التعليقاتُ الرَّضية
على
"الرَّوضة النّديَّة"
للعلامة صدِّيق حسَن خَان
رحمه الله
بقلم
العلامة المحدِّث الشيخ محمَّد نَاصِر الدّين الألبَاني
ضبط نصَّه، وحقَّقه، وَقَام على نشره
علي بن حسَن بن علي بن عَبد الحميد الحَلبيُّ الأثريّ
المجَلّد الأوّل
الطّهَارة - الخُمْسْ
دَارُ ابن القيِّم - دَار ابن عفَّان(1/1)
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1423 هـ - 2003 م
رقم الإيداع 15932/2001
الترقيم الدولي 4-30-6052-977
دَارُ ابن القيِّم للنشر والتوزيع
هاتف: 4315882 - فاكس: 4318891
الرياض: ص. ب: 156471
الرمز البريدى: 11778
المملكة العربية السعودية
دَار ابن عفَّان
للنشر والتوزيع
القاهرة: 11 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر
ت: 5066420 - محمول: 0101583626
الإدارة - الجيزة برج الأطباء أول ش فيصل
ت: 5693615 - تليفاكس: 5692850 - 3255820
ص. ب 8 بين السرايات
جمهورية مصر العربية
E-mail:ebnaffan@hotmail.com(1/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة العلامة المحدِّث الشيخ محمَّد نَاصِر الدّين الألبَاني (1)
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدِ، وعلى آله وصحبه أجمعين:
أمّا بَعْدُ:
فهذا كتابي: "التعليقات الرضية على الروضة النديّة"؛ يَخْرُجُ لإخواننا القُراء -طلبة العِلْمِ- مطبوعًا بهياً؛ وذلك بعد انتهائي من تدريسهِ، والتعليق عليه: بأكثَرَ من أربعينَ سنةَ؛ على الرغم من تعاهُدي إياهُ الفَينَةَ بعد الفَيْنَةِ، على مَر هذه السنين....
وإنِّي لأحمد اللهَ -سبحانه- أنْ سهل ذلك، ويسر أسبابَه؛ فالكتابُ -الأصلُ- من الكتب الفقهية النافعةِ التي انتهج مؤلفُها -رحمه الله تعالى- طريقةَ أصحابِ الحديث؛ قيامًا بالحُجة والدليل؛ بعيدًا عن التقليد وَمحْضِ الأقاويل؛ ولكنّه -كسائر البَشَر- عُرْضَةٌ للنقْدِ، والتَخطئِة، والمراجعةِ؛ وله على ذلك كله -إن شاء اللهُ- أجرٌ ...
__________
(1) قال محققُ هذا الكتاب أبو الحارث الحلبي الأثريُّ -عفا اللهُ عنه- بمنه -: لقد وافَقَ توقيت نشرنا لهذا الكتاب، وانتهائنا منه -تصحيحًا، وتنقيحًا- مَنْحُ شيخِنا أبي عبد الرحمن -حفظه الله- جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة السنة النبوية؛ فجزى اللهُ -خيرًا- القائمين عليها لما وفقهم اللهُ إليه مِن هذا التقدير والتكريم.
ولا يعرف الفضلَ لأهل الفضل ألا ذوو الفضل.(1/3)
ولقد كان عَرَضَ عَلَيَّ -منذ أكثرَ من سنتين- وَلَدُنا وصاحُبنا الأخُ أبو الحارث علي بن حسمن بن علي الحلبي -وفّقه الله- فِكْرَةَ طباعةِ تلك التعليقات -المشار إليها-، ونشرها؛ لما رأى فيها من نفع وفائدة -حتى لا تَظَل حبيسة فوق جدران الكتب-؛ ولينتفعَ بها الدارسون، ويستفيدَ منها المتفقهون: فوافقتُ على ذلك؛ وناولته نُسختي الخاصة -بتعليقاتي التي بخط يدي، والتي كنتُ قد سميْتُها منذُ أمَد: " التعليقات الرضيّة على الروضة الندية "-؛ ليقومَ -جزاه اللهُ خيرًا- بهذه المهمة العلمية.
وها هو الكتابُ -بتعليقاتِه- بحمد الله ومِنتهِ- مطبوعًا بين أيدي القُراء؛ يَفيدون منه، ويُفيدون به؛ والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
وإنّي لأسالُ الله -تبارك وتعالى- أنْ يجزيَ صاحبَنا أبا الحارث -زاده الله توفيقًا- على ما قامَ به من جُهدِ مشكور في تحقيقهِ لهذه "التعليقات"، وإبرازها إلى حَيز الوجود، وكذا الناشِرَ للكتاب: دار ابن عفان/القاهرة؛ داعيًا الله -جل وعلا- لهما - أن يُباركَ جهودَهما في خدمةِ -ونَشْر- الكتب العلميّة السلفية النافعة -إن شاء الله-.
كما أسألُهُ -عز وَجَل- أنْ ينفعَ بما أكتب، وأنْ يُلهِمني الحق والصواب، وأن يجعلَه خالصًا لوجهه، وأن يدخِر لي أجر ذلك عنده؛ إنه -سبحانه- خير مسؤول.
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِ العالَمين.
19/رمضان/1419 هـ
محمد ناصر الدين الألباني
أبو عبد الرحمن
عمّان(1/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
إِن الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَستعِينُهُ، وَنَستغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
وَأشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ.
وَأشْهَدُ أن مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بَعْدُ:
"فإنهُ يَنبغِي لِكُل أحَد أن يَتَخَلقَ بِأخْلاَقِ رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم -، وَيَقْتَدِيَ بِأقْوَالهِ وَأفْعَالِهِ وَتَقْريرهِ؛ فِي الأحكَامِ وَالآدَابِ وَسَائِر مَعَالِمِ الإسْلاَمِ، وَأنْ يَعْتَمِدَ فِي ذلِكَ مَا صَح وَيَجْتَنِبَ مَا ضَعُفَ، وَلاَ يَغتر بِمُخَالِفِي السننِ الصحِيحَةِ، وَلاَ يُقَلدَ مُعْتَمِدِي الأحَادِيثِ الضعِيفَةِ؛ فَإن اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وَقَالَ- تَعَالَى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وَقَالَ- تَعَالَى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ؛ فَهذِهِ الآيَاتُ -وَمَا فِي مَعناهُن- حَث عَلَى اتباعِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَنَهَانَا عَنِ الابْتِدَاعِ وَالاخْتِرَاعِ، وَأمَرَنَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عِنْدَ التنازُعِ(1/5)
بِالرجُوعِ إِلَى الله وَالرسُولِ -أي: الكِتَابِ وَالسنةِ-، وَهذَا كُلُّهُ فِي سُنة صَحتْ، أما مَا لَمْ تَصح: فكيْفَ تكُونُ سُنةَ؟! وَكَيفَ يُحكَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قَالَهُ أوْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْر مُسَوغٌ لِذلِكَ؟!!
وَلاَ تَغْتَرن بِكَثْرَةِ المتساهِلِينَ فِي العَمَلِ -وَالاحْتِجَاجِ فِي الأحكامِ- بِالأحَادِيثِ الضعِيفَةِ! وَإنْ كَانُوا مُصَنفِينَ وَأئِمة فِي الفِقهِ وَغَيْرهِ!!.." (1) .
وَ"الفِقْهُ فِي الدينِ: مِنْ أفْضَلِ مَا يُتَنَافَسُ فِيهِ وَيُطلَبُ، وَيُثَابَرُ عَلَى السعْي فِي تَحْصِيلِهِ وَيُرْغَبُ؛ لأن بِهِ صَلاَحَ العَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَبِهِ يَهتدِي مِنْ غَيهِ لِرشَادِهِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الفَلاَحِ وَالسعَادَةِ، وَبِهِ يُتَمكنُ مِنَ القِيَامِ بِوَاجِبِ العِبَادَةِ، وَأهلُهُ هُمُ الوَاسِطَةُ بَينَ اللهِ وَبَينَ خَلقِهِ فِي تَبلِيغِ شَرعِهِ وَأحكَامِهِ، وَتَمْيِيز حَلاَلِهِ مِن حَرَامِهِ.
وَقَدْ فَازَ بِهذِهِ الفَضِيلَةِ الصدرُ الأولُ، وَمَن عَلَى نَقْلِهِمْ وَفَهْمِهِمْ فِي النصُوص المعَولُ؛ فَاقتسَمُوا إِرثَ النبوةِ فَرْضاً وَتَعصِيباً، وَلَمْ يَترُكُوا لِسِوَاهُمْ مِنْ تِلك الفَريضَةِ حَظاً وَلا نَصِيباً، ثُم اقتدَى بِهِمْ فِي نَهْجِهِمِ القَويمِ الأسنى؛ مَنْ سَبَقَت لَهُ مِنَ اللهِ السعَادَةُ وَالحُسنى، حَتى انتهَت تِلكَ الورَاثَةُ إِلى الأئِمةِ الكِبَارِ، المقتدَى بِهِم فِي سَائِر الأعصَارِ وَالأمصَارِ، فكَانُوا وَسَائِلَ وَطرُقاً وَأدِلةَ بَيْنَ الناس وَبَيْنَ الرسُولِ، يُبَلغُونَهُمْ مَا قَالَهُ، وَيُفَهمُونَهُمْ مُرَادَهُ؛ بِحَسْبِ اجتِهَادِهِم وَاستِطَاعَتِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم-" (2) .
وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلاَءِ الأئِمةِ الفُحُول، المقتفِينَ آثَارَ الرسُول - صلى الله عليه وسلم -: الشيْخُ
__________
(1) "خلاصة الأحكام" (1/59-60) للإمام النووي.
(2) "هداية الأريب الأمجد" (5-6) للشيخِ سليمان بن حمدان.(1/6)
العلامة صِديق حسن خان -تغمده بِعفوهِ الرحِيم الرحمن-؛ فَقدْ ألفَ كِتَاباً فريداً، نسج فِيهِ منهجاً سدِيداً؛ سماه "الروضة الندِية" (1) ؛ مَبْنِيّاً على الدلائِل البَينةِ العِلمِية.
وَلَقَدْ "سَلَكَ فِيهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مَسْلَكَ الإنْصَاف، وَجَانَبَ فِي الترجِيحِ سَبِيلَ الجَورِ وَالاعْتِسَاف، وَهَذبَ مَبَانِيَه، وَحَررَ مَعَانِيَه، وَاعتنَى بِتَقْدِير الأدِلةِ وَنَصْب أَعلاَمِهَا، وَتَوضِيحِ وُجُوهِ الدلالَةِ وَأحكَامِهَا، وَذَكرَ مَذَاهِبَ الأسلاَف، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُم مِنَ الوفَاقِ وَالخِلاَف، مَعَ تَرجِيحِ مَا عَضَدَهُ البُرهَان، مِنْ غَير نَظر فِي ذلِكَ إِلَى خُصُوصِيةِ إِنْسَان، رَائِياً أَن الحَق أَحَقُّ بِأنْ يَعَض بِالنوَاجِذِ علَيْهِ، وَأن مَا سِوَاهُ يُطرَحُ فِي زَوَايَا الإهْمَالِ وَلاَ يُعَولُ عَلَيهِ" (2) .
فَجَاءَ كِتَاباً رَائِعاً، بَدِيعاً جَامِعاً، بِعِبَارَة سَهْلَةِ مُيَسرَة، وَأدِله مُنَقحَة مُحَررة، وَمَسَائِلَ مُنضَبِطَةِ مُحَبرَة.
وَلِمَا لِهذَا الكِتَابِ مِنْ أهَمييما وَمكَانَة -بِمَا حَوَاهُ مِنْ قُوة وَمَتَانَة-: فقد اعتنَى بِهِ عُلَمَاؤُنَا، وَأوْصَى بِهِ كُبَرَاؤُنَا؛ وَدَرسَهُ وَشَرَحَهُ فُضَلاَؤُنَا:
-فَهَذَا الشيخُ العَلامَةُ أحمَد مُحَمد شَاكِر- المتَوَفى سَنَةَ (1377 هـ) -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يَقُومُ بِالتعْلِيق. عَلَيهِ وَخِدْمَتِهِ -كمَا فِي آخِر الطبعَةِ
__________
(1) وكان قد سماه -قَبْلُ-: "النفحة الأحمديّة"؛ كما في كتابه "الحطة في ذِكر الصحاح الستة" (ص 483) بتحقيقي.
(2) من مقدمة الشيخِ محمد قاسم -مصحح المطبعة المصرية الأميرية- للطبعة الأولى من "الروضة الندية" -كما في كتاب "السيد صديق حسن خان" (ص 77) - لأختر جمال لقمان -نشر دار الهجرة-.(1/7)
المنِيريةِ-. (1) (2/365) بِقَلَم الشيْخ شَاكِر نَفْسِه؛ حَيْثُ قَالَ:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: عَهِدَ إِلَي الأخ الأستاذُ الشيْخُ مُحَمد مُنِير الدمَشْقِي (2) -صَاحِبُ (إِدَارَةِ الطباعَةِ المنِيريَةِ) - بِتَصحِيحِ هذَا الكِتَابِ -"الروْضَةِ الندِيةِ"-؛ فَقُمْتُ بِمُرَاجَعَةِ الأصْل الَذِي يُطبعُ مِنْهُ، وَبَذَلتُ وُسْعِي فِي مُرَاجَعَةِ مَا عَرَضَ مِنَ الشبهَاتِ فِي تَخْريجِ الأحَادِيثِ وَالكَلاَمِ عَلَى رُوَاتِهَا، وَكَتَبْتُ مَا عَن لِي مِنَ التَعْلِيقاتِ؛ رَغْبَةً فِي خِدْمَةِ السنةِ الشريفَةِ.
وَنَسْألُ اللهَ أن يُعِينَنَا عَلَى القَصْدِ إِلَى الخَيْر.
أحْمَد مُحَمد شَاكِر -القَاضِي الشرْعي-".
وَهذَا شَيْخُنَا العَلامَةُ الألبَانِي -حَفِظَهُ اللهُ-، يَنْصَحُ بِهِ (3) ، وَيُدَرسَه (4) ، بَلْ وَيَضَعُ عَلَيْهِ تَعْلِيقاً مكْتُوباً، وَنَقْداً لَطِيفاً مَرْغُوباً -وَهُوَ هذَا الَذِي بَيْنَ أيْدِينَا-؛ وَقَدْ سَماهُ "التَعْلِيقَاتِ الرضية عَلَى الروْضَةِ الندِية".
مِنْ أجْل هذَا كُلهِ: رَأيْتُ لُزُومَ نَشْر الكِتَابِ، مَعَ تَعْلِيقَاتِ مَشَايِخِنَا عَلَيهِ؛ فَلَما عَرَضْتُ هذا الأمْرَ عَلَى شَيْخِنَا -نَفَعَ اللهُ بِهِ- وَافَقَ ذلك مُبَارَكَةً كَرِيمَةً مِنْه -حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى، وَنَفَعَ بِهِ-؛ فَدَفَعَ إِلَي نُسْخَتَهُ الخَاصَّةَ، المكْتُوبَةَ
__________
(1) وهذا النصُّ -كلُّه- محذوف من الطبعات المتداوَلَةِ المصوّرة -جميعاً-!!
(2) وَصفَ الشيخُ الدمشقِي مؤلفَنَا -رحمهما الله تعالى- في كتابه "أُنموذج من الأعمال الخيرية" (ص 395) ، بـ (الإمام، العلامة، محيي آثار السلف الصالح، ذي الأيادي البيضاء، والنعَم العظيمة على العلماء..".
(3) كما في مجلة (الأصالة) (عدد: 5/ص 59) .
(4) انظر ما سيأتي (ص 12) .
وكاتبُ هذه السطور -عفا الله عنه- درس لمجموعة طيبة من طلاب العلم ثلاثةَ أرباعِ هذا الكتاب في نحو مئة وسبعين مجلساً، ولم يَبقَ منه -بمنّة الله- إلا القليل؛ سائلاً ربي -سُبحانه- أن يُعينني على إتمامه، وأن يُيَسر لي أسباب ذلك.(1/8)
عَلَى حَوَاشِيهَا تَعْلِيقَاتُهُ، وَنَقَدَاتُهُ -بِخَطه (1) -، لأقُومَ بِتَحْقِيقِهَا وِإظهَارِهَا إِلَى حَيز الوُجُودِ-؛ فَجَزَاهُ اللهُ خَيْراً عَلَى حُسْن ظَنهِ بِوَلَدِهِ وَتِلمِيذِهِ، وَأكْرَمَهُ فِي الدارَين بِأكْمَل الحُسْنَيَيْن.
كل ذلِكَ إِفَادَةَ لِلأمةِ، وَعِنَايَةَ بِهَا، وِإعِظاماً لأمْرهَا؛ عَسَى أنْ يَكتبَنَا اللهُ -سبْحَانَهُ- مِنْ حَمَلَةِ العِلمِ النبوي الشريف، قَائِمِينَ بِالعَمَل، وَالتَعْلِيمِ، وَالتَعْريف.
فَاللهَ أسْألُ التَوْفِيقَ وَالسدَاد، وَالهُدَى وَالرشَاد.
وختاماً، فإني أتقدّم بالشكر الجزيل لِكُل مَن كان له يَد في نَشر هذا الكتاب؛ تعليقاً (2) ، وتصحيحاً، وتنضيداً، وتدقيقاً، وضبطاً.
وشكر خاص موصول: للأخ الفاضل أبي عبد الله كمال الدين بن حُسين عُويس -وفقه الله لمراضيه-، صاحب دار ابن عفان/القاهرة-، على صَبْرهِ، واحتمالِه، وقيامِهِ بالدعم المادي والأدَبي -الدؤوب- لإخراج هذا العَمَل العلميّ مطبوعاً، مشرقاً، بهياً؛ فجزاه اللهُ خيرَ الجزاءِ، وزادَنا وإياه من فضلهِ.
وَصَلى اللهُ وَسَلمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِينا مُحَمدِ الأمِين، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِين.
وَكَتَبَ
أبُو الحَارِثِ الحَلَبِيُّ الأثَرِيُّ
23 رجب 1419 هـ
الزرقَاءَ - الأُردن
__________
(1) انظر ما سيأتي (ص 29-33) .
(2) وقد كان عندى كم كبير من التعليقات؛ إضافةَ، وشرحاً، وبياناً، ونقداً، لكني لم أضعها -جميعاً- هنا؛ تعجيلاً بالخَير، وإفادة للأمة علمَ عُلمائها ...
عسى أن يُهيئ الله -سبحانه- لي تبييض هذه التعليقات وإثباتها -كلها- في طبعة قادمة -إن شاء الله-.(1/9)
تعريف بـ "التعليقاتُ الرَّضية على الرَّوضة النَّديَّة"
* هِيَ تَعْلِيقاتٌ عِلْمِيةٌ مُنَوعَةٌ؛ بَلَغَتْ نَحْواً مِنْ ألفِ تَعْلِيق.
* وَهِيَ -أَصْلاً- مُلاَحَظَات عَلَى "الروضَةِ" (1) عَرَضَتْ أثْنَاءَ تَدْرِيس الكِتَابِ، وَشَرْحِهِ لِطَلَبَةِ العِلْمِ؛ ولكنّها لم تستوعب كُل ما ينبغي التعليقُ عليه؛ فضلاً عن تغير الاجتهاد -فقهاً ونقداً- في عدد منها.
* وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ هذِهِ التعْلِيقَاتِ -أيضاً- جَاءَتْ زِيَادَةً عَلَى تِلكَ الملاَحَظَاتِ؛ جَراءَ نَظَر الشيْخِ فِي الكِتَابِ، أوْ نَقْدِهِ، وَتَخْرِيجِهِ لِبَعْض المرْوِياتِ الوَارِدَةِ فِي كُتُبِ أخْرَى؛ فَيَضَعُ خُلاَصَةَ بَحْثِهِ فِي تَعْلِيقِ لَهُ هُنَا.
وَقَدْ جَاءَ عَدَد مِنْ تعْلِيقَاتِهِ هذِهِ -حَفِظَهُ اللهُ- عَلَى تَعْلِيقَاتِ لِلشيخ أحْمَد شَاكِر عَلَى "الروضَةِ" (2) .
__________
(1) وقد حققها وخرج أحاديثها -قبل عدة سنوات- الأخ الفاضل الشيخ محمد صبحي حلاق في مجلدين كبيرين.
وقد استفدنا -في طبعتنا هذه- من بعض ما أثبتَه من تبويبات جانبية، وعناوين فرعية؛ فجزاه الله خيراً.
(2) وقد كتب شيخنا -بخطه- على صفحة غلاف "الروضة" من نسخته: "هذا التعليق للعلامة
المحدث المجتهد القاضي أحمد محمد شاكر، كما صرح في كتابه "نظام الطلاق في الإسلام" في غير موضع".
تنبيه: أثبت في حواشي كتابِنا هذا تعليقاتِ الشيخ أحمد شاكر كاملة، وميزتها بوضع حرف (ش) في نهاية كل تعليق.
وأما تعليقاتُ شيخنا الألباني: فميزتُها بوضع مُرَبع أسود [[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في هذه النسخة الإلكترونية، دائرة سوداء هكذا •]] قبلها، وحرف (ن) بعدَها.
وما كان خالياً من التمييز؛ فهو من تعليقاتي.(1/11)
* كَتَبَ شَيْخُنَا -بِخَطهِ- عَلَى آخِر نُسْخَتِهِ مِنَ "الروضَةِ" مَا لَفْظهُ: "فَرَغْنَا مِنْ قِرَاءَتِهِ بِمنَاسَبَةِ الاعْتِدَاءِ المثَلثِ (1) عَلَى مِصْرَ لَيْلَةَ السبْتِ ( ... (2) /4/1377 هـ) .
ثُم فَرَغْنَا مِنْ قِرَاءَتِهِ كُلهِ -حَاشَا كِتَابَ الوَصِيةِ- لَيْلَةَ السبْتِ (29/8/1379 هـ) . ".
* وَهذِهِ التَعْلِيقَاتُ (الرضيةُ) مُنَوعَةٌ مُتَعَددَةٌ، مِنْهَا (3) :
أولاً: شَرْحُ الغريبِ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ:
1- قَالَ فِي (1/4) شَرْحاً لِكَلِمَةِ (العِلقِ) : "بِكَسْر العَيْن: النفِيسُ مِنْ كُلٌ شَيْءِ، وَالجِرَابُ؛ وَلَعَل هذَا هُوَ المرَادُ هُنَا".
2- شَرَحَ في (1/187) (الخَلِفَات) ، وَقَالَ: " اسْمٌ لِلنوقِ الحَوَامِل، وَاحِدَتُهَا خَلِفَة، وَبِنْتُ المخَاض، وَابنُ المخَاضِ: مَا دَخَلَ فِي السنةِ الثانِيَةِ ... " إلخ.
3- وَشَرَحَ فِي (1/187) -أيْضاً- (ابْن اللبونِ) ، مُبيناً أنهُ: "مَا أتَى عَلَيْهِ سَنَتَانِ مِنَ الإِبِل ... ".
__________
(1) وَيُسمى (العدوان الثلاثي) ، وهي: (حرب ثلاثية، إسرائيلية، إنكليزية، فرنسية؛ ضربت قناة السويس، وأنزلت الجنود في بورسعيد، والإسماعيلية؛ بعد احتلال سيناء، وانتهت بهزيمة العدوان الثلاثي وإخلاء سيناء) ؛ كما في "موسوعة دول العالم الإسلامي ورجالها" (4/2152) للدكتور شاكر مصطفى.
(2) كذا "الأصل" فراغ!
(3) والأرقام المذكورة تالياً هي أرقام "الأصل" الذي بخط شيخنا.(1/12)
4- شَرَحَ فِي (2/12) مَعنى "العَصَبَةَ" نَاقِلاً إِياهُ عَنْ "نِهَايَةِ" ابْن الأثير.
5- بَين فِي (2/13) خَطَأ تَفْسِير "عَوَان"، مُبَيناً وَجْهَ الصوَابِ فِيهِ.
ثَانِياً: التخْريجُ، وَالنقْدُ؛ وَمِن أمثِلَتِهِ:
1- قَالَ فِي (1/12) تَعْلِيقاً عَلَى قَوْلِ المؤَلفِ: (النهْيُ عَن الوُضُوءِ بِفَضْل وَضُوءِ المَرْأةِ) : "يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَغتسِلَ المَرْأةُ بِفَضْل الرجل.."، ثُم قَالَ: رَوَاهُ أبُو دَاودَ، وَالنسَائِي، بِسَنَدِ صَحِيح".
2- فَصلَ فِي (1/42) بِإِيضَاحِ الزيادَاتِ بَيْنَ الروَايَاتِ فِي العَزْوِ.
3- فَصلَ فِي (1/164) بِتَخريجِ حَدِيثِ خُرجَ إِجْمَالاً؛ مُبَيناً مُخَرجَهُ وَصَحَابِيهُ.
4- خَرج (1/196) حَدِيثَ: "الوَسْقُ سِتونَ صَاعاً"! مُبَيناً مَصَادِرَهُ، وَمُعِلاً لَهُ بِالانْقِطَاعِ..
5- خَرجَ فِي (1/222) حَدِيثاً، مُشِيراً إِلَى تَصْحِيحِ جَمَاعَةِ مِن أهْل العِلمِ لَهُ، ثُم ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ ضَعفَهُ، مُرَجحاً تَضْعِيفِهِ..
6- أشَارَ فِي (1/272) إِلَى تَتَبُّع ألفاظِ حَدِيث فِي "الصحِيحَيْن"، ثُم بَين أنه لم يَجِد لَفْظَةَ ذَكَرَهَا المصَنفُ -رَحِمَهُ اللهُ-.
ثَالِثاً: المُنَاقَشَةُ وَالتَعَقب؛ وَمِن أمثَلَتِهِ:
1- نَاقَشَ فِي (1/7) صِحةَ حَدِيثِ القُلتيْن مُؤَيداً ثُبُوتَهُ، ثُم قَالَ:(1/13)
"فَلاَ التِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ ضَعفَهُ؛ لأنهُ وَهَمٌ نَشَأ مِنْ عَدَمِ تَتَبع طُرُقِ الحَدِيثِ".
2- ثُم قَالَ فِي (1/7) حَوْلَ الحَدِيثِ نَفْسِهِ؛ رَاداً عَلَى مَنْ أعَلهُ بِالاضْطِرَابِ، قَائِلاً: "وَخُلاَصَةُ الجَوَابِ أن الحَدِيثَ صَحيحٌ إِسْنَادُهُ، وَالاضْطِرَابُ المَزْعُومُ فِيهِ لاَ يَضُر، وَأَن مَتْنَهُ بِلَفْظِ: "قُلتيْن"، وَأما مَا يُخَالِفُهُ؛ فهو إِما شَاذٌّ أوْ ضَعِيف، لا يَنْهَضُ لِمُعَارِضِةِ النص الصحِيحِ".
3- نَاقَشَ فِي (1/5) تَعْلِيلاً مِنَ المؤَلفِ لِحَدِيثِ: "المَاءُ طَهُور ... "، ثم قَالَ: "فَالعِلةُ مَا ذَكَرنا مِنْ الجَهَالَةِ، لا مَا أرَادَ أنْ يُصَورَهُ الشارحُ مِنَ الاخْتِلاَفِ".
ْ4- تَعَقبَ فِي (1/13) عَزْوَ المصَنفِ حَدِيثاً لِلبَيْهَقِيٌ؛ قَائِلاً: "لَقَدْ أبْعَدَ المصَنفُ النجْعَةَ، فَالحَدِيثُ رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه -أيْضاً-، وإسنادُهُ صَحِيحٌ، -كَمَا بَينْتُهُ فِي "صَحِيحِ السنن" (رَقْمِ 408) -".
5- تَعَقبَ فِي (1/14) تَعْلِيلَ المصَنفِ النهْيَ عَن الصلاَةِ فِي معَاطِن الإبِل، بِأنَهَا: "رُبمَا تُؤْذِي المصَلي"! بِقَوْلِهِ: "هذَا التعْلِيلُ لا أصلَ لَهُ فِي السنةِ..".
6- تَعَقبَ فِي (1/157) عَزْوَ المصَنفِ لحَدِيثِ عَنْ سَمُرَةَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِم"، وَكَشَفَ مَا فِي طَيٌ ذلِكَ مِنْ وَهَم.
7- رَد عَلَى الصَنفِ فِي (1/173) اسْتِدْلاَلَهُ بِحَدِيث عَلَى اتباَع الجَنَازَةِ! بَيْنَما هُوَ فِي الانْصِرَافِ مِنْهَا!(1/14)
8- تَعَقبَ المصَنفَ فِي (1/183) بِنَقْلِهِ عَن الشوْكَانِى نَصّاً، مَعَ تَرْكِهِ جُزْءاً مُهِماً مِنهُ!
رَابِعاً: شَرحُ مُصطَلَحَات حدِيثِية، وَذِكرُ قَوَاعِدَ اصطِلاَحِيةِ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ:
1- شَرح فِي (1/5) مُصطَلَحَ (غَريب) عِنْدَ ابْن الملَقن، قَالَ: "يَعْنِي: لاَ يُعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ؛ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي المقَدمَةِ".
2- قَالَ فِي (1/20) : "وَمَرَاسِيلُ الحَسَن ضَعِيفَة، قَالُوا: إِنهَا كَالرٌيحِ".
3- تكلمَ فِي (1/44) عَنْ قَاعِدَةِ انْجِبَارِ الحَدِيثِ بِكَثْرَةِ طرُقِهِ، مُبَيناً شَرطهَا، وَأنْ لاَ يكُونَ فِيهَا مُتهَم أو مَتْرُوك.
4- وَكذلِكَ أشَارَ فِي (2/21) إِلَى القَاعِدَةِ نَفْسِهَا.
5- أشَارَ فِي (1/161) إِلَى تسَاهُل ابْن حِبانَ فِي تَوْثِيقِهِ المجَاهِيلَ.
6- بَين فِي (1/165) أن الاستِحبابَ حكْمٌ شَرْعِي، لاَ يَثْبُتُ إِلا بِدَلِيل صَحِيح.
7- بَين فِي (2/12) عَدَمَ جَوَازِ رَد الحَدِيثِ بِنِسيَانِ رَاو، مَعَ حِفْظِ آخَرَ لَهُ.
خَامِساً: تَصحِيحُ الأَخْطَاءِ المَطبَعِيةِ وَالسقطِ؛ وَمِن أَمْثِلَتِهِ:
1- قَالَ فِي (1/4) تَعْلِيقاً عَلَى قَولِ المؤَلفِ: (طَالِبُ الحَقٌ الصادِقِ) : "لَعَلهُ: لِلحَقٌ صَادِقٌ".(1/15)
2- قَالَ فِي (1/10) : "وَلَعَلهُ سَقَطَ مِنْهُ قَوْلُهُ: "كَوْنِهِ سَاكِناً" كَمَا يَدُل عَلَيْهِ السياقُ وَالسباقُ".
3- بَينَ فِي (1/259) خَطَأ فِي النقْل عَن الترْمِذِيٌ تَحْسِينَ حَدِيث، مُشِيراً إِلَى أن ذلِكَ تَحْريف؛ مِنَ الناسخِ، أوِ الطَابعِ!!
سَادِساً: الشرحُ، وَالبَيَانُ، وَالتَعْرِيفُ، ومِنْ أمْثِلَتِهِ:
1- قَالَ فِي (1/43) تَعقِيباً عَلَى قَوْلِ المصَنفِ -فِي شَرح حَدِيثِ "إِنَمَا الأعْمَالُ بِالنياتِ"-: "فَإنْ كَانَ المقَدرُ عَاماً" ما لفظُهُ: "أيْ: لاَ عَمَلَ إِلا بِالنيةِ، وَلَما كَانَ هذَا مَتْروكَ الظاهِر -لأن الذوَاتِ غَيْر مُنْتَفِيَةِ- قَيدَهُ الشارعُ بِالعَمَل الشرْعِيٌ، وإنْ كَانَ خَاصّاً بِالأعْمَالِ -الأعْمَالِ الصالِحَةِ- كَمَا يَدُل عَلَيْهِ سِيَاقُ الحَدِيثِ".
2- نَاقَش (1/64) مَسْألَةَ صِفَةِ الحَيْض وَحَقِيقَتِهِ، رَاداً عَلَى المُصَنفِ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ الصُّفْرَةَ وَالكُدْرَةَ.
3- قَالَ فِي (1/148) تعْلِيقاً عَلَى قَوْلِهِ "ليْلَةُ الهَرِيرِ": "بِفَتحِ الهَاءِ"، ثَم شرَحَهَا، وَذَكَرَ تَعْريفَهَا نَقْلاً عَن النَوَوِي في "تَهْذِيبِ الأسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ".
4- عَرف فِي (1/150) الفَرْسَخَ، وَالبَريدَ.
5- أفَادَ فِي (1/178) أن الأصْوَبَ فِي بِنَاءِ القَبْر تَسْنِيمُهُ، دُونَ تسطيحه.
6- فَرق فِي (1/253) بَيْنَ سَدْلِ المحرمَةِ عَلَى وَجْهِهَا -فَأجَازَهُ-،(1/16)
وَبَيْنَ تَنَقبِهَا -فَمَنَعَهُ-.
7- ثَبتَ فِي (1/254) القَوْلَ بِالإجِمَاع عَلَى إِفْسَادِ الحَجٌ بِالجِمَاع.
سَابِعاً: الاخْتِيَارُ وَالترْجِيحُ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ:
1- قَالَ فِي (1/18) تَعْقِيباً عَلَى كَلاَمِ المصَنفِ حَوْلَ (النجَاسَاتِ) :
"كَانَ اللائِقُ ذِكْرَ المذْي فِي النجَاسَاتِ المَنْصُوص عَلَيْهَا؛ لِوُرُودِ الأَمْر بِغَسلِهِ؛ كَمَا يُشِيرُ المؤَلفُ نَفْسُهُ إِلَى ذلِكَ".
2- نَقَدَ فِي (1/18) نَقْلَ القُرْطُبِي القَوْلَ بِالاتفَاقِ عَلَى نَجَاسَةِ الدمِ؛ مرَجحاً خِلاَفَهُ.
3- أفَاضَ فِي (1/60) فِي تَرْجِيحِ عَدَمِ مَشْرُوعِيةِ المسْحِ عَلَى الجَبِيرَةِ، مُنَاقِشاً الدلاَئِلَ وَالمسَائِلَ.
4- رَجحَ فِي (1/99) "أن السُّنةَ الوَضع عَلَى الصَدْرِ"، وَبَينَ أن مَا يُخَالِفُهُ: "ضَعِيف بِاتفَاقِ المحَدثِينَ؛ فَلاَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ".
5- رَجحَ فِي (1/156) وَجُوبَ صَلاَةِ الكسُوفِ.
6- رَد فِي (1/180) عَلَى مَنْ مَنَعَ اتباعَ النسَاءِ لِلجَنَائِز، مُبَيناً أنهُ - صلى الله عليه وسلم - مَنَعَهُن دُونَ عَزْم عَلَيْهِن.
... وَغَيْرُ هذَا وَذَاكَ -كَثِير- مِنْ مَبَاحِثَ شَرْعِيةِ، وَنَقَدَاتِ عِلمِيةِ؛ تُفِيدُ البَاحِثِينَ، وَتَنْفَعُ الراغِبِينَ.(1/17)
فَجَزَى اللهُ -سُبحَانَهُ- خَيْراً: شَيْخَنَا؛ عَلَى مَا قَدمَ -وَيُقَدمُ- مِنْ أعمَال عِلمِية فِقْهِية حَدِيثِة؛ لهَا أثَرُهَا فِي الأمةِ، وَتَأصِيلِ بِنَائِهَا.(1/18)
ترجمة العلامة صدِّيق حسن خان
جرى المصنف -رحمه الله- على أن يترجم لنفسه في خواتيم بعض كتبه الهامة، مثل: "أبجد العلوم" (3/271) ، و "التاج المكلل" (541) ، و"إتحاف النبلاء" (263) ، وفعل مثل ذلك في خاتمة كتابه "الحِطة في ذكر الصحاح الستة" المطبوع -بتحقيقي- (ص 471-485) .
وهو إذ يترجم لنفسه يتوسع في ذلك ويُفيض؛ فيذكر مولده، ونشأته، وأخذه عن العلماء، ورحلاته، وأعماله، ومؤلفاته.
بيد أنه لا مناص في هذه المقدمة من إيراد ترجمة وجيزة مختصرةِ له، تضعُ بين يدي القارىء نبذة من حياتهِ -رحمه الله-، فأقول:
* هو أبو الطيب، صديق حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القِنوجي، نزيل بهوبال - الهند.
* كان مولده في التاسع عشر من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومئتين وألف من الهجرة النبوية، ببلدة "بريلي" موطن جده لأمه، ثم انتقلت أسرته إلى بلدة "قِنوج" موطن آبائه، ولما بلغ السادسة من عمره انتقل والده إلى رحمة الله -تعالى-، وبقي في حِجر أمه يتيماً، ونشأ عفيفاً، طاهراً، محباً للعلم والعلماء.
* سافر إلى "دِهْلِي" ليتم تعليمه فيها، واجتهد في إتقان معارف القرآن(1/19)
والسنة وتدوين علومِهما، وكانت له رغبة في اقتناء الكتب، وفهم زائد في قراءتها، وتحصيل فوائدها، وبخاصّةِ كتب التفسير والحديث والأصول، ثم سافر إلى "بهوبال" طلباً للمعيشة، فتزوج ملكتها، وفاز بثروة وافرة.
* شيوخه عدة: منهم الشيخ محمد يعقوب أخو الشيخ محمد إسحاق حفيد الشيخ عبد العزيز الدهلوي المحدث، ومنهم الشيخ القاضي حسين بن محسن السبيْعي الأنصاري، والشيخ عبد الحق بن فضل الهندي (1) .
* كان له في التأليف مَلكةٌ عجيبة، بحيث يكتب عدة كراريس في يوم واحد، ويصنف الكتب الفخمة في أيام قليلة، وقد شاعت كتبه وانتشرت في أقطار العالم الإسلامي، وكتب له كثير من العلماء رسائل فيها الثناء على كتبه والدعاء له، وعُد من رجال النهضة الإسلامية المجدّدين.
* ترجمه الجمُّ الغفير من المصنفين؛ فله ترجمة في: "طبقات الأصوليين" (3/160) ، و"مشاهير علماء نجد" (541-457) ، و"حلية البشر" (2/
__________
(1) وقد أكثر المصنفُ -رحمه الله- في كتبه من إطلاق كلمة "شيخنا" عند ذكر الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى-، فهذا يشعر أنه قد تتلمذ له، أو أجيز منه! وقال الكتاني في "فهرس الفهارس" (2/1055) : "ما يوجد في كتبه -يعني القِنوجي- من قوله في القاضي الشوكاني: شيخنا؛ فتجوز أو تدليس، وكيف يمكنه الأخذ عن الشوكاني وهو في قطر، والآخر في غيره؟! إلا أن يكون أجاز لأهل عصره! ولا نتحققه ... ".
قلت: هو تجوُّز يدللُ المصنف فيه على احترامه وإكباره للشوكاني، وليس بتدليس؛ بديل أنه -رحمه الله- يقول أحياناً عنه: شيخ شيوخنا، ولقد قال المصنف -رحمه الله تعالى- في "أبجد العلوم" (3/194) : "وقد أتحفني شيخي عبد الحق الهندي بكتاب شيخه الشوكاني "إتحاف الإكابر بإسناد الدفاتر"، ولي أسانيد أخرى إلى الشوكاني.. ولله الحمد والمنة".
ومثل هذا -تماماً- ما هو مذكور في مقدمته على هذا الكتاب الذي بين أيدينا؛ فانظر (ص 80) منه.
قلت: وانظر كلمة الأستاذ إبراهيم إبراهيم هلال في كتاب "قطر الولي" (ص 33) ، ومقدمة الأستاذ محمد إسماعيل السلفي لكتاب "شرف أصحاب الحديث" (ص 10) طبع جمعية أهل الحديث - باكستان.(1/20)
746) ، و "أنموذج الأعمال الخيرية" (388) ، و "الأعلام" (6/167) ، و"نزهة الخواطر"، (8/187) و"جلاء العينين" (30) ، و "معجم المؤلفين " (10/90) ، و"هدية العارفين" (2/388) ، و "معجم المطبوعات" (1201) ، و"فهرس الفهارس" (2/1055) ، و"إيضاح المكنون" (1/10) ، و"تاريخ آداب اللغة العربية" (2/96) ، و"المنْجِد" (421) ، و"عثرات المنْجِد" (317) ، و "التعليقات الظراف على الإتحاف" (34) ، و"حركة التأليف باللغة العربية ... " (274) ، و "اكتفاء القنوع" (497) و"تاريخ الأدب العربي" (2/859 - الملحق) ، و"الثقافة الإسلامية في الهند" (141) ، و"كشف الظنون عن كشف الظنون" (ص 3) ، و " مجلة الحج " (11/636) ، و"مجلة الجامعة الإسلامية" (12/47) .
ولسليم فارس الشدْياق كتاب في ترجمته وذكر المثْنِين عليه، اسمه "قرة الأعيان ومسرة الأذهان".
ولابنه علي حسن في سيرته كتاب سماه "مآثر صِديقي"، وآخر سماه " الروض البسام ".
"وترجمه بعضُ العلماء بكتاب اسمه "قَطر الصَّيِّب في ترجمة الإمام أبي الطيب".
وترجم هو لِنَفْسهِ بكتاب سماه "إبقاء المِنن".
وللأستاذ أختر جمال لُقمان رسالة جامعية عن "عقيدة صديق حسن خان"، وهي مطبوعةٌ.
* توفي -رحمه الله تعالى- سنة ألف وثلاث مئة وسبع هجرية، الموافق لسنة ألف وثمان مئة وتسع وثمانين ميلادية، فتكون مدة حياته تسعاً وخمسين(1/21)
سنة قمرية، وسبعاً وخمسين سنة شمسية -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-.
* بين المتَعاصِرَين:
في الفترة التي عاش فيها العلامةُ الشيخ صديق حسن خان؛ كان هناك عالم كبير لا يقل عنه علماً، ولا ينقص عنه قدراً، وهو العلامة الشيخ عبد الحي اللكنوي -رحمه الله تعالى-، وجرت -على عادة الأقران- بينهما مباحثات علمية، وردود فقهية، وألف كل واحد في الرد على صاحبه كتباً ورسائل، إما تلميحاً أو تصريحاً.
وكانت الحملة موجهة من قِبَل الشيخ اللكنوي أكثر منها من ناحية القِنوجي؛ فلقد أكثر الأول في مَثَاني تصانيفه، وتعليقاتهِ عليها من قوله: "وقال غير ملتزم الصحة من أفاضل عصرنا"! مشيراً بذلك إلى العلامة القِنوجي!!
وبلغت هذه الردود في لحظة من اللحظات أوْجَ الشدةِ، حتى قال الشيخ عبد الحي الحسني -رحمه الله- واصفاً تلك الردود والمباحثات -في كتابه المستطاب "نزهة الخواطر" (8/236) -: ".... وانجرَّ إلى ما تأباه الفطرة السليمة ... "!
وكان الشيخ اللكنوي حريصاً الحرص كله على متابعة هذه الردود، وَعَدم انقطاعها إلا لصالحه! بدليل ما قاله العلامة عبد الحي الحسني -رحمه الله- في كتابه "الثقافة الإسلامية في الهند" (ص 86) أثناء تعداده أسماء مصنفات اللكنوي، فقال: " ... و"إبراز الغيّ الواقع في شفاء العي"، و"تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد" -كلها بالعربية- للشيخ عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي المذكور، أما "شفاء العي عمّا أورده الشيخ عبد الحي"؛ فهو لبعض العلماء، صنفه في الرد على تعقبات الشيخ عبد الحي المذكور في مصنفاته على السيد(1/22)
صديق حسن خان القِنّوجي في الوفيات، فأجاب عنه الشيخ عبد الحي في "إبراز الغي"، فرد عليه بعضهم في رسالة مستقلة سماها "تبصرة الناقد برد كيد الحاسد"، فأجاب عنه الشيخ عبد الحي في "تذكرة الراشد ... ". (1)
قلت: ولعل مرجع هذا كله إلى سببين:
الأول: اعتداد اللكنوي بنفسه، واعتقاده أنه يختلف عن علماء عصره، كما قال هو نفسه في "ظَفَر الأماني" (2) (ص 245) : " ... وإني أحمد الله حمداً متوالياً، وأشكره شكراً متتالياً على أن وفقني للتوسط في جميع المباحث الفقهية والحديثية، ورزقني نظراً وسيعاً، وفهماً رفيعاً، أقتدر به على الترجيح فيما بين أقوالهم المتفرقة، ونجاني من بلية تقليد المتشددين المتساهلين تقليداً جامداً، واختيار قول إحدى الطائفتين من دون تبصر وتفكر اختياراً كاسداً، لا أقول هذا تكبراً وفخراً! بل متحدثاً بنعمة الرب وشكراً، ولربي عَلي مِنَنْ مختصة، لا أقدر على عدها، ونِعَمٌ مُتكَثرة لا يمكن مني حصرها، فشكري هو العجز عن أداء شكرها، وأرجو من ربي دوامها وذُخرَها" (3) .
الثاني: جِبِلة القنوجي وطبيعة خِلْقته؛ فقد كان -رحمه الله- كما وصفه معاصروه "حلو المنطق، مُقِلاً من الكلام، غير جاف ولا عبوس، كثير الحِلم، قليل الغضب، عفيف اللسان، لا يقترح لنفسه شيئاً، مشغول الفكر بالمطالعة
__________
(1) علق الكتاني على هذه الردود في "فهرس الفهارس" (2/1057) بقوله: "وكل منهما لا يخلو تصنيفه ورده وجوابه من فوائد، جزاهما الله خيراً".
(2) وقد طُبع حديثاً طبعتين!
(3) وانظر "نزهة الخواطر" (8/236) ، و"الفوائد البهية" (116) .(1/23)
والتأليف ... منصفاً، يعرف لأقرانه ولكثير مِمن يخالفه فضلهم ... " (1) .
قلت: ودليل على هذا قول ولده الفاضل السيد علي حسن خان واصفاً حالة والده عند موت اللكنوي -رحمة الله عليه-: "إنه لما بلغه نَعِي العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي؛ وضع يده على جبهته، وأطرق رأسه برهة، ثم رفع رأسه، وعيناه تدمعان، وهو يدعو للشيخ ويترحم، وقال: اليوم غربت شمس العلم، وقال: إن اختلافنا كان مقصوراً على تحقيق بعض المسائل، ولم يأكل طعاماً في تلك الليلة ... " (2) .
والخلاصة أنّ: "كلام النظير والأقران ينبغي أن يُتأمل، ويُتأنى فيه ... "، كما قال الحافظ الذهبي (3) -رحمه الله-.
* المنهج التأليفي عند المصنف:
اختلفت أنظار أهل العلم وطلبته في مصنفات العلامة القِنوجي؛ فمنهم مَن قال: إنه لخصها من بعض مصنفات السابقين ولم يزد عليها شيئاً يُذكر! ومنهم من قال: إن سائره من إبداعه، وتصنيفه، وتأليفه!!
ورحم الله العلامةَ الكتاني القائل في كتابهِ "فهرس الفهارس"
(2/1057) رداً على مثل ذلك الادّعاء: "وما لبعض المسيحيين (4) في كتاب له اسمُهُ "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع" من أن المترجم -وهو القِنوجي- كان عاميّاً
__________
(1) "نزهة الخواطر" (8/193) .
وانظر كلام ابنه في ذلك، كما أورده صاحب "فهرس الفهارس" (2/1058) .
(2) المصدر السابق.
(3) "ميزان الاعتدال" ترجمة رقم (2000) .
(4) والأفضلُ لو قال: (النصارى) !! والمذكورُ اسمُهُ: إدوارد فنديك، وكتابه مطبوع في مصر سنة (1896 م) ، وانظر (ص 497) منه.(1/24)
وتزوج بملكة بَهُوبال، فعندما اعتزّ بالمال جمع إليه العلماء! وأرسل يبتاع الكتب بخط اليد! وكلّف العلماء بوضع المؤلفات ثم نسبها لنفسه! بل كان يختار الكتب القديمة العديمة الوجود (!) وينسبها لنفسه ... إلخ!! فكلام أعدائه فيه، وإلا فالتآليف تآليفه، ونَفَسُهُ فيها مُتحِدٌ ... ".
قلت: فهذه الدعوى مجازفةٌ واضحةٌ، وفِرْيةٌ عريضةٌ من فنديك المذكور، والصواب ما قاله الكتّاني -رحمه الله تعالى-، وإن كانت السمةُ البارزةُ على مصنفاته -رحمه الله- التلخيص والتهذيب، والزيادة والترتيب، والجمع والتبويب، وهو بذلك مشابهٌ لإمام كبير من أئمة العلم، وهو الحافظ السيوطي (1) المتوفى سنة (911 هـ) ؛ فقد عُرف عنه المنهج نفسه، وهو منهج يدل على استبحار في العلوم، ونظر في الكتب والفنون، وليس أمراً سهلاً هيناً كما يظنه بعض المنتسبين العلم!
ومِما يُنَبهُ عليه -في هذا المقام- أن الادعاءَ على أهل العلم -أو بعض منهم- بالانتحالِ! والسرقاتِ العلمية (!) شَأن قديمٌ لم يَنْجُ الأكابر -فيه- من كَيْد الأصاغر!! ثم (تجدد) هذا النمَطُ من التُّهَم -هذه الأيامَ- حتّى ألِّفت فيه مؤلفات! وَوُزعت مِن أجلهِ بيانات!! خِدْمة لأهداف مخالفة لمنهج الأسلاف!!!
وترى شيئاً من تفصيل القولِ في هذه المسألةِ (الخطيرة) في كتاب "الفارق بين المصنّف والسارق" للعلامة السيوطي -ومقدمتي عليه-؛ وهو مطبوع -منذ سنوات- بتحقيقي ...
وأخيراً؛ رحم اللهُ العلامة صِديق حَسَن خان، وجَمعنا -وإيّاه- في جنتهِ، إنّه -سبحانه- وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
__________
(1) انظر ترجمته في مقدَمة تحقيقي لـ "المصابيح في صلاة التراويح"، وهي مطبوعة في دار عمار للنشر والتوزيع، الأردن - عمان.(1/25)
"الدُّرَرُ البهِيةُ" تَعْرِيف وبَيَانٌ
* هُوَ مَتْنٌ فِقْهِي مُختصَرٌ؛ اسْمُهُ: "الدُّرَرُ البَهِية فِي المَسَائِل الفِقهِية" (1) ؛ جَمَعَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ -وَهُوَ الإِمَامُ مُحَمدُ بْنُ عَلَيٍّ الشوْكَانِي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عُيُونَ مَسَائِل الفِقْهِ التِي رَجَحَ دَلِيلُهَا، وَثَبَتَتْ حُجتهَا.
* وَهذَا المتْنُ -عَلَى صِغَرِهِ وَوَجَازَتِهِ- مُحتَو عَلَى أبَوَابِ الفِقْهِ جمِيعِهَا؛ بِعِبَارَة جَامِعَة، وَألفَاظِ بَدِيعَةِ رَائِعَة.
* وَقَدْ شَرَحَهُ -وَاعْتَنَى بِهِ- غَيْرُ وَاحِدِ مِنْ أهْل العِلْمِ؛ مِنْهُمْ:
1- مُؤَلفُهُ نَفْسُهُ؛ بِكِتَابِ اسْمُهُ: "الدرَارِي المضِية شَرْحُ الدررِ البَهِية"، وَهُو مَطبُوعٌ مِرَاراً.
2- وَلَدُ مُؤَلفِهِ، وَهُوَ أحمَدُ بْنُ مَحَمدِ بْن عَلَيِّ الشوْكَانِيُّ -وَقَدْ تُوُفيَ سَنَةَ (1281 هـ) -، بِكِتَاب اسْمُهُ: "السُّمُوطُ الذهَبِية الحَاوِيَةُ لِلدُّرَرِ البَهِية"، وَهُوَ مَطبُوع.
3- صِديق حَسَن خَان، فِي كِتَابِهِ: "الروضَةِ الندِيةِ" (2) -وَهُوَ كِتَابُنَا هذَا-.
__________
(1) وقد رأينا -بعد تأمل- إثباتَ متن "الدرر البهية" -تاماً- بعد هذه المقدمات؛ تسهيلاً للمطالعة، وتيسيراً للمراجعة.
(2) وللشيخ جمال الدين القاسمي -رحمه الله- حواش علمية عليه. انتهى منها بتاريخ 11 شعبان سنة 1328 هـ.
كما في كتاب "جمال الدين القاسمي وعصره" (ص 670)(1/27)
4- مُحَمد صُبْحِي حَسَن حَلاق -مُعاصر-، بِكِتَابِ اسْمُهُ: "الأدِلةُ الرضية لِمَتْن الدُّرَرِ البَهِية"، وَهُوَ مَطبُوع.
5- سَعْد الدين بن محمد الكُبي -معاصر-؛ بكتابِ اسمُهُ: "التعليقات الزهية على الدُّرر البهية"، وهو مطبوع.
6- وَهُنَاكَ نَظم لِـ "الدُّرَرِ البَهِيةِ" بقلم (عَلِي بْن مُحَمدِ بْن عَقِيل الحَازِمِيٌ) المُتَوَفى سَنَةَ (1252 هـ) ، كَمَا فِي "نَيْل الوَطَرِ" (2/160) .
7- وَنَظمٌ آخَر مَبْنِي عَلَى "الدررِ" لـ (عَلَيٌ بن عَبْدِ الله الإِرْيَانِي) المتَوَفى سَنَةَ (1323 هـ) ، كَمَا فِي كِتَابِ "هِجَر العِلْمِ وَمَعَاقِلِهِ فِي اليَمَن" (1/69) .
* وَلَيْسَتْ هذِهِ العِنَايَةُ مِنْ أهْل العِلمِ -هَؤُلاَءِ- إِلا مِنْ أجْل مكَانَتِهِ وَمَتَانَتِهِ.
فَرَحِمَ اللهُ مُؤَلفَهُ، وَأعْلَى مَقَامَهُ فِي الدارَيْن؛ بِمَنِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وَكَرَمِهِ.(1/28)
صورة غلاف النسخة المعتمدة في التحقيق وظاهر فيها خطوط شيخنا الألباني ومن ذلك عنوان كتابه(1/29)
صورة نموذج من تعليقات شيخنا الألباني على الجزء الأول من "الروضة الندية"(1/30)
صورة نموذج من التعليقات (الكبيرة) التي أثبتها شيخنا الألباني في نسخته(1/31)
متن "الدرر البهية في المسائل الفقهية"(1/35)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدُ مَن أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين.
(1 - كتاب الطهارة)
(1 - باب)
هذا الكتاب قد اشتمل على مسائل:
الأولى: الماء طاهر مطهِّر، لا يُخرجه عن الوصفيْن إلا ما غيَّر ريحه، أو لونه، أو طعمه من النجاسات، وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيِّرات الطاهرة، ولا فرق بين قليل وكثير، وما فوق القُلَّتين وما دونهما، ومتحرك وساكن، ومستعمَل وغير مستعمَل.
(2 - باب النجاسات)
فصل:
والنجاسات هي غائط الإنسان مُطْلقاً، وبوله - إلا الذكر الرضيع -، ولُعاب كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل الطهارة؛ فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يُعارضه ما يساويه أو يقدم عليه.
فصل:
ويطهر ما يتنجَّس بغسله، حتى لا يبقى لها عين، ولا لون، ولا ريح،(1/37)
ولا طعم، والنعل بالمسح، والاستحالة مطهِّرة لعدم وجود الوصف المحكوم عليه، وما لا يمكن غسله فبالصَّبِّ عليه أو النزح منه؛ حتى لا يبقى للنجاسة أثر.
والماء هو الأصل في التطهير؛ فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع.
(3 - باب قضاء الحاجة)
على المُتخلِّي الاستتار حتى يدنو من الأرض، والبُعد أو دخول الكنيف، وترْك الكلام، والمُلابسة لما له حُرمة، وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شَرْع أو عُرْف، وعدم الاستقبال، والاستدبار للقبلة، وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة، أو ما يقوم مقامها، ويُندب الاستعاذة عند الشُّروع، والاستغفار والحمد بعد الفراغ.
(4 - باب الوضوء)
يجب على كل مكلَّف أن يُسمِّي إذا ذَكَرَ، ويتمضمض ويستنشق، ثم يغسل جميع وجهه، ثم يديه مع مرفقيه، ثم يمسح رأسه مع أذنيه، ويجزئ مسح بعضه، والمسح على العِمامة، ثم يغسل رجليه مع الكعبين، وله المسح على الخفين.
ولا يكون وضوءاً شرعيّاً إلا بالنية لاستباحة الصلاة.
فصل:
يُستحبّ التَّثليث في غير الرأس، وإطالة الغُرّة والتّحْجيل، وتقديم السِّواك، وغسل اليدين إلى الرسغين - ثلاثاً - قبل الشُّروع في غسل الأعضاء المتقدمة.(1/38)
فصل:
وينتقض الوضوء من الفرجين من عين أو ريح، وبما يوجب الغسل، ونوم المضطجع، وأكل لحم الإبل، والقيء، ونحوه، ومس الذكر.
(5 - باب الغسل)
يجب بخروج المنيّ بشهوة - ولو بتفكر -، وبالتقاء الختانين، وبانقطاع الحيض والنفاس، وبالاحتلام - مع وجود بلل -، وبالموت، وبالإسلام.
فصل:
والغسل الواجب هو: أن يُفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه، مع المضمضة والاستنشاق، والدَّلك لما يُمكن دلكه، ولا يكون شرعيا إلا بالنية لرفع موجبه، ونُدب تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين، ثم التيامن.
فصل:
ويشرع لصلاة الجمعة، والعيدين، ولمن غسّل ميتاً، وللإحرام، ولدخول مكة.
(6 - باب التيمم)
يُستباح به ما يُستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء، أو خشي الضرّر من استعماله، وأعضاؤه: الوجه ثم الكفّان، يمسحهما مرّة بضربة(1/39)
واحدة، ناوياً مُسمياً، ونواقضه نواقض الوضوء.
(7 - باب الحيض)
لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطُّهر، فذات العادة المتقرِّرة تعمل عليها، وغيرها ترجع إلى القرائن، فدم الحيض يتميز من غيره، فتكون حائضاً إذا رأت دم الحيض، ومستحاضة إذا رأت غيره، وهي كالطاهرة، وتغسل أثر الدم، وتتوضأ لكل صلاة، والحائض لا تصلي، ولا تصوم، ولا تُوطأ؛ حتى تغتسل بعد الطهر، وتقضي الصيام.
فصل:
والنفاس أكثره أربعون يوماً، ولا حدّ لأقله، وهو كالحيض.
(2 - كتاب الصلاة)
(1 - باب مواقيت الصلاة)
أول وقت الظهر الزوال، وآخره مصير ظل الشيء مثله - سوى فيء الزوال -، وهو أول وقت العصر، وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية، وأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخره ذهاب الشفق الأحمر، وهو أول العشاء، وآخره نصف الليل، وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر، وآخره طلوع الشمس، ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتُها حين يذكرها، ومن كان معذوراً وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، والتوقيت واجب، والجمع لعذر جائز، والمتيمم وناقص الصلاة - أو الطهارة - يصلون كغيرهم من غير تأخير، وأوقات الكراهة - في غير مكة -: بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال - في غير يوم الجمعة -، وبعد العصر حتى تغرب.(1/40)
(2 - باب الأذان)
يُشرع لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذنا؛ يُنادي بألفاظ الأذان المشروعة عند دخول وقت الصلاة، ويُشرع للسامع أن يتابع المؤذن، ثم تُشرع الإقامة على الصفة الواردة.
(3 - باب شروط الصلاة)
ويجب على المصلي تطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسة، وستر عورته؛ ولا يشتمل الصَّمَّاء، ولا يَسدل، ولا يُسبل، ولا يَكفت، ولا يصلي في ثوب حرير، ولا ثوب شهرة، ولا مغصوب، وعليه استقبال عين الكعبة - إن كان مُشاهداً لها أو في حكم المشاهد -، وغير المشاهد يستقبل الجهة بعد التحري.
(4 - باب كيفية الصلاة)
لا تكون شرعية إلا بالنية، وأركانها كلها مفترضة؛ إلا قعود التشهد الأوسط والاستراحة، ولا يجب من أذكارها إلا التكبير؛ والفاتحة في كل ركعة - ولو كان مؤتمّاً -، والتشهد الأخير، والتسليم، وما عدا ذلك فسنن، وهي: الرفع في المواضع الأربعة، والضم، والتوجه بعد التكبيرة، والتعوذ، والتأمين، وقراءة غير الفاتحة معها، والتشهد الأوسط، والأذكار الواردة في كل ركن، والاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة؛ بما ورد وبما لم يرد.
(5 - باب متى تبطل الصلاة؟ وعمن تسقط؟)
فصل:
وتبطل الصلاة بالكلام، وبالاشتغال بما ليس منها، وبترك شرط أو ركن عمداً.(1/41)
فصل:
ولا تجب على غير مُكلَّف، وتسقط عمن عجز عن الإشارة، وعمن أُغمي عليه حتى خرج وقتها، ويصلي المريض قائماً، ثم قاعداً، ثم على جَنْب.
(6 - باب صلاة التطوع)
هي أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، وصلاة الضحى، وصلاة الليل - وأكثرها ثلاث عشرة ركعة؛ يُوْتر في آخرها بركعة -، وتحية المسجد، والاستخارة، وركعتان بين كل أذان وإقامة.
(7 - باب صلاة الجماعة)
هي من آكد السنن؛ وتنعقد باثنين، وإذا كثر الجمع؛ كان الثواب أكثر، وتصح بعد المفضول، والأوْلى أن يكون الإمام من الخِيار، ويؤم الرجل بالنساء - لا العكس -، والمفترض بالمُتنفِّل - والعكس -، وتجب المتابعة في غير مبطل، ولا يؤم الرجل قوماً هم له كارهون، ويصلي بهم صلاة أخفهم، ويُقدَّم السلطان، ورب المنزل، والأقرأ، ثم الأعلم، ثم الأسن، وإذا اختلَّت صلاة الإمام؛ كان ذلك عليه لا على المؤتمِّين به، وموقفهم خلفه؛ إلا الواحد فعن يمينه، وإمامة النساء وسط الصف، وتقدم صفوف الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء، والأحق بالصف الأول أولو الأحلام والنُّهَى، وعلى الجماعة أن يُسوَوُّا صفوفهم، وأن يسدوا الخَلل، وأن يُتموا الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم(1/42)
كذلك.
(باب سجود السهو)
وهو سجدتان قبل التسليم أو بعده؛ وبإحرام، وتشهد، وتحليل، ويُشرع لترك مسنون، وللزيادة - ولو ركعة - سهواً، وللشك في العدد، وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم.
(باب القضاء للفوائت)
إن كان الترك عمداً لا لعذر؛ فدَيْن الله - تعالى - أحق أن يُقضى، وإن كان بعذر، فليس بقضاء؛ بل أداء في وقت زوال العذر؛ إلا صلاة العيد؛ ففي ثانيه.
(باب صلاة الجمعة)
تجب على كل مُكلَّف؛ إلا المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض، وهي كسائر الصلوات؛ لا تُخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبلها، ووقتها وقت الظهر، وعلى من حضرها أن لا يتخطّى رقاب الناس، وأن يُنصت حال الخطبتين، ونُدِب له التَّبْكير، والتطيب، والتجمل، والدنو من الإمام، ومن أدرك ركعة منها؛ فقد أدركها، وهي في يوم العيد رخصة.
(باب صلاة العيدين)
هي ركعتان؛ في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك، ويخطب بعدها، ويستحب التجمل، والخروج إلى خارج البلد،(1/43)
ومخالفة الطريق، والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى، ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، ولا أذان فيها ولا إقامة.
(باب صلاة الخوف)
قد صلاّها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على صفات مختلفة؛ وكلها مجزئة، وإذا اشتد الخوف والتحم القتال؛ صلاّها الرّاجل والرّاكب - ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء -.
(باب صلاة السفر)
يجب القصر على من خرج من بلده قاصداً للسفر؛ وإن كان دون بريد، وإذا أقام ببلد مترددا؛ قصر إلى عشرين يوماً، وإذا عزم على إقامة أربع؛ أتم بعدها، وله الجمع تقديماً وتأخيراً؛ بأذان وإقامتين.
(باب صلاة الكسوفين)
وهي سُنّة، وأصح ما ورد في صفتها ركعتان؛ وفي كل ركعة ركوعان، وورد ثلاثة، وأربعة، وخمسة، يقرأ بين كل ركوعين، وورد في كل ركعة ركوع، وندب الدعاء، والتكبير، والتصدق، والاستغفار.
(باب صلاة الاستسقاء)
تُسنّ عند الجدْب ركعتان؛ بعدهما خُطبة؛ تتضمن الذِّكْر، والترغيب في الطاعة، والزّجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار، والدعاء برفع الجدْب، ويُحوِّلون - جميعاً - أرديتهم.(1/44)
(3 - كتاب الجنائز)
من السُّنَّة عيادة المريض، وتلقين المحتضر الشهادتين، وتوجيهه وتغميضه إذا مات، وقراءة (يس) عليه، والمبادرة بتجهيزه - إلا لتجويز حياته -، والقضاء لدَيْنه، وتسْجِيَته، ويجوز تقبيله، وعلى المريض أن يُحسن الظن بربه، ويتوب إليه، ويتخلص عن كل ما عليه.
فصل:
ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء، والقريب أولى بالقريب؛ إذا كان من جنسه، وأحد الزوجين بالآخر، ويكون الغسل ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر؛ بماء وسدر؛ وفي الآخرة كافور، وتُقدَّم الميامن، ولا يُغسَّل الشهيد.
فصل:
يجب تكفينه بما يستره - ولو لم يملك غيره -، ولا بأس بالزيادة - مع التمكن - من غير مغالاة، ويُكفَّن الشهيد في ثيابه التي قُتل فيها، وندب تطييب بدن الميت وكفنه.
فصل:
وتجب الصلاة على الميت، ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة، ويُكبِّر أربعاً أو خمساً، ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة، ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة، ولا يصلَّى على الغالِّ، وقاتل نفسه، والكافر، والشهيد، ويُصلَّى على القبر، وعلى الغائب.(1/45)
فصل:
ويكون المشي بالجنازة سريعاً، والمشي معها، والحمل لها سُنّة، والمتقدم عليها والمتأخِّر عنها سواء، ويُكره الرُّكوب، ويحرم النعي، والنياحة، واتباعها بنار، وشق الجيب، والدعاء بالويل والثبور، ولا يقعد المتبع لها حتى توضع، والقيام لها منسوخ.
فصل:
ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السِّباع، ولا بأس بالضَّرح، واللحد أوْلى، ويُدخل الميِّت من مؤخِّر القبر، ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلاً، ويستحب حثو التراب - من كل من حضر - ثلاث حثيات، ولا يُرفع القبر زيادةً على شبر.
والزيادة للموتى مشروعة، ويقف الزائر مستقبلاً للقبلة، ويحرم اتخاذ القبور مساجد، وزخرفتها، وتسريجها، والقعود عليها، وسب الأموات.
والتعزية مشروعة، وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت.
(4 - كتاب الزكاة)
تجب في الأموال التي ستأتي؛ إذا كان المالك مُكلَّفاً.
(باب زكاة الحيوان)
إنما تجب منه في النعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.(1/46)
فصل:
إذا بلغت الإبل خمساً؛ ففيها شاة، ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين؛ ففيها ابنة مخاض، أو ابن لبون، وفي ست وأربعين حقة، وفي إحدى وستين جذعة، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقَّتان إلى مئة وعشرين، فإذا زادت؛ ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حِقَّة.
فصل:
ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي أربعين مُسنَّة، ثم كذلك.
فصل:
ويجب في أربعين من الغنم شاة إلى مئة وإحدى وعشرين وفيها شاتان إلى مئتين وواحدة، وفيها ثلاث شياه إلى ثلاث مئة وواحدة، وفيها أربع، ثم في كل مئة شاة.
فصل:
ولا يُجمع بين مُفترق من الأنعام، ولا يُفرَّق بين مجتمع؛ خشية الصدقة.
فصل:
ولا شيء فيما دون الفريضة، ولا في الأوقاص، وما كان من خليطين فيتراجعان بالسَّويَّة، ولا تُؤخذ هَرِمة، ولا ذات عَوار، ولا عيب، ولا صغيرة، ولا أكولة، ولا رُبَّى، ولا ماخض، ولا فحل غنم.(1/47)
(باب زكاة الذهب والفضة)
هي - إذا حال على أحدهما الحوْل - ربع العشر، ونصاب الذهب عشرون ديناراً، ونصاب الفضة مئتا درهم، ولا شيء فيما دون ذلك، ولا زكاة في غيرهما من الجواهر، وأموال التجارة، والمستغلاّت.
(باب زكاة النّبات)
يجب العشر في الحنطة، والشعير، والذرة، والتمر، والزبيب؛ وما كان يُسقى بالمسنيِّ منها؛ ففيه نصف العشر، ونصابها خمسة أوسق، ولا شيء فيما عدا ذلك، كالخضروات وغيرها، ويجب في العسل العشر.
ويجوز تعجيل الزكاة، وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم، ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان - وإن كان جائراً -.
(باب مصارف الزكاة)
هي ثمانية - كما في الآية -، وتحرم على بني هاشم ومواليهم، وعلى الأغنياء، والأقوياء المكتسبين.
(باب صدقة الفطر)
هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد، والوجوب على سيد العبد، ومنفق الصغير، ونحوه، ويكون إخراجها قبل صلاة العيد، ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته؛ فلا فطرة عليه، ومصرفها مصرف الزكاة.(1/48)
(5 - كتاب الخُمس)
يجب فيما يُغنم في القتال، وفي الرِّكاز، ولا يجب فيما عدا ذلك، ومصرفه من قوله - تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} .
(6 - كتاب الصيام)
يجب صيام رمضان لرؤية هلاله من عدل، أو إكمال عدة شعبان، ويصوم ثلاثين يوماً؛ ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها، وإذا رآه أهل بلد؛ لزم سائر البلاد الموافقة، وعلى الصائم النية قبل الفجر.
(باب مبطلات الصيام)
ويبطل بالأكل، والشرب، والجماع، والقيء عمداً، ويحرم الوصال، وعلى من أفطر عمداً كفّارة ككفَّارة الظِّهار، ويُندب تعجيل الفطر وتأخير السحور.
فصل:
يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي، والفطر للمسافر ونحوه رخصة؛ إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال؛ فعزيمة، ومن مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه، والكبير العاجز عن الأداء والقضاء؛ يُكفِّر عن كل يوم بإطعام مسكين، والصائم المتطوع أمير نفسه، لا قضاء عليه ولا كفّارة.
(باب صوم التطوع)
يُستحبّ صيام ست من شوال، وتسع ذي الحجة، ومحرّم، وشعبان،(1/49)
والاثنين والخميس، وأيام البيض، وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم، ويُكره صوم الدهر، وإفراد يوم الجمعة، ويوم السبت، ويحرم صوم العيدين، وأيام التشريق، واستقبال رمضان بيوم أو يومين.
(باب الاعتكاف)
يُشرع - ويصح - في كل وقت في المساجد، وهو في رمضان آكد، سيّما في العشر الأواخر منه، ويستحب الاجتهاد في العمل فيها، وقيام ليالي القدر، ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة.
(7 - كتاب الحج)
يجب على كل مكلَّف مستطيع فوراً، وكذلك العمرة؛ وما زاد فهو نافلة.
فصل:
يجب تعيين نوع الحج بالنية؛ من تمتع أو قِران أو إفراد، والأول أفضلها، ويكون الإحرام من المواقيت المعروفة، ومن كان دونها؛ فمُهَلُّه أهله؛ حتى أهل مكة من مكة.
فصل:
ولا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسّه ورْس، ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس(1/50)
القفازين، وما مسه الورس والزعفران، ولا يتطيب ابتداء، ولا يأخذ من شعره أو بشره إلا لعذر، ولا يرفث، ولا يفسق، ولا يجادل، ولا ينكح، ولا يُنكح، ولا يخطب، ولا يقتل صيداً، ومن قتله؛ فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل، ولا يأكل ما صاده غيره؛ إلا إذا كان الصائد حلالاً ولم يصده لأجله، ولا يعضد من شجر الحرم؛ إلا الإذخر، ويجوز قتل الفواسق الخمس، وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة؛ إلا أن من قطع شجره أو خبطه؛ كان سلبه حلالاً لمن وجده، ويحرم صيد وجٍّ وشجره.
فصل:
وعند قدوم الحاج مكة؛ يطوف للقدوم سبعة أشواط، يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويقبّل الحجر الأسود، أو يستلمه بمحجن ويقبّل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني، ويكفي القارن طواف واحد، وسعي واحد، ويكون حال الطواف متوضئاً ساتر العورة، والحائض تفعل ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوف بالبيت، ويندب الذِّكر حال الطواف بالمأثور، وبعد فراغه يصلي ركعتين في مقام إبراهيم، ثم يعود إلى الركن فيستلمه.
فصل:
ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعياً بالمأثور، وإذا كان متمتّعاً؛ صار بعد السعي حلالاً؛ حتى إذا كان يوم التروية؛ أهلّ بالحج، وتوجه إلى منًى، وصلى بها: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر.(1/51)
فصل:
ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبراً، ويجمع العصرين فيها، ويخطب، ثم يفيض من عرفة بعد الغروب، ويأتي المزدلفة؛ ويجمع فيها بين العشاءين، ثم يبيت بها، ثم يصلي الفجر، ويأتي المشعر؛ فيذكر الله عنده، ويقف به إلى قبل طلوع الشمس، ثم يدفع حتى يأتي بطن محسِّر، ثم يسلك الطريق الوسطى إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات؛ يكبِّر مع كل حصاة - مثل حصى الخذف -، ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس؛ إلا النساء والصبيان؛ فيجوز لهم قبل ذلك، ويحلق رأسه أو يقصِّره، فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي؛ فلا حرج، ثم يرجع إلى منى: فيبيت بها ليالي التشريق، ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات؛ مبتدئاً بالجمرة الدنيا، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، ويُستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم يوم النحر، وفي وسط أيام التشريق، ويطوف الحاج طواف الإفاضة - وهو طواف الزيارة - يوم النحر، وإذا فرغ من أعمال الحج، وأراد الرجوع؛ طاف للوداع وجوبا؛ إلا أنه خُفِّف عن الحائض.
فصل:
والهدي؛ أفضله البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، وتجزئ البدَنَة والبقرة عن سبعة، ويجوز للمُهدي أن يأكل من لحم هديه، ويركب عليه، ويُنْدب له إشعاره وتقليده، ومن بعث بهدي؛ لم يحرُم عليه شيء مما يحرم على المُحرم.(1/52)
(باب العمرة المفردة)
يُحرِم لها من الميقات، ومن كان في مكة؛ خرج إلى الحِلّ، ثم يطوف، ويسعى، ويحلق - أو يقصِّر -، وهي مشروعة في جميع السنة.
(8 - كتاب النكاح)
يُشرع لمن استطاع الباءة، ويجب على من خشي الوقوع في المعصية، والتَّبتُّل غير جائز؛ إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه، وينبغي أن تكون المرأة ودوداً، ولوداً، بكراً، ذات جمال، وحسب، ودين، ومال، وتُخطب الكبيرة إلى نفسها، والمعتبَر حصول الرِّضا منها لمن كان كُفْأ، والصغيرة إلى وليّها، ورضا البكر صُماتها، وتحرم الخطبة في العدة وعلى الخطبة، ويُستحب النظر إلى المخطوبة، ولا نكاح إلا بولي وشاهدين؛ إلا أن يكون عاضلاً، أو غير مسلم؛ ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يُوكِّل لعقد النكاح ولو واحداً.
فصل:
ونكاح المتعة منسوخ، والتحليل حرام، وكذلك الشغار، ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة؛ إلا أن يُحل حراماً، أو يُحرِّم حلالاً.
(باب المحرمات في النكاح)
ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة؛ والعكس، ومن صرّح القرآن بتحريمه، والرضاع كالنسب، والجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها، وما زاد على العدد المباح؛ للحر والعبد، وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده؛ فنكاحه(1/53)
باطل، وإذا أُعتقت الأمَة ملكت أمر نفسها، وخُيِّرت في زوجها.
(باب العيوب وأنكحة الكفّار)
ويجوز فسخ النكاح بالعيب، ويُقرّ من أنكحة الكفار - إذا أسلموا - ما يُوافق الشّرع، وإذا أسلم أحد الزوجين؛ انفسخ النّكاح، وتجب العدّة، فإن أسلم ولم تتزوج المرأة؛ كانا على نكاحهما الأول؛ ولو طالت المدة؛ إذا اختارا ذلك.
(باب المهر والعِشْرة)
المهر واجب، وتُكره المغالاة فيه، ويصح ولو خاتماً من حديد، أو تعليم قرآن، ومن تزوج امرأة ولم يُسمّ لها صداقاً؛ فلها مهر نسائها إذا دخل بها، ويُستحبّ تقديم شيء من المهر قبل الدخول، وعليه إحسان العِشْرة، وعليها الطاعة، ومن كانت له زوجتان فصاعداً؛ عَدَل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه، وإذا سافر أقرع بينهن، وللمرأة أن تَهَب نوْبتها، أو تُصالح الزوج على إسقاطها، ويقيم عند الجديدة البِكْر سبعاً، والثيّب ثلاثاً، ولا يجوز العزل، ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها.
فصل:
والولد للفراش، ولا عبرة لشَبَهه بغير صاحبه، وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمَة في طهر مَلَكها كل واحد منهم فيه، فجاءت بولد، وادّعوه جميعاً؛ فيُقْرَع بينهم، ومن استحقّه بالقُرعة؛ فعليه للآخرين ثُلُثَا الدِّيّة.(1/54)
(9 - كتاب الطلاق)
هو جائز من مُكلَّف مختار، ولو هازلاً؛ لمن كانت في طُهر لم يمسّها فيه، ولا طلّقها في الحيضة التي قبله، أو في حمل قد استبان، ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة، وفي وقوعه - ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة - خلاف، والراجح عدم الوقوع.
فصل:
ويقع بالكناية مع النيّة، وبالتّخيير إذا اختارت الفُرقة، وإذا جعله الزوج إلى غيره؛ وقع منه، ولا يقع بالتحريم، والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقها، يُراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيّاً، ولا تحل له بعد الثالثة، حتى تنكح زوجاً غيره.
(باب الخُلْع)
وإذا خالع الرجل امرأته؛ كان أمرها إليها، لا ترجع إليه بمجرد الرجعة، ويجوز بالقليل والكثير؛ ما لم يجاوز ما صار إليها منه، ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخُلْع، أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما.
وهو فَسْخ، وعِدّته حيضة.
(باب الإيلاء)
هو أن يحلف الزوج على جميع نسائه - أو بعضهن -: لا أقربهنّ، فإن وقّت بدون أربعة أشهر؛ اعتزل حتى ينقضي ما وقّت به، وإن لم يُوقِّت شيئا(1/55)
- أو وَقّت بأكثر منها -؛ خُيّر بعد مُضيّها بين أن يفيء أو يُطلِّق.
(باب الظِّهار)
وهو قول الزوج لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أو: ظاهرتك، أو نحو ذلك؛ فيجب عليه قبل أن يمسّها أن يُكفِّر بعتق رقبة، فإن لم يجد فليُطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين: ويجوز للإمام أن يُعينه من صدقات المسلمين؛ إذا كان فقيراً لا يقْدر على الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظِّهار مُؤقّتاً؛ فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت، وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت - أو قبل التكفير -؛ كفّ حتى يُكفِّر في المطلق، أو ينقضي وقت المؤقَّت.
(باب اللعان)
إذا رمى الرجل امرأته بالزنا، ولم تقرّ بذلك، ولا رجع عن رميه؛ لاعنها، فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وإذا كانت حاملاً أو كانت قد وضعت؛ أدخل نفي الولد في أيمانه، ويفرِّق الحاكم بينهما، وتحرم عليه أبداً، ويُلحق الولد بأمه فقط، ومن رماها به، فهو قاذف.
(باب العِدّة والإحداد)
هي للطلاق من الحامل؛ بالوضع، ومن الحائض؛ بثلاث حيض، ومن(1/56)
غيرهما؛ بثلاثة أشهر، وللوفاة؛ بأربعة أشهر وعشْراً؛ وإن كانت حاملاً فبالوضع؛ ولا عدّة على غير مدخولة، والأمَة كالحُرّة، وعلى المعتدّة للوفاة ترك التزين، والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها، أو بلوغ خبره، وامرأة المقُود تربَّص أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، وهي امرأته ما لم تتزوج.
(باب استبراء الإماء)
يجب استبراء الأمَة المسْبِيّة والمُشتراة ونحوهما بحيضه؛ إن كانت حائضاً، والحامل بوضع الحمل، ومنقطعة الحيض حتى يتبيّن عدم حملها، ولا تُستبرأ بكر، ولا صغيرة مطلقاً؛ ولا يلزم الاستبراء على البائع ونحوه.
(باب النفقة)
تجب على الزوج للزوجة، والمطلقة رجعيّاً - لا بائناً، ولا في عدة الوفاة؛ فلا نفقة ولا سُكنى؛ إلا أن تكونا حاملتين -، وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر - والعكس -، وعلى السيد لمن يملكه، ولا تجب على القريب لقريبه؛ إلا من باب صلة الرحم، ومن وجبت نفقته؛ وجبت كسوته وسكناه.
(باب الرّضاع)
إنما يثبت حُكمه بخمس رضعات؛ مع تيقُّن وجود اللبن، وكون الرضيع قبل الفِطام، ويحرم به ما يحرم بالنسب، ويقبل قول المرضعة، ويجوز إرضاع الكبير - ولو كان ذا لحية - لتجويز النظر.(1/57)
(باب الحضانة)
الأوْلى بالطفل أمه؛ ما لم تُنكح، ثم الخالة، ثم الأب، ثم يُعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحاً، وبعد بلوغ سن الاستقلال؛ يُخيَّر الصبي بين أبيه وأمه، فإن لم يوجد؛ كَفِله من كان له في كفالته مصلحة.
(10 - كتاب البيوع)
المعتبَر فيه مجرد التراضي - ولو بإشارة من قادر على النطق -، ولا يجوز بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، والكلب، والسِّنَّوْر، والدم، وعسْب الفحل، وكل حرام، وفضل الماء، وما فيه غَرَر - كالسّمك في الماء، وحبل الحبَلة، والمنابذة، والملامسة، وما في الضرّع، والعبد الآبق، والمغانم حتى تُقسم، والثمر حتى يصلح، والصوف في الظهر، والسمن في اللبن، والمحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والمخاضرة، والعُربون، والعصير إلى من يتخذه خمراً، والكالئ بالكالئ، وما اشتراه قبل قبضه، والطعام حتى يجري فيه الصاعان -، ولا يجوز الاستثناء في البيع إلا إذا كان معلوماً، ومنه استثناء ظهر المبيع، ولا يجوز التفريق بين المحارم، ولا أن يبيع حاضر لباد، والتناجش، والبيع على البيع، وتلقِّي الرُّكْبان، والاحتكار، والتّسعير، ويجب وضع الجوائح، ولا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيعتان في بيعة، ورِبْح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عند البائع - ويجوز بشرط عدم الخداع -، والخيار في المجلس ثابت؛ ما لم يتفرّقا.
(باب الرِّبا)
يحرم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير(1/58)
بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ إلا مثلاً بمثل يداً بيد، وفي إلحاق غيرها بها خلاف، فإن اختلفت الأجناس؛ جاز التفاضل إذا كان يداً بيد، ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي - وإن صحبه غيره -، ولا بيع الرطب بما كان يابساً إلا لأهل العرايا، ولا بيع اللحم بالحيوان، ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه، ولا يجوز بيع العينة.
(باب الخيارات)
يجب على من باع ذا عيب أن يُبيِّنه؛ وإلا ثبت للمشتري الخيار، والخراج بالضمان، وللمشتري الرد بالغرر - ومنه المصرّاة -؛ فيردها - وصاعاً من تمر، أو ما يتراضيان عليه -، ويثبت الخيار لمن خُدع أو باع قبل وصول السوق، ولكلٍّ من المتبايعين بيعاً منهيّاً عنه الرد، ومن اشترى شيئاً لم يره؛ فله ردّه إذا رآه، وله رد ما اشتراه بخيار، وإذا اختلف البيِّعان؛ فالقول ما يقوله البائع.
(باب السَّلَم)
هو أن يُسلِّم رأس المال في مجلس العقد؛ على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوماً إلى أجل معلوم، ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله، ولا يتصرف فيه قبل قبضه.
(باب القرض)
يجب إرجاع مثله، ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر؛ إذا لم يكن مشروطاً،(1/59)
ولا يجوز أن يجُرّ القرض نفعاً للمُقرض.
(باب الشُّفْعة)
سببها الاشتراك في شيء واحد - ولو منقولاً -؛ فإذا وقعت القسمة فلا شُفعة، ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يُؤْذن شريكه، ولا تبطل بالتراخي.
(باب الإجارة)
يجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي، وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار، فإن لم تكن كذلك؛ استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذلك العمل، وقد ورد النهي عن كسب الحجّام، ومهر البغيّ، وحُلوان الكاهن، وعسب الفحل، وأجرة المؤذن، وقفيز الطّحّان، ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن؛ لا على تعليمه، وأن يُكري العين مدة معلومة؛ بأجرة معلومة - ومن ذلك كراء الأرض لا بشطر ما يخرج منها -، ومن أفسد ما استؤجر عليه، أو أتلف ما استأجره؛ ضمن.
(باب الإحياء والإقطاع)
من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره؛ فهو أحق بها، وتكون ملكاً له، ويجوز للإمام أن يُقطع - من في إقطاعه مصلحة - شيئاً من الأرض الميتة، أو المعادن، أو المياه.
(باب الشَّركة)
الناس شُركاء في الماء، والنار، والكلإ، وإذا تشاجر المستحقون للماء؛(1/60)
كان الأحق به الأعلى فالأعلى، يمسكه إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته، ولا يجوز منع فضل الماء ليُمنع به الكلأ، وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة، ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات، ويقسم الربح على ما تراضيا عليه، وتجوز المضاربة ما لم تشتمل على ما لا يحل، وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق؛ كان سبعة أذرع، ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، ولا ضرر ولا ضِرار بين الشركاء، ومن ضارّ شريكه؛ جاز للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره.
(باب الرهن)
يجوز رهن ما يملكه الراهن في ديْن عليه؛ والظَّهر يُركب واللبن يُشرب بنفقة المرهون، ولا يُغلق الرهن بما فيه.
(باب الوديعة والعاريّة)
تجب على الوديع والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخُن من خانه، ولا ضمان عليه إذا تلفت بدون جنايته وخيانته، ولا يجوز منع الماعون - كالدلو، والقِدر - وإطراق الفحل، وحلب المواشي - لمن يحتاج ذلك -، والحمل عليها في سبيل الله.
(باب الغصْب)
يأثم الغاصب ويجب عليه رد ما أخذه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه، وليس لعرق ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من الزرع شيء؛ وله نفقته، ومن غرس في أرض غيره غرساً رفعه،(1/61)
ولا يحل الانتفاع بالمغصوب، ومن أتلفه؛ فعليه مثله أو قيمته.
(باب العتق)
أفضل الرِّقاب أنفسها، ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها، ومن ملك رحِمه عَتق عليه، ومن مثّل بمملوكه فعليه أن يُعتقه؛ وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم، ومن أعتق شركاً له في عبد؛ ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم؛ وإلا عتق نصيبه فقط واستُسعي العبد، ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق، ويجوز التدبير؛ فيُعتق بموت مالكه؛ وإذا احتاج المالك جاز له بيعه، ويجوز مُكاتبة المملوك على مال يؤدّيه، فيصير عند الوفاة حُراً، ويُعتق منه بقدر ما سلّم، وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة؛ عاد في الرق، ومن استولد أمَته؛ لم يحلّ له بيعها؛ وعتقت بموته، أو بتخييره لعتقها.
(باب الوقف)
من حبَّس ملكه في سبيل الله؛ صار محبَّساً، وله أن يجعل غلاتِّه لأي مصرف شاء مما فيه قُربه، وللمتولّي عليه أن يأكل منه بالمعروف، وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين، ومن وقف شيئاً مضارّة لوارثه؛ كان وقفه باطلاً، ومن وضع مالاً في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد؛ جاز صرفه في أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما يوضع في الكعبة، أو في مسجده [صلى الله عليه وسلم] ، والوقف على القبور - لرفع سُمكها، أو تزيينها، أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة - باطل.
(باب الهدايا)
يُشرع قبولها ومكافأة فاعلها، وتجوز بين المسلم والكافر، ويحرم(1/62)
الرجوع فيها، وتجب التسوية بين الأولاد، والرد - لغير مانع شرعي - مكروه.
(باب الهبات)
إن كانت بغير عِوض؛ فلها حكم الهديّة في جميع ما سلف، وإن كانت بعوض؛ فهي بيع ولها حكمه، والعُمرى والرُّقبى توجبان المُلك للمُعْمر والمُرقب ولعقبه من بعده؛ لا رجوع فيهما.
(11 - كتاب الأيمان)
الحلف إنما يكون باسم الله - تعالى -، أو صفة له، ويحرم بغير ذلك، ومن حلف فقال: إن شاء الله؛ فقد استثنى، ولا حِنْث عليه، ومن حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه؛ فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه، ومن أُكره على اليمين؛ فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها، واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها، ولا مؤاخذة باللغو، ومن حقّ المسلم على المسلم إبرار قَسَمه، وكفّارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز.
(12 - كتاب النّذر)
إنما يصح إذا ابْتُغي وجه الله، فلا بد أن يكون قُربة، ولا نذْر في معصية الله، ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو مفاضلة بين الورثة؛ مخالفة لما شرعه الله تعالى، ومنه النذر على القبور، وعلى ما لم يأذن به الله، ومن أوجب على نفسه فعلاً لم يشرعه الله؛ لم يجب عليه، وكذلك إن كان مما لم يشرعه الله وهو لا يطيقه، ومن نذر نذراً لم يُسمِّه - أو كان معصية، أو لا يُطيقه -؛ فعليه كفّارة يمين، ومن نذر بقربة؛(1/63)
وهو مشرك ثم أسلم؛ لزمه الوفاء، ولا ينفذ النذر إلا من الثلث، وإذا مات الناذر بقربة، ففعلها عنه ولده؛ أجزأه ذلك.
(13 - كتاب الأطعمة)
الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو عفو، فيحرم ما في الكتاب العزيز، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، والحمر الإنسية، والجلاّلة قبل الاستحالة، والكلاب، والهر، وما كان مُستخبثاً، وما عدا ذلك فهو؛ حلال.
(باب الصيد)
ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح؛ كان حلالا إذا ذُكر اسم الله عليه، وما صيد بغير ذلك؛ فلا بد من التذكية، وإذا شارك الكلب المعلَّم كلب آخر؛ لم يحل صيدهما، وإذا أكل الكلب المعلَّم ونحوه من الصيد؛ لم يحل؛ فإنما أمسك على نفسه، وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرّميّة فيه ميتاً - ولو بعد أيام - في غير ماء؛ كان حلالاً ما لم يُنتن، أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه.
(باب الذبح)
هو ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، وذُكر اسم الله عليه - ولو بحجر أو نحوه -؛ ما لم يكن سنّاً أو ظُفراً، ويحرم تعذيب الذّبيحة، والمُثْلة بها، وذَبْحُها لغير الله، وإذا تعذّر الذبح لوجه؛ جاز الطعن والرمي، وكان ذلك كالذبح، وذكاة الجنين ذكاة أمه، وما أُبِين من الحي فهو ميتة، ويحل ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطّحال، وتحل الميتة للمضطرّ.(1/64)
(باب الضيافة)
يجب على من وجد ما يقري به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك، وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يُحْرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه؛ كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قِراه، ويَحْرم أكل طعام الغير بغير إذنه، ومن ذلك حلْب ماشيته، وأخْذ ثمرته وزرعه، لا يجوز إلا بإذنه؛ إلا أن يكون محتاجاً إلى ذلك؛ فلْيُناد صاحب الإبل أو الحائط، فإن أجابه؛ وإلا فليشرب وليأكل - غير متخذ خُبْنة -.
(باب آداب الأكل)
يُشرع للآكل التسمية، والأكل باليمين ومن حافتي الطعام لا من وسطه، ومما يليه، ويلعق أصابعه والصحفة، والحمد عند الفراغ، والدعاء، ولا يأكل مُتّكئاً.
(14 - كتاب الأشربة)
كل مسكر حرام، وكل مفتِّر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، ويجوز الانتباذ في جميع الآنية، ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين، ويحرم تخليل الخمر، ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه، ومظِنّة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام.
وآداب الشرب؛ أن يكون ثلاثة أنفاس، وباليمين، ومن قعود، وتقديم الأيمن فالأيمن، ويكون الساقي آخرهم شُرباً، ويسمِّي في أوله، ويحمد في آخره، ويُكره التنفس في السِّقاء، والنفخ فيه، والشرب من فيه، وإذا وقعت(1/65)
النجاسة في شي من المائعات؛ لم يحل شربه، وإن كان جامداً أُلقيت وما حولها، ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة.
(15 - كتاب اللباس)
ستر العورة واجب في الملإ والخلاء، ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير، إذا كان فوق أربع أصابع؛ إلا للتداوي، ولا يفترشه، ولا المصبوغ بالعصفر، ولا ثوب شُهرة، ولا ما يختص بالنساء، ولا العكس، ويحرم على الرجال التحلي بالذهب - لا بغيره -.
(كتاب الأُضحية)
تُشرع لأهل كل بيت، وأقلها شاة، ووقتها بعد صلاة عيد النحر إلى آخر أيام التشريق، وأفضلها أسمنها، ولا يُجزئ ما دون الجذع من الضأن، ولا الثنيِّ من المعز، ولا الأعور، والمريض، والأعرج، والأعجف، وأعضب القرن والأذن، ويتصدق منها ويأكل ويدّخر، والذبح في المصلَّى أفضل، ولا يأخذ - من له أُضحية - من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة؛ حتى يُضحِّي.
(باب الوليمة)
هي مشروعة، ويجب الإجابة عليها، ويقدَّم السابق ثم الأقرب باباً، ولا يجوز حضورها إذا اشتملت على معصية.
فصل:
والعقيقة مُستحبّة - وهي شاتان عن الذكر، وشاة عن الأنثى - يوم سابع(1/66)
المولود، وفيه يُسمى، ويُحلق رأسه، ويُتصدق بوزنه ذهباً أو فضة.
(17 - كتاب الطب)
يجوز التداوي، والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر، ويحرم بالمحرَّمات، ويُكره الاكتواء، ولا بأس بالحجامة، وبالرُّقية - بما يجوز - من العين وغيرها.
(18 - كتاب الوِكالة)
يجوز لجائز التصرف أن يُوكَّل غيره في كل شيء؛ ما لم يمنع منه مانع، وإذا باع الوكيل - بزيادة على ما رسمه موكِّله -؛ كانت الزيادة للموكِّل، وإذا خالفه إلى ما هو أنفع، أو إلى غيره ورضي به؛ صح.
(19 - كتاب الضمانة)
يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال أن يغرمه عند الطلب، ويُرجع على المضمون عنه؛ إن كان مأموراً من جهته، ومن ضمن بإحضار شخص؛ وجب عليه إحضاره؛ وإلا غرم ما عليه.
(20 - كتاب الصلح)
هو جائز بين المسلمين؛ إلا صُلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً، ويجوز عن المعلوم والمجهول؛ بمعلوم وبمجهول، وعن الدم - كالمال - بأقل من الدية أو أكثر؛ ولو عن إنكار.(1/67)
(21 - كتاب الحوالة)
من أُحيل على مليء فليحتل، وإذا مطل المُحال عليه أو أفلس؛ كان للمُحال أن يُطالب المُحيل بديْنه.
(22 - كتاب المفلس)
يجوز لأهل الدَّيْن أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه؛ إلا ما كان لا يُستغنى عنه - وهو: المنزل، وستر العورة، وما يقيه البرد، ويسد رمقه ومن يعول -، ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به، وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع ديْنه؛ كان الموجود أُسوة الغُرماء، وإذا تبيّن إفلاسه؛ فلا يجوز حبسه، ولَيّ الواجد ظُلْم يُحل عرضه وعقوبته، ويجوز للحاكم أن يحجره عن التصرف في ماله، ويبيعه لقضاء دينه، وكذلك يجوز له الحجر على المبذِّر ومن لا يحسن التصرف، ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله؛ حتى يؤنس منه الرشد، ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف.
(23 - كتاب اللُّقطة)
من وجد لُقطة فليعرف عِصافها ووِكاءها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه؛ وإلا عرّف بها حولاً، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه، ويضمن مع مجيء صاحبها، ولُقطة مكة أشد تعريفاً من غيرها، ولا بأس بأن ينتفع المُلتقط بالشيء الحقير - كالعصا والسّوط ونحوهما - بعد التعريف به ثلاثاً، وتُلتقط ضالّة الدواب؛ إلا الإبل.(1/68)
(24 - كتاب القضاء)
إنما يصح قضاء من كان مجتهداً، متورِّعاً عن أموال الناس، عادلاً في القضية، حاكماً بالسّويّة، ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه، ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك، ومن كان متأهِّلاً للقضاء؛ فهو على خطر عظيم، وله مع الإصابة أجران، ومع الخطأ أجر - إن لم يأل جهداً في البحث -، وتحرم عليه الرِّشوة، والهديّة التي أُهديت إليه لأجل كونه قاضياً، ولا يجوز له الحكم حال الغضب، وعليه التسوية بين الخصمين؛ إلا إذا كان أحدهما كافراً، والسماع منهما قبل القضاء، وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان، ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة، والشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح، وحكمه ينفذ ظاهراً فقط، فمن قُضي له بشيء فلا يحل له؛ إلا إذا كان الحكم مُطابقاً للواقع.
(25 - كتاب الخصومة)
على المُدَّعي البيِّنة، وعلى المنكر اليمين، ويحكم الحاكم بالإقرار، وبشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدّعي، وبيمين المنكر، وبيمين الرد وبعلمه، ولا تُقبل شهادة من ليس بعدل، ولا الخائن، ولا ذي العداوة، والمُتّهم، والقانع لأهل البيت، والقاذف، ولا بدوي على صاحب قرية، وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة، وشهادة الزور من أكبر الكبائر، وإذا تعارض البيِّنتان ولم يوجد وجه ترجيح؛ قُسّم المدّعَى، وإذا لم يكن للمُدعِّي بينة؛ فليس له إلا يمين صاحبه، ولو كان فاجراً، ولا تُقبل البيّنة بعد اليمين، ومن أقرّ بشيء - عاقلا بالغاً غير هازل ولا(1/69)
بمحال عقلا أو عادة -؛ لزمه ما أقر به؛ كائنا ما كان، ويكفي مرة واحدة؛ من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها - كما سيأتي -.
(26 - كتاب الحدود)
(باب حد الزاني)
إن كان بكرا حرا جلد مئة جلدة، وبعد الجلد يغرب عاما، وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر، ثم يرجم حتى يموت، ويكفي إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان؛ فلقصد الاستثبات، وأما الشهادة فلا بد من أربعة، ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج، ويسقط بالشبهات المحتملة، وبالرجوع عن الإقرار، وبكون المرأة عذراء أو رتقاء، ويكون الرجل مجبوبا أو عنينا، وتحرم الشفاعة في الحدود، ويحفر للمرجوم إلى الصدر، ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها - إن لم يوجد من يرضعه -، ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه، ومن لاط بذكر، قتل ولو كان بكرا، وكذلك المفعول به؛ إذا كان مختارا ويعزر من نكح بهيمة، ويجلد المملوك نصف جلد الحر، ويحده سيده أو الإمام.
(باب حد السرقة)
من سرق - مكلفا مختارا - من حرز ربع دينار فصاعدا؛ قطعت كفه اليمنى، ويكفي الإقرار مرة واحدة، أو شهادة عدلين، ويندب تلقين المسقط، ويحسم موضع القطع، وتعلق اليد في عنق السارق، ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان - لا بعده؛ فقد وجب -، ولا قطع في ثمر ولا(1/70)
كثر؛ ما لم يؤوه الجرين - إذا أكل ولم يتخذ خبنة -؛ وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين، وضرب نكال، وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع، وقد ثبت القطع في جحد العارية.
(باب حد القذف)
من رمى غيره بالزنا؛ وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة إن كان حرا، وأربعين إن كان مملوكا، ويثبت ذلك بإقراره مرة، أو بشهادة عدلين، وإذا لم يتب؛ لم تقبل شهادته أبدا، فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود؛ سقط عنه الحد، وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا.
(باب حد الشرب)
من شرب مسكرا - مكلفا مختارا -؛ جلد على ما يراه الإمام - إما أربعين جلدة، أو أقل، أو أكثر -؛ ولو بالنعال، ويكفي إقراره مرة، أو شهادة عدلين - ولو على القيء -، وقتله في الرابعة منسوخ.
فصل:
والتعزير في المعاصي - التي لا توجب حدا - ثابت؛ بحبس، أو ضرب، أو نحوهما، ولا يجاوز عشرة أسواط.
(باب حد المحارب)
وهو أحد الأنواع المذكورة في القرآن الكريم - القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي من الأرض -، يفعل الإمام منها ما(1/71)
رأى فيه صلاحا؛ لكل من قطع طريقا ولو في المصر؛ إذا كان قد سعى في الأرض فسادا، فإن تاب قبل القدرة عليه؛ سقط عنه ذلك.
(باب من يستحق القتل حدا)
هو الحربي، والمرتد، والساحر، والكاهن، والساب لله، أو لرسوله، أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة، والطاعن في الدين والزنديق بعد استتابتهم، والزاني المحصن، واللوطي - مطلقا -، والمحارب.
(27 - كتاب القصاص)
يجب على المكلف المختار العامد - إن اختار ذلك الورثة -؛ وإلا فلهم طلب الدية، وتقتل المرأة بالرجل - والعكس -، والعبد بالحر، والكافر بالمسلم، - لا العكس -، والفرع بالأصل - لا العكس -، ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها، والجروح - مع الإمكان -، ويسقط بإبراء أحد الورثة، ويلزم نصيب الآخرين من الدية، فإن كان فيهم صغير؛ ينتظر في القصاص بلوغه، ويهدر ما سببه من المجني عليه، وإذا أمسك رجل وقتل آخر؛ قتل القاتل وحبس الممسك، وفي قتل الخطأ الدية والكفارة - وهو ما ليس بعمد، أو من صبي، أو مجنون -، وهي على العاقلة - وهم العصبة -.
(28 - كتاب الديات)
دية الرجل المسلم مئة من الإبل، أو مئتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مئتا حلة، وتغلظ دية العمد وشبهه؛ بأن يكون المئة من الإبل؛ في بطون أربعين منها أولادها، ودية الذمي نصف دية(1/72)
المسلم، ودية المرأة نصف دية الرجل، والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث، وتجب الدية كاملة في العينين، والشفتين، واليدين، والرجلين، والبيضتين، وفي الواحدة منها نصفها، وكذلك تجب كاملة في الأنف، واللسان، والذكر، والصلب، وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشرها، وفي الهاشمة عشرها، وفي كل سن نصف عشرها، وكذا في الموضحة، وما عدا هذه المسماة؛ فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريبا، وفي الجنين - إذا خرج ميتا - الغرة، وفي العبد قيمته، وأرشه بحسبها.
(باب القسامة)
إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت - وهي خمسون يمينا -، يختارهم ولي القتيل، والديه - إن نكلوا - عليهم؛ وإن حلفوا سقطت، وإن التبس الأمر؛ كانت من بيت المال.
(29 - كتاب الوصية)
تجب على من له ما يوصي فيه، ولا تصح ضرارا، ولا لوارث، ولا في معصية، وهي - في القرب - من الثلث، ويجب تقديم قضاء الديون، ومن لم يترك ما يقضي دينه؛ قضاه السلطان من بيت المال.
(30 - كتاب المواريث)
هي مفصلة في الكتاب العزيز، ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة، وما بقي فللعصبة، والأخوات مع البنات عصبة، ولبنت الابن مع البنت(1/73)
السدس تكملة الثلثين، وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين، وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم، وهو للجد مع من لا يسقطه، ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب، وفي ميراثهم مع الجد خلاف، ويرثون مع البنات إلا الإخوة لأم، ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين، وأولو الأرحام يتوارثون؛ وهم أقدم من بيت المال؛ فإن تزاحمت الفرائض فالعول، ولا يرث ولد الملاعنة والزانية؛ إلا من أمه وقرابتها والعكس، ولا يرث المولود إلا إذا استهل، وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات، وله الباقي بعد ذوي السهام، ويحرم بيع الولاء وهبته، ولا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث القاتل من المقتول.
(31 - كتاب الجهاد والسير)
الجهاد فرض كفاية مع كل بر وفاجر - إذا أذن الأبوان -، وهو - مع إخلاص النية - يكفر الخطايا إلا الدين، ويلحق به حقوق الآدميين، ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة، ويجب على الجيش طاعة أميرهم؛ إلا في معصية الله، وعليه مشاورتهم، والرفق بهم، وكفهم عن الحرام، ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده، وأن يذكي العيون، ويستطلع الأخبار، ويرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والألوية، وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، أو الجزية، أو السيف، ويحرم قتل النساء، والأطفال، والشيوخ - إلا لضرورة -، والمثلة، والإحراق بالنار، والفرار من الزحف - إلا إلى فئة -، ويجوز تبييت الكفار، والكذب في الحرب والخداع.(1/74)
فصل:
وما غنمه الجيش؛ كان لهم أربعة أخماسه، وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه، ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل سهما، ويستوي في ذلك القوي والضعيف، ومن قاتل ومن لم يقاتل، ويجوز تنفيل الإمام بعض الجيش، وللإمام الصفي، وسهمه كأحد الجيش، ويرضخ من الغنيمة لمن حضر، ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا، وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه، ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة - إلا الطعام والعلف -، ويحرم الغلول، ومن جملة الغنيمة الأسرى؛ ويجوز القتل، أو الفداء، أو المن.
فصل:
ويجوز استرقاق العرب، وقتل الجاسوس، وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله، وإذا أسلم عبد الكافر؛ صار حرا، والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام؛ فيفعل الأصلح من قسمتها، أو تركها مشتركة بين الغانمين، أو بين جميع المسلمين، ومن أمنه أحد المسلمين؛ صار آمنا، والرسول كالمؤمن، وتجوز مهادنة الكفار ولو بشرط، وإلى أجل أكثره عشرة سنين، ويجوز تأييد المهادنة بالجزية، ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من جزيرة العرب.
فصل:
ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا تغنم أموالهم.(1/75)
فصل:
وطاعة الأئمة واجبة؛ إلا في معصية الله، ولا يجوز الخروج عليهم؛ ما أقاموا الصلاة، ولم يظهروا كفرا بواحا، ويجب الصبر على جورهم، وبذل النصيحة لهم، وعليهم الذب عن المسلمين، وكف يد الظالم، وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان، والأديان، والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة.
(تم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود)
(وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود)
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(1/76)
بسم الله الرحمن الرحيم
( [مقدمة المؤلف] )
نحمدك اللهم أنت الذي علمت الناس في دينهم حكما، وفي دنياهم أحكاما، وجعلت أمة خاتم الرسل المرحومة أكرم الأمم كلها منزلا ومقاما، وما زلت ألهمت من شئت وتلهم من تشاء منهم في كل قرن استعمال السنن المطهرة على وجهها إلهاما، ونهيتهم عن التفرق في الدين، وأوضحت لهم سبيل اليقين، فأصبحوا بنعمتك بررة كراما، وما انفك عدولهم نفوا عن الدين وينفون عنه انتحال (1) المبطلين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين (2) ، حتى عاد علم الحق معتدلا قواما.
ونصلي عليك أيها النبي الكريم، بك من علينا بالإيمان وهدانا إسلاما، لطفا بنا ورحمة علينا، وبركة فينا، وإحسانا إلينا وإكراما، فكان ذلك لزاما، ولولاك (3) ما اهتدينا، ولا صلينا، ولا علمنا أحكاما، فكنت أنت داعينا إلى
__________
(1) أي: ادعاء. (ش)
(2) إشارة إلى حديث: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... "؛ وهو حديث مروي من طرق متعددة، يقوي بعضها بعضا؛ فانظر تعليقي على " الحطة في ذكر الصحاح الستة " (ص 70) للمؤلف - رحمه الله -.
(3) روى البخاري (6331) ، ومسلم (1802) عن سلمة بن الأكوع، قال: خرجنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى خيبر، فتسيرنا قليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ {- وكان عامر رجلا شاعرا -، فنزل يحدو بالقوم يقول:
(اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا)
[فذكر أبياتا] فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من هذا السائق؟} "، قالوا: عامر، قال: " يرحمه الله ". واللفظ لمسلم.(1/79)
الله - سبحانه وتعالى -، وهاديا لنا، ورؤوفا بنا، وفينا إماما.
ونسلم عليكم أهل البيت الطاهرين الطيبين أنتم أصبتم من سعادة الدارين سهاما، وقمتم بالحق الحقيق بالاتباع كما يحق قياما.
ورضي الله عنكم أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ بكم انتظم مبتغي الأمة الأمية بدءا وختاما، ومنكم استتب أمر الملة المكرمة أصلا وفرعا واهتماما.
ورحمة الله وبركاته عليكم أهل الحديث، أنتم كشفتم للناس عن صراح (1) الحق وصحاح السنة وقح (2) الشريعة ظلاما، وعن وجه الدين القويم والصراط المستقيم لثاما، وكيف وقد جعلكم الله - تعالى - للمتقين إماما؟ !
وبعد:
فلما جمع الإمام الهمام عز المسلمين والإسلام، سلالة السلف الصلحاء، تذكار العرب العرباء (3) ، وارث علوم سيد المرسلين، خاتمة المفسرين والمحدثين، شيخ شيوخنا الكاملين، المجتهد المطلق العلامة الرباني، قاضي قضاة القطر اليماني، محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني، المتوفى سنة خمس وخمسين ومئتين وألف الهجرية - رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الفردوس منزله ونزله ومأواه - المختصر الذي سماه " الدرر البهية في المسائل الفقهية " قاصدا بذلك جمع المسائل التي صح دليلها، واتضح سبيلها، تاركا لما كان منها من
__________
(1) الصراح - بالضم والفتح -: الخالص من كل شيء. (ش)
(2) أي: خالصها. (ش)
(3) أي: العرب الخلص، ويقال: العرب العاربة؛ فهو تأكيد من اللفظ نفسه، كما يقولون: ليل لائل. وانظر " مختار الصحاح " (ص 421) .(1/80)
محض الرأي، فإنه قالها وقيلها، غير ملتفت إلى ما اشتهر، فالحق أحق بالاتباع، وغير جامد على ما ذكر في الزبر (1) فلمسلك التحقيق اتساع، بل محض فيه النصح النصيح، ومخض (2) عن زبد الحق الصريح، وأتى بتحقيقات جليلة خلت عنها الدفاتر، وأشار إلى تدقيقات نفيسة لم تحوها صحف الأكابر.
ونسبة هذا المختصر إلى المطولات من الكتب الفقهية، نسبة السبيكة الذهبية إلى التربة المعدنية، كما يعرف ذلك من رسخ في العلوم قدمه؛ وسبح في بحار المعارف ذهنه ولسانه وقلمه، سأله جماعة من أهل الانتقاد والفهم النافذ، العاضين على علوم الاجتهاد بأقوى لحي (3) وأحد ناجذ (4) ، أن يجلي عليهم عروس ذلك المختصر، ويزفه إليهم ليمنعوا في محاسنه النظر، فاستمهلهم ريثما يصحح منه ما يحتاج إلى التصحيح، وينقح فيه ما لا يستغني عن التنقيح، ويرجح من مباحثه ما هو مفتقر إلى الترجيح، ويوضح من غوامضه ما لا بد فيه من التوضيح، فشرحه بشرح مختصر، من معين عيون الأدلة معتصر، وسماه " الدراري المضية شرح الدرر البهية " (5) ، وفيهما قال قائل:
(إن شئت في شرع النبي ... تقدح بزند فيه واري (6))
__________
(1) أي: في الكتب. (ش)
(2) مخض اللبن: أخذ زبده. (ش)
(3) أي: منبت اللحية. (ش)
(4) الناجذ: آخر الأضراس، وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان. (ش)
(5) وهو مطبوع مرارا؛ وقد أودعته - للتسهيل - في أول هذا الجزء.
(6) ورى الزند: خرجت ناره. (ش)(1/81)
(فاعكف على الدرر التي ... سلكت بسمط (1) من دراري)
وشرحه هذا كان بالقول (2) ، فجعلته شرحا ممزوجا (3) ، وصيرته على منواله منسوجا، مستوعبا للفظه ومعناه، ومستصحبا لفحاويه ومبناه، مضيفا إليه مذاهب الفقهاء ليظهر ضعفها أو قوتها، عند تقابل الأدلة وتعارضها بالآراء، لا للأخذ بها على ما كان بأي حال؛ فإن الرجال تعرف بالحق لا الحق بالرجال، ثم زدت عليه أشياء من حاشية الماتن (4) على " شفاء الأوام (5) " التي سماها " وبل الغمام " (6) ومن غيرها عند النظر الثاني في هذا الكتاب، فعاد بحمد الله تعالى؛ كما قيل: اللبأ وابن طاب (7) .
هذا وقد أمليت هذا الشرح على طريق الارتجال بالاستعجال، إرشادا إلى
__________
(1) السمط: الخيط ما دام فيه الخرز؛ وإلا فهو السلك. (ش)
(2) أي: أنه يذكر الفقرة تامة، ثم يشرحها بعد.
(3) أي: أنه يذكر الكلمة أو الكلمتين، ومعهما شرحهما ممزوجا بهما.
(4) يعبر مؤلف هذا الشرح كثيرا عن مصنف " الأصل "، بلفظ: " الماتن "! وهو لفظ مولد مستكره؛ فأصل " المتن " الظهر - في اللغة -، ثم استعمله طلاب العلم في الكتاب المختصر إذا كان عليه شرح؛ فاشتقاق اسم فاعل من هذا - وليس بمصدر - اشتقاق خاطئ. (ش)
(5) من تأليف الحسين بن بدر الدين اليحيوي، المتوفى سنة (662 هـ) - كما في مقدمة " وبل الغمام " (1 / 26) -.
ولا أعلم كتابه مطبوعا.
(6) مطبوع في مجلدين، بتحقيق الأخ الفاضل محمد صبحي حلاق - وفقه العلي الخلاق -.
(7) اللبأ - كعنب -: أول اللبن عند الولادة، وابن طاب: ضرب من الرطب. (ش)
قلت: وهذان هما أجود أصناف أنواعهما.(1/82)
طرق من العلم طالما تركت، وهزا لطبائع جامدة طالما ركدت، راجيا من الله تعالى أن أكون ممن تعلم علم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعلمه وأذاعه، وحفظه على الناس وفيهم روجه وأشاعه.
فدونك هذا المشروح والشرح، يلقي إليك زمام التفويض في المدح والقدح، يا من له في أوج (1) التحقيق صعود، وعليه من ملابس التدقيق برود، كيف وهو يروي غليل طالبي فقه السنة، ويشفي عليل السائقين إلى مساق الجنة؟ ! فليسعد به كل طالب الحق الصادق (2) ؛ ويضن به كل ذي باطل زاهق، ولئن رده القاصرون، فسيقبله الماهرون، وإن ذمه الجهلة، فسوف يمدحه الكملة.
وسميت هذا الشرح الأنيس، بل العلق (3) النفيس " الروضة الندية شرح الدرر البهية ".
والله - سبحانه وتعالى - أرجو أن يعين على التمام، وينفعني به ومن أخلفه وجميع المتبعين للسنن في هذه الدار ودار السلام، إنه ولي الإجابة؛ وبيده الهداية والإصابة.
__________
(1) أي علو.
(2) • لعله: " للحق صادق " (ن)
(3) • بكسر العين: النفيس من كل شيء، والجراب، ولعل هذا هو المراد هنا. (ن)(1/83)
(الكتاب الأول: كتاب الطهارة)(1/85)
قال - رضي الله عنه -:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد من أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين.
(1 - كتاب الطهارة)
(1 - باب)
(هذا الباب قد اشتمل على مسائل:
الأولى: الماء طاهر ومطهر) : ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما دل الدليل على كونه طاهرا، مطهرا، وقام على ذلك الإجماع، كذلك يدل على ذلك الأصل، والظاهر (1) ، والبراءة (2) ، فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع، وكذلك الظهور يفيد ذلك، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة:
(لا يخرجه عن الوصفين) : أي: عن وصف كونه طاهرا، وعن وصف كونه مطهرا (إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات) .
__________
(1) هو الصفة الظاهرة.
(2) هو بقاء ما كان على ما عليه كان.(1/87)
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب، وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها.
والدليل عليه ما أخرجه أحمد - وصححه - وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم (1) ، وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد، قال: " قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض (2) ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور لا ينجسه شيء "، وقد أعله ابن القطان باختلاف الرواة في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه، وليس ذلك بعلة (3) ، وقد اختلف في أسماء كثيرة من الصحابة والتابعين على أقوال، ولم يكن ذلك موجبا للجهالة، على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال: وله طريق أحسن
__________
(1) رواه أحمد (3 / 31) ، وأبو داود (67) ، والترمذي (66) ، والنسائي (1 / 174) ، والدارقطني (1 / 29) ، والبيهقي (1 / 257) .
وقد نقل الحافظ في " التلخيص الحبير " (1 / 24) تصحيح أحمد، وابن معين، وابن حزم.
ولم يروه ابن ماجة ولا الحاكم من حديث أبي سعيد.
(2) جمع حيضة؛ وهي الخرقة التي تتقي بها المرأة دم الحيض (ش) .
(3) • بلى، فإن الراوي المشار إليه قال فيه ابن القطان: " لا يعرف له حال ولا عين "، وقال الحافظ: " مستور "؛ فالاختلاف في اسمه يشير إلى جهالته، ولولاها لم يضر الخلاف المذكور؛ لما ذكره الشارح.
فالعلة ما ذكرنا من الجهالة، لا ما أراد أن يصوره الشارح من الاختلاف.
نعم، الحديث صحيح بلا ريب، فإن له طرقا وشواهد يقطع من وقف عليها بصحته، وقد ذكرت بعضها في " صحيح سنن أبي داود " رقم (59) (ن) .
قلت: وانظر " تقريب التهذيب " (4313) .(1/88)
من هذه، ثم ساقها عن أبي سعيد.
وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة.
وله شواهد، منها: حديث سهل بن سعد عند الدارقطني (1) ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان (2) ، ومن حديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط "، وأبي يعلى، والبزار، وابن السكن (3) ؛ كلها بنحو حديث أبي سعيد.
وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني (4) ، من حديث ثوبان بلفظ: " الماء طهور لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه "، وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجة والطبراني (5) ، من حديث أبي أمامة بلفظ: " إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه "؛ وفي إسنادهما من لا يحتج به.
وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة، لكنه قد وقع الإجماع
__________
(1) في " سننه " (1 / 29) .
(2) رواه أحمد (1 / 235) ، وابن خزيمة (91) ، وابن حبان (116 - زوائده) .
(3) رواه الطبراني في " الأوسط " (2093) ، وأبو يعلى في " مسنده " (118 - المقصد العلي ") ، والبزار (1 / 132 - " كشف الأستار ") .
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 214) : " ورجاله ثقات ".
ونقل الحافظ في " التلخيص الحبير " (1 / 17) رواية ابن السكن له في " صحاحه ".
(4) في " سننه " (1 / 28) .
(5) رواه ابن ماجة (521) ، والطبراني في " الكبير " (7503) ، و " الأوسط " (744) .
وقال الهيثمي في " المجمع " (1 / 214) : " وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف ".(1/89)
على مضمونها؛ كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في " البدر المنير (1) "، والمهدي في " البحر (2) "، فمن كان يقول بحجيّة الإجماع (3) كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع؛ ومن كان لا يقول بحجيّة الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الزيادة، لكونها قد صارت مما أُجمع على معناها وتُلقّي بالقبول، فالاستدلال بها لا بالإجماع.
(وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة (4)) :
هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب، ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه، فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه، كما يقال: ماء ورد، ونحوه، فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد - مثلاً - هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقوله سبحانه: {ماء طهورا} [الفرقان: 48] ، وفي السنة المطهرة بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " (5) ، فخرج بذلك عن كونه مطهراً، ولم يخرج به عن كونه طاهراً، لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر، واجتماع الطاهرين لا يوجب
__________
(1) • وكذا في " خلاصة البدر المنير " (2 / 2) ، وقال فيه: " وقول الرافعي: " إن ماءها كنُقاعة الحنّاء " غريب "؛ يعني: لا يُعلم من رواه، كما نص عليه في المقدمة. (ن) .
قلتُ: وهو في أصله: " البدر المنير " (1 / 59) .
(2) انظر " الإجماع " (10) لابن المنذر، و " البحر الزخار " (1 / 31) للمهدي.
(3) والبحث في مسألة الإجماع طويل الفروع، كثير الذيول، أشرتُ إلى نُبذة منه في تعليقي على كتاب " حصول المأمول من علم الأصول " (ق 85) للمؤلف، يسّر الله تمامه.
(4) كالصابون والعطر، ونحوهما.
(5) تقدم تخريجه.(1/90)
خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الاجتماع (1) .
قال في " حجة الله البالغة " (2) : وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه اسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي، نعم؛ إزالة الخبث به محتمل، بل هو الراجح (3) .
وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر (4) ، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] البتة {
وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي (5) ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله تعالى - عنه في الفأرة (6) ، والنخعي والشعبي في نحو السِّنَّور (7) ، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى.
وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذُكر في كتب المالكية (8) ، ودون نفي هذا
__________
(1) وهو الطهارة لكل منهما.
(2) (1 / 185) ، للعلامة وليّ الله الدِّهلويّ.
(3) وفي ذلك نظر وبحث؛ فانظر " المجموع " (1 / 95) .
(4) أي: أن يكون البئر عشرة أذرع في عشرة أذرع} وانظر " فتح القدير " (1 / 92) للكمال ابن الهُمام.
(5) رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 266) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1 / 17) .
(6) رواه عبد الرزاق في " المصنف " (1 / 82) .
(7) رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1 / 17) .
وانظر " المجموع " (1 / 16) للنووي.
(8) انظر " الذخيرة " (1 / 173) للقرافي.
وقولهم: " دون ذلك خَرْط القتاد ": مثل يُضرب للأمر الصعب الممتنع.(1/91)
الاحتمال خَرْط القَتاد " اه.
وبالجملة؛ فليس في هذا الباب شي يُعتد به ويجب العمل عليه، وحديث القلتين (1) أثبت من ذلك كله بغير شبهة.
ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات - وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى -، ثم لا ينص عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] نصاً جلياً، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه. والله أعلم. انتهى.
قلت: وقد أطال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في تخريج حديث القُلّتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً، لفظاً ومعنى: في كتابه " تلخيص الحبير " في تخريج أخبار الرافعي الكبير " (2) إطالةً حسنةً فليرجع إليه (3) .
(ولا فرق بين قليل وكثير) : هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب، والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم، بعد إجماعهم
__________
(1) هو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا بلغ الماء قُلّتين لم يحمل الخبَث "، وسيأتي بيان الحكم عليه، والإشارة إلى طرقه ورواياته.
(2) الصواب في اسمه: " التلخيص الحبير ".
والبحث فيه (1 / 16 - 20) ، وانظر أصله: " البدر المنير " (2 / 87 - 112) لابن الملقّن.
(3) • ويتلخص من كلامه [يعني الحافظ ابن حجر] أنه حديث صحيح، وقد صرح بذلك في " الفتح " (1 / 277) ، وهو الحق، وصححه أيضا الحاكم، وابن منده، وابن خزيمة، وابن حبان، والطحاوي، والنووي، والذهبي، فلا التفات إلى قول من ضعّفه، لأنه وهم نشأ من عدم تتبع طرق الحديث.
وقد تكلمت عليه بما يُجلّي هذه الحقيقة في " صحيح سنن أبي داود " رقم (56) . (ن) .(1/92)
على أن ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر.
فقيل: إن الكثير ما بلغ قلتين، والقليل ما كان دونهما؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (1) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما -، قال: " سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة (2) من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: " إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث ".
وفي لفظ أحمد: " لم ينجسه شيء ".
وفي لفظ لأبي داود: " لم ينجس ".
وأخرجه بهذا اللفظ (3) ابن حبان والحاكم، وقال ابن مندة: إسناد حديث القُلّتين على شرط مسلم (4) . انتهى.
ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه، كما هو مبين في مواطنه، وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب (5) .
__________
(1) رواه أحمد (2 / 27) ، وأبو داود (63) ، والترمذي (67) ، والنسائي (1 / 175) ، وابن ماجه (517) ، والشافعي في " الأم " (1 / 18) ، وابن خزيمة (92) ، وابن حبان (117) ، والحاكم (1 / 132) ، والدارقطني (1 / 13) ، والبيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 260) .
(2) هي الصحراء. (ش) .
(3) يُريد: لفظ أحمد.
(4) ذكر ذلك عنه ابن الملقّن في " البدر المنير " (2 / 91) ، وعنه الزيلعي في " نصب الراية " (1 / 107) .
(5) • وخلاصة الجواب أن الحديث صحيح إسناده، والاضطراب المزعوم فيه لا يضر، وأن متنه بلفظ: " قلتين "، وما يخالفه؛ إما شاذ، أو ضعيف لا ينهض لمعارضة النص الصحيح. (ن)
قلت: وانظر " إرواء الغليل " (23) .(1/93)
وقد دلّ هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قُلّتين لم يحمل الخبث، وإذا كان دون القُلّتين فقد يحمل الخبث، ولكنه كما قيد حديث: " الماء طهور لا ينجسه شيء " بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها؛ كذلك يقيد حديث القلتين بها، فيقال: إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس، فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها.
وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث، وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتّاً، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية، لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها، لا الخبث الذي لم يغير.
وحاصله: أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يُستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها، وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك، ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية، لأن الشارع قد نفى النجاسة عن مطلق الماء، كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له، ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين - كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً -، وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام، فقال في الأول: " لا ينجسه شيء "، وقال في الثاني أيضا - كما في تلك الرواية -: " لم ينجسه شيء "، فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر، إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام، مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً، كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها، فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث،(1/94)
فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد، ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - على القول الراجح في الأصول؛ وهو: أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً، فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث، بل يقال فيه: إن ما دون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه، فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية، وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة.
وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين، والكثير بهما: الشافعي - رحمه الله - وأصحابه رحمهم الله -، وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله، والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد، وقد روي أيضا عن الشافعية - رحمهم الله -، والحنفية، - رحمهم الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، ولا أدري: هل تصح هذه الرواية أم لا؟ ! فمذاهب هؤلاء مُدونّة في كتب أتباعهم، من أراد الوقوف عليها راجعها.
واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله - تعالى -: {والرُّجْز (1) فاهْجُر} ، وبخبر الاستيقاظ، وخبر الولوغ، وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم، وهي جميعها في " الصحيح "، ولكنها لا تدل على المطلوب، ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما، كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدّم؛ لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء
__________
(1) {الرجز} ؛ قرئ بضم الراء وكسرها؛ ومعناه العذاب، والمراد بهجر العذاب: هجر أسبابه، فلا حجة في الآية على ما ادعوا. (ش)(1/95)
بجِرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن.
ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس، لأن المخالطة إن كانت بالجِرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة، وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه.
والحاصل: أنهم إن أرادوا بقولهم: إن ظُنّ استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل، وإن لم يظن فهو الكثير: ما هو أعم من عين النجاسة وريحها ولونها وطعمها: فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنّة وأهل المذهب الأول اعتبروا المَئنّة، ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك، فهي لا تكاد تخالف المِئنّة (1) في مثل هذا الموضع، وإن أرادوا استعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط، فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب، ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول، ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غيّر لون الماء، أو ريحه، أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه - كما تقدم تقريره -، فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم، في الإجماع، بل هو مصرِّح لحكاية الإجماع في " البحر ".
فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول، أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتاً وانتفاء، وحينئذ؛ فلا مخالفة بين المذهبين، لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب
__________
(1) المِئنّة: العلامة. (ش)(1/96)
لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم؛ فتأمل هذا فهو مفيد، بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء، وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم، وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق، ويتبلّد عند تشعب طرائقها كل مدقق.
وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته (1) تحريرات مختلفة لهذه العلة، وأطال الكلام عليها في " طيب النشر في المسائل العشر ".
وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون "، ومثل حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، ولا يستفاد منهما إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى.
وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً، وقد عرفت أن أدلة المذهب الأول على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني، فإبعاد النُّجعة إلى مثل حديث: " استفت قلبك " و: " دع ما يريبك " ليس كما ينبغي {
فإن قيل: إنه قصد الاستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة، فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به، وهكذا التعويل على حديث الولوغ والاستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد.
وقد حُكي في تحديد الماء الكثير أقوال، منها: أن الكثير هو المستبحر}
وقيل: ما إذا حُرِّك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر {
وقيل: ما كان مساحة مكانه كذا} وقيل غير ذلك!
__________
(1) ك " نيل الأوطار "، و " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، و " الفتح الرباني ".(1/97)
وهذه الأقوال ليس عليها أثارة من علم، بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة.
(وما فوق القلتين وما دونهما) : قدَّر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدَّرهما بخمس قِرب، وفسرها أصحابه بخمس مئة رطل، وقدّره الحنفية بالغدير الكبير الذي لا يتحرك جانب منه بتحريك الآخر، والعشر في العشر. كذا في " المسوى شرح الموطأ ".
وقال في " حجة الله البالغة ": " ومن لم يقل بالقلتين اضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير - كالمالكية -، أو الرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل " انتهى.
ويدفع ذلك ما مر من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه.
وإن شئت زيادة التفصيل فعليك ب " الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني "؛ ففيها ما يشفي العليل ويسقي الغليل
( [حكم الماء الراكد] )
(ومتحرك وساكن) : وجه ذلك أن سكونه - وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به (1) حالة -؛ فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهوراً؛ لأنه يعود إلى وصف كونه طهوراً بمجرد تحركه.
__________
(1) كذا في الأصل؛ ولم يرد في الحديث النهي عن التطهير بالماء الساكن؛ إنما ورد النهي عن الانغماس فيه للجنب، كما سيذكر المؤلف بعض ألفاظه.
وفرق كبير بينهما؛ بل في الحديث التصريح بالتطهير به بالتناول في كلام أبي هريرة - راويه -. (ش)
• قلت: ولعله سقط منه قوله: " كونه ساكناً "؛ كما يدل عليه السباق والسياق. (ن)(1/98)
وقد دلّت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن ما دام ساكناً، كحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عند مسلم وغيره: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب "، فقالوا: يا أبا هريرة! كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً.
وفي لفظ لأحمد وأبي داود: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة ".
وفي لفظ للبخاري: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه ".
وفي لفظ للترمذي (1) : " ثم يتوضأ منه ".
وغير هذه الروايات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على انفراده، والنهي عن الاغتسال فيه على انفراده، والنهي عن مجموع الأمرين.
ولا يصح أن يقال: إن روايتي الانفراد مقيدتان بالاجتماع؛ لأن البول في الماء على انفراده لا يجوز، فأفاد هذا أن الاغتسال والوضوء في الماء الدائم من دون بول فيه غير جائز، فمن لم يجد إلا ماء ساكنا، وأراد أن يتطهر منه؛ فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه، حتى يخرج عن وصف كونه ساكناً، ثم يتوضأ منه.
وأما أبو هريرة؛ فقد حمل النهي على الانغماس في الماء الدائم، ولهذا لما سئل: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً، ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء،
__________
(1) • وكذا أحمد (رقم 7517، 7518) ؛ وسنده صحيح. (ن)(1/99)
فإنه لا انغماس فيه، بل هو يتناوله تناولاً من الابتداء، فالأوْلى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة، ثم يتطهر (1) به.
وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات، فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن، ومنهم من قال: إن هذه الروايات محمولة على الكراهية فقط! ولا وجه لذلك.
وقد قيل: إن المُستبحر مخصوص من هذا بالإجماع.
والراجح أن الماء الساكن لا يحل التطهر به ما دام ساكناً، فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي، وهو كونه مطهراً.
وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب.
( [حكم الماء المستعمل] :)
(ومستعمَل وغير مستعمَل) : هذه المسألة السادسة من مسائل الباب، وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات؛ هل يخرج بذلك عن كونه مُطهِّراً أم لا؟
فحُكي عن أحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك - في إحدى الروايتين عنهما -، وأبو حنيفة - في رواية عنه -: أن الماء المستعمل غير مطهِّر، واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم.
ولا دلالة له على ذلك؛ لأن علة النهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء
__________
(1) هذا لا يطابق معنى الحديث، وليس المقصود من التشريع إلا صيانة الماء عن القذر والنجس، وأبو هريرة فهم الحديث كما ينبغي أن يفهم. (ش)(1/100)
مستعملاً؛ بل كونه ساكناً، وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الاستعمال.
واحتجوا أيضاً بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة (1) ، ولا تنحصر علة ذلك في الاستعمال، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -، فلا يتم الاستدلال بذلك لاحتماله، ولو كانت العلة الاستعمال؛ لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة والعكس، بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل.
ومن جملة ما استدلوا به: أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء، لا بماء ساقط منه.
وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية، فعلى هذا المستدل أن يوضح: هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم؟
والأول: باطل.
والثاني: لا يُدرى من هو؟ {فليبين لنا من هو؟}
على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع.
وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع؛ مثل حديث غسل اليد ثلاثاً بعد الاستيقاظ قبل إدخالها الإناء، ونحوه.
__________
(1) • يشير إلى حديث: " نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً " رواه أبو داود، والنسائي بسند صحيح، والنهي فيه للتنزيه؛ لحديث ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] في جفنة، فجاء النبي [صلى الله عليه وسلم] ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله! إني كنت جنباً، فقال: " إن الماء لا يجنب " رواه أبو داود وغيره بسند صحيح. (ن)(1/101)
فالحق: أن المستعمل طاهر ومطهر؛ عملاً بالأصل، وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف، ونسبه ابن حزم إلى عطاء، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وجميع أهل الظاهر، ونقله غيره عن الحسن البصري، والزهري، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة - في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين -.
والحق: أن الماء لا يخرج عن كونه طهوراً بمجرد استعماله للطهارة؛ إلا أن يتغير بذلك ريحه أو لونه أو طعمه، وقد كان الصحابة يكادون يقتتلون على ما تساقط من وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، فيأخذونه ويتبركون به، والتبرك به (1) يكون بغسل بعض أعضاء الوضوء كما يكون بغير ذلك.
والحاصل: أن إخراج ما جعله الله طهوراً عن الطهورية لا يكون إلا بدليل.
__________
(1) وهذا التبرك خاص بالنبي [صلى الله عليه وسلم] ، ولا يجوز إلحاق غيره به؛ لعدم مساواة غيره له [صلى الله عليه وسلم] .
وما تفعله بعض الفِرق الصوفية - وكثير من العامة - من ذلك؛ فهو غير جائز البتّة، بل قد يؤدي إلى الشرك - عياذاً بالله تعالى -.(1/102)
(باب النجاسات)
(فصل)
( [تعريف النجاسة] :)
(والنجاسات) : جمع نجاسة، وهي: كل شيء يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه، ويغسلون الثياب إذا أصابها؛ كالعَذِرة والبول.
( [أنواع النجاسات] :)
(1 -[بول الآدمي وغائطه] :)
(هي غائط الإنسان مطلقاً وبوله) بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك، بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية، كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية، وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال.
أما الغائط: فكما في حديث أبي هريرة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى؛ فإن التراب له طهور "؛ وفي لفظ: " إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطورهما التراب ".
رواهما أبو داود - رحمه الله -، وابن السكن، والحاكم، والبيهقي.(1/103)
وقد اختُلف فيه على الأوزاعي (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن حبان من حديث أبي سعيد: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض، ثم ليصلّ فيهما ".
وقد اختُلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في " العلل " الموصول (2) .
وأخرج أهل " السنن " عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ: " يطهِّره ما بعده " (3) .
وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه.
وكذلك عن امرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي (4) - أيضا -.
فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يُخرجه عن كونه نجساً بالضرورة؛ إذ اختلاف وجه التطهير لا يُخرج النجس عن كونه نجساً.
__________
(1) • وقد بيَّنت الخلاف المشار إليه في كتابي " صحيح سنن أبي داود " رقم (410) ؛ لكن الحديث صحيح، فقد رواه أبو داود أيضا من حديث عائشة بمعناه، وسنده صحيح، كما بينته هناك رقم (411) ، وحسَّنه المنذري في " مختصره ". (ن)
(2) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم، وكذلك صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي أيضا، وقد تكلمت على سند الحديث في " صحيح سنن أبي داود " رقم (658) ، وله فيه شاهد مرسل صحيح. (ن)
(3) • وهو حديث صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (407) . (ن)
(4) • لقد أبعد المصنف النُّجعة، فالحديث رواه أبو داود، وابن ماجة أيضا، وإسناده صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (408) . (ن)(1/104)
وأما التخفيف في تطهير البول؛ فكما ثبت أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر بأن يُراق على بول الأعرابي ذَنوب (1) من ماء.
وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس - رضي الله عنهما -.
(2 -[طهارة بول ما يؤكل لحمه] :)
وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال؛ فلم يحصل الاتفاق على شيء في شأنها، والأدلة مختلفة:
فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل؛ فإنه ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر العُرَنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل.
ومن ذلك حديث: " لا بأس ببول ما يؤكل لحمه "؛ وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه -؛ والبراء رضي الله عنه، وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي؛ وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة (2) .
وورد ما يدل على نجاسة الرَّوث: ما أخرجه البخاري (3) وغيره: أنه قال [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها رِكْس "؛ والركس النجس.
وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير.
ولكن زاد ابن خزيمة في رواية: " إنها ركس؛ إنها روثة حمار ".
__________
(1) في الأصل (ذنوباً) وهو خطأ.
والذنوب: الدلو. (ش)
(2) بل كذبه أحمد بن حنبل. (ش)
(3) • في " صحيحه " (1 / 206 - 207) ، وكذا أحمد (رقم 3685) . (ن)(1/105)
ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة؛ لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي.
وحديث الروثة لا يستلزم التعميم.
وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الاعتبار؛ لأنه من رواية ثابت بن حماد، عن علي بن زيد بن جدعان، والأول: مجمع على تركه، والثاني: مجمع على ضعفه؛ فلا ينتهض بمثله حجة على التعميم (1) .
واحتجوا بإذنه [صلى الله عليه وسلم] بالصلاة في مرابض الغنم، وبإذنه بشرب أبوال الإبل، وهما صحيحان.
ولا حكم للمعارضة بنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلِّي (2) ، فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها،
__________
(1) هو حديث رواه الدارقطني، والبزار، والبيهقي وغيرهم؛ ولفظه: " إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء ".
قال الدارقطني: " لم يروه غير ثابت بن حماد، وهو ضعيف جدّاً ".
وقال البيهقي: " هذا باطل لا أصل له؛ ثابت متهم بالوضع ".
انظر شرحنا على " التحقيق " في المسألة رقم (23) . (ش)
(2) • هذا التعليل لا أصل له في السنة، وإنما جاء فيها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خُلقت من الشياطين ".
رواه ابن ماجه، والطحاوي، وأحمد، والبيهقي، والطيالسي عن عبد الله بن مُغفَّل، وإسناده صحيح كما بينته في " الثمر المستطاب ".
وله شاهد من حديث البراء بسند صحيح كما بينته هناك؛ وفيه: " صلوا فيها - يعني: مرابض الغنم -؛ فإنها بركة "، وقد رواه الخطيب في " الموضح " (2 / 97) . (ن) .(1/106)
كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة، لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة؛ فإن مثل ذلك لا يُسوِّغ مباشرة ما ليس بطاهر.
(3 -[روث الحيوانات] :)
فالحق الحقيق بالقبول: الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة الدينية - وهو بول الآدمي وغائطه -، وأما ما عداهما؛ فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته - كالروثة -؛ وجب الحكم بذلك من دون إلحاق، وإن لم يرد؛ فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشيء نجساً من دون دليل؛ فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى، ولا يحل إلا بعد قيام الحجة.
قال الماتن - رحمه الله تعالى -: " ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شيء أنه طاهر؛ لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقول على الله - تعالى - بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة ".
