خلقت من ضِلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها، استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها " (949) ، وعنه أيضًا بلفظ: " واستوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج (950) ، استوصوا بالنساء خيرًا (951) ، ومعنى " خلقت" أي أخرجت كما تخرج النخلة من النواة " من ضِلَع " واحد الأضلاع، فالمراد أن أول النساء خلقت من ضلع، أو المراد التمثيل، قال القاضي: " استعير الضلع للمعوج صورةً ومعنى "، فيكون المراد: إنها مثل الضلع، ويشهد له قوله: " لن تستقيم لك على طريقة".
والعَوج: بفتح العين في الأجسام، وبكسرها في المعاني، قوله: " إن ذهبت تقيمها كسرتها " (أي إن أردت منها تسوية اعوجاجها أدى إلى فراقها، فهو ضرب مثل للطلاق، قوله: " وإن تركته" أي لم تقمه " لم يزل أعوج " فلا تطمع في استقامتهن، قوله: " وإن أعوج شيء في الضلع
__________
(949) رواه مسلم في " الرضاع" رقم (61) ، والحميدي (1168) .
(950) فيه إشارة إلى الصبر على اعوجاجهن لأنه في الغالب طبع فيهن، ولا يردن به شرا، ومن أراد تقويم المرأة تقويمًا تاما فقد طلب المحال، والعشرة كلها تحتاج إلى صبر وعفو وحلم سواء أكانت مع الرجال أم مع النساء.
(951) رواه البخاري (9/206) ط. السلفية، ومسلم في " الرضاع" رقم (62) .
فائدة: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان مقصود قوله صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا " الحديث: (يؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبِعَت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو ترك الواجب، وإنما يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة) اهـ " فتح الباري" (9/207) .
وقال رحمه الله أيضا: (وفيه رمز إلى التقويم برفق، بحيث لا يبالغ فيه فيكسر، ولا يتركه فيستمر على عوجه، وإلى هذا أشار البخاري في الباب) اهـ. (9/206) .(2/400)
أعلاه " ذكر تأكيد لمعنى الكسر، وإشارة إلى أنها خلقت من أعوج آخر الضلع، مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن، أو ضربه مثلًا لأعلى المرأة، لأن أعلاها رأسها، وفيه لسانها، وهو الذي يحصل به الأذى، وقوله:
" استوصوا بالنساء خيرًا " الاستيصاء قبول الوصية، فالمعنى: أوصيكم بهن خيرًا، فاقبلوا وصيتي فيهن، فإنهن خلقن من ضِلَع أعوج، فلا يتأتى الانتفاع بهن إلا بأن يداريها، ويلاطفها، ويوفيها حقوقها، أو تكون السين للطلب مبالغة، أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية والنصيحة من غيركم بهن، وقد نظم بعضهم معنى هذا الحديث فقال:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
تجمع ضعفًا واقتدارا على الفتى ... أليس عجيبا ضعفها واقتدارها؟ ! (952)
رَأي أفِينٌ (953)
حكى منشيء المنار الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أنه بقي يدرس مسألة النساء والحياة الزوجية بعمق وتدبر للواقع في بلاد المسلمين والإفرنج مدة ثلث قرن ونيف، وأنه كتب فيها، وناظر المشتغلين بها، والداعين إلى المساواة بين النساء والرجال في الجامعة المصرية فحكمت له الأكثرية الساحقة منهم بالفلج وإصابة صميم الحق، ثم قال رحمه الله تعالى:
(وإنني أعتقد بعد هذا الدرس الطويل العريض العميق، وما اقترن به من الاختبار الدقيق، أن ما يراه الكثيرون من أهل الغرب والشرق من
__________
(952) انظر: " فيض القدير" (1/503) ، و"شرح الأبي" (4/99 - 100) .
(953) الأفين والمأفون: الضعيف الرأي والعقل.(2/401)
نوط السعادة الزوجية بتعارف الزوجين قبل الزواج، وعشق كل منهما للآخر، هو رأي أفين، أثبت الاختبار (954) بطلانه، وأن تحاب الشبيبة لا ثبات له بعد الزواج غالبًا، بل كانت العرب تقول: " إن الزواج يفسد الحب".
وإنما القاعدة الصحيحة لهناء الزوجية ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لامرأة خاصمت زوجها إليه، وصرحت له بأنها لا تحبه، فقال لها: " إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا، فلا تخبره بذلك، فإن أقل البيوت ما بني على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام "، يعني أن التزام كل من الزوجين لحفظ شرف الآخر والعمل بما يرشد إليه الإسلام من الواجبات والآداب الزوجية هو الذي تنتظم به الحياة الزوجية، ويعيش الناس به العيشة الهنية.
وينبغي لكل من الزوجين أن يتكلف التحبب إلى الآخر بأكثر مما يجده له في قلبه، فإن التطبع يصير طبعًا، ورحم الله عُليَّة بنت المهدي أخت هارون الرشيد حيث قالت:
* تَحَببْ فإن الحبَّ داعيةُ الحب *
فإنه في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم ") (955) انتهى كلامه رحمه الله، وما أشار إليه من قول عمر رضي الله عنه للمرأة التي خاصمت زوجها، جاء مفصلًا في الخبر التالي:
__________
(954) يعني بعد ثبوت حكم الشرع بمنع الاختلاط مع الأجنبي ولو كان خاطبا، مع حرص الشرع على حصول المودة بينهما قبل الشروع في الزواج بإباحته النظر للمخطوبة وتعليل ذلك بأنه " أحرى أن يؤدم بينهما "، وانظر: " القسم الثالث" ص (51-60) .
(955) "حقوق النساء في الإسلام" ص (187 - 188) .(2/402)
(رُوي أن ابن أبي عُذرة الدؤلي - أيام خلافة عمر رضي الله عنه - كان يخلع النساء اللائي يتزوج بهن، فطارت له في النساء من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته:
- أنشدك بالله هل تبغضينني؟
قالت: لا تنشدني بالله.
قال: فإني أنشدك بالله.
قالت: نعم.
فقال لابن الأرقم: أتسمع؟
ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه، فقال: (إنكم لَتَحَدَّثُونَ أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل ابن الأرقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة، فجاءت هي وعمها، فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه؟ "،
فقالت: إني أول من تاب، وراجع أمر الله تعالى، إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبي، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب) (956) .
فمع غلظ تحريم الكذب، وتشديد الشرع فيه، غير أنه أباح طرفًا منه ليستصلح الرجل زوجته، ويستطيب نفسها: فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا، أو يقول خيرا "، قالت: " ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني الحرب، والإصلاح بين الناس،
__________
(956) انظر: " شرح السنة" (13/120) .(2/403)
وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجَها " (957) .
__________
(957) رواه البخاري (5/220) في الصلح: باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، ومسلم (2605) في البر والصلة: باب تحريم الكذب وبيان المباح منه واللفظ له، والإمام أحمد (6/404) من وجه آخر، والبغوي في " شرح السنة" (13/117) وقال رحمه الله: (وأما كذب الرجل زوجته فهو أن يعددَها ويمنيها، ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، يستديم بذلك صحبتها، ويستصلح به خلُقها، والله أعلم) اهـ. (13/119) ، وفي حديث أسماء بنت في يزيد رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث" الحديث، وفيه: " والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك" رواه الترمذي (1940) ، وحسنه، وأحمد (6/454، 459، 460) وفيه شهر بن حوشب، وانظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (545)(2/404)
[فصل]
أصفى السرور: اجتماع المودة والرحمة
(قد يجعل الله سبحانه المودة في الرجل ولا يجعل فيه الرحمة، كما يوجد من أخلاق الجفاة الأراذل، يحب أحدهم زوجته لكنه يعاملها معاملة المبغض من الضرب واللعن وشتم الآباء والأمهات، وقد يكلفها أعمالًا شاقة، ويُضَيِّقُ عليها في النفقة الواجبة، وقد يتزوج عليها فيقطع صلته بها ونفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يجعلها معلقة لا هي ذات زوج ولا مُطَلقة.
وقد يجعل الله الرحمة في الشخص ولا يجعل فيه المودة، كما يوجد من أخلاق بعض الفضلاء، يقع في نفس أحدهم عدم المودة الصافية منه لزوجته، لكنه يعاشرها بكرم الأخلاق، وجميل الوفاق، وبالعطف واللطف والإنفاق، إن الناس متفاوتون في الأخلاق، كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، وان الكمال التام متعذر من رجل وامرأة، فما من أحد إلا وفيه شيء من النقص بحسبه، غير أن الناس يتعاشرون بالشرف، وتندر البيوت المبنية على المحبة، والرجل الكريم صاحب الخلق القويم يغض عن الشيء اليسير، فما استقصى كريم قط، فكم من رجل كره امرأة فأنجبت له أولادا كرامًا قاموا بنفعه، ونشروا فخر ذكره، (وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرَا) ، وكم من رجل فُتِن بمحبة امرأة فأفسدت عليه دينه ودنياه وأهله وخلقه (وعسى أن تحبوا شيئَا وهو شر لكم)) (958) .
ولقد رفع الإسلام حسن الخلق إلى أعلى المقامات، وكان صلى الله عليه وسلم نهاية
__________
(958) "قضية تحديد الصداق" ص (23-24) .(2/405)
العالَم في حسن الخلق، ولذا قال الله تعالى في حقه: (وإنك لعلى خلق عظيم) فما بالك بما يستعظمه الحق جل شأنه؟
بل جعل الله عز وجل تتميم صالح الأخلاق أحد المقاصد الرئيسية لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بُعِثْتُ لأتمم صالح الأخلاق " (959) وفي رواية: " مكارم الأخلاق".
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " (960) .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه أراد سفرا، فقال: " يا رسول الله، أوصني"، فكان من وصيته صلى الله عليه وسلم: " استقم، وليحسن خُلُقُكَ للناس" (961) .
وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه مرفوعًا: " أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا " (962) .
__________
(959) رواه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (273) ، وابن سعد في " الطبقات، (1/192) ، والحاكم (2/613) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/318) ، ورواه الإمام مالك في " الموطأ " بلاغا (2/904) في حسن الخلق، وقال الحافظ ابن عبد البر: (وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره) اهـ، وانظر " السلسلة الصحيحة" رقم (45)
(960) رواه الترمذي رقم (1988) في البر: باب ما جاء في معاشرة الناس، وحسنه. (961) عجز حديث أخرجه ابن حبان (1922) ، والحاكم (4/244) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة، رقم (1228) .
(962) رواه الطبراني كما في " الترغيب، (3/259) ، و " المجمع" (8/24) ، وقالا: (ورواته محتج بهم في الصحيح) اهـ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (433)(2/406)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحبكم إلى وأقربكم منى في الآخرة مجالسَ أحاسنُكم أخلافا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقا، الثرثارون، المتفيهقون المتشدقون " (963) .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة" (964) .
ولم يكتف الشرع بعموم النصوص التي تحض على حسن الخلق مع الخلق كافة، بل خص النساء بذلك، وجعل حسن الخلق معهن معيار الخيرية والفضل.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خلقًا، وخياركم: خياركم لنسائهم، (965) .
إن الزوجة أمانة ووديعة يسلمها وليُّها لمن يحافظ عليها، ويتقي الله فيها، ويحسن صحبتها، عن حجر بن قيس قال: (خطب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها، فقال: " هي لك على أن تحسن
__________
(963) أخرجه الترمذي رقم (2019) في البر والصلة: باب ما جاء في معالي الأخلاق، وقال: " حسن غريب من هذا الوجه " وفي سنده مبارك بن فضالة صدوق يدلس ويُسوي، وله شواهد كما في " الترغيب والترهيب" (3/261) .
(964) أخرجه الترمذي رقم (2003) ، (2004) ، في البر والصلة: باب ما جاء في حسن الخلق، وأبو داود رقم (4799) في الأدب، و " البزار بإسناد جيد " كما في " الترغيب والترهيب" (3/256) .
(965) أخرجه الترمذي (1/217 - 218) ، وقال: "حسن صحيح"، والإمام أحمد (2/250، 472) ، ومن طريق أخرى أخرجه ابن حبان (1311) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (284) .(2/407)
صحبتها " (966)) .
وإن مما يعين المؤمن على الصبر على أهله، وكف الأذى عنهم، وحسن الخلق معهم، تذكر ساعة فراق الأحباب، التي قد تأتيه بغتة، ولابد أن تأتيه وإن طال العمر، كما رَوى سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: " يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به " (967)) .
أيا فرقة الأحباب لا بُد لىِ منكِ ... ويا دارُ دُنيا إني راحل عنكِ
وقال الحسن: " ابدأ أهلك بمكارم الأخلاق، فإن الثواء (968) فيهم قليل) (969) .
وقال أيضًا وهو في جنازة: " ابن آدم لئن رجعت إلى أهل ومال، فإن الثوى فيهم قليل) ، وعن هشام قال: (كان الحسن إذا أصبح وإذا أمسى قال لأهله ثلاث مرات: (يا أهلاه! الثوى فيكم قليل " (970)) .
وقال الحسن رحمه الله: " البَرُّ: الذي لا يؤدي الذَرَّ " (971) .
ولا أوذي الأنام وكيف يوذي ... عبادَ الله منتظر الرحيل؟
__________
(966) رواه الطبراني في " الكبير" (4/40) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (166) .
(967) (أخرجه الطبراني في " الأوسط" بإسناد حسن) كما في " المجمع" (10/219) ، و "الترغيب" (2/11) ، وحسنه العراقي كما نقله عنه في "فيض القدير" (1/103) ، وحسنه الألباني بطرقه في " الصحيحة" رقم (831) .
(968) الثواء: " الإقامة.
(969) "بر الوالدين" للطرطوشي ص (178) .
(970) رواه الإمام أحمد في " الزهد" ص (272) .
(971) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (19/125) .(2/408)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يُيْغِضُ كل جعظرِي جَوَّاظ، سَخاب في الأسواق جيفةٍ بالليل، حِمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة " (972) .
وقد جاء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض كل جعظري جواظ" الحديث قيل: هو الشديد على أهله، المتكبر في نفسه، وهو أحد ما قيل في معنى قوله تعالى: (عُتُلّ) قيل: العتل هو الفظ اللسان الغليظ القلب على أهله، وقال صلى الله عليه وسلم لجابر حين تزوج ثيبًا: " هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك " (973) .
لقد تأثر المسلمون الأوائل بهذه التوجهات الإلهية، والإرشادات النبوية إلى حسن الخلق مع أهليهم، وانفعلوا بها أصدق الانفعال، فحفل تاريخهم بمواقف مشرقة يضرب بها المثل، في الفتوة والصبر والتجمل مع وجود داعي النفرة، وهاك بعض حديثهم في ذلك:
قال أحمد بن عنبر: (لما ماتت أم صالح بن أحمد بن حنبل قال أحمد لامرأة تكون عندهم: " اذهبي إلى فلانة بنت عمها، فاخطبيها لي من نفسها، فأتتها، فأجابته، فلما رجعت إليه قال: " أختها كانت تسمع كلامكِ؟ "، قال: وكانت بعين واحدة، فقالت له: " نعم"، قال: " فاذهبي فاخطبي تِيكَ التي بفرد عين"، فأتتها، فأجابته، وهي أم عبد الله ابنه، فأقام معها سبعا، ثم قالت له: " كيف رأيت يا ابن عمي؟ أنكرتَ شيئًا؟ " قال: " لا، إلا نعلك هذه تصِر ".
__________
(972) رواه ابن حبان (1957) ، والبيهقي متابعة (10/194) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (195) ، وفسر الجعظري بالفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع، والسخاب كالصخاب كثير الضجيج والخصام.
(973) انظر تخريجه برقم (1250) ، (1251) .(2/409)
وقال خطاب بن بشر: قالت امرأة أحمد بن حنبل لأحمد، بعد ما دخلت عليه بأيام: " هل تنكر مني شيئًا؟ "، فقال: " لا، إلا هذا النعل الذي تلبسينه، لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فباعته واشترت مقطوعًا فكانت تلبسه) ، وهى ريحانة بنت عمر عَم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (974) .
(قيل: تزوج رجل بامرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: " اشتكيت عيني "، ثم قال: " عميت"، فبعد عشرين سنة ماتت، ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال: " كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها "، فقيل له: " سبقت الفتيان " (975)) .
(وعن محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أمي تقول: سمعت مريم امرأة أبي عثمان تقول: صادفت من أبي عثمان خلوة فاغتنمتها، فقلت: " يا أبا عثمان أي عملك أرجى عندك؟ " فقال: يا مريم لما ترعرعت وأنا بالري، وكانوا يريدونني على الزواج فأمتنع، جاءتني امرأة فقالت: " يا أبا عثمان قد أحببتك حُبا أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل إليك أن تتزوج بي "!
فقلت: " ألكِ والد؟ " قالت: " نعم، فلان الخياط في موضع كذا وكذا "، فراسلتُ أباها أن يزوجها مني، ففرح بذلك، وأحضرت
__________
(974) " طبقات الحنابلة " (1/429) .
(975) " مدارج السالكين " (2/342) ، وقريب من هذه الصورة من الفتوة ما حكاه الحافظ ابن القيم رحمه الله عن أبي علي الدقاق قال:
[ (جاءت امرأة، فسألت حاتمًا عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة، فخجلت، فقال حاتم: " ارفعي صوتك "، فأوهمها أنه أصم، فَسُرت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فلقب بحاتم الأصم) وهذا التغافل هو نصف الفتوة] اهـ. من " مدارج السالكين" (2/344) .(2/410)
الشهود، فتزوجت بها، فلما دخلت وجدتها عوراء عرجاء مشوهة الخَلْق، فقلت: " اللهم لك الحمد على ما قدَّرته لي! ".
وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك فأزيدها بِرا وإكراما، إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها فتركت حضور المجالس إيثارًا لرضاها، وحفظًا لقلبها، ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر، وأنا لا أبدى لها شيئًا من ذلك إلى أن ماتت! فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي) (976) اهـ.
ومن المعاشرة بالمعروف:
التغاضي وعدم تعقب الأمور صغيرها وكبيرها، وعدم التوبيخ والتعنيف في كل شيء، إلا في حقوق الله عز وجل، وذلك ما يرشدنا إليه فولُه تعالى: (وإذ أسَرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا. فلما نبأت به وأظهره الله عليه عَرَّف بعضه وأعرض عن بعض. فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير) (التحريم: 3) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقَا) (977) ، وقال: (ولقد خدمت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أفّ، ولا قال لشيء فعلتُه، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟) (978) .
__________
(976) " المنتظم" (6/107) .
(977) صدر حديث رواه البخاري (10/436) في الأدب: باب الانبساط إلى الناس، ومسلم رقم (2150) في الأدب، وأبو داود رقم (4969) ، والترمذي رقم (333) .
(978) رواه البخاري (10/383، 384) في الأدب: باب حسن الخلق والسخاء، ومسلم =(2/411)
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم) (979) .
وعنها رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من مظلمة ظُلِمها قط ما لم يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهِك من محارم الله شيء كان من أشَدِّهم في ذلك غَضَبا، وما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن مأثمًا) (980) .
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: " والله لقد كان ضحوكا إذا ولج، سكوتا إذا خرج، آكلًا ما وجد، غير سائل عما فقد " (981) .
ومن المعاشرة بالمعروف:
طلاقة الوجه، والبشاشة:
فقد بين صلى الله عليه وسلم أن ذلك من المعروف: فعن جابر بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك، فإن ذلك من المعروف) (982) ، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن
__________
= رقم (2309) في الفضائل، وأبو داود رقم (4774) في الأدب: باب في الحلم.
(979) رواه مسلم رقم (2327) في الفضائل: باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، وأبو داود رقم (4786) في الأدب: باب التجاوز في الأمر.
(980) رواه البخاري (6/419) في الأنبياء، والأدب، والحدود، والمحاربين، وأبو داود رقم (4785) .
(981) " الإحياء" (4/724) .
(982) قطعة من حديث أخرجه أبو داود رقم (4084) في اللباس، وصححه ابن حبان
(1221) ، (1451) " موارد".(2/412)
لم يجد فبكلمة طيبة " (983) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والكلمة الطيبة صدقة " (984) .
ومن أحق من الزوجَة بهذا المعروف، وهذه الصدقة؟
(نعم.. ما أجدرنا أن نعود ألسنتنا على الكلام الطيب في أول حياتنا الزوجية، ومما يتصل بالكلمة الطيبة طريقة إلقائها، فقد تزيد هذه الطريقة - إن كانت حلوة عذبة - من تأثيرها، وما أجدرنا أن نعوّد عضلات وجوهنا الابتسامة التي تبسط أكثر المسائل تركيبا وتعقيدًا، وتمنحنا قوة في التغلب على كل المصاعب.
