2 / 99) لشيخنا.(3/367)
وقد أجمع العلماء على ثبوت العقل، وإنما اختلفوا في التفاصيل، وفي مقدار ما يلزم كل واحد من العاقلة.
أقول: الأدلة قد وردت بما يستفاد منه: أن القبيلة تعقل عن الجاني منها، وأن البطن يعقل عن الجاني منه، والقرابة يعقلون عن القريب الجاني.
ولا منافاة بين هذه الأحاديث؛ بل يجمع بينها؛ بأن القرابة إذا قدروا على تسليم ما لزم؛ فهم أخص من غيرهم، وإن احتاج اللازم إلى زيادة عليهم، ولم يقدروا على الوفاء؛ لزم البطن (1) ، ثم القبيلة.
وبمجموع ما ورد في العقل: يرد على من قال: إنه غير ثابت في الشريعة، مستدلا بمثل قوله - تعالى -: {لا تزر وازرة وزر أخرى} ، وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يجني جان إلا على نفسه "؛ لأن أدلة العقل أخص مطلقا؛ فالعمل بها واجب.
والظاهر: أن العقل لازم في كل جنايات الخطإ؛ من غير فرق بين الموضحة وما دونها وما فوقها.
__________
(1) • هو ما دون القبيلة. (ن)(3/368)
(الكتاب الثامن والعشرون: كتاب الديات)(3/369)
(28 - كتاب الديات)
(1 - أحكام الدية والشّجاج)
الأصل في الدية أنها تجب أن تكون مالا عظيما يغلبهم وينقص من مالهم، ويجدون له ألما عندهم، ويكون بحيث يؤدونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر، وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص.
( [مقدار دية الرجل المسلم] :)
(دية الرجل المسلم مائة من الإبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مائتا حلة) ؛ تقدير الدية بذلك؛ لحديث عطاء بن أبي رباح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة "، رواه أبو داود، مسندا ومرسلا، وفيه عنعنة محمد بن إسحاق.
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو
__________
(1) • في " المسند " (رقم 7090) ؛ من طريق محمد بن راشد: حدثنا سليمان بن موسى، عن عمرو ... به.
ولم يتفرد به ابن راشد؛ فقد أخرجه أحمد (رقم 7033) ، عن ابن إسحاق: وذكر عمرو بن شعيب.
وابن إسحاق مدلس؛ ولم يذكر سماعه.
وهو من الطريق الأولى حسن. (ن)(3/371)
ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من كان عقله في البقر؛ على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في الشاء؛ ألفي شاة "، وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد تكلم فيه غير واحد، ووثقه جماعة.
وفي حديث عمرو بن حزم: " أن في النفس الدية مائة من الإبل ".
وهو حديث صحيح - قد تقدم تخريجه في قتل الرجل بالمرأة، وفيه أيضا -: " وعلى أهل الذهب ألف دينار ".
وأخرج أبو داود (1) من حديث ابن عباس: أن رجلا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا.
وأخرجه الترمذي مرفوعا ومرسلا.
وأخرج أبو داود (2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:
__________
(1) • في " الديات " (رقم 4546) ، وكذا الترمذي (1 / 261) ؛ عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس ... به؛ وقال الترمذي: " لا نعلم أحدا يذكر فيه: عن ابن عباس غير محمد بن مسلم ".
قلت: وفيه ضعف. (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 251) ، وعند البيهقي (8 / 77) ؛ وفيه عبد الرحمن بن عثمان البكراوي، وهو ضعيف.
لكن رواه أحمد (رقم 7033) ، والبيهقي؛ من طريق أخرى، عن عمرو بن شعيب ... به مرفوعا، بلفظ: " كان يقوّم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أثمان الإبل، فإذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين أربعمائة إلى ثلاثمائة دينار أو عدلها من الورق؛ ثمانية آلاف، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاة فألفا شاة "؛ وسنده حسن. (ن)(3/372)
كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين، قال: فكان كذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا، فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.
ولا يخفى أن هذا لا يعارض ما تقدم؛ فقد وقع التصريح فيه برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف أهل العلم في مقادير الدية، والحق: ما ثبت من تقدير الشارع؛ كما ذكرناه.
وفي " الموطأ ": أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى، فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم.
قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق.
قلت: عليه مالك، وهو القول القديم للشافعي؛ إلا أنه قال: يقدر بتقدير عمر بن الخطاب عند إعواز الإبل، والإبل هي الأصل في باب الديات، ثم رجع، وقال: الأصل فيها الإبل، فإذا أعوزت؛ تجب قيمتها بالغة ما بلغت، وتأول حديث عمر على أن قيمة الإبل كانت قد بلغت في زمانه اثني عشر ألف درهم، أو ألف دينار؛ لحديث عمرو بن شعيب المتقدم.
وقال أبو حنيفة: الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم.
وقال صاحباه: على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب(3/373)
والورق ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاء ألفا شاة، وعلى أهل الحلل ألف حلة ".
( [متى تغلظ الدية؟] :)
(وتغلظ دية العمد وشبهه) ، واتفقوا على أن التغليظ لا يعتبر؛ إلا في الإبل دون الذهب والورق.
أقول: قد اختلفت الأحاديث في الديات تغليظا وتخفيفا ولكل قسم:
فالدية المغلظة في الخطأ الذي هو شبه العمد، والدية المخففة في الخطأ المحض، والأحاديث مصرحة بذلك، فليرجع إليها، والمذاهب مختلفة.
وليس الحجة إلا في الدليل؛ لا في القال والقيل.
( [كيف تغلظ الدية؟] :)
(بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها) ، لحديث عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة، فقال:
" ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر؛ فيه دية مغلظة مائة من الإبل؛ منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة (1) ".
__________
(1) الثنية من الإبل: ما دخل في السادسة.
والبازل: الذي أتم ثماني سنين ودخل في التاسعة؛ وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته؛ وبعد ذلك؛ يقال له: بازل عام، وبازل عامين.
والخلفة - بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام -: الحامل من النوق. (ش)(3/374)
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في " تاريخه "، وساق اختلاف الرواة فيه (1) .
وأخرجه أيضا الدارقطني.
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" عقل شبه العمد مغلظ كعقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون دماء في غير ضغينة، ولا حمل سلاح ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في " التاريخ "، والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها " وصححه ابن حبان، وابن القطان (3) .
وأخرج هذا الحديث من تقدم ذكره من حديث ابن عمر.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد، وخطأ، وشبه عمد:
__________
(1) • وكذلك صنع النسائي (3 / 247) . (ن)
قلت: وهو حديث صحيح؛ انظر " الإرواء " (2197) لشيخنا.
(2) • (رقم 6717، 7033) وسنده حسن. (ن)
(3) • وهو كما قالا؛ فإن رجاله كلهم ثقات؛ انظر " النسائي " (2 / 247) . (ن)(3/375)
ففي العمد القصاص، وفي الخطأ الدية، وفي شبه العمد - وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة؛ كالعصا والسوط والإبرة، مع كونه قاصدا للقتل - دية مغلظة، وهي مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها.
وممن ذهب إلى هذا: زيد بن علي، والشافعية، والحنفية، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك والليث: إن القتل ضربان: عمد وخطأ:
فالخطأ ما وقع بسب من الأسباب، أو غير مكلف، أو غير قاصد للمقتول ونحوه، أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة.
والعمد ما عداه، والأول لا قود فيه.
وقد حكى صاحب " البحر " الإجماع على هذا؛ مع كون مذهب الجمهور على خلافه!
( [مقدار دية الذمي] :)
(ودية الذمي نصف دية المسلم) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" عقل الكافر نصف دية المسلم ".
أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي وحسنه، وابن الجارود وصححه.
وأخرجه أيضا ابن ماجه بنحوه.
وأخرج ابن حزم من حديث عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(3/376)
" دية المجوسي ثمانمائة درهم ".
وأخرجه أيضا الطحاوي، والبيهقي، وابن عدي، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
وأخرج الشافعي، والدارقطني، والبيهقي، عن سعيد بن المسيب، قال: كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة.
وقد ذهب إلى كون دية الذمي نصف دية المسلم مالك.
وقال الشافعي: إن دية الكافر أربعة آلاف درهم؛ كذا روي عنه.
والذي في " منهاج النووي ": " أن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم ".
قال شارحه المحلي: إنه قال بذلك عمر وعثمان وابن مسعود.
وحكى في " البحر " عن زيد بن علي وأبي حنيفة أن دية المجوسي كالذمي.
وذهب الثوري والزهري وزيد بن علي وأبو حنيفة: إلى أن دية الذمي كدية المسلم.
وروي عن أحمد: أن ديته مثل دية المسلم إن قتل عمدا؛ وإلا فنصف الدية.
احتج القائلون بتنصيف دية الذمي بالنسبة إلى دية المسلم بما تقدم.
واحتج القائلون بأنها كدية المسلم بقوله - تعالى -: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله} .(3/377)
ويجاب بأن هذا الإطلاق مقيد بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من كونها على النصف من دية المسلم.
وعند الترمذي: " عقل الكافر نصف عقل المؤمن ".
قال ابن القيم: " هذا حديث حسن يصحح مثله أكثر أهل الحديث ".
وعند أبي داود: " كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار، وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ: النصف من دية المسلم، فلما كان عمر رفع دية المسلمين، وترك دية أهل الذمة، لم يرفعها فيما رفع من الدية ". انتهى.
( [مقدار دية المرأة، ودية أطرافها] :)
(ودية المرأة نصف دية الرجل، والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" عقل المرأة مثل عقل الرجل؛ حتى يبلغ الثلث من ديته " أخرجه النسائي (1) ، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 248) ، والدارقطني (ص 327) ؛ من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب ... به.
وهذا سند ضعيف؛ ابن جريج مدلس، وقد عنعنه، وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن الحجازيين، وهذه منها؛ كما في " نصب الراية " (4 / 364) ؛ فلا أدري ما وجه تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث؟ !
لكن أخرج البيهقي (8 / 96) معناه عن زيد بن ثابت من قوله؛ وسنده صحيح؛ لولا أن الشعبي لم يسمع من زيد. (ن)
قلت: وقد ضعفه شيخنا في " الإرواء " (2254) .(3/378)
وأخرج البيهقي من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" دية المرأة نصف دية الرجل "؛ قال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله (1) .
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علي، أنه قال: دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل (2) .
وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن عمر.
وقد أفاد الحديث المذكور: أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وأن أرشها (3) إلى الثلث من الدية مثل أرش الرجل، وقد وقع الخلاف في ذلك بين السلف والخلف.
وأخرج مالك في " الموطأ "، والبيهقي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل، قلت: فكم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل، قلت: فكم في ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون من الإبل، قلت: فكم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل، قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال: هي السنة يا ابن أخي! (4)
__________
(1) انظر - لزاما - " الإرواء " (2252) لشيخنا.
(2) • وهو منقطع كما قال البيهقي (8 / 96) .
ولكن رواه أيضا من طريق الشعبي، عن علي، وقال: " وهذا يؤكد رواية إبراهيم ".
قلت: ورجاله ثقات إلا أن الشعبي لم يسمع من علي. (ن)
(3) قال أبو منصور: أصل الأرش الخدش، ثم قيل لما يؤخذ دية لها: أرش؛ نقله في " اللسان ". (ش)
(4) • قلت: وسنده صحيح؛ ثم هو موقوف على الراجح من علم الأصول. (ن)(3/379)
( [مقدار دية الأعضاء والشّجاج] :)
(وتجب الدية كاملة في العينين والشفتين واليدين والرجلين والبيضتين، وفي الواحدة منها نصفها، وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان والذكر والصلب، وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشرها، وفي الهاشمة عشرها، وفي كل سن نصف عشرها، وكذا في الموضحة) (1) ؛ لحديث عمرو بن حزم الذي تقدم تخريجه وتصحيحه، وفيه: " أن في الأنف إذا أوعب جدعة الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرِّجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل ".
وأخرج أحمد (2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملا، وإذا جدعت
__________
(1) المأمومة: هي الجناية البالغة أم الدماغ.
والجائفة: هي الطعنة التي تبلغ الجوف.
والمنقلة: هي التي تنقل العظم أو تكسره.
والهاشمة: هي الشجة التي تهشم العظم. (ش)
• المأمومة؛ أي: الشجة التي تصل إلى أم الدماغ؛ وهي جلدة فوق الدماغ.
والمنقلة: شجة يخرج منها صغار العظم وتنتقل عن أماكنها.
والموضحة: الشجة التي توضح العظم؛ أي: تظهره. (ن)
(2) • في " المسند " (رقم 7033، 7092) ، وأبو داود أيضا (2 / 254) ؛ وسنده حسن. (ن)(3/380)
أرنبته فنصف العقل، وقضى في العين نصف العقل، والرّجل نصف العقل، واليد نصف العقل، والمأمومة ثلث العقل، والمنقلة خمسة عشر من الإبل.
وقد أخرجه أبو داود، وابن ماجه بدون ذكر العين والمنقلة، وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد تكلم فيه جماعة، ووثقه جماعة (1) .
وأخرج الترمذي (2) - وصححه - من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دية أصابع اليدين والرجلين سواء؛ عشر من الإبل لكل أصبع ".
وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان من حديث أبي موسى.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في كل أصبع عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء ".
وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن الجارود - وصححاه - من حديث عمرو بن شعيب أيضا، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " في المواضح خمس من الإبل ".
وفي " البخاري "، وغيره من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" هذه وهذه - يعني: الخنصر والإبهام - سواء ".
__________
(1) والحق أنه ثقة.
(2) • في " سننه " (2 / 305) ، وكذا أبو داود (2 / 254) نحوه؛ وسندهما صحيح. (ن)(3/381)
وأخرج أبو داود (1) ، وابن ماجه من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الأسنان سواء؛ الثنية والضرس سواء ".
والمراد بالمأمومة: الجناية التي بلغت أم الدماغ، أو الجلدة الرقيقة التي عليه.
وإلى إيجاب ثلث الدية فيها؛ ذهب علي وعمر والحنفية والشافعية.
والمراد بالجائفة: الجناية التي تبلغ الجوف.
وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب الجمهور.
والمراد بالمنقلة: الجناية التي تنقل العظام عن أماكنها.
وقد ذهب إلى إيجاب خمسة عشر ناقة فيها علي وزيد بن ثابت والشافعية والحنفية.
والمراد بالهاشمة: التي تهشم العظم.
وقد أخرج الدارقطني، والبيهقي، وعبد الرزاق من حديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشرا من الإبل.
__________
(1) • في " السنن " (2 / 253 - 254) ؛ وسنده صحيح.
(فائدة) : في دية الأذن روى البيهقي (8 / 85) بسند صحيح، عن ابن شهاب، قال: قرأت كتاب رسول الله الذي كتبه لعمرو بن حزم ... فكتب فيه: " وفي الأذن خمسون من الإبل ".
ويقويه قول عمر وعلي بما فيه؛ كما في " البيهقي " بسندين صحيحين. (ن)(3/382)
وقد قيل: إنه موقوف؛ لكن لذلك حكم الرفع في المقادير.
والمراد بالموضحة: التي تبلغ العظم ولا تهشم.
وقد اختلف في المنقلة والهاشمة والموضحة؛ هل هذا الأرش هو بالنسبة إلى الرأس فقط أم في الرأس وغيره؟
والظاهر: أن عدم الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال؛ كما تقرر في الأصول.
( [مقدار أرش الجروح غير المسماة] :)
(وما عدا هذه المسماة فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريبا) ؛ لأن الجناية قد لزم أرشها بلا شك؛ إذ لا يهدر دم المجني عليه بدون سبب، ومع عدم ورود الشرع بتقدير الأرش لم يبق إلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع.
وبيان ذلك: أن الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية - كما ثبت عن الشارع - نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجنايات، فإن أخذت الجناية نصف اللحم، وبقي نصفه إلى العظم؛ كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة، وإن أخذت ثلثه؛ كان الأرش ثلث أرش الموضحة، ثم هكذا.
وكذلك إذا كان المأخوذ بعض الأصبع كان أرشه بنسبة ما أخذ من الأصبع؛ إلى جميعها، فأرش نصف الأصبع عشر الدية، ثم كذلك.
وهكذا الأسنان؛ إذا ذهب نصف السن؛ كان أرشه نصف أرش السن.(3/383)
ويسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف، فإذا كان الذاهب نصفه؛ ففيه نصف الدية، والذكر، ونحو ذلك.
فهذا أقرب المسالك إلى الحق، ومطابقة العدل، وموافقة الشرع.
أقول: اعلم أن كل جناية فيها أرش مقدر من الشارع - كالجنايات التي في حديث عمرو بن حزم الطويل، وفي غيره مما ورد في معناه - فالواجب الاقتصار في المقدار على الوارد في النص.
وكل جناية ليس فيها أرش من الشارع - بل ورد تقدير أرشها عن صحابي أو تابعي، أو من بعدهما - فليس في ذلك حجة على أحد.
بل المرجع في ذلك نظر المجتهد، وعليه أن ينظر في مقدار نسبتها من نسبة الجناية، التي ورد فيها أرش مقدر من الشارع، فإذا غلب في ظنه مقدار النسبة؛ جعل لها من الأرش مقدار نسبتها.
مثلا الموضحة ورد في الشرع تقدير أرشها، فإذا كانت الجناية دون الموضحة كالسِّمحاق والمتلاحمة والباضعة والدامية (1) ؛ فعليه أن ينظر - مثلا - مقدار ما بقي من اللحم إلى العظم، فإن وجده مقدار الخمس، والجناية قد قطعت من اللحم أربعة أخماس؛ جعل في الجناية أربعا من الإبل، أو أربعين مثقالا؛ لأن مجموع أرش الموضحة خمس من الإبل، أو خمسون مثقالا، وإن وجد الباقي من اللحم ثلثا؛ جعل أرش الجناية بمقدار الثلثين من أرش
__________
(1) السمحاق: جلدة رقيقة فوق قحف الرأس، إذا انتهت إليها الشجة؛ سميت سمحاقا.
والمتلاحمة: هي التي أخذت في اللحم ولم تبلغ السمحاق.
والباضعة: هي التي تقطع الجلد، وتدمي؛ إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال؛ فهي دامية. (ش)(3/384)
الموضحة، ثم كذلك إذا بقي النصف أو الربع أو الخمس أو العشر، وهكذا في سائر الجنايات التي لم يرد تقدير أرشها، فإنه ينبغي النسبة بينها وبين ما ورد تقدير أرشه من جنسها، وحينئذ لا يحتاج الحاكم العالم إلى تقليد غيره من المجتهدين كائنا من كان.
ولا يبقى تقسيم للجناية إلى ما يجب فيه أرش مقدر، وما تجب فيه حكومة.
( [مقدار دية الجنين إذا خرج ميتا] :)
(وفي الجنين إذا خرج ميتا الغرة) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة: عبد أو أمة، وهو ثابت في " الصحيحين " بنحو هذا من حديث المغيرة ومحمد بن مسلمة.
والغرة - بضم المعجمة وتشديد الراء -: أصلها البياض في وجه الفرس، وهنا هي (1) العبد أو الأمة، كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله.
وأما إذا خرج الجنين حيا ثم مات من الجناية؛ ففيه الدية أو القود.