(4 -[نجاسة بول الرضيع] :)
(إلا الذكر الرضيع) : لحديث: " يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام "، أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه، والبزار، وابن خزيمة، من حديث أبي السمح - خادم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]-، وصححه الحاكم.(1/107)
وأخرج أحمد، والترمذي - وحسنه -، من حديث علي - رضي الله عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغسل ".
وأخرجه - أيضا - ابن ماجه، وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني من حديث أم الفضل لُبابة بنت الحارث، قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقلت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره، حتى أغسله، فقال: " إنما يُنضح من بول الذكر، ويُغسل من بول الأنثى ".
وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنها أتت بابن لها صغير لم - يأكل الطعام - إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله.
وفي " صحيح البخاري " من حديث عائشة، قالت: أُتي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بصبي يُحنِّكه، فبال عليه، فأتبعه الماء.
وفي " صحيح مسلم " عنها، قالت: كان يؤتى بالصبيان، فيبرِّك عليهم ويحنِّكهم، فأتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله.
فهذا تصريح بأنه لم يغسله، فيكون إتباعه الماء مجرد النضح، كما وقع في الحديثين الآخرين، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل.
__________
(1) • قلت: وأخرجه أبو داود مرفوعاً أيضا، وسنده صحيح مرفوعاً وموقوفاً، وقد بينت ذلك في " صحيح سنن أبي داود " رقم (401، 402) . (ن)(1/108)
وبالجملة: فالتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] بالقول بما هو الواجب في ذلك؛ هو الأوْلى بالاتِّباع؛ لكونه كلاماً مع أمته، فلا يعارضه ما وقع من فعله؛ على فرض أنه مخالف للقول.
( [أقوال الفقهاء في تطهير بول الرضيع] :)
وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة؛ منهم: علي، وأم سلمة، والثوري، والأوزاعي، والنخعي، وداود، وابن وهب، وعطاء، والحسن، والزهري، وأحمد، وإسحاق ومالك - في رواية -.
وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه.
وذهب بعض أهل العلم - وقد حُكي عن مالك، والشافعي، والأوزاعي - إلى أنه يكفي النضح فيهما، وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية.
وذهب الحنفية - رحمهم الله -، وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل، وهذا المذهب كالذي قبله - في مخالفة الأدلة -.
وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم، ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام.
وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية: فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.(1/109)
وقد شدّد (1) ابن حزم فقال: إنه يرش من بول الذكر - أي ذكر كان - {وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً، بلفظ -: " بول الغلام الرضيع يُنضَح "، والواجب حمل المطلق على المقيد.
قال في " الحُجّة ": " قد أخذ بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي، وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس ".
قلت: قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: يُنضح من بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل من بول الجارية ".
فسّره البغوي بأن بول الصبي نجس، غير أنه يُكتفى فيه بالرش، وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه، فيطهّر من غير مَرْس ولا دلك.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: يغسل منهما سواء.
ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -: إن المراد بالنضح الغسل الخفيف، وبالغسل المرس والدلك.
وأصل المسألة: أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها، وبول الجارية أغلظ وأنتن، فاحتيج فيه إلى زيادة المرس. كذا في " المُسوى ".
وأقول: أحاديث التخصيص ههنا صحيحة، لا شك في ذلك ولا ريب، فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف، الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة؟}
__________
(1) قوله: " شدّد "؛ هكذا بالأصل مصلحاً {ولعله: " شذّ "؛ فليتأمل} (ش)(1/110)
وهذا كلام عاطل الجِيد عن الفائدة بمرة؛ لأن هذا المعنى قد استُفيد من العام، ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة، وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم - وكان أفصح العرب -، بما يلحقه بكلام من هو من العيّ بمنزلة تُوقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة.
وقد ذكر في " النهاية " ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل.
قلت: قد يَرِد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام، وههنا وقع مقابلاً للغسل، فكيف يصح تفسيره به؟ {
وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش، فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره، فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب؟} وإلا كان الكلام حشواً.
وإن كان استعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول؛ فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزيّة على غيره من علماء أمّته، فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه.
وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الأسلاف جعلوه كأسلافهم، فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الإنصاف، ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم، فيردون كلامه [صلى الله عليه وسلم] إلى كلامهم، فإن وافقهم فبها ونعمت، وإن لم يوافقهم فالقول ما قالت حَذام (1) .
فإن أنكرتَ هذا؛ فهات؛ أبِنْ لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات
__________
(1) من أمثال العرب المشهورة، والمراد عدم الحيْدَة عن كلامه [صلى الله عليه وسلم] .(1/111)
المتعسفة، وردّ أحاديث التخصيص الصحيحة؟ {مع تسليمهم أن الخاص مقدم على العام، وأن يُبنى العام على الخاص}
وهذا مشتهر في الأصول اشتهار النهار.
(5 -[لُعاب الكلب] :)
(ولعاب كلب) : قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً ".
وثبت - أيضاً - عندهما وغيرهما مثله من حديث عبد الله بن مغفل، فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب؛ وهو المطلوب هنا.
والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف، وليس ذلك مما يقدح في كونه نجساً؛ لأن محل الدليل على النجاسة هو إيجاب الغسل، وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالتتريب، كما وقع في أحاديث الباب في " الصحيحين " وغيرهما؛ فإنه ليس المقصود ههنا إلا إثبات كون اللعاب نجساً، لا بيان كيفية تطهيره، فلذلك موضع آخر.
والحاصل: أن الحق ما قضى به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من التسبيع والتتريب، وليس من شرط التعبد الاطِّلاع على علل الأحكام التي تعبَّدَنا الله بها - على ما هو الراجح -، وقد صح لنا الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بالغسل على الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة، ولم نجد عنه ما يدلنا على خلاف هذا الحكم، فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة، سواء كان القول المخالف منسوباً إلى(1/112)
جميعهم أو إلى بعضهم، وقد حفظ الله هذه السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة، كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة.
ومن أغرب ما يراه من ألهمه الله رشده وحبب إليه الإنصاف؛ ما يقع في كثير من المواطن - من جماعة - من ذلك عن الشريعة بمعزل، والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من الشمس؛ من دون سبب يقتضي ذلك - كما فيما نحن بصدده -، وفيما سلف في بول الصبي، وأشباه هذا ونظائره لا تحصى؛ والله المستعان.
(5 -[الرّوث] :)
(وروث) : الدليل على نجاسته ما تقدمت الإشارة إليه من قوله [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها ركس "؛ والركس - في اللغة -: النجس؛ فالروثة نجس، وهو المطلوب.
وقد قدمنا كلام التيمي في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير.
(6 -[دم الحيض] :)
(ودم حيض) : الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد، وأبي داود، والترمذي من حديث خولة بنت يسار، قالت: يا رسول الله {ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟ قال: " فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه " قالت: يا رسول الله} إن لم يخرج أثره؟ قال: " يكفيك الماء، ولا يضرك أثره ".(1/113)
وفي إسناده ابن لهيعة (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعاً بلفظ: " حُكّيه بضِلَع (2) واغسليه بماء وسِدْر ".
قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة (3) .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما -، قالت: جاءت امرأة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض؛ فكيف تصنع؟ قال: " تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه ".
فالأمر بغسل دم الحيض وحكّه بضِلع يفيد ثبوت نجاسته، وإن اختلف وجه تطهيره، فذلك لا يخرجه عن كونه نجساً.
__________
(1) • قلت: لكن رواه عنه عبد الله بن وهب - أيضاً - عند البيهقي، وحديث ابن لهيعة إذا كان من رواية العبادلة عنه، وهم: ابن وهب، وابن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، فالحديث صحيح، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 389) . (ن) .
(2) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام؛ أي: بعود، والأصل فيه: الضلع - باللام الساكنة -: ضلع الجنب، وقيل للعود الذي فيه انحناء وعرض: ضلع؛ تشبيهاً بالضلع الذي هو واحد الأضلاع.
قاله في " اللسان ".
وقال ابن الأعرابي: الضلع ههنا: العود الذي فيه الاعوجاج.
وفي بعض الروايات: " بضلع " بفتح الصاد المهملة، وإسكان اللام -، وهو الحجر، وزعم ابن دقيق العيد أن الأول تصحيف! وهو خطأ. (ش) .
(3) • وقال الحافظ في " الفتح " (1 / 266) : " وإسناده حسن "، وهو قصور؛ فالسند صحيح لا علة فيه، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 388) مصححاً. (ن)(1/114)
وأما سائر الدماء؛ فالأدلة فيها مختلفة مضطربة، والبراءة الأصلية مستصحبة، حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية. (1)
ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله - تعالى -: {فإنه رجس} إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة - من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير -؛ لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة، ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب؟ ! والظاهر رجوعه إلى الأقرب - وهو لحم الخنزير؛ - لإفراد الضمير، ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة، والدم الذي ليس بدم حيض، ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها، كما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها ".
ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية؛ فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة.
(7 -[لحم الخنزير] :)
(ولحم خنزير) : الدليل على نجاسته ما قدمنا قريباً من الآية الكريمة.
__________
(1) هذا خطأ من المؤلف والشارح؛ فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم الحيض، والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس - ولو لم يأت لفظ صريح بذلك -، وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة. (ش) .
• قلت: وقد نقل القرطبي في " تفسيره " (2 / 221) اتفاق العلماء على نجاسة الدم.
قلت: وفيه نظر، فقد صح أن ابن مسعود نحر جزوراً فأصابه من دمه، فقام وصلى وعليه الدم. أخرجه الطبراني. (ن)(1/115)
( [الأدلة على طهارة المنِيّ] :)
(وفيما عدا ذلك خلاف) : وأما المني؛ فاحتجوا على نجاسته بأمور:
الأول: حديث عمار، وقد سلف عدم صلاحيته للاحتجاج.
والثاني: بما ورد عن جماعة من الصحابة، وذلك لا تقوم به حجة؛ لأنه لم يكن إجماعاً ولا مرفوعاً.
والثالث: بما ورد في المَذْي (1) من الأمر بغسل الفرج والأُنثيين.
ويجاب عنه: أنه إثبات لنجاسة المني بقياس؛ لأنهما متغايران، على أنه يمكن أن يكون التغليظ في المذي؛ إما لكونه يخرج غالباً مختلطاً بالبول، أو لأنه ليس بأصل للنسل.
ويلزم أن يطهُر بالنضح؛ لما ورد عند أبي داود، والترمذي - وصححه - من حديث سهل بن حُنَيْف بلفظ: " يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيثما ترى أنه (2) أصاب من ثوبك " (3) .
وأما الجواب عن حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] لعائشة بفرك المني؛ بأن المراد به الفرك قبل الغسل، لا مجرد الفرك فقط! فهذا خلاف ما تقتضيه المقابلة للفرك بالغسل.
__________
(1) • كان اللائق ذكر المذْي في النجاسات المنصوصة عليها، لورود الأمر بغسله، كما يشير المؤلف نفسه إلى ذلك. (ن)
(2) أي المدى. (ش)
(3) • قلت: وسنده حسن كما بينته في " صحيح أبي داود " (رقم 204) . (ن)(1/116)
وكان أقرب من هذا أن يجاب: بأن الفرك لم يكن بأمره [صلى الله عليه وسلم] ؛ إنما قالت عائشة: كنت أفركه من ثوب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- كما في كتب الحديث -.
والأمر الرابع: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يغسل موضع المني من ثوبه؛ ويجاب عنه: بأن هذا فعل لا يصلح لإثبات النجاسة المستلزم لوجوب الإزالة، مع احتمال أن يكون غسله تقذُّراً لما فيه من مخالفة النظافة.
وأما فرك عائشة لمنيِّه [صلى الله عليه وسلم] من ثوبه حال صلاته بأنه (1) لم يعلم بذلك: فالجواب عنه بأنه لو كان نجساً لما أقره الله على ذلك، كما ثبت في حديث خلع النعل بعد دخوله في الصلاة لإخبار جبريل له بذلك.
وقد قدمت لك أن الحكم بكون الشيء نجساً لا يُقبل إلا بدليل تقوم به الحجة؛ غير معارض بما هو أنهض أو مساوٍ؛ لأن الحكم بكون الشيء نجساً يستلزم تعبد العباد بحكم من أحكام الشرع تعم به البلوى.
وقد أوردت في " مِسك الختام شرح بلوغ المرام " حجج المختلفين، ورجّحت هناك ما رجّحت، وظهر لي الآن أن القيام في مقام المنع هو الذي ندين به عند الله.
وفي " سُبُل السلام ": والحق أن الأصل الطهارة، والدليل على القائل بالنجاسة، فنحن باقون على الأصل.
وذهب الحنفية - رحمهم الله - إلى نجاسة المني كغيرهم، ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالخِرقة، أو الإذخرة؛ عملاً بالحديثين،
__________
(1) لعله: وأنه. (ش)(1/117)
وبين الفريقين القائلين بالنجاسة والقائلين بالطهارة مجادلات ومناظرات واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي " شرح العمدة ". انتهى
( [الأصل في الأشياء الطهارة] :)
(والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) : لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى، وقد أرشدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله - تعالى - عنها، وأنها عفو؛ فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته؛ فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد، أو غلط في الاستدلال، كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرّمه الله - تعالى -، زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان.
وهذا الزعم من أبطل الباطلات، فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام (1) ؛ فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك، وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته، فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلاً: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها " (2) ، ولو كان مجرد تحريم شيء
__________
(1) هي أنواع الدلالات المنطقية.
(2) هذا فهم خطأ، ولم يقصد الشارع بالحصر - إذا سلمنا أن " إنما " تدل على الحصر - أنها ليست نجسة؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا نجاسة الميت بكل أجزائها مما علموه من الشريعة، فأعلمهم أن المحرم أكلها، وأما الانتفاع بجلدها؛ فجائز بعد دباغه؛ ولذلك ورد مرفوعاً من حديث ابن عباس: " إذا دُبغ الإهاب فقد طهر " رواه مسلم.
ورواه الحاكم بلفظ: " دباغه يذهب بخبثه - أو نجسه أو رجسه - "، وهو صحيح لا علة له، وله ألفاظ أخرى تدل على أن الميتة نجسة، انظر شرحنا على " التحقيق " لابن الجوزي مسألة رقم (17) . (ش)(1/118)
مستلزماً لنجاسته؛ لكان مثل قوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية!
( [المسلم طاهر حياً وميتاً] :)
والمسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً، كما ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] في " الصحيح "، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق (1) ، كالأنصاب والأزلام وما يُسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة.
فإن قلت: إذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيَّته أو ركسيَّته يدل على أنه نجس - كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير - فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} ؟} قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترناً بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرِّجسيّة إلى غير النجاسة الشرعية.
( [نجاسة المشرك] :)
وهكذا قوله - تعالى: {إنما المشركون نجس} : لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين، كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم، والتوضؤ من آنيتهم والأكل فيها، وإنزالهم المسجد: كان ذلك دليلاً على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية، بل قد ورد (2) البيان من الشارع
__________
(1) • في نقل هذا الاتفاق نظر؛ فقد ذهب ابن حزم إلى تنجيس المذكورات في الآية. (ن)
(2) • قلت: في الجزم بورود هذا الحديث نظر قوي، لأنه من رواية الحسن البصري مرسلاً، وأخرجه أبو داود في " المراسيل "، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق.
ومراسيل الحسن ضعيفة، قالوا: إنها كالريح، وروي عنه، عن عثمان بن أبي العاص مسنداً، =(1/119)
لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة، فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد: " ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء؛ إنما أنجاسهم على أنفسهم "، فهذا يدل على أن تلك النجاسة حُكمية لا حِسِّيّة، والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية.
وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته - ولكنه قد عورض بما هو أرجح منه -: فلا شك أن يتعين العمل بالأرجح، فإن عورض بما يساويه؛ فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم، حتى يرد مورداً خالصاً عن شَوْب المعارضة، أو راجحاً على ما عارضه.
وبالجملة: فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع، ولا يتزحزح عن هذا المقام إلا بحجة شرعية.
قال في " سبل السلام ": " والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة؛ فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكل المخدرات والسمومات القاتلة لا دليل على نجاستها، وأما النجاسة فيلازمها التحريم فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب؛ وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً، إذا عرفت هذا: فتحريم الحُمُر والخمر - الذي دلت عليه النصوص - لا يلزم منه نجاستها، بل لا بد من دليل آخر عليه؛ وإلا بقيا على الأصول
__________
= دون قوله: " وليس على الأرض من أنجاس القوم شيء "، وزاد: " ليكون أرق لقلوبهم "، وهو مخرج في " ضعيف أبي داود " (529) . (ن)
قلت: وانظر " مصنف عبد الرزاق " (1650) ، و " نصب الراية " (4 / 270) ، و " البناية شرح الهداية " (4 / 274 - الطبعة الهندية) ، و " شرح فتح القدير " (8 / 496) .(1/120)
المتفق عليها من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه ". انتهى.
وقد أوضح الماتن في مصنفاته: ك " شرح المنتقى " و " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام " هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة ما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره؛ فليراجع.
(فصل [تطهير النجاسات] )
( [الاقتصار على ما ورد في الشرع] :)
(ويطهر ما يتنجس بغسله) ؛ أي: بإسالة الماء عليه، ثم إن ورد فيه شيء عن الشارع؛ كان الواجب الاقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد، من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه، كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه، وقد تقدم ما يدل على ذلك، وتقدم - أيضا - ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب.
وبالجملة: فكل ما علمنا الشارع كيفية تطهيره؛ كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية، وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره؛ فالواجب علينا إذهاب تلك العين.
(حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم) : لأن الشيء الذي يجد الإنسان ريحه أو طعمه - قد بقي فيه - جزء من العين، وإن لم يبق جرمها ولونها؛ إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الريح، وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الطعم.(1/121)
( [تطهير النعل بالمسح] :)
(والنعل بالمسح) وكذلك الخف؛ لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة، والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة، فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك.
ثم إن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان، وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس: أوضح هذا المعنى إيضاحا ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال، فقال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فلينظر نعليه، فإن كان فيها خبث فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ".
ولفظ أحمد وأبي داود: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ".
فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك، فإنه - أولا - بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجودا محققا؛ فعلوا المسح بالأرض، ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها.
( [تلبيس الشيطان على الموسوسين] :)
ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ما هو فيه نوعا من الجنون! فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة، حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر، مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة، فلا يزال في تعب ونصب(1/122)
ومزاولة، لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد؛ شرع في العضو الثاني ثم كذلك، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس، فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد من العصاة؛ لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات - كما قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيمن تجاوزها -: " ... فقد أساء وتعدى وظلم "، فجمع له [صلى الله عليه وسلم] بين هذه الثلاثة أنواع، ثم لم يقنع منه بهذا، حتى صيره تاركا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
وأخرج أهل " السنن "، وأحمد من حديث بريدة، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ".
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: " كان أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر؛ غير الصلاة ".
فانظر كيف صار هذا الموسوس - بنص رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- مسيئا متعديا ظالما كافرا (1) ، إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه، فهذا باعتبار ما له عند ربه.
وأما باعتبار ما له عند الخلق؛ فأقل الأحوال أن يقال: مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن، ف {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} ، ومع هذا؛ فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرا ما يفضي
__________
(1) انظر رسالة " حكم تارك الصلاة " لشيخنا الألباني - بتعليقي وتقديمي.(1/123)
به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلا لنفسه في معصية، فلا يراح رائحة الجنة، كما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فيمن قتل نفسه (1) ، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل.
فمن كان جاهلا؛ اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها؛ فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو {وهو قد غسل ذلك العضو مئات} {
ومنهم من يقول: أريد أن أغسل غسلا مشروعا، لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك} فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة (2) دلكا فظيعا، فيشرع بالأنملة، ثم يدلك جزءا بعد جزء، حتى يفرغ من الأصبع، ثم يأخذ في الأخرى، ثم كذلك؛ فلا يفرغ من غسل يده؛ إلا بعد مدة طويلة، ثم يلعب به الشيطان، فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله، فيعود إليه، ثم كذلك، فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه؛ إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه.
ومن كان عالما؛ يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنه ممن أضله الله على علم، ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعبادة عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يستحي من الله؛ فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يستحي من الناس؛ فيردعه حياؤه عن
__________
(1) قارن ب " غاية المرام " (453) ، و " صحيح الجامع " (6457) .
(2) لعله: الحبة (ش) .(1/124)
التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان {وفي مثل هذا قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ".
والحاصل: أن هذه المحنة قد عمت وطمت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل} والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب، والغراب الأبقع (1) .
ومن أنكر هذا فليجرب نفسه، ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض، ثم يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه؟ {مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه، إن أنصف من نفسه فليصدق فعله قوله، وإن كان مقلدا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك؛ فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها؛ لأنه وجد قوما لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة؛ فهم أشقى أتباعه.
اللهم} أعذنا من نزعات الشيطان، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
( [التطهير بالاستحالة] :)
(والاستحالة مطهرة) ؛ أي: إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى كان
__________
(1) أمثلة تقال لندرة الشيماء.(1/125)
ذلك الشيء الآخر مخالفا للشيء الأول - لونا وطعما وريحا -، كاستحالة العذرة رمادا.
وقد أوضحت ذلك في كتابي " دليل الطالب " فليراجع، وحققه الماتن في " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، وغيرهما.
(لعدم وجود الوصف المحكوم عليه) يعني: فقدْ فقدَ الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه، وهذا هو الحق.
والخلاف في ذلك معروف.
( [تطهير ما لا يمكن غسله] :)
(وما) كان (لا يمكن غسله) من المتنجسات كالأرض والبئر (ف) تطهيره (بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى) أي: لا يوجد (للنجاسة أثر) ؛ لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقيا، ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي لها جرم ولون؛ وأما مثل البول؛ فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء، فإن وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة - بالبول - طاهرة.
أقول: البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة: أن المطهر الكثير يطهر الأرض، وأن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة، وتجعل البول متلاشيا كأن لم يكن.
في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة، فصب عليها الماء حتى غلبها؛ طهرت،(1/126)
والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير، ولكنها لا تطهر، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة ".
وعند الحنفية - رحمهم الله تعالى - الغسالة نجسة، والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة. انتهى.
( [الأصل في التطهير هو الماء] :)
(والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع) : لأن كون الأصل في التطهير هو الماء، قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفا مطلقا غير مقيد، بل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " يرشد إلى ما ذكرنا إرشادا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول، فإذا ثبت عن الشارع أن تطهير شيء من النجاسات يكون بغير الماء - كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك -؛ كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها، بل نقتصر عليه هناك، ويتعين الماء فيما عداها، وهذا هو الحق.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات، وذهب أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - وأبو يوسف - رحمه الله تعالى - إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر.
ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون: إن الماء يتعين في مثل ذلك.
ويرد على أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد عن الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع.(1/127)
(3 - باب قضاء الحاجة)
والحاجة: كناية عن خروج البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قعد أحدكم لحاجته "، وعبر عنه الفقهاء ب (باب الاستطابة) ؛ لحديث: " ولا يستطيب بيمينه "، والمحدثون ب (باب التخلي) ؛ مأخوذ من قوله: " إذا دخل أحدكم الخلاء "، والتبرز من قوله: " البراز في الموارد ".
والكل من العبارات صحيح.
( [آداب قضاء الحاجة] :)
(1 - أن يستتر) :
(على المتخلي الاستتار) : فينبغي أن يبعد؛ لئلا يسمع منه صوت أو يشم منه ريح أو يرى منه عورة.
( [2 - أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض] :)
(ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) عند قضاء الحاجة، ويستتر بمثل حائش نخل مما يواري أسفل بدنه، " ... فمن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره؛ فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم " (1) ، وذلك لأن الشيطان جبل على أفكار فاسدة وأعمال شنيعة. كذا في " الحجة ".
__________
(1) " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (1028) .(1/128)
وذلك لما ورد من الأدلة الدالة على وجوب ستر العورة عموما وخصوصا؛ إلا عند الضرورة، ومنها قضاء الحاجة، فلا يكشف عورته إلا عند القعود.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: " من أتى الغائط فليستتر ".
( [3 - أن يبعد في المذهب أو يدخل الكنيف] :)
(والبعد) : لما أخرجه أهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] في سفر، فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى.
ولفظ أبي داود: كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد.
ورجاله رجال الصحيح؛ إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي، ففيه مقال يسير.
(أو دخول الكنيف) ؛ يعني: إذا أراد أن يقضي الحاجة في البنيان، وهناك كنيف؛ فليس عليه إلا أن يدخله، وإن قرب من الناس؛ لما سيأتي من حديث ابن عمر.
( [4 - أن يترك الكلام] :)
(و) أما (ترك الكلام) : فلحديث: " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك " (1) ؛ أخرجه أحمد، وأبو
__________
(1) ضعفه شيخنا في " تمام المنة " (58) .(1/129)
داود، وابن ماجة من حديث أبي سعيد.
وأخرج نحوه ابن السكن (1) - وصححه - من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه -.
( [5 - أن لا يصطحب ما فيه اسم الله] :)
(و) أما ترك (الملابسة لما له حرمة) : فلحديث أنس - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، والمنذري، وابن دقيق العيد - بلفظ: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء ينزع خاتمه.
ولم يأت من ضعفه (2) بما تقوم به الحجة في التضعيف.
( [6 - أن لا يتخلى في الموارد والظل والطرق] :)
(وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع) : كالتخلي في ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم والماء الدائم، فقد ورد في ذلك أحاديث:
منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، قال: " اتقوا اللاعنين "، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ {قال: الذي يتخلى في طريق
__________
(1) أورد إسناده ابن القطان في " بيان الوهم والإيهام " (5 / 260) وجوده}
مع أنه في إسناده يحيى بن أبي كثير!
ورواه الطبراني في " الأوسط " (344 - مجمع البحرين) ؛ من حديث أبي هريرة، وفي إسناده - أيضا - يحيى بن أبي كثير.
(2) بل هو ضعيف؛ فانظر " إرواء الغليل " (48) ، و " مختصر الشمائل المحمدية " (75) .(1/130)
الناس أو في ظلهم "؛ وافهم أن الحكمة الاحتراز عن لعنهم وتأذيهم.
ومنها حديث معاذ بن جبل عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم، وابن السكن - وصححاه -، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ".
وقد أعل (1) بأنه من رواية أبي سعيد الحميري عن معاذ - ولم يسمع منه -.
وفي الباب أحاديث فيها مقال.
( [7 - أن لا يبول في الجحر] :)
ومن الأمكنة التي نهى الشارع عنها: الجحر؛ لحديث عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يبال في الجحر.
أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي.
وقد أعل بأنه من رواية قتادة عنه - ولم يسمع منه -، ولكنه قد صحح سماعه منه علي بن المديني، وصحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن (2) .
والجحر؛ قد يكون مأوى حية أو مثلها، فتخرج وتؤذي.
( [8 - أن لا يبول في مستحمه] :)
ومنها ما أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -، وأهل " السنن " من حديث عبد الله بن مغفل، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم
__________
(1) ولكنه حسن في الشواهد، انظر " الإرواء " (62) ، و " المشكاة " (355) .
(2) انظر ترجيح تضعيفه في " تمام المنة " (ص 61 - 62) .(1/131)
يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه " (1) .
ومنها ما أخرجه مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى - والنسائي - رحمه الله تعالى - وابن ماجة - رحمه الله تعالى - عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يبال في الماء الراكد.
(أو عرف) : وجهه أنهم يتأذون بذلك، وما كان ذريعة إلى ما لا يحل، فهو لا يحل.
( [9 - ترك استقبال واستدبار القبلة] :)
(وعدم الاستقبال والاستدبار للقبلة) : قد ورد في ذلك أحاديث:
منها ما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي أيوب بلفظ: " إذا أتيتم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا "
وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -، ومن حديث سلمان - أيضا -.
وابن ماجة، وابن حبان من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو داود من حديث عبد الله بن مغفل، والدارمي في " مسنده "، من حديث سهل بن حنيف.
( [أقوال العلماء] :)
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال، استوفاها الماتن في
__________
(1) الحديث حسن؛ إلا فقرة الوسواس؛ فلا شاهد لها؛ فانظر " تمام المنة " (ص 63) .(1/132)
" نيل الأوطار ".
وقد استدل من لم يمنع من ذلك بما أخرجه الجماعة من حديث ابن عمر، قال: رقيت يوما على بيت حفصة - رضي الله تعالى عنها -، فرأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة "، وجعلوا هذا الحديث ناسخا لأحاديث النهي.
ومن جملة ما استدلوا به: حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى؛ وحسنه - وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، والبزار - رحمه الله تعالى -، وابن الجارود - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، وابن حبان - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، قال: نهى النبي [صلى الله عليه وسلم] أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها.
قد نقل الترمذي عن البخاري - رحمه الله تعالى - تصحيحه، وصححه - أيضا - ابن السكن، وحسنه - أيضا - البزار.
ولا يخفى أنه قد تقرر في الأصول: أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض القول الخاص بالأمة، فما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة (1)
__________
(1) كلا بل يعارضه، وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به [صلى الله عليه وسلم] .
وما زعمه الشارح - تبعا للمؤلف في " نيل الأوطار "؛ من أنه تقرر في الأصول ... الخ - دعوى لا دليل عليها، ومرجعها إلى ادعاء الخصوصية في بعض أفعاله، وهي لا تقبل ممن يدعيها إلا بدليل صريح.
والحق أن النهي عن الاستقبال أو الاستدبار منسوخ بحديث جابر. (ش)
قلت: انظر مناقشة شيخنا الألباني لهذه المسألة في " تمام المنة " (59 - 61) ؛ فقد رجح مطلق النهي.(1/133)
فإن قلت: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، قالت: ذكر لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم؟ فقال: " أو قد فعلوها؟ {حولوا مقعدتي قبل القبلة "، قلت: لو صح هذا لكان صالحا للنسخ؛ لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] فعله لقصد التشريع للأمة، ولمخالفة من كان يكره الاستقبال.
ولكنه لم يصح؛ فإن في إسناده خالد بن أبي الصلت: قال ابن حزم: هو مجهول، وقال الذهبي في " الميزان " في ترجمة خالد بن أبي الصلت: إن هذا الحديث منكر (1) .
وقد استدل من خصص المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة بالفضاء بما أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، عن مروان الأصفر - رضي الله عنه -، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته؛ مستقبل القبلة يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن} أليس قد نهي عن ذلك؟ ! فقال: بلى، إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.
وقد حسن (2) الحافظ في " الفتح " إسناده، ولكنه إنما يكون هذا دليلا إذا كان قد سمع من النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يفيد تخصيص ذلك النهي السابق.
وأما إذا كان مستنده إنما هو مجرد فهمه من فعله [صلى الله عليه وسلم] في بيت حفصة
__________
(1) خالد بن أبي الصلت ثقة وثقه ابن حبان. (ش)
قلت: والحديث في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (947) مضعف بست علل؛ فلتنظر.
(2) وفي إسناده الحسن بن ذكوان؛ قال الحافظ: " صدوق يخطئ ويدلس ".
وقد عنعنه.(1/134)
- رضي الله عنها -: فلا يكون هذا الفهم حجة، ومع الاحتمال لا ينتهض للاستدلال.
قال الشافعي - رحمه الله -: الاستقبال والاستدبار محرمان في الصحراء لا في البنيان، ووجه الجمع عنده تنزيل النهي والإباحة على حالتين.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مكروهان فيهما سواء، ووجه الجمع عنده أن النهي للتنزيه، والفعل لبيان الجواز في الجملة.
كذا في " المسوى ".
قال في " سبل السلام: اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال: أقربها: يحرم في الصحارى دون العمران؛ لأن أحاديث الإباحة وردت في الإباحة فحملت عليه، وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت: بقيت الصحراء على التحريم، وقد قال ابن عمر: إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. رواه أبو داود وغيره.
وهذا القول ليس بالبعيد؛ لبقاء أحاديث النهي على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك. انتهى.
وروي عن عائشة عند الترمذي: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لم يبل قائما.
وروي عن عمر عند الترمذي (1) : أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهاه أن يبول قائما.
__________
(1) برقم (12) ، وأعله بعبد الكريم بن أبي المخارق.(1/135)
وروى الحاكم: أن بوله [صلى الله عليه وسلم] قائما كان لمرض؛ لكن ضعفه الدارقطني، والبيهقي، فلم يكن صالحا لحمل بوله على حال الضرورة، فالأولى أن يقال: إن فعله [صلى الله عليه وسلم] لبيان الجواز، وإن البول من قيام مكروه فقط، وفعله للمكروه لبيان حكم شرعي جائز.
ولا ريب أن البول من قيام: من الجفاء (1) والغلظة والمخالفة للهيئة المستحسنة، مع كونه مظنة لانتضاح البول وترشرشه على البائل وثيابه، فأقل أحوال النهي مع هذه الأمور: أن يكون البول من قيام مكروها.
وهذا على فرض أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لقصد التشريع حتى يكون لبيان الجواز، ويكون صارفا للنهي، فإن لم يكن كذلك؛ فالنهي باق على حقيقته، والبول من قيام من خصائصه (2) ، ولكن بعد ثبوت النهي من طريق صحيحة أو حسنة (3) {
وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ".
( [10 - أن يستجمر بثلاثة أحجار] :)
(وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة) ؛ أي: مسحات؛ لأنها لا تنقي
__________
(1) روى البيهقي (2 / 285) عن ابن مسعود - بسند صحيح - أنه قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائما.
وهذا محمول على عدم أمن الرشاش.
(2) ليس هناك دليل على إثبات أنه من خصائصه [صلى الله عليه وسلم] ، ولا تقبل دعوى ذلك إلا بدليل، - كما سبق - (ش)
(3) وأنى ذلك؟!
وقد قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (1 / 283) : " ولم يثبت عن النبي [صلى الله عليه وسلم]- في النهي عن البول قائما - شيء ".(1/136)
غالبا بأقل من ثلاثة أحجار؛ لما في " صحيح مسلم " وغيره من حديث سلمان: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، وعن الاستنجاء برجيع أو عظم.
وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى - والدارقطني - رحمه الله تعالى -؛ وقال: إسناده صحيح حسن - من حديث عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ فليستطب بثلاثة أحجار؛ فإنها تجزيء عنه ".
وأخرج نحوه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروثة والرمة.
وأخرج ابن خزيمة، وابن حبان، والدارمي، وأبو عوانة في " صحيحه "، والشافعي - رحمهم الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا بلفظ: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ".
وفي الباب أحاديث غير ما ذكرناه.
ثم اعلم أنه قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في " المسوى شرح الموطأ ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " الاستنجاء واجب، والمراد ثلاث مسحات ".(1/137)
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: سنة، والمراد الإنقاء.
وقال الشافعي: لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار، وإن حصل الإنقاء بما دونها، فإن لم يحصل يجب أن يزيد حتى يحصل، فإن حصل بعدها بشفع يستحب أن يختم بالوتر.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: " يسن الإنقاء ولا يستحب الإيتار ".
وتأويل الحديث عنده: أن المراد بالإيتار هو التثليث، كنى به عن الإنقاء، ويستحب الاستنجاء بالماء من غير وجوب.
عن عمر بن الخطاب: " يتوضأ بالماء لما تحت إزاره ".
قلت: معنى الوضوء ههنا الغسل والتنظيف؛ وعليه عامة أهل العلم. انتهى.
وورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: " حجران للصفحتين (1) ، وحجر للمسربة " - بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة -: مجرى للحدث من الدبر.
( [11 - أن يستجمر بما يقوم مقام الأحجار فيما عدا المنهي عنه] :)
(وما يقوم مقامها) : للضرورة؛ أي: إذا لم توجد الأحجار، ما لم يكن ذلك الغير مما ورد النهي عنه - كالروثة والرجيع والعظم -، فإنه لا يجوز ولا يجزيء.
__________
(1) أي: لما يصيبهما.(1/138)
قال في " الحجة ": لأنه طعام الجن، وكذا سائر ما ينتفع به، ويستحب الجمع بين الحجر والماء (1) .
وأقول: لا شك أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستنجاء بالحجارة من دون ماء؛ لأنه أقطع للنجاسة، فلا تبقى بعده عين للنجاسة ولا ريح، بخلاف الاستنجاء بالحجارة - وهو الاستجمار -، فإذا لم يبق جزء من عين النجاسة بقي أثر من آثارها، وإذا لم يبق شيء من الآثار بقيت الريح، ومع هذا؛ فهو من السنن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مقرونا بما لا خلاف في مشروعيته، إنما الشأن في كونه يجب على من قضى الحاجة - إذا أراد القيام إلى الصلاة - أن يستنجي بالماء، ولا يكفيه الاستجمار بالأحجار ثم يتوضأ وضوء الصلاة ثم يصلي.
والاستدلال على الوجوب بحديث أهل قبا، لا يخفى أن غاية ما فيه تخصيصهم بالأمر بذلك دون غيرهم، فإن سائر الصحابة كانوا إذ ذاك لا يستنجون بالماء، ولهذا خص الله أهل قباء بالثناء، ثم لم يرد أنه [صلى الله عليه وسلم] أمر غير أهل قبا بذلك.
وقد ذهب إلى أنه يكفي الأحجار: ابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، والشافعية، والحنفية، كما حكى ذلك في " البحر الزخار " عنهم.
بل حكى - أيضا - عن عطاء أن غسل الدبر محدث.
وعن سعيد بن المسيب: ما يفعله إلا النساء.
__________
(1) لا دليل على هذا.(1/139)
هكذا في " البحر ".
وروى عنه أنه كان يقول: إذن لا يزال في يدي نتن - يعني: إذا غسل فرجه بالماء -.
ويدل على عدم الوجوب أحاديث الأمر بالاستجمار.
وما ورد - من أن ثلاثة أحجار ينقين المؤمن - لم يصح {
والحاصل: أنه لا نزاع في كون الماء أفضل؛ إنما النزاع في أنه يتعين ولا يجزيء غيره، وهذا كله على فرض ثبوت قوله في حديث أهل قبا: " ذلكموه فعليكموه "} ولكنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث؛ بل الذي في " الجامع " عن أنس: ان النبي [صلى الله عليه وسلم] قال لأهل قبا: " إن الله قد أحسن الثناء عليكم؛ فما ذاك "؟ ، قالوا: نجمع في الاستجمار بين الأحجار والماء.
قال في " الجامع ": ذكره رزين (1) .
وفي " التلخيص " (2) عن البزار في " مسنده " قال: نبأنا عبد الله بن شبيب: نبأنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، قال: وجدت في كتاب أبي: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن العباس، قال: نزلت هذه الآية في أهل قبا: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} ، فسألهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء.
قال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن الزهري؛ إلا محمد بن عبد العزيز،
__________
(1) وكل ما يذكره رزين من زياداته ( {) : فلا أصل له}
(2) " التلخيص الحبير " (رقم 151) ، و " مختصر زوائد البزار " (150) كلاهما للحافظ ابن حجر.(1/140)
ولا عنه إلا ابنه. انتهى.
ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم، فقال: ليس له ولأخويه - عمران وعبيد الله - حديث مستقيم.
وعبد الله بن شبيب - أيضا - ضعيف.
وأصل الحديث في " سنن أبي داود "، " والترمذي "، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة.
وليس في شيء هنا الجمع بين الأحجار والماء، فمحل الاستدلال على وجوب الاستنجاء بالماء - هو قوله لهم: " فعليكموه " (1) : إغراء لهم على الفعل بمعنى: الزموه - لم يثبت حتى يثبت ما دل عليه.
( [الأدلة على الاستنجاء بالأحجار للقبل أو الدبر] )
واعلم أن الأدلة في هذه المسألة غير مقيدة بكون الأحجار المذكورة للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما جميعا؛ إذ يصدق قوله (2) [صلى الله عليه وسلم] : وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار؛ على من أراد أن يستنجي بعد البول فقط، أو بعد الغائط فقط، أو بعدهما.
وكذلك قوله (3) [صلى الله عليه وسلم] وكان يأمرنا بثلاثة أحجار؛ يصدق على كل ذاهب
__________
(1) انظر " صحيح سنن ابن ماجة " (285) ، و " المشكاة " (369) .
(2) صوابه: قول الصحابي؛ لأن هذا حكاية منه عن نهيه [صلى الله عليه وسلم] . (ش)
(3) هذا كالذي قبله. (ش)(1/141)
إلى الغائط سواء ذهب إلى البول فقط، أو إلى الغائط فقط، أو لهما.
والمراد بالغائط في قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا أتى أحدكم الغائط ": المكان المطمئن، لا نفس الخارج، كما صرح به أئمة اللغة.
وكذلك قوله: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ": شامل لكل قاض للحاجة - سواء ذهب إلى البول فقط، أو الغائط فقط، أو ذهب إليهما جميعاً -.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهنّ؛ فإنها تجزئ عنه ": يتناول من بال فقط، كما يتناول من تغوّط فقط.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليستنج بثلاثة أحجار ": يصدق على كل قاض للحاجة كما عرفت.
وكذلك حديث: أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار، وقوله: " وأعدوا النبل (1) ".
إذا تقرر هذا: علمت أنه شرع الاستجمار لمن بال، كما شرع لمن تغوط، وأن يكون بثلاثة أحجار: ولم يَرِدْ ما يخالف هذا من شرع ولا لغة ولا اشتقاق.
والاستنجاء: هو غسل البدن عن الأذى بالماء ومسحه بالحجر؛ كما صرح به صاحب " النهاية "، وصاحب " الصحاح "، " والقاموس ".
__________
(1) رواه عبد الرزاق عن الشعبي - مرسلاً -؛ كما في " التلخيص الحبير " (139) ، و " الكنز " (9 / 365) .
وقال النووي في " المجموع " (2 / 93) : " ليس بثابت ".(1/142)
والاستجمار عندهم: استعمال الجِمار والتمسح بالجِمار - وهي الأحجار الصغار -، وهو استعمال من غير تقييد.
قال في " القاموس ": استجمر: استنجى. انتهى.
وهو - كما لا يخفى - يصدُق على من استنجى بها للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما.
وكذلك تصدق الاستطابة على مسح الذكر والفرج.
قال في " النهاية ": الاستطابة والإطابة: كناية عن الاستنجاء، وسمي بها من الطيب؛ لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء؛ أي: يطهره.
ومثل ذلك في " الصحاح "، و " القاموس ".
ثم قد وردت أحاديث فيها مجرد الأمر بثلاثة أحجار من غير ذكر استنجاء ولا استطابة ولا استجمار؛ ولا نزاع في صدقها على الذاهب إلى البول كما تصدق على الذاهب إلى الغائط.
وحينئذ تعلم أنه شرع لمن بال أن يستجمر بالأحجار عقب البول، كما شرع لمن تغوط أن يفعل ذلك، ولا ينافي ذلك حديث: " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً "؛ كما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي من حديث عيسى بن يزداد، عن أبيه.
وقد قال ابن معين: لا يعرف عيسى ولا أبوه.(1/143)
وقال الثوري: اتفقوا على أنه ضعيف.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل:
لأن الحديث - وإن كان مما لا تقوم به الحجة (1) - لكنه يمكن الجمع بينه وبين أحاديث الاستجمار؛ إذ الاستجمار إنما هو المسح بالجِمار لما تلوث بالبول أو الغائط من خارج الفرج أو الذكر، لا لاستخراج ما كان داخلهما، فالنتر والاستجمار مختلفان - مفهوماً وصدقاً وزماناً ومكاناً وصفة -، فكيف يجعل أحدهما معارضاً للآخر؟ {لا سيما وحديث النتر بمكان من الضعف لا تقوم به الحجة على فرض انفراده، فكيف يؤخذ به وتترك أحاديث الاستجمار المتواترة تواتراً معنوياً عند من له أدنى ممارسة للفن؟}
وقد أوضحت ذلك في " دليل الطالب على أرجح المطالب "؛ فليراجع.
(12 -[الاستعاذة عند دخول الكنيف] :)
(وتُندب الاستعاذة عند الشروع) ؛ أي: الدخول؛ لأن الحشوش مُحتضَرة (2) يحضرها الشياطين؛ لأنهم يحبون النجاسة، ووجهه ما أخرجه الجماعة من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء قال: " اللهم {إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ".
وقد روى سعيد بن منصور في " سننه ": أنه كان [صلى الله عليه وسلم] يقول: " اللهم} إني أعوذ بك من الخبث والخبائث "، وإسناده على شرط مسلم.
__________
(1) انظر " سلسلة الأحاديث الضعيف " (1621) .
(2) وفي هذا المعنى حديث صحيح؛ فانظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1070) .(1/144)
(13 -[أن يستغفر ويحمد بعد قضاء الحاجة] :)
(والاستغفار والحمد بعد الفراغ) : لأنه وقت ترك ذكر الله - تعالى - ومخالطة الشياطين، والدليل عليه ما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله تعالى - بإسناد صالح (1) من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى (2) ".
وأخرج نحوه النسائي - رحمه الله تعالى -، وابن السني - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - ورمز السيوطي - رحمه الله تعالى - لصحته (3) - وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك ".
وصححه ابن حبان - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -.
__________
(1) بل هو ضعيف؛ فانظر " الإرواء " (53) ، و " تخريج الأذكار " (1 / 218) .
(2) في " نيل الأوطار " بزيادة: " وعافاني ". (ش)
(3) ورموز السيوطي غير موثوقة، فتنبّه.(1/145)
(4 - باب الوضوء)
(الفصل الأول: فرائض الوضوء] )
( [متى فُرض الوضوء؟] :)
فُرض مع الصلاة قبل الهجرة بسنة، وهو من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم، لا لأنبيائهم.
(1 -[التسمية إذا ذكر] :)
(يجب على كل مكلَّف) : لمن أراد الصلاة وهو مُحْدِث أو جنب (أن يسمي) ؛ وجه وجوب التسمية ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "؛ أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -؛ وأبو داود - رحمه الله تعالى -؛ وابن ماجه - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، في " العلل "، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، وابن السكن - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -، وليس في إسناده ما يُسقطه عن درجة الاعتبار.
وله طرق أخرى (1) من حديثه عند الدارقطني - رحمه الله تعالى -
__________
(1) جمعها أخونا الفاضل الشيخ أبو إسحاق الحُويني في جزء مفرد عنوانه: " كشف المخبوء بثبوت التسمية عند الوضوء "، وهو مطبوع.(1/146)
والبيهقي - رحمه الله -.
وأخرج نحوه أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، ومن حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.
وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وسهل بن سعد - رضي الله عنه - وأبي سبرة - رضي الله عنه -، وأم سبرة - رضي الله عنها -، وعلي - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -.
ولا شك ولا ريب أنها جميعاً تنتهض للاحتجاج؛ بها، بل مجرد الحديث الأول ينتهض للاحتجاج لأنه حسن، فكيف إذا اعتضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه؟ {
ولا حاجة للتطويل في تخريجها فالكلام عليها معروف، وقد صرح الحديث بنفي وضوء من لم يذكر اسم الله، وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم، فضلاً عن الوجوب؛ فإنه أقل ما يستفاد منه (1) .
__________
(1) الحديث الأول ضعيف؛ لأنه من رواية يعقوب بن سلمة الليثي، عن أبيه، عن أبي هريرة
قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة.
ووقع الإسناد للحاكم في " المستدرك ": " يعقوب بن أبي سلمة "} وزعم أنه الماجشون؛ فصححه لذلك، وتعقبه الذهبي وغيره بأنه خطأ، والصواب: " يعقوب بن سلمة الليثي "! ولو سُلّم أنه الماجشون؛ فإن أباه أبا سلمة - واسمه دينار - مجهول الحال، وعلى كل فالحديث ضعيف.
وباقي الأحاديث التي ذكرها الشارح لا تصلح للاحتجاج؛ لأنها ضعيفة جداً، ولذلك قال أحمد ابن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد.
وليس لمن قال بموجب التسمية في الوضوء - على أنها شرط فيه - دليل صحيح، والحق أنها سنة. (ش) .
قلت: ومناقشة هذا الكلام تراها في جزء " كشف المخبوء ... " الذي ذكرته آنفاً.(1/147)
(إذا ذكر) : تقييد الوجوب بالذِّكر؛ للجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث: " من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه " (1) ؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله - من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وفي إسناده متروك.
ورواه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وفي إسناده - أيضا - متروك.
ورواه أيضا الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه ضعيفان.
وهذه الأحاديث لا تنتهض للاستدلال بها، وليس فيها أيضا دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذِّكر، ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان، وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز، فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية، ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية، وبعد هذا كله: ففي التقييد بالذكر إشكال.
قال في " الحجة البالغة ": قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا وضوء لمن لا يذكر الله " هذا الحديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه، وعلى تقدير صحته؛ فهو من المواضع التي اختلف فيها طريق التلقي من النبي [صلى الله عليه وسلم] فقد استمر المسلمون يحكون وضوء النبي [صلى الله عليه وسلم] ،
__________
(1) انظر تعليق شيخنا على " المشكاة " (428) .(1/148)
ويعلّمون الناس ولا يذكرون التسمية، حتى ظهر زمان أهل الحديث (1) ، وهو نص على أن التسمية ركن أو شرط، ويمكن أن يجمع بين الوجهين بأن المراد هو التذكر بالقلب (2) ؛ فإن العبادات لا تقبل إلا بالنية، وحينئذ يكون صيغة: " لا وضوء " على ظاهرها.
نعم؛ التسمية أدب كسائر الآداب - لقوله [صلى الله عليه وسلم]-: " كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أبتر " (3) ، وقياساً على مواضع كثيرة.
ويحتمل أن يكون المعنى: لا يكمل الوضوء، لكن لا أرتضي مثل هذا التأويل؛ فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ. انتهى.
وأقول: قد تقرر أن النفي في مثل قوله: " لا وضوء ... " يتوجه إلى الذات إن أمكن، فإن لم يمكن؛ توجه إلى الأقرب إليها - وهو نفي الصحة -؛ فإنه أقرب المجازيْن، لا إلى الأبعد - وهو نفي الكمال -، وإذا توجه إلى الذات - أي: لا ذات وضوء شرعية، أو إلى الصحة -: دل على وجوب التسمية؛ لأن انتفاء التسمية قد استلزم انتفاء الذات الشرعية، أو انتفاء صحتها؛ فكان تحصيل ما يُحصِّل الذات الشرعية، أو صحتها واجباً، ولا يتوجه إلى نفي الكمال إلا لقرينة؛ لأن الواجب الحمل على الحقيقة، ثم على أقرب المجازات إليها إن تعذر الحمل على الذات، ثم لا يحمل على أبعد المجازات إلا لقرينة.
يمكن أن يقال: إن القرينة - ههنا - المسوِّغة لحمل النفي على المجاز الأبعد
__________
(1) ونِعْم الزمان هو!
(2) أما هذا: فلا.
(3) وهو حديث ضعيف من سائر طرقه؛ فانظر " الإرواء " (1) و (2) .(1/149)
هي ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من توضأ وذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لأعضائه "؛ وسنده ضعيف (1) .
(2 -[المضمضة والاستنشاق] :)
(ويتمضمض ويستنشق) : وجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله، وقد بين النبي [صلى الله عليه وسلم] ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا، ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والاستنشاق، فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغسله من جملة المضمضة والاستنشاق.
وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني - رحمه الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالمضمضة والاستنشاق (2) .
وثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا - أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا توضأ أحدكم؛ فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر ".
وثبت عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، رحمه الله تعالى - من حديث لقيط بن صبرة - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " ... وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً (3) ".
__________
(1) فلا قرينة - إذا -!!
(2) وهو حديث معلول؛ فانظر " سنن البيهقي " (1 / 52) .
(3) رواه أيضا الشافعي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم البيهقي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه أيضا البغوي وابن القطان.
ورواه أيضا الدولابي بلفظ: " وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً ".
قال ابن القطان: وهذا سند صحيح.
ورجحه على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذكر المضمضة. (ش)(1/150)
وأخرج النسائي - رحمه الله تعالى - من حديث سلمة بن قيس - رضي الله تعالى عنه -: " إذا توضأت فانتثر ".
وأخرجه الترمذي - رحمه الله تعالى - أيضاً.
وفي رواية من حديث لقيط بن صَبِرة - رضي الله تعالى عنه - المذكور: " إذا توضأت فمضمض "؛ أخرجها أبو داود بإسناد صحيح.
وقد صحح حديث لقيط - رضي الله تعالى عنه - الترمذي - رحمه الله تعالى -، والنووي - رحمه الله تعالى -، وغيرهما؛ ولم يأت من أعلّه بما يقدح فيه.
وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والاستنشاق أحمد - رحمه الله تعالى -، وإسحاق - رحمه الله تعالى -، وبه قال ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى -، وحماد بن أبي سليمان - رحمه الله تعالى (1) -.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء، والمضمضة سنة فيهما.
حكى هذا المذهب النووي - رحمه الله تعالى - في " شرح مسلم " عن أبي ثور - رحمه الله تعالى -، وأبي عبيد - رحمه الله تعالى -، وداود الظاهري،
__________
(1) من الأدلة القوية على وجوب المضمضة والاستنشاق؛ أن غسلهما داخل في غسل الوجه؛ لأنهما عضوان منه، وقد واظب عليهما النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فالتحق عمله بالأمر الوارد في القرآن بغسل الوجه بياناً له.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": لم يحك أحد ممن وصف وضوءه -[صلى الله عليه وسلم]- على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق؛ بل ولا المضمضة؛ وهو يَرد على من لم يوجب المضمضة ". (ش) .(1/151)
وابن المنذر - رحمه الله تعالى -، ورواية عن أحمد - رحمه الله تعالى -.
وقد روى غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، والثوري - رحمه الله تعالى -، وزيد بن علي - رحمه الله تعالى -.
وذهب مالك - رحمه الله تعالى -، والشافعي - رحمه الله تعالى -، والأوزاعي - رحمه الله تعالى -، والليث - رحمه الله تعالى -، والحسن البصري - رحمه الله تعالى -، والزهري - رحمه الله تعالى -، وربيعة - رحمه الله تعالى -، ويحيى بن سعيد - رحمه الله تعالى -، وقتادة - رحمه الله تعالى -، والحكم بن عتيبة - رحمه الله تعالى -، ومحمد بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -، إلى أنهما غير واجبين، واستدلوا على عدم الوجوب بحديث: " عشر من سنن المرسلين ... " - وهو حديث صحيح (1) -، ومن جملتها المضمضة والاستنشاق.
ورد بأنه لم يرو بلفظ: " عشر من السنن "، بل بلفظ: " عشر من الفطرة ... " (2) ، وعلى فرض وروده بذلك اللفظ: فالمراد بالسنة الطريقة، وهي تعم الواجب، لا ما وقع في اصطلاح أهل الأصول، فإن ذلك اصطلاح حادث، وعرف متجدد لا تحمل عليه أقوال الشارع!
وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " المضمضة والاستنشاق سنة "؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، وإسناده ضعيف (3) .
__________
(1) لا؛ فقد رواه ابن عدي (3 / 13) بلفظ: " عشر من السنة ... "، بسند ضعيف.
(2) رواه مسلم (261) عن عائشة.
(3) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 77 - الطبعة الأولى) .(1/152)
والمراد بالسنة في اصطلاح الشارع وأهل عصره: ما دل عليه دليل من قوله [صلى الله عليه وسلم] أو فعله أو تقريره، ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن، فهذه اللفظة أعم من المدعى، فإنها تطلق على الواجب كما تطلق على المندوب، فيقال مثلا: الدليل على هذا الحكم من السنة.
ولا يقال: إن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية؛ لأن المراد بالسنة - كما عرفت - في لسان الشارع، ليس ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول؛ فتأمل!
(3 -[غسل الوجه] :)
(ثم يغسل جميع وجهه) : والمراد بالوجه ما يسمى وجهاً عند أهل الشرع واللغة.
ووجوب غسل الوجه لا خلاف فيه في الجملة، وقد قام عليه الدليل كتابا وسنة.
(4 -[غسل اليدين مع المرفقين] :)
(ثم يديه مع مرفقيه) : هو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولا خلاف في ذلك، وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معهما، ومما يدل على وجوب غسلهما جميعا حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أدار الماء على مرفقيه، ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "؛ وفي إسناده ضعيفان هما: عباد بن يعقوب، والقاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (1) .
__________
(1) انظر " إرواء الغليل " (85) .(1/153)
ولكن يغني عن هذا الضعيف ما في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أنه توضأ ثم غسل يده، حتى شرع في العضد. ثم قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يتوضأ هكذا.
وفي رواية الدارقطني - رحمه الله تعالى - من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أنه غسل وجهه ويديه، حتى مس أطراف العضدين؛ قال الحافظ: وإسناده حسن.
وأخرج البزار والطبراني (1) من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه - مرفوعاً -: ثم غسل ذراعيه، حتى يسيل الماء على مرفقيه.
وهذا بيان لما في القرآن، فأفاد أن الغاية داخلة فيما قبلها.
(5 -[مسح الرأس] :)
(ثم يمسح رأسه) : ولا خلاف فيه - في الجملة -، وإنما وقع الخلاف: هل المتعين مسح الكل؟ أم يكفي البعض؟ وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أم البعض، والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات، كما في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث المغيرة - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] توضأ، ومسح بناصيته وعلى العمامة.
وأخرج أبو داود (2) - رحمه الله تعالى - من حديث أنس - رضي الله
__________
(1) قال الهيثمي في " المجمع " (1 / 224) : " ورجاله موثقون ".
(2) برقم (147) ؛ وفي سنده جهالة.(1/154)
عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر.
وهذه هي الهيئة التي استمر عليها [صلى الله عليه وسلم] ، فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان [صلى الله عليه وسلم] يداوم عليها - وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا -، وإجزاء غيرها في بعض الأحوال.
ولا يخفى أن قوله - تعالى -: {وامسحوا برؤسكم} لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال؛ نحو: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، وضربت زيداً، وضربت يد زيد، فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة، وهكذا ما في الآية.
وليس النزاع في مسمى الرأس - لغة - حتى يقال: إنه - حقيقة - في جميعه، بل النزاع في إيقاع المسح عليه، وعلى فرض الإجمال: فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه؛ فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا، وأما اليدان والرجلان؛ فقد صرح فيهما بالغاية للمسح والغسل.
فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به؛ قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال: مسحت الثوب - أو بالثوب -، أو مسحت الحائط - أو بالحائط -، على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط، وإنكار مثل هذا مكابرة.(1/155)
وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء " وغيرها؛ فليراجع.
( [مسح الأذنين] :)
(مع أذنيه) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسحهما مع مسح رأسه، وقد ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] بلفظ: " الأذنان من الرأس " من طرق يقوي بعضها بعضا (1) .
(ويجزئ مسح بعضه) قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: الفرض أدنى ما يطلق عليه اسم المسح.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مسح ربع الرأس.
وقال مالك: مسح جميع الرأس.
في " سفر السعادة " (2) : وكان يمسح جميع رأسه أحيانا، وأحيانا يمسح على العمامة، وأحيانا يمسح على الناصية والعمامة، ولم يقتصر على مسح بعض الرأس أبدا، وكان يمسح الآذان ظاهرا وباطنا، ولم يثبت في مسح الرقبة حديث. انتهى.
__________
(1) بل كل طرقه ضعيفة، والضعيف لا حجة فيه وإن اعتضد بمئة ضعيف مثله؛ إلا ما كان ضعفه من قبل حفظ الراوي، فهذا يقويه ما يتابعه فيه غيره ممن هو مثله أو أقوى منه. (ش) .
قلت: بل الحديث حسن، وطرقه ترفعه إلى الحسن؛ فانظر " السلسلة الصحيحة " (1 / 1 / 81 - 93) و (1 / 2 / 903 - 906) .
(2) وهو كتاب نفيس جدا، وقد نشرناه بفضل الله وحسن توفيقه. (ش)(1/156)
( [المسح على العمامة] :)
(والمسح على العمامة) أو غيرها مما هو على الرأس، فقد ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] من حديث عمرو بن أمية الضمري عند البخاري - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث بلال - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث المغيرة - رضي الله عنه - عند الترمذي - رحمه الله، وصححه -.
وليس فيه المسح على الناصية، بل هو بلفظ: ومسح على الخفين والعمامة.
وفي الباب أحاديث غير هذه:
منها عن سلمان - رضي الله عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وعن ثوبان - رضي الله عنه - عند أبي داود وأحمد - رحمه الله - أيضا.
والحاصل: أنه قد ثبت المسح على الرأس وحده، وعلى العمامة وحدها، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت.
وقد ورد في حديث ثوبان - رحمه الله - ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر، وهو عند أحمد - رحمه الله -، وأبي داود (1) - رحمه الله -: أنه [صلى الله عليه وسلم] بعث سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي [صلى الله عليه وسلم] شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين؛ وفي إسناده راشد بن سعد؛
__________
(1) رواه أحمد (5 / 277) ، وأبو داود (146) .(1/157)
قال الخلال في " علله ": إن أحمد - رحمه الله - قال: لا ينبغي أن يكون راشد ابن سعد سمع من ثوبان - رضي الله عنه - لأنه مات قديما (1) .
(6 -[غسل الرجلين] :)
(ثم يغسل رجليه) : وجهه ما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه؛ فإنها جميعها مصرحة بالغسل، وليس في شيء منها أنه مسح؛ إلا في روايات لا تقوم بمثلها الحجة، ويؤيد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للماسحين على أعقابهم: " ويل للأعقاب من النار " - كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما -.
ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بغسل الرجلين، كما في حديث جابر - رضي الله عنه - عند الدارقطني (2) - رحمه الله -.
ويؤيده - أيضا - قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فمن زاد على هذا أو نقص (3) فقد أساء وظلم "؛ وهو حديث رواه أهل " السنن "، وصححه ابن خزيمة - رحمه الله -، ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "، وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للأعرابي: " توضأ كما
__________
(1) انظر " جامع التحصيل " (ص 174) .
(2) في " سننه " (1 / 107) ، وقد ضعفه النووي في " المجموع " (1 / 417) .
(3) زيادة: " أو نقص ": لا تصح؛ فانظر " فتح الباري " (1 / 233) ، و " عون المعبود " (1 / 229) .(1/158)
أمرك الله " (1) ، ثم ذكر له صفة الوضوء؛ وفيها غسل الرجلين.
وهذه أحاديث صحيحة معروفة، وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار (2) ؛ وقد ذهب إلى هذا الجمهور.
قال النووي: ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع.
وقال الحافظ - رحمه الله - في " الفتح ": إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - خلاف ذلك؛ إلا عن علي - رضي الله تعالى عنه -، وابن عباس - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك.
وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله -، قال: اجتمع أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- رضي الله عنهم - على غسل القدمين.
وقالت الإمامية (3) : الواجب مسحهما.
وقال محمد بن جرير، والحسن البصري - رحمه الله -، والجبائي: إنه مخير بين الغسل والمسح.
وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين الغسل والمسح.
__________
(1) رواه أبو داود (861) عن رفاعة بن رافع بسند صحيح.
وانظر " نصب الراية " (1 / 367) .
(2) كما قال ابن زنجلة في " حجة القراءات " (ص 223) ، ثم قال: " كما يقال: هذا جحر ضب خرب ".
(3) وهم الشيعة الجعفرية الإثنى عشرية {}(1/159)
ولم يحتج من قال بوجوب المسح إلا بقراءة الجر؛ وهي لا تدل على أن المسح متعين؛ لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف، بل غاية ما تدل عليه هذه القراءة هو التخيير، لو لم يرد عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يوجب الاقتصار على الغسل.
أقول: الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح؛ لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر (1) .
وقد تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار، وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس، بل هو معطوف على الوجوه، فلما جاور المجرور انجر.
وتعسف القائلون بالمسح، فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله: {برؤسكم} (2) ، كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور.
وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الاختلاف، ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين اسما مجرورا في رواية ومنصوبا في أخرى مما لا يتعلق به الاختلاف، ووجد قبله منصوبا لفظا ومجرورا: لما شك أن النصب عطف على المنصوب والجر عطف على المجرور، وإذا تقرر هذا؛ كان الدليل القرآني قاضيا بمشروعية كل واحد منهما على انفراده، لا على مشروعية الجمع بينهما؛ وإن قال به قائل - فهو من الضعف بمكان؛ لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة -.
__________
(1) سيرجح المصنف - بعد أن الغسل - فقط - هو الواجب.
وأما كلامه - هنا -: فمتعلق بالدلالة اللغوية.
(2) هذا هو الصحيح من جهة العربية، وليس فيه تعسف. (ش) .(1/160)
انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء؛ فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط، وكذلك في اليدين، وشرع في الرأس المسح فقط؛ ولكن الرسول [صلى الله عليه وسلم] قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما، فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، وكلها مصرحة بالغسل، ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين، فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح؛ فالواجب الغسل بما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من البيان المستمر جميع عمره (1) .
وإن كان ذلك لا يوجب الإجمال؛ فقد ورد في السنة الأمر بالغسل ورودا ظاهرا؛ ومنه الأمر بتخليل الأصابع؛ فإنه يستلزم الأمر بالغسل؛ لأن المسح لا تخليل فيه، بل يصيب ما أصاب، ويخطئ ما أخطأ.
والكلام على ذلك يطول جدا.
والحاصل: أن الحق ما ذهب إليه الجمهور؛ من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح (1) .
قال في " الحجة البالغة ": ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء، فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية (2) ؛ فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول، وبين من أنكر غزوة بدر وأحد - مما هو كالشمس في رابعة النهار -.
نعم؛ من قال بأن الاحتياط (3) الجمع بين الغسل والمسح، أو أن أدنى
__________
(1) انظر التعليق السابق.
(2) على إحدى القراءتين.
(3) وبابه واسع!!(1/161)
الفرض المسح - وإن كان الغسل مما يلام أشد الملامة على تركه -؛ فذلك أمر يمكن أن يتوقف فيه العلماء حتى تنكشف جلية الحال. انتهى.
قلت: ويدفعه ما تقدم من الدليل على عدم إجزاء المسح والجمع بينه وبين الغسل؛ فلا فائدة للتوقف في ذلك.
(مع الكعبين) ؛ أي: مع القدمين للآية - وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم -؛ فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين، ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه [صلى الله عليه وسلم] مثل ما ثبت في المرفقين، وإذا تقرر أنه لا يتم الواجب إلا بغسلهما: ففي ذلك كفاية مغنية عن الاستدلال بدليل آخر.
( [شروط المسح على الخفين] :)
(1 -[أن يلبسهما على طهارة] :)
(وله المسح على الخفين) ، ويشترط في المسح عليهما: أن يكون أدخل رجليه فيهما وهما طاهرتان.
قال الشافعي - رحمه الله -: يشترط كمال الوضوء عند اللبس.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: عند الحدث.
ومسح أعلى الخف فرض، ومسح أسفله سنة عند الشافعي - رحمه الله -.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يمسح إلا الأعلى.
وبالجملة: فوجهه ما ثبت تواتراً عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من فعله وقوله.(1/162)
وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: فيه أربعون حديثا، وكذلك قال غيره.
وقال ابن أبي حاتم - رحمه الله -: إنه رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من الصحابة (رض) (1) أحد وأربعون رجلا.
وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: أربعون رجلا.
وقال ابن منده: إن الذين رووه من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ثمانون رجلا.
ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك - رحمه الله -، أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة رضي الله عنهم اختلاف؛ لأن كل من روي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته.
وقد ذكر أحمد - رحمه الله - أن حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - في إنكار المسح باطل.
وكذلك ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنه - قد أنكره الحفاظ، ورووا عنهم خلافه.
وكذلك ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سبق الكتاب الخفين؛ فهو منقطع.
وقد روى عنه مسلم - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله - القول بالمسح
__________
(1) اختصار (رضي الله عنه) . (ش)(1/163)
عليهما بعد موت النبي [صلى الله عليه وسلم] .
وقد روى الإمام المهدي (1) في " البحر " عن علي - رضي الله عنه - القول بمسح الخفين.
وقد ثبت في " الصحيح " من حديث جرير - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسح على الخفين؛ وإسلام جرير - رضي الله تعالى عنه - كان بعد نزول المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع.
وقد روى المغيرة - رضي الله عنه - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] المسح على الخفين، وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك، وتبوك متأخرة عن المريسيع بالاتفاق.
وقد ذكر البزار - رحمه الله - أن حديث المغيرة - رضي الله عنه - هذا رواه عنه ستون رجلا.
وبالجملة: فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن يطول الكلام عليهما، ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع؛ اشتغل الناس بها، حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد.
(2 -[أن يكون المسح مؤقتا] :)
وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر، وبيوم وليلة للمقيم.
قال ابن القيم - رحمه الله - في " إعلام الموقعين " (2) : سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
__________
(1) هو من أئمة الزيدية!
وكتابه هو " البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار "، وانظر (1 / 70) - منه -.
(2) وهو كتاب نادر المثال، وقد وفقنا الله لنشره، والحمد لله. (ش)(1/164)
عن المسح على الخفين؟ فقال: " للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوما "، وسأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أبي بن عمارة - رضي الله عنه -، فقال: يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: " نعم "، قال: يوما؟ قال: " ويومين "، قال: وثلاثة أيام؟ قال: " نعم، وما شئت ". ذكره أبو داود (1) - رحمه الله -.
وطائفة قالت: هذا مطلق، وأحاديث التوقيت مقيدة، والمقيد يقضي على المطلق انتهى.
وأما مسح الرقبة؛ فقد ورد من الروايات ما يصلح للتمسك به على مشروعية مسح الرقبة (2) ، وقد بسطه المجتهد الرباني في " شرح المنتقى " (3) ، وقد كاد يقع الإجماع بين أهل المذاهب على أنه بدعة.
(3 -[النية] :)
(ولا يكون وضوءاً شرعياً إلا بالنية لاستباحة الصلاة) ؛ لحديث: " إنما الأعمال بالنيات " وهو في " الصحيحين " وغيرهما، وورد من طرق بألفاظ.
قال في " التلخيص ": لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة - رحمهم الله - من لم يخرجه؛ سوى مالك - رحمه الله -، فإنه لم يخرجه في " الموطأ "، وإن كان ابن دحية - رحمه الله - وهم في ذلك، وادعى أنه في " الموطأ " (4) .
__________
(1) (158) ، وابن ماجه (557) .
وقد ضعفه أبو داود - عقب روايته -.
(2) وقال ابن القيم في " زاد المعاد " (1 / 49) : " ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ".
انظر " السلسلة الضعيفة " (69) و (744) .
(3) " نيل الأوطار " (1 / 163 - 164) .
(4) بل هو في " الموطأ " (982 - رواية محمد بن الحسن الشيباني) .(1/165)
قال الهروي: كتب هذا الحديث عن سبع مئة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد.
قلت: تتبعته من الكتب والأجزاء، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، هذا ما كنت وقفت عليه؛ ثم إن في " المستخرج لابن منده " - رحمه الله - عدة طرق، فضممتها إلى ما عندي، فزادت على ثلاث مئة طريق. انتهى.
فإن كان المقدر عاما (1) فهو يفيد أنه لا يثبت العمل الشرعي إلا بها، وإن كان خاصا؛ فأقرب ما يقدر الصحة، وهي تفيد ذلك.
قال في " الفتح ": " وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد، واختلفوا في الوسائل ".
ومن ثم خالفت الحنفية - رحمهم الله - في اشتراطها للوضوء، ورد ابن القيم - رحمه الله - على الحنفية - رحمهم الله - بأحد وخمسين وجها في " إعلام الموقعين " فليرجع إليه.
وقد نسب القول بفرضية النية إلى الشافعي - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -، والليث - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -.
( [فصل: سنن الوضوء] )
(1 -[التثليث] )
(ويستحب التثليث) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه
__________
(1) • أي: لا عمل إلا بالنية، ولما كان هذا متروك الظاهر، لأن الذوات غير منتفية -؛ قيده الشارع بالعمل الشرعي، وإن كان خاصاً بالأعمال - الأعمال الصالحة - كما يدل عليه سياق الحديث. (ن)(1/166)
[صلى الله عليه وسلم] غسل كل عضو ثلاث مرات، وبيّن أن الواجب مرة واحدة.
(في غير الرأس) : لأن الأحاديث الواردة بتثليث سائر الأعضاء وقع التصريح فيها بإفراد مسح الرأس، ولا تقوم الحجة بما ورد في تثليثه (1) .
( [بيان حكم الترتيب] :)
وأما الترتيب: فمن جملة ما استدل به القائل بوجوب الترتيب: أن الآية مجملة باعتبار أن (الواو) لمطلق الجمع على أي صفة كان؛ فبيّن النبي [صلى الله عليه وسلم] للأمة أن الواجب من ذلك هيئة مخصوصة هي المروية عنه، وهي مرتبة.
وأيضا؛ الوضوء الذي قال فيه [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله الصلاة إلا به " كان مرتبا (2) ؛ والحديث المذكور - وإن كان في جميع طرقه مقال -؛ لكنها يقوي بعضها بعضا؛ ويؤيده ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم مرفوعا عن أبي هريرة: " إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم " (3) :
قال ابن دقيق العيد: هو خليق بأن يصح.
وقد حقق الكلام على هذا شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ".
(2 -[إطالة الغرة والتحجيل] :)
(وإطالة الغرة والتحجيل) : لثبوته في الأحاديث الصحيحة، كقوله [صلى الله عليه وسلم] :
__________
(1) قارن ب " نصب الراية " (1 / 34) للزيلعي.
(2) قارن ب " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1 / 1 / 523 - 525) .
(3) انظر " صحيح سنن ابن ماجه " (323) .(1/167)
" إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء " (1) ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.
(3 -[السواك] :)
(وتقديم السواك استحباباً) : وجهه الأحاديث المتواترة من قوله [صلى الله عليه وسلم] وفعله، وليس في ذلك خلاف.
قال في " الحجة ": " قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة "؛ معناه: لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطا للصلاة كالوضوء؛ وقد ورد بهذا الأسلوب أحاديث كثيرة جدا؛ وهي دلائل واضحة على أن لاجتهاد النبي [صلى الله عليه وسلم] مدخلاً في الحدود الشرعية، وأنها منوطة بالمقاصد، وأن رفع الحرج من الأصول التي بُني عليها الشرائع.
وقول الراوي في صفة تسوكه [صلى الله عليه وسلم] : يقول: أع أع؛ كما يتهوع.
أقول: ينبغي للإنسان أن يبلغ بالسواك أقاصي الفم، فيخرج بلاغم الحلق والصدر، والاستقصاء في السواك يذهب بالقُلاع ويصفي الصوت ويطيب النكهة ". انتهى.
(4 -[غسل الكفين ثلاثاً] :)
(وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل الشروع في غسل الأعضاء المتقدمة) :
__________
(1) رواه البخاري (136) ، ومسلم (246) .
وأما ما بعده: فمدرج؛ فانظر " الضعيفة " (1030) .(1/168)
لحديث أوس بن أوس الثقفي، قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] توضأ، فاستوكف ثلاثاً "؛ أي: غسل كفيه، أخرجه أحمد - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله -.
وثبت في " الصحيحين " من حديث عثمان - رضي الله عنه -: " فأفرغ على كفيه ثلاث مرات يغسلهما ".
وثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - يروونه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] .
(فصل: [نواقض الوضوء] )
(1 -[خروج شيء من أحد السبيلين] :)
(وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح) : فقد وردت الأدلة بذلك مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ "، وقد فسره أبو هريرة - رضي الله عنه - لما قال له رجل: ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط.
ومعنى الحدث أعم مما فسره به، ولكنه نبه بالأخف على الأغلظ.
ولا خلاف في انتقاض الوضوء بذلك.
(2 -[الجماع] :)
(وبما يوجب الغسل) في الجماع، ولا خلاف في انتقاضه به أيضا.(1/169)
(3 -[نوم المضطجع] :)
(ونوم المضطجع) : وجهه أن الأحاديث الواردة بانتقاض الوضوء بالنوم كحديث: " من نام فليتوضأ " مقيدة بما ورد أن النوم الذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع، وقد روي من طرق متعددة، والمقال الذي فيها ينجبر بكثرة طرقها (1) ؛ وبذلك يكون الجمع بين الأدلة المختلفة.
وفي ذلك ثمانية مذاهب استوفيناها في " مسك الختام شرح بلوغ المرام "، واستوفاها الماتن في " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار "، وذكر الأحاديث المختلفة وتخريجها، وترجيح ما هو الراجح.
قال الشافعي - رحمه الله -: النوم ينقض الوضوء إلا نوم ممكِّن مقعدته.
__________
(1) • هذه الدعوى باطلة؛ فإن شرط انجبار الحديث بكثرة الطرق؛ أن لا يكون فيها متهم أو متروك؛ كما بينه النووي وغيره في (مصطلح الحديث) .
ويدلك على ذلك أنه كم من حديث له من الطرق أكثر من هذا بكثير؛ ومع ذلك فقد ظلوا يحكمون عليها بالضعف؛ وهذا الحديث لا يوجد فيه هذا الشرط؛ على قلتها - أعني: طرقه -، وهي ثلاثة:
الأول: حديث ابن عباس، وله أربع - بل خمس - علل بيناها في " الأحاديث الضعيفة " التي جردناها من " سنن أبي داود " رقم (26) .
الثاني: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ قال الشوكاني في " النيل " (1 / 170) : " وفيه مهدي بن هلال؛ وهو متهم بوضع الحديث، ومن رواية عمر بن هارون البلخي؛ وهو متروك، ومن رواية مقاتل بن سليمان؛ وهو متهم ".
الثالث: حديث حذيفة؛ أخرجه البيهقي (1 / 120) ، وقال: " ينفرد به بحر بن كنيز السقاء؛ وهو ضعيف ولا يحتج بروايته ".
فمثل هذه الطرق لا ينجبر بها الحديث؛ بل تزيده وهنا على وهن. (ن) .
قلت: وانظر " تمام المنة " (99) .(1/170)
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً؛ لا وضوء عليه، حتى ينام مضطجعاً أو متكئاً ".
كذا في " المسوى ".
(4 -[أكل لحم الإبل] :)
(وأكل لحم الإبل) : وجهه قوله [صلى الله عليه وسلم]- لما قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ - قال: " نعم "، وهو في " الصحيح " من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.
وقد روي - أيضا - من طريق غيره.
وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، واستدلوا بالأحاديث التي نسخت الأحاديث الواردة في الوضوء مما مست النار.
ولا يخفى أنه لم يصرح في شيء منها بلحوم الإبل حتى يكون الوضوء منها منسوخاً.
وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -، ويحيى بن يحيى - رحمه الله، وابن المنذر - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، وحكي عن أصحاب الحديث - رحمهم الله -، وحكي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - كما قال النووي رحمه الله.
قال البيهقي - رحمه الله - حكي عن بعض أصحابنا عن الشافعي(1/171)
- رحمه الله - أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به، قال البيهقي - رحمه الله -: قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، وحديث البراء - رضي الله عنه -.
قال في " الحجة ": " وأما لحم الإبل فالأمر فيه أشد، لم يقل به أحد من فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين - رضي الله عنهم - ولا سبيل إلى الحكم بنسخه، فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج (1) ، وقال به أحمد (رح) (2) ، وإسحاق (رح) ؛ وعندي أنه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان. والله أعلم ".
وقد أطال ابن القيم (رح) في " إعلام الموقعين " (3) في إثبات النقض به.
أقول: الإنصاف في هذا أن لحوم الإبل ناقضة للوضوء، وحديث النقض من الصحة بمكان يعرفه من يعرف هذا الشأن: أخرجه مسلم و " أهل السنن "، وصححه جماعة من غيرهم؛ ولم يأت عنه [صلى الله عليه وسلم] ما يخالف هذا من قول أو فعل أو تقرير، وإلى هذا التخصيص ذهب جماعة من أهل العلم - كما تقدم -.
ومن أراد الاطلاع على مذاهب العلماء وأدلتهم في هذه المسألة؛ فهي مستوفاة في مؤلفات شيخنا العلامة الشوكاني.
وأما حمل الوضوء على غسل اليد؛ فالواجب علينا حمل ألفاظ الشارع
__________
(1) أي: ذكر الأدلة، والترجيح بينها.
(2) اختصار (رحمه الله) . (ش)
(3) • (2 / 97 - 100) . (ن)(1/172)
على الحقائق الشرعية إن وجدت، وهي ههنا موجودة؛ فإنه في - لسان الشارع وأهل عصره -؛ لغسل أعضاء الوضوء لا لغسل اليد فقط.
ولم يصح من أحاديث الغسل قبل الطعام وبعده شيء (1) .
(5 -[القيء] :)
(والقيء) : وجهه ما روي عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه قاء فتوضأ (2) ؛ أخرجه أحمد (رح) ، و " أهل السنن " (رح) .
قال الترمذي: هو أصح شيء في الباب.
وصححه ابن منده (رح) .
وليس فيه ما يقدح في الاحتجاج به، ويؤيده أحاديث، منها: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -، عنه [صلى الله عليه وسلم] : " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي؛ فلينصرف فليتوضأ "؛ وفي إسناده إسماعيل بن عياش؛ وفيه مقال (3) .
وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، والمجموع ينتهض للاستدلال به.
وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة (رح) ، وأصحابه (رح) .
__________
(1) انظر " السلسلة الضعيفة " (168) .
(2) استحباباً، لا وجوباً؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كما في " الاختيارات العلمية " (16) .
(3) انظر " نصب الراية " (1 / 38) .(1/173)
وذهب الشافعي (رح) وأصحابه (رح) إلى أنه غير ناقض، وأجابوا عن أحاديث الوضوء من القيء بأن المراد بها غسل اليدين! ولا يخفى أن الحقيقة الشرعية مقدمة.
وفي " الحجة البالغة ": قال إبراهيم (رح) بالوضوء من الدم السائل والقيء الكثير، والحسن (رح) بالوضوء من القهقهة في الصلاة، ولم يقل بذلك آخرون، وفي كل حديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه.
والأصح في هذه أن من احتاط فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن لا: فلا سبيل عليه في صراح الشريعة.
والدم السائل والقيء الكثير ملوثان للبدن مبلدان للنفس، والقهقهة في الصلاة خطيئة تحتاج إلى كفّارة، فلا عجب أن يأمر الشارع بالوضوء من هذه، ولا عجب أن يأمر ويرغب فيه من غير عزيمة.
وفي " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: خروج النجاسة من غير الفرجين لا يوجب الوضوء.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يوجبه بشرطه. انتهى (1) .
__________
(1) الأحاديث المروية في نقض الوضوء بالقيء ضعيفة، لا تصلح للاحتجاج، وكذلك ما ورد في النقض بخروج النجاسة من غير السبيلين.
وأما أحاديث نقض الوضوء بالقهقهة؛ فإنها من أضعف الحديث، بل حكم كثير من الحفاظ بأنها موضوعة.
والحق أن ليس شيء من هذا ناقضاً للوضوء. (ش)(1/174)
( [القلس والرعاف] :)
(ونحوه) والمراد بنحو القيء: هو القلس والرعاف، والخلاف في القلس كالخلاف في القيء.
قال الخليل (1) : هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه - وليس بقيء -.
وفي " النهاية ": القلس ما خرج من الجوف، ثم ذكر مثل كلام الخليل.
وأما الرعاف فقد ذهب إلى أنه ناقض أبو حنيفة - رحمه الله -، وأبو يوسف - رحمه الله -، ومحمد - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق - رحمه الله -، وقيدوه بالسيلان.
وذهب ابن عباس - رضي الله عنه -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله - وروي عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -، وأبي هريرة - رضي الله عنه -، وجابر بن زيد - رضي الله عنه -، وابن المسيب - رحمه الله -، ومكحول - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله - إلى أنه غير ناقض.
وأجابوا عن دليل الأولين بما فيه من المقال، وبالمعارضة بمثل حديث: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] احتجم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه؛ رواه الدارقطني (2) - رحمه الله -، وفي إسناده صالح بن مقاتل، وهو ضعيف.
ويُجاب عن الأول بأنه ينتهض بمجموع طرقه (3) ، وعن المعارضة بأنها غير
__________
(1) هو الفراهيدي؛ الإمام المشور.
(2) (1 / 51) ، وضعفه النووي في " المجموع " (2 / 42) .
(3) أما هذا: فلا!(1/175)
صالحة للاحتجاج، وبأن دم الرعاف غير دم الحجامة فلا يبعد أن يكون لخروجه من الأعماق تأثير في النقض.
في " المسوى " قال الشافعي - رحمه الله -: الرعاف والحجامة لا ينقضان الوضوء.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ينقضان إذا كان الدم سائلاً.
وقال مالك - رحمه الله -: الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا دم ولا من قيح يسيل من الجسد، ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم. (1) انتهى.
أقول: قد اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بخروج الدم، وجميع ما هو نص في النقض أو عدمه لم يبلغ إلى رتبة تصلح للاحتجاج بها، وقد تقرر أن كون الشيء ناقضاً للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للاحتجاج؛ وإلا وجب البقاء على الأصل؛ لأن التعبد بالأحكام الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله أو رسوله، وإلا فليس بشرع.
ومع هذا؛ فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يباشرون مع معارك القتال ومجاولة الأبطال في كثير من الأحوال ما هو من الشهرة بمكان أوضح من الشمس، فلو كان خروج الدم ناقضاً: لما ترك [صلى الله عليه وسلم] بيان ذلك مع شدة الاحتياج إليه، وكثرة الحامل عليه.
ومثل الدم القيء في عدم ورود دليل يدل على أنه ناقض، وغاية ما
__________
(1) وهذا هو الصواب، والله تعالى أعلم.(1/176)
هناك حديث إسماعيل بن عياش، وفيه من المقال ما لا يخفى.
(6 -[مس الذكر] :)
(ومس الذكر) : وقد دل على ذلك حديث بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها -، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ "؛ رواه أحمد - رحمه الله -، وأهل " السنن " - رحمهم الله -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، والحاكم - رحمه الله -، وابن الجارود.
وصححه أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والدارقطني - رحمه الله -، ويحيى بن معين - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، والحازمي - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -.
قال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب.
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ منهم: جابر - رضي الله عنه -، وأبو هريرة - رضي الله عنه -، وأم حبيبة - رضي الله عنها -، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وزيد بن خالد - رضي الله عنه -، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وعائشة - رضي الله عنها -، وابن عباس - رضي الله عنهما -، ابن عمرو - رضي الله عنهما -، والنعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وأبي بن كعب، ومعاوية بن حيدة (1) - رضي
__________
(1) في الأصل: معاوية بن أبي حيدة؛ وهو خطأ. (ش)(1/177)
الله عنه -، وقبيصة - رضي الله عنه -، وأروى بنت أُنيس (1) - رضي الله عنها - (2) .
وحديث بسرة - رضي الله عنها - بمجرده أرجح من حديث طلْق بن علي - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - رحمهم الله - مرفوعاً، بلفظ: الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال [صلى الله عليه وسلم] : " إنما هو بضعة منك "؛ فكيف إذا انضم إلى حديث بسرة - رضي الله عنها - أحاديث كثيرة كما أشرنا إليه؟ {
ومن مال إلى ترجيح حديث طلق: فلم يأت بطائل}
وقد تقرر في الأصول: أن رواية الإثبات أولى من رواية النفي، وأن المقتضي للحظر أولى من المقتضي للإباحة.
قد ذهب إلى انتقاض الوضوء بمس الذكر جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم، والأئمة - رحمهم الله -، ومالوا إلى العمل بحديث بسرة؛ لتأخر إسلامها.
وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك.
والحق الانتقاض.
وقد ورد ما يدل على أنه ينتقض الوضوء بمس الفرج؛ وهو أعم من
__________
(1) هي غير معروفة، والإسناد إليها ضعيف.
واختُلف فيها؛ فقال بعضهم: أروى؛ ولم يذكر اسم أبيها.
وقال بعضهم: أروى بنت أنيس.
وقال بعضهم: عن أبي أروى؛ فقط! (ش)
(2) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 122 - 124) .(1/178)
القُبُل والدُبُر، كما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله - من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من مس فرجه فليتوضأ "، وصححه أحمد - رحمه الله -، وأبو زرعة - رحمه الله -، وقال ابن السكن - رحمه الله -: لا أعلم له علة.
وأخرج الدارقطني - رحمه الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً: " إذا مسّت إحداكن فرجها فلتتوضأ "؛ وفي إسناد عبد الرحمن بن عبد الله العمري؛ وفيه مقال (1) .
وأخرج أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ "، وفي إسناده بقية بن الوليد، ولكنه صرح بالتحديث (2) .
قال في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: يجب الوضوء على من مس الفرج، وشرطه أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: مس الفرج لا ينقض؛ واحتج بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! ". انتهى.
قالوا: إن مس الفرج لما كانت حاجة الناس إليه عامة، والبلوى به دائمة: وجب أن ينقل شرعاً ثابتاً متواتراً مستقراً.
__________
(1) بل هو كذّاب، انظر " المجروحين " (2 / 53) لابن حبان.
(2) فهو حسن؛ وقد نقل الحافظ في " التلخيص " (1 / 124) تصحيحه عن البخاري.(1/179)
أقول: قد وقع في الأصول أن الحكم الذي تعم به البلوى لا بد أن يُنقل نقلاً مستفيضاً؛ والقائل بذلك بعض الحنفية.
وخالفهم الجمهور لعموم الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد.
وهذه القاعدة كثيراً ما ترى المشغوفين بمحبة ما ألفوه من مذاهب الأسلاف يدفعون بها الحجج الشرعية التي يوردها خصومهم {
فإذا استدلوا لأنفسهم على إثبات حكم قد دأبوا عليه ودرجوا، وصار عندهم من المألوفات المعروفات: مالوا عن ذلك ولم يُعرِّجوا عليه، وهذا ستراه في غير موطن من كتب المتمذهبين، فإن كنت ممن لا تنفق عليه التدليسات، ولا يغره سراب التلبيسات: فلا تلعب بك الرجال من حال إلى حال بزخارف ما تنمقه من الأقوال.
(فكن رجلا رِجْله في الثَّرى ... وهامة همته في الثُرَيّا)
ولا حرج على المجتهد إذا رجح غير ما رجحناه؛ إنما الشأن في التكلم في مواطن الخلاف بما يتبرأ منه الإنصاف، اللهم} بصرنا بالصواب، واجعل بيننا وبين العصبية من لطفك أمنع حجاب.
وفي " الحجة البالغة ": " موجبات الوضوء في شريعتنا على ثلاث درجات:
إحداها: ما اجتمع عليه جمهور الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، وتطابق فيه الرواية والعمل الشائع، وهو البول والغائط والريح والمذي والنوم الثقيل وما في معناها.(1/180)
الثانية: ما اختلف فيه السلف من فقهاء الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، وتعارض فيه الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ كمس الذكر لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " من مس ذكره فليتوضأ "؛ قال به عمر وسالم وعروة وغيرهم - رضي الله عنهم -، ورده علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - وفقهاء الكوفة، ولهم قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! "؛ ولم يجيء الثلج (1) بكون أحدهما منسوخاً.
( [لمس المرأة لا ينقض الوضوء] :)
ولمس المرأة، قال به عمر وابن مسعود وإبراهيم - رضي الله عنهم -؛ لقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (2) ، ولا يشهد له حديث، بل يشهد حديث عائشة - رضي الله عنها - بخلافه، لكن فيه نظر؛ لأن في إسناده انقطاعاً (3) .
وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر، ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض. والله تعالى أعلم.
وبالجملة: فجاء الفقهاء من بعدهم على ثلاث طبقات: آخذ به على ظاهره، وتارك له رأساً، وفارق بين الشهوة وغيرها.
ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة
__________
(1) أي: الاطمئنان.
(2) انظر كتاب " القراءات وأثرها في الأحكام " (1 / 419 - 425) للأخ الشيخ محمد عمر بازمول.
(3) بل هو حسن؛ فانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (406) .
ولفظه: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.(1/181)
الجماع، أن مس الذكر فعل شنيع، ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الاستنجاء، فإذا كان قبضاً عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة.
والثالثة: ما وُجد فيه شبهة من لفظ الحديث؛ وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم - على تركه.
( [الوضوء مما مسته النار منسوخ] :)
كالوضوء مما مست النار؛ فإنه ظهر عمل النبي [صلى الله عليه وسلم] ، والخلفاء، وابن عباس، وأبي طلحة وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - بخلافه، وبيّن جابر - رضي الله عنه - أنه منسوخ.
قلت: " عامة أهل العلم على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ، وتأول بعضهم على غسل اليد والفم، قال قتادة - رضي الله عنه -: من غسل فمه فقد توضأ ". كذا في " المسوى ".(1/182)
(5 - باب الغسل)
( [الفصل الأول: موجبات الغسل] )
(1 -[خروج المني] : وأصله تعميم البدن بالغسل:)
(يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر) وقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة كأحاديث: " الماء من الماء "، وأحاديث: " في المني الغسل "، وصدق اسم الجنابة على من كان كذلك؛ وقد قال الله - تعالى -: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ، والاطهار استيعاب جميع البدن، بالغسل (1) . كذا في " المسوى ".
ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإنما وقع الخلاف المشهور بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وكذلك بين من بعدهم: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين من دون خروج مني أم لا يجب إلا بخروج المني؟
والحق: الأول لحديث: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل "؛ أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وأخرج نحوه مسلم، وأحمد، والترمذي - رحمهم الله تعالى، وصححه - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -.
__________
(1) في كل الطبعات: " فالغسل "!(1/183)
فهذان الحديثان - وما ورد في معناهما - ناسخان لما كان في أول الإسلام من أن الغسل إنما يجب بخروج المني.
ويدل على ذلك حديث أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه -، قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون: " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رخص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها.
وأخرج مسلم (1) - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أن رجلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل - وعائشة - رضي الله تعالى عنها - جالسة -؟ فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل ".
وقال في " الحجة البالغة ": " اختلف أهل الرواية هل يُحمل الإكسال - أي: الجماع من غير إنزال - على الجماع الكامل في معنى قضاء الشهوة - أعني ما يكون معه الإنزال -؟ والذي صح رواية، وعليه جمهور الفقهاء: هو أن من جهد فقد وجب عليهما الغسل، وإن لم ينزل.
واختلفوا في كيفية الجمع بين هذا الحديث، وحديث: " إنما الماء من الماء ":
فقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: للاحتلام.
__________
(1) (برقم 350) .
وانظر " سنن الدارقطني " (1 / 112) ، و " السلسلة الضعيفة " (976) ، وكتابي " دراسات علمية في صحيح مسلم " (123 - 125) .(1/184)
وفيه ما فيه {لأنه يأباه سبب ورود الحديث كما أخرجه مسلم.
وقال أبي - رضي الله تعالى عنه -: كانت رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها.
وقد روي (1) عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي بن كعب وأبي أيوب - رضي الله تعالى عنهم - فيمن جامع امرأته ولم يُمْن، قالوا: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره "، ورفع ذلك إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] .
ولا يبعد عندي أن يُحمل ذلك على المباشرة الفاحشة؛ فإنه قد يطلق الجماع عليها.
قلت: على هذا أكثر أهل العلم: أن غسل الجنابة يجب بأحد الأمرين: إما بإدخال الحشفة في الفرج، أو بخروج الماء الدافق من الرجل أو المرأة.
(2 -[التقاء الختانين] :)
(بالتقاء الختانين) وعلى هذا أكثر أهل العلم: أن من جامع امرأته فغيّب الحشفة؛ وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل.
والختان: موضع القطع من ذكر الغلام، ونواة (2) الجارية.
__________
(1) رواه البخاري (179) ، ومسلم (347) عن زيد بن خالد الجهني.
(2) كذا} والصواب: النوى؛ وهو ما يبقى من المخفض بعد ختان الجارية.
انظر " لسان العرب المحيط " (3 / 752) .(1/185)
(3 -[انقطاع الحيض] ، 4 -[والنفاس] :)
(وبانقطاع الحيض والنفاس) ولا خلاف في ذلك.
وقد دل عليه نص القرآن ومتواتر السنة، وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بانقطاع النفاس.
(5 -[الاحتلام مع وجود بلل] :)
(و) كذلك وقع الإجماع على وجوبه (بالاحتلام) ؛ إلا ما يُحكى عن النخعي - رحمه الله تعالى -، ولكنه إنما يجب إذا وجد المحتلم بللاً.
(مع وجود بلل) : كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ فقال: " يغتسل "، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه "؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - رحمهم الله - ورجاله رجال الصحيح؛ إلا عبد الله بن عمر العمري؛ وفيه مقال خفيف (1) .
وأخرج نحوه أحمد والنسائي - رحمهما الله - من حديث خولة بنت حكيم - رضي الله تعالى عنها -.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما - رحمهم الله تعالى - من حديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها -: أن أم سليم - رضي الله تعالى عنها - قالت:
__________
(1) هو حديث حسن، فانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (612) .(1/186)
يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: " نعم؛ إذا رأت الماء ".
وهذه الأحاديث ترد على من اعتبر أن يحصل للمحتلم شهوة ويتيقن ذلك.
والمراد من البلل المني، فإن رأى بللاً ولم يتيقن أنه مني؛ لم يجب الغسل عند أكثر أهل العلم.
قال في " الحجة ": " أراد الحكم على البلل دون الرؤيا؛ لأن الرؤيا تكون تارة حديث نفس، ولا تأثير له، وتارة تكون قضاء شهوة، ولا تكون بغير بلل، فلا يصلح لإدارة الحكم إلا البلل.
وأيضا؛ فإن البلل شيء ظاهر يصلح للانضباط، وأما الرؤيا فإنها كثيراً ما تُنسى ". انتهى.
(6 -[الموت] :)
(وبالموت) : المراد وجوب ذلك على الأحياء؛ إذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن؛ أي: يجب على الأحياء أن يغسلوا من مات.
وقد حكى المهدي في " البحر " والنووي - رحمه الله -، الإجماع على وجوب غسل الميت، وناقش في ذلك بعض المتأخرين مناقشة واهية.
وسيأتي الكلام على غسل الميت، وصفته وتفاصيله - إن شاء الله تعالى -.(1/187)
وفي " الحجة ": وأما غسل الميت: فلأن الرشاش ينتشر في البدن.
وجلست عند محتضر، فرأيت أن الملائكة الموكلة بالقبض لها نكاية عجيبة في المحتضرين، ففهمت أنه لا بد من تغيير الحالة لتنبه النفس لمخالفها.
(7 -[إسلام الكافر] :)
(وبالإسلام) : وجهه ما أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، وابن خزيمة - رحمهم الله - عن قيس بن عاصم - رضي الله عنه -: أنه أسلم، فأمره النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يغتسل بماء وسدر.
وصححه ابن السكن - رحمه الله -.
وأخرج أحمد وعبد الرزاق، والبيهقي، وابن خزيمة، وابن حبان - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ثمامة - رضي الله تعالى عنه - أسلم، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل " (1) .
وأصله في " الصحيحين "، وليس فيهما الأمر بالاغتسال، بل فيهما أنه اغتسل.
قال في " الحجة ": قال (2) لآخر: " ألق عنك شعر الكفر "؛ وسره أن يتمثل عنده الخروج من شيء، أصرح ما يكون، والله تعالى أعلم. انتهى.
وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه - رحمهم الله -.
__________
(1) انظر " التلخيص الحبير " (2 / 68) .
(2) أي: النبي [صلى الله عليه وسلم] .
والحديث صحيح؛ فانظر " الإرواء " (79) .(1/188)
وذهب الشافعي - رحمه الله - إلى عدم الوجوب.
والحق الأول.
ويؤيده ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الأمر بالغسل عند الإسلام لواثلة بن الأسقع، وقتادة الرهاوي - رضي الله عنه - كما أخرجه الطبراني - رحمه الله -، وأمره أيضا لعقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما أخرجه الحاكم - رحمه الله - في " تاريخ نيسابور "؛ وفي أسانيدها مقال (1) .
( [الفصل الثاني: كيفية الغسل] )
( [تعريف الغسل] :)
(والغسل الواجب هو أن يفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه) أقول: الغسل شرعاً ولغة هو ما ذُكر.
وقد وقع النزاع في دخول الدلك في مسمى الغسل؛ ولكنه لا يخفى أن مجرد بل الثوب أو البدن من دون دلك لا يسمى غسلاً، كما يفهم ذلك من الاستعمالات العربية، وكما يفيد ذلك ما تقدم في بول الصبي: أنه [صلى الله عليه وسلم] أتبعه الماء ولم يغسله؛ وهو في " صحيح مسلم " - رحمه الله -، وغيره.
( [وجوب المضمضة والاستنشاق] :)
(مع المضمضة والاستنشاق) : فقد ثبتا في الغسل من فعله [صلى الله عليه وسلم] ، ووجه الوجوب ما قدمناه في الوضوء.
__________
(1) قال نحوه الحافظ في " التلخيص " (2 / 68) .(1/189)
وفيهما وفي السواك إزالة المخاط والبَخر.
(والدلك لما يمكن دلكه، ولا يكون شرعياً إلا بالنية لرفع موجبه) لما قدمناه في الوضوء.
( [مندوبية الوضوء قبل الغسل ما عدا غسل القدمين] :)
(ونُدب) لا أنه وجب؛ لأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقدم.
(تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين) : لما قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه كان [صلى الله عليه وسلم] إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على سائر جسده، ثم يغسل رجليه، وهو من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
وورد في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ميمونة - رضي الله عنها - بلفظ: أنه [صلى الله عليه وسلم] أفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه، فغسل قدميه.
وثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه كان لا يتوضأ بعد الغسل، كما أخرجه أحمد وأهل " السنن " - رحمهم الله -.
وقال الترمذي - رحمه الله -: حسن صحيح.(1/190)
وأخرجه البيهقي - رحمه الله - أيضا بأسانيد جيدة.
وقد روى ابن أبي شيبة - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، مرفوعاً وموقوفاً؛ أنه قال - لما سئل عن الوضوء بعد الغسل -: وأي وضوء أعم من الغسل؟ { (1)
وروي عن حذيفة - رضي الله عنه -، أنه قال: أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدمه، حتى يتوضأ؟} (2)
وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم، حتى قال أبو بكر ابن العربي: إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث.
وهكذا نقل الإجماع ابن بطّال - رحمه الله -.
وتُعقِّب بأنه قد ذهب جماعة - منهم أبو ثور، وداود، وغيرهما - رحمهم الله - إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء.
وأما كون تقديم أعضاء الوضوء غير واجب: فلأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن؛ من غير تقديم.
( [يستحب التيامن] :)
(ثم التيامن) : لثبوته عنه [صلى الله عليه وسلم] قولاً وفعلاً، عموماً وخصوصاً:
__________
(1) وقد روي - بهذا اللفظ - مرفوعاً، وهو ضعيف! انظر " ضعيف الجامع الصغير وزيادته " (6115) .
(2) انظر " مصنف ابن أبي شيبة " (1 / 68 و 69) .(1/191)
فمن العموم ما ثبت في " الصحيح ": " أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله ".
ومن الخصوص ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر في الغسل.
وقد ثبت من قوله ما يفيد ذلك؛ ولا خلاف في استحباب التيامن.
(فصل: [الأغسال المسنونة] )
(1 -[غسل الجمعة] :)
(ويُشرع) ؛ أي: الغسل (لصلاة الجمعة) لحديث: " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.
وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول، ورواه عن نافع - رحمه الله - نحو ثلاث مئة نفس.
ورواه من الصحابة - غير ابن عمر؛ رضي الله عنه - نحو أربعة وعشرين صحابياً.
وقد ذهب إلى وجوبه جماعة.
قال النووي - رحمه الله -: حُكي وجوبه عن طائفة من السلف - رحمهم الله -، حكوه عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال أهل الظاهر،(1/192)
وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار - رضي الله عنه -، ومالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري، وحكاه ابن حزم عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم.
وذهب الجمهور إلى أنه مستحب، واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم بلفظ: " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة (1) أيام " وبحديث سمرة - رضي الله عنه، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من توضأ للجمعة؛ فبها ونِعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - رحمهم الله -، وفيه مقال مشهور، وهو عدم سماع الحسن - رحمه الله - من سمرة - رحمه الله - (2) ؛ وغير ذلك من الأحاديث، قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب.
ولكنه إذا كان ما ذكروه صالحاً لصرف الأمر؛ فهو لا يصلح لصرف مثل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " حق (3) على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً؛ يغسل فيه رأسه وجسده "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وقد استوفى الماتن - رحمه الله - الكلام على حكم غسل الجمعة في " نيل
__________
(1) قال ابن حجر في " الفتح ": " ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في " الصحيح " بلفظ: " من اغتسل "؛ فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء ". انتهى (ش) .
(2) ولكن له شواهد تحسنه؛ فانظر تعليق شيخا على " صحيح ابن خزيمة " (1757) .
(3) قارن بالحديث الذي أورده شيخنا في " الصحيحة " (1796) وتفقه فيهما!(1/193)
الأوطار "، فليرجع إليه.
ولا يخفى أن تقييد الغسل بالمجيء للجمعة يدل على أنه للصلاة لا لليوم.
(2 -[غسل العيدين] :)
(وللعيدين) : فقد روي من فعله [صلى الله عليه وسلم] من حديث الفاكه بن سعد - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبزار، والبغوي (1) - رحمه الله -.
وأخرج نحوه ابن ماجه (2) - رحمه الله - من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.
وأخرجه البزار (3) - رحمه الله - من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -.
وفي أسانيدها ضعف، ولكنه يقوي بعضها بعضاً (4) ، ويقوي ذلك آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - جيدة (5) .
أقول: قد روي في ذلك أحاديث لم يصح منها شيء، ولا بلغ شيء.
__________
(1) وهو حديث موضوع، انظر " الإرواء " (146) .
وانظر " التلخيص الحبير " (2 / 80) ، و " الدراية " (1 / 5) .
(2) وهو ضعيف جدا، وانظر " المرجع السابق ".
(3) (برقم: 648 - " كشف الأستار ")
وقد ضعفه الهيثمي في " المجمع " (2 / 198) .
(4) قال البزار: " لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثاً صحيحاً ".
(5) انظرها في رسالتي " أحكام العيدين في السنة المطهرة " (34 - 35) .(1/194)
منها إلى رتبة الحسن لذاته ولا لغيره.
وأما اعتبار كون المغتسل يصلي صلاة العيد بذلك الغسل - أي: من دون أن يتخلل بين الغسل وبين الصلاة شيء من الأحداث -: فلا أحفظ فيه حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا قول صحابي، وما أحسن الاقتصار على ما ثبت، وإراحة العباد مما لم يثبت (1) .
(3 -[من غسل الميت] :)
(ولمن غسل ميتاً) : وجهه ما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ "، وقد روي من طرق، وأعل بالوقف، وبأن في إسناده صالحاً - مولى التوأمة - رحمه الله -.
ولكنه قد حسنه الترمذي - رحمه الله -، وصححه ابن القطان - رحمه الله -، وابن حزم.
وقد روي من غير طريق (2) .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: هو - لكثرة طرقه - أسوأ أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي - رحمه الله - على الترمذي رحمه الله تحسينه معترض.
وقال الذهبي - رحمه الله -: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء
__________
(1) إي والله!
(2) فهو ثابت، وانظر " تهذيب السنن " (4 / 306) لابن القيم، و " أحكام الجنائز " (71) .(1/195)
- رحمهم الله -.
وذكر الماوردي - رحمه الله - أن بعض أصحاب الحديث - رحمهم الله - خرّج لهذا الحديث مئة وعشرين طريقا.
وقد روي نحوه عن علي - رضي الله عنه - عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي - رحمهم الله -، وعن حذيفة - رضي الله عنه - عند البيهقي - رحمه الله -.
قال ابن أبي حاتم - والدارقطني، رحمهما الله -: لا يثبت.
وعن عائشة - رضي الله عنها - من فعله [صلى الله عليه وسلم] عند أحمد، وأبي داود - رحمهما الله -.
وقد ذهب إلى الوجوب علي وأبو هريرة - رضي الله عنهما -، والإمامية.
وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط.
قالوا: وهذا الأمر المذكور في الحديث السابق مصروف عن الوجوب بحديث: " إن ميتكم يموت طاهراً؛ فحسبكم أن تغسلوا أيديكم " (1) ؛ أخرجه البيهقي، وحسنه ابن حجر - رحمهما الله -، ولحديث: كنا نغسل الميت؛ فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل؛ أخرجه الخطيب - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وصحح ابن حجر أيضا إسناده (2) ، ولما وقع من الفتيا من
__________
(1) والأرجح في هذا الحديث الوقف، وانظر التعليق الآتي.
(2) انظر تحقيق ذلك كله في " أحكام الجنائز " (71 - 72) .(1/196)
الصحابة - رضي الله عنهم - لأسماء بنت عميس - امرأة أبي بكر؛ رضي الله عنه - لما غسلته فقالت لهم: إن هذا يوم شديد البرد؛ وأنا صائمة؛ فهل علي من غسل؟ قالوا: لا. رواه مالك - رحمه الله - في " الموطأ " (1) .
(4 -[الإحرام] :)
(وللإحرام) : لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنه رأى النبي [صلى الله عليه وسلم] تجرد لإهلاله واغتسل؛ أخرجه الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، والطبراني - وحسنه الترمذي -، وضعفه العقيلي - رحمهم الله -.
ولعل وجه التضعيف كون عبد الله بن يعقوب المدني (2) في إسناده.
قال ابن الملقن في " شرح المنهاج ": لعل الترمذي - رحمه الله - حسنه؛ لأنه عرف عبد الله بن يعقوب؛ أي: عرف حاله.
وفي الباب عن عائشة - رضي الله عنها - عند أحمد - رحمه الله -، وعن أسماء - رضي الله عنها - عند مسلم - رحمه الله -.
وقد ذهب إلى استحباب غسل الإحرام الجمهور.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -: إنه محتمل.
__________
(1) (1 / 223 - رواية يحيى الليثي) .
وانظر " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 52) .
(2) وليس فيه توثيق معتد به، ولكن روى عنه جماعة ثقات.
والحديث شواهده عدة؛ كما ذكر المصنف - بعد -.(1/197)
(5 -[لدخول مكة] :)
(ولدخول مكة) المكرمة - حرسها الله تعالى -؛ لما أخرجه مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان لا يدخل مكة إلا بات بذي طُوى، حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه فعله.
وأخرج البخاري - رحمه الله - معناه.
قال في " الفتح ": قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء، وليس في تركه عندهم فدية.
وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء.(1/198)
(6 - باب التيمم)
قال الله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ؛ وقد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية، والحق أن قيد عدم الوجود راجع إلى قوله - تعالى -: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} .
( [الأسباب المبيحة للتيمم] :)
فتكون الأعذار ثلاثة: السفر، والمرض، وعدم الوجود في الحضر، وهذا ظاهر على قول من قال: إن القيد إذا وقع بعد جُمل متصلة كان قيداً (1) لآخرها.
وأما من قال: أنه يكون قيداً للجميع إلا أن يمنع مانع: فكذلك أيضا (2) ؛ لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء، وهو: أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب - كالصوم -.
ويؤيد هذا أحاديث التيمم الواردة مطلقة ومقيدة بالحضر.
__________
(1) وهو: {فلم تجدوا ماء} .
(2) انظر - لزاماً - " السيل الجرار " (1 / 127) للشوكاني.(1/199)
فإن قلت: ما المعتبر في تسويغ التيمم للمقيم؟ هل هو عدم الوجود عند إرادة الصلاة كما هو الظاهر من الآية؟ أم عدم الوجود مع طلب مخصوص - كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل -، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم؟
قلت: الحق أن المعتبر هو ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها، فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله ومسجده وما يقرب منهما: كان ذلك عذراً مسوغاً للتيمم.
وليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإحفاء (1) السؤال، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه، فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة.
والواجب حمل كلام الله على ذلك مع عدم وجود عرف شرعي (2) ، وقد وقع منه [صلى الله عليه وسلم] ما يشعر بما ذكرناه؛ فإنه تيمم في المدينة من جدار؛ كما ثبت ذلك في " الصحيحين " من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة، فهذا - كما يدل على عدم وجوب الطلب - يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت.
ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر، ثم وجدوا الماء،
__________
(1) شدته.
(2) وهذه قاعدة مهمة من قواعد الشرع.(1/200)
فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال [صلى الله عليه وسلم] للذي لم يعد: " أصبت السنة "؛ أخرجه أبو داود، والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد (1) ، فإنه يرد قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم، سواء كان مسافراً أو مقيماً.
إذا تقرر لك هذا: استرحت عن الاشتغال بكثير من التفاريع المحررة في كتب الفقه؛ فإن هذه هي ثمرة الاجتهاد.
فأي فرق بين من لا يفرق بين الغث والسمين من المجتهدين، وبين من هو في عداد المقلدين؟ !
( [الخلاف في الصعيد الذي يتيمم به] :)
قال في " القاموس ": والصعيد: التراب، أو وجه الأرض. انتهى.
والثاني هو الظاهر من لفظ الصعيد؛ لأنه ما صعد؛ أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب، ويؤيد ذلك حديث: " جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "؛ وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره.
وما ثبت في رواية بلفظ: " وتربتها طهوراً "؛ كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة؛ فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء،؛ لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية.
__________
(1) انظر " المشكاة " (533) ، و " التلخيص الحبير " (1 / 156) .(1/201)
وهذا مفهوم لقب (1) لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام.
وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره: أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما تقدم من تيممه [صلى الله عليه وسلم] من جدار.
وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله - تعالى -: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} : فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذُكر، والضرورة تدفعه؛ فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات.
قال الماتن في " شرح المنتقى " (2) : ومن الأدلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد، فالأمر بالتيمم منه وهو التراب، لكنه قال في " القاموس ": والصعيد: التراب أو وجه الأرض، وفي " المصباح ": الصعيد وجه الأرض؛ تراباً كان أو غيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، قال الأزهري: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله - تعالى -: {صعيدا طيبا} هو التراب، وفي كتاب " فقه اللغة " للثعالبي: الصعيد تراب وجه الأرض، ولم يذكر غيره، وفي " المصباح " - أيضا -: ويقال: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق.
__________
(1) وهو من أضعف المفاهيم؛ كما قال الصنعاني في " إجابة السائل " (ص 245) .
(2) " نيل الأوطار " (1 / 261) .(1/202)
ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه [صلى الله عليه وسلم] من الحائط؛ فلا يتم الاستدلال.
وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب الشافعي، وأحمد، وداود.
وذهب مالك، وأبو حنيفة، وعطاء، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها.
قال: واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعاً بلفظ: " وجُعلت تربتها لنا طهوراً "، وهذا خاص؛ فينبغي أن يُحمل عليه العام.
وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، فلا يتم الاستدلال.
ورُدّ بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ: " التراب "؛ أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: " جُعل التراب لي طهوراً "؛ أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن (1) .
وأجيب أيضا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول، ولم يقل به إلا الدقاق، فلا ينتهض لتخصيص المنطوق.
ورُدّ بأن الحديث سيق لإظهار التشريف، فلو كان جائزاً بغير التراب لما اقتصر عليه؛ وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية.
__________
(1) انظر " صحيح ابن خزيمة " (264) والتعليق عليه.(1/203)
نعم؛ الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر، - كما سيأتي في حديث مسلم - يدل على الافتراق في الحكم.
وأحسن من هذا أن قوله - تعالى - في آية المائدة: {منه} يدل على أن المراد التراب، وذلك لأن كلمة " مِن " للتبعيض (1) كما قال في " الكشاف ": أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن والتراب؛ إلا معنى التبعيض. انتهى.
فإن قلت: سلمنا التبعيض، فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب؟ قلت: التنصيص عليه في الحديث المذكور. انتهى.
( [ما يباح به التيمم] :)
(يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء) : لأن حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن لم يكن جنباً، وحكم الغسل لمن كان جنبا، يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه، ويستبيح به ما يستبيحه المغتسل بغسله، فيصلي به الصلوات المتعددة، ولا ينتقض بفراغ من صلاة، ولا بالاشتغال بغيره، ولا بخروج وقت على ما هو الحق.
والخلاف في ذلك معروف.
والأدلة الواردة لمشروعية التيمم عند عدم الماء ثابتة كتاباً وسنة.
قال في " الحجة ": ولم أجد في حديث صحيح تصريحاً بأنه يجب أن
__________
(1) ولكن؛ ليس دائماً، وتفصيل هذا في مظانّه.(1/204)
يتيمم لكل فريضة، أو لا يجوز التيمم للآبق ونحوه، وإنما ذلك من التخريجات (1) ، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يشرع التمرغ؛ لأن من حق ما لا يعقل - بادي الرأي - أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج، فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية.
وفي معنى المرض البرد الضار - لحديث (2) عمرو بن العاص - رضي الله عنه -.
والسفر ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء، تتبادر إلى الذهن، وإنما لم يؤمر بمسح الرِّجْل بالتراب؛ لأن الرِّجل محل الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبيه به. انتهى.
(أو خشي الضرر من استعماله) : لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني - رحمهم الله -، من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة؛ وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ أخبرناه بذلك؟ فقال: " قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ ! فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل
__________
(1) أي: التفريعات التي لا دليل عليها.
(2) سيأتي - بعد -.(1/205)
سائر جسده (1) ".
وقد تفرد به الزبير بن خريق (2) - رحمه الله - وليس بالقوي، وقد صححه ابن السكن - رحمه الله -.
وروي من طريق أخرى عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
وقد ذهب إلى مشروعية التيمم بالعذر الجمهور.
__________
(1) • حديث جابر - هذا - ضعيف السند؛ كما ذكر المؤلف.
لكن له شاهد من حديث ابن عباس، يرتقي به إلى درجة الحسن، فيصح أن يحتج به على مشروعية التيمم، لخوف الضرر من استعمال الماء.
ولكن ليس في حديث ابن عباس: " ويعصب على جرحه ... " الخ؛ فهذه الزيادة من الحديث ضعيفة، فلا يحتج بها على مشروعية المسح على الجبيرة، وإن كان ورد في المسح عليها أحاديث أخرى؛ فإنها ضعيفة جداً، لا يصح أن يتقوى الحكم بها؛ لشدة ضعفها: خلافاً لما ذكره الشيخ سيد سابق في " فقه السنة "، وقد فصلت القول في ذلك في " تمام المنة في التعليق على فقه السنة ".
نعم؛ صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه توضأ وكفه معصوبة، فمسح على العصائب، وغسل سوى ذلك؛ رواه البيهقي (1 / 328) .
وقد دعم بعضهم المسح على الجبيرة؛ بالقياس على المسح على العمامة والخفين.
فمن ظهر له قوة هذا القياس بالإضافة إلى أثر ابن عمر؛ مسح على الجبيرة.
وإلا؛ فلا يشرع المسح؛ وهذا الذي أراه؛ لعدم قيام دليل تقوم به الحجة عندي. أما الحديث؛ فقد عرفت ضعفه، هو وما في معناه.
وأما الأثر؛ فلا حجة فيه توجب العمل به.
وأما القياس؛ فلا يجوز القول به في العبادات.
والخلاصة: أن الجريح يكفيه أن يغسل سائر بدنه أو أعضائه، دون أن يمسح على الجبيرة، والله أعلم. (ن)
قلت: انظر " تمام المنة " (ص 131) .
وانظر تعليقي على " مفتاح دار السعادة " (1 / 368 - 370) لابن القيم.
(2) • بالتصغير؛ وهو لين الحديث، كما في " التقريب ". (ن)(1/206)
وذهب أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وروي عن الشافعي - رحمه الله - في قول له - أنه لا يجوز التيمم لخشية الضرر.
ولا أدري كيف صحة ذلك عنهما (1) ؟ {فإن هذا الحديث يؤيده قوله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى} الآية.
وكذلك حديث المسح على الجبائر (2) المروي عن علي - رضي الله عنه -.
وكذلك حديث عمرو بن العاص: لما بعثه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في غزوة ذات السلاسل، فاحتلم في ليلة باردة، فتيمم وصلى بأصحابه، فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ فقال: " يا عمرو} أصليت مع أصحابك وأنت جنب؟ "، فقال: ذكرت قوله الله - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} ، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يقل شيئاً. رواه أحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وأخرجه البخاري تعليقاً (3) .
قال في " الحجة ": وكان عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - لا يريان التيمم عن الجنابة، وحملا الآية على اللمس (4) ، وأنه ينقض الوضوء، لكن حديث عمران وعمار يشهد بخلاف ذلك.
__________
(1) قارن ب " الإنصاف " (1 / 265) للمرداوي، و " مُغني المحتاج " (1 / 92) للشربيني.
(2) هو في " سنن ابن ماجه " (657) ، وإسناده ضعيف.
(3) انظر " الإرواء " (154) .
(4) انظر " الأوسط " (2 / 15) لابن المنذر، و " تفسير القرطبي " (5 / 223) .
وقال الترمذي في " سننه " (1 / 39) - ونقله الشوكاني في " نيل الأوطار " (1 / 322) -: " وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا عن ذلك ".
قلت: وهذا مروي في " الصحيحين "، وانظر " جامع الأصول " (7 / 252) .(1/207)
( [أعضاء التيمم] :)
(وأعضاؤه: الوجه ثم الكفان يمسحهما) ؛ أي: الوجه والكفين؛ لما ورد من الأحاديث الصحيحة قولاً وفعلاً، وقد أشار بالعطف ب (ثم) إلى الترتيب بين الوجه والكفين.
وأما الاقتصار على الكفين: فلكون الأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك:
منها حديث عمار بن ياسر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره بالتيمم للوجه والكفين؛ أخرجه الترمذي وغيره - وصححه -.
ومنها ما في " الصحيحين " من حديث عمار - أيضا -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال له: " إنما كان يكفيك هكذا "، وضرب النبي [صلى الله عليه وسلم] بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
وفي لفظ للدارقطني: " إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين ".
وقد ذهب إلى أنه يُقتصر من اليدين على الكفين عطاء، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وعامة أصحاب الحديث. هكذا في " شرح مسلم ".
وذهب الجمهور إلى أن المسح في التيمم إلى المرفقين.
وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين.
وقال الخطابي: إنه لم يختلف أحد من أهل العلم في أنه لا يلزم مسح(1/208)
ما وراء المرفقين.
والحق ما ذهب إليه الأولون؛ لأن الأدلة التي استدل بها الجمهور منها ما لا ينتهض للاحتجاج به، كحديث ابن عمر عند الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، مرفوعاً بلفظ: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين "؛ وفي إسناده علي بن ظبيان (1) ، قال الدارقطني: وثقه (2) يحيى بن [سعيد بن] القطان وهشيم وغيرهما، وقال الحافظ: هو ضعيف؛ ضعفه ابن القطان، وابن معين، وغير واحد.
وأما ما ورد فيه لفظ اليدين - كما وقع في بعض روايات من حديث عمار -: فالمطلق يحمل على المقيد بالكفين.
واحتج الزهري بما ورد في رواية من حديث عمار أيضا بلفظ: ". . إلى الآباط "؛ وقد نسخ ذلك ما قال الشافعي.
( [كيفية التيمم] :)
(مرة بضربة واحدة) : لأن ذلك هو الثابت في الأحاديث الصحيحة، ولم يثبت ما يخالف ذلك من وجه صحيح.
وقد ذهب إلى كون التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور.
وذهب جماعة من الأئمة والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين.
__________
(1) • بفتح المعجمة؛ ضعفه في " التقريب ". (ن)
(2) كذا! والصواب: " وقفه "؛ كما في " السنن " (1 / 180) .(1/209)
وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاثة ضربات: ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراعين.
(ناوياً مسمياً) لما تقدم في الوضوء؛ لأنه بدل عنه، وأدلة النية شاملة لكل عمل.
( [نواقض التيمم] :)
(ونواقضه نواقض الوضوء) : لما ذكرنا من البدلية (1) ، ومن أثبت للتيمم شيئاً من النواقض لم يثبت في الوضوء؛ لم يقبل منه ذلك إلا بدليل، ولم نجد دليلاً تقوم به الحجة يصلح لذلك، فالواجب الاقتصار على نواقض الوضوء.
وأما وجود الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بالتيمم؛ فقد صرح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لمن لم يعد الصلاة من الرجلين اللذين سألاه بعد أن صلياها بالتيمم، ثم وجدا الماء، أن الذي لم يعد أصاب السنة، والحديث معروف (2) .
وأما قوله للذي أعاد: " لك الأجر مرتين "؛ فلكونه قد كرر العبادة معتقداً وجوب ذلك، فكان له الأجر الآخر لذلك.
وليس المراد ههنا إلا الإجزاء وسقوط الوجوب، وقد أفاد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " أصبت السنة "، مع ما في إصابة السنة من الخير والبركة، والتعريض (3)
__________
(1) أي: في الحكم.
(2) وقد تقدم.
(3) الإشارة.(1/210)
بأن ما عدا ذلك مخالف للسنة كما لا يخفى.
وأما القول بأن من أسباب التيمم تعذر استعمال الماء وخوف سبيله - ونحو ذلك -: فلا يخفى أن هذه داخلة تحت ما ذكرناه من عدم الماء أو خشية الضرر من استعماله؛ فإن من تعذر عليه استعمال الماء؛ هو عادم للماء؛ إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه؛ فهو عادم، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء، وهكذا من كان ينجسه - ولا محالة - إذا استعمله، وهكذا من كان يحتاجه للشرب؛ فهو عادم له بالنسبة إلى الوضوء.
وأما ما قيل من أن فوات الصلاة باستعمال الماء وإدراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم! فليس على ذلك دليل، بل الواجب استعمال الماء، وهو إن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير - كالنوم والسهو ونحوهما -؛ فلم يوجب الله - تعالى - عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله - تعالى -، وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت: فعليه الوضوء وقد باء بإثم المعصية.
وأما ما قيل من الطلب إلى مقادير محدودة: فليس على ذلك حجة نيرة.(1/211)
(7 - باب الحيض والنفاس)
( [الفصل الأول: أحكام الحيض] )
( [عدم وجود دليل بتحديد أقل الحيض وأكثره] :)
(لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطهر) ؛ لأن ما ورد في تقدير أقل الحيض والطهر وأكثرهما، فهو إما موقوف ولا تقوم به الحجة، أو مرفوع ولا يصح، فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه، بل المعتبر لذات العادة المتقررة هو العادة، وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم.
( [تعمل المرأة بعادتها] :)
(فذات العادة المتقررة تعمل عليها) فقد صح في غير حديث اعتبار الشارع للعادة كحديث: " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة.
وأخرج مسلم وغيره من حديثها - نحو ذلك -.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث أم سلمة: " أنها استفتت النبي [صلى الله عليه وسلم] في امرأة تهراق الدم؟ فقال: " لتنتظر قدر الليالي(1/212)
والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر (1) فتدع الصلاة " وهو حديث صالح للاحتجاج به.
وكذلك حديث زينب بنت جحش: " أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال في المستحاضة: " تجلس أيام أقرائها " أخرجه النسائي (2) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
( [تعمل المرأة غير المعتادة بالقرائن المستفادة من الدم] :)
(وغيرها ترجع إلى القرائن) المستفادة من الدم؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إن كان دم الحيض فإنه أسود يُعرف (3) ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي؛ فإنما هو عِرْق " أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه أيضا الدارقطني، والبيهقي، والحاكم، - أيضا - بزيادة: " فإنما هو داء عرَض، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع " (4) .
__________
(1) • قوله: " وقدرهن من الشهر "؛ هي زيادة في رواية لابن ماجه، وليست عند النسائي. (ن)
قلت: وانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (561) ، و " المشكاة " (599) .
(2) (برقم: 361) وسنده صحيح.
(3) بضم الياء وكسر الراء، أي: له عرف أي: رائحة تعرفها النساء، ويروى بفتح الراء؛ أي: تعرفه النساء، وهو الأظهر. (ش)
(4) هذه الرواية في " المستدرك " (1 / 175) من طريق أبي عاصم النبيل، وفي " الدارقطني " (ص 80) من طريق محمد بن بكر البرساني، وأبي عاصم - كلاهما -، عن عثمان بن سعد، عن ابن أبي مليكة، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت ... الخ، وهي خالة ابن أبي مليكة؛ وهو إسناد صحيح؛ ظاهره الإرسال، وبذلك أعله الذهبي.
وقد أخطأ المصنف [أي: مصنف " الأصل "] في " نيل الأوطار " خطأ غريباً، فقال: " وقد استنكر هذا الحديث أبو حاتم؛ لأنه من رواية عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، وجده لا يُعرف " اه. =(1/213)
( [صفات دم الحيض] :)
(فدم الحيض يتميز عن غيره، فتكون حائضا إذا رأت دم الحيض) أخرج أبو داود، والنسائي؛ من حديث فاطمة بنت أبي حبيش، أنه قال [صلى الله عليه وسلم] : " دم الحيض أسود يُعرف " صححه ابن حزم، وأخرج النسائي من حديث عائشة مرفوعاً - نحوه (1) -.
وأخرج الطبراني، والدارقطني من حديث أبي أمامة مرفوعاً، بلفظ: " دم الحيض لا يكون إلا أسود " (2) ، فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يقال للصفرة والكُدرة: دم حيض، ولا يعتد بها سواء كانت بين دمي حيض أو بعد دم الحيض، وليس التحيض بين دمي الحيض مع تخلل الصفرة والكدرة لأجلهما، بل لكون ما توسط بين دمي الحيض حيضا، كما لو لم يخرج دم أصلا بين دمي الحيض.
ولا يعارض هذا ما أخرجه في " الموطأ " - وعلقه في " البخاري " -: أن
__________
= وليس لعدي في إسناده ذكر! بل هذا حديث آخر غيره. (ش)
قلت: و " ركضة الشيطان ": إضراره بها، والمراد: أنه طريق يلبّس الشيطان عليها في أمر دينها وطهرها.
كذا في " النهاية " (2 / 259) لابن الأثير.
والأولى حمله - أيضا - على الحقيقة.
(1) • قلت: حديث عائشة هو حديث فاطمة، لكن بعض الرواة رواه مرة عن عروة عن فاطمة، ومرة أدخل بينهما عائشة، كما بينت ذلك في " صحيح سنن أبي داود " رقم (284، 285) . (ن)
(2) في " سنن الدارقطني " (ص 80) بهذا اللفظ، ورواه البيهقي (ج 1 ص 326) والدارقطني (ص 80) بلفظ: " ودم حيض أسود خاثر تعلوه حمرة "؛ واللفظان ضعيفان؛ فإنهما من رواية العلاء بن كثير - وهو ضعيف -، عن مكحول، عن أبي أمامة؛ ومكحول لم يسمع من أبي أمامة شيئا؛ كما قال الدارقطني. (ش)
قلت: وانظر " سنن الدارقطني " (1 / 218) ، و " مجمع الزوائد " (1 / 280) ؛ فقد ضعفاه.(1/214)
النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدِّرَجة فيها الصفرة والكدرة من دم الحيض ليسألنها عن الصلاة؟ فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء "؛ فإن هذا - مع كونه رأيا (1) منها - ليس بمخالف لما تقدم؛ لأنها لم تخبرهن بأن الصفرة والكدرة حيض، إنما أمرتهن بالانتظار إلى حصول دليل يدل على أنه قد انقضى الحيض، وهو خروج القصة، فمتى خرجت لم يخرج بعدها دم حيض، ولم تأمرهن بالانتظار ما دامت الصفرة والكدرة.
وهذا واضح لا يخفى.
( [تعريف المستحاضة وأحكامها) :)
(ومستحاضة) ؛ وهي التي يستمر خروج الدم منها.
(إذا رأت غيره) تعمل على العادة المتقررة، فتكون فيها حائضاً تثبت لها فيه أحكام الحائض، وفي غير أيام العادة تكون طاهراً لها حكم الطاهر.
( [تُعامل المستحاضة كالطاهرة] :)
(وهي كالطاهرة) كما أفادت ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة من غير
__________
(1) • قلت: لكن يشهد له مفهوم حديث أم عطية، قالت: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً، أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح، كما بينته في " صحيح أبي داود " رقم (325) ، فهو يدل بمفهومه على أنهن كن يعددن ذلك قبل الطهر - أي: في الحيض - حيضاً.
وتأويل المصنف حديث عائشة بعيد جدا عن الحقيقة، بل هو صريح على أنها كانت ترى أن الحائض لا تطهر بانقطاع الدم الأسود عنها؛ بل لا بد من انقطاع الصفرة والكدرة؛ وإلا لما جاز أن تأمر بالانتظار، الذي يقضي بتضييع بعض الصلوات، لو كان الحيض هو الدم الأسود فقط، فتأمل. (ن)
قلت: و (الدّرَجة) : هو أشبه بالوعاء الذي توضع فيه الأشياء؛ كما في " النهاية " (2 / 111) لابن الأثير.
وانظر " تمام المنة " (ص 136) .(1/215)
وجه، فإذا لم تكن لها عادة متقررة كالمبتدأة والملتبسة عليها عادتها؛ فإنها ترجع إلى التمييز، فإن دم الحيض أسود يُعرف - كما قال -[صلى الله عليه وسلم] فتكون إذا رأت دماً كذلك: حائضاً، وإذا رأت دماً ليس كذلك: طاهراً.
وقد أطال الناس الكلام في هذا الباب في غير طائل، وكثرت فيه التفريعات والتدقيقات، والأمر أيسر من ذلك.
(وتغسل أثر الدم) لقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث عائشة الثابت في " الصحيح ": " فاغسلي عنك الدم وصلي "، وقد ورد ما يفيد معنى ذلك من غير وجه.
( [المستحاضة تتوضأ لكل صلاة] :)
(وتتوضأ لكل صلاة) وذلك هو الذي ورد من وجه معتبر (1) ، وإذا جمعت بين الصلاتين فأخرت الأولى إلى آخر وقتها، وقدمت الثانية في أول وقتها كان لها أن تصليهما بوضوء واحد.
ولم يأت في شيء من الأحاديث الصحيحة إيجاب الغسل لكل صلاة، ولا لكل صلاتين، ولا في كل يوم، بل الذي صح إيجاب الغسل عند انقضاء وقت حيضها المعتاد، أو عند انقضاء ما يقوم مقام العادة من التمييز بالقرائن، كما في حديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ".
وأما ما في " صحيح مسلم ": " أن أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة ":
__________
(1) كحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش؛ وقد رواه مسلم (333) .(1/216)
فلا حجة في ذلك؛ لأنها فعلته من جهة نفسها، ولم يأمرها النبي [صلى الله عليه وسلم] بذلك، بل قال لها: " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي "؛ فإن ظاهر هذه العبارة أنها تغتسل بعد المكث قدْر ما كانت تحبسها الحيضة، وذلك هو الغسل الكائن عند إدبار الحيضة، وليس فيه ما يدل على أنها تغتسل لكل صلاة.
وقد ورد الغسل لكل صلاة من طرق لا تقوم بمثلها الحجة (1) ، لا سيما مع معارضتها لما ثبت في " الصحيح "، ومع ما في ذلك من المشقة العظيمة على النساء الناقصات العقول والأديان، والشريعة سمحة سهلة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ، {فاتقوا الله ما استطعتم} .
( [أحكام الحائض] :)
(والحائض لا تصلي ولا تصوم) لما ورد في ذلك من الأدلة الصحيحة؛ كحديث: " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ ! "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد - وهو مجمع عليه -، وكان هذا شأن الحائض في زمن النبوة وأيام الصحابة فمن بعدهم، أنها تدع الصلاة والصوم أيام حيضتها، وتقضي الصوم لا الصلاة بعد طهرها.
ولم يخالف في ذلك غير الخوارج (2) ، ولا ريب أن القضاء إن كان بدليل الأصل - كما ذهب إليه البعض - فلا وجوب للأصل ههنا، ولا دليل عليه في حال الحيض، وإن كان بدليل جديد غير دليل المقضي، فلم يقم في الصلاة
__________
(1) وقد جزم بذلك الإمام النووي في " المجموع " (2 / 536) .
(2) وفي ذلك حديث عائشة المروي في " الصحيحين ".
وانظر " إرواء الغليل " (200) لشيخنا، و " شرح الترمذي " (1 / 235) للشيخ أحمد شاكر.(1/217)
وقام في الصيام، فطاح القياس وذهب الإلزام.
( [الحائض لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر] :)
(و) أما كونها (لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر) فذلك نص الكتاب العزيز؛ قال الله - تعالى - {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} ، والأحاديث في ذلك كثيرة؛ منها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وهو في " الصحيح "، وهو مجمع على تحريم ذلك، ليس فيه خلاف.
وتحريم الصلاة والصوم على الحائض كما تقدم، وكذلك وطؤها: هو إلى غاية هي الغسل بعد الطهر - كما صرحت بذلك الأدلة -.
( [الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة] :)
(و) أما كونها (تقضي الصيام) فلحديث عائشة بلفظ: " فنؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وقد نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على ذلك، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة!
ولا يقدح في إجماع الأمة مخالفة هؤلاء الذين هم كلاب النار (1) .
(فصل: [أحكام النفساء] )
( [أكثر النفاس أربعون يوماً ولا حد لأقله] :)
__________
(1) صح وصفهم بذلك في السنة؛ فانظر " ظلال الجنة بتخريج كتاب السنة " (904) و (905) لشيخنا.(1/218)
(والنفاس أكثره أربعون يوماً) لحديث أم سلمة، قالت: " كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أربعين يوماً " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم (1) ، وللحديث طرق يقوي بعضها بعضاً.
وإلى ذلك ذهب الجمهور.
وقد قيل: إن أكثره ستون يوماً، وقيل: سبعون يوماً، وقيل: خمسون، وقيل: نيف وعشرون، والحق الأول، وهذا القدر هو أرجح ما قيل؛ لأن ما عداه خال عن الدليل.
(و) أما كونه (لا حد لأقله) فلم يأت في ذلك دليل، بل ما دام الدم باقياً كانت المرأة نفساء، فإن انقطع قبل الأربعين اقتطع عنها حكم النفاس، فإن جاوز دمها الأربعين عاملت نفسها معاملة المستحاضة إذا جاوزت أيام العادة المتقررة.
( [أحكام النفساء كأحكام الحائض] :)
(وهو) أي: النفاس (كالحيض) في تحريم الوطء وترك الصلاة والصيام، ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا تقضي النفساء الصلاة.
في رواية لأبي داود من حديث أم سلمة، قالت: " كانت المرأة من نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بقضاء صلاة النفاس ".
__________
(1) • (1 / 175) ، وقال: " صحيح "، ووافقه الذهبي. (ن)(1/219)
وقد تقدم الإجماع على ذلك في الحائض، وهو في النفاس إجماع كذلك.
ولعل الخوارج يخالفون ههنا كما خالفوا هنالك! ولا يُعتد بهم.(1/220)
(الكتاب الثاني: كتاب الصلاة)(1/221)
(2 - كتاب الصلاة)
(1 - باب مواقيت الصلاة)
قال الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} والأمر بمطلق الصلاة إنما يفيد الإتيان بها في زمان ومكان من دون تعيين؛ لأن مطلق الزمان والمكان من ضروريات الفعل.
وأما الوقت الخاص الذي شرع الله فيه الصلاة، وكذلك كونها على هيئة مخصوصة مع شروط محصورة، فهذا لا دلالة للآية عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام (1) ، ولم يدل على ذلك إلا السنة الثابتة عنه [صلى الله عليه وسلم] قولاً وفعلاً، وليس في القرآن من ذلك إلا النادر القليل؛ كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} فإنه في هذه الآية ذكر الوضوء، وهو شرط من شروط الصلاة، وقيد الأمر به بالقيام إليها، فكان ذلك مقيداً لوجوب الفعل، ولا بد للشرطية من دليل أخص من ذلك، وقد ورد في السنة ما يفيد الشرطية، وكذلك ورد في القرآن ذكر بعض هيآت الصلاة؛ كالسجود والركوع، ولكن بدون ذكر صفة ولا عدد، ولا كون ذلك في الموضع الذي بينته السنة المطهرة.
( [بيان أول وقت الظهر وآخره] :)
(أول وقت الظهر) تعيين أول الأوقات وآخرها قد ثبت في الأحاديث
__________
(1) هي دلالات منطقية عقلية مجردة.(1/223)
الصحيحة من تعليم جبرائيل - عليه السلام - له [صلى الله عليه وسلم] ، ومن تعليمه [صلى الله عليه وسلم] لمن سأله، وغير ذلك من أقواله وأفعاله.
(الزوال) أي: زوال الشمس، ويبين ذلك باخضرار الجدار إلى جهة الشرق، يعرفه كل ذي عينين.
(وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال) فإن قلت: أخرج النسائي وأبو داود من حديث ابن مسعود: " كان قدر صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] [الظهر] في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام " (1) .
قلت: إنهم حملوه على الإبراد (2) ؛ كما قاله ابن العربي المالكي في " القبس "، وتبعه الحافظ السيوطي، وأنه حديث قد قُدح فيه؛ فإنه من رواية عبيدة بن حميد الضبي الكوفي، عن أبي مالك سعد بن طارق، عن كثير بن مدرك، عن الأسود.