وقد أعجبني كلام سمعته من أستاذ من أساتذتي قاله لشاب يعظه، ولم أنسه أبدًا، قال له: " إذا أردت أن تعرف ما يفعله العبوس فانظر وجهك في المرأة عندما تكون غضبان عابسا.. انظر وجهك كم هو منفر وقبيح!!
وانظر كم يجلب مثل هذا الوجه على صاحبِه من السخط والأذى " (985)) اهـ.
__________
(983) قطعة من حديث طويل رواه البخاري (6/450، 451) في الأنبياء: باب علامات النبوة في الإسلام.
(984) قطعة من حديث رواه البخاري (5/226) في الصلح: باب فضل الإصلاح بين الناس، وفي الجهاد، ومسلم رقم (1009) في الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(985) " نظرات في الأسرة المسلمة " للدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (90) .(2/413)
[فصل] (986)
تأملات في قوله تعالى: (وَقُولوا لِلنَّاس حُسنًا)
قال الله تعالى:
(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون) (البقرة 83) .
لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على أمور أساسية في العقيدة والعبادة والسلوك والحياة، من توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى ذي القربى واليتامى، ومساعدة المساكين، والقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكنهم تولوا إلّا قليلا منهم، فكان عاقبة ذلك أن حاقت بهم لعنة الله وصاروا إلى ما صاروا إليه.
جاء في القرطبي:
[.. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البرّ والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضى مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: (فقولا له قولًا لينًا) فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون وقد
__________
(986) هذا الفصل مختصر بتصرف من " نظرات في الأسرة المسلمة" لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله من ص (115-132) .(2/414)
أمرهما الله تعالى باللين معه.
وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال لا تفعل. يقول الله تعالى وقولوا للناس حسنا فدخل في الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟] (987)
إننا لنقرأ في كتاب الله عز وجل خطابه حبيبه وخيرته من خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) .. فلو كان رسول الله المؤيد بالعصمة والحكمة، والمعزز بالتسديد والتأييد، لو كان صلى الله عليه وسلم فظا غليظ القلب لانفض أصحابه من حوله وبقي وحيدا فإذا كان هذا بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما القول بالناس الآخرين الذين لم يؤيدوا بما أيد به، ولم يؤتوا ما أوتيه من الخلق العظيم الذي أثنى به عليه ربه تبارك وتعالى فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) إن لين الجانب ورقة المعاملة أساس لاجتماع القلوب، وليس هناك وسيلة تحقق ذلك اللين وتلك الرقة أهم من الكلمة الحسنة.. وهي ترضي الله وتدخل صاحبها الجنة.
وعن أنس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني عملا يدخلني الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: " أطعم الطعام، وأفش السلام، وأطب الكلام، وصل بالليل والناس نيام " (988) .
وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها " فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائما
__________
(987) " الجامع لأحكام القرآن" (2/16) .
(988) رواه البيهقي (10/158) ، وابن حبان (642)(2/415)
والناس نيام (989) .
الكلمة الطيبة غذاء للروح.. وشفاء لأمراض النفس، والكلمة الحلوة لها تأثير قد يغير حياة إنسان أو أمة!! من أجل ذلك كان قرن القول الحسن مع هذه الأمور الأساسية في العقيدة والعبادة والسلوك.. فتوحيد الله وإقامة الصلاة وبرّ الوالدين من أهم ما دعت الشريعة إلى تحقيقه وإقامته، وها نحن أولاءِ نجد في الآية قرنًا للقول الحسن بهذه الأمور، ونودّ أن نعيش لحظات في ظلال قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنَا) نطل من خلالها على حياتنا الاجتماعية والأسرية (العائلية) .
كم تضيع علينا في حياتنا (العائلية) والاجتماعية فرص سعادة وغنى وأنس كنا على مقربة منها لو قلنا كلمة حلوة.. ولكنَّا أضعناها عندما لم نلق بالكلمهَ الطيبة.
إن كلمة واحدة تستطيع أن تفعل شيئًا كبيرًا ... فبسبب كلمة قامت حروب، وبسبب كلمة تآلفت قلوب.
إن الكلمة الطيبة أساس متين تبنى عليه علاقات الحب والمودة والرحمة والانتاج والتربية، إن الكلمة الطيبة تهيئ المناخ المناسب لنمو هذه العلاقات ولتثمر الثمرة المرجوة سعادة وفرحًا وابتهاجًا وانطلاقًا وتحقيقًا لكثير من معاني الخير.
وإن الكلمة الطيبة أغلى عند الزوجة في كثير من الأحيان من الحلي الثمين، والثوب الفاخر الجديد، ذلك لأنّ العاطفة المحببة التي تبثها الكلمة
__________
(989) أخرجه الإمام أحمد (5/ 343) ، والحاكم في " المستدرك" (1/80) ، (1/321) ، وصححه عل شرطهما، ووافقه الذهبي، وكذا رواه التزمذي رقم (1985) من حديث علي رضي الله عنه.(2/416)
الطيبة غذاء الروح، فكما أنه لا حياة للبدن بلا طعام، فكذلك لا حياة للروح بلا كلام حلو لطيف.
لماذا نهمل الكلمة الطيبة في نطاق الأسرة وهي لا تكلفنا شيئًا؟ إن السعادة كلها ربما كانت كامنة في كلمة فيها مجاملة ومؤانسة يقولها أحد الزوجين لصاحبه أو الوالد لابنه.
أجل ... إن علينا أن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله وبالكلام المعسول الجميل لا سيما عندما نخاطب أزواجنا.. إن المرأة الشرقية عاطفية إلى أبعد الحدود.
إن الخطأ الذى يقوم في حياتنا الزوجية مبني على فهم خاطئ لفكرة رفع الكلفة.. حتى إن كثيرًا من الناس ليقع في الأغلاط المدمرة لحياته الأسرية بحجة رفع الكلفة، يقول أحدهم: إن زوجتي ولدت ولدين أو ثلاثة أو أربعة.. فلم نعد عروسين نحتاج إلى الملاطفة والمجاملة أو الكلمة المأنوسة.. قد مضى وقت ذلك، إن هذا خطأ قادح يجرّ ذيول التعاسة والشقاء على عش الزوجية، وقد يدمر بناء الأسرة ويقضي على نفسية الأولاد.
لماذا لا تكون الملاطفة مع من نعايش؟ لماذا لا تكون الكلمة الطيبة مع الأزواج والأولاد؟ ألسنا بشرًا سواء أكنا عرسانًا أم كنا قد تقدت بنا الأيام والسنون، وسواء أأنجبنا أم لم ننجب؟ ولو أننا نظرنا إلى حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه لرأينا أنها مثال الملاطفهَ والمؤانسة، فلقد كان يؤانسهن ويمازحهن ويعمر نفوسهن بالكلمة الحلوة، والنظرة الحانية، والتصرف الودود، ويحتمل منهن أخطاءهن.
إن تجاهل حاجة الزوجة إِلى العاطفة العذبة التي تفيض بها الكلمة الطيبة، يجعلها تحمل بين جوانبها حجرًا مكان القلب ... مما يعكر على الزوج(2/417)
حياته.. لأننا نعيش بالمعاني لا بالأجساد فقط.. وليس في الحجارة من المعاني شيء
إن رتبة كتف حانية من الزوج مع ابتسامة مشرقة مقرونة بكلمة طيبة تذيب تعب الزوجة، وتنعش فؤادها المشرئب للعطف والحنان، فهل لك يا أخي أن تنتبه إلى نفسك وتتأسى بسيدنا رسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) .
اشكر زوجتك على صحن الطعام اللذيذ الذي قد أعدته لك بيديها.. اشكرها بابتسامة ونظرة عطف وحنان.. أثن عليها وتحدث عن محاسنها وجمالها، والنساء يعجبهن الثناء ويوثر فيهنّ.. وإذا كان الكذب محظورًا فقد أباح لك الإسلام طرفا منه في علاقتك الزوجية عندما يكون ذلك سببًا لتعميق المودة وتحقيق التفاهم (990) .
اذكر لها يا أخي امتنانك لرعايتها وخدمتها لك ولبيتك وأولادك، وإن كان هذا من اختصاصاتها، وإن كانت لا تقدم إلا ما تقدمه النساء عادة.. لكن ذلك من قبيل الكلمة الطيبة التى تؤكد أسباب المودة والرحمة ... قل لها الكلمة الطيبة ولو نقصتها شيئًا من الطعام والمال والكساء.. إنها حينئذ ستسعد وستحس بدفء الحنان والعطف والمودة في أعماق قلبها.. وإذا أصبح قلبها مترعًا بهذه المعاني دفع دماءها حارة مغرّدة في عروقها.. وستندفع في خدمتك وتعيش معك العمر آمنة مطمئنة، وسوف ترى أنت بريقا يتراقص في عينيها، وابتسامة مشرقة على شفتيها، وسينطلق لسانها بالحديث عنك وإليك بالكلمة الطيبة.
وربما قالت بعض الزوجات: وماذا يريد الزوج مني؟ ألا يجد طعامه
__________
(990) راجع ص (403-404) .(2/418)
مطيها، وثوبه مكويا، وبيته نظيفًا، وأولاده لابسين آكلين، وحاجاته مهيأة؟
إنه لا يطلب منى طلبًا إلا حققته، ولا يريد حاجة إلا سارعت في تنفيذها.
ماذا يريد الزوج مني أكثر من ذلك؟
كلا يا سيدتي:
إنه بحاجة إلى العاطفة التي أنت مصدرها.. إنه بحاجة إلى الابتسامة المشرقة من فيك التي تبدد ظلمات الكآبة التي تعترضه في الحياة.
إنه يريد أن يرى الإنسانة التي تعني به وتظهر له الاهتمام الكبير، وتشعرهُ أنه - بالنسبة إليها - قطب الرحى، وأساس السعادة.
إنه يريد أن يسمع باللحن المريح كلمة الشوق والشكر والحب والرغبة في الأنس به واللقاء.
إن ذلك كله مفتاح باب السعادة التي يحويها معنى الزواج.
إن كلمة شكر وامتنان من الزوجة مع ابتسامة عذبة تسديها إلى الزوج بمناسبة شرائه متاعا إلى البيت، أو ثوبًا لها، تدخل عليه من السرور الشيء الكثير، قولي له الكلمة الطيبة ولو كان نصيب المجاملة فيها كبيرًا، لتجدي منه الود والرحمة والتفاهم، مما يحقق لك الجو المنعش الجميل.
رددي بين الفينة والفينة عبارات الإعجاب بمزاياه، واذكري له اعتزازك بالزواج منه وأنك ذات حظ عظيم.. فإن ذلك يرضي رجولته ويزيد تعلقه بك.
قابليه ساعة دخوله بالكلمة الحلوة العذبة، وتناولي منه ما يحمل بيديه وأنت تلهجين بذكره وانتظارك إياه.
فذلك كله من الكلمة الطيبة التي تأتي بالسعادة، ولا تكلفك شيئًا وتعود عليك بالنفع العظيم.(2/419)
.. وإن مما يتصل بالقول الحسن والكلمة الطيبة أن نعرف آداب إلقاء هاتيك الكلمة الطيبة، والحق أنّ هناك أمورًا كثيرة وهي يسيرة علينا نتجاهلها في حياتنا الزوجية، فنضيّع على أنفسنا سعادة كبيرة، ونَصْلَى من وراء ذلك نار الخلاف والشجار والشحناء والبغضاء مدة العيش المشترك بين الزوجين طالت هذه المدة أم قصرت.
أجل.. هنالك أمور يسيرة على من ينتبه إليها، عظيمة الجدوى والنفع على من يأخذ بها ويحققها، وهي واردة بالنسبة إلى الزوجين، وإن كانت ظروف حياتنا تجعل هذه الأمور مطلوبة من الزوجة بصورة آكد. وأعظم الناس حماقة من يفوت على نفسه السعادة من تجاهله أمرا لا يكلفه شيئًا وإهماله أدبا نصحه الناصحون به.
ومن هذه الأمور الهينة الميسورة أدب الحديث..
أيها السادة:
إن للحديث آدابا تتصل بإلقائه، وآدابًا تتصل بسماعه إن روعيت عادت على أصحابها بالنفع الجليل وحققت أطيب الثمرات المرجُوة.
وإن مما يؤسف له حقًا أن كثيرًا من الأزواج والزوجات يخالفونها معتذرين بأعذار واهية عدة، كدعوى زوال الكلفة، أو دعوى الرغبة في البساطة، أو دعوى الميل إلى المرح، وكل أولئك أعذار باطلة مردودة لا تصح ولا تصدق.
وهذه المخالفة - كما رأينا في الحياة الواقعية - تؤدي في كثير من الأحيان إلى مشكلات اجتماعية يستصرخ منها الأزواج والزوجات ويوسطون الناس لحلها، وقد ييأسون من العلاج فينتهي الأمر في بعض الحالات إلى الفراق والطلاق، ولقد كانوا قادرين على تلافي تلك المشكلات لو أنهم انتبهوا إلى هذه الأمور اليسيرة الهينة، بل لقد كانوا قادرين على إحلال السعادة والتفاهم والرضى والسرور محلها.(2/420)
آداب إلقاء الحديث
إن من رعاية القول الحسن الاهتمام بآدابه، لاسيما عندما يكون الحديث بين الزوجين:
فمن أهم هذه الآداب أن يراعي المتحدّث حالة المخاطب، فلا يحدثه بقصد التودد وهو يراه متوجعًا متألما، أو مشغولَا بكتابة أو محادثة هاتفية، أو منتظرا أمرَا ذا بال وهو يفكر فيه، أو نعسان يغالبه النوم، أو متضايقا يدافع الأخبثين ويريد دخول الخلاء، أو مستعجلًا يريد الخروج وإدراك موعد له أو ما إلى ذلك من الحالات.
ومن آداب إلقاء الحديث أن يراعي المتحدِّث ألا ينفرد بالحديث وألا يكون آخذًا دائمَا صفة الذي يلقي ويطلب من سامعه دائمًا أن يكون مصغيا لا يفتح فمه. ومن هذه الآداب في إلقاء الحديث أن يجتنب المتحدث إعادة الحديث
وتكراره فليس أثقل على النفس من الحديث المعاد.
ومن هذه الآداب أن يحرص المتحدث على الإيجاز وأن يحذر الإطالة والثرثرة، فحمل السامع على متابعتك لمدة طويلة مرهق ومنفر.
ومن آداب إلقاء الحديث أن يتنبه المتحدث إلى صفة التواضع، فليس حسنًا أن يفرط في الفخر بمزاياه العظيمة، وليعلم أن هذا ثقيل على السامع حتى ولو كان زوجَا أو إنسانا من أقرب الناس إليه.
ومن هذه الآداب أن يحرص المتحدث على أن يلقي حديثه بتقدير(2/421)
عميق لمن يكلمه لا سيما إن كان زوجة، فهي قرينته في حياته وشريكته في عمره وهى أم أولاده.
ومن آداب إلقاء الحديث أن يتخيّر المتحدث من الأحاديث ما يعلم اهتمام المخاطب به، وعليه أن يجتنب ما يعلم يقينًا أن سامعه يضيق صدره منه، ومعرفة هذا ميسورة للزوجين بحكم الخلطة المستمرة، واللقاء الدائم والحياة المشتركة.
فإذا كان الزوج في أزمة مالية فمن الغلط أن تحدثه زوجته بحاجة البيت أو أفراد الأسرة إلى بعض المطالب التي لا يقوى على تحقيقها، وكذلك من الخطأ أن يحدث الرجل زوجته عن مزايا في غيرها لا توجد فيها: من نحو كون المرأة على مستوى جيد من المعرفة، أو الذكاء؛ فليس كل كلام صحيح صالحًا لأن يلقى على الناس.
وعليه أن يجتنب الإكثار من الوعظ والعتاب والتوجيهات والتقريعات، فهذه الأمور يجب أن تكون بقدر محدود، وفي ظرف يساعد على قبولها، وأنا أعلم أنه لابد من بعضها، ولكنها إذا كثرت أضحت معولًا يهدم كيان السعادة الزوجية، فهناك أزواج لا يكون كلامهم إلا لومًا أو عتابا أو توجيهًا أو موعظة، ولله درّ القائل:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
ومن ذا الذي ترضَى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلًا أن تعدّ معايبه
ومن آداب إلقاء الحديث أن يفرق الإنسان بين الحديث الخاص بين الزوجين وفي خلوتهما وبين حديثهما أمام أهليهما أو الأولاد أو الضيوف.(2/422)
ومن أهم هذه الآداب أن يراعى أحكام الشرع: فلا يكذب ولا يغتاب ولا يرمي أحدا بما ليس فيه، فاحرص يا أخي على أن يكون كلامك مع أهلك ومع الناس نظيفًا خيرا، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " (991) .
وأود أن أذكر أدبًا مهمُّا يتصل بالعناية بمخارج الحروف وإبلاغ السامع أو السامعين الصوت جليا: فهناك أفراد لا يهتمّون بهذه الناحية حتى تتشابه الكلمات في حديثهم، وربما وصلت الكلمة إلى أذن السامع على نحو يناقض قصد المتكلم، من هنا كان الوضوح في الكلام أدبًا مطلوبًا، ويعين على ذلك أن يتكلم المرء بفمه كله، وأن يتعوّد على هذا، وأن يراعي ما يألف السامعون من الحروف، وأن يمرن لسانه على المخارج الصحيحة.
وكذلك فإنّ عليه أن يسمع المخاطبين، فقد يحمل تكلفُ اللطف وتصنع الرزانة إنسانا على أن يتكلم بصوت منخفض جدا، حتى إن السامع لا يستطع أن يدرك مقصوده، وقد يريد الإسماع فيرفع صوته حتى يصدع رؤوس الناس، والتوسط في هذا هو المطلوب، وما بين ذلك قوام إن شاء الله.
أما أدب الاستماع فهو من الأهمية بمكان لا يقل عن الإلقاء بل يزيد عليه، لأنّ الانتباه إليه أمر مضيَّع قل من يراعيه من الناس.
وحسن الاستماع يزيد في حب الإنسان لصاحبه، ويجعله أكثر إقبالًا على الحديث، والانسجام مع قرينه، فمن هذا المنطلق ينبغي أن يحرص المرء على أن يثبت لمحدثه أنه يحبه لا سيما إن كان زوجًا، ففي ذلك توكيد لأسباب المودة والرحمة، وتوثيق لعرى الزوجية السعيدة، إنَّ عليه اًن يقبل
__________
(991) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي شريح الخزاعي، ومن حديث أبي هريرة: البخاري والترمذي رقم (2502) ، وصححه.(2/423)
على سماع حديث صاحبه، وأن يلتمس النواحي المشرقة في حديثه، ويقنع نفسه بضرورة الإصغاء له بعناية تامة.
إن الإقبال على المتحدث والإصغاء له دليل على تقديره واحترامه والاهتمام به ورعاية كرامته، وهذا مطلوب من الإنسان المسلم نحو أي مسلم آخر، ولو كان لا يجمع بينه وبينه إلا المرافقة في طريق.. فما بالك بشريكة العمر؟
هذه أهمية حسن الاستماع فما آدابه؟
1- من آدابه ألّا يتشاغل السامع عن الإصغاء بقراءة أو خياطة أو كنس أو مداعبة لولد أو نحو ذلك.
إن تخصيص جزء من الوقت للحديث المشترك بين الزوجين يقبل فيه كل منهما على صاحبه كفيل بأن يزيل كثيرًا من أسباب الخلاف، ويحُل محلها أسس الود والرحمة.
2- ومن آدابه ألا يقاطع السامع صاحبه، بل ينتظره حتى يتم حديثه، لأن مخالفة هذا الأدب سبب لكثير من المشكلات الزوجية، وكثيرا ما تكون المقاطعة نتيجة لخوف من أحد الزوجين أن يخسر موضوع الحديث، وهذا خطأ فادح، لماذا لا نسمع ونناقش بهدوء؟ وإذا كنا على خطأ لماذا لا يكون عندنا الاستعداد للتراجع عن الخطأ؟
3- ومن آداب حسن الاستماع أن يبدي المرء استحسانه لما يسمع، وأن يكون هذا الاستحسان في حدود المعروف المقبول لا يبالغ فيه، إذ إن المبالغة قد تعني التهكم والمداراة، وكل ذلك مسيء للمتحدّث، وقد قيل: إذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده.
