وأمن الفتنة، فيحرم مطلقا، وعلى المرأة ستر وجهها وكفيها من رؤوس الأصابع إلى المعصم ظهرَا وبطنَا.
الحالة الثالثة: أن تنتفي الفتنة، وتؤمن الشهوة؛ ففي هذه الحالة قولان: الأول: لا يجوز، ولو من غير مشتهاة، أو خوف فتنة على الصحيح،
وهو قول النووي رحمه الله في "المنهاج"، والإصطخري، وأبي علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والروياني، وغيرهم، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة، ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية (1) .
* قال العلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى:
"إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر، لا
في الصلاة" اهـ.
الثاني: لا يحرم عند أمن الفتنة وعدم الشهوة، لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهو مفسَّر بالوجه والكفين، ونسبه
الإمام للجمهور، والشيخان النووي، والرافعي للأكثرين.
قال في "المهمات":
"إنه الصواب لكون الأكثرين عليه، وهو قول الرافعى".
* قال البلقيني:
"الترجيح بقوة المدرك والدليل فإن نظرت لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) قال العلامة شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير في "نهاية المجتاج إلى شرح المنهاج" معلقا: (وبه اندفع القول بأنه غير عورة) اهـ. (6/187)(3/468)
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ، ولقاعدة سد الذرائع إلى المحرم رجحت الحرمة وإذا نظرت لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) رجحت جواز النظر، والفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقًا، وهو القول الأول، وهو الراجح" (1) اهـ.
* وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى:
"فإذا خرجت - أي المرأة - فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال، ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، فإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء، لأمروا بالتنقب، أو منعن من الخروج إلا لضرورة" (2) اهـ.
ورجح الغزالي أيضًا في "الإحياء" أن كشف وجه المرأة للأجنبي حرام، وأن نهي الأجنبية عنه واجب.
* قال الزبيدي رحمه الله:
"قوله لها في تلك الحالة: لا تكشفي وجهك أي استري وجهك واجب
أو مباح أو حرام لا يخلو من أحد الثلاثة فإن قلتم: إنه واجب، فهو الغرض المطلوب لأن الكشف معصية، والنهي عن المعصية حق" (3) اهـ.
__________
(1) "فقه النظر في الإسلام ص 34 -36 وانظر: "روضة الطالبين" (7/21) ، و"مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج" (3/ 128) ، "نهاية المحتاج" (2/8) ، (6/187) ، "السراج الوهاج" (ص 52) ، "إعانة الطالبين" (1/113) ، "فتح
الوهاب" (1/ 48) .
(2) "إحياء علوم الدين" المجلد الأول (ص 728 - 729) .
(3) "إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين" (7/ 17) للعلامة السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى.(3/469)
* قال العلامة محمد الشربيني الخطيب الشافعي رحمه الله:
(وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء: أي منع الولاة لهن معارَض بما حكاه القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف عنه في شرح مسلم، وأقره عليه.
وقال بعض المتأخرين: "إنه لا تعارض في ذلك، بل منعهن من ذلك،
لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة، وفي تركه إخلال بالمروءة".
وظاهر كلام الشيخين أن الستر واجب لذاته، فلا يتأتى هذا الجمع، وكلام القاضي ضعيف، وحيث قيل بالجواز كره، وقيل: خلاف الأولى، وحيث قيل بالتحريم - وهو الراجح - هل يحرم النظر إلى المنتقبة التي لا يتبين منها غير عينيها ومحاجرها أم لا؟
* قال الأذرعي:
"لم أر فيه نصّا، والظاهر أنه لا فرق، لاسيما إذا كانت جميلة، فكم من المحاجر من خناجر" اهـ، وهو ظاهر) (1) اهـ.
* وقال الخطيب الشربيني أيضا:
"ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلي الرجل ملثما، والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب" (2) .
* وفي حواشي الشرواني والعبادي:
"من تحققت من نظر أجنبي لها يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت
__________
(1) "مغني المحتاج" (3/129) .
(2) "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" ص 185.(3/470)
معينه له على حرام، فتأثم" (1) اهـ،
* رابعا: المذهب الحنبلي:
نقل العلامة ابن مفلح عن شيخ الإسلام قوله:
"وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز" (2) اهـ. وتقدم مثله عن تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله (3) .