وفي عبيدة وشيخه سعد خلاف، ففي " الميزان " في ترجمة سعد: " وثقه أحمد وابن معين، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه في القنوت ".
وقد ضعف عبد الحق حديث تقدير صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالأقدام في الشتاء والصيف.
والعجب من الحافظ ابن حجر في " التخليص " لم يتكلم على لفظ
__________
(1) الصواب أنه حديث صحيح؛ انظر الكلام عليه - رواية ودراية - في تعليق شيخنا على " المشكاة " (1 / 187) .
(2) وليس الأمر كذلك!(1/224)
الحديث ولا سنده!
وذكر كلام ابن العربي وأبطله السيد محمد الأمير في " اليواقيت ".
نعم؛ أيام الشتاء يحسن التأني بالظهر حتى يحصل ظن أن الشمس لو كانت في كبد السماء أن قد زالت، لأنه يدرك بالحس والمشاهدة إذا كانت من جهة الجنوب، لأن ظلها يزداد في جهة الشرق زيادة كثيرة، لكن لا إلى الحد الذي يقدّر بالأقدام، وغايته أن ينظر في أمارات تحصل الظن بالزوال، وأهل الأقدام ليس معهم إلا الظن لا غير، وليس أحد مخاطباً بظن غيره بل بظن نفسه، فتأمل.
( [بيان أول وقت العصر وآخره] :)
(وهو أول وقت العصر) أي: صيرورة ظله مثله.
قال ابن القيم: وأنهم كانوا يصلونها مع النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة (1) .
وقال أنس: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] العصر، فأتاه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله: إنا نريد أن ننحر جزوراً، وإنا نحب أن تحضرها، قال: " نعم "، فانطلق، وانطلقنا معه، فوجد الجزور لم تُنحر، فنحرت، ثم قطعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس " (2) ، ومحال أن يكون هذا بعد المثلين.
__________
(1) رواه الجماعة - إلا الترمذي - من حديث أنس بن مالك. (ش)
(2) رواه مسلم في " صحيحه ". (ش) .(1/225)
وفي " صحيح مسلم " عنه: " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر " (1) ، ولا معارض لهذه السنن في الصحة ولا في الصراحة والبيان، فرُدّت بالمجمل من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً، فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ... " (2) الخ.
ويا لله العجب {أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة،؟} وإنما يدل على أن من صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر، وهذا لا ريب فيه. انتهى.
(وآخره) أي: آخر وقت العصر صيرورة ظله مثليه.
قال الشافعي: " آخر الوقت المختار للعصر أن يكون ظل كل شيء مثليه.
وقيل: إلى أن تصفر الشمس، وآخر وقت الضرورة مغيب الشمس ". كذا في " المسوى ".
وفي " الحجة البالغة ": وكثير من الأحاديث يدل على أن آخر وقت العصر أن تتغير الشمس، وهو الذي أطبق عليه الفقهاء، فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار والذي يستحب فيه، أو نقول: لعل الشرع نظر - أولاً - إلى المقصود من اشتقاق العصر، أن يكون الفصل بين كل صلاتين نحواً من
__________
(1) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مطولاً، وسيذكره الشارح في الكلام على آخر وقت العصر. (ش)
(2) رواه البخاري (2268) عن ابن عمر.
وانظر " الفتح " (2 / 40) ، و (4 / 446) .(1/226)
ربع النهار، فجعل الأمد الآخر بلوغ الظل إلى المثلين، ثم ظهر من حوائجهم وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد.
وأيضا معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ الفيء الأصلي ورصده.
وإنما ينبغي أن يُخاطب الناس في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر، فنفث الله تعالى في روعه [صلى الله عليه وسلم] أن يجعل الأمد تغير قرص الشمس أو ضوئها، والله تعالى أعلم.
(ما دامت الشمس بيضاء نقية) فإذا اصفرت خرج وقت العصر؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث، منها حديث ابن عمرو، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور (1) الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس ".
أخرجه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود.
ولا يخالف ما وقع في هذا الحديث - في آخر وقت العصر والعشاء - ما ورد في بعض الأحاديث " أن آخر وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه، وآخر وقت العشاء ذهاب ثلث الليل (2) "؛ فإن هذا الحديث قد تضمن زيادة غير منافية للأصل؛ لأن وقت اصفرار الشمس هو متأخر عن المثلين، إذ هي تبقى
__________
(1) بفتح الثاء المثلثة، وإسكان الواو، أي: ثورانه وانتشاره ومعظمه، وفي " القاموس " أنه حُمْرة الشفق الثائرة فيه. قاله المصنف [أي: مصنف " الأصل "] في " نيل الأوطار ". (ش)
(2) ووقع في رواية عند البخاري (541) : " إلى شطر الليل ".(1/227)
بيضاء نقية بعد المثلين، وكذلك نصف الليل، وهو متضمن لزيادة غير منافية لما وقع في رواية بلفظ " ثلث الليل "، على أن الرواية المتضمنة للزيادتين هي أصح من الأخرى (1) .
( [بيان أول وقت المغرب وآخره] :)
(وأول وقت المغرب غروب الشمس) أي: سقوط القرص، وهو وقت الاختيار الذي يجوز أن يصلى فيه من غير كراهية، والعمدة فيه حديثان: حديث جبرائيل (2) - عليه السلام -؛ فإنه صلى بالنبي [صلى الله عليه وسلم] يومين، وحديث بريدة (3) ؛ ففيه أنه [صلى الله عليه وسلم] أجاب السائل عنها - أي: عن الأوقات - بأن صلى يومين، والمفسر منهما قاض على المبهم، وما اختلف يتبع فيه حديث بريدة؛ لأنه مدني متأخر، والأول مكي متقدم، وإنما يتبع الآخر.
كذا في " الحجة ".
(وآخره ذهاب الشفق الأحمر) جميع كتب اللغة مصرحة بهذا، وجميع
__________
(1) اختار المصنف [أي: مصنف " الأصل "]- وتبعه الشارح - أن وقت العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية؛ وقد صح عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر "، رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وهو نص صريح في أن آخر وقت العصر إلى غروب الشمس، وروى نحوه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من حديث عائشة.
وتأوله الشارح باختصاص هذا الوقت بالمضطرين، ولكن صنيعه في وقت الصبح هنا وجعل آخره طلوع الشمس - وهو في الحديث وارد مع العصر - يرد عليه؛ فإن حكمهما واحد في الحديث.
نعم؛ يُكره التأخير إلى آخر الوقت لغير المضطر، ولكن هذا شيء، وخروج الوقت شيء آخر. (ش) .
(2) انظر " الإرواء " (249) .
(3) رواه مسلم (613) .(1/228)
أشعار العرب ومن بعدهم، فمن زعم أن الشفق في لسان أهل اللغة - أو لسان أهل الشرع - يطلق على البياض فعليه الدليل، ولا دليل.
ولو فُرض وجود ما يدل على ذلك فلا يُنكر ندوره، كما لا ينكر أن الشائع في لسان العرب وأهل الشرع إطلاقه على الحمرة، والحمل على الأعم الأغلب هو الواجب، ولا يُحمل على النادر، فليس ههنا ما يسوغ اختلاف المذاهب.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق - كما في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمر - وقد تقدم -.
وفي " صحيحه " - أيضا - عن أبي موسى، أن سائلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن المواقيت؟ فذكر الحديث، وفيه: " فأمره، فأقام المغرب حين وجبت الشمس، فلما كان اليوم الثاني قال: ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم قال: " الوقت ما بين هذين ".
وهذا متأخر عن حديث جبرائيل - عليه السلام -؛ لأنه كان بمكة، وهذا قول وذلك فعل، وهذا يدل على الجواز، وذاك على الاستحباب، وهذا في " الصحيح " وذاك في " السنن "، وهذا يوافق قوله [صلى الله عليه وسلم] : " وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها " (1) ، وإنما خُص منه الفجر بالإجماع، فما عداها من الصلوات داخل في عمومه، والفعل إنما يدل على الاستحباب، فلا يعارض العام ولا الخاص.
__________
(1) هو معنى حديث رواه مسلم في " صحيحه " (311) .
وانظر " نيل الأوطار " (1 / 413) .(1/229)
( [بيان أول وقت العشاء وآخره] :)
(وهو) - أي: ذهاب الشفق وغروبه - (أول العشاء) للإجماع على دخوله بالشفق، والأحمر هو المتبادر منه؛ لأن وقت الاستحباب الذي يستحب أن يصلى فيه هو أوائل الأوقات؛ إلا العشاء.
(وآخره نصف الليل) فالمستحب الأصلي تأخيرها، وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء "، ولأنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال المنسية لذكر الله - تعالى -، وأقطع لمادة السمر بعد العشاء، لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل الجماعة، وتنفير القوم، وفيه قلب الموضوع، فلهذا كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا كثر الناس عجّل، وإذا قلوا أخّر.
كذا في " الحجة "، فهذه علامات، وكان المعلم لها جبرائيل - عليه السلام -، ثم محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للأمة.
( [بيان أول وقت الفجر وآخره] :)
(وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر) أي: ظهور الضوء المنتشر، وبينه [صلى الله عليه وسلم] أشفى بيان، فقال لهم: " أنه يطلع معترضاً في الأفق "، و " أنه ليس الذي يلوح بياضه كذنب السِّرحان (1) "، وهذا شيء تدركه الأبصار، وقال - تعالى -: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ، فجاء بلفظ التفعل، لإفادة أنه لا يكفي إلا التبين الواضح، أي: يتبين لكم شيئاً فشيئاً حتى يتضح؛ فإنه لا يتم تبينه وظهوره إلا بعد كمال ظهوره، فإنه يطلع - أولا -
__________
(1) السِّرحان هو: الذئب؛ والمراد ارتفاع نوره عموديا في السماء.(1/230)
تباشير الضوء، ثم ذنب السِّرحان وهو الفجر الكذاب، ثم يتضح نور الصباح الذي أبداه بقدرته فالق الإصباح، ولذلك قال الشاعر:
(وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب)
قال ابن القيم: " إن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يقرأ بالستين آية إلى المئة، ثم ينصرف منها والنساء لا يُعرفن من الغلس (1) ، وأن صلاته كانت في التغليس حتى توفاه الله - تعالى -، وأنه أسفر بها مرة واحدة، وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية، فرُد ذلك بمجمل حديث رافع بن خديج: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " (2) ، وهذا - بعد ثبوته - إنما المراد به الإسفار بها دواماً، لا ابتداء، فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها مسفرا، كما كان يفعله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فقوله موافق لفعله لا مناقض له، وكيف يُظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه؟ ! " انتهى.
(وآخره طلوع الشمس) : ومما ينبغي أن يُعلم: أن الله - عز وجل - لم يكلف عباده في تعريف أوقات الصلوات بما يشق عليهم ويتعسر، فالدين يسر، والشريعة سمحة سهلة، بل جعل -[صلى الله عليه وسلم]- للأوقات علامات حسية يعرفها كل أحد، فقال في الفجر: طلوع النور الذي هو من أوائل أجزاء النهار يعرفه كل أحد، وقال في الظهر: " إذا دحضت الشمس " (3) ، إذا زالت الشمس،
__________
(1) الظلام.
والحديث؛ رواه البخاري (1921) ، ومسلم (1097) .
(2) حديث صحيح، انظر " إرواء الغليل " (258) .
(3) هي رواية عند مسلم (606) عن جابر بن سمرة.(1/231)
وقال في العصر: " والشمس بيضاء نقية "، وقال في المغرب: " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا "، وقال في العشاء: من قدّر وقت صلاته بأنه كان يصليها وقت غروب الهلال ليلة ثالث الشهر، وورد التقدير بالشفق، وورد (1) التقدير بثلث الليل وبنصفه، فهذه العلامات لا تلتبس على أكمه.
( [بيان استغناء الشريعة عن علم النجوم] :)
والنظر في النجوم - وإن كنت لا أظن ثبوت ذلك - هو النظر الذي يكون في الشمس والقمر والأظلة المقترنة بالنجوم، والمراد أنه يستدل على دخول وقت كذا بكون النجم في مكان كذا، كما يكون مثل ذلك في الشمس والقمر، لا أنه النظر المفضي إلى الاشتغال بعلم النجوم - المؤدي إلى الوقوع في مضايق عن الشريعة بمعزل -؛ فإن هذا علم نهى عنه الشارع، وحذر عن إتيان صاحبه، حتى جعل ذلك كفراً، فكيف يجعل طريقاً إلى أمر من أمور الشريعة ومهم من مهماتها؟ !
فمن ظن أن شيئا من علم الشريعة محتاج إلى علم النجوم المصطلح عليه (2) ؛ فهو إما جاهل لا يدري بالشريعة، أو مغالط قد مالت نفسه إلى ما
__________
(1) هذا التقدير قدّره النعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وقد بينت في شرحي على " التحقيق " لابن الجوزي أنه تقدير لا يطابق كل شهر؛ فإن القمر يغيب ليلة ثالث الشهر في أوقات مختلفة باختلاف الأشهر، وقد يصل الفرق بين الليلة الثالثة من شهر وبين الليلة الثالثة من شهر آخر إلى نحو الساعتين، ولعل النعمان رأى النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى العشاء - لسقوط القمر لثالثه - مرات من غير تتبع ولا استقصاء، فظن أن هذا الوقت متحد في الليالي، ولم يلاحظ الفرق بينها. (ش)
(2) يُنظر كلام الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه " فضل علم السلف على علم الخلف " (19 - 23) في تقسيم علم النجوم - بتحقيقي.(1/232)
نهى عنه الشارع، وأراد أن يدفع عن نفسه القالة، فاعتل بأنه لم يتعلق بمعرفة ذلك إلا لكونه قد تعلقت به معرفة أوقات الصلوات، وكثيرا ما نسمعه - من المشتغلين بذلك - يُدلي بهذه الحجة الباطلة، فيصدقه من لم يثبت قدمه في علم الشريعة المطهرة.
ومن أعظم المروجات لهذه البلية ما وقع من جماعة من المشتغلين بعلم الفقه من تعداد النجوم وتقدير المنازل، والاستكثار من ذلك بما لا طائل تحته، إلا تأنيس المنجمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وحاصل الكلام: أن هذه تكاليف موجهة، كلف الله - تعالى - بها عباده، وعيّن أوقاتها تعييناً يعرفه العالم والجاهل، والقروي والبدوي، والحر والعبد، والذكر والأنثى على حد سواء، اشترك فيه كل هؤلاء، لا يحتاج معه إلى شيء آخر.
(أمع الصبح للنجوم تجل ... أم مع الشمس للظلام بقاء)
قال صاحب " سبل السلام ": التوقيت في الأيام والشهور والسنوات بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة، فلا يمكن عالم من علماء الدنيا أن يدعي أن ذلك كان في عصره -[صلى الله عليه وسلم]-، أو عصر خلفائه الراشدين، وإنما هو بدعة لعلها ظهرت في عصر المأمون، حين أخرج كتب الفلاسفة وعرّبها، ومنها المنطق والنجوم؛ فإنه علم أولئك الذين قال الله - تعالى - فيهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} ،(1/233)
فأقل أحوال المقرين على حساب المنازل القمرية أنهم مبتدعون، وكل بدعة ضلالة.
ولقد عظمت هذه البدعة في الحرمين الشريفين، فإنهم في مكة المكرمة لا يعتمدون إلا على ذلك، ولهم فيه أنواع مؤلفات مثل " الربع المجيَّب " (1) ونحوه؛ يدرِّسونه ويقرءونه ويعتمدونه، وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " علم لا ينفع وجهل لا يضر " (2) .
وهو من علم أهل الكتاب، فإن أعيادهم ونحوها تدور على حساب سير الشمس، ولعله دخل على المسلمين من علم اليونان وأهل الكتاب، ومات رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} ، وكان أهل بيته وأصحابه - رضي الله عنهم - على ذلك؛ لا يعرفون منازل الزيادة والنقصان، ولا ما يجعله المتأخرون هو الميزان، ولا شيئاً من هذه الأمور التي صار ذلك التكليف المؤقت عليها يدور ". انتهى (3) .
__________
(1) هو من فروع علم الفلك والهيئة.
(2) ضعفه العراقي في " تخريج الإحياء " (1 / 30) .
(3) يظهر أن صاحب " سبل السلام " - ومن بعده الشارح - لم يعرفا الفرق بين علم النجوم المنهي عنه - وهو دعوى معرفة الغيب بحسابها وما إلى ذلك -، وبين علم الفلك والميقات وتقدير منازل الشمس والقمر والنجوم، وهي من العلوم الصحيحة الثابتة ببراهين قطعية مبنية على الحساب الصحيح، وبه يعلم الكسوف والخسوف، ومواقيت الصلاة، والشهور، وغير ذلك.
حقيقة؛ لم يكن في عصره [صلى الله عليه وسلم] ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولكنّا لا نسميه بدعة؛ لأن كل علم مستحدث ينفع الناس يجب تعلمه على بعض أفراد المسلمين؛ ليكون قوة لهم ترقى بها الأمة الإسلامية.
وإنما البدعة ما يستحدثه الناس في أنواع العبادات فقط، وما كان في غير العبادات، ولم يخالف قواعد الشريعة؛ فليس بدعة أصلا، والله الموفق. (ش)
قلت: هذه قيود جيدة من الشيخ شاكر - رحمه الله -.(1/234)
( [وقت صلاة النائم أو الساهي عنها] :)
(ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها) ؛ أي: وقت القضاء إذا ذكر، وقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة؛ كحديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره.
وقد ورد المعنى من غير وجه، وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله - عز وجل - يقول في كتابه العزيز: {أقم الصلاة لذكري} ".
قلت: وعلى هذا أهل العلم، وقاسوا المفوت قصداً على النائم (1) . كذا في " المسوى ".
( [المعذور إذا أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة] :)
(ومن كان معذوراً) : لأن الأوقات للصلوات قد عينها الشارع، وحدد أوائلها وأواخرها بعلامات حسية، وجعل ما بين الوقتين لكل صلاة هو الوقت لتلك الصلاة، وجعل الصلاة المفعولة في غير هذه الأوقات المعينة صلاة المنافق وصلاة الأمراء الذين يميتون الصلاة، كقوله في حديث أنس - الثابت في " الصحيح " -، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله إلا قليلاً "، وكقوله -[صلى الله عليه وسلم]- لأبي ذر: " كيف أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة - أو يؤخرون الصلاة عن
__________
(1) وهو قياس مع الفارق.
وسيأتي البحث في هذه المسألة - بعد -.(1/235)
وقتها -؟ ! "، قلت: فما تأمرني؟ قال: " صلّ الصلاة لوقتها ... " الحديث؛ ونحو ذلك.
وهكذا أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، فكان ما ذكرناه دليلاً على أن إدراك الركعة في الوقت الخارج عن الأوقات المضروبة - كوقت طلوع الشمس وغروبها وطلوع الفجر - هو خاص بالمعذور، كمن مرض مرضاً شديداً لا يستطيع معه تأدية الصلاة، ثم شفي وأمكنه إدراك ركعة، وكالحائض إذا طهرت وأمكنها إدراك ركعة ونحو ذلك.
( [من أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة] :)
(وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها) ؛ أي: الصلاة، لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة، كحديث أبي هريرة أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
ونحو ذلك حديث عائشة عند " مسلم " وغيره، وقد ثبت من حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (1) ، وهذا يشمل جميع الصلوات لا يخص شيئاً منها.
__________
(1) لم يحرر المؤلف ولا الشارح آخر وقت العصر مع هذا الحديث باختلاف رواياته؛ فإن دعوى المؤلف أن إدراك ركعة من الصلاة إنما هو للمضطر؛ لا دليل عليها، بل الحديث عام في كل من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، والأحاديث الأخرى إنما تدل على النهي عن تأخير العصر إلى اصفرار الشمس، ولكنها لا تدل على أنه آخر وقتها. (ش)(1/236)
قلت: هذا الحديث يحتمل وجوها: أحدها من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت؛ فالجميع أداء وإلا فقضاء، وهو الأصح عند الشافعية.
وقال أبو حنيفة بذلك في العصر خاصة (1) .
وثانيها: من أدرك من المعذورين من الوقت ما يسع ركعة من الصلاة؛ فقد وجبت عليه تلك الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة وقول للشافعي.
وثالثها: أن الجماعة تدرك بركعة، وهو وجه للشافعية.
وقال أبو حنيفة: لو أدرك التشهد كان مدركاً للجماعة. كذا في " المسوى ".
فمن صلى ركعة في الوقت، والباقي خارج الوقت؛ لا يكون عند الشافعي كمن صلى الكل خارج الوقت.
وقال أبو حنيفة مثله؛ إلا في صلاة العصر خاصة.
وقد رد ابن القيم على من قال بكونها خلاف الأصول، ورده بالمتشابه من نهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة وقت طلوع الشمس أتم رد - في " إعلام الموقعين " -؛ فليرجع إليه.
( [وجوب المحافظة على الوقت] :)
(والتوقيت واجب) : لما ورد في ذلك من الأوامر الصحيحة بتأدية الصلاة
__________
(1) لا دليل على التخصيص!(1/237)
لوقتها، والنهي عن فعلها في غير وقتها المضروب لها.
(والجمع لعذر جائز) ؛ أي: بين الصلاتين إن كان صورياً (1) ، وهو فعل الأولى في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها، فليس بجمع في الحقيقة؛ لأن كل صلاة مفعولة في وقتها المضروب لها، وإنما هو جمع في الصورة، ومنه جمعه [صلى الله عليه وسلم] في المدينة المنورة من غير مطر ولا سفر - كما في " الصحيح " من حديث ابن عباس وغيره -؛ فإنه قد وقع التصريح في بعض الروايات بما يفيد ذلك، بل فسره من رواه بما يفيد أنه الجمع الصوري.
وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة، فالمراد بالجمع الجائز للعذر هو جمع المسافر والمريض، وفي المطر، كما وردت بذلك الأدلة الصحيحة (2) .
وقد اختلف في جواز الجمع بين الصلاتين لغير هذه الأعذار، أو مع عدم العذر.
والحق عدم جواز ذلك، كما حققه المجتهد الرباني شيخنا العلامة محمد ابن علي الشوكاني في " الفتح الرباني "، وغيره من مؤلفاته المباركة عليها ولها وفيها.
( [المتيمم والماسح على الجبيرة] :)
(والمتيمم وناقص الصلاة) : كمن به مرض يمنعه عن استيفاء بعض أركانها.
__________
(1) وفي كتابي " أحكام الشتاء " (45 - 94) بحث مطول في هذه المسألة؛ فلينظر.
(2) انظر " السيل الجرار " (1 / 193) .(1/238)
(أو الطهارة) : كمن في بعض أعضاء وضوئه ما يمنعه من غسله بالماء.
(يصلون كغيرهم من غير تأخير) : وجهه أنهم داخلون في الخطاب المشتمل على تعيين الأوقات وبيان أولها وآخرها، ولم يأت ما يدل على أنهم خارجون عنها، وأن صلاتهم لا تجزئ إلا في آخر الوقت.
ولم يعول من أوجب التأخير على شيء تقوم به الحجة، بل ليس بيده إلا مجرد الرأي البحت، كقولهم: إن صلاتهم بدلية، ونحو ذلك! وهذا لا يغني من الحق شيئاً.
أقول: لم يأت ما يدل على وجوب التأخير على من كان ناقص صلاة أو طهارة من كتاب ولا سنة، بل التيمم مشروع عند عدم الماء إذا حضر وقت الصلاة، وكذلك من كانت به علة لا يتمكن معها من استيفاء الطهارة أو الصلاة؛ جاز له أن يصلي إذا حضر وقت الصلاة كيف أمكن، وذلك هو المطلوب منه والواجب عليه، ولو كان التأخير واجباً على من كان كذلك؛ لبينه الشارع؛ لأنه من الأحكام التي تعم بها البلوى.
ولا فرق بين من كان راجياً لزوال العلة في آخر الوقت، ومن كان آيساً من زوالها في الوقت، ومن زعم أنه يجب تأخير صلاة من الصلوات على فرد من أفراد العباد؛ لم يُقبل منه ذلك إلا بدليل.
وأما ما يقال من أن الصلاة الناقصة أو الطهارة الناقصة بدل عن الصلاة الكاملة أو الطهارة الكاملة: فكلام لا ينفق في مواطن الخلاف، ولا تقوم بمثله الحجة على أحد.(1/239)
على أن البدلية غير مسلَّمة، وعلى فرض تسليمها: فلا نسلم أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر المبدَل إلى آخر الوقت، فإنهم يجعلون الظهر أصلا والجمعة بدلا، والجمعة مجزئة في أول وقت الظهر، بل لا يجزئ في ذلك الوقت غيرها لمن لم يكن معذوراً.
ثم لو سلمنا أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر المبدل، فوقت التعذر هو وقت الصلاة مثلا، فإذا دخل أول جزء من أجزاء الوقت، والمبدل متعذر: كان البدل في ذلك الوقت مجزئا، ومن زعم غير هذا جاءنا بحجة.
( [بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة] :)
(و) أما كون (أوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال، وبعد العصر حتى تغرب) : فلما ثبت في " الصحيح " عن جماعة من الصحابة مرفوعاً؛ من النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس (1) ، وعند الزوال، وورد في روايات أخر: النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات: وقت الطلوع، ووقت الزوال، ووقت الغروب.
قال في " الحجة ": " الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر منها فليفعل " (2) ، غير أنه نهي عن خمسة أوقات: ثلاثة منها أوكد نهيا من الباقيين وهي الساعات الثلاث إذا طلعت الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف (3) للغروب حتى تغرب، لأنها أوقات صلاة المجوس.
__________
(1) قارن ب " الصحيحة " (200) و (314) .
(2) انظر " صحيح الترغيب " (386) .
(3) أي: تميل؛ والحديث في " صحيح مسلم " (831) عن عقبة بن عامر.(1/240)
وأما الآخران فقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب " ولذلك صلى فيهما النبي [صلى الله عليه وسلم] تارة.
وروي استثناء نصف النهار يوم الجمعة (1) .
واستنبُط جوازها في الأوقات الثلاثة في المسجد الحرام من حديث: " يا بني عبد مناف! من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " (2) .
وعلى هذا فالسر في ذلك أنهما (3) وقت ظهور شعائر الدين ومكانه فعارضا المانع (4) من الصلاة ". انتهى.
وأقول: الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر قد صحت بلا ريب، وهي عمومات قابلة للتخصيص بما هو أخص منها مطلقاً، لا بما هو أعم منها من وجه، وأخص منها من وجه، كأحاديث الأمر بصلاة تحية المسجد (5) ؛ فإنه من باب تعارض العمومين، والواجب المصير
__________
(1) انظر أدلة ذلك في " الأجوبة النافعة " (59 - 63) ، لشيخنا الألباني.
(2) ليس المراد من هذا الحديث إباحة الصلاة في الأوقات المذكورة، بل هو نهي لبني عبد مناف من التعرض للمصلي في أي وقت شاء؛ لما كانوا يزعمون لأنفسهم من السلطان على البيت وعلى زائريه؛ فهو حَجْر عليهم، كفّ به أيديهم عن التعرض للناس، ولكنه لا يُفهم منه أن النهي عن الأوقات إنما هو في غير البيت؛ وهذا واضح لا يخفى على متأمل. (ش)
قلت: وقد ذكر الحافظ في " الفتح (3 / 488 - 489) في المسألة أقوالاً عدة؛ فلينظر.
(3) أي: الجمعة، والمسجد الحرام.
(4) وهو التشبه بالكفار.
(5) قارن ب " السيل الجرار " (1 / 189) .(1/241)
إلى الترجيح، فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب العمل به، وإن لم يمكن؛ وجب المصير إلى الترجيح بأمور خارجة، فإن تعذّر من جميع الوجوه؛ فالتخيير أو الاطراح في مادة.
إذا تقرر هذا: فما عورضت به أحاديث النهي عن الصلاة في الوقتين المذكورين لا يصلح للمعارضة:
أما حديث الرجلين اللذين أمرهما [صلى الله عليه وسلم] بالإعادة (1) ؛ فقد اختلفت الرواية؛ ففي بعض الروايات أنه قال: " هذه فريضة وتلك نافلة "، وفي بعضها عكس ذلك، وعلى الرواية الأولى: لا معارضة، وعلى الثانية: غاية ما هناك أن ذلك يكون مخصصا لأحاديث النهي بمثل حال الرجلين، وهو من دخل مسجد جماعة يصلون فيه فريضة في أحد الوقتين، فإنه يتنفل معهم.
وحديث: أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يصلي ركعتين بعد العصر (2) ؛ قد تبين في روايات الحديث الثابتة في الأمهات أنه وفد عليه وفد عبد القيس، فشغلوه عن ركعتي الظهر، فصلاهما بعد العصر، وكان هديه [صلى الله عليه وسلم] أنه إذا فعل شيئاً داوم عليه، حتى سألته بعض نسائه، وقالت: هل نقضيهما إذا فاتتانا؟ فقال: " لا " (3) .
__________
(1) لعله يشير إلى حديث يزيد بن الأسود في الرجلين اللذين لم يصليا في ناحية المسجد ... فقال لهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : ". . إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل: فليصل معه؛ فإنها له نافلة ".
وهو حديث صحيح مخرج في " الإرواء " (2 / 315) بطرقه ورواياته وألفاظه.
(2) تفصيل القول في هذه المسألة - بأدلتها، وشواهدها وطرق أحاديثها - في " سلسلة الأحاديث الصحيح " (6 / 2 / 1010 - 1014) .
(3) • حديث معلول. (ن)
قلت: وجزم بذلك الشوكاني في " نيل الأوطار " (3 / 34) .(1/242)
وقد ذكر من روى ذلك وما عليه شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " (1) .
وأما حديث: " لا تمنعوا طائفاً ... ": فهو مع كونه غير صلاة - وإن كان مشبهاً بها؛ فليس المشبه كالمشبه به هو أيضا عام مخصص بأحاديث النهي، أو خاص بنوع من أنواع الصلاة وهو الطواف؛ فليعلم.
__________
(1) نيل الأوطار " (3 / 28 - 29) .(1/243)
(2 - باب الأذان)
( [حكم الأذان] :)
أقول: هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام، وأشهر معالم الدين، فإنها وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله - سبحانه وتعالى - إلى أن مات رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : في ليل ونهار، وحضر وسفر، ولم يُسمع بأنه وقع الإخلال بها، أو الترخيص في تركها.
(يشرع) : وقد اختلف في وجوبه، والظاهر الوجوب؛ لأمره [صلى الله عليه وسلم] بذلك في غير حديث.
والحاصل: أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها؛ فإنها أشهر من نار على علم، وأدلتها هي الشمس المنيرة.
( [شروط المؤذن] :)
(لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذناً) : وأما كون المؤذن مكلفا ذَكراً؛ فهذا هو الظاهر؛ لأن الأذان عبادة شرعية لا تجزئ إلا من مكلَّف بها، ولم يُسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع - الذي هو إعلام بدخول الوقت، ودعاء إلى الصلاة - من امرأة قط.
وأما أذان المرأة لنفسها، أو لمن يحضر عندها من النساء، مع عدم رفع(1/244)
الصوت رفعاً بالغاً: فلا مانع من ذلك، بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالأذان، ولم يأت ما تقوم به الحجة، لا في كون المؤذن طاهراً من الحدث الأكبر، ولا من الحدث الأصغر؛ لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح، وما هو موقوف على صحابي أو تابعي لا تقوم به الحجة.
وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى والأحسن؛ فقد كره النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يرد السلام وهو محدث حدثاً أصغر حتى توضأ - كما في رواية (1) -، وتيمم - كما في أخرى (2) -، والأذان أولى بذلك من مجرد السلام.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ": وظاهر الأحاديث أنه لا يصح أذان غير المتوضئ.
وقد ورد حديث يدل على اشتراط كون المؤذن متوضئاً، أخرجه الترمذي بلفظ: " لا يؤذن إلا متوضئ " (3) ، وقد أُعل بالانقطاع والإرسال، ويشهد له (4) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر "، أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
( [الأذان بالألفاظ المشروعة] :)
(ينادى بألفاظ الأذان المشروعة) : لإعلامهم بمواقيت الصلاة، وللتمسك
__________
(1) انظر " السلسلة الصحيحة " (834) .
(2) رواه أبو داود (16) بسند صحيح.
(3) ضعيف، كما في " الإرواء " (222) .
(4) بل لا يشهد له!!(1/245)
بشعائر الإسلام، فقد كان الغزاة في أيام النبوة وما بعدها إذا جهلوا حال أهل القرية، تركوا حربهم حتى يحضر وقت الصلاة، فإن سمعوا أذاناً كفّوا عنهم، وإن لم يسمعوا قاتلوهم مقاتلة المشركين (1) .
وأما غير أهل البلد، كالمسافر والمقيم بفلاة من الأرض؛ فيؤذن لنفسه ويقيم، فإن كانوا جماعة أذن لهم أحدهم وأقام.
وألفاظ الأذان قد ثبتت في أحاديث كثيرة، وفي بعضها اختلاف بزيادة ونقص، وقد تقرر أن العمل على الزيادة التي لا تنافي المزيد، فما ثبت من وجه صحيح مما فيه زيادة تعين قبوله، كتربيع الأذان وترجيع الشهادتين، ولا تطرح الزيادة إذا كانت أدلة الأصل أقوى منها؛ لأنه لا تعارض حتى يصار إلى الترجيح، كما وقع لكثير من أهل العلم في هذا الباب وغيره من الأبواب، بل الجمع ممكن بضم الزيادة إلى الأصل، وهو مقدم على الترجيح، وقد وقع الإجماع على قبول الزيادة التي لم تكن منافية كما تقرر في الأصول، وأدلة إفراد الإقامة أقوى من أدلة تشفيعها، ولكن التشفيع مشتمل على زيادة خارجة من مخرج صالح للاعتبار، فكان العلم على أدلة التشفيع متعيناً.
( [دخول الوقت شرط لصحة الأذان إلا في الفجر] :)
(عند دخول وقت الصلاة) : إلا الأذان للفجر قبل دخول وقتها؛ لما في " الصحيحين " من حديث سالم بن عبد الله، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أنه قال: " إن بلالا يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ".
__________
(1) كما رواه البخاري (610) ، و (371) ، ومسلم (1365) عن أنس.(1/246)
وفي " صحيح مسلم " عن سمرة، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يغرنكم نداء بلال، ولا هذا البياض، حتى ينفجر الفجر "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث ابن مسعود، ولفظه: " لا يمنع أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن - أو ينادي - ليرجع قائمكم وينبه نائمكم ".
قال مالك: لم يزل الصبح ينادى لها قبل الفجر.
فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات، وبحديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام
ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك؛ فإنها أصل بنفسها، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمة للسنة لكفى في رده، فكيف والفرق قد أشار إليه -[صلى الله عليه وسلم]-؟ ! وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة، التي لا تكون في غير الفجر، وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات؛ امتنع الإلحاق.
وأما حديث حماد، عن أيوب (1) : فحديث معلول عند أئمة الحديث، لا تقوم به حجة. كذا في " إعلام الموقعين ".
وقد أطال ابن القيم في تعليل هذا الحديث، والجواب عنه وعن غيره؛ فليرجع إليه.
__________
(1) حديث ضعيف؛ انظر " فتح الباري " (2 / 103) .
وتكلم عليه - طويلاً - ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 396) .(1/247)
( [متابعة السامع للمؤذن سنة] :)
(ويشرع للسامع أن يتابع المؤذن) : لما قد ثبت في " الصحيح " من حديث أبي سعيد، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا سمعتم النداء؛ فقولوا مثل ما يقول المؤذن ".
وفي الباب عن جماعة من الصحابة بنحو هذا.
وورد مفصلاً مبيناً من حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله - من قلبه - دخل الجنة "؛ أخرجه مسلم وغيره.
وأخرج نحوه البخاري.
وقد اختار بعض العلماء الجمع عند الحيعلتين بين المتابعة للمؤذن والحوقلة، وهو جمع حسن (1) ؛ وإن لم يكن متعيناً.
__________
(1) ما هو الدليل على هذا الجمع؟ !
فإن قيل: حديث ". . فقولوا مثلما يقول "؛ قلت: هذا مجمل، وحديث عمر - المتقدم قريبا - مفصل مبين؛ فلا دليل.(1/248)
( [الكلام على الإقامة] :)
(ثم تشرع الإقامة على الصفة الواردة) : أقول: قد ثبت تشفيع الأذان وإيتار الإقامة في " الصحيحين " وغيرهما.
وروي من وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة.
وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على إيتارها، إلا التكبير في أولها وآخرها، و: قد قامت الصلاة، فإن ذلك يكون مثنى مثنى.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكل سنة، وأيها فعلها المؤذن والمقيم؛ فقد فعل ما هو حق وسنة.
قال الماتن في " شرح المنتقى " - بعد ما ذكر اختلاف الناس في ذلك، وأطال في بيانه -: إذا عرفت هذا: تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها، وأحاديث إفراد الإقامة، وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في " الصحيحين "، لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة، فالمصير إليها لازم، لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها. انتهى.
ثم اعلم أن هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعات، بل كل مصل عليه أن يؤذن ويقيم، لكن من كان في جماعة كفاه أذان المؤذن لها وإقامته.
ثم الظاهر أن النساء كالرجال (1) ؛ لأنهن شقائقهم، والأمر لهم أمر لهن، ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن، فإن الوارد في ذلك في
__________
(1) وفي " صحيح مسلم " (534) ؛ أن ابن مسعود صلى وصاحبان له بغير أذان ولا إقامة.(1/249)
أسانيده متروكون، لا يحل الاحتجاج بهم، فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك، وإلا فهن كالرجال.(1/250)
(3 - باب شروط الصلاة)
(ويجب على المصلي تطهير ثوبه) :
(1 -[طهارة الثوب] :)
لنص القرآن: {وثيابك فطهر} ، ولقوله [صلى الله عليه وسلم] لمن سأله: هل يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله؟ فقال: " نعم؛ إلا أن يرى فيه شيئاً، فيغسله "، أخرجه أحمد وابن ماجه، ورجال إسناده ثقات.
ومثله عن معاوية، قال: قلت لأم حبيبة: هل كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم يكن فيه أذى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ بإسناد رجاله ثقات.
ومنها حديث خلعه [صلى الله عليه وسلم] النعل (1) ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، وله طرق عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا.
ومنها الأدلة المتقدمة في تعيين النجاسات.
(2 -[طهارة البدن] :)
(وبدنه) : لأنه أولى من تطهير الثوب، ولما ورد من وجوب تطهيره.
__________
(1) وهذا دليل على الوجوب، لا على الشرطية، ولو كان ذلك شرطاً؛ لكان نقضه مبطلاً للصلاة.
وانظر كلام المصنف - بعد -.(1/251)
(3 -[طهارة المكان] :)
(ومكانه من النجاسة) : لما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] من رش الذنوب على بول الأعرابي، ونحو ذلك.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تطهير الثلاثة للصلاة، وذهب جمع إلى أن ذلك شرط لصحة الصلاة، وذهب آخرون إلى أنه سنة، والحق الوجوب؛ فمن صلى ملابساً لنجاسة عامداً؛ فقد أخل بواجب، وصلاته صحيحة، والشرطية التي يؤثر عدمها في عدم المشروط - كما قرره أهل الأصول -؛ لا يصلح للدلالة عليها إلا ما كان يفيد ذلك، مثل نفي القبول، أو نحو: لا صلاة لمن صلى في مكان متنجس، أو النهي عن الصلاة في المكان المتنجس؛ لدلالة النهي على الفساد (1) .
وأما مجرد الأمر فلا يصلح لإثبات الشروط؛ اللهم إلا على قول من قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فليكن هذا منك على ذُكْر، فإنك إن تفطنت له رأيت العجب في كتب الفقه، فإنهم كثيراً ما يجعلون الشيء شرطاً، ولا يستفاد من دليله غير الوجوب، وكثيراً ما يجعلون الشيء واجباً، ودليله يدل على الشرطية، والسبب الحامل على ذلك: عدم مراعاة القواعد الأصولية والذهول عنها.
والحاصل: أن ما دل على الشرطية دل على الوجوب وزيادة، وهو تأثير بطلان المشروط، وما دل على الوجوب لا يدل على الشرطية؛ لأن غاية
__________
(1) ليس هذا دائماً؛ انظر تفصيل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك في " مجموع الفتاوى " (29 / 284) .(1/252)
الواجب أن تاركه يُذم، وأما أنه يستلزم بطلان الشيء الذي ذلك الواجب جزء من أجزائه، أو عارض من عوارضه: فلا.
فمن حكم على الشيء بالوجوب، وجعل عدمه موجباً للبطلان، أو حكم على الشيء بالشرطية، ولم يجعل عدمه موجباً للبطلان: فقد غفل عن هذين المفهومين.
وفي المقام أدلة مختلفة ومقالات طويلة، ليس هذا محل بسطها.
(4 -[ستر العورة] :)
(وستر عورته) : لقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} ؛ قلت: الزينة: ما وارى عورتك ولو عباءة، قاله مجاهد، والمسجد: الصلاة، ولما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الأمر بسترها في كل الأحوال، كما في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها "، قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: " الله - تبارك وتعالى - أحق أن يُستحيا منه "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وعلقه البخاري، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
ومن ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] لعلي: " لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والبزار؛ وفي إسناده مقال (1) .
__________
(1) هو ضعيف جدا، وانظر " الإرواء " (269) .(1/253)
ولكنه يعضده حديث محمد بن [عبد الله بن] جحش، قال: مر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على معمر؛ وفخذاه مكشوفتان، فقال: " يا معمر! غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة "، أخرجه أحمد، والبخاري في " صحيحه " تعليقاً، وأخرجه - أيضا - في " تاريخه "، والحاكم في " المستدرك ".
وروى الترمذي، وأحمد من حديث ابن عباس مرفوعاً: " الفخذ عورة ".
وأخرج نحوه مالك في " الموطأ "، وأحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان - وصححه -، وعلقه البخاري.
وقد عارض أحاديث: " الفخذ عورة " أحاديث أخر، وليس فيها إلا أنه [صلى الله عليه وسلم] كشف عن فخذه يوم خيبر أو في بيته، ولا يصلح ذلك لمعارضة ما تقدم.
وورد في الركبة ما يفيد أنها تُستر، وما يخالف ذلك.
وأما والمرأة؛ فورد حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم؛ وقد روي موقوفاً ومرفوعاً من حديث عائشة، ومن حديث أبي قتادة.
ومما يفيد وجوب ستر العورة: أحاديث النهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتق المصلي منه شيء، وفي بعضها: " فليخالف بين طرفيه "، وفي بعضها: " وإن كان ضيقا فاتزر به "، وكلها في " الصحيح "، ولكن ليس فيها ما يستفاد منه الشرطية التي صرح بها جماعة من المصنفين.
وحديث الخمار إذا انتهض للاستدلال به على الشرطية: فهو خاص(1/254)
بالمرأة، وقد عرفت مما سلف أن الذي يستلزم عدمه عدم الصلاة - أي: بطلانها - هو الشرط أو الركن، لا الواجب، فمن زعم أن من ظهر شيء من عورته في الصلاة، أو صلى بثياب متنجسة؛ كانت صلاته باطلة: فهو مطالب بالدليل، ولا ينفعه مجرد الأوامر بالستر أو التطهير؛ فإن غاية ما يستفاد منها الوجوب.
( [أشياء ورد النهي عنها في الصلاة] :)
(1 -[اشتمال الصماء] :)
(ولا يشتمل الصماء) : لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يشتمل الصماء "، وهو في " الصحيحين ".
وفي لفظ فيهما: " ... وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى؛ إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقه ".
وأخرج نحوه الجماعة من حديث أبي سعيد.
واشتمال الصماء: هو أن يجلل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانباً، ولا يبقى ما يخرج منه يده.
(2 -[السدل] :)
(ولا يسدل) : لحديث النهي عن السدل في الصلاة؛ وهو عند أحمد وأبي داود، والترمذي، والحاكم في " المستدرك "، وفي الباب عن جماعة من الصحابة.(1/255)
والسدل: هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، بل يلتحف به، ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك.
(3 -[الإسبال] :)
(ولا يسبل) : لما ورد من الأحاديث الصحيحة من النهي عن إرسال الإزار، والمراد بالإسبال: أن يرخي إزاره حتى يجاوز الكعبين.
(4 -[كفت الثوب أو الشعر] :)
(ولا يكفت) : لأنه قد ورد النهي عن أن يكفت الرجل ثوبه أو شعره، أما كفت الثوب: فكمن يأخذ طرف ثوبه، فيغرزه في حجزته أو نحو ذلك، وأما كفت الشعر: فنحو أن يأخذ منه خصلة مسترسلة، فيكفتها في شعر رأسه، أو يربطها بخيط إليه، أو نحو ذلك.
(5 -[لبس ثوب الحرير] :)
(ولا يصلي في ثوب حرير) : والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها يدل على المنع من لبس ثوب الحرير الخالص.
وأما المشوب: فالمذاهب في ذلك معروفة؛ فبعض الأحاديث يدل على أنه إنما يحرم الخالص لا المشوب، كحديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود (1) ، قال: إنما نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الثوب المصمت من القز.
قال ابن عباس: أما السدي والعلم؛ فلا نرى به بأسا.
__________
(1) وإسناده صحيح.(1/256)
وبعضها يدل على المنع، كما وردت في حلة السيراء؛ فإنه غضب لما رأى عليا قد لبسها، وقال: " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء "، وهو في " الصحيح ".
والسيراء - قد قيل -: إنها المخلوطة بالحرير لا الحرير الخالص، وقيل: إنها الحرير الخالص المخطط، وقيل غير ذلك.
ولكنه قد ورد في طريق من طرق هذا الحديث ما يفيد أنها غير خالصة؛ فأخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجه (1) ، والدورقي هذا الحديث بلفظ: قال علي: أُهدي إلي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حلة مسيرة؛ إما سَداها وإما لُحمتها "؛ فذكر الحديث.
(6 -[لبس ثوب الشهرة] :)
(ولا ثوب شهرة) : لحديث: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا؛ ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي؛ بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر.
وهذا الوعيد يدل على أن لبسه محرم في كل وقت، فوقت الصلاة أولى بذلك.
وأما الثوب المصبوغ بالصفرة والحمرة: فالأدلة في ذلك متعارضة؛ فلهذا لم نذكره، وقد أفرده الماتن برسالة مستقلة.
__________
(1) انظر " صحيح ابن ماجه " (2897) .(1/257)
(7 -[لُبس الثوب المغصوب] :)
(ولا مغصوب) : لكونه ملك الغير، وهو حرام بالإجماع.
(8 -[استقبال عين الكعبة للمشاهد وجهتها للغائب بعد التأكد] :)
(وعليه استقبال عين الكعبة إن كان مشاهداً لها أو في حكم المشاهد) وجوباً؛ لأنه قد تمكن من اليقين، فلا يُعدل عنه إلى الظن.
والأحاديث المتواترة مصرحة بوجوب الاستقبال، بل هو نص القرآن الكريم: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ؛ وعلى ذلك أجمع المسلمون، وهو قطعي من قطعيات الشريعة.
(وغير المشاهد) ، ومن في حكمه (يستقبل الجهة بعد التحري) : لأن ذلك هو الذي يُمكنه ويدخل تحت استطاعته، ولم يكلفه الله - تعالى - ما لا يطيق، كما صرح بذلك في كتابه العزيز، وقد جعل النبي [صلى الله عليه وسلم] بين المشرق والمغرب قبلة؛ كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي، وابن ماجه.
ومثل ذلك ورد عن الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم -، وقد استقبل النبي [صلى الله عليه وسلم] الجهة بعد خروجه من مكة المكرمة، وشرع للناس ذلك.
أقول: استقبال القبلة هو من ضروريات الدين، فمن أمكنه استقبال القبلة تحقيقاً: فذلك الواجب عليه، مثل القاطن حولها المشاهد لها، من دون قطع مسافة، ولا تجشم مشقة، ومن لم يكن كذلك: ففرضه استقبال الجهة، وليس المراد من تلك الجهة الكعبة على الخصوص، بل المراد ما أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] من كون بين المشرق والمغرب قبلة.(1/258)
فمن كان في جهات اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب؛ توجه بين الجهتين، فإن تلك الجهة هي القبلة.
وكذلك من كان بجهة الشام؛ يتوجه بين الجهتين من دون إتعاب للنفس في تقدير الجهات؛ فإن ذلك مما لم يرد به الشرع ولا كُلّف به العباد.
والمحاريب (1) المنصوبة في المساجد والمشاهد المعمورة في بلاد المسلمين، الذين لهم عناية بأمر الدين؛ مغنية عن التكلف، وكذلك إخبار العدول المرضيين كافة، فإن من قال: هذه جهة القبلة، أو عمّر محراباً يأوي إليه الناس؛ لا شك أنه قد بلغ من التحري ما يبلغه من أراد تأدية صلاة أو صلوات في مكان من الأمكنة؛ لأن معرفة الجهة التي عرفناك بها من السير ما تراد لمعرفته لكون الجهات الأربع معلومة لكل عاقل.
وقد يعرض اللبس في بعض المواطن على بعض الأفراد؛ إما لعدم ظهور ما يهتدي به في ظلمة الليل، أو حيلولة جبال عالية في أرض عالية لا يعرفها، مع تلون طرقها التي قد سلكها، فهذا فرضه أن يمعن النظر في تعريف الجهة، فإذا أعوزه الأمر توجه حيث شاء، هذا في الفرائض، وأما النوافل فقد خفف الشارع فيها وسوغ تأديتها على ظهر الراحلة إلى جهة القبلة وغير جهتها، بل سوّغ تأدية الفريضة في الأرض الندية على ظهر الراحلة، كما تجد ذلك في " المنتقى " و " شرحه ".
فهذا خلاصة ما تعبدنا الله به في أمر القبلة، وهو يغنيك عن التفريعات الطويلة والتهويلات المهيلة في كتب الفقه.
__________
(1) المحاريب المجوفة في جدار القبلة من المحدثات؛ فانظر " السلسلة الضعيفة " (1 / 447) .
وللسيوطي رسالة بعنوان " إتحاف الأريب بحدوث بدعة المحاريب "؛ وهي مطبوعة.(1/259)
(4 - باب كيفية الصلاة)
( [كيفية الصلاة النبوية] :)
وهي - على ما تواتر عنه [صلى الله عليه وسلم] ، وتوارثته الأمة -: أن يتطهر، ويستر عورته، ويقوم ويستقبل القبلة بوجهه، ويتوجه إلى الله - تعالى - بقلبه، ويخلص له العمل، ويقول: " الله أكبر "؛ بلسانه، ويقرأ فاتحة الكتاب، ويضم معها - إلا في ثالثة الفرض ورابعته (1) - سورة من القرآن، ثم يركع وينحني بحيث يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه، حتى يطمئن راكعاً، ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائماً، ثم يسجد على الآراب السبعة: اليدين والرجلين والركبتين والوجه، ثم يرفع رأسه حتى يستوي جالساً، ثم يسجد ثانيا كذلك، فهذه ركعة، ثم يقعد على رأس كل ركعتين ويتشهد، فإن كان آخر صلاته؛ صلى على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ودعا أحب الدعاء إليه، وسلم على من يليه من الملائكة والمسلمين، فهذه صلاة النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لم يثبت أنه ترك شيئاً من ذلك قط عمداً من غير عذر في فريضة، وصلاة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وهي التي توارثوا أنها مسمى الصلاة، وهي من ضروريات الملة.
نعم؛ اختلف الفقهاء في أحرف منها؛ هل هي أركان الصلاة، لا يعتد
__________
(1) ويجوز ذلك - أحياناً -؛ انظر " صفة صلاة النبي [صلى الله عليه وسلم] " (113) لشيخنا.(1/260)
بها بدونها، أو واجباتها التي تنقص بتركها، أو أبعاض يُلام على تركها، وتجبر بسجدة السهو،؟ كذا في " الحجة البالغة ".
( [النية شرط للصلاة] :)
(لا تكون شرعية إلا بالنية) : لقوله - تعالى -: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} .
وروى مالك بإسناده - في غير رواية يحيى بن يحيى (1) -، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إنما الأعمال بالنيات ".
قلت: وعلى وجوب النية في ابتداء الصلاة أهل العلم.
وعندي: أن المقدر في حديث " إنما الأعمال بالنية ": إن كان الحصول أو الوجود أو الثبوت أو الصحة - أو ما يلاقي هذه الأمور في المعنى الذي لا تكون تلك الصلاة شرعية إلا به -: فالنية في مثل الصلاة شرط من شروطها،؛ لأنه قد استلزم عدمها عدم الصلاة، وهذه خاصة الشروط.
وإن كان المقدّر الكمال أو ما يلاقيه في المعنى الذي تكون الصلاة شرعية بدونه: فليست النية بواجبة؛ فضلا عن أن تكون شرطا، لكن قد عُرف رجحان التقدير المشعر بالمعنى الأول؛ لكون الحصر في " إنما " في معنى (ما الأعمال إلا بالنية) ، وإن اختلفا في أمور خارجة عن هذا؛ كما تقرر في علمي المعاني والأصول، والنفي يتوجه إلى المعنى الحقيقي، وهو الذات الشرعية، وانتفاؤها ممكن؛ لأن الموجود في الخارج ذات غير شرعية، وعلى فرض وجود
__________
(1) هي رواية محمد بن الحسن الشيباني؛ فانظر " موطأه " (983) .(1/261)
مانع عن التوجه إلى المعنى الحقيقي؛ فلا ريب أن الصحة أقرب إلى المعنى الحقيقي من الكمال؛ لاستلزامها لعدم الاعتداد بتلك الذات، وترجيح أقرب المجازيٍ ن متعيِّن.
فظهر بهذا أن القول بأن النية شرط للصلاة؛ أرجح من القول بأنها من جملة واجباتها.
والكلام على هذا يطول ليس هذا موضع ذكره.
( [فروض الصلاة تنقسم إلى واجبات وأركان وشروط] :)
(وأركانها كلها مفترضة) : لكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها، وتُعدم الصورة المطلوبة بعدمها، وتكون ناقصة بنقصان بعضها، وهي: القيام، فالركوع، فالاعتدال، فالسجود، فالاعتدال، فالسجود، فالقعود للتشهد.
وقد بين الشارع صفاتها وهيئاتها، وكان يجعلها قريبا من السواء، - كما ثبت في " الصحيح " عنه -.
أقول: وجملة القول في هذا الباب: إنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق الفروع على الأصول، وإرجاع فرع الشيء إلى أصله، أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب منقسمة إلى ثلاثة أقسام:
- واجبات: كالتكبير، والتسليم، والتشهد.
- وأركان: كالقيام، والركوع، والاعتدال، والسجود، والاعتدال،(1/262)
والسجود، والقعود للتشهد.
- وشروط: كالنية، والقراءة.
أما النية: فلما قدمنا.
وأما القراءة: فلورود ما يدل على شرطيتها؛ كحديث: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وحديث: " لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، ونحوها، فإن النفي إذا توجه إلى الذات أو إلى صحتها؛ أفاد الشرطية؛ إذ هي تأثير عدم الشرط في عدم المشروط، وأصرح من مطلق النفي: النفي المتوجه إلى الإجزاء.
والحاصل: أن شروط الشيء يقتضي عدمها عدمه، وأركانه كذلك؛ لأن عدم الركن يوجب عدم وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي اعتبرها الشارع، وما كان كذلك لا يجزئ؛ إلا أن يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة، كما يقول بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد، وإن كان الحق خلاف ما قال.
وأما الواجبات: فغاية ما يستفاد من دليلها - وهو مطلق الأمر -: أن تركها معصية، لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور بها.
إذا تقرر هذا: لاح لك أن هذه الفروض المعدودة في هذا الباب متوافقة في ذات بينها، والفرض والواجب مترادفان على ما ذهب إليه الجمهور، وهو الحق.
وحقيقة الواجب: ما يمدح فاعله ويذم تاركه، والمدح على الفعل، والذم على الترك: لا يستلزمان البطلان؛ بخلاف الشرط، فإن حقيقته ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت.(1/263)
فاحفظ هذا التحقيق؛ تنتفع به في مواطن وقع التفريع فيها مخالفا للتأصيل، وهو كثير الوجود في مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب، وكثيرا ما تجد العارف بالأصول، إذا تكلم في الفروع؛ ضاقت عليه المسالك، وطاحت عنه المعارف، وصار كأحد الجامدين على علم الفروع؛ إلا جماعة منهم، {وقليل ما هم} ، {وقليل من عبادي الشكور} .
( [قعود التشهد الأوسط من سنن الصلاة] :)
(إلا قعود التشهد الأوسط) : لكونه لم يأت في الأدلة ما يدل على وجوبه بخصوصه، كما ورد في قعود التشهد الأخير؛ فإن الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير.
فإن قلت: قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء، كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة، ولم يذكر فيه التشهد الأخير.
قلت: لا تقوم الحجة بمثل ذلك، ولا يثبت به التكليف العام، والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء؛ فقد وردت به الأوامر، وصرح الصحابة بافتراضه، وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء " إيضاحا حسنا؛ فلتراجع.
( [الاستراحة من سنن الصلاة] :)
(والاستراحة) : لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها (1) ، وذكرها في حديث
__________
(1) انظر حديث مالك بن الحويرث في " صحيح البخاري " (823) .(1/264)
المسيء وهم، كما صرح بذلك البخاري (1) .
( [تكبيرة الإحرام من واجبات الصلاة] :)
(ولا يجب من أذكارها) : أي: الصلاة (إلا التكبير) ؛ لقوله تعالى: {وربك فكبر} ، ولقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المسيء: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر "، ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير.
أقول: تعيين التكبير للدخول في الصلاة؛ محكم صريح؛ لقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يقبل الله صلاة أحدكم، حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر " (2) ، وبما تقدم من النصوص، وهي نصوص في غاية الصحة، فردت بالمتشابه من قوله - تعالى - {وذكر اسم ربه فصلى} .
( [مشروعية رفع اليدين] :)
قال في " الحجة ": فإذا كبر يرفع يديه إلى أذنيه ومنكبيه، وكل ذلك سنة. انتهى.
__________
(1) انظر " صحيح البخاري " (6251) ، و " فتح الباري " (2 / 279 و 302) .
(2) هو قطعة من حديث رفاعة بن رافع بن مالك الزرقي في قصة المسيء صلاته؛ رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم.
وليس فيه التصريح بلفظ: " الله أكبر ".
ورواه الطبراني في " الكبير " بلفظ: " لا تتم صلاة لأحد من الناس، حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر ".
قال في " مجمع الزوائد ": " ورجاله رجال الصحيح ". (ش)(1/265)
أقول: إن الأدلة على هذه السنة قد تواترت تواترا لا ينكره من له أدنى إلمام بعلم الأدلة، واختصت باجتماع العشرة المبشرة بالجنة على روايتها، ومعهم من الصحابة جماهير، ونقل جماعة من الحفاظ أنه لم يقع الخلاف في ذلك بين الصحابة، بل اتفقوا عليه.
والحاصل: أنه قد نقل إلينا هذه السنة الذين نقلوا إلينا أعداد ركعات الصلاة، فإن لم يثبت بمثل ما ورد فيها مشروعيتها؛ فليس في الدنيا مشروع؛ لأن كثيرا مما وقع الإطباق على مشروعيته، وصار من قطعيات المرويات؛ لم يبلغ ما بلغ إليه نقل الرفع، وليس في المقام ما يصلح لمعارضة هذه السنة، لا من قوله [صلى الله عليه وسلم] ، ولا من فعله، ولا عن أصحابه؛ من أقوالهم، ولا من أفعالهم، وقد درج عليها خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
وأما حديث البراء، قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا افتتح الصلاة؛ رفع يديه ثم لم يعد: فهو قد تضمن إثبات الرفع عند الافتتاح، ولفظ: ثم لم يعد: قد اتفق الحفاظ عل أنه مدرج من قول يزيد بن أبي زياد، وقد رواه عنه بدونها جماعة من الأئمة منهم: شعبة، والثوري، وخالد الطحان، وزهير، وغيرهم، ومع هذا؛ فالحديث - من أصله - قد أطبق الأئمة على تضعيفه.
وكما ثبت الرفع عند الافتتاح: ثبت عند الركوع، وعند الاعتدال منه؛ بأحاديث تقارب أحاديث الرفع عند الافتتاح.
وكذلك ثبت الرفع عند القيام من التشهد الأوسط؛ بأحاديث صحيحة؛ كما سيأتي بيانه.(1/266)
( [قراءة الفاتحة في كل ركعة شرط للصلاة] :)
(والفاتحة في كل ركعة) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المسيء: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن "، وفي لفظ من حديث المسيء لأبي داود: " ثم أقرأ بأم القرآن "، وكذلك في لفظ منه لأحمد، وابن حبان؛ بزيادة: " ثم اصنع ذلك في كل ركعة " - بعد قوله: " ثم اقرأ بأم القرآن " -، فكان ذلك بيانا ل " ما تيسر ".
وورد ما يفيد وجوب الفاتحة في غير حديث المسيء كأحاديث: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وهي صحيحة.
ويدل على وجوبها في كل ركعة: ما وقع في حديث المسيء؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] وصف له ما يفعل في كل ركعة، وقد أمره بقراءة الفاتحة، فكانت من جملة ما يجب في كل ركعة، كما أنه يجب فعل ما اقترن بها في كل ركعة، بل ورد ما يفيد ذلك من لفظه [صلى الله عليه وسلم] ، فإنه قال للمسيء: " ثم افعل ذلك في الصلاة كلها "؛ وهو في " الصحيح " من حديث أبي هريرة، قال ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة الواحدة، لا في جملة الصلاة، فكان ذلك قرينة على أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة من الصلاة.
قال في " الحجة ": وما ذكره النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ الركنية، كقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وقوله: " لا يجزيء صلاة الرجل، حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود "، وما سمى الشارع الصلاة به؛ فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة. انتهى.
( [قراءة الفاتحة ولو مؤتما] :)
(ولو كان مؤتما) : فوجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم؛ لما ورد من(1/267)
الأدلة الدالة على أن المؤتم يقرأها خلف الإمام؛ كحديث: " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب "، ونحوه، ولدخول المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة في كل ركعة على كل مصل.
قال في " الحجة البالغة ": " وإن كان مأموما؛ وجب عليه الإنصات والاستماع، فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاتة، وإن خافت فله الخيرة، فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة لا يشوش على الإمام.
وهذا أولى الأقوال عندي، وبه يجمع بين أحاديث الباب ". انتهى.
وفي " تنوير العينين " (1) دلائل الجانبين فيه قوية، لكن يظهر بعد التأمل في الدلائل؛ أن القراءة أولى من تركها، فقد عولنا فيه على قول محمد؛ كما نقل عنه صاحب " الهداية "، وتركنا الكلام.
وقال ابن القيم في " الأعلام ": ردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة الفاتحة فرضا؛ بالمتشابه من قوله - تعالى -: {فاقرؤا ما تيسر منه} ، وليس ذلك في الصلاة، وإنما يدل على قيام الليل، وبقوله للأعرابي: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن "؛ وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة، وأن يكون الأعرابي لا يحسنها، وأن يكون لم يسيء في قراءتها، فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها، فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه، فلا يترك الصريح. انتهى.
__________
(1) سيأتي - من كلام المصنف - أنه للشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي.
وانظر " الثقافة الإسلامية في الهند " (104 و 119) .(1/268)
وقال في " إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء " (1) : روى البيهقي عن يزيد بن شريك، أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب، فقلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت ".
قلت: روى أهل الكوفة عن أصحاب عمر الكوفيين: أن المأموم لا يقرأ شيئا.
والجمع - أن القبيح - في الأصل - أن ينازع الإمام في القرآن، وقراءة المأموم قد تفضي إلى ذلك، ثم إن اشتغال المأموم بمناجاة ربه مطلوب، فتعارضت مصلحة ومفسدة، فمن استطاع أن يأتي بالمصلحة بحيث لا تخدشها مفسدة فليفعل، ومن خاف المفسدة ترك، والله تعالى أعلم. انتهى.
أقول: الأوجه هو الإتيان بفاتحة الكتاب خلف الإمام، كما تشهد له أدلة السنة الصريحة من دون تعارض، والأمر بالإنصات في قوله - تعالى -: {أنصتوا} عام يتناول فاتحة الكتاب وغيرها، وكذلك حديث: " وإذا قرأ فأنصتوا " - وإن كان فيه مقال (2) ؛ لا ينتهض معه للاستدلال، وعلى فرض انتهاضه؛ فغاية ما فيه أنه اقتضى أن الإنصات حال قراءة الإمام يجب على المؤتم، ولا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غيرها.
وأما حديث: " خلطتم علي ": فلا يشك عارف أن خلط المؤتم على
__________
(1) لولي الله الدهلوي؛ وهو مطبوع باللغة الفارسية.
وانظر " السنن الكبرى " (2 / 167) للبيهقي.
(2) والصواب صحته؛ انظر تعليقي على " علل أحاديث صحيح مسلم " (رقم 10) لابن عمار الشهيد.(1/269)
إمامه إنما يكون إذا قرأ المؤتم جهرا، وأما إذا قرأ سرا فلا خلط، وكذلك المنازعة لا تكون إلا إذا سمع الإمام قراءة المؤتم.
وأما حديث جابر في هذا الباب: فهو من قوله، ولم يرفعه إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]- كما في " الترمذي " " والموطأ " وغيرهما -، وقول الصحابي لا تقوم به حجة (1) ، فلم يبق ههنا ما يدل على منع قراءة المؤتم خلف الإمام حال قراءته؛ إلا الآية الكريمة، وحديث: " إذا قرأ فأنصتوا "، وهما عامان كما عرفت، يتناولان فاتحة الكتاب وغيرهما، والعام معرض للتخصيص، والمخصص ههنا موجود، وهو حديث عبادة بن الصامت، وهو حديث صحيح.
وبناء العام على الخاص واجب باتفاق أهل الأصول، فلا معذرة عن قراءة فاتحة الكتاب حال قراءة الإمام، ولا سيما وقد دل الدليل على وجوبها على كل مصل في كل ركعة من ركعات صلاته (2) .
( [التشهد الأخير من واجبات الصلاة] :)
(والتشهد الأخير) : واجب؛ لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة، وألفاظه معروفة، وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة من الصحابة، وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد الآخر.
والحق الذي لا محيص عنه: أنه يجزئ للمصلي أن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات الخارجة من مخرج صحيح، وأصحها التشهد الذي علمه
__________
(1) بل هو حجة عدم وجود المخالف؛ وأثر جابر المذكور صحيح سنده - كما في " السلسلة الضعيفة " (2 / 420) - ولفظه: " من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل؛ إلا وراء الإمام ".
(2) المسألة فيها خلاف كبير جدا بين العلماء قديما وحديثا.(1/270)
النبي [صلى الله عليه وسلم] ابن مسعود، وهو ثابت في " الصحيحين " وغيرهما من حديثه، بلفظ: " التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله "، وفي بعض ألفاظه: " إذا قعد أحدكم فليقل ... ".
( [ذكر ألفاظ التشهد] :)
قال في " الحجة البالغة ": وجاء في التشهد صيغ، أصحها تشهد ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -، ثم تشهد ابن عباس، وعمر - رضي الله تعالى عنهما - وهي كأحرف القرآن؛ كلها كاف وشاف. انتهى.
قلت: اختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود، والشافعي تشهد ابن عباس، ومالك تشهد عمر، واختلافهم في المختار لا في الإجزاء. كذا في " المسوى ".
وأما الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] التي يفعلها المصلي في التشهد: فقد وردت بألفاظ، وكل ما صح منه أجزأ، ومن أصح ما ورد؛ ما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد "؛ وزاد في " الحجة ": " اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " انتهى.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ": وما ينبغي أن يعلم: أن التشهد وألفاظ الصلاة(1/271)
على النبي [صلى الله عليه وسلم] وآله - عليهم السلام -؛ كلها مجزئة إذا وردت من وجه معتبر.
وتخصيص بعضها دون بعض - كما يفعله بعض الفقهاء - قصور باع وتحكم محض، وأما اختيار الأصح منها وإيثاره مع القول بإجزاء غيره: فهو من اختيار الأفضل من المتفاضلات، وهو من صنيع المهرة بعلم الاستدلال والأدلة. انتهى.
وقال في موضع آخر: التشهدات الثابتة عنه [صلى الله عليه وسلم] موجودة في كتب الحديث، فعلى من رام التمسك بما صح عنه [صلى الله عليه وسلم] أن ينظرها في دواوين الإسلام الموضوعة لجمع ما ورد من السنة، ويختار أصحها ويستمر عليها، أو يعمل تارة بهذا وتارة بهذا؛ مثلا يتشهد في بعض الصلوات بتشهد ابن مسعود، وفي بعضها بتشهد ابن عباس، وفي بعضها بتشهد غيرهما، فالكل واسع، والأرجح هو الأصح، لكن كونه الأصح؛ لا ينافي إجزاء الصحيح. انتهى.
قلت: عامة أهل العلم على أن الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] مستحبة في التشهد الأخير غير واجبة، وإلى هذا يشير لفظ ابن عمر وعائشة في باب التشهد، وأن التشهد الأول ليس محلا لها.
وذهب الشافعي - وحده - إلى وجوبها في التشهد الأخير، فإن لم يصل لم تصح صلاته (1) ، وإلى استحبابها في التشهد الأول.
__________
(1) هذا هو الحق؛ فإن الله - تعالى - أمرنا بالصلاة على النبي بقوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} ، وسأله الصحابة عن الصلاة التي أمروا بها عليه؟ فعلمهم صيغة الصلاة المعروفة على اختلاف رواياتها، ففهموا - إذا - من الآية أن الأمر بالصلاة عليه إنما هو عقيب التشهد، وأقرهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على ذلك، وواظبوا عليه، وكان الوحي ينزل بين أظهرهم، وتلقينا ذلك بالتواتر العملي عنهم، فكان سؤالهم وبيانه لهم، ثم مواظبتهم على ما أمروا؛ تفسيرا للأمر الوارد في القرآن وهو من أقوى الأدلة على الوجوب. (ش)(1/272)
( [وجوب التعوذ من أربع] :)
وورد ما يفيد وجوب التعوذ من أربع؛ كما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ".
وورد نحو ذلك من حديث عائشة، وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
فيكون هذا التعوذ من تمام التشهد، ثم يتخير المصلي بعد ذلك من الدعاء أعجبه، كما أرشد إلى ذلك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] .
قال في " الحجة ": وورد في صيغ الدعاء في التشهد: " اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ".
وورد: " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ".
( [التسليم من واجبات الصلاة] :)
(والتسليم) : وهو واجب؛ لكون النبي [صلى الله عليه وسلم] جعله تحليل الصلاة، فلا تحليل لها إلا به، فأفاد ذلك وجوبه، وإن لم يذكر في حديث المسيء.
قال في " الحجة ": " وجب أن لا يكون الخروج من الصلاة إلا بكلام هو(1/273)
أحسن كلام الناس، أعني: السلام، وأن يوجب ذلك ". انتهى.
قال ابن القيم: " إن السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي [صلى الله عليه وسلم] التي رواها خمس عشرة نفسا من الصحابة: أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله "؛ منهم عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن سمرة، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، ووائل بن حجر، وأبو مالك الأشعري، وعدي بن عميرة الحضرمي، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رمثة، والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن، فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها، واردة في تسليمة واحدة ". انتهى.
وقد أطال في الجواب عنها إلى خمسة أوراق (1) ، فليرجع إليه.
قلت: وعامة أهل العلم على أنه يسلم تسليمتين عن يمينه وعن شماله، واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ رواه أبو داود، والترمذي، ولفظه: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيسر "، رواه النسائي، وأحمد، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم.
وفي الباب عن سهل بن سعد، وحذيفة، ومغيرة بن شعبة، وواثلة بن
__________
(1) كذا {} والصواب: خمس أوراق ...
وللمصنف - رحمه الله - من هذا الوهم كثير.(1/274)
الأسقع، ويعقوب بن الحصين (1) .
ووقع في " صحيح ابن حبان " من حديث ابن مسعود زيادة: " وبركاته "، وهي عند ابن ماجة أيضا، وعند أبي داود أيضا في حديث وائل بن حجر.
فالعجب من ابن الصلاح؛ كيف يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث؛ إلا في رواية وائل بن حجر؟ {كذا في " التلخيص ".
وقال مالك: يسلم الإمام والمنفرد تسليمة واحدة: السلام عليكم؛ لا يزيد على ذلك، ويستحب للمأموم أن يسلم ثلاثا: عن يمينه، وعن شماله، وتلقاء وجهه؛ يردها على إمامه. كذا في " المسوى ".
أقول: وورود التسلمية الواحدة فقط لا يعارض الثابت مما فيه زيادة عليها، وهي أحاديث التسليمتين؛ لما عرفناك غير مرة أن الزيادة التي لم تكن منافية يجب قبولها، فالقول بتسليمتين إعمال لجميع ما ورد، بخلاف القول بتسليمة فإنه إهدار لأكثر الأدلة بدون مقتض.
وأما كون التسليم واجبا أو غير واجب فقد تقرر أن المرجع حديث المسيء، وأنه لا وجوب لغير ما لم يذكر فيه؛ إلا أن يثبت إيجابه بعد تاريخ حديث المسيء إيجابا، لا يمكن صرفه بوجه من الوجوه (2) .
__________
(1) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 271) .
(2) لا نسلم هذا؛ فإن حديث المسيء اختلفت رواياته كثيرا، وهو حديث صحيح، وبعض الرواة يزيد فيه ما تركه غيره، وقد يصح دليل على بعض الواجبات في الصلاة، وهي زيادة من ثقة، فتكون مقبولة، ولعلنا لم نطلع على جميع ألفاظ حديث المسيء} أو لعل بعض الرواة نسي منه شيئا! فلا يجوز رد ما يصح دليله بهذا الحصر. (ش)(1/275)
( [وجوب الطمأنينة في الصلاة] :)
وأما الطمأنينة في حال الركوع والسجودين: فلا خلاف في ذلك.
وأما في حال الاعتدال من الركوع وبين السجدتين: فخالف في ذلك قوم، والحق أنه من آكد فرائض الصلاة في الموطنين؛ بل المشروع إطالتهما، وقد ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] ما يدل على ذلك، كما في حديث البراء: أنه حزر أركان صلاته [صلى الله عليه وسلم] ، وعد من جملتها الاعتدال من الركوع، والاعتدال بين السجدتين، فوجدها قريبا من السواء؛ وهذا يدل على أنه كان يلبث فيهما كما يلبث في الركوع والسجود، وثبت أنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقف في اعتداله من الركوع كاعتداله من السجود، حتى يظن من رآه أنه قد نسي؛ لإطالته لهما، وثبت من أدعية فيهما ما يدل على طولهما.
فالحاصل: أن أصل الاطمئنان في الركوع والسجود والاعتدالين: ركن من أركان الصلاة لا تتم بدونه.
وأما طول اللبث زيادة عن الاطمئنان: فمن السنن المؤكدة؛ لأنه لم يذكر في حديث المسيء، وقد صارت هذه السنة متروكة في الاعتدال إلى غاية؛ بل صار الاطمئنان فيهما مما يقل وجوده، وما أحق من نازعته نفسه إلى اتباع الآثار المصطفوية أن يثبت معتدلا من ركوعه، ومعتدلا من سجوده، ويدعو بالأدعية المأثورة فيهما، ويجعل مقدار اللبث كمقدار لبثه في الركوع والسجود {فذلك هو السنة التي لا يجهل ورودها إلا جاهل} والله المستعان.(1/276)
( [سنن الصلاة] :)
(وما عدا ذلك فسنن) : لأنه لم يرد فيها ما يفيد وجوبها من أمر بالفعل، أو نهي عن الترك، غير مصروفين عن المعنى الحقيقي، أو وعيد شديد يفيد الوجوب، ولا ذكر شيء منها في حديث المسيء؛ إلا على وجه لا تقوم به الحجة، أو تقوم به، وقد ورد ما يفيد أنه غير واجب.
والحاصل: أن مرجع واجبات الصلاة كلها هو حديث المسيء، فما ذكره [صلى الله عليه وسلم] فيه كان واجبا، وما لم يذكره فليس بواجب، لكن قد تشعبت روايات حديث المسيء، وثبت في بعضها ما لم يثبت في البعض الآخر، فعلى من أراد تحقيق الحق؛ أن يجمع طرقه الصحيحة (1) ، ويحكم بوجوب ما اشتملت عليه، أو شرطيته، أو ركنيته؛ بحسب ما يقتضيه الدليل، وما خرج عنه خرج عن ذلك.
وقد جمع ما صح من طرقه شيخنا الحافظ الرباني العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " في موضع واحد منه؛ فمن رام ذلك فليرجع إليه (2) .
( [الرفع في المواضع الأربعة] :)
(وهي الرفع في المواضع الأربعة) ؛ أي: عند تكبيرة الإحرام، وعند
__________
(1) وقد جمع طرقه أخونا الفاضل الشيخ محمد عمر بازمول - حفظه الله - في جزء مفرد.
(2) ثم ما يؤمننا أن تكون هناك روايات فيه لم نطلع عليها، فقدت فيما فقد من كتب العلم، أو نسيها الرواة فلم يذكروها.
والحق ما قلناه: أنه لا عبرة بالحصر الذي فيه؛ لأجل هذا الاحتمال، فإن صح الدليل على شيء آخر؛ وجب الأخذ به. (ش)(1/277)
الركوع، وعند الاعتدال من الركوع، هذه الثلاثة المواضع في كل ركعة، والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة، فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة.
أما عند التكبير فقد روي ذلك عن النبي [صلى الله عليه وسلم] نحو خمسين رجلا من الصحابة، منهم العشرة المبشرة بالجنة، ورواه كثير من الأئمة عن جميع الصحابة من غير استثناء.
وقال الشافعي: روى الرفع جمع من الصحابة، لعله لم يرد قط حديث بعدد أكثر منهم.
وقال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يرفع يديه.
وقال البخاري في " جزء رفع اليدين ": روى الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة.
وسرد البيهقي في " السنن " وفي " الخلافيات " أسماء من روى الرفع؛ نحوا من ثلاثين صحابيا.
وقال الحسن، وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يرفعون أيديهم، ولم يستثن أحدا منهم. كذا في " التلخيص ".
وقال النووي في " شرح مسلم ": إنها أجمعت على ذلك عند تكبيرة(1/278)
الإحرام، وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك، وقد ذهب إلى وجوبه داود الظاهري، وأبو الحسن أحمد بن سيار، والنيسابوري، والأوزاعي، والحميدي، وابن خزيمة (1) .
وأما الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه: فقد رواه زيادة على عشرين رجلا من الصحابة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] .
وقال محمد بن نصر المروزي: إنه أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة.
وأما الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة: فهو ثابت في " الصحيح " من حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، وصححه أيضا أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-.
وفي " حجة الله البالغة ": فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو منكبيه، وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، وهو من الهيئات التي فعلها النبي [صلى الله عليه وسلم] مرة وتركها أخرى، والكل سنة، وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها الفريقان: أهل المدينة، وأهل الكوفة، ولكل واحد أصل أصيل، والحق عندي في مثل ذلك أن الكل سنة،
__________
(1) وهو ظاهر كلام الشافعي في " الأم " في كتاب " اختلاف مالك والشافعي ".
وسيذكره الشارح نقلا عن ابن الجوزي في آخر المسألة. (ش)(1/279)
ونظيره الوتر بركعة واحدة، أو بثلاث، والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع؛ فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت، غير أنه لا ينبغي لإنسان في مثل هذه الصور، أن يثير على نفسه فتنة عوام بلده، وهو قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة "؛ ولا يبعد أن يكون ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ظن أن السنة المتقررة آخرا هو تركه لما تلقن من أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، ولم يظهر له أن الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتدىء به في الصلاة، أو لما تلقن من أنه فعل ينبيء عن الترك، فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة، ولم يظهر له أن تجديد التنبيه لترك ما سوى الله - تعالى - عند كل فعل أصلي من الصلاة مطلوب. والله - تعالى - أعلم.
قوله: لا يفعل ذلك في السجود؛ أقول: القومة شرعت فارقة بين الركوع والسجود، فالرفع معها رفع للسجود، فلا معنى للتكرار. انتهى بحروفه.
وفي " التكميل " للشيخ رفيع الدين الدهلوي - ولد صاحب " الحجة البالغة " -: اختلفوا في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة (1) ، مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب، ولا بيان فضيلة، ولا نهي الصحابة عنه قط، وعلى أنه ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فعله مدة، إلا أنه زاد ابن مسعود، فقال: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ ! فلم يرفع يديه إلا في أول مرة، وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا، وإنما أراد تركه آخرا، كما يشعر به بعض ما ينقل عنه أن آخر الأمرين ترك الرفع، ولا يدرى مدة الترك، فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف، فظن قوم أن سنيته كانت بمجرد الفعل، فبطلت
__________
(1) أي: تكبيرة الإحرام.(1/280)
بالترك، وقوم أن الترك بعذر، وبغير نهي لا ينفي السنية كترك القيام للفرض بالعذر؛ فهي - إذا - باقية، فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء جوازه، وإن منعه بعض المتعصبة؛ إذ ليس مما يخالف أفعال الصلاة؛ لبقائه في التحريمة والقنوت والعيدين، فلا نكير على فاعله لأحد، بل في بقاء سنيته بناء على الظن، فلا نزاع إلا في المواظبة والرجحان، وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة، ولم يتعرض [صلى الله عليه وسلم] لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام؛ حيث قال: " ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ ! "؛ وهو [صلى الله عليه وسلم] كان يرى خلفه كما يرى أمامه، فثبت بقاء سنيته.
وتركه [صلى الله عليه وسلم] أحيانا؛ كما رواه ابن مسعود، والبراء بن عازب، وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده.
ولم يبلغ أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - خبر هذا الجمع، إنما روى له الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -، فرجح عليه أبو حنيفة حمادا، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود: بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ، فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر؛ حيث لم يرفع إلا في التحريمة؛ بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وما يذكر (1) عن الشافعي من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد. انتهى.
وفي " تنوير العينين " للشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي - حفيد
__________
(1) • يشير به إلى ضعف هذه الرواية، وقد صرح الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية ببطلان ذلك، فلا يركن إليها. (ن)(1/281)
صاحب " حجة الله البالغة " -: " إن رفع اليدين عند الافتتاح، والركوع، والقيام منه، والقيام إلى الثالثة سنة غير مؤكدة من سنن الهدى، فيثاب فاعله بقدر ما فعل، إن دائما فبحسبه، وإن مرة فبمثله، ولا يلام تاركه وإن تركه مدة عمره.
وأما الطاعن العالم بالحديث - أي: من ثبت عنده الأحاديث المتعلقة بهذه المسالة -: فلا إخاله إلا فيمن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ونريد بسنة الهدى ههنا فعل غير فرض، وغير مختص بالنبي -[صلى الله عليه وسلم]- فعله هو والخلفاء الراشدون - رضي الله تعالى عنهم -، أو أمروا به وأقروا عليه؛ قربة، ولم ينسخ ولم يترك بالإجماع، وبغير المؤكدة: ما فعلوه مرة وتركوه أخرى.
فبقولنا: فعل؛ خرج به عدم الرفع، فإن العدم ليس بفعل، نعم؛ إذا كان العدم مستمرا في زمان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- والخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم -، فقطعه يكون بدعة، وليس في مفهوم البدعة إزالة السنة حتى يلزم كون العدم سنة، بل مفهومها فعل لم يفهم في زمنهم.
وبقولنا: غير فرض؛ خرجت الفرائض كلها.
وبقولنا: غير مختص؛ خرجت النوافل المختصة به -[صلى الله عليه وسلم]-؛ كالوصال في الصوم.
وبقولنا: لم ينسخ؛ خرجت السنن المنسوخة؛ كالقيام للجنازة.
وبقولنا: لم يترك بالإجماع؛ خرجت السنن المتروكة به كالرفع بين السجدتين. انتهى.(1/282)
وفيما لا بد منه أن رفع اليدين عند الإمام الأعظم ليس بسنة، ولكن أكثر الفقهاء والمحدثين يثبتونه. انتهى.
وفي " سفر السعادة ": إن الأخبار والآثار التي رويت في هذا الباب تبلغ إلى أربع مئة. انتهى.
قال شارحه الشيخ عبد الحق الدهلوي: " إن الرفع وعدم الرفع كلاهما سنة ". انتهى.
وقد مر الجواب عنه.
وفي " سفر السعادة " - العربي (1) -: " وقد ثبت رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة، ولكثرة رواته؛ شابه المتواتر، فقد صح في هذا الباب أربع مئة خبر وأثر؛ رواه العشرة المبشرة، ولم يزل على هذه الكيفية حتى رحل عن هذا العالم، ولم يثبت غير هذا. انتهى بعبارته.
ونقل ابن الجوزي في " نزهة الناظر للمقيم والمسافر "، عن المزني، أنه قال: سمعت الشافعي يقول: لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في رفع اليدين في افتتاح الصلاة، وعند الركوع، والرفع من الركوع أن يترك الاقتداء بفعله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وهذا صريح في أنه يوجب ذلك ". انتهى.
وبالجملة: فقد ثبت رفع اليدين في المواضع الأربعة المذكورة بروايات صحيحة ثابتة، وآثار مرضية راجحة، ومذاهب حقة صادقة عن النبي -
__________
(1) أي: النسخة العربية، لا الأردية!(1/283)
[صلى الله عليه وسلم]-، وعن كبراء الصحابة، وعظماء العلماء والفقهاء والمجتهدين، بحيث لا يشوبها نسخ ولا تعارض، حتى ادعى بعضهم التواتر، ولا أقل من أن تكون مشهورة. كذا في " التنوير ".
2 -[الضم] :
(والضم) لليدين؛ أي: اليمنى على اليسرى حال القيام، إما على الصدر، أو تحت السرة، أو بينهما؛ بأحاديث تقارب العشرين في العدد، ولم يعارض هذه السنن معارض، ولا قدح أحد من أهل العلم بالحديث في شيء منها، وقد رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] نحو ثمانية عشر صحابياً، حتى قال ابن عبد البر: إنه لم يأت فيه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] خلاف.
وفي " تنوير العينين ": " إن وضع اليد على الأخرى أولى من الإرسال؛ لأن الإرسال لم يثبت عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، ولا عن أصحابه، بل ثبت الوضع بروايات صحيحة ثابتة عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وعن أصحابه - رضي الله تعالى عنهم -، كما روى مالك في " الموطأ "، والبخاري في " صحيحه " عن سهل بن سعد، قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة "؛ قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] .
وروى الترمذي عن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه، قال الترمذي: وفي الباب عن وائل بن حجر، وغطيف بن الحارث، وابن عباس، وابن مسعود، وسهل بن سعد.
قال أبو عيسى: حديث هلب حديث حسن.(1/284)
والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] والتابعين ومن بعدهم: يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة.
ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة.
ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم ". انتهى.
وكذلك أخرج مسلم عن وائل بن حجر، وابن مسعود.
والنسائي عن وائل بن حجر.
والبخاري، والحاكم عن علي.
وابن أبي شيبة عن غطيف بن الحارث، وقبيصة بن هلب عن أبيه، ووائل بن حجر، وعلي، وأبي بكر الصديق، وأبي الدرداء، أنه قال: من أخلاق النبيين: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
وعن الحسن، أنه قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة " (1) .
وهكذا أخرج عن أبي مجلز، وأبي عثمان النهدي، ومجاهد، وأبي الجوزاء.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (1 / 390) ؛ وهو ضعيف - لإرساله -، وفيه يوسف بن ميمون، وهو ضعيف.(1/285)
وأما ما روي من الإرسال عن بعض التابعين - من نحو الحسن، وإبراهيم، وابن المسيب، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، كما أخرجه ابن أبي شيبة -: فإن بلغ عندهم حديث الوضع؛ فمحمول على أنه لم يحسبوه سنة من سنن الهدى، بل حسبوه عادة من العادات، فمالوا إلى الإرسال؛ لأصالته مع جواز الوضع، فعملوا بالإرسال بناء على الأصل؛ إذ الوضع أمر جديد يحتاج إلى الدليل، وإذ لا دليل لهم؛ فاضطروا إلى الإرسال، لا أنه ثبت عندهم الإرسال، وإلى ذلك يشير قول ابن سيرين حيث سئل عن الرجل يمسك بيمينه شماله؟ قال: إنما فعل ذلك من أجل الدم. كما أخرج ابن أبي شيبة.
وأما ما أخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن إبراهيم، قال: سمعت عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه! فهي رواية شاذة مخالفة لما روى الثقات عنه.
كما أخرج أبو داود عن زرعة بن عبد الرحمن، قال: سمعت ابن الزبير يقول: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة.
وإن سُلّم كونها صحيحة؛ فهذه فعله، والفعل لا عموم له، ورواية الوضع عنه مرفوعة لأنه نسبه إلى السنة، وقول الصحابي: من السنة؛ في حكم الرفع، كما حُقق في كتب أصول الحديث.
ومع هذا لعله لم ير الوضع من سنن الهدى، وفهم الصحابي ليس بحجة - كما مضى -، لا سيما إذا كان مخالفاً لأجله الصحابة، كأميري المؤمنين أبي بكر الصديق، وعلي المرتضى، وابن عباس، وابن مسعود، وسهل بن سعد، ونحوهم.(1/286)
على أنها مخالفة للأحاديث المرفوعة المشهورة، وأعمال الصحابة المستفيضة في باب الوضع، فينبغي أن لا يعوّل عليها، وتسقط على الاعتبار ولا يلتفت إليها.
وأما مالك بن أنس: فقد اضطربت الروايات عنه:
فالمدنيون من أصحابه رووا عنه أمر الوضع مطلقاً، سواء كان في الفرض أو النفل، كما يشهد به حديث " الموطأ " عن سهل بن سعد، وأثره عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري.
والمصريون من أصحابه رووا عنه الإرسال في الفرض والوضع في النفل.
وعبد الرحمن بن القاسم روى عنه الإرسال مطلقاً.
وروى أشهب عنه إباحة الوضع.
وتلك الروايات - أي: روايات المصريين وابن القاسم عنه - وإن عمل بها المتأخرون من المالكية، لكنها روايات شاذة مخالفة لرواية جمهور أصحابه، فلا تخرق الإجماع والاتفاق، ولا تصادم ما ادعينا من الإطباق، ولكونها شاذة أولها ابن الحاجب في " مختصره في الفقه " بالاعتماد على الأرض إذا رفع رأسه من السجدة ونهض إلى القيام.
ووضع اليدين تحت السرة وفوقها متساويان؛ لأن كلا منهما مروي عن أصحاب النبي -[صلى الله عليه وسلم]-:(1/287)
أخرج أبو داود، وأحمد، وابن أبي شيبة عن علي (1) : السنة وضع الكف في الصلاة تحت السرة.
رواه رزين وغيره.
في " سفر السعادة ": وضع الكف تحت الصدر في " صحيح ابن خزيمة ".
قال الترمذي: رأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم؛ كما ذكرناه سابقا.
وقال الشيخ ابن الهمام: " ولم يثبت حديث صحيح يوجب (2) العمل في كون الوضع تحت الصدر، وفي كونه تحت السرة، والمعهود من الحنفية هو كونه تحت السرة، وعن الشافعية تحت الصدر، وعند أحمد قولان كالمذهبين، والتحقيق المساواة بينهما؛ كما ذكرنا سابقا، والله - تعالى - أعلم بأحكامه ". انتهى.
وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين " بعد تخريج الأخبار والآثار في وضع اليمنى على اليسرى: رُدّت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال: تركه أحب إليّ! ولا أعلم شيئاً ردت به سواه. انتهى.
__________
(1) هو ضعيف - كما ستأتي الإشارة إليه -.
(2) • أقول: بلى، قد ورد ما يدل صريحاً على أن السنة الوضع على الصدر؛ عند الإمام أحمد بسند قوي، كما ذكره العلامة المحقق عبد العظيم آبادي في " غنية الألمعي "، وغيره في غيره، فيجب المصير إليه، وأما قول علي المذكور؛ فضعيف باتفاق المحدثين، فلا يعتمد عليه. (ن)
أقول: قوة سنده بالشواهد، وللسندي رسالة بعنوان " فتح الغفور في تحقيق وضع اليدين عند الصدور "، وهي مطبوعة.(1/288)
وفي " حاشية الشفاء ": " ومن الغرائب أنها صارت في هذه الديار، وفي هذه الأعصار - عند العامة ومن يشابههم، ممن يظن أنه قد ارتفع عن طبقتهم - من أعظم المنكرات، حتى إن المتمسك بها يصير في اعتقاد كثير في عداد الخارجين عن الدين، فترى الأخ يعادي أخاه، والوالد يفارق ولده، إذا رآه يفعل واحدة منها - أي: من هذه السنن -، وكأنه صار متمسكاً بدين آخر، ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها، ولو رآه يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل النفس، أو يعق أحد أبويه، أو يشهد الزور، أو يحلف الفجور: لم يجر بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسك بهذه السنن أو ببعضها، لا جرم هذه علامات آخر الزمان، ودلائل حضور القيامة وقرب الساعة ". انتهى.
والإشارة بقوله: " بهذه السنن "؛ إلى رفع اليدين في المواضع الأربعة، وضم اليدين في الصلاة.
قال: وأعجب من فعل العامة الجهلة وأغرب: سكوت علماء الدين وأئمة المسلمين عن الإنكار على من جعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتلاعب بالدين وبسنة سيد المرسلين. انتهى.
(3 -[التوجه بعد تكبيرة الإحرام] :)
(والتوجه) : فقد وردت فيه أحاديث بألفاظ مختلفة، ويجزئ التوجه بواحد منها، إذا خرج من مخرج صحيح، وأصحها الاستفتاح المروي من حديث أبي هريرة، وهو في " الصحيحين " وغيرهما، بل قد قيل: إنه تواتر لفظاً، وهو: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب،(1/289)
اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ".
قال في " الحجة ": " وقد صح في ذلك صيغ منها: " اللهم باعد بيني. . " إلى آخره، ومنها: " إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا، شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " (1) ومنها: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك "، ومنها: " الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، والحمد لله كثيراً - ثلاثاً -، وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثاً - ".
والأصل في الاستفتاح حديث علي - في الجملة -، وأبي هريرة، وعائشة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم، وحديث عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة، وثوبان، وكعب بن عجرة في سائر المواضع، وغير هؤلاء ". انتهى ملخصاً.
قلت: ذهب الشافعي في دعاء الافتتاح إلى حديث علي - رضي الله تعالى عنه -: " إني وجهت وجهي ... " الخ.
وأبو حنيفة إلى حديث عائشة: " سبحانك اللهم وبحمدك ... " الخ.
وقال مالك: لا نقول شيئاً من ذلك.
__________
(1) الوارد في الحديث في التوجه: " وأنا من المسلمين "؛ لأن حكاية لفظ الآية غير مراد؛ فإن إبراهيم قال: {وأنا أول المسلمين} ، ولكن لا يقولها كل فرد منهم. (ش)
قلت: انظر تعليق شيخنا على هذا في " صفة الصلاة " (92) ، وترجيحه الجواز.(1/290)
ومعنى قوله عندي؛ أنه ليس بسنة لازمة.
وأشار البغوي إلى أن الاختلاف في أذكار الصلاة من دعاء الافتتاح، وذكر الركوع والسجود، وما بعد التشهد - بين الأئمة - من الاختلاف المباح. فذكر كل أصح ما عنده، وليس أحد ينكر ما عند الآخر.
(بعد التكبيرة) : لأنه لم يأت في ذلك خلاف عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، بل كل من روى عنه الاستفتاح روى أنه بعد التكبيرة، ولم يأت في شيء أنه توجه قبلها، وقد أوضح ذلك العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء ".
وأما ما يتوجه به: فهو الذي ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]- وفيه الصحيح والأصح، والوقوف على ذلك ممكن بالنظر في مختصر من مختصرات الحديث، وسبحان الله وبحمده {ما فعلت هذه المذاهب بأهلها؟}
(4 -[التعوذ قبل القراءة] :)
(و) أما (التعوذ) : فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يفعله بعد الاستفتاح قبل القراءة؛ ولفظه: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "؛ كما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " من حديث أبي سعيد الخدري.
قال في " الحجة ": ثم يتعوذ؛ لقوله - تعالى -: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ، وفي التعوذ صيغ؛ منها: " أعوذ بالله من(1/291)
الشيطان الرجيم "، ومنها: " أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم " (1) ، ثم يبسمل سرا؛ لما شرع الله - تعالى - لنا من تقديم التبرك باسم الله - تعالى - على القراءة، ولأن فيه احتياطاً، إذ قد اختلفت الرواية؛ هل هي آية من الفاتحة أم لا؟ فقد صح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه كان يفتتح الصلاة؛ أي: القراءة ب {الحمد لله رب العالمين} ، ولا يجهر ب {بسم الله الرحمن الرحيم} . انتهى.
أقول: قد وقع الخلاف في البسملة من جهات:
الأولى: في كونها قرآنا في كل سورة أم لا؟
الثانية: في قراءتها في الصلاة، أو سرا في السرية وجهراً في الجهرية؟
ولأهل العلم في كل طرف من هذه الأطراف خلاف طويل ومنازعات كثيرة، والقراء؛ منهم من يقرؤها في أول كل سورة، ومنهم من لا يقرؤها.
وقد أورد شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
والحاصل: أن الحق ثبوت قراءتها، وأنها آية من كل سورة، وأنها تُقرأ في الصلاة؛ جهراً في الجهرية وسرا في السرية، وأحاديث عدم سماع جهره [صلى الله عليه وسلم] بها؛ وإن كانت صحيحة؛ فالجمع بينها وبين أحاديث الجهر ممكن؛ بأن يُحمل نفي من نفى على أنه عرض له مانع من سماعها، فإن وقت قراءة
__________
(1) وورد - أيضا -: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ".
أما هاتان الصيغتان فلا دليل عليهما!
وانظر " صفة الصلاة " (ص 95) .(1/292)
الإمام لها وقت اشتغال المؤتم بالدخول في الصلاة، والإحرام والتوجه، وتكبير القائمين إلى الصلاة، ورواة الإسرار هم مثل أنس وعبد الله بن مغفل، وهم - إذ ذاك - من صغار الصحابة، قد لا يقفون في الصفوف المتقدمة لأنها موقف كبار الصحابة، كما ورد الدليل بذلك.
وعلى كل تقدير: فالمثبت مقدم على النافي، وأحاديث الجهر و - إن كانت غير سليمة من المقال -؛ فهي قد بلغت في الكثرة إلى حد يشهد بعضها لبعض، مع كونها معتضدة بالرسم في المصاحف، وهو دليل علمي - كما قاله العضد وغيره -، فقد وافقت سائر الآيات القرآنية في ذلك، فالظاهر مع من قال بأن صفتها وصفة سائر الآيات متفقة.
وأما ما في " تنوير العينين " من أن ترك الجهر بالتسمية أولى من الجهر بها؛ لأن رواية ترك جهره أكثر وأوضح من جهره (1) . انتهى: فقد دفعه ما تقدم آنفاً.
(5 -[التأمين] :)
(و) أما (التأمين) : فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثاً، وربما تفيد أحاديثه الوجوب على المؤتم إذا أمّن إمامه، كما في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " إذا أمّن الإمام فأمنوا "؛ فيكون ما في المتن مقيدا بغير المؤتم إذا أمّن إمامه.
وقد ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم.
__________
(1) هذا هو الصواب، فانظر تعليقات شيخنا الألباني على " التنكيل " (1 / 146 - 147) للمعلمي.(1/293)
ومما يؤكد مشروعيته: أن فيه إغاظة لليهود؛ لما أخرجه أحمد، وابن ماجه (1) ، والطبراني من حديث عائشة مرفوعاً: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول: آمين ".
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " السنة المحكمة الصحيحة؛ الجهر بآمين في الصلاة؛ كقوله في " الصحيحين ": " إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له "، ولولا جهره بالتأمين؛ لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين.
وأصرح من هذا؛ حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حُجْر بن عنبس، عن وائل بن حجر، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا قال: {ولا الضالين} ؛ قال: " آمين "، ورفع بها صوته.
وفي لفظ: وطول بها؛ رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح.
وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث، فقال: وخفض بها صوته.
وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان؛ فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل في هذا الباب؛ أصح من حديث شعبة، وأخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع، فقال: عن حجر أبي العنبس {وإنما كنيته: أبو السكن، وزاد فيه: عن علقمة ابن وائل} وإنما هو: حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر؛ ليس فيه: علقمة،
__________
(1) • (ج 1 ص 281) ، وكذا ذكره البخاري في " الأدب المفرد " (ص 144) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث: ثنا حماد بن سلمة: ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عنها.
وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال مسلم. (ن)(1/294)
وقال: وخفض بها صوته، والصحيح: أنه جهر بها.
قال الترمذي: سألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة، إذا اختلفا؟ فقال: القول قول سفيان ... ، إلى قوله:
" فرُد هذا كله بقوله - تعالى -: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} ، والذي نزلت عليه هذه الآية؛ هو الذي رفع صوته بالتأمين، والذين أمروا بها؛ رفعوا به أصواتهم، ولا معارضة بين هذه الآية والسنة بوجه ما ". اه.
ثم أطال ابن القيم في بيان أدلة ترجيح هذه السنة وتقريرها، تركنا ذكرها مخافة الإطالة.
وفي " تنوير العينين " يظهر - بعد التعمق في الروايات والتحقيق - أن الجهر بالتأمين أولى من خفضه، لأن رواية جهره أكثر وأوضح من خفضه اه.
(6 -[قراءة سورة أو آية مع الفاتحة] :)
(وقراءة غير الفاتحة معها) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي قتادة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقرأ في الظهر؛ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب.
وورد ما يُشعر بوجوب قرآن مع الفاتحة من غير تعيين، كحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره أن يخرج، فينادي: " لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد "، أخرجه أحمد، وأبو داود؛ وفي إسناده مقال!(1/295)
ولكنه قد أخرج مسلم في " صحيحه " وغيره من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً "؛ وقد أعلها البخاري في " جزء القراءة " (1) .
وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد بلفظ: أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر.
قال ابن سيد الناس: وإسناده صحيح ورجاله ثقات.
وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح.
وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: " لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة ب {الحمد} وسورة "؛ وهو حديث ضعيف.
وهذه الأحاديث لا تقصر عن إفادة إيجاب قرآن مع الفاتحة من غير تقييد، بل مجرد الآية الواحدة يكفي، وأما زيادة على ذلك - كقراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الأولتين -؛ فليس بواجب، فيكون ما في المتن مقيداً بما فوق الآية.
قال في " الحجة البالغة ": " ثم يرتل سورة الفاتحة وسورة من القرآن ترتيلا، يمد الحروف، ويقف على رؤوس الآي، يخافت في الظهر والعصر، ويجهر الإمام في الفجر والمغرب والعشاء، ويقرأ في الفجر ستين آية إلى مئة؛ تداركاً لقلة ركعاته بطول قراءته، وفي العشاء {سبح اسم ربك الأعلى} ،
__________
(1) انظر (رقم: 6) - منه -، و " التلخيص الحبير " (1 / 231) ، و " فتح الباري " (2 / 243) - كلاهما للحافظ ابن حجر -.(1/296)
{والليل إذا يغشى} ومثلهما، وحُمل الظهر على الفجر، والعصر على العشاء، وفي بعض الروايات: الظهر على العشاء، والعصر على المغرب، وفي بعضها: وفي المغرب بقصار المفصل؛ لضيق الوقت ". انتهى.
(7 -[التشهد الأوسط] :)
(و) أما (التشهد الأوسط) : فلم يرد فيه ألفاظ تخصه، بل يقول فيه ما يقول في التشهد الأخير، ولكنه يسرع بذلك.
وفي " حاشية الشفاء " للشوكاني - رحمه الله -: " وأما ما يقال فيه؛ فهو ما يقال في التشهد الأخير سواء بسواء؛ إلا ما ورد تخصيصه بالآخر؛ فيختص به، وظاهر الأدلة الواردة في التشهد شامل للتشهدين جميعاً، إلا أنه ينبغي تخفيفه كما ورد الدليل بذلك، وأقل ما يقال فيه تشهد ابن مسعود، ويُضم إليه الصلاة على النبي وآله [صلى الله عليه وسلم] بأخصر لفظ، فهذا لا ينافي التخفيف المشروع ". انتهى.
وقد روى أحمد، والنسائي من حديث ابن مسعود قال: إن محمداً قال: " إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه؛ فليدع به ربه - عز وجل - "، ورجاله ثقات.
وأخرجه الترمذي بلفظ: علمنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا قعدنا في الركعتين.(1/297)
فالتقييد بالقعود في كل ركعتين يفيد أن هذا التشهد هو التشهد الأوسط، ولكن ليس فيه ما ينفي زيادة الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقد شرعها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في التشهد مقترنة بالسلام على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، كما ورد بلفظ: قد علمنا كيف السلام عليك؛ فكيف الصلاة؟ وهو في " الصحيحين " من حديث كعب ابن عجرة.
وفي رواية من حديث ابن مسعود: فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟
وإنما لم يكن التشهد الأوسط واجباً ولا قعوده لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] تركه سهوا، فسبَّح الصحابة، فلم يعد له، بل استمر وسجد للسهو، فلو كان واجباً؛ لعاد له عند ذهاب السهو بوقوع التنبيه من الصحابة؛ فلا يقال: إن سجود السهو يكون لجبران الواجب كما يكون لجبران غير الواجب! لأنا نقول: محل الدليل ههنا هو عدم العود لفعله بعد التنبيه على السهو.
أقول: لا ريب أنه [صلى الله عليه وسلم] لازم التشهد الأوسط، ولم يثبت في حديث من الأحاديث الحاكية لفعله [صلى الله عليه وسلم] أنه تركه مرة واحدة، ولكن هذا القدر لا يثبت به الوجوب، وإن كان بيانا لمجمل واجب، وانضم إليه حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي "؛ لأن الاقتصار في حديث المسيء على بعض ما كان يفعله دون بعض يشعر بعدم وجوب ما لم يذكر فيه، وأحاديث التشهد الصحيحة التي فيها لفظ " قولوا " - وإن كان أصل الأمر للوجوب -؛ لكنه مصروف عن حقيقته بحديث المسيء.
ويشكل على ذلك قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا(1/298)
التشهد ... الحديث؛ فإن هذه العبارة تدل على أن التشهد من المفترضات، ويمكن أن يقال: إن فهم ابن مسعود للفرضية لا يستلزم أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه من مجالات الاجتهادات، واجتهاده ليس بحجة على أحد (1) ، وأيضا: بعض التشهد تعليم كيفية، وتعليم الكيفيات - وإن كان بلفظ الأمر - لا يدل على وجوبها، وما نحن بصدده من ذلك؛ فإنه وقع في جواب: كيف نصلي عليك؟ وإنما كان كذلك؛ لأن جواب السائل عن الكيفية يكون بالأمر، وإن كانت غير واجبة إجماعاً، تقول: كيف أغسل ثوبي وأحمل متاعي: فيقول المسؤول: افعل كذا؛ غير مريد لإيجاب ذلك عليك، بل لمجرد التعليم للهيئة المسؤول عنها ب (كيف؟) ؛ فلا بد أن يكون الشيء المسؤول عن كيفيته قد وجب بدليل آخر غير تعليم الكيفية (2) .
وقد وقع في بعض طرق حديث المسيء ذكر للتشهد فراجعه في الموطن، فإن صحت تلك الطرق؛ كانت هي المفيدة للوجوب،
أما حديث: " إذا أحدث المصلي بعد آخر سجدة ": فليس مما تقوم به الحجة؛ فليعلم.
__________
(1) أما احتجاج الشارح بحديث المسيء صلاته: فقد بينا آنفا أنه لا يمنع من وجوب ما يدل الدليل على وجوبه، فالأحاديث التي فيها: " قولوا " تدل على الوجوب قطعا، ولا تصرف عن الوجوب.
وأما دعواه أن قول ابن مسعود: قبل أن يفرض علينا التشهد فهم من ابن مسعود! فإنه مغالطة واضحة، بل هو دليل صريح، وإخبار منه على أن التشهد فرض عليهم.
وبناء الفعل لما لم يسم فاعله لا ينفي فهم المراد، وهو الشارع الذي إذا فرض عليهم شيئا وجبت طاعته. (ش)
(2) وقد وجب المسؤول عن كيفيته بدليل آخر، وهو الأمر بالصلاة عليه في القرآن، واستفهموا عن بيان هذا الأمر المجمل، فبين لهم، فصار تفسيراً للأمر الأول ملحقاً به، واجباً طاعته، والله الموفق. (ش)(1/299)
(8 -[الأذكار الواردة في الصلاة] :)
(و) أما (الأذكار الواردة في كل ركن) : فكثيرة جدا:
منها تكبير الركوع والسجود، والرفع والخفض، كما دل عليه حديث ابن مسعود، قال: رأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] يكبر في كل رفع وخفض، وقيام وقعود.
وأخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه -.
وأخرج نحوه البخاري، ومسلم من حديث عمران بن حصين.
وأخرج نحوه من حديث أبي هريرة.
وفي الباب أحاديث؛ إلا عند الارتفاع من الركوع؛ فإن الإمام والمنفرد يقولان: " سمع الله لمن حمده "، والمؤتم يقول: " اللهم ربنا {ولك الحمد " (1) ؛ وهو في " الصحيح " من حديث أبي موسى.
قال في " حاشية الشفاء ": الظاهر من الأدلة أن الإمام والمنفرد يجمعان بين السمعلة والحمدلة، فيقولان: " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا} ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه "، وأما المؤتم ففيه احتمال (1) ، وقد أوضحت الصواب فيه في " شرح المنتقى ". انتهى.
قال ابن القيم في " الإعلام ": السنة الصريحة في قول الإمام: " ربنا! لك الحمد "؛ كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا
__________
(1) بل الصواب أن يقول المؤتم - أيضا -: سمع الله لمن حمده.
وانظر رسالة " دفع التشنيع في محل التسميع " للسيوطي، و " صفة الصلاة " (135 - 136) لشيخنا.(1/300)
قال: " سمع الله لمن حمده "؛ قال: " اللهم ربنا {لك الحمد ".
وفيهما - أيضا - عنه: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: " سمع الله لمن حمده " حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: " ربنا} لك الحمد ".
وفي " صحيح مسلم " عن ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا {لك الحمد ": فرُدّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا} لك الحمد ". انتهى.
وأما ذكر الركوع فهو: " سبحان ربي العظيم "؛ وذكر السجود: " سبحان ربي الأعلى "، ويدعو بعد ذلك بما أحب من المأثور وغيره، وأقل ما يستحب من التسبيح في الركوع والسجود ثلاث؛ لحديث ابن مسعود: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات؛ فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات؛ فقد تم سجوده، وذلك أدناه "، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ وفي إسناده انقطاع.
وأما ذكر الاعتدال: فقد ثبت في " الصحيح " من حديث ابن عباس: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " اللهم ربنا! لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ".(1/301)
وأما الذكر بين السجدتين: فقد روى الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم - وصححه - من حديث ابن عباس: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقول بين السجدتين: " اللهم! اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني ".
أقول: قد بين لنا [صلى الله عليه وسلم] كيفية تسبيح الركوع والسجود بيانا شافيا، نقله لنا عنه الذين نقلوا إلينا سائر الأحكام الشرعية، فقالوا: كان يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم "، وفي سجوده: " سبحان ربي الأعلى "، وكذلك أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] قولاً.
وأما التقييد بعدد مخصوص: فلم يرد ما يدل عليه؛ إنما كان الصحابة يقدرون لبثه في ركوعه وسجوده تقادير مختلفة، والتطويل في الصلاة من السنن الثابتة؛ ما لم يكن المصلي إماماً لقوم؛ فإنه يصلي بهم صلاة أخفهم كما أرشد إليه -[صلى الله عليه وسلم]-.
(9 -[الاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة] :)
(و) الأحاديث في الأذكار الكائنة في الصلاة كثيرة جدا، فينبغي (الاستكثار من الدعاء) في الصلاة.
(بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما لم يرد) : والأوْلى أن يأتي بهذه الأذكار قبل الرواتب؛ فإنه جاء في بعض الأذكار ما يدل على ذلك، كقوله: " من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله ... " (1) الخ، وكقول الراوي: كان إذا سلم من صلاته يقول بصوته
__________
(1) انظر " تمام المنة " (228 - 229) .(1/302)
الأعلى: لا إله إلا الله ... " الخ، قال ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- بالتكبير (1) .
وفي بعضها ما يدل ظاهراً كقوله: " دبر كل صلاة ".
وأما قول عائشة: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: " اللهم أنت السلام ... " الخ فيحتمل وجوها ذكرتها في " شرح بلوغ المرام ".
وبالجملة: فالأدعية كلها بمنزلة أحرف القرآن؛ من قرأ منها شيئا فاز بالثواب الموعود.
وهذا الباب يحتمل البسط، وليس المراد هنا إلا الإشارة إلى ما يُحتاج إليه.
وقد ذكر الماتن هذه المسائل والأذكار في " شرح المنتقى "، وأورد كل ما يحتاج إليه على وجه لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
__________
(1) يُحمل هذا على التعليم؛ فانظر " فتح الباري " (2 / 325 - 326) .(1/303)
(5 - باب متى تبطل الصلاة؟ وعمن تسقط؟)
( [الفصل الأول] )
( [ما لا يجوز في الصلاة] :)
(1 -[الكلام] :)
(وتبطل الصلاة بالكلام) : لحديث زيد بن أرقم في " الصحيحين " وغيرهما، قال: كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل منا صاحبه حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} ؛ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وهكذا حديث ابن مسعود في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " إن في الصلاة لشغلا ".
وفي رواية لأحمد، والنسائي، وأبي داود، وابن حبان في " صحيحه ": " إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإنه أحدث من أمره أن لا يتكلم في الصلاة ".
ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم عامدا عالما فسدت صلاته، وإنما الخلاف في كلام الساهي، ومن لم يعلم بأنه ممنوع.
فأما من لم يعلم؛ فظاهر حديث معاوية بن الحكم السلمي الثابت في(1/304)
" الصحيح " أنه لا يعيد، وقد كان شأنه [صلى الله عليه وسلم] أن لا يحرج على الجاهل، ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال، بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما وقع منه، وقد يأمره بالإعادة كما في حديث المسيء.
وأما كلام الساهي والناسي؛ فالظاهر أنه لا فرق بينه وبين العامد العالم في إبطال الصلاة.
قال أبو حنيفة: كلام الناسي يبطل الصلاة، وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الكلام ثم نسخ.
وفيه بحث؛ لأن تحريم الكلام كان بمكة، وهذه القصة بالمدينة.
وقال الشافعي: كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكلام العامد يبطلها ولو قل، وتأويل الحديث عنده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان ناسيا، بانيا كلامه على أن الصلاة تمت وهو نسيان، وكلام ذي اليدين على توهم قصر الصلاة؛ فكان حكمه حكم الناسي، وكلام القوم كان جوابا للرسول، وإجابة الرسول لا تبطل الصلاة.
وقال مالك: إن كان كلام العمد يسيرا لإصلاح الصلاة لا يبطل، مثل أن يقال: لم تكمل، فيقول: قد أكملت، وحديث: نهينا عن الكلام، و: " لا تكلموا ": خص منه هذا النوع من الكلام. كذا في " المسوى ".
أقول: أما فساد صلاة من تكلم ساهيا؛ فلا أعرف دليلا يدل عليه؛ إلا عموم حديث النهي عن الكلام، وهو مخصص بمثل حديث تكلمه [صلى الله عليه وسلم] بعد أن سلم على ركعتين، كما في حديث ذي اليدين، فإنه تكلم في تلك الحال(1/305)
ساهيا عن كونه مصليا، وهو المراد بكلام الساهي؛ لأن المراد إصدار الكلام من غير قصد.
فإن قيل: إن ثم فرقا بين من تكلم وهو داخل الصلاة لم يخرج منها، وبين من تكلم وقد خرج منها ساهيا؛ فإن الأول أوقع الكلام حال الصلاة، والآخر أوقعه خارجها، واعتداده بما قد فعله قبل الخروج ساهيا؛ لا يوجب كونه بعد الخروج قبل الرجوع في الصلاة؛ وأدل دليل على ذلك: تكبيره للدخول بعد الخروج سهوا.
فيقال: الأدلة الواردة في رفع الخطاب عن الساهي مخصصة لذلك العموم، فاقتضى ذلك أن المفسد هو كلام العامد لا كلام الساهي.
وأما عدم أمره لمعاوية بن الحكم بالإعادة - كما في الحديث -: فيمكن أن يكون لتنزيل كلام الجاهل بالتحريم منزلة كلام الساهي، ويمكن أن يكون الجهل عذرا بمجرده.
(2 -[الاشتغال بما ليس منها] :)
(وبالاشتغال بما ليس منها) : وذلك مقيد بأن يخرج به المصلي عن هيئة الصلاة، كمن يشتغل مثلا بخياطة، أو نجارة، أو مشي كثير، أو التفات طويل، أو نحو ذلك.
وسبب بطلانها بذلك أن الهيئة المطلوبة من المصلي قد صارت بذلك الفعل متغيرة عما كانت عليه، حتى صار الناظر لصاحبها لا يعده مصليا.
أقول: اختلفت أنظار أهل العلم في تعريف الفعل الكثير المفسد للصلاة(1/306)
والمبطل لها، والذي أراه طريقا إلى معرفة الفعل الكثير؛ أن ينظر المتكلم في ذلك إلى ما صدر منه [صلى الله عليه وسلم] من الأفعال، مثل حمله لأمامة بنت أبي العاص، وطلوعه ونزوله في المنبر وهو في حال الصلاة، ونحو ذلك مما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] ؛ لا لإصلاح الصلاة، فيحكم بأنه غير كثير، وكذلك ما وقع لقصد إصلاح الصلاة؛ مثل خلعه [صلى الله عليه وسلم] للنعل، وإذنه بمقاتلة الحية - وما أشبه ذلك -؛ ينبغي الحكم بأنه غير كثير بالأولى، وما خرج عن الواقع من أفعاله، والمسوغ بأقواله، فهو فعل غير مشروع، ورجع في كونه مفسدا وغير مفسد إلى الدليل، فإن ورد ما يدل على أحد الطرفين كان العمل عليه، وإن لم يرد فالأصل الصحة، والفساد خلاف الأصل، لا يصار إليه إلا لقيام دليل يدل على الفساد، ولكنه إذا صدر من المصلي من الأفعال - التي لمجرد العبث - ما يخرج به عن هيئة من يؤدي هذه العبادة؛ مثل أن يشتغل بعمل من الأعمال التي لا مدخل لها في الصلاة، ولا في إصلاحها؛ نحو حمل الأثقال، والخياطة، والنسخ ونحو ذلك: فهذا غير مصل.
فإذا قال قائل بفساد صلاته؛ فهو من حيث إنه قد فعل ما ينافي الصلاة.
وأما الاستدلال بحديث: " اسكنوا في الصلاة ": فهو - مع كونه لا يفيد إلا الوجوب، والواجب لا يستلزم عدمه فساد ما هو واجب فيه -: مخصص بجميع ما فعله [صلى الله عليه وسلم] ، أو أذن به، أو قرره.
وما خرج عن ذلك؛ ففعله غير جائز، بل يجب تركه فقط؛ فمن تركه كان ممدوحا، ومن فعله كان مذموما.(1/307)
ومن قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده (1) ، والنهي يقتضي الفساد - كما هو مذهب طائفة من أهل الأصول -: فغاية ما هناك أن ذلك الفعل الذي فعله ولم يتركه - كما يجب عليه - فاسد، وأما كون الصلاة التي فعل فيها ذلك الفعل فاسدة؛ فشيء آخر.
قال مجد الدين الفيروزآبادي في " الصراط المستقيم ": " ولسماع بكاء الطفل كان يخفف الصلاة، وأحيانا كان يتعلق به وهو في الصلاة طفل فيحمله على عاتقه، وأحيانا كان يأتي الحسين وهو في السجود، فيركب على ظهره المبارك، فيطيل السجود لأجله، وأحيانا كانت عائشة تأتي وهو في الصلاة؛ وقد غلق الباب، فيخطو ليفتح الباب لها، وأحيانا كان يسلم عليه وهو في الصلاة، فيجيب بالإشارة باسطا يده، وقد يومئ برأسه المبارك، وكانت عائشة نائمة تجاه صلاته، فكان عند السجود يضع يده على رجلها؛ لتخلي مكان السجود بضم رجلها، وكان قد يصل إلى آية السجدة على المنبر، فيهبط إلى الأرض ليسجد ثم يصعد، واختصم وليدتان من بني عبد المطلب، فتصارعتا، فلما دنتا منه أمسكهما بيده وفرق بينهما (2) ، وكان يبكي في الصلاة كثيرا، ويتنحنح أحيانا لحاجة، ويصلي منتعلا وغير منتعل، وقال: " صلوا في نعالكم خلافا لليهود ". اه.
قال في " الحجة البالغة ": " إن النبي [صلى الله عليه وسلم] قد فعل أشياء في الصلاة بيانا للمشروع، وقرر على أشياء، فذلك وما دونه لا يبطل الصلاة.
والحاصل من الاستقراء: أن القول اليسير - مثل: ألعنك بلعنة الله،
__________
(1) هو مذهب الجمهور؛ فانظر " إرشاد الفحول " (101) .
(2) انظر " صحيح سنن النسائي " (727) .(1/308)
ويرحمك الله، وياثكل أماه {وما شأنكم تنظرون إلي؟} والبطش اليسير مثل وضع صبية من العاتق ورفعها، وغمز الرجل، ومثل فتح الباب، والمشي اليسير؛ كالنزول من درج المنبر إلى مكان - ليتأتى منه السجود في أصل المنبر -، والتأخر من موضع الإمام إلى الصف، والتقدم إلى الباب المقابل ليفتح، والبكاء خوفا من الله - تعالى -، والإشارة المفهمة، وقتل الحية والعقرب، واللحظ يمينا وشمالا من غير لي العنق -: لا يفسد، وإن تعلق القذر بجسده أو ثوبه - إذا لم يكن بفعله، أو كان لا يعلمه - لا يفسد ". اه.
قلت: اتفقوا على أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة.
في " العالمكيرية " (1) : إن حمل صبيا أو ثوبا على عاتقه؛ لم تفسد صلاته، وإن حمل شيئا يتكلف في حمله؛ فسدت.
وفي " المنهاج ": الكثرة بالعرف، فالخطوتان والضربتان قليل، والثلاث كثير، وتبطل بالوثبة الفاحشة، لا الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أصابعه في سبحة، أو حك - في الأصح -.
وفي " العالمكيرية ": لو فتح على غير إمامه تفسد؛ إلا إذا عنى به التلاوة دون التعليم، وإن فتح على إمامه؛ فالصحيح لا تفسد بحال.
وفي " المنهاج ": " لو نطق بنظم القرآن بقصد التفهيم، ك {يا يحيى خذ الكتاب} ، قصد معه قراءة؛ لم تفسد، وإلا بطلت "؛ كذا في " المسوى ".
__________
(1) هي " الفتاوى الهندية " المعروفة في مذهب أبي حنيفة. (ش)(1/309)
(3 -[ترك شرط أو ركن عمدا] :)
(وبترك شرط) : كالوضوء، فلأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط.
(أو ركن) : لكون ذهابه يوجب خروج الصلاة عن هيئتها المطلوبة.
(عمدا) ، وإذا ترك الركن فما فوقه سهوا فعله، وإن كان قد خرج عن الصلاة، كما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- في حديث ذي اليدين؛ فإنه سلم على ركعتين ثم أخبر بذلك، فكبر وفعل الركعتين المتروكتين.
وأما ترك ما لم يكن شرطا ولا ركنا من الواجبات؛ فلا تبطل به الصلاة؛ لأنه لا يؤثر عدمه في عدمها، بل حقيقة الواجب: ما يمدح فاعله ويذم تاركه، وكونه يذم لا يستلزم أن صلاته باطلة.
والحاصل: أن الشروط للشيء هي التي تثبت بدليل يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، نحو أن يقول الشارع: من لم يفعل كذا فلا صلاة له، أو يأتي عن الشارع ما هو تصريح بعدم الصحة، أو بعدم القبول أو الأجر، أو يثبت عنه النهي عن الإتيان بالمشروط بدون الشرط؛ لأن النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق.
وأما كون الشيء واجبا: فهو يثبت بمجرد طلبه من الشارع، ومجرد الطلب لا يستلزم زيادة على كون الشيء واجبا، فتدبر هذا؛ تسلم من الخبط والخلط.(1/310)
( [الفصل الثاني: على من تجب الصلوات الخمس؟ وعمن تسقط؟] )
( [تجب الصلاة على المكلف] :)
(ولا تجب) الصلوات المكتوبة الخمس (على غير مكلف) : لأن خطاب التكليف لا يتناول غير مكلف، ولا خلاف في ذلك في الواجبات الشرعية.
وأما ما ورد من تعويد الصبيان وتمرينهم: فالخطاب في ذلك للمكلفين، والوجوب عليهم لا على الصغار.
( [عمن تسقط الصلاة؟] :)
(1 -[عن العاجز عن الإشارة] :)
(وتسقط عمن عجز عن الإشارة) : لأن إيجابها على المريض مع بلوغه إلى ذلك الحد؛ هو من تكليف ما لا يطاق، ولم يكلف الله - تعالى - أحدا فوق طاقته.
(2 -[عن المغمى عليه حتى خرج وقتها] :)
(و) كذلك (عمن أغمي عليه حتى خرج وقتها) : فلا وجوب عليه؛ لأنه غير مكلف في الوقت.
( [كيف يصلي المريض؟] :)
(ويصلي المريض قائما ثم قاعدا ثم على جنب) : لحديث عمران بن(1/311)
حصين عند البخاري، وأهل " السنن "، وغيرهم قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- عن الصلاة؟ فقال: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب "؛ وقد نطق بمضمون ذلك القرآن الكريم.
وإذا تعذر على المصلي صفة من صفات صلاة العليل الواردة؛ أتى بالصلاة على صفة أخرى مما ورد، ثم يفعل ما قدر عليه ودخل تحت استطاعته: {فاتقوا الله ما استطعتم} ، " وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".(1/312)
(6 - باب صلاة التطوع)
( [دليل مشروعية سنة الظهر والعصر] :)
(هي: أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر) : لما ثبت في ذلك من حديث أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من صلى أربع ركعات قبل الظهر، وأربعا بعدها؛ حرمه الله على النار "؛ رواه أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان -.
قال في " سفر السعادة ": وكان يفصل بين هذه الأربع بتسليمتين.
قال أمير المؤمنين علي: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يصلي قبل الظهر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم (1) على الملائكة المقربين، ومن معهم من المسلمين والمؤمنين؛ رواه أحمد، والترمذي - محسنا -. اه.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " - وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان وابن خزيمة -.
( [دليل مشروعية سنة المغرب] :)
(وركعتان بعد المغرب) : قال في " سفر السعادة ": وفي سنة المغرب سنتان:
__________
(1) وهي زيادة لا تصح؛ فانظر " تمام المنة " (239 - 240) .(1/313)
إحداهما: أن لا يتكلم بينهما وبين الفريضة؛ لما في الحديث: " من صلى ركعتين بعد المغرب - قال مكحول: يعني قبل أن يتكلم -: رُفعت صلاته في عليين " (1) .
الثانية: أن تكون في البيت: دخل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مسجد بني الأشهل وصلى المغرب، فلما فرغ رأى أهل المسجد اشتغلوا بصلاة السنة، فقال: " هذه صلاة البيوت " (2) ، وفي لفظ ابن ماجه: " اركعوا هاتين في بيوتكم " (3) .
حاصله: أن عادة حضرة سيدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : أنه كان يصلي جميع السنن في بيته؛ إلا أن يكون بسبب، وكان يقول: " أيها الناس! صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة " اه.
وقال - أيضا -: وكان الصحابة يصلون قبل المغرب ركعتين، ولم يمنعهم [صلى الله عليه وسلم] من ذلك، وثبت في " الصحيحين "؛ أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " صلوا قبل المغرب "، وقال في الثالثة: " لمن شاء "؛ كراهة أن يتخذها الناس سنة، فصلاتها مندوبة مستحبة، لكن لا تبلغ درجة الرواتب. اه.
( [دليل مشروعية سنة العشاء والفجر] :)
(وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر، قال: حفظت عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-
__________
(1) حديث ضعيف لإرساله؛ رواه أبو داود في " المراسيل " (73) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " (2 / 198) .
(2) رواه أبو داود (1300) ، والنسائي (3 / 198) بسند في جهالة.
(3) هو عام في الصلوات كلها؛ وانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (956) .(1/314)
ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة ".
وأخرج - نحوه - مسلم في " صحيحه "، وأحمد، والترمذي - وصححه - من حديث عبد الله بن شقيق.
وأخرج - نحوه - مسلم، وأهل " السنن " من حديث أم حبيبة.
ولا ينافي هذا ما تقدم من الدليل الدال على مشروعية أربع قبل الظهر وأربع بعده؛ لأن هذه زيادة مقبولة.
وثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر.
وثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديثها: " أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها ".
وفيهما أحاديث كثيرة.
قال في " سفر السعادة ": وكان يحافظ على ركعتي الفجر؛ بحيث إنه كان يواظب عليهما في السفر أيضا، ولم يرو أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى في السفر شيئا من السنن الرواتب؛ إلا سنة الفجر وصلاة الوتر.
وللعلماء في أفضلية سنة الفجر وصلاة الوتر قولان:
قال بعضهم: سنة الفجر آكد.(1/315)
وقال بعضهم: بل الوتر.
وكما أن الوتر واجب عند البعض؛ كذا سنة الفجر تجب عند البعض (1) .
وقال بعض المشايخ: سنة الفجر ابتداء العمل، والوتر ختم العمل، فلا جرم صرفنا العناية لشأنهما، ولهذا السبب شُرع فيهما قراءة سورة الإخلاص، وسورة {قل يا} (2) ؛ لاشتمالهما على توحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، كما بيناه في كتاب " حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة الإخلاص " (3) . اه.
( [دليل مشروعية سنة الضحى] :)
(وصلاة الضحى) ؛ والأحاديث فيها متواترة عن جماعة من الصحابة.
وأقلها ركعتان،؛ كما في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة؛ كما دلت على ذلك الأدلة.
وفي " الحجة البالغة ": وللضحى ثلاث درجات: أقلها ركعتان، وفيها أنها تجزي عن الصدقات الواجبة على كل سلامي ابن آدم.
وثانيتها: أربع ركعات، وفيها عن الله - تعالى -: " يا ابن آدم {اركع لي أربع ركعات من أول النهار؛ أكفك آخره ".
وثالثها: ما زاد عليها؛ كثماني ركعات وثنتي عشرة.
__________
(1) ولا دليل على ذلك.
(2) يعني: {قل يا أيها الكافرون} ، وهذا اختصار غريب لا معنى له} . (ش)
(3) هو للفيروزأبادي؛ كما في " كشف الظنون " (1 / 624) لحاجي خليفة.(1/316)
وأكمل أوقاته؛ حين يرتحل النهار وترمض الفصال (1) . اه.
( [سنة صلاة الليل] :)
(وصلاة الليل) ؛ والأحاديث فيها صحيحة متواترة، لا يتسع المقام لبسطها: قال - تعالى -: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا} ، وقال [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا بالليل والناس نيام ".
وكانت العناية بصلاة التهجد أكثر، فبين [صلى الله عليه وسلم] فضائلها، وضبط آدابها وأذكارها، قال: " عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، مكفرة للسيئات، منهاة عن الإثم " (2) ؛ وغير ذلك.
(وأكثرها ثلاث عشرة ركعة) ، وقد كان -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي صلاة الليل على أنحاء مختلفة، فتارة يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر بركعة، وتارة يصلي أربعا أربعا، وتارة يجمع بين زيادة على الأربع، وذلك كله سنة ثابتة.
قال في " الحجة البالغة ": صلاها النبي [صلى الله عليه وسلم] على وجوه، والكل سنة.
قال في " المنح " (3) : " قالت عائشة: ولا أعلم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح ". اه.
__________
(1) " ترمض " - بفتح الميم -: من باب " تعب "، و " الفصال "؛ جمع فصيل، وهو ولد الناقة؛ والمراد: إذا وجد الفصيل حر الشمس من الرمضاء. (ش) .
قلت: وقد صح حديث: " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال "؛ فانظر " الصحيحة " (1164) .
(2) حديث حسن؛ ينظر له " الإرواء " (452) .
(3) اسمه: " منح المنة "؛ سيورد ذكره المصنف - بعد -.(1/317)
( [سنة الوتر] :)
(يوتر في آخرها بركعة) : إما منفردة أو منضمة إلى شفع قبلها.
قال ابن القيم: " ووردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة، كحديث أم سلمة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يوتر بسبع وبخمس، لا يفصل بسلام ولا كلام؛ رواه أحمد، وكقول عائشة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن " متفق عليه، وكحديث عائشة: أنه يصلي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأخذه اللحم؛ أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول "، وفي لفظ عنها: فلما أسن وأخذه اللحم؛ أوتر بسبع ركعات، لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، وفي لفظ: صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن.
وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها، فرُدّت بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلاة الليل مثنى مثنى "؛ وهو حديث صحيح، ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالسبع والخمس، وسنته كلها حق يصدق بعضها بعضا، فالنبي [صلى الله عليه وسلم] أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها: " مثنى مثنى "، ولم يسأله عن الوتر، وأما السبع والخمس والتسع والواحدة: فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة عما قبلها، وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة،؛ كان الوتر(1/318)
اسم الركعة المفصولة وحدها، كما قال [صلى الله عليه وسلم] : " صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة؛ توتر له ما قد صلى "، فاتفق فعله [صلى الله عليه وسلم] وقوله، وصدق بعضه بعضا ". اه.
والحق أن الوتر سنة، هو أوكد السنن، بينه علي، وابن عمر، وعبادة ابن الصامت، وإليه ذهب أكثر العلماء، إلا أبا حنيفة خاصة؛ فإنه واجب على الصحيح عنده، وثلاث ركعات لا يزيد ولا ينقص!
قال في " المسوى ": " وأقل الوتر ركعة في قول أكثرهم، وأكثره إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، وأدنى الكمال ثلاث، وما زاد فهو أفضل ". اه.
وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا صلاها ثلاثا؛ يقرأ في الأولى ب {سبح اسم ربك الأعلى} ، وفي الثانية ب {قل يا أيها الكافرون} ، وفي الثالثة ب {قل هو الله أحد} والمعوذتين.
( [بيان وقت الوتر] :)
أقول: دلت الأخبار على أن وقت الوتر بعد الفراغ من العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر، وهذا هو عين ما أفتى به أبو موسى، وفتواه هي الثابتة عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ أخرجه مسلم في " صحيحه " من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أوتروا قبل أن تصبحوا ".
وأخرج ابن حبان عنه [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " إذا طلع الفجر؛ فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر ".(1/319)
والأحاديث في الباب كثيرة، والأحاديث الثابتة في إيتاره [صلى الله عليه وسلم] بركعة أكثر من أن تحصى، فهي صالحة لتخصيص ما هو من العمومات في أعلى طبقة، فكيف بما لا صحة له قط؟ {وحديث البتيراء لم يصح (1) .
والذي ينبغي التعويل عليه في دفع الوجوب؛ الأحاديث المصرحة بأن الوتر غير واجب.
والوتر عبارة عن آخر صلاة الليل؛ وقد ثبت في ذلك صفات متعددة بأحاديث صحيحة - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك -.
والحاصل: أن لصلاة الليل - باعتبار وترها - ثلاث عشرة صفة، كما ذكر ذلك ابن حزم في " المحلى "، فالقول بأن الوتر ثلاث ركعات فقط لا يجوز أن يكون الإيتار بغيرها} ضيق عطن، وقصور باع، ولمثل هذا صار أكثر فقهاء العصر لا يعرفون الوتر إلا بأنها ثلاث ركعات بعد صلاة العشاء، حتى إن كثيراً منهم يكون له قيام في الليل وتهجد، فتراه يصلي الركعات المتعددة ويظن أن الوتر شيء قد فعله، وأنه لا يتعلق له بهذه الصلاة التي يفعلها في الليل، وهو لا يدري أن الوتر هو ختام صلاة الليل، وأنه لا صلاة بعده إلا الركعتان المعروفتان بسنة الفجر، وكثيرا ما يقع الإنسان في الابتداع وهو يظن أنه في الاتباع! والسبب عدم الشغل بالعلم وسؤال أهل الذكر.
وأما ما روي عن الحسن البصري، أنه قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن (2) :
__________
(1) انظر " نيل الأوطار " (3 / 32) .
(2) هو في " مصنف ابن أبي شيبة " (2 / 294) بسند صحيح.(1/320)
فإن أراد أن الإجماع وقع على هذا القدر، وأنه لا يجوز الإيتار بغيره: فهو من البطلان بمكان لا يخفى على عارف، فهذه الدفاتر الإسلامية الحاكية لمذاهب الصحابة الذين أدركهم الحسن البصري، ولمذاهب التابعين الذين هو واحد منهم، قاضية بخلاف هذه الحكاية، وهي بين أيدينا.
وإن أراد أن هذه الصفة هي إحدى صفات الوتر: فنحن نقول بموجب ذلك، فقد روي الإيتار بثلاث، ولكنه روي النهي عن الإيتار بثلاث (1) كما أوضح ذلك الماتن رحمه الله - في " شرح المنتقى "، فتعارضت رواية الثلاث ورواية النهي.
والعالم بكيفية الاستدلال لا يخفى عليه الصواب، وقد تقدم أن حديث البتيراء لا أصل له (2) ، على أن النسخ لا يتم ادعاؤه إلا بعد معرفة التاريخ؛ لأن الناسخ لا يكون إلا متأخرا بإجماع المسلمين القائلين بثبوت أصل النسخ في هذه الشريعة المطهرة، فدعوى النسخ بمجرد الاحتمال مجازفة عظيمة، ولا سيما إذا كان المدعي لذلك لم يتعب نفسه في علوم السنة المطهرة.
( [سنة تحية المسجد] :)
(وتحية المسجد) : لحديث " إذا دخل أحدكم المسجد؛ فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "؛ أخرجه الجماعة من حديث أبي قتادة، وفي ذلك أحاديث كثيرة.
__________
(1) كمثل المغرب، وإلا: فلا
وانظر " صلاة التراويح " (84 و 97) لشيخنا.
(2) هو له أصل، لكن بغير صحة!(1/321)
وقد وقع الاتفاق على مشروعية تحية المسجد، وذهب أهل الظاهر إلى أنهما واجبتان، وذلك غير بعيد (1) ، وقد حقق الماتن المقام في " شرح المنتقى "، وفي رسالة مستقلة.
( [صلاة الاستخارة] :)
(و) صلاة (الاستخارة) ، وفيها أحاديث كثيرة منها: حديث جابر عند البخاري وغيره؛ بلفظ: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها؛ كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا همّ أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم {إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم} إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله -؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله -؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به - قال -، ويسمي حاجته ".
قال في " الحجة البالغة ": وعندي أن إكثار الاستخارة في الأمور ترياق مجرب بتحصيل شبه الملائكة، وضبط النبي [صلى الله عليه وسلم] آدابها ودعاءها، فشرع ركعتين، وعلّم: اللهم! إني أستخيرك ... الخ. اه.
__________
(1) بل هو الصواب - إن شاء الله -.(1/322)
( [صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة] :)
(وركعتان بين كل أذان وإقامة) : لحديث: " بين كل أذانين صلاة "، قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: " لمن شاء "؛ وهو حديث صحيح.
والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة تغليبا؛ كالقمرين والعمرين.(1/323)
(7 - باب صلاة الجماعة)
( [حكم صلاة الجماعة] :)
(هي من آكد السنن) وأعظم الشعائر الإسلامية وأفضل القرب الدينية؛ لما ورد فيها من الترغيبات، حتى إنه [صلى الله عليه وسلم] صرح بأنها تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة؛ كما في " الصحيحين "، ووقع منه الإخبار بأنه قد هم بأن يحرق على المتخلفين دورهم.
قال ابن القيم: ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة، فترك الصلاة في الجماعة هو من الكبائر. اه.
ولازمها [صلى الله عليه وسلم] من الوقت الذي شرعها الله - تعالى - فيه إلى أن قبضه الله - تعالى - إليه، ولم يرخص [صلى الله عليه وسلم] في تركها لمن سمع النداء، فإنه سأله الرجل الأعمى أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: " هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم، قال: " فأجب "، وكل ما ذكرناه ثابت في " الصحيح ".
وثبت في " الصحيح " أيضا عن ابن مسعود، أنه قال: " لقد رأيتنا؛ وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ".