4- ومن آدابه ألا ينتقل في تعقيبه على حديث المتكلم إلى موضوع آخر حتى يشعر بأن المتكلم قال كل ما يريد.(2/424)
5- ومن آداب حسن الاستماع أن يقبل السامع على الإصغاء لحديث صاحبه حتى ولو كان في أمر يعرفه أدق المعرفة، قال ابن المقفع: [إذا رأيت الرجل يحدث حديثا قد علمته، ويخبر خبرا قد سمعته، فلا تشاركه فيه، ولا تفتح عليه، حرصًا على أن تُعلم الناس أنك قد علمته، فإن ذلك خفة وسوء أدب] ولله درّ أبي تمام:
مَنْ لي بإنسان إذا أغضبتُه ... وجهلتُ كان الحلم رد جوابه
وتراه يصغي للحديث بقلبه ... وبسمعه ولعله أدرى به
6- ومن آداب حسن الاستماع أن ينصت سواء أكان الحديث دسما عميقًا أم كان تافها غثا، وألا يظهر لصاحبه ضيقه من ذلك، لأن أي إنسان مهما أوتي من الموهبة لن يستطيع أن يجعل حديث التسلية دائمًا حديثًا عميقَا دسما، وقد قيل: إذا جالست الجهال فأنصت لهم، وإذا جالست العلماء فأنصت لهم؟ فإن في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم.
7- وإذا كان الحديث بين زوجين فمن آداب حسن الاستماع ألا يسارع أحدهما إلى الردّ على صاحبه فيما إذا قرر أمرَا لا يراه، ما لم يكن إثمًا أو زيغًا.. إن عليه ما دام الأمر لم يصل إلى دائرة المنكر أن يلوذ بالصمت الملاطف الرفيق، ولا بأس بأن يثني على جانب من الكلام تمهيدا للتعقيب المناسب في الوقت المناسب، ذلك لأنَ المبادرة إلى إبطال قوله قد تترك أثرًا سيئًا في نفس صاحبه، ولايزهدن أحد في المجاملة، فما أكثر ما تكون المجاملة نافعة في الدنيا!!! وليس يعني هذا أن ينسلخ المرء عن رأيه ولا أن يتخلى عن فكره.. لا.. ولكن يسعه الصمت في بادئ الأمر ثم يتخير الوقت المناسب ليقول فيه ما يرى.
8- ومن آدابه أن يجاري أحد الزوجين صاحبه فيما يسمع.. فإن كان الحديث نكتة صادقة ضحك، وإن كان خبرًا يثير التعجب تعجب..(2/425)
إن مثل هذه المجاراة والتجاوب يجعل المرء يحس بلذة الحديث، وأنه يتحدث مع حيّ يشاركه الرأي لا مع جماد ميت، ولا مع مشاكس معاند، وليحاول أن يجعل ذلك كله طبيعيًّا لا أثر للتكلف فيه] اهـ.
عود على بدء
ومن المعاشرة بالمعروف:
أن يستمع إلى حديثها، ويحترَم رأيها، ويأخذ بشوراها، إذا أشارت عليه برأي صواب، فقد أخذ صلى الله عليه وسلم برأي أم سلمة يوم الحديبية، فكان في ذلك سلامةُ المسلمين من الإثم، ونجاتهم من عاقبة المخالفة، كما جاء في بعض الروايات: " فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة "، وذلك حين امتنع الصحابة رضي الله عنهم من أن ينحروا هديهم، فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يخرج، ولا يكلم أحدًا منهم كلمة حتى ينحر بُدْنه، ويحلق، ففعل صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا، ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قبل مشورة أم سلمة رضي الله عنها (992) ، وكذا قبل صالح مدين مشورة ابنته في استئجار موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ومن المعاشرة بالمعروف:
أن يسلم على أهله إذا دخل عليهم، فعن أنس رضي الله عنه قال:
__________
(992) رواه البخاري (5/332) ط. السلفية، واعلم - رحمك الله - أنه لا معنى لرفض رأي المرأة العاقلة الفاضلة واطراح مشورتها لمجرد كونها امرأة، كما يفعل البعض اعتمادا على أحاديث ضعيفة مثل: " شاوروهن، وخالفوهن " قال الألباني: " لا أصل له مرفوعا "، وحديث: (طاعة المرأة ندامة"، قال الألباني: " موضوع"، وحديث: " هلكت الرجال حين أطاعت النساء " قال الألباني: " ضعيف "، وانظر: " سلسلة الأحاديث الضعيفة" أرقام (430) ، (435) ، (436) ، و"فتح الباري" (5/347) .(2/426)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن سلامُك بركةً عليك، وعلى أهل بيتك) (993) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن للإسلام صُوى ومنارا كمنارات الطريق " الحديث بطوله، وفيه: " وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئًا، فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن كلهن، فقد ولي الإسلام ظهره) (994) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة كلهم ضامن علي الله، الحديث، وفيه: " ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله " (995) .
والمعنى: أنه إذا دخل بيته سلم على أهله ائتمارًا بقوله سبحانه:
__________
(993) رواه الترمذي رقم (2698) في الاستئذان، وقال: " حديث حسن صحيح"، وفيه علي بن زيد بن جدعان، لكن قال الألباني: (هو كما قال - أي الترمذي - فإن له طرقًا كثيرة يتقوى الحديث بها، وقد جمعها الحافظ ابن حجر في جزء صغير، انتهى فيه إلى تقوية الحديث) اهـ. من " تحقيق الكلم الطيب" رقم (62) .
(994) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الإيمان" رقم (3) ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (333) ، والصوى: جمع "صوة"، وهى أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفاوز المجهولة، يستدل بها على الطريق، وعلى طرفيها.
(995) رواه أبو داود رقم (2494) ، وابن حبان رقم (416) ولفظه: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رُزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله) الحديث، والحاكم (2/73) ، وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3/69) ، ومعنى ضامن: صاحب الضمان، وهو الرعاية للشيء كما يقال: " تامر" و "لابن" لصاحب التمر واللبن، ومعنى الحديث أنه في رعاية الله، وضمنه بعلى تضمينًا لمعنى الوجوب، والمحافظة على سبيل الوعد بأن يكلأه الله من الضرر في الدنيا والدين، وانظر: " فيض القدير" (3/319 - 320) .(2/427)
(فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) (النور: 61) .
ومن المعاشرة بالمعروف:
أن يكرمها بما يرضيها، ومن ذلك أن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم بحق أمامها، ومبادلتهم الزيارات، ودعوتهم في المناسبات، وبذل الإحسان لهم.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأةٍ نَكَحَتْ على صَداقٍ أو حِباء (996) ، أو عِدة قبل عصمة (997) النكاح، فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح، فهو لِمَنْ أعطِيَه، وأحَقُّ ما أكرِمَ عليه الرجل ابنتُه وأختُه (998) ".
ومن المعاشرة بالمعروف:
معالجتها ومداواتها إذا مرضت، وإن طال المرض، وحال دون انتفاعه
__________
(996) الحباء: العَطية والهبة للغير أو للزوج زائدا على مهرها.
(997) (عصمة النكاح: عقدته، يقال: عصمة المرأة بيد الرجل أي عقدة نكاحها، ومنه قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) أي بعقد نكاحهن، والله أعلم) اهـ. من " جامع الأصول ": (7/ 22 - 23) .
(998) رواه أبو داود رقم (2129) في النكاح: باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا، والنسائي (6/120) في النكاح: باب التزويج على نواة من ذهب، وابن ماجه (1/308) ، والإمام أحمد رقم (6709) ، والبيهقي (7/248) ، وصححه الشيخ أحمد شاكر في " المسند" (10/178) ، (وفي الحديث دليل على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد من صداق أو حِباء أو عدة، ولو كان ذلك الشيء مذكورا لغيرها، وما يذكر بعد عقد النكاح فهو لمن جُعِل له سواء كان وليا، أو غير ولي، أو المرأة نفسها) اهـ. من " عون المعبود" (6/165) ، وانظر: " السلسلة الضعيفة " حديث رقم (1007) ، و " نيل الأوطار" (6/197) .(2/428)
بها، فذلك من الوفاء وحسن العشرة، والمعروف الذي أمر الله به.
بل من حسن المعاشرة أن يباشر بنفسه رعايتها، ويلزمها إذا مرضت، فقد تغيب ذو النورين عثمان بن عفان عن غزوة بدر لأن زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أقم معها، ولك أجر من شهد بدرًا وسهمه " (999) .
ومن المعاشرة بالمعروف: العدل بين الزوجات في القَسم والنفقة: قال الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية (النحل: 90) ، وقال جل وعلا: (قل أمر ربي بالقسط) (الأعراف: 29) ، وقال سبحانه: (إن الله يحب المقسطين) (المائدة: 42) ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: " المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا " (1000) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت عند الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما، جاء يومَ القيامة وشِقُّه ساقط " (1001)
وعن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القَسم من مُكثه عندنا، وكان
__________
(999) رواه البخاري (7/48) في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(1000) أخرجه مسلم رقم (1827) في الإمارة، والنسائي (8/221) ، والبغوي (10/63) ، والإمام أحمد (2/160) .
(1001) رواه أبو داود رقم (2133) ، والترمذي رقم (1141) ، والنسائي (7/63) ، وغيرهم، وصححه الألباني في " تحقيق المشكاة" (2/965) ، و"الإرواء" (7/80) .(2/429)
قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومُها فيبيت عندها) (1002) الحديث.
قال الإمام القرطبي رحمه الله مبينًا العدل الواجب بين الزوجات: (على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة؛ هذا قول عامة العلماء، وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار، ولا يُسقِطُ حقَّ الزوجة مرضُها ولا حَيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها، وعليه أن يعدِل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته، إلا أن يعجِز عن الحركة فيقيم حيث يغلب عليه المرض، فإذا صَح استأنف القَسمَ، والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء ...
ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة ...
وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء، قال ابن بكير: وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون، فأسهم بينهما أيهما تدلى أوَّل) (1003) اهـ.
تنبيه: ما هو العدل غير المستطاع؟
قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) الآية، (النساء: 129) .
__________
(1002) رواه أبو داود رقم (2135) في النكاح: باب في القسمة بين النساء، وقال محقق " جامع الأصول": " حديث صحيح " (11/514) .
(1003) " الجامع لأحكام القرآن" (14/217) بتصرف.(2/430)
قال القرطبي رحمه الله: (أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان عليه السلام يقول: " اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (1004) ، ثم نهى فقال: (فلا تميلوا كل الميل) قال مجاهد: " فلا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسْم والنفقة؛ لأن هذا مما يُستطاع " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشِقه مائل " (1005) . قوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) أي لا هي مطلقة، ولا ذات زوج؛ قاله الحسن) (1006) اهـ.
ومن المعاشرة بالمعروف: أن يشاركها في خدمة البيت إن وجد فراغا: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله - يعنى خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة " (1007) .
وعنها رضي الله عنها قالت: " كان بَشَرَا من البشر: يَفْلِي ثوبه،
__________
(1004) رواه أبو داود رقم (2134) ، والترمذي رقم (1140) ، والنسائي (7/64) ، والحاكم (2/187) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، بلفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، وبقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك - يعني القلب) ، والحديث أعله جمع من المحققين كما فصل العلامة الألباني في " الإرواء" (7/82) ، وضعفه.
(1005) تقدم آنفا برقم (1001) .
(1006) "الجامع لأحكام القرآن" (5/407) بتصرف.
(1007) رواه البخاري (2/162) ، (9/507) ، (10/461) ، والترمذي رقم (2489) ، والإمام أحمد (6/126، 206) .(2/431)
ويَحلُبُ شاته، ويخدِم نفسه " (1008) .
* * *
قال الشافعي رضي الله عنه: (وجماع المعروف بين الزوجين كف المكروه، وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيهما مطل بتأخيره فمطل الواجد القادر على الأداء ظلم بتأخيره) اهـ (1009) .
وقال بعض الشافعية: (كف المكروه: هو أن لا يؤذي أحدهما الآخر بقول أو فعل، ولا يأكل أحدهما، ولا يشرب، ولا يلبس ما يؤذي الآخر) (1010) اهـ.
وبالجملة فكل أمر يتصور في الدين والعرف أنه حسن فهو من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، قال صلى الله عليه وسلم: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " (1011) .
وفيما يلي نعرض لقبس من الهدي النبوي في حسن المعَاشرة ليكون نبراسَا لمن أراد أن يمتثل قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1008) رواه البخاري في " الأدب المفرد" (541) ، والبغوي في " شرح السنة" (3676) ، والإمام أحمد (6/256) ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (671) على شرط مسلم.
(1009) "تكملة المجموع" (15/289) .
(1010) " السابق" (15/290) .
(1011) تقدم تخريجه برقم (218) .(2/432)
جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، يتودد إليها بذلك، قالت: " سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم، فسبقني، فقال: " هذه بتلك "، وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (1012) اهـ.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حَدَّثني، وإلا اضطجع حتى يُؤذَّنَ بالصلاة " (1013) .
وكانا يتبادلان السمر بالأحاديث الخفيفة، والقصص ذات الموعظة الحسنة، كما في حديث أبي زرع وأم زرع، حيث قال لها: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع " (1014) ، فأظهر استعداده لتحمل النفقة، والعطف والمودة والإحسان، وحسن المعاشرة، وفي رواية بزيادة: (" إلا أنه طلقها، وأنا لا أطلق "، فقالت عائشة رضي الله عنها: " يا رسول الله
__________
(1012) " تفسير القرآن العظيم " (1/477) .
(1013) رواه البخاري (3/36) في التطوع، ومسلم رقم (743) في صلاة المسافرين، وأبو داود رقم (1262) ، (1263) في الصلاة، والترمذي رقم (418) في الصلاة.
(1014) أصل الحديث رواه البخاري (9/220 - 241) في النكاح: باب حسن المعاشرة مع الأهل، ومسلم رقم (2448) في فضائل الصحابة: باب ذكر حديث أم زرع.(2/433)
بل أنت خير من أبي زرع " (1015)) .
وعنها أيضًا رضي الله عنها قالت: " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤتى بالإناء فأشرب منه وأنا حائض، ثم يأخذه، فيضع فاه على موضع في، وإن كنت لآخذ العَرق فآكل منه، ثم يأخذه، فيضع فاه على موضع فِي " (1016) .
وقال الغزالي رحمه الله تعالى في (الإحياء) في " آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح ".
(الأدب الثاني: حسن الخلق معهن، واحتمال الأذى منهن، ترحمًا عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) ، وقال في تعظيم حقهن: (وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا) (1017) ، وقال تعالى: (والصاحب بالجنب) قيل هي: المرأة) .
ثم قال: " واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يومًا إلى الليل،
__________
(1015) هذه الزيادة أخرجها النسائي في " عشرة النساء" رقم (256) ، وانظر: " بغية الرائد " للقاضي عياض، " مختصر الشمائل المحمدية " للألباني هامش ص (134) .
(1016) تقدم تخريجه برقم (177) .
(1017) قال الزمخشري: (الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟) اهـ.
(قال الشهاب الخفاجي: قلت بل قالوا:
صحبة يوم نسب قريب ... وذمة يعرفها اللبيب)
انظر " محاسن التأويل " (5/ 1165) .(2/434)
وراجعت امرأةُ عمر عمر رضي الله عنه في الكلام، فقال: " أتراجعيني يالكعاء؟ "، فقالت: إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وهو خير منك " (1018) ] (1019) اهـ. ومع انشغاله صلى الله عليه وسلم بتبعات الدعوة الجسام، وبناء الأمة المسلمة كان لا يألو جهدًا عن مطايبة أزواجه صلى الله عليه وسلم:
فكان صلى الله عليه وسلم يرخم اسم عائشة رضي الله عنها، وربما خاطبها: " يا عائش"، و" يا عويش"، و " يا حميراء"، ليدخل السرور على قلبها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول لها رضي الله عنها: " إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غَضْبَى "، قالت: فقلت: " من أين تعرف ذلك؟ "، فقال: (أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: " لا، ورب محمد "، وإذا كنت غضبى قلت: " لا، ورب إبراهيم "!) قالت: " أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك " (1020) .
وعنها رضي الله عنها قالت:
(قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لُعَب، فقال: " ما هذا يا عائشة؟ " قالت: " بناتي"، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: " ما هذا الذي أرى وسطهن؟ "، قالت: " فرس "، قال: " وما هذا الذي عليه؟ " قالت: " جناحان "، قال: " فرس له جناحان؟ " قالت: " أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ " قالت: فضحك حتى
__________
(1018) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (2468) في المظالم: باب الغرفة والعلية (5/114- 116) ط. السلفية.
(1019) " الإحياء" (4/ 720 - 722) .
(1020) رواه البخاري (9/285) في النكاح: باب غيرة النساء ووجدهن، وفي الأدب، ومسلم رقم (2439) في فضائل الصحابة: باب في فضل عائشة رضي الله عنها.(2/435)
رأيت نواجذه) (1021) .
وعنها رضي الله عنها قالت: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد في يوم عيد، فقال لي: " يا حُمَيراء (1022) ! أتحبين أن تنظري إليهم؟ "، فقلت: (نعم) ، فأقامني وراءه، فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم، فوضعت ذقني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خده، فنظرت من فوق منكبيه - وفي رواية: من بين أذنه وعاتقه - وهو يقول: " دونكم يا بني أرفدة "، فجعل يقول: " يا عائشة، ما شبعتِ؟ "، فأقول: " لا "، لأنظر منزلتي عنده، حتى شبعت، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا) ، وفي رواية: (حتى إذا مللت، قال: (حسبك؟) ، قلت: " نعم "، قال: "فاذهبي") ، وفي أخرى: (قلت: " لا تعجل"، فقام لي، ثم قال: " حسبك؟ "، قلت: " لا تعجل "، ولقد رأيته يراوح بين قدميه، قالت: " وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه، وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العَرِبة الحديثة السن الحريصة على اللهو " (1023) ، قالت: " فطلع عمر، فتفرق الناس عنها، والصبيان "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر "، قالت عائشة رضي الله عنها: قال صلى الله عليه وسلم يومئذ: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة " (1024)) .
__________
(1021) رواه أبو داود رقم (4932) في الأدب: باب في اللعب بالبنات، والنسائي " عشرة النساء " رقم (64) ص (94 - 95) ، وقد تقدم برقم (210) .
(1022) تصغير الحمراء، يريد البيضاء، كذا في " النهاية " (1/438) .
(1023) راجع الحاشية رقم (211) .
(1024) رواه البخاري (1/457) في المساجد، والعيدين، وغيرهما، ومسلم رقم (892) في العيدين، والنسائي (3/ 195 - 196) ، وفي هذه الرواية زيادات جمعها العلامة الألباني، وحققها في " آداب الزفاف " طبعة 1405 هـ ص (272 - 275) .(2/436)
وتقدم عنها رضي الله عنها: (أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهي جارية، قالت: " ولم أحمل اللحم، ولم أبدِّن (1025) ، فقال لأصحابه: تقدموا "، فتقدموا، ثم قال: " تعالي أسابقك "، فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعد، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: " تقدموا"، ثم قال: " تعالي أسابقك "، ونسيت الذي كان، وقد حملت اللحم، وبدنت، فقالت: " كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال؟ "، فقال: " لتفعلن"، فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك، وقال: " هذه بتلك السبقة " (1026) .
ويُروى عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (كان عندي رسولُ الله وسَوْدَةُ، فصنعتُ خَزِيرا (1027) ، فجئت به، فقلت لسودة: " كُلِي "، فقالت: " لا أحبه "، فقلت: " والله لَتأكلين أو لألطخَنَّ وجهك "، فقالت: " ما أنا بباغية "، فأخذت شيئًا من الصحفَة فلطختُ به وجهها ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما بيني وبينها، فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه لتستقيد مني، فتناوَلَت من الصحفة شيئا، فَمَسَحَت به وجهي، وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يضحك) (1028) .
__________
(1025) أي: لم أضعف، ولم أكبر، وفي " القاموس": " وبَدن تبدينا: - بشديد الدال - أسن وضعف"، و " بَدُن، بتخفيف الدال من البدانة، وهى كثرة اللحم والسمنة، انظر: " النهاية" (1/107) .
(1026) تقدم تخريجه برقم (229) .
(1027) الخزير والحزيرة: لحم يقطع ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذُر عليه الدقيق.
(1028) رواه النسائي في " عشرة النساء" رقم (31) ، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء": (رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، وأبو يعلى بإسناد جيد) اهـ. وانظر: " تخريج أحاديث الإحياء" (4/1681 - 1682) .(2/437)
وعن الشفاء بنت عبد الله قالت: (دَخَلَ عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: (ألا تعلمين هذه رُقيَةَ النَّمِلَة (1029) كما عَلًمتِيها الكتابة " (1030) .