* وقال العلامة ابن مفلح رحمه الله:
"قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية، ونقل أبو طالب: "ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا، ولا خفها، فإنه يصف القدم، وأحب إليَّ أن تجعل لكمها زرُّا عند يدها"، اختار القاضي قول من قال: المراد بـ "ما ظهر" من الزينة: الثياب، لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسرها ببعض الحلي، أو ببعضها، فإنها الخفية، قال: وقد نص عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر" (4) اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح أيضَا:
"نقل أبو طالب: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت فلا يبين منها شيء، ولا خفها، فإن الخف يصف القدم، وَأحَبُّ إليَّ أن تجعل لكمها زرَّا عند يدها لا يبين منها شيء" (5) اهـ.
* قال الإمام ابن قدامة رحمه الله:
"لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه
__________
(1) "حواشي الشرواني والعبادي" (6/ 193) "
(2) الآداب الشرعية والمنح المرعية" (1/ 316) .
(3) انظر (ص 193) .
(4) "الفروع" (1/601) .
(5) "السابق" (5/154) .(3/471)
ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان".
إلى أن قال: "وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة، لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" رواه الترمذي، وقال. "حديث حسن صحيح"، لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر الحارث بن هشام (1) ، قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرها".
وقال: "فأما الكفان فقد ذكرنا فيهما روايتين: إحداهما: لا يجب سترهما لما ذكرنا (2) ، والثانية: يجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة"، وهذا عام إلا ما خصه الدليل، وقولُ ابن عباس: "الوجه والكفان" قد روى أبو حفص عن عبد الله بن مسعود خلافه قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب، ولا يجب كشف الكفين في الإحرام، إنما يحرم أن تلبس فيهما شيئَا مصنوعا على قدرهما، كما يحرم على الرجل لبس السراويل، والذي يستر به عورته" (3) اهـ.
__________
(1) وظاهره وجوب تغطية كل بدنها حتى في الصلاة بما في ذلك الوجه والكفان، ولهذا علق حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله- عليه قائلاً: (قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم، لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها، وتباشر الأرض به، وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة، ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة، وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة، وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه.
وأما النظر للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة، وقد روى نحو قول أبي بكر بن عبد الرحمن عن أحمد بن حنبل) اهـ من "التمهيد" (6/ 365) .
يشير إلى استدلال من لم يوجب سترهما بقول ابن عباس رضي الله عنهما في (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الوجه والكفان، وبنهي المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء والكفين للأخذ والاعطاء.
(3) "المغني" (1/601- 602)(3/472)
* وقال العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي رحمه الله:
(قوله: "والحرة كلها عورة، حتى ظفرها وشعرها إلا الوجه" والصحيح
من المذهب: أن الوجه ليس بعورة، وعليه الأصحاب، وحكاه القاضي إجماعا، وعنه: الوجه عورة أيضًا، قال الزركشي: "أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه، أو على غير الصلاة" اهـ، وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة.
قال الشيخ تقي الدين: "والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه") (1) اهـ.
* وقال المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي رحمه الله:
"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها،
قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها" (2) اهـ.
* وقال العلامة منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله:
"ولا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره، "قال جمع: وكفيها" واختاره المجد، وجزم به في العمدة، والوجيز، لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال ابن عباس وعائشة: "وجهها وكفيها" رواه البيهقي، وفيه ضعف،
__________
(1) "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل" (1/452) .
(2) "الإقناع" (1/88) .(3/473)
وخالفهما ابن مسعود، وهما - أي الكفان والوجه - من الحرة البالغة عورة خارجها - أي الصلاة - باعتبار النظر كبقية بدنها، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:
" المرأة عورة" (1) اهـ.
* وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني رحمه الله:
"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها. . إلا وجهها، لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني" وغيره" (2) اهـ.
وقال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني رحمه الله:
"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها "إلا وجهها" والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها" (3) اهـ.
تنبيهات
الأول: نستطيع أن نخلص مما تقدم بأن علماء المذاهب الأربعة يكادون يتفقون على وجوب تغطية المرأة جميع بدنها عن الأجانب، سواء منهم من يرى أن الوجه والكفين عورة، ومن يرى أنهما غير عورة لكنه يوجب تغطيتهما في هذا الزمان لفساد أكثر الناس، ورقة دينهم، وعدم تورعهم عن النظر المحرم إلى وجه المرأة الذي هو مجمع المحاسن، ومعيار الجمال، ومصباح البدن (4) .