قال ابن القيم: وهذا فوق الكبيرة. اه.(1/324)
" ولقد كان الرجل يؤتى به، يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف " (1) .
أقول: أما كونها فريضة متحتمة؛ فالأدلة متعارضة، ولكن ههنا طريقة أصولية يجمع بها بين هذه الأدلة؛ وهي أن أحاديث أفضلية الجماعة مشعرة بأن صلاة المنفرد مجزئة، وهي أحاديث كثيرة؛ مثل حديث: " الذي ينتظر الصلاة مع الإمام؛ أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام "؛ وهو في " الصحيح ".
ومنه حديث المسيء صلاته - المشهور -؛ فإنه أمره بأن يعيد الصلاة منفردا.
ومنه حديث: " ألا رجل يتصدق على هذا؟ " عند أن رأى رجلا يصلي منفردا.
ومن ذلك أحاديث التعليم لأركان الإسلام؛ فإنه لم يأمر من علمه بأن لا يصلي إلا في جماعة، مع أنه قال لمن قال له؛ لا يزيد على ذلك ولا ينقص: " أفلح - وأبيه (2) - إن صدق ".
ونحو ذلك من الأدلة؛ فالجميع صالح لصرف: " فلا صلاة له "؛ الواقع في الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة إلى نفي الكمال، لا إلى نفي الصحة.
__________
(1) وهذا تتمة أثر ابن مسعود المذكور - قبل -، وهو في " صحيح مسلم " (257) .
(2) وهذه زيادة شاذة؛ فانظر تعليق شيخنا على " مختصر صحيح مسلم " (21) للمنذري.(1/325)
وأما ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الهم بتحريق المتخلفين: فهو وإن لم يكن قولا ولا فعلا ولا تقريرا، لكنه لا يكون ما يهم به إلا جائزا، ولا يجوز التحريق بالنار لمن ترك ما لم يفرض عليه: فالجواب عنه قد بسطه شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ".
قال في " الحجة البالغة ": لما كان في شهود الجماعة حرج للضعيف، والسقيم، وذي الحاجة: اقتضت الحكمة أن يرخص في تركها عند ذلك؛ ليتحقق العدل بين الإفراط والتفريط.
فمن أنواع الحرج؛ ليلة ذات برد ومطر، ويستحب عند ذلك قول المؤذن: ألا صلوا في الرحال (1) .
ومنها حاجة يعسر التربص بها كالعشاء إذا حضر؛ فإنه ربما يتشوف إليه، وربما يضيع الطعام.
وكمدافعة الأخبثين؛ فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة، مع ما به من اشتغال النفس.
ولا اختلاف بين حديث: " لا صلاة بحضرة الطعام "، وحديث: " لا تؤخر الصلاة لطعام ولا غيره " (2) ؛ إذ يمكن تنزيل كل واحد على صورة أو معنى، والمراد نفي وجوب الحضور؛ سدا لباب التعمق، وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أمن شر التعمق، وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين،
__________
(1) انظر كتابي " أحكام الشتاء في ضوء السنة المطهرة " (41 - 44) .
(2) رواه أبو داود (3758) بسند ضعيف؛ فانظر " المشكاة " (1071) .(1/326)
أو التأخير إذا كان تشوف إلى الطعام أو خوف ضياع، وعدمه - إذا لم يكن كذلك - مأخوذ من حال العلة.
ومنها ما إذا كانت خوف فتنة؛ كامرأة أصابت بخورا، ولا اختلاف بين قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها "، وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهن؛ إذ المنهي عنه الغيرة التي تنبعث من الأنفة دون خوف الفتنة، والجائز ما فيه خوف الفتنة، وذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الغيرة غيرتان ... " (1) الحديث، وحديث عائشة: أن النساء أحدثن ... الحديث.
ومنها الخوف والمرض، والأمر فيهما ظاهر، ومعنى قوله [صلى الله عليه وسلم] للأعمى: " أتسمع النداء؟ ... " الخ: أن سؤاله كان في العزيمة، فلم يرخص له.
( [ما القدر الذي تنعقد به صلاة الجماعة؟] :)
(وتنعقد باثنين) ، وليس في ذلك خلاف، وقد ثبت في " الصحيح " من حديث ابن عباس: أنه صلى بالليل مع النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وحده، وقام (2) عن يساره، فأداره إلى يمينه.
( [يزداد ثواب الجماعة بازدياد العدد] :)
(وإذا كثر الجمع كان الثواب أكثر) : لأنه قد ثبت عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " صلاة الرجل مع
__________
(1) رواه أبو داود (2659) وغيره، وهو حديث حسن، انظر " الإرواء " (1999) .
(2) في الأصل: " وقعد "، وهو خطأ؛ فإن الحديث في " الصحيحين " وغيرهما: فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه. (ش)(1/327)
الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، وصححه ابن السكن، والعقيلي، والحاكم.
( [تصح إمامة المفضول للفاضل] :)
(ويصح بعد (1) المفضول) : لأنه -[صلى الله عليه وسلم]- قد صلى بعد أبي بكر، وبعد غيره من الصحابة؛ كما في " الصحيح "، ولعدم وجود دليل يدل على أنه يكون الإمام أفضل، والأحاديث التي فيها: " لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه " (2) ، ونحوها: لا تقوم بها الحجة، وعلى فرض أنها تقوم بها الحجة؛ فليس فيها إلا المنع من إمامة من كان ذا جرأة في دينه، وليس فيها المنع من إمامة المفضول.
وقد عورض ذلك بأحاديث تتضمن الإرشاد إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر، وخلف من قال: لا إله إلا الله؛ وهي ضعيفة، وليست بأضعف مما عارضها {
__________
(1) استعمل المؤلف " بعد " بمعنى وراء، وتبعه الشارح، وهو استعمال لا نرى مانعا منه؛ فإن المأموم يتبع الإمام في أفعال الصلاة، ويفعلها بعده، ولكني لم أجد هذا الاستعمال في كتب اللغة ولا غيرها. (ش)
(2) قال الشوكاني في " النيل " (3 / 163) : " قد ثبت في كتب جماعة من أئمة أهل البيت؛ كأحمد ابن عيسى، والمؤيد بالله، وأبي طالب، وأحمد بن سليمان، والأمير الحسين وغيرهم، عن علي - عليه السلام - مرفوعا - ".
قلت: قوله: " ثبت " بمعنى: ورد} {فكان ماذا؟}
فأين صحته الإسنادية؟ !(1/328)
والأصل أن الصلاة عبادة تصح تأديتها خلف كل مصل، إذا قام بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة عن الصورة المجزئة، وإن كان الإمام غير متجنب للمعاصي، ولا متورع عن كثير مما يتورع عنه غيره، ولهذا إن الشارع إنما اعتبر حسن القراءة والعلم والسن، ولم يعتبر الورع والعدالة، فقال: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا " أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود.
وفي حديث مالك بن الحويرث: " وليؤمكما أكبركما "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وقد استخلف النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم، وهو أعمى.
والحاصل: أن الشارع اعتبر الأفضلية في القراءة، والعلم بالسنة، وقدم الهجرة، وعلو السن، فلا ينبغي للمفضول في مثل هذه الأمور أن يؤم الفاضل إلا بإذنه، ولا اعتبار بالفضل في غير ذلك.
( [الأولى أن يكون الإمام من الخيار] :)
(والأولى أن يكون الإمام من الخيار) : لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم "، رواه الدارقطني (1) .
__________
(1) حديث ضعيف؛ انظر " الضعيفة " (1822) .(1/329)
وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي، عنه [صلى الله عليه وسلم] : " إن سركم أن تقبل صلاتكم؛ فيؤمكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم " (1) .
قال في " منح المنة ": وكان [صلى الله عليه وسلم] يجيز إمامة الأرقاء، وكان سالم - مولى أبي حذيفة - يصلي بالمهاجرين الأولين لما نزلوا بقباء (2) لكونه أكثرهم قرآنا، وكان [صلى الله عليه وسلم] يقول: " صلوا خلف كل بر وفاجر " (3) ، وكانت الصحابة يصلون خلف الحجاج (4) ، وقد أحصي الذين قتلهم من الصحابة والتابعين، فبلغوا مئة ألف وعشرين ألفا. اه.
أقول: الأحاديث الواردة - في الصلاة خلف كل بر وفاجر، وما قابلها من الأحاديث المقتضية للمنع من الصلاة خلف الفاجر، ومن كان ذا جرأة -: لم يبلغ منها شيء إلى حد يجوز العمل عليه، فوجب الرجوع إلى الأصل.
وأما عدم اعتبار قيد العدالة: فلعدم ورود دليل يدل عليه.
وأما كون الصلاة خلف كامل العدالة، واسع العلم، كثير الورع؛ أفضل وأحب: فلا نزاع في ذلك؛ إنما النزاع في كون ذلك شرطا من شروط الجماعة، مع أنه قد ثبت ما يدل على عدم الاعتبار، مثل حديث: " يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فعلى أنفسهم " - أو كما قال -، وهو حديث صحيح.
__________
(1) انظر المرجع السابق (1823) .
(2) في " المصباح ": " موضع بقرب مدينة النبي [صلى الله عليه وسلم] من جهة الجنوب، نحو ميلين، وهو بضم القاف؛ يقصر ويمد، ويصرف ولا يصرف ". (ش)
(3) حديث ضعيف؛ رواه الدارقطني (2 / 57) ، وفي سنده متروك.
(4) انظر " شرح العقيدة الطحاوية " (479) لابن أبي العز الحنفي.(1/330)
والحاصل: أن الدين يسر، وقد جاءنا [صلى الله عليه وسلم] بالشريعة السمحة السهلة، ولم يأمرنا بالكشف عن الحقائق، وسن لنا أن نصلي بعد من كان بالنسبة إلى الواحد منا في الحضيض، باعتبار المزايا الموجبة للفضل، فإنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بعد أبي بكر، وعتاب بن أسيد (1) ، وهما بالنسبة إليه لا يعدان شيئا.
ولا ريب أن الذي ينبغي تقديمه لمثل هذه العبادة، ليكون وافد المؤتمين به إلى الله: هو من أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " يؤم القوم أقرأهم ... " إلى آخر الحديث.
إنما الشأن فيمن يلعب به الشيطان في الوسوسة المفضية إلى إساءة الظن بأئمة الصلاة المتبعين للسنة، فيوقع في قلبه العداوة لكل واحد منهم، بمجرد خيالات مختلة وضلالات مضلة، فيقول له: هذا العالم لا يصلح للإمامة لكونه كذا {وهذا الفاضل لا يصلح لها لكونه كذا} (2) ثم ينقله من درجة إلى درجة، ومن واحد إلى واحد، حتى لا يجد على ظهر البسيطة من يصلح لإمامة الصلاة {فهذا مخدوع؛ قد لعب به الشيطان كيف يشاء، حتى أحرمه (3) فضيلة الجماعة التي هي من أعظم شعائر الإسلام، وأجل أسباب الأجور، ومع هذا؛ فهو قد أوقعه في ورطة أخرى، وهي حمل جميع المسلمين على غير السلامة، فصار ظالما لكل واحد منهم مظلمة يستوفيها منه بين يدي الجبار.
__________
(1) انظر " الإصابة " (4 / 211) لابن حجر.
(2) ومن أشباه هؤلاء - اليوم - الطاعنون بعلمائنا، ومشايخنا وكبرائنا؛ ممن لا يساوون - بجنبهم - وزن ريشة} !
(3) حرمه الشيء - من باب ضرب -: منعه منه، ويتعدى لمفعولين.
قال في " المصباح ": " وأحرمته؛ لغة فيه ". (ش)(1/331)
وقد ينضم إلى هذه المصائب أن هذا الذي صار في يد الشيطان يلعب به كيف يشاء؛ قد يعتقد الفضل في نفسه، وأن الإمامة لم تكن تصلح إلا له، ولم يكن يصلح إلا لها، فيجتنب الجماعة ولا يقتدي بأحد من المسلمين، بل يجمع له جماعة يكون إمامهم، فهو أشقى ممن قبله؛ لأنه اعتقد أنه لم يبق في أرض الله من عباده الصلحاء سواه، فلا حياه الله ولا بياه!
( [الرجل يؤم النساء، لا العكس] :)
(ويؤم الرجل بالنساء، لا العكس) : لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما: أنه صف هو واليتيم وراء النبي [صلى الله عليه وسلم] ، والعجوز من ورائهم.
وقد أخرج الإسماعيلي (1) عن عائشة، أنها قالت: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا رجع من المسجد صلى بنا.
وقد كانت النساء يصلين خلفه [صلى الله عليه وسلم] في مسجده.
وليس في صلاة النساء خلف الرجل مع الرجال نزاع، وإنما الخلاف في صلاة الرجل بالنساء فقط، ومن زعم أن ذلك لا يصح؛ فعليه الدليل.
وأما عدم صحة إمامة المرأة بالرجل؛ فلأنها عورة، وناقصة عقل ودين، والرجال قوامون على النساء، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، كما ثبت في " الصحيح "، ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته.
__________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في " التلخيص " (2 / 38) ؛ وذكر أنه: " غريب ".
قلت: أي ضعيف.(1/332)
( [يؤم المفترض بالمتنفل، والعكس] :)
(والمفترض بالمتنفل، والعكس) : لحديث معاذ: أنه كان يؤم قومه بعد أن يصلي تلك الصلاة بعد النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وهذا دليل على جواز ذلك؛ لأنه كان متنفلا وهم مفترضون؛ لما في بعض الروايات من تصريح معاذ بأنه كان يصلي بقومه متنفلا، وهذه الزيادة المصرحة بالمطلوب - وإن كان فيها مقال معروف (1) - لكنها معتضدة بما عرف من حرص الصحابة على الأوفر أجرا، والأكمل ثوابا، ولا شك أن الصلاة خلفه [صلى الله عليه وسلم] أفضل وأكمل وأتم.
وأما الجواب عن حديث معاذ؛ بأنه حكاية فعل: فساقط لاستلزامه لبطلان قسم من أقسام السنة المطهرة، وهو قسم الأفعال الذي دارت عليه رحى بيانات القرآن، وجماهير من أحكام الشريعة.
مع أن هذا الاعتذار غير نافع ههنا؛ لأن الحجة هي تقريره [صلى الله عليه وسلم] لمعاذ ولقومه على ذلك، لا نفس فعل معاذ حتى يعتذر عنه بذلك!
وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة: فكلام صحيح، ولكن الحجة ليست فعل معاذ؛ بل تقريره [صلى الله عليه وسلم]- كما عرفت -.
وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى.
والحاصل: أن الأصل صحة الاقتداء من كل مصل بكل مصل، فمن
__________
(1) قارن ب " الفتح " (2 / 192) .(1/333)
زعم أن ثمّ مانعاً في بعض الصور؛ فعليه الدليل، فإن نهض به صح ما يقوله، وإن لم ينهض به بطل.
وأما صلاة المتنفل بعد المتنفل؛ فكما فعله [صلى الله عليه وسلم] في صلاة الليل، وصلى معه ابن عباس، وكذلك صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك، والكل ثابت في " الصحيح ".
( [تجب متابعة الإمام في غير مبطل] :)
(وتجب المتابعة في غير مبطل) : لحديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه " وهو ثابت في " الصحيح " من حديث أبي هريرة، وأنس، وجابر، وثابت خارج " الصحيح " عن جماعة من الصحابة.
وورد الوعيد على المخالفة، كحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أما يخشى أحدكم - إذا رفع رأسه قبل الإمام - أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يحول صورته صورة حمار؟ ! - "؛ أخرجه الجماعة.
ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته، نحو أن يتكلم الإمام، أو يفعل أفعالاً تخرجه عن صورة المصلي، ولا خلاف في ذلك.
قال في " المسوى ": هو كذلك عند الجمهور؛ أنه يجب اتباع الإمام في جميع الحالات، وقوله: " إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً " منسوخ (1) .
__________
(1) دعوى النسخ هنا لا دليل عليها أصلا؛ بل قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عائشة مرفوعا: " إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا "، وكان ذلك إذ قام وراءه قوم يصلون، وهو يصلي جالسا، فأشار إليهم؛ أن اجلسوا. =(1/334)
ومعنى: كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر - على الصحيح -: أنه كان
__________
= وفيهما عن أنس مرفوعا أيضا: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ... ، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون ".
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر: اشتكى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا، فرآنا قياما، فأشار إلينا، فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: " إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا: ائتموا بأئمتكم؛ إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا "؛ وهو معنى قد يكون متواترا في السنة.
وممن قال بصلاة المأموم قاعدا: جابر، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن قهد من الصحابة.
وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي، وابن المنذر، وداود، وابن أبي شيبة، والبخاري، ومحمد بن نصر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومن تبعهم من أهل الحديث.
وادعى مخالفوهم النسخ بصلاته [صلى الله عليه وسلم] في مرض موته بالناس قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما؛ رواه البخاري، ومسلم وغيرهما من حديث عائشة.
وهذا فعل محتمل أن يكون لبدئهم الصلاة قائمين خلف إمام صلى بهم قائما - وهو أبو بكر -، فلم يجز لهم أن يرجعوا إلى القعود، وقد انعقدت صلاتهم بالقيام.
ثم إن روايات الحديث مختلفة في أنه كان إماما، أو صلى خلف أبي بكر:
فقد روى ابن خزيمة في " صحيحه " عن عائشة، قالت: من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ومنهم من يقول: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] المقدم.
والروايات في هذا متضاربة، وهي تدل على أن عائشة سمعت بهذا من الصحابة، فاختلفوا عليها، ولم تشاهد بنفسها، فمرة تحزم، ومرة تشك
ولا يُترك المحكم الثابت بأشد تأكيد؛ بفعل غير متيقن صفته؛ والأمر بالجلوس منصوص على سببه؛ وهو النهي التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم، وهذا سبب لا يزول فرضه عن الناس، فقد جاء الإسلام قاضيا على هذه الرسوم التي أضعفت تلك الأمم.
وقد فعل الصحابة ذلك بعد رسول الله:
فصلى جابر وهو مريض جالسا، وصلوا معه جلوسا، كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
وكذلك أسيد بن حضير، وقيس بن قهد.
وأما حديث " لا يؤمّن أحد بعدي جالسا "؛ فإنه حديث ضعيف جدا}
ودعوى الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صحيح.
والحق أن الإمام إذا صلى جالسا لمرض؛ وجب على المقتدين الصلاة جلوسا، كما أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . (ش)
أقول: وانظر تعليق شيخنا على " مختصر صحيح البخاري " (1 / 177) .(1/335)
مسمعا لمن خلفه.
في " العالمكيرية ": إذا رفع المقتدي رأسه من الركوع والسجود قبل الإمام ينبغي أن يعود، ولا يصير ركوعين وسجودين.
قلت: عامة أهل العلم على أن هذا الفعل منهي عنه، وصلاته مجزئة، وأكثرهم يأمرونه بأن يعود إلى السجود.
( [لا يؤم رجل قوما يكرهونه] :)
(ولا يؤم الرجل قوما هم له كارهون) : لحديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من يقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً، ورجل اعتبد محررة "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه؛ وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وفيه ضعف (1) .
وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون "، وقد حسنه الترمذي، وضعفه البيهقي (2) .
قال النووي في " الخلاصة ": والأرجح قول الترمذي.
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا.
__________
(1) انظر " اللآلئ المصنوعة " (2 / 11) للسيوطي، والتعليق على " المشكاة " (1123) .
(2) والصواب ثبوته؛ فانظر التعليق على " المشكاة " (1122) .(1/336)
أقول: ظاهر الأحاديث الواردة في الترهيب عن ذلك؛ أنه لا فرق بين كون الكارهين من أهل الفضل أو من غيرهم، فيكون مجرد حصول الكراهة عذرا لمن كان يصلح للإمامة في تركها.
وغالب الكراهات الكائنة بين هذا النوع الإنساني - خصوصا في هذه الأزمنة - راجعة إلى أغراض دنيوية {
والراجع هنا إلى أغراض دينية أقل قليل، ومع كونه كذلك؛ فغالبه صادر عن اعتقادات فاسدة، وخيالات مختلفة، كما يقع بين المتخالفين في المذاهب، فإن العصبية الناشئة بينهم تعمي بصائرهم عن الصواب، فلا يقيم أحدهم للآخر وزنا، ولا ينظر إليه إلا بعين السخط لا بعين الرضا، فيرى محاسنه مساوئ كائنة ما كانت.
وقد تقع هذه العداوة بين أهل مذهب واحد؛ باعتبار الاختلاف في كون أحدهم من المشتغلين بالدين والعلم، والآخر من الجهلة المتهتكين.
وكثيرا ما ترى أرباب المعاصي إذا رأوا أرباب الدين والعلم تضيق بهم الأرض بطولها والعرض، ولا يطيقونهم بغضا (1) .
فإن كان ثَمّ دليل يدل على تخصيص الكراهة بما كان منها راجعاً إلى ما هو مختص بالله - عز وجل -، كمن يكره إنسانا لكونه مكبا على المعاصي، أو متهاونا بما أوجبه الله عليه: فهذه الكراهة هي الكبريت الأحمر} لا توجد حقيقتها إلا عند أفراد من العباد.
__________
(1) صدق المؤلف - والله -.(1/337)
وإن لم يوجد دليل يخصص الكراهة بذلك: فالأولى لمن عرف أن جماعة من الناس يكرهونه - لا لسبب، أو لسبب ديني -: أن لا يؤمهم؛ وأجره في الترك يفضل أجره في الفعل.
( [من أمّ فليخفف] :)
(ويصلي بهم صلاة أخفهم) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه؛ فليطول ما شاء ".
وفي الباب أحاديث صحيحة واردة في التخفيف.
قال في " الحجة ": وكان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يطول ويخفف على ما يرى من المصلحة الخاصة بالوقت، واختار بعض السور في بعض الصلوات لفوائد، من غير حتم ولا طلب مؤكد، فمن اتبع فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، وقصة معاذ في الإطالة مشهورة. انتهى حاصله.
وأما ارتفاع الإمام عن المأموم: فلا يضر؛ قدر القامة ولا فوقها، لا في المسجد ولا في غيره، من غير فرق بين الارتفاع والانخفاض، والبعد والحائل، ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة؛ فعليه الدليل.
ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة: أنه أم الناس بالمدائن على دكان ... الحديث؛ أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.(1/338)
وفي رواية للحاكم التصريح برفعه.
ورواه أبو داود من وجه آخر؛ وفيه: قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا أمّ الرجل القوم: فلا يقم أرفع من مقامهم - أو نحو ذلك - ... " الحديث، وفي إسناده الرجل المجهول.
ورواه البيهقي أيضا.
ففي هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه؛ لحديث صلاته [صلى الله عليه وسلم] على المنبر كما في " الصحيحين " وغيرهما.
ومن قال: إنه [صلى الله عليه وسلم] فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث: فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره.
ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي [صلى الله عليه وسلم] .
وقد جمع الماتن - رحمه الله تعالى - في هذا البحث رسالة مستقلة؛ جوابا عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها.
( [لا يؤم الرجل في سلطانه] :)
(ويقدم السلطان ورب المنزل) : لما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعاً: " لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه "، وفي لفظ: " لا يؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه ".
وورد تقييد جواز ذلك بالإذن.(1/339)
وفي لفظ لأبي داود " لا يُؤم الرجل في بيته ".
وأخرج أحمد وأبو داود: والترمذي، والنسائي عن مالك بن الحويرث، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من زار قوما فلا يؤمهم، ليؤمهم رجل منهم ".
( [الترتيب في الأحق بالإمامة] :)
(والأقرأ، ثم الأعلم، ثم الأسن) : لما في حديث أبي مسعود بلفظ: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله؛ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة؛ فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة؛ فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً "، وهو في " الصحيح ".
وإنما لم يذكر الهجرة في المتن؛ لأنه لا هجرة بعد الفتح، كما في الحديث الصحيح.
( [اختلال صلاة الإمام عليه فقط] :)
(وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه، لا على المؤتمين به) : لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " يصلون بكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم "، أخرجه البخاري وغيره.
وأخرج ابن ماجه من حديث سهل بن سعد نحوه.
( [بيان موقف المؤتمين] :)
(وموقفهم) ، أي: المؤتمين (خلفه) ؛ أي: خلف الإمام (إلا الواحد فعن(1/340)
يمينه) : لحديث جابر بن عبد الله: أنه صلى مع النبي [صلى الله عليه وسلم] فجعله عن يمينه، ثم جاء آخر، فقام عن يسار النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فأخذ بأيديهما، فدفعهما حتى أقامهما خلفه. وهو في " الصحيح ".
وقد كان هذا فعله وفعل أصحابه في الجماعة؛ يقف الواحد عن يمين الإمام، والإثنان فما زاد خلفه.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذلك.
وقال سعيد بن المسيب: إنه مندوب فقط.
وروي عن النخعي: أن الواحد يقف خلف الإمام.
( [إمامة النساء وسط الصف] :)
(وإمامة النساء وسط الصف) : لما روي من فعل عائشة: أنها أمّت النساء فقامت وسط الصف؛ أخرجه عبد الرزاق، والدارقطني، والبيهقي، وابن أبي شيبة، والحاكم (1) .
وروي مثل ذلك عن أم سلمة؛ أخرجه الشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والدارقطني.
__________
(1) • وابن سعد (8 / 355) ، عن سفيان، عن ميسرة، عن ريطة الحنفية، قالت: أمَّتنا عائشة في الصلاة، فقامت وسطنا، ثم روى (8 / 356) نحوه، عن عمار الدهني، عن حجيرة، عن أم سلمة. (ن) .
قلت: وانظر " تمام المنة " (ص 153 - 155) .(1/341)
قال ابن القيم: في " المسند " و " السنن " (1) من حديث عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة بنت الحارث: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها.
قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا.
ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله [صلى الله عليه وسلم] : " تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ": لكفى.
وأخرج البيهقي بسنده عن عائشة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " لا خير في جماعة النساء؛ إلا في صلاة أو جنازة " (2) .
والاعتماد على ما تقدم.
فرُدّت هذه السنن بالمتشابه من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "، رواه البخاري.
وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء.
وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة: فلا تدخل في هذا.
ومن العجب: أن من خالف هذه السنة جوّز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين {فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم، ولم تفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن؟} انتهى حاصله.
__________
(1) حديث حسن؛ انظر " إرواء الغليل " (2 / 255) .
(2) وهو حديث ضعيف؛ انظر " العلل المتناهية " (2 / 416) .(1/342)
( [بيان ترتيب المؤتمين] :)
(وتقدم صفوف الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء) : لحديث أبي مالك الأشعري: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يجعل الرجال قدّام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان. أخرجه أحمد.
وأخرج بعضه أبو داود؛ وفي إسناده شهر بن حوشب (1) .
ويؤيده ما في " الصحيحين " من حديث أنس: أنه قام هو واليتيم خلف النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ وأم سليم خلفهم.
(و) أما كون (الأحق بالصف الأول) هم (أولو الأحلام والنهى) : فلحديث أبي مسعود الأنصاري الثابت في " الصحيح " أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ".
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي (2) ، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يحب أن يليه المهاجرون والأنصار؛ ليأخذوا عنه.
قال في " الحجة ": ولئلا يشق على أولي الأحلام تقديم من دونهم عليهم. انتهى.
__________
(1) شهر من حوشب: ضعيف. (ش)
(2) " السلسلة الصحيحة " (1409) .(1/343)
( [على المؤتمين تسوية الصفوف] :)
(و) أما كون الأمر (على الجماعة أن يسووا صفوفهم وأن يسدوا الخلل) (1) : فلما رواه أبو داود (2) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وسِّطوا الإمام، وسدوا الخلل ".
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ".
وعنه أيضا في " الصحيحين ": كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر، فيقول: " تراصوا واعتدلوا ".
وثبت في " الصحيح " من حديث نعمان بن بشير، أنه قال -[صلى الله عليه وسلم]-: " عباد الله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم ".
قلت: وهو قول أهل العلم؛ أن تسوية الصفوف سنة.
( [إتمام الصف الأول، ثم الذي يليه] :)
(وأن يتموا الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم كذلك) : لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أمره -[صلى الله عليه وسلم]- بإتمام الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم كذلك.
__________
(1) الخلل - بفتحتين -: الفرجة بين الشيئين، والجمع خلال، مثل جبل وجبال؛ قاله في " المصباح ". (ش) .
(2) • أخرجه في الصفوف (ج 1 / ص 109) من طريق يحيى بن بشير بن خلاد، عن أمه، وهما مجهولان؛ كما قال ابن القطان - على ما في " فيض القدير " -؛ فالحديث غير صحيح. (ن)(1/344)
فالسنة أن لا يقف المؤتم في الصف الثاني؛ وفي الصف الأول سعة، ثم لا يقف في الصف الثالث؛ وفي الصف الثاني سعة، ثم كذلك.
وورد أيضا أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل.
وأما الاعتداد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعا: ففيه خلاف لجماعة من الأئمة، والحق عدم الاعتداد بها بمجرد إدراك ركوعها من دون قراءة الفاتحة (1) ، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليرجع إلى: " شرح المنتقى "، و " طيب النشر "، و " السيل الجرار " و " حاشية الشفاء "، و " الفتح الرباني "، و " دليل الطالب "، فالمسألة من المعارك.
وأما جعل ما أدركه مع الإمام: أول صلاته؛ فهذا هو الحق، فالهيئة المشروعة في الصلاة لا تتغير بتقديم أو تأخير؛ بل الأصل الأصيل البقاء على الصفة المشروعة، فيفعل الداخل مع الإمام - بعد أن فاته بعض الركعات - ما يفعله لو كان داخلا معه في الابتداء، أو كان منفرداً.
وحديث " فاقضوا " - وإن كان صحيحاً - فحديث " أتموا " أصح منه (2) .
__________
(1) كان الأولى بهذه المسألة أن تذكر عند الكلام على وجوب قراءة الفاتحة، انظر " نيل الأوطار " (2 / 240 - 243) .
والذي نراه: أن إدراك الركعة كاف: لحديث أبي هريرة مرفوعاً: " إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود؛ فاسجدوا ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة؛ فقد أدرك الصلاة "؛ رواه الحاكم في " المستدرك " (1 / 216 - 273) وصححه، ووافقه الذهبي. (ش)
قلت: وانظر " السلسلة الصحيحة (رقم 230) و (1188) ، و " الإرواء " (496) .
(2) انظر " الفتح " (2 / 118) .(1/345)
وقد أمكن الجمع؛ بحمل معنى القضاء على التمام؛ لأنه أحد معانيه (1) ، ولكن يترك المؤتم مخالفة إمامه في الأركان، فلا يقعد في موضع ليس بموضع قعود للإمام، وإن كان موضع قعود له، ولا يدع القعود في موضع قعود للإمام، وإن لم يكن موضع قعود له؛ لأن الاقتداء والمتابعة لازمان في صلاة الجماعة، وتركهما يخرج الصلاة عن كونها صلاة جماعة، وقد ورد الأمر بالمتابعة في الأركان بيانا لقوله: " لا تختلفوا على إمامكم "، ولم يرد الأمر بذلك في الأذكار.
__________
(1) بل إن الأصل في معنى القضاء هو الإتمام: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} . (ش)(1/346)
(8 - باب سجود السهو)
سنّ رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- فيما إذا قصّر الإنسان في صلاته؛ أن يسجد سجدتين تداركاً لما فرّط، ففيه شبه القضاء وشبه الكفارة، والمواضع التي ظهر فيها النص أربعة؛ وسيأتي.
قال في " سِفر السعادة ": " من جملة منن الحق - تعالى - ونعمه على الأمة المحمدية: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يسهو في الصلاة، لتقتدي الأمة به في التشريع، وإذ ذاك يقول: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني " وقال: " إنما أَنسى أو أُنسى لأسُنّ " (1) ؛ يعني: لأسُنّ ما شُرع في جبر ذلك ". انتهى.
( [ما هو سجود السهو؟] :)
(هو سجدتان قبل التسليم أو بعده) ، ووجه التخيير: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صح عنه أنه سجد قبل التسليم، وصح عنه أنه سجد بعده.
أما ما صح عنه مما يدل على أنه قبل التسليم: فحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا شك أحدكم، فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين! فليجعلها
__________
(1) حديث لا أصل له؛ فانظر " السلسلة الضعيفة " (رقم: 101) ، و " شرح الزرقاني على الموطإ " (1 / 205) .(1/347)
واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا {فليجعلها ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا} فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس - قبل أن يسلم - سجدتين ".
وفي الباب أحاديث: منها ما هو في " الصحيح "؛ كحديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا! فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ".
ومنها ما هو في غير " الصحيحين ".
وأما ما صح عنه مما يدل على أنه بعد التسليم: فكحديث ذي اليدين الثابت في " الصحيحين "؛ فإن فيه أنه -[صلى الله عليه وسلم]- سجد بعد ما سلم.
وحديث ابن مسعود وهو في " الصحيحين " وغيرهما مرفوعا بلفظ: " إذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين ".
وحديث المغيرة بن شعبة: أنه صلى بقوم، فترك التشهد الأوسط، فلما فرغ من صلاته، سلم ثم سجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع بنا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-. رواه أحمد والترمذي - وصححه -.
وحديث ابن مسعود الثابت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال:(1/348)
" لا؛ وما ذاك؟ ! " فقالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم.
فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم، وتارة بعده: تدل على أنه يجوز جميع ذلك.
ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه الشارع، فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم، ويسجد بعد التسليم فيما أرشد فيه إلى السجود بعد التسليم، وما عدا ذلك؛ فهو بالخيار، والكل سنة.
قال في " سفر السعادة ": وسجد للسهو قبل السلام في بعض المواضع، وبعده في بعضها، فجعله الإمام الشافعي في كل حال قبل السلام.
والإمام أبو حنيفة جعله بعد السلام في كل حال.
وقال الإمام مالك: يسجد لسهو النقصان قبل السلام، ولسهو الزيادة في الصلاة بعد السلام، وإن اجتمع سهوان، أحدهما زائد والآخر ناقص؛ يسجد لهما قبل السلام. "
وقال الإمام أحمد: يسجد قبل السلام في المحل الذي سجد فيه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قبل السلام، وما عداه يسجد للسهو بعد السلام.
وقال داود الظاهري: لا يسجد للسهو إلا في هذه المواطن الخمس التي سجد فيها رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-، ولو سها في غيرها(1/349)
لا يسجد للسهو، ولم يعرض له -[صلى الله عليه وسلم]- الشك في الصلاة، لكن قال: " من شك فليبن على اليقين "، ولم يعتبر الشك، ويسجد للسهو قبل السلام.
وقال الإمام أبو حنيفة: إن كان له ظن بنى علي غالب ظنه، وإن لم يكن له ظن بنى على اليقين.
وقال الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد: بنى على اليقين مطلقا. انتهى.
ولا يشك منصف أن الأحاديث الصحيحة مصرحة بأنه كان يسجد في بعض الصلوات قبل السلام، وفي بعضها بعد السلام، فالجزم بأن محلهما بعد السلام فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة، لا لموجب إلا لمجرد مخالفتها لما قاله فلان أو فلان! كما أن الجزم بأن محلهما قبل التسليم فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لمثل ذلك.
والمذاهب في المسألة منتشرة؛ قد بسطها الماتن في " شرح المنتقى ".
والحق عندي: أن الكل جائز وسنة ثابتة، والمصلي مخير بين أن يسجد قبل أن يسلم: أو بعد أن يسلم، وهذا فيما كان من السهو غير موافق للسهو الذي سجد له [صلى الله عليه وسلم] قبل السلام أو بعده.
وأما في السهو الذي سجد له [صلى الله عليه وسلم] : فينبغي الاقتداء به في ذلك، وإيقاع السجود في المواضع الذي أوقعه فيه -[صلى الله عليه وسلم]- مع الموافقة في السهو، وهي مواضع محصورة مشهورة، يعرفها من له اشتغال بعلم السنة المطهرة.(1/350)
( [بم يكون سجود السهو؟] :)
(و) أما كون سجود السهو (بإحرام وتشهد وتحليل) : فقد ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه كبّر وسلّم؛ كما في حديث ذي اليدين الثابت في " الصحيح "، وفي غيره من الأحاديث.
وأما التشهد: فلحديث عمران بن حصين: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- صلى بهم، فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم. أخرجه أبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين (1) .
وقد روي نحو ذلك من حديث المغيرة وابن مسعود وعائشة.
( [أسباب سجود السهو] :)
(1 -[لترك مسنون] :)
(و) أما كونه (يشرع لترك مسنون) : فلحديث سجوده -[صلى الله عليه وسلم]- لترك التشهد الأوسط، ولحديث: " لكل سهو سجدتان " (2) ،
__________
(1) في " المستدرك " (جزء 1 / 323) ، ووافقه الذهبي في " مختصره " على تصحيحه. (ش)
قلت: وفي " الإرواء " (403) ما يبين ضعفه وشذوذه.
(2) • أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن ثوبان. قال البيهقي في " المعرفة ": " انفرد به إسماعيل بن عياش؛ وليس بقوي "، وقال الذهبي: قال الأثرم: " هذا منسوخ ". وقال ابن عبد الهادي كابن الجوزي - بعدما عزياه لأحمد -: " إسماعيل بن عياش مقدوح فيه؛ فلا حجة فيه "، وقال ابن حجر: " في سنده اختلاف ". كذا في " الفيض "؛ ثم قال: " فرمز المؤلف لحسنه غير حسن ". (ن)
قلت: والصواب أن الحديث ثابت، وهو ما انتهى إليه شيخنا منذ سنوات؛ فانظر " الإرواء " (2 / 47) .(1/351)
والكلام فيه معروف.
ونحو ذلك إذا كان ذلك المسنون تركه المصلي سهوا؛ لأنه قد ثبت أن سجود السهو فيه ترغيم للشيطان، كما في حديث أبي سعيد الثابت في " الصحيح "، ولا يكون الترغيم إلا مع السهو؛ لأنه من قبل الشيطان.
وأما مع العمد: فهو من قبل المصلي، وقد فاته ثواب تلك السنة.
قلت: مذهب أبي حنيفة والشافعي: أن من سلم من ركعتين ساهيا أتم وسجد سجدتين، وهو في مذهب أبي حنيفة خاص بمن سلم على رأس الركعتين على ظن أنهما أربعة، فلو سلم على رأسهما على ظن أنهما جمعة أو على أنه مسافر؛ فإنه يستقبل الصلاة. كذا في " العالمكيرية " في فصل المفسدات.
واستخرج له الشافعي علة، وهي فعل شيء يبطل الصلاة، عمده دون سهوه.
أقول ما وقع من اصطلاح الفقهاء على تسميته هيئة؛ هو لا يخرج به عن كونه مندوبا، وتخصيص وجوب السجود للسهو بترك ما كان مسنونا دون ما كان مندوبا لا دليل عليه، ولا سيما وهذه الأسماء إنما هي اصطلاحات حادثة.
وإلا؛ فالمسنون والمندوب إليه معناهما - لغة - أعم من معناهما اصطلاحا، وأيضا الفرق بين المسنون والمندوب إنما هو اصطلاح لبعض أهل الأصول دون جمهورهم.
وغاية ما هناك: أن المسنون هو المندوب المؤكد، وصدق اسم السهو على(1/352)
ترك المندوب كصدقه على ترك المسنون، فيندرج تحت حديث: " لكل سهو سجدتان "، وتحقق الزيادة والنقص حاصل لكل واحد منهما، فمدعي التفرقة بينهما مطالب بالدليل (1) .
ولا ريب أن بعض ما عدوه من الهيئات لا يتحقق، مثل ترك نصب القدم، وترك وضع اليدين.
(2 -[لزيادة ركعة] :)
(و) أما كونه يشرع (للزيادة ولو ركعة سهوا) : فللحديث المتقدم، وما دون الركعة بالأولى.
قال في " المسوى ": " عند الحنفية: إن سها عن القعدة الآخرة وقام إلى الخامسة رجع إلى القعدة؛ ما لم يسجد، وتشهد ثم سجد للسهو، وإن قيد الخامسة بالسجدة بطل فرضه، ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم؛ عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة، وسلم وسجد للسهو، وإن قيدها بالسجدة تم فرضه؛ فيضم إليها ركعة أخرى لتكونا تطوعا، فإن لم يضم وقطع الصلاة لم يلزمه القضاء؛ لأنه إنما شرع ظنا.
وعند الشافعية: في أية حالة ذكر أنها خامسة؛ قعد وألغى الزائد، وراعى ترتيب الصلاة مما قبل الزائد، ثم سجد للسهو، وفي معنى الركعة عنده الركوع والسجود.
ويتجه على مذهب الحنفية أن يقال في حديث ابن مسعود: إنه حكاية
__________
(1) هذا هو الحق الذي لا محيد عنه.(1/353)
حال؛ فلعله قام بعد القعدة ولم يضم السادسة؛ لبيان أنه غير واجب ". انتهى.
(3 -[عند الشك في العدد] :)
(و) أما (للشك في العدد) : ففيه الأحاديث المتقدمة المصرحة بأن من شك في العدد بنى على اليقين وسجد للسهو.
قال في " الحجة البالغة ": " وهو الأول من المواضع الأربع التي ظهر فيها النص، وفي معناه الشك في الركوع والسجود.
والثاني: زيادة الركعة كما سبق، وفي معناه زيادة الركن.
والثالث: أنه [صلى الله عليه وسلم] سلم من ركعتين، فقيل له في ذلك؟ فصلى ما ترك وسجد سجدتين، وأيضا روي أنه سلم وقد بقي عليه ركعة بمثله، وفي معناه أن يفعل سهوا ما يبطل عمده.
الرابع: أنه [صلى الله عليه وسلم] قام من الركعتين - كما مر -، وفي معناه ترك التشهد في القعود، وقوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قام الإمام من الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس، وإن استوى قائما؛ فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو ".
أقول: في الحديث دليل على أن من كان قريب الاستواء؛ ربما يستوي؛ فإنه لا يجلس؛ خلافا لما عليه العامة " (1) . انتهى.
وفي " المسوى ": " اختلفوا في ذلك:
__________
(1) انظر " السلسلة الصحيحية " (321) .(1/354)
فعند الشافعية: إذا شك في صلاته بنى على اليقين؛ وهو الأقل؛ سواء كان شك في ركعة أو ركن.
وعند الحنفية: إن كان ذلك أول مرة سها؛ يستقبل الصلاة، وإن كان يعرض له كثيرا؛ بنى على أكبر رأيه؛ لحديث ابن مسعود: " إذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحر الصواب ".
وقال أحمد: يطرح الشك؛ إما بأخذ الأقل وإما بالتحري، فإن اختار الأول؛ سجد قبل السلام، وإن اختار الثاني؛ سجد بعده ". انتهى.
( [متابعة الإمام في سجود السهو] :)
(وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم) : لأن ذلك من تمام الصلاة، ولأنه كان يسجد الصحابة إذا سجد النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقد ورد الأمر بمتابعة الإمام كما سبق.(1/355)
(9 - باب القضاء للفوائت)
( [الاختلاف في قضاء الفوائت المتروكة] :)
(إن كان الترك عمدا - لا لعذر - فدين الله تعالى أحق أن يقضى) : وقد اختلف أهل العلم في قضاء الفوائت المتروكة لا لعذر: فذهب الجمهور إلى وجوب القضاء.
وذهب داود الظاهري وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا قضاء على العامد غير المعذور، بل قد باء بإثم ما تركه من الصلاة، وإليه ذهب شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية.
ولم يأت الجمهور بدليل يدل على ذلك، ولم أجد أنا دليلا لهم من كتاب ولا سنة؛ إلا ما ورد في حديث الخثعمية؛ حيث قال لها النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " فدين الله أحق أن يقضى "، وهو حديث صحيح، وفيه من العموم الذي يفيده المصدر المضاف ما يشمل هذا الباب؛ فهذا الدليل ليس بأيدي الموجبين سواه (1) .
وقد اختلف أهل الأصول: هل القضاء يكفي فيه دليل وجوب المقضي؟
__________
(1) وهو كاف تماما للدلالة على وجوب القضاء. (ش)
قلت: انظر لمناقشة هذا الدليل - وهو أقوى أدلة الموجبين -: كتاب " النصوص الشرعية الثابتة في قضاء الصلاة الفائتة " (ص 209 - 210) للشيخ محمد نسيب الرفاعي - رحمه الله -.(1/356)
أم لا بد من دليل جديد يدل على وجوب القضاء؟
والحق أنه لا بد من دليل جديد؛ لأن إيجاب القضاء هو تكليف مستقل غير تكليف الأداء، ومحل الخلاف هو الصلاة المتروكة لغير عذر عمدا.
وأقول: حكمه ما في الأحاديث الصحيحة: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فمن فعل ذلك؛ فقد عصم دمه وماله إلا بحقه "، ومن لم يفعل فلا عصمة لدمه وماله؛ بل نحن مأمورون بقتاله، كما أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، والمقاتلة تستلزم القتل، ثم التوبة مقبولة، فتارك الصلاة إن تاب وأناب؛ وجب علينا أن نخلي سبيله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فمن علمنا أنه ترك صلاة من الصلوات الخمس؛ وجب علينا أن نؤذنه بالتوبة، فإن فعل فذاك، وإن لم يفعل قتلناه؛ حكم الله {ومن أحسن من الله حكما} .
وأما إطلاق اسم الكفر عليه؛ فقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وتأويلها لم يوجبه الله علينا؛ ولا أذن لنا فيه (1) .
ومن غرائب بعض الفقهاء التردد في إطلاق اسم الفسق عليه، معللا ذلك بأن التفسيق لا يجوز إلا بدليل قطعي! مع أنه يرمي بالكفر من خالفه في أدنى معتقداته التي لم يأذن الله لنا باعتقادها، فضلا عن التكفير بها، والله المستعان.
وأما كيفية القضاء؛ فأقول: لا شك أن تقديم المقضية على المؤداة،
__________
(1) انظر رسالة " حكم تارك الصلاة " (ص 40 - 41) لشيخنا الألباني - حفظه الله تعالى -.(1/357)
وتقديم الأولى من المقضيات على الأخرى: هو الأولى والأحب، ولو لم يرد في ذلك إلا فعله [صلى الله عليه وسلم] في يوم الخندق؛ لكان فيه كفاية.
وإنما الشأن في كون ذلك متحتما لا يجوز غيره.
( [وجوب الإيمان بالصلاة المتروكة لعذر] )
(وإن كان) ؛ أي: الترك (لعذر) : من نوم، أو سهو، أو نسيان، أو اشتغال بملاحمة القتال مع عدم إمكان صلاة الخوف والمسايفة (فليس بقضاء) ، بل تجب تأدية تلك الصلاة المتروكة عند زوال العذر، وذلك وقتها، وفعلها فيه أداء، كما يفيد ذلك أحاديث: " من نام عن صلاة أو سها عنها؛ فوقتها حين يذكرها " (1) - وقد تقدمت في أول كتاب الصلاة -؛ وفي ذلك خلاف.
والحق أن ذلك هو وقت الأداء، لا وقت القضاء؛ للتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] أن وقت الصلاة المنسية، أو التي نام عنها المصلي؛ وقت الذكر.
وأما المتروكة لغير نوم وسهو، كمن يترك الصلاة لاشتغاله بالقتال - كما سبق -؛ فقد شغل النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر، وما صلوهما إلا بعد هوي (2) من الليل، كما أخرجه أحمد، والنسائي من حديث أبي سعيد.
وهو في " الصحيحين " من حديث جابر.
__________
(1) انظر " إرواء الغليل " (263) ؛ ففيه تخريج دقيق لألفاظه ورواياته.
(2) الهوي - بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء المثناة التحتية -: الحين الطويل من الزمان، أو الساعة الممتدة من الليل، وقيل: هو خاص بالليل.
وحكى فيه ابن سيده ضم الهاء أيضا. (ش)(1/358)
وليس فيه ذكر الظهر، بل العصر فقط، ولذلك قال الماتن:
(بل أداء في وقت زوال العذر، إلا صلاة العيد) المتروكة لعذر؛ وهو عدم العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد.
(ففي ثانيه) ؛ أي: تفعل في اليوم الثاني، ولا تفعل في يوم العيد بعد خروج الوقت، إذا حصل العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد؛ لحديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أنه غم عليهم الهلال، فأصبحوا صياما، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في " صحيحه "، وصححه ابن المنذر، وابن السكن، وابن حزم، والخطابي، وابن حجر في " بلوغ المرام " (1) .
أقول: وأما الكافر إذا أسلم: فلا يجب عليه القضاء على كل حال؛ لأن القائل بأنه غير مخاطب بالشرعيات ينفي عنه الوجوب حال الكفر، والقائل أنه مخاطب؛ يجعل الخطاب باعتبار الثواب والعقاب، لا باعتبار وجوب الأداء أو القضاء، فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف.
والظاهر أن المرتد حكمه حكم غيره من الكفار في عدم وجوب القضاء؛ لأن الدليل يصدق عليه كما يصدق على غيره من الكفار.
__________
(1) انظر " صحيح أبي داود " (1026)(1/359)
(10 - باب صلاة الجمعة)
( [الجمعة فريضة من فروض الأعيان] :)
(تجب على كل مكلف) : لأن الجمعة فريضة من فرائض الله - تعالى -، وقد صرح بذلك كتاب الله - عز وجل -، وما صح من السنة المطهرة، كحديث أنه [صلى الله عليه وسلم] هم بإحراق من يتخلف عنها (1) ، وهو في " الصحيح " من حديث ابن مسعود، وكحديث أبي هريرة: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين "؛ أخرجه مسلم وغيره.
ومن ذلك حديث حفصة مرفوعا: " رواح الجمعة واجب على كل محتلم "؛ أخرجه النسائي بإسناد صحيح.
وحديث طارق بن شهاب: " الجمعة حق واجب على كل مسلم "؛ أخرجه أبو داود وسيأتي.
وقد واظب عليها النبي [صلى الله عليه وسلم] من الوقت الذي شرعها الله - تعالى - فيه إلى أن قبضه الله - عز وجل -.
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين.
__________
(1) هذه رواية مسلم، وفي رواية للشيخين: " الجماعة "؛ عامة.
وانظر " صحيح الترغيب " (413) .(1/360)
وقال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع الأمة.
وقال ابن قدامة في " المغني ": أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، وإنما الخلاف: هل هي من فروض الأعيان؟ أو من فروض الكفايات؟
ومن نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب.
قال في " المسوى ": " اتفقت الأمة على فرضية الجمعة، وأكثرهم على أنها من فروض الأعيان، واتفقوا على أنه لا جمعة في العوالي، وأنه يشترط لها الجماعة، وأن الوالي إن حضر فهو الإمام، ثم اختلفوا في الوالي، وشرط الموضع، والجماعة.
قال الشافعي: كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا أحرارا مقيمين؛ تجب عليهم الجمعة، ولا تنعقد إلا بأربعين رجلا كذلك، والوالي ليس بشرط.
وقال أبو حنيفة: لا جمع إلا في مصر جامع أو في فنائه، وتنعقد بأربعة، والوالي شرط.
وقال مالك: إذا كان جماعة في قرية، بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه؛ وجبت عليهم الجمعة.
وفي " مختصر ابن الحاجب ": لا تجزيء الأربعة ونحوها، ولا بد من قوم تتقرى بهم القرية، ولا يشترط السلطان على الأصح.
قال في " العالمكيرية ": القروي إذا دخل المصر، ونوى أن يخرج في يومه ذلك قبل دخول الوقت، أو بعد دخوله؛ لا جمعة عليه " (1) . انتهى.
__________
(1) انظر تحرير هذا وتحقيقه في رسالة " الأجوبة النافعة " (ص 76 - 81) لشيخنا.(1/361)
( [لا تجب الجمعة على المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض] :)
(إلا المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض) : لحديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة؛ إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض " أخرجه أبو داود (1) من حديث طارق بن شهاب، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-
وقد أخرجه الحاكم من حديث طارق، عن أبي موسى.
قال الحافظ: وصححه غير واحد.
وفي حديث أبي هريرة وحديث جابر: ذكر المسافر.
وفي الحديثين مقال معروف.
والغالب أن المسافر لا يسمع النداء، وقد ورد أن الجمعة على من سمع النداء، كما في حديث ابن عمرو عند أبي داود (2) .
قال في " المسوى ": " واتفقوا على أنه لا جمعة على مريض، ولا مسافر، ولا امرأة، ولا عبد، وأنه إن صلاها منهم أحد سقط الفرض، وعلى أنه إن أم مريض أو مسافر جاز.
وفي " المنهاج ": وتصح خلف العبد، والصبي، والمسافر - في الأظهر -، إذا تم العدد بغيره.
__________
(1) " الإرواء " (592) ، وهو حديث صحيح.
(2) " الإرواء " (593) ، وهو حديث حسن.(1/362)
وفيه أيضا: ولا جمعة على معذور مرخص [له] في ترك الجماعة.
وفي " العالمكيرية ": " المطر الشديد والاختفاء من السلطان الظالم؛ مسقط ".
قال في " المنح ": " وكان -[صلى الله عليه وسلم]- يرخص في تركها وقت المطر، ولو لم يبتل أسفل النعلين (1) ، وكان يرخص في السفر يوم الجمعة لا سيما للجهاد ". انتهى.
( [الجمعة لا تخالف الصلوات إلا في مشروعية الخطبة قبلها] :)
(وهي كسائر الصلوات لا تخالفها) : لكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها في غير ذلك.
وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل: إنه يشترط في وجوبها الإمام الأعظم، والمصر الجامع، والعدد المخصوص! فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها؛ فضلا عن وجوبها؛ فضلا عن كونها شروطا، بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة؛ فقد فعلا ما يجب عليهما.
فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط (2) ، ولولا حديث طارق بن شهاب - المذكور قريبا - من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة، ومن عدم إقامتها في زمنه [صلى الله عليه وسلم] في غير جماعة: لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات.
__________
(1) انظر كتابي " أحكام الشتاء " (ص 99 - 102) .
(2) انظر " الأجوبة النافعة " (ص 91) - للمناقشة والترجيح -.(1/363)
وأما ما يروى من: " أربعة إلى الولاة ... ": فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة (1) ، ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة، حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله، وإنما هو من كلام الحسن البصري.
ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله - تعالى - عليهم في الأسبوع، وجعلها شعارا من شعائر الإسلام، وهي صلاة الجمعة؛ من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائغة، والاجتهادات الداحضة (2) : قضى من ذلك العجب.
فقائل يقول: الخطبة كركعتين، وإن من فاتته لم تصح جمعته؛ وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها من عضد بعض (3) ، أن " من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة؛ فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته "، ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة.
وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام {
وقائل يقول: بأربعة}
وقائل يقول: بسبعة {
وقال يقول: بتسعة}
وقائل يقول: باثني عشر!
__________
(1) " نصب الراية " (3 / 326)
(2) أي: الباطلة. (ش)
(3) انظر طرق الحديث وألفاظه من " إرواء الغليل " (622) ، وهو حديث صحيح.(1/364)
وقائل يقول: بعشرين {
وقائل يقول: بثلاثين}
وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين {
وقائل يقول: بخمسين}
وقائل يقول: لا تنعقد إلا بسبعين {
وقائل يقول: فيما بين ذلك}
وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد {
وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع}
وحدّه بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف {
وآخر قال أن يكون فيه جامع وحمام}
وآخر قال: أن يكون فيه كذا وكذا {
وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم، فإن لم يوجد، أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه؛ لم تجب الجمعة ولم تشرع.
ونحو هذه الأقوال، التي عليها أثارة من علم، ولا يوجد في كتاب الله - تعالى - ولا في سنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة الجمعة، أو فرضا من فرائضها، أو ركنا من أركانها.
فيا لله العجب} ما يفعل الرأي بأهله، ومن يخرج من رؤوسهم من(1/365)
الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم، وما يخبرونه في أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة، وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل؟ !
يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة، وكل متصف بصفة الإنصاف، وكل من ثبت قدمه، ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال.
ومن جاء بالغلط؛ فغلطه رد عليه مضروب به في وجهه، والحكم بين العباد هو كتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله -[صلى الله عليه وسلم]- كما قال - سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ، {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} .
فهذه الآيات ونحوها تدل أبلغ دلالة، وتفيد أعظم فائدة؛ أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله، وحكم الله هو كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله - تعالى - هو سنته؛ ليس غير ذلك، ولم يجعل الله - تعالى - لأحد من العباد - وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ، وجمع منه ما لا يجمع غيره -، أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، والمجتهد - وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل -؛ فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان.
وإني - كما علم الله - لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين، وتصديره في كتب الهداية، وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به، وهو على شفا جرف هار، ولم يختص هذا بمذهب من المذاهب، ولا بقطر من الأقطار، ولا(1/366)
بعصر من العصور، بل تبع فيه الآخر الأول كأنه أخذه من أم الكتاب، وهو حديث خرافة، وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإشارة إليها؛ بلا برهان، ولا قرآن، ولا شرع، ولا عقل! والبحث في هذا يطول جدا (1) .
قال الماتن - رحمه الله -: وقد جمعت فيه مصنفين؛ مطولا ومختصراً، ولله الحمد.
( [مشروعية الخطبتين] :)
(إلا في مشروعية الخطبتين قبلها) : لأن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- سنّ في الجمعة خطبتين يجلس بينهما، وما صلى بأصحابه جمعة من الجمع إلا وخطب فيها.
إنما دعوى الوجوب إن كانت بمجرد فعله المستمر: فهذا لا يناسب ما تقرر في الأصول، ولا يوافق تصرفات الفحول، وسائر أهل المذهب المنقول، وأما الأمر بالسعي إلى ذكر الله: فغايته أن السعي واجب، وإذا كان هذا الأمر مجملا فبيانه واجب، فما كان متضمنا لبيان نفس السعي إلى الذكر: يكون واجبا؛ فأين وجوب الخطبة (2) ؟
__________
(1) ما قاله الشارح هنا جيد، ولكن رأيه في جواز صلاة الجمعة من اثنين بدون خطبة لا نراه حقا؛ فإن وجوبها معلوم من الدين ضرورة، لم يخالف فيه أحد، ولم تذكر في القرآن إلا إجمالا، ولكن تواتر العمل بها وبصفتها من عصر النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى الآن، والأحاديث الصحيحة بينت هذه الصفة تفصيلا، فلم يصلها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مرة بدون خطبتين، وبغير جمع الحاضرين ممن يسعه حضورها، وهذه المواظبة الدقيقة لا يصح حملها إلا على أنها بيان لهذا الواجب، يلحق به في الوجوب. (ش)
(2) وجوب الخطبتين - كما قلنا - ظاهر، من المواظبة على الفعل الذي هو بيان لصفة هذه الصلاة الواجبة؛ وهذا ظاهر مطابق لقواعد الأصول، ودقائق الشريعة المطهرة. (ش)(1/367)
فإن قيل: إنه لما وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى؛ فيقال: ليس السعي لمجرد الخطبة، بل وإليها وإلى الصلاة، ومعظم ما وجب السعي لأجله هو الصلاة، فلا تتم هذه الأولوية.
وهذا النزاع في نفس الوجوب، وأما في كون الخطبة شرطا للصلاة؛ فعدم وجود دليل يدل عليه لا يخفى على عارف؛ فإن شأن الشرطية أن يؤثر عدمها في عدم المشروط، فهل من دليل يدل على أن عدم الخطبة يؤثر في عدم الصلاة؟ (1)
ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده -[صلى الله عليه وسلم]- من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت.
وأما اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسول الله، أو قراءة شيء من القرآن، فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته -[صلى الله عليه وسلم]- لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم.
ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ، دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه -[صلى الله عليه وسلم]-، وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول مقالا، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله.
وما أحسن هذا وأولاه! ولكن ليس هو المقصود؛ بل المقصود ما بعده،
__________
(1) هذه الصلاة وجبت بهذه الصفة التي واظب عليها رسول الله، فمن قصّر بها عما كان عليه العمل؛ فإنه لم يؤد ما وجب عليه، وهو واضح في الشرطية. (ش)(1/368)
ولو قال قائل: إن من قام في محفل من المحافل خطيباً ليس له باعث على ذلك؛ إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً، بل كل طبع سليم يمجه ويرده.
إذا تقرر هذا: عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب؛ فقد فعل الأمر المشروع؛ إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية: كان أتم وأحسن (1) .
( [وقت الجمعة وقت الظهر] :)
(ووقتها وقت الظهر) : لكونها بدلا عنه، وقد ورد ما يدل على أنها تجزئ قبل الزوال كما في حديث أنس: أنه كان -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي الجمعة، ثم يرجعون إلى القائلة يقيلون. وهو في " الصحيح ".
ومثله من حديث سهل بن سعد في " الصحيحين ".
وثبت في " الصحيح " من حديث جابر: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يصلي الجمعة، ثم يذهبون إلى جمالهم، فيريحونها حين تزول الشمس.
وهذا فيه التصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس.
وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل؛ وهو الحق.
__________
(1) هذا جيد جدا؛ وهو المعقول من شرع الخطبتين في الجمعة. (ش)(1/369)
وذهب الجمهور إلى أن أول وقتها أول وقت الظهر!
( [حكم تخطي رقاب الناس يوم الجمعة] :)
(وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس) ؛ إلا إذا كان إماماً، أو كان بين يديه فرجة لا يصلها إلا بتخط، كما نقله المحلي عن " الروضة "؛ لحديث عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة؛ والنبي [صلى الله عليه وسلم] يخطب، فقال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اجلس فقد آذيت "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره.
ولحديث أرقم بن أبي الأرقم المخزومي، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام؛ كالجارّ قُصبه (1) في النار "؛ أخرجه أحمد، والطبراني في " الكبير "، وفي إسناده مقال. (2)
وفي الباب أحاديث:
منها عن معاذ بن أنس عند الترمذي، وابن ماجه، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة؛ اتخذ جسرا إلى جهنم "، قال الترمذي: حديث غريب (3) ، والعمل عليه عند أهل العلم.
__________
(1) القصب - بضم القاف وإسكان الصاد المهملة -: اسم للأمعاء كلها، وجمعه أقصاب. (ش)
(2) قال ابن حجر في " الإصابة " (جزء 1: ص 26) : " قال الدارقطني في " الأفراد ": تفرد به هشام بن زياد، وقد ضعفوه ". (ش)
(3) وهو ضعيف: انظر التعليق على " المشكاة " (1392) .(1/370)
وفي " تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ": ومنها: تخطي رقاب الناس يوم الجمعة؛ كذا عده الشيخ شمس الدين ابن القيم من الكبائر، وقد صرح النووي وغيره بأنه حرام. انتهى.
قلت: وفي الباب عن عثمان وأنس - أيضا -.
( [الإنصات حال الخطبتين واجب] :)
(وأن ينصت حال الخطبتين) : لحديث أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت؛ والإمام يخطب؛ فقد لغوت "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث علي، قال: من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت؛ كان عليه كفل (1) من الوزر، ومن قال: صه؛ فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، ثم قال: هكذا سمعت نبيكم [صلى الله عليه وسلم] .
وفي إسناده مجهول.
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة.
أقول: وحاصل ما يستفاد من الأدلة: أن الكلام منهي عنه حال الخطبة نهيا عاما، وقد خصص هذا النهي بما يقع من الكلام في صلاة التحية؛ من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء، والأحاديث المخصصة لمثل ما ذكر صحيحة (2) ،
__________
(1) يعني: ضعفا؛ أي: يضاعف عليه الإثم. (ش)
(2) ليس هذا تخصيصا؛ بل هذا باب، وذاك باب؛ فإن النهي عن الكلام إنما هو نهي عن محادثة غيره، لئلا يلغو، وأما الذكر الذي في الصلاة؛ فهو شيء آخر. (ش)(1/371)
فلا محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي التحية، إن أراد القيام بهذه السنة المؤكدة، والوفاء بما دلت عليه الأدلة؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] أمر سُليكا الغطفاني - لما وصل إلى المسجد حال الخطبة، فقعد ولم يصل التحية - بأن يقوم فيصلي، فدل هذا على كون ذلك من المشروعات المؤكدة، بل من الواجبات، كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني في رسالة مستقلة، وبينت أنا في " دليل الطالب إلى أرجح المطالب " وجوب صلاة التحية.
ومن جملة مخصصات صلاة التحية حديث: " إذا جاء أحدكم والإمام يخطب؛ فليصل ركعتين "، وهو حديث صحيح متضمن للنص في محل النزاع.
وأما ما عدا صلاة التحية؛ من الأذكار، والأدعية، والمتابعة للخطيب في الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] : فلم يأت ما يدل على تخصيصها من ذلك العموم (1) .
والمتابعة في الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم]- وإن وردت بها أدلة قاضية بمشروعيتها -: فهي أعم من أحاديث منع الكلام حال الخطبة من وجه، وأخص منها من وجه؛ فيتعارض العمومان، وينظر في الراجح منهما، وهذا إذا كان اللغو المذكور في حديث: " ومن لغا فلا جمعة له " يشمل جميع أنواع الكلام (2) .
وأما إذا كان مختصا بنوع منه (3) - وهو ما لا فائدة فيه -: فليس فيه ما يدل على منع الذكر والدعاء والمتابعة في الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم] .
__________
(1) أي: هي داخلة في النهي عن أن تقال أو تذكر.
(2) هذا هو الصواب - إن شاء الله -، فقول المسلم لأخيه: صه؛ هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومع ذلك سماه [صلى الله عليه وسلم] : (لغواً) ؛ فكيف بغيره مما هو مثله أو دونه؟ !
(3) ولا دليل على التخصيص.(1/372)
وأما حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام يخطب؛ فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام ": فقد أخرجه الطبراني في " الكبير " عن ابن عمر، وفي سنده ضعف، كما قاله صاحب " مجمع الزوائد "، فلا تقوم به الحجة.
ولكنه قد روي ما يقويه:
فأخرج أبو يعلى، والبزار عن جابر (1) ، قال: قال سعد بن أبي وقاص لرجل: لا جمعة لك، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " لم يا سعد؟ ! "، فقال: لأنه تكلم وأنت تخطب، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " صدق سعد "؛ وفي إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف عند الجمهور.
وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة.
وقد ذكر العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " أحاديث تفيد معنى هذا الحديث؛ فليراجع.
ويقويها ما يقال: إن المراد باللغو المذكور في الحديث التلفظ، وإن كان أصله ما لا فائدة فيه؛ بقرينة أن قول من قال لصاحبه: أنصت؛ لا يعد من اللغو؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سماه النبي [صلى الله عليه وسلم] لغوا.
ويمكن أن يقال: إن ذلك الذي قال: أنصت؛ لم يؤمر في ذلك الوقت بأن يقول هذه المقالة؛ فكان كلامه لغوا حقيقة من هذه الحيثية.
__________
(1) وقد حسنه - لشواهده - شيخنا في " الصحيحة " (تحت حديث 2251) .(1/373)
( [يُندب التبكير للجمعة] :)
(ونُدب له التبكير) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح؛ فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية؛ فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة؛ فكأنما قرب كبشا أقرن (1) ، ومن راح في الساعة الرابعة؛ فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة؛ فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ".
وفي الباب أحاديث في مشروعية التبكير.
قال في " المسوى شرح الموطأ ": " الأصح أن هذه الساعات ساعات لطيفة بعد الزوال (2) ، لا الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار ". انتهى.
( [يُندب التطيب والتجمل للجمعة] :)
(والتطيب والتجمل) : لحديث أبي سعيد، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " على كل مسلم الغسل يوم الجمعة، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مس منه "؛ أخرجه أحمد وأبو داود.
وهو في " الصحيحين " بلفظ: " الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيبا إن وجد ".
وأخرج أحمد، والبخاري وغيرهما من حديث سلمان الفارسي، قال:
__________
(1) الأقرن: ذو القرون؛ وهو خير مما لا قرن له. (ش)
(2) لا دليل على هذا المعنى!(1/374)
قال النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدّهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يروح إلى المسجد، ولا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت للإمام إذا تكلم: إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى ".
وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة، حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له، ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يصلي: كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى "؛ ورجال إسناده ثقات (1) .
وفي الباب أحاديث.
( [يندب الدنو من الإمام] :)
(والدنو من الإمام) : لحديث سمرة عند أحمد، وأبي داود، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " احضروا الذكر، وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها " وفي إسناده انقطاع (2) .
وفي الباب أحاديث.
ومن جملة ما يشرع يوم الجمعة الغسل، وقد تقدم الكلام عليه في باب الغسل.
__________
(1) وإسناده حسن؛ كما قال شيخنا في تعليقه على " صحيح ابن خزيمة " (1775) .
(2) انظر تخريج الحديث وتصحيحه في " السلسلة الصحيحة " (365) لشيخنا.(1/375)
( [من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها] :)
(ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها) : لحديث: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة؛ فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته ".
فهذا - وإن كان فيه مقال - غايته الإعلال بالإرسال، فقد ثبت رفعه من طريق جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة؛ فإنه روي عنه من ثلاث عشرة طريقا، ومن ثلاث طرق (1) عن ابن عمر، وبعضها يؤيد بعضا، فهي لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره.
وقد أخرجه الحاكم من ثلاث طرق عن أبي هريرة، وقال فيها: " على شرط الشيخين ". (2)
فالعجب من أن يُؤْثر على هذا كله قول عمر بن الخطاب، ويدعم بتلك العصا التي لا يأخذها إلا الزمن، أو من ضاقت عليه المسالك، فيقال: ولم يرد خلافه عن أحد من الصحابة! والحال أن أول المخالفين له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ بعموم قوله وخصوصه.
والحاصل: أن الحديث له طرق كثيرة يصير بها حسنا لغيره، وقد قدمنا
__________
(1) سبق التنبيه على الأخطاء اللغوية في تراكيب الأعداد، فلا أعيد.
(2) رواه الحاكم في " المستدرك " (جزء 1: ص 291) من طريق الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بلفظ: " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة؛ فقد أدرك الصلاة ".
ومن طريق أسامة بن زيد الليثي، وصالح بن أبي الأخضر، عن الزهري ... بهذا الإسناد بلفظ: " من أدرك من الجمعة ركعة؛ فليصل إليها أخرى ".
وصححها كلها على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في " مختصره ". (ش)(1/376)
أنها كسائر الصلوات، وليست الخطبة شرطا من شروط الجمعة حتى يتوقف إدراك الصلاة على إدراك الخطبة، فمن زعم أن صلاة الجمعة تختص بحكم يخالف سائر الصلوات؛ فعليه الدليل.
وقد أوضح الماتن المقال في أبحاث مطولة وقعت مع بعض الأعلام، مشتملة على ما يحتاج إليه في هذا البحث؛ فليرجع إلى ذلك فهو مفيد جدا.
( [صلاة الجمعة يوم العيد رخصة] :)
(وهي في يوم العيد رخصة) : لحديث زيد بن أرقم، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى العيد في يوم جمعة، ثم رخص في الجمعة، فقال: " من شاء أن يجمع فليجمع "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم، وصححه علي بن المديني (1) .
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة؛ وإنا مجمعون " (2) ؛ وقد أعل بالإرسال، وفي إسناده أيضا بقية بن الوليد.
وفي الباب أحاديث عن ابن عباس، وابن الزبير وغيرهما.
__________
(1) وصححه الحاكم على شرط الشيخين (جزء 1: ص 288) ، ووافقه الذهبي. (ش)
(2) صححه الحاكم على شرط مسلم، وقال: " فإن بقية بن الوليد لم يختلف في صدقه إذا روى عن المشهورين "، ووافقه الذهبي.
وبقية بن الوليد ثقة؛ إلا أنه كثير التدليس، وقد صرح هنا بالتحديث، فقال: " ثنا شعبة ". (ش)
قلت: وانظر أحكام العيدين " (ص 217) للفريابي، وتعليق الأخ الشيخ مساعد الراشد عله.(1/377)
وظاهر أحاديث الترخيص يشمل من صلى العيد ومن لم يصل (1)
بل روى النسائي، وأبو داود أن ابن الزبير في أيام خلافته لم يصل بالناس الجمعة بعد صلاة العيد، فقال ابن عباس لما بلغه ذلك: أصاب السنة؛ وفي إسناده مقال (2) .
أقول: الظاهر أن الرخصة عامة للإمام وسائر الناس، كما يدل على ذلك ما ورد من الأدلة.
وأما قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ونحن مجمعون ": فغاية ما فيه أنه أخبرهم بأنه سيأخذ بالعزيمة، وأخذه بها لا يدل على أن لا رخصة في حقه، وحق من تقوم بهم الجمعة؛ وقد تركها ابن الزبير في أيام خلافته - كما تقدم -، ولم ينكر عليه الصحابة ذلك.
__________
(1) لا؛ ليس هذا هو الظاهر والله تعالى أعلم.
(2) وهو عنعنة ابن جريج؛ ولكنه صرح بالتحديث في رواية عبد الرزاق في " المصنف " (3 / 303) .(1/378)
(11 - باب صلاة العيدين)
( [صلاة العيدين سنة] :)
قد اختلف أهل العلم: هل صلاة العيد واجبة أم لا؟ والحق الوجوب؛ لأنه [صلى الله عليه وسلم] مع ملازمته لها قد أمرنا بالخروج إليها، كما في حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] للناس أن يغدوا إلى مصلاهم، بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال، وهو حديث صحيح.
وثبت في " الصحيح " من حديث أم عطية، قالت: أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن نُخرج في الفطر والأضحى العواتق (1) والحُيّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.
فالأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب (2) ، والرجال أولى من النساء بذلك؛ لأن الخروج وسيلة إليها، ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه، بل ثبت الأمر القرآني بصلاة العيد؛ كما ذكره أئمة التفسير في قوله - تعالى -: {فصل لربك وانحر} ؛ فإنهم قالوا: المراد صلاة العيد.
__________
(1) يعني: الشواب من النساء. (ش)
(2) هو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى، انظر " تقريب الوصول إلى علم الأصول " (ص 87) .(1/379)
ومن الأدلة على وجوبها: أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجباً.
( [صلاة العيد ركعتين] :)
(هي ركعتان) : يجهر فيهما بالقراءة، يقرأ عند إرادة التخفيف: {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك} ، وعند الإتمام: {ق} و {اقتربت الساعة} .
وعند الشافعي: تشرع صلاة العيد جماعة للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر، ولا يخطب المنفرد، ويخطب إمام المسافرين.
وعند أبي حنيفة: تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة الجمعة، ويشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة. كذا في " المسوى " وغيره.
( [التكبير في الركعة الأولى سبع، وفي الثانية خمس قبل القراءة] :)
(في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك) : لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كبّر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة؛ سبعا في الأولى وخمسا في الثانية؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه.
وقال أحمد: أنا أذهب إلى هذه.
قال العراقي: إسناده صالح.
ونقل الترمذي في " العلل " - المفردة - عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح.(1/380)
وفي رواية لأبي داود، والدارقطني: " التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخيرة، والقراءة بعدهما كلتيهما "؛ وإسناد الحديث صالح، وقد صححه البخاري.
وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كبّر في العيدين! في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة؛ وقد حسنه الترمذي، وأُنكر عليه تحسينه؛ لأن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده؛ وهو متروك.
قال النووي: لعله اعتضد بشواهد وغيرها. انتهى.
قال العراقي: إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري، فقد قال في كتاب " العلل " المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول. انتهى.
وقد أخرجه ابن ماجه بدون ذكر القراءة.
وأخرجه الدارقطني، وابن عدي، والبيهقي؛ وفي إسناده كثير بن عبد الله ابن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده.
قال الشافعي، وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب.
وقال ابن حبان: له نسخة موضوعة، عن أبيه، عن جده.
وأخرج ابن ماجه من حديث سعد القرظ (1) المؤذن: أن رسول الله
__________
(1) هو سعد بن عائذ - مولى عمار بن ياسر -؛ كان تاجرا في القرظ - بفتح القاف والراء -؛ وهو ثمر السنط، وجعله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مؤذنا بقباء، وتوارث بنوه الأذان إلى زمن مالك وبعده. (ش)(1/381)
-[صلى الله عليه وسلم]- كان يكبّر في العيدين؛ في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة.
قال العراقي: وإسناده ضعيف.
وفي الباب أحاديث تشهد لذلك، والجميع يصلح للاحتجاج به.
وفي المسألة عشرة مذاهب؛ هذا أرجحها (1) .
قال في " الحجة ": يكبر في الأولى سبعا قبل القراءة، والثانية خمسا قبل القراءة ".
وعمل الكوفيين؛ أن يكبر أربعا كتكبير الجنائز في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها، وهما سنتان وعمل الحرمين أرجح ". انتهى.
أقول: الذي دلت عليه الأدلة؛ أن يكون التكبير مقدما على القراءة في الركعتين، كما ثبت ذلك من فعله -[صلى الله عليه وسلم]- في حديث عمرو بن عوف المزني المتقدم (2) ، ولم يأت من قال بمشروعية تقديم القراءة في الركعتين، أو تأخيرها في الأولى وتقديمها في الثانية بحجة قط.
ثم اعلم أن الحافظ قال في " التلخيص ": قوله: ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة؛ روي مثل ذلك عن ابن مسعود قولا وفعلا.
قلت: رواه الطبراني والبيهقي موقوفاً؛ وسنده قوي، وفيه عن حذيفة.
__________
(1) انظر " المجموع " (5 / 19) للنووي.
(2) سبق أنه حديث ضعيف جدا. (ش)(1/382)
وأبي موسى مثله، وعن عمر أنه كان يرفع يديه في التكبيرات؛ رواه البيهقي؛ وفيه ابن لهيعة.
واحتج ابن المنذر والبيهقي بحديث روياه من طريق بقية (1) ، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه في الرفع عند الإحرام والركوع والرفع منه، وفي آخره: يرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع ". انتهى
قال في " شرح المنتقى ": " والظاهر عدم وجوب التكبير - كما ذهب إليه الجمهور -؛ لعدم وجدان دليل يدل عليه ". انتهى.
والحاصل: أنه سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا.
قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافا.
قالوا: وإن تركه لا يسجد للسهو.
وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه يسجد للسهو.
والحق الأول.
( [الخطبة بعد صلاة العيد] :)
(ويخطب بعدها) ؛ يأمر بتقوى الله - تعالى - ويُذكِّر ويعظ، لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يخرج يوم
__________
(1) الحديث صحيح؛ ولكنه مسوق في الصلاة العادية، لا في صلاة العيد! فانظر - لزاماً - " الأرواء " (64) ، و " تمام المنة " (ص 348) .(1/383)
الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس؛ والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثا (1) أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف ".
وفي الباب من حديث جابر عند مسلم وغيره.
وأول من خطب قبل الصلاة في العيد، مروان، وأنكر عليه ذلك.
وأخرج النسائي، وابن ماجة، وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب، قال: شهدت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] العيد فلما قضى الصلاة قال: " إنا نريد أن نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب " (2) .
( [التجمل بالثياب في العيد مستحب] :)
(ويستحب) في العيد (التجمل) بالثياب، فقد ثبت في " الصحيحين ": أن عمر وجد حلة في السوق من إستبرق (3) تباع، فأخذها، فأتى بها النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: يا رسول الله! ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد، فقال: " إنما هذه لباس من لا خلاق (4) له ".
__________
(1) يعني: يرسل جيشا إلى غزو أو غيره. (ش)
(2) في " نيل الأوطار ": " قال أبو داود: هو مرسل، وقال النسائي: هذا خطأ، والصواب أنه مرسل ". (ش)
قلت: انظر تصحيحه - والأدلة عليه - في " الإرواء " (3 / 96 - 98) .
(3) هو ما غلظ من الديباج والحرير. (ش)
(4) الخلاق: النصيب. (ش)(1/384)
وأخرج الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يلبس برد حبرة (1) في كل عيد.
وشيخ الشافعي ضعيف، ولكنه قد تابعه سعيد بن الصلت، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس ... بمثله. أخرجه الطبراني (2) .
وأخرج ابن خزيمة (3) عن جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يلبس البرد الأحمر في العيدين وفي الجمعة.
( [السنة صلاة العيدين في المصلى] :)
(والخروج إلى خارج البلد) : لمواظبته [صلى الله عليه وسلم] على ذلك (4) ، وصلى بهم [صلى الله عليه وسلم] صلاة العيد في المسجد لمطر وقع؛ كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم؛ وفي إسناده مجهول.
( [يستحب مخالفة الطريق] :)
(ومخالفة الطريق) : لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا كان يوم العيد خالف الطريق (5) .
__________
(1) بوزن عنبة: نوع من برود اليمن. (ش)
(2) انظر " مجمع الزوائد " (2 / 198) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 81) .
(3) (برقم 1766) ، وفي سنده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف.
(4) ولشيخنا الألباني رسالة خاصة في هذه المسألة.
(5) هذا حديث جابر.
وأما حديث أبي هريرة: فقد رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، ولفظه: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج منه. (ش)(1/385)
وأخرج أبو داود، وابن ماجة نحوه من حديث ابن عمر.
وفي الباب أحاديث غير ما ذكر.
( [يستحب الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى] :)
(والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى) : لما ثبت في " الصحيح " من حديث أنس، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا.
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث بريدة، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع.
زاد أحمد: فيأكل من أضحيته.
وفي الباب أحاديث.
( [بيان أول وقت صلاة العيدين] :)
(ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال) : لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء في " كتاب الأضاحي " (1) من حديث جندب، قال: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي بنا يوم الفطر؛ والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح ".
__________
(1) وفي إسناده معلى بن هلال؛ وهو كذاب.
كذا في " التلخيص الحبير " (2 / 83) ، و " إتحاف السادة المتقين " (3 / 392) للزبيدي.(1/386)
وأخرج أبو داود، وابن ماجة (1) من حديث عبد الله بن بسر - صاحب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا فرغنا ساعتنا هذه؛ وذلك حين التسبيح - أي: حين وقت صلاة العيد -.
وأخرج الشافعي - مرسلا -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران، أن عجل الأضحى وأخر الفطر.
وفي إسناده إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي؛ وهو ضعيف.
وقد وقع الإجماع على ما أفادته الأحاديث؛ وإن كانت لا تقوم بمثلها الحجة (2) .
( [بيان آخر وقت صلاة العيدين] :)
وأما آخر وقت صلاة العيدين: فزوال الشمس.
وإذا كان الغدو من بعد طلوع الشمس إلى الزوال - كما قال بعض أهل العلم -: فحديث أمره [صلى الله عليه وسلم] للركب أن يغدوا إلى مصلاهم يدل على ذلك.
قال في " البحر ": وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال.
ولا أعرف فيه خلافا.
__________
(1) وهو حديث صحيح.
(2) انظر " الموعظة الحسنة " (43 - 44) للمؤلف، و " زاد المعاد " (1 / 442) ، و " الفتح " (2 / 457) .(1/387)
( [لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين] :)
(ولا أذان فيها ولا إقامة) : لما ثبت في " الصحيح " من حديث جابر بن سمرة قال: صليت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] غير مرة ولا مرتين بغير أذن ولا إقامة.
وثبت في " الصحيحين " عن ابن عباس، أنه قال: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.
وفي الباب أحاديث.
وأما تكبير أيام التشريق: فلا شك في مشروعية مطلق التكبير في الأيام المذكورة، ولم يثبت تعيين لفظ مخصوص، ولا وقت مخصوص، ولا عدد مخصوص، بل المشروع الاستكثار منه دبر الصلوات وسائر الأوقات.
فما جرت عليه عادة الناس اليوم - استنادا إلى بعض الكتب الفقهية - من جعله عقب كل صلاة فريضة ثلاث مرات، وعقب كل صلاة نافلة مرة واحدة، وقصر المشروعية على ذلك فحسب! ليس عليه أثارة من علم فيما أعلم، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة؛ أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى.
وأما صفة التكبير: فأصح ما ورد فيه؛ ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان، قال: كبروا، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا.
قال في " شرح المنتقى " - نقلا عن " الفتح " -: وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك؛ لا أصل لها. انتهى.(1/388)
قال الشوكاني: " والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام؛ كما تدل على ذلك الآثار (1) " انتهى.
__________
(1) وفي رسالتي " أحكام العيدين في السنة المطهرة " بيان واسع فيما يتعلق بذلك وغيره.(1/389)
(12 - باب صلاة الخوف)
(وقد صلاها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على صفات مختلفة) ؛ قيل: على ستة عشر، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: أقل من ذلك.
وقد صح منها أنواع:
(1 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعتين بسلام] :)
فمنها: أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بكل طائفة ركعتين، فكان للنبي [صلى الله عليه وسلم] أربع، وللقوم ركعتان.
وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث جابر.
(2 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة] :)
ومنها: أنه صلى بكل طائفة ركعة؛ فكان له ركعتان، وللقوم ركعة.
وهذه الصفة أخرجها النسائي بإسناد رجاله ثقات.
(3 -[اشتراك الطائفتين مع الإمام، وتقدم الثانية، وتأخر الأولى، والسلام جميعا] :)
ومنها: أنه صلى بهم جميعا، فكبر وكبروا، وركع وركعوا، ورفع(1/390)
ورفعوا، ثم سجد وسجد معه الصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي [صلى الله عليه وسلم] السجود والصف الذي يليه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، وفعلوا كالركعة الأولى، ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدما، والمقدم مؤخرا، ثم سلم النبي [صلى الله عليه وسلم] وسلموا جميعا.
وهذه الصفة ثابتة في " صحيح مسلم " وغيره من حديث جابر، ومن حديث أبي عياش الزرقي عند أحمد، وأبي داود، والنسائي.
(4 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة، وقضاء كل طائفة ركعة] :)
ومنها: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- صلى بإحدى الطائفتين ركعة؛ والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ركعة، ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة.
وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث ابن عمر.
(5 -[اشتراك الطائفتين مع الإمام في القيام والسلام] :)
ومنها: أنها قامت مع النبي -[صلى الله عليه وسلم]- طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى القبلة، فكبر فكبروا جميعا: الذين معه والذين مقابل العدو، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه، ثم سجد، فسجدت التي تليه؛ والآخرون قيام مقابل العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت(1/391)
مقابل العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا؛ ورسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قاعد ومن معه، ثم كان السلام؛ فسلم وسلموا جميعا، فكان لرسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- ركعتان، وللقوم لكل طائفة ركعتان.
وهذه الصفة أخرجها أحمد، والنسائي، وأبو داود.
(6 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة، وانتظاره لقضاء كل طائفة ركعة] :)
ومنها: أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بطائفة ركعة، وطائفة وجاه العدو، ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، فأتموا لأنفسهم فسلم بهم.
وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث سهل بن أبي حثمة.
وإنما اختلفت صلاته [صلى الله عليه وسلم] في الخوف؛ لأنه كان في كل موطن يتحرى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.
(وكلها مجزئة) : لأنها وردت على أنحاء كثيرة، وكل نحو روي عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فهو جائز، يفعل الإنسان ما هو أخف عليه، وأوفق بالمصلحة حالتئذ؛ كذا في " الحجة ".
أقول: من زعم من أهل العلم أن المشروع من صلاة الخوف ليس إلا صفة من الصفات الثابتة دون ما عداها: فقد أهدر شريعة ثابتة، وأبطل سنة(1/392)
قائمة بلا حجة نيرة، وغالب ما يدعو إلى ذلك ويوقع فيه: قصور الباع، وعدم الاعتناء بكتب السنة المطهرة.
فالحق الحقيق بالقبول: جواز جميع ما ثبت من الصفات.
وقد ذكر هنا صاحب " المنتقى " أنواعا هي حاصل ما ذكره المحدثون مما بلغ إلى رتبة الصحيح، وثم صفات أخر ليست ببالغة إلى تلك الرتبة.
فإن قلت: ما الحكمة في وقوع هذه الصلاة على أنواع مختلفة؟
قلت: أمران:
الأول: اقتضاء الحادثة لذلك، والمقتضيات مختلفة؛ ففي بعض المواطن تكون بعض الصفات أنسب من بعض؛ لما يكون فيها من أخذ الحذر، والعمل بالحزم ما يناسب الخوف العارض، فقد يكون الخوف في بعض المواطن شديدا والعدو متصلا أو قريبا، وفي بعض المواطن قد يكون الخوف خفيفا والعدو بعيدا، فتكون هذه الصفة أولى بهذا الموطن، وهذه أولى بهذا الموطن.
الأمر الثاني: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- فعلها متنوعة إلى تلك الأنواع لقصد التشريع وإرادة البيان للناس.
وأما صلاة المغرب: فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر.
ووقع الخلاف: هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين، والثانية ركعة أو العكس؟(1/393)
ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-.
وقد روي (1) أن عليا - رضي الله تعالى عنه - صلاها ليلة الهرير (2) .
واختلفت الرواية في حكاية فعله كما اختلفت الأقوال؛ والظاهر أن الكل جائز، وإن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات، فهو: صواب؛ قياسا على فعله في غيرها، وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض؛ كما سبق.
( [الصلاة في شدة الخوف وما يباح فيها من كلام وإيماء] :)
(وإذا اشتد الخوف والتحم القتال صلاها الراجل والراكب - ولو إلى غير القبلة - ولو بالإيماء -) ؛ ويقال لصلاة الخوف عند التحام القتال: صلاة المسايف.
أخرج البخاري عن ابن عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ: فإن كان خوف أشد من ذلك: صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] .
__________
(1) • رواها البيهقي (3 / 252) معلقا، فقال: " ويذكر عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا - رضي الله عنه - صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير. (ن)
(2) • بفتح الهاء؛ قال النووي في " تهذيب الأسماء " (2 / 181) : " وهي حرب جرت بينه وبين الخوارج، وكان بعضهم يهر على بعض؛ فسميت بذلك، وقيل: هي ليلة صفين بين علي ومعاوية - رضي الله تعالى عنهما - ". (ن)
قلت: وانظر " القاموس المحيط " (ص 640) .(1/394)
وهو في " مسلم " من قول ابن عمر؛ بنحو ذلك.
وقد رواه ابن ماجة عن ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] وصف صلاة الخوف وقال: " فإن كان خوف أشد من ذلك: فرجالا وركبانا ".
وأخرج أحمد، وأبو داود - بإسناد حسن (1) - عن عبد الله بن أنيس، قال: بعثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: " اذهب فاقتله "، قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي، أوميء إيماء نحوه، فلما دنوت منه ... الحديث.
ومن البعيد؛ أن لا يخبر النبي [صلى الله عليه وسلم] بذلك، ولو أنكره لذكر ذلك.
__________
(1) بل هو ضعيف؛ فانظر " الإرواء " (589) .(1/395)
(13 - باب صلاة السفر)
( [وجوب القصر في السفر] :)
(يجب القصر) : لحديث عائشة الثابت في " الصحيح "، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال (1) : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين؛ فزيدت في الحضر، وأقرت في السفر ".
فهذا يشعر بأن صلاة السفر باقية على الأصل، فمن أتم؛ فكأنه صلى في الحضر الثنائية أربعا، والرباعية ثمانيا عمدا.
وثبت أيضا في " الصحيح " أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته ".
وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] يقتصر في جميع أسفاره على القصر.
قلت: اتفقت الأمة على جواز القصر في السفر.
واختلف المفسرون في قوله - تعالى -: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح} : أنزلت في السفر؛ وقيد الخوف اتفاقي؟ أو في الخوف وقيد السفر اتفاقي؟ والمراد في القصر؛ الإيماء في الركوع والسجود؟
__________
(1) هذا خطأ فاحش؛ فإن الحديث المذكور إنما هو من قول عائشة غير مرفوع، وهي تحكي كيف فرضت الصلاة. (ش)(1/396)
فذهب إلى الأول جماعات من المفسرين.
وإلى الثاني يشير قول ابن عمر، ويدل عليه بناء قوله - تعالى -: {وإذا كنت فيهم} على آية القصر من غير ذكر الخوف ثانيا.
ثم مذهب الأكثرين أن القصر واجب.
وقال الشافعي: " إن شاء أتم، وإن شاء قصر؛ والقصر أفضل ". كذا في " المسوى ".
أقول: الحق وجوب القصر، والأحاديث مصرحة بما يقتضي ذلك، وأما ما يروى عن عائشة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يقصر في الصلاة ويتم، ويفطر ويصوم: فلم يثبت؛ كما صرح به جماعة من الحفاظ (1) .
وكذلك ما روي عنها: أنها فعلت ذلك ولم ينكر عليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة بما تسقط به حجيته (2) .
وكذلك ما روي من أن عثمان أتم الصلاة بمنى! فلا حجة في ذلك، وقد صح إنكار بعض الصحابة عليه، واعتذاره عن ذلك؛ فلم يبق في المقام ما يوجب التردد.
والظاهر من الأدلة في القصر والإفطار: عدم الفرق بين من سفره في
__________
(1) المطلع على إسناد الحديث وما قيل فيه؛ لا يجد مناصا من القول بأنه حديث حسن صالح للاحتجاج، إن لم يكن صحيحا.
انظر " نيل الأوطار " (جزء 3: ص 248 - 250) . (ش)
قلت: رواه الدارقطني (2 / 189) ، وأعله الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام " (ص 85 - 86) .
(2) انظر " زاد المعاد " (1 / 473) .(1/397)
طاعة، ومن سفره في معصية، لا سيما القصر؛ لأن صلاة المسافر شرعها الله كذلك، فكما أن الله شرع للمقيم صلاة التمام - من غير فرق بين من كان مطيعا ومن كان عاصيا بلا خلاف -: كذلك شرع للمسافر ركعتين من غير فرق.
وأدلة القصر متناولة للعاصي تناولا زائدا على تناول أدلة الإفطار له؛ لأن القصر عزيمة، وهي لم تشرع للمطيع دون العاصي، بل مشروعة لهما جميعا، بخلاف الإفطار؛ فإنه رخصة للمسافر، والرخصة تكون لهذا دون هذا في الأصل، وإن كانت هنا عامة، وإنما المراد بطلان القياس، والركعتان في السفر تمام غير قصر.
ومعناه عند الحنفية: أنه لا يكون فرض المسافر غير ركعتين، وإن صلى أربعا ولم يقعد للتشهد بطلت صلاته، وإن قعد أتمها أربعا والأخريان نفل.
وعند الشافعية: أن المسافر إذا قصر في السفر؛ فليس عليه ما تركه إذا صار مقيما بخلاف الصوم، فإنه يعيد ما أفطر إذا صار مقيما.
( [وجوب القصر لمن خرج من بلده قاصدا للسفر دون بريد] :)
وإيجاب القصر (على من خرج من بلده قاصدا للسفر وإن كان دون بريد) (1) وجهه أن الله - تعالى - قال: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
__________
(1) • قال في " النهاية ": و " البريد ": كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل، وأصلها: " بريده دم " أي: محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، كالعلامة لها، فأعربت، وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السكتين " بريدا "، والسكة؛ موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت، أو قبة، أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان - وقيل: أربعة - ".
والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع ".
وفي " المنجد ": أن الفرسخ ثمانية كيلو مترات تقريبا. (ن)(1/398)
جناح أن تقصروا من الصلاة} ، والضرب في الأرض يصدق على كل ضرب، لكنه خرج الضرب - أي: المشي - لغير السفر؛ لما كان يقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر.
ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا، ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل يعد في مسيره إليه مسافرا: قصر الصلاة، وإن كان ذلك المحل دون البريد.
ولم يأت من اعتبر البريد، واليوم، واليومين، والثلاثة، وما زاد على ذلك بحجة نيرة، وغاية ما جاءوا به حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم "، وفي رواية: " يوما وليلة "، وفي رواية: " بريدا " (1) ، وليس في هذا الحديث ذكر القصر، ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين (2) .
وأحسن ما ورد في التقدير: ما رواه شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال - أو ثلاثة فراسخ -: صلى ركعتين - والشك من شعبة -. أخرجه مسلم وغيره.
فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون
__________
(1) هي عند أبي داود، ولكنها شاذة؛ فانظر " ضعيف سنن أبي داود " (379) .
(2) • ولذلك قال ابن التركماني في " الجوهر النقي " (3 / 138) - وهو حنفي المذهب -: " ففي الاستدلال بهذا الحديث نظر، والذي استدل به أهل المذهب هو قوله - عليه السلام -: " يمسح المسافر ثلاثة أيام "؛ سيق لبيان الرخصة للمسافر، فيعم جميع المسافرين، فلو ثبت السفر في أقل من ثلاثة أيام؛ لم يعم الرخصة للجميع ". (ن)(1/399)
محرم: هو كونه [صلى الله عليه وسلم] سمى ذلك سفرا.
قلت: تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا، فقد سمى النبي [صلى الله عليه وسلم] مسافة الثلاث سفرا، كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث؛ باعتبار اختلاف الرواية، وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا.
فإن قلت: أخرج الدارقطني، والبيهقي، والطبراني من حديث ابن عباس أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان " (1) .
قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة؛ فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر؛ وهو متروك.
(2)
قال الماتن: وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي.
وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام.
وفي " العالمكيرية ": الصحيح أنه لا يشترط سير كل اليوم إلى الليل، فلو بكر في كل يوم ومشى إلى الزوال ثم نزل؛ يصير مسافرا.
وقال الشافعي: أربعة برد.
وقال مالك: وذلك أحب ما سمعت يقصر فيه الصلاة إلي، وتفسيرها ستة عشر فرسخا.
__________
(1) بضم العين وإسكان السين المهملتين: على مرحلتين من مكة. (ش)
(2) وقد كذبه الثوري. (ش)(1/400)
ويتجه على هذا أن قولهما متقاربان.
قال الأوزاعي: عامة الفقهاء يقولون: مسيرة يوم تام، وإنما يحل القصر إذا خرج من بيوت القرية.
قال العلماء: إذا جاوز عمران المصر: قصر.
أقول: مسألة أقل السفر قد اضطربت فيها الأقوال، وطال فيها النزاع، وتشعبت فيها المذاهب، وليس في ذلك شيء يستند إليه؛ إلا مجرد قول الرواة: قصر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في كذا؛ من دون بيان لمقدار يرجع إليه.
وأصرح ما في ذلك؛ ما قاله بعض الرواة: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقصر إذا سافر ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ؛ هكذا على الشك! مع أنه لم يبين مقدار المسافة التي هي انتهاء سفره، وغاية ما وقع التعويل عليه أحاديث: " لا يحل لامرأة ... " كما تقدم، والمعمول عليه ههنا رواية البريد؛ لأن ما فوقها يعتبر فيه ذلك بفحوى الخطاب.
لكن؛ لا ملازمة بين اعتبار المحرم للمرأة وبين وجوب القصر على غيرها من المسافرين؛ لأن علة مشروعية المحرم غير علة مشروعية القصر، فلم يبق في المسألة ما يصلح للاستناد إليه، فوجب الرجوع إلى ما يصدق عليه مسمى الضرب في الأرض على وجه يخالف ما يفعله المقيم من ذلك، وهو يصدق على من أراد سفرا زائدا على الميل، لا ما كان ميلا فما دون، فقد يتردد المقيم في الجوانب المقاربة لبلد إقامته، وقد كان -[صلى الله عليه وسلم]- يخرج(1/401)
إلى البقيع لزيارة الأموات ولا يقصر، وإن كان هذا لا يتم الاحتجاج به إلا بعد تسليم أنه خرج إلى هنالك، وحضر وقت الصلاة فصلى تماما {وهو ممنوع، فالتعويل في استثناء الميل هو ما قدمنا، وفيه ما فيه، لولا أنه أوجب الرجوع إليه البقاء على الأصل، والفرار من التحكمات التي لا ترجع إلى شيء؛ كما يقول بعض أهل العلم: إن مسافة القصر ما بين الشام والعراق} ونحو ذلك.
فالحاصل: أن الواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة أو عرفا لأهل الشرع، فما كان ضربا في الأرض يصدق عليه أنه سفر؛ وجب فيه القصر.
وأما ما رواه سعيد بن منصور (1) : أنه كان -[صلى الله عليه وسلم]- إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة؛ فهو أيضا لا ينفي السفر فيما دون ذلك.
( [مدة القصر للمتردد] :)
(وإذا أقام ببلد مترددا قصر إلى عشرين يوما) ثم يتم، وجهه أن من حط رحله بدار إقامة؛ فقد ذهب عنه حكم السفر، وفارقته المشقة، فلولا أن الشارع سمى من أقام كذلك مسافرا، فقال: " أتموا يا أهل مكة! فإنا قوم سفر " (2) : لما كان حكم السفر ثابتا له، فالواجب الاقتصار في القصر مع الإقامة على المقدار
__________
(1) وابن أبي شيبة (2 / 442) ، وابن عدي (6 / 1734) .
وفي إسناده أبو هارون العبدي: متروك، وهشيم: مدلس.
(2) ضعيف مرفوعا، وصحيح - عن عمر - موقوفا: " التلخيص الحبير " (1 / 252) .(1/402)
الذي سوغه الشارع، وما زاد عليه؛ فللمسافر حكم المقيم، يجب عليه أن يتم صلاته؛ لأنه مقيم لا مسافر، وقد أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بمكة في غزوة الفتح؛ قيل: ثماني عشرة ليلة، وقيل: تسع عشرة ليلة، وقيل: أقل من ذلك، وفي " صحيح البخاري " وغيره: تسع عشرة ليلة.
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث جابر، قال: أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة.
وأخرجه أيضا ابن حبان، والبيهقي، وصححه ابن حزم، والنووي (1) ؛ فوجب علينا أن نقتصر على هذا المقدار ونتم بعد ذلك.
ولله در الحبر ابن عباس {ما أفقهه وما أفهمه للمقاصد الشرعية} فإنه قال فيما رواه عنه البخاري وغيره: لما فتح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- مكة: أقام فيها تسع عشرة، يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة؛ قصرنا، وإن زدنا أتممنا ".
وأقول: هذا هو الفقه الدقيق، والنظر المبني على أبلغ تحقيق، ولو قال له جابر: أقمنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بتبوك عشرين ليلة نقصر الصلاة؛ لقال بموجب ذلك.
قال الماتن: وفي المسألة مذاهب؛ هذا أرجحها لدي. انتهى.
( [أقصى مدة يقصر فيها المسافر إذا أقام] :)
أقول: الظاهر فيمن أقام ببلد وحط الرحل يوما بعد يوم، وليلة بعد
__________
(1) انظر " الإرواء " (574) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 45) .(1/403)
ليلة: أنه لا يقصر الصلاة؛ لأنه غير مسافر، فلو لم يرد الدليل الدال على أن من أقام عازما على السفر؛ كان له حكم المسافر: لم يثبت القصر في حقه، فينبغي أن يقتصر على ما ورد ولا يجاوز، أما مع التردد وعدم العزم على إقامة أيام معينة: فلا يزال يقصر المسافر حتى يبلغ مدة إقامته مقدار المدة التي أقامها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمكة بعد الفتح، وأكثر ما قيل: عشرون ليلة، وقد روي أنه أقام في غزوة تبوك بمكان نحو ذلك، وروي أكثر.
فإن قيل: إن الاقتصار على مقدار إقامته [صلى الله عليه وسلم] ، وعدم تجويز القصر فيما زاد عليها؛ لا يصلح للتمسك به؛ لأنه مجرد فعل لا دلالة فيه على قصر الجواز على تلك المدة، ومن أين لنا أنه لو عرض له ما يوجب إقامته فوق تلك المدة لما قصر الصلاة، بل كان يتمها؟
فيقال: هذا صحيح، ولم نقل: إن هذا الفعل يدل بمجرده على ذلك، بل قلنا: إن من حط رحله بمحل؛ فالظاهر أنه في ذلك الوقت غير مسافر فيما كان من الإقامة زائدا على ما يعتاده المسافرون؛ من الإراحة لأنفسهم ودوابهم يوما أو بعض يوم، وليلة أو بعض ليلة، فإذا سمي بعد إقامته أياما مسافرا؛ فهذه التسمية غير مناسبة لما هو الظاهر، فوجب الاقتصار على مقدار المدة التي أقامها الشارع وقصر الصلاة فيها، وقال: " إنا قوم سفر "، ومن زعم جواز القصر فيما زاد عليها؛ فعليه الدليل.
وأما إذا نوى إقامة أيام معينة: فقد وقع الاضطراب في ذلك؛ فقيل: أربعة أيام، فإن نوى إقامة أكثر منها قصر، واستدل هذا القائل بإقامته [صلى الله عليه وسلم] في مكة في حجة الوداع أربعة أيام يقصر الصلاة، ووجه الاستدلال بهذا؛ كالوجه(1/404)
الذي ذكرناه مع التردد سواء بسواء، وهو أشف ما قيل.
وغاية ما تمسك به أهل الأقوال الآخرة: ما روي عن جماعة من الصحابة من الاجتهادات المختلفة، ولا حجة في ذلك، وما يقال من: أنها بمنزلة المرفوع لكونها ليست من مسارح الاجتهاد {فمردود على أن التقدير بالأربع مع كونه أشف ما قيل - كما ذكرنا -؛ يمكن أن يقال عليه: إنما يتم الاستدلال به بعد ثبوت أنه [صلى الله عليه وسلم] عزم على إقامة الأربع، ولم ينقل ذلك}
ويمكن أن يجاب بأن أعمال الحج لا يمكن الإتيان بها في دون تلك المدة، فالعزم على الإقامة قدرها لا بد منه.
وأما ما روي عن أنس، أنه قال: أقمنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] عشرا؛ فهو محمول على جميع أيام الإقامة بمكة ونواحيها، وأما نفس الإقامة بمكة؛ فليست إلا أربعة أيام؛ فليعلم.
( [مدة القصر لمن عزم على إقامة أربع] :)
(وإذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها) : وجهه ما عرفناك من أن المقيم لا يعامل معاملة المسافر؛ إلا على الحد الذي ثبت عن الشارع، ويجب الاقتصار عليه، وقد ثبت عنه مع التردد ما قدمنا ذكره.
وأما مع عدم التردد، بل العزم على إقامة أيام معينة: فالواجب الاقتصار على ما اقتصر عليه -[صلى الله عليه وسلم]- مع عزمه على الإقامة في أيام الحج؛ فإنه ثبت في " الصحيحين ": أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم(1/405)
الثامن، ثم خرج إلى منى، فلما أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة - مع كونه لا يفعل ذلك إلا عازما على الإقامة إلى أن يعمل أعمال الحج -: كان ذلك دليلا على أن العازم على إقامة مدة معينة؛ يقصر إلى تمام أربعة أيام، ثم يتم، وليس ذلك لأجل كون النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لو أقام زيادة على الأربع لأتم؛ فإنا لا نعلم ذلك، ولكن وجهه ما قدمنا من أن المقيم العازم على إقامة مدة معينة لا يقصر إلا بإذن، كما أن المتردد كذلك، ولم يأت الإذن بزيادة على ذلك، ولا ثبت عن الشارع غيره.
قال الشافعي: لو نوى إقامة أربعة أيام بموضع؛ انقطع سفره بوصوله.
قال في " المنهاج ": ولا يُحسب منها يوما دخوله وخروجه على الصحيح.
وقال أبو حنيفة: لا يزال على حكم السفر، حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما.
وقول أكثر أهل العلم: إنه يقصر أبدا ما لم يجمع إقامة (1) .
واختلف أصحاب الشافعي في حكاية مذهبه.
وحكاية البغوي: أنه إذا لم يجمع الإقامة، فزاد مكثه على أربعة أيام وهو عازم على الخروج أتم؛ إلا أن يكون في خوف أو حرب فيقصر.
وقد قصر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عام الفتح
__________
(1) أي: يعزم على الإقامة. (ش)(1/406)
بحرب هوازن تسعة عشر أو ثمانية عشر يوما.
وله قول آخر موافق للجمهور.
قال الماتن: " واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب؛ هي من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان، وقد اضطربت فيها المذاهب اضطراباً شديداً، وتباينت فيها الأنظار تباينا زائدا ". انتهى.
( [للمسافر الجمع تقديما أو تأخيرا بأذان وإقامتين] :)
(وله الجمع تقديما وتأخيرا) : وجهه ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أنس، قال: " كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل؛ صلى الظهر ثم ركب.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني - وحسنه الترمذي - من حديث معاذ (1) : أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر؛ يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس؛ صلى الظهر والعصر جميعا، ثم سار ".
وأخرج أحمد من حديث ابن عباس نحوه؛ وزاد: المغرب والعشاء.
وأخرجه أيضا البيهقي، والدارقطني، وصحح إسناده ابن العربي،
__________
(1) انظر " الإرواء " (578) ، وهو حديث صحيح.(1/407)
وتُعقِّب بأن في إسناده من لا يحتج بحديثه.
وللحديثين طرق يقوي بعضها بعضا، وليس فيها من المقال ما يبطل الاحتجاج بمجموعها.
ومن الجمع بين المغرب والعشاء: حديث ابن عمر الثابت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان إذا جد به السير؛ أخر المغرب حتى يغيب الشفق، ثم يجمع بينها وبين العشاء.
قال ابن القيم: " وكل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض لها، فرُدّت بأنها أخبار آحاد وأوقات الصلوات ثابتة بالتواتر، كحديث إمامة جبريل - عليه السلام - للنبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقوله للسائل عن المواقيت، وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات، مجمع عليها بين الأمة، وأحاديث الجمع غير صريحة؛ لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل وفي الوقت، فكيف يترك المبين للمجمل؟ !
والجواب أن يقال: الجميع حق، والذي وقت هذه المواقيت وبينها بفعله وقوله؛ هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله، فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها؛ فأحاديث الجمع مع أحاديث الأفراد، بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات، فالسنة يبين بعضها بعضا، لا يرد بعضها ببعض.
ومن تأمل أحاديث الجمع: وجدها كلها صريحة في جمع الوقت، لا في جمع الفعل، وألفاظ السنة الصريحة ترده ".(1/408)
كذا في " إعلام الموقعين ".
قال في " المسوى ": أكثر أهل العلم على جواز الجمع في السفر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما.
وقالت الحنفية: لا يجوز، ومعنى الحديث عندهم: أن يؤخر إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها، ويعمل الأخرى في أول وقتها، فيحصل الجمع صورة (1) ، رووا ذلك عن علي، وسعد بن أبي وقاص.
وأما الجمع للحاج فمتفق عليه ". انتهى.
(بأذان وإقامتين) : لثبوت ذلك في " الصحيحين " في جمع مزدلفة.
__________
(1) انظر الرد على ذلك في كتابي " أحكام الشتاء " (ص 77) .(1/409)
(14 - باب صلاة الكسوفين)
( [صلاة الكسوفين سنة] :)
وهي صلاة الآيات (وهي سنة) .
قال الماتن في " شرحه ": أي: لعدم ورود ما يفيد الوجوب، ومجرد الفعل لا يفيد زيادة على كون المفعول مسنونا. انتهى.
وزاد في " السيل الجرار ": " اعلم أنه قد اجتمع ههنا في صلاة الكسوف الفعل والقول، ومن ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما كذلك؛ فافزعوا إلى المساجد "، وفي رواية: " فصلوا وادعوا "، والظاهر الوجوب؛ فإن صح ما قيل من وقوع الإجماع على عدم الوجوب؛ كان صارفا؛ وإلا فلا ". انتهى (1) .
قال في " الحجة البالغة ": " قد صح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه صلاها جماعة،
__________
(1) • قلت: ولا تصح دعوى الإجماع هذه، فقد ترجم أبو عوانة في " صحيحه " (2 / 366) : " بيان وجوب صلاة الكسوف "، ثم ساق فيه بعض الأحاديث المتضمنة للأمر بها، وقد ذكر الحافظ اختلاف العلماء في حكمها، قال (2 / 421) :
" فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرح أبو عوانة في " صحيحه " بوجوبها، ولم أره لغيره؛ إلا ما حكي عن مالك، أنه أجراها مجرى الجمعة، ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنه أوجبها، وكذا نقل بعض مصنفي الحنفية أنها واجبة ". (ن)
قلت: وانظر " تمام المنة " (ص 261) .(1/410)
وأمر أن ينادى بها: أن الصلاة جامعة، وجهر بالقراءة، فمن اتبع فقد أحسن، ومن صلى صلاة معتدا بها في الشرع؛ فقد عمل بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا ". انتهى.
ورجح ابن القيم الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف لحديث عائشة في " صحيح البخاري ": أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ قراءة طويلة، يجهر بها في صلاة الكسوف.
وأما قول سمرة: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في كسوف، ولم نسمع له صوتا.
فقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة.
( [أصح ما ورد في صفة صلاة الكسوفين] :)
(وأصح ما ورد في صفتها ركعتان؛ في كل ركعة ركوعان) : لثبوت ذلك في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عائشة، وابن عمر، وابن عباس
(وورد ثلاثة) ركوعات في ركعة: فثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وغيره.
ومن حديث ابن عباس عند الترمذي - وصححه -.
ومن حديث عائشة عند أحمد، والنسائي.
(و) ورد (أربعة) في كل ركعة؛ لما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديث ابن عباس.(1/411)
(و) ورد (خمسة) ركوعات في كل ركعة؛ أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي بن كعب.
قال ابن القيم: " السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف، تكرار الركوع في كل ركعة؛ لحديث عائشة، وابن عباس، وجابر، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري؛ كلهم روى عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- تكرار الركوع في الركعة الواحدة، والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددا، وأجل، وأخص برسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الذين لم يذكروه ". انتهى.
( [القراءة بين الركوعين] :)
(يقرأ بين كل ركوعين وورد في كل ركعة ركوع) فقط في " صحيح مسلم " من حديث سمرة (1) .
وأخرجه أبو داود، وأحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه ابن عبد البر والحاكم من حديث النعمان بن بشير.
__________
(1) • ليس لسمرة حديث في " مسلم "؛ وكأن الشوكاني سها فتبعه عليه المؤلف؛ فإن هذا الخطأ وقع في " الدراري المضية " للشوكاني (1 / 214) وكأنه أراد أن يقول: ابن سمرة - وهو عبد الرحمن -، فسها وقال: " سمرة "، وحديث عبد الرحمن هذا؛ في مسلم (3 / 35 - 36) ، بلفظ: فقرأ سورتين، وركع ركعتين.
وهذا اللفظ ليس صريحا فيما ذكره المؤلف، فقد تأوله البيهقي وغيره بأن مراده بذلك في كل ركعة، انظر (ص 25) من رسالتنا في " الكسوف ".
وبعد كتابة ما تقدم؛ رأيت الشوكاني قد وقع في هذا الخطأ في كتابه " نيل الأوطار " أيضا، وصرح فيه (3 / 281) بأن في الحديث الجملة التي نقلتها عن مسلم آنفا. (ن)(1/412)
وأخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث قبيصة (1) .
قلت: وأجاب ابن القيم عن هذه الروايات من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع أصح إسنادا، وأسلم من العلة والاضطراب، ولا سيما حديث عبد الله بن عمرو الذي في " الصحيحين "، وهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع، فلم يبق إلا حديث سمرة ونعمان؛ وليس منهما شيء في " الصحيح ".
والثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر، وأحفظ وأجل من سمرة ونعمان بن بشير؛ فلا ترد روايتهم بها.
الثالث: أنها متضمنة لزيادة؛ صح الأخذ بها. انتهى.
وأقول: قد رويت هذه الصلاة من فعله -[صلى الله عليه وسلم]- على أنواع:
- ركعتين كسائر الصلوات في كل ركعة ركوع واحد.
- وركوعين في كل ركعة.
- وثلاثة وأربعة وخمسة كما تقدم.
والكل سنّة؛ أيها فعل المكلف؛ فقد فعل ما شرع له، واختيار الأصح منها على الصحيح هو دأب الراغبين في الفضائل، العارفين بكيفية الدلائل.
__________
(1) انظر لفظه، والكلام عليه بعد صفحتين.(1/413)
وقد أورد على هذه الروايات المنسوبة إلى فعله -[صلى الله عليه وسلم]- إشكال، هو: أنه لم يصلها -[صلى الله عليه وسلم]- غير مرة واحدة، فكيف تشعبت الروايات إلى هذه الصفات.
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة؛ ذكرها الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ".
وقد ثبت الجهر بالقراءة وثبت الإسرار، والجهر أصح.
والقيام بهذه السنة جماعة أفضل، وليست الجماعة شرطا فيها؛ لما في الأحاديث الصحيحة بلفظ: " فصلوا "، ولما في حديث قبيصة الهلالي يرفعه: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة "؛ أخرجه أحمد، والنسائي (1) .
( [ماذا يندب عند الكسوفين؟] :)
(ونُدب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار) : لحديث أسماء: " فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا "؛ وهو في " الصحيحين ".
وفي حديث أبي موسى بلفظ: " فإذا رأيتم شيئا من ذلك؛ فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره "؛ وهو في " الصحيحين " أيضا.
وفي حديث المغيرة: " فإذا رأيتموهما؛ فادعوا الله وصلوا، حتى تنجلي "؛ وهو أيضا في " الصحيحين ".
__________
(1) هو حديث ضعيف؛ انظر - له - " الإرواء " (3 / 131) ، و " تمام المنة " (263) .(1/414)
(15 - باب صلاة الاستسقاء)
قال في " الحجة " (1) : " وقد استسقى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته؛ أن خرج بالناس إلى المصلى، متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا، فصلى لهم ركعتين جهر بهم فيهما بالقراءة، ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو، ورفع يديه وحوّل رداءه ". انتهى.
( [متى تسن صلاة الاستسقاء؟ وكم عدد ركعاتها؟] :)
وهذه الصلاة مسنونة (تسن عند الجدب) : لعدم ورود ما يدل على الوجوب.
(ركعتان بعدهما خطبة) لكونه [صلى الله عليه وسلم] خرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر ... الحديث بطوله، وفيه الدعاء وتحويل الرداء؛ وهو في " سنن أبي داود ".
وأخرجه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، وصححه ابن السكن (2) .
وأخرج أحمد، وابن ماجه (3) ، وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال:
__________
(1) • (2 / 20) . (ن)
(2) • وسيأتي من المؤلف أن إسناده صحيح. (ن)
قلت: انظر " التلخيص الحبير " (716) .
(3) وهو حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف سنن ابن ماجه " (1268) .(1/415)
خرج النبي [صلى الله عليه وسلم] يوما يستسقي، فصلى بنا ركعتين، بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله - عز وجل -، وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه؛ فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن.
وفي الباب أحاديث بمعنى ما ذكر، وهي متضمنة للدعاء برفع الجدب وبنزول المطر، وتحويل الأردية؛ من الإمام وغيره.
وروى سعيد بن منصور في " سننه " (1) : أن عمر استسقى، فلم يزد على الاستغفار.
قال أبو حنيفة: لا تسن الصلاة في الاستسقاء.
وقال الشافعي: ثبت من حديث عبد الله بن زيد، وابن عباس، أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى.
وروي ذلك من حديث جعفر بن محمد: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وأبي بكر، وعمر (2) .
قال في " إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء ": " الأوجه عندي: أن من دعا ولم يصل؛ فقد أصاب أصل الاستسقاء، وقد فعل ذلك النبي [صلى الله عليه وسلم] وعمر، ومن صلى ودعا؛ فقد أصاب الأكمل الأفضل؛ فإن الدعاء أرجى في حرمة الصلاة، وقد ثبت عن النبي [صلى الله عليه وسلم] وعمر ". انتهى.
وقد كان [صلى الله عليه وسلم] يرفع يديه في الاستسقاء، حتى يُرى بياض إبطيه، وكان الصحابة فمن بعدهم يستسقون بأهل الصلاح، ولا سيما من كان من قرابة النبي
__________
(1) ضعيف؛ انظر " الإرواء " (673) .
(2) نقل الشوكاني في " نيل الأوطار " (4 / 38) ترجيح الدارقطني إرساله.(1/416)
[صلى الله عليه وسلم] ؛ كما فعل عمر؛ فإنه استسقى بالعباس (1) - رضي الله تعالى عنهما -.
( [ماذا تتضمن الخطبة؟] :)
(تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة، والزجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار والدعاء برفع الجدب) : لأن روح هذه الصلاة، وأساسها، وعمادها الذي لا تقوم بدونه: هو الاستكثار من الاستغفار قبلها وبعدها، وإخلاص التوبة من الذنوب التي يقارفها الإنسان، والخروج من التبعات والظلامات في الدماء والأموال والأعراض، وذلك غير مختص بفرد من الأفراد، بل يفعله كل أحد، ويشرع للإمام - أو من يقوم مقامه - أن يخطب الناس، ويذكرهم بما يفعلونه من الأسباب الموجبة للرحمة، وقد روي عنه [صلى الله عليه وسلم] أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعدها؛ فالكل سنة.
ومن جملة أدعيته [صلى الله عليه وسلم] : " اللهم {أغثنا، اللهم} أغثنا "؛ كما في " الصحيحين " من حديث أنس.
ومن أدعيته [صلى الله عليه وسلم] : " اللهم! اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً (2) مَريعاً (3) طبقاً (4) غدقاً (5) عاجلاً غير رائث (6) "، وهذا لفظ ابن ماجه من حديث ابن عباس.
__________
(1) انظر فائدة مهمة حول هذا الأثر في رسالة " التوسل أنواعه وأحكامه " (ص 51 - 57) لشيخنا.
(2) هو المحمود العاقبة. (ش)
(3) بفتح الميم وبضمها مع كسر الراء فيهما: هو الذي يأتي بالريع؛ يعني: الزيادة. (ش)
(4) هو المطر العام؛ كما في " القاموس ". (ش)
(5) الغدق: الماء الكثير. (ش)
(6) الريث: الإبطاء، والرائث: المبطئ.
وإسناد هذا الحديث ثقات، كما قال المؤلف [الماتن] في " نيل الأوطار ". (ش)
قلت: ورجح شيخنا في " الإرواء " (1 / 145 - 146) ضعفه.(1/417)
وهذه الألفاظ ثابتة من رواية غيره من الصحابة في غير " سنن ابن ماجه " (1) .
ومنها: " اللهم {أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني، ونحن الفقراء؛ أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين "؛ وهو في " سنن أبي داود " بإسناد صحيح (2) من حديث عائشة.
ومن دعائه: " اللهم} اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت " (3) ؛ إلى غير ذلك.
( [ما يصنع المصلون بأرديتهم؟] :)
(ويحولون جميعا أرديتهم) : لما روي في ذلك - ما تقدم - من جعل الأيمن أيسر والأيسر أيمن.
وروي: أنه قلبه ظهرا لبطن وحول الناس معه؛ أخرجه أحمد (4) من حديث عبد الله بن زيد؛ وأصله في " الصحيح ".
__________
(1) عن جابر عند أبي داود؛ كما في تعليق شيخنا على " المشكاة " (1507) .
(2) (برقم: 1173) ؛ وفي سنده يونس بن يزيد الأيلي؛ ثقة إلا في حديثه عن الزهري؛ وهذا منه!
(3) رواه أبو داود (1176) بسند حسن؛ كما في " المشكاة " (1506) .
(4) • بسند حسن؛ لكنه شاذ كما بينته في " الضعيفة " (5629) . (ن)
قلت: إنما الشاذ منه تحويل الناس معه؛ فانظر " تمام المنة " (ص 264) .(1/418)
(الكتاب الثالث: كتاب الجنائز)(1/419)
(3 - كتاب الجنائز)
(الفصل الأول: أحكام المحتضر)
( [دليل مشروعية زيارة المريض] :)
(من السنة عيادة المريض) : لأن الأحاديث في مشروعيتها متواترة، وقد جعلها الشارع من حقوق المسلم على المسلم.
ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس ".
وزاد مسلم: " النصيحة ".
وزاد البخاري من حديث البراء: " نصر المظلوم، وإبرار القسم ".
( [تلقين المحتضر] :)
(وتلقين المحتضر) ؛ وهو في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة.
(الشهادتين) : فوجب أن يحث على الذكر، والتوجه إلى الله - تعالى -؛(1/421)
لتفارق نفسه وهي في غاشية من الإيمان، فيجد ثمرتها في معاده.
ودليله حديث أبي سعيد الثابت في " الصحيح "، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ".
وفي الباب أحاديث.
( [توجيه المحتضر للقبلة] :)
(وتوجيهه) (1) إلى القبلة؛ لحديث عبيد بن عمير، عن أبيه، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال - وقد سأله رجل عن الكبائر؟ - فقال: " هن تسع: الشرك، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام: قبلتكم أحياء وأمواتا "؛ أخرجه أبو داود (2) ، والنسائي، والحاكم.
__________
(1) • ليس في الأحاديث الآتية ما يصلح أن يشهد له؛ فإن قصة البراء فيها ضعف وإرسال كما يأتي.
وقد نقل ابن الحاج في " المدخل " (3 / 229 - 230) عن مالك؛ أن توجيه المحتضر إلى القبلة لم يكن من عمل الناس، وكره أن يعمل ذلك استنانا. (ن)
قلت: وفرق بين توجيه الميت، وتوجيه المحتضر، فتأمل.
(2) • رواه أبو داود في (الوصايا) (2 / 13) والنسائي (تحريم الدم) (2 / 165) مختصرا، والحاكم في (التوبة) (4 / 259 - 260) - بتمامه؛ كأبي داود -، وكذا البيهقي (3 / 408 - 409) ؛ من طريق عبد الحميد بن سنان، عن عبيد، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي.
وهذا منه أمر عجيب؛ فإن ابن سنان هذا قد أورده الذهبي في " الميزان "، وقال:
لا يُعرف، قال البخاري: في حديثه نظر "؛ يعني: هذا الحديث.
ولا يُغتر بقول المنذري في " الترغيب " (1 / 266) : " ورواته ثقات "؛ لأن عمدته في توثيق ابن سنان هذا؛ إنما هو ابن حبان؛ فقد أورده في " الثقات "؛ وهو تساهل منه؛ كما هو معروف، وقد نص على ذلك ابن حجر في مقدمة " اللسان ". (ن)
قلت: ثم رجح شيخنا حسنه في بحث دقيق - له - في الإرواء " (690) ، فانظره.(1/422)
وقد أخرج البغوي في " الجعديات " (1) من حديث ابن عمر نحوه؛ وفي إسناده أيوب بن عتبة، وهو ضعيف.
وقد استدل بهذا على مشروعية توجيه المريض إلى القبلة ليموت إليها؛ لقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " قبلتكم أحياء وأمواتا "، وفيه نظر؛ لأن المراد بقوله: " أحياء " عند الصلاة، وبقوله: " أمواتا " في اللحد، والمحتضر حي غير مصل، فلا يتناوله الحديث، وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي، وعدم اختصاصه بحال الصلاة! وهو خلاف الإجماع.
والأوْلى الاستدلال بما رواه الحاكم، والبيهقي، عن أبي قتادة: أن البراء بن معرور أوصى أن يُوجَّه إلى القبلة إذا احتضر، فقال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " أصاب الفطرة ". (2)
__________
(1) (برقم: 3426) .
وانظر " التلخيص الحبير " (2 / 101) ، " ونصب الراية " (2 / 252) .
(2) قال المصنف في " نيل الأوطار " بعد ذكره: " وقد ذكر هذا الحديث في " التلخيص "، وسكت عنه ".
وهو في " المستدرك " للحاكم (1 / 353) من حديث يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه.
قال الحاكم: " هذا حديث صحيح ... ولا أعلم في توجه المحتضر إلى القبلة غير هذا الحديث "، وصححه أيضا الذهبي.
والذي أراه أنه حديث مرسل؛ لأن يحيى رواه عن أبيه، وأبوه تابعي.
وبعد البحث؛ تبين لي أن الخطأ إنما هو من الناسخين؛ فقد وجدت الحديث في " السنن الكبرى " للبيهقي: رواه عن الحاكم بإسناده، وفيه: " عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه ".
فالحديث - إذن - من حديث أبي قتادة، وليس حديثا مرسلا؛ والحمد لله. (ش)
• قلت: وهو في " البيهقي " (3 / 384) كما نقله المعلق؛ فالحديث مرسل، وفيه نعيم بن حماد؛ وهو ضعيف.
ولا يخفى أنه لا فرق بين هذه العبارة، وبين التي نقلها عن " المستدرك "، ولعل الصواب: " عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن أبي قتادة "؛ وهكذا على الصواب، ذكره الزيلعي في " نصب الراية " (2 / 252) ، معزواً للحاكم. (ن)(1/423)
وقد اختلف في الصفة التي يكون التوجه إلى القبلة عليها، فقيل: يكون مستلقيا ليستقبلها بكل وجهه، وقيل: على جنبه الأيمن؛ وهو الأولى.
أقول: وهو الصفة التي يوجه عليها في قبره، والصفة التي أمر -[صلى الله عليه وسلم]- النائم أن ينام عليها.
ومن ذلك فعل البتول - رضي الله عنها (1) -، ولا وجه لاختيار الاستلقاء، إلا وهم أنه أكمل.
( [تغميض عيني المحتضر إذا مات] :)
(وتغميضه إذا مات) : لحديث شداد بن أوس عند أحمد، وابن ماجة، والحاكم (2) ، والطبراني، والبزار، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إذا حضرتم موتاكم؛ فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا؛ فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت ".
وأخرج مسلم في " صحيحه ": أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-
__________
(1) • قلت: هذا لم يثبت؛ ففي إسناد الرواية محمد بن إسحاق، وقد عنعنه، رواه عنه الإمام أحمد (6 / 461) ، وقد ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات "، وقال: " لا يصح، وكيف يصح الغسل للموت قبل الموت؟ ! هذا لا يصح إضافته إلى فاطمة وعلي؛ بل ينزهان عن مثل هذا " اه. " لآلي " (2 / 228) وقد تعقب بما لا يشفي؛ والله أعلم. (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 125) ، و " السنن " (1 / 444) ، و " المستدرك " (1 / 352) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وفيه نظر؛ لأن مداره على قزعة بن سويد، وقد ضعفه غير واحد، وجزم الحافظ بضعفه، وفي " الزوائد ": " إسناده حسن ".
قلت: وهو بمعنى حديث مسلم بعده؛ فإن فيه: " فقولوا خيرا؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". (ن)(1/424)
دخل على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر ".
( [قراءة يس عند المحتضر] :)
(وقراءة يس عليه) : لحديث: " اقرأوا على موتاكم {يس} "؛ أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان - وصححه - من حديث معقل بن يسار مرفوعا؛ وقد أعل (1) .
وقد أخرج نحوه صاحب " مسند الفردوس " من حديث أبي الدرداء، وأبي ذر.
وأخرج نحوه أيضا أبو الشيخ في " فضل القرآن " من حديث أبي ذر وحده (2) .
قال ابن حبان في " صحيحه ": المراد بقوله: " اقرأوا على موتاكم {يس} ": من حضرته المنية لا الميت، وكذلك: " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ".
( [المبادرة بتجهيز الميت] :)
(والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته) : لما أخرجه أبو داود من حديث الحصين بن وحوح (3) : أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي -[صلى الله عليه وسلم]-
__________
(1) وصححه ابن حبان. (ش)
قلت: والصواب ضعفه، وانظر " أحكام الجنائز " (13) .
(2) انظر رسالتي " القول المبين في ضعف حديثي التلقين، و: اقرؤوا على موتاكم {يس} ".
(3) • بالتصغير، " وحوح " بمهلتين، على وزن جعفر، والحديث لا يصح؛ لأنه من طريق سعيد بن عثمان البلوي، عن عزرة - وفي رواية: عروة - بن سعيد الأنصاري، عن أبيه؛ وثلاثتهم مجاهيل.
والحديث رواه البيهقي أيضا (3 / 386) . (ن)(1/425)
يعوده، فقال: " إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت؛ فآذنوني به وأعجلوا (1) ؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله ".
وأخرج أحمد، والترمذي (2) من حديث علي مرفوعا بلفظ: " ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفأ ".
وأما إذا كان يظن أنه لم يمت؛ فلا يحل دفنه حتى يقع القطع بالموت؛ كصاحب البرسام وغيره.
( [المبادرة بقضاء دين الميت] :)
(والقضاء لدينه) : لحديث امتناعه -[صلى الله عليه وسلم]- من الصلاة على الميت الذي عليه دين، حتى التزم بذلك بعض الصحابة؛ والحديث معروف (3) ، وحديث: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وحسنه - من حديث أبي هريرة.
( [تسجية الميت] :)
(وتسجيته) : لما وقع من الصحابة من تسجية رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عند موته ببرد حبرة، وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة.
__________
(1) في " نيل الأوطار ": " وعجلوا ". (ش)
(2) وقد ضعفه شيخنا في تعليقه على " المشكاة " (605) .
(3) وصحح سنده شيخنا في تعليقه على " المشكاة " (2915) .(1/426)
وذلك لا يكون إلا بجري العادة بذلك في حياته -[صلى الله عليه وسلم]-.
( [جواز تقبيل الميت] :)
(ويجوز تقبيله) : لتقبيله -[صلى الله عليه وسلم]- لعثمان بن مظعون وهو ميت، كما في حديث عائشة عند أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -.
وفي " الصحيح " من حديثها، وحديث ابن عباس: أن أبا بكر قبل النبي [صلى الله عليه وسلم] بعد موته.
( [على المريض أن يحسن الظن بربه] :)
(وعلى المريض أن يحسن الظن بربه) ، والأحاديث في ذلك كثيرة، ولو لم يكن منها إلا حديث النهي عن أن يموت الميت؛ إلا وهو حسن الظن بربه (1) ، وحديث المريض الذي زاره النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: " كيف تجدك؟ " فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: " ما اجتمعا في قلب امريء في مثل هذا الموطن؛ إلا دخل الجنة " (2) . - أو كما قال -.
( [على المريض أن يتوب من ذنوبه] :)
(ويتوب إليه) ، والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في ذلك لا يتسع
__________
(1) وفي " صحيح مسلم " (2877) عن جابر - مرفوعا -: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ".
(2) انظر " صحيح سنن ابن ماجة " (3436) .(1/427)
المقام لبسطها.
وفي " الصحيحين ": " أن الله يفرح بتوبة عبده "، وأن باب التوبة مفتوح لا يغلق.
( [على المريض أن يتخلص مما عليه من حقوق، وأقله بالوصية] :)
(ويتخلص عن كل ما عليه) ، ووجوب ذلك معلوم.
وإذا أمكن - بإرجاع كل شيء لمن هو له؛ من دين أو وديعة أو غصب أو غير ذلك -: فهو الواجب.
وإن لم يكن في الحال: فالوصية المفصلة هي أقل ما يجب.
وورد الأمر بالوصية، وأنه لا يحل لأحد أن يبيت إلا ووصيته عند رأسه؛ كما في الأحاديث الصحيحة.(1/428)
(2 - فصل: غسل الميت)
( [وجوب غسل الميت على الأحياء] :)
(ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء) ؛ وهو مجمع عليه، كما حكى ذلك النووي، والمهدي في " البحر ".
ومستند هذا الإجماع أحاديث الأمر بالغسل والترغيب فيه، كالأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بغسل الذي وقصته (1) ناقته، وبغسل ابنته زينب؛ وهما في " الصحيح ".
( [القريب أولى بغسل قريبه] :)
(والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه) : لحديث: " ليليه أقربكم إن كان يعلم، فإن لم يكن يعلم؛ فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة "؛ أخرجه أحمد (2) ، والطبراني، وفي إسناده جابر الجعفي، والحديث إن كان لا يصلح للاحتجاج به، ولكن للقرابة مزية وزيادة حنو وشفقة، توجب كمال العناية، ولا شك أنها وجه مرجح؛ مع علم القريب بما يحتاج إليه في الغسل.
( [أحد الزوجين أولى بالآخر] :)
(وأحد الزوجين بالآخر) أولى؛ لقوله [صلى الله عليه وسلم] لعائشة: " ما ضرك لو مت
__________
(1) الوقص: الكسر. (ش)
(2) • " المسند " (6 / 120، 122) . (ن)(1/429)
قبلي فغسلتك وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك؟ {" أخرجه أحمد، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وفي إسناده محمد بن إسحاق، ولم ينفرد به؛ فقد تابعه عليه صالح بن كيسان (1) .
وأصل الحديث في " البخاري " (2) بلفظ: " ذاك لو كان وأنا حي؛ فأستغفر لك وأدعو لك ".
وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما غسل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلا نساؤه "؛ أخرجه أحمد وابن ماجة وأبو داود (3) .
وقد غسلت الصديق زوجته أسماء - كما تقدم في الغسل لمن غسل ميتا -؛ وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه (4) .
وغسل علي فاطمة؛ كما رواه الشافعي، والدارقطني، وأبو نعيم، والبيهقي بإسناد حسن.
__________
(1) • عند أحمد والنسائي؛ كذا في " التلخيص " (5 / 125) .
قلت: وهو عند أحمد (6 / 144) بلفظ: دخل علي رسول الله في اليوم الذي بريء فيه، فقلت: وارأساه} فقال: " وددت أن ذلك كان وأنا حي؛ فهيأتك ودفنتك ... " الحديث، وسنده صحيح على شرطهما، لكن ليس فيه ذكر الغسل كما ترى؛ فليس يصح كونه متابعا لابن إسحاق؛ إلا إن كانت رواية النسائي صريحة في ذلك، ولم أقف عليها في " سننه الصغرى "، فالظاهر أنها في " الكبرى " له. (ن)
قلت: هو في " السنن الكبرى " (7079 - 7081) .
(2) • في " المرضى ". (ن)
(3) صحيح؛ انظر " أحكام الجنائز " (ص 49) .
(4) رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (4 / 397) ، وضعفه؛ لكن: ذكر أن له شواهد. والله أعلم.(1/430)
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
قال في " المسوى ": " اتفقوا على جواز غسل المرأة زوجها، واختلفوا في غسل الزوج امرأته.
قالت الحنفية: لا يجوز، فإن لم يكن إلا الزوج يممها.
وقال الشافعي: يجوز؛ لما مر ".
( [غسل الميت ثلاثا أو خمسا أو أكثر] :)
(ويكون الغسل ثلاثا أو خمسا أو كثر بماء وسدر) (1) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] للنسوة الغاسلات لابنته زينب: " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك - إن رأيتن - بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورا "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث أم عطية.
وفي لفظ لهما أيضا: " اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك؛ إن رأيتن ".
وفيه دليل على تفويض عدد الغسلات إلى الغاسل.
قال في " الحجة ": " إنما أمر بالسدر وزيادة الغسلات؛ لأن المريض مظنة الأوساخ والرياح المنتنة ". اه.
(وفي الآخرة كافور) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " واجعلن في الآخرة كافورا "، كما
__________
(1) السدر: ورق النبق. (ش)(1/431)
سبق، وإنما أمر بالكافور في الآخرة؛ لأن من خاصيته أن لا يسرع التغير فيما استعمل [فيه] .
ويقال: من فوائده أنه لا يقرب منه حيوان مؤذ.
( [تقديم الميامن في غسل الميت] :)
(وتقدم الميامن) : ليكون غسل الموتى بمنزلة غسل الأحياء، وليحصل إكرام هذه الأعضاء.
ودليله قوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث أم عطية هذا: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ".
قال ابن القيم: " السنة الصحيحة الصريحة في ضفر رأس الميت ثلاث ضفائر، كقوله في " الصحيحين " في غسل ابنته: " اجعلوا رأسها ثلاثة قرون "، قالت أم عطية: ضفرنا رأسها وناصيتها وقرنيها، ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها.
فرد ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا {وإنما يرسل شعرها شقتين على ثديها} !
وسنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أحق بالاتباع. اه.
( [الشهيد لا يغسل] :)
(ولا يغسل الشهيد) : بل يدفن في ثيابه ودمائه؛ تنويها بما فعل، وليتمثل صورة بقاء عمله بادي الرأي، وهذا هو الحق؛ لما ثبت في شهداء أحد أنه(1/432)
-[صلى الله عليه وسلم]- أمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، وهو في " الصحيح ".
وما قيل بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال: فمردود بما عند أحمد (1) في هذا الحديث عنه [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال في قتلى أحد: " لا تغسلوهم؛ فإن كل جرح أو كل دم؛ يفوح مسكا يوم القيامة ".
وأخرج أبو داود عن جابر، قال: رمي رجل بسهم في صدره - أو في حلقه -، فمات؛ فأدرج في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وإسناده على شرط مسلم.
وعن ابن عباس عند أبي داود، وابن ماجة، قال: أمر النبي [صلى الله عليه وسلم] بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم؛ وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي، وقد تكلم فيه جماعة، وفيه أيضا عطاء بن السائب؛ وفيه مقال (2) .
وفي الباب أحاديث.
وبالجملة: فقد جرت السنة في الشهيد أن لا يغسل، ولم يرو أنه [[صلى الله عليه وسلم]] غسل شهيدا؛ وبه قال الجمهور.
وأما من أطلق عليه اسم الشهيد - كالمطعون والمبطون (3) والنفساء ونحوهم -: فقد حكى في " البحر " الإجماع على أنهم يغسلون.
__________
(1) في " المسند " (3 / 299) ؛ وسنده صحيح؛ كما في " الإرواء " (3 / 164) .
(2) ضعيف؛ " الإرواء " (709) .