وهذا من لغز الكلام ومزاحه، وذلك أن رقية النملة التي كانت تُعرف بين العرب، هي كلام كانت تستعمله نساؤهم يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، وهي أن يقال: " العروس تحتفل، وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل غير أن لا تعصي الرجل "، فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضا، لأنه ألقى إليها سِرًّا فأفشته (1031) .
الوفاء للزوجة بعد مماتها
لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الوفاء للزوجة حتى بعد موتها، بعد أن ضرب هذا المثل الأكمل في المعاشرة بالمعروف حال حياتها.
ومن خبر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يُثني على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "ما غِرْتُ من امرأة ما غِرْتُ من خديجة (1032) ،
__________
(1029) النمِلَة: بفتح النون وكسر الميم، قروح تخرج في الجنب.
(1030) رواه أبو داود رقم (3887) في الطب: باب ما جاء في الرقى، والحاكم (4/414) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (6/286) ، وابن سعد (8/59) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار" (4/327) ، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/395) ، وسكت عنه أبو داود، والمنذري، وابن القيم في "تهذيب السنن"، وقال الهيثمي في " الزوائد" (ورجاله رجال الصحيح) اهـ (5/112) ، إلا إبراهيم بن مهدى البغدادي المصيصي، وهو ثقة.
(1031) انظر: "عون المعبود" (10/ 373 - 374) .
(1032) قال الذهبي رحمه الله: (وهذا من أعجب شيء! أن تغار رضي الله عنها من =(2/438)
من كثرة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها " (1033) ، وفي رواية بزيادة: " وما رأيتها قط، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة " (1034) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يومَا، فحملتني الغيرة، فقلت: " لقد عَوضَك الله من كبيرة السن! " قالت: فرأيته غضب غضبا أسقِطْتُ في خَلَدي (1035) ، وقلت في نفسي: " اللهم إن أذهبتَ غضبَ رسولك عني لم أعُد أذكرها بسوء "، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيتُ، قال: " كيف قلتِ؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزِقْتُ منها الولد وحرمتموه مني " قالت: " فغدا وراح عَلي بها شهرا " (1036) .
وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت:
(جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها رسول الله
__________
= امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بمُديدة، ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتكدر عيشُهما، ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حُبُّ النبي صلى الله عليه وسلم لها، وميلُه إليها، فرضي الله عنها، وأرضاها) اهـ "السير" (2/ 165) .
(1033) أخرجه البخاري (7/102) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم (2435) ، والترمذي (3875) .
(1034) رواه البخاري (7/107 - 108) باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها.
(1035) الخلد: بالتحريك: البال والقلب والنفس.
(1036) نسبه الحافظ في " الإصابة" (12/217 - 218) إلى كتاب " الذرية الطاهرة" للدولابي، وقال محقق "سير أعلام النبلاء": (إسناده حسن) اهـ.
(2/112) ، ورواه بنحوه الإمام أحمد (6/117، 118) (وفيها مجالد وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات) كذا في " تحقيق السير"، (2/117) .(2/439)
صلى الله عليه وسلم: " من أنت؟ "، قالت: " أنا جثامة المزنية "، فقال: " بل أنت حُسَّانة المزنية، كيف أنتم كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ " قالت: " بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله "، فلما خرجت، قلت: " يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ " قال: " إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان " (1037) .
وعنها رضي الله عنها قالت: (لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بقلادة، وكانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَق لها رقة شديدة، قال: " إذا رأيتم أن تُطْلِقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ") (1038) .
__________
(1037) أخرجه الحاكم (1/15-16) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، مع أن صالح بن رستم لم يخرج له البخاري إلا تعليقا، قال فيه أحمد: " صالح الحديث " كما نقله الذهبي في " الميزان" (2/294) ، وقال: " وهو كما قال أحمد "، وعزاه الحافظ إلى البيهقي في " الشعب" كما في " الفتح" (10/436) ط. السلفية، وانظر: " إتحاف السادة المتقين" (6/235- 236) .
(1038) أخرجه الحاكم (4/44 - 45) من طريق ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه، عنها رضي الله عنها، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، فإن ابن إسحاق صرح بالتحديث.(2/440)
ثالثًا: حقوق الزوج على زوجته
" كن نساء المدينة إذا أردن أن يبنين بامرأة
على زوجها، بدأن بعائشة، فأدخلنها عليها،
فتضع يدها على رأسها، تدعو لها، وتأمرها
بتقوى الله، وحق الزوج " (1039) أم حُمَيد
أوجب الله سبحانه وتعالى على الزوجة حقوقًا تجاه زوجها، وألزمها بواجبات إزاء بيتها وأولادها، لكي تستقيم الحياة، وتسعد الأسرة نفصلُها فيما يلي:
1- وجوب طاعة المرأة زوجها في المعروف:
على المرأة خاصة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به في حدود استطاعتها، وهذه الطاعة أمر طبيعي تقتضيه الحياة المشتركة بين الزوج والزوجة، ولا شك أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ كيان الأسرة من التصدع والانهيار، وتبعث إلى محبة الزوج القلبية لزوجته، وتعمق رابطة التآلف والمودة بين أعضاء الأسرة، وتقضي على آفة الجدل والعناد التي تؤدى في الغالب إلى المنازعة، وتعطي الرجل أحقية القِوامة، ورعاية الأسرة بما وهبه الله من خصائص القوة والتعقل، وبما كلفه به من مسؤولية الإنفاق، فإن هذا مما فضل الله به الرجال على النساء، كما في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات) أي مطيعات لأزواجهن (حافظات للغيب بما حفظ الله) (النساء: 34) .
__________
(1039) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف" (4/305 - 306) .(2/441)
وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة مؤكدة لهذا المعنى، ومبينة بوضوح ما للمرأة وما عليها إذا هي أطاعت زوجها أو عصته: منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي النساء خير؟ "، قال: " التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره ") (1040) .
ومنها: ما رواه حصين بن مُحصِن قال: (حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة، فقال: " أي هذه! أذات بعل؟ " قلت: " نعم "، قال: " كيف أنتِ له؟ ". قالت: " ما آلوه (1041) ؛ إلا ما عجزتُ عنه "، قال: " فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك " (1042) ، فالزوج هو باب للمرأة إما إلى الجنة في حالة رضاه عنها، أو للنار عند سخطه عليها بالحق، والطاعة لا تكون إلا بالمعروف، أما إذا أمرها بمعصية فلا سمع حينذاك ولا طاعة، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (1043) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ولو دعاها الزوج إلى معصية، فعليها أن تمتنع، فإن أدبها على
__________
(1040) رواه النسائي، والحاكم (2/161) ، والإمام أحمد (2/251، 432، 438) ، والبيهقي (7/82) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ العراقي: " سنده صحيح " (1/715) ، وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1838) ، وانظر: "عشرة النساء" للنسائي ص (106) .
(1041) ما آلوه: أي لا أقصر في طاعته وخدمته.
(1042) رواه ابن أبي شيبة (4/304) ، وابن سعد (8/459) ، والإمام أحمد (4/341) ، (6/419) ، والحاكم (2/189) ، والبيهقي (7/291) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال المنذري: "رواه أحمد والنسائي بإسنادين جيدين" (3/74) . (1043) تقدم تخريجه برقم (638) .(2/442)
ذلك، كان الإثم عليه " (1044) اهـ.
وفي الحديث التالي - إن صح - جَعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة المرأة زوجها أولى الخصال التي تستحق بها المرأة أن توصف بالصلاح:
فمما يُروى عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
" ما استفاد المؤمن - بعد تقوى الله عز وجل - خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإِن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله " (1045) .
ولعظم حق الزوج أضاف صلى الله عليه وسلم طاعة الزوج إلى مباني الإسلام كما في الحديث التالي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صلت المرأة خَمْسَها، وصامت شهرها، وحصَّنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ) (1046) .
فالزوج أولى الناس بالمرأة، ومكانته بالنسبة إليها عالية مقدسة لا يبلغها أحد من أقاربها أبدًا.
__________
(1044) " فتح الباري" (9/304) .
(1045) رواه ابن ماجه رقم (1857) في النكاح: باب أفضل النساء، وضعفه الألباني في " المشكاة" رقم (3095) ، وانظرا " الصحيحة" المجلد الثالث ص (455) ، وانظر: " فيض القدير" (5/419) .
(1046) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابن حبان رقم (1296 - موارد) ، وأحمد رقم (1661) عن عبد الرحمن بن عوف، وأبو نعيم (6/308) عن أنس بن مالك، وقال الألباني: (حديث حسن أو صحيح، له طرق) انظر: " آداب الزفاف " ص (286) .(2/443)
ولما كانت الصلاة أسمى أنواع العبادات، والسجود فيها ذروتها، فقد اعتبر الشرع مكانة الزوج بالنسبة لزوجته أنها بمستوى سجودها له، وكاد أن يأمرها بالسجود له لولا أنه لا ينبغي السجود لغير الله سبحانه وتعالى. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا من حوائط الأنصار، فإذا فيه جملان يضربان ويرعدان، فاقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما، فوضعا جرَانهما (1047) بالأرض، فقال من معه: " نسجد لك؟ " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لما عظم الله عليها من حقه " (1048) ، وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال: " لو كنت آمِرًا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها، حتى تؤدي حق زوجها كلَّه، حتى لو سألها نفسها وهي على قَتَب لم تمنعه " (1049) .
__________
(1047) الجرَان: باطن العتق، أي أنهما بركا ومدا عنقهما على الأرض. " النهاية" (1/263) .
(1048) أخرجه الترمذي (1/217) ، وابن حبان (1291 - موارد) - واللفظ له - والبيهقي (7/ 291) ، وقال الترمذي: " حسن غريب "، وقال الألباني: " وهو كما قال "، انظر: " الإرواء " (7/54) .
(1049) وسبب ورود هذا الحديث أن (معاذًا رضي الله عنه لما قدم من الشام، سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما هذا يا معاذ؟ ! " قال: " أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرًا.. " فذكر الحديث، أخرجه الإمام أحمد (4/381) ، وابن ماجه (1853) (1/570) ، وابن حبان (1290 - موارد) ، والبيهقي (7/292) ، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (5/69) ، وراجع الحاشية رقم (627) .
وقال ابن الأثير في " النهاية": (القَتَب للجمل كالإكاف لغيره، ومعناه - أي الحديث - الحث لهن على مطاوعة أزواجهن، وأنه لا يَسَعُهُن الامتناع في هذه =(2/444)
وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح لبشرٍ أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " (1050) .
إن المرأة المسلمة حين تطيع زوجها تكون في طاعة لله، وهي بذلك مأجورة، ولا سيما عندما تكون الطاعة فيما لا توافق عليه، بل إن الطاعة لتتجلى في طاعته فيما تكره، أكثر مما تتجلى في طاعته فيما تحب، إن طاعته في قبول الجواهر النفيسة ليست كطاعته في تنفيذ أمر لا تريده، وكمال الطاعة يتحقق في أن تؤدي الأمر بكل سرور ورضى، أما إذا أذا أدته متبرمة متأففة، يعلو وجهَها العبوسُ وأماراتُ الكراهية والضيق، فإن هذه الطاعة كعدمها، إن إظهارها الرضى والسرور، وإشعار نفسها وزوجها بالقناعة مما يخفف عليها تنفيذ ما تكره (1051) .
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب المرأة في طاعة زوجها، حتى فيما لم يتبين لها فيه المنفعة، أو ما قد تخالف فيه رأي زوجها تقربًا إلى الله ببره ومرضاته:
__________
= الحال، فكيف في غيرها؟
وقيل: إن نساء العرب كُن إذا أردن الولادة جلسن على قتب، ويقال: إنه أسلس لخروج الولد، فأرادت تلك الحالة.
قال أبو عبيد: كنا نرى أن المعنى: وهي تسير على ظهر البعير، فجاء التفسير بغير ذلك) اهـ (4/11) .
(1050) أخرجه الإمام أحمد (3/158) ، وكذا البزار كما في " مجمع الزوائد" (9/4) وقال: " ورجاله رجال الصحيح غير حفص بن أخي أنس، وهو ثقة " اهـ، وقال المنذري: " رواه أحمد بإسناد جيد، رواته ثقات مشهورون، والبزار بنحوه "، وانظر: " الإرواء" (7/55) .
(1051) انظر: " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (96) .(2/445)
فقد رُوي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، أو من جبل أسود إلى جبل أحمر لكان نَوْلها (1052) أن تفعل " (1053) .
وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أتى رجل بابنته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج "، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أطيعي أباك "، فقالت: " والذي بعثك بالحق، لا أتزوج حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته؟ "، قال: " حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قَرْحَة فَلَحَسَتْها، أو انتثر مِنْخَراه صديدًا أو دما، ثم ابتلعته، ما أدَت حقه "، قالت: " والذي بعثك بالحق لا أتزوج أبدا " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنكحوهن إلا بإذنهن " (1054) .
__________
(1052) نوْلَها: أي حقها، والذي ينبغي لها، وقوله: (من جبل أحمر إلى جبل أسود) الحديث، يعني أحجارَ هذا إلى ذلك، مع أنه أمر شاق، وقد يكون عبثا، وتخصيص اللونين تتميم للمبالغة، لأنه لا يكاد يوجد أحدهما بقرب الآخر، وانظر " المرقاة " (3/471) .
(1053) أخرجه ابن ماجه رقم (1852) ، وابن أبي شيبة (4/306) ، والإمام أحمد (6/76) ، من طريق علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، كما في "التقريب" (2/37) وقال البوصيري في " زوائده ": (هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان،.. وله شاهد من حديث طلق بن علي رواه الترمذي والنسائي، ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أم سلمة) اهـ. (2/67) ، والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5/40) .
(1054) رواه الحاكم (2/189) مختصرا ولفظه: " حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قُرحْة، فلحستها ما أدت حقه "، وصححه، وقال الذهبي في " التلخيص": " بل منكر"، ابن حبان (1289 - موارد) - واللفظ له - وابن أبي شيبة (4/303) ، والدارقطني (3/237) ، والبيهقي (7/291) ، وقال العلامة أبو الطيب شمس الحق في " التعليق المغني": (رواه البزار بإسناد جيد، ورواته =(2/446)
وعن معاذ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلم المرأة حق الزوج، لم تقعُد ما حضر غداؤه وعشاؤه؛ حتى يفرغ منه " (1055) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا معشر النساء! لو تعلمن حق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن وجه زوجها بنَحر وجهها) (1056) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا: رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) (1057) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: (اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد أبق من مواليه حتى يرجع إليهم، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) (1058) .
__________
= ثقات مشهورون) اهـ. (3/237) ، وصحح الألباني لفظ الحاكم في "صحيح الجامع" (3/92) .
(1055) عزاه الهيثمي في " المجمع" إلى الطبراني في "الكبير"، وقال: " وفيه عبيدة بن سليمان الأغر، لم أعرف لأبيه من معاذ سماعًا، وبقية رجاله ثقات" اهـ.
(4/309) ، والحديث صححه الألباني في " صحيح الجامع" (5/61) .
(1056) رواه ابن أبي شيبة (4/305) ، والنحر هنا بمعنى القطعة، وقد ذكره ابن الجوزي في " أحكام النساء" ص (72) بلفظ: (عن قدمي زوجها بحر وجهها) .
(1057) رواه ابن ماجه رقم (971) ، واللفظ له، وابن حبان (377) ، وقال البوصيرى في " الزوائد" (1/330) : " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات "، ويشهد له حديث أبي أمامة الذي أخرجه بنحوه الترمذي (2/193) حديث رقم (360) ، وقال: (حسن غريب) .
(1058) أخرجه الحاكم (4/173) وسكت عنه هو والذهبي، والطبراني في "الصغير" (1/172) ، وقال المنذري: " إسناده جيد" (3/79) ، وقال الهيثمي: (رواه الطبراني في " الصغير" و " الأوسط "، ورجاله ثقات) "المجمع" (4/313) ، =(2/447)
فلتحذر المسلمة المؤمنة أن تكون من أولئك النساء المولعات بمخالفة أزواجهن، فلا تؤمر الواحدة منهن بشيء إلا سارعت إلى مخالفته حتى ولو كان فيه مصلحتها، إن هؤلاء يقعن في سخط الله، ويعرضن حياتهن للدمار، وتدعو عليهن الحور العين:
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلكِ الله، فإنما هو عندك دخيل (1059) يوشك أن يفارقك إلينا) (1060) .
وإن الإصرار على مخالفة الزوج يوغر صدره، ويجرح كرامته، ويسيء إلى قوامته، فيبادلها ذلك ممانعة لما تحب، ومخالفة لما ترغب. قال الشنفري الشاعر الجاهلي الصعلوك مخاطبا زوجته:
إذا ما جئتِ ما أنهاكِ عنه ... ولم أنكر عليكِ فَطَلقيني
فأنت البعلُ يومئذ فقومي ... بسوطك - لا أبا لَكِ - فاضربيني
ومن أخلاق المرأة الصالحة أنها تبادر إلى إرضاء زوجها إذا غضب، ولا تنتظر أن يبدأ هو بذلك:
ومنها: عن ابن عباس مرفوعًا: (ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والصِّدِّيق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر، لا يزوره إلا لله عز وجل، ونساؤكم من أهل الجنة الودود (1061) ........................................
__________
= والحديث حسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (288) .
(1059) الدخيل: الضيف، والنزيل.
(1060) تقدم تخريجه برقم (629) .
(1061) الودود: التي تتودد إلى زوجها، وقد وصف تعالى الحور العين في سورة الواقعة بأنهن " عُرُب" جمع "عَرُوب" وهي المرأة المتحببة إلى زوجها.(2/448)
الولود (1062) العؤود على زوجها (1063) ، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذوق غُمْضًا حتى ترضى ") (1064) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بنسائكم في الجنة "؟ قلنا: " بلى يا رسول الله "، قال: " ودود ولود، إذا غضبت أو أسيء إليها، أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحلُ بغُمْض - أي لا أنام - حتى ترضى ") (1065) .
أما الفتاة الدَّيِّنة ذات الزوج المتدين القابض على دينه فهي أولى وأولى بأن ترفق بزوجها، ولا تجمع عليه النكد والشقاء في البيت، مع ما يلقى من أعداء الله، وخصوم الدعوة في خارج البيت، وهناك حديث غير قوي وإن كان معناه صحيحًا (1066) يبشرها إن هي أحسنت قيامها بحقوق زوجها بثواب يعدل ثواب الجهاد والفوز بالشهادة في سبيل الله بالنسبة للرجال: وهو ما رُوِى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى
__________
= الولود: ليست بعقيم بل هي كثيرة الولادة، ويعرف في البكر بأقاربها.
(1063) وفي لفظ: (قالت: هذه يدي في يدك) أمدها لمصالحتك (لا أكتحل بغمض) أي لا أنام حتى يذهب ما بيننا من خصام، ومعنى هذا أنها سهلة الخلق، لينة العريكة، إذا غضبت لم يطل غضبها، بل تسرع بالرجوع إلى مألوف عادتها - انظر" تمام المنة " لعبد الله بن محمد بن الصديق ص (171-173) .
(1064) رواه بنحوه النسائي في "عشرة النساء" رقم (257) ، وذكر الألباني له شواهد يتقوى بها، فانظر: "الصحيحة" رقم (287) ، و "مجمع الزوائد " (8/174) ، و "المعجم الكبير" للطبراني (19/140) ، و "الصغير" (1/47) . (1065) أخرجه الطبراني في "الصغير "، و " الأوسط "، وقال المنذري في الترغيب ": " ورواته محتج بهم في الصحيح إلا إبراهيم بن زياد القرشي، فإني لم أقف له على جرح ولا تعديل، وقد روى هذا المتن من حديث ابن عباس وكعب بن عجرة وغيرهما) اهـ. (3/77) ، وقال " الألباني في "الصحيحة " تحقيق رقم (287) : " لا بأس به في الشواهد، والله أعلم) اهـ.
(1066) انظر: " نظرات في الأسرة المسلمة " للدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (97) .(2/449)
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن أصيبوا أجروا، وإن قُتلوا كانوا أحياءً عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ "، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبلغي من لَقِيتِ من النساء أن طاعة الزوج واعترافًا بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله) (1067) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: (أي أن المرأة إذا أحسنت معاشرة بعلها كان ذلك موجبًا لرضاء الله وإكرامه لها، من غير أن تعمل ما يختص بالرجال، والله أعلم) (1068) اهـ.