__________
(1) "كشاف القناع على متن الإقناع" (1/243) .
(2) "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للشيخ المرعي الكرمى" (1/330)
(3) "نيل المآرب بشرح دليل الطالب" (1/39) .
(4) انظر: "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 44 - 46) ، "نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام للشيخ عبد الحميد طهماز (ص 34-35) ، "فقه النظر في =(3/474)
الثاني أجمع العلماء على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجالب فقد نقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن ابن المنذر أنه قال "أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الأجانب" اهـ. وهذا يقتضي أن غير المحرمة مثل المحرمة فيما ذكر، بل أولى" (1) اهـ. وفيه دليل واضح، وكشف فاضح لجهل من ادعى أن النقاب بدعة لا أصل لها في الإسلام (2)
الثالث: أنه رغم الخلاف القديم بين الفقهاء في هذه المسألة إلا أنه بقي خلافًا نظريًّا إلى حَد بعيد، حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان أحد معالم "سبيل المؤمنين" في شتى العصور:
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز" (3) اهـ.
* ونقل الإمام ابن رسلان رحمه الله:
اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات (4) اهـ.
__________
= الإسلام" (ص 37-38)
(1) "الرد القوي" للتويجري (ص248- 249)
(2) انظر: "الرد العلمي على كتاب تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" للمؤلف
(3) انظر ص (206)
(4) انظر ص (450)(3/475)
* وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله:
"لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات" (1) اهـ.
* وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
"إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال" (2) اهـ.
الرابع: ما هي الحالات التي يرخص فيها بالسفور أمام الأجنبي؟
نظرًا لأن الشرع الحنيف إنما حرم السفور سدًّا لذريعة الفتنة، ونظرَا للقاعدة الفقهية التي تنص على أن: ما مُنعَ سدًّا للذريعة ابِيحَ للمصلحة الراجحة، فقد رفع الله الحرج عن المرأة حيث احتاجت إلى كشف وجهها، وكذا عن الرجل إذا طرأت حاجة إلى النظر إليه، فمن هذه الحالات:
أولا: عند الخِطبة، وقد تقدمت الأدلة في ذلك (3) .
ثانيا: عند التداوي إذا فقدت طبيبة تداويها، بشرط عدم الخلوة، وقصر النظر على موضع الحاجة، وتحري الطبيب العدل الثقة (4) .
ثالثا: عند تعليمها العلم الواجب إذا افتقدت امرأة تعلمها، وكذا محرما صالحًا، وأن يتعذر التعليم من وراء حجاب، وإلا لم يحل لها الكشف، ولا له النظر، وأن تؤمن الفتنة من الجانبين.
رابعا: عند التقاضي، والشهادة، وزاد بعضهم: المعاملة التي قد تستوجب الشهادة.
__________
(1) "إحياء علوم الدين" (4/729) .
(2) "فتح الباري" (9/ 248) .
(3) راجع (ص (352) وما بعدها.
(4) انظر: "شرح السنة" (9/23) .(3/476)
* قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى:
للمفتي والقاضي والشاهد أن ينظر إلى وجه المرأة إذا كلمتهم في الفتوى والقضاء والشهادة، فأما القاضي والشاهد فلابد من كشف وجهها له لِيَعْلَمَ على من يَقضي، وعلى من شَهد، إذ العلم بالمقضي عليه والمشهود عليه شرط، فأما المفتي فلا ينظر إليها إلا إذا كانت سافرة بسبب أو كان ذلك مما يتعلق بالتقوى، ومن العلماء من قال: ينظر إليها، فإنها مأمورة بسؤاله، وهو مأمور بإجابتها، وكلاهما عورة أباحته الفتوى، فكذلك رؤيتها لأن ذلك يتم بالرؤية" (1) اهـ.
خامسا: عند الإكراه، كما في حالة العيش في ظل حكومات "إرهابية" جائرة، تسلط جلاوزتها على المنتقبات لإيذائهن، أو اعتقالهن، أو فصلهن من وظائفهن إذا كانت المصدر الوحيد لرزقهن، فإن الأمر إذا ضاق اتسع، والصبر أولى.