وهذا إنما هو في الجنين الحر.
والخلاف في الغرة طويل؛ قد استوفاه الماتن في " شرح المنتقى ".
( [مقدار دية العبد وأرشه] )
(وفي العبد قيمته، وأرشه بحسبها) ، لا خلاف في ذلك، وإنما اختلفوا إذا
__________
(1) في الأصل: " في "؛ وهو خطأ. (ش)(3/385)
جاوزت قيمته دية الحر؛ هل تلزم الزيادة أم لا؟ والأولى اللزوم.
وأرش الجناية عليه منسوب من قيمته؛ فما كان فيه في الحر نصف الدية، أو ثلثها أو عشرها، أو نحو ذلك؛ ففيه في العبد نصف القيمة، أو ثلثها، أو عشرها، أو نحو ذلك.
أقول: وجه قول من قال: " إنها تجب قيمة العبد وإن جاوزت دية الحر ": أن العبد عين من الأعيان التي يصح تملكها، فكما يجب على متلف العين قيمتها وإن جاوزت دية الحر؛ كذلك يجب على متلف العبد.
ووجه قول من قال: " إنه لا يلزم ما زاد على دية الحر ": أن العبد من نوع الإنسان، وهو دون الحر في جميع الصفات المعتبرة، فغاية ما ينتهي إليه أن يكون إنسانا حرا في الكمال، فتجب فيه الدية.
وأما الزيادة على ذلك فلا؛ لأن دية الحر هي نهاية ما يجب في الفرد من هذا النوع الإنساني، والأول أرجح من حيث الرأي.
وأما من طريق الرواية؛ فلم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء.
وقد روي عن علي مثل القول الأول، وروي عنه مثل القول الثاني.
( [بيان حكم قتل الدابة والجناية عليها] )
وأما الدابة إذا قتلها قاتل؛ ففيها قيمتها، وإذا جنى عليها؛ كان الأرش مقدار نقص قيمتها بالجناية.(3/386)
وهذا وإن لم يقم عليه دليل بخصوصه؛ فهو معلوم من الأدلة الكلية؛ لأن العبد وسائر الدواب من جملة ما يملكه الناس، فمن أتلفه كان الواجب عليه قيمته، ومن جنى عليه جناية تنقصه؛ كان الواجب عليه أرش النقص، كما لو جنى على عين مملوكة من غير الحيوانات؛ وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر الدواب؛ يجب في الجناية عليه نقص القيمة.(3/387)
(2 - باب القسامة)
( [بيان صورة القسامة] :)
صورة القسامة: أن يوجد قتيل، وادعى وليه على رجل أو على جماعة، وعليهم لوث ظاهر.
واللوث: ما يغلب على القلب صدق المدعي بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم؛ كقتيل خيبر (1) وجد بينهم، والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة، أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو وجد في ناحية قتيل وثم رجل مختضب بدمه، أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله، أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاؤوا متفرقين؛ بحيث يؤمن تواطؤهم (2) ، ونحو ذلك من أنواع الموت، فيبدأ بيمين المدعي؛ فيحلف خمسين يمينا، ويستحق دعواه، فإن نكل المدعي عن اليمين؛ ردت إلى المدعى عليه؛ فيحلف خمسين يمينا على نفي القتل.
ويجب بها الدية المغلظة، فإن لم يكن هناك لوث؛ فالقول قول المدعى
__________
(1) سيأتي حديثه.
(2) هذا بناء على ما شاع، وفهمه الفقهاء - قديما وحديثا -؛ من أن البينة هي شهادة شاهدين حرين ذكرين عدلين.
ولسنا نرى هذا رأيا صحيحا، ولا دليل عليه لديهم؛ بل البينة كل ما بين الحق وأظهره، فإذا شهد جماعة من العبيد أو النساء متفرقين - وأمن تواطؤهم، وتبين صدقهم -؛ فشهادتهم بينة صحيحه يجب الحكم بالقصاص عندها؛ وهذا هو الحق الواضح! (ش)(3/388)
عليه مع يمينه، كما في سائر الدعاوى.
ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا؛ قولان؛ أصحهما الأول.
فإن كان المدعون جماعة؛ توزع الأيمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين، ويجبر الكسر.
والقول الثاني: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن كان المدعى عليهم جماعة، ووزع على عدد رؤوسهم على أصح القولين؛ إن كان الدعوى في الأطراف - سواء كان اللوث أو لم يكن - فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
هذا كله بيان مذهب الشافعي.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعي؛ بل يحلف المدعى عليه، وقال: إذا وجد قتيل في محلة؛ يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها، ويحلفهم على أنهم ما قتلوه، ولا عرفوا له قاتلا، ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة (1) ، فإن لم يعرفوا؛ فمن سكانها.
أقول: اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة عن الدلائل، ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضي الجمع بين
__________
(1) • وهذا يخالف الحديث الآتي: " فيدفع برمته ".
قال الخطابي في " المعالم " (6 / 315) : " وفي إلزامه اليهود بقوله: " فيدفع برمته "؛ دليل على أن الدية تجب على سكان المحلة دون أرباب الخطة؛ لأن خيبر كانت للمهاجرين والأنصار "، قال: " وظاهر الحديث حجة لمن رأى وجوب القتل بالقسامة، وإليه ذهب مالك، وأحمد، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وغيرهم: لا يقاد بالقسامة؛ إنما تجب بها الدية ". (ن)(3/389)
الأيمان والدية، بل بعض الأحاديث مصرح بوجوب الأيمان فقط، وبعضها مصرح بوجوب الدية فقط.
والحاصل: أنه قد كثر الخبط والخلط في هذا الباب إلى غاية، ولم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل، ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت، وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه، ولهذا ذهب جماعة من السلف - منهم أبو قلابة، وسالم بن عبد الله، والحكم بن عتيبة، وقتادة، وسليمان بن يسار، وإبراهيم ابن علية، ومسلم بن خالد، وعمر بن عبد العزيز - إلى أن القسامة غير ثابتة؛ لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه؛ قد ذكرها الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى "، وذكر ما أجيب به عنها من طريق الجمهور، فليراجع.
( [بم تثبت القسامة؟] :)
(إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت، وهي خمسون يمينا) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث سهل بن أبي حثمة.
( [يخير المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية] :)
(يختارهم ولي القتيل، والدية إن نكلوا عليهم، وإن حلفوا سقطت) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية.(3/390)
وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم، بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية؛ كما في القسامة التي كانت في بني هاشم - كما أخرجه البخاري، والنسائي من حديث ابن عباس - وهي قصة طويلة، وفيها: أن القاتل كان معينا، وأن أبا طالب قال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل؛ فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم، فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم،؛ كانت قد ولدت منه، فقالت: يا أبا طالب {أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين، ولا تصبر (1) يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب} أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل، فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما مني، ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان، فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا، قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده؛ ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف.
( [على من تكون الدية إذا التبس الأمر؟] :)
(وإن التبس الأمر كانت من بيت المال) ؛ لحديث سهل بن أبي حثمة، قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة أبناء
__________
(1) الصبر - في الأصل -: الحبس، واليمين المصبورة: المحبوسة.
وقيل لها ذلك؛ وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور - لأنه ألزم بها وحبس عليها، وكانت لازمة له من جهة الحكم؛ لأنه إنما صبر - أي: حبس - من أجلها؛ فوصفت بذلك مجازا. (ش)(3/391)
مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: " كبر كبر "، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما، فقال: " أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ "، فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ {قال: " فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا؟ " فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
وفي لفظ: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة.
وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافا كثيرا، وما ذكره الماتن هو أقرب إلى الحق، وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة.
وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته "، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟}
وقد أخرج أحمد والبيهقي، عن أبي سعيد، قال: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذرع ما بينهما، فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر، فألقى ديته عليهم.
قال البيهقي: تفرد به أبو إسرائيل عن عطية، ولا يحتج بهما.
وقال العقيلي: هذا الحديث ليس له أصل.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي، عن الشعبي: أن قتيلا وجد بين وادعة وشاكر، فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى وادعة أقرب، فأحلفهم خمسين يمينا؛ كل رجل: ما قتلته، ولا(3/392)
علمت قاتلا، ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين {لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق.
وأخرج نحوه الدارقطني، والبيهقي، عن سعيد بن المسيب، وفيه: أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر، وفيه عمر بن صبيح (1) ؛ أجمعوا على تركه.
وقال الشافعي: ليس بثابت؛ إنما رواه الشعبي، عن الحارث الأعور.
وهذا لا تقوم به حجة؛ لضعف إسناده - على فرض رفعه -.
وأما مع عدم الرفع؛ فليس في ذلك حجة؛ سواء ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح، والرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم هو الصواب، وقد تقدم ذكرها.
وقد أخرج أبو داود (2) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود - وبدأ بهم -:
__________
(1) صبيح؛ بالتصغير؛ كذا هو في " التقريب ".
وفي " التهذيب ": " صبح " بإسكان الباء؛ وضبطه بذلك الخزرجي في " الخلاصة ".
والحديث في " سنن الدارقطني " (ص 359) ؛ وفيه عمر بن صبيح؛ كما هنا؛ وعمر - هذا - كذاب يضع الحديث. (ش)
(2) • في " سننه " (2 / 248) ، وعنه البيهقي (8 / 122) ؛ من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار ... به، وهذا سند صحيح.
لكن خولف معمر في لفظه، كما بينه البيهقي، ثم ابن القيم في " التهذيب " (6 / 323) ، فراجعه} (ن)(3/393)
" يحلف منكم خمسون رجلا "، فأبوا، فقال للأنصار: " استحقوا "، فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟ ! فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على اليهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم.
وهذا - إذا صح - لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا، ولكنه مخالف لما ثبت في " الصحيحين " إن كانت هذه القصة هي تلك القصة.
وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه (1) .
__________
(1) • أخذ المصنف هذا عن المنذري في " مختصره "، وهذا هو الصواب: أن الحديث ضعيف للمخالفة التي سبقت الإشارة إليها؛ فلا تغتر بما في " الجوهر النقي " لابن التركماني. (ن)(3/394)
(الكتاب التاسع والعشرون: كتاب الوصية)(3/395)
(29 - كتاب الوصية)
( [متى تجب الوصية؟] :)
(تجب على من له ما يوصي فيه) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه؛ إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ".
وقد ذهب إلى الوجوب: عطاء، والزهري، وأبو مجلز، وطلحة بن مصرف، وآخرون، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق، وداود، وأبو عوانة، وابن جرير.
وذهب الجمهور إلى أن الوصية مندوبة وليست بواجبة، ويجاب عنه بقوله - تعالى -: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} .
ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين لا يستلزم نسخ وجوبها في غير ذلك، ويجاب عنه أيضا بحديث الباب، فإنه يفيد الوجوب.
قال في " المسوى ":
" وعليه أهل العلم، قال محمد: وبهذا نأخذ، هذا حسن جميل.(3/397)
قال النووي: قال الشافعي: معنى الحديث: الجزم والاحتياط، وأن المستحب تعجيل الوصية، وأن يكتبها في صحته ".
( [متى تحرم الوصية؟] :)
(ولا تصح ضرارا) ؛ لحديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
" إن الرجل ليعمل - أو المرأة - بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار "، ثم قرأ أبو هريرة: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله} إلى قوله: {وذلك الفوز العظيم} .
أخرجه أبو داود والترمذي.
وأخرج أحمد وابن ماجه معناه، وقالا فيه: " سبعين سنة "، وقد حسنه الترمذي (1) ، وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه مقال، وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
وأخرج سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح عن ابن عباس: " الإضرار في الوصية من الكبائر ".
وأخرجه النسائي مرفوعا (2) بإسناد رجاله ثقات.
__________
(1) قلت: والصواب ضعفه؛ كما في " ضعيف سنن ابن ماجه " (ص 216) لشيخنا.
(2) بل هو - عنده في " التفسير " (112) - موقوفا.
وأما المرفوع فهو عند الدارقطني (4 / 151) وغيره؛ وسنده ضعيف، وانظر " نصب الراية " (4 / 402) .(3/398)
والآية الكريمة مغنية عن غيرها؛ ففيها تقييد الوصية المأذون بها بعدم الضرار.
وقد روى جماعة من الأئمة الإجماع على بطلان وصية الضرار.
والحاصل: أن وصية الضرار ممنوعة بالكتاب السنة.
( [أمثلة على أنواع الضرار بالوصية] :)
ومن جملة أنواع الضرار: تفضيل بعض الورثة على بعض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا؛ كما في حديث النعمان بن بشير الصحيح.
ومن جملتها: أن تكون لإخراج المال مضارة للورثة؛ فإن من أوصى بماله؛ أو جزء منه لقربة من القرب؛ مريدا بذلك إحرام الورثة جميع ميراثهم أو بعضه؛ فوصيته باطلة؛ لأنه مضار.
وظاهر الأدلة: أنه لا ينفذ من وصية الضرار شيء؛ سواء كانت بالثلث أو بما دونه أو بما فوقه؛ بل هي رد على فاعلها، فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعدم الضرار، وقد جمع الماتن - رحمه الله - في هذا رسالة مختصرة.
( [الدليل على أن الوصية لا تصح لوارث] :)
(ولا) تصح (لوارث) ؛ لحديث عمرو بن خارجة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث ".
أخرجه أحمد، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، والدارقطني،(3/399)
والبيهقي، وصححه الترمذي.
وأخرجه أيضا أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه من حديث أبي أمامة، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وهو قوي إذا روى عن الشاميين، وهذا الحديث من روايته عنهم؛ لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم، وهو شامي ثقة، وقد حسنه الحافظ أيضا.
وأخرجه أيضا الدارقطني، من حديث ابن عباس؛ قال ابن حجر: رجاله ثقات، ولفظه:
" لا تجوز وصية لوارث؛ إلا أن تشاء الورثة " (1) .
وأخرج الدارقطني، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا وصية لوارث؛ إلا أن تجيز الورثة " (1) .
قال في " التلخيص ": إسناده واه.
وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه.
وعن جابر عند الدارقطني.
وعن علي عنده أيضا.
وقد قال الشافعي: " إن هذا المتن متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم - من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم - لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث "، ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من
__________
(1) منكر؛ وانظر " الإرواء " (1656 - 1657) .(3/400)
أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد ". انتهى.
فيكون هذا الحديث مقيدا لقوله - تعالى -: {من بعد وصية يوصي بها} ، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
قال مالك في " الموطأ ": السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها: أنه لا يجوز وصية لوارث؛ إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت ".
قلت: وعليه أهل العلم.
( [الدليل على أن الوصية لا تصح في المعصية] :)
[ولا] تصح (في معصية) ؛ لحديث أبي الدرداء عند أحمد، والدارقطني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم؛ ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم " (1) .
وأخرجه ابن ماجه (2) والبزار، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وفي إسناده ضعف.
وأخرجه أيضا الدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف.
وأخرجه العقيلي في " الضعفاء " من حديث أبي بكر الصديق، وفيه متروك.
وأخرجه ابن السكن، وابن قانع، وأبو نعيم، والطبراني، من حديث
__________
(1) حسن؛ وانظر " الإرواء " (1641) .
(2) • في " سننه " (2 / 158) ؛ وفيه طلحة بن عمرو؛ وهو ضعيف جدا. (ن)(3/401)
خالد بن عبد الله السلمي، وهو مختلف في صحبته.
وهي تنتهض بمجموعها، وقد دلت على أن الإذن بالوصية بالثلث إنما هو لزيادة الحسنات، والوصية في المعصية معصية؛ قد نهى الله عباده عن معاصيه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلو لم يرد ما يدل على تقييد الوصية بغير المعصية؛ لكانت الأدلة الدالة على المنع من معصية الله مفيدة للمنع من الوصية في المعصية.
( [بيان مقدار الوصية في القرب] :)
(وهي في القرب من الثلث) ؛ لحديث ابن عباس في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: لو أن الناس غضوا من الثلث؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الثلث والثلث كثير ".
ومثله حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " الثلث والثلث كثير - أو كبير - " لما قال: أتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا "، قال: فالشطر؟ قال: " لا "، قال: فالثلث؟ قال: " الثلث والثلث كثير - أو كبير -؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
وقد ذهب الجمهور إلى المنع من الزيادة على الثلث، ولو لم يكن للموصي وارث.
وجوز الزيادة مع عدم الوارث: الحنفية، وإسحاق، وشريك، وأحمد في رواية، وهو قول علي، وابن مسعود.(3/402)
واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية، فقيدتها السنة بمن له وارث، فبقي من لا وارث له على الإطلاق.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، من حديث أبي زيد الأنصاري: أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق اثنين وأرق أربعة.
وفي لفظ لأبي داود، أنه قال صلى الله عليه وسلم: " لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين ".
وقد أخرج الحديث مسلم وغيره من حديث عمران بن حصين.
وفي لفظ لأحمد: أنه جاء ورثته من الأعراب، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع، فقال: " أو فعل ذلك؟ ! لو علمنا - إن شاء الله - ما صلينا عليه ".
اعلم أن الثلث المأذون به لكل أحد هو باعتبار ما يفعله الميت لنفسه من القرب المقربة، التي لم تكن قد وجبت عليه بإيجاب الله - تعالى -، فما كان من هذا القبيل؛ فهو من الثلث المأذون به، وأما ما كان قد تقدم له وجوب على الميت - سواء كان حقا لله - عز وجل - كالزكاة والكفارات التي يعتقد الميت وجوبها والحج، أو حق الآدمي كالديون - فإنه يجب إخراجه من رأس المال قبل كل شيء، ولا وجه للتفصيل الذي ذكروه بين ما يتعلق بالمال ابتداء وما يتعلق به انتهاء؛ فإن ذلك لا تأثير له أصلا.
فالحاصل: أن الميت إذا مات وجب إخراج ما قد وجب عليه من حقوق الله، وحقوق الآدميين من رأس تركته، ثم ينظر فيما بقي، فإن كان الميت قد أوصى بقرب - لم يتقدم لها وجوب عليه؛ بل أراد التقرب بها؛ إخراجها من(3/403)
ثلث الباقي؛ لأن الله - سبحانه - قد أذن له أن يتصرف بثلث ماله كيف شاء؛ بشرط عدم الضرار؛ كتفضيل بعض الورثة على بعض، أو إخراج المال عنهم لا لمقصد ديني؛ بل لمجرد إحرامهم.
ثم ينظر في تلك القرب التي جعلها الميت لنفسه عند الموت، فإن استغرقت ثلث الباقي، من دون زيادة ولا نقصان؛ فإنفاذها واجب، وإن زادت لم ينفذ الزائد؛ إلا بإذن من الورثة.
فإذا أذنوا؛ فقد رضوا على أنفسهم بخروج جزء مما يملكونه؛ سواء كان قليلا أو كثيرا، وإن نقصت عن استغراق الثلث؛ كان الفاضل من الثلث للورثة.
فهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه.
وأما جعل بعض حقوق الله الواجبة من الثلث، وبعضها من رأس المال؛ فلا أصل لذلك؛ إلا مجرد خيالات مختلة.