قال فضيلة الدكتور محمد بن لطفي الصباغ حفظه الله معلقًا على مبدأ طاعة الزوج فيما لا معصية فيه: (وهذا أمر طبيعي، فإن كان الزواج شركة، وكان الرجل هو صاحب القوامة، فلابد من طاعته فيما يأمر وينهى في حدود الشرع، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
... قد شاعت بين عدد من المثقفات فكرة خاطئة، وهي أن مساواة الرجل بالمرأة تقتضي تحررها نهائيا من طاعته، وهي غلط في مقدمتها ونتيجتها، فمساواة المرأة بالرجل خديعة أطلقها ناس وهم لا يصدقونها، لأن الواقع لا يصدقها، ولو كان ذلك صحيحا، فليس من الضروري أن يترتب عليها عدم الطاعة، لأن طاعة الرئيس لا تعني عدم المساواة بينه وبين مرؤوسيه، وهذه الفكرة هي السبب في هدم بنيان كثير من الأسر اليوم.
إن الحياة المشتركة ينبغي أن تكون مبنية على التفاهم والتحاور
__________
(1067) رواه البزار (1474 - كشف الأستار) ، وزاد في " الترغيب " عزوه إلى الطبراني (3/53) ، وزاد في " الدر المنثور" عزوه إلى عبد الرزاق (2/152) ، وقال في " مجمع الزوائد" (4/308) : (فيه رشدين بن كريب، وهو ضعيف) اهـ.
(1068) "مجموع الفتاوى" (32/275) .(2/450)
والتشاور، ولكن القوامة ينبغي أن تكون للرجل كما قال ربنا تبارك وتعالى: (الرجال قوامون على النساء) .
وهناك حقيقة لابد أن تعلمها الزوجة المثقفة، وأن تتذكرها دائمًا، وهي أن الرجل السوي لا يحب المرأة المسترجلة التي ترفع صوتها فوق صوته، والتي تشاجره في كل أمر، وتخالفه في كل رغبة، وتسارع إلى رَد رأيه أو ما يقول، إن هذا الرجل - إن لم يطلقها- عاش معها كئيبًا عابسًا كارها، فتكون بذلك قد حرمت نفسها رؤية البهجة المرحة في وجه زوجها ومعاملته، وحرمت بيتها التمتع بالحنان الدافئ.. وهى الخاسرة سواء شُرِّدَ أولادها بالطلاق، وتحطمت نفسيتها بالترمُّل، أم بقيت في بيتٍ تعلوه سحب المصادمات اليومية، والحرائق النزاعية.
إن الزوجة الذكية هي التي لا تتخلى عن طبيعتها الرقيقة الهادئة الطيبة، إنها كما صورها الحديث الشريف راعية في بيت زوجها، تصونه، وترعاه، إذا نظر إليها زوجها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته فِى نفسها وماله) (1069) اهـ.
تنبيه: حق الزوج عل المرأة أعظم من حق والديها:
يروَى عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ " قال: " زوجها"، قلت: " فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟ " قال: " أمه ") (1070) .
__________
(1069) "نظرات في الأسرة المسلمة" ص (71-72) .
(1070) رواه الحاكم (4/150) ، (4/175) ، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، وقال المنذري في "الترغيب": (رواه البزار والحاكم، وإسناد البزار حسن) اهـ. (3/53) ، والحديث ضعفه الألباني في " ضعيف الجامع"
(1/304) ، وانظر: " مجمع الزوائد" (4/308) .(2/451)
وقد تقدم خبر (1071) الثلاثة الذين (آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدَت عليهم الغار، فقالوا: " إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: " اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبِقُ (1072) قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي طلب الشجر يومًا) الحديث، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك في مقام الثناء على هذا الرجل ببر والديه، وتقديم حقهما والإحسان إليهما على الزوجة والأبناء لا سيما عند التعارض، والله أعلم.
وقد تقدم من بيان أدلة عظم حق الوالدين ما فيه كفاية، أما عظم حق الزوج على زوجته، وأولويته على حق والديها لا سيما إذا وقع بينهما تعارض، فقد بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: (قوله: (فالصالحات قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله) يقتضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقًا: من خدمة، وسفر معه، وتمكين له، وغير ذلك كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث " الجبل الأحمر " وفي " السجود" وغير ذلك؛ تجب طاعة الأبوين؛ فإن كل طاعة كانت للوالدين انتقلت إلى الزوج؛ ولم يبق للأبوين عليها طاعة: تلك وجبت بالأرحام، وهذه وجبت بالعهود) (1073) اهـ.
وقال شيخ الإسلام أيضًا: (وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج) (1074) اهـ.
وقال رحمه الله في موضع آخر: ( ... فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق
__________
(1071) تقدم تخريجه برقم (395) .
(1072) أي لا أقدم في الشرب قبلهما أهلا، ولا مالا من رقيق وخادم، و"الغبوق" شرب العشي.
(1073) "مجموع الفتاوى" (32/260-261) .
(1074) "السابق" (32/275) .(2/452)
والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة.
وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها، ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك: فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإن الأبوين هما ظالمان؛ ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج، وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها: مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيًا لله فيها، ففي السنن الأربعة، وصحيح ابن أبي حاتم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس (1075) فحرام عليها رائحة الجنة " (1076) ، وفي حديث آخر: " المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " (1077) ، وأما إذا أمرها أبواها أو أحدهما بما فيه
__________
(1075) أي من غير حالة شدة تدعوها، وتلجئها إلى المفارقة، كأن تخاف أن لا تقيم حدود الله فيما يجب عليها من حسن الصحبة، وجميل العشرة، لكراهتها له، أو بأن يضارها لتختلع منه- انظر: " فيض القدير " (3/138) .
(1076) رواه الترمذي رقم (1186) ، (1187) ، في الطلاق: باب ما جاء في المختلعات، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن"، وأبو داود رقم (2226) في الطلاق: باب في الخلع، وابن ماجه رقم (2055) ، والإمام أحمد (5/277) ، والدارمي (2/ 162) ، وابن حبان (1320) ، والبيهقي (7/316) ، وابن أبي شيبة (5/271) ، والحاكم (2/200) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حجر، وابن خزيمة كما في " فيض القدير" (3/138) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (7/100) .
(1077) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه النسائي (6/186) في الطلاق: باب ما جاء في الخلع، والإمام أحمد (2/414) ، وهو من القليل الذي سمعه الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (632) وذكر له شواهد، و" المنتزعات" اللاتي ينتزعن أنفسهن بمالِهن من كنف =(2/453)
طاعة الله: مثل المحافظة على الصلوات، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، ونهياها عن تبذير مالها وإضاعته، ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه: فعليها أن تطيعهما في ذلك، ولو كان الأمر من غير أبويها، فكيف إذا كان من أبويها؟ !
وإذا نهاها الزوج عما أمر الله، أو أمرها بما نهى الله عنه: لم يكن لها أن تطيعه في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (1078) ، بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله لم يجز له أن يطيعه في معصيته، فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية؟ ! فإن الخير كله في طاعة الله ورسوله، والشر كله في معصية الله ورسوله) (1079) اهـ.
2- ومن حق الزوج: أن يلي تأديبها- بشروطه- إذا كانت ناشزًا: قال الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا إن الله كان عليًّا كبيرًا) (النساء: 34) .
ومن هذه الآية الكريمة تستنبط فوائد عظيمة:
الأولى: بدأ تبارك وتعالى هذه الآية بقوله عز وجل: (الرجال
__________
= أزواجهن عن غير رضى منهم، وقوله: " هن المنافقات": أي أنها كالمنافقات في أنها لا تستحق دخول الجنة مع من يدخلها أولا، والله تعالى أعلم.
(1078) تقدم تخريجه برقم (638) .
(1079) " مجموع الفتاوى" (32/263 -264) .(2/454)
قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) الآية.
فأفادت أن للزوج الحقَّ في تأديب زوجته عند عصيانها أمره، ونشوزها عليه، تأديبًا يراعى فيه التدرج، الذي قد يصل إلى الضرب بشروطه، قال القرطبي رحمه الله في " تفسيره":
"اعلم أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحًا إلا هنا وفي الحدود العظام؛ فساوى معصيتهن أزواجهن بمعصية الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القُضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانًا من الله تعالى للأزواج على النساء.. " (1080) اهـ.
الثانية: ثم ثنى تبارك وتعالى بذكر حال النساء الصالحات، فقال عز من قائل: (فالصالحات قانتات) أي مطيعات لله ثم لأزواجهن (حافظات للغيب بما حفظ الله) فالمرأة الصالحة تؤدى حقوق زوجها التي أعلاها طاعته في المعروف، ولذا فهي لا تحتاج إلى تأديب (1081) ، وأما غير الصالحة التي تخل بحقوق الزوجية، وتعصي زوجها فهي التي تحتاج إلى تأديب.
الثالثة: ثم ثلث سبحانه بذكر علاج المرأة الناشز العاصية المتمردة المترفعة على زوجها فقال تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن) قال ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون، وقيل: هو على بابه، فعليه يُشرع في التأديب إذا ظهرت أمارات النشوز بالفعل أو القول.
والنشوز: العصيان؛ مأخوذ من النَّشز، وهو ما ارتفع من الأرض، فالمعنى: أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة
__________
(1080) "الجامع لأحكام القرآن" (5/173) .
(1081) وفي مثلها يقال:
رأيت رجالًا يضربون نساءهم ... فشُلت يميني حين أضرب زينبا(2/455)
الأزواج، وقال ابن فارس: ونشزت المرأة استصعبت على بعلها (1082) .
ومن أمثلة النشوز: امتناعها منه لغير عذر شرعي، أو خروجها من المنزل بغير إذنه، لا إلى القاضي لطلب الحق منه، أو أن تدخل بيته من يكره دخوله (1083) .
الرابعة: اختلف أهل العلم في العقوبات الواردة في هذه الآية الكريمة: هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟
ومنشأ الخلاف اختلافهم في " الواو " العاطفة هل هي لمطلق الجمع وعليه فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أيا كانت، وله أن يجمع بينهما- أم أنها تقتضي وجوب الترتيب الذي ورد في الآية؟
وتوسط قوم فقالوا: إنه وإن كان ظاهر العطف في الواو يدل على مطلق الجمع، لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب لظاهر اللفظ، وذلك أن سياق الآية فيه الترقي والتدرج في التأديب: قال الإمام القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى:
(من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير، فقد قال: " يعظها، فإن هي قبلت وإلَّا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع " (1084) اهـ.
__________
(1082) انظر: " السابق" (5/170- 171) .
(1083) " السابق" (5/172-173) ، ومن صور النشوز ما ذكره شيخ الإسلام النووي رحمه الله حيث قال في: " روضة الطالبين": (فمنه الخروج من المسكن، والامتناع من مساكنته، ومنع الاستمتاع بحيث يحتاج في ردها إلى الطاعة إلى تعب، ولا أثر لامتناع الدلال) اهـ. (7/369) .
(1084) " أحكام القرآن" (1/420) .(2/456)
الخامسة: مراتب التأديب:
إذا ظهرت أمارات النشوز، فليبدأ الزوج بالتأديب على النحو التالي: المرتبة الأولى: الوعظ بلا هجر ولا ضرب، لقوله تعالى:
(فعظوهن) : أي بكتاب الله؛ فذكروهن ما أوجب الله عيهن من حسن الصحبة، وجميل العشرة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم حق الزوج على زوجته، ووجوب طاعته في المعروف (1085) ، ويقول لها برفق ولين: " كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا "، ويذكرها بالموت، والقبر، والدار الآخرة، ويوم الحساب، ويبين لها أن النشوز يستوجب الترقي إلى عقوبة أعلى، ويسقط النفقة، والقَسْمَ مع ضرائرها، فلعلها بعد ذلك أن تبدي عذرًا، أو تتوب عما وقع منها بغير عذر.
فإن لم ينفع الوعظ والتذكير بالرفق واللين، فلينتقل إلى:
المرتبة الثانية: وهي الهجر في المضجع، لقوله تعالى: (واهجروهن في المضاجع) وذلك بأن يوليها ظهره في المضجع، أو ينفرد عنها بالفراش، ويجوز أيضًا أن يهجرها خارج البيت، وقوله تعالى هنا: (واهجروهن في المضاجع) مطلق، ولم يثبت دليل في تقييده، لكن صَح أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر نساءه، واعتزلهن شهرًا (1086) .
__________
(1085) وقد قدمنا جملة صالحة منها في الأرقام من (1040) إلى (1067) .
(1086) وذلك فيما أخرجه البخاري في كتاب النكاح: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن، (9/300) ، وقد تقدم حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، لا تقبح الوجه، ولا تضرب - أي الوجه -، ولا تهجر إلا في البيت "، وهذا الحصر في حديث معاوية غير معمول به كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف =(2/457)
لكن ينبغي ألا يبلغ بالهجر في المضجع أربعة أشهر وهي المدة التي ضرب الله أجلًا عُذْرًا للمُولِي (1087) ، وينبغي أن يقصد من الهجر التأديب والاستصلاح لا التشفي والانتقام والمضارة لذاتها، ولا يهجرها في الكلام أكثر من ثلاثة أيام لقَول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " (1088) الحديث، إلا لعذر شرعي (1089) .
المرتبة الثالثة: وهي الضرب غير المخوف، لقوله تعالى: (واضربوهن)
(أ) متى يجوز الضرب؟
(قال ابن عباس رضي الله عنهما: " اهجرها في المضجع، فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرَح ".
وقال جماعة من أهل العلم:
" الآية على الترتيب: فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، الضرب عند تكرره، واللجاج فيه، ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز.
قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز (1090) ، قال ابن مفلح رحمه الله: (ظاهر المذهب: لا يجوز ضربها عند ابتداء النشوز، لأن المقصود بهذه العقوبات زجرها عن المعصية في المستقبل، فيبدأ بالأسهل فالأسهل) (1091) اهـ.
__________
= الأحوال) ، وانظر: " فتح الباري " (9/300 - 302) .
(1087) راجع ص (282) .
(1088) رواه البخاري في " الأدب" (10/492) ، ومسلم رقم (2560) وغيرهما.
(1089) انظر: " معالم السنن" للخطابي (4/122) ، و"روضه الطالبين" (7/367 -368) .
(1090) " زاد المسير" (2/76) .
(1091) " المبدع " (7/215) .(2/458)
(ب) اعلم أن جواز الضرب مقيد بشروط:
منها: أن تصر على النشوز والعصيان حتى بعد تدرجه معها في التأديب على النحو الذي سبق ذكره.
ومنها: أن يتناسب العقاب مع نوع التقصير، فلا يبادر إلى الهجر في المضجع في أمر لا يستحق إلا الوعظ والإرشاد، ولا يبادر إلى الضرب وهو لم يجرب الهجرة في المضجع، وذلك لأن العقاب بأكثر من حجم الذنب والتقصير ظلم.
ومنها: أن يراعي أن المقصود من الضرب العلاج، والتأديب والزجر لا غير، فيراعي التخفيف فيه على أبلغ الوجوه، وهو يتحقق باللكزة ونحوها، أو بالسواك ونحوه، وفي الحديث الذي وصَّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته في حجة الوداع، قال: ( ... اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح) (1092) .
قال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: السواك ونحوه (1093) .
ويشترط أن يتجنب المواضع المخوفة (1094) كالرأس والبطن، وكذا الوجه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب الوجه نهيا عامُّا، لا يضرب آدميا ولا بهيمة على الوجه، وفي حديث حكيم بن معاوية عن أبيه مرفوعًا:
__________
(1092) تقدم تخريجه برقم (240) .
(1093) انظر " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/172) ، " السلسبيل، (2/749) .
(1094) قال الإمام النووي رحمه الله: (فإن أفضى إلى تلف، وجب الغرم، لأنه تبين أنه إتلاف لا إصلاح) اهـ. من " روضة الطالبين" (7/368) .(2/459)
" ولا تضرب" أي الوجه كما تقدم (1095) ، كذلك لا يكسر عظما، ولا يشين عضوًا، ولا يدميها، ولا يكرر الضربة في الموضع الواحد.
ومنها: أنها إن ارتدعت، وتركت النشوز، فلا يجوز له بحال أن يتمادى في عقوبتها، أو يتجنى عليها بقول أو فعل، لقوله تعالى: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا) .
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله:
(فإن راجعن طاعتكم عند ذلك، وفئن إلى الواجب عليهن، فلا تطلبوا طريقًا إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلًا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك بأن يقول أحدكم لإحداهن، وهي له مطيعة: " إنكِ لست تحبيني "، فيضربها على ذلك أو يؤذيها " (1096) اهـ.
وقال سفيان بن عيينة في تفسير قوله تعالى: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا) : "لا تكلفها الحب، لأن قلبها ليس في يدها " (1097) .
فإن فعل شيئًا من ذلك وخاصم ففجر، وتعدى حدود الله فيها فهو من الظالمين، قال عز وجل: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) ، ولهذا ختم الله عز وجل الآية بقوله: (إن الله كان عليا كبيرًا) وهو كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:
__________
(1095) تقدم برقم (737) . (1096) " تفسير الطبري" (5/69) .
(1097) " زاد المسير" (2/76) ، لكن يجتهد في تكلف أسباب المحبة بالتحبب والتودد، قال صلى الله عليه وسلم: " إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه ".
ومن هذه الأسباب التهادي قال صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تحابوا"، ومنها: إفشاء السلام، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم "، ولله در القائل:
قد يمكث الناس دهرا ليس بينهُم ... وُد فيزرعه التسليم واللطفُ(2/460)
" تهديد للرجال إذا بَغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وَلِيُّهن، وهو منتقم ممن ظلمهن، وبغى عليهن " (1098) .
الطريقة الفضلى عدم ضرب النساء البتة
(ج) اعلم - أصلحك الله - أن الأوْلى والأفضل تركُ الضرب مع بقاء الرخصة فيه بشرطه:
فقد اتفق العلماء على أن ترك الضرب، والاكتفاء بالتهديد أفضل، وذلك:
- لما رواه إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب (1099) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تضربوا إماء الله "، فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: " يا رسول الله، ذَئِر (1100) النساءُ على أزواجهن، فأذِنَ في ضربهن، فأطاف بآل محمدٍ نساءٌ كثير، كُلهن يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد أطاف بآل محمد سبعون امرأةً، كلهن يشتكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم " (1101) ، ورُوِي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب النساء، فقيل: (يا رسول إنهن قد فسدن "، فقال صلى الله عليه وسلم: " اضربوهن، ولا يضرب إلا شراركم " (*) .
__________
(1098) " تفسير القرآن العظيم" (2/259) .
(1099) جزء أحمد بن حنبل، والبخاري وابن حبان بأن لا صحبة له، وخالفهم أبو حاتم وأبو زرعة، ورجح قولهما الحافظ ابن حجر كما في " تهذيب التهذيب" (1/389) .
(1100) أي: اجترأن ونشزن، والذائر: النًفور، المغتاظ على خصمه، والمستعد للشر. (1101) أخرجه ابن ماجه رقم (1985) ، والدارمي (2/147) ، وأبو داود (2146) ، وصححه ابن حبان (1316) ، والحاكم (2/188، 191) وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (7/304، 305) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع " (5/30) .
(*) " الطبقات الكبرى" (8/147) .(2/461)
قال محيي السنة البغوي رحمه الله:
(وفي الحديث دليل على أن ضرب النساء في منع حقوق النكاح مباح، ثم وجه ترتيب السنة على الكتاب في الضرب يحتمل أن يكون نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضربهن قبل نزول الآية، ثم لما ذئر النساء، أذن في ضربهن، ونزل القرآن موافقا له، ثم لما بالغوا في الضرب، أخبر أن الضرب - وإن كان مباحًا على شكاسة أخلاقهن - فالتجمل والصبر على سوء أخلاقهن، وترك الضرب أفضلَ وأجمل، ويُحكى عن الشافعي هذا المعنى) (1102) اهـ.
- وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، ولا خادما، ولا ضرب شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله) (1103) ، " وقد أمِرَ نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس " (1104) .
- وعن لقيط بن صَبِرَةَ أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " يا رسول الله، إن لي امرأة في لسانها شيء، يعنى البذاء "؟، قال: " طلقها "، قلت: (إن لي منها ولدًا، ولها صُحْبَة "؟، قال: " فَمُرْها (1105) ، يقول: عِظْها، فإن يَكُ فيها خير، فستقبل، فلا تضربنُّ ظعينتك (1106)
__________
(1102) "شرح السنة" (9/187) .
(1103) رواه مسلم في " النكاح " (79) ، وابن ماجه (1984) ، والدارمي (2/147) ، وأحمد (6/32، 206، 229، 232، 281) .
(1104) رواه البخاري (8/229) في تفسير سورة الأعراف، وأبو داود رقم (4787) .