(3) • أي: الذي يموت بمرض بطنه؛ كالاستسقاء ونحوه. " نهاية ".
وقيل: أراد هنا النفاس؛ وهو أظهر؛ قاله السيوطي في " حاشيته على النسائي " (ن)
قلت: والمقصود الشهادة الحكمية لا الحقيقية.(1/433)
(3 - فصل: تكفين الميت)
( [تكفين الميت واجب ولو لم يملك غير الكفن] :)
(ويجب تكفينه) : الأصل في التكفين التشبه بحال النائم المسجى بثوبه.
أكمله في الرجل: إزار وقميص وملحفة أو حلة، وفي المرأة: هذه مع زيادة ما؛ لأنها يناسبها زيادة الستر.
(بما يستره) : لأمره -[صلى الله عليه وسلم]- بإحسان الكفن؛ كما في حديث: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه "؛ وهو في " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي قتادة (1) ، والكفن الذي لا يستر ليس بحسن (2) .
(ولو لم يملك غيره) ؛ أي: الكفن؛ لأمره -[صلى الله عليه وسلم]- بتكفين مصعب بن عمير في النمرة (3) التي لم يترك غيرها؛ كما في
__________
(1) • إنما هو عند مسلم (3 / 50) من حديث جابر.
وأما حديث أبي قتادة؛ فرواه الترمذي، وابن ماجة. (ن)
(2) • بل هو الذي ورد الحديث بسببه كما في " المسند " (3 / 295) عن جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] خطب يوما، فذكر رجلا من أصحابه قبض؛ فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلا، فزجر النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه؛ إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إذا كفن ... " الحديث، وهو صحيح على شرط مسلم. (ن)
(3) النمرة - بفتح النون وكسر الميم -: شملة فيها خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف يلبسها الأعراب. قاله في " القاموس ". (ش)(1/434)
" الصحيحين " وغيرهما من حديث خباب بن الأرت.
( [جواز الزيادة في الكفن مع القدرة من دون مغالاة] :)
(ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة) : لما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- في كفن ابنته؛ فإنه كان يناول النساء ثوبا ثوبا؛ وهو عند الباب، فناولهن الحقو (1) ، ثم الدرع، ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر؛ أخرجه أحمد (2) ، وأبو داود من حديث ليلى بنت قائف الثقفية.
وقد كفن -[صلى الله عليه وسلم]- في ثلاثة اثواب سحولية (3) جدد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة؛ أدرج فيها إدراجا "؛ وهو في " الصحيحين ".
وأخرج أبو داود (4) من حديث علي (5) : " لا تغالوا في الكفن؛ فإنه يسلب سريعا ".
__________
(1) • معقد الإزار. (ن)
(2) • في " المسند " (6 / 380) ، ومن طريقه أبو داود، وأخرجه البيهقي (6 / 4 - 7) ، وإسناده لا يصح، فيه نوح بن حكيم الثقفي؛ وهو مجهول، كما في " التقريب ".
وقال المنذري في " مختصره " (2028) : " ليس بمشهور ". (ن)
(3) بفتح السين وضمها؛ نسبة إلى سحول؛ قرية باليمن.
قال ابن الأعرابي وغيره: هي ثياب بيض نقية، لا تكون إلا من القطن. (ش)
(4) • في " سننه " (2 / 61 - 62) ، وعنه البيهقي (3 / 403) ؛ وفيه عمرو أبو مالك الجنبي؛ وهو ابن هشام؛ وهو لين الحديث، كما في " التقريب ". (ن)
(5) • مرفوعا. (ن)(1/435)
أقول: أراد العدل بين الإفراط والتفريط، وأن لا ينتحلوا عادة الجاهلية في المغالاة.
والحاصل: أنه لا ريب في مشروعية الكفن للميت، ولا شك في عدم وجوب زيادة على الواحد، ولم يثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] كون الكفن على صفة من الصفات، أو عدد من الأعداد؛ إلا ما كان منه [صلى الله عليه وسلم] في تكفين ابنته أم كلثوم.
وهذا الحديث - وإن كان فيه مقال - لكنه لا يخرج به عن حد الاعتبار.
فغاية ما يقال: إنه يستحب أن يكون كفن المرأة على هذه الصفة (1) ، وأما كفن الرجل؛ فلم يثبت عنه إلا الأمر بالتكفين في الثوب الواحد، كما في قتلى أحد، وفي الثوبين؛ كما في المحرم الذي وقصته ناقته.
وليس تكثير الأكفان والمغالاة في أثمانها بمحمود؛ فإنه لولا ورود الشرع به: لكان من إضاعة المال؛ لأنه لا ينتفع به الميت، ولا يعود نفعه على الحي، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال: " إن الحي أحق بالجديد (2) "؛ لما قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه: " إن هذا خلق " (3) .
__________
(1) • فيه أن الاستحباب حكم شرعي، وهو لا يثبت بمثل هذا الحديث الضعيف، فتأمل! لا سيما وهو بظاهره أقرب إلى المغالاة منه إلى العدل. (ن)
(2) • أخرجه البيهقي (3 / 399) عن عائشة: لما اشتد مرض أبي بكر بكيت ... فأفاق. . ثم قال: أي يوم توفي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ قالت: فقلت: يوم الاثنين، فقال: فأي يوم هذا؟ قلت: يوم الاثنين ... قالت: وقال: في كم كفنتم رسول الله؟ قال - كذا -: كنا كفناه في ثلاثة أثواب سحولية بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وبه درع زعفران أو مشق، واجعلوا معه ثوبين جديدين، فقالت عائشة: فقلت: إنه خلق، فقال لها: الحي أحوج إلى الجديد من الميت؛ إنما هو للمهلة.
وإسناده صحيح. (ن)
(3) بفتح اللام؛ وهو الثوب البالي. (ش)(1/436)
والأولى أن يكون الكفن من الأبيض؛ لحديث: " البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، والشافعي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه ابن القطان.
وفي معناه أحاديث أخر عن عمران، وسمرة، وأنس، وابن عمر، وأبي الدرداء.
( [الشهيد يكفن في ثيابه التي قتل فيها] :)
(ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها) : فقد كان ذلك صنعه -[صلى الله عليه وسلم]- في الشهداء المقتولين معه.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة من حديث ابن عباس، قال: أمر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يوم أحد بالشهداء؛ أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وقال: " ادفنوهم بدمائهم وثيابهم " (1) .
وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن ثعلبة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال يوم أحد: " زملوهم في ثيابهم " (2) .
( [تطييب بدن الميت وكفنه سنة] :)
(وندب تطييب بدن الميت وكفنه) : لحديث جابر عند أحمد، والبيهقي (3) ،
__________
(1) ضعيف؛ " الإرواء " (709) .
(2) خرجه شيخنا في " أحكام الجنائز " (ص 80 - طبعة المعارف) ، ولكن من غير تصحيح.
(3) • في " سننه الكبرى " (3 / 405) ، وإسناده صحيح على شرط مسلم، لكن نقل البيهقي عن(1/437)
والبزار - بإسناد رجاله رجال الصحيح -، قال: " قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا أجمرتم الميت؛ فأجمروه (1) ثلاثا ".
ولقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المحرم الذي وقصته ناقته: " ولا تمسوه بطيب "؛ وهو في " الصحيح " من حديث ابن عباس؛ فإن ذلك يشعر أن غير المحرم يطيب، ولا سيما مع تعليله [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " فإنه يبعث ملبيا ".
قال في " الحجة ": " فوجب المصير إليه ".
وإلى هذه النكتة أشار النبي [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها (2) ".
وأما ما قيل: تتبع بالطيب مساجده {} فلعل وجه ما قاله ابن مسعود ومن بعده، تكريم هذه الأعضاء لكون الاعتماد عليها في أشرف طاعات الله وهي الصلاة، ولم يرد في ذلك من المرفوع شيء، ولكنه يحسن لستر ما لعله يظهر من روائح الميت التي يتأذى بها المتولون لتجهيزه.
__________
ابن معين، أنه قال: تفرد برفعه يحيى بن آدم.
وهذا لا يضر؛ فإن يحيى بن آدم ثقة حافظ فاضل، كما في " التقريب ".
وأخرجه البخاري (3 / 196 - 197) ، وأحمد (6 / 45) ، وابن سعد في " الطبقات " (3 ق / ص 139) ببعض اختصار، ولفظ الكتاب من البخاري.
وفي رواية أحمد، وابن سعد: أفلا تجعلها جددا كلها؟ فقال: لا.
قال الحافظ: " وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان، ويؤيده قوله بعد ذلك: إنما هو للمهلة "، ثم ذكر حديث علي عند أبي داود، وقال: " ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن؛ فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة، وحمل المبالغة على الثمن، وقيل: التحسين حق الميت، فإذا أوصى بتركه اتبع؛ كما فعل الصديق " (ن)
(1) الإجمار: التبخير بالبخور. (ش)
(2) " الصحيحة " (1671) .(1/438)
(4 - فصل صلاة الجنازة)
( [الصلاة على الجنازة فرض كفاية] :)
(وتجب الصلاة على الميت) : لأن اجتماع أمة من المؤمنين شافعين للميت؛ له تأثير بليغ في نزول الرحمة عليه.
والصلاة على الأموات ثابتة ثبوتا ضروريا من فعله [صلى الله عليه وسلم] وفعل أصحابه، ولكنها من واجبات الكفاية؛ لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته [صلى الله عليه وسلم] ولا يؤذونه (1) ؛ كما في حديث السوداء التي كانت تقم (2) المسجد، فإنه لم يعلم النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا بعد دفنها، فقال لهم: " ألا آذنتموني؟ ! "؛ وهو في " الصحيح "، وامتنع من الصلاة على من عليه دين، وأمرهم بأن يصلوا عليه.
( [يقف الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة] :)
(ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة) : لحديث أنس بن مالك: أنه صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة، فصلى عليها، فقام وسطها، فسئل عن ذلك، وقيل له: هكذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن ماجة.
__________
(1) أي: لا يعلمونه. (ش)
(2) تقم؛ أي: تجمع القمامة؛ وهي الكناسة. (ش)(1/439)
ولفظ أبي داود: " هكذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصلي على الجنازة كصلاتك؛ يكبر عليها أربعا، ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة؟ قال: نعم.
وفي " الصحيحين " من حديث سمرة، قال: صليت وراء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في الصلاة وسطها ".
والخلاف في المسألة معروف، وهذا هو الحق.
أقول: الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] ؛ أنه كان يقف مقابلا لرأس الرجل، ولم يثبت عنه غير ذلك.
وأما المرأة؛ فروي أنه كان يقوم مقابلا لوسطها، وروي أنه كان يقوم مقابلا لعجيزتها، ولا منافاة بين الروايتين، فالعجيزة يصدق عليها أنها وسط.
وإيثار ما ثبت عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند أئمة الفن، الذين هم المرجع لغيرهم؛ واجب.
ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة - أو من غيرهم - على قول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وفعله، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى.
( [التكبير أربعا أو خمسا على الجنازة] :)
(ويكبر أربعا أو خمسا) : لورود الأدلة بذلك.
أما الأربع فثبتت ثبوتا متواترا من طريق جماعة من الصحابة: أبي(1/440)
هريرة، وابن عباس، وجابر، وعقبة بن عامر، والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم -.
وأما الخمس؛ فثبتت في " الصحيح " من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا؛ وإنه كبر على جنازة خمسا، فسألته؟ فقال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكبرها "؛ أخرجه مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ".
وأخرج أحمد عن حذيفة: أنه صلى على جنازة، فكبر خمسا، ثم التفت، فقال: ما نسيت ولا وهمت، ولكن كبرت كما كبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، صلى على جنازة فكبر خمسا؛ وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري؛ وهو ضعيف.
وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم في عدد تكبير صلاة الجنازة: فذهب الجمهور إلى أنه أربع، وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه خمس.
وقال القاضي عياض: اختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع.
قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع، وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع؛ على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم؛ فشذوذ لا يلتفت إليه (1) . اه.
وهذه الدعوى مردودة؛ فالخلاف في ذلك معروف بين الصحابة وإلى
__________
(1) انظر مناقشة ذلك في " أحكام الجنائز " (ص 143 - 147) لشيخنا.(1/441)
الآن، ولا وجه لعدم العمل بالخمس بعد خروجها من مخرج صحيح مع كونها زيادة غير منافية؛ إلا أن يصح ما رواه ابن عبد البر في " الاستذكار " من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا، حتى جاء موت النجاشي، فخرج فكبر أربعا، ثم ثبت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- على أربع، حتى توفاه الله - تعالى - (1) .
على أن استمراره على الأربع لا ينسخ ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الخمس؛ ما لم يقل قولا يفيد ذلك.
وقد أخرج الطبراني في " الأوسط " (2) عن جابر مرفوعا: " صلوا على موتاكم بالليل والنهار، والصغير والكبير، والدنيء والأمير؛ أربعا "؛ وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي؛ تفرد به عن ابن لهيعة، وما أحق هذا بأن لا يصح ولا يثبت!
وقد روى البخاري عن علي: أنه كبر على سهل بن حنيف ستا، وقال: إنه شهد بدرا.
وروى سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة، أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا.
__________
(1) وطرقه - كلها - ضعيفة؛ انظر " أحكام الجنائز " (ص 145) ، و " الاستذكار " (8 / 239) .
(2) (برقم: 1295 - " مجمع البحرين ") وضعفه الهيثمي في " المجمع " (3 / 35) .
وأوله في " سنن ابن ماجة " (1522) بنفس الإسناد.(1/442)
( [بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة وسورة] :)
(ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة) : لحديث ابن عباس عند البخاري وأهل " السنن ": أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنه من السنة.
ولفظ النسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر، فلما فرغ قال: سنة وحق.
وروى الشافعي في " مسنده " عن أبي أمامة بن سهل: أنه أخبره رجل من أصحاب النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: أن السنة في الصلاة على الجنازة؛ أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سرا في نفسه؛ قال في " الفتح ": وإسناده صحيح.
وقد أخرجه عبد الرزاق، والنسائي بدون قوله: بعد التكبيرة، ولا قوله: ثم يسلم سرا في نفسه.
قال في " الحجة ": " ومن السنة قراءة الفاتحة؛ لأنها خير الأدعية وأجمعها، علمها الله - تعالى - عباده في محكم كتابه " أهـ.
والحاصل: أن الموطن موطن دعاء، لا موطن قراءة قرآن، فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة، ويكون ذلك بعد التكبيرة الأولى، ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء.(1/443)
( [الأدعية المأثورة في الصلاة على الميت] :)
(ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة) : منها ما أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، قال: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إذا صلى على جنازة قال: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم {من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ".
زاد أبو داود، وابن ماجه: " اللهم} لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده ".
وأخرجه أيضا النسائي، وابن حبان، والحاكم، قال: وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه.
وأخرج هذا الشاهد الترمذي، وأعله بعكرمة بن عمار.
وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك، قال: سمعت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر، وعذاب النار ".
وقد وردت أدعية متنوعة في أحاديث صحيحة؛ هي أولى من الاستحسانات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم من عند أنفسهم، فإنهم لم يقصدوا أنها أولى من الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] ، ولكن فن الرواية هم عنه بمعزل، فضاقت عليهم المسالك؛ وهي واسعة.(1/444)
قال في " الحجة البالغة ": ومن دعاء النبي [صلى الله عليه وسلم] على الميت: " اللهم {إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك؛ فقه من فتنة القبر وعذاب النار؛ وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم} اغفر له وارحمه؛ إنك أنت الغفور الرحيم " (1) .
وأما الصلاة على الجنائز في المساجد: فغاية ما استدل به من قال بالكراهة؛ ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من صلى على جنازة في المسجد؛ فلا شيء عليه " (2) .
وأخرجه ابن ماجه بلفظ: " فليس له شيء ".
وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة:
منها: أنه ضعيف؛ كما قاله جماعة من الحفاظ؛ فإن في إسناده صالحاً - مولى التوأمة - (3) .
ومنها: أن الذي في النسخ المشهورة الصحيحة من " سنن أبي داود " بلفظ: " فلا شيء عليه " كما تقدم.
وعلى فرض ثبوت الرواية باللفظ الآخر؛ فيجب تأويلها؛ لما ثبت من صلاته [صلى الله عليه وسلم] على ابني بيضاء في المسجد.
__________
(1) حديث صحيح؛ انظر " أحكام الجنائز " (ص 158) .
(2) هذه الرواية ضعيفة، والتي تليها هي الصحيحة؛ فانظر تفصيل ذلك - رواية ودراية - في " الصحيحة " (2351) .
(3) بل الحديث ثابت؛ فانظر التعليق السابق.(1/445)
بل أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة (1) : أن الصحابة صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد.
وأما إنكار من أنكر على عائشة (2) فلا حجة فيه، ولا سيما وقد انقطع عند أن قامت عليه الحجة.
وأما الصلاة على الجنازة فرادى؛ فأقول: الاستدلال ممن قال باشتراط التجميع فيها بأنه [صلى الله عليه وسلم] ما صلى على جنازة إلا في جماعة: لا تتم به الحجة؛ لأن الأصل في كل صلاة مشروعة أن تكون كالصلوات الخمس في إجزائها فرادى كما تجزئ جماعة.
ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل.
ولو كان فعلها منه [صلى الله عليه وسلم] في جماعة تقوم به الحجة؛ للزم في صلاة الفرائض الخمس أن لا تصح إلا جماعة؛ لأنه [صلى الله عليه وسلم] لم يؤدها إلا جماعة.
إذا تقرر هذا: فالاقتصار في الاستدلال لصحة صلاة الجنازة فرادى على ما ذكرناه مغن عن غيره؛ فإن تحقيق إجماع الصحابة على تجويز الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم] عند موته فرادى (3) ممنوع؛ لأنهم قد تفرقوا بعض تفرق في تلك الحال، وإن كان الباقون في المدينة جمهورهم وأكابرهم.
ثم لو فرض الإجماع على ذلك: فهو إجماع سكوتي، وانتهاضه
__________
(1) في " المصنف " (3 / 364) .
(2) كما في " صحيح مسلم " (973) في قصة جنازة سعد.
(3) انظر " مختصر الشمائل المحمدية " (333) لشيخنا.(1/446)
للاحتجاج فيه ما لا يخفى على عارف بالأصول.
ثم هذا مبني على صدور ذلك، ولم يرد إلا بإسناد ضعيف أنهم فعلوا ذلك.
وأما ما يقال: إنه [صلى الله عليه وسلم] أوصاهم بأن يصلوا عليه فرادى، ففي إسناده عبد المنعم بن إدريس؛ وهو - كما قيل - كذاب، وصرح بعض الحفاظ بأن الحديث موضوع.
( [لا يصلى على الغال] :)
(ولا يصلى على الغال) (1) : لامتناعه [صلى الله عليه وسلم] في غزاة خيبر من الصلاة على الغال (2) ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
__________
(1) هو الذي سرق من الغنيمة قبل قسمها. (ش)
(2) • في " المسند " (4 / 114) ، و (5 / 192) ، وهو في " السنن " في " الجهاد "؛ إلا النسائي ففي " الجنائز " (1 / 278) ، ومالك أيضا في " الجهاد " (2 / 14) بإسناد صحيح: أن رجلا من أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ فقال: " صلوا على صاحبكم "، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله "، ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود؛ لا يساوي درهمين.
قلت: وإذا كان هذا لفظ الحديث، وفيه أمره - عليه السلام - أصحابه بالصلاة على الغال؛ فالاستدلال به حينئذ على ترك الصلاة ليس بالصواب، بل الحديث يدل على عكس ما ذهب إليه المصنف - رحمه الله -، فالحق قوله في " نيل الأوطار " (4 / 40) تحت هذا الحديث: " فيه جواز الصلاة على العصاة، وأما ترك النبي [صلى الله عليه وسلم] للصلاة عليه؛ فلعله للزجر عن الغلول، كما امتنع من الصلاة على المديون، وأمرهم بالصلاة عليه ". (ن)
قلت: وفي " الإرواء " (726) - كذلك - تضعيفه.
ولكن؛ ورد في " أحكام الجنائز " (ص 103) - وهي من أحدث وآخر تآليف الشيخ - أن للحديث شاهدين.(1/447)
( [لا يصلى على قاتل نفسه] :)
(وقاتل نفسه) : لحديث جابر بن سمرة عند مسلم، وأهل " السنن ": أن رجلا قتل نفسه بمشاقص (1) ، فلم يصل عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] .
( [لا يصلى على الكافر] :)
(والكافر) ، وذلك هو المعلوم منه [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإنه لم ينقل عنه أنه صلى على كافر، وقد صرح بذلك القرآن الكريم، قال الله - عز وجل - {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} .
( [لا يصلى على الشهيد] :)
(والشهيد) ، وقد اختلفت الروايات في ذلك، وقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لم يصل على شهداء أحد.
وأخرجه أيضا أهل " السنن ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم من حديث أنس أنه [صلى الله عليه وسلم] لم يصل عليهم.
أقول: لا يشك من له أدنى إلمام بفن الحديث؛ أن أحاديث الترك أصح إسنادا وأقوى متنا، حتى قال بعض الأئمة: إنه كان ينبغي لمن عارض أحاديث النفي بأحاديث الإثبات أن يستحي على نفسه، لكن الجهة التي جعلها المجوزون وجه ترجيح وهي الإثبات؛ لا ريب أنها من المرجحات الأصولية؛
__________
(1) جمع مشقص - كمنبر -: نصل عريض أو طويل، أو سهم فيه ذلك. (ش)(1/448)
إنما الشأن في صلاحية أحاديث الإثبات لمعارضة أحاديث النفي؛ لأن الترجيح فرع المعارضة.
والحاصل: أن أحاديث الإثبات مروية من طرق متعددة؛ لكنها جميعا متكلم عليها.
وقد أطال الماتن الكلام على هذا في " شرح المنتقى "، وسرد الروايات المختلفة واختلاف أهل العلم في ذلك؛ فليرجع إليه؛ فإن هذا المقام من المعارك.
( [يصلى على القبر وعلى الغائب] :)
(ويصلى على القبر وعلى الغائب) : لحديث - أنه -[صلى الله عليه وسلم]- انتهى إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعا؛ وهو في " الصحيحين " من حديث ابن عباس.
وكذلك صلاته على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد؛ وهو أيضا في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي هريرة.
وصلى على قبر أم سعد، وقد مضى لذلك شهر؛ أخرجه الترمذي (1) .
وصلى على النجاشي هو وأصحابه؛ كما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، وأبي هريرة، وهو مات في دياره بالحبشة فصلى عليه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بالمدينة.
__________
(1) (رقم 1038) بسند مرسل!(1/449)
والخلاف في الصلاة على القبر والغائب (1) معروف؛ ولم يأت المانع بشيء يُعتد به.
أقول: الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتا لا يقابله أهل العلم بغير القبول.
أما فيمن لم يصل عليه؛ فالأمر أوضح من أن يخفى، ولا تزال الصلاة مشروعة عليه؛ ما علم الناس أنه لم يصل عليه أحد.
وأما فيمن قد صُلي عليه: فلمثل حديث السوداء المتقدم، ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره [صلى الله عليه وسلم] بدون صلاة عليه.
وأما المانعون من الصلاة على القبر مطلقا: فأشف ما استدلوا به؛ ما روي عنه [صلى الله عليه وسلم] في حديث السوداء المذكور، أنه قال: " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم " (2) .
قالوا: فهذا يدل على اختصاصه [صلى الله عليه وسلم] بذلك.
وتُعقِّب بأنه [صلى الله عليه وسلم] لم ينكر على من صلى معه على القبور، ولو كان خاصا به لأنكر عليهم.
وأجيب عن هذا التعقب؛ بأن الذي يقع بالتبعية لا يصلح للاستدلال به على الفعل أصالة.
__________
(1) ولكن بشرط التأكد - أو غلبة الظن - أنه لم يصل عليه في البلد الذي مات فيه، وانظر " أحكام الجنائز " (ص 118 - 119) .
(2) انظر ما سيأتي - بعد -.(1/450)
وأحسن ما يجاب به عن هذه الزيادة؛ بأنها مدرجة في هذا الحديث، كما بين ذلك جماعة من أصحاب حماد بن زيد (1) .
على أنه يمكن الجواب بأن كون الله ينور القبور بصلاة رسوله [صلى الله عليه وسلم] عليها لا ينفي مشروعية الصلاة من غيره تأسيا به، لا سيما بعد قوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا كما رأيتموني أصلي ".
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " رُدت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها "، وهذا حديث صحيح، والذي قاله هو الذي صلى على القبر، فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الآخر؛ فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان؛ بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه، فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه؛ فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين.
ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض، وبين كونه في بطنها؛ بخلاف سائر الصلوات؛ فإنها لم تشرع في القبور، ولا إليها؛ لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد.
وقد لعن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من فعل ذلك، فأين ما لعن فاعله وحذر منه، وأخبر أن أهله شرار الخلق - كما قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة
__________
(1) الزيادة في " صحيح مسلم " (957) ، وأصله في " صحيح البخاري " (1337) بدونها!
وانظر مناقشة المسألة وتحقيقها في " الفصل للوصل المدرج في النقل " (2 / 613) للخطيب، و " السنن الكبرى " (4 / 47) للبيهقي، و " الفتح " (1 / 553) للحافظ ابن حجر.(1/451)
وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " - إلى ما فعله [صلى الله عليه وسلم] مراراً متكررة؟ ! وبالله التوفيق ".(1/452)
(5 - المشي بالجنازة)
( [المشي بالجنازة سريعا] :)
(ويكون المشي بالجنازة سريعاً) : لحديث أبي بكرة عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والحاكم، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا (1) .
وأخرج البخاري في " تاريخه " (2) ، قال: أسرع النبي [صلى الله عليه وسلم] ، حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة؛ قربتموها إلى الخير، وإن كان غير ذلك؛ فشر تضعونه عن رقابكم ".
وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسراع مستحب، وقال ابن حزم بوجوبه (3) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المستحب التوسط؛ لحديث أبي موسى، قال: مرت برسول الله [صلى الله عليه وسلم] جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله
__________
(1) الرمل - بفتح الميم -: المشي مسرعا مع هز المنكبين. (ش)
قلت: وقد صححه النووي في " المجموع " (5 / 272) .
(2) (7 / 402) بسند حسن.
(3) انظر " المحلى " (5 / 154) - له -.(1/453)
[صلى الله عليه وسلم] : " عليكم القصد "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والبيهقي؛ وفي إسناده ضعف.
وأخرج الترمذي، وأبو داود من حديث ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن المشي خلف الجنازة؟ فقال: " ما دون الخبب؛ فإن كان خيرا عجلتموه، وإن كان شرا؛ فلا يبعد إلا أهل النار "؛ وفي إسناده مجهول (1) .
ولا يخفاك أن حديث أبي موسى لا يصلح للاحتجاج به، على فرض عدم وجود ما يعارضه، فكيف وقد عارضه ما هو في " الصحيحين " بلفظ الأمر؟ !
وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي الإسراع، لأن الخبب هو ضرب من العدو، وما دونه إسراع.
أقول: والحق هو القصد في المشي، فالأحاديث المصرحة بمشروعية الإسراع؛ ليس المراد بها الإفراط في المشي الخارج عن حد الاعتدال، والأحاديث التي فيها الإرشاد إلى القصد؛ ليس المراد بها الإفراط في البطء، فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإفراط والتفريط، يصدق عليها أنه إسراع بالنسبة إلى الإفراط في البطء، وأنها قصد بالنسبة إلى الإفراط في الإسراع، فيكون المشروع دون الخبب، وفوق المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم.
ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي، وأبو داود (2) عن ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عن المشي خلف
__________
(1) " ضعيف سنن ابن ماجة " (322) .
(2) وقد ضعفاه.(1/454)
الجنازة؟ فقال: ما دون الخبب.
وقد ضعفه جماعة بأبي ماجد المذكور في إسناده، قيل: إنه مجهول، وقيل: منكر الحديث، والراوي عنه يحيى الجابري؛ وهو ضعيف.
وأخرج أحمد، والنسائي، والحاكم عن أبي بكرة، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا " (1) ؛ فمعنى: نكاد نرمل؛ أي: نقارب الرمل.
( [المشي مع الجنازة سنة] :)
(والمشي معها) سنة، وهو ظاهر لأنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يمشي مع الجنائز هو وأصحابه، كما يفيد ذلك الأحاديث المتقدمة في صفة المشي، والأحاديث الآتية في التقدم والتأخر على الجنازة، ولحديث أبي هريرة الثابت في " الصحيح ": " من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا ... " الحديث.
( [حمل الجنازة سنة] :)
(والحمل لها سنة) : لحديث ابن مسعود، قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها؛ فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع؛ أخرجه ابن ماجة، وأبو داود الطيالسي، والبيهقي من رواية أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عنه (2) .
__________
(1) هذا الحديث وحديث ابن مسعود كررهما الشارح في هذه المسألة بدون مناسبة! فقد ذكرهما أولا وتكلم عنهما. (ش)
(2) أبو عبيدة لم يسمع من أبيه؛ وهو معروف. (ش)
قلت: وبهذا جزم شيخنا في " أحكام الجنائز " (ص 121) .(1/455)
وفي الباب عن جماعة من الصحابة (1) ، والأحاديث يقوي بعضها بعضا، ولا تقصر عن إفادة مشروعية الحمل.
( [المتقدم على الجنازة والمتأخر عنها سواء] :)
(والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء) : لما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره: أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح (2) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وابن حبان - وصححه أيضا -، والحاكم - وقال: على شرط البخاري (3) - من حديث المغيرة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها؛ قريبا منها؛ عن يمينها أو عن يسارها ".
ولفظ أبي داود: " والماشي يمشي خلفها، وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريبا منها ".
وفي لفظ لأحمد، والنسائي، والترمذي: " الراكب خلف الجنازة،
__________
(1) أين؟!
(2) • قلت: الذي في " صحيح مسلم " (3 / 60) وغيره عن جابر بن سمرة، قال: أتي النبي [صلى الله عليه وسلم] بفرس معرورى، فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح، ونحن نمشي حوله.
فأنت ترى أن الحديث ورد في الانصراف من الجنازة، لا في اتباعها، فما أبعد ما استدل به المؤلف عليه} (ن)
قلت: والفرس المعرورى، هو: العاري عن السرج.
(3) • ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وقد خرجته في " التعليقات الجياد " (ج 3 / فصل 26 / ص 20 - 27) ، ولم أجد عندهم الرواية الأولى باللفظ الذي أورده المؤلف، فلعله عند ابن حبان.
ومعناه عند أبي داود وغيره. (ن)(1/456)
والماشي حيث شاء منها ".
وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان - وصححه - من حديث ابن عمر: أنه رأى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل، وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل.
أقول: فإذا لم يكن المشي أمام الجنازة أفضل: فأقل الأحوال أن يكون مساويا للمشي خلفها في الفضيلة، ولم يأت حديث صحيح ولا حسن؛ أن المشي خلف الجنازة أفضل، وأقوال الصحابة مختلفة، فالحق أن ذلك سواء.
ولا ينافيه رواية من روى أنه -[صلى الله عليه وسلم]- مشى أمامها أو خلفها؛ فذلك سواء؛ لأن المشي مع الجنازة إنما يكون أمامها أو خلفها أو في جوانبها، وقد أرشد إلى ذلك النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كما تقدم، فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه.
قال في " الحجة ": " وهل يمشي أمام الجنازة أو خلفها؟ وهل يحملها أربعة أو اثنان؟ وهل يسل من قبل رجليه، أو من القبلة؟
المختار: أن الكل واسع، وأنه قد صح في الكل حديث أو أثر " (1) أه.
( [الركوب مع الجنازة مكروه] :)
(ويكره الركوب) : لحديث ثوبان، قال: خرجنا مع رسول الله -
__________
(1) وفي " أحكام الجنائز " (ص 94 و 190) اختيار في هذه المسألة وترجيح.(1/457)
[صلى الله عليه وسلم]- فرأى ناسا ركبانا، فقال: " ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب "؛ أخرجه ابن ماجة، والترمذي (1) .
وأخرج أبو داود (2) من حديث ثوبان - أيضا -: أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أتي بدابة وهو مع جنازة، فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة، فركب، فقيل له؟ ! فقال: " إن الملائكة كانت تمشي، فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت ".
وقد خرج -[صلى الله عليه وسلم]- مع جنازة ابن الدحداح ماشيا، ورجع على فرس؛ كما في حديث جابر بن سمرة عند الترمذي - وقال: صحيح -.
ولا يعارض الكراهة ما تقدم من قوله: " الراكب خلف الجنازة؛ لأنه يمكن أن يكون ذلك لبيان الجواز مع الكراهة، أو المراد بأن كون الراكب خلفها
__________
(1) ابن ماجة (1 / 450) ، والترمذي (2 / 138) بشرح " التحفة " من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن ثوبان.
وكذا أخرجه الحاكم (1 / 356) ، والبيهقي (4 / 230) ، وقد سكتوا عنه؛ إلا أن الترمذي قال: " قد روي موقوفا ".
قلت: أخرجه كذلك البيهقي أيضا، وقال: إنه أصح، وكذا قال البخاري.
قلت: ومداره - مرفوعا وموقوفا - على أبي بكر هذا؛ وهو ضعيف، كما قال في " التحفة "، لكن ذكر البيهقي أن ثور بن زيد رواه عن راشد بن سعد، عن ثوبان موقوفا، وهو يرجح الموقوف، كما قال البيهقي. (ن)
(2) في " السنن " (4 / 64) ، وكذا البيهقي (4 / 23) ، وكذا الحاكم (1 / 335) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ثوبان، وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. (ن)
قلت: وهو كما قالا.(1/458)
أن يكون بعيدا على وجه لا يكون في صورة من يمشي مع الجنازة.
( [يحرم النعي على الميت] :)
(ويحرم النعي) : لحديث حذيفة عند أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى عن النعي (1) .
وحديث ابن مسعود، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إياكم والنعي؛ فإن النعي عمل الجاهلية "؛ أخرجه الترمذي؛ وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور، وليس بالقوي.
وفي الباب أحاديث.
والذي في " الصحاح " و " القاموس " و " النهاية " وغيرها من كتب اللغة: أن النعي: الإخبار بموت الميت، فظاهره تحريم ذلك، وإن لم يصحبه ما يستنكر كما كانت تفعله الجاهلية من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق.
ولكنه قد ثبت أنه [صلى الله عليه وسلم] نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه؛ أي: أخبرهم، وأخبر بقتلى مؤتة، وقال في السوداء التي كانت تقم المسجد: " ألا أخبرتموني بموتها؟ ! "؛ فدلت هذه الأحاديث على جواز الإعلام بمجرد الموت؛ لمن يحضر الغسل والتكفين والصلاة، والمنع منه لغير ذلك.
__________
(1) انظر " صحيح سنن ابن ماجة " (1203) .(1/459)
( [تحرم النياحة على الميت] :)
(والنياحة) : لحديث: " من نيح عليه يعذب (1) بما نيح عليه "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث المغيرة.
وعلى النياحة تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء، وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه.
وفي " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ".
وأخرج أحمد، ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري: " النائحة - إذا لم تتب قبل موتها - تقام يوم القيامة؛ وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب ".
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى بلفظ: أنا بريء مما بريء منه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بريء من الصالقة (2) ، والحالقة، والشاقة ".
__________
(1) • أي: يتألم ويتوجع، قال شيخ الإسلام في تفسير حديث أبي ذر - بعد أن قرر أن ليس على أحد من وزر غيره شيء، وأنه لا يستحق إلا ما سعاه -، قال: (2 / 209 - من المجموعة المنيرية) :
" وإن ظن بعض الناس أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ينافي الأول! فليس كذلك؛ إذ ذلك النائح يعذب بنوحه، لا يحمل الميت وزره، ولكن الميت يناله ألم من فعل هذا كما يتألم الإنسان من أمور خارجة عن كسبه، وإن لم يكن جزاء الكسب والعذاب أعم من العقاب، كما قال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " السفر قطعة من العذاب ".
وانظر تفصيل هذا البحث في " تهذيب السنن " لابن القيم (4 / 290) ، وقد صرح فيه بخطأ تفسير هذا الحديث على هذا الوجه، فراجعه؛ فإنه مفيد. (ن)
(2) • صلق يصلق صلقا: رفع صوته عند المصيبة. " المعجم المدرسي ". (ن)(1/460)
أقول: الأحاديث في هذا الباب قد اختلفت، فمنها ما فيه الإذن بمطلق البكاء، ومنها ما فيه النهي عن مطلق البكاء، ووردت أحاديث مصرحة بالنهي عن النوح، كما تقدم بعض ذلك؛ ولم يأت ما يدل على جوازه.
واختلف الناس في الجمع بين الأحاديث، فالذي يترجح: الجزم بتحريم نفس النوح؛ لأنه أمر زائد على البكاء.
وأما ما لا يستطاع دفعه من دمع العين، وما عجز الطبع عن كتمه من الصوت فلا مانع منه، وعليه تحمل أحاديث الإذن بالبكاء، وفيها ما يرشد إلى هذا؛ فليعلم.
( [يحرم اتباع الجنازة بنار] :)
(واتباعها بنار، وشق الجيب، والدعاء بالويل والثبور) : لحديث أبي بردة، قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت، فقال: لا تتبعوني بمجمر، قالوا: أو سمعت فيه شيئا؟ ! قال: نعم، من رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ أخرجه ابن ماجة؛ وفي إسناده مجهول (1) .
وقد كان هذا الفعل من أفعال الجاهلية.
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]
__________
(1) • قلت: كلا؛ ليس فيه مجهول؛ بل رجاله معروفون، كلهم ثقات؛ غير أن أبا حريز - واسمه عبد الله بن حسين - تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه، ولذلك قال في " الزوائد ": " إسناده حسن ".
وله شاهد من حديث أبي هريرة، رواه مالك في " الموطأ "، وأبو داود، والحديث في " ابن ماجة (1 / 453) ، و " البيهقي " (3 / 395) ؛ ثم تبين لي أن الشارح تبع الشوكاني في " نيل الأوطار " في هذا الوهم؛ فانظر (4 / 63) . (ن)(1/461)
قال: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ".
( [السنة أن لا يقعد المتبع للجنازة حتى توضع] :)
(ولا يقعد المتبع لها حتى توضع) : لحديث: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن اتبع؛ فلا يجلس حتى توضع "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد.
وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة نحوه.
وقد وردت أحاديث صحيحة في القيام للجنازة إذا مرت بمن كان قاعدا، كحديث: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، حتى تخلفكم أو توضع "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره.
وأخرج مسلم من حديث علي، قال: قام النبي -[صلى الله عليه وسلم]-؛ يعني: في الجنازة؛ ثم قعد.
وفي رواية من حديثه، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس؛ رواه أحمد، وابن ماجة، وأبو داود، وابن حبان.
وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبزار من حديث عبادة بن الصامت: أن يهوديا قال - لما كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يقوم للجنازة -: هكذا نفعل، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اجلسوا وخالفوهم "؛ وفي إسناده بشر بن أبي رافع، وليس(1/462)
بالقوي - كما قال الترمذي -، وقال البزار: تفرد به بشر وهو لين.
فأفاد ما ذكرناه:
( [القيام للجنازة منسوخ] :)
(أن القيام لها) إذا مرت (منسوخ) ، وأما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض: فمحكم لم ينسخ (1) .
قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا.
أقول: وهذا الحديث - بلفظ: ثم قعد -؛ لا يصلح لنسخ الأحاديث الصحيحة المصرحة بأمره [صلى الله عليه وسلم] لنا بالقيام، وعلل ذلك بأن الموت فزع، وقام لجنازة، فقيل: إنها جنازة يهودي! فقال: " أليست نفسا؟ " (2) ؛ فغاية ما يدل عليه قعوده - من بعد - هو أن القيام ليس بواجب عليه، وقد تقرر في الأصول أنه إذا فعل فعلا - لم يظهر منه التأسي به فيه، وكان ذلك مخالفا لما قد أمر به الأمة أو نهاها عنه -؛ فإنه يكون مختصا به، ويبقى حكم الأمر أو النهي للأمة على حاله (3) .
__________
(1) • قلت: بل هو منسوخ أيضا؛ بما أخرجه الطحاوي من طريق إسماعيل بن مسعود بن الحكم الزرقي، عن أبيه، قال: شهدت جنازة بالعراق، فرأيت رجالا قياما ينتظرون أن توضع، ورأيت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يشير إليهم؛ أن اجلسوا؛ فإن النبي [صلى الله عليه وسلم] قد أمرنا بالجلوس بعد القيام، وسنده حسن، كما ذكرت في " التعليقات الجياد " (3 / 30 - 31) .
وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه، كما ذكره النووي، ونقلت كلامه هناك؛ فراجعه. (ن)
(2) رواه البخاري (1312) ، ومسلم (961) .
(3) كلا؛ بل فعله [صلى الله عليه وسلم] يجب التأسي به مطلقا فيما كان من الشرائع، والخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح. (ش)(1/463)
ولفظ: أمرنا بالجلوس (1) ؛ إن بلغ إلى حد الاعتبار صلح للنسخ، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت المتقدم - وفيه ما تقدم -، والمقام عندي من المضايق.
__________
(1) • قلت: سنده حسن كما بينته في المصدر السابق، فهو صالح للاحتجاج به. (ن)
قلت: وانظر " أحكام الجنائز " (ص 78)(1/464)
(6 - فصل: دفن الميت)
( [مواراة الميت ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا] :)
(ويجب دفن الميت) ، أي: مواراة جيفته (في حفرة) قبر؛ بحيث لا تنبشه السباع، و (تمنعه من السباع) ، ولا تخرجه السيول المعتادة.
ولا خلاف في ذلك، وهو ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا.
وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " احفروا وأعمقوا وأحسنوا "؛ أخرجه النسائي (1) ، والترمذي - وصححه -.
( [جواز الضرح واللحد، مع أن اللحد أولى] :)
(ولا بأس بالضرح، واللحد أولى) : لأن اللحد أقرب من إكرام الميت، وإهالة التراب على وجهه - من غير ضرورة - سوء أدب.
ودليله حديث: أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح، وأن أبا طلحة كان يلحد "، وقد أخرجه ابن ماجة (2) من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف.
__________
(1) • في " سننه " (1 / 283) ، والترمذي (3 / 36 - بشرح " التحفة ") ، والبيهقي - أيضا - (4 / 34) من حديث هشام بن عامر؛ وذكر فيه خلافا لا يضر - إن شاء الله تعالى -.
ثم الحديث وارد في شهداء أحد؛ وفيه: " ادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر ". (ن)
(2) (1 / 498) ، وكذا البيهقي (3 / 407) ، وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس. (ن)(1/465)
وأخرج أحمد، وابن ماجة من حديث أنس، قال: لما توفي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان رجل يلحد وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا له "، وإسناده حسن (1) .
فتقريره [صلى الله عليه وسلم] للرجلين في حياته 0 هذا يلحد وهذا يضرح -؛ يدل على أن الكل جائز.
وأما أولوية اللحد: فلحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : اللحد لنا والشق لغيرنا "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن السكن؛ مع أن في إسناده عبد الأعلى بن عامر؛ وهو ضعيف.
وأخرج أحمد، والبزار، وابن ماجة من حديث جرير نحوه، وفيه عثمان ابن عمير؛ وهو ضعيف (2) .
وقد ذهب إلى ذلك الأكثر.
وحكى النووي في " شرح مسلم " (3) اتفاق العلماء على جواز اللحد والشق.
وعلى كل حال: اللحد أولى للخروج من الريبة، وإن كان المقام مقام احتمال.
__________
(1) • وهو كما قال، وصححه في " الزوائد "، وأخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (4 / 45) .
وله شاهد من حديث عائشة عند ابن ماجة (1 / 472) ، وصححه البوصيري، وهو خطأ؛ فإن فيه رجلا مجهولا؛ وهو عبيد بن طفيل المقريء. (ن)
(2) قلت: فهو يقويه؛ وانظر " أحكام الجنائز " (ص 145) .
(3) وعبارته في " المجموع " (7 / 287) : " وأجمع العلماء ... ".(1/466)
( [كيف يدخل الميت في قبره؟] :)
(ويدخل الميت من مؤخر القبر) : لحديث عبد الله بن يزيد: أنه أدخل ميتا من قبل رجلي القبر، وقال: هذا من السنة؛ أخرجه أبو داود (1)
وأخرج ابن ماجة (2) من حديث أبي رافع، قال: سل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] سعد بن معاذ سلا.
وقد روى الشافعي من حديث ابن عباس، وأبو بكر النجاد (3) من حديث ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سل من قبل رأسه سلا.
وقد روى البيهقي من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وبريدة: أنهم أدخلوا النبي [صلى الله عليه وسلم] من جهة القبلة (4) ؛ وقد ضعفها البيهقي.
ولا يعارض السنة ما وقع من بعض الصحابة عند دفنه [صلى الله عليه وسلم]
( [كيف يوضع الميت في قبره؟] :)
(ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلا) ؛ وهو مما لا أعلم فيه خلافا.
__________
(1) • ومن طريقه أخرجه البيهقي (4 / 54) ، وقال: " إسناد صحيح، وقد قال: هذا من السنة؛ فصار كالمسند " (ن)
(2) (برقم 1551) ، وفي سنده مندل العنزي؛ وهو ضعيف.
(3) • اسمه أحمد بن سليمان البغدادي، ولد سنة (253) هـ، ومات سنة (348) هـ، وهو من الرواة عن أبي داود، ترجمه الذهبي في " تذكرته " (3 / 79 - 81) . (ن)
قلت: وفي سند الشافعي إبهام، ولم أقف على سند النجاد.
(4) • وقد ذكر الشافعي في " الأم " (1 / 241) أن هذا غير ممكن؛ لأن قبر النبي [صلى الله عليه وسلم] كان عن يمين الداخل إلى البيت لاصقا بالجدار، وقد ألحد له [صلى الله عليه وسلم] تحته، وهو قبلة البيت؛ فهو مانع من إدخاله [صلى الله عليه وسلم] من جهة القبلة. (ن)(1/467)
( [يستحب لكل حاضر الحثو ثلاثا] :)
(ويستحب حثو التراب من كل من حضر ثلاث حثيات) : لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا؛ أخرجه ابن ماجة، وأبو داود؛ وإسناده صحيح، لا كما قال أبو حاتم (1) {
وأخرج البزار، والدارقطني من حديث عامر بن ربيعة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] حثى على قبر عثمان بن مظعون - ثلاثا - (2) .
وفي الباب غير ذلك.
( [لا يرفع القبر زيادة على شبر] :)
(ولا يرفع القبر زيادة على شبر) : لحديث علي عند مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ": أنه بعثه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على أن لا يدع تمثالا إلا طمسه، ولا قبرا مشرفا إلا سواه.
وفي " مسلم " - أيضا - وغيره - من حديث جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يبنى على القبر.
وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي من حديث جعفر بن محمد، عن
__________
(1) في " العلل " (1 / 348) ؛ حيث أعله بالإرسال} وهذا منه قول مرجوح.
(2) • وفيه ضعف كما بينته في " التعليقات الجياد " (3 / 34) ، لكن مجموع ما ورد في الباب صالح للاحتجاج به. (ن)(1/468)
أبيه: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رش على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء، ورفعه شبرا (1) .
أقول: الأحاديث الصحيحة وردت بالنهي عن رفع القبور، وقد ثبت من حديث أبي الهياج ما تقدم، فما صدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف - لغة -: فهو من منكرات الشريعة التي يجب على المسلمين إنكارها وتسويتها؛ من غير فرق بين نبي وغير نبي، وصالح وطالح، فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يرفع قبورهم، بل أمر عليا بتسوية المشرف منها، ومات -[صلى الله عليه وسلم]- ولم يرفع قبره أصحابه، وكان من آخر قوله: " لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، ونهى أن يتخذوا قبره وثنا.
فما أحق الصلحاء والعلماء أن يكون شعارهم هو الشعار الذي أرشدهم إليه -[صلى الله عليه وسلم]-!
وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها؛ تخصيص لهم بما لا يناسب العلم والفضل؛ فإنهم لو تكلموا لضجوا من اتخاذ الأبنية على قبورهم وزخرفتها؛
__________
(1) • قلت: هو مرسل؛ وفيه عند البيهقي (3 / 411) إبراهيم بن محمد - وهو الأسلمي -؛ وهو مكشوف الحال، كما قال ابن التركماني، لكن أخرجه البيهقي أيضا من طريق أخرى، عن جعفر مرسلا؛ إلا أنه ذكر أن ذلك فعل بقبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ ورجاله ثقات، وقد وصله ابن حبان في " صحيحه "، فأسنده من هذا الوجه عن جابر كما في " التلخيص " (5 / 224) .
(فائدة) : وهل يسطح القبر أو يسنم؟ فيه خلاف؛ والصواب الثاني، وفي ذلك أثران ظاهرهما التعارض، وقد ذهب إلى كل واحد منهما بعض، والحق أنه لا تعارض؛ كما أشار إلى ذلك ابن القيم في " الزاد "، وبيناه في " التعليقات الجياد " (3 / 37) . (ن)(1/469)
لأنهم لا يرضون بأن يكون لهم شعار من مبتدعات الدين ومنهياته، فإن رضوا بذلك في الحياة - كمن يوصي من بعده أن يجعل على قبره بناء، أو يزخرفه -؛ فهو غير فاضل، والعالم يزجره علمه عن أن يكون على قبره ما هو مخالف لهدي نبيه -[صلى الله عليه وسلم]-.
فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور وتشييدها {وما أسرع ما خالفوا وصية رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند موته، فجعلوا قبره على هذه الصفة التي هو عليها الآن}
وقد شد من عضد هذه البدعة؛ ما وقع من بعض الفقهاء من تسويغها لأهل الفضل، حتى دونوها في كتب الهداية، والله المستعان {
ومثل هذا التسويغ: الكتب على القبور بعد ورود صريح النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة (1) ؛ كأنه لم يكف الناس ابتداعهم في مطعمهم ومشربهم وملبوسهم وسائر أمور دنياهم، فجعلوا على قبورهم شيئا من هذه البدع؛ لتنادي عليهم بما كانوا عليه حال الحياة، وتغالوا في ذلك حتى جعلوه مختصا بأهل العلم والفضل؛ اللهم غفرا}
__________
(1) روى الحاكم في " المستدرك " (جزء 1 ص 370) من حديث جابر: نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن تجصيص القبور، والكتاب فيهما، والبناء عليها، والجلوس عليها، ثم قال: " هذه الأسانيد صحيحة؛ وليس العمل عليها؛ فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف ".
قال الذهبي عقبه: " قلت: ما قلت طائلا! ولا نعلم صحابيا فعل ذلك؛ وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي ". (ش)
قلت: وانظر - للفائدة - " أحكام الجنائز " (ص 263) .(1/470)
وما جعلوه وجها لرفع القبور - وهو تمييزها لأجل الزيارة -: فهذا ممكن بوضع حجر على القبر، أو بوضع قضيب، أو نحو ذلك، لا بتشييد الأبنية، ورفع الحيطان والقبب، وتزويق الظاهر والباطن.
( [زيارة القبور مشروعة للرجال والنساء] :)
(والزيارة للموتى مشروعة) ، أي: زيارة القبور؛ لحديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه؛ فزوروها فإنها تذكر الآخرة "، أخرجه الترمذي - وصححه -؛ وهو في " صحيح مسلم ".
وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة بنحو ذلك.
وفي الباب أحاديث.
وقد قيل باختصاص ذلك بالرجال؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لعن زوارات القبور؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، وابن حبان في " صحيحه ".
وفي الباب عن حسان بن ثابت عند أحمد، وابن ماجة، والحاكم.
وعن ابن عباس عند أحمد، وأهل " السنن "، والحاكم، والبزار؛ بإسناد فيه صالح - مولى التوأمة -؛ وهو ضعيف.
وقد وردت أحاديث في نهي النساء عن اتباع الجنائز، وهي تقوي المنع من الزيارة.(1/471)
وروى الأثرم في " سننه "، والحاكم (1) من حديث عائشة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] رخص لهن في زيارة القبور.
وأخرج ابن ماجة عنها مختصرا: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] رخص في زيارة القبور.
فيمكن أنها أرادت الترخيص الواقع في قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فزوروها "؛ كما سبق، فلا يكون في ذلك حجة؛ لأن الترخيص العام لا يعارض النهي الخاص.
لكنه يؤيد ما روته عائشة: ما في " صحيح مسلم " عنها، أنها قالت: يا رسول الله {كيف أقول إذا زرت القبور؟ قال: " قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين ... " الحديث.
وروى الحاكم: أن فاطمة - رضي الله تعالى عنها - كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة (2) .
ويجمع بين الأدلة: بأن المنع لمن كانت تفعل في الزيارة ما لا يجوز من نوح ونحوه، والإذن لمن لم تفعل ذلك.
__________
(1) • أخرجه في (الجنائز) (ج 1 / ص 376) عن عبد الله بن أبي مليكة: أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين} من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم؛ كان نهى، ثم أمر بزيارتها.
سقط تصحيحه من " المستدرك "! وقال الذهبي: " صحيح ". (ن)
قلت: وانظر " أحكام الجنائز " (ص 230) ؛ ففيه فائدة زائدة.
(2) رواه الحاكم (جزء 1: ص 377) من طريق سليمان بن داود، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، وقال: " رواته عن آخرهم ثقات ".
قال الذهبي: " هذا منكر جدا، وسليمان ضعيف ". (ش)(1/472)
أقول: استدلوا للجواز بأحاديث الإذن العام بالزيارة، وغير خاف على عارف بالأصول؛ أن الأحاديث الواردة في النهي للنساء عن الزيارة، والتشديد في ذلك، حتى لعن [صلى الله عليه وسلم] من فعلت ذلك؛ بل وردت أحاديث صحيحة في نهيهن عن اتباع الجنائز (1) ، فزيارة القبور ممنوعة منهن بالأولى، وشدد في ذلك حتى قال للبتول - رضي الله عنها -: " لو بلغت معهم - يعني: أهل الميت - الكدى؛ ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " (2) ؛ فهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث الإذن العام بالزيارة.
لكنه يشكل على ذلك أحاديث أخر:
منها: حديث عائشة المتقدم: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] علمها كيف تقول إذا زارت القبور (3) .
ومنها: ما أخرجه البخاري: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] مر بامرأة تبكي على قبر، ولم ينكر عليها الزيارة.
__________
(1) • قلت: لكن في " البخاري " وغيره: أنه لم يعزم عليهن، فقول المؤلف: إن زيارتهن ممنوعة بالأولى؛ غير مسلم، وبيانه ليس هذا محله. (ن)
قلت: فانظر " أحكام الجنائز " (ص 90) .
(2) رواه الحاكم (جزء 1: ص 374) ، ولم يذكر فيه أن المرأة فاطمة، بل أبهم المرأة.
ونسبه الشوكاني في " نيل الأوطار " جزء (1: ص 160 - طبعتنا) لأبي داود.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (ش)
• قلت: وليس كما قالا؛ بل إن الذهبي في بعض كتبه مال إلى أن الحديث موضوع، وقد تكلمت على ذلك مفصلا في " التعليقات " (3 / 55 - 57) .
(3) • قلت: وكذا حديثها عند الحاكم (1 / 376) .
وهذا هو الحق؛ كما بينته في " التعليقات " (3 / 53 - 57) . (ن)(1/473)
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث؛ إنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لما تقتضيه الصيغة من المبالغة - يعني: لفظ " زوارات " -.
قال: ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج.
( [كيف يقف الزائر للقبور؟] :)
(ويقف الزائر مستقبلا للقبلة) : لحديث: أنه جلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مستقبل القبلة لما خرج إلى المقبرة؛ أخرجه أبو داود (1) من حديث البراء، وهو [صلى الله عليه وسلم] خرج في هذا الحديث مع جنازة؛ فأفاد مشروعية قعود من خرج مع الجنازة مستقبلا حتى يدفن، وكذلك مشروعية الاستقبال للزائر؛ لكونه قد خرج إلى المقبرة كما يخرج من معه جنازة، وقعد كما يقعد.
( [ماذا يقول الزائر للقبور؟] :)
وقد كان [صلى الله عليه وسلم] يقول عند الزيارة: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين {وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية "؛ فينبغي للزائر أن يقول كذلك.
وقال في " الحجة ": وفي رواية " السلام عليكم يا أهل القبور} يغفر الله لنا ولكم، وأنتم سلفنا ونحن بالأثر (2) "؛ والله - تعالى - أعلم.
__________
(1) • في " السنن " (2 / 69) بإسناد صحيح، وأخرجه النسائي أيضا، وابن ماجة.
وقد أعله بعضهم بما لا يضر، كما بينه ابن القيم في " التهذيب " (4 / 337) . (ن)
(2) رواه الترمذي (1053) ؛ وفي سنده قابوس بن أبي ظبيان؛ والراجح ضعفه.(1/474)
( [يحرم اتخاذ القبور مساجد] :)
(ويحرم اتخاذ القبور مساجد) ، الأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما، ولها ألفاظ منها:
" لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وفي لفظ: " قاتل الله اليهود ... " الحديث.
وفي لفظ: " لا تتخذوا قبري مسجدا ".
وفي آخر: " لا تتخذوا قبري وثنا ".
واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. (1)
وفي " مسلم ": " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها " (2) .
قال البيضاوي: " وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا لتعظيم له، ولا لتوجه نحوه: فلا يدخل في ذلك الوعيد " {انتهى.
وتعقبه في " سبل السلام " وقال: قوله: لا لتعظيم له} يقال: اتخاذ
__________
(1) • يستفاد من هذا الحديث مسائل فقهية مهمة، بينتها بتفصيل في " التعليقات " (3 / 42) . (ن)
(2) • هذه الزيادة ليست في " صحيح مسلم " (3 / 62) ، ولا عند غيره - كأصحاب " السنن " الثلاثة وغيرهم -؛ وقد خرجت الحديث في " السترة " من كتاب " صفة صلاة النبي [صلى الله عليه وسلم] ".
وقد تبين لي سبب وهم المؤلف، وبيان ذلك لا يتسع له المقام. (ن)(1/475)
المسجد بقربه، وقصد التبرك به تعظيم له، ثم أحاديث النهي مطلقة، ولا دليل على التعليل بما ذكر، والظاهر أن العلة سد الذريعة، والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان التي تعظم الجمادات التي لا تسمع، ولا تنفع، ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها، الملعون فاعله، ومفاسد ما بني على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر.
وقد أخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة عن ابن عباس: لعن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم] زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) "؛ وقد حققنا ذلك في رسالة مستقلة. انتهى.
( [يحرم زخرفة القبور] :)
(وزخرفتها) : لحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ما أمرت بتشييد المساجد "؛ أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان.
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى (2) .
والتشييد: رفع البناء وتزيينه بالشيد، وهو الجص، والحديث ظاهر في الكراهة، أو التحريم؛ لقول ابن عباس: كما زخرفت اليهود والنصارى؛ فإن التشبه بهم محرم؛ وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس
__________
(1) والحديث ضعيف؛ وستأتي إشارة شيخنا لتضعيفه.
(2) • وهم الشارح - رحمه الله -، فرجع الضمير إلى " المساجد "؛ وهو خطأ؛ بدليل السياق، وبدليل قوله - بعد -: " وتسريجها "؛ فهنا لا يحتمل إرجاع الضمير إلا إلى " المساجد "؛ فتدبر. (ن)(1/476)
من الحر والبرد، وتزيينه يشغل القلوب عن الإقبال على الطاعة، ويذهب الخشوع الذي هو روح جسم العبادة، والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل!
قال المهدي في " البحر ": إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا سكوت رضا - أي: من العلماء -؛ وإنما فعله أهل الدول الجبابرة، من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل، وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا.
وهو كلام حسن.
وفي قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ما أمرت ": إشعار بأنه لا يحسن؛ فإنه لو كان حسنا لأمره الله - تعالى - به -[صلى الله عليه وسلم]-.
وأخرج البخاري من حديث ابن عمر: أن مسجده -[صلى الله عليه وسلم]- كان على عهده مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدرانه بالأحجار المنقشة، والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج.
قال ابن بطال: وهذا يدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر - رضي الله تعالى عنه - مع كثرة الفتوحات في أيامه، وكثرة المال عنده؛ لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده؛ لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم قال عند عمارته: أكن(1/477)
الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، ثم كان عثمان المال في زمنه أكثر، فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه.
وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك؛ خوفا من الفتنة؛ فتأمل.
( [يحرم تسريج القبور] :)
(وتسريجها) : لحديث: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وفي إسناده أبو صالح باذام، وفيه مقال. (1)
وأخرج أحمد، ومسلم، وأهل " السنن " عن جابر، قال: نهى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه.
وزاد الترمذي: وأن يكتب عليه، وأن يوطأ - وصححه -.
وأخرج النهي عن الكتابة - أيضا - النسائي.
وقال الحاكم: إن الكتابة - وإن لم يخرجها مسلم -: فهي على شرطه.
( [يحرم القعود على القبور] :)
(والقعود عليها) : لما أخرجه مسلم، وأحمد، وأهل " السنن " من حديث
__________
(1) • وقد بينت ذلك في " التعليقات الجياد " (3 / 53) . (ن)(1/478)
أبي هريرة، (1) قال: " لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده: خير له من أن يجلس على قبر ". (2)
وأخرج أحمد بإسناد صحيح، (3) عن عمرو بن حزم، قال: رآني رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- متكئا على قبر، فقال: " لا تؤذ صاحب هذا القبر ".
قال في " الحجة البالغة ": ومعنى: أن لا يقعد عليه؛ قيل: أن يلازمه المزورون، وقيل: أن يطأوا القبور، وعلى هذا؛ فالمعنى إكرام الميت، فالحق التوسط بين التعظيم الذي يقارب الشرك، وبين الإهانة وترك الموالاة به.
( [يحرم سب الأموات] :)
(وسب الأموات) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا "؛ أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة.
وأخرج أحمد، والنسائي من حديث ابن عباس: " لا تسبوا أمواتنا؛ فتؤذوا أحياءنا "؛ وفي إسناده صالح بن نبهان؛ وهو ضعيف، ولكنه يشهد له ما ورد بمعناه من حديث سهل بن سعد، والمغيرة (3) .
__________
(1) ظاهر صنيع الشارح يوهم أن هذا الحديث من كلام أبي هريرة، وليس كذلك؛ بل هو حديث مرفوع.
وقوله: وأهل " السنن "؛ يشمل الترمذي، وليس كذلك؛ فإنه لم يروه: انظر " نيل الأوطار " (جزء 4: ص 135) . (ش)
• قلت: وقد خرجناه في " التعليقات " (3 / 57) . (ن)
(2) • وهو كما قال - تبعا للحافظ -؛ وقد خرجته في " الصحيحة " (2960) .
(3) فهو حسن بشواهده.(1/479)
أقول: أما السباب للأموات من الشافعين لهم، القائمين بالصلاة عليهم: فما لهذا حمل الحاملون الجنازة إليهم؛ فإذا كان لا يستجيز الدعاء للميت، كمن يكون - مثلا - معلوم النفاق؛ فيدعو المصلي لنفسه، ولسائر المسلمين إذا ألجأته الضرورة إلى الصلاة عليه، و " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "؛ و " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس (1) .
قال بعض المقصرين لرجل من أهل العلم: ألا تلعن فلانا؟ {قال: وهل تعبدنا الله بذلك؟} قال: نعم، قال: فمتى عهدك بلعن الشيطان وفرعون؛ فإنهما من رؤوس هذه الطائفة التي زعمت أن الله تعبدك بلعنها؟ قال: لا أدري {قال: لقد فرطت فيما تعبدك الله به، وتركت ما هو أحق بما تفعل} فعرف ذلك المقصر خطأه (2) .
( [التعزية مشروعة بألفاظ مأثورة] :)
(والتعزية مشروعة) : لحديث: " من عزى مصابا فله مثل أجره "، أخرجه ابن ماجة، والترمذي، والحاكم من حديث ابن مسعود، وقد أنكر هذا الحديث على علي بن عاصم (3) .
__________
(1) قوله: " طوبى لمن ... "؛ لفظ حديث لا يثبت؛ وإن كان معناه صحيحا؛ فانظر " العلل المتناهية " (2 / 344) .
وما قبله: حديثان صحيحان.
(2) أقول: وهذا حال الغلاة الجدد؛ الذين لا ينقطع إطلاق القول بالتكفير عن ألسنتهم {
ألا ساء ما يزرون، وباطل ما كانوا يصنعون} !
(3) • وقد ذكر له الحافظ في " التلخيص " (5 / 251 - 252) متابعين، قال: " وكلهم أضعف منه بكثير، وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلا طريق إسرائيل، فقد ذكرها صاحب " الكمال " من طريق وكيع عنه، ولم أقف على إسنادها بعد "؛ ثم ذكر له ثلاثة شواهد منها حديث عمرو بن حزم الذي بعده. (ن)(1/480)
وأخرج ابن ماجة من حديث عمرو بن حزم، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة؛ إلا كساه الله - عز وجل - من حلل الكرامة يوم القيامة "؛ ورجال إسناده ثقات (1) .
وأخرج الشافعي من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لما توفي رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- وجاءت التعزية؛ سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب "؛ وفي إسناده القاسم بن عبيد الله بن عمرو؛ وهو متروك (2) .
وأخرج البخاري، ومسلم من حديث أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فأرسلت إليه إحدى بناته؛ تدعوه وتخبره أن صبيا لها - أو ابنا لها - في الموت، فقال للرسول: " ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب ".
فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في " الصحيح "، ولا يعدل عنها إلى
__________
(1) • وكذا قال في " النيل " (4 / 81) إلا أنه استثنى، فقال: " إلا قيسا أبا عمارة؛ ففيه لين ".
فترك المصنف لهذا ليس من الأمانة العلمية في شيء {
ثم إن في الحديث انقطاعا أو إرسالا؛ بينته في " معجم الحديث " - لنا -. (ن)
(2) • قلت: لكن أخرجه الحاكم (ج 3 / ص 57) من طريق أخرى، وقال: " صحيح "، ووافقه الذهبي، وفي رواية: أن القائل هم الملائكة، وذكر له الحاكم شاهدا من حديث أنس، وفيه أن القائل هو الخضر - عليه السلام -} ولكنه منكر، وفي إسناده عباد بن عبد الصمد، قال فيه الذهبي: واه، قال البخاري: منكر الحديث، ووهاه ابن حبان، وقال أبو حاتم: ضعيف جدا ".
وفي سند الرواية الأولى عند الحاكم خالد بن إسماعيل، وهو كذاب؛ كما قاله الذهبي نفسه في " الميزان "، وانظر " التعليقات " (3 / 67) . (ن)(1/481)
غيرها (1) .
( [إهداء الطعام لأهل الميت مشروع] :)
(وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت) : لحديث عبد الله بن جعفر، قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل؛ قال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اصنعوا لآل جعفر طعاما؛ فقد أتاهم ما يشغلهم "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وصححه ابن السكن، وحسنه الترمذي. (2)
وأخرج نحوه أحمد، والطبراني، وابن ماجة من حديث أسماء بنت عميس - أم عبد الله بن جعفر -.
وأخرج أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح (3) من حديث جرير، قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة.
ولا يعارض هذا ما قد ثبت (4) عن النبي -[صلى الله عليه وسلم] وشرف وكرم -.
__________
(1) لماذا لا يعدل عنها إلى غيرها؟ {هل ورد الأمر بها والنهي عما عداها؟} نعم؛ إن اتباع الوارد أفضل، ولكن هذا لا يمنع إباحة التعزية بكل ما يراه الإنسان نافعا لتخفيف المصاب؛ على أن لا يقول ما يغضب الرب، ولا يخالف المشروع. (ش)
قلت: كمثل قولهم: " البقية في حياتك " {}
(2) • قلت: وهو حسن لغيره - هو وحديث أسماء الذي بعده -، وقد تكلمت عليهما في " التعليقات " (3 / 71) . (ن)
(3) • قلت: وهو على شرط الشيخين، ولم أجده في " مسند أحمد " كما ذكرت في " التعليقات " (3 / 71) .
ثم وجدته في " المسند " برقم (6905) ، أورده في مسند أنس، على خلاف العادة. (ن)
(4) لعله - رحمه الله - يريد حديث: " اصنعوا لآل جعفر طعاما ... " - المتقدم -؛ فهو - حقا - لا يعارضه.(1/482)
(الكتاب الرابع: كتاب الزكاة)(1/483)
(4 - كتاب الزكاة)
( [الزكاة ركن من أركان الإسلام] :)
وهي فريضة من فرائض الدين، وركن من أركانه، وضروري من ضرورياته؛ ولكنها لا تجب إلا فيما أوجب فيه الشارع الزكاة من الأموال، وبينه للناس؛ فإن ذلك هو بيان لمثل قوله: {خذ من أموالهم صدقة} و {آتوا الزكاة} ، كما بين للناس قوله - تعالى -: {أقيموا الصلاة} ما شرعه الله - تعالى - من الصلوات التي بينها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للناس.
قال الماتن: وقد توسع كثير من أهل العلم في إيجاب الزكاة في أموال لم يوجب الله الزكاة فيها، بل صرح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- في بعض الأموال بعدم الوجوب، كقوله: " ليس على المرء في عبده ولا فرسه صدقة ... " (1) .
وقد كان للصحابة أموال وجواهر، وتجارات وخضراوات، ولم يأمرهم -[صلى الله عليه وسلم]- بتزكية ذلك، ولا طلبها منهم، ولو كانت واجبة في شيء من ذلك؛ لبين للناس ما نزل إليهم، فقد أوردنا في هذا المختصر ما تجب فيه، وأشرنا إلى أشياء من الأموال التي لا زكاة فيها، مما قد جعله بعض أهل العلم من الأموال التي تجب فيها الزكاة؛ كما ستسمع ذلك. ا. هـ
__________
(1) رواه البخاري (1463) ، ومسلم (982) .(1/485)
(تجب في الأموال التي ستأتي) - ببيانها عن قريب -.
واجتمعت الأمة على أن منع الزكاة كبيرة.
قال في " العالمكيرية ": " هي فريضة محكمة، يكفر جاحدها، ويقتل مانعها ".
قال مالك: الأمر عندنا: أن كل من منع فريضة من فرائض الله - تعالى -، فلم يستطع المسلمون أخذها: كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه، وبلغه (1) أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - قال: " لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه "؛ كذا في " المسوى ".
( [تجب الزكاة على المالك المكلف] :)
(إذا كان المالك مكلفا) : اعلم أن هذه المقالة قد ينبو عنها ذهن من يسمعها؛ فإذا راجع الإنصاف، ووقف حيث أوقفه الحق؛ علم أن هذا هو الحق.
وبيانه أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام، ودعائمه وقوائمه، ولا خلاف أنه لا يجب شيء من الأربعة الأركان - التي الزكاة خامستها - على غير مكلف، فإيجاب الزكاة عليه؛ إن كان بدليل: فما هو؟ ! فما جاء عن الشارع في هذا شيء مما تقوم به الحجة.
كما يروى عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه أمر
__________
(1) وهو متفق عليه بين الشيخين.(1/486)
بالاتجار في أموال الأيتام؛ لئلا تأكلها الزكاة، فلم يصح ذلك في شيء مرفوعا إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فليس مما تقوم به الحجة (1) .
( [اختلاف الصحابة بوجوب الزكاة في مال اليتيم] :)
وأما ما روي عن بعض الصحابة: فلا حجة فيه أيضا، وقد عورض بمثله؛ كما روى البيهقي (2) عن ابن مسعود قال: من ولي مال يتيم، فليحص عليه السنين، فإذا رفع إليه ماله؛ أخبره بما فيه من الزكاة؛ فإن شاء زكى، وإن شاء ترك.
وروي نحو ذلك عن ابن عباس.
وإن قال قائل: إن الخطاب في الزكاة عام، كقوله: {خذ من أموالهم} ، ونحوه: فذلك ممنوع، وليس الخطاب في ذلك إلا لمن يصلح له الخطاب، وهم المكلفون، وأيضا؛ بقية الأركان - بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف -: الخطابات بها عامة للناس، والصبي من جملة الناس، فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغا لإيجابها على غير المكلفين؛ لكان العموم في غيرها كذلك، وأنه باطل بالإجماع، وما استلزم الباطل باطل.
مع أن تمام الآية - أعني: قوله - تعالى -: {خذ من أموالهم صدقة} يدل على عدم وجوبها على الصبي؛ وهو قوله: {تطهرهم وتزكيهم بها} ؛ فإنه لا معنى لتطهير الصبي والمجنون، ولا لتزكيته، فما جعلوه مخصصا لغير المكلفين
__________
(1) انظر " الإرواء " (788) .
(2) في " السنن الكبرى " (4 / 108) ، وضعفه.(1/487)
في سائر الأركان الأربعة؛ لزمهم أن يجعلوه مخصصا في الركن الخامس - وهو الزكاة -.
وبالجملة: فأموال العباد محرمة بنصوص الكتاب والسنة، لا يحللها إلا التراضي، وطيبة النفس، أو ورود الشرع كالزكاة، والدية، والأرش، والشفعة، ونحو ذلك، فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله - سيما من كان قلم التكليف عنه مرفوعا -؛ فعليه البرهان.
والواجب على المنصف أن يقف موقف المنع، حتى يزحزحه عنه الدليل.
ولم يوجب الله - تعالى - على ولي اليتيم والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما، ولا أمره بذلك، ولا سوغه له، بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدع لها القلوب، وترجف لها الأفئدة.
( [الراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات] :)
أقول: وأما اشتراط الإسلام: فالراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات، لكنه منع صحتها منهم مانع الكفر، فليس الإسلام شرطا في الوجوب، بل الكفر مانع عن الصحة، والمكلف مخاطب برفع الموانع التي لا يجزيء عنه ما وجب عليه مع وجودها؛ فخذ هذه قاعدة كلية في كل باب من الأبواب التي يجعلون الإسلام فيها شرطا للوجوب.
واما اشتراط الحرية: فلا ريب أن هذا الاشتراط؛ إنما يتم على قول من قال: إن العبد لا يملك، وهي مسألة قد تعارضت فيها الأدلة بما لا يتسع المقام لبسطه.(1/488)
وهذه شرطية حقيقية عند القائل بعدم تملك العدم؛ لأنه لا يجب على العبد أن يسعى في تحرير نفسه لتجب عليه الزكاة؛ لما تقرر أن تحصيل شرط الواجب ليجب: لا يجب، فلا وجوب على العبد حال العبودية، بخلاف الكافر؛ فإن الوجوب ثابت عليه في حال كفره، ولكنه لا تتم تأدية الواجب؛ إلا بإزالة المانع؛ وهو الكفر، وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه.
ومن ههنا يتبين لك الفرق بين هاتين القاعدتين:
فالاولى: تستعمل قبل وجوب ذلك الواجب على الشخص.
والثانية: بعد وجوبه عليه مع مانع يمنعه عنه.
ومما ينبغي أن يجعل شرطا في وجوب الزكاة: التكليف - كما فعل الماتن - رحمه الله -، مع أنها مشروعة للتطهرة والتزكية؛ كما نطق بذلك القرآن، وهما لا يكونان لغير المكلفين، فمن أوجب على الصبي زكاة في ماله - تمسكا بالعمومات -؛ فليوجب عليه بقية الأركان الأربعة تمسكا بالعمومات!
وبالجملة: فالأصل في أموال العباد الحرمة: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه "، ولا سيما أموال اليتامى؛ فإن القوارع القرآنية، والزواجر الحديثية - فيها - أظهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، فلا يأمن ولي اليتيم - إذا أخذ الزكاة من ماله - من التبعة؛ لأنه أخذ شيئا لم يوجبه الله على المالك، ولا على الولي، ولا على المال:
أما الأول: فلأن المفروض؛ أنه صبي لم يحصل له ما هو مناط التكاليف(1/489)
الشرعية، وهو البلوغ.
وأما الثاني: فلأنه غير مالك للمال؛ والزكاة لا تجب على غير مالك.
وأما الثالث: فلأن التكاليف الشرعية مختصة بهذا النوع الإنساني، لا تجب على دابة ولا جماد؛ والله أعلم.(1/490)
(1 - باب زكاة الحيوان)
( [تجب الزكاة في الأنواع الثلاثة من الحيوانات] :)
(إنما تجب منه في النعم) ، أي: الماشية، وهي في أكثر البلدان الإبل، والبقر، والغنم، ويجمعها اسم الأنعام.
وأما الخيل فلا تكثر صرمها (1) ، ولا تناسل نسلا وافرا؛ إلا في أقطار يسيرة، كتركستان؛ كذا في " الحجة ".
(وهي الإبل والبقر والغنم) : " فتؤخذ من كل صرمة من الإبل ناقة، ومن كل قطيع من البقر بقرة، ومن كل ثلة من الغنم شاة مثلا، ثم يعرف كل واحد من هذه بالمثال، والقسمة، والاستقراء؛ ليتخذ ذلك ذريعة إلى معرفة الحدود الجامعة المانعة ... "؛ كذا في " الحجة ".
وكونها لا تجب في غير الثلاثة الأنواع من الحيوانات: فلأن الذي بين للناس ما نزل إليهم لم يوجبها عليهم في غيرها.
وأما ما ورد من ذكر حق الله - تعالى - في الخيل؛ فالمراد به الجهاد.
__________
(1) جمع صرمة - بكسر الصاد وإسكان الراء -؛ في " اللسان ": " يقال للقطعة من الإبل: صرمة، إذا كانت خفيفة ".
ولا أدري وجها للشارح في استعمالها في الخيل؟ ! (ش)(1/491)
(1 - فصل: [نصاب الإبل] )
(إذا بلغت الإبل خمسا ففيها شاة، ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض (1) أو ابن لبون (2) ، وفي ست وثلاثين ابنة لبون (3) ، وفي ست وأربعين (4) حقة، وفي إحدى وستين جذعة (5) ، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة) .
( [التفصيل في بيان نصاب الإبل] :)
هذا التفصيل في فرائض الصدقة؛ هو الثابت في حديث أنس: أن أبا بكر كتب لهم أن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- على المسلمين، ثم ذكر فيه ما يجب في كل عدد - كما في هذا المختصر -، ثم قال فيه: فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات؛ فمن بلغت عنده صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا جذعة؛ فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده،
__________
(1) • اسم للنوق الحوامل، واحدتها خلفة، وبنت المخاض، وابن المخاض: ما دخل في السنة الثانية؛ لأن أمه قد لحقت بالمخاض - أي: الحوامل - وإن لم تكن حاملا: " نهاية ". (ن)
(2 - 3) • ابن اللبون، وبنت اللبون: هما - من الإبل - ما أتى عليه سنتان، ودخل في الثالثة، فصارت أمه لبونا - أي: ذات لبن -؛ لأنها تكون قد حملت حملا آخر ووضعته. (ن)
(4) • والحق: هو الذي دخل في السنة الرابعة. (ن)
(5) • والجذع من الإبل؛ ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز؛ ما دخل في السنة الثانية، ومن الضأن؛ ما تمت له سنة. (ن)(1/492)
وعنده ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين؛ إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون، وليست عنده إلا حقة؛ فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون، وليست عنده ابنة لبون، وعنده ابنة مخاض؛ فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين؛ إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض، وليس عنده إلا ابن لبون ذكر؛ فإنه يقبل منه، وليس معه شيء، ومن لم تكن معه إلا أربع من الإبل؛ فليس شيء إلا أن يشاء ربها.
وقد أخرج هذا الحديث أحمد، والنسائي، وأبو داود.
وأخرجه - أيضا - البخاري مفرقا في " صحيحه ".
قال ابن حزم: هذا كتاب في نهاية الصحة، عمل به الصديق بحضرة العلماء، ولم يخالفه أحد، وصححه ابن حبان وغيره.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي نحو ما اشتمل عليه المختصر من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قد كتب الصدقة، ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، فأخرجها أبو بكر، فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده، فعمل بها، قال: فلقد هلك عمر يوم هلك؛ وإن ذلك لمقرون بوصيته ... ثم ذكر الحديث.
قال في " الحجة ": وقد استفاض ذلك من رواية أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وعمرو بن حزم، وغيرهم، بل صار متواترا بين المسلمين. انتهى.(1/493)
(2 - فصل: نصاب البقر)
(ويجب في ثلاثين من البقر تبيع (1) أو تبيعة، وفي أربعين مسنة (2) ثم كذلك (3)) : يدل على ذلك ما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - (4) من حديث معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، فإذا زادت على الأربعين؛ فلا شيء في الزائد، حتى يبلغ سبعين وفيها تبيع ومسنة إلى ثمانين، وفيها مسنتان، ثم كذلك.
وقال ابن عبد البر في " الاستذكار ": لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقرة على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه.
(3 - فصل: [نصاب الغنم] )
(ويجب في أربعين من الغنم شاة، إلى مائة وإحدى وعشرين وفيها شاتان، إلى مائتين وواحدة وفيها ثلاث شياة، إلى ثلاثمائة وواحدة وفيها أربع، ثم في كل مائة شاة) : هذا التفصيل هو الثابت في حديث أنس، وحديث ابن عمر - اللذين تقدم تخريجهما في باب زكاة الإبل -، وقد وقع الإجماع على ذلك.
__________
(1) • ولد البقر أول سنة. (ن)
(2) • هي التي دخلت في السنة الثالثة. (ن)
(3) • وهذا الحكم في البقر، وكذا الإبل إذا كانت سائمة تتخذ للنسل والنماء، وأما إذا كانت للتجارة؛ فالحكم فيها كسائر أموال التجارة، وأما إذا كانت عوامل؛ فلا صدقة فيها، كما فصله أبو عبيد، ونقلناه في " التعليقات " (3 / 93) . (ن)
(4) • وهو كما قالا، وقد تكلمت عليه في " التعليقات " (3 / 89) . (ن)(1/494)
(4 - فصل: في الجمع والتفريق، والأوقاص)
( [لا يجوز الجمع بين مفترق، ولا التفريق بين مجتمع] :)
(ولا يجمع بين مفترق من الأنعام ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) : لنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن ذلك، كما في كتاب أبي بكر المحكي عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- وقد تقدمت الإشارة إليه -، وكذلك في حديث ابن عمر حاكيا لكتاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في ذلك، كما سبقت الإشارة إليه، وكذلك وقع التصريح بالنهي عن ذلك في غير الحديثين المذكورين؛ فإن فيه النهي كذلك.
ومعنى التفريق بين مجتمع؛ أن يكون لثلاثة أنفار - لكل واحد أربعون شاة - فإذا لم يجمعوها كان على كل واحد شاة، وإذا جمعوها لم يجب فيها إلا شاة.
وصورة الجمع بين مفترق، أن يكون لرجلين مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة، ونحو ذلك من الصور.
وهذا على اعتبار المسرح والمراح والخلطة، وإن اختلف المالكون، كما دلت على ذلك الأدلة.
( [لا شيء فيما دون النصاب] :)
(ولا شيء فيما دون الفريضة) ، ولا خلاف في ذلك (ولا في الأوقاص) ؛(1/495)
وهي ما بين الفريضتين، فلا خلاف في ذلك أيضا؛ إلا في رواية عن أبي حنيفة.
وفي حديث معاذ عند أحمد وغيره: أن الأوقاص لا فريضة فيها.
( [تراجع الخليطين بالسوية] :)
(وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية) : لما وقع في الكتابين المذكورين من قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وما كان من خليطين؛ فإنهما يتراجعان بالسوية ".
والمراد: أنهما إذا خلطا ما يملكانه من المواشي فبلغت النصاب؛ أخرجا زكاة تلك الماشية المخلوطة، وكان على كل واحد بحساب ماشيته.
وصورة ذلك: أن يكون لكل واحد منهما عشرون شاة، فيأخذ المصدق - من الأربعين - شاة من ملك أحدهما، فيرجع على صاحبه بنصف قيمتها.
وهذا على أن مجرد خلط الشريكين بملكيهما يصيرهما بمنزلة الماشية المملوكة لرجل واحد، وهو الحق كما دلت على ذلك الأدلة.
( [الأنواع التي نهي المصدق عن أخذها] :)
(ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار ولا عيب ولا صغيرة ولا أكولة ولا ربى ولا ماخض، ولا فحل غنم) : لما في كتاب أبي بكر بلفظ: " ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس ".
وفي كتاب عمر المحكي عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-:(1/496)
" لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب ".
وفي حديث عبد الله بن معاوية الغاضري - مرفوعا - بلفظ: " ولا تعطي الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط (1) اللئيمة، ولكن من أوسط أموالكم "؛ أخرجه أبو داود، والطبراني بإسناد جيد.
وأخرج مالك في " الموطأ "، والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي: أن عمر بن الخطاب نهى المصدق أن يأخذ الأكولة، والربى، والماخض، وفحل الغنم.
وقد روى ذلك عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ابن أبي شيبة في " مسنده ".
والهرمة: الكبيرة التي سقطت أسنانها.
وذات العوار: - بفتح العين المهملة وضمها -؛ قيل: هي العوراء، وقيل: هي المعيبة.
وقد شمل قوله: " ولا عيب " كل ما فيه عيب يعد عند العارفين بالمواشي نقصا؛ فإنه لا يخرج في الصدقة، فتدخل في ذلك الدرنة - بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون -؛ وهي: الجرباء.
والشرط اللئيمة: هي صغار المال وشراره.
__________
(1) الشرط - بفتح الشين والراء -: هي صغار المال وشراره.
ووقع في الأصل: " الشرطة " بالهاء في آخره، وهو خطأ. (ش)(1/497)
واللئيمة: البخيلة باللبن وغيرها.
وأما الأكولة: فهي - بفتح الهمزة وضم الكاف -؛ العاقر من الشاة.
والربى: - بضم الراء وتشديد الباء الموحدة -؛ الشاة التي تربى في البيت للبنها.
والماخض: الحامل (1) .
وفحل الغنم: هو الذي ينزو عليها؛ لأن المالك يحتاج إليه، وإن لم يكن من الخيار.
__________
(1) هي الحامل التي أخذها المخاض لتضع؛ والمخاض: الطلق عند الولادة. (ش)(1/498)
(2 - باب زكاة الذهب والفضة)
( [النصاب والحول شرطان لوجوب زكاة الذهب والفضة] :)
لا خلاف في وجوب الزكاة في الذهب ولا الفضة مع النصاب والحول، ولهذا قال الماتن - رحمه الله -:
(إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر) ؛ وذلك لأن الكنوز أنفس المال، يتضررون بإنفاق المقدار الكثير منها، فمن حق زكاته أن يكون أخف الزكوات، والذهب محمول على الفضة.
(نصاب الذهب عشرون دينارا، ونصاب الفضة مائتا درهم) : لحديث علي، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة؛ من كل أربعين درهما درهما، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين؛ ففيهما خمسة دراهم "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
وفي لفظ: " وليس فيما دون المائتين زكاة "؛ وفي إسناده مقال، وقد حسنه ابن حجر، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه (1) .
وأخرج أحمد، ومسلم من حديث جابر، قال: قال رسول الله -
__________
(1) وتصحيحه هو الصواب؛ فأسانيده جيدة، وانظر " مسند أحمد " (914)(1/499)
[صلى الله عليه وسلم]-: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة ".
وأخرجه أحمد، والبخاري من حديث أبي سعيد.
وأخرج أبو داود من حديث علي، قال: إذا كان لك مائتا درهم، وحال عليها الحول؛ ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني: في الذهب -، حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول؛ ففيها نصف دينار "؛ وفي إسناده مقال، ولكنه حسنه الحافظ ابن حجر، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه - كالحديث الأول - (1) .
وقد وقع الإجماع على أن نصاب الفضة مئتا درهم، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حبيب الأندلسي، والخمس الأواقي المذكورة في الحديث: هي مئتا درهم؛ لأن وزن كل أوقية أربعون درهما.
وذهب إلى أن نصاب الذهب عشرون دينارا الجمهور.
وقد روي عن الحسن وطاوس ما يخالف ذلك؛ وهو مردود.
وذهب إلى اعتبار الحول الأكثر.
وذهب ابن عباس، وابن مسعود، وداود إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابا أن يزكيه في الحال؛ تمسكا بما دل على مطلب الوجوب؛ وهو
__________
(1) انظر " نيل الأوطار " (4 / 138) .(1/500)
إهمال للقيد.
( [الأدلة في زكاة الحلي متعارضة] :)
(ولا شيء فيما دون ذلك) : قال في " الحجة ": " وهل في الحلي زكاة؟ الأحاديث فيه متعارضة، وإطلاق الكنز عليه بعيد، ومعنى الكنز حاصل، والخروج من الاختلاف أحوط ".
وفي " الموطأ " (1) : كانت عائشة تلي بنات أخيها، يتامى في حجرها، لهن الحلي؛ فلا تخرج من حليهن الزكاة.
قال مالك: من كان عنده تبر أو حلي - من ذهب أو فضة - لا ينتفع به للبس؛ فإن عليه فيه الزكاة في كل عام، بوزن فيؤخذ ربع عشره؛ إلا أن ينقص من وزن عشرين دينارا عينا، أو مئتي درهم، فإن نقص من ذلك؛ فليس فيه زكاة.
وإنما تكون الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس، فأما التبر والحلي المكسور، الذي يريد أهله صلاحه ولبسه؛ فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على اهله فيه زكاة (2) .
قال مالك: ليس في اللؤلؤ، ولا في المسك، ولا في العنبر زكاة.
__________
(1) (1 / 250) بسند صحيح.
وانظر " آداب الزفاف " (260 - 261) لشيخنا.
(2) بل الصواب أن الزكاة على الحلي - سواء أكان للزينة أم لا - واجبة كل عام مرة. وللتفصيل موضع آخر.(1/501)
قلت: قال به الشافعي في أظهر قوليه، وخصه بالمباح.
وأما المحظور - كالأواني وكالسوار والخلخال للرجل -: فتجب فيه الزكاة بكل حال.
وعند الحنفية: تجب في الحلي إذا كان من ذهب أو فضة، دون اللؤلؤ ونحوه.
( [لا تجب الزكاة في الجواهر] :)
(ولا زكاة في غيرهما من الجواهر) كالدر، والياقوت، والزمرد، والألماس (1) واللؤلؤ، والمرجان ونحوها؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والبراءة الأصلية مستصحبة، وقد تقدم في أول كتاب الزكاة ما يفيد هذا.
أقول: ليس من الورع ولا من الفقه؛ أن يوجب الإنسان على العباد ما لم يوجبه الله عليهم؛ بل ذلك من الغلو المحض، والاستدلال بمثل: {خذ من أموالهم صدقة} ؛ يستلزم وجوب الزكاة في كل جنس من أجناس ما يصدق عليه اسم المال، ومنه الحديد، والنحاس، والرصاص، والثياب، والفراش، والحجر، والمدر، وكل ما يقال له: مال؛ على فرض أنه ليس من أموال التجارة، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين، وليس ذلك لورود أدلة تخصص الأموال المذكورة من عموم: {خذ من أموالهم} ، حتى يقول قائل: إنها تجب زكاة؛ ما لم يخصه دليل؛ لبقائه تحت العموم، بل الذي شرع الله فيه الزكاة من أموال عباده؛ هو أموال مخصوصة، وأجناس معلومة، ولم يوجب عليهم
__________
(1) صوابه: " الماس "؛ فإدخال الألف واللام عليه خطأ؛ لأنه معرف، وأصله: " ماس "، ثم دخل عليه حرف التعريف. (ش)(1/502)
الزكاة في غيرها.
فالواجب حمل الإضافة في الآية الكريمة على العهد؛ لما تقرر في علم الأصول والنحو والبيان: أن الإضافة تنقسم إلى الأقسام التي تنقسم إليها اللام، ومن جملة أقسام اللام: العهد، بل قال المحقق الرضي: إنه الأصل في اللام.
إذا تقرر هذا: فالجواهر، واللآليء، والدر، والياقوت، والزمرد، والعقيق، واليسر، وسائر ما له نفاسة وارتفاع قيمة: لا وجه لإيجاب الزكاة فيه، والتعليل للوجوب بمجرد النفاسة؛ ليس عليه أثارة من علم {ولو كان ذلك صحيحا؛ لكان في المصنوعات من الحديد - كالسيوف والبنادق ونحوها -، ما هو أنفس وأعلى ثمنا، ويلحق بذلك الصين، والبلور، واليشم، وما يتعسر الإحاطة به من الأشياء التي فيها نفاسة، وللناس إليها رغبة.
فما أحسن الإنصاف والوقوف على الحد الذي رسمه الشارع، وإراحة الناس من هذه التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان}
على أن الآية التي أوقعت كثيرا من الناس في إيجاب الزكاة فيما لم يوجبه الله - وهي {خذ من أموالهم} - قد ذكر أئمة التفسير؛ أنها في صدقة النفل، وليست في صدقة الفرض التي نحن بصددها.
( [حكم الزكاة في أموال التجارة] :)
(وأموال التجارة) لما قدمنا من عدم قيام دليل يدل على ذلك، وقد كانت التجارة في عصره -[صلى الله عليه وسلم]- قائمة في أنواع مما يتجر(1/503)
به، ولم ينقل عنه ما يفيد ذلك.
وأما ما أخرجه أبو داود، والدارقطني، والبزار من حديث جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يأمرنا بأن نخرج الزكاة فيما نعد ": فقال ابن حجر في " التلخيص ": إن في إسناده جهالة.
وأما ما رواه الحاكم، والدارقطني عن عمران - مرفوعاً - بلفظ: " في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته " - بالزاي المعجمة (1) - فقد ضعف الحافظ في " الفتح " جميع طرقه، وقال في واحدة منها: هذا إسناد لا بأس به.
ولا يخفاك أن مثل هذا لا تقوم به الحجة لا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى.
على أنه قد قال ابن دقيق العيد: إن الذي رآه في " المستدرك " في هذا الحديث: " البر " - بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة -، قال: والدارقطني رواه بالزاي، لكن من طريق ضعيفة، وهذا مما يوجب الاحتمال، فلا يتم الاستدلال، فلو فرضنا أن الحاكم قد صحح إسناد هذا الحديث - كما قال المحلي في " شرح المنهاج " -؛ لكان مجرد الاحتمال مسقطا للاستدلال، فكيف إذا قد عورض ذلك التصحيح بتضعيف الحفاظ لما صححه الحاكم؛ مع تأخر عصرهم عنه واستدراكهم عليه؟ !
__________
(1) انظر - لمزيد من التحقيق - " تمام المنة " (ص 363) ، و " السلسلة الضعيفة " (1178) .(1/504)
ويؤيد عدم الوجوب: ما ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]- في " الصحيح " من حديث أبي هريرة: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه "؛ وظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في جميع الأحوال.
وقد نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة، وهذا النقل ليس بصحيح، فأول من يخالف في ذلك الظاهرية، وهم فرقة من فرق الإسلام.
أقول: وأما الاستدلال بقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وأما خالد؛ فقد حبس أدراعه وأعتده (1) في سبيل الله ": فلا تقوم به الحجة؛ إلا إذا كانت المطالبة له بزكاة ذلك الذي حبسه مع كونه للتجارة، فعرّفهم النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أنها قد صارت محبسة، وأنه لا زكاة فيها بعد التحبيس، وليس الأمر كذلك، بل الظاهر أنهم لما أخبروا النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بأن خالدا امتنع من الزكاة رد عليهم بذلك.
والمراد: أن من بلغ في التقرب إلى الله إلى هذا الحد - وهو تحبيس أدراعه وأعتده -؛ يبعد كل البعد أن يمتنع من تأدية ما أوجبه الله عليه من الزكاة، مع كونه قد تقرب بما لا يجب عليه، فلا يكون في ذلك دليل على وجوب زكاة التجارة.
وأما الاستدلال بقول عمر (2) ؛ فهو (3) ممن لا يقول بحجية قول
__________
(1) العتاد - بفتح العين والتاء وبعدها ألف -: آلة الحرب من السلاح والدواب وغيرها؛ جمعه: أعتد - بضم التاء، ويجوز كسرها -. (ش)
(2) انظره في " الإرواء " (828) - مضعفا -.
(3) أي: ابن حزم، والظاهرية.(1/505)
الصحابي، ولكنه إذا وافق قول الصحابي ما يعتقده؛ ضم إليه دعوى الإجماع السكوتي مجازفة.
إذا تقرر هذا: علمت أنه لا دليل يدل على وجوب زكاة التجارة، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يقوم دليل ينقل عنها.
وأما ما حكاه ابن المنذر من الإجماع على زكاة التجارة: فلا أدري كيف تجاسر على هذا؟ ولو سلمناه لما قامت به حجة؛ إلا على من يقول بحجية الإجماع.
وقد عرفت ما هو الصواب في هذا الباب في كتابنا " حصول المأمول من علم الأصول " (1) .
وقد حقق الماتن - رحمه الله - المقام في كتابه " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول "؛ فليراجع.
( [لا تجب الزكاة في المستغلات] :)
(والمستغلات) : كالدور التي يكريها مالكها، وكذلك الدواب ونحوها؛ لعدم الدليل - كما قدمنا -، وأيضا حديث: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه "؛ يتناول هذه الحالة، أعني: حالة استغلالهما بالكراء لهما، وإن كان لا حاجة إلى الاستدلال؛ بل القيام مقام المنع يكفي.
أقول: هذه المسألة من غرائب العلماء التي ينبغي أن تكون مغفورة؛
__________
(1) وهو تحت الطبع - بتحقيقي.(1/506)
باعتبار ما لهم من المناقب (1) ؛ فإن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق - كالدور، والعقار، والدواب ونحوها - بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها - مما لم يُسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فضلا أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة، وقد كانوا يستأجرون، ويؤجرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم، ولم يخطر ببال أحدهم أنه يخرج في رأس الحول ربع عشر قيمة داره أو عقاره أو دوابه {وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق، حتى كان آخر القرن الثالث، من أهل المئة الثالثة، فقال بذلك من قال بدون دليل؛ إلا مجرد القياس على أموال التجارة، وقد عرفت الكلام في الأصل؛ فكيف يقوم الظل والعود أعوج؟}
مع أن هذا القياس في نفسه مختل بوجوه؛ منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع؛ فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين.
وأما العمومات التي أوردوها؛ فهي عن الدلالة على المطلوب بمراحل، والأمر أوضح من أن تُستغرق الأوقات في إبطاله ودفعه.
وأما ما زعموه من أن الموجب أولى من المسقط: فذلك - على عدم تسليمه - إنما هو بعد الاتفاق على أن الموجب والمسقط اجتمعا في أمر قد قضى الشرع بالوجوب في أصله، والأمر ههنا بالعكس؛ فإن الشرع لم يوجب في أعيان الدور والعقار - التي هي أصل الاستغلال - شيئا، ثم أين هذا الموجب؟ وما هو؟
__________
(1) هذا هو سبيل الحق مع أهل الحق.(1/507)
(3 - باب زكاة النبات)
( [تجب الزكاة في الأصناف الخمسة من النبات] :)
(يجب العُشر في الحنطة والشعير والذرة والتمر والزبيب) : وجوب الزكاة من هذه الأجناس، لشمول الأدلة الصحيحة لها، وللتنصيص عليها في حديث أبي موسى ومعاذ، حين بعثهما -[صلى الله عليه وسلم]- إلى اليمن، يعلمان الناس أمر دينهم، فقال: " لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر "، أخرجه الحاكم، والبيهقي (1) ، والطبراني.
قال البيهقي: رواته ثقات؛ وهو متصل.
وأخرج الطبراني عن عمر، قال: إنما سن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الزكاة في هذه الأربعة ... فذكرها.
وأخرج ابن ماجه، والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، بلفظ: إنما سن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب - زاد ابن ماجه -، والذرة؛ وفي
__________
(1) • في " سننه " (4 / 125) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقد تكلمنا عليه في " التعليقات " (3 / 107 - 108) . (ن)
قلت: انظر " الإرواء " (801) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 166) .(1/508)
إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي (1) ؛ وهو متروك.
وأخرج البيهقي من طريق مجاهد، قال: لم تكن الصدقة في عهد النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إلا في خمسة ... فذكرها (2) .
وأخرج أيضا من طريق الحسن، فقال: لم يفرض الصدقة النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا في عشرة ... فذكر الخمسة المذكورة، والإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة.
وأخرج أيضا عن الشعبي، أنه قال: كتب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى أهل اليمن: " إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب "؛ قال البيهقي: هذه المراسيل طرقها مختلفة، وهي يؤكد بعضها بعضا، ومعها حديث أبي موسى، ومعها قول عمر، وعلي، وعائشة: ليس في الخضروات زكاة (3) . انتهى.
( [ما سقت السماء ففيه العشر، وما سقي بالمسني فنصف العشر] :)
(وما كان يسقى بالمسني منها ففيه نصف العشر) : وجهه حديث جابر، عن النبي
__________
(1) بتقديم الراء على الزاي؛ وفي الأصل: بتقديم الزاي على الراء! وهو خطأ. (ش)
(2) • قلت: هو مع إرساله لا يصح؛ لأنه من رواية عتاب الجزري - صدوق يخطئ -، عن خصيف - وهو سيئ الحفظ خلط بآخره، كما في " التقريب " -، وفي الطريق التي بعدها عن الحسن: عمرو بن عبيد؛ وهو متروك: على أن راويه عنه - وهو ابن عيينة - شك؛ فقال: أراه قال: " والذرة "، لكنه في رواية أخرى عنه قال: " السلت " ولم يذكر الذرة.
والسلت: ضرب من الشعير، كما في " النهاية ".
فذكر (الذرة) منكر لضعف أسانيدها، ومخالفتها لحديث أبي موسى الصريح في أنها أربع، وبالذرة تصير خمسا. (ن)
(3) السانية - وجمعها السواني -: ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. (ش)(1/509)
[صلى الله عليه وسلم] ، قال: " فيما سقت الأنهار والغيم عشر، وفيما سقي (1) بالسانية نصف العشر "؛ رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، قال (2) : " الأنهار والعيون ".
وأخرج البخاري، وأحمد، وأهل " السنن " من حديث ابن عمر، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " فيما سقت السماء والعيون - أو كان عثريا - العشر، وفيما يسقى بالنضح نصف العشر "؛ فإن الذي هو أقل تعانيا وأكثر ريعا أحق بزيادة الضريبة، والذي هو أكثر تعانيا وأقل ريعا أحق بتخفيفها.
والعثري - بفتح العين المهملة والمثلثة وكسر الراء المهملة -: هو الذي يشرب بعروقه، وقيل: الذي في سواقي العيون ونحوها.
والحق وجوب الزكاة من العين، ولا يسوغ إخراج القيمة إلا لعذر مسوع، لحديث: " خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر "؛ أخرجه أبو داود، والحاكم - وصححه على شرط الشيخين (3) -
__________
(1) وقد صح مرفوعا؛ فانظر " الإرواء " (801) .
(2) لعله: " وقال ". (ش) .
(3) رواه الحاكم في " المستدرك " (جزء 1: ص 388) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين، إن صح سماع عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل؛ فإني لا أتقنه ".
قال الذهبي: " لم يلقه ".
وقال ابن حجر في " التلخيص ": " لم يصح؛ لأنه ولد بعد موته، أو في سنة موته، أو بعد موته بسنة ". (ش)(1/510)
وأما قول معاذ؛ فهو فعل صحابي لا حجة فيه، على أنه منقطع كما صرح بذلك الحفاظ (1) .
وأما الاعتذار عن الحديث بأنه لا ظاهر له؛ فهذه إحدى العصي التي يتوكأ عليها المقلدة!
( [نصاب النبات خمسة أوسق] :)
(ونصابها خمسة أوسق) : لحديث أبي سعيد في " الصحيحين " وغيرهما عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ".
وفي رواية لأحمد، وابن ماجه (2) :
أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الوسق ستون صاعا ".
وفي رواية لأحمد، وأبي داود: " الوسق ستون مختوما " (3) .
قال في " الحجة البالغة ": " وإنما قُدر من الحب والتمر خمسة أوسق؛
__________
(1) هو قوله لأهل اليمن: ائتوني بكل خميس ولبيس، آخذه منكم مكان الصدقة؛ رواه البخاري معلقا، والبيهقي، وهو منقطع أيضا. (ش)
(2) • رواه هو (1 / 562) ، وأبو داود (1 / 244) ، وأحمد (3 / 59) ، وأبو عبيد (رقم 1586) بالرواية الثانية، ورجال إسنادها ثقات، غير أن أبا داود أعله بالانقطاع بين أبي البختري، وأبي سعيد الخدري، والرواية الثانية عند ابن ماجه بسند ضعيف. (ن)
قلت: انظر طرقه - وتضعيفه - في " الإرواء " (803) .
(3) هذه الرواية نرى أنها خطأ؛ فإن المختوم؛ هو صاع اتخذه الحجاج، وقال لأهل المدينة: إني قد اتخذت لكم مختوما على صاع عمر بن الخطاب. (ش)(1/511)
لأنها تكفي أهل بيت إلى سنة، وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة، وثالث - خادم أو ولد بينهما -، وما يضاهي ذلك من أقل البيوت، وغالب قوت الإنسان رطل، أو مد من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار؛ كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم " انتهى.
قال ابن القيم (1) : " وقد رُدت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله: " فيما سقت السماء العشر، وما سقي بنضح أو غرب (2) ؛ فنصف العشر "، قالوا: وهذا يعم القليل والكثير، وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدم الأحوط وهو الوجوب {فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا، ولا تعارض بينهما بحمد الله - تعالى - بوجه من الوجوه؛ فإن قوله: " فيما سقت السماء العشر "، إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب.
وأما مقدار النصاب؛ فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم - الذي لا يحتمل غير ما أُوِّل عليه البتة - إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلق فيه بعموم، لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين، كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص؟} ". انتهى.
__________
(1) • في " الإعلام " (2 / 409 - 410) . (ن)
(2) • الدلو العظيمة. (ن)(1/512)
أقول: الأحاديث القاضية بإيجاب العشر أو نصف العشر تقتضي التسوية بين القليل والكثير.
وأحاديث: " لا زكاة فيما دون خمسة أوسق " تقتضي اختصاص الوجوب بمقدار معلوم، هو الخمسة الأوسق، وعدم الوجوب فيما دونها.
فالأحاديث الأولة (1) عامة لقليل ما أخرجت الأرض من الأنواع المخصوصة ولكثيره، والأحاديث الثانية خاصة ببعض ذلك الخارج دون بعض، مصرحة بنفي الوجوب عن دون الخمسة الأوسق بمنطوقها، مثبتة لوجوبها في الخمسة فصاعدا بمفهومها، وهي أحاديث صحيحة، فإهمالها - مع كونها خاصة، والرجوع إلى العامة - خارج عن سنن الإنصاف، ولم يكن بيد من أهملها شيء يدفعها؛ إلا مجرد تكليف العباد بما هو أشق الشكوك، كشكوك الموسوسين في الطهارة.
وهذا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمسة أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة "؛ ثبت هذا عنه في حديث واحد، فكان على من أوجب الزكاة فيما دون خمسة أوسق أن يوجبها فيما دون خمس أواق وخمس ذود؛ بل يوجبها فيما دون الأربعين من الغنم، والثلاثين من البقر، تمسكا بالعمومات القاضية بوجوب أصل الزكاة في الأموال، فإنه لا فرق بينها وبين حديث:
__________
(1) بفتح الواو المشددة؛ قال ثعلب: " هن الأولات دخولا والآخرات خروجا، واحدتها الأولة والآخرة "، ثم قال: " ليس هذا من أصل الباب؛ إنما أصل الباب الأول والأولى، كالأطول والطولى "؛ قاله في " اللسان ". (ش)(1/513)
" فيما أخرجت الأرض العشر " (1) ، وليست المكيلات بالشك أولى من غيرها، والله المستعان.
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض (2) ، والمقام وإن كان حقيقا بأن يقع الإجماع عليه، لكن الخلاف لجماعة من العلماء أشهر من نار على علم، وكيف خفي على ابن المنذر مذهب أبي حنيفة - رحمه الله -، وهو متداول عند جميع أهل المذاهب، حتى قال ابن العربي المالكي: " إن أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين مذهب أبي حنيفة، وهو التمسك بالعموم "؟ {انتهى.
وهذه غفلة من مثل هذا الحافظ، ناشئة عن الوسوسة التي قدمنا لك ذكرها، فإن الشارع أشفق بفقراء أمته من كل أحد، وأي قوة وأحوطية في شيء مخالف لنصه الصريح} ؟
وكيف يخفى على عالم أن هذه - الشفقة التي هي المستندة لهذه المقالة - مستلزمة لظلم الأغنياء وأخذ أموالهم بدون طيبة من أنفسهم وأكلها بالباطل، وسيوف السلاطين تابعة لأقلام العلماء، فإذا أجبروا أهل الأموال على تسليم زكاة دون الخمسة الأوسق استناداً إلى قول من قال بذلك بمجرد الشك، والشفقة على الفقراء لا لما يقتضيه الاجتهاد؛ فهم شركاء في هذه المظلمة، التي هي محض أكل أموال الناس بالباطل.
وما أحسن الوقوف على الحدود الشرعية، والمشي على الطريقة النبوية!
__________
(1) رواه البخاري في التاريخ الكبير " (2 / 145) .
(2) انظر " السيل الجرار " (2 / 42) .(1/514)
فذلك هو الورع الخالص، وخير الهدي هدي محمد -[صلى الله عليه وسلم]-.
( [لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل والبغال والحمر] :)
(ولا شيء فيما عدا ذلك) ؛ قال المجد في " الصراط المستقيم ": " ولم يكن من العادة النبوية أخذ الزكاة من الخيل، والرقيق، والبغال، والحمر، والبقول، والبطيخ، والخيار، والعسل، والفواكه التي لا تدخل المكيال ولا تصلح للادخار؛ إلا الرطب والعنب، فإنه كان يأخذ الزكاة منهما، لا يفرق بين الرطب واليابس ". انتهى.
( [لا زكاة في الخضراوات] :)
(كالخضراوات وغيرها) : حديث الخضراوات أخرجه الدارقطني، والحاكم، والأثرم في " سننه ": أن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ صدقة من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقول: " ليس في ذلك صدقة "؛ وهو مرسل قوي (1) .
وقد أخرجه الدارقطني، والحاكم من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى بن طلحة، عن معاذ؛ بلفظ: وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقصب؛ فعفو عفا عنه رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-.
__________
(1) انظر " تنقيح التحقيق " (2 / 1402) ، و " فوائد تمام " (524 - ترتيبه) .(1/515)
قال الحافظ: وفيه ضعف وانقطاع (1) .
وروى الترمذي بعضه من حديث موسى بن طلحة، عن معاذ.
وقد رواه ابن عدي من وجه آخر عن أنس.
والدارقطني من حديث علي، ومن حديث محمد بن جحش، ومن حديث عائشة.
ورواه أيضا البيهقي عن علي وعمر موقوفا.
[و] في طرق حديث الخضروات مقال، لكنه روي من طرق كثيرة يشهد بعضها لبعض؛ فينتهض للاحتجاج به، وإذا انضم إلى ما تقدم في وجوب الزكاة في تلك الأجناس الأربعة، أو الخمسة؛ انتهض الجميع للاحتجاج بلا شك ولا شبهة.
وقد رويت تلك الروايات بلفظ الحصر على تلك الأجناس كما سبق، وكان ذلك هو البيان منه -[صلى الله عليه وسلم]- لما أنزله الله - تعالى -، فلا تجب في غير ذلك من النباتات.
وقد ذهب إلى ذلك الحسن البصري، والحسن بن صالح، والثوري، والشعبي.
وأيضا: يمكن الجمع بطريق أخرى، وهي: أن هذه الأدلة المذكورة هنا مخصصة لعمومات القرآن والسنة، وذلك واضح، ولا يصح جعل ذلك من
__________
(1) " التلخيص الحبير " (رقم 838) .(1/516)
باب التنصيص على بعض أفراد العام؛ لما في ذلك من الحصر تارة، والنفي لما عدا ما ذُكر أخرى.
أقول: العمومات الشاملة للخضراوات كقوله - تعالى -: {وآتوا حقه يوم حصاده} ، وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} ، وقوله [صلى الله عليه وسلم] : " فيما سقت السماء العشر "؛ قد خُصصت بمخصصات كثيرة، منها: حديث الأوساق، ومنها: الأحاديث القاضية بأن الزكاة لا تجب إلا في الأربعة الأنواع: الشعير، والحنطة، والتمر، والزبيب، هذا في الأشياء التي تنبت على وجه الأرض، وفيما عداها السوائم الثلاث والذهب والفضة؛ والواجب بناء العام على الخاص، كما هو إجماع من يُعتد به من أهل العلم، فلا وجوب فيما عدا هذه الثلاثة الأمور، سواء كان من الخضراوات أو غيرها.
بل قد ورد في الخضراوات بخصوصها ما يدل على عدم وجوب الزكاة فيها من طرق يشهد بعضها لبعض، كما أوضح ذلك الماتن في " شرح المنتقى ".
فليكن هذا البحث منك على ذُكر؛ فإن الاحتجاج بمثل هذه العمومات قد كثر في أهل العلم مع عدم الالتفات إلى الأدلة الخاصة، والذهول عن وجوب بناء العام على الخاص.
والحاصل: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد بين للناس ما نُزّل إليهم، ففرض على الأمة فرائض في بعض أملاكهم، ولم يفرض عليهم في البعض الآخر، ومات على ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول، فمن زعم أنها تجب الزكاة في غير ما بينه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] متمسكا بالعمومات القرآنية؛ كان محجوجا بما ذكرناه، هذا على فرض أنه لم يثبت عنه إلا مجرد(1/517)
البيان من دون ما يفيد عدم الوجوب في البعض المسكوت عنه، فكيف وقد ثبت عنه ما يفيد ذلك؟ !
كحديث أبي موسى، ومعاذ، عند الحاكم والبيهقي والطبراني: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم؛ قال: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر "؛ قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل (1) .
وأخرج الطبراني عن عمر، قال: إنما سن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الزكاة في هذه الأربعة ... فذكرها.
ونحوه عن جماعة من الصحابة، وفي بعضها ذكر الذرة (2) ، ولكن من طريق لا تقوم بمثلها الحجة.
( [تجب الزكاة في العسل] :)
(ويجب في العسل العشر) : وجهه حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : أنه أخذ من العسل العشر؛ أخرجه ابن ماجه.
وقال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث، وابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب.
ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرو بن شعيب.
__________
(1) " السلسلة الصحيحة " (879) .
(2) انظر " تمام المنة " (ص 369) .(1/518)
ومثله حديث أبي سيارة عند أحمد، وابن ماجه، وأبي داود (1) ، والبيهقي، قال: قلت: يا رسول الله! إن لي نحلا، قال: فأد العشور؛ وهو منقطع.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال في العسل: " في كل عشرة أزقاق زق؛ وفي إسناده صدقة السمين، وهو ضعيف الحفظ.
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً، بلفظ: " أدوا العشر في العسل "، وفي إسناده منير بن عبد الله وهو ضعيف.
والجميع لا يقصر عن الصلاحية للاحتجاج به (2) .
وفي العسل أحاديث أخرى لم ينتهض شيء منها للاحتجاج به، وقد جمعها الماتن في " شرح المنتقى "؛ فليراجع.
( [يجوز تعجيل الزكاة] :)
(ويجوز تعجيل الزكاة) : لحديث علي: أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي [صلى الله عليه وسلم] في تعجيل صدقته قبل أن تحل؟ فرخص له في ذلك "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وقد قيل: إنه مرسل (3) .
وقد روي عن علي بلفظ آخر من طريق أخرى؛ أخرجها البيهقي، أن
__________
(1) هو الطيالسي؛ والحديث في " مسنده " (1214) .
وهو حديث حسن؛ كما في " صحيح ابن ماجه " (1476) .
(2) انظر توجيه هذه المسألة - فقهيا - في " تمام المنة " (ص 374) .
(3) انظر " صحيح ابن ماجه " (1452) .(1/519)
النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنا كنا احتجنا، فأسلفنا العباس صدقة عامين؛ ورجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعاً.
وفي " الصحيح " من حديث أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال في زكاة العباس: " هي عليّ ومثلها معها "؛ لما قيل: إنه منع من الصدقة، وقد قيل: إنه كان تسلف منه صدقة عامين، فدل على أنه يجزئ عن المعجل أن يسقط الوجوب عند الاتصاف به، ولا شك أن التعجل لا يكون تعجيلا إلا إذا كان قبل الوجوب.
( [توزع زكاة كل محلة على فقرائها] :)
(وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم) : وجهه حديث أبي جحيفة، قال: قدم علينا مصدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت غلاما يتيما، فأعطاني منها قلوصا؛ أخرجه الترمذي - وحسنه -.
وحديث عمران بن حصين: أنه استُعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ ! أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ووضعناه حيث كنا نضعه؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه.
وعن طاوس، قال: كان في كتاب معاذ: من خرج من مخلاف إلى مخلاف؛ فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته؛ أخرجه الأثرم، وسعيد بن منصور بإسناد صحيح (1) .
__________
(1) جزم في " تمام المنة " (ص 385) بانقطاعه.(1/520)
وفي " الصحيحين " عن معاذ: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما بعثه إلى اليمن قال له: " خذها من أغنيائهم، وضعها في فقرائهم ".
( [تجزئ الزكاة وإن دفعت لسلطان جائر] :)
(ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرا) : لحديث ابن مسعود في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله {فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ".
وأخرج مسلم، والترمذي - وصححه - من حديث وائل بن حُجر، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟} فقال: " اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُملتم ".
وأخرج أبو داود من حديث جابر بن عتيك (1) - مرفوعاً - بلفظ: " سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون؛ فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم ".
وأخرج الطبراني (2) عن سعد بن أبي وقاص - مرفوعاً -: " ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس ".
__________
(1) في الأصل: " جابر بن عبيد "، وهو خطأ. (ش)
قلت: والحديث ضعيف؛ كما في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر ".
(2) في " الأوسط " (1369) ، وضعفه الهيثمي في " المجمع " (3 / 80) .(1/521)
وفي الباب آثار عن الصحابة؛ حتى أخرج البيهقي عن عمر، أنه قال: ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمر؛ وإسناده صحيح.
وأخرج أحمد (1) من حديث أنس: أن رجلا قال لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] : إذا أديت الزكاة إلى رسولك؛ فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال: " نعم، إذا أديتها إلى رسولي؛ فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها ".
وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة: إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك، فإن اعتدى عليك؛ فوله ظهرك ولا تلعنه وقل: اللهم {إني أحتسب عندك ما أخذ مني.
وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة الجمهور، وأن الدفع إلى السلطان أو بأمره يجزي المالك، وإن صرفها في غير مصرفها، سواء كان عادلاً أو جائراً.
أقول: لا ريب أن مجموع الأدلة يقتضي أن أمر الزكاة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإن قوله - تعالى -: {خذ من أموالهم} خطاب له، إن سُلم أنه في صدقة الفرض، وقد تقدم ما فيه.
وأنص من الآية على المطلوب حديث: " أمرت أن آخذها من أغنيائكم "، وأحاديث بعثه [صلى الله عليه وسلم] للسعاة، وأمره لهم بأخذ الصدقات.
__________
(1) (3 / 136) ، والحاكم (2 / 360 - 361) - وصححه على شرط الشيخين، ووافق الذهبي -.
وفي سعيد بن أبي هلال كلام؛ في ضبطه، وفي سماعه من أنس}(1/522)
ومن ذلك الأدلة الواردة في الاعتداد بما أخذه سلاطين الجور، فإنها متضمنة لوجوب الدفع إليهم، والاجتزاء بما دفع إليهم:
ومن ذلك حديث: " من أعطاها مؤتجرا فله أجره، ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله " (1) .
ومنها الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب طاعة أولي الأمر.
ولكن لا يخفى أن مجموع هذه الأدلة وإن أفاد أن للأئمة والسلاطين المطالبة بالزكاة وقبضها، ووجوب الدفع إليهم عند طلبهم لها؛ فليس فيها ما يدل على أن رب المال إذا صرفها في مصرفها قبل أن يطالبه الإمام بتسليمها لا تجزئه، ولا يجوز له ذلك؛ لأن الوجوب على أرباب الأموال، والوعيد الشديد لهم، والترغيب تارة والترهيب أخرى، لمن عليه الزكاة إذا لم يخرجها، يستفاد من مجموعه أن لهم ولاية الصرف.
أما مع عدم الإمام: فظاهر.
وأما مع وجوده من غير طلب منه: فكذلك أيضا، ويؤيد ذلك حديث: " أما خالد فقد حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله "؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] أجاب بذلك على من قال له: إن خالداً منع من تسليم الزكاة.
وأما مع المطالبة من الإمام؛ فالظاهر أنه لا يجوز لرب المال الصرف؛ لأنه عصيان لمن أمر الله بطاعته، ولكن؛ هل يجزئه ذلك أم لا؟
__________
(1) صحيح؛ " المشكاة " (64) .(1/523)
الظاهر الإجزاء؛ لأنه لا ملازمة بين كونه عاصيا لأمر الإمام، وبين عدم الإجزاء، ومن زعم ذلك طولب بالدليل.
فإن قيل: الدليل ما تقدم من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ... ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله ": فيقال: الحديث - على ما فيه من المقال - لا يصلح للاستدلال به على هذا؛ لأن المراد أنه منع الزكاة؛ ولم يسلمها إلى الإمام، ولا صرفها في مصارفها، كما هو مدلول المنع الواقع على ضمير الزكاة في الحديث، كما في أحاديث الوعيد لمانع الزكاة، فإن المراد به المانع لها عن الإخراج مطلقاً.
ومما يؤيد ثبوت الولاية لرب المال قوله - تعالى -: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} ؛ ففي هذه الآية أعظم متمسك وأوضح مستند، ومن زعم أنها في صدقة النفل بدليل السياق؛ فلم يصب؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول.
نعم؛ تطبيق الأدلة الواردة منه [صلى الله عليه وسلم] على من بعده من الأئمة والسلاطين حتى يكون لهم مثل الذي له في أمر الزكاة؛ يحتاج إلى فضل نظر، ولا يقنع الناظر بمجرد الإجماع السكوتي الواقع من الناس بعد عصره [صلى الله عليه وسلم] .
وأما قتال الصحابة لمانعي الزكاة؛ فلكونهم ارتدوا بذلك، وصمموا على منع إخراجها، وقد أمر [صلى الله عليه وسلم] أمته بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويفعلوا سائر أركان الإسلام.
وأعظم ما يُستأنس به ما ورد في طاعة السلاطين؛ وإن ظلموا، وأن(1/524)
دفعها إليهم من الطاعة لهم؛ كما في حديث ابن مسعود، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها "، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم "، أخرجه الشيخان وغيرهما.
وعن وائل بن حُجر، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ قال: " اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم "، أخرجه مسلم وغيره.
وفي الباب أحاديث كثيرة، وهي تفيد وجوب طاعتهم فيما طلبوا إذا كان في معروف غير معصية، وطلبهم للزكاة من المعروف إذا كانوا يجعلونها في أمر غير معصية الله، والأمر بالطاعة فرع ثبوت الولاية، وثبوتها يستلزم الإجزاء، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الصحابة فمن بعدهم.
ويؤيد ذلك حديث جابر بن عتيك عند أبي داود مرفوعاً بلفظ " سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون؛ فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم ".
وأخرج الطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا: " ادفعوا إليهم؛ ما صلوا الخمس ".
ويغني عن جميع هذا؛ التكليف بطاعة سلاطين الجور ما أقاموا الصلاة، وفي بعض الأحاديث الأمر بالطاعة للظلمة ما لم يظهروا كفرا؛ فمن طلب الزكاة منهم؛ لم تتم الطاعة له التي كلفنا الله بها إلا بالدفع إليه، والله أعدل(1/525)
أن يجمع على رب المال في ماله زكاتين: زكاة للظالم المأمور بطاعته، وزكاة أخرى تصرف إلى غيره.(1/526)
(4 - باب مصارف الزكاة)
( [مصارف الزكاة ثمانية] :)
(هي ثمانية كما في الآية) الكريمة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} ؛ فإنها تضمنت الثمانية الأنواع، الذين هم مصارف الزكاة.
وقد أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أتيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك "؛ وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وفيه مقال (1) .
قال في " المسوى ": الفقير: هو - عند الشافعي - من لا مال له، ولا حرفة تقع منه موقعا.
وعند أبي حنيفة من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب، أو قدر نصاب
__________
(1) انظر " الضعيفة " (1320) ، و " الإرواء " (859) ، و " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " (75) .(1/527)
غير تام وهو مستغرق في الحاجة.
والمسكين: هو - عند الشافعي - من له مال أو حرفة تقع منه موقعاً، ولا يغنيه.
وعند أبي حنيفة: من لا شيء له، فيحتاج إلى المسألة لقوته، أو ما يواري بدنه.
والعامل: له مثل عمله سواء كان فقيرا أو غنيا؛ وعليه أهل العلم.
والمؤلفة قلوبهم قسمان: من أسلم ونيته ضعيفة، أو له شرف يُتوقع بإعطائه إسلام غيره، فيُعطون من الزكاة - على الأصح من مذهب الشافعي -.
وقال أبو حنيفة: سقط سهمهم لغلبة الإسلام.
والرقاب: هم المكاتبون؛ عند الشافعية والحنفية.
والغارم: هو - عند أبي حنيفة - من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه، أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه.
وعند الشافعي قسمان: من استدان لنفسه في غير معصية، والأظهر اشتراط الحاجة، أو استدان لإصلاح البين ويعطى مع الغنى.
وسبيل الله: غزاة لا فيء لهم، ويشترط فقرهم عند أبي حنيفة.
وعند الشافعي: يعطون مع الغنى.
وابن السبيل: هو الغريب المنقطع عن ماله عند الحنفية، أو منشئ سفر،(1/528)
أو مجتاز له حاجة عند الشافعية.
وشرط هؤلاء الأصناف الإسلام عند أهل العلم.
وعند الشافعي: يجب استيعاب الأصناف الثمانية إن كان هناك عامل؛ وإلا فاستيعاب السبعة، وتجب التسوية بين الأصناف لا بين آحاد الصنف.
وعند أبي حنيفة: لو صرف الكل إلى صنف واحد أو شخص واحد؛ يجوز.
قال مالك: الأمر عندنا في قسم الصدقات: أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي، فأي الأصناف كانت الحاجة فيه والعدد: أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي، وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام، فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك، وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم. انتهى.
قال الماتن: " وقد أطال أئمة التفسير والحديث والفقه الكلام على الأصناف الثمانية، وما يعتبر في كل صنف، والحق أن المعتبر صدق الوصف شرعا، أو لغة؛ فمن صدق عليه أنه فقير كان مصرفا، وكذلك سائر الأوصاف، وإذا لم يكن للوصف حقيقة شرعية؛ وجب الرجوع إلى مدلوله اللغوي، وتفسيره به؛ فما وقع من الشروط والاعتبارات المذكورة لأهل العلم؛ إن كانت داخلة في مدلول الوصف لغة أو شرعاً أو لدليل يدل على ذلك؛ كانت معتبرة، وإلا فلا اعتبار لشيء منها ". انتهى.(1/529)
( [الكلام على الفقير والمسكين] :)
أقول: الواجب الجزم بأن الفقير من ليس بغني، والغني قد ثبت في الشريعة المطهرة تعريفه، كما أخرجه أهل " السنن " من حديث ابن مسعود مرفوعاً: أنه قيل: يا رسول الله! وما الغنى؟ قال: " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب "، فمن لم يملك هذا المقدار فهو فقير؛ لأنه إذا ارتفع عنه اسم الغنى ثبت له الفقر؛ إذ النقيضان لا يرتفعان، كما لا يجتمعان، ولا بد من كونه يملك معها ما لا بد منه من ملبوس وفراش ومسكن، حاصله ما تدعو الضرورة إليه؛ لأن من المعلوم أنه -[صلى الله عليه وسلم]- لم يرد بذلك المقدار قيمة ما يلبسه ويسكنه، ويلحق بذلك ما لا يتم له القيام بالأمور الدينية أو الدنيوية بدونه، كآلة الجهاد للمجاهد، وكتب العلم للعالم، وآلة الصناعة للصانع؛ فمن ملك مما هو خارج عن هذه الأمور ما يساوي خمسين درهماً؛ كان كمن ملك الخمسين أو قيمتها من الذهب فيكون غنيا، ومن لم يملك ذلك المقدار فهو فقير تحل له الزكاة، والمصير إلى ما قررناه متحتم.
والحق أن الفقير والمسكين متحدان، يصح إطلاق كل واحد من الاسمين على من لم يجد فوق ما تدعو الضرورة إليه خمسين درهما، وليس في قوله - تعالى -: {كانت لمساكين} ما ينافي هذا؛ لأن ملكهم لها لا يخرجهم عن صدق اسم الفقر والمسكنة عليهم، لما عرفت من أن آلات ما تقوم به المعيشة مستثناة، والسفينة للملاح كدابة السفر لمن يعيش بالمكاراة، والضرب في الأرض.
وليس في الآية الكريمة ما يدل على أن صدقة كل إنسان تُصرف في كل(1/530)
صنف من الأصناف الثمانية، بحيث يحصل لكل صنف مقدار معين، وهذا أوضح.
ثم أقول: كتاب الله وسنة رسوله مصرحان بأن الفقير يُعطى من الزكاة، وليس فيهما التقييد بمقدار معين، وليس المعتبر إلا اتصاف المصرف وهو الفقير والمسكين، ومن كان الفقر شرطا للصرف فيه بصفة الفقر أو المسكنة؛ فمن صرف إليه في تلك الحال فقد صرف إلى مصرف شرعي، وإن أعطاه مالا جما، وأنصباء متعددة؛ فهو إنما اتصف بصفة الغني بعد الصرف إليه، وذلك غير ضائر للصارف ولا مانع من الإجزاء.
ومن زعم أنه لا يجوز إلا دون النصاب؛ فعليه الدليل الصالح لتقييد ما كان مطلقا من الأدلة وتخصيص ما كان عاما، وليس هناك إلا مجرد تخيلات فاسدة، لم تُبن على أساس صحيح.
وأما الغارم؛ فظاهر إطلاق الآية يشمل من عليه دين، سواء كان غنيا أو فقيرا، مؤمنا أو فاسقا، في طاعة أو معصية.
أما عدم الفرق بين الغني والفقير؛ فليس فيه إشكال؛ لدخولهما تحت الآية، ولاستثناء الغارم من حديث: " لا تحل الصدقة لغني ".
وما سلكه صاحب " المنار " من التخصيص والتعميم، فوهم منشؤه تجريد النظر إلى لفظ " غني " من غير نظر إلى تمام الحديث المشتمل على استثناء خمسة، أحدهم الغارم.
وأما عدم الفرق بين المؤمن والفاسق؛ فلإطلاق الآية، لا سيما إذا كان(1/531)
ما استدانه الفاسق في غير سرف ولا معصية، فلا معنى لاشتراط الإيمان.
وأما عدم الفرق بين الدين في طاعة أو معصية؛ فلتناول الإطلاق له، وإذا ورد ما يقتضي التقييد بما لزم في طاعة فله حكمه.
نعم؛ إذا كانت الإعانة له تستلزم إغراءه على المعاصي، ووقوعه فيما يحرم عليه؛ فلا ريب أنه ممنوع لأدلة أخرى، وأما إذا لزمه الدين في السرف والمعصية، ثم تاب وأقلع وطلب أن يعان من الزكاة على القضاء؛ فالظاهر عدم المنع.
وأما سبيل الله؛ فالمراد هنا الطريق إليه - عز وجل -، والجهاد - وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل - لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به؛ بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله - عز وجل -؛ هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية، حيث لم يصح النقل هنا شرعاً.
وأما اشتراط الفقر في المجاهد؛ ففي غاية البعد! بل الظاهر إعطاؤه نصيبا وإن كان غنيا، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يأخذون من أموال الله - عز وجل - التي من جملتها الزكاة في كل عام، ويسمون ذلك عطاء، وفيهم الأغنياء والفقراء، وكان عطاء الواحد منهم يبلغ إلى ألوف متعددة، ولم يسمع من أحد منهم أنه لا نصيب للأغنياء في العطاء، ومن زعم ذلك فعليه الدليل.
فإن قال: الدليل حديث: " إن الصدقة لا تحل لغني "؛ قلنا: أصناف مصارف الزكاة ثمانية، أحدها الفقير، فمن لم يكن فيه إلا كونه فقيرا بدون(1/532)
اتصافه بوصف آخر من أوصاف أصناف مصارف الزكاة؛ فلا ريب أنه إذا صار غنيا لم تحل له.
وأما من أخذها بمسوغ آخر غير الفقر، وهو كونه مجاهداً أو غارماً أو نحوهما؛ فهو لم يأخذها لكونه فقيرا حتى يكون الغنى مانعا؛ بل أخذها لكونه مجاهدا أو غارما أو نحوهما، فتدبر هذا؛ فهو مفيد.
( [ممن يشملهم سبيل الله] :)
ومن جملة سبيل الله: الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية؛ فإن لهم في مال الله نصيبا، سواء كانوا أغنياء أو فقراء (1) ؛ بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين، وبهم تحفظ بيضة الإسلام، وشريعة سيد الأنام، وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم، والأمر في ذلك مشهور، ومنهم من كان يأخذ زيادة على مئة ألف درهم.
ومن جملة هذه الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة، وقد قال -[صلى الله عليه وسلم]- لعمر لما قال له يعطي
__________
(1) لا دليل على ذلك - فيما أرى - إلا محض الاجتهاد.
ولو كانت {في سبيل الله} عامة؛ لكان ما قبلها داخلا فيها، ولكن المراد خصوص الجهاد في سبيل الله، والله أعلم.
ولا يقال: إن هذا من باب عطف العام على الخاص؛ لأن شرط ذلك؛ أن يكون العام مذكوراً آخر، غير معطوف عليه؛ وليس الأمر كذلك ههنا؛ فإنه ذكر {سبيل الله} معطوفا ومعطوفا عليه؛ فثبت أن المراد به المعنى الخاص لا العام؛ فتنبه!(1/533)
من هو أحوج منه: " ما آتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف، ولا سائل فخذه، وما لا؛ فلا تتبعه نفسك "، كما في " الصحيح "؛ والأمر ظاهر.
وأما ابن السبيل؛ فإذا كان فقيرا لا يملك شيئا في وطنه ولا في غيره؛ فلا نزاع في أنه يعان على سفره بنصيب غير النصيب الذي يأخذه لأجل فقره، وإن كان غنيا في وطنه، وفي المحل الذي يريد السفر منه؛ فلا نزاع أنه لا يأخذ شيئا لكونه ابن السبيل.
وإن كان غنيا في وطنه، ولم يتمكن من ماله في المحل الذي يريد السفر منه؛ فإن كان لا يمكنه القرض؛ فلا ريب أنه يعان على سفره؛ لأنه كالفقير لعدم إمكان انتفاعه بماله بوجه من الوجوه، وإن كان يمكنه القرض فهذا محل النزاع.
وأما صرف الزكاة كلها في صنف واحد؛ فهذا المقام خليق بتحقيق الكلام:
والحاصل: أن الله سبحانه جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير سائغة لغيرهم، واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية، ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم؛ بل المعنى أن جنس الصدقات لجنس هذه الأصناف؛ من وجب عليه شيء من جنس الصدقة ووضعه في جنس الأصناف، فقد فعل ما أمره الله به، وسقط عنه ما أوجبه الله عليه، ولو قيل: إنه يجب على المالك إذا حصل له شيء تجب فيه الزكاة تقسيطه على جميع الأصناف الثمانية - على فرض وجودهم جميعا -؛ لكان(1/534)
ذلك مع ما فيه من الحرج والمشقة مخالفا لما فعله المسلمون؛ سلفهم وخلفهم، وقد يكون الحاصل شيئا حقيرا، لو قسط على جميع الأصناف لما انتفع كل صنف بما حصل له - ولو كان نوعا واحدا فضلا أن يكون عددا -.
إذا تقرر لك هذا: لاح لك عدم صلاحية ما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- من الدفع إلى سلمة بن صخر (1) من الصدقات للاستدلال.
ولم يرد ما يقتضي إيجاب توزيع كل صدقة صدقة على جميع الأصناف.
وكذلك لا يصلح للاحتجاج حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] لمعاذ أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن، ويردها في فقرائهم؛ لأن تلك - أيضا - صدقة جماعة من المسلمين، وقد صرفت في جنس الأصناف.
وكذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من هذه الصدقة، فقال له رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك "؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي؛ وقد تكلم فيه غير واحد.
__________
(1) كان قد ظاهر من امرأته في رمضان، ثم واقعها ليلا ولم يجد كفارة، فأمره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فيأخذها منه ويؤدي ما عليه من الكفارة؛ انظر " نيل الأوطار " (جزء 7 ص 50 - 53) . (ش)
قلت: وانظر " إرواء الغليل " (7 / 177) .(1/535)
وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج؛ فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها، كما هو ظاهر الآية التي قصدها -[صلى الله عليه وسلم]-، ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها، وأن كل جزء لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له؛ لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره، وهو خلاف الإجماع من المسلمين.
وأيضا؛ لو سلم ذلك؛ لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام، لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط؛ بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات وإعطاء بعضهم بعضا آخر.
نعم؛ إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الأقطار، وحضر عنده جميع الأصناف الثمانية؛ كان لكل صنف حق في مطالبته بما فرضه الله، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية، ولا تعميمهم بالعطاء؛ بل له أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يعطي بعضهم دون بعض، إذا رأى في ذلك صلاحا عائدا على الإسلام وأهله.
مثلا: إذا جمعت لديه الصدقات وحضر الجهاد، وحقت المدافعة عن حوزة الإسلام من الكفار أو البغاة؛ فإن له إيثار صنف المجاهدين بالصرف إليهم، وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إذا اقتضت المصلحة إيثار غير المجاهدين.
( [تحرم الزكاة على بني هاشم ومواليهم] :)
(وتحرم على بني هاشم) ، وبنو عبد المطلب مثلهم.
أقول: الأحاديث القاضية بتحريم ذلك عليهم قد تواترت تواترا معنويا،(1/536)
ولم يأت من خادع نفسه بتسويغها بشيء ينبغي الالتفات إليه، بل مجرد هذيان هو عن الحق بمعزل، واحتج لعدم التحريم بحديث: " إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم "، قال: فإذا منعوا ذلك حلت لهم الزكاة، وفي إسناده حسين بن قيس الرحبي؛ الملقب بحنش (1) .
قال الهيثمي: وفيه كلام كثير، وقد وثقه أبو محصن (2) .
وقال في " خلاصة البدر المنير ": ضعفوه.
وليس في هذا - مع كونه أشف ما جاء به هو وغيره ممن ترخص في هذا الأمر - ما يدل على الحل؛ لأنهم إذا منعوا ما يحل لهم؛ لم يحل لهم ما حرم عليهم، فما وزان هذا إلا وزان قول القائل: لا يحل الزنا؛ لأن في النكاح ما يغني عنه {فهل يقول من له أدنى تمسك بالعلم: إنه إذا لم يقدر على النكاح حل له الزنا؟}
وأما التعليل للتحريم بالتهمة له -[صلى الله عليه وسلم]-، وقد زالت بموته، فحلت لقرابته، كما رواه عن أبي حنيفة - رحمه الله -: فمجرد تخمين لا مستند له، وتخيل لا مرشد إليه، ولو كان الأمر كذلك؛ لكانت التهمة في الخمس وصفي الغنيمة أدخل وأشد؛ والله المستعان.
(ومواليهم) : لحديث أبي هريرة مرفوعا وفيه: " إنا لا نأكل الصدقة "، وفي
__________
(1) قال النسائي: ليس بثقة. (ش)
قلت: انظر " مجمع الزوائد " (3 / 91) ، و " خلاصة البدر المنير " (1847) ، و " المعجم الكبير " (11543) .
(2) هو الراوي عنه في بعض رواياته!
وانظر " تهذيب الكمال " (6 / 467) .(1/537)
لفظ: " إنا لا تحل لنا الصدقة "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وفي حديث أبي رافع: " إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وابن حبان، وابن خزيمة - وصححاه أيضا -.
وفي رواية لأحمد (1) ، والطحاوي من حديث الحسن بن علي: " لا تحل لآل محمد الصدقة ".
وفي حديث المطلب بن ربيعة، أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس "؛ وهو في " صحيح مسلم ".
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ": " إنما كانت أوساخا؛ لأنها تكفر الخطايا، وتدفع البلايا، وتقع فداء عن العبد في ذلك، فيتمثل في مدارك الملأ الأعلى أنها هي، فتدرك بعض النفوس العالية أن فيها ظلمة، وقد يشاهد أهل المكاشفة (2) تلك الظلمة، وكان سيدي الوالد - قدس سره - يحكي ذلك من نفسه (2) .