وفي جميع الحالات الاستثنائية الآنفة الذكر، يجب على المرأة أن تجتنب إظهار زينتها كالحلي والأصباغ ونحوها.
التنبيه الخامس: اعلم أن الشريعة المحكمة ترمى من وراء تشريع الحجاب إلى منع الفتنة ابتداء من مجرد الاستحسان والتلذذ بالنظر الذي هو زنا العين، وانتهاء بالفاحشة الكبرى، وآية ذلك:
- أن للمرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والحج إذا أمنت نظر الرجال إليها.
- وأن لها أن تكشفه في الظلام إذا كانت بحيث لا تُرى، وعليه حُملَ حديث (كن ينصرفن من صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) . إن احتمل كونهن سافرات.
- وأن لها أن تكشفه أمام رجل أعمى لا يراها.
__________
(1) "عارضة الأحوذي" (4/ 56) .(3/477)
- وأن لها أن تكشفه إذا كانت عجوزًا قاعدًا لا يُشتَهي مثلها.
- وأن لها أن تكشفه أمام صبي غير ذي شهوة، وكذا أمام من ذهبت شهوته من الرجال، أو من لا شهوة له منهم أصلا.
***(3/478)
الخاتمة
تذكرة ... ومعذرة
* أما التذكرة:
فهي للمؤمنين والمؤمنات، والتائبين والتائبات:
قال الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)) [الذاريات: 55]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين النصيحة" الحديث (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم في صفة المؤمن: "إن المؤمن خُلِق مُفَتَّنا، تَوابَا نسِيا، إذا ذُكرَ ذَكَرَ" (2) .
فيا أيتها الأخت المسلمة:
تدبري قول الله تعالى: " (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) [الحديد: 16] ، فهلا كان جوابكِ: "بلى آن يارب"؟
وهلا تدبرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحِّ الأذى عن طريق المسلمين" (3) ؟
فإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق من شُعَبِ الإيمان التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأيهما أشد أذى: شوكة أو حجر في الطريق، أم فتنة
__________
(1) رواه من حديث تميم الداري رضي الله عنه مسلم رقم (55) في الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة، وأبو داود رقم (4944) فى الأدب: باب في النصيحة، والنسائي (7/ 156) فى البيعة: باب النصيحة للإمام.
(2) رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطبراني في "الكبير" و "الأوسط"، وقال الهيثمي: (أحد إسناد الكبير رجاله ثقات) اهـ، من "فيض القدير" (5/
491) ، وانظر: "صحيح الجامع الصغير" (5/ 172) .
(3) رواه من حديث أبي برزة رضي الله عنه أبو يعلى في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، كما في الجامع الصغير"، وزاد الألباني عزوه إلى ابن أبي شيبة، والضياء.
انظر: "صحيح الجامع" (6/ 25) .(3/479)
تفسد القلوب، وتعصف بالعقول، وتشيع الفاحشة؟
إنه ما من شاب مسلم يبتلي منكِ اليوم بفتنة تصرفه عن ذكر الله، وتصده عن صراطه المستقيم - كان بُوسعكِ أن تجعليه في مأمنٍ منها - إلا أعقبك منها غدًا نكال من الله عظيم.
يا غافلا يتمادَى ... غدًا عليكَ يُنادَى
هذا الذي لم يُقَدِّمْ ... قبل الترحُّل زادا
هذا الذي وعظوه ... وخَوَّفوه المعادا
فلم يكن لمنادِيه ... طائِعًا منقادا (1)
بادري إلى طاعة ربك عز وجل، ودعي عنكِ انتقادَ الناس ولومَهم،
فإن حساب الله غدا أشد وأعظم:
أيها اللائمُ دعني ... لستُ أصغي للملام
انني أطلب مُلكًا ... نيلُه صعْبُ المرام
في جِنانِ الخُلْدِ في الفِرْ ... دَوْسِ في دارِ السلام
قولي لدعاة الرذيلة، وخونة الفضيلة:
إليك عني، إليكَ عني ... فلستُ منكَ، ولستَ مني
ترفعي عن طلب مرضاتهم ومداهنتهم، فإن التسامي إلى مرضاة الله أسعد لك وأسلم، عن عروة بن الزبير رضى الله عنهما مرفوعا: "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس" (2) .