ثم اعلم أن الظاهر عندي: أنه لا فرق بين حقوق الله الواجبة، وحقوق الآدميين في مخرجها من التركة، وأنه لا يجب تقديم حقوق الآدمي على حقوق الله؛ بل جميعها مستوية في ذلك؛ لأنها قد اشتركت في وجوبها على الميت، ولا فرق بين واجب وواجب.
ومن زعم أن بعضها أقدم من بعض؛ فعليه الدليل.
على أنه لو قال قائل: إن حقوق الله أقدم من حقوق بني آدم؛ مستدلا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " فدين الله أحق أن يقضى "؛ لم يكن بعيدا من الصواب، لولا أن المراد بقوله: " يقضى "؛ أي: يفعله الفاعل؛ كالقريب يحج(3/404)
عن قريبه ويصوم عنه، لا أن المراد أنه يدفع المال ليفعل ذلك فاعل آخر؛ فإن ذلك يحتاج إلى دليل يدل على أنه يصح؛ فضلا عن أنه يجب.
( [قضاء الديون مقدم على الوصية وجوبا] :)
(ويجب تقديم قضاء الديون) ؛ لحديث سعيد الأطول (1) عند أحمد، وابن ماجه، بإسناد رجاله رجال الصحيح (2) : أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه "، فقال: يا رسول الله {قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة؛ وليس لها بينة} قال: " فأعطها؛ فإنها محقة ".
وليس في ذلك خلاف، وقد دل عليه قوله - تعالى -: {من بعد وصية يوصى بها أو دين (3) } .
__________
(1) كذا بالأصل تبعا للشوكاني {والصواب: " سعد بن الأطول "؛ كما في جميع كتب التراجم، وفي نسخة صحيحة مخطوطة عتيقة من " المنتقى "، وكذا " مسند أحمد " (ج 4: ص 136) ، و (ج 5: ص 7) ، وفي " طبقات ابن سعد " (ج 7: قسم 1: ص 39) ،. (ش)
(2) • هذا خطأ؛ فإن فيه عند أحمد، وابن ماجه (2 / 82) عبد الملك أبا جعفر؛ وليس رجال الصحيح}
ثم إنه لم يرو عنه غير حماد بن سلمة، ولم يوثقه غير ابن حبان؛ فهو مجهول عندي، وفي " التقريب ": " مقبول "، يعني: عند المتابعة؛ وإلا فلين الحديث، وانظر " نيل الأوطار " (6 / 45) . (ن)
قلت: وانفصل شيخنا - أخيرا - إلى صحته في " أحكام الجنائز " (ص 25 - 26) .
(3) • ليس في الآية ما يدل على تقديم الدين على الوصية؛ بل ظاهرها يشهد للعكس!
وقد أجيب عن ذلك أن الآية ليس فيها ترتيب؛ بل المراد أن المواريث، إنما تقع بعد قضاء الدين، ثم إنفاذ الوصية؛ أي: أنها لم تسق لبيان ما الذي يقدم منهما؛ الدين أو الوصية.
وقد ذكر الشوكاني نقلا عن العلماء ستة أمور من مقتضيات تقديم الوصية على الدين، مع أنه مقدم عليها في التنفيذ؛ فراجعه. (ن)(3/405)
( [السلطان يقضي دين من مات ولم يترك ما يقضي دينه] :)
(ومن لم يترك ما يقضي دينه؛ قضاه السلطان من بيت المال) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:
" من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا (1) أو دينا (2) ؛ فكله إلي ودينه علي ".
وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني، من حديث جابر (3) .
وأخرجه أيضا البيهقي، والدارقطني، من حديث أبي سعيد.
وأخرجه أيضا الطبراني، من حديث سلمان.
وأخرجه ابن حبان في " ثقاته "، من حديث أبي أمامة.
__________
(1) الكل - بفتح الكاف -: العيال والثقل من كل ما يتكلف. (ش)
(2) • زاد البخاري (12 / 7) : " ... ولم يترك وفاء ... ". (ن)
(3) وكذلك أخرجه مسلم في حديث آخر لجابر (3 / 11) . (ن)(3/406)
(الكتاب الثلاثون: كتاب المواريث)(3/407)
(30 - كتاب المواريث)
( [المواريث واضحة في كتاب الله] :)
(هي مفصلة في الكتاب العزيز) ، ومعلومة لأهل العلم والتمييز.
قال الماتن: " لم نتعرض ههنا لذكرها، واقتصرنا على ذكر ما ثبت في السنة أو الإجماع، ولم نذكر ما كان لا مستند له إلا محض الرأي؛ كما جرت به عادتنا في هذا الكتاب، فليس مجرد الرأي مستحقا للتدوين، فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل، ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر.
وإذا عرفت هذا؛ اجتمع لك مما في الكتاب العزيز، وما ذكرناه ههنا جميع علم الفرائض الثابت بالكتاب والسنة، فإن عرض لك من المواريث ما لم يكن فيهما؛ فاجتهد فيه برأيك؛ عملا بحديث معاذ المشهور (1) ". انتهى.
( [مراتب الورثة: أصحاب الفروض أولا ثم العصبات ثانيا] :)
(ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة، وما بقي فللعصبة) (2) لحديث ابن
__________
(1) • قلت: وهو مع شهرته ضعيف من قبل إسناده؛ ضعفه البخاري وغيره، كما بينته في " الأحاديث الضعيفة " (رقم 881) . (ن)
(2) • وهم كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة، ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين؛ أخذ ما بقي؛ وإلا فلا شيء له: " نووي ". (ن)(3/409)
عباس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى (1) رجل ذكر ".
والمراد بالفرائض هنا: الأنصباء المقدرة.
وأهلها: هم المستحقون لها بالنص.
وما بقي بعد إعطاء ذوي الفرائض فرائضهم؛ فهو لأولى رجل ذكر.
( [مثال على العصبة] :)
(والأخوات مع البنات عصبة) ؛ أي: يأخذن ما بقي من غير تقدير؛ كما يأخذه الرجل بعد فروض أهل الفروض؛ لحديث ابن مسعود عند البخاري وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس؛ تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت.
وقد أفاد هذا أن لبنت الابن مع البنت السدس؛ تكملة الثلثين.
( [المستحقون للسدس] :)
(1 -[بنت الابن مع البنت] :)
(ولبنت الابن مع البنت السدس؛ تكملة الثلثين) ، وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه.
__________
(1) • أي: أقرب في النسب إلى المورث، والمراد به العمة مع العم، وبنت الأخ مع ابن الأخ، وبنت العم مع ابن العم؛ انظر " الفتح " (12 / 9) . (ن)(3/410)
(2 -[الأخت لأب مع الأخت لأبوين] :)
(3 -[الجدة مع عدم الأم] :)
(وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين، وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم) ؛ لحديث قبيصة بن ذؤيب عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه وابن حبان، والحاكم؛ قال: " جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر، قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر، فسألته ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولكن هو ذاك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيكما خلت به فهو لها (1) .
قال ابن حجر: وإسناده صحيح لثقة رجاله؛ إلا أن صورته مرسل؛ فإن قبيصة لا يصح سماعه من الصديق، ولا يمكن شهوده القصة؛ قاله ابن عبد البر، وقد اختلف في مولده، والصحيح: أنه ولد عام الفتح، فيبعد شهوده القصة.
وأخرج عبد الله بن أحمد في " مسند أبيه "، وابن منده في " مستخرجه "، والطبراني في " الكبير "، من حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما، وهو من رواية إسحاق بن يحيى عن عبادة، ولم يسمع منه (2) .
__________
(1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1680) .
(2) ضعفه في " الإرواء " (1681) .(3/411)
وأخرج أبو داود والنسائي، من حديث بريدة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم.
وصححه ابن السكن، وابن خزيمة، وابن الجارود، وقواه ابن عدي، وفي إسناده عبيد الله العتكي، وهو مختلف فيه.
وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن يزيد - مرسلا -، قال: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث جدات السدس؛ ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم " (1) .
وأخرجه أيضا أبو داود في " المراسيل " عن إبراهيم النخعي.
وأخرجه أيضا البيهقي من مرسل الحسن.
وأخرجه الدارقطني من طرق عن زيد بن ثابت.
وفي الباب آثار غير ما ذكر.
قال في " البحر ": مسألة: فرضهن - يعني: الجدات - السدس وإن كثرن إذا استوين، وتستوي أم الأم وأم الأب؛ لا فضل بينهما، فإن اختلفن سقط الأبعد بالأقرب، ولا يسقطهن إلا الأمهات.
والأب يسقط الجدات من جهة، والأم من الطرفين.
أقول: التفاصيل والتفاريع المذكورة في الكتب ينبغي إمعان النظر في
__________
(1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة - رواية ودراية - في " تنقيح التحقيق " (3 / 130) لابن عبد الهادي.(3/412)
مستنداتها، ومجرد اجتهاد فرد من أفراد الصحابة ليس بحجة على أحد، وكذلك اجتهاد جماعة منهم لم يبلغوا حد الإجماع.
(4 -[للجد مع من لا يسقطه] :)
(وهو للجد مع من لا يسقطه) ؛ لحديث عمران بن حصين: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن ابن ابني مات؛ فما لي من ميراثه؟ قال: " لك السدس "، فلما أدبر دعاه، قال: " لك سدس آخر "، فلما أدبر دعاه، فقال: " إن السدس الآخر طعمة " (1) .
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي - وصححه -.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن الحسن: أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد؟ فقام معقل بن يسار المزني، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ماذا؟ قال: السدس، قال: مع من؟ قال: لا أدري، قال: لا دريت؛ فما تعني إذن؟ !
وهو منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من عمر (2) .
وقد أخرج البخاري ومسلم في " صحيحيهما " حديث الحسن عن معقل.
وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم اختلافا كثيرا، ورويت عنهم قضايا متعددة.
__________
(1) ضعفه شيخنا في تعليقه على " المشكاة " (3060) .
(2) وهو حديث حسن؛ كما في " صحيح سنن ابن ماجه " (2 / 114 - 115) لشيخنا.(3/413)
وقد دل الدليل على أنه يستحق السدس، وأنه فرضه، فإذا صار إليه زيادة عليه؛ فهو طعمة، وذلك كما في حديث عمران.
وإنما قيدنا استحقاقه للسدس بعدم المسقط؛ لأنه إذا كان معه من يسقطه كالأب؛ فلا شيء له، وهكذا إذا كان مع الجد؛ من يسقطه الجد فله بالميراث كله.
أقول: ليس في الأحاديث المتقدمة ذكر من كان معه من الورثة، ولم يبق بعد ذلك إلا مجرد روايات من علماء الصحابة ومن بعدهم، وتمثيلات وتشبيهات ليست من الحجة في شيء، ولا يبعد أن يقال: بأنه أحق الميراث من الأخوة والأخوات مطلقا؛ لأنه إن لم يكن والدا حقيقة، فهو بمنزلة الوالد، والأب يسقط الأخوة والأخوات مطلقا.
ومن زعم أنه وجد في الأب من المزايا ما لا يشاركه فيها الجد؛ فعليه الدليل، ومن قال: إن ثم دليلا يقتضي أن الجد يقاسم الأخوة، ويأخذ الباقي بعد الأخوات؛ فعليه أيضا الدليل.
( [بيان أنه لا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب] :)
(ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب) ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم.
( [بيان الخلاف في ميراث الإخوة والأخوات مع الجد] :)
(وفي ميراثهم مع الجد خلاف) ؛ لعدم ورود الدليل الذي تقوم به الحجة:(3/414)
فذهب جماعة من الصحابة - منهم أبو بكر - وعمر - إلى أن الجد أولى من الإخوة، وذهب جماعة - منهم علي وابن مسعود وزيد بن ثابت - إلى أن الجد يقاسم الإخوة.
والخلاف في المسألة يطول، فمن قال: إنه يسقط الإخوة؛ قال: إنه يصدق عليه اسم الأب، وأجاب الآخرون بأنه مجاز لا تقوم به الحجة.
ووقع الخلاف في كيفية المقاسمة؛ كما هو مبين في كتب الفرائض.
( [بيان أن الأخوة يرثون مع البنات؛ إلا الأخوة لأم] :)
(ويرثون) ؛ أي: الأخوة (مع البنات؛ إلا الإخوة لأم) ؛ لحديث جابر عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، والحاكم، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع؛ قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا بمال؟ فقال: " يقضي الله في ذلك "، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: " أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك " (1) ، فهذا دليل على ميراث الإخوة مع البنات.
وأما الإخوة لأم؛ فلا يرثون مع البنت؛ لقوله - تعالى -: {وإن كان رجل يورث كلالة} الآية، وهي في الإخوة لأم كما في بعض القراءات.
( [بيان أن الأخ لأب يسقط مع الأخ لأبوين] :)
(ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين) ؛ لحديث علي، قال: إنكم تقرؤون
__________
(1) حسنه شيخنا في " الإرواء " (1677) .(3/415)
هذه الآية: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} ، وإن رسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات؛ الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه.
أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، وفي إسناده الحارث الأعور (1) .
ولكنه قد وقع الإجماع على ذلك، والمراد بالأعيان: الإخوة لأبوين، والمراد ببني العلات: الإخوة لأب، ويقال للإخوة لأم: الأخياف.
( [المرتبة الثالثة: للورثة ذوي الأرحام] :)
(وأولو الأرحام يتوارثون، وهم أقدم من بيت المال) ؛ لقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} ؛ فإنها تفيد أنه إذا مات ميت، ولا وارث له إلا من هو من ذوي أرحامه - وهو من عدا العصبات وذوي السهام في مصطلح أهل الفرائض - فإنه يرثه، وقوله - تعالى -: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} ، ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام.
ومما يؤيد ذلك: حديث المقدام بن معد يكرب عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم، وابن حبان وصححاه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من ترك مالا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له؛ أعقل عنه وأرثه،
__________
(1) حسنه شيخنا في " الإرواء " (1667) .(3/416)
والخال وارث من لا وارث له؛ يعقل عنه ويرثه ".
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، من حديث عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بلفظ: " والخال وارث من لا وارث له ".
وأخرجه بهذا اللفظ من حديث عائشة: الترمذي، والنسائي، والدارقطني، وحسنه الترمذي، وأعله الدارقطني بالاضطراب.
وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل المدينة.
وأخرجه العقيلي، وابن عساكر عن أبي الدرداء.
وأخرجه ابن النجار عن أبي هريرة.
كلها مرفوعة؛ وهو حديث له طرق؛ أقل أحواله أن يكون حسنا لغيره.
ومن ذلك: حديث: " ابن أخت القوم منهم "، وهو حديث صحيح.
ومن ذلك: ما ثبت من جعله - صلى الله عليه وسلم - ميراث ابن الملاعنة لورثة أمه، وهم لا يكونون إلا ذوي الأرحام.
والكلام على هذه الأحاديث مبسوط في " شرح المنتقى ".
ويمكن أن يقال: إن حديث: " فما أبقت الفرائض؛ فلأولى رجل ذكر ": يدل على أن الذكور من ذوي الأرحام أولى من الإناث، فيكون حديث نفي ميراث العمة والخالة مفيدا لهذا المعنى ومقويا له؛ مع حديث: " الخال وارث ".(3/417)
وبذلك يجمع بين الأحاديث.
وقد قال بمثل ذلك أبو حنيفة، وقد اختلف في ذلك الصحابة فمن بعدهم، وإلى توريث ذوي الأرحام ذهب الجمهور.
وهذه الأدلة - كما تفيد إثبات التوارث بين ذوي الأرحام - تفيد تقديمهم على بيت المال، ومما يؤيد ذلك: حديث عائشة عند أحمد، وأهل " السنن "، وحسنه الترمذي: أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم خر من عذق نخلة، فمات، فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " هل له من نسب أو رحم؟ "، قالوا: لا، قالوا: " أعطوا ميراثه بعض أهل قريته ".
فقوله: " أو رحم ": فيه دليل على تقديم ميراث ذوي الأرحام على الصرف إلى بيت مال المسلمين.
وأخرج أبو داود، من حديث ابن عباس، قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما من الآخر، فنسخ ذلك آية الأنفال، فقال: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} ، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال.
وأخرجه أيضا الدارقطني.
وأخرج نحوه ابن سعد، عن أبي الزبير.
وفي ذلك دليل على أن الآية في توريث ذوي الأرحام محكمة، وبها(3/418)
نسخ ما كان من الميراث بالمخالفة.
( [متى يصار إلى العول؟] :)
(فإن تزاحمت الفرائض فالعول) (1) ، وذلك هو الحق الذي لا يمكن الوفاء بما أمر الله به؛ إلا بالمصير إليه.
وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة سماها " إيضاح القول في إثبات مسألة العول "، ودفع جميع ما قاله النافون للعول.
وقد أوضحت المقام في " دليل الطالب على أرجح المطالب "، فليراجع.
( [من يرث ولد الملاعنة والزانية؟] :)
(ولا يرث ولد الملاعنة والزانية؛ إلا من أمه وقرابتها، والعكس) ؛ لحديث سهل بن سعد في " الصحيحين " وغيرهما في حديث الملاعنة: " أن ابنها كان ينسب إلى أمه، فجرت السنة: أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها ".
وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها.
وفي إسناده أبو محمد (2) .
__________
(1) " يقال: عالت الفريضة: إذا ارتفعت وزادت سهامها على أصل حسابها الموجب عن عدد واريثها "؛ كذا في " النهاية ".
(2) ويشهد له ما قبله.(3/419)
وأخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث واثلة ابن الأسقع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عنه "؛ قال الترمذي: حسن غريب، وفي إسناده عمر بن روبة (1) التغلبي، وفيه مقال.
وقد صحح هذا الحديث الحاكم.
وأخرج أحمد، وأبو داود، من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا مساعاة (2) في الإسلام، من ساعى في الجاهلية؛ فقد ألحقته بعصبته، ومن ادعى ولدا من غير رشدة (3) ؛ فلا يرث ولا يورث ".
وأخرج الترمذي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" أيما رجل عاهر بحرة أو أمة؛ فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث "؛،
__________
(1) في الأصل: " روبية "؛ وهو خطأ؛ صوابه: " روبة "؛ بضم الراء وسكون الواو؛ كما ضبطه ابن حجر في " التقريب ".
والحديث رواه الحاكم في " المستدرك " وصححه (ج 4: ص 341) . (ش) قلت: والحديث قد ضعفه شيخنا الألباني في " الإرواء " (1576) .
(2) المساعاة: الزنا؛ يقال: ساعت الأمة؛ إذا فجرت، وساعاها فلان؛ إذا فجر بها. (ش)
(3) رشدة: بكسر الراء، وإسكان الشين؛ يقال: هذا ولد رشدة؛ إذا كان لنكاح صحيح.
ويجوز فتح الراء أيضا. (ش)
قلت: وقد ضعفه الشيخ شاكر في تعليقه على " المسند " (3416) .(3/420)
وفي إسناده أبو محمد عيسى بن موسى القرشي الدمشقي؛ قال البيهقي: ليس بمشهور (1) .
وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب - أيضا - عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مستلحق ولد زنا لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة، وذلك فيما استلحق في أول الإسلام.
وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الشامي، وفيه مقال (2) .