وأيضا؛ المال الذي يأخذه الإنسان من غير مبادلة عين أو نفع، ولا يراد به احترام وجهه؛ فيه ذلة ومهانة، ويكون لصاحب المال عليه فضل ومنة؛ وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " اليد العليا خير من اليد السفلى "؛ فلا جرم أن التكسب بهذا النوع شر وجوه المكاسب، لا يليق بالمطهرين المنوه بهم في الملة ". اهـ.
__________
(1) رواه أحمد (1 / 200) بسند صحيح.
(2) هذا نفس تصوف لا دليل عليه {}(1/538)
قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة.
وكذا حكى الإجماع [أبو طالب - من أهل البيت -؛ كما حكى ذلك عنه في " البحرش، وكذا حكاه] (1) ابن رسلان في " شرح السنن ".
وقد وقع الخلاف في (الآل) الذين تحرم عليهم الصدقة على أقوال؛ أظهرها أنهم بنو هاشم، وحكم مواليهم حكمهم في ذلك.
أقول: الحق تحريم الزكاة أجمع على بني هاشم، سواء كانت الزكاة منهم، أو من غيرهم، وما استروح إليه من قال بجواز صدقة بعضهم لبعض من حديث العباس بن عبد المطلب، أنه قال: قلت: يا رسول الله {إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: " نعم "، أخرجه الحاكم (2) : فليس بصالح للاحتجاج به لما فيه من المقال، حتى قيل: إنه اتهم بعض رواته، كما حققه صاحب " الميزان "، وقد عرفت عموم أحاديث التحريم، فلا يجوز تخصيصها بمخصص غير ناهض.
( [تحرم الزكاة على الأقوياء المكتسبين] :)
(و) تحرم (على الأغنياء والأقوياء المكتسبين) : وجهه ما في الأحاديث
__________
(1) • من " الدراري المضية " (2 / 16) . (ن)
(2) ظاهر صنيع الشارح يوهم أن الحاكم رواه في " المستدرك "} وليس كذلك.
ذكر المؤلف في " نيل الأوطار " أن الحاكم أخرجه في " النوع السابع والثلاثين " من " علوم الحديث " بإسناد كله من بني هاشم (جزء 4 ص 241) . (ش)
قلت: وهو فيه، لكن؛ في " النوع التاسع والثلاثين " (ص 175) .
وسهل تصحيف " التاسع " إلى: " السابع "!(1/539)
الصحيحة الثابتة عن جماعة أنها " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي ".
وفي لفظ لأحمد، وأهل " السنن " من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار مرفوعا: " ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب ".
وفي بعض الأخبار. " ولا لذي مرة قوي ".
والمرة - بكسر الميم وتشديد الراء -: القوة وشدة العقل؛ كذا قال الجوهري.
قال في " الحجة البالغة ": " وجاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال؛ أنها أوقية، أو خمسون درهما، وجاء أيضا أنها ما يغديه أو يعشيه، وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا؛ لأن الناس على منازل شتى، ولكل واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه، فمن كان كاسبا بالحرفة؛ فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة، ومن كان زارعا حتى يجد آلات الزرع، ومن كان تاجرا حتى يجد البضاعة، ومن كان على الجهاد مسترزقا بما يروح ويغدو من الغنائم، كما كان أصحاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-، فالضابط فيه: أوقية، أو خمسون درهما، ومن كان كاسبا بحمل الأثقال في الأسواق، أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك؛ فالضابط فيه: ما يغديه ويعشيه ". أه.
في " الموطأ " (1) من حديث عطاء بن يسار، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل
__________
(1) (1 / 268) مرسلا.
ووصله أبو داود (1636) بسند صحيح.
وانظر " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 125) .(1/540)
الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله (1) ، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني ".
قال في " المسوى ": " لا خلاف في صورة تبدل الأيدي، وكذا في العامل وابن السبيل، وأما الغارم والغازي؛ فتحل الصدقة لهما وإن كانا غنيين عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تحل إلا إذا كانا فقيرين.
وظاهر الآية مع الشافعي؛ لأن الله - تعالى - جعلهما قسيمي الفقير والمسكين.
وعند الحنفية: تحل الصدقة لمن ليس عنده نصاب غير مستغرق في حاجته، فلو ملك نصابا غير نام، لكنه غير مستغرق لم تحل له، ولو ملك نصبا كثيرة - إلا أنها مستغرقة - حلت له، ولا يحل السؤال إلا لمن لا يملك قوت يومه بعد ستر بدنه؛ كذا في " العالمكيرية ".
قال في " شرح السنة ": إذا رأى الإمام السائل جلدا قويا، وشك في أمره؛ أنذره وأخبره بالأمر، فإن زعم أنه لا كسب له، أو له عيال لا يقوم كسبه بكفايتهم قبل منه وأعطاه ".
أقول: يمكن أن يطبق بين الأحاديث باختلاف الأحوال، والأصل اعتبار معنى الحاجة والاستغناء بالكسب المتيسر، فالأوقية تمنع السؤال لمن كان حاله مثل حال المهاجر في زمان النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، كانوا مرتزقين من الفيء دفعة بعد دفعة، وفي الفيء قلة، والاحتطاب مانع من
__________
(1) • أي: اشتراها بماله من المتصدق عليه، وهذا قريب في المعنى من الفقرة التي بعدها. (ن)(1/541)
السؤال لمن كان قويا حاذقا في الاحتطاب، أو أراد أن يسأل غير الإمام؛ وعلى هذا القياس غيرهما ". اه.
أقول: قد قدمنا ما هو الحق في تفسير الغنى المانع من أخذ الزكاة، وقدمنا - أيضا - ما هو الحق في بعض الأصناف الثمانية من عدم اشتراط الفقر كالمجاهد ونحوه.
( [صرف الصدقة في ذوي الأرحام أفضل] :)
ثم اعلم أن الأدلة طافحة بأن الصرف في ذوي الأرحام أفضل؛ من غير فرق بين الصدقة الواجبة والمندوبة، كما يدل على ذلك ترك الاستفصال في مقام الاحتمال (1) ، فإنه ينزل منزلة العموم.
على أنه قد ورد التصريح في حديث أبي سعيد عند البخاري، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال لامرأة: " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم ".
وثبت عند البخاري، وأحمد عن معن بن يزيد، قال: أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-، فقال: " لك ما نويت يا يزيد {ولك ما أخذت يا معن} ".
وهذه الأدلة إنما هي تبرع من القائل بالجواز والإجزاء، وإلا فهو قائم مقام المنع من كون القرابة أو وجوب النفقة مانعين، ولم يأت القائل بذلك بدليل ينفق في محل النزاع، على فرض أنه لم يكن بيد القائل بالجواز إلا
__________
(1) وهذا من القواعد الأصولية المهمة.(1/542)
التمسك بالأصل، فكيف والأدلة عموما وخصوصا ناطقة بما ذهبوا إليه؟ !
( [الكلام في الجزية والعشور على أهل الذمة] :)
وأما أهل الذمة؛ فالذي ثبت عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وشرعه؛ هو أخذ الجزية من أهل الذمة بدلا عن دمائهم، وصالح بعض أهل الذمة على شيء معلوم يسلمونه في كل سنة، وهو الجزية أيضا، فقد تكون الجزية مضروبة على كل فرد من أفراد أهل الذمة كذا، وقد تكون مضروبة على الجميع بمقدار معين.
وأما الاستئناس لقول عمر - رضي الله عنه - بكونه بمشاورة الصحابة؛ فليس ذلك مستلزما لكونه إجماعا، وليس الحجة إلا إجماعهم، وليس فيه حجة على ثبوت مثل هذا التكليف الشاق على أهل الذمة، ولم يثبت هذا عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] .
وأما حديث: " ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى ": فهذا الحديث هو أشف ما يستدل به على المطلوب، وقد أخرجه أبو داود من طرق وفي بعضها مقال.
وأخرجه أحمد، والبخاري في " التاريخ "، وساق الاضطراب في سنده (1) ، وقال: لا يتابع عليه، والراوي له عن النبي [صلى الله عليه وسلم] رجل بكري، وهو مجهول، ولكن جهالة الصحابي غير قادحة، كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني، في الرسالة التي سماها " القول المقبول في رد المجهول من غير صحابة الرسول ".
__________
(1) ضعفه ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 353) .(1/543)
وفي بعض ألفاظ هذا الحديث عند أبي داود: " الخراج "، مكان: " العشور "؛ ولكن إنما يتم الاستدلال بهذا الحديث على المطلوب؛ لو كان المراد به هو نصف عشر ما يتجرون به كما زعموه، وليس كذلك؛ بل فيه خلاف.
فقال في " القاموس ": " عشّرهم يُعشّرهم عشراً، وعُشوراً: أخذ عشر أموالهم ". اه.
وقال في " النهاية ": " العشور جمع عشر؛ يعني: ما كان من أموالهم للتجارات دون الصدقات، والذي يلزمهم من ذلك عند الشافعي ما صولحوا عليه وقت العهد، فإن لم يصالحوا على شيء، فلا تلزمهم إلا الجزية.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إن أخذوا من المسلمين إذا دخلوا بلادهم للتجارة؛ أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا للتجارة، ومنه: " احمدوا الله إذ رفع عنكم العشور " (1) ؛ يعني: ما كانت الملوك تأخذه منهم.
ومنه أن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا؛ أي: لا يؤخذ عشر أموالهم (2) . اه كلام " النهاية ".
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3 / 197) ، وأحمد (1 / 190) عن سعيد بن زيد بسند ضعيف.
(2) معنى: " لا يحشروا "؛ أي: لا يندبون إلى المغازي، ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم.
وأما: " لا يُجبوا "؛ فإنه بضم الياء وفتح الجيم وتشديد الباء المضمومة، وأصل التجيبة أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو السجود.
والمراد بقولهم: لا يجبوا: أنهم لا يصلون.
ولفظ الحديث يدل على الركوع؛ لقوله في جوابهم: ولا خير في دين ليس فيه ركوع. اه ملخصا من " النهاية ". (ش)(1/544)
وقال الخطابي مثل ما نقله صاحب " النهاية " في أول كلامه.
فحصل من جميع هذا أن العشور إما العشر، أو المال المصالح به، أو ما يؤخذ من تجار أهل الذمة إن أخذوا من تجارنا، أو ما يأخذه الملوك من الجبايات والضرائب، أو الخراج كما في بعض روايات الحديث، ومع هذا الاحتمال لا ينتهض للاستدلال به.
والحاصل: أن الأصل في أموال الناس - مسلمهم وكافرهم - التحريم: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ؛ فلا بد من دليل يدل على تحليل المطلوب؛ لأنه خارج عن الأقسام المسوغة؛ إذ ليس بجزية، ولا مال صلح، ولا خراج، ولا معاملة، ولا زكاة؛ لعدم صحتها منهم؛ لأن الكفر مانع.
وأظهر ما يقال في معنى العشور؛ أحد أمرين: إما الخراج؛ لأن بعض ألفاظ الحديث يفسر بعضا، أو الضرائب التي تضرب عليهم - كالجزية ومال الصلح -، فيكون المراد أن المسلمين ليس عليهم الخراج؛ أي: لا يوضع في أموالهم ابتداء، وليس عليهم ضريبة في رقابهم أو أموالهم كاليهود، وحينئذ لم يبق ما يصلح للتمسك به على جواز أخذ نصف عشر أموال تجار أهل الذمة.
ومما يؤيد ما ذكرناه في معنى العشور: ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا تصلح قبلتان في أرض، وليس على مسلم جزية " (1) ؛ فيمكن أن يكون مفسرا لحديث: " ليس على المسلمين عشور "، ولم يثبت عن النبي
__________
(1) ضعيف؛ فانظر " الإرواء " (1257) .(1/545)
-[صلى الله عليه وسلم]- تقدير ما يؤخذ من أهل الذمة؛ إلا ما في حديث معاذ: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، والحاكم.
وهذا الحديث - وإن كان فيه مقال (1) - فهو لا يخرج به عن صلاحيته للاستدلال، فالوقوف على هذا المقدار متعين لا تجوز مجاوزته.
وأما النقص منه - إذا رآه الإمام أو المسلمون - فلا بأس به؛ لأن الجزية حق لهم؛ يجوز لهم الاقتصار على بعض ما وجب.
والظاهر أنه لا فرق بين الغني والفقير والمتوسط في أنهم يستوون في جواز أخذ هذا المقدار منهم؛ لأن الجزية لما كانت عوضا عن الدم كان ذو المال كمن لا مال له.
وأما من ذهب إلى أنه يجب على الفقير نصف ما على المتوسط، وعلى المتوسط نصف ما على الغني، وجعلوا الغني من يملك ألف دينار أو ما يساويها، ويركب الخيل، ويتختم الذهب، والمتوسط دونه، تمسكا بما روي عن علي؛ أنه كان يجعل على المياسير من أهل الذمة ثمانية وأربعين درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرون، وعلى الفقراء اثني عشر: فهذا - مع كونه غير مرفوع إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]- لا تقوم به الحجة؛ لأن في إسناده أبا خالد الواسطي؛ ولا يحتج بحديثه إذا كان مرفوعاً، فكيف إذا كان موقوفاً؟ !
وكذلك لا تقوم الحجة بما أخرجه في " الموطأ " عن عمر: أنه كان يأخذ
__________
(1) ولكن له طرقا وشواهد؛ فانظر " الإرواء " (795) .(1/546)
على أهل الذهب من أهل الذمة الجزية أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما؛ لأنه فعل صحابي لا يصلح للاحتجاج به، فالاقتصار على ما في حديث معاذ متحتم.
ويؤيده ما أخرجه البيهقي (1) عن أبي الحويرث - مرسلاً -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صالح أهل أيلة وكانوا ثلاث مئة رجل على ثلاث مئة دينار.
وأما ما روي عن الشافعي، قال: سمعت بعض أهل العلم من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار: فهذا - مع كونه ليس بمرفوع ولا موقوف ولا معلوم قائله - لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن المأخوذ من أهل نجران إنما كان صلحا بمقدار من المال على جميعهم، ومحل النزاع ما يضرب على كل فرد ابتداء.
ثم نقول: أموال أهل الحرب على أصل الإباحة، يجوز لكل أحد أخذ ما شاء منها كيف شاء قبل التأمين لهم، فيجوز للسلطان أن يأذن لهم بدخول بلاد المسلمين والتجارة فيها على ما شاء من قليل أو كثير، يأخذه من أموالهم؛ إنما الشأن في أخذ مثل ذلك من المسلمين الذين يسافرون للتجارة من أرض إلى أرض، فيأخذ منهم أهل الأرض التي يصلون إليها شطرا من أموالهم من غير نظر إلى كون ذلك زكاة تجارة ولا غيرها؛ بل لا يعتبرون في استحلال أخذه؛ إلا مجرد خروجهم من سفائن البحر، أو وصولهم من البر إلى حدود الأرض التي يخرجون إليها، فهذا عند التحقيق ليس هو إلا المكس من غير شك ولا شبهة، وقد حققت المقام في " إكليل الكرامة "؛ فليراجع.
__________
(1) في " السنن الكبرى " (9 / 195) ، وفي " معرفة السنن والآثار " (13 / 374) ؛ من طريق الشافعي في " الأم " (4 / 179) ؛ وفي سنده - فوق إرساله! - إبراهيم بن محمد - شيخ الشافعي -، وهو متروك.(1/547)
(5 - باب صدقة الفطر)
( [مقدار صدقة الفطر] :)
(هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، قال: فرض رسول الله [صلى الله عليه وسلم] زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير؛ على العبد، والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير من المسلمين "، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وفي " صحيح مسلم "، وغيره: " ليس على المسلم في عبده صدقة؛ إلا صدقة الفطر ".
وأخرج الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر، قال: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بصدقة الفطر عن الصغير، والكبير، والحر، والعبد؛ عمن تمونون ".
وأخرج نحوه الدارقطني من حديث علي؛ وفي إسناده ضعف؛ وله طرق.
والخطابات في إخراجها على من ليس بمكلف؛ إنما هي كائنة مع المكلفين (1) .
__________
(1) لعل صحة الجملة: " والخطابات في إخراجها عمن ليس بمكلف إنما هي كائنة على المكلفين "؛ ليستقيم المعنى. (ش)(1/548)
وقد ذهب الجمهور إلى أنها صاع من البر وغيره.
وذهب بعض الصحابة إلى أن الفطرة من البر نصف صاع، وقد حكاه ابن المنذر عن علي، وعثمان، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وابن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر؛ بأسانيد صحيحة، كما قال الحافظ، وإليه ذهب أبو حنيفة.
وقد تمسكوا بحديث ابن عباس مرفوعا: " صدقة الفطر: مدّان من قمح "؛ أخرجه الحاكم (1) .
وأخرج نحوه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعاً.
وفي الباب أحاديث تعضد ذلك، ولكن ليس هذا بإجماع من الصحابة، حتى يكون حجة.
وقد أخرج ابن خزيمة، والحاكم في " صحيحيهما " (2) : أن أبا سعيد قال لما ذكروا عنده صدقة رمضان: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: صاع تمر، أو صاع حنطة، أو صاع شعير، أو صاع أقط "، ولكن هذا - مع كونه غير مصرح باطلاع رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- على ذلك ولا تقريره -: قد قال ابن خزيمة: ذكر
__________
(1) في " المستدرك " (1 / 140) ، والبيهقي في " سننه " (4 / 172) .
وضعفه ابن عبد الهادي في " تنقيح التحقيق " (2 / 1473) .
(2) وصف " المستدرك " ب " الصحيح ": فيه توسع {
والحديث في " صحيح مسلم " (985) } !(1/549)
الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم! ؟
وكذلك قال أبو داود.
وقد روى الحاكم (1) من حديث ابن عباس، والترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً أيضا: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر صارخا بمكة ينادي: " إن صدقة الفطر حق واجب على كل مسلم؛ صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو مملوك، حاضر أو باد: مُدّان من قمح، أو صاع من شعير، أو تمر ".
وأخرج نحوه الدارقطني من حديث عصمة بن مالك بلفظ: " مدان من قمح "؛ وفي إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف.
ويؤيده ما عند أبي داود، والنسائي عن الحسن - مرسلا - بلفظ: فرض رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- هذه الصدقة: صاعا من تمر، أو من شعير، أو نصف صاع من قمح.
وأخرج أيضا أبو داود (2) من حديث عبد الله بن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير بلفظ: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " صدقة الفطر صاع من بر، أو قمح عن كل اثنين ".
وأخرج سفيان الثوري في " جامعه " عن علي موقوفا بلفظ: نصف صاع بر.
__________
(1) رواه الترمذي (667) ، والدارقطني (2 / 141) ، وهو - أيضا - ضعيف.
وانظر " نصب الراية " (2 / 420) ، و " الكامل " (3 / 346) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 183) .
(2) (برقم: 1620) ، وابن خزيمة (2410) ، وحسنه شيخنا.(1/550)
وهذه الروايات متعاضدة صالحة لتخصيص لفظ الطعام على فرض شموله للبر، كما قال بذلك بعض أهل العلم.
قال في " المسوى ": في الحديث: " صدقة الفطر فريضة "؛ وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: واجبة.
وفيه: أنه لا يشترط لها النصاب؛ بل هي فريضة على الغني والفقير، وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من يملك نصابا، وإن لم يكن ناميا.
وفيه: أنها تجب على الصغير والمجنون ومن لم يطق الصوم، وعليه أكثر أهل العلم.
وفيه: أنها تجب عن الرقيق - مطلقا - سواء كانوا للتجارة، أو للخدمة، وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عن رقيق التجارة.
وفيه: أنها لا تجب عن العبد الكافر، وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: تجب عنه.
وفيه: أنه لا يجوز إخراج الدقيق والسويق ولا الخبز ولا القيمة؛ وعليه الشافعي.(1/551)
وقال أبو حنيفة: يجوز كل ذلك.
وفيه: أنه لا يجوز أقل من صاع من أي جنس أخرج، وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز من البر نصف صاع.
وفيه: أن الواجب مقدر بصاع النبي -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وهو خمسة أرطال وثلث بالرطل العراقي، وقدرها بالقدح المصري: قدحان.
وقال أبو حنيفة: بصاع الحجاز، وهو ثمانية أرطال.
وقال الشافعي: تجب فطرة المرأة على زوجها.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه ".
( [وقت إخراج صدقة الفطر] :)
(والوجوب على سيد العبد ومنفق الصغير ونحوه، ويكون إخراجها قبل صلاة العيد) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما: " أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ".
فيه دليل على وجوب الإخراج في ذلك الوقت.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم - وصححه - عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: " فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها(1/552)
بعد الصلاة؛ فهي صدقة من الصدقات " (1) ، وهذا يدل على أنها لا تجزئ بعد الصلاة؛ لأنها حينئذ صدقة كسائر الصدقات التي يتصدق بها الإنسان، وليست بزكاة الفطر.
قال في " المسوى ": " السنة عند أهل العلم: أن يُخرج صدقة الفطر يوم العيد قبل الخروج إلى الصلاة، ولو عجلها بعد دخول رمضان يجوز، ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر عند بعضهم.
وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس ".
وفي " سفر السعادة ": " وظاهر هذه الأحاديث أنها بعد الصلاة لا تجزئ ". اه.
( [من الذي لا تجب عليه صدقة الفطر؟] :)
(ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته فلا فطرة عليه) : لأنه إذا أخرج قوت يومه، أو بعضه كان مصرفا لا صارفا؛ لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " أغنوهم في هذا اليوم "، أخرجه البيهقي، والدارقطني من حديث ابن عمر (2) .
فإذا ملك زيادة على قوت يومه؛ أخرج الفطرة إن بلغ الزائد قدرها.
ويؤيده تحريم السؤال على من ملك ما يغديه ويعشيه، كما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث سهل ابن الحنظلية مرفوعاً؛ لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيا ولا فقيرا.
__________
(1) سنده حسن؛ كما في " الإرواء " (843) .
(2) حديث ضعيف؛ كما في " الإرواء " (844) .(1/553)
وقد أخرج أحمد، وأبو داود عن عبد الله بن ثعلبة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " صدقة الفطر صاع تمر، أو صاع شعير عن كل رأس، أو صاع بر أو قمح بين اثنين: صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى ".
وقد وقع الخلاف في تقدير ما يعتبر في وجوب زكاة الفطر: فقيل: ملك النصاب، وقيل: قوت عشر.
أقول: التقدير بقوت عشرة أيام محض رأي؛ ليس عليه أثارة من علم، وليس هو أيضا على أسلوب مناسب باعتبار محض الرأي، فإن الرأي إذا لم يكن له علة معقولة، سائغة في العقل، مقبولة في الطبع؛ فهو مردود عند أهل الرأي!
وقد ورد ما يدل على أن الفقير كالغني في الفطرة؛ ففي حديث ابن أبي صعير (1) عند أبي داود بلفظ: " غني أو فقير "، ويؤيده حديث ابن ثعلبة (1) المتقدم؛ لأن المراد أن الله يرد عليه من العوض خيرا مما أخرج.
وقال مالك، والشافعي، وعطاء، وأحمد بن حنبل، وإسحاق: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا لقوت يومه وليلته.
والظاهر: أن من وجد ما يكفيه ومن يعول ليوم الفطر، ووجد صاعا
__________
(1) بضم الصاد وفتح العين المهملتين؛ وهو عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير - ويقال: ابن صعير، ويقال: ثعلبة بن عبد الله بن صعير -.
ومن هذا؛ تعرف خطأ الشارح في قوله: " ويؤيده حديث ابن ثعلبة المتقدم "؛ فإن الحديثين هما حديث واحد، ولكنه وهم رحمه الله. (ش)(1/554)
زائدا على ذلك أخرجه؛ لحديث: " أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم "، أخرجه البيهقي، والدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً.
وأخرجه ابن سعد أيضا في " الطبقات " (1) من حديث عائشة وأبي سعيد.
فظاهر قوله: " أغنوهم ": أنهم يصيرون أغنياء إذا نالوا ما يكفيهم في يومهم، والمراد أنهم أغنياء عن الطواف، وأن الغني في الفطرة من استغنى عن الطواف في يومه، والفقير من افتقر إلى الطواف في يومه، فيكون الوجوب متحتما على من وجد ما يغنيه في يومه؛ مع زيادة قدر ما يجب عليه من الفطرة، ويكون مصرفها من لم يجد ذلك، لا كما قالوا: إن مصرفها مصرف الزكاة!
( [مصرف صدقة الفطر مصرف الزكاة] :)
(ومصرفها مصرف الزكاة) : لكونه -[صلى الله عليه وسلم]- قد سماها زكاة، كقوله: " فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة "، وقول ابن عمر: إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أمر بزكاة الفطرة - وقد تقدما -، ولكنه ينبغي تقديم الفقير للأمر بإغنائهم في ذلك اليوم، فما زاد صُرف في سائر الأصناف.
وقال في " سفر السعادة ": وكان يخص المساكين بهذه الصدقة، ولا يقسمها على الأصناف الثمانية، ولم يرد بذلك أمر أيضا، وبه قال بعض العلماء، ويجوز الصرف للأصناف الثمانية، بل خُص بها المساكين. انتهى.
__________
(1) (1 / 248) وفي سنده الواقدي؛ وهو متروك.(1/555)
(الكتاب الخامس: كتاب الخمس)(1/557)
(5 - كتاب الخمس)
( [يجب الخمس فيما يُغنم في القتال وفي الركاز] :)
(يجب فيما يُغنم في القتال) وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله - تعالى - في كتاب الجهاد والسير.
ولا فرق بين الأراضي والدور المأخوذة من الكفار وبين المنقولات؛ فإن الجميع مغنم في القتال.
وأما الفيء - وهو ما أُخذ بغير قتال -: فحكمه مذكور في قوله - تعالى -: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} ، والمراد بقوله - تعالى -: {من شيء} ما بينه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، لا كل ما يطلق عليه اسم الغنيمة، بل ما غُنم بالقتال - كما في " النهاية " وغيرها -؛ ولو بقي على عمومه، لاستلزم وجوب الخمس في الأرباح والمواريث ونحوهما، وهو خلاف الإجماع، وما استلزم الباطل باطل.
(وفي الركاز) الخمس؛ لأنه يشبه الغنيمة من وجه، ويشبه المجان، فجُعلت زكاته خمساً، لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس ".(1/559)
( [اختلاف العلماء في تعريف الركاز] :)
والرِّكاز - بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي -: قال مالك والشافعي: الركاز دفن الجاهلية.
وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما: إن المعدن ركاز.
وخالفهم في ذلك الجمهور، فقالوا: لا يقال للمعدن: ركاز، واحتجوا بما وقع في هذا الحديث من التفرقة بينهما بالعطف، وأن ذلك يدل على المغايرة.
وفي " القاموس " تفسير الركاز بالمعدن ودفين الجاهلية.
وقال صاحب " النهاية ": إن الركاز يقع عليهما، وإن الحديث ورد في الدفين. هذا معنى كلامه.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " وفي قوله: " المعدن جبار " قولان:
أحدهما: أنه إذا استأجر من يحفر له معدنا، فسقط عليه فقتله؛ فهو جبار؛ ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: " البئر جبار، والعجماء جبار ".
والثاني: أنه لا زكاة فيه، ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: " وفي الركاز الخمس "، ففرق بين المعدن والركاز، فأوجب الخمس في الركاز؛ لأنه مال مجموع يؤخذ بغير كلفة ولا تعب، وأسقطها عن المعدن؛ لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه، والله - تعالى - أعلم ". اه.(1/560)
قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم يقولون: إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دِفن الجاهلية؛ ما لم يُطلب بمال، ولم يُتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤنة، فأما ما طُلب بمال، وتُكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة؛ فليس بركاز.
قال في " المسوى ": " هو أظهر أقوال الشافعي في تفسير الركاز، وله قول: إن المعدن من الركاز أو بمنزلة الركاز، وعليه أبو حنيفة.
والمراد بالركاز على أظهر أقوال الشافعي: هو الدفين الجاهلي من النقد.
وأما الإسلام؛ فإن عُلم مالكه فله؛ وإلا فلقطة، وإنما يملكه الواجد، وتجب فيه الزكاة إذا وُجد في موات أو ملك أحياء، فإن وجد في ملك شخص فللشخص، أو في مسجد أو شارع؛ فلقطة.
قال مالك: المعدن بمنزلة الزرع، يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع، يؤخذ منه إذا خرج من المعدن من يومه ذلك، ولا يُنتظر به الحول، كما يؤخذ من الزرع إذا حُصد العشر ولا يُنتظر به أن يحول عليه الحول.
قلت: وبه قال الشافعي في أظهر أقواله، ولم يوجب في غير الذهب والفضة.
وقال الشافعي - في حديث معادن القبلية (1) في قول آخر -: ليس هذا مما
__________
(1) القبلية - بفتح القاف والباء الموحدة -: ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام. (ش)
قلت: يريد حديث إقطاع النبي [صلى الله عليه وسلم] لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية.
وهو في " سنن أبي داود " (3062) بسند ضعيف جدا! وفي " صحيح ابن خزيمة " (2323) بسند ضعيف.(1/561)
يثبته أهل الحديث، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ إلا إقطاعه.
وأما الزكاة فليست مروية عنه، كذا روى عنه البيهقي في " سننه ".
أقول: ولو كانت الزكاة مروية؛ فليس ذلك نصا في ربع العشر، بل يحتمل معنيين آخرين:
أحدهما: يؤخذ منه الخمس وهو زكاة، وهو قول للشافعي، والحصر بالنسبة إلى الكل.
والثاني: إذا ملكه وحال عليه الحول؛ تؤخذ منه الزكاة؛ وهو قول جمع من المحدثين ". انتهى.
( [لا يجب الخمس في غير الغنائم والركاز] :)
(ولا يجب فيما عدا ذلك) : لعدم الإيجاب الشرعي، والبقاء تحت البراءة الأصلية.
وقال أبو حنيفة: الخمس في كل جوهر ينطبع كالحديد والنحاس.
أقول: إن إيجاب الزكاة في جميع المعادن، ومجاوزة ذلك إلى صيد البر والبحر والمسك والحطب والحشيش - كما فعله كثير من المصنفين -: ليس بصواب؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والأصل في أموال العباد التي قد دخلت في أملاكهم بوجه من الوجوه المقتضية للملك؛ هو الحرمة، ولا يجوز أخذ شيء منها إلا بطيبة من نفس مالكها: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، وإلا كان أكلا بالباطل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} .(1/562)
والمتيقن وجوب الخمس في الغنيمة من القتال، وفي معدن الذهب والفضة؛ لما أخرجه البيهقي (1) في حديث الركاز بزيادة: قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ ! قال: " الذهب والفضة التي خلقت في الأرض يوم خُلقت "، وهو - وإن كان في إسناده سعيد بن أبي سعيد المقبري -: فهو لا يقصر عن صلاحية حديثه للتفسير؛ فليعلم.
( [مصرف الغنائم والركاز] :)
(ومصرفه) ؛ أي: مصرف الزكاة عند الشافعي، ومصرف خمس الفيء عند أبي حنيفة.
(من في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ) ؛ وكفى بها دليلا على ذلك.
وفي " حجة الله البالغة ": " يوضع سهم الرسول [صلى الله عليه وسلم] بعده في مصالح المسلمين؛ الأهم فالأهم، وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب، الفقير منهم والغني، والذكر والأنثى، وعندي أنه يخير الإمام في تعيين المقادير، وكان عمر - رضي الله تعالى عنه - يزيد في فرض آل النبي [صلى الله عليه وسلم] من بيت المال، ويعين المدين منهم، والناكح، وذا الحاجة، وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له، وسهم الفقراء والمساكين لهم، يفوض كل ذلك إلى الإمام، يجتهد في الفرض، وتقديم الأهم فالأهم، ويفعل ما أدى إليه اجتهاده،
__________
(1) في " السنن الكبرى " (4 / 152) ، وضعفه شيخنا ف " ضعيف الجامع " (3163) ، والمناوي في " فيض القدير " (4539) .(1/563)
ويقسم أربعة أخماسه في الغانمين، يجتهد الإمام أولا في حال الجيش، فمن كان نفله أوفق بمصلحة المسلمين نفل له.
وأما الفيء؛ فمصرفه ما بين الله - تعالى -: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} إلى قوله: {رءوف رحيم} ، ولما قرأها عمر قال: هذه استوعبت المسلمين؛ فيصرفه إلى الأهم فالأهم، ويُنظر في ذلك إلى مصالح المسلمين لا مصلحته الخاصة.
واختلفت كيفية قسمة الفيء: فكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب حظا.
وكان أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - يقسم للحر والعبد؛ يتوخى كفاية الحاجة.
ووضع عمر الديوان على السوابق والحاجات، فالرجل وقِدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته.
والأصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف: أن يُحمل على أنه إنما فعل ذلك على الاجتهاد، فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته ". انتهى حاصله.
[انتهى المجلد الأول من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "، ويتلوه: المجلد الثاني - منه -، وأوله: 6 - كتاب الصيام](1/564)
(الكتاب السادس: كتاب الصيام)(2/5)
(6 - كتاب الصيام)
(1 - أحكام الصيام)
(الفصل الأول: وجوب صوم رمضان)
( [صيام رمضان ركن من أركان الدين] :)
(يجب صيام رمضان) وهو ركن من أركان الدين، وضروري من ضرورياته.
( [يجب صوم رمضان برؤية الهلال من عدل أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما] :)
(لرؤية هلاله من عدل) : لصيامه - صلى الله عليه وسلم -، وأمره للناس بالصيام لما أخبره عبد الله بن عمر أنه رآه، أخرجه أبو داود، والدارمي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -.
وصححه أيضا ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه (1) .
__________
(1) • حديث صحيح. (ن)(2/7)
وأخرج أهل " السنن "، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم من حديث ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان -، فقال: " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ "، قال: نعم، قال: " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ "، قال: نعم، قال: " يا بلال! أذن في الناس؛ فليصوموا غدا " (1) .
وأخرج الدارقطني، والطبراني من طريق طاوس، قال: شهدت المدينة؛ وبها ابن عمر وابن عباس، فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته؟ فأمراه أن يجيزه، وقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة الرجلين.
قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي؛ وهو ضعيف.
وقد ذهب إلى العمل بشهادة الواحد: ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، والشافعي في أحد قوليه.
قال النووي: وهو الأصح.
وذهب مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يعتبر اثنان،
__________
(1) • هذا الحديث صححه جماعة، وأعله الترمذي والنسائي بالإرسال؛ وهو الصواب، كما بينته في الفصل الثالث من " التعليقات الجياد " (ج 3) .
وله شاهد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجه المحاملي في (الثاني من الرابع) من " الأمالي " (ق 41 / 2) ، وسنده حسن بل صحيح؛ فقد أخرجه من طريقين، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن الرجل. (ن)(2/8)
واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وفيه: " فإن شهد شاهدان مسلمان؛ فصوموا وأفطروا "، أخرجه أحمد، والنسائي.
وفي حديث أمير مكة الحارث بن حاطب، قال: عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية؛ فإن لم نره وشهد شاهدا عدل؛ نسكنا بشهادتهما "؛ أخرجه أبو داود، والدارقطني، وقال: هذا الإسناد متصل صحيح.
وغاية ما في الحديثين: أن مفهوم الشرط يدل على عدم قبول الواحد، ولكن أحاديث قبول الواحد أرجح من هذا المفهوم، وقد حققه الماتن - رحمه الله - في كتابه " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال ".
ويؤيد وجوب العمل بخبر الواحد: الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد على العموم؛ إلا ما خصه دليل، فمحل النزاع مندرج تحت العموم بعد التنصيص عليه بما في حديث الأعرابي، وبما في حديث ابن عمر.
وأما التأويل باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل قبل شهادة ابن عمر؛ فلو كان مجرد هذا الاحتمال قادحا في الاستدلال؛ لم يبق دليل شرعي إلا وأمكن دفعه بمثل هذا التأويل الباطل.
في " المسوى ": اختلفوا في هلال رمضان: فقيل: يثبت بشهادة الواحد، وعليه أبو حنيفة، وقيل: لا بد من عدلين، وعليه مالك، وللشافعي قولان كالمذهبين؛ أظهرهما الأول، ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة.(2/9)
وقال أبو حنيفة في الصحو: لا بد من جمع كثير.
وفي " العالمكيرية ": إذا رأوا الهلال قبل الزوال أو بعده؛ لا يصام به ولا يفطر، وهو من الليلة المستقبلة.
وفي " الأنوار ": وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة ".
(أو إكمال عدة شعبان) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وفي " الحجة البالغة ": لما كان وقت الصوم مضبوطا بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال، وهو تارة ثلاثون يوما، وتارة تسع وعشرون: وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل، وأيضا مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق والمحاسبات النجومية، بل الشريعة واردة بإخمال ذكرها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ". انتهى.
( [يصام رمضان ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال] :)
(ويصوم ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها) : وجهه ما ورد من الأدلة الصحيحة أن الهلال إذا غم صاموا ثلاثين يوما، كحديث أبي هريرة المذكور، ومثله في " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن(2/10)
عباس عند أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه -، ومن حديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والدارقطني بإسناد صحيح، وغير ذلك من الأحاديث؛ وفيها التصريح بإكمال العدة ثلاثين يوما؛ في بعضها عدة شعبان، وفي بعضها ما يفيد أنها عدة رمضان، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بأحد الشهرين.
قال في " الحجة ": " قوله - صلى الله عليه وسلم -: " شهرا عيد لا ينقصان؛ رمضان وذو الحجة " (1) قيل: لا ينقصان معا، وقيل: لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة وعشرين، وهذا الآخر أقعد بقواعد التشريع، كأنه أراد سد أن يخطر في قلب أحد ذلك ". انتهى.
أقول: يمكن أن يقال: إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين، فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصص بالشهرين المذكورين، وما ورد في خصوص شهر رمضان، مما يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين؛ فيمكن أن يقال فيه: إن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم، وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يوما.
قال بعض المحققين: التكليف الشهري علق معرفة وقته برؤية الهلال دخولا وخروجا، أو إكمال العدة ثلاثين يوما، فهل في الأكوان أوضح من هذا البيان؟ ! والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة. انتهى.
أقول: إن الرؤية التي اعتبرها الشارع في قوله: " صوموا لرؤيته " هي
__________
(1) هذا لفظ الترمذي، ورواه البخاري بلفظ: " شهران لا ينقصان - شهرا عيد -: رمضان، وذو الحجة "؛ انظر " فتح الباري " (جزء 4 ص 87 - 89) . (ش)(2/11)
الرؤية الليلية لا الرؤية النهارية، فليست بمعتبرة، سواء كانت قبل الزوال أو بعده، ومن زعم خلاف هذا؛ فهو عن معرفة المقاصد الشرعية بمراحل.
واحتجاج من احتج برؤية الذين أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رأوه بالأمس باطل، كاحتجاج من احتج على وجوب الإتمام بقوله - تعالى -: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} ، وكلا الدليلين لا دلالة لهما على محل النزاع:
أما الأول: فإنهم إنما أخبروا عن الرؤية في الوقت المعتبر، وذلك مرادهم بلفظ: أمس، كما لا يخفى على عالم.
وأما الثاني: فالمراد به وجوب إتمام الصيام إلى الوقت الذي يسوغ فيه الإفطار؛ تعيينا لوقته الذي لا يكون صوما بدونه.
والحاصل: أن المجادلة عن هذا القول الفاسد - وهو الاعتداد برؤية الهلال نهارا - يأباه الإنصاف.
وإن قال المتحذلق: إن الاعتبار بالرؤية؛ وقد وقعت؛ لحديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته "، والاعتبار بعموم اللفظ، ونحو ذلك من المجادلات التي لا يجهل صاحبها أنه غالط أو مغالط، ولو كان هذا صحيحا لوجب الإفطار عند كل رؤية للهلال في أي وقت من أوقات الشهر، وهو باطل بالضرورة الدينية.
( [اختلاف مذاهب العلماء في المطلع] :)
(وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة) : وجهه الأحاديث المصرحة(2/12)
بالصيام لرؤيته والإفطار لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان؛ كان ذلك رؤية لجميعهم.
وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره: أنه استهل عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة، فأخبر بذلك ابن عباس، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، ثم قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وله ألفاظ -:
فغير صحيح؛ لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه، ظنا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل؛ وهذا خطأ في الاستدلال، أوقع الناس في الخبط والخلط، حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب.
وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سماها " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال ".
قال في " المسوى ": " لا خلاف في أن رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر.
والأقوى - عند الشافعي -: يلزم حكم البلد القريب دون البعيد.
وعند أبي حنيفة: يلزم مطلقا ".
( [وجوب تبييت النية قبل الفجر في صوم الفرض] :)
(وعلى الصائم النية قبل الفجر) : لحديث حفصة، عن النبي -(2/13)
صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن حبان - وصححاه -، ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفا، فالرفع زيادة يتعين قبولها، على ما ذهب إليه أهل الأصول، وبعض أهل الحديث.
وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم، وخالفهم آخرون، واستدلوا بما لا تقوم به الحجة (1) .
أما حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن أصبح صائما أن يتم صومه في يوم عاشوراء؛ فغاية ما فيه: أن من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار؛ كان ذلك عذرا له عن التبييت (2) .
وأما حديث: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ذات يوم، فقال: " هل عندكم من شيء؟ "، فقالوا: لا، فقال: " فإني إذن صائم ": فذلك في صوم التطوع.
قال في " المسوى ": قال الشافعي: يشترط للفرض التبييت، ويصح النفل بنيته قبل الزوال.
وقال أبو حنيفة: يكفي في الفرض والنفل أن ينوي قبل نصف النهار، ولا بد في القضاء والكفارات من التبييت.
أقول: وأما أنه يجب تجديد النية لكل يوم؛ فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشيء، أو الإرادة له من دون اعتبار أمر آخر، ولا ريب أن من
__________
(1) • وانظر تفصيل ذلك في " التعليقات " (4 / 32 - 34) . (ن)
(2) أمر صلى الله عليه وسلم في عاشوراء من أصبح صائما أن يتم صومه، ومن أصبح مفطرا أن يمسك بقية يومه، وهذا حديث خاص بعاشوراء، ثم نسخ وجوب صومه؛ فلا يستدل به على ما قاله الشارح. (ش)(2/14)
قام في وقت السحر، وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به، في غير أيام الصوم؛ فقد حصل له القصد المعتبر؛ لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك، وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضرورة، إذا لم يكن ثم عذر مانع عن الأكل والشرب غير الصوم، ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد؛ إلا إذا كان مجنونا أو ساهيا أو نائما، كمن ينام يوما كاملا.
وإذا تقرر هذا؛ فمجرد القصد إلى السحور قائم مقام تبييت النية عند من اعتبر التبييت، ومجرد الإمساك عن المفطرات وكف النفس عنها في جميع النهار يقوم أيضا مقام النية عند من لم يعتبر التبييت، ومن قال: إنه يجب في النية زيادة على هذا المقدار؛ فليأت بالبرهان؛ فإن مفهوم النية لغة وشرعا لا يدل على غير ما ذكرناه، وهكذا سائر العبادات؛ فإن مجرد قصدها كاف من غير احتياج إلى زيادة على ذلك.
مثلا؛ يكفي في نية الوضوء مجرد دخول المكان المعتاد لذلك، والاشتغال بغسل الأعضاء المخصوصة على الصفة المشروعة، وكذلك في الصلاة؛ يكفي الدخول في المحل الذي تقام فيه، والتأهب لها، والشروع فيها على الصفة المشروعة، فإن القصد والإرادة لازمان لهذه الأفعال؛ لعدم صدور مثل ذلك من العقلاء؛ لمجرد اللعب والعبث.
(2 - فصل مبطلات الصوم)
( [يبطل الصوم بالأكل والشرب عمدا] :)
(يبطل بالأكل والشرب) عمدا، لا خلاف في ذلك، وأما مع النسيان؛(2/15)
فلا؛ لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي وهو صائم، فأكل وشرب؛ فليتم صومه؛ فإنما الله أطعمه وسقاه ".
وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح: " فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه ".
وفي لفظ آخر للدارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم: " من أفطر يوما من رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة "؛ وإسناده صحيح أيضا؛ قاله الحافظ ابن حجر (1) .
وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: " من أكل في شهر رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ".
قال ابن حجر: وإسناده وإن كان ضعيفا؛ لكنه صالح للمتابعة، فأقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا، فيصلح للاحتجاج به. انتهى.
وقد ذهب إلى العمل بهذا: الجمهور، وهو الحق، ومن قابل هذه السنة بالرأي الفاسد؛ فرأيه رد عليه، مضروب في وجهه.
( [يبطل الصوم بالجماع عمدا] :)
(و) هكذا (الجماع) ؛ لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامد،
__________
(1) • في " بلوغ المرام "، وسبقه إلى ذلك غيره.
وتردد النووي بين تصحيحه وتحسينه، والحق أنه حسن الإسناد، والأول صحيحه؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 26) . (ن)(2/16)
وأما إذا وقع مع النسيان؛ فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسيا، وتمسك بقوله في الرواية الأخرى " من أفطر يوما من رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة "، وبعضهم منع من الإلحاق.
أقول: إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف، وقد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله {قال: " وما أهلكك؟} "، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فأمره بالكفارة.
وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: " وصم يوما مكانه "؛ وهذه الزيادة مروية من أربع طرق، ويقوي بعضها بعضا.
ويدل على تحريم الوطء للصائم واجبا: مفهوم قوله - سبحانه - {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} .
( [يبطل الصوم بالقيء عمدا] :)
(والقيء عمداً) : لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ذرعه القيء؛ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا؛ فليقض "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم - وصححه -.
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفسد الصيام؛ وفيه نظر؛ فإن ابن مسعود، وعكرمة، وربيعة قالوا: إنه لا يفسد الصوم، سواء كان غالبا أو مستخرجا؛ ما لم يرجع منه شيء باختياره، واستدلوا بحديث:(2/17)
" ثلاث لا يفطّرن: القيء، والحجامة (1) ، والاحتلام "، أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف.
وعلى فرض صلاحيته للاستدلال؛ فلا يعارض حديث أبي هريرة؛ لأن هذا مطلق وذاك مقيد بالعمد.
أقول: حديث أبي هريرة المتقدم هو في عدة من كتب الحديث، وله طرق مختلفة ينتهض معها للاستدلال (2) ، وفيه الفرق بين المتعمد للقيء وغير المتعمد، ولا يعارض هذا حديث أبي سعيد المتقدم؛ لأنه عام مخصص بحديث الفرق بين المتعمد وغير المتعمد، فيكون معناه: أن القيء إذا وقع من غير اختيار الصائم بل ذرعه؛ كان غير مفطر، وهذا الجمع لا بد منه.
ويؤيده حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر (3) ؛ فإن بعض الحفاظ فسره بأنه استقاء، والمراد بالاستقاء؛ تعمد القيء؛ كما صرح به أهل العلم.
( [يحرم الوصال] :)
(ويحرم الوصال) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ كما في حديث أبي هريرة، وابن عمر، وعائشة؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
__________
(1) • هذا الذي استقر عليه الشرع، وإن كان قد صح: " أفطر الحاجم والمحجوم ": فإنه منسوخ؛ كما بينته في " التعليقات " (4 / 33 - 34) . (ن)
(2) • قلت: لا سيما وأن أحدها صحيح على شرط الشيخين؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 27) . (ن)
(3) • صححه غير واحد، لكن في سنده اختلاف أشار إليه الحافظ وغيره، كما ذكرنا في " التعليقات " (4 / 28) . (ن)
قلت: وجزم الشيخ - أخيرا - بصحته في " تمام المنة " (ص 111) ، و " الإرواء " (تحت حديث 111) .(2/18)
وفي الباب أحاديث.
( [كفارة من أفطر عمدا] :)
(وعلى من أفطر عمدا كفارة ككفارة الظهار) : لحديث المجامع في رمضان؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " هل تجد ما تعتق رقبة؟ "، قال: لا، قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال: " فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ "، قال: لا، ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: " تصدق بهذا "، قال: فهل على أفقر منا؟ ! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، وقال: " اذهب فأطعمه أهلك "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، وعائشة.
وقد قيل: إن الكفارة لا تجب على من أفطر عامدا بأي سبب، بل بالجماع فقط، ولكن الرجل إنما جامع امرأته؛ فليس في الجماع في نهار رمضان إلا ما في الأكل والشرب؛ لكون الجميع حلالا لم يحرم إلا لعارض الصوم.
وقد وقع في رواية من هذا الحديث: أن رجلا أفطر؛ ولم يذكر الجماع (1) .
__________
(1) إذا صح الحديث؛ فهو مجمل، وقد بينته الروايات الأخرى: أنه أفطر بالجماع.
ثم إن قياس الأكل والشرب على الجماع غير صحيح، والقياس في العبادات باطل أصلا، وليس للقائلين بوجوب الكفارة على المفطر بغير الجماع دليل صحيح، والأصل عدم الوجوب إلا بدليل.
فالحق أن الكفارة لا تجب إلا على من أفطر بالجماع فقط؛ كما ذهب إليه الشافعي وغيره من أهل العلم. (ش)(2/19)
أقول: إذا ورد ما يدل على وجوب مثل كفارة الظهار، وورد ما يدل على أنه يجزئ أقل منها،؛ كان ورود الأقل رخصة لمن لا يجد مثل كفارة الظهار، وهذا ظاهر لا لبس فيه.
( [تعجيل الفطر وتأخير السحور مندوب] :)
(ويُندب تعجيل الفطر وتأخير السحور) : لحديث سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وعن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال أمتي بخير؛ ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر " (1) ؛ أخرجه أحمد، وفي إسناده سليمان بن عثمان، قال أبو حاتم: مجهول.
وقد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث زيد بن ثابت: أنه كان بين تسحره صلى الله عليه وسلم ودخوله في الصلاة؛ قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية.
وفي الباب أحاديث كثيرة.
(3 - قضاء الصوم:)
( [من أفطر لعذر شرعي وجب عليه القضاء] :)
(يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي) كالمسافر والمريض، وقد
__________
(1) • يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا - معشر الأنبياء - أُمرنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سحورنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة "؛ رواه ابن حبان، والضياء بسند صحيح. (ن)(2/20)
صرح بذلك القرآن الكريم: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة؛ وقد تقدم ذكره؛ والنفساء مثلها.
( [الفطر للمسافر رخصة] :)
(والفطر للمسافر ونحوه رخصة؛ إلا أن يخشى التلف، أو الضعف عن القتال؛ فعزيمة) ، الأحاديث في ذلك كثيرة:
منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "؛ لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر؛ وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة، وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر، ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب؛ فإنه عند أبي داود، والحاكم - وصححه -: أنه قال: ربما صادفني هذا الشهر - يعني: رمضان -:
وأما حديث: أنه قيل له صلى الله عليه وسلم: إن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفاره، فقال: " أولئك العصاة ": فذاك لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أمرهم بالإفطار في ذلك اليوم بخصوصه، فسماهم عصاة؛ لمخالفة أمره، لا لمجرد الصوم في السفر.
وأما حديث: " ليس من البر الصيام في السفر " - وهو متفق عليه -: ففي(2/21)
رواية زادها النسائي في هذا الحديث: " عليكم برخص الله التي رخص لكم؛ فاقبلوا " (1) ؛ فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزيمة، وهو المطلوب.
وأما ما روي بلفظ: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ": فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف، ولا حجة في ذلك.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.
وأخرج مسلم وغيره (2) عن حمزة بن عمرو الأسلمي: أنه قال: يا رسول الله {أجد مني قوة على الصوم، فهل علي جناح؟ فقال: هي رخصة من الله - تعالى -، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه ".
وفي " الصحيحين " من حديث جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: " ما هذا؟} "، فقالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصوم في السفر ".
وأخرج مسلم (3) ، وأحمد، وأبو داود من حديث أبي سعيد، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم "، فكانت رخصة؛ فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: " إنكم
__________
(1) هذه الزيادة رواها أيضا الشافعي، وقال ابن القطان: " إسنادها حسن متصل ". (ش)
(2) • انظر " التعليقات الجياد " (4 / 16) . (ن)
(3) • انظر تخريجه منا في " التعليقات الجياد " (4 / 14) . (ن)(2/22)
مصبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم؛ فأفطروا "، فكانت عزيمة، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر.
وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر: الجمهور.
وروي عن بعض الظاهرية - وهو محكي عن أبي هريرة -: أن الفطر في السفر واجب، وأن الصوم لا يجزئ.
والمراد ب (نحو المسافر) : الحبلى والمرضع؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي - من حديث أنس بن مالك الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله - عز وجل - وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم ".
( [من مات وعليه صوم صام عنه وليه] :)
(ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "؛ وقد زاد البزار لفظ: " إن شاء ".
قال في " مجمع الزوائد ": " وإسناده حسن " (1) .
وبه قال أصحاب الحديث، وبعض الشافعية، وأبو ثور، والأوزاعي،
__________
(1) • قلت: وليس كذلك؛ لأنه تفرد بها ابن لهيعة - كما في " الفتح " (4 / 157) -، وقد صرح بضعفها في " التلخيص "، فقال (6 / 457) : " وهي ضعيفة؛ لأنها من طريق ابن لهيعة ".
وقوله: " صام "؛ خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصم، وهو للوجوب عند بعض أهل الظاهر - خلافا للجمهور -، وإلى ذلك ذهب الشارح - رحمه الله -. (ن)(2/23)
وأحمد بن حنبل.
قال البيهقي في " الخلافيات ": " هذه السنة ثابتة، لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها ".
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه.
وقال في " الحجة ": ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه " وقوله فيه أيضا: " فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا "؛ إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئا.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1) : " وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "، فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقالت: يصام عنه النذر والفرض.
وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يصام عنه نذر ولا فرض.
وفصلت طائفة، فقالت: يصام النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه، والإمام أحمد وأصحابه؛ وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة؛ فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يسلم أحد عن أحد؛ فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه، وهذا محض الفقه، وطرد هذا أنه لا يحج عنه، ولا يزكي عنه؛ إلا إذا كان معذورا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر
__________
(1) (3 / 554) . (ن)(2/24)
في رمضان لعذر، فأما المفطر من غير عذر أصلا (1) ؛ فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله - تعالى - التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانا دون الولي، فلا ينفع توبة أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض الله - تعالى - التي فرط فيها حتى مات، والله - تعالى - أعلم.
أقول: الظاهر - والله أعلم - أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم، سواء أوصى أو لم يوص، كما هو مدلول الحديث، ومن زعم خلاف ذلك؛ فليأت بحجة تدفعه (2) .
( [يكفّر الكبير العاجز عن الأداء والقضاء] :)
(والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين) : لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وأخرج هذا الحديث أحمد، وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم؛ وزاد:
__________
(1) • فإذا كان المفطر لعذر شرعي - كمرض -؛ أفلا يصوم عنه وليه؟ الظاهر من كلام ابن القيم أنه يصوم؛ وهو الأقرب إلى عموم الحديث، والله أعلم. (ن)
قلت: وانظر في تفصيل المسألة - هذه وغيرها - كلام شيخنا في " تمام المنة " (ص 427 - 428) ، و " أحكام الجنائز " (ص 213 - 216 - المعارف) .
(2) سياق الأحاديث الواردة في الصيام عن الميت؛ يدل على إباحة ذلك للولي برا بالميت، لا وجوبا على الولي.
ويقوي هذا الظاهر رواية البزار التي ذكرها الشارح، وفيها زيادة: " إن شاء "، ولم يرد في شيء من السنة ما يدل على الوجوب، فمن ادعاه طولب بالدليل؛ لأن الأصل براءة الذمة، وأن المكلف غير ملزم بأداء ما ثبت في ذمة غيره إلا بدليل صريح، والله أعلم. (ش)(2/25)
ثم أنزل الله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.
وأخرج البخاري عن ابن عباس، أنه قال: ليست هذه الآية منسوخة: هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
وأخرج أبو داود، عن ابن عباس، أنه قال: أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا؛ ويطعما كل يوم مسكينا.
وأخرج الدارقطني، والحاكم - وصححاه - عن ابن عباس، أنه قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليه.
وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن، مع ما فيه من الإشعار بالرفع؛ فكان ذلك دليلا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم.
أقول: لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شيء من المرفوع في شيء من كتب الحديث، وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك؛ لأن قوله - تعالى -: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ إن كانت منسوخة - كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم: أنها كانت في أول الإسلام، فكان من أراد أن يفطر يفتدي؛ حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله - تعالى - {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، ومثل ذلك روي عن معاذ ابن جبل؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، ومثله عن ابن عمر؛ أخرجه البخاري -:(2/26)
فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف.
وإن كانت محكمة - كما رواه أبو داود عن ابن عباس -: فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان مطيقا غير معذور، ووجوب الفدية عليه، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون.
وأما قول ابن عباس المتقدم: فكلام غير مناسب لمعنى الآية؛ لأنها في المطيقين، لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أُثبتت للحبلى والمرضع، فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما.
فعلى كل حال؛ ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه، وهو محل النزاع، وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله، ولا في سنة رسوله: فليس في غيرهما أيضا ما يدل على ذلك، فالحق عدم وجوب الإطعام، وقد ذهب إليه جماعة من السلف؛ منهم: مالك، وأبو ثور، وداود.
وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان - وعليه رمضان أو بعضه، ولم يقضه -؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء صح رفعه، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم، وليس بحجة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدا من عباده، والبراءة الأصلية مستصحبة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، وقد ذهب إلى هذا النخعي؛ وأبو حنيفة، وأصحابه.
وأما التفريق في قضاء رمضان: فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قضاء رمضان؟ فقال:(2/27)
" إن شاء فرقه، وإن شاء تابعه "؛ وفي إسناده سفيان بن بشر؛ وقد ضعفه بعضهم.
وقال ابن الجوزي: ما علمنا أحدا طعن فيه، ثم صحح الحديث.
ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير: قوله - تعالى -: {فعدة من أيام أخر} ؛ وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعا ومتفرقا؛ لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة، والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف.
وأما ما يروى من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان عليه صوم من رمضان فليسرده، ولا يقطعه " - كما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة -: ففي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، وقد ضعفه جماعة من الأئمة؛ وقال البيهقي: لا يصح، وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن.
وأما ابن القطان فقال: لم يأت من ضعفه بحجة (1) . انتهى.
ولكنه - مع ذلك - لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية، فضلا عما عضدها.
__________
(1) قال ابن القطان: " والحديث حسن ".
وقال ابن حجر: " قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه؛ أنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن "؛ نقله الشوكاني (جزء 4 ص 317 في " نيل الأوطار ") .
وعبد الرحمن هذا؛ قال أحمد: " ليس به بأس ".
قال الذهبي: " ومن مناكيره: عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: " من كان عليه صوم رمضان؛ فليسرده ولا يقطعه "؛ أخرجه الدارقطني " اه. (ش)(2/28)
(2 - باب صوم التطوع)
(الفصل الأول: ما يستحب صيامه)
(1 -[صيام ستة أيام من شوال] :)
(يستحب صيام ست من شوال) : لحديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال؛ فذاك صيام الدهر "، أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي أيوب.
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ": " والسر في مشروعيتها: أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة، تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتام فائدتها بهم، وإنما خص في بيان الفضيلة التشبه بصوم الدهر؛ لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها، وبهذه الستة يتم الحساب ". انتهى.
أقول: ظاهر الحديث أنه يكفي صيام ست من شوال، سواء كانت من أوله، أو من أوسطه، أو من آخره، ولا يشترط أن تكون متصلة به لا فاصل بينها وبين رمضان؛ إلا يوم الفطر، وإن كان ذلك هو الأولى؛ لأن الاتباع - وإن صدق على جميع الصور -؛ فصدقه على الصورة التي لم يفصل فيها بين رمضان وبين الست إلا يوم الفطر الذي لا يصح صومه؛ لا شك أنه أولى.(2/29)
وأما أنه لا يحصل الأجر إلا لمن فعل كذلك فلا؛ لأن من صام ستا من آخر شوال؛ فقد أتبع رمضان بصيام ست من شوال بلا شك، وذلك هو المطلوب.
(2 -[صيام تسع ذي الحجة] :)
(وتسع ذي الحجة) : لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث حفصة عند أحمد، والنسائي، قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر.
وأخرجه أبو داود بلفظ: كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل كل شهر، وأول اثنين من الشهر والخميس (1) .
وقد أخرج مسلم عن عائشة، أنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائما في العشر قط.
وفي رواية: لم يصم العشر قط.
وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم.
وآكد التسع يوم عرفة.
__________
(1) • هذا لفظ أبي داود، وأخرجه النسائي بلفظ: ثم الخميس، ثم الخميس؛ مرتين، وإسناده صحيح.
وقد وقع في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلاف، بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 38) ؛ ورجحت فيه ما علقته هنا من رواية النسائي. (ن)(2/30)
وقد ثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صوم يوم عرفة يكفّر سنتين؛ ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفّر سنة ماضية ".
(3 -[صيام شهر المحرم] :)
(و) أما صيام شهر (محرم) : فلحديث أبي هريرة عند مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ": أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الصيام بعد رمضان أفضل؟ فقال: " شهر الله المحرم ".
وآكده يوم عاشوراء؛ لما ورد فيه من الأحاديث الثابتة في " الصحيحين "، وغيرهما عن جماعة من الصحابة: أنه صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، ثم قال: " هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر؛ وقد تقدم أنه يكفر سنة ماضية.
وثبت في " مسلم " (1) ، وغيره: أنه لما أمر بصيامه؛ قالوا: يا رسول الله! إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى؟ فقال: " إذا كان العام المقبل - إن شاء الله -؛ صمنا التاسع "، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وعليه أهل العلم، واستحب أكثرهم أن يصوم التاسع والعاشر.
وفي " العالمكيرية ": ويكره صوم يوم عاشوراء مفردا. انتهى.
وفي الباب أحاديث أخرى أوردها الشيخ عبد الحق الحنفي الدهلوي في
__________
(1) • (3 / 150) . (ن)(2/31)
" ما ثبت من السنة في أيام السنة ".
أقول: أما شهر المحرم؛ فلا ريب أنه قد خصه دليل صحيح ناطق؛ بأنه أفضل الصيام المتطوع به، ولم يعارضه في هذه الأفضلية إلا ما قيل في صوم يوم عرفة، وقد ذكر الجمع الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ".
(4 -[صيام شهر شعبان] :)
(وشعبان) : لحديث أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان؛ يصل به رمضان "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي (1) -.
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة: ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان؛ كان يصومه إلا قليلا؛ بل كان يصومه كله.
وفي لفظ: وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان.
(5 -[صيام الاثنين والخميس] :)
(والاثنين والخميس) : لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس؛ أخرجه أحمد، والترمذي - وصححه -، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان - وصححه -.
وأخرج نحوه أبو داود من حديث أسامة بن زيد.
__________
(1) • (2 / 51) ، قلت: وسنده صحيح على شرطهما. (ن)(2/32)
وأخرجه أيضا النسائي، وفي إسناده مجهول؛ مع أنه قد صححه ابن خزيمة.
وأخرج أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فأحب أن يُعرض عملي؛ وأنا صائم ".
وفي " صحيح مسلم ": أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: " ذاك يوم ولدت فيه، وأنُزل علي فيه ".
(6 -[صيام أيام البيض] :)
(وأيام البيض) : لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله ".
وأخرج أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان - وصححه - من حديث أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صمت من الشهر ثلاثة؛ فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة ".
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ": " وقد اختلفت الرواية في اختيار تلك الأيام؛ فورد: " يا أبا ذر! ... " إلخ.
وورد: كان يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء، والأربعاء، والخميس.(2/33)
وورد: من غرة كل شهر ثلاثة أيام.
وورد: أنه أمر أم سلمة بثلاثة أولها الاثنين والخميس.
ولكل وجه ". انتهى.
(7 -[صوم يوم وإفطار يوم أفضل التطوع] :)
(وأفضل التطوع؛ صوم يوم وإفطار يوم) : لحديث عبد الله بن عمرو في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صم في كل شهر ثلاثة أيام "، قلت: فإني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني، حتى قال: " صم يوما، وأفطر يوما؛ فإنه أفضل الصيام، وهو صوم أخي داود - عليه السلام - ".
قال في " الحجة البالغة ": " واختلفت سنن الأنبياء - عليهم السلام - في الصوم، فكان نوح - عليه السلام - يصوم الدهر، وكان داود - عليه السلام - يصوم يوما ويفطر يوما، وكان عيسى - عليه السلام - يصوم يوما ويفطر يومين أو أياما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، ولم يكن يستكمل صيام شهر؛ إلا رمضان، وذلك أن الصيام ترياق، والترياق لا يستعمل إلا بقدر المرض، وكان قوم نوح - عليه السلام - شديدي الأمزجة، حتى روي عنهم ما روي، وكان داود - عليه السلام - ذا قوة ورزانة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " وكان لا يفر إذا لاقى "، وكان عيسى - عليه السلام - ضعيفا في بدنه، فارغا لا أهل له ولا مال، فاختار كل واحد ما يناسب الحال، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم عارفا بفوائد الصوم والإفطار، مطلعا على مزاجه وما يناسبه، فاختار بحسب مصلحة الوقت ما شاء ".(2/34)
( [الفصل الثاني: ما يكره صومه] )
(1 -[صوم الدهر] :)
(ويُكره صوم الدهر) : لحديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صام من صام الأبد "؛ وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
وأخرج أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة، والبيهقي، وابن أبي شيبة من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من صام الدهر؛ ضُيقت عليه جهنم هكذا "؛ وقبض كفه.
ولفظ ابن حبان: " ضُيقت عليه جهنم هكذا "؛ وعقد تسعين (1) ؛ ورجاله رجال الصحيح.
وهذه الأحاديث من أعظم الأدلة الدالة على أن صوم الدهر مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نزّل صوم صائم الدهر منزلة العدم في الحديث الأول؛ وفي رواية: " لا صام من صام الدهر ولا أفطر "؛ والحديث صحيح.
ويؤيده ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم لابن عمرو لما أراد أن يصوم الدهر، وقال له: " لا تفعل "، وقال لما بلغه عن المتكلفين في العبادة، أنهم سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم؟ فاستقلوها، فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أقوم ولا أنام، وقال الثالث: لا أنكح النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما أنا: فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني ".
__________
(1) • انظر تخريجه في " التعليقات " (4 / 36 - 37) . (ن)(2/35)
وأما تقريره صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو، قال له: يا رسول الله! إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: " إن شئت " - كما أخرجه الشيخان وغيرهما -: فليس فيه دليل على صوم الدهر؛ لأن السرد يصدق بصوم أيام متتابعة، وإن كانت بعض سنة، فضلا عن أكثر منها.
ومن جملة الوعيد لمن صام الدهر: حديث أبي موسى المتقدم، وهذا وعيد شديد، ومن زعم أنه ترغيب في صوم الدهر؛ فلم يصب (1) .
(2 -[إفراد يوم الجمعة] :)
(وإفراد يوم الجمعة) : لحديث جابر في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم الجمعة.
وفي رواية: أن يفرد بصوم.
وفي الصحيحين " من حديث أبي هريرة: " لا تصوموا يوم الجمعة؛ إلا وقبله يوم أو بعده يوم ".
وفي لفظ لمسلم: " ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ".
وفي الباب أحاديث.
قال الشافعي: يكره إفراد الجمعة.
وفي " العالمكيرية ": يستحب صوم يوم الجمعة بانفراده.
__________
(1) • وقد بينت وجه ذلك في " التعليقات " (4 / 37) . (ن)(2/36)
أقول: الأحاديث واردة بالنهي عنه، وحقيقة النهي التحريم؛ إذا لم يصم يوما قبله ولا يوما بعده.
وما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنه كان يصومه؛ لا يصلح لجعله قرينة صارفة؛ لوجهين:
الأول: أنه لم ينقل أنه كان يصومه منفردا؛ بل الظاهر أنه كان يصومه على غير الصفة التي نهانا عنها.
الثاني: أن فعله لا يعارض قوله الخاص بالأمة؛ كما تقرر في الأصول، وعلى فرض عدم الاختصاص لقوله بالأمة بل شموله له ولهم: فهو مخصص له من العموم، وذلك لا يصلح قرينة صارفة للنهي عن معناه الحقيقي.
(3 -[إفراد يوم السبت] :)
(ويوم السبت) : لحديث الصماء بنت بسر عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، والطبراني، والبيهقي، وصححه ابن السكن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصوموا يوم السبت؛ إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجر؛ فليمضغه ".
( [الفصل الثالث: ما يحرم صومه] )
(1 -[صوم العيدين] :)
(ويحرم صوم العيدين) : لحديث أبي سعيد في " الصحيحين "، وغيرهما،(2/37)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم النحر.
وقد أجمع المسلمون على ذلك.
(2 -[صوم أيام التشريق] :)
(وأيام التشريق) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصوم فيها، كما ثبت ذلك من طريق جماعة من الصحابة.
وقد سرد أحاديثه الماتن في " شرح المنتقى ".
(3 -[استقبال رمضان بيوم أو يومين] :)
(واستقبال رمضان بيوم أو يومين) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما؛ فليصمه ".
ويؤيده حديث أبي هريرة أيضا عند أصحاب " السنن " - وصححه ابن حبان، وغيره (1) - مرفوعا بلفظ: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ".
وفي الباب أحاديث.
والخلاف طويل مبسوط في المطولات.
أقول: وما زال الخلاف في هذه المسألة من عصر الصحابة إلى الآن،
__________
(1) • وهو الحق، وإن كان منكرا عند أحمد، وابن معين؛ فإن سنده صحيح على شرط مسلم، كما ذكرته في " التعليقات " (4 / 35) . (ن)(2/38)
وقد صارت مركزا من المراكز التي يتغالى الناس في أمرها إثباتا ونفيا، ولم يحتج أحد منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه.
وأما ما احتجوا به من العمومات الدالة على مشروعية مطلق الصوم واستحبابه: فنحن نقول بموجبها، ونقول: هي مخصصة بأحاديث أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم لرؤية الهلال، والإفطار لرؤيته، أو إكمال العدة كما صح في جميع دواوين الإسلام، وبأحاديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وهو في " الصحيح "؛ بل ورد النهي عن صوم النصف الأخير من شعبان.
وقال عمار: من صام يوم الشك؛ فقد عصى أبا القاسم؛ وهو صحيح.
بل قال ابن عبد البر: لا يختلفون في رفعه.
ولعل مراده أن له حكم الرفع، لا أن القائل له هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إذا لم يصلح لتخصيص العمومات لم يصلح مخصص قط.
ومن نظر إلى ما يقع من عوام المسلمين - بل ومن بعض خواصهم في هذه الأعصار من التجاري على الصوم والإفطار بمجرد الشكوك والخيالات، التي هي عن الشريعة بمعزل -: قضى العجب، وبكى على الدين، وانتظر القيامة.(2/39)
(3 - باب الاعتكاف)
( [مشروعية الاعتكاف] :)
(يشرع) : لا خلاف في مشروعية الاعتكاف، وقد كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة.
( [يصح الاعتكاف في كل وقت في المساجد] :)
(ويصح في كل وقت في المساجد) : لأنه ورد الترغيب فيه، ولم يأت ما يدل على أنه يختص بوقت معين.
وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: " فأوف بنذرك ".
وأما كونه لا يكون إلا في المساجد؛ فلأن ذلك هو معنى الاعتكاف شرعا؛ إذ لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفا شرعا.
وقد ورد ما يدل على ذلك؛ كحديث: " لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة "؛ أخرجه ابن أبي شيبة (1) ، وسعيد بن منصور من حديث حذيفة.
__________
(1) • عزوه لابن أبي شيبة خطأ، كما يتبين من مراجعة " نيل الأوطار " (4 / 269 - المطبعة العثمانية) .
ثم إن في الاستدلال به على ما أورده المؤلف نظرا؛ لأن لفظه كما في المصدر المذكور: " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة - أو قال: في مسجد جماعة - "؛ فهذا الشك مما يضعف الاحتجاج، كما قال الشوكاني فيه. (ن)(2/40)
قال في " المسوى ": " الاعتكاف جائز في كل مسجد، فإن لم يكن المسجد جامعا: فالخروج للجمعة واجب عليه، فإذا خرج يبطل اعتكافه عند الشافعي، فيحتاج إلى نية جديدة لما يستقبله إن كان تطوعا، ولا يبطل عند أبي حنيفة كما لو خرج لقضاء الحاجة ".
أقول: لا ريب أن مسمى الاعتكاف الشرعي لا يحصل إلا إذا كان في المسجد، ولهذا لم تختلف الأمة في اعتبار ذلك؛ إلا ما يروى عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي؛ فإنه أجازه في كل مكان.
وإنما اختلفوا هل يجزىء الاعتكاف في كل مسجد؟ أم في الثلاثة المساجد فقط؟ أم في المسجد الحرام فقط؟
والظاهر أنه يجزىء في كل مسجد؛ قال - تعالى -: {وأنتم عاكفون في المساجد} ؛ ولا حجة في قول عائشة، ولا في قول حذيفة (1) في هذا الباب.
( [أفضل الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان] :)
(وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه) : أفضل وآكد؛ لكونه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها؛ ولم يرد ما يدل على توقيته بيوم أو أكثر، ولا على اشتراط الصيام؛ إلا من قول عائشة.
وحديث نذر عمر - المتقدم - يرده.
__________
(1) قول عائشة سيأتي في الكلام على خروج المعتكف؛ وهو حديث صحيح مرفوع حكما.
وقول حذيفة سبق قريبا، وهو حديث مرفوع أيضا. (ش)(2/41)
وكذلك حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على المعتكف صيام؛ إلا أن يجعله على نفسه " (1) ، أخرجه الدارقطني، والحاكم، وقال: " صحيح الإسناد "، ورجح الدارقطني، والبيهقي وقفه.
وبالجملة: فلا حجة إلا في الثابت من قوله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه ما يدل على أنه لا اعتكاف إلا بصوم، بل ثبت عنه ما يخالفه في نذر عمر.
وقد روى أبو داود عن عائشة مرفوعا من حديث: " ولا اعتكاف إلا بصوم ".
ورواه غيره من قولها، ورجح ذلك الحفاظ.
أقول: اعلم أن كون الشيء شرطا لشيء آخر، أو ركنا له أو فرضا من فروضه: لا يثبت إلا بدليل؛ لأنه حكم شرعي أو وضعي، ولم يأت ما يدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم، بل ثبت الترغيب منه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف؛ ولم ينقل إلينا أنه اعتبر ذلك، ولو كان معتبرا؛ لبينه للأمة.
وأما اعتكافه صلى الله عليه وسلم في صومه: فلا يستلزم أن يكون الاعتكاف كذلك؛ لأنه أمر اتفاقي، ولو كان ذلك معتبرا؛ لكان اعتكافه في مسجده معتبرا؛ فلا يصح من أحد الاعتكاف في غيره، وأنه باطل.
وأما قول عائشة المتقدم: فظاهر هذا السياق أن لفظ: " ولا اعتكاف إلا بصوم "؛ ليس من بيان السنة المذكورة في أول كلامها، بل ابتداء كلام منها، فقد أخرجه النسائي؛ ولم يذكر فيه قولها: من السنة.
__________
(1) هو حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع " (4896) .(2/42)
وكذلك أخرجه أيضا من حديث مالك؛ وليس فيه ذلك.
وقال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: من السنة.
وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: لا يخرج، وما عداه ممن دونها.
وكذلك رجح ذلك البيهقي (1) ؛ كما ذكره ابن كثير في " إرشاده ".
ومما يؤيد هذا: حديث: " من اعتكف فواق ناقة "، وكذلك حديث: " ليس على المعتكف صيام "؛ وفيهما مقال أوضحه الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ".
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه اعتكف عشرا من شوال، ولم ينقل عنه أنه صامها، بل روي (2) عنه أنه اعتكف العشر الأول من شوال، ولا يخفى أن يوم الفطر من جملتها، وليس بيوم صوم.
فالحق عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف لما تقدم، ولما ثبت: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال: " أوف بنذرك "؛ وهو متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: " يوما " مكان: " ليلة ".
وما في " الصحيحين " أرجح مما في أحدهما؛ إذا لم يمكن الجمع.
__________
(1) • وتبعه الحافظ في " بلوغ المرام "، كما ذكرته في " التعليقات " (4 / 43) . (ن)
(2) • قوله: " روي " تساهل من المؤلف - رحمه الله -؛ لأن هذه الرواية في " صحيح مسلم " (3 / 175) ، وفي " البيهقي " (4 / 315) و " أبي داود " (1 / 386) . (ن)(2/43)
وقد جمع ابن حبان، وغيره بأنه نذر اعتكاف ليلة ويوم.
وفي رواية أبي داود، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " اعتكف وصم "؛ ولكن في إسناده عبد الله بن بديل، وهو ضعيف، وقد ذكر ابن عدي، والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار.
وقال الحافظ في " الفتح ": إن رواية من روى: " يوما " شاذة.
وإذا عرفت ما تقدم من عدم انتهاض ما احتجوا به على شرطية الصوم؛ فالحق الحقيق بالقبول: أن الاعتكاف يكون ساعة فما فوقها.
بل حديث: " من اعتكف فواق ناقة "؛ يدل على أنه يكون أقله لحظة مختطفة، وهذا الحديث - وإن لم يكن صالحا للاحتجاج به -: فالأصل عدم التقدير بوقت معين، والدليل على مدعي ذلك.
ثم كون اليوم الكامل شرطا للصوم لا يستلزم أن يكون شرطا للاعتكاف؛ لأنه يمكن الاعتكاف بعض اليوم مع الصوم لكل اليوم، فاليوم شرط الصوم لا شرط الاعتكاف؛ على تسليم أن الصوم شرط.
( [استحباب الاجتهاد في العمل في العشر الأواخر من رمضان] :)
(ويستحب الاجتهاد في العمل فيها) : لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله، وأيقظ أهله، وشد المئزر؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.(2/44)
( [مشروعية قيام ليالي القدر] :)
(وقيام ليالي القدر) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ".
وفي تعيين ليلة القدر أحاديث مختلفة، وأقوال جاوزت الأربعين؛ ذكرتها في " مسك الختام شرح بلوغ المرام " بالفارسية؛ وقد استوفاها الماتن في " نيل الأوطار ".
وفي " حاشية الشفاء " للماتن:
" أقول: في تعيينها مذاهب يطول تعدادها، وقد بسطتها في " شرح المنتقى "، فكانت سبعة وأربعين قولا، وذكرت أدلتها، وبينت راجحها من مرجوحها، ورجحت أنها في أوتار العشر الأواخر؛ لما ذكرته هنالك ". انتهى.
قال في " الحجة البالغة ": إن ليلة القدر ليلتان:
إحداهما: ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، وفيها نزل القرآن جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك نجما نجما، وهي ليلة في السنة، ولا يجب أن تكون في رمضان، نعم؛ رمضان مظنة غالبة لها، واتفق أنها كانت في رمضان عند نزول القرآن.
والثانية: يكون فيها نوع من انتشار الروحانية، ومجيء الملائكة إلى الأرض، فيتفق المسلمون فيها على الطاعات، فتتعاكس أنوارهم فيما بينهم،(2/45)
ويتقرب منهم الملائكة، ويتباعد منهم الشياطين، ويستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم، وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر، تتقدم وتتأخر فيها، ولا تخرج منها، فمن قصد الأولى قال: هي في كل سنة، ومن قصد الثانية قال: هي في العشر الأواخر من رمضان (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها؛ فليتحرها في السبع الأواخر "، وقال: " أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين "، فكان ذلك في ليلة إحدى وعشرين.
واختلاف الصحابة فيها مبني على اختلافهم في وجدانها.
ومن أدعية من وجدها: " اللهم {إنك عفو تحب العفو؛ فاعف عني ".
وفي " المسوى ": " اختلفوا في [أي] ليلة هي أرجى؟ والأقوى أنها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدم وتتأخر.
وقول أبي سعيد: إنها ليلة إحدى وعشرين.
وقال المزني، وابن خزيمة: إنها تنتقل كل سنة ليلة؛ جمعا بين الأخبار.
قال في " الروضة ": وهو قوي.
ومذهب الشافعي أنها لا تلزم ليلة بعينها.
__________
(1) هذا خيال غريب من صاحب " الحجة البالغة "، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وما أظن أحدا قاله قبله، والعبرة في هذه الأمور بالنقل؛ لا بالتخيل والأوهام} (ش)(2/46)
وفي " المنهاج ": وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والثالث والعشرين.
وعن أبي حنيفة: أنها في رمضان، لا يدرى أية ليلة هي؟ وقد تتقدم وتتأخر.
وعندهما كذلك؛ إلا أنها متعينة لا تتقدم ولا تتأخر ".
( [لا يخرج المعتكف إلا لحاجة] :)
(ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة) : لما ثبت من حديث عائشة في " الصحيحين "، عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان؛ إذا كان معتكفا.
وأخرج أبو داود، عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه؛ وفي إسناده ليث بن أبي سليم.
قال الحافظ: والصحيح عن عائشة من فعلها؛ أخرجه مسلم وغيره، وقال: صح ذلك عن علي.
وأخرج أبو داود عن عائشة أيضا، قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة؛ إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع.
وأخرجه أيضا النسائي؛ وليس فيه: قالت: السنة.(2/47)
قال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: قالت: السنة.
وجزم الدارقطني بأن القدر من حديث عائشة قولها: لا يخرج، وما عداه ممن دونها (1) .
قال في " المسوى ": اتفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول، ولا يفسد به اعتكافه، ولا يخرج للأكل والشرب، ويجوز غسل الرأس، وترجيل الشعر، وما في معناه.
وأكثرهم على أنه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض، وصلاة الجنازة؛ إلا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض مارا.
وإن شرط في اعتكافه الخروج لشيء من هذا؛ جاز له أن يخرج عند الشافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة؛ كذا في " شرح السنة ".
__________
(1) سبق أن نقل كلام أبي داود والدارقطني؛ فلا داعي لتكراره.
وانفراد عبد الرحمن بن إسحاق بزيادة قول عائشة: السنة؛ لا يضر؛ فإنه ثقة تقبل زيادته، ومثل هذا؛ حكمه أن يكون مرفوعا عند أهل العلم بالحديث. (ش)(2/48)
(الكتاب السابع: كتاب الحج)(2/49)
(7 - كتاب الحج)
(1 - باب: أحكام الحج)
(الفصل الأول: وجوب الحج)
( [تعريف الحج] :)
أقول: الحج في اللغة: القصد، فمعنى قوله - تعالى -: {ولله على الناس حج البيت} : قصد البيت، والقصد لا إجمال فيه، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني مناسككم "؛ فهو أمر بالاقتداء به في أفعاله وأقواله، والأمر يفيد الوجوب، فتكون المناسك التي بينها - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ولا يخرج عن الوجوب منها؛ إلا ما خصه دليل.
( [لا دليل على اختلال الحج باختلال بعض المناسك إلا الوقوف بعرفة] :)
وأما كونه لا يصح الحج إلا بفعل جميع المناسك، أو يختل باختلال بعضها: فلا دليل على ذلك؛ لأن الذي يؤثر عدمه في العدم، هو الشرط لا الواجب، وليس في أدلة مناسك الحج ما يفيد تأثير عدمه في عدم الحج؛ إلا الوقوف بعرفة، ولا ريب أنه نسك من مناسك الحج يختص بمزية لا توجد في غيره من المناسك؛ لحديث: " الحج عرفة، من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ".(2/51)
أخرجه أحمد، وأصحاب " السنن "، والحاكم، والبيهقي، وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن نعيم الدؤلي.
وأخرج من تقدم ذكره من حديث عروة بن مضرس: " من صلى معنا هذه الصلاة - يعني: صلاة يوم النحر -، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه ".
وصحح هذا الحديث جماعة من الحفاظ؛ كالحاكم، والدارقطني، وابن العربي (1) .
وفي رواية من حديث عبد الرحمن المذكور: " من جاء عرفة قبل أن يطلع الفجر؛ فقد أدرك الحج ".
وفي رواية لأبي نعيم: " ومن لم يدرك جمعا؛ فلا حج له ".
فهذه الروايات تدل على أن الوقوف بعرفة ركن من الأركان التي لا يتم الحج بدونها.
وههنا بحث؛ وهو أن الاستدلال ببعض أفعاله على الوجوب، وبعضها على الندب تحكم، وكذلك القول بأن بعضها نسك، وبعضها غير نسك، والظاهر أن جميع أفعاله الصادرة عنه في حجته مناسك؛ لأنه لم يبين لنا أن النسك هو هذا الفعل دون هذا، ولكن لا بد أن تكون الأفعال مقصودة لذاتها؛ كالإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي، ورمي الجمار، لا ما كان غير مقصود لذاته، كالمبيت بمنى ليالي الرمي، أو كان بسبب غير الحج؛ كجمع الصلاتين في مزدلفة، ونحو ذلك.
__________
(1) • انظر تخريجه في " التعليقات " (4 / 144) . (ن)(2/52)
وقد زعم الجلال في " ضوء النهار " أن من زعم أن حجه صلى الله عليه وسلم مجمل بين بفعله فقد أسرف في الجهل، قال: " لأن اسم الحج ومسماه ظاهران "، ثم قال: " إن تلك التي فعلها صلى الله عليه وسلم إنما هي أفعال، وهي لا تدل على الوجوب، حتى يعلم أنه فعلها على وجه الوجوب، وإلا فالظاهر القربة فقط، وهي لا تستلزم الوجوب ولا الشرطية ". انتهى.
ولعله لم يخطر بباله - حال تحرير هذا البحث - حديث: " خذوا عني مناسككم "، وهو حديث صحيح في " مسلم " وغيره، ولا ريب أنه يفيد وجوب مناسك الحج كما قدمنا.
( [دليل وجوب الحج على المكلف المستطيع فورا] :)
(يجب على كل مكلف مستطيع) : لنص الكتاب العزيز: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ؛ وعليه إجماع الأمة؛ قالوا: الحج فريضة محكمة يكفر جاحدها، وقالوا: الحر المكلف القادر، إذا وجد الزاد والراحلة وأمن الطريق؛ يلزمه الحج؛ كذا في " المسوى ".
أقول: حديث تفسيره صلى الله عليه وسلم للسبيل بالزاد والراحلة فيه مقال، ولكنه قد روي من طريق جماعة من الصحابة، وفي جميع الطرق علل، لا تمنع تقوية بعضها لبعض، ويشد من عضدها حديث: " من وجد زادا وراحلة "؛ وهو مروي من طريق ثلاثة من الصحابة، وفي جميعها مقال.
فالحاصل: أن مجموع ما ورد في تفسير السبيل بالزاد والراحلة، وترتيب الوجوب عليها؛ ينتهض للاحتجاج به على ذلك، فلا وجوب على من لم يجد الراحلة، كما أنه لا وجوب على من لم يجد الزاد، ولا وجه لقصر(2/53)
السبيل على الزاد والراحلة، بل السلامة من المرض والأمن هما من السبيل، وكذلك المحرم للمرأة؛ لدلالة الدليل على ذلك.
ثم التحقيق: أن الشروط تنقسم إلى قسمين: شرط يتعلق بالفاعل، وشرط يتعلق بالفعل:
فالأول: يتوقف عليه تعلق الخطاب به.
والثاني: يتوقف عليه كونه مطلوبا من فاعله.
والأول - أيضا - هو الذي يقال له: شرط الإيجاب، وشرط الطلب.
والثاني: هو الذي يقال له: شرط الواجب، وشرط المطلوب.
وإيضاح هذا: أن التكليف والإسلام والحرية؛ شروط متعلقة بالفاعل، والزاد، والراحلة، والأمن، والمحرم؛ شروط متعلقة بالفعل، فجعل بعض شروط الفعل للوجوب، وبعضها للأداء؛ غير موافق لعقل ولا نقل، وأنت خبير بأن المرأة منهية عن السفر بدون محرم، كما ثبت النهي عن ذلك في " الصحيح "، ولم يثبت النهي عن الحج لمن لم يجد الراحلة مثلا، بل كان الإيجاب متعلقا بوجودها، وهذا يقتضي أن تحصيل المحرم أهم من تحصيل الراحلة؛ لأن السفر بدون محرم حرام، كما يقتضيه النهي بحقيقته، وكما يقتضيه لفظ: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام - أو يوما، أو ليلة، أو بريدا - بدون محرم "؛ على اختلاف الروايات.
ولم يرد ما يدل على تحريم السفر بدون الراحلة، فإيجاب الوصية بالحج على من ماتت ولها زاد وراحلة وليس لها محرم، دون من ماتت ولها زاد(2/54)
ومحرم وليس لها راحلة: ليس بمناسب؛ فإن فاقدة المحرم لم تستطع إلى الحج سبيلا؛ كفاقدة الراحلة وزيادة.
ومعنى كون الشيء شرطا لتأدية شيء آخر: أن التأدية بدونه لا تصح، وهذا يعود إلى شرط الصحة، وهم لا يريدون هذا، بل معنى شرط الأداء عندهم: أن يكون المكلف قد كملت له شروط الصحة والوجوب، ولم يبق إلا التأدية؛ وهي مشروطة بشرط، وهذا اصطلاح قليل الثمرة، غاية ما فيه؛ أن من مات وقد كملت له شروط الصحة والوجوب، ولم يبق إلا شرط الأداء؛ وجب عليه الإيصاء بالحج، وقد تقدم ما هو الحق في ذلك.
(فوراً) : لحديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم ما يدري ما يعرض له "؛ أخرجه أحمد.
وأخرج أحمد - أيضا -، وابن ماجه من حديث ابن عباس، عن الفضل - أو أحدهما عن الآخر - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة "؛ وفي إسناده إسماعيل بن خليفة العبسي أبو إسرائيل، وهو صدوق ضعيف الحفظ.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وسعيد بن منصور، والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا: " من لم يحبسه مرض، أو حاجة ظاهرة، أو مشقة ظاهرة، أو سلطان جائر، فلم يحج؛ فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا "؛ وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وشريك، وفيهما ضعف.
وأخرجه الترمذي من حديث علي مرفوعا: " من ملك زادا وراحلة تبلغه(2/55)
إلى بيت الله ولم يحج؛ فلا عليه أن يموت نصرانيا، أو يهوديا؛ وذلك لأن الله - تعالى - قال في كتابه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ".
قال الترمذي: غريب، وفي إسناده مقال والحديث يضعف، وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول.
وقال العقيلي: لا يتابع عليه.
وقد روي من طريق ثالثة من حديث أبي هريرة عند ابن عدي بنحوه.
وروى سعيد بن منصور في " سننه " عن الحسن، قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين؛ وأخرجه أيضا البيهقي.
وقد ذهب إلى القول بالفور: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وبعض أصحاب الشافعي.
وقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد: إنه على التراخي.
قال في " حجة الله البالغة " - تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من ملك زادا وراحلة ... " الخ -:
" أقول: ترك ركن من أركان الإسلام يشبه بالخروج عن الملة، وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني، وتارك الصلاة بالمشرك؛ لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون، ومشركو العرب يحجون ولا يصلون.(2/56)
والمصلحة المرعية في الحج إعلاء كلمة الله، وموافقة سنة إبراهيم - عليه السلام -، وتذكر نعمة الله عليه ". انتهى.
( [دليل وجوب العمرة] :)
وفي بعض نسخ المتن:
(وكذلك العمرة؛ وما زاد فهو نافلة) ، وفي حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ".
قلت: الحج المبرور: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم.
( [من منكرات الحج تضييع الصلاة] :)
وفي " تنبيه الغافلين " للشيخ محيي الدين بن إبراهيم النحاس؛ في ذكر منكرات الحجاج:
" وأعظمها فتنة، وأجلها مصيبة، وأكثرها وجودا وبلية: هو تضييع أكثرهم الصلاة في الحج، وكثير منهم لا يتركونها؛ بل يضيعون أوقاتها، ويجمعونها على غير الوجه الشرعي، وذلك حرام بالإجماع، ومن تحقق أن ذلك نصيبه في حجه؛ حرم عليه الحج، رجلا كان أو امرأة.
قال ابن الحاج: وقد قال علماؤنا في المكلف: إذا علم أنه تفوته الصلاة الواحدة إذا خرج إلى الحج؛ فقد سقط الحج عنه.(2/57)
وقد سئل (1) مالك في الذي يركب البحر ولا يجد موضعا يسجد فيه إلا على ظهر أخيه (2) : أيجوز له الحج؟ فقال - رحمه الله -: أيركب حيث لا يصلي؟ {ويل لمن ترك الصلاة} ويل له {
وأما النساء؛ فلا يمكن إحداهن الصلاة في وقتها المشروع إلا في النادر الذي لا حكم له، وسبب هذا المنكر العظيم أمراء الحاج وتهاونهم في الإنكار، وخوف المصلي من فوات الرفقة، ومشقة اللحوق بهم، فالواجب على الأمراء أن يقفوا بالحج في أوقات الصلاة إذا دخلت عليهم وهم مسافرون، ويتفقدوا من لم يصل من الجمّالين وغيرهم، ويشددوا عليهم في أمر الصلاة، ويمنعوا من يتقدم منهم قبل الصلاة، فإن لم يفعلوا؛ كان إثم من ترك الصلاة كذلك في أعناقهم، ومن تركها تهاونا وكسلا ولم يعلموا به؛ فإثمه في عنق نفسه، وحكمه مذكور في كتب الفقه ". انتهى حاصله (3) .
(الفصل الثاني: وجوب تعيين نوع الحج بالنية)
( [تعيين نوع الحج بالنية واجب] :)
__________
(1) • بحثت عنه في مظانه من " الموطإ " و " المدونة "؛ فلم أقف عليه. (ن)
(2) • فيه إشارة إلى أن صلاة من سجد على ظهر أخيه - ولو لزحام - غير صحيحة عند مالك، وهو مذهبه؛ ففي " المدونة " (1 / 147) : " وقال مالك: إن زحمه الناس فلم يستطع السجود إلا على ظهر أخيه؛ أعاد الصلاة، قيل له: أفي الوقت وبعد الوقت؟ قال: يعيد ولو بعد الوقت ". (ن)
(3) في هذا الكلام شيء من الخلط؛ فإن تارك الصلاة آثم بلا خلاف، ولكن. . هل هذا يسقط عنه الحج؟ وهل تمسكهم بكلمة مالك التي ذكرها الشارح له وجه؟
إن مالكا ينعى على [من] ركب حيث لا يصلي، وهو تعليم منه - رحمه الله -، وإرشاد إلى أن الواجب على المسلم أن يتحرى في ركوبه وحله وترحاله إمكان تأدية الصلاة، ولم يرد - قط - بهذا أن فريضة الحج تسقط حينئذ؛ أعاذه الله من سوء الفهم} (ش)(2/58)
(ويجب تعيين نوع الحج بالنية) : لأن المناسك - على ما استفاض من الصحابة، والتابعين، وسائر المسلمين - أربعة: حج مفرد، وعمرة مفردة، وتمتع، وقران:
(من تمتع) : وهو أن يحرم الآفاقي بالعمرة في أشهر الحج، فيدخل مكة ويتم عمرته ويخرج من إحرامه، ثم يبقى حلالا حتى يحج، وعليه أن يذبح ما استيسر من الهدي.
(أو قران) : وهو أن يحرم الآفاقي بالحج والعمرة معا، ثم يدخل مكة ويبقى على إحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج، وعليه أن يطوف طوافا واحدا، ويسعى سعيا واحدا - في قول -، وطوافين وسعيين، ثم يذبح ما استيسر من الهدي، فإذا أراد أن ينفر من مكة؛ طاف للوداع.
(أو إفراد) ؛ أي: حج مفرد أو عمرة مفردة، فالحج لحاضر مكة أن يحرم منها، ويجتنب في الإحرام الجماع ودواعيه، والحلق، وتقليم الأظفار، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، والتطيب، والصيد، ويجتنب النكاح على قول، ثم يخرج إلى عرفات، ويكون فيها عشية عرفة، ثم يرجع منها بعد غروب الشمس، ويبيت بمزدلفة، ويدفع منها قبل شروق الشمس، فيأتي منى، ويرمي العقبة الكبرى، ويهدي إن كان معه، ويحلق أو يقصر، ثم يطوف للإفاضة في أيام منى، ويسعى بين الصفا والمروة.
وللآفاقي أن يحرم من ميقات.
فإن دخل مكة قبل الوقوف؛ طاف للقدوم ورمل فيه، وسعى بين الصفا والمروة، ثم بقي على إحرامه حتى يقوم بعرفة، ويرمي ويحلق، ويطوف، ولا رمل ولا سعي حينئذ.(2/59)
والعمرة: أن يحرم من الحل، فإن كان آفاقيا فمن الميقات، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر.
وبالجملة: فتعيين نوع الحج بالنية؛ لما تقدم في الوضوء.
وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل "، قالت: وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وأهلّ به ناس معه، وأهلّ معه ناس بالعمرة والحج، وأهلّ ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة.
وفي " البخاري " من حديث جابر: أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر، قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة -.
وقد وقع الخلاف في المحل الذي أهل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسب اختلاف الرواة؛ فمنهم من روى أنه أهل من المسجد، ومنهم من روى أنه أهلّ حين استقلت به راحلته، ومنهم من روى أنه أهلّ لما علا شرف البيداء، وقد جمع بين ذلك ابن عباس، فقال: إنه أهلّ في جميع هذه المواضع، فنقل كل راو ما سمع.
قال في " الحجة البالغة ": " وبين ابن عباس أن الناس كانوا أتوه أرسالا، فأخبر كل واحد بما رآه ".(2/60)
( [التمتع أفضل أنواع الحج] :)
(والأول) ؛ أي: التمتع (أفضلها) ؛ أي: الأنواع الثلاثة.
واعلم أن هذه المسألة قد طال فيها النزاع، واضطربت فيها الأقوال، فمنهم من قال بأن أفضل الأنواع القران؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على ما هو الصحيح، وإن كان قد ورد ما يدل على أنه حج إفرادا، لكن الأحاديث الصحيحة الثابتة في " الصحيحين " وغيرهما من طرق عديدة؛ مصرحة بأنه أهل بحج وعمرة، فلو لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن غير ما فعله أفضل مما فعله؛ لكان القران أفضل الأنواع، لكنه ورد ما يدل على ذلك.
ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس! أحلوا؛ فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم "، قال: فأحللنا، حتى وطئنا النساء، وفعلنا كما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر؛ أهللنا بالحج.
وثبت مثل ذلك في حديث جماعة من الصحابة بألفاظ: منها: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سُقت الهدي، ولجعلتها عمرة ".
وقد ذهب إلى هذا جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ كمالك وأحمد، وهو الحق؛ لأنه لم يعارض هذه الأدلة معارض، وقد أوضح فيها صلى الله عليه وسلم أن نوع التمتع أفضل من النوع الذي فعله، وهو القران.
وقد أوضح الماتن حجج الأقوال، وما احتج به كل فريق في " شرح المنتقى "، والعبد الضعيف في " شرح بلوغ المرام "، وكذلك أوضح الماتن فيه؛(2/61)
أن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا.
أقول: قد روى الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا من الصحابة.
وأما قول أبي ذر؛ فليس بحجة على أحد؛ لأنه رأي صحابي فيما للاجتهاد فيه مسرح.
والحاصل: أن هذا البحث يطول الكلام عليه جدا، فمن رام العثور على الصواب؛ فعليه ب " شرح المنتقى "، أو ب " الهدي النبوي " للحافظ ابن القيم - رحمه الله -.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " أفتى صلى الله عليه وسلم بجواز فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتما، ولم ينسخه شيء بعده، وهو الذي ندين الله به؛ أن القول بوجوبه أقوى وأصح من القول بالمنع منه.
وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: " من لم يكن أهدى؛ فليهل بعمرة، ومن أهدى؛ فليهل بحج ثم مع عمرة ".
وأما ما فعله هو: فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة من بضع وعشرين رواية عن ستة وعشرين نفسا من أصحابه، ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله؛ كأنه رأي عين؛ وبالله التوفيق ".
( [توضيح ما يتعلق بحج الرسول صلى الله عليه وسلم] :)
فإن قيل: كيف وقع اختلاف بين الصحابة - رضي الله تعالى(2/62)
عنهم - في صفة حجته صلى الله عليه وسلم؛ وهي حجة واحدة، وكل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قصة واحدة؟
قلت: قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث؛ فمن مجد منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر.
قال: وأوسعهم في ذلك نفسا؛ أبو جعفر الطحاوي الحنفي، فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة، وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم المهلب، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم.
قال القاضي عياض: وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم، واخترناه من اختياراتهم، مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة؛ ليدل على جواز جميعها، ولو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ، فأضيف الجميع إليه، وأخبر كل واحد بما أمره به، وأباحه له، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما لأمره وإما لتأويله عليه. انتهى.
أقول: إنما ذكر المختلفون في أفضل الأنواع نوع حجته صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يقولون: إن النوع الذي اختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه لا يكون إلا فاضلا، ولا سيما والتلبية كانت عن وحي من الله - عز وجل -؛ كما في حديث: أنه نزل جبريل فقال: " قل: لبيك بحجة وعمرة ".(2/63)
وقد اختلف في نوع حجته صلى الله عليه وسلم، والحق أنه قران كما قرر الماتن ذلك في " شرح المنتقى "، ولكنه قال بعد ذلك: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "، يعني: كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره، وهذا الحديث متفق على صحته كما تقدم، فدل على أن التمتع أفضل من القران بلا ريب.
ولا اعتبار بقول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تطييبا لقلوب أصحابه؛ حيث حجوا تمتعا لعدم الهدي؛ لأن المقام مقام تشريع، لا مقام جبر خواطر، وتطييب قلوب، فالحق أن التمتع أفضل.
وأما أنه متعين لا يجوز غيره - كما رجحه ابن القيم - رحمه الله -، وأطال الكلام في تقريره -؛ فلا (1) .
قال في " التكميل ": " اختلفوا في نسك النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان مفردا للحج، أو قارنا، أو متمتعا سائق الهدي؟ ووجه التطبيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع الناس، وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة؛ كان لا ينوي إلا الحج، فلما بات بذي الحليفة في العقيق؛ أُمر بالقران، فقال: " لبيك بحجة وعمرة "، فلما دخل مكة، وتذكر جهالة العرب أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وعرف أنه في آخر عمره ولا يعيش إلى قابل؛ أراد رد هذا الوهم بأبلغ وجه، فأمر الناس بفسخ إحرام الحج وجعله عمرة، وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي، وأحللت مع الناس كما حلوا "، فكان مفردا بحسب ابتداء النية والشهرة، وقارنا بحسب تلبيته من
__________
(1) • التمتع أفضل فقط؛ ولا يتعين. (ن)
قلت: ويُنظر كتاب " حجة النبي صلى الله عليه وسلم " (ص 10 - 20) لشيخنا؛ لتحرير المسألة(2/64)
العقيق؛ حيث أُمر: " صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة "، وكان متمتعا سائق الهدي بحسب الهم والرغبة، ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية، نعم؛ عُرف تجديد التلبية عند إنشاء السفر إلى عرفة من منى، فكان قارنا حقيقة، مفردا في أول الأمر، متمتعا في آخره ". انتهى.
قال في " المسوى ": " والتحقيق في هذه المسألة: أن الصحابة لم يختلفوا في حكاية ما شاهدوه من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أحرم من ذي الحليفة، وطاف أول ما قدم، وسعى بين الصفا المروة، ثم خرج يوم التروية إلى منى، ثم وقف بعرفات، ثم بات بمزدلفة، ووقف بالمشعر الحرام، ثم رجع إلى منى، ورمى، ونحر، وحلق، ثم طاف طواف الزيارة، ثم رمى الجمار في الأيام الثلاثة؛ وإنما اختلفوا في التعبير عما فعل باجتهادهم وآرائهم.
فقال بعضهم: كان ذلك حجا مفردا، وكان الطواف الأول للقدوم، والسعي لأجل الحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنه قصد الحج.
وقال بعضهم: كان ذلك تمتعا بسوق الهدي، وكان الطواف الأول للعمرة، كأنهم سموا طواف القدوم والسعي بعده عمرة، وإن كان للحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنه كان متمتعا بسوق الهدي.
وقال بعضهم: كان ذلك قرانا، والقران لا يحتاج إلى طوافين وسعيين.
وهذا الاختلاف سبيله سبيل الاختلاف في الاجتهاديات.
أما أنه سعى تارة أخرى بعد طواف الزيارة - سواء قيل بالتمتع أو القران -؛ فإنه لم يثبت في الروايات المشهورة، بل ثبت عن جابر أنه لم يسع بعده ". انتهى.(2/65)
قال النووي في " شرح صحيح مسلم ": " وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ فأخذ بالأفضل، فأحرم مفردا للحج، وبه تظاهرت الروايات الصحيحة، وأما الروايات بأنه كان متمتعا؛ فمعناها: أمر به، وأما الروايات بأنه كان قارنا؛ فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه، بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم، وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية؛ إلا من كان معه هدي، وكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه هدي في آخر إحرامهم قارنين؛ يعني: أنهم أدخلوا العمرة على الحج؛ وفعل ذلك مواساة لأصحابه، وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج، لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج؛ ولم يمكنه التحلل معهم بسبب الهدي، واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم، فصار النبي صلى الله عليه وسلم قارنا في آخر أمره، وقد اتفق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة، وشذ بعض الناس فمنعه ". انتهى.
(ويكون الإحرام) ؛ وهو في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم، وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة، وأنواع التجمل، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغير لله.
أقول: وليس في إيجاب الإحرام - على غير من دخل لأحد النسكين - دليل.
أما الآية - أعني: قوله - تعالى -: {وإذا حللتم فاصطادوا} -؛ فإنها بيان لما حرمه عليهم من الصيد حال الإحرام، في قوله تعالى -: {إلا ما يتلى(2/66)
عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} - وقد عُلم أنه لا إحرام إلا لأحد النسكين -، ثم أخبرهم بإباحة الصيد لهم إذا حلوا.
وأما قول ابن عباس؛ فاجتهاد منه، وليس ذلك من الحجة في شيء، والمقام مقام اجتهاد، ولهذا خالفه ابن عمر، فجاوز الميقات غير محرم، كما روى ذلك عنه مالك في " الموطإ ".
وقد كان المسلمون في عصره صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم، ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بإحرام، كقصة الحجاج بن علاط، وكذلك قصة أبي قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وقد كان أرسله لغرض قبل الحج، فجاوز الميقات غير مريد للحج ولا للعمرة، والبراءة الأصلية مستصحبة؛ فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح يجب العمل به.
وقد ذهب إلى جواز المجاوزة من غير إحرام - لغير الحاج والمعتمر - ابن عمر والشافعي في أخير قوليه.
وأما إيجاب الدم على من جاوز - معللا ذلك بأنه ترك نسكا -: ففاسد؛ فإن الإحرام ليس بنسك لغير من أراد الحج أو العمرة، على أنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من ترك نسكا فعليه دم "؛ وإنما روي ذلك عن ابن عباس؛ كما في " الموطإ ".
( [الإحرام من المواقيت المكانية المحددة] :)
(من المواقيت المعروفة) : لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما، قال: وقّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا(2/67)
الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، قال: " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن؛ لمن كان يريد الحج والعمرة ".
وفائدة التأقيت: المنع عن تأخير الإحرام، فلو قدم عليها جاز.
أقول: قال قوم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت لأهل العراق ذات عرق، وإنما وقته عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
قلت: قد ذهب إلى هذا طاوس، ورواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس، وإليه ذهب جماعة من الشافعية - كالغزالي والرافعي والنووي وغير هؤلاء -، ووجه ذلك؛ ما قاله ابن خزيمة وابن المنذر من أنه لم يصح أنه - صلى الله عليه وسلم - وقّت ذات عرق لأهل العراق في حديث صحيح.
قال الحافظ في " الفتح ": " لعل من قال: إنه غير منصوص؛ لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق من طرقه لا تخلو عن مقال، لكن الحديث بمجموع طرقه يقوى ". انتهى.
وقد ذكر الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى " من روى حديث توقيت ذات عرق لأهل العراق من الصحابة، ومجموع ما رووه لا يخرج عن حد الحسن لغيره، وهو مما تقوم به الحجة.
( [يحرم من كان دون المواقيت من مكانه] )
(ومن كان دونها فمهله) من (أهله) وكذلك (حتى أهل مكة) يهلون منها.(2/68)
ومثله في " الصحيحين " أيضا من حديث ابن عمر.
وفي رواية من حديثه لأحمد: أنه قاس الناس ذات عرق بقرن.
وفي " البخاري " من حديثه: أن عمر قال لأهل البصرة والكوفة: انظروا حذو قرن من طريقكم، قال: فحد لهم ذات عرق.
في " المسوى ": " وميقات المكي للحج جوف مكة، وللعمرة الحل.
في " العالمكيرية ": والتنعيم أفضل.
وفي المنهاج ": أفضل بقاع الحل الجعران (1) ، ثم التنعيم، ثم الحديبية ".
وأما الغسل للإحرام: ففيه حديث خارجة بن زيد - حسنه الترمذي، وضعفه العقيلي -.
وأما حديث جابر في ولادة أسماء وغسلها: فهو صحيح، ولكنه قد قيل: إن أمرها بذلك ليس للإحرام؛ بل لقذر النفاس، وكذلك أمره للحائض.
وقد أخرج الحاكم، والبيهقي من حديث ابن عباس: أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل ولبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم أحرم بالحج؛ وفي إسناده يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف.
والحديث محتمل؛ فيمكن أن يكون الغسل للإحرام، ويمكن أن يكون
__________
(1) بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء - وقد تكسر العين وتشدد الراء -؛ وهو موضع قريب من مكة؛ قاله في " النهاية ". (ش)(2/69)
لغيره، كإذهاب وعثاء السفر، أو التبرد أو نحوهما.
ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من الناس أن يغتسل للإحرام؛ إلا ما وقع منه الأمر للحائض والنفساء دون غيرهما، فدل ذلك على أن اغتسالهما للقذر، ولو كان للإحرام؛ لكان غيرهما أولى بذلك منهما، فمع الاحتمال في فعله - وعدم صدور الأمر منه -؛ لا تثبت المشروعية أصلا.
وأما إزالة التفث (1) قبل الإحرام: فلم يرد في هذا شيء يصلح لإثبات مثل هذا الحكم الشرعي؛ وهو الاستحباب.
وأما ما قيل من أنه يقاس على تطييبه صلى الله عليه وسلم: فقياس فاسد، ولا سيما وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى ترك الشعر والبشر بعد رؤية هلال ذي الحجة لمن أراد أن يضحي؛ كما في " صحيح مسلم "، وسائر " السنن " من حديث أم سلمة؛ والحاج أولى بهذه السنة من غيره؛ لأنه في شغل شاغل عن ذلك.
وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عمر: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من الحاج يا رسول الله؟ ! قال: " الشعث التفل (2) ".
وقد كان ابن عمر إذا أفطر من رمضان وهو عازم على الحج في ذلك العام؛ لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا؛ حتى يحج كما في " الموطإ ".
__________
(1) بفتح التاء والفاء وآخره ثاء مثلثة: هو ما يفعله المحرم بالحج إذ حل؛ كقص الشارب والأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقا؛ قاله في " النهاية ". (ش)
(2) • هو الذي ترك استعمال الطيب؛ من التفل؛ وهي الريح الكريهة. (ن)(2/70)
والحاصل: أن التساهل في الأحكام الشرعية بلا دليل - بل إثبات ما قام الدليل على خلافه -: ليس من دأب أهل الإنصاف.
( [الفصل الثالث: فصل محظورات الإحرام] )
(1 -[لباس المخيط] :)
(ولا يلبس المحرم القميص) : الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك: أن الأول ارتفاق وتجمل وزينة، والثاني ستر عورة، وترك الأول تواضع لله، وترك الثاني سوء أدب؛ كذا في " الحجة ".
(ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس، ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا تنتقب (1) المرأة، ولا تلبس القفازين، وما مسه الورس والزعفران) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم؟ فقال: " لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس (2) ، ولا زعفران، ولا الخفين؛ إلا أن لا يجد نعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ".
قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم.
__________
(1) • وأما سدلها على وجهها فجائز، وهو غير التنقب، والتسوية بينهما خطأ؛ كما بينه ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 269) . (ن)
(2) بفتح الواو وإسكان الراء وآخره سين: هو نبت أصفر؛ يصبغ به. (ش)(2/71)
وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يجد نعلين؛ فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا؛ فليلبس سراويل ".
وفي " الصحيحين " نحوه من حديث ابن عباس.
وأخرج أحمد، والبخاري، والنسائي، والترمذي - وصححه - من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ".
زاد أبو داود، والحاكم، والبيهقي: " وما مس الورس والزعفران من الثياب ".
والقفاز - بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي -: ما تلبسه المرأة في يدها، فتغطي أصابعها وكفها عند معاناة شيء.
(2 -[التطيب ابتداء] :)
(ولا يتطيب ابتداء) ، ويجوز له أن يستمر على الطيب الذي كان على بدنه قبل الإحرام؛ فذلك هو الراجح؛ جمعا بين الأدلة.
وقد أوضح الماتن ذلك في " شرح المنتقى "، و " حاشية الشفاء " وغيرهما.
قال صاحب " سبل السلام " في " منسكه ": " ولما أراد الإحرام اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بذريرة وطيب فيه مسك في يديه ورأسه، حتى كان وبيص (1) المسك يُرى في مفارقه ولحيته صلى الله عليه وسلم، ثم استدامه ولم يغسله ". انتهى.
__________
(1) بفتح الواو وكسر الباء؛ وهو البريق. (ش)(2/72)
(3 -[الأخذ من الشعر والبشرة إلا لعذر] :)
(ولا يأخذ من شعره وبشره إلا لعذر) : لحديث كعب بن عجرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: كان بي أذى من رأسي، فحُملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل بتناثر على وجهي، فقال: " ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى! أتجد شاة؟ "، قلت: لا، فنزلت الآية {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} ، قال: " هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين - نصف صاع -؛ طعاما لكل مسكين ".
وقد تقدم الكلام على إزالة التفث؛ فليراجع.
(4 -[الجدال والرفث والفسق] :)
(ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل) : لنص القرآن الكريم: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} ؛ وهذه الأمور لا تحل للحلال، ولكنها مع الإحرام أغلظ.
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من حج ولم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
قال الحافظ المنذري: الرفث يطلق ويراد به الجماع، ويطلق ويراد به الفحشاء، ويطلق ويراد به خطاب الرجل المرأة فيما يتعلق به الجماع.
وقد نُقل [أن] معنى هذا الحديث كل واحد من هذه الثلاثة عن جماعة من العلماء.(2/73)
قلت: فيحرم الجميع.
وقال مالك: الرفث إصابة النساء، والله - تعالى - أعلم؛ قال الله - تعالى -: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} .
والفسوق الذبح للأنصاب، والله - تعالى - أعلم؛ قال - تعالى: {أو فسقا أهل لغير الله به} .
والجدال في الحج: أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح (1) ، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، فكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله - تعالى -: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم} ؛ فهذا الجدال في الحج، فيما نُرى، والله - تعالى - أعلم.
وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة: فإن كان الدليل (2) على هذا
__________
(1) بضم القاف وفتح الزاي: هو القرن الذي يقف عنده الإمام بالمزدلفة، ولا ينصرف - للعدل والعلمية؛ كعمر -؛ قاله في " النهاية ". (ش)
(2) • قلت: قد نقل الحافظ في " الفتح " (4 / 42) الإجماع على إفساد الحج والعمرة بالجماع، وسبقه إلى ذلك ابن حزم في " مراتب الإجماع " (ص 42) ، وقيده بأن يكون ذاكرا؛ ما لم يقدم المعتمر مكة، ولم يأت وقت الوقوف بعرفة للحاج.
ولم يتعقبه شيخ الإسلام بشيء؛ فالظاهر صحة هذا الإجماع، فإذا صح؛ فهو الدليل على الفاسد، والله أعلم.
وذكر ابن تيمية في رسالة " الصيام " (ص 28) أنه لا يبطل بفعل شيء من المحظورات؛ لا ناسيا ولا مخطئا؛ لا الجماع ولا غيره؛ قال: " وهو أظهر قولي الشافعي ". (ن)(2/74)
الفساد أقوال الصحابة؛ فمع كون الروايات عنهم إنما هي بطريق البلاغ - كما ذكره مالك في " الموطإ "، وليس ذلك بحجة لو كان في المرفوع فضلا عن الموقوف -: فقد عرفت غير مرة أن قول الصحابي ليس بحجة؛ إنما الحجة في إجماعهم عند من يقول بحجية الإجماع.
وأما الاستدلال على ذلك بما أخرجه أبو داود في " المراسيل " بإسناد رجاله ثقات: أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " اقضيا نسككما، واهديا هديا ": فالمرسل لا حجة فيه على ما هو الحق (1) .
وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} : فعلى تسليم أن الرفث هو الجماع؛ غاية ما يدل عليه المنع منه، لا أنه يفسد الحج، وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج؛ ولا قائل بذلك (2) .
والمروي في هذا الحديث المرسل هو إيجاب الهدي عليهما، والهدي يصدق على الشاة والبقرة والبدنة، ولا وجه لإيجاب أشد ما يطلق عليه اسم الهدي.
ولا حجة فيما رواه في " الموطإ " عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل واقع أهله وهو بمنى قبل أن يفيض؟ فأمره أن ينحر بدنة؛ ولا يصح تقييد المطلق به ولا تفسير المجمل.
__________
(1) انظر " المراسيل " (ص 148 - 149) لأبي داود، وتعليق محققه عليه.
(2) • لعل مستنده في ذلك قول ابن حزم في " المراتب " (ص 43) : " واتفقوا أنه من جادل في الحج؛ أن حجه لا يبطل، ولا إحرامه "، ولكن ابن حزم - رحمه الله - خالف هذا الإجماع الذي نقله هو في كتابه " المحلى "، حيث قال فيه (7 / 196) :
" والجدال بالباطل وفي الباطل؛ عمدا ذاكرا لإحرامه؛ مبطل لإحرامه وللحج؛ لقوله تعالى: {فلا رفث} الآية ". (ن)(2/75)
فالحاصل: أن البراءة الأصلية مستصحبة، ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تقوم به الحجة، وليس ههنا ما هو كذلك، فمن وطئ قبل الوقوف أو بعده، قبل الرمي أو قبل طواف الزيارة: فهو عاص يستحق العقوبة، وتغفر له بالتوبة، ولا يبطل حجه، ولا يلزمه شيء، ومن زعم غير هذا؛ فعليه الدليل المرضي، فليس بين أحد وبين الحق عداوة.
( [النكاح والإنكاح] :)
(ولا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب) : لحديث عثمان - الثابت في " مسلم " وغيره -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم ولا يُنكح، ولا يخطب " (1) .
وفي الباب أحاديث.
وأما ما في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم:
فقد عارضه ما في " صحيح مسلم " وغيره من حديث ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال.
وما أخرجه أحمد، والترمذي - وحسنه (2) - من حديث أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا، وكان أبو رافع السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة.
وهما أعرف بذلك.
__________
(1) هو من حديث ابن عباس. (ش)
(2) • ورجاله رجال مسلم، وأخرجه ابن حبان في " صحيحيه "، كما ذكرت في " الروض النضير "، عند حديث ابن عباس رقم (467) . (ن)(2/76)
وعلى فرض صحة خبر ابن عباس ومطابقته للواقع: فلا يعارض الأحاديث المصرحة بالنهي، بل يكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قرر الماتن في مؤلفاته: أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا خالف ما أمر الأمة به أو نهاهم عنه؛ يكون مختصا به.
قال في " الحجة البالغة ": " اختار أهل الحجاز من الصحابة والتابعين والفقهاء أن السنة للمحرم أن لا ينكح ولا يُنكح، واختار أهل العراق أنه يجوز له ذلك، ولا يخفى عليك أن الأخذ بالاحتياط أفضل.
وعلى الأول: السر فيه أن النكاح من الارتفاقات المطلوبة أكثر من الصيد، ولا يقاس الإنشاء على الإبقاء؛ لأن الفرح والطرب إنما يكون في الابتداء، ولذلك يضرب بالعروس المثل في هذا الباب دون البقاء ". انتهى.
(6 -[قتل الصيد] :)
(ولا يقتل صيدا) : فإن الله - تعالى - حرم على المحرم صيد البر ما دام حرما.
والمراد من الصيد عند الشافعي: كل صيد مأكول بري، فذبح الأنعام ليس منه، وكذا ما ليس بمأكول، وكذا الصيد البحري (1) .
وعند أبي حنيفة: غير المأكول قد يكون صيدا.
( [بيان جزاء قتل الصيد] :)
(ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل) : لما ورد
__________
(1) • ونقل ابن حزم (ص 4) الإجماع على هذا: أن للمحرم أن يتصيد في البحر ما شاء من سمكه. (ن)(2/77)
بذلك القرآن الكريم: {ومن قتله منكم متعمدا (1) فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} .
أقول: ههنا أمران: أحدهما: اعتبار المماثلة، الثاني: حكم العدلين.
وظاهره أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما؛ لأنه قال: {يحكم به} ؛ أي: بالمماثل.
وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل؛ إلا لغلط أو طرو شبهة؛ بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف؛ والواقع بخلافه.
ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف؛ لا يكون ذلك الحكم لازما للخلف، بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد.
إذا تقرر لك هذا: فاعلم أن جعل الظبي مشبها بالشاة دون التيس؛ مخالف للمشاهد المحسوس؛ فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته، ولا مشابهة بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته، وكذلك الحمامة؛ فإنها لا تشبه الشاة في شيء من الأوصاف، وكذلك سائر الطيور ليس بمشابه للشاة في شيء.
__________
(1) • قال أبو عمر: فدخل فيه قتل الخطأ؛ قياسا عند الجمهور إلا من شذ؛ كذا في " إعلام الموقعين " (1 / 247) . (ن)(2/78)
وإذا صح عن بعض السلف أنه حكم في شيء منها بشاة؛ فذلك غير لازم لنا؛ لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون بالمثل، كما صرح به القرآن الكريم.
(7 -[الأكل مما صيد لأجله] :)
(ولا يأكل ما صاده غيره) : لحديث الصعب بن جثامة في " الصحيحين " وغيرهما: أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا (1) وهو بالأبواء أو بودان (2) ، فرده عليه، فلما رأى في وجهه؛ قال: " إنا لم نرده عليك؛ إلا أنا حرم ".
وأخرج مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم.
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من صيده الذي صاده وهو حلال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم محرما، فأكل عضد حمار الوحش الذي صاده.
وجمع بين حديث الصعب وحديث أبي قتادة المتفق عليه؛ بأنه صلى الله عليه وسلم إنما امتنع من أكل صيد الصعب لكونه صاده لأجله، وأكل من صيد أبي قتادة لكونه لم يصده لأجله، فلو كان صيد الحلال حراما على المحرم لما أكل منه صلى الله عليه وسلم، وقرر الصحابة على الأكل منه، فهذا يدل على جواز أكل المحرم لصيد الحلال.
__________
(1) • وكان مذبوحا؛ كما في بعض الروايات الصحيحة، وقد ذكرتها في " التعليقات الجياد " (4 / 81 - 82) . (ن)
(2) الأبواء - بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة -: جبل.
وودان - بفتح الواو وتشديد الدال وآخره نون -: موضع بقرب الجحفة. (ش)(2/79)
ويدل على ذلك أيضا حديث جابر عند أحمد، وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم؛ ما لم تصيدوه أو يُصد لكم "؛ وهذا الحديث وإن كان فيه مقال (1) ؛ فهو لا يقدح في انتهاضه للاستدلال، وهو نص في الفرق باعتبار القصد وعدمه.
( [جواز أكل صيد الحلال إذا لم يصده لأجل المحرم] :)
(إلا إذا كان الصائد حلالا، ولم يصده لأجله) ، ولا بد من ضبط الصيد؛ فإن الإنسان قد يقتل ما يريد أكله، وقد يقتل ما لا يريد أكله، وإنما يريد به التمرن بالاصطياد، وقد يقتل ويريد أن يدفع شره عنه، أو عن أبناء جنسه، وقد يذبح بهيمة الأنعام.
فأيها الصيد؟
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المحرّم منه ما صاده المحْرم أو صيد لأجله، وما لم يكن كذلك فإنه حلال، كما أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صيد البر حلال لكم؛ ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ".
وفي لفظ: " أو يصد لكم ".
فما ورد من الأحاديث في ذلك تحريما وتحليلا: حمل على ذلك التفصيل.
__________
(1) • وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي؛ وقد وهما كما بينته في " التعليقات " (4 / 83) . (ن)(2/80)
(8 -[قطع شجر الحرم إلا الإذخر] :)
(ولا يعضد (1) من شجر الحرم إلا الإذخر (2)) : لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرام؛ لا يعضد شجره، ولا يُختلى خلاه (3) ، ولا يُنفَّر صيده، ولا تُلتقط لقطته إلا لمعرّف "، قال العباس: إلا الإذخر؛ فإنه لا بد لهم منه؛ فإنه للقيون (4) والبيوت؟ فقال: " إلا الإذخر ".
وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة.
( [يجوز للمحرم قتل الفواسق] :)
(ويجوز له قتل الفواسق الخمس) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور.
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الدواب؛ ليس في قتلهن جناح ".
__________
(1) بضم الياء وإسكان العين وفتح الضاد؛ أي: لا يقطع. (ش)
(2) بكسر الهمزة وإسكان الذال وكسر الخاء: هو نبت معروف عند أهل مكة، طيب الرائحة، ينبت في السهل والحزن، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب، ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور. (ش)
(3) الخلا - بفتح الخاء مقصور -: هو الرطب من النبات.
واختلاؤه قطعه واحتشاشه. (ش)
(4) جمع قين؛ وهو الحداد. (ش)(2/81)
وفي " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر زيادة: " الحية ".
وكذلك في حديث ابن عباس عند أحمد بإسناد فيه ليث بن أبي سليم.
قال البغوي: " اتفق أهل العلم على أنه يجوز للمحرم قتل هذه الأعيان المذكورة في الخبر، ولا شيء عليه في قتلها.
وقاس الشافعي عليها كل حيوان لا يؤكل لحمه، فقال: لا فدية على من قتلها في الإحرام أو الحرم ".
( [صيد المدينة وشجره كحرم مكة] :)
(وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة) : لحديث علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المدينة حرم؛ ما بين عير إلى ثور "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث عباد بن تميم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ".
وفي الباب أحاديث في " الصحيحين " وغيرهما عن جماعة من الصحابة.
قال ابن القيم: " ورُدت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيا في أن المدينة حرم يحرم صيدها، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول ومعارضتها بالمتشابه من قوله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا عمير! ما فعل النُّغير (1) ".
__________
(1) النغير؛ تصغير النغر - بضم النون وفتح الغين -؛ وهو طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار، ويجمع على نغران - بكسر النون وإسكان الغين - قاله في " النهاية ".
وظاهر الحديث لا يحتمل ما زعمه ابن القيم، ولا معارضة فيه لحديث تحريم حرم المدينة؛ بل الوجه الصحيح فيه؛ هو الوجه الثالث، والأوجه الباقية لا دليل عليها، ولا معنى لها. (ش)(2/82)
ويالله العجب {أي الأصول التي خالفتها هذه السنن، وهي من أعظم الأصول؟ فهلا رد حديث أبي عمير لمخالفته لهذه الأصول؟} ونحن نقول: معاذ الله {أن نرد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدا.
وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه، قد ذهب إلى كل منها طائفة:
أحدها: أن يكون متقدما على أحاديث تحريم المدينة؛ فيكون منسوخا.
الثاني: أن يكون متأخرا عنها معارضا لها؛ فيكون ناسخا.
الثالث: أن يكون النغير مما صيد خارج المدينة ثم أدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود.
الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره، كما رخص لأبي بردة في التضحية بالعناق دون غيره.
فهو متشابه كما ترى، فكيف يجعل أصلا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا؟} ". انتهى.
( [من قطع شجر المدينة أو خبطه سلب] :)
(إلا أن من قطع شجره أو خبطه كان سلبه حلالا لمن وجده) : لحديث سعد ابن أبي وقاص: أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا، أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد، فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم؛ أخرجه مسلم، وأحمد.(2/83)
وفي لفظ لأحمد، وأبي داود، والحاكم - وصححه -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من رأيتموه يصيد فيه شيئاً؛ فلكم سلبه ".
أقول: عندي أنه لا يجب على من قتل صيدا - أو قطع شجرا من حرم المدينة -، لا جزاء ولا قيمة، بل يأثم فقط، ويكون لمن وجده يفعل ذلك أخْذ سلبه؛ ولا يجب على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شيء؛ إلا مجرد الإثم.
وأما من كان محرما: فعليه الجزاء الذي ذكره الله - عز وجل - إذا قتل صيدا، وليس عليه شيء في شجر مكة؛ لعدم ورود دليل تقوم به الحجة.
وما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدوحة الكبيرة: " إذا قُطعت من أصلها؛ بقرة ": لم يصح.
وما يروى عن بعض السلف لا حجة فيه.
والحاصل: أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد وقطع الشجر، وبين وجوب الجزاء أو القيمة؛ بل النهي يفيد بحقيقته التحريم، والجزاء والقيمة لا يجبان إلا بدليل، ولم يرد دليل إلا قول الله - تعالى -: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية؛ وليس فيها إلا ذكر الجزاء فقط؛ فلا يجب غيره.
( [صيد وجّ وشجره حرام] :)
(ويحرم صيد وجّ) - بفتح الواو وتشديد الجيم -: اسم واد بالطائف (وشجره) : لحديث الزبير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(2/84)
" إن صيد وج وعضاهه (1) حرام؛ محرم لله - عز وجل - "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والبخاري في " تاريخه "، وحسنه المنذري (2) ، وصححه الشافعي.
وأخرج أبو داود من حديث الزبير بن العوام بلفظ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صيد وجّ محرم "، وحسنه الترمذي (3) ، وصححه الشافعي.
__________
(1) بكسر العين؛ وهو كل شجر يعظم، وله شوك. (ش)
(2) • كذا قال، وسبقه إلى ذلك الشوكاني في " نيل الأوطار " (5 / 29) ، فقال: " الحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه المنذري "، وهذا خطأ في النقل، فلم يحسنه المنذري في " مختصر السنن "، بل فحوى ما نقله عن الأئمة حول الحديث؛ أنه يذهب إلى تضعيفه، فقال (2 / 442) ما نصه: " في إسناده محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي وأبوه، فأما محمد؛ فسئل عنه أبو حاتم الرازي؟ فقال: ليس بالقوي، وفي حديثه نظر.
وذكره البخاري في " تاريخه الكبير "، وذكر له هذا الحديث؛ وقال: لم يتابع عليه.
وذكر أباه، وأشار إلى هذا الحديث، وقال: لم يصح حديثه.
وقال البستي: عبد الله بن إنسان؛ روى عنه ابنه محمد ولم يصح حديثه ".
فقد نقل عن هؤلاء الأئمة تضعيفهم لهذا الحديث، ولم يتعقبهم بشيء، فدل على موافقته لهم في ذلك، وهو الحق؛ خلافا لما قال الشارح؛ فإن علته واضحة، وهو عبد الله بن إنسان هذا؛ فإنه لم يوثقه أي إنسان؛ حاشا ابن حبان، حيث ذكره في " الثقات "، ومع ذلك فقد قال فيه: " كان يخطئ "، مع أنه ليس له إلا هذا الحديث، وقد ضعفه هو نفسه، كما سبق نقله عن المنذري، فأين الحديث الذي لم يخطئ فيه؟ {ولذلك قال الحافظ في " التقريب " أنه " لين الحديث "، وصرح ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 35) بأن الحديث ضعيف، أورده في أحاديث قدمها الشافعي على القياس مع ضعفها.
لكن الذهبي ذكر في " الميزان " أن الشافعي صحح هذا الحديث؛ فلا أدري هل أخذ ذلك من نص للشافعي في تصحيحه، أم استلزم ذلك من احتجاجه به أو إيراده له؟} فإن كان هذا؛ فالتصريح بأن الشافعي صححه؛ لا يخفى ما فيه؛ فتأمل! (ن)
(3) • هذا خطأ؛ فالحديث لم يروه الترمذي، ولا نقل أحد عنه تحسينه فيما علمت، فالظاهر أنه تحرف على الناسخ أو الطابع من " المنذري "، وحينئذ؛ فهذا تكرار من المؤلف لا فائدة فيه، وطالما فعل ذلك فيما سلف. =(2/85)
وقد ذهب إلى ما في الحديث: الشافعي؛ وهو الحق.
ولم يأت من قدح في الحديث بما يصلح للقدح المستلزم لعدم ثبوت التكليف بما تضمنه.
( [الفصل الرابع: فصل ما يجب عمله أثناء الطواف] )
[طواف القدوم سبعة أشواط] :
(وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم) : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل المسجد الحرام؛ بدأ بالطواف ولم يصل تحية المسجد؛ فإن تحية المسجد الحرام الطواف بالبيت.
قد استفاض عن الصحابة أن أول شيء كانوا يبدأون به الطواف بالبيت، ثم لا يحلون؛ رواه الشيخان.
ولا يسن طواف القدوم لمن أحرم من مكة؛ وعليه أهل العلم.
في " المنهاج ": يختص طواف القدوم بحاج دخل مكة قبل الوقوف.
(سبعة أشواط) : الأقرب - والله أعلم -: أن الطواف يوافق الصلاة، فمن شك: هل طاف ستة أشواط أو سبعة أشواط؟ فليطرح الشك وليتحر الصواب،
__________
= ثم إن هذا اللفظ الذي نسبه إلى أبي داود وحده؛ ليس هو في " سننه "، بل عنده اللفظ الأول (1 / 317) ، وهو في " المسند " (رقم 1416) ، وقد صرح شارحه الشيخ أحمد محمد شاكر بأن إسناده صحيح، وهو خطأ بين؛ سببه اعتماده على توثيق ابن حبان الذي اشتهر بتساهله في التوثيق، وقد بينت هذا الخطأ؛ فيما علقته على تعليقه في هذا الموضع.(2/86)
فإن أمكنه ذلك عمل عليه، وإن لم يمكنه فليبن على الأقل، كما ورد بذلك الدليل الصحيح.
وشرع الطواف في الأصل؛ لإغاظة المشركين كما في حديث ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم (1) حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم؛ متفق عليه.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول؛ خب (2) ثلاثا، ومشى أربعا.
وفي لفظ: رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ثلاثا، ومشى أربعا.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن عمر، أنه قال: فيم الرملان الآن، والكشف عن المناكب وقد أطى (3) الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ! ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذهب الجمهور إلى فرضية الطواف للقدوم.
__________
(1) بتخفيف الهاء، وقد يستعمل رباعيا، ومعناه: أضعفتهم. (ش)
(2) الخب - بفتح الخاء -: هو إسراع المشي مع تقارب الخطى؛ كالرمل - بفتح الميم -. (ش)
(3) أصله: وطئ، فأبدلت الواو همزة؛ كما في: وقت وأقت؛ ومعناه: مهد وثبت. (ش)(2/87)
وقال أبو حنيفة: سنة.
وروي عن الشافعي أنه كتحية المسجد.
والحق الأول؛ لقوله - تعالى -: {وليطوفوا بالبيت العتيق} .
( [يرمل الحاج في الثلاثة الأولى من الطواف] :)
(يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي) :
قال في " الحجة ": " وأول طواف بالبيت رمل واضطباع (1) ، وبعده سعي بين الصفا والمروة، وكان عمر أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما، ثم تفطن إجمالا أن لهما سببا آخر غير منقض، فلم يتركهما ".
( [يقبل الحاج الحجر الأسود] :)
(ويقبل الحجر الأسود) : لما في " الصحيحين " من حديث عمر: أنه كان يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنقع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك.
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي هذا الحجر يوم القيامة؛ له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحق ".
__________
(1) هو افتعال من الضبع - بإسكان الباء -؛ وهو العضد؛ وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على منكبه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوفا. (ش)(2/88)
وفي الباب أحاديث.
وأما الابتداء بالحجر: فلأنه وجب عند التشريع أن يعين محل البداية وجهة المشي، والحجر أحسن مواضع البيت؛ لأنه نازل من الجنة، واليمين أيمن الجهتين.
(أو يستلمه) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في استلامه ثلاث صفات: أحدها: تقبيله، وثانيها: أنه وضع يده عليه ثم قبلها، وثالثها: أنه يشير إليه بالمحجن (1) .
ولم يقل: طوافي لكذا، ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله كثير ممن لا علم عنده، وذلك من البدع المنكرة.
(بمحجن ويقبل المحجن) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن.
وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي الطفيل، وزاد: ويقبل المحجن.
(ونحوه) ؛ أخرج أحمد من حديث عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " يا عمر! إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر؛ فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلة فاستلمه؛ وإلا فاستقبله وهلل وكبر "؛ وفي إسناده مجهول (2) .
__________
(1) بكسر الميم، وإسكان الحاء، وفتح الجيم، وآخره نون: هو عصا محنية الرأس. (ش)
(2) صححه شيخنا في " مناسك الحج والعمرة " (ص 21) .(2/89)
( [ويستلم الحاج الركن اليماني] :)
(ويستلم الركن اليماني) : لما أخرج أحمد، والنسائي عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا "؛ وفي إسناده عطاء بن السائب (1) .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين.
وأخرج البخاري في " تاريخه "، وأبو يعلى من حديث ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني؛ وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز؛ وهو ضعيف (2) .
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني، ويضع خده عليه.
قال صاحب " سبل السلام " (3) : " وكان يقول عند استلامهما: " بسم الله والله أكبر "، وكان كلما أتى الحجر يقول: " الله أكبر ".
ولم يحفظ له دعاء معين في الطواف؛ إلا أنه أخرج أبو داود، وابن
__________
(1) • قلت: ولا يضر هنا؛ لأن من رواة الحديث عنه - عند أحمد (رقم 5621) - الثوري؛ وهو قد روى عن عطاء قبل اختلاطه؛ فالحديث صحيح. (ن)
(2) • وقد أخرجه من طريقه غير المذكورين، كما بينته في " التعليقات " (4 / 106) . (ن)
(3) • قلت: تبع في ذلك العلامة ابن القيم في " الزاد "، وقد بينت في " التعليقات الجياد " أن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح، وإنما صح موقوفا على ابن عمر. (ن)(2/90)
حبان (1) : أنه يقول بين الركنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ، وفي الطواف: " اللهم! قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائب لي بخير "، أخرجه الحاكم.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة ": " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ".
والموضع موضع دعاء، فيختار فيه ما شاء ". انتهى.
قلت: إنما خص الركنين اليمانيين بالاستلام - كما ذكره ابن عمر - من أنهما باقيان على بناء إبراهيم دون الركنين الآخرين، فإنهما من تغيرات الجاهلية، وإنما اشترط له شروط الصلاة كما ذكره ابن عباس؛ لأن الطواف يشبه الصلاة في تعظيم الحق وشعائره، فحمل عليها.
( [القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد] :)
(ويكفي القارن طواف واحد، وسعي واحد) : لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على الأصح، واكتفى بطواف واحد للقدوم، وبسعي واحد، ولا دليل على وجوب طوافين وسعيين.
وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأة طواف واحد وسعي واحد "؛ وقد حسنه الترمذي.
أقول: الأدلة القاضية بأن الواجب على القارن ليس إلا طواف واحد
__________
(1) • في سنده عبيد - مولى السائب -؛ وفيه جهالة، كما بينته في " التعليقات " (4 / 105) . (ن)(2/91)
وسعي واحد: ثابتة قولا وفعلا:
أما القول: فحديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرن بين حجه وعمرته؛ أجزأه لهما طواف واحد "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة.
وأخرجه أيضا الترمذي بلفظ: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعا "، وقال " " هذا حديث حسن ".
وأخرجه أيضا سعيد بن منصور بنحو لفظ الترمذي.
وأما إعلال الطحاوي لهذا الحديث بالوقف: فقد رده غيره من الحفاظ؛ لأن الطحاوي قال: إن الدراوردي أخطأ في رفعه، وإنه موقوف، فأجابوا عنه بأن الدراوردي صدوق، وأن رفعه حجة (1) .
ومن القول؛ حديث طاوس عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " يسعك طوافك لحجك وعمرتك "، أخرجه أحمد، ومسلم.
وأخرج أيضا مسلم من طريق مجاهد عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " يجزي عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ".
وأما أحاديث الفعل: فأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة: أن الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا.
__________
(1) • قد خرجت حديثه في " التعليقات " (4 / 71) .
وأخرجه ابن الجارود في " المنتقى " (رقم 460) ، وعزاه المعلق عليه لمسلم؛ فوهم. (ن)(2/92)
وأخرج مسلم، وأبو داود عن جابر: أنه لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.
وأخرج البخاري عن ابن عمر: أنه طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا؛ بعد أن قال: إنه سيفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس: أنه حلف ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا.
واستدل القائلون بأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين بفعل علي - رضي الله عنه -، وقوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا؛ أخرجه عبد الرزاق، والدارقطني، وغيرهما (1) .
وقد روي نحوه عن ابن مسعود، وابن عمر بأسانيد في بعضها متروك، وفي البعض الآخر ضعيف.