(1105) أي عظها كما في رواية أبي داود.
(1106) الظعينة في الأصل الراحلة، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت، وهو وصف للمرأة في هودجها، ثم سميت بهذا الاسم وإن كانت في بيتها.(2/462)
ضربَكَ أميتكَ " (1107) الحديث، (وفيه إيماء لطيف إلى إباحة الضرب بعد عدم قبول الوعظ، لكن يكون ضربًا غير مبرح كما تقدم) (1108) .
وقد قال بعض الفقهاء: إن على الزوج أن يُقَدر أن ينفع الضرب في الإصلاح، وأنه لا يترتب عليه مفسدة أعظم، وفتنة أشد، وإِن عليه أن يراعي أن يكون التأديب فيما بينه وبينها فقط (1109) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله:
(وليعلم الإنسان أن من لا ينفع فيه الوعيد والتهديد لا يردعه السوط، وربما كان اللطف أنجح من الضرب، فإن الضرب يزيد قلب المعرض إعراضا، وفي الحديث: " ألا يستحيي أحدكم أن يجلد امرأته جلد العبد، ثم يضاجعها " (1110) ، فاللطف أولى إذا نفع) (1111) اهـ.
وقال فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله تعالى:
(أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة ما دامت لم تُدخل بيت زوجها أحدًا يكرهه، ولم تفر منه، ولم تخرج من بيته بغير إذنه، فليس له عليها من الحق أكثر من ذلك، ونفهم من ذلك أنها إن فعلت شيئَا من هذه الأمور، ورأى الرجل أن في إصلاحها أملا، وأنه إذا ضربها ضربًا غير مبرِّح تصلح
__________
(1107) رواه أبو داود (142) ، وصححه ابن حبان (159) ، والحاكم) (4/110، 160) ، ووافقه الذهبي، ورواه الإمام أحمد (4/23، 211) .
(1108) "الفتح الرباني" (16/232) .
(1109) "آداب الخطبة والزفاف" للدكتور عبد الله ناصح علوان رحمه الله ص (144) .
(1110) وذلك لأن المجامعة إنما تستحسن مع ميل النفس، والرغبة في العشرة، والضرب عادة يورث النفرة، والحديث يشير إلى ذمه، فإن كان ولابد فاعلا لنشوزها، فليعاملها معاملة الحرائر، وليكن بالضرب اليسير غير المبرح - أفاد معناه الحافظ في " الفتح " (9/303) .
(1111) "أحكام النساء" ص (82) .(2/463)
حالها، وتعود إلى الاستقامة، جاز له ضربُها بقصد الإصلاح، لا بقصد الانتقام، وأما إذا رأى بخبرته أن الضرب لا يُصْلِحُها، بل يزيدها عنادًا ويفسدها، ويئس من حسن العشرة معها، لم يجز له أن يضربها، وله أن يطلب رد المهر، ويطلقها.
ومن المعلوم أن طباع النساء ليست سواء، فبعضهن يصلحها الضرب، وبعضهن يفسدها الضرب، ومقصود الشارع الإصلاح لا الفساد، فقد تكون الزوجة حديثة السن، تحتاج إلى تأديب أبويها، فيتزوج بها رجل عاقل، يقوم مقام والديها في تأديبها إلى أن تكبر، ويكمل عقلها، فهذا هو وجه الضرب المباح، على أن الشارع الحكيم- مع وجود السبب - لم يبح الضرب إلا بعد ألا ينفع الوعظ والهجر، ويؤيد هذا ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال أحدكم يضرب امرأته ضرب الفحل، ولعله يضاجعها من ليلته؟ ! "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ كيف يعقل أن يضرب الرجل امرأته، ثم يعانقها، ويقبلها؟ ! ففي ذلك تناقض عظيم، لما يقع من النفور والقضاء على المحبة التي هي روح العشرة الحسنة..) ، ثم قال رحمه الله:
( ... وحسب علمنا وتجاربنا، لا يُصلح الضربُ الممتنعة من فراش زوجها إلا إذا كانت صغيرة أو سفيهة، وأكثر النساء لا يزيدهن الضرب إلا نفورًا، فيأتي بعكس المطلوب، وبدلَ أن يقربها يبعدها، ويزداد الخرق اتساعًا، كما هو مشاهد، وفي حديث أبي داود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء، فذئرت النساء على أزواجهن، قال صاحب اللسان: قال الأصمعي: أي نفرن، ونشزن، واجترأن، فأنت ترى أن هذا الحديث موافق للأحاديث المتقدمة في أن الضرب لا يجوز إلا عند النشوز، ومع ذلك: بعدما جاءت النساء إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، واشتكين أزواجهن؛ قال(2/464)
في الذين يضربونهن: " ليس أولئك بخياركم "، وفي الحديث الصحيح: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي "، ولذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب الناشز، وهى ابنة الجون التي تزوج بها، فلما دنا منها قالت: " أعوذ بالله منك"، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك " رواه البخاري.
فسنته الفعلية عدم ضرب النساء - وإن جاز ضربُهن - والقولية تقدمت في قوله عليه الصلاة والسلام: " ليس أولئك بخياركم "، فالطريقة الفضلى هي عدم ضرب النساء البتة) (1112) اهـ.
ولما خطب معاوية بن أبي سفيان وأبو جَهْم رضي الله عنهم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، ذَكَرَتْ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أبو جَهْم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فَصُعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد " (1113) الحديث.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يضع عصاه عن عاتقه " قيل: إنه كثير الأسفار، وقيل - وهو أصح- إنه كثير الضرب للنساء، بدليل الرواية الأخرى عند مسلم بلفظ: (وأما أبو جهم فرجل ضَراب للنساء" الحديث، وعليه يحمل وصفه صلى الله عليه وسلم إياه في رواية النسائي: " إنه صاحب شر لا خير فيه "، ورواية الترمذي: " فرجل شديد على النساء ".
فتأمل كيف ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الصفة.
(د) ليس من الرجولة:
ومما يجدر التنبيه إليه ما شاع من تعسف بعض أهل الجفاء ممن قسا
__________
(1112) " أحكام الخلع في الإسلام" ص (32-36) بتصرف.
(1113) رواه مسلم رقم (1480) في الطلاق، وأبو داود رقم (2284) ، والترمذي رقم (1135) .(2/465)
قلبه، وغلظ طبعه، وساء فهمه من ظلم النساء، وضربهن ضربَ غرائب الإبل وذلك لأتفه الأسباب، وربما تستروا وراء هذا الإذن القرآني بالضرب، ويظن بعضهم أن الرجولة هي الظلم والقهر والاستعلاء، وأن القوامة طوق في عنق المرأة لإذلالها وتسخيرها، إن الزوجة ليست كالبقرة ولا السلعة، متى اشتراها ربها صنع بها ما يشاء كما يتوهم أولئك الظالمون البغاة، إن للمرأة في هذه الحال الحق الكامل في أن تشكوه إلى أوليائها، أو ترفع أمرها إلى الحاكم، لأنها إنسان مكرم داخل في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا) الإسراء (70) .
وليس حسن معاشرة المرأة أمرا اختياريًّا متروكًا للزوج يفعله أو لا يفعله، بل هو تكليف وواجب.
وليس الرفق بها من باب الرفق بالحيوان الأعجم، ولكنه حق لها وواجب على الرجل لأنها مكرمة مثله بالخلق السوي، والصورة الحسنة، والعقل والنطق والتفكير، وحمل الأمانة، فهذه المزايا كلها مشاعة بين الرجل والمرأة، فمن أراد أن يعامل الزوجة معاملة الدابة والسلعة، فقد كفر نعمة الله، واستحق أن يسلط الله عليه من المستعمرين وغيرهم من يعامله بمثل ذلك " كما تدينوا تدانوا"
إنها جديرة بالحياة الطيبة التي وعد الله في قوله: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) أي في الدنيا (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) أي في الآخرة.
فإذا أساء الرجل عشرتها وقهرها وهي مقيمة على طاعته مؤدية لحقوقه فأي حياة طيبة تكون لها؟ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في كمال الرجولة، وصلابة العزيمة، وقوة الشكيمة، وقد أخذت نفسُه من الحزم(2/466)
أوفر نصيب يؤتاه بَشَر، ومع ذلك كان لا يترفع على أهله، ولا يرهبهم من شخصه، شأنه مع أصحابه في خفض الجناح، ولين الجانب، وإكرام الصحبة، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده امرأة، ولا خادمًا قط (1114) ، وقد قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ، وقال تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون) ، وهو هو القائل صلى الله عليه وسلم: " خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم.
فأين أولئك القساة الغلاظ من قوله تعالى: (إن ربك لبالمرصاد) (الفجر: 14) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إني أحرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة " (1115) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: " النساء شقائق الرجال" (1116) .
(هـ) آخر الدواء الكَيُّ.
يطعن أعداء الإسلام ومطاياهم من المنتسبين إليه، الذين يتظاهرون بتقديس النساء، ويصرحون بعبادتهن؛ ليخدعوهن عن أعراضهن، ويوردوهن موارد الهلكة - يطعنون في هذا الحكم ويتأففون منه، ويعدونه إهانة للمرأة، والجواب: أن القوم يستكبرون مشروعية تأديب الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز هي وتترفع على زوجها، فتجعله - وهو رئيس البيت - مرءوسا بل محتقرا، وتصر على نشوزها، وتمشي على غُلَوائها، حتى إنها لا تلين لوعظه، ولا تستجيب لنصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، ترى كيف يعالجون هذا النشوز؟ وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به؟
__________
(1114) تقدم برقم (1103) .
(1115) تقدم برقم (938) .
(1116) تقدم برقم (139) .(2/467)
لعل الجواب تضمنه قول الشنفري الشاعر الجاهلي المعروف مخاطبًا زوجته:
إذا ما جئتِ ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلقيني
فأنت البعل يومئذ فقومي ... بسوطك - لا أبالك - فاضربيني
نعم، أذن الإسلام في ذلك بشروط سبق ذكرها، وبينا متى يكون الضرب؟ ولمن يكون؟ إن هذا الإذن علاج ودواء فينبغي مراعاة وقته ونوعه وكيفيته ومقداره، وقابلية المحل، وهو إنما يُلجأ إليه عند الضرورة، لكن أعداء الله يموهون على الناس، ويلبسون الحق بالباطل، إذ ليس التأديب المادي هو كل ما شرعه الإسلام في العلاج، وإنما هو آخر أنواع ثلاثة، مع ما فيه من الكراهة الشرعية التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، ومع أنه موجه لنوعية خاصة من النساء أشار إليها القرآن الكريم، فإذا وجدت امرأة ناشز أساءت عشرة زوجها، وركبت رأسها، اتبعت خطوات الشيطان، لا تكف ولا ترعوي عن غَيها واستهتارها بحقوق زوجها، ولم ينجع معها وعظ، ولا هجران، فماذا يصنع الرجل في هذه الحالة؟
هل من كرامة الرجل أن يُهرع إلى طلب محاكمة زوجته كلما نشزت؟ وهل تقبل المرأة أن يهرع زوجها كلما وقعت في عصيان زوجها إلى أبيها أو إلى المحكمة ينشر خبرها على الملأ؟
لقد أمر القرآن الكريم بالصبر والأناة، وبالوعظ والِإرشاد، ثم بالهجر في المضاجع، فإذا لم تنجع كل هذه الوسائل، فآخر الدواء الكي.
إن الضرب بالسواك وما أشبهه أقل ضررًا على المرأة نفسها من تطليقها الذي هو ثمرة غالبة لاسترسالها في نشوزها إلى أن يتصدع بنيان الأسرة، ويتمزق شملها، ويتشرد أطفالها، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم، كان ارتكاب الأخف حسنًا وجميلًا، وكما قيل: " وعند ذكر العمى(2/468)
يُستَحْسَنُ العَوَرُ ".
فالضرب طريق من طرق العلاج، ينفع في بعض الحالات مع بعض النفوس الشاذة المتمردة، التي لا تفهم الحسنى، ولا ينفع معها الجميل.
العبد يُقْرَعُ بالعَصا ... والحُرُّ تَكْفِيه الإشارة
وقال بشار: * الحُرُّ يُلْحَى (1117) والعصا للعبد*
وقال ابن دُرَيد:
واللوم للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا (1118)
[إن من النساء، بل من الرجال من لا يقيمه إلا التأديب، ومن أجل ذلك وُضِعت العقوبات، وفتحت السجون.
إن مشروعية هذا التأديب لا يستنكرها عقل ولا فطرة حتى نحتاج إلى تأويلها، إنما هي مجرد أمر يُحتاج إِليه في حالة " فساد البيئة "، وغلبة الأخلاق الفاسدة، إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، فإذا صلحت البيئة، وصار النساء يعقلن النصيحة، ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، مع أن الأصل هو الرفق بالنساء على كل حال، وتحمل الأذى منهن، والله أعلم.
أما هؤلاء الذين يتأففون من حكم الله عز وجل، وشريعته، فهؤلاء قوم لم يعرفوا حياة " الأسرة "، ولم يخبروا واقعها، وما يصادفها في بعض الأحيان من المشكلات، إنما هم قوم متملقون لعواطف بيئة خاصة من النساء يعرفونها هم، ويعرفها الناس جميعًا، يتظاهرون أمام هذه الفئة بالحرص على
__________
(1117) يُلْحَى: أي يُلام، وانظر: " الجامع لأحكام القرآن" (5/174) .
(1118) بتصرف من " ماذا عن المرأة؟ " ص (137- 139) ، و" روائع البيان" (1/474 - 476) .(2/469)
كرامتها وعزتها] ، وقانا الله والمسلمين شرهم.
3- ومن حقه عليها:
المتابعة في المسكن:
(وكما فرض الله سبحانه وتعالى على الزوج سكنى الزوجة، أوجب عليها بالمقابل " متابعة زوجها في السكن " في الِإقامة معه في المنزل الذي يسكنه، ويُعدُّه من أجلها، وألا تخالف في ذلك، إلى غير مسكن الزوج، وفي هذا يقول تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) (1119) الطلاق (6) ، وهذا الواجب على الزوجة أمر طبيعي، لا غنى عنه لاستقامة الحياة الزوجية، سيما وأن الزوج مكلف بالإنفاق على الأسرة، وأن الزواج يقوم على ركن السكينة النفسية بين كل زوج وزوجته.
ومن هنا نجد أن الشريعة تحكم على الزوجة التي لا تتابع زوجها في السكن بأنها ناشزة، وتلزمها بالعودة إلى المتابعة بسلطة القضاء الشرعي. إلا أننا - للأسف - نجد بعض الكاتبين في شئون المرأة يفتعلون النقد لهذا الحكم، ويتنطعون في الطعن فيه، بأن إرغام الزوجة على الرجوع إلى بيت زوجها فيه مساس بكرامتها أو تحقير لشخصيتها، وإجبار لها على غير
__________
(1119) قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله) : قوله تعالى: (وسار بأهله) قيل: فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوَّامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرًا، فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يُوَفى به ما استحللتم به الفروج) اهـ (13/281) ، وذكر بعض الفقهاء أن للزوج بعد أداء كل المهر المعجل أن يسافر بزوجته إذا كان مأمونا عليها، كما في " الفقه الإسلامي وأدلته " (7/342) ، وانظر " جامع الأصول" (11/532) ، و " فتح الباري" (9/188- 190) .(2/470)
ما تريد..!
هكذا نصب هؤلاء المصلحون- بزعمهم- نصبوا أنفسهم للدفاع عن المرأة، ولكن أية امرأة هذه التي يدافعون عنها؟ هل هي الصالحة المخلصة لواجباتها الزوجية؟ كلا! إنهم يدافعون عن الزوجة الناشزة المتمردة على واجباتها، كأنهم نسوا أن التمرد والنشوز لا يخلو عند الضرورة من قسوة الزجر والردع.
على أننا يجب أن نتذكر أن الزوج لو قصر في النفقة أو إعداد السكن، فإن الشارع يعامله بأشد مما يعامل به الزوجة حتى إن من الفقهاء من قال: " إنه يحبس في نفقة زوجه ... ".
ئم إن الشريعة لم تلزمها بالمتابعة استبدادًا وإخضاعًا مطلقًا..؟ ! كلا، وإنما تلزم المرأة بالعودة إلى بيت زوجها بعد معاينة السلطة القضائية الشرعية لهذا البيت، والتأكد من أنه مستكمل المرافق، متوفرة فيه وسائل الراحة، مناسب لمركز المرأة الاجتماعي، ولحالة الرجل المادية.
فما الذي تريد المرأة بعد هذا، وماذا يبتغي أعداء المتابعة الزوجية؟ هل نجعل للمرأة الحرية المطلقة في أن تسكن مع الزوج أو لا تسكن؟
وهل تبقى بعدئذٍ مرحلة من الفوضى في حياة المجتمع وفي أوضاعه التنظيمية؟
بل هل تجد في طبيعة الحياة على أي مستوى مثل هذا التفلت؟ كلا! ، إن هذا الوضع لفي الغاية القصوى من الفوضى، وضع شاذ لا تقره طبيعة الحياة، في أي مستوى حتى عند الحيوانات بأنواعها السائحة والمتوحشة، وعند الطيور الأهلية والبرية، التي تعيش زوجين زوجين، فإنا(2/471)
نجد التزام المتابعة أمرًا متقررًا لا لشيء إلا لأنه ضرورة الحياة (1120) .
أم يريد هؤلاء أن يلحق الرجل إلى منزل زوجته الناشزة، ويحكم عليه بالمتابعة! وماذا نفعل إذا أصرت الزوجة على استبعاده أيضا؟) (1121) .
4- ومن حقه عليها:
أن لا تصوم نفلًا بدون إذنه:
إذا كان مقيمًا في البلد غير مسافر، فقد يعرض له فيها ما يتعارض مع صيامها من خدمة وعمل، وإعداد طعام لضيوف، أو حاجة تتنافى مع الصيام.
قال النووي رحمه الله: (وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت، وحقه واجب على الفور فلا يفوته بالتطوع، ولا بواجب على التراخي، وإنما لم يجز لها الصوم بغير إذنه، وإذا أراد الاستمتاع بها جاز ويفسد صومها لأن العادة أن المسلم يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهته،
__________
(1120) ولهذا كانت فرضية المتابعة على الزوجة حكمًا مقررا في كافة القوانين الوضعية، وهذا القانون الفرنسي يقرر (أن الزوج يجب عليه صيانة زوجته، وأن يقدم لها كل ما هو ضروري لحاجات الحياة، في حدود مقدرته وحالته، وأن المرأة في مقابل ذلك ملزمة بطاعة زوجها، وأن تسكن معه في أي مكان يرى صلاحيته لإقامتها) اهـ. وأين هذا من قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل اللَه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وقوله عز وجل: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) وقوله جل وعلا: (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها) .
(1121) انتهى بتصرف يسير من كتاب (ماذا عن المرأة؟) للدكتور نور الدين عتر ص (125- 127) .(2/472)
نعم لو كان مسافرًا، فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها إذا كان زوجها مسافرًا، فلو صامت وقدم في أثناء الصيام فله إفساد صومها ذلك من غير كراهة، وفي معنى الغيبة أن يكون مريضًا بحيث لا يستطيع الجماع) اهـ. نقله عنه الحافظ في الفتح (1122) .
وقال القاري في " المرقاة": (وإنما لم يلحق بالصوم في ذلك صلاة التطوع لقصر زمنها، وفي معنى الصوم الاعتكاف لا سيما على القول بأن الاعتكاف لا يصح بدون الصوم) (1123) اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه " (1124) .
ولما جاءت امرأة صفوان بن المعطل تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا ذكرت منها أنه: " يُفَطّرها إذا صامت" فسأله صلى الله عليه وسلم عما قالت، فقال فيما قال: ( ... وأما قولها " يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب، فلا أصبر) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: " لا تصوم المرأة إلا بإذن زوجها " (1125) الحديث.
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (قوله: " لا تصوم المرأة، وبعلها شاهد " أي حاضر" إلا بإذنه " وأراد به صيام التطوع، فأما قضاء
__________
(1122) "فتح الباري" (9/296) .
(1123) المرقاة (2/533) .
(1124) رواه البخاري (9/295) ، والترمذي (1/150) ، والدارمي (2/12) ، وزاد في روايته: (يوما تطوعًا في غير رمضان) ، وابن ماجه (1761) ، والإمام أحمد (2/464) .