وقد أجمع العلماء على أن ولد الملاعنة وولد الزنا لا يرثان من الأب، ولا من قرابته، ولا يرثونهما، وأن ميراثهما يكون لأمهما ولقرابتها، وهما يرثان منهم.
( [متى يرث المولود؟] :)
(ولا يرث المولود إلا إذا استهل) ؛ لحديث أبي هريرة عند أبي داود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا استهل المولود ورث " (3) ، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف.
وقد روي عن ابن حبان تصحيحه.
وأخرج أحمد في رواية ابنه عبد الله في " المسند " عن المسور بن مخرمة
__________
(1) وثقه دحيم. (ش)
قلت: والحديث في " صحيح سنن ابن ماجه " (2217) .
(2) وهو - أيضا - في " صحيح سنن ابن ماجه " (2218) .
(3) حديث صحيح بشواهده؛ كما في " الإرواء " (1707) .(3/421)
وجابر بن عبد الله، قالا: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا يرث الصبي حتى يستهل " (1) .
وأخرجه أيضا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، بلفظ:
" إذا استهل السقط صلي عليه وورث " (1) ، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف.
قال الترمذي: وروي مرفوعا، والموقوف أصح، وبه جزم النسائي، وقال الدارقطني في " العلل ": لا يصح رفعه.
والمراد بالاستهلال: صدور ما يدل على حياة المولود من صياح، أو بكاء، أو نحوهما.
ولا خلاف بين أهل العلم في اعتبار الاستهلال في الإرث.
(وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات، وله الباقي بعد ذوي السهام) ؛ لحديث: " الولاء لمن أعتق "، وهو ثابت في " الصحيح ".
وأخرج أحمد عن قتادة، عن سلمى بنت حمزة: " أن مولاها مات وترك ابنته، فورث النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته النصف، وورث يعلى النصف، وكان ابن سلمى " (2) ، ورجال أحمد رجال الصحيح، ولكن
__________
(1) انظر " الصحيحة " (152 - 153) لشيخنا.
(2) انظر " إرواء الغليل " (1696) لشيخنا الألباني.(3/422)
قتادة لم يسمع من سلمى بنت حمزة.
وأخرجه أيضا الطبراني.
وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس: " أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته النصف، وابنة حمزة النصف ".
وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابنة حمزة.
وكذلك أخرجه النسائي، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف.
وقد وقع الاختلاف في اسم ابنة حمزة، فقيل: سلمى، وقيل: فاطمة.
وفي الحديثين دليل على أن لذوي سهام العتيق سهامهم، والباقي للمعتق أو لعصبته.
وقد وقع الخلاف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقه؛ فروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس: أن مولى العتاق لا يرث؛ إلا بعد ذوي الأرحام، وذهب غيرهم إلى أنه يقدم على ذوي الأرحام، ويأخذ الباقي بعض ذوي السهام، ويسقط بالعصبات.
وقد روي: أن المولى كان لحمزة، واستدل به من قال: إنه يكون لذوي سهام المعتق الباقي بعد ذوي سهام العتيق.(3/423)
والصحيح: أنه مولى ابنة حمزة.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن ميراث الولاء للأكبر من الذكور، ولا ترث النساء من الولاء؛ إلا ولاء من أعتقن، أو أعتقه من أعتقن " (1) .
وأخرج البيهقي، عن علي، وعمر، وزيد بن ثابت: أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء؛ إلا ولاء من أعتقن (1) .
وأخرج البرقاني على شرط الصحيح، عن هذيل بن شرحبيل، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير، فقال: إني أعتقت عبدا لي وجعلته سائبة، فمات وترك مالا ولم يدع وارثا؟ قال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون، وأنت ولي نعمته؛ فلك ميراثه، وإن تأثمت وتحرجت في شيء؛ فنحن نقبله ونجعله في بيت المال.
( [بيان تحريم بيع الولاء وهبته] :)
(ويحرم بيع الولاء وهبته) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الولاء وهبته.
وفي الباب أحاديث - قد تقدم بعضها -:
__________
(1) قلت: ليس في " المصنف " (11 / 388، 390) إلا آثار موقوف في هذا الباب؛ ليس منها شيء مرفوع.(3/424)
منها: حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب؛ لا يباع ولا يوهب " (1) ، وقد صححه ابن حبان.
والبيهقي من حديث ابن عمر أيضا.
وقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز بيع الولاء وهبته، وخالف في ذلك مالك، وتقدمه بعض الصحابة.
( [لا توارث بين ملتين] :)
(ولا توارث بين أهل ملتين) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، وابن السكن، من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا يتوارث أهل ملتين شتى ".
وأخرج الترمذي، من حديث جابر مثله بدون لفظ: " شتى (2) "، وفي إسناده ابن أبي ليلى.
وأخرج البخاري، وغيره من حديث أسامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صححه شيخنا في " الإرواء " (1668) .
(2) في الأصل: " شيئا "؛ وهو يوافق بعض نسخ " أبي داود "، ولكن الصحيح: " شتى "؛ وهو الذي شرح عليه الشارحون، وهو الموافق لنسخة " التحقيق " لابن الجوزي العتيقة الصحيحة؛ التي بدار الكتب المصرية؛ انظر " عون المعبود " (3 / 85) .
ويوافق رواية الدارقطني (457) : " لا يتوارث أهل ملتين شتى مختلفتين "؛ فهذا اللفظ يؤكد أن الرواية: " شتى "؛ للوصف بالاختلاف.(3/425)
- قال:
" لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم "؛ وهو أيضا في " مسلم ".
وأخرج البخاري، وغيره حديث: " وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ! "، وكان عقيل وطالب كافرين.
وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يرث المسلم من الكافر، ولا الكافر من المسلم، والخلاف في توارث الملل الكفرية المختلفة.
وعموم حديث عبد الله بن عمرو وجابر يقتضي عدم التوارث.
قال في " المسوى ":
" والكفر ملة واحدة؛ يرث اليهودي من النصراني، وبالعكس ".
أقول: وأما المرتد؛ فكافر ليس من أهل ملة الإسلام، فقد شملته الأحاديث المتقدمة.
فمن زعم أنه يرث مال المرتد قرابته المسلمون؛ فعليه الدليل الصالح للتخصيص.
( [بيان أنه لا يجوز للقاتل أن يرث من المقتول] :)
(ولا يرث القاتل من المقتول) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا يرث القاتل شيئا ".(3/426)
أخرجه أبو داود (1) والنسائي، وأعله الدارقطني، وقواه ابن عبد البر.
وأخرج مالك في " الموطأ "، وأحمد، وابن ماجه، والنسائي، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" ليس لقاتل ميراث " وفيه انقطاع.
وأخرج الدارقطني، من حديث ابن عباس مرفوعا:
" لا يرث القاتل شيئا " وفي إسناده كثير بن سليم (2) ، وهو ضعيف.
وأخرج البيهقي عنه حديثا آخر بلفظ: " من قتل قتيلا فإنه لا يرثه؛ وإن لم يكن له وارث غيره ".
وفي لفظ: " وإن كان والده أو ولده "، وفي إسناده عمرو بن برق (3) ، وهو ضعيف.
وأخرج الترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ: " القاتل لا
__________
(1) أنا في شك كثير من نسبة هذا الحديث لأبي داود؛ لأني لم أجده في " السنن "، ولم ينسبه ابن حجر في " التلخيص " إليه؛ والشوكاني إنما يأخذ من " التلخيص "؛ والله أعلم. (ش)
قلت: بل هو فيه (4564) - مطولا -؛ وصححه شيخنا في " الإرواء " (1671) .
(2) في الأصل: " مسلم "؛ وهو خطأ صححناه من " تلخيص الحبير "، ومن كتب التراجم. (ش)
(3) لم أجد له ترجمة؛ ولكن نقل تضعيفه ابن حجر في " التلخيص " (ص 265) ؛ ويفهم تضعيفه أيضا من كلام لأحمد، وعبد الرزاق؛ نقله البخاري في " التاريخ الصغير " (ص 214) . (ش)
قلت: وقد ضعف الحديث شيخنا الألباني في " الإرواء " (1672) بهذا اللفظ.(3/427)
يرث " وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو ضعيف.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، وهي تدل على أنه لا يرث القاتل؛ من غير فرق بين العامد والخاطئ، وبين الدية وغيرها من مال المقتول.
وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وقال مالك والنخعي: إن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية، وهو تخصيص بغير مخصص (1) .
ويرده على الخصوص ما أخرجه الطبراني: أن عمر بن شيبة (2) قتل امرأته خطأ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" أعقلها ولا ترثها ".
وما أخرجه البيهقي: أن عديا الجذامي (3) كان له امرأتان اقتتلتا، فرمى إحداهما فماتت، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه
__________
(1) بل استدلوا بحديث فيه التفرقة بين قتل الخطإ والعمد؛ وفيه كلام طويل.
والظاهر؛ أنه ضعيف؛ أنظر " نصب الراية " (2 / 334 - 335) للزيلعي. (ش)
(2) ليس في الصحابة من هذا اسمه! وإنما تبع المؤلف الشوكاني، والشوكاني تبع نسخة " التلخيص "؛ وفيها خطأ من الناسخ؛ وصوابه: " عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي، عن أبيه "؛ وأبوه - هذا - اختلف في اسمه كثيرا، وفي إسناد الحديث إليه.
ونقل ابن الأثير عن سعيد القرشي، قال: " ما أرى له صحبة "؛ انظر " أسد الغابة " (3 / 8) ، و " الإصابة " (3 / 218 - 219) . (ش)
قلت: والصواب أن هذا الحديث موقوف على علي من قوله.
(3) عدي - هذا - مختلف في إسناد الحديث إليه؛ انظر " أسد الغابة " (3 / 391 - 394) ، و " الإصابة " (4 / 233) . (ش)(3/428)
فذكر ذلك له، فقال له:
" أعقلها ولا ترثها ".
وأخرج البيهقي أيضا: أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه، فطالب في ميراثها، فقال له - صلى الله عليه وسلم -:
" حقك من ميراثها الحجر "، وأغرمه الدية، ولم يعطه من ميراثها شيئا.
وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة مصرحة بذلك؛ ساقها البيهقي وغيره.
قلت: وعليه عامة أهل العلم: أن من قتل مورثه لا يرثه؛ عمدا كان القتل أو خطأ.
إلا أن أبا حنيفة قال: قتل الصبي لا يمنع الميراث! كذا في " المسوى ".
( [بيان إرث المماليك] :)
وأما إرث المماليك من بعضهم البعض، أو من مواليهم؛ فقد قيل: إنه وقع الإجماع على أن الرق من موانع الإرث، وفي دعوى الإجماع نظر؛ فإن الخلاف في كون العبد يملك أو لا يملك معروف، ومقتضى ذلك إثبات الميراث.
وليس في المقام ما يدل على عدم الإرث، وقد ورد من حديث ابن عباس: أن رجلا مات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم(3/429)
-، ولم يترك وارثا إلا عبدا؛ فأعطاه ميراثه، أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وحسنه الترمذي (1) ، وقد قيل: إنه صرف إليه ذلك صرفا، وهو خلاف الظاهر.
__________
(1) حديث ضعيف؛ انظر " الإرواء " (1669) لشيخنا.(3/430)
(الكتاب الحادي والثلاثون: كتاب الجهاد والسير)(3/431)
(31 - كتاب الجهاد والسير)
( [الفصل الأول: أحكام الجهاد] )
( [فضل الجهاد والترغيب فيه] :)
(الجهاد) (1) ؛ قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنة ما هو معروف، وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم، وحررت فيه كتاب " العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة "، وهو أجمع ما جمع في ذلك في هذا القطر والعصر.
وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال، وأوجب على عباده أن ينفروا إليه، وحرم عليهم التثاقل عنه.
وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" لغدوة (2) أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس.
__________
(1) • (فائدة) : قال شيخ الإسلام في " الاختيارات " (ص 184) : " والجهاد: منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة؛ فيجب بغاية ما يمكنه، ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم ". (ن)
(2) الغدوة: المرة من الغدو، وكذلك الروحة: المرة من الرواح. (ش)(3/433)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الجنة تحت ظلال السيوف "، كما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي موسى، وابن أبي أوفى.
وثبت في " صحيح البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من اغبرت قدماه في سبيل الله؛ حرمه الله على النار ".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها "، كما في " الصحيحين " من حديث سهل بن سعد.
وأخرج أهل " السنن " (1) - وصححه الترمذي - من حديث معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من قاتل في سبيل الله فواق (2) ناقة؛ وجبت له الجنة ".
فناهيك بعمل يوجب الله لصاحبه الجنة، ويحرمه على النار، ويكون مجرد الغدو إليه أو الرواح منه خيرا من الدنيا وما فيها.
( [متى يكون الجهاد فرض عين؟ ومتى يكون فرض كفاية؟] :)
(فرض كفاية) ؛ لما أخرجه أبو داود، عن ابن عباس قال: " {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} ، و {ما كان لأهل المدينة} إلى قوله: {يعملون} :
__________
(1) • رواه أبو داود (1 / 399) ، والترمذي (3 / 15) ؛ من طريقين عن مالك بن يخامر، عن معاذ؛ فهو إسناد صحيح.
وله شاهد عن أبي هريرة؛ أخرجه الترمذي (3 / 14) ، وقال: " حديث حسن ". (ن)
(2) بفتح الفاء وضمها: وهو ما بين الحلبتين من الراحة. (ش)(3/434)
نسختها الآية التي تليها: {وما كان المؤمنون} "، وقد حسنه ابن حجر (1) .
قال الطبري: يجوز أن يكون {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} خاصا، والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع، قال ابن حجر: والذي يظهر لي أنها مخصوصة وليست بمنسوخة، وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري؛ كما روى ذلك الطبري عنهما.
ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية: أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه، وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين، وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة، والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله.
وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور.
وقال الماوردي: إنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم.
وقال السهيلي: كان عينا على الأنصار.
وقال ابن المسيب: إنه فرض عين.
وقال قوم: إنه كان فرض عين في زمن الصحابة.
أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة: أكثر من أن تكتب
__________
(1) • وهو كما قال الحافظ - رحمه الله -؛ وإنما لم يصححه مع أن رجاله كلهم ثقات؛ لأن أحدهم - وهو علي بن الحسين بن واقد - في حفظه ضعف.
وقد أشار الحافظ إلى هذا في ترجمته من " التقريب "؛ فقال: " صدوق يهم "، والحديث في " السنن " (2 / 392) . (ن)(3/435)
ههنا، ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف، وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر، ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله - سبحانه - من لم ينفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله - عز وجل -: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} ، فتحمل هذه الآية على أنه قد قام بالجهاد من المسلمين من يكفي، وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد.
وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن، فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ.
وأما غزو الكفار، ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام، أو تسليم الجزية، أو القتل؛ فهو معلوم من الضرورة الدينية؛ ولأجله بعث الله - تعالى - رسله وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله - سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤونه.
وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها.
وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة؛ فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال؛ مع ظهور القدرة عليهم، والتمكن من حربهم، وقصدهم إلى ديارهم (1) .
وأما غزو البغاة إلى ديارهم - فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل
__________
(1) وهي شروط معتبرة قوية.(3/436)
الإسلام؛ إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم - فذلك واجب دفعا لضررهم، وإن كان ضررهم لا يتعدى؛ فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام، والدخول فيما دخل فيه سائر المسلمين، ولا شك أن ذلك معصية عظيمة.
لكن إذا كانوا مع هذا مسلّمين للواجبات، غير ممتنعين من تأدية ما يجب تأديته عليهم؛ تركوا وشأنهم؛ مع تكرير الموعظة لهم، وإقامة الحجة عليهم.
وأما إذا امتنعوا من ذلك؛ فقد تظاهروا بالبغي، وجاهروا بالمعصية، وقد قال الله - عز وجل -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة.
وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده الماتن لذلك.
( [لا يشترط السلطان العادل لوجوب الجهاد] :)
(مع كل بر وفاجر) ؛ لأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد - من الكتاب والسنة - وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا.
بل هذه فريضة من فرائض الدين، أوجبها الله - تعالى - على عباده المسلمين؛ من غير تقييد بزمن أو مكان أو شخص، أو عدل أو جور.
فتخصيص وجوب الجهاد بكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم، وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد ما لا يبليه البار العادل، وقد ورد بهذا الشرع؛ كما هو معروف.(3/437)
وأخرج أحمد في " المسند " - من رواية ابنه عبد الله (1) -، وأبو داود (2) ، وسعيد بن منصور من حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، لا تكفره بذنب، ولا تخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ".
ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في " الصحيحين "، وغيرهما، قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال:
" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله ".
( [في جهاد التطوع: لا بد من إذن الوالدين] :)
(إذا أذن الأبوان) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو، قال: جاء رجل إلى النبي
__________
(1) الأحسن التعبير بأن يقول: وأخرج عبد الله بن أحمد في " زوائد مسند أبيه "؛ لأن أحمد لم يرو عن ابنه ما زاد؛ بل عبد الله روى عن أبيه " المسند "، وروى في أثنائه بعض أحاديث زائدة عن غير أبيه؛ وقد كثر للشارح هذا التعبير؛ وهو خطأ {. (ش)
(2) • ومن طريقه رواه أبو داود (1 / 397) ؛ فكان اللائق بالمؤلف أن يشير لذلك، ولكن أنى له هذا؛ وهو لا ينقل من الأصول؟}
ثم إن إسناده ضعيف؛ فيه يزيد بن أبي نشبة؛ وهو مجهول. (ن)(3/438)
- صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد، فقال: " أحي والداك؟ "، قال: نعم، قال: " ففيهما فجاهد " (1) .
وفي رواية لأحمد، وأبي داود، وابن ماجه: قال: يا رسول الله {إني جئت أريد الجهاد معك، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان؟ قال: " فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ".
وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر (2) .
وأخرج أبو داود (3) من حديث أبي سعيد، أن رجلا هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال: " هل لك أحد باليمن؟ "، فقال: أبواي، فقال: " أذنا لك؟ "، فقال: لا، فقال: " ارجع إليهما واستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد؛ وإلا فبرهما "، وصححه ابن حبان.
وأخرج أحمد (4) والنسائي، والبيهقي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي: أن جاهمة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله} أردت الغزو، وجئتك أستشيرك،؟ فقال: " هل لك من أم؟ "، قال: نعم، فقال: " الزمها؛ فإن الجنة عند رجليها "، وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا.
__________
(1) • لعله سقط من قلم المؤلف أو الناسخ: " رواه البخاري ومسلم "؛ فقد أخرجاه.
ويشعر بهذا عطفه بقوله: " وفي رواية لأحمد ... ". (ن)
(2) • (8 / 3) ؛ وهو عند مسلم باللفظ الآخر. (ن)
(3) • في " سننه " (1 / 396) ؛ وسنده ضعيف، وإن صححه الحاكم (2 / 104) .
وأما حديث ابن عمرو قبله؛ فصحيح بروايتيه. (ن)
(4) • في " المسند " (3 / 429) ، والنسائي (2 / 54) ، وصححه الحاكم (2 / 104) ، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (9 / 26) . (ن)(3/439)
وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد، ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن.
ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر (1) ، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عن أفضل الأعمال؟ قال: " الصلاة "، قال: ثم مه؟ قال: " الجهاد "، قال: فإن لي والدين، قال: " آمرك بوالديك خيرا "، فقال: والذي بعثك نبيا؛ لأجاهدن ولأتركنهما، قال: " فأنت أعلم ".