حتى قال ابن حزم: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء.
وتعقب بأن حديثي علي وابن مسعود (2) ؛ لا بأس بإسناديهما، ولهذا رجح البيهقي وغيره المصير إلى الجمع: أنه طاف طواف القدوم، وطواف الإفاضة، قال: وأما السعي فلم يثبت فيه شيء.
__________
(1) • وفيه رجل مجهول؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 63) (ن)
(2) • يعني الموقوفين، وقد تكلمت عليهما، وبينت أن الأول منهما صحيح الإسناد في " التعليقات " (4 / 71 - 72) . (ن)(2/93)
وقد حكى الحافظ في " الفتح " أنه روى جعفر الصادق عن أبيه: أنه كان يحفظ عن علي للقارن طوافا واحدا؛ خلاف ما يقوله أهل العراق.
والحاصل: أن الجمع بما تقدم - إن اندفع به النزاع - فالمراد؛ وإلا وجب المصير إلى التعارض والترجيح، ولا يشك عالم بالحديث أن أدلة الطواف الواحد والسعي الواحد أرجح.
( [وجوب الوضوء وستر العورة أثناء الطواف] :)
(ويكون حال الطواف متوضئا ساتر العورة) : لما في " الصحيحين " من حديث عائشة: أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم؛ أنه توضأ، ثم طاف بالبيت.
وفيهما أيضا من حديث أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يطوف بالبيت عريان ".
في " شرح السنة ": عند الشافعي لا يجزىء الطواف إلا بما يجزىء به الصلاة؛ من الطهارة عن الحدث والنجاسة، وستر العورة، فإن ترك شيئا منها؛ فعليه الإعادة (1) .
قال في " الأنوار ": ولو أحدث في الطواف عمدا؛ توضأ وبنى، ولا
__________
(1) • وذهب أكثر السلف إلى أنه لا يشترط للطواف شروط الصلاة؛ وهو مذهب أبي حنيفة وغيره.
قال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (2 / 453) : " وهذا القول هو الصواب "، ثم أفاض في التدليل لذلك؛ فراجعه! (ن)(2/94)
يجب الاستئناف وإن طال الفصل.
والكلام في الطواف مباح، ويستحب أن لا يتكلم؛ إلا بذكر الله أو حاجة أو علم.
وقال أبو حنيفة: إذا طاف جنبا أو محدثا وفارق مكة؛ لا تلزمه الإعادة وعليه دم.
وفي " العالمكيرية ": " أن كل عبادة تؤدى لا في المسجد من المناسك؛ فالطهارة ليست من شرطها، كالسعي، والوقوف بعرفة، وكل عبادة في المسجد؛ فالطهارة من شرطها كالطواف ".
أقول: أما فرضية الوضوء للطواف أو شرطيته - كما زعمه البعض -: فغاية ما في ذلك حديث: أنه توضأ صلى الله عليه وسلم ثم طاف، وهذا مجرد فعل لا ينتهض للوجوب، وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك، حتى يقول: إنه بيان لقوله: " خذوا عني مناسككم ".
فإن قيل: إنه شرط النسك أو فرضه؛ فيكون من جملة بيان المناسك؛ فيجاب بأن هذه مصادرة على المطلوب؛ لأن كونه شرطا أو فرضا هو محل النزاع، ومع هذا ففعله للوضوء يحتمل أن يكون لما يتعقب الطواف من الصلاة، ولا سيما وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يدخل المسجد إلا متوضئا في غير الحج، فملازمته لذلك في الحج أولى.
وأما منعه صلى الله عليه وسلم للحائض أن تطوف بالبيت: فليس فيه دليل على أن المنع لها لكون الطهارة شرطا أو فرضا للطواف؛ لاحتمال أن يكون المنع لها لكون(2/95)
الطواف من داخل المسجد، وهي ممنوعة من المساجد، ولو سلم فغايته أن الطهارة من الحيض هي الشرط، لا الوضوء.
وأما حديث: " الطواف بالبيت صلاة ": فمع كونه في إسناده عطاء بن السائب (1) ؛ وهو ضعيف؛ فليس التشبيه بمقتض لمساواة المشبه للمشبه به في جميع الأوصاف، بل الاعتبار التشابه في أخص الأوصاف؛ وليس هو الوضوء.
( [يحرم الطواف على الحائض] :)
(والحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف) طواف القدوم وكذا طواف الوداع (بالبيت) : لحديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " الحائض تقضي المناسك كلها؛ إلا الطواف "؛ أخرجه أحمد.
وأخرج نحوه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من حديث ابن عمر.
ولحديث عائشة أيضا في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم لما حاضت: " افعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت، حتى تغتسلي (2) ".
__________
(1) • قلت: القول في هذا كالقول في سابقه؛ فإن من الرواة عنه - لهذا الحديث - سفيان أيضا عند البيهقي (5 / 87) .
نعم؛ اختلف عليه فيه: فرواه عنه جماعة موقوفا على ابن عباس، ورواه آخرون عنه مرفوعا، ويرجحه أن منهم سفيان.
ويؤيده أن له طريقين آخرين عن ابن عباس، وشاهدا من حديث ابن عمر؛ خرجهما الزيلعي في " نصب الراية " (3 / 58) ، وآخر في " المسند " (3 / 414، 4 / 64، 5 / 377) . (ن)
(2) • وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرا؛ بأن تتأخر حتى تطهر؛ لذهاب رفقتها وعدم انتظارهم إياها؛ في بحث له طويل نفيس، راجعه في " الفتاوى " (2 / 436 - 456) . (ن)
قلت: والأصل الطهارة، والله أعلم.(2/96)
( [يسن الذكر بالمأثور أثناء الطواف] :)
(ويندب الذكر حال الطواف بالمأثور) : لحديث عبد الله بن السائب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم؛ لأنه دعاء جامع نزل به القرآن، وهو قصير اللفظ يناسب تلك الفرصة القليلة.
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " وكل به - يعني: الركن اليماني - سبعون ملكا، فمن قال: اللهم {إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ؛ قالوا: آمين "؛ أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسماعيل بن عياش، وهشام بن عمار؛ وهما ضعيفان (1) .
وأخرج ابن ماجه أيضا من حديثه أنه سمعه يقول: " من طاف بالبيت سبعا، ولا يتكلم إلا بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله: محيت عنه عشر سيئات، وكتب له عشر حسنات، ورفع له بها عشر درجات "، وفي إسناده من تقدم في الحديث الأول (2) .
__________
(1) • إطلاق القول على هشام بن عمار بالضعف؛ خطأ بين؛ لأن الرجل في نفسه ثقة، روى له البخاري، لكنه كان قد تغير في آخر عمره، فالأحسن ما قاله الشوكاني فيه عند هذا الحديث (5 / 40) : " وهو ثقة تغير بآخرة "، وكأن الشارح - رحمه الله - اختصر كلامه هذا؛ فأخل.
وأحسن من ذلك قول الحافظ في " التقريب ": " صدوق مقرئ؛ كبر فصار يتلقن؛ فحديثه القديم أصح ". (ن)
قلت: وانظر " المشكاة " (2590) ؛ فهو فيه مضعفا.
(2) هو تمام الحديث السابق؛ فتنبه}(2/97)
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وصححه - (1) من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة؛ لإقامة ذكر الله - تعالى - ".
وفي الباب أحاديث.
( [صلاة ركعتين في مقام إبراهيم بعد الطواف] :)
(وبعد فراغه يصلي ركعتين) :
وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: هما واجبتان.
(في مقام إبراهيم ثم يعود إلى الركن فيستلمه) : لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى إلى مقام إبراهيم؛ قرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ؛ فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب، و {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} ، ثم عاد إلى الركن، فاستلمه.
قلت: وجهر فيهما بقراءته نهارا، فالجهر فيهما السنة؛ ليلا ونهارا، فلما
__________
(1) • بقوله (2 / 105) : " هذا حديث حسن صحيح "، وفيه نظر؛ لأن في سنده - عنده وعند أبي داود (1 / 296) - عبيد الله بن أبي زياد - وهو القداح - وفيه كلام واختلاف، وفي " التقريب " أنه " ليس بالقوي ".
ثم قد خالفه من هو أوثق منه: فرواه عن شيخه القاسم، عن عائشة؛ فلم يرفعه، وكذلك رواه حسين المعلم، عن عطاء، عن عائشة موقوفا؛ انظر " سنن البيهقي " (5 / 145) .
والحديث رواه أحمد أيضا (6 / 64، 75، 139) ، وراجع " تاريخ بغداد " (11 / 331 - 332) . (ن)(2/98)
فرغ منهما؛ أتى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله.
( [الفصل الخامس: وجوب السعي بين الصفا والمروة] )
( [وجوب السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط] :)
(ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعيا بالمأثور) ؛ والسعي واجب؛ لقوله - تعالى -: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} ؛ وعليه أهل العلم؛ إلا أنه عند الشافعي من الأركان؛ فلا يجبر بالدم.
وذهب الجمهور إلى أنه فرض.
وعند أبي حنيفة: من الواجبات، وعلى من تركه دم؛ كذا في " المسوى ".
والسعي هو النسك الثالث؛ لأن النسك الأول الإحرام، والثاني الطواف؛ كما تقدم.
ودليله ما أخرج أحمد، والشافعي، من حديث حبيبة بنت أبي تجزأة (1) ،
__________
(1) وحبيبة بنت أبي تجزأة - بضم التاء وسكون الجيم -: صحابية؛ كذا ضبطه " القاموس " في باب الزاي.
وقال ابن حجر في " الفتح " (جزء 3 ص 323) : " بكسر المثناة وسكون الجيم، بعدها راء، ثم ألف ساكنة ثم هاء؛ وهي إحدى نساء بني عبد الدار ".
وقال في " الإصابة " (جزء 8 ص 47) : " ضبطها الدارقطني بفتح المثناة من فوق، وقال أيضا: حبيبة - بفتح أوله -؛ وقيل: بالتصغير ". (ش)(2/99)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي "؛ وفي إسناده عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف.
وله طريق أخرى في " صحيح ابن خزيمة "، و " الطبراني " عن ابن عباس.
وأخرج أحمد نحوه من حديث صفية بنت شيبة (1) .
وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من طوافه؛ أتى الصفا، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد الله، ويدعو ما شاء أن يدعو.
وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر.
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنا من الصفا قرأ: " {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ؛ أبدأ بما بدأ الله به "، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، قال: " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا؛ مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
ويجوز السعي راكبا، وماشيا - وهو أفضل -، وعليه أهل العلم.
__________
(1) • وعنها أخرجه البيهقي (5 / 97) أيضا؛ وسنده صحيح. (ن)(2/100)
( [المتمتع بعد السعي يصبح حلالا] :)
(وإذا كان متمتعا صار بعد السعي حلالا حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج) : لقول عائشة حاكية لحجهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأما من أهل بالعمرة؛ فأحلوا حين طافوا بالبيت، وبالصفا والمروة؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وفيهما أيضا من حديث جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية؛ فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم لها متعة ".
وفي لفظ لمسلم من حديثه أيضا، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، فأهللنا من الأبطح.
أقول: الإهلال هو رفع الصوت بلفظ: لبيك بحجة وعمرة، والظاهر من الأدلة؛ أنه لا يجب إلا نية الإحرام بالحج، وليس وراء ذلك أمر آخر هو الإحرام؛ بل هو مجرد النية.
وأما اشتراط كونها مقارنة لتلبية أو تقليد؛ فلم يدل عليه دليل؛ بل التلبية ذكر مستقل وسنة منفردة، وكذلك التقليد للهدي، ولا كلام في ثبوت مشروعيتهما، وأما أنهما شرط لنية الإحرام بالحج؛ فلا، ومن ادعى ذلك؛ فعليه البرهان.(2/101)
( [الفصل السادس: مناسك الحج] )
( [التوجه إلى عرفات صبح يوم التاسع] )
( [ويصلي: الظهر والعصر جمع تقديم مع خطبة] :)
(ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبرا، ويجمع العصرين) الظهر والعصر (فيها ويخطب) : لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس وهو على راحلته خطبة بديعة؛ قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، وغير ذلك من الأحكام، وكانت خطبة واحدة، لم تكن خطبتين يجلس بينهما.
وقال في " الحجة ": " إنما خطب يومئذ بالأحكام التي يحتاج الناس إليها، ولا يسعهم جهلها؛ لأن اليوم يوم اجتماع، وإنما تنتهز مثل هذه الفرصة لمثل هذه الأحكام، التي يراد تبليغها إلى جميع الناس ". انتهى.
( [الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة ويصلي المغرب والعشاء جمع تأخير] :)
(ثم يفيض من عرفة ويأتي المزدلفة ويجمع فيها بين العشاءين) المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ولا يسبح (1) ههنا؛ كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
( [المبيت في المزدلفة ويصلي الفجر فيها] :)
(ثم يبيت بها) : قال النحاس: إن كثيرا من الحجاج لا يقف بالمزدلفة،
__________
(1) أي: لا يصلي نافلة. (ش)(2/102)
وإن وقف فلا يبيت، وهذه بدعة يجب على الأمير، ومن قدر أن يمنع منها؛ لأن من ترك المبيت بالمزدلفة وجب عليه إراقة دم في الأظهر.
وذهب ابن خزيمة، وجماعة من العلماء إلى أن المبيت بها ركن.
فعلى هذا إذا تركه فسد (1) حجه، ولا يجبر بدم ولا بغيره، وشرط المبيت أن يكون في ساعة من النصف الثاني من الليل، فلو رحل قبله لم يسقط عنه الدم، ولو عاد إليها قبل الفجر سقط. انتهى.
(ثم يصلي الفجر) حتى يتبين له الصبح بأذان وإقامة.
( [الوقوف في المشعر مع ذكر الله] :)
(ويأتي المشعر) الحرام.
تركهم السنة في الوقوف بالمشعر الحرام بدعة أيضا، ويستقبل القبلة.
(فيذكر الله عنده) ويدعوه ويكبره ويهلله ويوحده.
أقول: وما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا؛ لأنه - مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم ومندرجا تحت قوله: " خذوا عني مناسككم " - فيه
__________
(1) • والدليل ما أخرجه الترمذي - وقال: " حسن صحيح " - مرفوعا: " من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه ".
وهذا مذهب ابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما، وتمام البحث انظره في " زاد المعاد " (ج 1 / ص 314) ؛ وقد ذكرت في " التعليقات " عليه (4 / 145) ما يستفاد منه أن الحديث ليس دليلا على ذلك؛ بدليل ذكر الصلاة فيه؛ فإن هذا ليس ركنا اتفاقا؛ فراجعه. (ن)(2/103)
أيضا النص القرآني بصيغة الأمر: {فاذكروا (1) الله عند المشعر الحرام} .
(ويقف به) ؛ والوقوف هو النسك الرابع من مناسك الحج.
(إلى قبل طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن محسر) ؛ وهو محل هلاك أصحاب الفيل، وبرزخ بين المزدلفة ومنى ليس من هذه ولا هذه، فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن، ويهرب من الغضب.
( [ترمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس] :)
(ثم يسلك الطريق الوسطى) بين الطريقين (إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة) ؛ مثل حصى الخذف.
(ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس) ؛ وإنما كان رمي الجمار يوم الأول غدوة، وفي سائر الأيام عشية؛ لأن من وظيفة الأول النحر والحلق والإفاضة، وهي كلها بعد الرمي، ففي كونه غدوة توسعة.
وأما سائر الأيام: فأيام تجارة وقيام أسواق، فالأسهل أن يجعل ذلك بعد
__________
(1) • أي: اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام - ويسمى جمعا -؛ لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة.
وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها - أي: دنا منها -، وبه سميت المزدلفة.
ويجوز أن يقال: سميت بفعل أهلها؛ لأنهم يزدلفون إلى الله - أي: يتقربون بالوقوف فيها -.
وسمي مشعرا؛ من الشعار وهو العلامة؛ لأنه معلم للحج، والصلاة، والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته؛ كذا في " تفسير القرطبي " (2 / 421) . (ن)(2/104)
ما يفرغ من حوائجه، وأكثر ما كان الفراغ في آخر النهار.
( [الترخيص للضعفاء بالرمي بعد منتصف ليلة النحر] :)
(إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك) .
( [يحلق رأسه أو يقصره] :)
(ويحلق رأسه) (1) : فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة (أو يقصره) ؛ وهو النسك الخامس.
(فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق، أو ذبح، أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فلا حرج) .
( [المبيت بمنى ليالي التشريق] )
(ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق) ؛ وهو النسك السادس.
والحاصل: أن المبيت بمنى ليس بمقصود في ذاته؛ إنما هو لأجل الرمي المشروع؛ لأنه فعل، والزمان والمكان من ضرورياته، فالحق ما قاله الحنفية وبعض الشافعية؛ من عدم وجوبه في نفسه (2) .
__________
(1) • أي: الرجل، والمرأة تقصر فقط؛ لقوله عليه السلام: " ليس على النساء الحلق؛ إنما على النساء التقصير "؛ وهو حديث صحيح الإسناد، كما بينته في " التعليقات (4 / 167) . (ن)
(2) • قلت: هذا خلاف ما سبق تقريره من المصنف؛ أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج الوجوب، وما ذكره هنا من الدليل على أن المبيت غير واجب؛ إنما هو رأي لا دليل عليه من السنة، بل السنة تخالفه وتشهد لهذا الأصل، وهو ما صححه الترمذي وغيره عن عاصم بن عدي: أن رسول(2/105)
( [يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بسبع حصيات بالترتيب] :)
(ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات مبتدئا بالجمرة الدنيا، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة) : لما أخرج أحمد، وأهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني من حديث عبد الرحمن بن يعمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديا فنادى: " الحج عرفة ".
وأخرج أحمد، وأبو داود عن ابن عمر، قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة، فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذين ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر؛ راح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة.
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر، قال: لما كان يوم التروية؛ توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا، حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش
__________
الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى ... الحديث، وقد خرجته وصححته في " التعليقات " (7 / 4) .
وفي " البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته.
قال الحافظ: " وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التيسير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها؛ لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور ".
ونقله الشوكاني في " النيل " (5 / 68) ، لكنه لم يعزه إليه؛ فدل على أنه يرى الوجوب خلافا للشارح؛ وهو الحق! (ن)(2/106)
أنه واقف عند المشعر الحرام؛ كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء (1) ؛ فرُحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ".
وفي " صحيح مسلم " من حديث أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عشية عرفة، وغداة جمع للناس حين دفعوا: " عليكم السكينة "؛ وهو كاف ناقته، حتى دخل محسرا.
وفي حديث جابر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئا، ثم اضطجع، حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا (2) ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع
__________
(1) اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ش)
(2) • يعني: وأسرع السير؛ كما جاء مصرحا به في بعض الأحاديث، كما أشرت إلى ذلك في " التعليقات " (4 / 150) .
قال في " الزاد " (1 / 315) : " وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه؛ فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا؛ ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر؛ لأن الفيل حسر فيه - أي: أعيى - وانقطع عن الذهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحجر، وديار ثمود؛ فإنه تقنع بثوب، وأسرع السير ". (ن)(2/107)
حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف؛ رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر.
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، قال: رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد؛ فإذا زالت الشمس.
وفيهما أيضا من حديث ابن مسعود: أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة.
وفي رواية: حتى انتهى إلى جمرة العقبة.
وفي " الصحيحين " (1) وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: أنا ممن قدّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله.
وفيهما (2) أيضا من حديث عائشة، قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة (3) ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل.
وفي الباب أحاديث.
وفي " صحيح مسلم "، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: " خذ "، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس.
__________
(1) • رواه البخاري (3 / 414) . (ن)
(2) • رواه البخاري (3 / 415 - 416) . (ن)
(3) بفتح الثاء المثلثة، وكسر الباء الموحدة؛ أي: بطيئة الحركة؛ لعظم جسمها. (ش)(2/108)
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم {اغفر للمحلقين "، قالوا: يا رسول الله} وللمقصرين؟ {قال: " اللهم} اغفر للمحلقين "، قالوا: يا رسول الله {وللمقصرين؟} قال: " اللهم {اغفر للمحلقين "، قالوا: يا رسول الله} وللمقصرين؟ {قال: " وللمقصرين ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رميتم الجمرة؛ فقد حل لكم كل شيء؛ إلا النساء " (1) .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله} حلقت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج ".
وفي رواية فيهما: فما سئل عن شيء؛ إلا قال: " افعل ولا حرج ".
وأخرج أحمد من حديث علي، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! حلقت قبل أن أنحر؟ قال: " انحر ولا حرج "، ثم أتاه آخر فقال: إني أفضت
__________
(1) • قلت: تبع الشارح - في عزوه لأبي داود - الشوكاني في " النيل " (5 / 60) ، وأنا فتشت عنه في " سننه "، فلم أجده من حديث ابن عباس، وإنما رواه (1 / 310) من حديث عائشة؛ وأعله بالانقطاع.
ويبدو لي أنه ليس عنده من حديث ابن عباس؛ فإن الزيلعي في " نصب الراية " (3 / 81) لم يعزه إلا للنسائي، وابن ماجه، وهو في " المسند " (رقم 2090) ؛ وهو منقطع أيضا، لكن أحدهما يقوي الآخر؛ سيما وقد جاء من حديث أم سلمة بسند حسن - إن شاء الله تعالى -؛ فراجع " نصب الراية ". (ن)(2/109)
قبل أن أحلق؟ قال: " احلق - أو قصر - ولا حرج ".
وفي لفظ للترمذي - وصححه -، قال: إني أفضت قبل أن أحلق؟
وفي " الصحيحين " وغيرهما عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير؟ فقال: " لا حرج ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم من حديث عائشة، قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات؛ يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، وعند الثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة لا يقف عندها.
وعن ابن عباس، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -.
وفي " البخاري " عن ابن عمر، قال: كنا نتحين؛ فإذا زالت الشمس رمينا.
وأخرج الترمذي - وصححه - من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها، ذاهبا وراجعا.
وفي لفظ عنه: أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا، وسائر ذلك ماشيا، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، وابن عمر: أن العباس استأذن(2/110)
النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقايته؟ فأذن له.
وفي " البخاري "، و " أحمد " من حديث ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل (1) ، فيقوم مستقبل القبلة طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث عاصم ابن عدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النفر.
وأخرج أحمد (2) ، والنسائي عن سعد بن مالك، قال: رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست حصيات، ولم يعب بعضهم على بعض؛ ورجاله رجال الصحيح.
( [تستحب الخطبة يوم النحر] )
(ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم) بعد الزوال خطبتين خفيفتين
__________
(1) • أي: يقصد السهل من الأرض. (ن)
(2) • في " المسند " (رقم 1439) ؛ وسنده صحيح على شرط الشيخين.
لكن الحديث لا يكون دليلا بمجرد ترك إنكار الصحابة على بعضهم بعضا؛ إلا أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على شيء من ذلك وقرره؛ كذا في " النيل " (5 / 70) .
ثم الحديث في " النسائي " (2 / 51) ، ورواه البيهقي أيضا (5 / 149) ؛ وأعله ابن التركماني بالانقطاع بين مجاهد وسعد؛ فراجع. (ن)(2/111)
قائما، والأخيرة أخف، ويجلس بينهما كالجمعة (1) ؛ يعلم فيهما المناسك إلى اليوم الثاني، وإذا زالت الشمس اغتسل، إن أحب.
(يوم النحر) : لحديث الهرماس بن زياد، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود (2) .
وأخرج نحوه أبو داود (3) أيضا من حديث أبي أمامة.
وأخرج نحوه هو، والنسائي من حديث عبد الرحمن بن معاذ التيمي.
وأخرجه البخاري (4) ، وأحمد من حديث أبي بكرة، وفيه أنه قال: " فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بدلكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ {"، قالوا: نعم، قال: " اللهم} اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب؛ فربّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض ".
( [تستحب الخطبة في وسط أيام التشريق] :)
(و) يستحب الخطبة (في وسط أيام التشريق) : لحديث سراء بنت نبهان،
__________
(1) • لم أجد هذا منصوصا عليه في شيء من الأحاديث التي وقفت عليها؛ ويؤيد ذلك أن البيهقي لما عقد بابا خاصا لخطبة العيدين، والجلوس بين الخطبتين؛ لم يسق لذلك حديثا؛ بل قال: " قياسا على خطبتي الجمعة ". (ن)
(2) • وسنده صحيح؛ كما في " التعليقات " (4 / 153) . (ن)
(3) • والبيهقي (5 / 140) ؛ وانظر " التعليقات " (4 / 154) . (ن)
(4) • انظر " التعليقات " (4 / 152) ، وهو في " البخاري " (2 / 191 - طبع دار الطباعة العامرة) . (ن)(2/112)
قالت: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الرؤوس (1) ، فقال: " أي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " أليس أوسط أيام التشريق؟ ! "؛ أخرجه أبو داود، ورجاله رجال الصحيح (2) .
وأخرج نحوه أحمد من حديث أبي بصرة؛ ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج نحوه أبو داود عن رجلين من بني بكر.
فتضمنت حجته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث خطب: يوم عرفة، ويوم النحر، وثاني أيام التشريق.
قال الماتن - رحمه الله - في " حاشية الشفاء ": " الخطب المشروعة في الحج أربع؛ كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة؛ وقد بيناها في " شرح المنتقى " (3) ؛ فليرجع إليه ". انتهى.
( [طواف الإفاضة ركن] :)
(ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النحر) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى.
__________
(1) سمي بذلك لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي. (ش)
(2) • وحسنه الحافظ في " بلوغ المرام ". (ن)
(3) • تقدمت الثلاث؛ والرابعة؛ يوم السابع من ذي الحجة، وقد عقد لها البيهقي بابا؛ فانظر " سننه " (5 / 111) . (ن)(2/113)
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر نحوه (1) .
والمراد بقوله: أفاض؛ أي: طاف طواف الإفاضة.
قال النووي: وقد أجمع (2) العلماء أن هذا الطواف - وهو طواف الإفاضة - ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به، واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق، فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه، ولا دم عليه بالإجماع.
قال صاحب " سبل السلام ": " طواف الزيارة - ويقال له: طواف الصدر، ويسمى طواف الإفاضة -؛ طاف صلى الله عليه وسلم ولم يطف غيره، ولم يسع (3) ، وتضمنت حجته رفع يديه للدعاء ست مرات: الأولى: على الصفا، الثانية: على المروة، الثالثة: بعرفة، الرابعة: بمزدلفة، الخامسة: عند الجمرة الأولى، السادسة: عند الجمرة الثانية ". انتهى.
أقول: الأدلة تدل على عدم وجوب طواف الزيارة على التعيين، فضلا عن كونه ركنا من أركان الحج التي لا يصح بدونها، فعلى المجتهد أن يبحث
__________
(1) • قلت: لكن فيه أنه صلى الظهر بمكة، وقد اختلف في التوفيق بينهما:
فقيل: إنه صلى إماما في الموضعين.
وقيل: إنه صلى في منى مع أصحابه متنفلا.
ولم يرتض ذلك ابن القيم؛ بل رجح حديث ابن عمر؛ لأنه متفق عليه.
انظر " الزاد " (1 / 326 - 327) ، و " النيل " (5 / 61) . (ن)
(2) • نقل هذا الإجماع الإمام المهدي في " البحر "؛ كما في " النيل ".
قلت: ونقله أيضا ابن حزم في " المراتب " (ص 49) ، وأقره ابن تيمية. (ن)
(3) • يعني: لأنه كان - عليه السلام - قارنا؛ وإلا فقد طاف طواف القدوم وأيضاً، وكذا طواف الوداع. (ن)(2/114)
عن المسائل التي قلد فيها الآخر الأول، وجعل عليها سورا لا يستطيع صعوده من كان هيابا للقيل والقال، ومخبوطا بأسواط آراء الرجال، وهو دعوى الإجماع؛ فإن ما كان كذلك؛ قل أن يكشف عن أصله ومستنده؛ إلا من كان من الأبطال المؤهلين للنظر في الدلائل، الفارقين بين العالي منها والسافل؛ {وقليل ما هم} ؛ بل هم أقل من القليل، والله المستعان.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وغيرهما من حديث عائشة: أنه قال لها: " طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة؛ يكفيك لحجك وعمرتك ".
وأخرج الشيخان (1) وغيرهما من حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعي واحد "؛ واللفظ للترمذي.
وهذا يدل على أن الواجب ليس إلا طواف واحد لا ثلاثة: طواف القدوم، والزيارة، والوداع.
ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر: أنه حج، فطاف بالبيت ولم يطف طوافا غير ذلك (2) .
__________
(1) • ليس هو في " الصحيحين " مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هو في " مسلم " (4 / 51) موقوف على ابن عمر، وسأذكر لفظه قريبا، وهو في " البخاري " بنحوه.
وأما المرفوع؛ فهو عند الترمذي وغيره، وقد تقدم. (ن)
(2) • لقد تتبعت ألفاظ هذا الحديث في " البخاري " (3 / 389 - 433، 4 / 4 - 5، 9 - 10) ، و " مسلم " (4 / 51 - 52) ، فلم أر فيهما هذا اللفظ الذي أورده الشارح، وكأنه نقله بالمعنى!
وهو تساهل منه، لا سيما وقد زاد فيه - بناء على فهمه -: ولم يطف طوافا غير ذلك؛ ولا أصل لهذه الزيادة عندهما.
والناظر في ألفاظهما بتأمل؛ يتبين له خلاف ما قاله الشارح؛ ذلك لأن ابن عمر كان قارنا، كما =(2/115)
( [طواف الوداع واجب] :
__________
= قال في رواية لهما: إني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديا، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتى حل منها بحجة يوم النحر - زاد مسلم -، وكان يقول: من جمع بين الحج والعمرة؛ كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعا.
فأنت ترى أنه ليس فيه نفي طواف الإفاضة والوداع، بل قصده بيان أن القارن يكتفي أن يطوف لقدومه طوافا واحدا لحجه وعمرته.
نعم؛ في بعض الروايات عنه ما يدل - بظاهره - على ما ذهب إليه الشارح، وهو قوله بعد قول نافع: فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم؛ حتى كان يوم النحر؛ فنحر، وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الحافظ (4 / 5) : " وهذا ظاهره أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وهو مشكل ".
قلت: لكن هذا الظاهر غير مراد من الحديث، والدليل قوله فيه: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه من المعلوم أنه عليه السلام كان في حجه قارنا، وأنه طاف لذلك طوافا واحدا، ثم طاف طواف الإفاضة، ثم طواف الوداع؛ كما ورد عن جمع من الصحابة؛ منهم ابن عمر نفسه، في " البخاري " (3 / 424 - 426) وغيره. [فإذا حمل] قوله في الحديث: كذلك فعل رسول الله على اكتفائه بطوافه الأول عن ما بعده من الإفاضة والوداع - كما فهم الشارح واستشكله الحافظ -؛ تناقض حديثاه، وذا لا يجوز؛ فوجب حمله على معنى لا يختلف مع حديثه الآخر، وليس هو إلا ما ذكرناه من اكتفائه لقدومه بطواف لحجه وعمرته، لا الاكتفاء به عما بعده من الطواف.
وبعد؛ فإن البحث يحتمل الزيادة، ولكن المجال ضيق، فنكتفي بهذا.
ولا بد من التنبيه على أمرين آخرين:
الأول: أن احتجاج المؤلف بحديث عائشة؛ هو مثل احتجاجه بحديث ابن عمر؛ أعني أن عائشة كانت قارنة، وأيضا فإنها كانت حائضا حين قدمت مكة، فلم تستطع أن تطوف حتى قضت مناسكها كلها؛ كما في " البخاري " وغيره، فلا يقاس بها الرجال، والنساء الطاهرات؛ كما لا يخفى.
والأمر الآخر: أنه قد فاته الدليل على وجوب طواف الزيارة؛ وهو قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} ؛ وهو طواف الإفاضة؛ كما جزم به الشوكاني في " النيل "، (5 / 61) وكذا ابن كثير وغيره. (ن)(2/116)
(وإذا فرغ من أعمال الحج طاف للوداع) : لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحد؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت ".
وفي لفظ للبخاري، ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
وفي الباب أحاديث.
وإلى وجوب طواف الوداع: ذهب الجمهور.
وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو سنة، لا شيء في تركه.
قال في " الحجة ": " والسر فيه تعظيم البيت أن يكون هو الأول، وهو الآخر، تصويرا لكونه هو المقصود من السفر، وموافقة لعادتهم في توديع الوفود ملوكها عند النفر ".
وقال في " سبل السلام ": " ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الوداع ليلا سحرا، ولم يرمل في هذا الطواف، وصلى الفجر بالحرم، وقرأ ب {الطور} ، ثم نادى بالرحيل، فارتحل راجعا إلى المدينة، فلما أتى ذا الحليفة بات بها، فلما رأى المدينة كبر ثلاثا، وقال: " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، ثم دخلها نهارا ". انتهى.(2/117)
( [الفصل السابع: أفضل أنواع الهدي] )
(1 -[البدنة] :)
(والهدي) : لقوله - تعالى - {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} ، واتفق أهل العلم على أن الهدي مستحب للحاج المفرد والمعتمر المفرد، وواجب على المتمتع والقارن، وعلى من وجب عليه جزاء العدوان على الإحرام، ويعتبر في الهدايا ما يعتبر في الضحايا.
(أفضله البدنة) : لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي البدن، ولأنها أنفع للفقراء.
(2 -[البقرة] ، 3 -[الشاة] :)
(ثم البقرة ثم الشاة) : لأن البقرة أنفع بالنسبة إلى الشاة؛ وهذا إذا كان الذي يهدي البدنة والبقرة واحدا.
أما إذا كانوا جماعة بعدد ما تجزئ عنه البدنة والبقرة؛ فقد وقع الخلاف، هل الأفضل سُبع البدنة أو البقرة، أم الشاة عن الواحد؟
والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء.
( [البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة] :)
(وتجزئ البدنة والبقرة عن سبع) : لحديث جابر في " الصحيحين " وغيرهما، قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك(2/118)
في الإبل والبقر؛ كل سبعة منا في بدنة.
وفي لفظ لمسلم: فقيل لجابر: أيُشترك في البقر ما يُشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن.
وأخرج أحمد، وابن ماجه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: إن علي بدنة، وأنا موسر ولا أجدها؛ فأشتريها؟ فأمره صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن؛ ورجاله رجال الصحيح (1) .
ولا يعارض هذا حديث ابن عباس عند أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه (2) - قال: كنا في سفر، فحضر الأضحى، فذبحنا البقرة عن سبعة، والبعير عن عشرة.
وكذلك لا يعارضه ما في " الصحيحين " من حديث رافع بن خديج: أنه صلى الله عليه وسلم قسم، فعدل (3) عشرا من الغنم ببعير:
لأن تعديل البدنة بسبع شياه هو في الهدي، وتعديلها بعشر هو في الأضحية والقسمة.
__________
(1) • قلت: ومع ذلك؛ فإن سنده غير صحيح؛ فإنه من رواية ابن جريح؛ قال: قال عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
وهذا منقطع بين ابن جريج وعطاء، وبين هذا وابن عباس؛ فإنه لم يسمع منه، وابن جريج مدلس ولم يصرح بالسماع.
والحديث في " السنن " (2 / 274 - 275) ، و " المسند " (رقم 2840، 2853) . (ن)
(2) • قلت: وسنده صحيح؛ كما بينته في " التعليقات " (4 / 160) . (ن)
(3) العدل والتعديل بين الشيئين: التسوية. (ش)(2/119)
وقد ذهب الجمهور إلى أن عدل البدنة في الهدي سبع شياه.
وادعى الطحاوي وابن رشد (1) أنه إجماع؛ ولا تصح هذه الدعوى فالخلاف مشهور.
( [يجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه] :)
(ويجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه) : لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة (2) ، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل هو وعلي من لحمها، وشربا من مرقها؛ أخرجه أحمد، ومسلم.
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة: أنه دخل عليها يوم النحر بلحم بقر، فقالت: ما هذا؟ فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه.
قال النووي: " وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة ". انتهى.
والظاهر أنه لا فرق بين هدي التطوع وغيره؛ لقوله - تعالى -: {فكلوا منها} .
( [يجوز للمهدي أن يركب على هديه] :)
(ويركب عليه) ، أي: المهدي على هديه؛ لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يسوق بدنة، فقال: " اركبها "،
__________
(1) • في " البداية " (1 / 347) ، وراجع " التعليقات " (4 / 158) . (ن)
(2) البضعة - بفتح الباء لا غير -: هي القطعة من اللحم. (ش)(2/120)
فقال: إنها بدنة؟ قال: " اركبها "، قال: إنها بدنة؟ قال: " اركبها ".
وفيهما نحوه من حديث أبي هريرة.
وأخرج أحمد، ومسلم من حديث جابر: أنه سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهرا ".
( [يندب إشعار الهدي وتقليده] :)
(ويندب له إشعاره وتقليده) (1) : لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته، فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " قالوا: إنها خلاف الأصول؛ إذ الإشعار مثلة، ولعمر الله؛ إن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة {وما ضرها ذلك شيئا، والمثلة المحرمة هي العدوان، لا يكون عقوبة، ولا تعظيما لشعائر الله، فأما شق صفحة سنام البعير المستحب أو الواجب ذبحه، ليسيل دمه قليلا، فيظهر شعار الإسلام، وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى الله وفق الأصول؛ وأي كتاب أو سنة حرم ذلك حتى يكون خلافا للأصول؟} وقياس الإشعار على المثلة المحرمة من أفسد قياس على وجه الأرض؛ فإنه قياس ما يحبه الله ويرضاه على ما يبغضه ويسخطه وينهى عنه؛ ولو لم يكن في حكمة الإشعار
__________
(1) • انظر " التعليقات " (4 / 52 - 53) . (ن)(2/121)
إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها، وعلم الناس بأن هذه قرابين الله - عز وجل - تساق إلى بيته، تذبح له، ويتقرب بها إليه عند بيته، كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته، عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها، فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده، وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار، ليعلو دينه على كل دين: فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها؛ ولله الحمد ".
( [بيان حكم من بعث بهديه] :)
(ومن بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي من المدينة، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم.
أقول: هذا آخر كلام الماتن على أحكام الحج.
( [بيان حكم الحج عن الميت] :)
وأما الحج عن الميت والاستئجار له؛ فاعلم أن الحج من الواجبات المتعلقة ببدن المكلف، والظاهر في الواجبات البدنية أنها لا تلزم بعد رفع قلم التكليف، وانتقال المكلف من هذه الدار التي هي دار التكاليف إلى دار الآخرة؛ لأنه لم يبق من طلب منه الفعل، فمن قال: إنه يلزم الميت الإيصاء بشيء من الواجبات البدنية بأن يفعل عنه غيره بعد موته؛ لم يقبل إلا بدليل.
أو قال: من تبرع عن ميت بفعل واجب بدني أجزأه؛ لم يقبل ذلك منه إلا بدليل.(2/122)
وقد ورد الدليل في أمور، منها الصوم؛ لحديث: " من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه "، ولكن ليس في هذا الحديث وجوب على الميت، بل الإيجاب على الولي (1) ، وغاية ما يستفاد من قوله: " صام عنه "؛ أنه يجزىء ذلك الصوم عن الميت.
وأما الحج؛ فلم يرد ما يدل على وجوب الوصية على الميت به، بل ورد ما يدل على وقوع الحج من القريب عن قريبه الميت؛ كما في حديث من نذرت أخته أن تحج، فماتت قبل أن تحج (2) ، وكذلك ورد ما يدل على وقوع الحج من الولد لأبيه، إذا كان في الحياة عاجزا عن الإتيان بالفريضة؛ كما في خبر الخثعمية.
__________
(1) وليس فيه أيضا إيجاب على الولي كما قدمنا. (ش)
• ولكن الحديث الذي أفاده ذلك ضعيف؛ كما قدمناه أيضا (ص 23) . (ن)
(2) • روى البخاري (11 / 495) ، والبيهقي (5 / 179) من حديث ابن جبير، عن ابن عباس، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كان عليها دين؛ أكنت قاضيه؟ "، قال: نعم، قال: " فاقض لله؛ فهو أحق بالقضاء ".
لكن ذكر الأخت في الحديث شاذ؛ ففي رواية أخرى للبخاري (4 / 52) وغيره من هذا الوجه: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت ... الحديث.
قال الحافظ تحت هذه الرواية: " كذا رواه أبو بشر، عن سعيد بن جبير، من رواية أبي عوانة عنه، وسيأتي في (النذور) من طريق شعبة، عن أبي بشر، بلفظ: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت ... ، فإن كان محفوظا؛ احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها ... ".
ثم إن في الحديث اختلافا آخر؛ وهو: هل السائل والمسؤول عنه رجل أو امرأة؟ وقد ساق الحافظ طرق الحديث وألفاظه، وبين ما فيها من الاختلاف، ثم قال:
" والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق: أن السائل رجل، وكانت ابنته معه، فسألت أيضا، والمسؤول عنه؛ أبو الرجل وأمه معا ". (ن)(2/123)
وأما إيجاب الوصية بالحج، أو أنه يجزىء من كل أحد عن كل ميت: فلا دليل على ذلك فيما أعلم.
نعم؛ إذا أوصى بالحج بنصيب من ماله؛ فقد جعل الله له ثلث ماله في آخر عمره يتصرف به كيف يشاء؛ ما لم يكن ضرارا؛ فالموصي بالحج كأنه أوصى بنصيب من ماله المأذون له بالتصرف في ثلثه، فيجب امتثال وصيته.
وأما كون ذلك يسقط الواجب على الميت؛ فمحل تردد عندي، ولا سيما إذا كان الذي حج عنه ليس من قرابته (1) ؛ فإن القرابة لها تأثير في القيام ببعض الواجبات البدنية من الحي عن الميت؛ كما في حديث: " صام عنه وليه "، وكما في حديث الذي نذرت أخته أن تحج.
وأما حديث: " حج عن نفسك، ثم عن شبرمة " (2) : فهو - وإن كان في بعض " السنن " -؛ لكن لم يصرح فيه بأن الملبي عن شبرمة كان أجنبيا عنه، بل ورد في رواية: وهو أخ له أو صديق؛ ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال.
وفي لفظ؛ أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من شبرمة؟ "، قال: أخ لي أو قريب لي؛ وقد أخرج هذه الرواية البيهقي.
والظاهر: أن اعتناءه به، وتلبيته عنه، وطيبة نفسه بأن يكون حجه له؛
__________
(1) • قلت: ولا سيما إذا كان المحجوج عنه مقصرا في حياته؛ أعني أنه استطاع أن يحج، ولم يحج. (ن)
(2) • قلت: هذا الحديث قد اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه، والحق؛ أنه صحيح لطرقه وشواهده؛ وقد جمعتها في رسالة. (ن)(2/124)
للقرابة بينهما؛ إذ من البعيد أن يفعل ذلك لغير من بينه وبينه قرابة؛ ثم ليس في الحديث أن شبرمة هذا قد كان مات إذ ذاك.
وأما ما رواه الثعلبي في " تفسيره " بلفظ: " من أوصى بحجة؛ كانت أربع حجج، وحجة للذي كتبها "؛ فمع كونه غير مرفوع؛ لا يدرى كيف إسناده؟ والثعلبي ليس من أهل الرواية، فقد روى في " تفسيره " الموضوعات.
وقد أخرج البيهقي مثل ما ذكره عن جابر مرفوعا، كما ذكره صاحب التخريج؛ فينظر في سنده؛ فما أظنه يصح (1) .
والحاصل: أن هذا البحث طويل الذيول، متشعب الحجج والنقول، فمن رام العثور على الصواب؛ فعليه ب " الفتح الرباني فتاوى الشوكاني "، و " دليل الطالب على أرجح المطالب "؛ لهذا العبد الضعيف.
وليس مقصودنا هنا إلا التنبيه على الحق الحقيق بالقبول؛ وإن أباه أكثر العقول.
وحديث: " فدين الله أحق أن يقضى "؛ ليس المراد به دفع الأجرة لمن
__________
(1) • قلت: قد أصاب - رحمه الله -؛ فإنه عند البيهقي (5 / 180) من طريق أبي معشر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر؛ بلفظ آخر؛ وقال: " أبو معشر - هذا -؛ نجيح السندي: مدني ضعيف ".
وفيه علة أخرى؛ من أجلها أورده ابن الجوزي في " الموضوعات "، ولكنها في الحقيقة ليست بعلة؛ انظر كلامنا على الحديث: " إن الله يدخل بالحجة الواحدة. . " في كتابي " معجم الحديث ".
وقد رواه البيهقي من حديث أنس أيضا، ولفظه أقرب إلى لفظ الثعلبي، وصرح بضعف إسناده؛ وقد أوردته في الكتاب المشار إليه، فأغنى عن إعادته. (ن)(2/125)
يحج، بل المراد أن الحج عن الوالد يصح من الولد؛ كما يصح منه قضاء الدين.
ولا يرد على هذا أن اللفظ عام والاعتبار به؛ لأنا نقول: العموم ليس هو إلا باعتبار فعل فريضة الحج، لا باعتبار دفع المال لمن يحج؛ فهذا لم يرد به دليل، فعرفت بهذا أن ما يوصي به الميت من أجرة من يحج عنه؛ يكون خارجا من ثلثه المأذون به له.
وأما من قال بوجوب الوصية على من لم يحج؛ فكان قياس قوله؛ أن تكون الأجرة الموصى بها من رأس المال؛ لأن وجوب الوصية فرع وجوب الأجرة في مال الموصي، ولا فرق بين وجوب مثل الأجرة من ماله، وبين وجوب مثل الزكاة.
وأما ما يذكرونه من الفرق بين ما يتعلق بالمال ابتداء وانتهاء، وبين ما يتعلق بالبدن ابتداء وبالمال انتهاء: فشيء لا مستند له، ولا معول عليه.(2/126)
(2 - باب العمرة المفردة)
وقد تقدمت صفتها.
( [يحرم للعمرة من الميقات] :)
(يحرم لها من الميقات) ، أي: كالتنعيم؛ لأن الإحرام لها كالإحرام للحج، وقد تقدمت الأدلة في ذكر المواقيت؛ فإنها للحج والعمرة.
( [من كان في مكة يحرم للعمرة من الحل] :)
(ومن كان في مكة خرج إلى الحل) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج عائشة إلى التنعيم، فتحرم للعمرة منه.
(ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر) ، ولا خلاف في ذلك.
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جماعة من الصحابة: أنه أمر من لم يكن معه هدي بالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، فمن فعل ذلك؛ فقد حل الحل كله؛ فواقعوا النساء بعد ذلك.(2/127)
( [العمرة مشروعة في جميع أيام السنة] :)
(وهي مشروعة) :
في " العالمكيرية ": العمرة عندنا سنة، وليست بواجبة.
وللشافعي قولان: أظهرهما أنها فرض، والثاني: سنة.
أقول: ولم يأت من قال بوجوبها بدليل ينتهض للوجوب، بل كل ما روي في ذلك متكلم عليه، مع أنه معارض بأحاديث أوردها من قال بعدم الوجوب مصرحة بذلك، وهي لا تخلو عن مقال.
والواجب العمل على البراءة الأصلية، حتى يرد ناقل ينقل عنها، ولم يأت إلا ما يفيد مطلق المشروعية، لا المقيدة بالوجوب.
فالحق ما قاله من ذهب إلى عدم الوجوب.
(في جميع السنة) : لحديث عائشة عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة؛ إلا التي اعتمر مع حجته.
ومن ذلك عمرة عائشة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم؛ فإن ذلك كان مع حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أهل الجاهلية يحرمون العمرة في أيام الحج، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم واعتمر، وأمر بالعمرة فيها.(2/128)
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عمرة في رمضان تعدل حجة ".
أقول: ثبت اعتماره صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج، بل روي أن عمَرَه كلها كانت في أشهر الحج، وإنما فعل ذلك لقصد الرد على المشركين؛ فإنهم كانوا يرونها في أشهر الحج من أفجر الفجور.
وأما تعليل بعض الفقهاء للكراهة بأن العمرة تشغل عن أعمال الحج: فليست أعمال الحج بمستغرقة لشوال والقعدة وبعض الحجة؛ بل هي في بعض أيام ذي الحجة؛ فما بال من ذهب إلى كراهة العمرة في أشهر الحج، وخالف هدي محمد صلى الله عليه وسلم؟ !
والحاصل: أن هذا ونحوه صنيع من لا يدري بالمدارك؛ خفيها وجليها، والله المستعان.
ومن أراد الاطلاع على تفصيل أحكام الحج والعمرة على الوجه الثابت المأثور: فليرجع إلى منسكنا " رحلة الصديق إلى البيت العتيق "، وإلى كتابنا " مسك الختام شرح بلوغ المرام ".(2/129)
(الكتاب الثامن: كتاب النكاح)(2/131)
(8 - كتاب النكاح)
( [الفصل الأول: أحكام الزواج] )
( [تعريف النكاح] :)
قال الزمخشري في " الكشاف ":
" النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له، ونظيره تسمية الخمر إثما؛ لأنها سبب في اقتراف الإثم ". انتهى.
ولا ينافي هذا كثرة ورود النكاح في القرآن بمعنى العقد؛ حتى قال في " الكشاف ":
" إنه لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأن الكثرة ليست من خواص الحقيقة، ولا مخرجة للمجاز عن كونه مجازا، كما تقرر في موضعه ".
على أن دعوى الكلية التي ذكرها صاحب " الكشاف " ممنوعة؛ فإن قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} لا يصح أن يراد به العقد؛ كما دل عليه الدليل من السنة، وذهب إليه جماهير الأمة، وكذلك ما ورد في كتاب الله من ألفاظ النكاح للمملوكات لا يكون إلا للوطء؛ إذ لا عقد هناك.(2/133)
وبالجملة؛ فمعنى النكاح حقيقة: الوطء، ومجازا: العقد؛ كما صرح به الزمخشري، وهو أقعد بمعرفة اللغة من غيره؛ لا سيما التمييز بين المعاني الحقيقية والمجازية؛ فإنه المرجوع إليه في ذلك دون غيره ممن صارت مؤلفاتهم الآن متداولة بين أهل هذه العصور؛ كما لا يخفى على فطن.
( [لمن يشرع الزواج؟] )
(يشرع لمن استطاع الباءة) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء (1) ".
والمراد بالباءة: النكاح.
والأحاديث الواردة في الترغيب في النكاح كثيرة.
وقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} .
__________
(1) الباءة: الجماع؛ يعني: من استطاع منكم الجماع؛ لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النكاح -؛ فليتزوج.
والوجاء - بكسر الواو -: الوجء؛ وهو أن ترض أنثيا الفحل رضا شديدا يذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي؛ قاله في " اللسان ". (ش)(2/134)
( [على من يجب الزواج؟] :)
(ويجب على من خشي الوقوع في المعصية) ؛ لأن اجتناب الحرام واجب، وإذا لم يتم الاجتناب إلا بالنكاح كان واجبا.
وعلى ذلك تحمل الأحاديث المقتضية لوجوب النكاح؛ كحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما، أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلي ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ ! لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
وأخرج ابن ماجة، والترمذي من حديث الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل.
قال الترمذي: إنه حسن غريب.
قال: وروى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن، عن سعد ابن هشام، عن عائشة.
ويقال: كلا الحديثين صحيح. انتهى.
وفي سماع الحسن عن سمرة مقال معروف.
وأخرج النهي عن التبتل: أحمد، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أنس.(2/135)
وأخرج ابن ماجة من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" النكاح من سنتي؛ فمن لم يعمل بسنتي فليس مني ".
( [التبتل حرام] :)
(والتبتل غير جائز) : لما تقدم.
وقد رد صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون.
وكانت المانوية والمترهبة من النصارى يتقربون إلى الله بترك النكاح، وهذا باطل؛ لأن طريقة الأنبياء - عليهم السلام - التي ارتضاها الله تعالى للناس: هي إصلاح الطبيعة، ودفع اعوجاجها، لا سلخها عن مقتضياتها.
(إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه) ؛ لما ثبت في الكتاب العزيز من النهي عن مضارة النساء، والأمر بمعاشرتهن بالمعروف، فمن لا يستطيع ذلك؛ لم يجز له أن يدخل في أمر يوقعه في حرام.
وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في العزبة والعزلة.
( [الأحكام الخمسة تعتري الزواج] :)
أقول: الحاصل أن من كان محتاجا إلى النكاح، أو كان فعله له أولى من تركه من دون احتياج؛ فلا ريب أن أقل الأحوال أن يكون في حقه مندوبا؛ للأدلة الواردة فيها.
ومن لم يكن محتاجا إليه، ولا كان فعله أولى له - كالحصور والعنين -؛(2/136)
فقد يكون في حقه مكروها؛ إذا كان يخشى الاشتغال عن الطاعات؛ من طلب العلم أو غيره مما يحتاج إليه أهله، أو كانت المرأة تتضرر بترك الجماع من دون أن تقدم على المعصية، وأما إذا كان في غنية، بحيث لا يشتغل عن الطاعات، وكانت المرأة لا تتضرر بترك الجماع، ولا يحصل له بالنكاح نفع فيما يرجع إلى الباءة؛ فالظاهر أنه مباح، وإن لم يأت من الأدلة ما يقتضي هذه التفاصيل، فثم أدلة أخرى تقتضيها، وقواعد كلية؛ ولو قيل: إنه لا يكون في تلك الصورة مباحا؛ بل مكروها - لما ورد في العزبة والعزلة آخر الزمان -؛ لم يكن بعيدا من الصواب.
( [الصفات التي ينبغي توفرها في الزوجة] :)
(وينبغي أن تكون المرأة ودودا) ، لأن تواد الزوجين به تتم المصلحة المنزلية، وكثرة النسل بها تتم المصلحة المدنية والملية.
وود المرأة لزوجها دال على صحة مزاجها، وقوة طبيعتها، مانع لها من أن يطمح بصرها إلى غيره، باعث على تجملها بالامتشاط وغير ذلك، وفيه تحصين فرجه ونظره.
(ولودا) ؛ لحديث أنس عند أحمد (1) وابن حبان - وصححه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ".
وأخرج نحوه أحمد من حديث ابن عمر، وفي إسناده جرير بن عبد الله
__________
(1) • في " المسند " (3 / 158 - 245) ؛ وسنده حسن. (ن)(2/137)
العامري، وقد وثق، وفيه ضعف.
وأخرج نحوه أبو داود (1) ، والنسائي، وابن حبان، من حديث معقل بن يسار.
(بكرا) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
" تزوجت بكرا أم ثيبا؟ "، قال: ثيبا. قال: " فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ ! ".
(ذات جمال) ؛ فإن الطبيعة البشرية راغبة في الجمال، وكثير من الناس تغلب عليهم الطبيعة.
والجمال وما يشبهه من الشباب مقصد من غلب عليه حجاب الطبيعة.
(وحسب) ؛ يعني: مفاخر آباء المرأة؛ فإن التزوج في الأشراف شرف وجاه.
(ودين) ؛ أي: عفة عن المعاصي، وبعدها عن الريب، وتقربها إلى بارئها بالطاعات.
والدين مقصد من تهذب بالفطرة؛ فأحب أن تعاونه امرأته في دينه، ورغب في صحبة أهل الخير.
(ومال) ؛ بأن يرغب في المال، ويرجى مواساتها معه في مالها، وأن يكون أولاده أغنياء؛ لما يجدون من قبل أمهم.
__________
(1) • وكذا الحاكم (2 / 162) - وصححه -، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)(2/138)
والمال والجاه مقصد من غلب عليه حجاب الرسم.
ووجهه ما في " الصحيحين "، من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
وفي " صحيح مسلم " وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن المرأة تنكح على دينها، ومالها، وجمالها؛ فعليك بذات الدين تربت يداك ".
قال في " الحجة ":
" قال صلى الله عليه وسلم: " خير النساء اللاتي ركبن الإبل؛ نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده " (1) .
أقول: يستحب أن تكون المرأة من كورة وقبيلة؛ عادات نسائها صالحة؛ فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وعادات القوم ورسومهم غالبة على الإنسان، وبمنزلة الأمر المجبول هو عليه.
وبين أن نساء قريش خير النساء؛ من جهة أنهن أحنى إنسان على ولد في صغره، وأرعاه على الزوج في ماله ورقيقه، ونحو ذلك.
وهذان من أعظم مقاصد النكاح، وبهما انتظام تدبير المنزل، وإن أنت فتشت حال الناس اليوم في بلادنا، وبلاد ما وراء النهر وغيرها؛ لم تجد أرسخ
__________
(1) • متفق عليه؛ وقد خرجته في " معجم الحديث ". (ن)(2/139)
قدما في الأخلاق الصالحة، ولا أشد لزوما لها من نساء قريش ". انتهى.
( [إلى من تخطب المرأة الكبيرة؟] )
(وتخطب الكبيرة إلى نفسها) ؛ لما في " صحيح مسلم " (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أم سلمة يخطبها.
( [ما هو المعتبر من الكبيرة إذا خطبت إلى نفسها؟] :)
(والمعتبر حصول الرضا منها) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره:
" الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها ".
وفي " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة، وعائشة نحوه.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، من حديث ابن عباس: أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات (2) .
وروي نحوه من حديث جابر؛ أخرجه النسائي (3) ، ومن حديث عائشة؛
__________
(1) قلت: ليس في " صحيح مسلم " قصة الإرسال؛ وإنما فيه قصة أخرى متعلقة بأم سلمة.
(2) • قلت: وهو كما قال الحافظ؛ فإن رجاله كلهم ثقات؛ لكن أعله الدارقطني وغيره بالإرسال؛ فانظر " سننه " (ص 387 - 388) ، والبيهقي (7 / 117) .
ورد ذلك ابن القيم برواية جماعة له موصولا؛ وهو الصواب؛ انظر " المسند " (رقم 2469) . (ن)
(3) • لم أجده عنده من حديث جابر؛ فلعله في " سننه الكبرى ".
وقد أخرجاه عنه؛ الدارقطني (387) ، والبيهقي (7 / 117) بإسناد رجاله ثقات - أيضا -؛ عن عطاء عنه، ولكنهما قالا: " الصحيح عن عطاء "؛ مرسلا ". (ن)(2/140)
أخرجه أيضا النسائي (1) .
وأخرج ابن ماجة (2) عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال:
جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته؛ قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء؛ ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه أحمد، والنسائي، من حديث ابن بريدة، عن عائشة (3) .
قال في " الحجة البالغة ":
" أقول: لا يجوز أيضا أن يحكم الأولياء فقط؛ لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها، ولأن حار العقد وقاره راجعان إليها، والاستئمار طلب أن
__________
(1) • (2 / 78) ؛ وكذلك أخرجه الدارقطني، والبيهقي؛ وقال: " مرسل، لم يسمع ابن بريدة من عائشة ". (ن)
(2) • (1 / 577) من طريق هناد بن السري: ثنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة عن أبيه.
وقول الشارح تبعا للشوكاني: " رجاله رجال الصحيح "؛ صحيح.
وأما قول صاحب " الزوائد ": " إسناده صحيح، وقد رواه غير المصنف من حديث عائشة "؛ قلت: فهذا غير صحيح؛ لأنه معل، والصحيح أنه من مسند عائشة.
كذلك رواه أحمد (7 / 137) : ثنا وكيع ... به؛ إلا أنه قال: عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة. وكذلك أخرجه الدارقطني (ص 386) من طريق محمد بن الحجاج الضبي: نا وكيع ... به، ثم رواه من طريق جماعة عن كهمس ... به:
فالحديث حديث عائشة؛ وهو منقطع كما سبق. (ن)
(3) • قلت: هذا إعادة بدون كبير فائدة؛ فقد تقدم الحديث قبل سطور برواية النسائي وحده. (ن)(2/141)
تكون هي الآمرة صريحا، والاستئذان طلب أن تأذن ولا تمنع، وأدناه السكوت.
وإنما المراد استئذان البكر البالغة دون الصغيرة، كيف ولا رأي لها؟ ! قد زوج أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين ". انتهى.
( [هل الكفاءة في الزواج معتبرة؟] :)
(لمن كان كفأ) ؛ لحديث علي عند الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم (1) إذا وجدت لها كفؤا " (2) .
ولكن ليس في هذا الحديث ما يدل على اعتبار الكفاءة في النسب؛ بل يحمل على أن المرأة إذا وجدت لها كفؤا ترضى خلقه ودينه؛ كما سيأتي.
وأخرج الحاكم، من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" العرب أكفاء بعضهم لبعض؛ قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل؛ إلا حائك، أو حجام ".
وفي إسناده رجل مجهول، وقال أبو حاتم: إنه كذب، لا أصل له، وذكر الحفاظ أنه موضوع، وقد أوضح الكلام عليه الماتن في كتابه - في
__________
(1) هي التي لا زوج لها. (ش)
(2) • هذا حديث ضعيف؛ كما بينته في " معجم الحديث "؛ فلا حجة فيه لو كان ظاهر الدلالة. (ن)(2/142)
الموضوعات - الذي سماه " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ".
ولكن رواه البزار في " مسنده " من طريق أخرى عن معاذ بن جبل رفعه: " العرب بعضها أكفاء لبعض "؛ وفيه سليمان بن أبي الجون (1) .
ويغني عن ذلك ما في " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة:
" خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام؛ إذا فقهوا ".
ولكن ليس فيه دلالة على المطلوب؛ لأن إثبات كون البعض خيرا من بعض لا يستلزم أن الأدنى غير كفؤ للأعلى.
وهكذا حديث: " إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم " (2) :
فإن هذا الاصطفاء لا يدل على أن الأدنى غير كفؤ للأعلى.
وأخرج الترمذي، من حديث أبي حاتم المزني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه؛ فأنكحوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير "، قالوا: يا رسول الله {وإن كان فيه؟} قال: " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " - ثلاث مرات -؛ وقد حسنه الترمذي، وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
__________
(1) • قلت: ولم أعرفه، وسيأتي (ص 178) التصريح بأن سنده ضعيف. (ن)
(2) • وتمامه: " واصطفاني من بني هاشم ": رواه مسلم (7 / 58) (ن) .(2/143)
ونقل المناوي عن البخاري أنه لم يعده محفوظا، وعده أبو داود في المراسيل، وأعله ابن القطان بالإرسال، وضعف راويه، وأبو حاتم المزني له صحبة، ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث (1) .
وأخرج الدارقطني، عن عمر، أنه قال: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء ".
( [بيان اعتبار الكفاءة في النكاح] :)
أقول: استدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه ابن ماجة بإسناد رجاله رجال الصحيح، من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته؟ ! قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس إلى الآباء من أمر النساء شيء.
وأخرجه أحمد، والنسائي، من حديث ابن بريدة عن عائشة (2) .
ومحل الحجة منه قولها: ليرفع بي خسيسته؛ فإن ذلك مشعر بأنه غير كفؤ لها.
ولا يخفى أن هذا إنما هو من كلامها، وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها؛
__________
(1) • قلت: لكن له شاهد من حديث أبي هريرة؛ فالحديث حسن عندي، وقد تكلمت عليه، وخرجته في " معجم الحديث "، وسيذكر الشارح قريبا الشاهد المشار إليه (ن)
(2) • قلت: وهذا هو الصواب؛ وهو منقطع، والذي قبله وهم من بعض رواته؛ كما بينا آنفا. (ن)(2/144)
لكون رضاها معتبرا، فإذا لم ترض لم يصح النكاح؛ سواء كان المعقود له كفؤا أو غير كفؤ.
أيضا هو زوجها بابن أخيه؛ وابن عم المرأة كفؤ لها.
واستدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أحمد، والنسائي - وصححه -، وابن حبان، والحاكم (1) ، من حديث بريدة مرفوعا: " إن أحساب أهل الدنيا الذين (2) يذهبون إليه المال ".
وبما أخرجه أحمد، والترمذي - وصححه هو والحاكم (3) - من حديث سمرة مرفوعا: " الحسب المال، والكرم التقوى ".
ويحتمل أن يكون المراد: أن هذا هو الذي يعتبره أهل الدنيا - كما صرح به في حديث بريدة -، وأن هذا حكاية عن صنيعهم واغترارهم بالمال، وعدم اعتدادهم بالدين، فيكون في حكم التوبيخ لهم والتقريع.
وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - زوج مولاه زيد بن حارثة
__________
(1) • أخرجه (2 / 163) من طريق الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه؛ مرفوعا، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي.
وأقول: الحسين - هذا - إنما أخرج له البخاري تعليقا؛ فالحديث على شرط مسلم وحده، وهو في " المسند " (5 / 353) ، و " النسائي " (2 / 71) ، و " البيهقي " (7 / 135) بنحوه. (ن)
(2) • كذا في " المسند " بصيغة الجمع، وفي " النسائي "، و " المستدرك ": " الذي "؛ على الإفراد؛ (ن)
(3) • ووافقه الذهبي، وأخطأوا جميعا؛ فإن للحديث علتين: عنعنة الحسن عن سمرة، وتفرد سلام بن أبي مطيع به عن قتادة، وروايته عنه ضعيفة.
وقد خرجت الحديث، وتكلمت عليه في " المعجم "؛ فليراجع. (ن)(2/145)
بزينب بنت جحش القرشية، وزوج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية، وزوج عبد الرحمن بن عوف بلالا بأخته.
وأخرج أبو داود: أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا بني بياضة {أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه ".
أخرجه أيضا الحاكم، وحسنه (1) ابن حجر في " التلخيص ".
وأخرج البخاري، والنسائي، وأبو داود، عن عائشة: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبنى سالما، وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى امرأة من الأنصار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه؛ فزوجوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض ".
أخرجه الترمذي، من حديث أبي هريرة.
قال في " الحجة البالغة ":
" أقول: ليس في هذا الحديث أن الكفاءة غير معتبرة، كيف وهي مما جبل عليه طوائف الناس، وكاد يكون القدح فيها أشد من القتل؟} والناس على مراتبهم، والشرائع لا تهمل مثل ذلك، ولذلك قال عمر: لأمنعن النساء إلا من أكفائهن؛ ولكنه أراد أن لا يتبع أحد محقرات الأمور نحو قلة المال،
__________
(1) • وهو كما قال؛ انظر " سنن أبي داود " (1 / 327) ، و " المستدرك " (2 / 164) . (ن)(2/146)
ورثاثة الحال، ودمامة الجمال، أو يكون ابن أم ولد، ونحو ذلك من الأسباب بعد أن يرضى دينه وخلقه؛ فإن أعظم مقاصد تدبير المنزل: الاصطحاب في خلق حسن، وأن يكون ذلك الاصطحاب سببا لصلاح الدين ".
وقال في " المسوى " في باب الكفاءة.
" قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} ، وقال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون} .
قلت: هذه الآيات تدل على تفاوت مراتب الناس، وأن ذلك أمر ثابت فيهم، ولم يرده الله تعالى، فكان تقريرا.
ثم اختلفوا في تحديد المعاني التي يقع بها التفاوت، فذهب أكثرهم إلى أنها أربعة: الدين، والحرية، والنسب، والصناعة، والمراد من الدين: الإسلام والعدالة.
واعتبر الشافعي السلامة من العيوب المثبتة للخيار أيضا، ومعنى اعتبار الكفاءة عند أبي حنيفة: أن المرأة إذا زوجت نفسها من غير الكفؤ؛ فللأولياء أن يفرقوا بينهما.
وعند الشافعي: أن أحد الأولياء المستوين إذا زوجها برضاها نم غير كفؤ؛ لم يصح، وفي قول: يصح.
وله الفسخ إذا زوج الأب بكرا صغيرة أو بالغة بغير رضاها، وفيه القولان أيضا ". انتهى.(2/147)
أقول: قوله صلى الله عليه وسلم: " من ترضون دينه وخلقه "؛ فيه دليل على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق.
وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين: مالك.
ونقل عن عمر وابن مسعود، ومن التابعين عن محمد بن سيرين، وعمر ابن عبد العزيز، ويدل عليه قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
واعتبر الكفاءة في النسب: الجمهور.
وقال أبو حنيفة: قريش أكفاء بعضهم بعضا، والعرب كذلك.
وليس أحد من العرب كفؤا لقريش، كما ليس أحد من غير العرب كفؤا للعرب؛ وهو وجه للشافعية.
قال في " الفتح ": " والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعض ".
قال الشافعي: " ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث ".
وأما ما أخرجه البزار، من حديث معاذ رفعه:
" العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض "؛ فإسناده ضعيف.
قال في " الفتح ": " واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه؛ فلا تحل المسلمة لكافر ". انتهى.(2/148)
وأعلى الصنائع المعتبرة في الكفاءة في النكاح على الإطلاق: العلم؛ لحديث: " العلماء ورثة الأنبياء ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، من حديث أبي الدرداء، وضعفه الدارقطني في " العلل "، قال المنذري: " هو مضطرب الإسناد ".
وقد ذكر البخاري في " صحيحه " بغير إسناد (1) .
والقرآن الكريم شاهد على ما ذكرناه.
فمن ذلك قوله - تعالى -: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ، وقوله - تعالى -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ، وقوله - تعالى - {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة، منها حديث: " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " - وقد تقدم -.
وبالجملة: إذا تقرر لك هذا؛ عرفت أن المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق، لا في النسب.
لكن؛ لما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن حسب أهل الدنيا المال، وأخبر صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في " الصحيح " عنه - أن في أمته ثلاثا من أمر الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة؛ كان تزوج غير الكفؤ في النسب والمال من أصعب ما ينزل بمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر.
__________
(1) • لكنه حسن؛ كما بينته في " التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب ". (ن)(2/149)
قال الماتن - رحمه الله -: " ومن هذا القبيل؛ استثناء الفاطمية من قوله: (ويغتفر برضا الأعلى والولي) ، وجعل بنات فاطمة - رضي الله عنها - أعلى قدرا وأعظم شرفا من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلبه ".
فيا عجبا كل العجب من هذه التعصبات الغريبة، والتصلبات على أمر الجاهلية، وإذا لم يتركها من عرف أنها من أمور الجاهلية من أهل العلم؛ فكيف يتركها من لم يعرف ذلك؟ !
والخير كل الخير في الإنصاف والانقياد لما جاء به الشرع؛ ولهذا أخرج الحاكم في " المستدرك " - وصححه (1) - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ".
فهذا نص في محل الخلاف.
انظر أمهات العبرة الطاهرة، الذين هم قدوة السادة وأسوة القادة في كل خير ودين، من كن؟
فأم أبي العترة الإمام زين العابدين علي بن الحسين: شهريانو بنت يزدجرد ابن شهريار بن شيرويه بن خسروبرويز بن هرمز بن نوشيروان - ملك الفرس -.
وأم الإمام موسى الكاظم أم ولد؛ اسمها حميدة.
وأم الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم أم ولد أيضا؛ اسمها تكتم.
__________
(1) • ورده الذهبي فأصاب؛ لكن للحديث طريق أخرى حسنة، أوردتها في " الروض النضير "؛ فانظر (رقم 651) ؛ وقد رواه الطيالسي (رقم 378) . (ن)(2/150)
وأم الإمام علي بن محمد بن علي المذكور الملقب بالجواد والتقي أم ولد؛ اسمها خيزران، وقيل: ريحانة.
وأم الإمام علي بن محمد الملقب بالهادي والعسكري أم ولد، اسمها سمانة.
وأم الإمام حسن بن علي الملقب بالزكي والخالص والعسكري أم ولد؛ اسمها سوسن.
وأم الإمام محمد بن حسن الملقب بالحجة والقائم والمهدي أم ولد؛ اسمها نرجس.
وهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعرج أحد منهم على الكفاءة في النسب، وإنما أخذ بذلك الجهلة من الأمة، لا سيما أهل القرى والقصبات من نسل العترة والصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -.
وأكثرهم خائضون في الباطل، عاطلون عن حلي العلم الموصل إلى الحق؛ وكان أمر الله قدرا مقدورا.
( [إلى من تخطب الصغيرة؟] :)
(و) تخطب (الصغيرة إلى وليها) ؛ لما في " صحيح البخاري " وغيره، عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر (1) .
__________
(1) • فائدة: وينبغي أن لا يزوج صغيرته - ولو بالغة - من رجل يكبرها في السن كثيرا، بل ينبغي أن يلاحظ تقاربهما في السن؛ لما روى النسائي (2 / 70) بسند صحيح عن بريدة بن الحصيب، قال: خطب أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها صغيرة "، فخطبها علي، فزوجها منه.
قال السندي: " فيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية؛ لكونها أقرب إلى الألفة، نعم؛ قد يترك ذلك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة - رضي الله عنها - ". (ن)(2/151)
(ورضا البكر صمتها) ؛ لما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
( [متى تحرم الخطبة] :)
(1 -[في العدة] :)
(وتحرم الخطبة في العدة) ؛ لحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حللت فآذنيني "؛ فآذنته (1) الحديث، وهو في " صحيح مسلم " وغيره.
وأخرج البخاري (2) ، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فيما عرضتم به من خطبة النساء} ، قال: يقول: إني أريد التزويج، ولوددت أنه ييسر (3) لي امرأة صالحة.
وأخرج الدارقطني، عن محمد بن علي الباقر - عليهما السلام -: أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال: " لقد علمت أني رسول الله، وخيرته من خلقه، وموضعي من قومي "؛ وكانت تلك خطبته ".
والحديث منقطع.
__________
(1) • ليس في الحديث دلالة ظاهرة على ما ذكره الشارح؛ وإنما في قوله: " فآذنيني "؛ جواز التعريض بخطبة البائن.
ولعل الشارح أخذ ذلك من مفهوم هذا القول؛ فإن له أن يقول: لم تكن الخطبة محرمة لما عرض صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. (ن)
(2) • في (النكاح) (6 / 131 - طبع إستانبول) . (ن)
(3) • في " البخاري ": " تيسر ". (ن)(2/152)
قال في " الفتح ": " واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم: من مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها، وأما الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها.
والحاصل؛ أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح في الأولى، وحرام في الأخيرة، ومختلف فيه في البائن ".
(2 -[الخطبة على الخطبة] :)
(و) الخطبة (على الخطبة) ؛ لحديث عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن أخو المؤمن؛ فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، حتى يذر "؛ وهو في " صحيح مسلم "، وغيره.
وأخرج البخاري، وغيره، من حديث أبي هريرة: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه؛ حتى ينكح أو يترك ".
وأخرج أيضا، من حديث ابن عمر: " لا يخطب الرجل على خطبة الرجل؛ حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له ".
وقد ذهب إلى تحريم ذلك الجمهور.
( [جواز النظر إلى المخطوبة] :)
(ويجوز) له (النظر إلى المخطوبة) ؛ لحديث المغيرة عند أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي، والدارمي، وابن حبان - وصححه -: أنه خطب امرأة(2/153)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يودم (1) بينكما "، فأتى أبويها، فأخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر؛ وإلا فإني أنشدك (2) ؛ كأنها عظمت ذلك عليه، فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها؛ ذكره أحمد، وأهل " السنن " (3) .
__________
(1) أي: تحصل الموافقة والملاءمة بينكما. (ش)
(2) أي: أقسم عليك بالله. (ش)
(3) • هذا تكرار بدون فائدة {وهو في " المسند " (4 / 244 - 246) - والسياق له -، و " النسائي " (2 / 73) ، و " الترمذي " (2 / 169) ، و " الدارمي " (2 / 134) ، و " ابن ماجه " (1 / 575) ، و " البيهقي " - أيضا - (7 / 84 - 85) ؛ من طريق بكر بن عبد الله المزني، عن المغيرة؛ وليس عند النسائي، والترمذي، والدارمي قصة إتيانه أبويها؛ وإسناده عند الجميع صحيح على شرطهما؛ وحسنه الترمذي فقصر}
وله طريق أخرى عند ابن ماجه، والبيهقي؛ من حديث أنس: أن المغيرة أراد ...
وصححه الحاكم على شرطهما (2 / 165) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
واعلم أنهم اختلفوا فيما يجوز له أن ينظر منها:
فالأكثرون - كما قال النووي - على أنه الوجه والكفان فقط.
وخالفهم ابن حزم؛ فقال في " المحلى " (10 / 30 - 31) : إنه ما ظهر منها وما بطن؛ واحتج بحديث جابر؛ مرفوعا: " إذا خطب أحدكم امرأة؛ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها؛ فليفعل "؛ قال جابر: فخطبت جارية؛ فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها؛ فتزوجتها.
أخرجه أبو داود (1 / 325) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي؛ وفيه ابن إسحاق؛ وقد عنعن؛ لكن صرح بسماعه عند أحمد (3 / 360) ؛ فزالت شبهة تدليسه.
وفي الباب عن محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - نحو حديث جابر وقصته.
والحديث؛ إن لم يدل على ما ذهب إليه ابن حزم؛ فمما لا شك فيه أنه يدل على قدر زائد على ما ذهب إليه الأكثرون؛ والله أعلم. (ن)(2/154)
وأخرج مسلم، من حديث أبي هريرة، قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنظرت إليها؟ "، قال: لا، قال: " فاذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئا ".
وفي الباب أحاديث.
( [الولي شرط لصحة النكاح] :)
(ولا نكاح إلا بولي) ؛ لحديث أبي موسى عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" لا نكاح إلا بولي ".
وحديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم، وأبي عوانة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها؛ فلها المهر بما استحل من فرجها؛ فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ".
وفي الباب أحاديث.
قال الحاكم: " وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش "، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيا.
أقول: الأدلة الدالة على اعتبار الولي - وأنه لا يكون العاقد سواه، وأن العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليها باطل -؛ قد رويت من طريق جماعة(2/155)
من الصحابة، فيها الصحيح والحسن وما دونهما، فاعتباره متحتم.
وعقد غيره مع عدم عضله باطل بنص الحديث، لا فاسد؛ على تسليم أن الفساد واسطة بين الصحة والبطلان.
ولا يعارض هذه الأحاديث حديث: " الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن "، ونحوه كحديث: " ليس للولي مع الثيب أمره، واليتيمة تستأمر " (1) ؛ لأن المراد أنها أحق بنفسها في تعيين من تريد نكاحه إن كانت ثيبا، والبكر يمنعها الحياء من التعيين، فلا بد من استئذانها، وليس المراد أن الثيب تزوج نفسها، أو توكل من يزوجها مع وجود الولي؛ فعقد النكاح أمر آخر.
وبهذا تعلم أن لا وجه لما ذهبت إليه الظاهرية؛ من اعتبار الولي في البكر دون الثيب.
والولي عند الجمهور هو الأقرب من العصبة (2) ، وروي عن أبي حنيفة: أن ذوي الأرحام من الأولياء.
( [من هو الولي؟] :)
أقول: الذي ينبغي التعويل عليه عندي هو أن يقال: " إن الأولياء هم
__________
(1) قلت: هو حديث ضعيف؛ انظر تضعيفه في " الصحيحة " (تحت الحديث 1216) وفي " ضعيف الجامع ".
(2) • في " النهاية ": " العصبة: الأقارب من جهة الأب؛ لأنهم يعصبونه، ويعتصب بهم؛ أي: يحيطون به، ويشتد بهم ". (ن)(2/156)
قرابة المرأة الأدنى فالأدنى، الذين يلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء، وكان المزوج لها غيرهم.
وهذا المعنى لا يختص بالعصبات؛ بل قد يوجد في ذوي السهام؛ كالأخ لأم، وذوي الأرحام؛ كابن البنت، وربما كانت الغضاضة معهما أشد منها مع بني الأعمام ونحوهم.
فلا وجه لتخصيص ولاية النكاح بالعصبات، كما أنه لا وجه لتخصيصها بمن يرث، ومن زعم ذلك فعليه الدليل، أو النقل بأن معنى الولي في النكاح - شرعا أو لغة - هو هذا.
وأما ولاية السلطان فثابتة بحديث: " إذا تشاجر الأولياء فالسلطان ولي من لا ولي لها "؛ فهذا الحديث، وإن كان فيه مقال (1) ؛ فهو لا يسقط به عن رتبة الاستدلال؛ وهو يدل على حكمين:
الأول: أن تشاجر الأولياء يوجب بطلان ولايتهم، ويصيرهم كالمعدومين.
الثاني: أنهم إذا عدموا كانت الولاية للسلطان (2) .
__________
(1) • وهو أنه من رواية سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ مرفوعا باللفظ المتقدم قبل صفحتين، فقيل: إن الزهري أنكره، فروى أحمد (6 / 47) : ثنا إسماعيل: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن موسى ... به، قال ابن جريج: فلقيت الزهري، فسألته عن هذا الحديث؟ فلم يعرفه، قال: وكان سليمان بن موسى وكان، فأثنى عليه، وقد رد المحققون المقال المذكور؛ بأن سليمان هذا ثقة بشهادة الزهري نفسه، فجائز أنه حدث سليمان بهذا الحديث، ثم نسيه، كما وقع ذلك لغيره، فلا يجوز رد الحديث بنسيانه مع حفظ سليمان له عنه، لا سيما ولم يتفرد به عنه، فراجع " نصب الراية " (2 / 184 - 187، 188 - 189) . (ن)
(2) • والمراد به هنا القاضي؛ لأن إليه أمر الفروج والأحكام، كما قال أحمد في " المسند " عقب الحديث. (ن)(2/157)
وإذا تحرر لك ما ذكرناه في الأولياء؛ فاعلم أن من غاب منهم عند حضور الكفء ورضا المكلفة به - ولو في محل قريب، إذا كان خارجا عن بلد المرأة ومن يريد نكاحها -؛ فهو كالمعدوم، والسلطان ولي من لا ولي له، اللهم إلا أن ترضى المرأة ومن يريد الزواج بالانتظار لقدوم الغائب، فذلك حق لهما، وإن طالت المدة.
وأما مع عدم الرضا فلا وجه لإيجاب الانتظار، ولا سيما مع حديث: " ثلاث لا يؤخرن إذا حانت - منها -: الأيم إذا حضر كفؤها "، كما أخرجه الترمذي والحاكم؛ وجميع ما ذكر من تلك التقديرات بالشهر وما دونه؛ ليس على شيء منها أثارة من علم.
ومع ذلك؛ فالقول بأن غيبة الولي الموجبة لبطلان حقه هي الغيبة التي يجوز الحكم معها على الغائب؛ هو قول مناسب إذا صح الدليل على أنه لا يجوز الحكم على الغائب؛ إلا إذا كان في مسافة القصر؛ فإن لم يصح دليل على ذلك؛ فالواجب الرجوع إلى ما ذكرناه.
فإن قلت: إذا كان ولي النكاح هو أعم من العصبات كما ذكرته؛ فما وجهه؟ قلت: وجهه أنا وجدنا الولاية قد أطلقت في كتاب الله - تعالى - على ما هو أعم من القرابة: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} ، ووجدناها قد أطلقت في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو أخص من ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: " السلطان ولي من لا ولي له ".
ولا ريب أنه لم يكن المراد في الحديث ما في الآية؛ وإلا لزم أنه لا(2/158)
ولاية للسلطان إلا عند عدم المؤمنين، وهو باطل؛ لأنه أحدهم؛ بل له مزية عليهم لا توجد في أفرادهم.
وإذا ثبت أنه لم يكن المراد بالولي في الحديث الأولياء المذكورين في الآية؛ فليس بعض من يصدق عليه اسم الإيمان أولى من بعض إلا بالقرابة؛ [فتبين أن المراد القرابة] (1) ؛ ولا ريب أن بعض القرابة أولى من بعض.
وهذه الأولوية ليست باعتبار استحقاق نصيب من المال، أو استحقاق التصرف فيه حتى يكون كالميراث أو كولاية الصغير؛ بل باعتبار أمر آخر؛ وهو ما يجده القريب من الغضاضة التي هي العار اللاصق به، وهذا لا يختص بالعصبات كما بينا؛ بل يوجد في غيرهم، ولا شك أن بعض القرابة أدخل في هذا الأمر من بعض.
فالآباء والأبناء أولى من غيرهم، ثم الإخوة لأبوين، ثم الإخوة لأب أو لأم، ثم أولاد البنين وأولاد البنات، ثم أولاد الإخوة وأولاد الأخوات، ثم الأعمام والأخوال، ثم هكذا من بعد هؤلاء.
ومن زعم الاختصاص بالبعض دون البعض؛ فليأتنا بحجة، وإن لم يكن بيده إلا مجرد أقوال من تقدمه؛ فلسنا ممن يعول على ذلك؛ وبالله التوفيق.
قال في " الحجة ":
" وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم.
واستبداد النساء بالنكاح وقاحة منهن؛ منشؤها قلة الحياء، واقتضاب على
__________
(1) • صح. (ن)(2/159)
الأولياء، وعدم اكتراث بهم.
وأيضا؛ يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير؛ وأحق التشهير أن يحضر أولياؤها، ولا يجوز أن يحكم في النكاح النساء خاصة؛ لنقصان عقلهن، وسوء فكرهن؛ فكثيرا ما لا يهتدين للمصلحة.
ولعدم حماية الحسب منهن غالبا؛ فربما رغبن في غير الكفء، وفي ذلك عار على قومها، فوجب أن يجعل للأولياء شيء من هذا الباب؛ لتسد المفسدة.
وأيضا فإن (1) السنة الفاشية في الناس من قبل - ضرورة -؛ أنهن عوان (2) بأيديهم، وهو قوله - تعالى -: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} ". انتهى.
قال الشافعي:
" لا ينعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب، فإن لم يكن؛ فبعبارة الولي البعيد، فإن لم يكن؛ فبعبارة السلطان، فإن زوجت نفسها أو غيرها بإذن الولي أو بغير إذنه؛ بطل ولم يتوقف ".
__________
(1) • في العبارة شيء! ثم رجعت إلى الأصل المنقول عنه، وهو كتاب " حجة الله البالغة " (2 / 127) ، فتبين أن فيها سقطا نحو سطر، والصواب هكذا: " فإن السنة الفاشية في الناس من قبل - ضرورة جبلية -؛ أن يكون الرجال قوامين على النساء، ويكون بيدهم الحل والعقد، وعليهم النفقات، وإنما النساء عوان بأيديهم ... ". (ن)
(2) العوان من النساء هي التي قد كان لها زوج؛ وقيل: الثيب. (ش)
• قلت: هذا التفسير هنا خطأ بيّن؛ فإنه مبني على أن " عوان "؛ مفرد " عون "؛ وليس كذلك؛ بل هو جمع " عانية " - وهي الأسيرة -؛ والجمع: عوان وعانيات، وهو المراد هنا. (ن)(2/160)
وتأويل قوله: " لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها ": لا يزوجها إلا وكيل الولي، ويفهم تزويجها بنفسه بالأولى.
وقال أبو حنيفة: ينعقد نكاح المرأة الحرة العاقلة البالغة برضاها - وإن لم يعقد عليها ولي - بكرا كانت أو ثيبا.
وتأويل الحديث: أنه يكره لها ذلك؛ خشية أن تقصر في رعاية الكفاءة وغيرها، أو تنسب إلى الوقاحة.
أو تأويله: إن للولي حق الاعتراض في غير الكفء.
فمعنى قوله: " لا تنكح "؛ أي: لا تستقل بنكاحها إلا بإذنه؛ لأن له حق الاعتراض في غير الكفء.
وقال محمد: ينعقد موقوفا على إذنه؛ كذا في " المسوى ".
( [الشاهدان شرط لصحة النكاح] :)
(وشاهدين) ؛ لحديث عمران بن حصين عند البيهقي، والدارقطني في " العلل "، وأحمد في رواية ابنه عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ".
وفي إسناده عبد الله بن محرر، وهو متروك.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي، من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن(2/161)
تشاجروا؛ فالسلطان ولي من لا ولي له " (1) .
وإسناده ضعيف.
وأخرج الترمذي، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة " (2) .
وصحح الترمذي وقفه.
وهذه الأحاديث - وما ورد في معناها - يقوي بعضها بعضا؛ وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
قال في " شرح السنة ": " أكثر أهل العلم على أن النكاح لا ينعقد إلا ببينة، ولا ينعقد حتى يكون الشهود حضورا حالة العقد، واختلفوا في صفة الشهود؛ قال الشافعي: لا ينعقد إلا بمشهد رجلين عدلين، وقال أبو حنيفة: ينعقد برجل وامرأتين، وبفاسقين ". كذا في " المسوى ".
وفي " الموطإ " في باب: " لا يحل نكاح السر ": " مالك: عن أبي الزبير المكي، أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة؛ فقال: هذا نكاح السر ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت ".
( [متى تبطل ولاية الولي؟] :)
(إلا أن يكون) الولي (عاضلا أو غير مسلم) ؛ لقوله - تعالى -: {فلا
__________
(1) انظره - مصححا - بطرقه في " إرواء الغليل " (6 / 243 / رقم 1840) لشيخنا.
(2) هو حديث ضعيف؛ وانظر " إرواء الغليل " (1862) .(2/162)
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} ، ولتزوجه - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان من غير وليها؛ لما كان كافرا حال العقد.
( [جواز التوكيل لعقد النكاح] :)
(ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح؛ ولو واحدا) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند أبي داود (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " أترضى أن أزوجك فلانة؟ "، قال: نعم، وقال للمرأة: " أترضين أن أزوجك فلانا؟ "، قالت: نعم؛ فزوج أحدهما صاحبه ... الحديث.
وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم: الأوزاعي، وربيعة، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه، والليث، وأبو ثور.
وحكى في " البحر " عن الشافعي، وزفر: أنه لا يجوز.
وقال في " الفتح ": وعن مالك: لو قالت المرأة لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه أو ممن اختار؛ لزمها ذلك،؛ ولو لم تعلم عين الزوج.
وقال الشافعي: يزوجه السلطان، أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفر.
وأما استحباب النثار؛ فأقول: لم يصح في ذلك شيء؛ كما أوضحه في " النيل "، و " السيل "، ولا بأس بنثر شيء من المأكولات، فهو من جملة
__________
(1) • (1 / 330) ، وكذا البيهقي (7 / 232) ؛ وسندهما صحيح. (ن)(2/163)
الإطعام المندوب؛ إنما الشأن في الحكم بمشروعية انتهابه مع ورود الأحاديث الصحيحة بالنهي عن النهبى؛ والظاهر أن هذا نوع منها، ولم يرد ما يدل على التخصيص؛ لا من وجه صحيح، ولا حسن، بل ولا ضعيف ينجبر.
وأما إجابة الوليمة؛ فأحاديث الأمر بالإجابة صحيحة؛ ولم يأت ما يقتضي صرفها عن الوجوب.
نعم؛ الولائم المشوبة بالمنكرات - مع عدم القدرة على التغيير - لا يجوز حضورها؛ كما يدل عليه حديث النهي عن الجلوس على المائدة التي تدار عليها الخمر، وسائر المعاصي تقاس على ذلك.
( [الفصل الثاني: الأنكحة المحرمة] )
(1 -[حكم نكاح المتعة] )
(ونكاح المتعة) (1) ؛ قال في " الحجة ":
" رخص فيها - صلى الله عليه وسلم - أياما، ثم نهى عنها ".
أما الترخيص أولا؛ فلمكان حاجة تدعو إليه؛ كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله، أشار ابن عباس أنها لم تكن يومئذ استئجارا على مجرد البضع؛ بل كان ذلك مغمورا في ضمن حاجات؛ من باب تدبير المنزل (2) ، كيف
__________
(1) هو نكاح إلى أجل مؤقت؛ كيومين، أو ثلاثة، أو شهر أو غير ذلك. (ش)
(2) • يشير إلى ما أخرجه الترمذي (2 / 187) ؛ من طريق موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ كان الرجل يقدم بلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أن يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شيأه، حتى إذا نزلت الآية: {إلا على =(2/164)
والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية، ووقاحة يمجها الباطن السليم؟ {
وأما النهي عنها؛ فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات، وأيضا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب؛ لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه، ويكون الأمر بيدها، فلا يدري ماذا تصنع؟}
وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأبيد في غاية العسر؛ فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع؟ ! فإن أكثر الراغبين في النكاح؛ إنما غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج.
وأيضا؛ فإن من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح: التوطين على المعاونة الدائمة، وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس ". انتهى.
في " شرح السنة ": اتفق العلماء على تحريم المتعة؛ وهو كالإجماع بين المسلمين.
( [الأدلة على نسخ نكاح المتعة] :)
(منسوخ) ؛ فإنه لا خلاف أنه قد كان ثابتا في الشريعة؛ كما صرح بذلك القرآن: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن (1) } ؛ ولما في " الصحيحين "
__________
= أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} ؛ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما؛ فهو حرام.
قلت: لكن موسى بن عبيدة ضعيف؛ كما في " التقريب "، وغيره، وانظر " الاعتبار " للحازمي. (ن)
(1) • هذا على قول الجمهور أن المراد بالآية المتعة، وحملها آخرون على النكاح المشروع، قالوا: الاستمتاع: التلذذ، والأجور: المهور، وسمي المهر أجرا؛ لأنه أجر الاستمتاع؛ انظر القرطبي (4 / 129) . (ن)(2/165)
من حديث ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا - بعد - أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ".
وفي الباب أحاديث.
وثبت النسخ من حديث جماعة:
فأخرج مسلم، وغيره من حديث سبرة الجهني: أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء؛ قال: فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ من حديثه: وأن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة.
وأخرج الترمذي (1) ، عن ابن عباس: إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} .
وفي " الصحيحين "، من حديث علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، والخلاف طويل، وقد استوفاه الماتن في " نيل الأوطار ".
__________
(1) • في (النكاح) (2 / 187) ، وسكت عليه، وهو ظاهر الضعف؛ لأن مداره على موسى ابن عبيدة، وهو ضعيف، ومن طريقه أخرجه البيهقي (7 / 205 - 206) ، والحازمي في " الاعتبار " (ص 140) بنحوه، ثم قال: " هذا إسناد صحيح؛ لولا موسى بن عبيدة ".
وسيعيد المصنف الحديث بزيادة في آخره عن ابن عباس، وهو هو؛ فتنبه! (ن)(2/166)
ورواية من روى تحريمها إلى يوم القيامة هي الحجة في هذا الباب.
وهذا نهي مؤبد وقع في آخر موطن من المواطن التي سافر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعقبه موته بعد أربعة أشهر، فوجب المصير إليه.
ولا يعارضه ما روي عن بعض الصحابة؛ أنهم ثبتوا على المتعة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته إلى آخر أيام عمر؛ كما زعمه صاحب " ضوء النهار "؛ فإن من علم النسخ المؤبد حجة على من لم يعلم، واستمرار من استمر عليها؛ إنما كان لعدم علمه بالناسخ.
وأما ما صار يهول به جماعة من المتأخرين؛ من أن تحليل المتعة قطعي، وحديث تحريمها على التأبيد ظني، والظني لا ينسخ القطعي، حتى قال المقبلي: إن الجمهور لم يجدوا جوابا على هذا؛ فيقال: إن كان كون التحليل قطعيا لكونه منصوصا عليه في الكتاب العزيز -؛ فذلك وإن كان قطعي المتن؛ فليس بقطعي الدلالة؛ لأمرين:
أحدهما: أنه يمكن حمله على الاستمتاع بالنكاح الصحيح.
الثاني: أنه عموم؛ وهو ظني الدلالة (1) .
على أنه قد روى الترمذي، عن ابن عباس، أنه قال: إنما كانت المتعة حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} ؛ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام.
__________
(1) • ونحوه قول الشوكاني (6 / 118) : " إن النسخ بذلك الظني؛ إنما هو لاستمرار الحل، لا لنفس الحل، والاستمرار ظني لا قطعي ". (ن)(2/167)
وهذا يدل على التحريم بالقرآن فيكون ما هو قطعي المتن ناسخا لما هو قطعي المتن، وإن كان التحليل قطعيا - لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر -؛ فيقال: وقد وقع الإجماع أيضا على التحريم في الجملة عند الجميع، وإنما الخلاف في التأبيد هل وقع أم لا؟ وكون هذا التأبيد ظنيا؛ لا يستلزم ظنية التحريم الذي وقع النسخ به.
فالحاصل؛ أن الناسخ للتحليل المجمع عليه هو التحريم المجمع عليه المقيد بقيد ظني، وهو التأبيد، فالناسخ والمنسوخ قطعيان.
هذا على التسليم أن ناسخ القطعي لا يكون إلا قطعيا؛ كما قرره جمهور أهل الأصول، وإن كنت لا أوافقهم على ذلك.
(2 -[نكاح التحليل حرام] :)
(والتحليل حرام) ؛ لحديث ابن مسعود عند أحمد، والنسائي، والترمذي، - وصححه -، قال:
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له.
وصححه أيضا ابن القطان، وابن دقيق العيد.
وله طريق أخرى؛ أخرجها عبد الرزاق، وطريق ثالثة؛ أخرجها إسحاق في " مسنده ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن السكن، من حديث علي مثله.(2/168)
وأخرج ابن ماجه، والحاكم، من حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ "، قالوا بلى يا رسول الله! قال: هو " المحلل؛ لعن الله المحلل والمحلل له ".
وفي إسناده يحيى بن عثمان، وهو ضعيف، وقد أعل بالإرسال (1) .
وأخرج أحمد، والبيهقي، والبزار، وابن أبي حاتم، والترمذي في " العلل "، من حديث أبي هريرة نحوه، وحسنه البخاري (2) .
__________
(1) • يعني الانقطاع بين الليث بن سعد ومشرح بن هاعان؛ والحق أن الحديث حسن الإسناد؛ كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في " إبطال التحليل " (3 / 155 - 156 - من " الفتاوى ") ، وأجاب عما أعل به الحديث جوابا شافيا، ونقله عنه تلميذه في " إعلام الموقعين " (3 / 56 - 58) .
والحديث عند ابن ماجه (1 / 597) ، و " المستدرك " (2 / 198 - 199) ، عن يحيى بن عثمان ابن صالح: ثنا أبي، قال: سمعت الليث بن سعد يقول: قال [لي] أبو مصعب مشرح بن هاعان، عن عقبة ... به.
وزيادة (لي) عند ابن ماجه؛ فهي ترد الانقطاع المزعوم فيه، ويؤيد ذلك أن الحاكم رواه من طريق أبي صالح - وهو كاتب الليث - ثنا الليث بن سعد، قال: سمعت مشرح بن هاعان ... به.
ففيه التصريح بسماع الليث من مشرح.
وفيه أن يحيى بن عثمان لم يتفرد به؛ ولذلك فقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وهذا يدلنا على أن المصنف عندما يتكلم على الأحاديث لا يراجع أصولها ومصادرها الأساسية؛ وإنما ينقل ذلك عن بعض المتأخرين؛ وإلا فلو راجع تلك الأصول؛ لما أعله بضعف يحيى؛ مع أنه ورد من غير طريقه، ولا بالانقطاع؛ مع التصريح بالسماع في بعض طرقه.
ثم الحديث عند الدارقطني (ص 395) ؛ من طريق أبي صالح، وعند البيهقي (7 / 280) ؛ طريق الحاكم؛ ورواه من طريق محمد بن إسحاق: أبنا عثمان بن صالح ... به.
فهذه متابعة تامة ليحيى بن عثمان.
(2) • وقال شيخ الإسلام: " إسناده جيد "؛ وتبعه ابن القيم، وهو كما قالا. (ن)(2/169)
وأخرج الحاكم، والطبراني في " الأوسط "، من حديث عمر (1) : أنهم كانوا يعدون التحليل سفاحا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال في " تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ": " رواه ابن ماجه بإسناد رجاله موثقون ".
وصح عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما.
رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، في " مصنفيهما "، وابن المنذر في " الأوسط ".
وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، أنه سئل عن ذلك؟ فقال: كلاهما زان.
والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل، قد أطال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الكلام عليه، وأفرده مصنفا سماه: " بيان الدليل على إبطال التحليل ". انتهى.
أقول: حديث لعن المحلل مروي من طريق جماعة من الصحابة بأسانيد بعضها صحيح، وبعضها حسن.
واللعن لا يكون إلا على أمر غير جائز في الشريعة المطهرة،؛ بل على
__________
(1) • كذا! وتبع فيه الشوكاني في " النيل " (6 / 119) ؛ وهو وهم منهما؛ وإنما الأثر عن ابن عمر، لا عن أبيه، كذلك هو في " المستدرك " (2 / 198) ، والطبراني كما في " المجمع " (4 / 267) ، وقال: " ورجاله رجال الصحيح "، وقال الحاكم: " صحيح عن شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
وعزوه لابن ماجه أظنه خطأ؛ فليراجع. (ن)(2/170)
ذنب هو من أشد الذنوب.
فالتحليل غير جائز في الشرع، ولو كان جائزا لم يلعن فاعله والراضي به، وإذا كان لعن الفاعل لا يدل على تحريم فعله؛ لم تبق صيغة تدل على التحريم قط، وإذا كان هذا الفعل حراما غير جائز في الشريعة؛ فليس هو النكاح الذي ذكره الله في قوله: {حتى تنكح زوجا غيره} ، كما أنه لو قال: لعن الله بائع الخمر؛ لم يلزم من لفظ (بائع) أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله: {وأحل الله البيع} ؛ والأمر ظاهر.
قال ابن القيم:
" ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط، ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم ... ، ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حرة مصونة، أنشب فيها المحلل مخالب إرادته؟ ! فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفردا بوطئها؛ فإذا هو والمحلل ببركة التحليل شريكان، فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، [وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء] (1) ، ولولا التحليل؛ لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها ".
وأما هذه الأزمان التي شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل،
__________
(1) • التصحيح من " الإعلام " (3 / 55) .
وقوله: " وأما في هذه الأزمان " إلى قوله: " الفعل الدون "؛ هو في الصفحة (53) منه، وله عنده تتمة، أشار إليها المصنف بقوله: إلى غير ذلك، لكن قوله بعده: انتهى؛ أوهم أن ذلك القول من تمام كلام ابن القيم؛ وليس منه، والله أعلم. (ن)(2/171)
وقبح ما يرتكبه المحللون؛ مما هو رمد؛ بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق المؤمنين؛ من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه؛ بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم أنه قد طيبها للتحليل، فيالله العجب {أي طيب أعارها هذا التيس الملعون؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون؟} "؛ إلى غير ذلك. انتهى.
وقد أطال - رحمه الله تعالى - في تخريج أحاديث التحليل في " إعلام الموقعين " إطالة حسنة؛ فليراجع.
( [3 - نكاح الشغار حرام] :)
(وكذلك الشغار) ؛ لثبوت النهي عنه؛ كما في حديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار.
وأخرج مسلم، من حديث أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي.
وأخرج مسلم أيضا، من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا شغار في الإسلام ".(2/172)
وفي الباب أحاديث.
قال ابن عبد البر:
" أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته؛ والجمهور على البطلان " (1) .
قال الشافعي: هذا النكاح باطل كنكاح المتعة.
وقال أبو حنيفة: جائز؛ ولكل واحدة منهما مهر مثلها ". انتهى.
أقول: النهي عن الشغار ثابت بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة.
وعلى كل حال؛ فكون الشغار من مفسدات العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول؛ لأن النهي عن الشغار يقتضي قبحه، أو تحريمه، أو فساده؛ على اختلاف الأقوال، وإذا اقتضى ذلك وجب على كل واحد من الزوجين توفير المهر لزوجته بما استحل من فرجها، فهو بمنزلة فساد التسمية، وفسادها لا يستلزم فساد عقد النكاح، والمهر ليس بشرط للعقد، فالحكم بأن الشغار يفسد العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول، ولا موافق لقواعد الفروع.
ولو فرض أن النهي عن النكاح الذي فيه شغار؛ لم يكن ذلك مقتضيا
__________
(1) • قلت: ويؤيده ما روى ابن إسحاق: ثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن العباس، أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه أبو داود (1 / 324) ، وأحمد (4 / 94) ؛ وإسناده حسن. (ن)(2/173)
لفساد العقد؛ لأن النهي ليس لذات العقد ولا لوصفه؛ بل لأمر خارج عنه، وقد تقرر في الأصول أن ذلك لا يوجب الفساد.
( [الوفاء بشرط المرأة واجب ما لم يحل حراما أو يحرم حلالا] :)
(ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة) ؛ لحديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
قلت: هو قول أكثر أهل العلم، وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق الشروط ... " الخ خاص في شرط المهر، إذا سمى لها مالا في الذمة - أو عينا -؛ عليه أن يوفيها ما ضمن لها، وفي الحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد.
وأما ما سوى ذلك؛ مثل أن يشترط في العقد للمرأة أن لا يخرجها من دارها، ولا ينقلها من بلدها، أو لا ينكح عليها؛ أو نحو ذلك، فلا يلزمه الوفاء به، وله إخراجها، ونقلها، وأن ينكح عليها؛ إلا أن يكون في ذلك يمين، فيلزمه اليمين؛ كذا في " المسوى ".
أقول: الوفاء بمطلق الشروط مشروع، قال - تعالى -: {أوفوا بالعقود} .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون عند شروطهم؛(2/174)
إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا "؛ وهو حديث حسن (1) .
ولكن هذا المخصص المتصل - أعني قوله: " إلا شرطا ... " الخ - يدل على أن ما كان من الشروط بهذه الصفة؛ لا يجب الوفاء به.
وكما يخصص عموم أول الحديث كذلك يخصص عموم الآية، ويؤيد هذا المخصص الحديث المتفق عليه بلفظ:
" كل شرط ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ فهو باطل " (2) .
ولا يعارض هذا حديث: " أحق الشروط ... " الخ وهو متفق عليه.
ووجه عدم المعارضة: أن عموم هذا الحديث مخصص بما قبله من الحديثين الدالين على أن الشروط التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال - مما ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله -؛ لا يجب الوفاء بها؛ سواء كانت في نكاح أو غيره؛ لا كما قاله الجلال في " ضوء النهار " (3) .
__________
(1) • قلت: نظرا لطرقه وشواهده؛ وقد ذكرها شيخ الإسلام في " الفتاوى " (3 / 333) ، وقال: إنه يشد بعضها بعضا.
وانظر " المناوي على الجامع "، و " سنن البيهقي " (7 / 249) . (ن)
(2) لفظ: " ... ولا سنة رسوله ... "؛ ليس بمحفوظ في الحديث.
(3) • وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب، حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛ فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط؛ ما لم يكن كذلك؛ كذا في " الفتاوى " (3 / 333) . (ن)(2/175)
(إلا أن يحل حراما أو يحرم حلالا) ؛ فلا يحل الوفاء به؛ كما ورد بذلك الدليل؛ وقد ثبت النهي عن اشتراط أمور؛ كحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبيع على بيعة أخيه، " ولا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكتفىء ما في صحفتها أو إنائها؛ فإنما رزقها على الله ".
وأخرج أحمد؛ من حديث عبد الله بن عمر (1) ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا يحل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى ".
(4 -[نكاح الزانية أو المشركة حرام والعكس] :)
(ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة) ؛ لقوله - تعالى -: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (2) .
__________
(1) • كذا بدون الواو، وفي " المنتقى " (6 / 122 - بشرح " النيل ") ؛ بإثبات الواو وفتح العين، وهو الصواب؛ فإن أحمد أخرج الحديث في " مسند ابن عمرو " (رقم 6647) ، وقال المعلق عليه - أحمد شاكر -: " إسناده صحيح "! مع أن فيه عبد الله بن لهيعة، وهو سيىء الحفظ. (ن)
قلت: ولعل ما قبله يشهد له بالجملة.
(2) • ومعنى الآية؛ أن الزاني المعروف بالزنى لا ترتضيه زوجا لها إلا زانية أو مشركة في نظر الشرع، وكذلك القول في الزانية، وبيان ذلك ما في " إغاثة اللهفان " (1 / 66) :
" أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه؛ والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان؛ انتفت الإباحة المشروطة، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه، أو لا يلزم، فإن لم يلزمه؛ فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه؛ لم يصح النكاح؛ فيكون زانيا ". (ن)(2/176)
ولما أخرجه أحمد بإسناد - رجاله ثقات (1) -، والطبراني في " الكبير "، و " الأوسط " من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة - يقال لها: أم مهزول - كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه، فقرأ عليه - صلى الله عليه وسلم -: " {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} .
وأخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه (2) - من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي - يقال لها: عناق -، وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال: فسكت عني، فنزلت الآية: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} ، فدعاني فقرأها علي، وقال: " لا تنكحها ".
وأخرج أحمد، وأبو داود (3) بإسناد (4) رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله ".
قال ابن القيم:
__________
(1) • كذا قال الهيثمي (7 / 73 - 74) ؛ وفيه نظر؛ فإنه في " المسند " (رقم 6480، 7099) : عن سليمان التيمي: ثنا الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عنه.
والحضرمي هذا مجهول، وليس هو الحضرمي بن لاحق؛ وهذا ثقة؛ والظاهر أنه لم يفرق بينهما، وقد فرق البخاري وغيره؛ فراجع التعليق على " المسند ". (ن)
(2) • وهو كما قال. (ن)
(3) • والحاكم. (ن)
(4) • صحيح. (ن)(2/177)
" أخذ بهذه الفتاوى التي لا معارض لها: الإمام أحمد ومن وافقه، وهي من محاسن مذهبه؛ فإنه لم يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا، قد ذكرناها في موضع آخر ". انتهى.
وأخرج ابن ماجه، والترمذي - وصححه - من حديث عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله وأثنى عليه وذكر، ووعظ، ثم قال:
" استوصوا في النساء خيرا؛ فإنما هن عندكم عوان، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ".
وأخرج أبو داود، والنسائي، من حديث ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس؟ قال: " غربها "، قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: " فاستمتع بها ".
قال المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في " الصحيحين ".
قال ابن القيم:
" عورض - بهذا الحديث المتشابه - الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج (1) البغايا، واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه:
فقالت طائفة: المراد باللامس: ملتمس الصدقة، لا ملتمس الفاحشة.
__________
(1) في الأصل: " تجويز "، وهو خطأ. (ش)(2/178)
وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر، وإنما المانع ورود العقد على الزانية؛ فهذا هو الحرام.
وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها؛ إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح.
وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت (1) .
وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية، وإنما فيه أنها لا تمنع من يمسها، أو يضع يده عليها، أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك، ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى، ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة، فأمره بفراقها تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه؛ فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها؛ رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك.
__________
(1) • والحق أنه حديث صحيح ثابت؛ فإن له طريقين:
أحدهما صحيح عن ابن عباس؛ أخرجه النسائي (2 / 72) ؛ من طريق حماد بن سلمة، وغيره، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير. وعبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس - عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه - ... فذكر الحديث، ثم قال النسائي: " ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه؛ وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم ".
قلت: هذا تعليل ماش على القواعد، لكن لا يلزم من ضعف هذا الطريق أن يكون الحديث في نفسه ضعيفا؛ لاحتمال أن يكون له طريق أخرى، والواقع كذلك.
فقد أخرجه أبو داود (1 / 320) ؛ من طريق عكرمة، عن ابن عباس؛ وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.
وله شاهد من حديث جابر؛ أخرجه الطبراني في " الأوسط " بإسناد؛ قال الهيثمي (4 / 335) : " رجاله رجال الصحيح ". (ن)(2/179)
والله - تعالى - أعلم ". انتهى.
وفي " المسوى ":
" أقول: الظاهر عندي أن مبنى اختلافهم هذا اختلافهم في مرجع {ذلك} في قوله: {حرم ذلك} ؛ فقال أحمد: مرجعه نكاح الزانية والمشركة، وقال غيره: مرجعه الزنا والشرك، والمراد على هذا: أن العادة قاضية بأن الزانية لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك، والزنا والشرك حرام على المؤمنين، فنكاحها لا يليق بحال المؤمنين. ولا يقولون: إن الحديث ناسخ؛ بل يقولون: إنه مبين لتأويل الآية، ومع ذلك فلا يخلو عن بعد ".
في " الكافي في مذهب أحمد ": " الزانية يحرم نكاحها كالمعتدة ".
وأما غير أحمد فقولهم؛ جواز نكاح الفاجرة؛ وإن كان الاختيار غير ذلك؛ لحديث: " لا ترد يد لامس ".
قال الواحدي؛ عن أبي عبيد: مذهب مجاهد: أن التحريم لم يكن إلا على جماعة خاصة من فقراء المهاجرين؛ أرادوا نكاح البغايا لينفقن عليهم، ومذهب سعيد: أن التحريم كان عاما ثم نسخته الرخصة؛ وأورد أبو عبيد على هذا الحديث أنه خلاف الكتاب والسنة المشهورة؛ لأن الله - تعالى - إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة، ثم أنزل في القاذف آية اللعان، وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التفريق بينهما، فلا يجتمعان أبدا، فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها؟ !
والحديث مرسل، فإن ثبت؛ فتأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرق(2/180)
وضعف الرأي، وتضييع ماله؛ فهي لا تمنعه من طالب، ولا تحفظه من سارق، وهذا أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأحرى بحديثه.
أقول: في الاستدلال بحديث: " لا ترد يد لامس " نظر من وجهين:
أحدهما: أن هذا ليس رميا لها بالزنا البتة؛ بل رمي بقلة الاحتياط في أمر الملامسة، فيحتمل حينئذ أن لا تتورع من اللمس الحرام، وتتورع من حقيقة الزنا المفضي إلى الحد، والمقتضي للحبل الموجب للفضيحة الشديدة، وكم من امرأة لا تتورع من النظر واللمس المحرمين، وتتورع من موجب الحد وسبب الحبل خوفا من الفضيحة، فلما لم يصرح بالزنا؛ لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه الفراق (1) .
وثانيهما: أن حالة الابتداء تفارق حالة البقاء في أكثر المسائل، كالمحرم لا يبتدىء بالنكاح في حالة إحرامه، ولا يضره البقاء، فإذا جوز النبي صلى الله عليه وسلم إمساكها في حالة بقاء النكاح؛ من أين لكم أنه يجوز ابتداء النكاح؟ ! ". انتهى.
(والعكس) ؛ وإنما قال ب (العكس) ؛ لأن هذا الحكم لا يختص بالرجل دون المرأة؛ كما تفيد ذلك الآية الكريمة: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} .
أقول: هذا هو الظاهر من الآية الكريمة، ودعوى أن سبب نزول الآية فيمن سأله صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن ينكح عناقا - وكانت مشركة -: مدفوعة بأن
__________
(1) هذا هو الوجه الصحيح في فهم الحديث؛ وما عداه غير قوي. (ش)(2/181)
الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لا سيما والآية الكريمة قد تضمنت نكاح الزانية على حدة، ونكاح المشركة على حدة.
وأما حديث: " إن امرأتي لا ترد يد لامس "؛ فالظاهر أنه كناية عن كونها زانية؛ لا كما قال المقبلي: إن المراد أنها ليست نفورا من الريبة؛ لا أنها زانية، ثم استبعد أن يقول له صلى الله عليه وسلم: " استمتع بها "؛ وقد عرف أنها زانية، وأن ذلك مناف لأخلاقه الشريفة (1) .
وأقول: هذا التأويل خلاف الظاهر، والاستبعاد لا يجوز إثبات الأحكام الشرعية أو نفيها بمجرده، فالأولى التعويل على شيء آخر؛ هو أن الحديث قد اختلف في وصله وإرساله؛ بل قال النسائي: إنه ليس بثابت (2) .
وهكذا لا وجه لحمل الحديث على مجرد التهمة؛ فإن الرجل لم يقل: إنه يتهم أنها لا ترد يد لامس، أو يشك، أو يظن؛ بل قال ذلك جزما.
( [المحرمات من النساء] :)
(ومن صرح القرآن بتحريمه) ؛ وهو ظاهر؛ لقوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم
__________
(1) بل إن ما قاله المقبلي هو الصحيح؛ ولو كان رميا لها بالزنا؛ لأوجب عليه الحد أو اللعان. (ش)
(2) • قلت: قد عرفت أن الاختلاف وعدم الثبوت؛ إنما هو وارد على طريق ابن عمير، وأما الطريق الأخرى؛ فلا اختلاف فيها؛ بل هو صحيح، فالتعويل على ما نقله الشارح عن المقبلي، وإن رده هو؛ فرده مردود عليه. (ن)(2/182)
وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) {ثم قال} (وأحل لكم ما وراء ذلكم} .
(1 -[المحرمات من النسب] :)
قال في " المسوى ": " اتفقت الأمة على أنه يحرم على الرجل أصوله، وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده؛ فالأصول هي: الأمهات، والجدات وإن علون، والفصول هي: البنات، وبنات الأولاد، وإن سفلن؛ وفصول أول الأصول هي: الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، وإن سفلن، وأول فصل من كل أصل بعده هي: العمات، والخالات، وإن علت درجتهن ". انتهى.
(2 -[المحرمات من الرضاع] :)
(والرضاع كالنسب) ؛ لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم ".
وفي لفظ: " من النسب ".
وفيهما أيضا، من حديث عائشة مرفوعا:
" يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ".
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديث علي، قال: قال(2/183)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب ".
قال أهل العلم: والمحرمات من الرضاع سبع: الأم، والأخت - بنص القرآن -، والبنت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت؛ لأن هؤلاء يحرمن من النسب، فيحرمن من الرضاع، وقد وقع الخلاف: هل يحرم من الرضاع ما يحرم من الصهار؟
وقد حقق الكلام في ذلك ابن القيم في " الهدي ".
قال في " المسوى ":
" اتفقت الأمة على أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم المنكوحة على آباء الناكح وإن علوا، وعلى أبنائه، وأبناء أولاده من النسب والرضاع جميعا وإن سفلوا؛ تحريما مؤبدا بمجرد العقد.
ويحرم على الناكح أمهات المنكوحة، وجداتها من الرضاع والنسب جميعا؛ تحريما مؤبدا بمجرد العقد.
فإن دخل بالمنكوحة حرمت عليه بناتها، وبنات أولادها من النسب والرضاع جميعا.
وإن فارقها قبل أن يدخل بها؛ جاز له نكاح بناتها.
واتفقوا على أن حرمة الرضاع كحرمة النسب في المناكح، فإذا أرضعت المرأة رضيعا؛ يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة: كل من يحرم على ولدها من النسب، ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع، ولا على(2/184)
أخيه، ولا تحرم عليك أم أختك إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك.
ويتصور هذا في الرضاع، ولا يتصور في النسب؛ ليس لك أم أخت إلا وهي أم لك أو زوجة لأبيك.
وكذلك لا تحرم عليك أم نافلتك (1) إذا لم تكن ابنتك أو زوجة ابنك.
ولا جدة ولدك إذا لم تكن أمك أو أم زوجتك، ولا أخت ولدك إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك.
وحرمة الرضاع تكون بالرجال كما تكون بالنساء، وهو قول أكثر أهل العلم ". انتهى.
( [من المحرمات مؤقتا] :)
(1 -[الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها] :)
(والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما؛ قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها.
وفي لفظ لهما: نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
وفي الباب أحاديث.
وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن عامة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك.
__________
(1) • ولد الولد. (ن)(2/185)
وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم.
وقد حكى الإجماع أيضا الشافعي، والقرطبي، وابن عبد البر.
قلت: اتفقت الأمة على أنه يحرم عليه أن يجمع بين الأختين، وبين العمة وبنت أخيها، وبين الخالة وبنت أختها؛ من النسب والرضاع جميعا.
وجملته: أن كل امرأتين من أهل النسب - لو قدرت إحداهما ذكرا حرمت الأخرى عليه -؛ فالجمع بينهما حرام.
ولا بأس بالجمع بين المرأة وزوجة أبيها أو زوجة ابنها؛ لأنه لا نسب بينهما؛ كذا في " المسوى ".
(2 -[الزيادة على الأربع للحر] :)
(و) يحرم (ما زاد على العدد المباح للحر والعبد) ؛ لحديث قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة؛ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: " اختر منهن أربعا "؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة.
وقال ابن عبد البر: ليس له إلا حديث واحد (1) ، ولم يأت من وجه صحيح (2) ، ويؤيده ما سيأتي فيمن أسلم وعنده أكثر من أربع.
__________
(1) ظاهر صنيع الشارح يوهم أن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ ليس له إلا حديث واحد، وهو خطأ شنيع؛ فإن محمدا هذا من أكثر الرواة حديثا، واختلفوا فيه، والغالب على حديثه الضعف.
وأما كلمة ابن عبد البر؛ فإنها في الصحابي؛ وهو الحارث بن قيس - أو قيس بن الحارث -.
وقال البغوي: لا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا. (ش)
(2) انظر - لزاما - " الإرواء " (1883 - 1885) ؛ فهو فيه مصحح بعض رواياته لا كلها.(2/186)
وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ ففيه ما أوضحه الماتن في " شرح المنتقى "، وفي " حاشية الشفاء "، وقد قيل: إنه لا خلاف في تحريم الزيادة على الأربع، وفيه نظر كما أوضحه هنالك.
أقول: قال الماتن - رحمه الله تعالى - في كتابه " السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ":
" أما الاستدلال على تحريم الخامسة، وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله - عز وجل -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ فغير صحيح؛ كما أوضحته في شرحي ل " المنتقى "، ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث، وحديث غيلان الثقفي، وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه؛ وإن كان في كل أحد منها مقال؛ لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه.
وقد حكى الإجماع صاحب " فتح الباري "، والمهدي في " البحر "، والنقل عن الظاهرية لم يصح؛ فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم.
وأيضا قد ذكرت في تفسيري الذي سميته " فتح القدير " تصحيح بعض هذه الأحاديث، وأطلت المقال في ذلك، فليرجع إليه ". انتهى.
وقال في " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ":
" حديث قيس بن الحارث - وفي رواية: الحارث بن قيس -؛ في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة؛ قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا، وقال أبو عمر(2/187)
النمري (1) : ليس له إلا حديث واحد، ولم يأت به من وجه صحيح.
وفي معنى هذا الحديث: حديث غيلان الثقفي؛ وهو عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر؛ قال: أسلم غيلان الثقفي، وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح.
وحكى الحاكم عن مسلم: أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة.
قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة.
وقد أخذ ابن حبان، والحاكم، والبيهقي بظاهر الحكم، وأخرجوه من طرق عن معمر؛ من حديث أهل الكوفة، وأهل خراسان، وأهل اليمامة، عنه.
قال الحافظ: " ولا يفيد ذلك شيئا؛ فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا بغيرها؛ فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب؛ لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء؛ وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم به؛ كابن المديني، والبخاري، وابن أبي حاتم، ويعقوب بن شيبة، وغيرهم.
وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر في وصله، وتحديثه به في غير بلده.
__________
(1) هو ابن عبد البر، وقد ظهر من هذا خطأ الشارح في تعبيره فيما مضى. (ش)(2/188)
وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة.
وقد أطال الدارقطني في " العلل " تخريج طرقه.
ورواه ابن عيينة، ومالك، عن الزهري مرسلا؛ ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك.
وقد وافق معمرا على وصله: بحر بن كنيز (1) السقاء، عن الزهري، ولكنه ضعيف.
وكذا وصله يحيى بن سلام، عن مالك، ويحيى ضعيف (2) ".
وفي الباب: عن نوفل بن معاوية عند الشافعي: أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك أربعا وفارق الأخرى "، وفي إسناده رجل مجهول؛ لأن الشافعي قال: حدثنا بعض أصحابنا، عن أبي الزناد، عن عبد المجيد بن سهل، عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية، قال: أسلمت ... . فذكره (3) .
__________
(1) في الأصل: (بحر كنيز) ، وهو خطأ.
و (كنيز) بنون وزاي مصغرا، وضبطه عبد الغني بفتح الكاف، وبحر هذا ضعيف جدا، مات سنة 160. (ش)
(2) • قلت: لقد أطال العلماء - رحمهم الله - الكلام على حديث معمر هذا، ونسبوه كما رأيت إلى الوهم، حيث رواه موصولا، وأنا أرى أن لا طائل تحت ذلك؛ لأن الحديث قد ورد من غير طريقه موصولا بسند صحيح عن ابن عمر؛ أخرجه الدارقطني (404) ، والبيهقي (7 / 183) ؛ من طريق سيف بن عبيد الله الجرمي: ثنا سرار بن مجشر، عن أيوب، عن نافع، وسالم، عن ابن عمر ... به.
وهذا سند صحيح لا مطعن فيه، وبه قامت الحجة على تحريم الزيادة على الأربع. (ن)
(3) ضعفه الشيخ في " الإرواء " (1884) .(2/189)
وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود، وصفوان بن أمية عند البيهقي.
وقوله: " اختر منهن أربعا "؛ استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع.
وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا، ولعل وجهه قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} ، ومجموع ذلك - لا باعتبار ما فيه من العدل - تسع، وحكي ذلك عن ابن الصباغ، والعمراني، وبعض الشيعة، وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه، وحكاه صاحب " البحر " عن الظاهرية، وقوم مجاهيل.
وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول.
قالوا: ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بمثل ذلك، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بين تسع، أو إحدى عشرة، وقد قال - تعالى -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} .
وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع؛ فهو محل النزاع؛ ولم يقم عليه دليل.
وأما قوله - تعالى - {مثنى وثلاث ورباع} ؛ ف (الواو) فيه للجمع لا للتخيير، وأيضا لفظ: {مثنى} معدول به عن اثنين اثنين، وهو يدل على(2/190)
تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفة الاثنينية؛ وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلا ما فوق الألوف؛ فإنك تقول: جاءني القوم مثنى؛ أي: اثنين اثنين، وهكذا ثلاث ورباع، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد.
فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.
وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد؛ إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها؛ فإنه لا شك أنه يصح لغة وعرفا أن يقول الرجل لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة؛ فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير؛ سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير؛ لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم، فكأن الله سبحانه قال لكل فرد من الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة، وهي بمجردها كافية في الحل، حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها.
وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة - كما صرح به الخطابي -؛ فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل، وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع؛ كما صرح بذلك في " البحر " (1)
__________
(1) • وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " إبطال التحليل " (ج 3 ص 216 من " الفتاوى ") : " أجمع الصحابة على تحريم الجمع بين أكثر من أربع نسوة، كما رواه عبيدة السلماني وغيره ". (ن)(2/191)
وقال في " الفتح ":
" اتفق العلماء على أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن ".
وقد ذكر الحافظ في " الفتح "، و " التلخيص " الحكمة في تكثير نسائه - صلى الله عليه وسلم -؛ فليراجع ذلك ". انتهى.
وقال في تفسيره " فتح القدير ":
" وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم - أو هذا المال الذي في البدرة - درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.
وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه، أما لو كان مطلقا - كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه -؛ فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول.
على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وبعضه ثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة؛ كان هذا هو المعنى العربي.
ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى - وهم مئة ألف -؛ كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، وهكذا: جاءني القوم ثلاث ورباع، والخطاب(2/192)
للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد؛ كما في قوله - تعالى -: {اقتلوا المشركين} ، {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، ونحوها.
ومعنى قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، هذا ما تقتضي لغة العرب، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه.
ويؤيد هذا قوله - تعالى - في آخر الآية: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} ؛ فإنه وإن كان خطابا للجميع؛ فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد؛ فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن.
وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، وكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور؛ فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا؛ كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) ؛ لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني.
وأخرج الشافعي، وابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، عن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" اختر منهن ".
وفي لفظ: " أمسك منهن أربعا، وفارق سائرهن ".(2/193)
وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق.
وعن نوفل بن معاوية الديلي، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أمسك أربعا، وفارق الأخرى "، أخرجه الشافعي في " مسنده " (1) .
وأخرج ابن ماجه، والنحاس في " ناسخه "، عن قيس بن الحارث الأسدي قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " اختر منهن أربعا، وخل سائرهن "، ففعلت.
وهذه شواهد للحديث الأول؛ كما قال البيهقي.
( [بيان الخلاف في عدد نساء المملوك] :)
وعن الحكم، قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين ". انتهى كلامه.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين؛ رواه الدارقطني.
قال الماتن - رحمه الله - في " نيل الأوطار ":
" قد تمسك بهذا من قال: إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين؛ وهو مروي عن علي، وزيد بن علي، والناصر، والحنفية، والشافعية.
ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته،
__________
(1) تقدم بيان ضعفه؛ فليعلم!(2/194)
نعم؛ لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلا عند القائلين بحجية الإجماع؛ ولكنه قد روي عن أبي الدرداء، ومجاهد، وربيعة، وأبي ثور، والقاسم بن محمد، وسالم: أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر.
حكى ذلك عنهم صاحب " البحر ".
فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله - تعالى -: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ، والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم؛ إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة؛ كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما ". انتهى.
ويوضح ذلك ما حرره الماتن - رحمه الله تعالى - في " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام "؛ عبارته هكذا:
" الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب - وصار كالمجمع عليه عندهم -: أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة؛ كانت صيغة العدل المفردة في قوة تلك الأعداد، فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة - وكانوا ألوفا مؤلفة -، فقلت: جاءني القوم مثنى؛ أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين، حتى تكاملوا، فإن قلت: مثنى، وثلاث، ورباع؛ أفاد ذلك: أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين، وتارة ثلاثة ثلاثة، وتارة أربعة أربعة، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء؛ لا مقدار عدد جميع القوم، فإنه لا يستفاد منها أصلا، بل غاية ما يستفاد منها: أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به.
ومثل هذا إذا قلت: نكحت النساء مثنى؛ فإن معناه: نكحتهن اثنتين اثنتين، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من الدفعات لم يدل في نكاحه إلا(2/195)
بعد خروج الأولى، كما أنه لا دليل - في قولك: جاءني القوم مثنى - أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك؛ إلا وقد فارقك الاثنان الأولان.
إذا تقرر هذا؛ فقوله - تعالى -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات، وليس في هذه تعرض لمقدار عددهن؛ بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين؛ كما قدمنا في مجيء القوم، وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا؛ فهذا مقام الاستفادة منه، فليتفضل بها علينا، وابن عباس إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع؛ فهو فرد من أفراد الأمة.
وأما القعقعة بدعوى الإجماع من المصنف وأمثاله، فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة، وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية (1) ، وابن الصباغ، والعمراني، والقاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول، وجماعة من
__________
(1) • قلت: ويجاب عن هذا؛ بأن هذا الخلاف لا يعتد به؛ لأنه طرأ بعد الإجماع، فقد نقله - كما تقدم منا - عبيدة السلماني - وهو من كبار التابعين -؛ بل إنه أدرك عصر النبوة؛ فإنه أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، ولم يلقه، ولذلك قال الذهبي في " التذكرة " (1 / 47) : " كاد أن يكون صحابيا؛ أسلم زمن فتح مكة باليمن، وأخذ عنه علي، وابن مسعود، قال الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء ".
فمثل هذا الإمام إذا نقل إجماع أهل عصره - لا سيما وهم الصحابة، ومعرفة إجماعهم من المعاصر أيسر بكثير من معرفة إجماع غيرهم من معاصرهم لتفرقهم -؛ تطمئن النفس لصحته، ويؤيده أننا لم نعلم أن أحدا منهم - أعني: الصحابة - وغيرهم من السلف الصالح نقل تزوجه بأكثر من أربع؛ فتأمل. (ن)(2/196)
الشيعة، وثلة من محققي المتأخرين، وخالفه أيضا القرآن الكريم كما بيناه، وخالفه أيضا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما صح تواترا من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات: {وما آتاكم الرسول فخذوه} ، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ؟ !
ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل، والبراءة الأصلية مستصحبة؛ لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير.
وأما حديث أمره - صلى الله عليه وسلم - لغيلان لما أسلم وتحته عشرة نسوة؛ بأن يختار منهن أربعا، ويفارق سائرهن؛ كما أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان؛ فهو وإن كان له طرق؛ فقد قال ابن عبد البر: كلها معلولة؛ وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى.
ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني، والفعل المصطفوي الذي مات صلى الله عليه وسلم عليه، والبراءة الأصلية.
ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، أو جاءنا بدليل في معناه؛ فجزاه الله خيرا؛ فليس بين أحد وبين الحق عداوة، وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه؛ لا سيما في مقامات التحرير والتقرير؛ كما نفعله في كثير من الأبحاث، وإذا حاك في صدره شيء؛ فليكن تورعه في العمل؛ لا في تقرير الصواب.
فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك لقيل وقال، ولا(2/197)
سيما في مثل مواطن تجبن عنها كثير من الرجال؛ فإنك لا تسأل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد؛ بل عن الذي يرتضيه المعبود؛ و (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) ، و (من ورد البحر استقل السواقيا) ". انتهى.
واندفع بهذا ما في " المسوى " من قوله:
" قلت: اتفقت الأمة على أن الحر يجوز له أن ينكح أربع حرائر، ولا يجوز له أن ينكح أكثر من أربع.
قال الشافعي: انتهى الله - تعالى - بالحرائر إلى أربع؛ تحريما لأن يجمع أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم بين أكثر من أربع.
وأما العبد؛ فأكثر الأمة على أنه لا ينكح أكثر من امرأتين، وفي الآية ما يدل على أنها في الأحرار وهو قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} ، وملك اليمين لا يكون إلا للأحرار ". انتهى.
وأما العدد الذي يحل للعبد؛ فقد حكى البيهقي، وابن أبي شيبة، أنه أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين، وكذلك حكى إجماع الصحابة الشافعي.
وروى الدارقطني، عن عمر أنه قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين.
وسيأتي ما ورد في طلاق الأمة والعدة - في باب العدة -، فمن قال بأن إجماع الصحابة حجة كفاه إجماعهم، ومن لم يقل بحجية إجماعهم؛ أجاز(2/198)
للعبد ما يجوز للحر من العدد (1) ، وقد أوضح الماتن حكم الإجماع في أول " حاشية الشفاء ".
( [حكم زواج العبد بغير إذن سيده] :)
(وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده؛ فنكاحه باطل) (2) ؛ لحديث جابر عند أحمد (3) ، وأبي داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من تزوج بغير إذن سيده؛ فهو عاهر ".
وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث ابن عمر.
قال الترمذي: " لا يصح؛ إنما هو عن جابر ".
__________
(1) • وفي " الموطإ " (2 / 74) عن مالك: " أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: ينكح العبد أربع نسوة، قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك، والعبد مخالف للمحلل؛ إن أذن له سيده ثبت نكاحه، وإن لم يأذن له سيده فرق بينهما ". (ن)
(2) • باتفاق المسلمين إذا لم يجزه السيد، فإن أجازه بعد العقد صح في مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين، ولم يصح في مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى؛ كذا في " الفتاوى " لابن تيمية (2 / 90) . (ن)
(3) • في " المسند " (7 / 300، 377، 382) ، وأبو داود (1 / 325) ، والترمذي (2 / 182) ، وقال: " حسن صحيح "، والدارمي أيضا (2 / 152) ، والحاكم (2 / 194) ، والطيالسي (رقم 1675) ، والبيهقي (7 / 127) ؛ من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو حسن؛ لأن ابن عقيل فيه كلام من قبل حفظه.
ورواه ابن ماجه (1 / 604) ؛ من طريق القاسم بن عبد الواحد، عنه، عن ابن عمر؛ وهو خطأ كما أشار إليه الترمذي؛ إنما هو عن جابر، وهكذا على الصواب هو في " المسند "، و " المستدرك " من هذا الوجه. (ن)(2/199)
وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر أيضا، وفي إسناده مندل بن علي؛ وهو ضعيف (1) .
وقد ذهب إلى عدم صحة عقد العبد بغير إذن مولاه: الجمهور.
وقال مالك: إن العقد نافذ، ولسيده فسخه.
وورد بأن العاهر الزاني، والزنا باطل، وفي رواية من حديث جابر بلفظ: " باطل ".
( [حكم الأمة في الزواج إذا عتقت] :)
(وإذا عتقت الأمة ملكت أمر نفسها، وخيرت في زوجها) ؛ لحديث عائشة في " صحيح مسلم " وغيره: أن بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عبدا.
وكذا في " صحيح البخاري " من حديث ابن عباس.
وفي حديث آخر لعائشة عند أحمد، وأهل " السنن ": أن زوج بريرة كان حرا.
(2)
وقد اختلفت الروايات في ذلك (3)
__________
(1) • أخطأ الشارح - رحمه الله -؛ فإنما هذا في " سنن ابن ماجه "، وكذا " البيهقي "، و " الدارمي " أيضا.
وأما أبو داود؛ فأخرجه من طريق أخرى ليس فيها مطعون فيها؛ بل إسناده صحيح، رجاله كلهم رجال الصحيح.
وقول أبي داود عقبه: " والحديث ضعيف، وهو موقوف، وهو قول ابن عمر - رضي الله عنه - "؛ فمما لا يلتفت إليه؛ لأنه خلاف القواعد، ثم إن هذا الحديث: " فنكاحه باطل "؛ ليس في حديث جابر كما ظن الشارح. (ن)
(2) هذه الرواية شاذة؛ كما بينه شيخنا في " الإرواء " (1873) ؛ والمحفوظ أنه كان عبدا.
(3) • ورجح الحافظ أنه كان عبدا. فانظر " الفتح ". (ن)(2/200)
وقد اختلف أهل العلم في ثبوت الخيار إذا كان الزوج حرا:
فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت، وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة، وقد وقع في بعض الروايات:: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: " ملكت نفسك؛ فاختاري " (1) ؛ فإن هذا يفيد أنه لا فرق بين الحر والعبد.
والحاصل: أن الاختلاف في كون زوجها حرا أو عبدا لا يقدح في ذلك؛ لأن ملكها لأمر نفسها يقتضي عدم الفرق.
ولكن دعوى أن تمكينها لزوجها بعد علمها بالعتق، وثبوت الخيار، مبطل لخيارها؛ لا دليل عليها (2) ، وتركه صلى الله عليه وسلم لاستفصال بريرة أو زوجها عن ذلك: يفيد أنه غير مبطل، ولو كان مبطلا لم يتركه.
( [حكم فسخ النكاح بالعيب] :)
(ويجوز فسخ النكاح بالعيب) ؛ لحديث كعب بن زيد - أو زيد بن كعب - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها، ووضع ثوبه، وقعد على الفراش؛ أبصر بكشحها بياضا، فانحاز عن الفراش، ثم قال: " خذي عليك ثيابك "؛ ولم يأخذ مما آتاها شيئا.
أخرجه أحمد، وسعيد بن منصور، وابن عدي، والبيهقي.
__________
(1) • لم أقف على هذه الرواية الآن، وقد نقلها ابن التركماني في " الجوهر النقي " (7 / 224) عن " التمهيد " بلفظ: " روي في بعض الآثار ... "؛ فكأنه أشار لضعفه. (ن)
(2) • قد جاء في ذلك حديث مرفوع - عن عائشة -؛ بإسنادين ضعيفين؛ انظر " البيهقي " (7 / 225) . (ن)(2/201)
وأخرجه - من حديث كعب بن عجرة - الحاكم في " المستدرك ".
وأخرجه أبو نعيم في " الطب "، والبيهقي، من حديث ابن عمر، وفي الحديث اضطراب (1) .
وروى مالك في " الموطإ "، والدارقطني، وسعيد بن منصور، والشافعي، وابن أبي شيبة، عن عمر، أنه قال: أيما امرأة غُر بها رجل - بها جنون أو جذام أو برص -؛ فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره؛ ورجال إسناده ثقات.
وفي الباب عن علي عند سعيد بن منصور.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن النكاح يفسخ بالعيوب، وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك.
وروي عن علي، وعمر، وابن عباس، أنها لا ترد النساء إلا بالعيوب الثلاثة المذكورة، والرابع: الداء في الفرج.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة ترد بكل عيب ترد به الجارية في البيع، ورجحه ابن القيم، واحتج له في " الهدي " بالقياس على البيع.
وذهب البعض إلى أن المرأة ترد الزوج بتلك الثلاثة، وبالجب، والعنة (2) .
__________
(1) وفي إسناده جميل بن زيد؛ وهو ضعيف.
ولا دلالة فيه على الفسخ؛ لاحتمال أن يكون طلقها وكنى عن الطلاق بقوله: " خذي عليك ثيابك ". (ش)
• لأنه من طريق جميل بن زيد، قال - مرة -: عن زيد بن كعب: قال كعب.
ومرة قال: عن ابن عمر؛ أخرجه البيهقي (7 / 257) ، وقال: " قال البخاري: لم يصح حديثه ".
وهو في " المستدرك " (4 / 34) من الوجه الأول، وضعفه الذهبي. (ن)
(2) الجب: قطع الذكر.
والعنة: ارتخاؤه دائما؛ فلا يصل إلى النساء. (ش)(2/202)
والخلاف في هذا البحث طويل.
أقول: اعلم أن الذي ثبت بالضرورة الدينية؛ أن عقد النكاح لازم، تثبت به أحكام الزوجية؛ من جواز الوطء، ووجوب النفقة ونحوها، وثبوت الميراث، وسائر الأحكام، وثبت بالضرورة الدينية أن يكون الخروج منه بالطلاق والموت.
فمن زعم أنه يجوز الخروج من النكاح بسبب من الأسباب؛ فعليه الدليل الصحيح المقتضي للانتقال عن ثبوته بالضرورة الدينية.