(1125) أخرجه أبو داود (2459) ، وابن حبان (956) ، والحاكم (1/436) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأقرهما الألباني في " الإرواء" (7/65) ، وأخرجه الإمام أحمد (3/80) .(2/473)
رمضان، فتستأذنه ما بين شوال إلى شعبان، قالت عائشة: " إن كان ليكون علىَّ صيام من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان " (1126) ، وهذا يدل على أن حق الزوج محصور بالوقت، وإذا اجتمع مع الحقوق التي يدخلها المهلة، كالحج (1127) ونحوه، قُدم عليها) (1128) اهـ، قال الحافظ: (وفي الحديث أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير، لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع) (1129) .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (عن رجل له زوجة تصوم النهار، وتقوم الليل، وكلما دعاها الرجل إلى فراشه تأبى عليه، وتقدم صلاة الليل، وصيام النهار على طاعة الزوج، فهل يجوز ذلك؟) .
فأجاب رحمه الله:
(لا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين، بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش، وذلك فرض واجب عليها، وأما قيام الليل، وصيام النهار، فتطوع، فكيف تقدم مؤمنة النافلة على الفريضة؟) (1130) اهـ.
__________
(1126) أخرجه البخاري (4/166) في الصوم، وزاد يحيى بن سعيد في آخره: (تعني الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم، أو الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وانظر: " مرقاة المفاتيح " (2/532 - 533) .
(1127) وهذا بناء على أن وجوب الحج على التراخي، خلافًا لما عليه فريق من العلماء من أنه على الفور، فانظر تحقيق ذلك في " أضواء البيان" للشنقيطي (5/108 - 126) .
(1128) " شرح السنة " (6/203) .
(1129) "فتح الباري" (9/296) .
(1130) " مجموع الفتاوى" (32/274) .(2/474)
5- ومن حقه عليها:
أن لا تأذنَ لِأحد في بيته إلا بإذنه:
عن تميم بن سلمة، قال: (أقبل عمرو بن العاص إلى بيت علي بن أبي طالب في حاجة، فلم يجد عليُّا، فرجع ثم عاد فلم يجده، مرتين أو ثلاًثا، فجاء علي فقال له: أما استطعت إذ كانت حاجتك إليها أن تدخل؟ قال: " نهينا أن ندخل عليهن إلا بإذن أزواجهن ") (1131) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه " (1132) .
قال القاري: (" ولا تأذنَ " بالنصب في النسخ المصححة عطفًا على " تصوم"، أي: ولا يحل لها أن تأذن أحدًا من الأجانب أو الأقارب حتى النساء، و " لا " مزيدة للتأكيد، وقال ابن حجر: " يصح رفعه خبرا يراد به النهي، وجزمه على النهي " في بيته" أي في دخول بيته " إلا بإذنه" وفي معناه العلم برضاه) اهـ (1133) .
وقال الحافظ في " الفتح": (قوله: " باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه " المراد ببيت زوجها سكنه سواء كان ملكه أو لا) وقال أيضًا: (قوله " ولا تأذن في بيته " زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة: " وهو شاهد إلا بإذنه " وهذا القيد لا مفهوم له، بل خرج مخرج الغالب، وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل
__________
(1131) عزاه الألباني للخرائطي في " مكارم الأخلاق "، وقال: " وإسناده صحيح، وقد عزاه السيوطي في " الجامع" للطبراني في " الكبير" من حديث عمرو بلفظ: (نهى عن أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن) ، انظر " السلسلة الصحيحة " رقم (652) .
(1132) تقدم آنفا برقم (1124) .
(1133) " مرقاة المفاتيح" (2/533) .(2/475)
بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع لثبوت الأحاديث الواردة في النهي عن الدخول على المغيبات أي من غاب عنها زوجها، ويحتمل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حضر تيسر استئذانه، وإذا غاب تعذر، فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه لتعذره، ثم هذا كله فيما يتعلق بالدخول عليها، أما مطلق دخول البيت بأن تأذن لشخص في دخول موضع من حقوق الدار التي هي فيها، أو إلى دار منفردة عن سكنها، فالذي يظهر أنه ملتحق بالأول، وقال النووي: (في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه، وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعا معدًّا لهم سواء كان حاضرًا أم غائبًا، فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لابد من اعتبار إذنه تفصيلَا أو إجمالًا - قوله: " إلا بإذنه أي الصريح، وهل يقوم ما يقترن به علامة رضاه مقام التصريح بالرضا؟ فيه نظر) (1134) اهـ.
وعن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: " ... ألا وإن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن: أن لا يوطئن فُرُشَكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون " (1135) الحديث قال المباركفوري رحمه الله: (" فرشَكم " بالنصب مفعول أول، " من تكرهون " مفعول ثان، أي: من تكرهونه رجلًا كان أو امرأة، قال النووي: " والمختار (1134) "فتح الباري" (9/295 - 296) .
(1135) جزء من حديث رواه الترمذي رقم (1163) وقال: " حسن صحيح"، وابن ماجه رقم (1851) ، وفي سنده سليمان بن عمرو بن الأحوص، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، وللحديث شواهد في الصحيحين منها حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم وغيره.(2/476)
أن معناه أن لا يَأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلًا أجنبيا أو امرأة، أو أحدا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك " (1136) ، " ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون " هذا كالتفسير لما قبله، وهو عام) (1137) اهـ.
وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه: ( ... وقال الخطابي: " معناه أن لا يؤذن لأحد من الرجال يدخل، فيحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب، لا يرون ذلك عيبا، ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب، وصارت النساء مقصورات نهي عن محادثتهن والقعود إليهن "، وقوله: " من تكرهون " أي تكرهون دخوله سواء كرهتموه في نفسه أم لا، قيل: المختار منعهن عن إذن أحد في الدخول والجلوس في المنازل سواء كان محرمًا أو امرأة إلا برضاه، والله أعلم) (1138) .
__________
(1136) وباقي عبارة النووي رحمه الله: (وهذا حكم المسألة عند الفقهاء: أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة، ولا محرم، ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرِف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا، ولم يترجح شيء، ولا وُجِدت قرينة، لا يحل الدخول، ولا الإذن، والله أعلم) اهـ من " شرح النووي لصحيح مسلم " (8/184) .
(1137) " تحفة الأحوذي" (8/483 - 484) .
(1138) " حاشية السندي على ابن ماجه " (1/569) .(2/477)
هكذا فلتكن النساء
قال الحافظ الذهبي رحمه الله:
[روى إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: " لما مرضت فاطمة، أتى أبو بكر فاستأذن، فقال علىُّ: " يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليكِ "، فقالت: " أتحب أن آذن له؟ " قال: " نعم ") .
قلت: عملت السنة رضي الله عنها، فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره.
قال: فأذنتْ له، فدخل عليها يترضاها.. حتى رضيت] (1139) اهـ.
ورُوِي (أن شريحًا القاضي قابل الشعبي يومًا، فسأله الشعبي عن حاله في بيته، فقال له: " من عشرين عامًا لم أر ما يغضبني من أهلي "، قال له: " وكيف ذلك؟ " قال شريح: " من أول ليلة دخلت على امرأتي، رأيت فها حسنَا فاتنًا، وجالًا نادرًا، قلت في نفسي: فَلْأطَّهَّر وأصلي ركعتين شكرا لله، فلما سلمت وجدت زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي، فلما خلا البيت من الأصحاب والأصدقاء، قمت إليها، فمددتُ يدي نحوها "، فقالت: " على رِسلك يا أبا أمية، كما أنت "، ثم قالت: " الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلى على محمد وآله، إني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأتركه "، وقالت: " إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال من هو
__________
(1139) " سير أعلام النبلاء " (2/121) ، ورواه ابن سعد في " الطبقات " (8/27) ، وقال الحافظ في " الفتح " (6/139) : (وهو - وإن كان مرسلا - فإسناده إلى الشعبي صحيح) اهـ.(2/478)
كفء لي، ولكن إذا قضى الله أمرًا كان مفعولًا، وقد ملكت فاصنع ما أمرك به الله، إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله في ولك..! ".
قال شريح: (فأحوجتني - والله يا شعبي - إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وأسلم، وبعد: فإنكِ قلت كلامَا إن ثَبَتِّ عليه يكن ذلك حظك، وإن تَدَعِيه يكن حجة عليكِ، أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما رأيتِ من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها! ".
فقالت: " كيف محبتك لزيارة أهلي؟ " قلت: (ما أحب أن يُمِلَّني أصهاري "، فقالت: " فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له، ومن تكره فأكره؟ "، قلت: " بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء) ، قال شريح: " فبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها حَوْلًا لا أرى إلا ما أحب، فلما كأن رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بفلانة في البيت، قلت: " من هي؟ " قالوا: " ختنك " - أي أم زوجك -، فالتفتت إلي، وسألتني: (كيف رأيت زوجتك؟ " قلت: " خير زوجة "، قالت: " يا أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوأ حالَا منها في حالين: إذا ولدت غلامًا، أو حظيت عند زوجها، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة، فأدب ما شئت أن تؤدب، وهذب ما شئت أن تهذب " فمكثت معي عشرين عاما لم أعقب عليها في شيء إلا مرة، وكنت لها ظالما) (1140) .
__________
(1140) انظر: " أحكام النساء " لابن الجوزي ص (134 - 135) ، و " أحكام القرآن " لابن العربي (1/417) .(2/479)
6- ومن حقه عليها:
أن لا تكلم - وهي في بيتها - أحدًا من غير محارمها إلا بإذنه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (نَهَى عن أن تُكَلَم النساء - يعنى في بيوتهن - إلا بإذن أزواجهن) (1141) ، قال المناوي: " لأنه مظنة وقوع الفاحشة بتسويل الشيطان، ومفهومه الجواز بإذنه، وحمله الولي العراقي على ما إذا انتفت مع ذلك الخلوة المحرمة، والكلام في رجال غير محارم) (1143) اهـ.
7- ومن حقه عليها:
أن لا تخرج من بيته بغير إذنه:
قال ابن قدامة رحمه الله: (وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد، سواء أرادت زيارة والديها أو عيادتهما أو حضور جنازة أحدهما، قال أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة: " طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها "، وقد روى ابن بطة في " أحكام النساء " عن أنس أن رجلًا سافر، ومنع زوجته من الخروج، فمرض أبوها، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة أبيها، فقال لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقي الله، ولا تخالفي زوجك"، فمات أبوها، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور جنازته، فقال ها: " اتقي الله، ولا تخالفي زوجك "، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إني قد غفرت لها بطاعة زوجها " (1143)
__________
(1141) عزاه الألباني للخرائطي في " مكارم الأخلاق "، وقال: " إسناده ضعيف"، ويشهد له حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه المتقدم آنفًا برقم (1131) ، وانظر " السلسلة الصحيحة" رقم (652) .
(1142) " فيض القدير " (6/349) .
(1143) قال الهيثمي في " المجمع" (4/313) : (رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه =(2/480)
ولأن طاعة الزوج واجبة، والعيادة غير واجبة، فلا يجوز ترك الواجب لما ليس بواجب، ولا يجوز لها الخروج إلا بإذنه، ولكن لا ينبغي للزوج منعها من عيادة والديها وزيارتهما لأن في ذلك قطيعة لهما، وحملًا لزوجته على مخالفته، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف، وإن كانت زوجته ذمية فله منعها من الخروج إلى الكنيسة لأن ذلك ليس بطاعة، ولا نفع، وإن كانت مسلمة، فقال القاضي: له منعها من الخروج إلى المساجد، وهو مذهب الشافعي، وظاهر الحديث يمنعه من منعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (1144) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعِشاء فى الجماعة في المسجد، فقيل لها - أي قال عمر -: " لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويَغار؟ "، قالت: " وما يمنعه أن ينهاني؟ "، قال: يمنعه قول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " (1145)) .
__________
= عصمة بن المتوكل، وهو ضعيف) اهـ. وقال الألباني حفظه الله: (أخرجه الطبراني في الأوسط " (1/169/2) من طريق عصمة بن المتوكل نا زافر عن سليمان عن ثابت البُناني عن أنس بن مالك به، وقال: " لم يروه عن زافر إلا عصمة"، قلت: وهو ضعيف، قال العقيلي في " الضعفاء" ص (325) : " قليل الضبط للحديث، يهم وهما"، وقال أبو عبد الله - يعني البخاري -: " لا أعرفه "، ثم ساق له حديثا مما أخطأ في متنه، وقال الذهبي: " هذا كذب على شعبة"، وشيخه - زافر- وهو ابن سليمان القهستاني- ضعيف أيضًا، قال الحافظ في " التقريب": " صدوق كثير الأوهام") اهـ من " إرواء الغليل " (7/76-77) رقم (2014) .
(1144) رواه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما البخاري في " الجمعة "، و " صفة الصلاة"، والنكاح، ومسلم رقم (442) ، في الصلاة، وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم (765) في الصلاة، والبغوي في " شرح السنة " (3/438) ، وصححه.
رواه البخاري (2/382) فتح - ط. السلفية في الجمعة: باب هل على من لم =(2/481)
وروي أن الزبير تزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت تخرج إلى المساجد، وكان غيورًا، فيقول لها: " لو صليت في بيتك؟ " فتقول: " لا أزال أخرج أو تمنعني "، فكره منعها لهذا الخبر (1146) ..) اهـ (1147) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) (1148) .
وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم " (1149) وفي رواية: " إذا استأذنوكم" (1150) .
__________
= يشهد الجمعة غسل؟
[والمرأة المذكورة هي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أخت سعيد بن زيد أحد العشرة، سماها الزهري فيما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه قال: (كانت عاتكة بنت زيد عند عمر بن الخطاب، وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: (والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا"، قالت: " والله لا أنتهي حتى تنهاني"، قال: " فلقد طُعِن عمر وإنها لفي المسجد ") كذا ذكره مرسلا] اهـ. من " فتح الباري " (2/383) .
(1146) انظر " الإصابة " (8/12-13) وفيه أن الذي كره منعها عمر رضي الله عنه كما في الأثر السابق، وأن الزبير كان يمنعها، (وقد ذكر أبو عمر في التمهيد أن عمر لما خطبها شرطت عليه أن لا يضربها ولا يمنعها من الحق ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيل عليها أن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مرت به ضرب على عَجيزتها، فلما رجعت قالت: إنا لله! فسد الناس! فلم تخرج بعد) اهـ نقلًا من " الإصابة" (8/12) .
(1147) "المغني" (7/20-21) .
(1148) أخرجه الشيخان كما تقدم آنفا برقم (1144) ، والنسائي - واللفظ له - (2/42) في المساجد.
(1149) رواه مسلم في الموضع المتقدم برقم (1144) .
(1150) قال النووي: (هكذا وقع في أكثر الأصول "استاذنوكم"، وفي بعضها =(2/482)
وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الأحاديث الواردة في ذلك ليس للايجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن، قالوا: هو لكراهة التنزيه لا للتحريم، قال ابن حجر: في فتح الباري": (وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجبا، لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذَن مخيرا في الإجابة أو الرد) (1151) اهـ.
وقال النووي في " شرح المهذب ": (فإن منعها لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، قال البيهقي: وبه قال عامة العلماء، ويجاب عن حديث: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، بأنه نهي تنزيه، لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة) (1152) اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في " المهذب": (وللزوج منع الزوجة من الخروج إلى المساجد وغيرها، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: " رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها أن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت: لعنها الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تتوب أو ترجع، قالت: يا رسول الله! وإِن كان لها ظالما؟ قال: وإن كان لها ظالما " (1153) ، ولأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه لما ليس بواجب،
__________
= " أستاذنكم"، وهذا ظاهر، والأول صحيح أيضا، وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور، والله أعلم) اهـ من " شرح النووي" (4/162) .
واعلم أن في هذه المسألة ومتعلقاتها بحثا طويل الذيل نورده إن شاء الله في القسم الرابع، من هذا الكتاب في باب " أحكام القرار في البيوت" يسر الله إتمامه. (1151) " فتح الباري" (2/348) .
(1152) "المجموع شرح المهذب" (4/95) ط. الشيخ زكريا علي يوسف رحمه الله تعالى.
(1153) رواه أبو داود الطيالسي بهذا اللفظ، والبيهقي، وقال العراقي في " المغني": =(2/483)
ويكره منعها من عيادة أبيها إذا أثقل، وحضور مواراته إذا مات (1154) ، لأن منعها من ذلك يؤدي إلى النفور، ويغريها بالعقوق) اهـ (1155) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن المرأة (إذا خرجت من داره بغير إذنه فلا نفقة لها ولا كسوة) (1156) ، وقال أيضا رحمه الله:
__________
= (وفيه ضعف) اهـ. ورواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما البزار (2/178) ، والطيالسي، وابن عساكر (7/368) ، وفيه حسين بن قيس المعروف بحنش، وهو ضعيف، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله ثقات، كما في " المجمع" (4/307) ، وعزاه المنذري إلى الطبراني في " الترغيب" (3/57-58) ، ولفظه: (أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله! أخبرني ما حق الزوج على الزوجة؟ فإني امرأة أيم، فإن استطعت، وإلا جلستُ أَيِّمًا "، قال: " فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر قتب لا تمنعه، وأن لا تصوم تطوعًا إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت، ولا يقبل منها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء، وملائكة الرحمة، وملائكة العذاب "، قالت: " لا جرم لا أتزوج أبدا ") ، وانظر " ضعيف الجامع " (3/100) ، (تخريج أحاديث الأحياء " رقم (1442) .
(1154) لكن قال صاحب المهذب في موضع آخر: (ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زُوارتِ القبور) اهـ " المجموع شرح المهذب" (5/280) ، وقد روى ابن ماجه، والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس، فقال: " ما يجلِسُكن؟ "، قلن: " ننتظر الجنازة "، قال: " هل تغسلن؟ " قلن: " لا"، قال: " هل تدلين فيمن يدلي؟، قلن: " لا "، قال: " فارجعن مأزورات غير مأجورات ") ، وروى الشيخان عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت) ، وفيه: (ونهانا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا) ، وذلك لأن خروجهن للمقابر مظنة وسبب لأمور محرمة من الجزع ونحوه، والله تعالى أعلم.
(1155) " المجموع شرح المهذب" (15/567- 570) .
(1156) " مجموع الفتاوى" (32/281) .(2/484)
(لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه، ولا يحل لأحد أن يأخذها إليه، ويحبسها عن زوجها، سواء كان ذلك لكونها مرضعا، أو لكونها قابلة، أو غير ذلك من الصناعات، وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله؛ ومستحقة للعقوبة) (1157) .
8- ومن حقه عليها: أن تحفظ ماله:
المرأة أمينة على مال زوجها، وما يودعه في البيت من نقد أو مؤنة أو غير ذلك، فلا يجوز لها أن تتصرف فيه بغير رضاه، وفي الحديث الشريف: " ... والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها " (1158) .
وقد أشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي تحنو على زوجها وتشفق عليه
وترعى ماله، فقال صلى الله عليه وسلم: " خير نساء ركبن الإبل صالحُ نساء قريش، أحناه على ولد في صِغره، وأرعاه على زوج في ذات يده " (1159) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيُّ النساء خير؟ "، قال: " التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره " (1160) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لها أن تُطْعِمَ من بيته إِلا بإذنه إلا الرطب من الطعام " الحديث، وفيه: " ولا تعطي من بيته شيئا إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك كان له الأجر، وعليها
__________
(1157) " السابق".
(1158) تقدم تَخريجه برقم (55) .
(1159) تقدم تخريجه برقم (429) .
(1160) عزاه في " مشكاة المصابيح" إلى النسائي، والبيهقي في " شعب الإيمان"، وقال الألباني في " تحقيق المشكاة": (وإسناده حسن) اهـ. (2/276) .(2/485)
الوزر" (1161) .
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: " لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها " قيل: " يا رسول الله! ولا الطعام؟ "، قال: " ذاك أفضل أموالنا ") (1162) .
وعن سعد قال: " لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مُضَر، قالت: (يا رسول الله إنا كَلُّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ "، قال: (الرَّطْبُ تأكلنه وتُهْدِينه " (1163)) .
قال البغوي رحمه الله: (" امرأة جليلة" قد يريد به الجسم، وقد يريد به كبير السن، وخص الطعام الرطب بالأكل لما جرت العادة بين الجيرة والأقارب أن يتهادوا بالرطب من الفواكه والبقول لسرعة الفساد إليها دون اليابس الذي يبقى على الادخار.
__________
(1161) رواه أبو داود الطيالسي، والبيهقي، قال الحافظ العراقي: " وفيه ضعف"، انظر: " تخريج أحاديث الإحياء " رقم (1442) ، (1447) ، و " إتحاف السادة المتقين" (5/405) .