قالوا: وهو محمول على جهاد فرض العين، أي: حيث يتعين على من له أبوان أو أحدهما؛ توفيقا بين الحديثين (2) .
( [الجهاد بإخلاص يكفر الخطايا؛ إلا حقوق الآدميين] :)
(وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا؛ إلا الدين) ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم، وغيره أن رجلا قال: يا رسول الله {أرأيت إن قتلت في سبيل الله؛ يكفر عن خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) • الصواب: " عمرو " بالواو؛ كذلك ذكره الحافظ في " الفتح " (6 / 106) برواية ابن حبان.
ومن حديثه رواه أحمد في " المسند " رقم (6602) ؛ عن ابن لهيعة: حدثني حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن حدثه عنه، وابن لهيعة ضعيف. (ن)
(2) ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين؛ أن يجعل ذلك إلى رأي الإمام أو المكلف، فإن كانت المصلحة تقضي بأحدهما؛ وجب تقديمه.
وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون، ولم نر في شيء من الروايات أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو} (ش)(3/440)
" نعم؛ وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر؛ إلا الدين؛ فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ".
وأخرج مثله أحمد (1) والنسائي من حديث أبي هريرة.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" يغفر الله للشهيد كل ذنب؛ إلا الدَّين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ".
وأخرج الترمذي - وحسنه - من حديث أنس نحوه.
(ولحق به) ؛ أي: بالدين كل (حقوق الآدميين) ؛ من غير فرق بين دم، أو عرض، أو مال؛ إذ لا فرق بينها.
( [بيان حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد] :)
(ولا يستعان فيه) ؛ أي: في الجهاد (بالمشركين؛ إلا لضرورة) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد الجهاد معه من المشركين:
" ارجع فلن أستعين بمشرك "، فلما أسلم استعان به، وهو في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث أبي هريرة (2) .
__________
(1) • في " المسند " (2 / 308، 330) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم، والنسائي (2 / 61) ؛ بسند آخر حسن. (ن)
(2) • هذا سبق قلم من المؤلف - رحمه الله -؛ وإنما الحديث من رواية عائشة - رضي الله عنها -؛ كذلك هو في " صحيح مسلم " (5 / 200 - 201) ، و " مشكل الآثار " (3 / 236) ، و " المسند " (6 / 67 - 68، 148 - 149) ، و " سنن البيهقي " (9 / 37) . (ن)(3/441)
وأخرج أحمد، والشافعي، والبيهقي، والطبراني نحوه من حديث حبيب (1) بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، ورجال إسناده ثقات.
وأخرج أحمد، والنسائي، من حديث أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تستضيئوا بنار المشركين "، وفي إسناده أزهر بن راشد، وهو ضعيف، وبقية إسناده ثقات.
وقد أخرج الشافعي (2) من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر.
وأخرجه أبو داود في " مراسيله " من حديث الزهري.
وأخرجه أيضا الترمذي مرسلا.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث ذي مخبر (3) قال:
__________
(1) • كذا، والصواب: خبيب - بالخاء المعجمة مصغرا -؛ كما في " المسند " (3 / 454) ، والبيهقي (9 / 37) .
وقال: " جده خبيب بن يساف له صحبة ".
وأبوه في حكم المجهول عندي؛ لأنه لم يوثقه إلا ابن حبان، وأورده ابن أبي حاتم (2 / 2 / 230) ؛ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. (ن)
(2) • ومن طريقه رواه البيهقي (9 / 53) ، وقال (9 / 37) : " لم أجده إلا من حديث الحسن ابن عمارة؛ وهو ضعيف ".
قلت: ويشهد له أنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود في غزوة أحد إلى أن يقاتلوا معه أبا سفيان؛ كما رواه الطحاوي (3 / 239) .
ثم تبين أن فيه جهالة: " الضعيفة " (6092) . (ن)
(3) بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الباء - ويقال: بميم مفتوحة بدل الباء -؛ وهو ابن أخي النجاشي (ش) .(3/442)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ستصالحون الروم صلحا، وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم ".
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وذهب آخرون إلى جوازها.
وقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين في يوم أحد، وانخزل (1) عنه عبد الله بن أبي بأصحابه.
وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين.
وقد ثبت في السير أن رجلا يقال له: قزمان، خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وهو مشرك، فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله ليأزر (2) هذا الدين بالرجل الفاجر ".
وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح وهم مشركون.
فيجمع بين الأحاديث؛ بأن الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة؛ لا إذا لم تكن ثم ضرورة (3) .
__________
(1) انخزل - بالزاي -؛ أي: انفرد. (ش)
(2) يقال: أزره أزرا، وآزره؛ إذا أعانه.
وقرأ ابن عامر: {فأزره فاستغلظه} ، وقرأ الباقون: {فآزره} . (ش)
(3) • انظر رأي الشافعي في " الأم " (4 / 89) ؛ ففيه تفصيل جيد. (ن)(3/443)
( [متى تجب على الجيش طاعة الأمير؟] :)
(وتجب على الجيش طاعة أميرهم؛ إلا في معصية الله) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ".
وعن ابن عباس في قوله - تعالى -: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ؛ قال: " نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ".
أخرجه أحمد (1) ، وأبو داود، وهو في " الصحيحين ".
وفيهما - أيضا - من حديث علي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فعصوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا! ؟ فقالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
__________
(1) • في " المسند " رقم (3124) ، و " السنن " (1 / 409) بسند صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجاه وبقية أصحاب " السنن " إلا ابن ماجه.
واعلم أن الآية - وإن كان نزولها في طاعة الأمراء -؛ فهي بعمومها تشمل العلماء أيضا، وهذا اختيار ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 10، 53، 54) ، (2 / 329) ، وابن كثير (1 / 518) . (ن)(3/444)
" لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا "، وقال:
" لا طاعة في معصية الله؛ إنما الطاعة في المعروف ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تجب طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله.
( [على الأمير مشاورة الغزاة والرفق بهم] :)
(وعليه) ؛ أي: على الأمير (مشاورتهم، والرفق بهم، وكفهم عن الحرام) ؛ لدخول ذلك تحت قوله: {وشاورهم في الأمر} ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينوبه، ووقع منه ذلك في غير موطن.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان ... ، والقصة مشهورة، وأجاب عليه سعد بن عبادة بقوله: " والذي نفسي بيده؛ لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ".
وأخرج أحمد، والشافعي (1) من حديث أبي هريرة، قال: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" اللهم {من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم؛ فارفق به ".
__________
(1) وهو في " مسند الشافعي " (626) منقطعا.
وليس هو في " مسند أحمد "} وغزاه السيوطي في " الدر المنثور " (2 / 359) لابن أبي حاتم، وعلقه الترمذي (4 / 214) بصيغة التمريض.
وروى أبو الشيخ - نحوه - في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (763) ؛ عن عائشة؛ بسند ضعيف.(3/445)
وأخرج مسلم - أيضا - من حديث معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم؛ إلا لم يدخل الجنة ".
وأخرج أبو داود (1) من حديث جابر، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير، فيرجي الضعيف، ويردف ويدعو لهم ".
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيق الناس الطريق، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى:
" من ضيق منزلا، أو قطع طريقا؛ فلا جهاد له ".
وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وسهل بن معاذ ضعيف (2) .
وقد جاءت الأدلة المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن
__________
(1) • في: " السنن " (1 / 411) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • قلت: هذا الإطلاق ليس بصواب؛ بل الصواب التفصيل في سهل، وكذا في إسماعيل.
أما الأول؛ فقال الحافظ فيه: " لا بأس به إلا في روايات زبان عنه ".
قلت: وهذه ليست منها.
وأما إسماعيل؛ فهو ثقة في روايته عن الشاميين؛ وهذه منها. فإنه يرويه أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي؛ وهو شامي رملي ثقة، وسائر الرواة ثقات.
فالحديث حسن إن شاء الله تعالى.
وهو في " السنن " (1 / 410) ، و " المسند " (3 / 441) . (ن)(3/446)
المنكر، وأحق الناس بذلك الأمير.
( [مشروعية التورية إذا أراد غزوا] :)
(ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده) ؛ لحديث كعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
( [مشروعية الاستطلاع إذا أراد الإمام غزوا] :)
(و) يشرع له (أن يذكي (1) العيون، ويستطلع الأخبار) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب:
" من يأتيني بخبر القوم؟ "، قال الزبير: أنا ... الحديث.
وثبت في " صحيح مسلم "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان.
وثبت أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر، وغيره.
وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو، ويقف في المواضع التي بينه وبينهم.
وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السيرة والغزوات.
( [مشروعية ترتيب الجيش واتخاذ الرايات] :)
(و) يشرع له أن (يرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والألوية) ، وقد وقع منه
__________
(1) • أي: يرسل. (ن)(3/447)
صلى الله عليه وسلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور، وكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان، وآخرين في المكان الآخر، وقال للرماة يوم أحد: إنهم يقفون حيث عينه لهم، ولا يفارقوا ذلك المكان، ولو تخطفه هو ومن معه الطير.
وقد كانت له رايات؛ كما في حديث ابن عباس عند الترمذي (1) ، وأبي داود، قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض.
وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب، عن رجل من قومه، عن آخر منهم، قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، وفي إسناده مجهول.
وأخرج أهل " السنن "، والحاكم، وابن حبان من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض (2) .
وفي حديث الحارث بن حسان: أنه رأى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات سودا، أخرجه الترمذي، وابن ماجه، ورجاله رجال الصحيح.
وفي الباب أحاديث.
( [وجوب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال] :)
(وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، أو
__________
(1) • في " السنن " (3 / 24) ، وقال: " حديث غريب ".
قلت: وسنده حسن، ولم أجده في " أبي داود "؛ وإنما عزاه المباركفوري في " شرح الترمذي " لابن ماجه، والحاكم. (ن)
(2) • قلت: وفيه شريك القاضي؛ وهو ضعيف لسوء حفظه، وكأنه لذلك استغربه الترمذي! وذكر عن البخاري أن متن الحديث خطأ، وأن الصواب: دخل مكة وعليه عمامة سوداء. (ن)(3/448)
الجزية، أو السيف) ؛ لحديث سليمان بن بريدة، عن أبيه عند مسلم، وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية؛ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:
" اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها؛ فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا؛ فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، وإن أبوا؛ فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ... " الحديث.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تقديم الدعوة لمن لم تبلغهم الدعوة، ولا تجب لمن قد بلغتهم.
وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا.
وقوم إلى عدم الوجوب مطلقا.
( [حكم قتل النساء والشيوخ والأطفال] :)
(ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا) ؛ أن يقاتلوا، فيدفعوا بالقتل(3/449)
(لضرورة) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وأخرج أبو داود من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا صغيرا، ولا امرأة "، وفي إسناده خالد بن الفرز (1) ، وفيه مقال.
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث رباح (3) بن ربيع؛ أنه قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا "، والعسيف: الأجير.
وأخرج أحمد (4) من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع "، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وهو ضعيف، وقد وثقه أحمد.
وأخرج أحمد أيضا، والإسماعيلي في " مستخرجه " من حديث كعب بن
__________
(1) الفرز؛ بكسر الفاء وفتحها وسكون الراء وآخره زاي. (ش)
قلت وهو حسن بالشواهد؛ فانظر " الصحيحة " (701) .
(2) • في " المسند " (3 / 488) ؛ وسنده صحيح، ثم رواه (4 / 178 - 179) . (ن)
(3) اختلف في اسمه؛ هل هو (رباح) بفتح الراء والباء، أو (رياح) بكسر الراء وبالياء المثناة؟ والراجح الثاني؛ وبه جزم البخاري، وابن حبان، والدارقطني، وابن عبد البر، وغيرهم. (ش)
(4) (1 / 300) بسند ضعيف، ولكن له شواهد تحسنه.(3/450)
مالك (1) ، عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر؛ نهى عن قتل النساء والصبيان، ورجاله رجال الصحيح (2) .
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديث سمرة مرفوعا، بلفظ: " اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم (3) ".
وقد قيل: إنه وقع الاتفاق على المنع عن قتل النساء والصبيان؛ إلا إذا كان ذلك لضرورة؛ كأن يتترس بهم المقاتلة أو يقاتلون.
وقد أخرج أبو داود في " المراسيل " عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين، فقال: " من قتل هذه؟ "، فقال رجل: أنا يا رسول الله {غنمتها وأردفتها خلفي، فلما رأت الهزيمة فينا؛ أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني، فقتلتها، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووصله الطبراني في " الكبير " (4) .
__________
(1) كذا في الأصل} وفي " نيل الأوطار ": " ابن كعب بن مالك، عن عمه "؛ وكلاهما مشكل {ولم أستطع العثور على الحديث في " مسند أحمد "، ولم أعرف من (ابن كعب) هذا؟}
فإنه إن كان المراد به أحد أبناء كعب بن مالك الأنصاري السلمي الشاعر - وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم؛ فقد نص ابن حجر في " الإصابة " على أنه ليس له أخ؛ فلا يكون - إذن - لابنه عم {
وإن كان غيره؛ فلا أدري من هو؟} والعلم عند الله!. (ش)
(2) • قلت: وكذا هو في " المجمع " (5 / 315) ، وقال: " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ".
وقد رواه البيهقي في " سننه " (9 / 77) ؛ وسنده صحيح.
وابن كعب لم يسم، وله خمسة أولاد، وكلهم ثقات من رجال الشيخين؛ غير ابنه محمد؛ فمن رجال مسلم. (ن)
(3) الشرخ: الشاب.
قال أحمد بن حنبل: " الشيخ لا يكاد يسلم، والشباب أقرب إلى الإسلام "؛ نقله ابن حجر في " التلخيص " (370) . (ش)
(4) وفي سنده الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيف، وانظر " التلخيص الحبير " (4 / 12) ، و " المراسيل " (333) .(3/451)
قلت: قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم إنما هو في حال التمييز والتفرد، وأما البينات فيجوز، وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم.
( [المثلة حرام] :)
(والمثلة) ؛ لما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن جده، وفيه: " ولا تمثلوا ".
وأخرج نحو ذلك أحمد، وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال.
وأحاديث النهي عن المثلة كثيرة.
( [حكم الحرق بالنار للمحارب والمتاع والمال] :)
(والإحراق بالنار) ؛ لحديث أبي هريرة عند البخاري، وغيره، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال:
" إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين - فاحرقوهما بالنار "، ثم قال حين أردنا الخروج:
" إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما ".
وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع؛ فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع؛ إذا كان فيه مصلحة.
( [حكم الفرار من الزحف] :)
(و) يحرم (الفرار من الزحف إلا إلى فئة) ، وقد نطق بذلك القرآن(3/452)
الكريم؛ قال الله - تعالى -: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} .
وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما: أن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات.
ولا خلاف في ذلك في الجملة، وإن اختلفوا في مسوغات الفرار.
وقد جوز الله - تعالى - الفرار إلى الفئة.
وأما التحرف للقتال؛ فهو وإن كان فيه تولية الدبر؛ لكنه ليس بفرار على الحقيقة.
قال في " المسوى ":
" قوله: {متحرفا لقتال} : هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة، أو من سفل إلى علو، أو من مكان منكشف إلى مستتر، ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال.
قوله: {أو متحيزا} ؛ أي: يصير إلى حيز فئة من المسلمين؛ يستنجدهم ويقاتل معهم.
وبالجملة؛ يجب ثبات المسلمين يوم الزحف في مقابلة زحفهم من الكفار، والفرار حينئذ كبيرة.
( [حكم تبييت العدو ليلا] :)
(ويجوز تبييت الكفار) ؛ لحديث الصعب بن جثامة في " الصحيحين "،(3/453)
وغيرهما، أن رسول - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون، فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ ثم (1) قال: " هم منهم ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث سلمة ابن الأكوع، قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق، وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والبيات: هو الغارة بالليل.
قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل، وأن يبيتوا، وكرهه بعضهم، قال أحمد وإسحاق: لا بأس به؛ أن يبيت العدو ليلا.
( [الكذب في الحرب جائز] :)
(والكذب في الحرب) ؛ لما ثبت عند مسلم (3) ، وغيره من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف؛ قال: يا رسول الله! فأذن لي فأقول، قال: " قد فعلت "؛ يعني: يأذن له بأن يخدعه بمقال ولو كان كذبا؛ كما وقع منه في هذه القصة، وهي أيضا في " البخاري ".
__________
(1) • لعل حرف: " ثم " مقحم؛ فإنه لا معنى له؛ وليس هو في رواية البخاري (4 / 61) .
ومسلم (5 / 144) .
وفي رواية له: " فقال ". (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 46) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم.
وقد أخرجه في " صحيحه " (5 / 150) نحوه. (ن)
(3) • في " صحيحيه " (4 / 184 - 185) ، وفي " البخاري " (6 / 119 - 120) . (ن)(3/454)
وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة، قالت: لم أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء من الكذب - مما يقول الناس - إلا في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
وهذا الكذب المذكور هنا: هو التعريض والتلويح بوجه من الوجوه؛ ليخرج عن الكذب الصراح؛ كما قاله جماعة من أهل العلم (1) .
( [الخداع في الحرب جائز] :)
(والخداع) في الحرب؛ لما في " الصحيحين " من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الحرب خدعة (2) ".
وفيهما من حديث أبي هريرة، قال: سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرب خدعة.
قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن؛ إلا أن يكون فيه نقض عهد.
__________
(1) • كذا قال! والظاهر خلافه؛ وهو الذي رجحه النووي، فقال: " الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى "، وقال ابن العربي: " الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه "؛ ذكره في " الفتح " (6 / 121) . (ن)
(2) بفتح الخاء وإسكان الدال؛ وهي أفصح الروايات وأصحها؛ كما قال ابن الأثير. (ش)(3/455)
( [الفصل الثاني: أحكام الغنائم] )
( [كيف تقسم الغنيمة على الجيش والمصارف الأخرى؟] :)
(وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه، وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه) ؛ لقوله - تعالى -: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى (2) واليتامى والمساكين} .
قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تخمس؛ فالخمس للأصناف التي ذكرت في القرآن، وأربعة أخماسها للغانمين.
وقوله - تعالى -: {فأن لله خمسه} : ذهب عامة أهل العلم إلى أن ذكر الله - تعالى - فيه للتبرك به، وإضافة هذا المال إليه لشرفه، ثم بعد ما أضاف جميع الخمس إلى نفسه بين مصارفها.
واختلفوا في سهم ذوي القربى:
قال أبو حنيفة: إنما يعطون لفقرهم.
وقال الشافعي: لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالميراث، غير أنه أعطى القريب والبعيد من ذوي القربى، ولا يفضل عنده فقير على غني، ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهما، ومن ذلك ما ورد في القرآن في الفيء والغنيمة.
__________
(2) • أي: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، عند جمهور العلماء.
وفي ذلك حديث صحيح عن جبير بن مطعم: أنه صلى الله عليه وسلم قسم يوم خيبر لبني عبد المطلب وبني هاشم؛ رواه أبو داود (2 / 31) . (ن)(3/456)
وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن عبسة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلم؛ أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: " ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا؛ إلا الخمس، والخمس مردود فيكم ".