وإن كنتِ حقا قد رضيتِ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وبزوجاته وبناته ونساء المؤمنين أسوة وقدوة:
فسارعي إلى التوبة، ولا تُسَوِّفي، بل قولي كما قال موسى عليه السلام: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84] .
__________
(1) "غالية المواعظ " لأبي البركات نعمان الألوسي (2/65) .
(2) انظر "تحقيق شرح الطحاوية" هامش (ص 235) .(3/480)
وقولي كما قال المؤمنون من قبل: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285] .
وأما المعذرة
فهي إلى ربنا عز وجل، من:
- هؤلاء المعرضين الذين سيقولون بلسان حالهم: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) [الشعراء: 136] .
- وهؤلاء المغرضين المضلين الذين تمردوا على أهل العلم، وشذوا عن المألوف، وأمروا بالمنكر، ونَهَوْا عن المعروف.
أعني أصحاب العقلية الورقية التافهة الذين يَتَوَلَّوْنَ اليوم البحث في قضايا المرأة والحجاب، ويقومون بصياغة الشعارات الاجتماعية التي تتمخض كل يوم عن بلية لا لَعًا (1) لها، وفتنة - وقى الله شرها - ممثلة في تلك الفتاوى المضجعة، المحلولة العقال، المبنية على التجري، لا التحري، المؤسسة على الظن، وهو أكذب الحديث، أو الهوى، وهو معبود باطل خبيث، يصدرها قوم لا خلاق لهم من الصحافيين، ومن أسموهم المفكرين، تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجا، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا يُنَفِّرون من النقاب لا لأن البحث العلمي أداهم إلى أنه مكروه أو محرم أو بدعة كما يرجفون ولكن لأنه يشمئز منه مقلدوهم من كفار الشرق والغرب.
فاللهم باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق
والمغرب.
ويا أيها الناظر فيه، الواقف على معانيه:
__________
(1) لعا – كعصى - كلمة يراد منها الانتعاش من العثرة، يقال في الدعاء للعاثر: لعًا له، وفي الدعاء عليه: لا لعًا له.(3/481)
إنْ تجدْ عيبا فَسُدَّ الخَلَلَا ... فجلَّ من لا عيب فيه وعلَا
***
فما كان فيه من حق وصواب فمن الله هو المانُّ به، فإن التوفيق بيده،
وما كان فيه من زلل فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.
ولله دَر الإمام ابن القيم - رحمه الله - حيث قال:
فلك أيها القارئ صفوُهُ، ولمؤلفه كدرُهُ، وهو الذي تجشَم غراسه وَتَعَبَهُ، ولك ثَمَره، وها هو قد استهدف لسهام الراشقين، وأستعذر إلى الله من الزلل والخطأ، ثم إلى عباده المؤمنين (1) .
***
وهذا آخر ما قصدت جمعه وترتيبه، وإني أبتهل إلى الله تعالى بأكف الضراعة وأتوسل إليه بحبه نَبِيَّهُ محمدَا صلى الله عليه وسلم أن يجعله خالصَا لوجهه الكريم، وسببا للفوز بالرضى والقبول والتكريم، وأن يجعله لنفع عباده الصالين موقوفَا، وعن أهل التحذلق والتنطع مصونًا مصروفا، وأن يرحمني ووالديَّ وسائر المسلمين، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين:
قرُب الرحِيلُ الى دِيارِ الآخره ... فَاجعَلْ إلهي خيرَ عُمرِي آخِرَهُ
فلئن رَحمتَ فأنت أكرم رَاحِمٍ ... وَبِحارُ جُودِك يا إلهي زاخِرَه
آنِسْ مبيتي في القبورِ وَوِحْدَتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخِرَه
فأنا المُسَيْكِينُ الذي أيَّامُهُ ... وَلَّتْ بِأوْزارٍ غَدَتْ مُتَواتِرَه
وتَولهُ باللُّطفِ عِنْدَ مَآلِهِ ... يا مَالِكَ الدنيا وَرَبَّ الآخِرَه (2)
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
__________
(1) "مفتاح دار السعادة" (ص 67) ط. الشيخ زكريا علي يوسف رحمه الله.
(2) وهذا الشعر مما يعزى إلى الإمام الشافعي رحمه الله.(3/482)
الفهارس(3/483)