وما ذكروه من العيوب؛ لم يأت في الفسخ بها حجة نيرة، ولم يثبت شيء منها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " الحقي بأهلك " (1) ؛ فالصيغة صيغة طلاق (2) ؛ وعلى فرض الاحتمال؛ فالواجب الحمل على المتيقن دون ما سواه، وكذلك الفسخ بالعنة لم يرد به دليل صحيح، والأصل البقاء على النكاح حتى يأتي ما يوجب الانتقال عنه.
ومن أعجب ما يتعجب منه: تخصيص بعض العيوب بذلك دون بعض؛
__________
(1) هذا اللفظ؛ رواية في حديث كعب بن زيد في قصة الغفارية. (ش)
(2) • قلت: هو كذلك، ولكن ما الذي حمل الشارح على حشر هذا اللفظ في هذا البحث؛ مع أنه لم يسبق لحديثه ذكر؟ ! نعم؛ يوهم صنيعه أن هذا اللفظ له علاقة بحديث كعب بن زيد المتقدم، وقد اغتر به المعلق على الكتاب، فجزم بأنه رواية في حديث كعب بن زيد في قصة الغفارية، وهذا خطأ واضح منهما؛ فإن هذا اللفظ إنما ورد في حديث آخر بقصة أخرى صحيحة:
قالت عائشة: إن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها؛ قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: " لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك "؛ رواه البخاري (9 / 292) ، والحاكم (4 / 35) . (ن)(2/203)
لا لمجرد دليل (1) ، فسبحان الله وبحمده!
( [حكم أنكحة الكفار إذا أسلموا] :)
(ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا ما يوافق الشرع) ؛ لحديث الضحاك بن فيروز، عن أبيه، عند أحمد (2) ، وأهل " السنن "، والشافعي، والدارقطني، والبيهقي - وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان -، قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطلق إحداهما (3) .
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والشافعي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، عن ابن عمر، قال: أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا.
__________
(1) كلا؛ بل الدليل قائم؛ وهو النهي عن المضارة وعن الغش، وهذه العيوب مما لا يرجى برؤها وزوالها، فما لم يعلم بها أحد الزوجين؛ فهو بالخيار عند العلم بها. (ش)
(2) • في " المسند " (4 / 232) . (ن)
(3) • وأعله البخاري، والعقيلي.
وقال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 158) - تعليقا على إسناد أبي داود -:
" هذا الحديث يرويه أبو وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه؛ قال البخاري: في إسناده هذا الحديث نظر، ووجه قوله؛ أن أبا وهب، والضحاك مجهول حالهما؛ وفيه يحيى بن أيوب؛ ضعيف ".
قلت: أما يحيى بن أيوب؛ فقد توبع عليه؛ عند الترمذي وغيره.
فعلته من أبي وهب، والضحاك؛ وقد قال الحافظ في ترجمة كل منهما في " التقريب ": " مقبول "؛ يعني عند المتابعة؛ وما وجدت لهما متابعا. (ن)(2/204)
وقد أعل الحديث بأن الثابت منه إنما هو قول عمر؛ كما قال البخاري.
قال ابن القيم:
" السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان؛ أنه يخير في إمساك من شاء منهما وترك الأخرى، وردت بأنه خلاف الأصول، وقالوا: قياس الأصول يقتضي أنه إن نكح واحدة بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود، ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير، وإن نكحهما معا فنكاحهما باطل ولا يخير، وكذلك حديث من أسلم على عشر نسوة، وربما أولوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات ".
ولفظ الحديث يأبى هذا التأويل أشد الإباء؛ فإنه قال: " أمسك أربعا وفارق سائرهن "؛ رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن غيلان أسلم ... فذكره.
وحديث فيروز المتقدم؛ فهذان الحديثان هما الأصول التي يرد ما خالفهما من القياس، أما أن تعقد قاعدة، وتقول: هذا هو الأصل، ثم ترد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة، فلعمر الله؛ لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله - تعالى - ورسوله؛ أفرض علينا من رد حديث واحد.
وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين؛ فإن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف وقعت؟ وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح؛ أو لم تصادفها فتبطل؟ وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج؛ فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما، ولو كان(2/205)
في الجاهلية؛ وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك؛ وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار؛ لم يقر عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم، أو أختان، أو أكثر من أربع، فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما خالفه فلا يلتفت إليه، والله الموفق ". انتهى ملخصا.
( [حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين] )
(وإذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح وتجب العدة) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، قال:
كان إذا هاجرت المرأة من أهل الحرب؛ لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، وإن جاء زوجها قبل أن تنكح ردت إليه.
وأخرج مالك في " الموطإ "، عن الزهري، أنه قال:
ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله؛ وزوجها كافر مقيم بدار الحرب؛ إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها.
وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس، قال:
كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه؛ وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن(2/206)
هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه.
( [حكم نكاح من أسلم وزوجته لم تنقض عدتها] :)
(فإن أسلم ولم تتزوج المرأة كانا على نكاحهما الأول؛ ولو طالت المدة؛ إذا اختارا ذلك) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود، وصححه الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص - زوجها - بنكاحها الأول بعد سنتين، ولم يحدث شيئا.
وفي لفظ: ولم يحدث صداقا.
وفي لفظ للترمذي (1) : ولم يحدث نكاحا، وقال: " هذا حديث حسن، ليس بإسناده بأس ".
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد؛ وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف.
(وروي بإسناد ضعيف، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ... مثله) (2) .
__________
(1) • وقال (2 / 196) : " ليس بإسناده بأس ".
قلت: وهو حسن، وصححه أحمد كما سنعلقه قريبا. (ن)
(2) • قلت: هذا يوهم أنه إسناد آخر عن ابن عمرو؛ غير الذي عزاه للترمذي، وابن ماجه؛ وليس كذلك؛ فإن الحديث عندهما من طريق الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب ... به.
فهذه الجملة التي بين القوسين تكرار لا معنى له.
ثم الحديث أخرجه أحمد أيضا (رقم 6938) ، وقال عقبه: " هذا حديث ضعيف - أو قال: واه -، ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب؛ إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي؛ والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الصحيح الذي روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول ". (ن)(2/207)
قال الترمذي: " في إسناده مقال "؛ وقال الإمام أحمد: " هذا حديث ضعيف، والصحيح: أنه أقرهما على النكاح الأول ".
وقال الدارقطني: " هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول ".
وقال الترمذي في كتاب " العلل " له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو ابن شعيب ".
قال ابن القيم:
" فكيف يجعل هذا الحديث الضعيف أصلا ترد به السنة الصحيحة المعلومة وتجعل خلاف الأصول؟ ! ". انتهى.
وقد ذهب إلى ما دل عليه حديث ابن عباس جماعة من الصحابة، ومن بعدهم؛ لا كما نقله ابن عبد البر من الإجماع؛ على أنه لا يبقى العقد بعد انقضاء العدة، ولا مانع من جعل حديث ابن عباس - وما ورد في معناه - مخصصا لما ورد من أن العدة إذا انقضت فقد ذهب العقد؛ ولم تحل للزوج إلا بعقد جديد.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ".
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه؛ بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج، هذه سنته المعلومة.(2/208)
قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة، وبخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام، ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام، فأخذت بلحيته، وقالت: اقتلوا الشيخ الضال؛ ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام، وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت بعد انقضاء العدة، واستقرا على النكاح، لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت، وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه.
وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهرب عكرمة إلى اليمن، وهي دار حرب، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب، ثم رجع صفوان إلى مكة، وهي دار الإسلام، وشهد حنينا وهو كافر، ثم أسلم، فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول، وذلك أنه لم تنقض عدتها.
وقد حفظ أهل العلم بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة، فأسلمت، وهاجرت إلى المدينة، فقدم زوجها وهي في العدة، فاستقرا على النكاح ". انتهى.
أقول: إن إسلام المرأة مع بقاء زوجها في الكفر ليس بمنزلة الطلاق؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له عليها سبيل بعد انقضاء عدتها إلا برضاها؛ مع تجديد العقد.
فالحاصل: أن المرأة المسلمة إن حاضت بعد إسلامها، ثم طهرت؛ كان لها أن تتزوج بمن شاءت، فإذا تزوجت؛ لم يبق للأول عليها سبيل إذا أسلم،(2/209)
وإن لم تتزوج كانت تحت عقد زوجها الأول، ولا يعتبر تجديد عقد ولا تراض؛ هذا ما تقتضيه الأدلة، وإن خالف أقوال الناس.
وهكذا الحكم في ارتداد أحد الزوجين؛ فإنه إذا عاد المرتد إلى الإسلام؛ كان حكمه حكم إسلام من كان باقيا على الكفر.
( [الفصل الثالث: أحكام المهر] )
( [دليل وجوب مهر المرأة] :)
(المهر واجب) ؛ وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح، وهو قوله - تعالى -: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ، فلذلك أبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب المهر كما كان.
ودليل وجوبه: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسوغ نكاحا بدون مهر أصلا.
وفي الكتاب العزيز: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} ، وقوله: {فلا تأخذوا منه شيئا} ، وقال: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} الآية، وقال - تعالى -: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} .
وقد أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم - وصححه - (1) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع عليا أن يدخل
__________
(1) • وهو كما قال. (ن)(2/210)
بفاطمة - عليهما السلام - حتى يعطيها شيئا، ولما قال: ما عندي شيء؛ قال: " فأين درعك الحطمية؟ "؛ فأعطاه إياها.
وحديث سهل بن سعد الآتي قريبا من أعظم الأدلة على وجوب المهر.
( [كراهة المغالاة في المهر] :)
(وتكره المغالاة فيه) : لحديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط ": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة "، وفي إسناده ضعف (1) .
وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا "، قال: قد نظرت إليها، قال: " على كم تزوجتها؟ "، قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " على أربع أواق؟ {كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل} ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه "؛ قال: فبعث بعثا إلى بني عبس؛ بعث ذلك الرجل فيهم.
وأخرج أبو داود، والحاكم - وصححه - من حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خير الصداق أيسره " (2) .
__________
(1) ضعيف بهذا اللفظ؛ وإنما يصح بلفظ آخر؛ كما في " الإرواء " (6 / 348) .
(2) حديث صحيح: " الإرواء " (1924) .(2/211)
وعن عائشة: أنه كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؛ اثنتي عشرة أوقية ونشا (1) "؛ أي: نصفا.
وهو في " صحيح مسلم " وغيره.
قال في " الحجة ":
" ولم يضبط النبي صلى الله عليه وسلم المهر بحد لا يزيد ولا ينقص؛ إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب شتى، ولهم في المشاحة طبقات؛ فلا يمكن تحديده عليهم؛ كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص، ولذلك قال: " التمس ولو خاتما من حديد "، غير أنه سن في صداق أزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا.
وقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: لا تغالوا في صدقات النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم (2) ". انتهى.
( [ما يصح به المهر] :)
(ويصح ولو خاتما من حديد أو تعليم قرآن) : لما أخرجه أحمد، وابن
__________
(1) • النش: عشرون درهما؛ وهو نصف أوقية؛ كما يقال للخمسة: نواة: " مختار الصحاح ". (ن)
(2) • أخرجه ابن سعد (8 / 165) ، وأصحاب " السنن "، وغيرهم؛ وسنده صحيح، وانظر الكلام عليه في التعليق على " المسند " (1 / 285 - 286) .
وأما ما وقع في بعض طرق هذا الأثر عن عمر من اعتراض المرأة له وعليه، واحتجاجها بآية: {وآتيتم إحداهن قنطارا} ، ثم رجوعه إلى المنبر وقوله: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له:
فأخرجه البيهقي (7 / 233) ؛ وقال: " هذا منقطع ". (ن)(2/212)
ماجة، والترمذي (1) - وصححه - من حديث عامر بن ربيعة: أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين؟ ، فقالت: نعم؛ فأجازه ".
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا - ملء يديه - طعاما كانت له حلالا "، وفي إسناده ضعف.
وأخرج الدارقطني، في حديث لأبي سعيد في المهر، قال: " ولو على سواك من أراك ".
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله {إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله} زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة {فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل عندك من شيء تصدقها؟ "، قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا} "، فقال: ما أجد شيئا! قال: " التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل معك من القرآن شيء؟ "، قال: نعم سورة كذا وسورة كذا - لسور سماها -، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " قد زوجتكها بما معك من القرآن ".
__________
(1) • في " سننه " (2 / 182) ، وقال: " حديث حسن صحيح ".
وتعقبوه؛ لأن في سنده - عند الجميع - عاصم بن عبيد الله، قال البيهقي بعد أن أخرجه عنه: " تكلموا فيه، ومع ضعفه روى عنه الأئمة ". (ن)(2/213)
ولا يعارض ما ذكر حديث: " لا مهر أقل من عشرة دراهم " - عند الدارقطني من حديث جابر -؛ لأن في إسناده مبشر بن عبيد، وحجاج بن أرطاة، وهما ضعيفان.
قال ابن القيم:
" وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من مهر، ولو خاتما من حديد - مع موافقتها لعموم القرآن في قوله: {أن تبتغوا بأموالكم} ، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير - بأثر لا يثبت، وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق.
وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به إلى قطع اليد في السرقة؟ !
وقد تقدم مرارا أن أصح الناس قياساً أهل الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب؛ كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد؛ كان قياسه أفسد ". انتهى.
أقول: الحاصل؛ أن الأدلة قد دلت على أنه يصح أن يكون المهر قليلا بدون تقييد بمقدار؛ بل ما كان له قيمة صح أن يكون مهرا؛ فإن حديث: " ولو خاتما من حديد "، وكذلك حديث المرأة التي تزوجت بنعلين، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا - ملء يديه - طعاما كانت له حلالا "، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف أنه تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب؛ يدل على عدم التقييد بحد في جانب(2/214)
القلة، والأحاديث المذكورة هي في الأمهات:
فالأول: متفق عليه.
والثاني: أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -.
والثالث: أخرجه أحمد، وأبو داود.
والرابع: أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (1) .
فهذه الأحاديث تدل على أنه لا حد للمهر في جانب القلة؛ بل إذا كان له قيمة صح أن يكون مهرا.
وأما في جانب الكثرة؛ فكذلك أيضا لا حد له، ولذلك ذكر الله القنطار، وكانت مهور زوجاته - صلى الله عليه وسلم - لكل واحدة اثنتا عشرة أوقية ونصف؛ عن خمس مئة درهم (2) .
فمن زعم أن المهر لا يكون إلا كذا؛ فعليه الدليل الصحيح.
ولا ريب أن المغالاة في المهور مكروهة كما تقدم.
( [مقدار مهر المرأة المدخول بها والتي لم يحدد صداقها] :)
ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا فلها مهر نسائها إذا دخل بها) ؛
__________
(1) • قلت: لقد أبعد المصنف النجعة؛ فالحديث في " الصحيحين "، وقد عزاه إليهما غير واحد، وانظر " البيهقي " (7 / 236) . (ن)
(2) هكذا الأصل، ولعله: وهي عبارة عن خمس مئة درهم. (ش)(2/215)
لحديث علقمة عند أحمد، وأهل " السنن "، والحاكم، والبيهقي، (1) وصححه الترمذي، وابن حبان، قال: أتي عبد الله - يعني: ابن مسعود - في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقا، ولم يكن دخل بها؟ قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العدة، فشهد معقل بن سنان الأشجعي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بَرْوع ابنة واشق بمثل ما قضى.
وفي " إعلام الموقعين ": " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقا حتى مات؟ فقضى لها على صداق نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث؛ ذكره أحمد وأهل " السنن " وصححه الترمذي وغيره ".
قال ابن القيم " وهذه فتوى لا معارض لها، فلا سبيل إلى العدول عنها " انتهى.
( [تقديم شيء من المهر قبل الدخول مستحب] :)
(ويستحب تقديم شيء من المهر قبل الدخول) ؛ لحديث ابن عباس المتقدم قريبا.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه من حديث عائشة، قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا.
ولا يعارض هذا حديث ابن عباس؛ فإن غاية ما فيه أنه يدل على أن
__________
(1) • في " سننه الكبرى " (7 / 244 - 245) ، وصححه أيضا. (ن)(2/216)
تقدمه شيء من المهر قبل الدخول غير واجبة، ولا ينفي كونها مستحبة (1) .
( [ما على الزوج] :)
(1 -[المعاشرة بالمعروف] :)
(وعليه إحسان العشرة) ؛ لقوله - تعالى -: {وعاشروهن بالمعروف} .
وفي " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة: " إن المرأة كالضلع؛ إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها، فاستوصوا بالنساء ".
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديثه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم ".
وأخرج الترمذي - وصححه - من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خيركم خيركم لأهله؛ وأنا خيركم لأهلي ".
__________
(1) • قلت: هذا لو صح حديث عائشة؛ فكيف وهو غير صحيح الإسناد؛ لأنه من رواية شريك، عن منصور، عن طلحة، عن خيثمة عنها؛ أخرجه أبو داود (1 / 332) ، وابن ماجه (1 / 614) ، والبيهقي (7 / 253) ؛ وأعله أبو داود بقوله: " إن خيثمة لم يسمع من عائشة ".
وعلته الحقيقية الإرسال؛ فقد رواه سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن خيثمة: أن رجلا تزوج ... الحديث؛ وكذلك رواه سعيد، عن طلحة؛ أخرجهما البيهقي.
ولذلك قال ابن عدي: " إن هذا من مناكير شريك "؛ كما في " الجوهر النقي ". (ن)(2/217)
(2 -[كظم الغيظ والتجاوز عن الخطإ] :)
وقال في " الحجة البالغة ":
" الإنسان إذا أراد استيفاء مقاصد المنزل منها؛ لا بد أن يجاوز عن محقرات الأمور، ويكظم الغيظ فيما يجده خلاف هواه؛ إلا ما يكون من باب الغيرة المحمودة، وتداركا لجور، ونحو ذلك ".
(3 -[النفقة عليها من طعام وسكن وكسوة] :)
والواجب الأصلي هو المعاشرة بالمعروف، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بالرزق والكسوة وحسن المعاملة، ولا يمكن في الشرائع المستندة إلى الوحي أن يعين جنس القوت وقدره مثلا؛ فإنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شيء واحد، ولذلك إنما أمر أمرا مطلقا.
قال في " المسوى ":
" إذا أعسر الزوج بنفقة امرأته؛ فهل يثبت لها حق الخروج من النكاح؟ قال الشافعي: لها الخروج عن النكاح، وقال أبو حنيفة: ليس لها ذلك، وكذلك الخلاف في الإعسار بالصداق إلا أن عند الشافعي في الإعسار بالنفقة: إذا رضيت مرة، ثم بدا لها؛ فلها الخروج؛ وفي الإعسار بالصداق: إذا رضيت مرة سقط حقها ". انتهى.
( [ما يجب على المرأة] :)
(1 -[الطاعة بالمعروف] :)
(وعليها الطاعة) ؛ لقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} .(2/218)
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح ".
وأخرج أهل " السنن "، وصححه الترمذي، من حديث عمرو بن الأحوص: " أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر، ووعظ، ثم قال:
" استوصوا بالنساء خيرا؛ فإنما هن عندكم عوان، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن؛ فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا؛ فأما حقكم على نسائكم: فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم: أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ".
وفي الباب أحاديث كثيرة.
(2 -[خدمة الزوج في بيته] :)
وأما أن عليها خدمته في بيته أم لا؟ فأقول:
إيجاب ذلك عليها غير ظاهر، ولكن قد كان نساء الصحابة يعملن الأعمال التي تصلح المعيشة؛ بل ويعملن من الأعمال الخارجة عن ذلك ما هو(2/219)
متبالغ في المشقة، ولم يسمع أن امرأة امتنعت من ذلك، وقالت: هذا ليس علي، أو لست ممن يعمل هذه الأعمال؛ لكوني بمكان من الشرف، أو بمحل من الجمال.
فقد صح في " الصحيحين " وغيرهما: أن الرحى أثرت في يد البتول، والقربة أثرت في نحرها؛ ولا شرف كشرفها - رضي الله عنها وأرضاها -.
فمن زعمت أنه لا يجب عليها إلا تمكين زوجها من الوطء، وأرادت الرجوع بأجرة عملها؛ لم تحل إجابتها إلى ذلك.
إنما الإشكال إذا امتنعت من المباشرة للأعمال ابتداء - قائلة: هذا لا يجب علي -؛ فإجبارها على ذلك يحتاج إلى دليل، فإن صح الأمر منه صلى الله عليه وسلم للبتول بخدمة زوجها؛ كان ذلك صالحا للتمسك به على إجبار الممتنعة (1) .
وأما استدلال القائلين بعدم الوجوب بقوله - تعالى -: {نساؤكم حرث لكم} ، ونحو ذلك؛ فليس مما يفيد المطلوب، وكان يكفيهم أن يقولوا: لم نقف على دليل على الوجوب، ولا يثبت مثل هذا الحكم الشاق بدون ذلك،
__________
(1) • قلت: أوجه الدلالة في الكتاب والسنة غير محصورة بالأمر؛ بل هي كثيرة كما لا يخفى، وقد قام الدليل على وجوب خدمة المرأة لزوجها عند المتفقهين في الكتاب والسنة؛ فالزوج سيد المرأة في كتاب الله - تعالى -؛ وهو قوله: {وألفيا سيدها لدى الباب} ، وهي عانية عنده بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، والعاني: الأسير، ولا يخفى أن مرتبة العبد والأسير خدمة من هما تحت يديه.
وأيضا؛ فقد قال - تعالى -: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، وليس هو إلا خدمتها إياه، فكما أن على الرجل الإنفاق عليها وكسوتها؛ فعليها خدمته مقابل ذلك، وهذا بين لا يخفى.
ومن شاء تمام هذا البحث؛ فليراجع " الفتاوى " (2 / 234 - 235) لابن تيمية، و " زاد المعاد " (4 / 45 - 46) . (ن)(2/220)
ومجرد تقريره صلى الله عليه وسلم لنسائه ونساء المسلمين على العمل في بيوت الأزواج؛ غايته الجواز لا الوجوب.
( [العدل بين الزوجات] :)
(ومن كان له زوجان فصاعدا عدل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن "، والدارمي، وابن حبان، والحاكم - وقال: " إسناده على شرط الشيخين "، وصححه الترمذي -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من كانت له امرأتان؛ يميل لإحداهما على الأخرى؛ (1) جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا - أو مائلا - ".
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها؛ كما في " الصحيح ".
وأخرج أهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول:
" اللهم! هذا قسمي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (2) .
قال في " الحجة البالغة ":
__________
(1) • وفي لفظ: " فلم يعدل بينهما "؛ رواه الترمذي (2 / 159) .
وهذا اللفظ هو الذي عناه صاحب " الحجة "، بقوله الآتي: " وفيه أن قوله: " فلم يعدل ... " مجمل. . "؛ فليعلم ذلك. (ن)
(2) • حديث ضعيف؛ إلا الشطر الأول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل؛ فصحيح: انظر " الإرواء " (2018) . (ن)(2/221)
" والظاهر أن ذلك منه صلى الله عليه وسلم كان تبرعا وإحسانا من غير وجوب عليه؛ لقوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} ، وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد، ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم واختلفوا في القرعة.
أقول: وفيه أن قوله: " فلم يعدل "؛ مجمل لا يدرى أي عدل أريد به؟ ". انتهى.
أقول: وأما الأمة المعقود عليها عقد نكاح؛ فيصدق عليها أنها زوجة، ويصدق عليها أنها امرأة، فيكون الوعيد الوارد فيمن له زوجتان أو امرأتان شاملا لهما.
فالقول بأن الأمة لا تستحق إلا نصف الحرة في القسمة محتاج إلى دليل، ولم يصح في المرفوع شيء، والموقوف على الصحابة - وكذلك المرسلات -؛ ليس فيها حجة.
( [لا كراهة في الكلام حال الجماع] :)
وأما الكلام حال الجماع؛ فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة، فإن كان ذلك بجامع الاستخباث؛ فباطل؛ فإن حالة الجماع حالة مستلذة، لا حالة مستخبثة، وفي المكالمة - حالته - نوع من إحسان العشرة؛ بل فيه لذة ظاهرة؛ كما قال بعض الشعراء:
(ويعجبني منك حال الجماع ... لين الكلام وضعف النظر(2/222)
وإن كان الجامع شيئا آخر؛ فما هو؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع الملاعبة والمداعبة، ووقت الجماع أولى بذلك من غيره.
( [القرعة بين النساء] :)
(وإذا سافر أقرع بينهن) : دفعا لوحر (1) الصدر؛ لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج سفرا؛ أقرع بين أزواجه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها.
( [جواز تنازل المرأة عن نوبتها] :)
(وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها) ؛ لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة (2) .
وفي " الصحيحين " عن عائشة، في تفسير قوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} ، قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها؛ فتقول له: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج غيري، وأنت في حل من النفقة علي والقسم (3) لي.
__________
(1) الوحر - بفتح الواو والحاء -: الغيظ والحقد، وبلابل الصدر ووساوسه، ويقال أيضا: في صدره وحر - بإسكان الحاء -؛ وهو اسم، والمصدر بالفتح. (ش) .
(2) • وقد تواردت الروايات في أن سبب هبتها لنوبتها؛ أنها خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوهبت: انظر " فتح الباري " (9 / 257) . (ن)
(3) تعني عائشة أن هذا نوع من الصلح الجائز الذي تشمله الآية، ولا تريد بذلك حصر الصلح في هذا النوع فقط. (ش)(2/223)
( [للزوجة الجديدة البكر سبعة أيام وثلاثة للثيب] :)
(ويقيم عند الجديدة البكر سبعا والثيب ثلاثا) ؛ لأن البكر؛ الرغبة فيها أتم، والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر، فجعل قدرها السبع، وقدر الثيب الثلاث؛ لحديث أم سلمة عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس، قال: " من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، ثم قسم، وإذا تزوج الثيب؛ أقام عندها ثلاثا، ثم قسم.
وفي الباب أحاديث.
( [حكم العزل] :)
(ولا يجوز العزل) ؛ يشير إلى كراهة العزل من غير تحريم.
قال في " المسوى ":
" اختلف أهل العلم في العزل، فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه جمع منهم، ولا شك أن تركه أولى ".
وبالجملة؛ فدليله حديث جذامة بنت وهب الأسدية: أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟ فقال: " ذلك الوأد الخفي "؛ أخرجه مسلم، وغيره.(2/224)
وأخرج أحمد (1) ، وابن ماجه، عن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نعزل عن الحرة إلا بإذنها؛ وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال.
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي (2) من حديث ابن عباس، قال: نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها.
وقد استدل من جوز العزل بحديث جابر في " مسلم "، وغيره، قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل.
وفي رواية: فبلغه ذلك؛ فلم ينهنا.
وغايته أن جابرا لم يعلم بالنهي، وقد علمه غيره.
وأما ما في " الصحيحين "، من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سألوه عن العزل: " ما عليكم أن لا تفعلوا؛ فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ":
__________
(1) • في " المسند " (رقم 212) ، و " ابن ماجه " (1 / 295) من طريق إسحاق بن عيسى، عن ابن لهيعة؛ وهذا سند ضعيف من أجل ابن لهيعة.
وأخرجه البيهقي (7 / 231) ؛ إلا أنه وقع في اسم الراوي عن ابن لهيعة تحريف. (ن)
قلت: ولكن هذا من صحيح حديث ابن لهيعة؛ إذ إن إسحاق بن عيسى ممن لقي ابن لهيعة قبل احتراق كتبه؛ وعليه فالسند جيد.
وهذا ما انتهى إليه بحث شيخنا في رواية ابن لهيعة؛ وانظر " الصحيحة " (60 / 1158 / تحت الحديث 2971) .
(2) • وهو عنده موقوف؛ فلا حجة فيه. (ن)(2/225)
فقد قيل: إن معناه النهي، وقيل (1) : إن معناه ليس عليكم أن تتركوا، وغايته الاحتمال، ولا يصلح للاستدلال.
وأخرج أحمد (2) ، والترمذي، والنسائي، بإسناد رجاله ثقات، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العزل -: " أنت تخلقه؟ {أنت ترزقه؟} أقرره قراره؛ فإنما ذلك القدر " (3) .
وأخرج أحمد، ومسلم، من حديث أسامة بن زيد: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • وقد حكى الأقوال في ذلك الحافظ في " الفتح " (9 / 252) ؛ ومما نقله عن بعضهم في المنع قوله: " لا عليكم أن لا تفعلوا "؛ أي: لا حرج عليكم أن لا تفعلوا؛ ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل؛ لقال: لا عليكم أن تفعلوا؛ إلا إن ادعي أن (لا) زائدة؛ فيقال: الأصل عدم ذلك.
قلت: وهذا المعنى هو المتبادر، ويؤيده ما أخرج البخاري في (الحج) ، عن عروة، قال: سألت عائشة، فقلت لها: أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه؛ كانت: (لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما)
فتأمله.
لكن قد يعكر عليه ما أخرجه أحمد (3 / 26 - 47) ؛ من طريق أبي الوداك، عن أبي سعيد في هذا الحديث: " واصنعوا ما بدا لكم؛ فإن قدر الله شيئا كان "؛ وإسناده على شرط مسلم، لكني أرى - والله أعلم - أن قوله: " اصنعوا ما بدا لكم " شاذ؛ لأنه تفرد به مجالد بن سعيد، ويونس بن عمرو أبي إسحاق السبيعي، وفيهما ضعف من قبل الحفظ، وقد خالفهما علي بن أبي طلحة عند مسلم (4 / 159) ، وأبو إسحاق السبيعي عند أحمد (3 / 49 - 59 - 93) ؛ فلم يذكروا هذه الزيادة.
ويؤيده أن الحديث في " الصحيحين "، و " المسند " (3 / 49، 53، 57، 93) ؛ من طرق عن أبي سعيد بدونها؛ فثبت شذوذها؛ وراجع البيهقي (7 / 229) . (ن)
(2) • (3 / 53) . (ن)
(3) حديث ضعيف؛ كما بينه شيخنا في " ظلال الجنة " (رقم 369) .(2/226)
-: " لم تفعل ذلك؟ "، فقال: أشفق على ولدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان ضارا ضر فارس والروم ".
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، وتعقب بأن الشافعية تقول: إنه لا حق للمرأة في الجماع.
أقول: وفي حديث أبي سعيد الذي أخرجه أهل " السنن " (1) ، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: زعموا أن العزل هو المؤودة الصغرى؟ فقال:
" كذبت يهود؛ لو أراد الله أن يخلق لم تستطع أن تصرفه ".
وأخرج نحوه النسائي، من حديث أبي هريرة، وجابر.
ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط من دون تحريم.
( [حرمة إتيان المرأة في دبرها] :)
(ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن "، والبزار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) • ليس هو عند ابن ماجه، وكذا النسائي في " الصغرى "، وقد عزاه إليه المنذري في " مختصره " (3 / 76) ؛ فلعله في " الكبرى " له.
وقد ذكر فيه أن في صحابي الحديث وتابعيه اختلافا، ولا يتسع المقام لبيان ذلك؛ فراجع " سنن أبي داود "، و " الترمذي " (2 / 193) ، و " البيهقي " (7 / 230) و " المسند " (3 / 33 - 51 - 53) .
لكن يشهد له حديث أبي هريرة، والظاهر أنه في " الكبرى " أيضا للنسائي؛ وهو عند البيهقي أيضا، وليس فيه: " لو أراد ... " وسنده حسن. (ن)(2/227)
" ملعون من أتى امرأة في دبرها "، وفي إسناده الحارث بن مخلد، لا يعرف حاله (1) .
وأخرج أحمد، والترمذي، وأبو داود، من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه؛ فقد كفر بما أنزل على محمد "؛ وفي إسناده أبو تميمة عنه، قال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة؛ وقال البزار: هذا حديث منكر.
وفي إسناده أيضا حكيم بن الأثرم (2) ، قال البزار: لا يحتج به، وما تفرد به فليس بشيء.
وأخرج أحمد، وابن ماجه، من حديث خزيمة بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها؛ وفي إسناده عمر (3) بن أحيحة، وهو مجهول.
وفي الباب عن علي بن طلق عند أحمد (4) ، والترمذي، والنسائي، وابن
__________
(1) • " التقريب ". (ن)
(2) • قلت: لفظة (ابن) مقحمة، وإنما هو حكيم الأثرم؛ وهو ثقة كما قال جماعة.
وحديثه هذا صحيح لا علة فيه؛ وإعلال البخاري بما ذكر غير مقبول على قواعد الجمهور؛ كما بينت ذلك في " نقد التاج " قبيل " الصلاة " (رقم 119) . (ن)
(3) • عمرو. (ن)
قلت: وانظر " إرواء الغليل " (7 / 67 - 68) ؛ فقد بين فيه أن (عمرو بن أحيحة) ؛ صحابي، أو تابعي ثقة.
(4) • رقم (655) ، وفيه مسلم بن سلام الحنفي؛ لم يوثقه غير ابن حبان، وفي " التقريب ":(2/228)
ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تأتوا النساء في أعجازهن - أو قال: في أدبارهن - "؛ ورجال إسناده ثقات.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أحمد (1) ، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها: " هو اللوطية الصغرى ".
وفي الباب أحاديث، وبعضها يقوي بعضا.
وحكي عن بعض أهل العلم الجواز؛ واستدلوا بقوله - تعالى -: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ؛ والبحث طويل لا يتسع المقام لبسطه.
أقول: كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي، وكان الأنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم، وكانوا يقولون (2) : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت هذه الآية؛ أي: أقبل وأدبر
__________
" مقبول ".
ومن طريقه الترمذي (2 / 205) ؛ إلا أنه جعله من مسند علي بن طلق - وحسنه -، وكذلك رواه عن ابن طلق النسائي، كما في " الترغيب " (3 / 201) ، والدارمي (1 / 261) .
وأما ابن ماجه؛ فمن حديث خزيمة من طريق أخرى عنه (1 / 594) ، وكذا الدارمي. (ن)
(1) • في " المسند " رقم (6707، 6967، 6968) ؛ من طريق قتادة: ثنا عمرو ... به، وهذا سند حسن.
ومن الغرائب قول المنذري والهيثمي بعد أن نسباه لأحمد والبزار: " ورجالهما رجال الصحيح "؛ نقله المعلق على " المسند "؛ وأقرهما!
وأما النسائي؛ فلم يروه في " الصغرى "؛ فالظاهر أنه في " الكبرى " له. (ن)
(2) • رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود. (ن)(2/229)
ما كان في صمام واحد، وذلك لأنه لا شيء تتعلق به المصلحة المدنية والملية، والإنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه، وإنما كان ذلك من تعمقات اليهود، فكان من حقه أن ينسخ.
قال في " إعلام الموقعين ": " وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار عن وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها؟ فتلا عليها قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} : " صماما واحدا "؛ ذكره أحمد.
وسأله صلى الله عليه وسلم عمر فقال: يا رسول الله {هلكت} قال: وما أهلكك؟ " قال: حولت رحلي البارحة، فلم يرد عليه شيئا، فأوحى الله تعالى إلى رسوله: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} : " أقبل وأدبر؛ واتق الحيضة والدبر "؛ ذكره أحمد (1) ، والترمذي.
وهذا هو الذي أباحه الله تعالى ورسوله، وهو الوطء من الدبر لا في الدبر ". انتهى.
أقول: هذه النصوص المذكورة فيها مقالات لأئمة الحديث، ولكن لها طرق عن جماعة من الصحابة، وهي منتهضة بمجموعها (2) ؛ على فرض أن
__________
(1) • في " المسند " (6 / 305) ، والبيهقي أيضا (7 / 195) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم.
ورواه الترمذي (4 / 75) مختصرا؛ وقال: " حديث حسن صحيح ".
وأما الحديث الذي بعده فهو في " المسند " (رقم 2703) ، و " الترمذي " (4 / 75 - 76) ؛ وقال: " حديث حسن غريب ".
قلت: وفيه يعقوب بن عبد الله القمي، وهو صدوق يهم؛ كما في " التقريب "، ومن طريقه رواه البيهقي (7 / 198) ، وصححه الحافظ في " الفتح " (8 / 153) . (ن)
(2) • ونحوه في " الفتح " (8 / 154) (ن) .(2/230)
معنى قوله - تعالى -: {أنى شئتم} : أين شئتم.
فإن كل ما في هذه الأحاديث من المقالات لا يبلغ بواحد منها إلى حد السقوط عن درجة الاعتبار، وقد استوفى الماتن - رحمه الله - البحث في " النيل " واستوفاه الجلال في " ضوء النهار "، وساق الأدلة برصانة ومتانة - رحمه الله -.
وأعظم ما يستشكل في المقام: ما صح عن ابن عمر من طرق (1) : أنه قرأ: {نساؤكم حرث لكم} ، فقال: تدري يا نافع! فيم أنزلت هذه الآية؟ قال: لا، قال: في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله سبحانه: {نساؤكم حرث لكم} .
لكنه قد وهمه حبر الأمة ابن عباس في ذلك؛ كما في " سنن أبي داود " (2) .
__________
(1) • ذكرها في " الفتح " (8 / 153) . (ن)
(2) • والبيهقي أيضا (7 / 195) ؛ من طريق محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ وقال البيهقي: " وروا أيضا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، سمع أبان بن صالح ... فذكره ".
قلت: فإذا ثبت سماع ابن إسحاق منه؛ فالسند حسن.
وخلاصة رواية ابن عباس: أن الآية نزلت في إتيان النساء مقبلات ومدبرات في موضع الولد.
وقد قال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 78) :
" وهذا الذي فسر به ابن عباس؛ فسر به ابن عمر، وإنما وهموا عليه، ولم يهم هو "، ثم ذكر من رواية النسائي عن ابن عمر نحو ما ذكرنا عن ابن عباس، واستدل عليه برواية أخرى عنه؛ فراجعه فإنه مهم، ولولا ضيق المجال؛ لنقلت كلامه في ذلك برمته. (ن)(2/231)
( [الفصل الرابع: الولد للفراش] :)
( [الدليل على أن الولد للفراش] :)
(والولد للفراش) ، وللعاهر الحجر، (ولا عبرة لشبهه بغير صاحبه) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الولد للفراش وللعاهر الحجر ".
وفيهما أيضا من حديث عائشة، قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله {إن ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله} ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، وقال: " هو لك يا عبد بن زمعة {الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة} ".
( [لمن ولد الأمة الموطوءة من ثلاثة في طهر واحد ملكها كل واحد منهم فيه؟] :)
(وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة في طهر ملكها كل واحد منهم فيه، فجاءت بولد وادعوه جميعا؛ فيقرع بينهم، ومن استحقه بالقرعة فعليه للآخرين ثلثا الدية) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، من حديث زيد بن أرقم، قال: أتي علي وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين، وقال: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، فجعل كلما سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا؛ فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي أصابته القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه.(2/232)
وأخرجه النسائي، وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من الأول؛ لأن في الإسناد الأول يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالأجلح، وقد وثقه يحيى بن معين، والعجلي، وضعفه النسائي بما لا يوجب ضعفا (1) .
وقد أخذ بالقرعة مطلقا: مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور، حكى ذلك عنهم ابن رسلان في كتاب العتق من " شرح السنن "، وقد ورد العمل بها في مواضع؛ هذا منها.
أقول: القرعة قد صح الدليل باعتبارها؛ كما أوضحت ذلك في " ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي " وأوضحه الماتن في " شرح المنتقى "، فإذا أعوز الأمر، ولم يمكن التعيين بسبب من الأسباب الراجعة إلى ثبوت الفراش، أو البينة أو نحوهما؛ فإنه يرجع إلى القرعة؛ فقد اعتبرها صلى الله عليه وسلم في الإلحاق مع الاختلاف، واعتبرها في تعيين من يعتق؛ كما في حديث من أوصى بعتق ستة أعبد، فأقرع بينهم وأعتق اثنين وأرق أربعة، بعد أن جزأهم ثلاثة أجزاء، وأعتق الجزء الذي وقعت عليه القرعة، وورد أيضا غير ذلك.
فالحاصل: أن القرعة معتبرة شرعا في غير باب.
__________
(1) • قلت: ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " صدوق "؛ فالإسناد حسن؛ لولا أن فيه عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم؛ وهو في عداد المجهولين.
لكن قد أخرجه أبو داود (1 / 356) من طريق أخرى مرفوعا؛ خلافا لما يوهمه صنيع الشارح.
أخرجه من طريق عبد خير، عن زيد بن أرقم ... باللفظ الذي في الكتاب؛ مع اختلاف يسير؛ وسنده صحيح؛ رجاله كلهم ثقات، وصححه الحاكم (2 / 207) . (ن)(2/233)
(الكتاب التاسع: كتاب الطلاق)(2/235)
(9 - كتاب الطلاق)
(1 - باب أنواع الطلاق)
( [الفصل الأول: مشروعية الطلاق وأحكامه] )
( [تعريف الطلاق] :)
هو مشتق من الإطلاق: وهو الإرسال والترك، ومنه: طلقت البلاد؛ أي: تركتها.
( [مشروعية الطلاق] :)
(هو جائز) : بنص الكتاب العزيز، ومتواتر السنة المطهرة، وإجماع المسلمين، وهو قطعي من قطعيات الشريعة، ولكنه يكره مع عدم الحاجة.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه (1) - من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة ".
__________
(1) • أخرجه (2 / 217) من طريق أبي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبان.
لكن أخرجه الآخرون، وكذا الدارمي (2 / 162) عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عنه.
وهذا سند صحيح، وقد صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (2 / 200) . (ن)(2/237)
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والحاكم - وصححه - (1) ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" أبغض الحلال إلى الله الطلاق ".
وقال في " الحجة البالغة ".
" إن في الإكثار من الطلاق، وجريان الرسم بعدم المبالاة به؛ مفاسد كثيرة، وذلك أن ناسا ينقادون لشهوة الفرج، ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل، ولا التعاون في الارتفاقات، ولا تحصين الفرج، وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء، وذوق لذة كل امرأة، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح، ولا فرق بينهم وبين الزناة؛ من جهة ما يرجع إلى نفوسهم، وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح، والموافقة لسياسته المدنية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الذواقين والذواقات ". انتهى.
أقول: هذا الحديث ذكره صاحب " الحجة " تبعا لابن همام من غير تخريج، ولم أجده في كتب الحديث مخرجا.
نعم حديث: " لا أحب الذواقين من الرجال والذواقات من النساء " (2) ؛ رواه الطبراني، عن أبي موسى مرفوعا، وكذا الدارقطني في " الأفراد "، وهو
__________
(1) • قلت: وهو كذلك لولا أن المحققين أعلوه بالإرسال؛ منهم ابن أبي حاتم، عن أبيه، والبيهقي، والخطابي، والمنذري، وقال: " هو غريب ".
ولذا قال الشاطبي في " الموافقات ": (1 / 127) : " ولم يصح ".
وقد فصلت القول فيه في " معجم الحديث ". (ن)
(2) حديث ضعيف؛ كما تراه في " غاية المرام " (رقم 255) لشيخنا.(2/238)
في " الجامع الصغير " للسيوطي بلفظ: " إن الله لا يحب ... " (1) الخ، قال شراحه: وفي سنده راو لم يسم.
وأما حديث: " إن الله يكره المطلاق الذواق "؛ فقال السخاوي - كغيره -: " لا أعرفه "؛ كذلك.
ثم قال في " الحجة ":
" وأيضا؛ ففي جريان الرسم بذلك إهمال لتوطين النفس على المعاونة الداعية، أو شبه الداعية، وعسى إن فتح هذا الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شيء من محقرات الأمور، فيندفعان إلى الفراق ".
وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة، والإجماع على إدامة هذا النظم؟ ! وأيضا فإن اعتيادهن بذلك، وعدم مبالاة الناس به، وعدم حزنهم عليه؛ يفتح باب الوقاحة، وأن لا يجعل كل منهما ضرر الآخر ضرر نفسه، وأن يخون كل واحد الآخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق، وفي ذلك ما لا يخفى.
ومع ذلك؛ لا يمكن سد هذا الباب والتضييق فيه؛ فإنه قد يصير الزوجان متناشزين، إما لسوء خلقهما أو لطموح عين أحدهما إلى حسن إنسان آخر، أو لضيق معيشتهما، أو لخرق واحد منهما، ونحو ذلك من الأسباب.
فيكون إدامة هذا النظم مع ذلك بلاء عظيما وحرجا ". انتهى.
__________
(1) حديث ضعيف؛ كما في " غاية المرام " (رقم 256) لشيخنا.(2/239)
( [من يقع منه الطلاق؟] :)
(من مكلف مختار) ؛ لأن أمر الصغير إلى وليه، وطلاق المكره لا حكم له.
والأدلة على هاتين المسألتين مقررة في مواضعهما، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ".
معناه: في إكراه، وطلاق المكره هدر.
( [حكم طلاق الهازل] :)
(ولو هازلا) (1) ، وهو الذي يتكلم من غير قصد لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب، ونقيضه الحاد - من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل - لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة ".
وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أردك (2) ، وهو مختلف فيه.
وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني مرفوعا:
__________
(1) • وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام في " إبطال التحليل " في بحث له في ذلك طويل نفيس، احتج فيه بالأحاديث والآثار والاعتبار؛ فراجعه (ص 46 - 58) . (ن)
(2) بالراء المهملة؛ كما في " الخلاصة "، و " سنن الترمذي ". (ش)(2/240)
" ثلاث لا يجوز فيهن اللعب: الطلاق والنكاح والعتق "؛ وفي إسناده ابن لهيعة.
وعن عبادة بن الصامت - عند الحارث بن أبي أسامة في " مسنده " - مرفوعا بنحوه، وزاد: " فمن قالهن فقد وجبن "؛ وفي إسناده انقطاع.
وعن أبي ذر - عند عبد الرزاق - رفعه:
" من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز "؛ وفي إسناده أيضا انقطاع (1) .
وعن علي موقوفا - عند عبد الرزاق أيضا -.
وعن عمر مرفوعا عنده أيضا.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا.
قال ابن القيم:
" وأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور، وكذلك نكاحه صحيح؛ كما صرح به النص، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور، حكاه أبو حفص أيضا عن أحمد، وهو قول الصحابة، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا
__________
(1) • وله شاهد آخر مرسل عن الحسن مرفوعا؛ بلفظ: " من نكح لاعبا، أو أطلق لاعبا، أو أعتق لاعبا؛ فقد جاز "؛ رواه أبو حفص العكبري؛ كما في " إقامة الدليل على إبطال التحليل " (ص 46) لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ وذكر هناك آثارا موقوفة تشهد لهذه المرفوعة. (ن)(2/241)
يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك - رواه ابن القاسم عنه، وعليه العمل عند أصحابه -؛ أن هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع ". انتهى.
( [حكم الطلاق السني] :)
(لمن كانت في طهر لم يمسها فيه؛ ولا طلقها في الحيضة التي قبله؛ أو [كانت (1) ] في حمل قد استبان)
أقول: ويشترط في طلاق السنة أن لا تكون المرأة حائضا، وهذا لغضبه - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض؛ كما في " الصحيحين " وغيرهما.
وأما اشتراط أن لا تكون نفساء؛ فلأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: " ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإذا بدا له أن يطلقها فليطلقها "؛ فهذا فيه أن طلاق السنة يكون حال الطهر، والنفاس ليس بطهر.
وأما اشتراط أن يكون في طهر لم يجامعها فيه؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: " فليطلقها قبل أن يمسها "؛ يعني: في ذلك الطهر.
وأما اشتراط أن لا يطلقها في ذلك الطهر أكثر من طلقة؛ فلما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر: وأنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها تطليقتين أخريين عند القرء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
__________
(1) • زيادة لا بد منها. (ن)(2/242)
" يا ابن عمر {ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر؛ فتطلق لكل قرء "، وفي لفظ: " في كل قرء تطليقة ".
وقد أنكر الحافظ ابن حجر هذه الرواية (1) .
وأخرج النسائي (2) ، من حديث محمود بن لبيد، قال: وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، فقال:
" أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟} ".
وأما اشتراط أن لا يطلقها في طهر قد طلقها في حيضه المتقدم؛ فلأمره صلى الله عليه وسلم لابن عمر أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر؛ فلولا أن الطلاق في الحيض مانع من الطلاق في الطهر المتعقب له؛ لم يأمره بإمساكها في الطهر الذي عقب الحيضة التي طلقها فيها.
وجميع ما ذكرناه من حديث ابن عمر متفق عليه؛ إلا رواية الدارقطني التي ذكرناها.
وفي رواية من حديث ابن عمر عند مسلم، وأبي داود، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر؛ ثم إن شاء طلق أو أمسك.
وفي لفظ لمسلم أيضا، والترمذي: " مره فليراجعها؛ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ".
__________
(1) • وأخرجها البيهقي أيضا (7 / 320) ؛ وضعفها. (ن)
(2) • (2 / 95) من طريق مخرمة، عن أبيه، عنه؛ وإسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات، وصححه الشارح، كما يأتي (ص 282) ؛ وبين ذلك ابن القيم في " الزاد " (4 / 73 - 74) . (ن)(2/243)
وظاهر هاتين الروايتين: أن الطلاق في الطهر المتعقب للحيضة التي وقع الطلاق فيها يكون طلاق سنة لا بدعة، ولكن الرواية الأولى التي فيها: " ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر "؛ متضمنة لزيادة يجب العمل بها وهي أيضا في " الصحيحين "، فكانت أرجح من وجهين.
ويدل قوله: " أو حاملا " أن طلاق الحامل للسنة، وأما من كانت صغيرة أو آيسة، أو منقطعا حيضها؛ فالظاهر أنه يكون طلاقها للسنة من غير شرط إلا مجرد إفراد الطلاق.
وأما القول بأنه ليس بسنة ولا بدعة - كما في " البحر " وغيره - ففاسد؛ لأن الأصل عدم عروض ما يمنع من الطلاق المشروع.
( [حكم الطلاق البدعي] :)
(ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة) ؛ لحديث ابن عمر عند مسلم، وأهل " السنن " وأحمد: أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا ".
وفي لفظ: أنه قال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله ". وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
وفي رواية في " الصحيح ": أنه قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} .(2/244)
وللحديث ألفاظ.
ووقع الخلاف بين الرواة: هل حُسبت تلك الطلقة أم لا؟ ورواية عدم الحسبان لها أرجح، وقد أوضح الماتن هذه المسألة في " شرح المنتقى " (1) ، وفي رسالة مستقلة، والخلاف طويل، والأدلة كثيرة، والراجح عدم وقوع البدعي لما ذكره هنالك (2) .
وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس ذلك بشيء ".
وقد روى ابن حزم في " المحلى " بسنده المتصل إلى ابن عمر: أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: لا يعتد بذلك؛ وإسناده صحيح.
وقد تابع أبا الزبير - الراوي لعدم الحسبان لتطليقة ابن عمر المذكورة في الحديث -: أربعة: عبد الله بن عمر العمري، ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رواد، ويحيى بن سليم، وإبراهيم بن أبي حسنة.
ولو لم يكن في المقام إلا قول الله - عز وجل -: {يا أيها النبي إذا طلقتم
__________
(1) • (6 / 191 - 193) . (ن)
(2) يؤيد هذا: أن الأصل في عقد النكاح البقاء والاستمرار، وهو عقد بين اثنين: هما الزوجان، والأصل في العقود أن فسخها كابتدائها؛ يجب فيه رضا العاقدين، وأباح الشارع الطلاق من أحد طرفي العقد وحده؛ وهو الزوج؛ على غير القياس في فسخ العقود أو إلغائها، فيجب الاقتصار على ما ورد عنه، والوقوف عند الحد الذي أباحه، فكل صفة للطلاق غير الصفة التي أذن بها الشارع؛ لا أثر لها في العقد، ولا يجوز قياس الممنوع على الجائز، كما لا يجوز قياس أحد طرفي العقد على الآخر؛ فإن الزوجة لا يجوز لها أن تطلق نفسها؛ إلا إذا فوض الزوج ذلك إليها وتلقته عنه، وهذه إشارة إلى بحث ممتع طويل؛ لعلنا نوفق إلى كتابته في مجال أوسع من هذا؛ إن شاء الله. (ش)(2/245)
النساء فطلقوهن لعدتهن} ، وقد تقرر أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي يقتضي الفساد، وقول الله - تعالى -: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، والمطلق على غير ما أمر الله تعالى به لم يسرح بإحسان.
وقد ذهب إلى عدم الوقوع جماعة من السلف؛ كابن علية (1) ، وإليه ذهب ابن حزم، وابن تيمية، وذهب الجمهور إلى الوقوع.
( [أقوال العلماء في وقوع الطلاق البدعي وعدمه] :)
(وفي وقوعه) ؛ أقول: هذه المسألة من المعارك التي لا يجول في حافاتها إلا الأبطال، ولا يقف على تحقيق الحق في أبوابها إلا أفراد الرجال، والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب، فمن رام الوقوف على سرها؛ فعليه بمؤلفات ابن حزم ك " المحلى "، ومؤلفات ابن القيم ك " الهدي ".
وقد جمع السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفا حافلا، وجمع الإمام الشوكاني رسالة ذكر فيها حاصل ما يحتاج إليه من ذيول المسألة، وقرر ما ألهم الله إليه، وذكر في " شرح المنتقى " أطرافا من ذلك.
وخلاصة ما عول عليه القائلون بوقوع الطلاق البدعي؛ هو اندراجه تحت الآيات العامة، وتصريح ابن عمر بأنها حسبت تلك طلقة.
وأجاب القائلون بعدم الوقوع عنهم؛ بمنع اندراجه تحت العمومات؛ لأنه ليس من الطلاق الذي أذن الله به؛ بل هو من الطلاق الذي أمر الله بخلافه؛
__________
(1) • المتبادر أنه إسماعيل ابن علية؛ من كبار أهل السنة، وليس به؛ بل هو ابنه إبراهيم؛ كما في " الفتح " (9 / 289) ، وكان من فقهاء المعتزلة. (ن)(2/246)
قال: {فطلقوهن لعدتهن} ، وقال صلى الله عليه وسلم: " مره فليراجعها "، وصح أنه غضب عند أن بلغه ذلك، وهو لا يغضب مما أحله الله.
وأما قول ابن عمر: إنها حسبت؛ فلم يبين من الحاسب لها (1) ؛ بل أخرج عنه أحمد، وأبو داود، والنسائي: أنه طلق امرأته وهي حائض؛ فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرها شيئا.
وإسناد هذه الرواية صحيح (2) ، ولم يأت من تكلم عليها بطائل، وهي مصرحة بأن الذي لم يرها شيئا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعارضها قول ابن عمر؛ لأن الحجة في روايته لا في رأيه.
وأما الرواية بلفظ: " مره فليراجعها، ويعتد بتطليقة "؛ فهذه لو صحت لكانت حجة ظاهرة، ولكنها لم تصح؛ كما جزم به ابن القيم في " الهدي "؛ وقد روي في ذلك روايات في أسانيدها مجاهيل وكذابون، لا تثبت الحجة بشيء منها.
__________
(1) • قلت: هذا ذهول عما رواه البيهقي (7 / 326) ؛ من طريق نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له؟ فجعلها واحدة، وأخرجها الدارقطني (ص 429) ؛ وسندها صحيح.
وقد سبق إلى رد هذه الدعوى الحافظ في " الفتح "، وأفاض في ذكر الروايات في ذلك، فراجعه (9 / 390) .
لكن ابن القيم أبدى في " زاد المعاد " (2 / 67 - 71) أنه يحتمل أن يكون قوله: (فجعلها واحدة) من قول بعض الرواة؛ وهذا غير وارد في رواية البيهقي هذه، لكن من تتبع طرقها؛ يظهر له قوة الاحتمال الذي ذهب إليه ابن القيم - رحمه الله -، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. (ن)
قلت: انظر ما وصل إليه شيخنا - أخيرا - في هذه المسألة - رواية ودراية - في " إرواء الغليل " (2059) .
(2) • وقال الحافظ: " على شرط الصحيح ". (ن)(2/247)
والحاصل: أن الاتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السنة يقال له: طلاق بدعة؛ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن كل بدعة ضلالة، ولا خلاف أيضا أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر.
وما خالف ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو رد؛ لحديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم:
" كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد "؛ وهو حديث متفق عليه.
فمن زعم أن هذه البدعة يلزم حكمها، وأن هذا الأمر الذي ليس من أمره صلى الله عليه وسلم يقع من فاعله ويعتد به؛ لم يقبل منه ذلك إلا بدليل.
وإذا كان من جملة طلاق البدعة إيقاع الثلاث دفعة - كما سيأتي -؛ فهذه الصورة من طلاق البدعة بخصوصها.
( [أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد] :)
(ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف) ؛ قال الماتن في " رسالته " في هذا الباب:
" اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال:
(الأول) : وقوع جميعها؛ وهو مذهب الأئمة، وجمهور العلماء، وكثير من الصحابة، وفريق من أهل البيت.
(الثاني) : عدم الوقوع مطلقا - لا واحدة ولا ما فوقها -؛ لأنه بدعة محرمة؛ وهذا المذهب حكاه ابن حزم، وحكى للإمام أحمد ما يكفي، وقال:(2/248)
هو مذهب الرافضة.
قلت: بل هو مذهب جماعة من التابعين؛ كما حكاه الليث، ومذهب ابن علية، وهشام بن الحكم، وجميع الإمامية، ومن أهل البيت - عليهم السلام -: الباقر، والصادق، والناصر، وبه قال أبو عبيدة، وبعض الظاهرية؛ لأن هؤلاء قالوا: إن الطلاق البدعي لا يقع، والثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة لا يقع.
(الثالث) : وقوع الثلاث إن كان المطلقة مدخولة، وواحدة إن لم تكن كذلك؛ وهذا هو مذهب جماعة من أصحاب ابن عباس، وإسحاق بن راهويه.
(الرابع) : أنه يقع واحدة رجعية من غير فرق بين المدخول بها وغيرها؛ وهذا مذهب ابن عباس على الأصح، وابن إسحاق، وعطاء، وعكرمة، وأكثر أهل البيت.
وهذا أصح الأقوال ". انتهى.
ثم سرد أدلة هؤلاء، ورجح القول الرابع، فليرجع إليه.
قال ابن القيم:
" قد صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: أن الثلاث كانت واحدة في عهده، وعهد أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، وغاية ما يقدر مع بعده أن الصحابة كانوا على ذلك ولم يبلغه، وهذا وإن كان كالمستحيل؛ فإنه(2/249)
يدل على أنهم كانوا يفتون في حياته وحياة الصديق بذلك.
وقد أفتى هو - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذه فتواه وعمل أصحابه؛ كأنه أخذ باليد ولا معارض لذلك، ورأى عمر - رضي الله تعالى عنه - أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث؛ عقوبة وزجرا لهم لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه - رضي الله تعالى عنه -؛ غايته أن يكون سائغا لمصلحة رآها، ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته.
فإذا ظهرت الحقائق؛ فليقل امرؤ ما شاء، وبالله التوفيق ". انتهى.
( [الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع طلقة واحدة على الراجح] :)
(الراجح عدم الوقوع) ؛ قال الماتن: " ذهب الجمهور إلى أنه يقع، وأن الطلاق يتبع الطلاق، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق؛ بل يقع واحدة، وقد حكي ذلك عن أبي موسى، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، وجابر بن زيد، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى، ورواية عن علي، ورواية عن زيد بن علي، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن القيم، وقد حكاه ابن مغيث في كتاب " الوثائق " عن علي، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وحكاه أيضا عن جماعة من مشايخ قرطبة، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس.
واستدل الجمهور بحديث ركانة بن عبد الله: أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول(2/250)
الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما أردت إلا واحدة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة! فردها إليه؛ أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي - وصححه (1) أبو داود، وابن حبان، والحاكم، - وفي إسناده (2) الزبير بن سعيد الهاشمي، وقد ضعفه غير واحد، وقيل: إنه متروك.، وفي إسناده (2) أيضا: نافع بن عجير، وهو مجهول.
ومتنه أيضا مضطرب؛ كما قال البخاري، ففي لفظ منه: أنه طلقها
__________
(1) • ليس في " سننه " تصريحه بالتصحيح، وإنما قال: " إن هذا الحديث أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا "؛ يعني حديثه الذي رواه بسنده عن ابن عباس، وليس فيه: " والله ما أردت إلا واحدة؟ ... " الحديث، ويأتي في الكتاب قريبا.
إذا عرفت هذا فقوله: " أصح " ههنا؛ لا يفيد أن الحديث صحيح، ولا يتسع المجال لبيان ذلك؛ فراجع " تهذيب السنن " لابن القيم (3 / 134) .
فأغلب الظن أن الشارح إنما اعتمد على نقله في " المنتقى " (6 / 193 - بشرح الشوكاني) عن الدارقطني، أنه قال: " قال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح "، وهذا ذكره الدارقطني عقب إخراجه الحديث. (ن)
(2) • قلت: هذا التعبير يوهم أن إسناد الحديث واحد، فيه الرجلان؛ وليس كذلك؛ بل له إسنادان:
أحدهما؛ من طريق الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده ركانة بن عبد يزيد.
والآخر؛ من طريق نافع بن عجير بن عبد يزيد، عن ركانة ... به:
أخرجهما الحاكم (6 / 199 - 200) ، والبيهقي (7 / 342) ، وكذا أبو داود (1 / 345) ، والدارقطني (ص 439) ، ورواه الترمذي (2 / 209 - 210) من الطريق الأول، والشافعي (2 / 370) من الطريق الثاني؛ وكلاهما ضعيف:
أما الأول؛ فلأن فيه الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي؛ وهو لين الحديث، كما في " التقريب "، وعلي بن يزيد؛ مستور.
وأما الآخر؛ ففيه نافع بن عجير؛ وهو مجهول؛ كما قال الشارح؛ تبعا لابن القيم (4 / 84) .
ومنه تعلم أن تصحيح الحديث وهم؛ فلا جرم ضعفه البخاري وغيره. (ن)(2/251)
ثلاثا، وفي لفظ: واحدة، وفي لفظ: البتة.
وقال أحمد: طرقه كلها ضعيفة.
وأما استدلالهم بقوله - تعالى -: {الطلاق مرتان} ، وبقوله: {فإن طلقها فلا تحل له} ؛ فليس في ذلك من الحجة شيء؛ بل هو عليهم لا لهم، وقد حقق هذا صاحب " الهدي " بما يشفي.
وقد ورد ما يدل على أن الطلاق يتبع الطلاق، وليس في الصحيح شيء من ذلك.
وأرجح من الجميع؛ والحجة في هذا المقام: حديث ابن عباس الثابت في " صحيح مسلم " وغيره: أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؛ الثلاث واحدة، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس؛ فأجازه عليهم ". انتهى.
وكل رجال إسناده أئمة، وله ألفاظ وأسانيد، وفي لفظ: أن أبا الصهباء قال له: ألم تعلم أن الثلاث كانت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؟ قال: نعم.
ولم يأت من حاول التخلص عنه بحجة تنفق، والتمسك بما في بعض الروايات من تقييد ذلك بالطلاق قبل الدخول لا وجه له (1) ؛ فإن الطلاق لا
__________
(1) • لأن الحديث لا مفهوم له؛ فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
نعم؛ لو لم يكن السؤال مقيدا، فقيد المسؤول الجواب؛ كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: " إذا وقعت الفأرة في السمن؛ فألقوها وما حولها؛ وكلوه "؛ لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة؛ كذا في " إغاثة اللهفان " (1 / 285) . (ن)(2/252)
يتفاوت الحال فيه قبل الدخول وبعده، وإذا ثبت الحكم في أحدهما؛ ثبت في الآخر، ومن ادعى الفرق فعليه إيضاحه.
وفي حديث محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا، فقام غضبان، فقال: " أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ {"؛ حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله} ألا أقتله؟ !
وقد أخرجه النسائي بإسناد صحيح.
وروى البيهقي (1) ، عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف طلقتها؟ "، فقال: طلقتها ثلاثا، فقال: " في مجلس واحد؟ "، قال: نعم، قال: " إنما تلك واحدة؛ إن شئت فراجعها ".
وأخرج نحوه عبد الرزاق، وأبو داود، من حديثه.
وهذا خلاصة الحجج في هذه المسألة (2) ، وهي طويلة الذيول، كثيرة
__________
(1) • في " سننه الكبرى " (7 / 339) ؛ من طريق ابن إسحاق: ثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس ...
قلت: وزاد في آخره: فكان ابن عباس إنما يرى أن الطلاق عند كل طهر؛ فتلك السنة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها: {فطلقوهن لعدتهن} .
ومن هذا الوجه أخرجه أحمد (رقم 2387) ، وقال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (3 / 18) : " وهذا سند جيد، وله شاهد من وجه آخر؛ رواه أبو داود ".
قلت: هو عند أبي داود (1 / 342 - 343) ؛ من طريق عبد الرزاق: نا ابن جريج: أخبرني بعض بني رافع - مولى النبي صلى الله عليه وسلم -، عن عكرمة ... به نحوه؛ وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود. (ن)
(2) أحسن الشارح جدا في تلخيص الأدلة على أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة؛ إنما يقع طلاقا =(2/253)
النقول، متشعبة الأطراف، قديمة الخلاف، والإحاطة بجميع ما فيها من الأقوال
__________
= واحدا، ولكن فات الباحثين في هذا المقام أمر نراه أساساً للمسألة؛ وهو:
أن المعلوم بالبديهة من لغة العرب؛ أن وصف اللفظ بالعدد إنما هو إخبار عن وقوع الموصوف في الخارج بهذا اللفظ، فإذا قال القائل: قلت كذا خمس مرات؛ دل على أنه تلفظ به مرارا مكررة عددها خمس، وكذلك الإنشاء، ومنه قوله - تعالى -: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} ؛ فإنه ليس يجزئ عنه أن يقول بلفظ واحد: أشهد بالله أربع شهادات: إني لمن الصادقين؛ بل يجب أن يقول: أشهد بالله ... الخ، ويكررها أربع مرات ...
وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والتحميد والتهليل ثلاثا وثلاثين؛ إنما معناه أن يكرر كل واحد منها ثلاثا وثلاثين مرة.
وكذلك ما ورد أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم سلم ثلاثا؛ معناه أن يقول ثلاث مرات: " السلام عليكم ".
ومثل هذا لا يماري فيه أحد، ولم يختلف فيه اثنان.
إذن؛ فما الذي دل على إخراج الطلاق من هذه القاعدة الظاهرة الصحيحة؟ {اللهم} لا دليل إلا الوهم وانتقال النظر.
والذي نراه أن قول القائل: أنت طالق ثلاثا؛ لا يخرج عن أنه نطق بالطلاق مرة واحدة، وأنه لا يصلح أن يكون موضع خلاف بين الصحابة أو غيرهم؛ وإنما الذي اختلفوا فيه وأمضاه عمر بن الخطاب؛ هو ما إذا قال لامرأته ثلاث مرات كررها: أنت طالق؛ سواء كانت في مجلس واحد أو في مجالس متعددة؛ ما دامت في العدة؛ فهذا جعله عمر ثلاث تطليقات باعتبار أن الطلاق يلحق المعتدة؛ وهي قد صارت معتدة باللفظ الأول من التطليقات التي كررها المطلق ثلاث مرات، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر خلافة عمر؛ تعتبر المرة الأولى، ثم لا يلحقها بعد ذلك المرتان اللتان بعدها؛ لأنها معتدة، فلما تكرر في ألفاظ الصحابة والتابعين الكلام في وقوع الطلاق الثلاث أو عدمه؛ فهم منه الفقهاء أن المراد به هو لفظ: أنت طالق ثلاثا.
وهذا مما تنبو عنه قواعد اللغة، وبديهة العقل، وشاع ذلك فيهم، حتى أنكروا على من خالفه أشد الإنكار، ورموه بالكفر والتضليل، ولو رجعوا إلى عقولهم، وطبقوا ما سمعوا على مثل ما ورد في اللغة والكتاب والسنة؛ لوجدوا أنهم بعدوا جدا عن محل النزاع.
نعم؛ إن كثيرا من القائلين بوقوع الثلاث واحدة تنبهوا إلى وصف اللفظ بالعدد، ولكنهم جعلوه دليلا لهم في نصر أحد القولين، وأما نحن؛ فإنما نراه دليلا على أن وصف لفظ الطلاق بالعدد لا يصلح محلا للخلاف، وإنما هو طلاق واحد، وصف خطأ بعدد لم يتكرر في اللفظ.
ومحل الخلاف هو تكرار لفظ الطلاق كما قلناه، ولعلنا نوفق إلى زيادة إيضاح البحث وبسطه بحوله وقوته؛ والله الموفق. (ش)(2/254)
وأدلتها وتصحيحها يحتمل مصنفا مستقلا، وقد جمع في ذلك شيخنا العلامة الشوكاني رسالة بسط فيها بعض البسط، وقد امتُحن بهذه المسألة جماعة من العلماء؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من بعده، والحق بأيديهم، ولكن لما كان مذهب الأربعة الأئمة أن الطلاق يتبع الطلاق؛ كان المخالف لذلك عند عامة أتباعهم، وكثير من خاصتهم كالمخالف للإجماع.
وقد ظهر مما سقناه ههنا من الأدلة والنقول؛ أن الطلاق ثلاثا بلفظ واحد - أو ألفاظ في مجلس واحد من دون تخلل رجعة - يقع واحدة، وإن كان بدعيا؛ فتكون هذه الصورة من صور الطلاق البدعي واقعة من إثم الفاعل دون سائر صور البدعي؛ فلا يقع الطلاق فيها لما قدمنا تحقيقه.
وأطال ابن القيم في تخريج أحاديث الباب والكلام عليها، وأثبته بالكتاب، والسنة، واللغة، والعرف، وعمل أكثر الصحابة، ثم قال بعد ذلك:
" فهذا كتاب الله - تعالى -، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب.
فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا أنهم (1) كانوا يرون الثلاث واحدة؛ إما بفتوى، وإما بإقرار عليها، ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك؛ فإنه لم يكن منكرا للفتوى به؛ بل كانوا ما بين مفت، ومقر بفتيا، وساكت غير منكر.
__________
(1) هكذا الأصل، ولعل صحة العبارة هي: " لوجد أنهم ... " الخ. (ش)
• قلت: هي كذلك في " إعلام الموقعين " (3 / 48) . (ن)(2/255)
وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعا؛ كما ذكر يونس بن بكير عن أبي إسحاق.
فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى، أو إقرار، أو سكوت.
ولقد ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه؛ بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن وإلى يومنا هذا.
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس؛ كما رواه حماد ابن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد؛ فهي واحدة.
وأفتى بأنها واحدة: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف؛ حكاه عنهما ابن وضاح.
وأما التابعون؛ فأفتى به عكرمة، وطاوس.
وأما تابعو التابعين؛ فأفتى به محمد بن إسحاق، وخلاس بن عمرو، والحارث العكلي.
وأما أتباع تابعي التابعين؛ فأفتى به داود بن علي، وأكثر أصحابه، وأفتى به بعض أصحاب مالك، وأفتى به بعض الحنفية، وأفتى به بعض أصحاب أحمد.
والمقصود: أن هذا القول قد دل عليه الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر - رضي الله تعالى عنه - أن الناس استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه(2/256)
جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه.
والذي ندين الله - تعالى - به، ولا يسعنا غيره، وهو القصد في هذا الباب: أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه؛ أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان ". انتهى حاصله.
وتمام هذا البحث في " إعلام الموقعين " (1) ، و " إغاثة اللهفان " للحافظ ابن القيم، وفي رسالة مستقلة للماتن، وفي كتابنا " مسك الختام "، فليرجع الطالب إليها إن أراد التفصيل والتحقيق، وبالله التوفيق.
( [الحالات التي يطلق فيها القاضي] :)
( [الأولى: التطليق لعدم النفقة] :)
وأما التفريق بين المعسر وبين امرأته؛ فأقول: إذا كانت المرأة مثلا جائعة، أو عارية في الحالة الراهنة؛ فهي في ضرار، والله - تعالى - يقول: {ولا تضاروهن} ، وهي أيضا غير معاشرة بالمعروف، والله يقول: {وعاشروهن بالمعروف} ، وهي أيضا غير ممسكة بمعروف، والله يقول: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ؛ بل هي ممسكة ضرارا، والله يقول: {ولا تمسكوهن ضرارا} ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا ضرر ولا ضرار " (2) .
__________
(1) • (3 / 45) . (ن)
(2) • هو حديث حسن أو صحيح لكثرة طرقه، وقد أخرجها الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 384 - 386) . (ن)(2/257)
وقد ثبت في الفسخ بعدم النفقة ما أخرجه الدارقطني، والبيهقي (1) ، من حديث أبي هريرة مرفوعا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته: " يفرق بينهما ".
وأخرجه الشافعي (2) ، وعبد الرزاق، عن سعيد بن المسيب، وقد سأله سائل عن ذلك؟ فقال: يفرق بينهما؛ فقيل له: سنة؟ فقال: نعم، سنة.
وما زعمه ابن القطان من توهيم الدارقطني؛ فليس بظاهر (3) .
ثم من أعظم ما يدل على جواز الفسخ بعدم النفقة؛ أن الله سبحانه قد شرع الحكمين بين الزوجين عند الشقاق، وجعل إليهما الحكم بينهما، ومن أعظم الشقاق؛ أن يكون الخصام بينهما في النفقة، وإذا لم يمكنهما دفع الضرر عنها إلا بالتفريق؛ كان ذلك إليهما، وإذا جاز ذلك منهما؛ فجوازه من القاضي أولى.
__________
(1) • في " سننه الكبرى " (7 / 470) ؛ من طريق إسحاق بن منصور: نا حماد بن سلمة، عن عاصم ابن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم ... بمثله اه.
قلت: يعني مثل حديث ساقه قبله عن سعيد بن المسيب؛ في الرجل ... الخ - المتن المذكور في الكتاب -، لكن تعقبه التركماني في " الجوهر النقي " بما حاصله أن المراد ب " مثله "؛ حديث آخر غير الحديث الموقوف على ابن المسيب، قال: " ولا يعرف هذا مرفوعا في شيء من كتب الحديث ".
قلت: وهذا تعقب جيد، ولكن البيهقي في منجاة منه؛ لأن الخطأ ليس منه؛ كما ظن ابن التركماني؛ بل من إسحاق بن منصور؛ كما جزم بذلك أبو حاتم: فقد ذكر ابنه في " العلل " (1 / 430) أنه سأل أباه عن هذا الحديث؟ فقال أبوه: " وهم إسحاق في اختصار هذا الحديث؛ وذلك أن الحديث إنما هو عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ابدأ بمن تعول "؛ تقول امرأتك: أنفق علي أو طلقني "؛ فتناول هذا الحديث ". (ن)
(2) • ومن طريقه أخرجه البيهقي (7 / 469) ؛ وسنده صحيح؛ إلا أنه مرسل إن ثبت رفعه. (ن)
(3) • قد علمت أن الوهم ليس من البيهقي، ولا من الدارقطني؛ وإنما هو أحد رواته. (ن)(2/258)
فإن قلت: تجويزك الفسخ للنفقة بتلك الأدلة العامة (1) يستلزم جوازه للعيوب؛ إذا كان يحصل التضرر بها على أحد الزوجين.
قلت: النفقة وتوابعها واجبة للزوجة على زوجها (2) ، وليس ما يفوت
__________
(1) • قلت: ولكنها لا تشمل موضع الخلاف؛ لأنها أوامر من الله - تعالى -، وقد علمنا من لطفه - تعالى - بعباده؛ أنه لا يأمر ولا يكلف من لا يستطيع، فهي موجهة إلى المستطيع القادر، فكيف يستدل بها على العاجز المعسر؟ {ولذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم معاوية بن حيدة: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ... " الحديث؛ أخرجه أبو داود (1 / 334) ، وابن ماجه (1 / 568) ، وأحمد (5 / 3) بسند صحيح، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه "؛ كما في " الترغيب " (3 / 73) .
فمفهوم قوله عليه السلام " إذا طعمت ... ، إذا اكتسيت ... ": أنه إن لم يجد ما يطعم ويكتسي؛ فلا حق لها عليه، فبم يفسخ إذن بينهما؟}
ولذلك؛ فإني أرى خلاف ما ذهب إليه الشارح تبعا للشوكاني (6 / 257 - 277) ، وهو ما رواه غير واحد عن الحسن؛ في الرجل يعجز عن نفقة امرأته؟ قال: تواسيه، وتتقي الله - عز وجل -، وتصبر، وينفق عليها ما استطاع.
وهو مذهب ابن حزم في " المحلى " (10 / 109) ؛ ويؤيده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما هن عوان عندكم ... "؛ قال الشوكاني: " أي: حكمهن حكم الأسرى؛ لأن العاني: الأسير، والأسير لا يملك لنفسه خلاصا من دون رضا الذي هو في أسره؛ فهكذا النساء.
ويؤيد هذا حديث: " الطلاق لمن أمسك بالساق "؛ فليس للزوجة تخليص نفسها من تحت زوجها؛ إلا إذا دل الدليل على ذلك ".
قلت: وقد علمت مما تقدم أن دليل الفسخ بالإعسار غير قوي؛ فلا يصلح لاستثناء هذه المسألة من الحديث؛ فتأمل {
وخلاصة القول؛ أنني لا أرى التفريق {بين المرء وزوجه} لإعساره؛ بل على الحاكم أن يأمر - بالإنفاق عليها - ولي أمرها بعد زوجها، فإن لم يكن لها؛ فالسلطان أو من يقوم مقام وليها، فهو ينفق عليها من بيت مال المسلمين، حتى يوسر زوجها، والله - عز وجل - يقول: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} . (ن)
(2) • قلت: هذا إنما يقال عند الاستطاعة، وليس البحث فيه؛ فتأمل} (ن)(2/259)
بسبب تلك العيوب بواجب لها عليه، ثم التضرر بترك النفقة وتوابعها لا يعادله شيء، وإذا كان العيب في الزوجة؛ كالجنون والجذام، والبرص؛ فقد فات الزوج شيء واجب له؛ لكن قد جعل الله بيده الطلاق.
ثم قد ورد في خصوص الفسخ بعدم النفقة ما قدمنا ذكره.
( [الثانية: التطليق لغيبة الزوج] :)
وأما التفريق بين المفقود وبين امرأته؛ فأقول: قد تشعبت المذاهب في هذه المسألة إلى شعب ليس عليها أثارة من علم؛ لا سيما التحديدات بمقادير معلومة من الأوقات؛ منها ما هو رجوع إلى مذاهب الطبائعية؛ كقول من قال: إنه يُنتظر المفقود حتى يمضي له من يوم ولادته مئة وعشرون سنة؛ فإن هذا هو عين مذهب جماعة من الطبائعية، قالوا: أكثر ما يعيش الإنسان مئة وعشرون سنة؛ لأن كل طبيعة من الطبائع الأربع؛ إذا لم يعرض لها ما يفسدها تغلب على الإنسان ثلاثين سنة، فتحصل من مجموع الأربع الطبائع مئة وعشرون سنة، وهذا مذهب كفري، وكلام بمعزل عن الشريعة (1) .
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" وقد رأينا في عمرنا من عاش مئة وسبعا وعشرين سنة ونصف سنة، ورأيناه وهو في هذا السن في كمال من حواسه وجوارحه، بحيث إنه لم يفقد
__________
(1) لا نرى في هذا شيئا من الكفر؛ فإذا صح أن أحدا قال بهذا؛ فإنما يرجع فيه إلى سنة الله في خلقه، ويريد به أن الغالب على الإنسان أن يعيش هذه المدة، إذا خلا من الآفات والأمراض وعوادي الزمن، والذي يظهر لنا أن التقدير بمئة وعشرين خطأ؛ لأن متوسط العمر الذي يبلغه كثير الناس؛ بين الستين والسبعين، وما زاد فهو قليل. (ش)(2/260)
منها شيئا؛ وهو يذهب، ويجيء، ويحضر المساجد، وغاب عنا بعد ذلك، فالله أعلم كم عاش بعد هذه المدة ". انتهى.
أقول: وقد رأينا من عاش فوق المئة إلى عشرين سنة أو أكثر من ذلك، وهم كثيرون، وسمعنا بمن عاش فوق المئة إلى أربعين سنة؛ بل أزيد من ذلك وهم قليلون، والقدرة الإلهية صالحة للكل.
وبالجملة؛ فمن العلماء من قال: مئة وخمسون، ومنهم من قال: مئتان. ومنهم من قال: أربع مئة، ومنهم من قال زيادة على ذلك، ومنهم من فرق بين من كان له أهل ومال، ومن لم يكن له أهل ومال، والكل محض رأي.
وعندي: أن تحريم نكاح المحصنة ورد به النص القرآني، وأجمع عليه جميع المسلمين؛ بل هو معلوم من ضرورة الدين، وامرأة المفقود محصنة؛ فالأصل الأصيل تحريم نكاحها، وإذا لم يكن لها ما تستنفقه، وكان إمساكها حينئذ، وإلزامها على استمرار نكاح الغائب فيه إضرار بها؛ كان ذلك وجها للفسخ.
وهكذا إذا طالت مدة الغيبة، وكانت المرأة تتضرر بترك النكاح؛ فالفسخ لذلك جائز، وإذا جاز الفسخ للعنة؛ فجوازه للغيبة الطويلة أولى؛ لأنه قد عُلم من نصوص الكتاب والسنة تحريم الإمساك ضرارا، والنهي للأزواج عن الضرار في غير موضع، فوجب دفع الضرار عن الزوجة بكل ممكن، وإذا لم يكن إلا بالفسخ؛ جاز ذلك؛ بل وجب (1) .
__________
(1) هذا صحيح، وإذا وجب الفسخ عند تضرر الزوجة من ترك النكاح - وهو الحاصل لكل امرأة يغيب زوجها؛ إلا فيما ندر -؛ فما الأجل الذي يضرب لها لانتظاره، ثم يجوز لها طلب الفسخ بعده؟(2/261)
( [حكم طلاق المكره] :)
وأما عدم وقوع طلاق المكره؛ فدليله حديث: " لا طلاق في إغلاق "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والحاكم - وصححه - من حديث عائشة، وضعفه أبو حاتم (1) بمحمد بن عبيد الله بن أبي صالح.
ورُد عليه بأنه قد أخرجه البيهقي من طريق غيره.
والإغلاق عند علماء اللغة: الإكراه؛ كما في " النهاية " وغيرها (2) .
__________
هذا هو مجال العلماء وموضع الاجتهاد، ولم يرد في ذلك نص عن الشارع؛ وآراء الصحابة إن هي إلا اجتهاد منهم.
والذي نعتقده حقا؛ هو أن مرجع الأمر للحاكم؛ فله أن يقدر الوقت لها، وذلك يختلف باختلاف الأزمان، فإذا كان في عصر الصحابة مقدرا بأربع سنين - كما ذهب إليه أو حكم به عمر بن الخطاب، وهو إنما قاله بما كان له من سلطة الحكم، وعصرهم لم تكن فيه الأخبار سريعة التداول بين البلدان، ومن الصعب وصول خبر من قطر إلى آخر إلا بعد مدة طويلة -؛ فقد يجوز في زماننا هذا أن يقدر الأجل بسنة واحدة، وإن ذهب إليه ذاهب؛ كان مذهبا قريبا إلى الحق ظاهر الصحة، وهو الذي نختاره، والتوفيق من الله سبحانه. (ش)
(1) • في " العلل " (1 / 432) : " محمد بن عبيد بن أبي صالح "؛ بحذف لفظة الجلالة، وكذلك هو عند أبي داود (1 / 342) ، وابن ماجه (1 / 630) ، و " المستدرك " (2 / 198) ، والبيهقي (7 / 357) ، وكذلك هو في كتب الرجال.
ثم الحديث لم يضعفه أبو حاتم بهذا - وإن كان هو ضعيفا -؛ وإنما ضعفه بأن في طريقه ابن إسحاق، وفي أخرى أبا صفوان، قال: " هما جميعا ضعيفان ".
قلت: ومدارهما على ابن أبي صالح، لكن يقويه الطريق التي أشار إليها البيهقي، وفيه قزعة بن سويد؛ وهو ضعيف أيضا. (ن)
(2) • وفسره بعضهم بالغضب، وقال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 117) : " قال شيخنا: والإغلاق انسداد باب العلم والقصد عليه، فيدخل فيه طلاق المعتوه، والمجنون، والسكران، والمكره، والغضبان الذي لا يعقل ما يقول؛ لأن كلا من هؤلاء قد أغلق عليه باب العلم، والقصد، والطلاق إنما يقع من قاصد عالم به ". (ن)(2/262)
وأما عدم صحة الطلاق قبل أن ينكحها؛ فالأحاديث الواردة في هذا الباب لا تخلو عن مقال، لكن لها طرق عدة عن جماعة من الصحابة، وهي لا تقصر عن بلوغ رتبة الحسن لغيره (1) ؛ فالعمل بها متحتم، ولم يأت من خالفها بشيء؛ إلا مجرد رأي محض.
ثم إن السيد لا يطلق عن عبده؛ بل الطلاق إلى العبد، وذلك هو الأصل في الشريعة المطهرة، فمن زعم أنه يصح طلاق غير زوج؛ فعليه الدليل.
( [الفصل الثاني: بما يقع الطلاق] )
( [حكم الطلاق بلفظ من ألفاظ الكناية] :)
(ويقع بالكناية مع النية) ؛ لحديث عائشة عند البخاري، وغيره: أن ابنة الجون لما أُدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك! فقال لها: " لقد عذت بعظيم؛ الحقي بأهلك ".
وفي " الصحيحين "، وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك لما قيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقال: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: " بل اعتزلها؛ فلا تقربنها "، فقال لامرأته: الحقي بأهلك.
__________
(1) • قلت: بل الحديث صحيح لا شك فيه؛ لأن بعض طرقه على الانفراد حسن؛ مثل رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ورواية عروة، عن المسور بن مخرمة؛ عند ابن ماجه (1 / 631) ؛ وانظر " نصب الراية " (3 / 230 - 233) . (ن)(2/263)
فأفاد الحديثان أن هذه اللفظة تكون طلاقا مع القصد، ولا تكون طلاقا مع عدمه.
( [حكم الطلاق بالتخيير] :)
(و) يقع الطلاق (بالتخيير إذا اختارت الفرقة) ؛ لقوله - تعالى -: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا} الآية، {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} الآية.
وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا نساءه لما نزلت الآية، فخيرهن.
وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما، عن عائشة قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يعدها شيئا.
وفي المسألة خلاف، وهذا هو الحق، وبه قال الجمهور.
( [حكم الطلاق بالتوكيل] :)
(وإذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه) ؛ لأنه توكيل بالإيقاع، وقد تقرر جواز التوكيل من غير فرق بين الطلاق وغيره، فلا يخرج من ذلك إلا ما خصه دليل، وقد سئل أبو هريرة، وابن عباس، وعمرو بن العاص عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه؟ فأجازوا طلاقه؛ كما أخرجه أبو بكر البرقاني في " كتابه " المخرج على " الصحيحين ".
( [حكم الطلاق بلفظ التحريم] :)(2/264)
(ولا يقع بالتحريم) ؛ لما في " الصحيحين "، عن ابن عباس، قال:
إذا حرم الرجل امرأته؛ فهي يمين يكفرها، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} .
وأخرج عنه النسائي: أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما؟ فقال: كذبت؛ ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} ، عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة.
وأخرج النسائي أيضا بإسناد صحيح، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة، حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية.
وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكر.
وفي هذه المسألة مذاهب؛ قد ذكر الحافظ ابن القيم منها ثلاثة عشر مذهبا، وقال: إنها تزيد على عشرين مذهبا، والذي أرجحه منها: هو أن التحريم ليس من صرائح الطلاق، ولا من كناياته، بل هو يمين من الأيمان كما سماه الله عز وجل في كتابه، فقال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} ، فهذه الآية مصرحة بأن التحريم يمين؛ والسبب وإن كان خاصا - وهو العسل الذي حرمه على نفسه، أو الأمة التي كان يطؤها -؛ فلا اعتبار بخصوص السبب؛ فإن لفظ {ما أحل الله لك} عام، وعلى فرض عدم العموم؛ فلا فرق بين الأعيان التي هي حلال.(2/265)
وأخرج الترمذي، عن عائشة، قالت: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه؛ فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين كفارة؛ أي: جعل الشيء الذي حرمه حلالا بعد تحريمه.
وفي " صحيح مسلم "، عن ابن عباس، قال: إذا حرم الرجل امرأته؛ فهي يمين يكفرها، ثم قال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} .
وفي الباب عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكرناه.
وبالجملة: الحق ما ذكرناه، وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهذا إذا أراد تحريم العين، وأما إذا أراد الطلاق بلفظ التحريم غير قاصد لمعنى اللفظ؛ بل قصد التسريح؛ فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات.
( [الرجعة حق للزوج مدة العدة من طلاق رجعي] :)
(والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقه؛ يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيا) ؛ لحديث ابن عباس عند أبي داود، والنسائي، في قوله - تعالى -: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} الآية، قال: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك: {الطلاق مرتان} .
وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال (1) .
__________
(1) • وفي " التقريب ": " صدوق يهم "؛ وهو حسن أو صحيح بما بعده. (ن)(2/266)
وأخرج الترمذي، عن عائشة، قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا راجعها وهي في العدة، وإن طلقها مئة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا، وقالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة؛ فأخبرتها، فسكتت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا؛ من كان طلق، ومن لم يكن طلق.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني، عن عمران بن حصين: أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته؛ يقع بها؛ ولم يشهد على طلاقها، ولا على رجعتها؟ فقال: طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعد (1) .
( [حكم الطلاق البائن] :)
(ولا تحل له بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره) ؛ لقول الله - تعالى -: {حتى تنكح زوجا غيره} ، ولما في " الصحيحين "، وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي: " لا؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ".
وهو مجمع على ذلك.
__________
(1) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم؛ انظر " سنن أبي داود " (1 / 341) ، وابن ماجه (1 / 624) . (ن)(2/267)
(2 - باب الخلع)
( [بيان مشروعية الخلع] :)
وفيه شناعة ما؛ لأن الذي أعطاه من المال قد وقع في مقابلة المسيس؛ وهو قوله - تعالى -: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) .
واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في اللعان؛ حيث قال: " إن صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها " (1) ، ومع ذلك فربما تقع الحاجة إلى ذلك؛ فذلك قوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} .
قلت: دلت الآية الأولى على النهي عن الخلع، والثانية على جوازه، فتكلم الفقهاء في ترتيبهما.
قال البغوي وغيره: " إذا آذاها بمنع بعض حقوقها حتى ضجرت، فاختلعت نفسها؛ فهذا الفعل منه حرام، ولكن الخلع نافذ؛ لأن الله - تعالى - قال في صورة النهي: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} ،
__________
(1) • قلت: ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: " حسابكما على الله، أحدكما كاذب؛ لا سبيل لك عليها "، قال: يا رسول الله! مالي؟ قال: " لا مال لك، إن كنت صدقت عليها؛ فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها؛ فذلك أبعد لك منها ": رواه البيهقي (7 / 401) ، وعزاه للبخاري. (ن)
قلت: وهو في " صحيح البخاري " (5312) .(2/268)
والعضل: التضييق والمنع، وقال: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} ، وهذا إشارة إلى طموح بصره إلى غيرها؛ من غير أن يرى منها التقصير.
والخلع المباح بلا كراهية أن تكره المرأة صحبة الزوج، ولا يمكنها القيام بأداء حقوقه، فتخرج فتختلع نفسها؛ لقوله تعالى: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ، إلى أن قال: {فلا جناح عليهما} ، ولتقريره صلى الله عليه وسلم حبيبة بنت سهل على الخلع حين ذكرت الشقاق.
ولو اختلعت نفسها بلا سبب؛ فجائز مع الكراهة (1) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفتشوا عن سبب الاختلاع من جانبها، وقد ثبت (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبغض الحلال إلى الله - تعالى - الطلاق ".
أقول: في قولهم: " هذا الفعل منه حرام، ولكن الخلع نافذ " نظر؛ لأن قوله - تعالى -: {لا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} ، وقوله: {ولا يحل لكم} نصان في تحريم أخذ البدل، وهو يقتضي بطلان العقد؛ كما في كثير من مسائل البيوع، فإما أن يكون العقد باطلا من أصله، أو يمضى
__________
(1) • قلت: فيه نظر؛ فقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة، ولا يظهر فرق جوهري بين الطلاق والخلع؛ لا سيما على القول بأن الخلع طلاق، فظاهر أن حكمهما واحد هنا، فيحرم عليها أن تختلع بلا سبب.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: " المختلعات هن المنافقات "؛ وهو إن كان في سنده كلام؛ فلا بأس به للاستشهاد. (ن)
قلت: وقد صححه شيخنا - أخيرا - في " الصحيحة " (632) .
(2) • قلت: كلا لم يثبت؛ بل هو معلول عند المحققين؛ راجع " فيض القدير " للمناوي، وانظر التعليق المتقدم (268) . (ن)(2/269)
الطلاق ويرد عليها ما لها؛ كما قال مالك. والله - تعالى - أعلم (1) .
واتفق أهل العلم على أنه إن طلقها على مال فقبلت؛ فهو طلاق بائن.
واختلفوا في الخلع، فقال أبو حنيفة: تطليقة بائنة؛ وهو أصح قولي الشافعي، وله قول أنه فسخ وليس بطلاق، ولا ينقص به العدد؛ كذا في " المسوى ".
( [الخلع يجعل أمر المرأة بيدها] :)
(وإذا خالع الرجل امرأته كان أمرها بيدها) بعد الخلع، (لا ترجع إليه بمجرد الرجعة) .
( [مقدار العوض في الخلع] :)
(ويجوز بالقليل والكثير ما لم يجاوز ما صار إليها منه) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، وغيره: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين؛ ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة، وطلقها ".
__________
(1) وفي " النيل " (6 / 12) : " وقد اشترط في الخلع نشوز الزوجة: الهادوية، وقال داود والجمهور: ليس بشرط؛ وهو الظاهر؛ لأن المرأة اشترت الطلاق بمالها، فلذلك لم تحل فيه الرجعة على القول بأنه طلاق، قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن الأمر المشترط فيه أن لا يقيما حدود الله؛ هو طيب المال للزوج لا الخلع، وهو الظاهر من السياق في قوله تعالى: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} "؛ فالله أعلم. (ن)(2/270)
وفي رواية لابن ماجه، والنسائي، بإسناد رجاله ثقات: أنها قالت: لا أطيقه بغضا؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الحديقة ولا يزداد.
وفي رواية للدارقطني بإسناد صحيح: أن أبا الزبير قال: إنه كان أصدقها حديقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ "، قالت: نعم؛ وزيادة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الزيادة فلا؛ ولكن حديقته "؛ قالت: نعم.
فهذه الفرقة؛ إنما كانت بسبب ما افتدت به المرأة، فلو لم يكن أمرها إليها؛ كانت الفدية ضائعة.
وقد أفاد ما ذكرناه أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها أكثر مما صار إليها منه؛ وقد ذهب إلى هذا علي، وطاوس، وعطاء، والزهري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق.
وذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن يأخذ منها زيادة على ما أخذت منه؛ استدلالا بقوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ؛ فإنه عام للقليل والكثير.
ويجاب بأن الروايات المتضمنة للنهي عن الزيادة مخصصة لذلك؛ كحديث: " أما الزيادة فلا "؛ صححه الدارقطني، فصلح لتخصيص ذلك العموم كما هو الحق عند الماتن - رحمه الله - من جواز تخصيص عموم القرآن بالآحاد.
ومذاهب الصحابة فمن بعدهم في هذا مختلفة مبسوطة في المطولات.(2/271)
وأما ما أخرجه البيهقي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: " أتردين حديقته؟ "، قالت: وأزيد عليها؛ فردت عليه حديقته وزادته؛ ففي إسناده ضعف؛ مع أنه لا حجة فيه؛ لأنه لم يقررها على تسليم الزيادة.
وأيضا قوله - تعالى -: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} : يدل على منع الأخذ مما آتوهن إلا مع ذلك الأمر، فلا بأس بأن يأخذوا مما آتوهن لا كله؛ فضلا عن زيادة عليه.
( [الخلع بتراضي الزوجين أو إلزام الحاكم] :)
(ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخلع، أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما) ؛ لقوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} .
وأما اعتبار إلزام الحاكم؛ فلارتفاع ثابت وامرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلزامه بأن يقبل الحديقة ويطلق، ولقوله - تعالى -: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} ، وهذه الآية - كما تدل على بعث حكمين -؛ تدل على اعتبار الشقاق في الخلع.
ويدل على ذلك أيضا قوله - تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ، ويدل عليه قصة امرأة ثابت المذكورة، وقولها: أكره الكفر بعد الإسلام؛ وقولها: لا أطيقه بغضا.
فلهذا اعتبرنا الشقاق في الخلع.(2/272)
( [هل الخلع فسخ أم طلاق] :)
(وهو فسخ) ؛ وليس بطلاق؛ ولكن قال الماتن - رحمه الله - في " حاشية الشفاء " بخلاف ما قال ههنا، ورجح أن الخلع طلاق وليس بفسخ، وقال:
" هذا هو الحق؛ لأن الله سبحانه ذكر أحكام الخلع بعد قوله: {الطلاق مرتان} ، والضمائر من آيات الاختلاع راجعة إلى ذلك؛ كقوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ، وقوله: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (1) ، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاقا؛ كما في " صحيح البخاري " وغيره؛ فإنه قال لثابت بن قيس: " اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة (2) ".
ولا يعارضه ما روي في " سنن النسائي ": أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة، وكذلك في " سنن أبي داود ":
لأنه لا ملازمة بين الاعتداد بحيضة وبين الفسخ؛ بل إذا ورد في بعض المطلقات ما يدل على مخالفة عدتها لعدة سائر المطلقات المصرح بها في القرآن؛ كان ذلك مخصصا لعموم العدة، وقد أطال ابن القيم الكلام على ذلك، ورجح أن الخلع فسخ، ولم يأت ببرهان يشفي سوى ما ذكرنا من أمره - صلى الله عليه وسلم - لها أن تعتد بحيضة، وهو في غير محل النزاع كما عرفت ". انتهى.
__________
(1) • قلت: يرد عليه ما سيأتي - بعد -.
والحق أنه فسخ؛ كما بينه شيخ الإسلام، واحتج له في " الفتاوى " (3 / 31، 35، 38) . (ن)
(2) • قد أثبت الشوكاني في " النيل " (6 / 212) أن هذه اللفظة شاذة، والصواب: " وخل سبيلها "؛ كما روته صاحبة القصة نفسها وغيرها. (ن)(2/273)
ثم رجح في فتاواه المسماة ب " الفتح الرباني " كون الخلع فسخا وقال: " الظاهر أنه فسخ لا طلاق ".
وهو قول جماعة من العلماء منهم ابن عباس؛ رواه عنه ابن عبد البر في " التمهيد "، وكذلك رواه عن أحمد، وإسحاق، وداود، وهو قول الصادق والباقر، وأحد قولي الشافعي، ومن قال بذلك لم يشترط فيه أن يكون للسنة، وأجازه في الحيض وأوقعه، وإن كان لا يرى وقوع الطلاق البدعي.
واحتجوا لذلك بقول الله - تعالى -: {الطلاق مرتان} ، ثم ذكر الافتداء، ثم عقبه بقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} ، فلو كان الافتداء طلاقا؛ لكان الطلاق الذي لا تحل له إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، وبحديث الربيع: أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمرت - أن تعتد بحيضة؛ أخرجه الترمذي (1) ، وبحديث ابن عباس الآتي في قصة امرأة ثابت بن قيس.
قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: بحثت عن رجال الحديثين معا؛ فوجدتهم ثقات.
ولحديث رواه مالك، عن حبيبة بنت سهل الأنصاري: أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! كل ما أعطاني عندي،
__________
(1) • في " السنن " (2 / 216) ، وكذا " البيهقي " (7 / 450) ؛ من طريق سليمان بن يسار عنها؛ وإسناده صحيح على شرط مسلم. وضعفه البيهقي بدون حجة.
وله طريق أخرى عند النسائي صحيحة أيضا؛ راجعها في " النيل " (6 / 210) . (ن)(2/274)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت: " خذ منها "؛ فأخذ وجلست في أهلها.
قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في هذا الحديث، وهو حديث مسند صحيح، ووجه دلالته أنه لم يذكر فيه طلاقا، ولا زاد على الفرقة، ويدل على ذلك من النظر: أنه لا يصح أن يجعله طلاقا بائنا ولا رجعيا:
أما الأول؛ فلأنه خلاف الظاهر؛ لأنها تطليقة واحدة.
وأما الثاني؛ فلأنه إهدار لمال المرأة الذي دفعته لحصول الفرقة.
ولا يرد على هذا - أعني: الاكتفاء في العدة بحيضة - قول الله - تعالى -: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ؛ لأن الخلع عندهم فسخ لا طلاق، فلا يندرج تحت عمومه (1) ؛ فالآية في الطلاق الرجعي بدليل آخرها، وهو قوله - تعالى -: {وبعولتهن أحق بردهن} (1) ، فالآية عامة وأدلتنا خاصة.
وذهب الجمهور إلى أنه طلاق؛ مستدلين بحديث ابن عباس عند البخاري، وأبي داود بلفظ: " طلقها تطليقة ".
قلنا: ثبت من حديث المرأة نفسها عند " الموطإ "، وأبي داود، والنسائي بلفظ: " وخل سبيلها "، وعند أبي داود، من حديث عائشة بلفظ: [" وفارقها "] ؛ (2) وصاحب القصة أخص بها.
قال ابن القيم رحمه الله: " لا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة ".
__________
(1) كان في الأصل في كلمة (سلمنا) ؛ ولعلها مقحمة؛ فاقتضى التنبيه!
(2) • زيادة لا بد منها. (ن)(2/275)
وقال الخطابي في " معالم السنن ": " إنه احتج ابن عباس على أنه ليس بطلاق بقوله - تعالى -: {الطلاق مرتان} ". انتهى.
ومخالفة الراوي لما روى دليل على علمه بناسخ لوجوب حمله على السلامة.
قال الترمذي: " قال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إن عدة المختلعة عدة الطلاق ".
قلت: قد عرفت أن ابن القيم قال: " إنه لم يصح عن صحابي "، وعرفت الأدلة الدالة على أن العدة بحيضة، ولا حجة في أحد غير الشارع.
قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: " وقد استدل الزيدية في أنه طلاق بثلاثة أحاديث "، وأجاب عنها بوجوه؛ حاصلها: أنها مقطوعة الأسانيد، وأنها معارضة بما هو أرجح، وأن أهل الصحاح لم يذكروها.
واختلف العلماء أيضا في شروط الخلع، فالزيدية جعلوا منها النشوز، وهو قول داود الظاهري، والجمهور على أنه ليس بشرط، وهو الحق؛ لأن المرأة اشترت الطلاق بمالها، ولذلك لم تحل فيه الرجعة على القول بأنه طلاق.
قال العلامة ابن الوزير: " ثم تأملت؛ فإذا الأمر المشترط فيه خوف أن لا يقيما حدود الله هو طيب المال للزوج لا الخلع؛ لقوله - تعالى -: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، ولم يقل: في الخلع، يوضحه أنه لو ضارها حرم عليه؛ لقوله - تعالى -: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} ". انتهى.
ثم قال في " السيل الجرار " بعد ذكر أدلة الفريقين الدالة على أن الخلع(2/276)
طلاق أو فسخ ما نصه:
" فهذه الأحاديث تدل على أنه فسخ لا طلاق ... "، قال: " والذي ينبغي الجمع به هو أن عدة الخلع حيضة لا غير، وليس الغير - سواء كان بلفظ الطلاق أو بغيره - مما يشعر بتخلية السبيل؛ أو بتركها وشأنها من دون أن يجري منه لفظ قط.
قد يكون الوارد في هذا الطلاق الكائن في الخلع مخصصا لما ورد في عدة المطلقة، فتكون عدة الطلاق ثلاثة قروء؛ إلا إذا كان الطلاق مع الافتداء؛ فإنه حيضة واحدة، ولا تحسب عليه طلقة إلا إذا جاء بلفظ الطلاق (1) ، أو بما يدل عليه؛ لا إذا لم يقع منه لفظ البتة بل تركها وشأنها؛ فإن هذا لا يحسب عليه طلاقا.
وبهذا التقرير تجتمع الأدلة، ويرتفع الإشكال على كل تقدير.
وأما كونه يمنع الرجعة؛ فلما قدمنا أن الطلاق لا يتبع الطلاق ". انتهى.
( [عدة المختلعة] :)
(وعدته حيضة) ؛ لحديث الربيع بنت معوذ عند النسائي في قصة امرأة ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " خذ الذي لها
__________
(1) • قلت: وفي هذا نظر؛ لأن مقصود الافتداء لا يحصل مع الطلاق، وهو رجعي بنص كتاب الله - تعالى -، فإن كان يريد طلاقا بائنا؛ فليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلا.
وبيان ذلك فيما سبقت الإشارة إليه من " الفتاوى ". (ن)(2/277)
عليك؛ وخل سبيلها "، قال: نعم، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة واحدة، وتلحق بأهلها.
ورجال إسناده كلهم ثقات.
ولها حديث آخر عند الترمذي، والنسائي، وابن ماجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة.
وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث.
وأخرج أبو داود، والترمذي - وحسنه -، عن ابن عباس: أن امرأة ثابت ابن قيس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي - بإسناد صحيح -، عن أبي الزبير، وفيه: فأخذها وخلى سبيلها.
قال الدارقطني: سمعه أبو الزبير من غير واحد.
فهذه الأحاديث - كما تدل على أن العدة في الخلع حيضة - تدل على أنه فسخ؛ لأن عدة الطلاق ثلاث حيض، وأيضا تخلية السبيل هي الفسخ لا الطلاق.
وأما ما وقع في بعض روايات الحديث: أنه طلقها تطليقة؛ فقد أجيب عن ذلك بجوابات طويلة؛ قد أودعها الماتن في " شرح المنتقى "، فليرجع إليه.
قال ابن القيم:
" واختلف الناس في عدة المختلعة؛ فذهب إسحاق، وأحمد - في أصح الروايتين عنه دليلاً -؛ أنها تعتد بحيضة واحدة، وهو مذهب عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس، وقد حكى إجماع الصحابة، ولا يعلم لهما مخالف، وقد(2/278)
دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة دلالة صريحة، وعذر من خالفها أنها لم تبلغه، أو لم تصح عنده، أو ظن الإجماع على خلاف موجبها.
فهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر.
وأما رجحانه أثرا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض؛ بل قد روى أهل " السنن " عنه من حديث الربيع بنت معوذ، وحديث امرأة ثابت بن قيس المتقدمة.
وهذه الأحاديث لها طرق يصدق بعضها بعضا، فيكفي في ذلك فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر النحاس في كتاب " الناسخ والمنسوخ ": هو إجماع من الصحابة (1) ". انتهى حاصله.
__________
(1) • قلت: أما هذا الإجماع فغير صحيح؛ فقد روى البيهقي (7 / 450) عن ابن عمر، أنه قال: عدة المختلعة عدة المطلقة، ثم ذكر أنه قول سعيد بن المسيب، وجماعة سماهم.
لكن ثبت عن ابن عمر أنه رجع عن قوله هذا إلى عدها تطليقة واحدة؛ وفق حديث امرأة ثابت، كما حققته في " صحيح أبي داود " (1931 - 1932) .
وأما رواية الدارقطني (3 / 255) بلفظ: " حيضة ونصف "؛ فزيادة: " ونصف " شاذة بل منكرة؛ لأن مدار الحديث على هشام بن يوسف بسنده، عن ابن عباس، وقد رواه عنه جمع دون هذه الزيادة، وقد سماهم البيهقي (7 / 450) ؛ وقد تابعه عبد الرزاق دون هذه الزيادة، ولكنه أرسله، وكذلك جاء الحديث دونها من طرق أخرى.
فقول القرطبي في " تفسيره " (3 / 145) : " إن الحديث مضطرب من جهة الإسناد والمتن " مدفوع؛ لأنه غير قائم على القواعد الحديثية، مع خلو الطرق المشار إليها من الاضطراب الذي ادعاه في الطريق الأولى. (ن)(2/279)
(3 - باب الإيلاء (1))
( [تعريفه] :)
(هو أن يحلف الزوج من جميع نسائه أو بعضهن؛ لا أقربهن) ، وهو ظاهر.
( [مدته] :)
(فإن وقت بدون أربعة اشهر اعتزل حتى ينقضي ما وقت به) ؛ لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا، ثم دخل بهن بعد ذلك.
( [حكمه] :)
(وإن وقت بأكثر منها خير بعد مضيها بين أن يفيء أو يطلق) ؛ لقوله - تعالى -: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} الآية (2) .
وقد أخرج البخاري عن ابن عمر، قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق.
__________
(1) • هو - لغة -: الامتناع باليمين، وخص في عرف الشرع؛ بالامتناع باليمين من وطء الزوجة، ولهذا عدي فعله بأداة " من "؛ تضمينا له، والمعنى: يمتنعون من نسائهم؛ كذا في " الزاد ". (ن)
(2) • وتمامها: {فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} . (ن)(2/280)
قال البخاري: ويذكر ذلك عن عثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الدارقطني، عن سليمان بن يسار، قال: أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقفون المولي.
وأخرج أيضا، عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يولي؟ قالوا: ليس عليه شيء حتى يمضي أربعة أشهر، فيوقف؛ فإن فاء وإلا طلق.
قال في " المسوى ":
" اختلفوا فيما إذا انقضت أربعة أشهر وهو لم يفئ؛ قال الشافعي: لا يقع الطلاق بمضيها؛ بل يوقف؛ فإما أن يفيء ويكفر عن يمينه، أو يطلق، فإن طلق فبها؛ وإلا طلق عليه السلطان، وقال أبو حنيفة: إذا مضت أربعة أشهر وقعت عليها طلقة بائنة، وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن: يقع عليها طلقة رجعية ". انتهى (1) .
قال الماتن: وقد اختلف في مقدار مدة الإيلاء؛ فذهب الجمهور إلى أنها
__________
(1) • ورجح ابن القيم في " الزاد " قول الشافعي من وجوه عشرة ذكرها، وقال: " إنه قول الجمهور "؛ فراجعه (4 / 129 - 131) .
وسبب الخلاف؛ أن العدة المضروبة في الآية هي عند أبي حنيفة أجل؛ لوقوع الطلاق بانقضائها، والجمهور يجعلون المدة أجلا لاستحقاق المطالبة، فحينئذ يقال: إما أن تفيء، وإما أن تطلق، وإن لم يفئ؛ أخذ بإيقاع الطلاق؛ إما بالحاكم، وإما بحبسه حتى يطلق.
وقد ذكر ابن القيم أدلة القولين، ورجح ما سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر. (ن)(2/281)
أربعة أشهر فصاعدا، قالوا: فإن حلف على أنقص لم يكن موليا؛ واحتجوا بالآية، وهي لا تدل على مطلوبهم؛ لأنها لبيان المدة التي تضرب للمولي ليفيء بعدها أو يطلق، وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم الإيلاء شهرا، ودخل على نسائه بعده، فلو كان الإيلاء أربعة أشهر: فصاعدا - ولا يصح أقل منها - لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقد ذهب إلى جواز الإيلاء دون أربعة أشهر جماعة من أهل العلم، وهو الحق.
وأما لزوم الحد إذا نكلت (1) ؛ فقد أوضح ابن القيم في " الهدي " هذا البحث بما لا مزيد عليه؛ فليراجع؛ فإنه لا يستغنى عنه.
قال في " المسوى ":
" إيلاء العبد نحو إيلاء الحر، وهو عليه واجب، وإيلاء العبد شهران.
قلت: وعليه مالك؛ أن مدة الإيلاء تنتصف برق الرجل.
وقال أبو حنيفة: مدة الإيلاء تنتصف برق المرأة.
وقال الشافعي: الحر والعبد في مدة الإيلاء سواء ". انتهى.
__________
(1) • لعله: " إذا نكل "؛ يعني: الولي عن الطلاق. (ن)(2/282)
(4 - باب الظهار)
( [تعريف الظهار وبيان كفارته] :)
(وهو قول الزوج لامرأته: أنت علي كظهر أمي؛ أو ظاهرتك؛ أو نحو ذلك، فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة، فإن لم يجد فليطعم ستين مسكينا، فإن لم يجد فليصم شهرين متتابعين) ، وإنما جعلت كفارة هذه؛ لأن من مقاصد الكفارة أن يكون بين عيني المكلف ما يكبحه عن الاقتحام في الفعل خشية أن يلزمه ذلك، ولا يمكن ذلك إلا بكونها طاعة شاقة تغلب على النفس؛ إما من جهة كونها بذل ما تشح به؛ أو من جهة مقاساة جوع أو عطش مفرطين.
والدليل على ما اشتمل عليه هذا الباب - من التكفير على هذا الترتيب -: ما في القرآن الكريم: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} .
وقد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة سلمة بن صخر لما ظاهر من امرأته، ثم وطئها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعتق رقبة "،(2/283)
فقال: لا والذي بعثك بالحق؛ ما أصبحت أملك غيرها - وضرب صفحة رقبته -، قال: " فصم شهرين متتابعين "، قال: قلت: يا رسول الله {وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟} قال: " فتصدق "، قال: والذي بعثك بالحق؛ لقد بتنا ليلتنا ما لنا عشاء؛ قال: " اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك، فأطعم منها - وسقا من تمر - ستين مسكينا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -، وابن خزيمة وابن الجارود.
وفي لفظ لأبي داود: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كله أنت وأهلك ".
وأخرج نحوه أهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث ابن عباس، وصححه أيضا الحاكم.
قال ابن حجر: رجاله ثقات؛ لكن أعله أبو حاتم، والنسائي بالإرسال.
وقال ابن حزم: رواته ثقات؛ ولا يضره إرسال من أرسله.
وللحديثين شواهد.
وأخرج نحوه أبو داود، وأحمد، من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة. وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث عائشة.
وأخرجه الحاكم أيضا.(2/284)
وقد قام الإجماع على أن الكفارة تجب بعد العود؛ لقوله - تعالى -: {ثم يعودون لما قالوا} ، واختلف أهل العلم؛ هل العلة في وجوبها؛ العود أو الظهار؟ واختلفوا أيضا هل المحرم الوطء فقط أم هو مع مقدماته؟
فذهب الجمهور إلى الثاني؛ لقوله - تعالى -: {من قبل أن يتماسا} ، وذهب البعض إلى الأول؛ قالوا: لأن المسيس كناية عن الجماع (1) .
واختلفوا في العود ما هو؟
فقال قتادة، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة، وأصحابه: إنه إرادة المسيس لما حرم بالظهار؛ لأنه إذا أراد فقد عاد من عزم الترك إلى عزم الفعل؛ سواء فعل أم لا.
وقال الشافعي: بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الطلاق ولم
__________
(1) • قلت: وهذا هو الأظهر بالنسبة للأسلوب القرآني؛ فإن (المس) ذكر فيه في غير ما آية، وأريد به الجماع فقط، فكذلك الأمر هنا، لكن هذا لا يمنع من القول بمنع المظاهر من مقدمات الوطء؛ من قبيل سد الذرائع.
فإن قيل: هذا ينفي ما ثبت من تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وهو صائم، وحاله حال المظاهر؛ من حيث وجوب الامتناع من الجماع ومقدماته؟
قلت: الجواب من وجهين:
الأول: أن الصائم ورد فيه النص في المقدمات؛ ففارق المظاهر، " وإذا جاء نهر الله؛ بطل نهر معقل " {
الأمر الثاني: أن لا يستوي الصائم مع المظاهر؛ لاختلاف مدة الامتناع من الاتصال بالنسبة لكل منهما؛ فالصائم يستطيع أن يملك نفسه، ولو باشر المقدمة حتى المساء؛ بخلاف المظاهر؛ فتأمل}
ثم بالنسبة للاختلاف الذي قبل هذا؛ فالأرجح أن العلة هي الظهار والعود معا، فإذا لم يعد لطلاق أو غيره؛ فلا كفارة، والله أعلم. (ن)(2/285)
يطلق؛ إذ تشبيهها بالأم يقتضي إبانتها، وإمساكها نقيضه.
وقال مالك وأحمد: بل هو العزم على الوطء فقط؛ وإن لم يطأ.
وقد وقع الخلاف أيضا إذا وطئ المظاهر قبل التكفير، فقيل: تجب عليه كفارتان، وقيل: ثلاث، وقيل: تسقط الكفارة، وذهب الجمهور إلى أن الواجب كفارة واحدة؛ وهو الحق كما تفيده الأدلة المذكورة.
واعلم أن الرقبة؛ وإن كانت مطلقة في كفارة الظهار؛ فقد ورد ما يدل على اعتبار كونها مؤمنة، وليس ذلك الدال على اعتبار الإيمان هو ما وقع في القرآن في كفارة القتل - لما تقرر في الأصول أن المختلفين سببا لا يصح تقييد أحدهما بالآخر -؛ بل الدال على ذلك هو سؤاله صلى الله عليه وسلم لمن قال: عليه رقبة عن إيمانها، وقوله لها: " أين الله؟ "، و: " من أنا؟ "، ثم قال: " أعتقها فإنها مؤمنة "؛ كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي (1) ، ولم يستفصله صلى الله عليه وسلم عن وجوب تلك الرقبة عليه؛ هل هو عن كفارة ظهار، أو قتل، أو يمين، أو غير ذلك؟
وقد تقرر: أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم؛ إذا كان في مقام الاحتمال (2) .
( [إعانة الإمام للمظاهر] :)
(ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرا لا يقدر على
__________
(1) رواه مسلم.
(2) هذا عموم ضعيف جدا؛ لاحتمال أن يكون الراوي اختصر الحديث، وأن يكون معاوية بن الحكم بين سبب وجوب الرقبة، والقرآن دل على وجوب رقبة من غير قيد، فمن زاد شرطا؛ فليأت بدليل صريح في كفارة الظهار. (ش)(2/286)
الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظهار مؤقتا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت) ؛ لتقريره صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر لما قال له إنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان، وهو في " مسند أحمد "، و " سنن أبي داود "، و " الترمذي " - وحسنه -، والحاكم، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود كما تقدم.
وظاهر القرآن: أنه لا يوجب الكفارة إلا العود.
فالظهار المؤقت إذا انقضى وقته لم يكن إرادة الوطء عودا، فلا تجب فيه كفارة.
وأما إذا كان الموجب للكفارة قول المنكر والزور؛ فهي واجبة في مطلق ومؤقت؛ لأنه قد وقع القول بمجرد إيقاع الظهار.
( [المسيس قبل التكفير] :)
(وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت أو قبل التكفير؛ كف حتى يكفر في المطلق أو ينقضي وقت المؤقت) ؛ لحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمظاهر الذي وطئ امرأته: " لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله "؛ أخرجه أهل " السنن " (1) ، وصححه الترمذي، والحاكم.
وظهار العبد نحو ظهار الحر، وصيام العبد في الظهار شهران كالحر بالاتفاق.
__________
(1) • وسنده حسن عند أبي داود (1 / 348) . (ن)(2/287)
(5 - باب اللعان)
( [تعريف اللعان] :)
والأصل فيه أنه أيمان مؤكدة تبرئ الزوج من حد القذف، وتثبت اللوث عليها؛ تحبس لأجله ويضيق عليها به، فإن نكل ضرب الحد، وأيمان مؤكدة منها تبرئها، فإن نكلت ضربت الحد.
وبالجملة؛ فلا أحسن - فيما ليس فيه بينة، وليس مما يهدر ولا يسمع -؛ من الأيمان المؤكدة.
( [مشروعية اللعان] :)
(وإذا رمى الرجل امرأته بالزنا) ؛ حكم اللعان مذكور في الكتاب العزيز؛ قال الله - تعالى -: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} ، واستفاض حديث عويمر العجلاني وهلال بن أمية.
(ولم تقر بذلك ولا رجع عن رميه) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث المتلاعنين على ذلك.(2/288)
ففي " الصحيحين " وغيرهما: أنه وعظ الزوج وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
ثم وعظ المرأة وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة "، فإذا أقرت المرأة؛ كان عليها حد الزاني المحصن إذا لم يكن هناك شبهة، وإذا أقر الرجل بالكذب؛ كان عليه حد القذف.
(لاعنها؛ فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ وإذا كانت حاملا أو كانت قد وضعت؛ أدخل نفي الولد في أيمانه) ؛ وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، والسنة المطهرة في ملاعنته - صلى الله عليه وسلم - بين عويمر العجلاني وامرأته، وبين هلال بن أمية وامرأته.
( [التفريق بين المتلاعنين إلى الأبد] :)
(ويفرق الحاكم بينهما، وتحرم عليه أبدا) ؛ لحديث سهل بن سعد عند أبي داود (1) قال: مضت السنة بعد في المتلاعنين؛ أن يفرق بينهما؛ ثم لا يجتمعان أبدا.
وفي حديث ابن عباس (2) عند الدارقطني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • (1 / 351) ؛ وإسناده صحيح؛ رجاله رجال مسلم. (ن)
(2) هو في " سننه " (3 / 276) ، لكن؛ عن ابن عمر! ونقل في " نصب الراية " (3 / 250) عن ابن عبد الهادي تجويد إسناده.
وانظر " التلخيص الحبير " (1779) .(2/289)
- قال: " المتلاعنان إذا تفرقا؛ لا يجتمعان أبدا ".
وأخرج نحوه عنه أبو داود.
وفي " الصحيحين " وغيرهما: أن عويمرا طلق امرأته ثلاث تطليقات قبل أن يأمره - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين (1) .
( [إلحاق الولد بأمه] :)
(ويلحق الولد بأمه (2) فقط، ومن رماها به فهو قاذف) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين.
أخرجه أحمد، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وبقية رجاله ثقات.
ويؤيد هذا الحديث: الأدلة الدالة على أن الولد للفراش - ولا فراش هنا -، والأدلة الدالة على وجوب حد القذف.
والملاعنة داخلة في المحصنات؛ [ما] (3) لم يثبت عليها ما يخالف ذلك، وهكذا من قذف ولدها؛ فإنه كقذف أمه؛ يجب الحد على القاذف.
__________
(1) • قال الزهري - وهو أحد رواة الحديث -: ثم جرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها. (ن)
(2) • كما هو صريح الحديث في " الصحيحين ". (ن)
(3) زيادة يقتضيها السياق.(2/290)
(6 - باب العدة)
( [الفصل الأول: أنواع العدة] )
وكانت من المشهورات المسلمة في الجاهلية، وكانت مما يكادون يتركونه، وكان فيها مصالح كثيرة؛ فأقرها الشارع.
(1 -[عدة الحامل] :)
(هي للطلاق من الحامل بالوضع) ؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} .
(2 -[عدة الحائض] :)
(ومن الحائض بثلاث حيض) ؛ لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، والقروء هي الحيض؛ كما تقدم في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" دعي الصلاة أيام أقرائك ".
والقرء - وإن كان في الأصل مشتركا بين الأطهار والحيض -؛ لكنه هنا قد دل الدليل على أن المراد أحد معنيي المشترك، وهو الحيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(2/291)
" تعتد بثلاث حيض " (1) ، وقوله: " تجلس أيام أقرائها "، وقوله: " وعدتها حيضتان "، وسيأتي.
(3 -[عدة الصغيرة والتي يئست من المحيض] :)
(ومن غيرهما) ؛ أي: غير الحامل والحائض - وهي الصغيرة والكبيرة التي لا حيض فيها، أو التي انقطع حيضها بعد وجوده -؛ فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لقوله - تعالى -: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} الآية.
وقد وقع الخلاف في منقطعة الحيض لعارض؛ فقيل: إنها تتربص حتى يعود؛ فتعتد بالحيض، أو تيأس؛ فتعتد بالأشهر.
والحق ما ذكرناه؛ لأنه يصدق عليها عند الانقطاع أنها من اللائي لم يحضن.
(4 -[عدة التي مات عنها زوجها] :)
(وللوفاة بأربعة أشهر وعشر) ؛ لقوله - تعالى -: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} ؛ هذا من غير الحامل.
(وإن كانت حاملا فبالوضع) ؛ لقوله - تعالى -: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} .
__________
(1) • رواه ابن ماجه (1 / 640) من حديث عائشة؛ بلفظ: قالت: أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض.
وفي " الزوائد ": " إسناده صحيح، ورجاله موثقون ".
لكن نقل الشوكاني (6 / 246) عن الحافظ، أنه قال: " لكنه معلول ". (ن)
قلت: وقد جزم - بتصحيحه - شيخنا في " إرواء الغليل " (2120) .(2/292)
وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكمل بيان.
ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أم سلمة: أن امرأة من أسلم - يقال لها: سبيعة - كانت تحت زوجها، فتوفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين؛ فمكثت قريبا من عشر ليال، ثم نفست، ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: " انكحي ".
وأخرج البخاري عن ابن مسعود؛ في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؛ قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ {لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} .
وقد أخرج أحمد، والدارقطني، عن أبي بن كعب، - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله} {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ؛ للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها؟ قال: " هي للمطلقة ثلاثا، وللمتوفى عنها " (1) .
وأخرجه أبو يعلى، والضياء في " المختارة "، وابن مردويه.
وفي إسناده المثنى بن الصباح؛ وثقه ابن معين، وضعفه الجمهور.
وقد أخرج ابن ماجه، عن الزبير بن العوام: أنها كانت عنده أم كلثوم بنت عقبة، فقالت له وهي حامل: طيب نفسي بتطليقة! فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الصلاة، فرجع وقد وضعت؛ فقال: ما لها قد خدعتني؟ خدعها
__________
(1) وهو حديث ضعيف؛ وانظر - له - " إرواء الغليل " (2116) .(2/293)
الله! ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سبق الكتاب أجله؛ اخطبها إلى نفسها ".
ورجال إسناده رجال الصحيح؛ إلا محمد بن عمر بن هياج، وهو صدوق لا بأس به (1) .
وقد تمسك بعض الصحابة بالآيتين، فجعل عليها أطول الأجلين، فقال: إذا وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر؛ لم تنقض عدتها حتى تمضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت الأربعة الأشهر وعشر، ولم تضع؛ لم تنقض العدة حتى تضع، وبه قال جماعة من أهل العلم.
والحق: أن عدة الحامل بالوضع في الطلاق والوفاة؛ للأدلة التي ذكرناها، وهي نصوص في محل النزاع، ومبينة للمراد.
قال ابن القيم:
" وقد كان بين السلف نزاع في المتوفى عنها؛ أنها تتربص أبعد الأجلين، ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل، وأما عدة الوفاة فتجب بالموت؛ سواء دخل بها أو لم يدخل؛ كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس ". انتهى.
( [لا عدة على غير المدخول بها] :)
(ولا عدة على غير مدخولة) ؛ لقوله - تعالى - في غير الممسوسات: {فما
__________
(1) ذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن فيه انقطاعا؛ لأن راويه ميمون بن مهران لم يسمع من الزبير بن العوام (ج 7: ص 86) . (ش)
• لكن أخرجه الحاكم (2 / 209) ؛ من طريق أخرى من حديث أم كلثوم هذه؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)(2/294)
لكم عليهن من عدة تعتدونها} .
( [كيف تعتد الأمة] :)
(والأمة) ؛ أي: عدتها (كالحرة) ؛ لأن حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان "؛ أخرجه الترمذي، وأبو داود، والبيهقي، قال فيه أبو داود: " هو حديث مجهول " (1) ، وقال الترمذي: " حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث ". انتهى.
وأخرج ابن ماجه، والدارقطني، ومالك في " الموطإ "، والشافعي من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان "؛ وفي إسناده عمرو بن شبيب، وعطية العوفي، وهما ضعيفان.
وصحح الدارقطني أنه موقوف على ابن عمر.
وأخرج الدارقطني من حديث ابن مسعود، وابن عباس:
" الطلاق بالرجال والعدة بالنساء "، وقد أعل بالوقف.
وأخرج أحمد عن علي نحو ذلك.
__________
(1) • لأنه عندهم من رواية مظاهر بن أسلم؛ وليس بالمشهور؛ بل ضعفه أبو عاصم - أحد رواته عنه -، وقال ابن معين: " ليس بشيء ".
وشذ ابن حبان؛ فذكره في " الثقات "، وكذا الحاكم؛ حيث أخرجه في " المستدرك " (2 / 205) ؛ فقال: " الحديث صحيح "؛ ووافقه الذهبي! (ن)(2/295)
وإذا كان الصحيح الوقف فيما عدا حديث عائشة؛ فلم يكن في الباب ما تقوم به الحجة؛ لأن حديث عائشة ضعيف كما عرفت، فوجب الرجوع إلى أدلة الكتاب والسنة المشتملة على تفصيل العدد، وهي غير مختصة بالحرائر.
( [الإحداد واجب على المعتدة من وفاة] :)
(وعلى المعتدة للوفاة ترك التزين) ؛ لحديث أم سلمة في " الصحيحين ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام؛ إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا ".
وفي الباب عن أم حبيبة، وزينب بنت جحش في " الصحيحين "، وغيرهما.
وفيهما أيضا من حديث أم سلمة: أن امرأة توفي زوجها، فخشوا على عينها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستأذنوه في الكحل؟ فقال: " لا تكتحل؛ كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها (1) - أو شر بيتها (2) -، فإذا كان حول فمر كلب؛ رمت ببعرة (3) ، فلا؛ حتى تمضي أربعة أشهر وعشر ".
وفي " الصحيحين " من حديث أم عطية قالت:
كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج أربعة أشهر
__________
(1) الأحلاس: جمع حلس - بكسر الحاء وإسكان اللام -: وهو الثوب الرقيق. (ش)
(2) هو أضعف موضع فيه؛ كالامكنة المظلمة ونحوها. (ش)
(3) كذا كانت عادتهن في الجاهلية؛ تمكث المتوفى عنها سنة، ثم ترمي ببعرة إذا مر عليها كلب، وبه تخرج من إحدادها. (ش)(2/296)
وعشرا، ولا نكتحل، ولا نطيب، ولا نلبس ثوبا مصبوغا؛ إلا ثوب عصب (1) ، وقد رخص لنا عند الطهر - إذا اغتسلت إحدانا من محيضها - في نبذة من كست (2) أظفار ".
وفي الباب أحاديث.
وقد روي ما يعارض هذه الأحاديث؛ فأخرج أحمد، وابن حبان - وصححه - من حديث أسماء بنت عميس قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب، قال: " لا تحدي بعد يومك هذا "، وهي كانت امرأته بالاتفاق.
وقد أجيب بأنه حديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد وقع الإجماع على خلافه، وقيل: إنه منسوخ، وقد أعله البيهقي (3) بالانقطاع.
وهذه الأحاديث المؤقتة في الإحداد بأربعة أشهر وعشر هي في غير الحامل، وأما هي فعليها ذلك حتى تنقضي عدتها بالوضع، ثم الإحداد إنما يكون للموت لا لغيره؛ لأنه التظهر بما يدل على الحزن والكآبة لمفارقة الزوج
__________
(1) بفتح العين وإسكان الصاد المهملتين؛ قال في " اللسان ": " العصب: برود يمنية يعصب عزلها - أي: يجمع ويشد -، ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا؛ لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ ". (ش)
(2) • هو القسط الهندي، وفي رواية: كسط؛ وهو هو: " نهاية ".
والأظفار: جنس من الطين لا واحد له من لفظه.
وقيل: هو شيء من العطر أسود، أو قطعة منه شبيهة بالظفر: منه. (ن)
(3) • في " سننه الكبرى " (7 / 438) ، وأعله أيضا بأن فيه محمد بن طلحة - يعني: ابن مصرف اليامي، قال: " ليس بالقوي ".
قلت: وكذا قال النسائي فيه، وفي " التقريب ": " صدوق له أوهام ".
ثم الحديث في " المسند " (6 / 369) . (ن)(2/297)
بالموت، لا لمطلق المفارقة بالطلاق وغيره؛ لأنه لم يرد فيه شيء، ولا فعلته النساء في أيام النبوة والخلفاء الراشدين، فمن ادعى وجوبه على غير المميتة؛ فنحن نطالبه بالدليل.
( [لزوم المعتدة من وفاة بيت زوجها] :)
(والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها أو بلوغ خبره) ؛ لحديث فريعة بنت مالك - عند أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم -، قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج (1) له، فأدركهم في طريق القدوم (2) ، فقتلوه، فأتى نعيه، وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي من دور أهلي، ولم يدع نفقة، ولا مالا ورثته، وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي؛ لكان أرفق بي في بعض شأني؟ قال: " تحولي "؛ فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني - أو أمر بي -، فدعيت فقال: " امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله "، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا.
وفي بعض ألفاظه (3) : أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك، فأخبرته، فأخذ به.
وقد أعل هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به (4) .
__________
(1) الأعلاج: العبيد (ش) .
(2) بفتح القاف وتخفيف الدال: جبل بالحجاز قرب المدينة. (ش)
(3) • هو عند الحاكم وغيره؛ فانظر " الإرواء " (7 / 206 / 2131) . (ن)
قلت: وقد ضعفه شيخنا في الموضع المشار إليه من " الإرواء ".
(4) • وهي - كما قال الشارح - علة غير قادحة؛ لأنه رواه جماعة عن سعد بن إسحاق بن كعب(2/298)
وأخرج النسائي، وأبو داود - وعزاه المنذري إلى البخاري -، عن ابن عباس في قوله - تعالى -: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} : نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله - تعالى - لها من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا " (1) .
وقد ذهب إلى العمل بحديث فريعة: جماعة من الصحابة فمن بعدهم، وقد روي جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، ولم يأت من أجاز ذلك بحجة تصلح لمعارضة حديث فريعة.
وغاية ما هناك روايات عن بعض الصحابة؛ وليست بحجة؛ لا سيما إذا عارضت المرفوع (2) .
__________
بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب، عن فريعة ... .
وأما حماد بن زيد؛ فرواه عنه؛ إلا أنه قلب اسمه فقال: عن إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة؛ رواه البيهقي (7 / 435) .
ثم رواه عن حماد مثل رواية الجماعة، ثم قال: " فإن لم يكونا اثنين؛ فهذا أولى بالموافقة لسائر الرواة عن سعد ".
والحديث في " المسند " (6 / 370) ، وفي " المستدرك " (2 / 208) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)
(1) • وأخرجه الحاكم (2 / 211) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري "، ووافقه الذهبي. (ن)
(2) • قلت: وبخاصة أن هناك آثارا أخرى عن ابن عمر، وغيره - مخالفة لها، وموافقة للمرفوع -: رواها عبد الرزاق في " المصنف " (7 / 29 - 36) .
وهذا المرفوع الآتي عن مجاهد - مع إرساله -؛ فيه عنعنة ابن جريج، ومن المعلوم أن الآثار إذا اختلفت؛ فالأخذ بما وافق منها الحديث المرفوع أولى؛ ولا سيما إذا جرى العمل عليها، فقد قال ابن عبد البر في حديث فريعة: " استعمله أكثر فقهاء الأمصار "؛ ذكره في " الاستيعاب ".
وهذا هو الذي استظهره ابن القيم في " التهذيب " (3 / 199 - 200) ، وانتصر له في " زاد المعاد "، وأطال الكلام فيه، فراجعه (4 / 309 - 316) ؛ فإنه نفيس.
وانظر الكلام على حديث مجاهد في " الضعيفة " (5597) .(2/299)
وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق (1) ، عن مجاهد مرسلا: أن رجالا استشهدوا بأحد، فقال نساؤهم: يا رسول الله! إنا نستوحش في بيوتنا، أفنبيت عند إحدانا؟ فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن؛ فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها.
وهذا - مع إرساله - لا تقوم به الحجة.
وأما أنها لا تعتد بما مضى من الأيام قبل العلم وبعد الطلاق أو نحوه؛ فلا وجه له؛ لأن مشروعية العدة لم يشترطها الشارع بعلم المعتدة؛ إنما ضرب للعدة مقادير كما في القرآن، فإذا مضت تلك المقادير من يوم الطلاق أو الموت انقضت العدة، ومن زعم أنه لا يحتسب بجميع العدة أو ببعضها قبل العلم فعليه الدليل؛ لأنه يدعي إما فقد شرط؛ أو وجود مانع، وكلاهما خلاف الأصل.
ثم الفرق بين بعض المعتدات دون بعض - في اعتبار العلم وعدمه؛ كما وقع في كتب الفروع -؛ لا مستند له إلا خيالات مختلة.
( [الفصل الثاني: استبراء الأمة المسبية والمشتراة] )
( [كيف تستبرأ الأمة المسبية والمشتراة] :)
(ويجب استبراء الأمة المسبية والمشتراة ونحوهما بحيضة إن كانت حائضا، والحامل بوضع الحمل) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود (2) ، والحاكم - وصححه -
__________
(1) • (12077) . (ن)
(2) • (1 / 336) ؛ ومن طريقه البيهقي (7 / 449) .
وفيه شريك القاضي؛ وهو ضعيف من قبل حفظه؛ لكنه قوي بالشواهد. (ن)(2/300)
من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس:
" لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ".
ولما أخرجه مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يلعن الرجل الذي أراد وطء امرأة حامل من السبي لعنة تدخل معه قبره.
وأخرج الترمذي من حديث العرباض بن سارية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا، حتى يضعن ما في بطونهن.
وأخرج ابن أبي شيبة من حديث علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع، ولا توطأ حائل حتى تسبثرأ بحيضة.
وفي إسناده ضعف وانقطاع.
وأخرج أحمد، والطبراني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقعن رجل على امرأة؛ وحملها لغيره "؛ وفي إسناده بقية، والحجاج بن أرطاة؛ وهما مدلسان.
وهو يشمل المسبية وغيرها؛ كالمشتراة والموهوبة.
وكذلك حديث رويفع بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يسقي ماءه ولد غيره "؛ أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود (1) ، وابن أبي شيبة، والدارمي، والطبراني،
__________
(1) • (1 / 336) ، والبيهقي (7 / 449) ؛ وإسناده حسن. (ن)(2/301)
والبيهقي، والضياء المقدسي، وابن حبان - وصححه -، والبزار - وحسنه -.
وهو - كما يتناول الحامل المشتراة ونحوها -؛ كذلك يتناول من يجوز حملها من الغير كائنا من كان؛ لأن العلة كونه يسقي بمائه ولد غيره.
وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم، وقال: " لا تسق ماءك زرع غيرك ".
وأصله في " النسائي ".
وأخرج البخاري عن ابن عمر: إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو أعتقت؛ فلتستبرأ بحيضة، ولا تستبرأ العذراء.
ويدل على استبراء المشتراة التي هي حامل - أو مجوز حملها - الأدلة الواردة في المسبية؛ لأن العلة واحدة، وأما العذراء والصغيرة فليستا ممن تصدق عليه تلك العلة، وإن كان حمل العذراء البالغة ممكنا مع بقاء البكارة، ولكنه في غاية الندرة؛ فلا اعتبار به.
وأما ما أخرجه البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن ليقبض الخمس، فاصطفى علي منه سبية، فأصبح وقد اغتسل، ثم بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم ينكره؛ بل قال في بعض الروايات: " لنصيب علي أفضل من وصيفة "؛ فيحمل على أنها كانت صغيرة أو بكرا؛ جمعا بين الأدلة، أو أنه قد كان مضى لها من وقت الصبا ما تبين به أنها غير حامل.
(ومنقطعة الحيض) تستبرأ (حتى يتبين عدم حملها) ؛ لأنه لا يمكن العلم(2/302)
بعدم الحمل إلا بذلك؛ إذ لا حيض؛ بل المفروض أنه منقطع لعارض؛ أو أنها ضهيأ (1) .
وأما من قد بلغت سن الإياس من الحيض؛ فقد صار حملها مأيوسا كحيضها، ولا اعتبار بالنادر.
(ولا تستبرأ بكر ولا صغيرة مطلقا، ولا يلزم) الاستبراء (على البائع ونحوه) ؛ لعدم الدليل على ذلك؛ لا بنص ولا بقياس صحيح؛ بل هو محض رأي.
__________
(1) في " القاموس ": " والضهيأ - كعسجد -: المرأة لا تحيض، والتي لا لبن لها ولا ثدي؛ كالضهيأة ". اه. بتصرف. (ش)(2/303)
(7 - باب النفقة)
( [نفقة الزوجة واجبة على زوجها] :)
(تجب على الزوج للزوجة) ؛ لا أعرف في ذلك خلافا، وقد أوجبها القرآن الكريم، قال الله - تعالى -: {وارزقوهم فيها واكسوهم} ، وقد قرر دلالة هذه الآية على المطلوب الموزعي في " تفسيره ".
ولحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف، وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
ولقوله صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن حق الزوجة على الزوج -: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت "؛ وهو عند أهل " السنن " وغيرهم.
قال في " المسوى ":
" تجب نفقة الزوجة على الزوج - موسرا كان أو معسرا -، قال - تعالى - {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} ، وقال - تعالى -: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وقال - تعالى -: {ذلك أدنى ألا تعولوا} .(2/304)