وأخرج نحوه أحمد، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت، وحسنه ابن حجر.
وأخرج نحوه - أيضا - أحمد، وأبو داود، والنسائي، ومالك، والشافعي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وحسنه أيضا ابن حجر.
وروي نحو ذلك أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية.
( [كيف توزع الغنيمة بين الفارس والراجل؟] :)
(ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل سهما) ؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث.
منها حديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما، وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل سهما.
وفيهما معنى ذلك من حديث أنس، ومن حديث عروة البارقي.
ومنها حديث الزبير بنحو ذلك عند أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
وحديث أبي رهم عند الدارقطني، وأبي يعلى، والطبراني.
وحديث أبي هريرة عند الترمذي، والنسائي.(3/457)
وحديث جرير عند مسلم، وغيره.
وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود.
وحديث جابر، وأسماء بنت يزيد عند أحمد.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين، والراجل سهما؛ وتمسكوا بحديث مجمع بن جارية عند أحمد، وأبي داود (1) ، وقال: قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة؛ فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما.
وهذا الحديث في إسناده ضعف.
قال أبو داود: إن فيه وهما، وإنه قال: ثلثمائة فارس! وإنهم كانوا مائتين.
( [يتساوى القوي والضعيف من أفراد الجيش] :)
(ويستوي في ذلك القوي والضعيف، ومن قاتل ومن لم يقاتل) ؛ لحديث
__________
(1) • في " السنن " (1 / 429 - 430) ، (2 / 40) ، وكذا الحاكم (2 / 131) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي.
قلت: وفيه يعقوب بن مجمع بن يزيد؛ لم يوثقه غير ابن حبان، وفي " التقريب "؛ أنه مقبول؛ يعني: عند المتابعة. (ن)(3/458)
ابن عباس عند أبي داود (1) والحاكم، وصححه أبو الفتح (2) في " الاقتراح " على شرط البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بالسوي بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل، ونزول قوله - تعالى -: {يسألونك عن الأنفال} .
وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت.
وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك، قال: قلت: يا رسول الله {الرجل يكون حامية القوم؛ ويكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال:
" ثكلتك أمك ابن أم سعد} وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ {".
وأخرجه البخاري أيضا، والنسائي عن مصعب بن سعد، قال: رأى سعد أن له فضلا على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟} ".
وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -.
قال في " الحجة البالغة ":
" ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش - كالبريد والطليعة والجاسوس - يسهم
__________
(1) • في " السنن " (1 / 430) ، والحاكم (2 / 131 - 132) ، وقال: " صحيح؛ فقد احتج البخاري بعكرمة، واحتج مسلم بداود بن أبي هند ".
قلت: وهو كما قال، وقول الذهبي: " قلت: هو على شرط البخاري "؛ خطأ؛ لأن البخاري لم يحتج بداود. (ن)
(2) • هو الإمام ابن دقيق العيد؛ واسمه: محمد بن علي بن وهب القشيري الصعيدي. (ن)(3/459)
له؛ وإن لم يحضر الواقعة؛ كما كان لعثمان يوم بدر ".
( [تنفيل بعض الجيش جائز بحسب المصلحة] :)
(ويجوز تنفيل بعض الجيش) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل؛ جمعهما له.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي - وعزاه المنذري في " مختصر السنن " إلى مسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه.
واختلف العلماء؛ هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس؟
وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن مسلمة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، وصححه ابن الجارود، وابن حبان، والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته (1) .
وأخرج نحوه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت.
__________
(1) انظر " صحيح ابن ماجه " (2302) .(3/460)
وأخرج أحمد وأبو داود، وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا نفل إلا بعد الخمس ".
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك كله.
وفيهما: أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا.
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ":
" وعندي: إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل، أو للرماة شيئا، أو يفضل العراب على البراذين (1) لشيء دون السهم؛ فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي، ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله.
وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الباب ".
( [للإمام صفي وسهم] :)
(وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش) ؛ لحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي، وسكت عنه أبو داود (2) ، والمنذري قال: كنا
__________
(1) العراب: الخيل العربية، والبراذين: التركية.
(2) • في " سننه " (2 / 36) ؛ وسنده إلى الرجل صحيح على شرطهما. (ن)(3/461)
بالمربد (1) ؛ إذ دخل رجل معه قطعة أديم، فقرأناها، فإذا فيها:
" من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش (2) :
إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسهم الصفي؛ فأنتم آمنون بأمان الله ورسوله ".
فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله، وسمى الرجل النمر ابن تولب.
وأخرج أبو داود (3) عن الشعبي - مرسلا - قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي؛ إن شاء عبدا، وإن شاء أمة، فرسا؛ يختاره قبل الخمس.
وأخرج أبو داود أيضا من حديث ابن عون (4) مرسلا نحوه.
__________
(1) بكسر الميم وإسكان الراء وفتح الباء: محلة بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها. (ش)
(2) بضم الهمزة وفتح القاف وإسكان الياء وآخره شين معجمة.
(3) • في " السنن " (2 / 35) ؛ وسنده - على إرساله - صحيح على شرطهما. (ن)
(4) • هو عبد الله بن عون بن أرطبان: ثقة ثبت؛ وليس الحديث من مرسله، كما ذكر المصنف؛ بل هو من روايته عن محمد - وهو وابن سيرين - مرسلا؛ كذلك رواه أبو داود (2 / 35) بسند صحيح، ثم قال:
كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء.
وصححه الحافظ (7 / 386) ، وجعله تفسيرا للصفي. (ن)(3/462)
وأخرج أحمد، والترمذي (1) - وحسنه - من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر.
وأخرج أبو داود (2) من حديث - عائشة -، قالت: كانت صفية من الصفي.
وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس نحوه.
ويعارضه ما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس - أيضا - قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: إنه اشتراها منه بسبعة أرؤس.
( [ما جاء في الرضخ من الغنيمة لمن حضر] :)
(ويرضخ من الغنيمة لمن حضر) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم، وغيره: أنه سأله سائل عن المرأة والعبد؛ هل كان لهما سهم معلوم إذا حضرا البأس؟ فأجاب: أنه لم يكن لهما سهم معلوم؛ إلا أن يحذيا (3) من غنائم القوم.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 382 - 383) ، وكذا الحاكم (2 / 129) ؛ وصححه، ووافقه الذهبي؛ وفيه نظر؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفي حفظه ضعف، والظاهر أنه حسن الحديث. (ن)
(2) • في " السنن " (2 / 35) ؛ وسنده صحيح، وكذا حديث أنس الذي بعده صحيح، وحديث عائشة صححه ابن حبان، والحاكم كما في " الفتح " (7 / 386) .
وهذا الحديث يفصله حديث أنس الآتي في " الصحيحين "، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصطفها لنفسه مباشرة؛ بل بعد ما أعطاها لدحية، ثم استرجعها منه بسبعة أرؤس؛ تعويضا له، كما بينه الحافظ في " الفتح " (7 / 379) . (ن)
(3) حذاه حذوا: أعطاه، وأحذيته من الغنيمة: أعطيته منها.
والحذوة - بكسر الحاء وضمها مع إسكان الذال فيها -: العطية. (ش)(3/463)
وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء؛ فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم (1) ؛ فلم يضرب لهن ".
وأخرج أبو داود (2) ، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - من حديث عمير مولى آبي اللحم: أنه شهد خيبر مع مواليه، فأمر له صلى الله عليه وسلم بشيء من خرثي (3) المتاع.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث حشرج بن زياد، عن جدته، أم أبيه: أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر سادسة ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلينا، فجئنا، فرأينا فيه الغضب، فقال: " مع من خرجتن؟ {وبإذن من خرجتن؟} "، فقلنا: يا رسول الله {خرجنا نغزل الشعر، ونعين في سبيل الله، ومعنا دواء للجرحى، ونناول السهم ونسقي السويق، فقال: " قمن فانصرفن (4) ، حتى إذا فتح الله عليه خيبر؛ أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال: فقلت لها: يا جدة} وما كان ذلك؟ قالت: تمرا.
وفي إسناده رجل مجهول، وهو حشرج.
__________
(1) في الأصل: " وأما السهم "؛ وصححناه من " صحيح مسلم " (5 / 197) ، و " نيل الأوطار " (8 / 113) .
وفي رواية الترمذي (1 / 294) : " يسهم " بالياء؛ مضارع (أسهم) . (ش)
(2) • في " السنن " (1 / 429) ؛ من طريق أحمد؛ وهو في " المسند " (5 / 223) و " الدارمي " (2 / 226) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(3) الخرثي - بضم الخاء المعجمة، وإسكان الراء، وكسر الثاء، وتشديد الياء -: أردأ المتاع والغنائم؛ وهي سقط المتاع. (ش)
(4) لفظ الحديث كله هنا هو لفظ أبي داود (3 / 26) ؛ إلا قوله: " فانصرفن "؛ فإنه ليس فيه؛ بل هو في رواية " مسند أحمد بن حنبل " (5 / 271) . (ش)(3/464)
وقال الخطابي " إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة.
وأخرج الترمذي عن الأوزاعي - مرسلا - قال: أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر.
وحديث حشرج - كما عرفت - ضعيف، وهذا مرسل؛ فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم.
وقد حمل الإسهام هنا على الرضخ جمعا بين الأحاديث.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان؛ بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك.
( [للإمام إيثار المؤلفين] :)
(ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا) ؛ لحديث أنس في " البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم، وترك الأنصار والمهاجرين.
وهكذا ثبت في " الصحيح " من حديث ابن مسعود وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب.
والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها.
والمراد بأشراف قريش: أكابر مسلمة الفتح؛ كأبي سفيان بن حرب،(3/465)
وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية.
( [المالك أحق بماله إذا رده الكفار] :)
(وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين؛ كان لمالكه) ؛ لحديث عمران بن حصين عند مسلم، وغيره: أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيبت، فركبتها امرأة من المسلمين، ورجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت نذرت أن تنحرها إن نجاها الله عليها - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد ".
وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عمر: أنه ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبق عبد له، فلحق بأرض الروم، وظهر عليه المسلمون، فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لأبي داود: أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم.
وقد ذهب الشافعي، وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من أموال المسلمين، ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها.
وروي عن علي، والزهري، وعمرو بن دينار، والحسن: أنه لا يرد أصلا، ويختص به أهل المغانم.(3/466)
وروي عن عمر، وسليمان بن ربيعة، وعطاء، والليث، ومالك، وأحمد، وآخرين: إن وجده صاحبه قبل القسمة؛ فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة؛ فلا يأخذه إلا بالقيمة.
وقد روي عن ابن عباس الدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا، وإسناده ضعيف جدا.
وروي عن الفقهاء السبعة.
قال في " المسوى ":
" وعليه أكثر أهل العلم في الجملة، ولهم في التفاصيل اختلاف ".
( [بيان تحريم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل تقسيمها] :)
(ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف) ؛ لحديث رويفع بن ثابت عند أحمد (1) ، وأبي داود، والدارمي، والطحاوي، وابن حبان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتناول مغنما حتى يقسم، ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده فيه، ولا أن يركب دابة
__________
(1) • في " المسند " (4 / 108، 108 - 109) ، وأبو داود (1 / 424) ، والدارمي (2 / 226 - 227 - 230) بإسناد رجاله كلهم ثقات، وابن إسحاق إنما يخشى تدليسه، وقد صرح بالتحديث في رواية لأحمد؛ فالحديث حسن الإسناد.
وقد توبع عند البيهقي (9 / 62) . (ن)(3/467)
من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه "، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف.
وقال ابن حجر: إن رجال إسناده ثقات، وقال أيضا: إن إسناده حسن.
وأخرج البخاري من حديث ابن عمر، قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه.
زاد أبو داود (1) : فلم يؤخذ منهما الخمس، وصحح هذه الزيادة ابن حبان.
وأخرج أبو داود (1) ، والبيهقي - وصححه من حديث ابن عمر - أيضا -: أن جيشا غنموا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما وعسلا؛ فلم يأخذوا منهم الخمس.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسما.
وأخرج أبو داود (2) ، والحاكم، والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى، قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينطلق.
__________
(1) • في " سننه " (1 / 423) ؛ وسنده صحيح على شرط البخاري.
وهو في البيهقي (9 / 59) . (ن)
(2) • في " سننه " (1 / 423) ، والحاكم (2 / 126) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري "، ووافقه الذهبي، فأصابا. (ن)(3/468)
وأخرج أبو داود (1) من حديث القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا، وأخرجتنا مملوءة منه، وقد تكلم في القاسم غير واحد.
وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور؛ سواء أذن الإمام أو لم يأذن.
وقال الزهري: لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره.
وقال سليمان بن موسى: يأخذ؛ إلا أن ينهى الإمام.
قال مالك في " الموطأ ":
" لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله؛ قبل أن تقع في المقاسم ".
وقال أيضا: " أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام؛ يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو؛ كما يأكلون من الطعام ".
وقال: " ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم؛ أضر ذلك بالجيوش ".
__________
(1) • في " سننه " (1 / 424) ، وكذا البيهقي (9 / 61) ؛ من طريق ابن حرشف الأزدي، عن القاسم ... به، وابن حرشف هذا مجهول، كما في " التقريب "؛ فهو علة الحديث، ليس القاسم كما فعل الشارح. (ن)(3/469)
قال: " فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله؛ على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدخر ذلك شيئا يرجع به إلى أهله ".
قلت: وعليه أهل العلم.
( [بيان تحريم الغلول وما جاء في الترهيب منه] :)
(ويحرم الغلول) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما في قصة العبد الذي أصابه سهم، فقال الصحابة: هنيئا له الشهادة يا رسول الله {فقال:
" كلا والذي نفس محمد بيده؛ إن الشملة لتلتهب عليه نارا؛ أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم "، قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: يا رسول الله} أصبت هذا يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شراك من نار، أو شراكان من نار ".
وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم خيبر؛ قتل نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلا؛ إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ".
وأخرج البخاري، وغيره من حديث ابن عمر، قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة (1) ، فمات، فقال
__________
(1) اختلف في ضبطه: فقيل: بفتح الكافين، وقيل بكسرهما.
وقال النووي: إنما اختلف في كافه الأولى، وأما الثانية فهي مكسورة اتفاقا. (ش)(3/470)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو في النار "، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها، وقد قال الله - سبحانه -: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} .
وثبت في " البخاري "، وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس، على رقبته شاة ... " الحديث.
وقد نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر.
وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال، وضربوه، وفي إسناده زهير بن محمد الخراساني (1) .
__________
(1) زهير ثقة؛ وإنما أنكروا عليه بعض أحاديث؛ وقد روى له الجماعة كلهم؛ وإنما شك في هذا الحديث البيهقي؛ فقد ظن أن زهيرا هنا غير زهير بن محمد الخراساني التميمي، وزعم أنه مجهول.
ولكن الحديث ثابت عن الخراساني؛ انظر " عون المعبود " (3 / 23) ، و " الجوهر النقي في الرد على البيهقي " (ج 2: ص 202) . (ش)
• قلت: بل أنكروا عليه ما كان من رواية أهل الشام عنه، قال البخاري: ما روى عنه أهل الشام؛ فإنه مناكير، وقال أحمد نحوه.
قلت: وهذا الحديث من رواية الوليد بن مسلم الدمشقي عنه؛ فهذا يقتضي الحكم على الحديث بالضعف؛ لا سيما وقد اختلف على الوليد فيه: فرواه الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة: ثنا الوليد، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، قوله.
فهذا موقوف على عمرو.
قال الحافظ في " الفتح " (6 / 141) : " وهو الراجح ". (ن)(3/471)
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي من حديث عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا وجدتم الغال قد غل؛ فأحرقوا متاعه واضربوه "، وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة؛ تكلم فيه غير واحد (1) .
( [يجوز للإمام أن يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسرى] :)
(ومن جملة الغنيمة: الأسرى) ؛ ولا خلاف في ذلك.
(ويجوز القتل أو الفداء أو المن) ؛ لقوله - تعالى -: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} ، وقوله - تعالى -: {فإما منا بعد وإما فداء} .
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأسرى، وأخذ الفداء منهم، والمن عليهم؛ ثبوتا متواترا في وقائع:
ففي يوم بدر قتل بعضهم، وأخذ الفداء من غالبهم.
وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى؛ لتركتهم له ".
__________
(1) وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وقال البخاري: هو باطل ليس بشيء.
وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد، وهذا حديث لم يتابع عليه؛ ولا أصل لهذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
انظر: " المستدرك " (ج 2: 137) ، و " عون المعبود " (ج 3: 21) . (ش)(3/472)
وفي " مسلم " من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر، الذين هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتقهم، فأنزل الله - عز وجل -: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} الآية.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسارى؛ فيقتل، أو يأخذ الفداء، أو يمن.
وقال الزهري، ومجاهد، وطائفة: لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا.
وعن الحسن، وعطاء: لا يقتل الأسير؛ بل يتخير بين المن والفداء.
وعن مالك: لا يجوز المن بغير فداء.
وعن الحنفية: لا يجوز المن أصلا؛ لا بفداء ولا بغيره.
( [الفصل الثالث: أحكام الأسير والجاسوس والهدنة] )
( [بيان جواز استرقاق الكفار من عرب أو عجم] :)
(ويجوز استرقاق العرب) ؛ لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار؛ من غير فرق بين عربي وعجمي، وذكر وأنثى، ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم؛ بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين.(3/473)
منها: حديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل ".
وأخرج البخاري، وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين جاء وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين؛ إما السبي، وإما المال ... " الحديث.
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن جويرية بنت الحارث - من سبي بني المصطلق - كاتبت عن نفسها، ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يقضي كتابتها، فلما تزوجها؛ قال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأرسلوا ما بأيديهم من السبي.
وأخرجه أحمد من حديث عائشة.
وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب: الجمهور.
وحكى في " البحر " عن الحنفية: أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام، أو السيف، واستدل بقوله - تعالى - {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية.
ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب، ولو سلم ذلك؛ كان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مخصصا لذلك، وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن(3/474)
والفداء، فقال: {فإما منا بعد وإما فداء} ، ولم يفرق بين عربي وعجمي.
واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي، والبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: " لو كان الاسترقاق جائزا على العرب؛ لكان اليوم؛ إنما هو أسرى "، وفي إسناده الواقدي، وهو ضعيف جدا.
ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض، وهو أشد ضعفا من الواقدي.
وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفدية من ذكور العرب في بدر، وهو فرع الاسترقاق.
أقول: فقد سبى صلى الله عليه وسلم جماعة من بني تميم، وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم.
وبالغ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: " من فعل كذا؛ فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل "، وقال لأهل مكة: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " (1) .
والحاصل: أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة؛ من التخيير في كل مشرك بين القتل، والمن، والفداء، والاسترقاق، فمن ادعى تخصيص نوع منهم، أو فرد من أفرادهم؛ فهو مطالب بالدليل.
__________
(1) • هذا الحديث مشهور في السيرة، ولم أقف له على إسناد صحيح.
وإنما رواه ابن إسحاق بسند معضل، كما تبين من مراجعة " تاريخ ابن كثير " (4 / 300 - 301) . (ن)(3/475)
وأما أسر نساء العرب؛ فالأمر أظهر من أن يذكر، والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث: " الصحيحين "، وغيرهما، وفي كتب السير جميعها.
( [حكم قتل الجاسوس] :)
(وقتل الجاسوس) ، لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره؛ قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اطلبوه فاقتلوه "، فسبقتهم إليه فقتلته، فنفلني سلبه.
وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي.
وأما المعاهد والذمي؛ فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك.
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود عن فرات بن حيان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وكان عينا لأبي سفيان، وحليفا لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من
__________
(1) • في " المسند " (4 / 336) ؛ من طريق بشر بن السري، وأبو داود (1 / 413) ، وكذا البيهقي (9 / 147) ؛ من طريق محمد بن محبب - كلاهما -، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن فرات.
قلت: وهذا سند ظاهر الصحة إلا أن أبا إسحاق - وهو عمرو بن عبد الله السبيعي - مدلس، وقد عنعن؛ ففي صحة الحديث عندي وقفة، والله أعلم.
ورواه الحافظ أبو العباس بن عقدة؛ من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق. . به، ولفظه أتم؛ فراجعه إن شئت في " الإصابة " (3 / 196) . (ن)
• قلت: والظاهر أنه اشتبه عليه ب " محمد بن مجيب "، وهذا متروك؛ بخلاف الأول؛ فإنه ثقة اتفاقا. (ن)(3/476)
الأنصار، فقال: إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! إنه يقول: إنه مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم؛ منهم فرات بن حيان "، وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب، ولا يحتج بحديثه (1) ، وهو يرويه عن سفيان.
ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري، وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم (2) .
ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني، وهو ثقة (3)
( [بيان أن الحربي إذا أسلم طوعا أحرز أمواله] :)
(وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه، أحرز أمواله) ؛ لحديث صخر ابن عيلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أسلم الرجل؛ فهو أحق بأرضه وماله ".
__________
(1) أبو همام ثقة: وثقه أبو حاتم وأبو داود والحاكم والبغوي.
وإنما زعم ذلك المنذري. (ش)
(2) رواية بشر؛ رواه أحمد في " مسنده " عن علي بن المديني، عن بشر: (ج 4: 336) ؛ وإسناده صحيح جدا. (ش)
(3) • لم يتعرض المؤلف لمسألة قتل الجاسوس المسلم؛ وقد اختلف العلماء فيها: فذهب مالك إلى أنه يقتل.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل.
والفريقان احتجوا بقصة حاطب بن أبي بلتعة - في كتابته إلى أهل مكة: أن محمدا يريد أن يغزوكم -، وهي في " الصحيحين "؛ وقد قرر ابن القيم في " الزاد " (2 / 238) ، وجه استدلال الفريقين ثم قال:
" والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام؛ فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان إبقاؤه أصلح استبقاه، والله أعلم ". (ن)(3/477)
أخرجه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات (1) .
وفي لفظ: " إن القوم إذا أسلموا؛ أحرزوا أموالهم ودماءهم ".
وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة - مرفوعا -:
" من أسلم على شيء فهو له ".
وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة.
قال البيهقي: " وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة - مرسلا - ".
وقد أخرجه عن عروة - مرسلا - سعيد بن منصور برجال ثقات: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة، فأسلم ثعلبة وأسد بن سعيه (2) ، فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار.
ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: " فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها ".
__________
(1) • كذا قال! وهو عند أبي داود (2 / 49) ؛ من طريق أبان بن عبد الله بن أبي حازم، قال: حدثني عثمان بن أبي حازم، عن أبيه، عن جده.
وعثمان، ووالده أبو حازم لا يعرفان؛ وإن وثق الأول ابن حبان.
لكن رواه أحمد (4 / 310) ؛ عن أبان: حدثني عمومتي، عن جدهم صخر بن علية ... به.
فهذه طريق أخرى تقوي الأولى، والله أعلم. (ن)
(2) (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين؛ ويروى: (أسد) بالتكبير؛ ورواه ابن إسحاق في " السيرة ": (أسيد) بالتصغير؛ وخطأه الذهبي في " المشتبه ".
و (سعيه) : بفتح السين وإسكان العين وفتح الياء المثناة وآخره هاء؛ وقيل: (سعنة) بالنون؛ وهو خطأ.
وثعلبة: أخو أسيد؛ فصواب العبارة: " فأسلم ثعلبة، وأسيد ابنا سعيه "؛ كما هو ظاهر. (ش)(3/478)
وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا؛ كانت جميع أمواله في ملكه، ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام.
( [بيان أن عبد الكافر إذا أسلم ثبتت له الحرية] :)
(وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد (1) ، وابن أبي شيبة، قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين.
وأخرجه أيضا سعيد بن منصور - مرسلا -.
وقصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في " صحيح البخاري ".
ورواها أبو داود عن الشعبي، عن رجل من ثقيف، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة، وكان مملوكنا، فأسلم قبلنا، فقال: " لا؛ هو طليق الله، ثم طليق رسوله ".
وأخرج أبو داود، والترمذي - وصححه - من حديث علي، قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني: يوم الحديبية - قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم، فقالوا: والله يا محمد {ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هربا من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله} ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
__________
(1) • في " المسند " (رقم 1959، 2111، 3267، 3415) ؛ وفيه الحجاج؛ وهو ابن أرطاة؛ مدلس وقد عنعن! (ن)(3/479)
" ما أراكم تنتهون يا معشر قريش {حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا "، وأبى أن يردهم، وقال: " هم عتقاء الله عز وجل " (1) .
وأخرج أحمد عن أبي سعد الأعسم، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد؛ إذا جاء فأسلم، ثم جاء مولاه فأسلم: أنه حر، وإذا جاء المولى، ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه: فهو أحق به، وهو مرسل (2) .
( [حكم الأرض المغنومة مفوض إلى الإمام يفعل فيها ما فيه المصلحة] :)
(والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام، فيفعل الأصلح من قسمتها، أو تركها مشتركة بين الغانمين، أو بين جميع المسلمين) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين، وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين، وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس.
كما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث بشير بن يسار، عن رجال من الصحابة.
وأخرج نحوه - أيضا - أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة.
وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين}
__________
(1) • " سنن أبي داود " (1 / 423) ، وكذا البيهقي؛ عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، وأحمد (رقم 1335) ؛ عن شريك - كلاهما -، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن علي.
وهذا سند صحيح إن شاء الله. (ن)
(2) لم أره في " المسند " {وليس هو من مظانه} ! وهو في " مصنف ابن أبي شيبة " (10 / 164) و " سنن سعيد بن منصور " (2 / 313) بسند ضعيف مرسل.(3/480)
يقسمون خراجها بينهم.
وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وعمل عليه الخلفاء الراشدون.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" أيما قرية أتيتموها، فأقمتم فيها، فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله؛ فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم ".
أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين - من خراج، ومعاملة، وجزية، وصلح، وغير ذلك - ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته، ويبذل جهده في مصالحهم، فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم، ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها، ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح؛ فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام؛ فعل، وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر، أو الأسبوع، أو اليوم؛ فعل.
ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم، وما يدخر لدفع ما ينوبهم؛ جعل ذلك في مناجزة الكفرة، وفتح ديارهم، وتكثير جهات المسلمين، وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح؛ فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد، وجلب المصالح.(3/481)
ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال، وتوسيع دائرته العدل في الرعية، وعدم الجور عليهم، والقبول من محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم.
وهذا معلوم بالاستقراء في جميع دول الإسلام والكفر، فما عدل ملك في رعيته؛ إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر بجوره، مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب - عز وجل - في هذه الدار، أو في دار الآخرة؛ فإنها جرت عادة الله - سبحانه - بمحق نظام الظلم، وخراب بنيانه، وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين؛ فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر، ومن نظر في تواريخ الدول؛ رأى من هذا ما يقضي منه العجب.
فالحاصل: أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة:
أما خسران الآخرة؛ فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة.
وأما خسران الدنيا؛ فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف، ونغص وتحيل، ووحشة من رعيته، فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم، وهم مع ذلك على بغضه، وهو منطو على بغضهم، وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر، وخراب البلاد، وهلاك الرعية، وفقر أغنيائهم، ففي كل عام هو في نقص؛ مع ما جرت به عادة الله - عز وجل - من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة.
فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما، وهذا هو الغالب، وما(3/482)
خالفه فنادر.
فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية، المحبوبين عندهم، الممتعين بلذة العدل؛ مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف؛ التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت؟ !
ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه؛ بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله، وما وعد به العادلين في الآخرة؛ مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ لكان مغنيا.
( [بيان أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا] :)
(ومن أمنه أحد المسلمين؛ صار آمنا) ؛ لحديث علي عند أحمد (1) وأبي داود، والنسائي، والحاكم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:
" ذمة المسلمين واحدة؛ يسعى بها أدناهم ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - مرفوعا - بلفظ:
" يد المسلمين على من سواهم؛ تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم،
__________
(1) • في " المسند " (رقم 615، 959، 991، 993، 1037، 1297) ؛ بأسانيد أكثرها صحيح.
وأخرج أحدها الحاكم (2 / 141) ؛ من طريق أحمد، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. (ن)(3/483)
ويرد عليهم أقصاهم (1) ، وهم يد على من سواهم ".
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " من حديث ابن عمر مطولا.
وأخرجه ابن ماجه من حديث - معقل بن يسار - مختصرا - بلفظ:
" المسلمون يد على من سواهم؛ تتكافأ دماؤهم ".
وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة - مختصرا - أيضا -.
وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - أيضا - بلفظ:
" إن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وهو في " الصحيحين " من حديث علي.
وأخرجه البخاري من حديث أنس.
وفي الباب أحاديث.
وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا.
قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة ". انتهى.
__________
(1) • " أي: أبعدهم؛ وذلك في الغزو إذا دخل العسكر أرض الحرب، فوجه الإمام منه السرايا، فما غنمت من شيء أخذت منه ما سمي لها، ورد ما بقي على العسكر؛ لأنهم - وإن لم يشهدوا الغنيمة -؛ درء للسرايا وظهر يرجعون إليهم ": " نهاية " (ن) .(3/484)
وأما العبد؛ فأجاز أمانه الجمهور.
وأما الصبي؛ فقال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز ". انتهى.
وأما المجنون؛ فلا يصح أمانه بلا خلاف.
قلت: إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين؛ إذا أمن واحدا أو اثنين.
فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم؛ فلا يصح إلا من الإمام؛ على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة، كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لآحاد الناس؛ صار ذريعة إلى إبطال الجهاد.
( [بيان أن الرسول كالمؤمِّن] :)
(والرسول كالمؤمن) ؛ لحديث ابن مسعود عند أحمد (1) ، وأبي داود والنسائي، والحاكم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرسولَي مسيلمة: " لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما: " والله؛ لولا أن
__________
(1) • في " المسند " (3708، 3761، 3837، 3855) ؛ بأسانيد بعضها حسن، وله طريقان آخران عنده (3642، 3851) بنحوه؛ فالحديث صحيح.
(2) • " في المسند " (3 / 487 - 488) بسند حسن. (ن)
وأخرجه الحاكم أيضا (2 / 143) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو حسن فقط! (ن)(3/485)
الرسل لا تقتل؛ لضربت أعناقكما ".
وقد أخرج أحمد (1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان - وصححه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي رافع لما بعثته قريش إليه، فقال: يا رسول الله {لا أرجع إليهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن - يعني: الإسلام -؛ فارجع ".
( [توسيط القول في جواز مهادنة الكفار] :)
(وتجوز مهادنة الكفار) وملوكهم وقبائلهم؛ إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين، فعرفوا نفع المسلمين في ذلك، ولم يخافوا من الكفار مكيدة.
(ولو بشرط، وإلى أجل أكثره عشر سنين) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره: أن قريشا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فاشترطوا عليه: أن من جاء منكم لا نرده عليكم، ومن جاء منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله} أنكتب (2) هذا؟ قال: " نعم؛ إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ".
وهو في " البخاري "، وغيره من حديث المسور بن مخرمة، ومروان
__________
(1) • في " المسند " (6 / 8) ، وأبو داود (1 / 433 - 434) ، وكذا الحاكم (3 / 598) - وسكت عليه هو والذهبي -؛ وسنده صحيح.
وهو عند النسائي في (السير) من " سننه الكبرى ". (ن)
(2) بالنون كما في " صحيح مسلم " طبع الآستانة. (ش)(3/486)
- مطولا -، وفيه: أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنين.
وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما، وفعله صلى الله عليه وسلم قد دل على جواز ذلك، ولم يثبت ما يقتضي نسخه.
( [بيان قدر مدة الصلح مع الكفار] :)
وأما قدر مدة الصلح؛ فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله - سبحانه - قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها، ولكنه لما وقع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها، ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل، وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب.
وقد قيل: إنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: لا تجوز مجاوز سنتين.
( [تفصيل القول في جواز تأبيد المهادنة بالجزية] :)
(ويجوز تأبيد المهادنة بالجزية) ؛ لما تقدم من أمره - صلى الله عليه وسلم - بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال؛ منها الجزية.
وحديث عمرو بن عوف الأنصاري - في " الصحيحين "، وغيرهما -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صالح أهل البحرين، أمر(3/487)
عليهم العلاء ابن الحضرمي.
وأخرج أبو عبيد (1) ، عن الزهري - مرسلا - قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين، وكانوا مجوسا.
وأخرج أبو داود (2) من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدا إلى أكيدر دومة (3) ، فأخذوه فأتوا به، فحقن دمه، وصالح على الجزية.
وأخرج أبو عبيد في كتاب " الأموال "، عن الزهري: أن أول من أعطى الجزية أهل نجران، وكانوا نصارى.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن؛ على كل حالم دينارا كل سنة، أو قيمته من المعافري (4) ، يعني: أهل الذمة منهم؛ رواه الشافعي في " مسنده " عن عمر بن عبد العزيز، وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود.
وأخرج البخاري، وغيره من حديث المغيرة بن شعبة: أنه قال لعامل كسرى: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية.
__________
(1) في " الأموال " (203) ، وابن زنجويه (642) ؛ وعبد الرزاق في " المصنف " (10 / 326) ، وهو ضعيف لإرساله!
(2) • في " سننه " (2 / 44) ، ورجاله ثقات؛ لكن محمد بن إسحاق مدلس؛ وقد عنعنه.
وسكت عنه المنذري في " مختصره " (4 / 249) . (ن)
(3) • وهو رجل من العرب؛ يقال: هو من غسان؛ قاله الخطابي في " المعالم ". (ن)
(4) • ثياب تكون باليمن، كما صرح به بعض الرواة في آخر حديث معاذ - المشار إليه فيما يأتي في الكتاب -؛ وهو عند أبي داود (2 / 44) بسند صحيح. (ن)(3/488)
وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح، قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير؛ وأهل اليمن عليهم دينار؟ {قال: جعل ذلك من قبيل اليسار.
وقد وقع الاتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم؛ من اليهود، والنصارى، والمجوس.
قال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام: إنها تقبل من جميع الكفار؛ من العرب وغيرهم (1) .
وقال الشافعي: إن الجزية تقبل من أهل الكتاب؛ عربا كانوا أو عجما، ويلحق بهم المجوس في ذلك.
وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط؛ بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد (2) ، والترمذي - وحسنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش؛ أنه يريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، ويؤدي إليهم بها العجم الجزية؛ يعني: كلمة الشهادة.
__________
(1) • وهذا الذي رجحه ابن تيمية، حتى ولو كانوا مشركين غير أهل كتاب؛ انظر رسالته: " قاعدة في قتال الكافر ". (ن)
(2) • في " المسند " (رقم 2008، 3419) ، والترمذي (4 / 172 - 173) ، وكذا الحاكم (2 / 432) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي - كلهم -؛ من طريق يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عنه وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
كذا قالوا} ويحيى - هذا - في اسمه اختلاف؛ ولم يوثقه غير ابن حبان، والذهبي يقول فيه: " تفرد عنه الأعمش "؛ فهو في حكم المجهول، ولهذا قال الحافظ: إنه مقبول، يعني: عند المتابعة وإلا فلين الحديث.
فالحديث في نقدي ضعيف، والله أعلم. (ن)(3/489)
وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب؛ ولا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة - المتقدم -: " وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - "، وفيها الجزية.
قال في " المسوى " - في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب -:
" قال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} .
قلت: عليه أهل العلم في الجملة.
وقال الشافعي: الجزية على الأديان لا على الأنساب؛ فتؤخذ من أهل الكتاب؛ عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان.
والمجوس لهم شبهة كتاب.
وقال أبو حنيفة: لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف.
وفي حديث ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين، وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر (1) .
وفي حديث جعفر بن علي بن محمد، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ ! فقال عبد الرحمن بن
__________
(1) • " البربر: جيل، الجمع: البرابرة، وهم بالغرب، وأمة أخرى بين الحبوش والزنج ": " قاموس ". (ن)(3/490)
عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1) .
قلت: وعليه أهل العلم.
قال مالك: مضت السنة: أن لا جزية على نساء أهل الكتاب (2) ، ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم.
قلت: وعليه أهل العلم.
( [بيان مقدار الجزية] :)
وأما قدرها: فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.
قلت: قد صح (3) من حديث معاذ؛ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل حالم دينار أو عدله معافريا.
فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر:
__________
(1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1248) .
وللحديث طريقان - يحتملان التحسين -؛ كما في " نصب الراية " (3 / 172) ، و " تحفة الطالب " (237) ، و " تنقيح التحقيق " (3 / 364، 460) .
(2) • لحديث معاذ المشار إليه آنفا، والآتي لفظه قريبا؛ فإن قوله: " من كل حالم " خاص بالرجل؛ لأن " الحالم "؛ عبارة عن الرجل، كما قال الخطابي في " المعالم " (4 / 249) . (ن)
(3) " صحيح ابن خزيمة " (2268) .(3/491)
فقال الشافعي: أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة، ويستحب للإمام المماسكة ليزداد، ولا يجوز أن ينقص من دينار، وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير.
وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين، وحديث معاذ على الفقراء؛ لأن أهل اليمن أكثرهم فقراء، فقال: على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط ديناران، وعلى كل فقير دينار.
وعن عمر بن عبد العزيز: من مر بك من أهل الذمة؛ فخذ بما يديرون به من التجارات؛ من كل عشرين دينار؛ فما نقص فبحساب ذلك؛ حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثلث دينار؛ فدعها ولا تأخذ منها شيئا، واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول.
قلت: عليه أبو حنيفة.
وقال الشافعي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور: هو ما صولحوا وقت عقد الذمة (1) .
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون.
قلت: عليه أبو حنيفة.
__________
(1) • لعل الأقرب إلى الصواب؛ أن يقال أن لا حد في الجزية يرجع إليه، فيقدرها ولي الأمر بحسب المصلحة.
وبهذا قال ابن تيمية في رسالته المذكورة آنفا (ص 145) . (ن)(3/492)
وقال الشافعي: لا تسقط بالإسلام ولا بالموت؛ لأنه دين حل عليه كسائر الديون ". انتهى.
( [بيان منع المشركين وأهل الذمة من توطن جزيرة العرب] :)
(ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من (1) جزيرة العرب) ؛ لحديث ابن عباس - في " الصحيحين "، وغيرهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته بثلاث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم "، ونسيت الثالثة - والشك (2) من سليمان الأحول -.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عمر: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب،؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلما ".
وأخرج أحمد من حديث عائشة: أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان ":
وهو من رواية ابن إسحاق؛ قال: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عنها (3) .
__________
(1) سكن: يتعدى بنفسه وبالباء وب (في) .
وأما ب (من) ؛ فلم أره، ولا أظنه صحيحا؛ بل هو استعمال ينبو عن كلام الفصحاء. (ش)
(2) • والصواب: والنسيان. (ن)
(3) • وسنده حسن (ن) .(3/493)
والأدلة - هذه - قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب؛ سواء كان ذميا أو غير ذمي، وقيل: إنما يمنعون من الحجاز فقط؛ استدلالا بما أخرجه أحمد (1) ، والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح، قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ".
وهذا لا يصلح لتخصيص العام؛ لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح.
وقد حكى ابن حجر في " فتح الباري " عن الجمهور: أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة؛ قال: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها؛ لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة (2) .
وعن الحنفية: يجوز مطلقا؛ إلا المسجد الحرام.
وعن مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة.
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا؛ إلا بإذن الإمام.
أقول: الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه؛ لأنه قد
__________
(1) • في " المسند " (رقم 1691، 1694، 1699) ، وسنده صحيح. (ن)
(2) • في " القاموس ": " وجزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، ومن جدة إلى أطراف ريف العراق عرضا ".
قال: " والحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، ومخاليفها؛ لأنها حجزت بين نجد وتهامة ".(3/494)
تقرر في الأصول: أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا؛ إلا عند الدقاق.
ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من مواضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه؛ هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه.
وقد جمع المغربي - مؤلف شرح " بلوغ المرام " - رسالة رجح فيها التخصيص، وقد دفعها الماتن - رحمه الله - بأبحاث، ليس هذا موضع ذكرها.
قال في " المسوى " - في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر -:
" قال الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} ".
قلت: قوله {فلا يقربوا المسجد الحرام} : معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم (1) ؛ يدل عليه قوله - تعالى -: {وإن خفتم عيلة} ، وعليه أهل العلم؛ قالوا: لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال؛ سواء كان ذميا أو لم يكن، وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام، وهو في الحرم؛ فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه، أو يبعث من يسمع رسالته.
قلت: قد صح في غير حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل الكفار في مسجده.
__________
(1) • ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم عليا قبيل حجة الوداع أن ينادي في المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك؛ فإن هذا يستلزم الوقوف بعرفة والمزدلفة وغيرهما (ن) .(3/495)
من ذلك: ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد:
فقال الشافعي: لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم.
وقال آخرون: يجوز له الدخول ولو بغير إذن، وتأويل الآية على قولهم: أنهم أخيفوا بالجزية.
أقول: لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين؛ فهم الذين لا يتطهرون من جنابة، ولا يغتسلون من نجاسة، فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات، او استهزاؤهم بالعبادة مظنونا؛ فذلك مفسدة، وكل مفسدة ممنوعة؛ ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد؛ لما يسمعه ويراه من المسلمين؛ فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقدر قدرها.
وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون؛ فلا وجه للمنع؛ ولا سيما قد تقرر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف، وهو أفضل من غيره من المساجد؛ غير المسجد الحرام ".
ثم قال في " المسوى ":
" قال مالك: قال ابن شهاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى يهود خيبر.
قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران، وفدك.
فأما يهود خيبر؛ فخرجوا منها، ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شيء.(3/496)
وأما يهود فدك؛ فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض، فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر، ونصف الأرض قيمته؛ من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب، ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها.
قلت: عليه أهل العلم، قالوا: الحجاز؛ يجوز للكافر دخولها بالإذن، ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر؛ فإن عمر - رضي الله تعالى عنه - لما أجلاهم؛ أجل - لمن يقدم منهم تاجرا - ثلاثا ". انتهى.
( [الفصل الرابع: حكم قتال البغاة] )
( [بيان وجوب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق] :)
(ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق) ؛ لقوله - تعالى -: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، فأوجب الله - سبحانه - قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم، أو على طائفة منهم.
قال في " المسوى ":
" قال الواحدي والبغوي وغيرهما: نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال، فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم (1) .
__________
(1) • وثبت هذا في " صحيح البخاري " (5 / 327 - 328) ، و " مسلم ". (ن)(3/497)
والظاهر: أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين؛ حيث يكون حكم الله - تعالى - معلوما؛ لقوله - تعالى -: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وليست في البغاة؛ وهم الذين لهم منعة وشبهة، فنصّبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل؛ إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه؛ بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله.
وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي - رضي الله تعالى عنه - حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان، وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية، والعلم عند الله تعالى ". انتهى.
أقول: اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة - رضي الله عنهم - وأكثر من روي عنه في ذلك؛ علي - كرم الله وجهه -، ولم يثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ إلا حديث ابن مسعود الآتي، وقد ضعفه جماعة من المسلمين (1) ، وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام؛ كعدم جواز سبي البغاة.
والحاصل: أن أصل دم المسلم وماله العصمة، ولم يأذن الله - عز وجل - بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء، فيجب الاقتصار على هذا، ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء؛ وإن كان جريحا أو منهزما؛ من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له؛ ما دام مصرا على بغيه.
وأما المال؛ فلا يجوز أخذ شيء منه.
هذا ما عندي في ذلك، فإن ثبت ما يخالفه؛ فالثابت شرعا أولى بالاتباع.
__________
(1) • لعله: العلماء! (ن)(3/498)
( [بيان حكم قتل أسير البغاة وغنيمة أموالهم والإجهاز على جريحهم] )
(ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجاز (1) على جريحهم، ولا تغنم أموالهم) : لما أخرجه الحاكم، والبيهقي، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود: " يا ابن أم عبد! ما حكم من بغى من أمتي؟ "، قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم ".
وفي لفظ: " ولا يذفف (2) على جريحهم، ولا يغنم منهم "؛ سكت عنه الحاكم.
وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ.
وقال البيهقي: ضعيف.
وقال صاحب " بلوغ المرام ": إن الحاكم صححه فوهم؛ لأن في إسناده كوثر بن حكيم، وهو متروك (3) .
وصح عن علي من طرق نحوه - موقوفا -.
__________
(1) • وكذا في النسخة البولاقية؛ وفي " الدراري المضيئة " للشوكاني - نفسه -.
وهي لغة صحيحة؛ قال في " القاموس ": " وأجزت على الجريح: اجهزت ". (ن)
(2) • تذفيف الجريح: الإجهاز عليه، وتحرير قتله. (ن)
(3) وكذلك قال الذهبي في " مختصر المستدرك "؛ انظر " المستدرك " (ج 2: ص 155) . (ش)
قلت: وتفصيله في " الإرواء " (2462) .(3/499)
والصحيح: أنه نادى بذلك منادي علي يوم صفين، ولم يثبت الرفع.
وأخرج ابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي من طريق عبد خير، عن علي بلفظ: نادى منادي علي يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم.
وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم، قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
وأخرج أحمد - في رواية الأثرم، واحتج به -، عن الزهري، قال: هاجت الفتنة - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون -؛ فأجمعوا: أن لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن؛ إلا ما وجد بعينه.
وأخرج البيهقي عن أبي أمامة، قال: شهدت صفين؛ فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون موليا، ولا يسلبون قتيلا.
وأخرج البيهقي، عن علي، أنه قال يوم الجمل: إن ظفرتم على القوم؛ فلا تطلبوا مدبرا، ولا تجيزوا على جريح، وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه، وما سوى ذلك؛ فهو لورثتهم ".
قال البيهقي: هذا منقطع.
والصحيح أنه لم يأخذ شيئا، ولم يسلب قتيلا.
ويؤيد جميع هذه الآثار: أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة؛(3/500)
فلا يحل شيء منها إلا بدليل شرعي.
والمراد بالإجازة على الجريح، والإجهاز، والتذفيف: أن يتمم قتله ويسرع فيه.
( [بيان أنه لا قصاص في أيام الفتنة] :)
وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود؛ يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة، وقد أخرج هذا الأثر - عن الزهري - البيهقي؛ بلفظ:
هاجت الفتنة الأولى، فأدركت - يعني: الفتنة - رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد معه بدرا، وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة؛ لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل، ولا حد في سبي امرأة سبيت، ولا يرى عليها حد، ولا بينها وبين زوجها ملاعنة، ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد، ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر، ويرى أن يرثها زوجها الأول ". انتهى.
قال في " البحر ": ولا يجوز سبيهم، ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا؛ لبقائهم على الملة.
وحكى عن النفس الزكية، والحنفية، والشافعية: أنه لا يغنم منهم شيء.
( [بيان حكم من حارب عليا رضي الله عنه] :)
أقول: وأما الكلام فيمن حارب عليا - كرم الله وجهه -؛ فلا شك ولا(3/501)
شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه.
أما طلحة والزبير ومن معهم؛ فلأنهم قد كانوا بايعوه، فنكثوا بيعته بغيا عليه، وخرجوا في جيوش من المسلمين، فوجب عليه قتالهم.
وأما قتاله للخوارج؛ فلا ريب في ذلك، والأحاديث المتواترة قد دلت على أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
وأما أهل صفين؛ فبغيهم ظاهر؛ لو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: " تقتلك الفئة الباغية "؛ لكان ذلك مفيدا للمطلوب.
ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي، ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام (1) ؛ لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان، فنفق ذلك عليهم، وبذلوا بين يديه دماءهم وأموالهم، ونصحوا له؛ حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار.
وليس العجب من مثل عوام الشام؛ إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه، بعض فضلاء التابعين، فليت شعري؛ أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر؛ حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين؛ وقد سمعوا قول الله - تعالى -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان
__________
(1) الغتمة - بضم الغين المعجمة وإسكان التاء -: عجمة في المنطق؛ ورجل أغتم: لا يفصح شيئا. (ش)(3/502)
الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا، وسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار أنه: " تقتله الفئة الباغية "؟ {
ولولا عظيم قدر الصحابة، ورفيع فضل خير القرون؛ لقلت: حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأمة كما فتن خلفها} اللهم غفرا (1) {}
ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة، وحديث عمار بن ياسر المتقدم، فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله - تعالى - على عباده، ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين، ودفع مفاسدهم من غير بصيرة، ولا على وجه المناصحة، فإن انضم إلى ذلك المحاربة له والقيام في وجهه؛ فقد تم البغي، وبلغ إلى غايته، وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: {فإن بغت إحداهما} الآية.
وليس القعود عن نصرة الحق من الورع؛ بعد قول الله - عز وجل -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} .
والحاصل: أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس، ولا دخل في الصلح؛ كان
__________
(1) دخل الشارح في مأزق لا قبل له به، ولا قوة لديه فيه {فما له وما للصحابة؟} ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه {والحاضر يرى ما لا يرى الغائب} وهذه الفتن قد تنسي الحليم نفسه، والذكي عقله {فلا ندري عذر من كان مع معاوية من الصحابة - رضي الله عنهم -؟}
وقد غلب على الشارح ما يغلب على الأعجام من التشيع المزري بأهل الأنصاف {
وظهور الحجة، وقيام الأدلة على أن الحق بجانب علي؛ لا يسيغ لنا أن نحكم بالبغي على الصحابة الذين خالفوه؛ فقد تكون لهم أعذار لا نعلمها}
ومآل الجميع إلى مولاهم؛ يحاسبهم ويقضي بينهم يوم الفصل؛ والله أعلم! (ش)(3/503)
القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به، وأما مع اللبس؛ فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل؛ لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به.
وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل؛ فإنه ما زال المجتهدون هكذا، ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل كما ورد في الحديث: أنه يأخذ بيده، ويخلو به ويبذل له النصيحة (1) ، ولا يذل سلطان الله.
ولا يجوز الخروج على الأئمة - وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ -؛ ما أقاموا الصلاة (2) ، ولم يظهر منهم الكفر البواح، والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله، ويعصيه في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد ابتلي علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم، وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم -؛ فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول؛ أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة.
وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد؛ فليس أحدهما أولى من الآخر؛ بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما، حتى يجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرا على التخالف؛ كان على أهل
__________
(1) انظر " السنة " (1096) لابن أبي عاصم.
(2) • كما في حديث عوف بن مالك في " صحيح مسلم " (6 / 24) .
ونحوه حديث أم سلمة عنده (6 / 23) .
وحديث عوف يأتي. (ن)(3/504)
الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك.
وأما بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام، أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره، أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته.
فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر.
فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته، وبايعه أهله؛ كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار؛ فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدري من قام منهم أو مات.
فالتكليف بالطاعة - والحال هذه -؛ تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد؛ فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب؛ فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر؛ لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا العكس.
فاعرف هذا؛ فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما يدل عليه(3/505)
الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته؛ فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن؛ أوضح من شمس النهار.
ومن أنكر هذا؛ فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان! (1)
( [الفصل الخامس: من أحكام الإمامة] )
( [بيان وجوب طاعة الإمام إلا في معصية الله] :)
(وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله) ؛ باتفاق السلف الصالح؛ لقوله - تعالى -: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ، وللأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة؛ منها:
ما أخرجه البخاري من حديث أنس مرفوعا:
" اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استعمل عليكم عبد حبشي؛ كأن رأسه زبيبة (2) ؛ ما أقام فيكم كتاب الله ".
وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ".
__________
(1) وفي كتابي " مسائل علمية في الدعوة والسياسة الشرعية " - المطبوع بمراجعة شيخنا الألباني - تفصيل جيد لهذه المسألة.
(2) • أي: " حبة عنب سوداء. .، والمراد: وشعر رأسه مقطقط؛ إشارة إلى بشاعة صورته "؛ كذا في " فيض القدير ". (ن)(3/506)
وفي " الصحيحين " - أيضا - من حديث ابن عمر، عنه صلى الله عليه وسلم:
" على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره؛ إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا.
( [متى يجوز الخروج على الإمام؟] :)
(ولا يجوز الخروج) بعد ما حصل الاتفاق.
(عليهم ما أقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا) ؛ لحديث عوف بن مالك - عند مسلم (1) ، وغيره -، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم "، قال: قلنا: يا رسول الله {أفلا ننابذهم عند ذلك؟} قال: " لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة؛ ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية، ولا ينزعن يدا عن طاعة ".
وأخرج مسلم - أيضا -، وغيره من حديث حذيفة بن اليمان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال؛ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان "، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله! إن أدركت ذلك؟
__________
(1) • (6 / 24) . (ن)(3/507)
قال: " تسمع وتطيع؛ وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك؛ فاسمع وأطع ".
وأخرج مسلم - أيضا -، وغيره من حديث عرفجة الأشجعي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أتاكم - وأمركم جميع على رجل واحد -؛ يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه ".
وفي " الصحيحين " من حديث عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[على السمع والطاعة] (1) في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ " إلا أن تروا كفرا بواحا؛ عندكم فيه من الله برهان ".
والبواح - بالموحدة والمهملة -؛ قال الخطابي: معنى قوله: بواحا: يريد ظاهرا.
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عنه، صلى الله عليه وسلم: " من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة؛ فميتته جاهلية " (2) .
وأخرج نحوه أيضا عن ابن عمر.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر:
" من حمل علينا السلاح؛ فليس منا ".
__________
(1) • زيادة لا بد منها. (ن)
(2) • لفظه في " صحيح مسلم " (6 / 21) : " ثم مات؛ مات ميتة جاهلية ". (ن)(3/508)
وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى.
وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وسلمة بن الأكوع.
والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها.
وقد ذهب إلى ما ذكرناه: جمهور أهل العلم.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة - أو وجوبه -؛ تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب، ولا تعارض بين عام وخاص، ويحمل ما وقع من جماعة من أفاضل السلف على اجتهاد منهم، وهم أتقى لله، وأطوع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم.
قال في " الحجة البالغة ":
" ثم إن استولى من لم يجمع الشروط؛ لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة.
وبالجملة؛ فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين؛ حل قتاله - بل وجب -؛ وإلا لا؛ وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه؛ بل يخاف مفسدته على القوم، فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله ". انتهى.
( [بيان وجوب الصبر على جور الأئمة] :)
(ويجب الصبر على جورهم) ؛ لما تقدم من الأحاديث.(3/509)
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى من أميره شيئا يكرهه؛ فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات؛ فميتته جاهلية ".
وفيهما من حديث أبي هريرة - مرفوعا -: " أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ".
وأخرج أحمد (1) من حديث أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا ذر {كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفيء؟ "؛ قال: والذي بعثك بالحق؛ أضع سيفي على عاتقي، وأضرب حتى ألحقك، قال: " أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟} تصبر حتى تلحقني ".
وفي الباب أحاديث كثيرة.
( [بيان وجوب النصيحة للأئمة] )
(وبذل النصيحة لهم) ؛ لما ثبت في " الصحيح " من أن: " الدين النصيحة؛ لله ولرسوله ولأئمة المسلمين " - من حديث تميم الداري بهذا اللفظ -.
والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة، وأحق الناس بها الأئمة.
( [بيان ما يجب على الأئمة نحو رعيتهم] :)
(وعليهم) ؛ أي: على الأئمة (الذب عن المسلمين، وكف يد الظالم،
__________
(1) في " المسند " (5 / 180) ؛ وأبو داود (4759) ، وفي سنده جهالة.(3/510)
وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة) ؛ وذلك معلوم من أدلة الكتاب والسنة التي لا يتسع المقام لبسطها.
ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام، وهذه الأمور هي التي شرع الله - تعالى - نصب الأئمة لها، فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشيء منها؛ فهو غير مجتهد لرعيته، ولا ناصح لهم؛ بل غاش خائن.
وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد يسترعيه الله رعية؛ يموت - يوم يموت - وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة ".
وفي لفظ لمسلم: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم؛ إلا لم يدخل الجنة ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئا، فرفق بهم؛ فارفق به ".
وبالجملة؛ فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأتي ويذر؛ فإنه إن فعل ذلك؛ كان له ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابتة في الكتاب والسنة.
وحاصلها: الفوز بنعيم الدنيا والآخرة.(3/511)
وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(تم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود)
(وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود)
[انتهى المجلد الثالث من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "، وبه يتم الكتاب؛ والحمد لله الملك الوهاب] . (1)
__________
(1) • فرغنا من قراءته بمناسبة الاعتداء على مصر ليلة السبت (000 / 4 / 77 هـ) .
ثم فرغنا من قراءته كله - حاشا كتاب الوصية - ليلة السبت (29 / 8 / 1379 هـ) . (ن)(3/512)