(1162) أخرجه الترمذي رقم (670) في الزكاة: باب ما جاء في نفقة المرأة من بيت زوجها، وحسنه، وابن ماجه رقم (2295) ، وابن أبي شيبة (6/585) ، والبغوي في " شرح السنة" (6/204) ، والبيهقي (4/193) ، والإمام أحمد (5/267) ، وغيرهم، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب" رقم (935) ، و " صحيح ابن ماجه" (2/31) .
(1163) أخرجه أبو داود رقم (1686) في الزكاة: باب المرأة تتصدق من بيت زوجها،
والبغوي في " شرح السنة " (6/206) ، وقال محققه: (إسناده جيد) اهـ، وابن أبي شيبة (6/585) ، والحاكم (4/134) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.(2/486)
قال رحمه الله: وفي الجملة ليس لأحدهما أن يتناول من مال الآخر، ما يقع به الضنة دون إذنه) (1164) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: (المراد بالرطب: ما يتسارع إليه الفساد، فأذن فيه بخلاف غيره، ولو كان طعامًا، والله أعلم) (1165) اهـ.
وفي " شرح السنة ": (وقد روى عَن عطاء، عن أبي هريرة في المرأة تصدق من بيت زوجها، قال: " لا، إلا من قوتها والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه (1166) ، والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أن المرأة ليس لها أن تتصدق بشيء من مال الزوج دون إِذنه، وكذلك الخادمُ، ويأثمان إن فعلا ذلك) (1167) اهـ.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غيْر مفْسِدَة، كان لها أجرُها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا يُنقِصُ بعضُهم أجر بعض شيئًا " (1168)) .
قال البغوي رحمه الله: (وحديث عائشة خارج على عادة أهل الحجاز أنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في الإنفاق والتصدق مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل، أو نزل بهم الضيف، فحضهم على لزوم تلك العادة،
__________
(1164) "شرح السنة" (6/206) .
(1165) "فتح الباري" (9/297) ط. السلفية.
(1166) رواه أبو داود رقم (1688) في الزكاة، وفيه عنعنة ابن جريج، وباقي رجاله ثقات.
(1167) "شرح السنة" (6/205) .
(1168) رواه البخاري (3/240) في الزكاة: باب أجر المرأة إذا تصدقت..، وفي البيوع، ومسلم رقم (1024) في الزكاة: باب أجر الخازن الأمين..، وأبو داود رقم (1685) ، والترمذي رقم (671) ، (672) ، والنسائي (5/65) .(2/487)
كما قال لأسماء: " لا توعي فيوعى عليك " وعلى هذا يخرج ما روي عن عمير مولى آبي اللحم قال: كنت مملوكًا، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصدق من مال مَوالِي بشيء؟ قال: " نعم، والأجر بينكما نصفان " (1169) اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فله نصف الأجر " (1170) .
وتقييده بقوله: " من غير أمره " قال النووي رحمه الله: (معناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره، وذلك الإذن الذي قد " ... " (*) سابقًا إما بالصريح وإما بالعرف، ولابد من هذا التأويل لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة، وفي رواية أبي داود: " فلها نصف أجره، ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر، فتعين تأويله) ، ثم قال: (واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلَم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة " فأشار إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة) قال: (ونبه بالطعام أيضا على ذلك لأنه يسْمَحُ به في العادة، بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس، وفي كثير من الأحوال) (1171) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (ويحتمل أن يكون المراد بالتصنيف في حديث الباب الحمل على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة
__________
(1169) رواه مسلم رقم (1025) في الزكاة: باب ما أنفق العبد من مال مولاه. (1170) رواه البخاري (4/255) في البيوع: باب قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) وفي النفقات، ومسلم رقم (1026) في الزكاة: باب أجر الخازن الأمين، وأبو داود رقم (1687) ، في الزكاة. (*) بياض بالأصل.
(1171) " شرح النووي" (7/112 - 113) .(2/488)
المرأة، فإذا أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما: للرجل لكونه الأصل في اكتسابه، ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله كما ثبت من حديث سعد ابن أبي وقاص وغيره، وللمرأة لكونه من النفقة التي تختص بها، ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه أبو داود عقب حديث أبي هريرة هذا قال في المرأة تصدق من بيت زوجها؟ قال: " لا، إلا من قُوتِها، والأجر بينهما "، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه) (1172) اهـ.
هل للمرأة حرية التصرف في مالها بدون إذن زوجها؟
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها " (1173) ، وقد ورد الحديث نفسه بلفظ: " لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عِصمتها " (1174) .
وعن عبد الله بن يحيى الأنصاري - رجل من ولد كعب بن مالك - عن أبيه عن جده: (أن جدته خيرة امرأة كعب بن مالك أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلي لها، فقالت: " إني تصدقت بهذا"، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها، فهل استأذنتِ كعبًا؟ "، قالت: " نعم"، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك، فقال: " هل أذنت
__________
(1172) " فتح الباري" (9/297) ط. السلفية.
(1173) رواه الإمام أحمد رقم (6681) ، والطيالسي (2267) ، وأبو داود رقم (3547) في البيوع، والنسائي (5/65، 66) في الزكاة، (6/278) في العمرى، والبيهقي (6/278) ، وصححه العلامة أحمد شاكر في " تحقيق المسند" (11/17) .
(1174) رواه الإمام أحمد رقم (7058) ، وأبو داود رقم (3546) في البيوع، النسائي (6/278) بلفظ " هبة " بدل " أمر "، والحاكم (2/47) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (6/60) ، وصححه العلامة أحمد شاكر رحمه الله في "تحقيق المسند" (12/17-18) .(2/489)
لخيرة أن تتصدق بحُلِيها؟ " فقال: " نعم "، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها) (1175) .
قال الخطابي في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها ": (عند أكثر الفقهاء هذا على معنى حسن العشرة، واستطابة نفس الزوج بذلك، إلا أن مالك بن أنس قال: " تَرُدُ ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج "، وقد يحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيدة، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء: " تصدقن "، فجعلت المرأة تلقى القرط والخاتم، وبلال يتلقاها بكسائه (1176) ، وهذه عطية بغير إذن أزواجهن) (1177) انتهى.
وقال السندي رحمه الله: (ونقل عن الشافعي أن الحديث ليس بثابت، وكيف نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم السنة ثم الأثر ثم المعقول؟ ويمكن أن يكون هذا في موضع الاختيار مثل: " ليس لها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه " فإن فعلت جاز صومها، وإن خرجت بغير إذنه فباعت، جاز بيعها، وقد أعتقت ميمونة قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب ذلك عليها، فدل هذا مع غيره على أن هذا الحديث إن ثبت فهو محمول على الأدب والاختيار.
وقال البيهقي: إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شعيب صحيح، فمن
__________
(1175) رواه ابن ماجه رقم (2389) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/403) ، قال الطحاوي: "حديث شاذ لا يثبت"، وقال ابن عبد البر: (إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة "، وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجه" رقم (1935) .
(1176) انظر تخريجه في " القسم الثالث " ص (356) .
(1177) نقله عنه في " عون المعبود " (9/463) .(2/490)
أثبت عمرو بن شعيب لزمه إثبات هذا إلا أن الأحاديث المعارضة له أصح إسنادًا، وفيها وفي الآيات التي احتج بها الشافعي دلالة على نفوذ تصرفها في مالها دون الزوج، فيكون حديث عمرو بن شعيب محمولا على الأدب والاختيار، كما أشار إليه الشافعي، والله تعالى أعلم) (1178) اهـ.
وقال الشوكاني رحمه الله معلقًا على نفس الحديث:
(وقد استدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز للمرأة أن تعطي عطية من مالها بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدة، وقد اختُلِفَ في ذلك: - فقال الليث: لا يجوز لها ذلك مطلقًا لا في الثلث، ولا فيما دونه إلا في الشيء التافه.
- وقال طاوس ومالك: إنه يجوز لها أن تعطي مالها بغير إذنه في الثلث لا فيما فوقه، فلا يجوز إلا بإذنه.
- وذهب الجمهور إلى أنه يجوز لها مطلقا من غير إذن من الزوج إِذا لم تكن سفيهة، فإن كانت سفيهة لم يجز، قال في " الفتح ": " وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة " انتهى.
وقد استدل البخاري في صحيحه على جواز ذلك بأحاديث ذكرها في باب هبة المرأة لغير زوجها من كتاب الهبة، ومن جملة أدلة الجمهور حديث جابر (1179) المذكور قبل هذا، وحملوا حديث الباب على ما إذا كانت سفيهة غير رشيدة، وحمل مالك أدلة الجمهور على الشيء اليسير، وجعل حَده الثلثَ فما دونه.
ومن جملة أدلة الجمهور الأحاديث المتقدمة في أول الباب (1180)
__________
(1178) "حاشية السندي على سنن النسائي" (6/279) .
(1179) تقدمت الإشارة إليه آنفا برقم (1176) .
(1180) الإشارة هنا إلى نفس الأحاديث المتقدمة بالأرقام (1163) ، (1168) ، =(2/491)
القاضية بأنه يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه، وإذا جاز لها ذلك في ماله بغير إذنه، فبالأولى الجواز في مالها؛ والأولى أن يقال: " يتعين الأخذ بعموم حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وما ورد من الواقعات المخالفة له تكون مقصورة على مواردها، أو مخصصة لمثل من وقعت له من هذا العموم، وأما مجرد الاحتمالات فليست مما تقوم به حجة " (1181) اهـ.
وبنحو هذا الذي رجحه الشوكاني رحمه الله قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في" سلسلة الأحاديث الصحيحة" معلقًا على حديث وائلة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس للمرأة أن تنتهك شيئًا من مالها إلا بإذن زوجها " (1182) :
(وهذا الحديث رقم (775) ، وما أشرنا إليه مما في معناه يدل على أن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف بمالها الخاص بها إِلا بإذن زوجها، وذلك من تمام القوامة التي جعلها ربنا تبارك وتعالى له عليها، ولكن لا ينبغي للزوج - إذا كان مسلمًا صادقًا - أن يستغل هذا الحكم، فيتجبر على زوجته، ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا ضير عليهما منه، وما أشبه هذا الحق بحق ولي البنت التي لا يجوز لها أن تزوج نفسها بدون إذن وليها، فإذا أعضلها رفعت الأمر إلى القاضي الشرعي لينصفها، وكذلك الحكم في مال المرأة إذا جار عليها زوجها، فمنعها من التصرف الشروع في مالها، فالقاضي ينصفها أيضًا، فلا إشكال على الحكم نفسه، وإنما الإشكال في سوء التصرف به، فتأمل) (1183) اهـ.
__________
= (1169) ، (1170) .
(1181) "نيل الأوطار" (6/22)
(1182) عزاه الألباني في " الصحيحة " رقم (775) إلى تمام في" الفوائد "، وعزاه السيوطي للطبراني في " الكبير"، وقال المناوي: (قال الهيثمي: وفيه جماعة لم أعرفهم) اهـ، وصححه الألباني لشواهده.
(1183) " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (2/338) حديث رقم (775) ، وانظر: =(2/492)
9- ومن حقه عليها أن لا تطالبه مما وراء الحاجة، وما هو فوق طاقته، فترهقه من أمره عسرًا، بل عليها أن تتحلى بالقناعة، والرضى بما قسم الله لها من الخير.
فيجب على الزوجة أن تقدر طاقة زوجها المالية، وتقتصد في ماله، فلا تهدره بطرًا وبغير حق، ولا ترهقه بطلباتها غير الضرورية من متاع الدنيا خصوصا إذا فاقت إمكاناته، فذلك يزعجه ويؤلمه، لأنه لا يستطيع تحقيق هذه المطالب، ويعز عليه أن يظهر أمام زوجته بمظهر العاجز الذي لا يملك تنفيذ ما تطلب.
وعليها أذ تصحب زوجها بالقناعة، فلا تتطلع إلى ما عند الغير، ولا تحاكي أترابها من نساء الأقارب والجيران والمعارف في اقتناء الكماليات، بل عليها أن توجه مال الله للبذل في سبيل الله عز وجل ليكون رصيدًا لهما يوم القيامة.
وعليها أن تتأسى بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقد كانت حياتهن كفافًا، وربما خلت بيوتهن من الطعام، ولقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا من الضوابط ما يأخذ نفوسنا بالقناعة، حين أمرنا أن ننظر إلى من هو أقل منا عيشا، وأضيق رزقا، لأن ذلك يبعثنا على شكر النعمة التي غمرنا الله بها، ويُقَوي فينا الشعور بالرضا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم " (1184) ، وهذا في حظوظ الدنيا، أما في الدين فإن المسلمة مأمورة بعلو الهمة، والتنافس في الخيرات، والاجتهاد في الصعود إلى مستوى من هو أرقى وأرفع منزلة، وهل في عالم
__________
= " فيض القدير " (5/378) .
(1184) انظر تخريجه في " القسم الثالث " ص (173-174) .(2/493)
النساء منذ خلقه الله إلى اليوم مَن تُسامي أمهات المؤمنين وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المهاجرين والأنصار، هيهات هيهات، ومع ذلك كانت حياتهن كفافًا، وربما خلت بيوتهن من الطعام.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم (1185) .
وعن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار "، قلت: يا خالة، فما كان يُعيشُكم؟ قالت: " الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح (1186) ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه " (1187) .
قال فضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله:
(إن القناعة سبب السعادة.. فالغنى غنى النفس.. وإذا ترك المرء نفسه على سجيتها لا يشبعها شيء، كما قال الهذلي:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وكما قال البوصيري:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو أن لابن آدم واديًا من ذهب لتمنى أن يكون له اثنان ولن يملأ
__________
(1185) رواه البخاري (9/549) ط. السلفية في الأطعمة، والرقاق (11/282) ، ومسلم واللفظ له رقم (2970) في الزهد.
(1186) منايح: جمع منيحة: وهى الشاة والناقة يعطيها صاحبها، يُشرَب لبنُها، ثم يردها.
(1187) رواه البخاري (11/283) في الرقاق، ومسلم رقم (2972) في الزهد.(2/494)
عينه إلا التراب ويتوب الله على من تاب " (1188) .
ومن هنا أشار رسول الله إلى أن الإنسان الذي ينظر إلى من كان فوقه في الدنيا يزدرى نعمة الله عليه.
وقال بعض الصالحين: " يا ابن آدم إذا سلكت سبيل القناعة فأقل شيء يكفيك، وإلّا فإن الدنيا وما فيها لا تكفيك ".
إن القناعة تضفي على النفس الرضى والسعادة والطمأنينة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارض بما قسم الله لك تكن أسعدَ الناس (1189) .
ولقد قال الله تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: (ولا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) (طه: 131) .
وقال تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليمًا (النساء: 32) في هذه الآية نهي عن التمني، وتبيان للنهج السليم، وهو أن يسأل الله من فضله، فخزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا حد له.
وقد قصَّ علينا القرآن الكريم قصة قارون، وهي قصة مليئة بالمواعظ
__________
(1188) رواه بنحوه البخاري (6439) في الرقاق: باب ما يتقى من فتنة المال، ومسلم رقم (1048) في الزكاة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(1189) رواه بنحوه الترمذي رقم (2305) وقال: (حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئا) ، والطبراني في " الصغير" (2/104) ، والإمام أحمد (2/310) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الألباني في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر" رقم (17) ص (20) .(2/495)
والدروس النافعات:
(فخرج على قومه في زينته. قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا، ولا يلقاها إلا الصابرون. فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون: ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لولا أن منِّ الله علينا لخسف بنا، ويكأنه لا يفلح الكافرون) (القصص: 79 - 82) .
فلندع المقارنات والموازنات الفارغة، ولنرض بما قسم الله لنا بعد أن نستفرغ الجهد ونبذل الطاقة في تحصيل ما كتب الله لنا من الرزق الحلال، ففي ذلك سعادتنا في الدنيا ونجاتنا في الآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين) (1190) اهـ.
إن المرأة في هذا العصر - إلا من رحم الله - قد راحت تعبد المظاهر، وتستهويها الزخارف، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلق النساء بالمظاهر والزينة من حرير وحُلي سبب للهلاك في الدنيا والآخرة:
أما في الدنيا: فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبة فأطالها، وذكر فيها أمر الدنيا والآخرة، فذكر أن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصيغ - أو قال: من الصِّيغة - ما تُكلِّف امرأة الغني) (1191) الحديث.
وأما في الآخرة: فإن انشغال المرأة بالحرير والذهب عن طاعة ربها
__________
(1190) " نظرات في الأسرة المسلمة" بتصرف ص (112-114) .
(1191) رواه ابن خزيمة في " التوحيد" ص (208) ، وقال الألباني: " إسناده صحيح على شرط مسلم " في السلسلة الصحيحة " رقم (591) .(2/496)
يعوقها عن السمو إلى المنازل العليا في الجنة.
يروى عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتُ أني دخلت الجنة فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين، وإذا ليس فيها أحد أقل من الأغنياء والنساء، فقيل لي: أما الأغنياء فإنهم على الباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الأحمران: الذهب والحرير " (1192) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر " (1193) ، ومع أنه صلى الله عليه وسلم أباح الذهب والحرير للنساء غير أنه صلى الله عليه وسلم: " كان يمنع أهله الحلية، والحرير، ويقول: " إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها، فلا تلبسوها في الدنيا " (1194) ، ولعل ذلك مخصوص بهن ليؤثروا الآخرة على الدنيا.
10- ومن حقه عليها أن تشكر له ما يجلب لها من طعام وشراب وثياب وغير ذلك مما هو في قدرته، وتدعو له بالعِوض والإخلاف، ولا تكفر نعمته عليها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1192) عزاه في " الترغيب والترهيب" إلى أبي الشيخ ابن حبان وغيره من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه (3/101) .
(1193) أخرجه ابن حبان (1464) ، والديلمي في " الفردوس " (5/115) ، وقال الألباني في " الصحيحة" رقم (339) : (وهذا إسناد جيد) اهـ. ونقل المناوي في " الفيض" عن "مسند الفردوس": (يعني يتحلين بحلي الذهب، ويلبسن الثياب المزعفرة، ويتبرجن متعطرات متبخترات كأكثر نساء زماننا، فيفتن بهن) اهـ (6/368) .
(1194) أخرجه النسائي (8/156) ، وابن حبان (1463) ، والحاكم (4/191) ، والإمام أحمد (4/145) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (338) .(2/497)
" لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه " (1195) .
إن مجرد تناسي الزوجة فضل زوجها وجحوده، قد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرَا، وجعله الله سببا لدخول فاعلته نار جهنم: فعن أسماء ابنة زيد الأنصارية رضي الله عنها قالت: (مرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في جوار أتراب لي، فسلم علينا، وقال: " إياكُن وكُفْرَ المنعمين "، فقلت: يا رسول الله وما كفر المنعَّمين؟ " قال: " لعل إحداكن تطولُ أيمَتُها من أبويها، ثم يرزقها الله زوجًا، ويرزقها منه ولدا، فتغضب الغضبة فتكفر، فتقول: مارأيت منكَ خيرًا قط " (1196) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء: " يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار "، فقلن: " وبم ذلك يا رسول الله؟ "، قال: " تكثرن اللعن، وتكفرن العشير " (1197) الحديث.
11- ومن حقه عليها: خدمته، وتدبير المنزل، وتهيئة أسباب المعيشة به:
من طبخ وكنس وفرش وتنظيف للأواني، وذلك لتدع للرجل فرصة
__________
(1195) قال المنذرى: (رواه النسائي والبزار بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد" اهـ (3/78) ، وقال الهيثمي: (رواه البزار بإسنادين والطبراني وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح) اهـ (4/309) ، وقد صححه الإمام عبد الحق الأشبيلي بسكوته عليه في " الأحكام الكبرى" وإيراده إياه في " الأحكام الصغرى" التي خصها بالحديث الصحيح - وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة، رقم (289) .
(1196) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (1048) ، وقال الألباني: " إسناده جيد" كما في " الصحيحة" رقم (823) .
(1197) أخرجه البخاري (3/325) ط. السلفية في الزكاة: باب الزكاة على الأقارب، والعشير: الزوج المعاشر.(2/498)
للعلم والعمل، فإن المرأة الصالحة عون على الدين بهذه الطريق، ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: " الزوجة الصالحة ليست من الدنيا، فإنها تفرغك للآخرة " (1198) .
وعن حصين بن محصن قال: (حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة، فقال: " أي هذه! أذاتُ بعل "؟ قلت: " نعم"، قال: " كيف أنت له؟ " قلت: " ما آلوه (1999) إلا ما عجزت عنه "، قال: " فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك " (1200) .
قال محدث الشام ناصر الدين الألباني: (قلت، والحديث ظاهر الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وخدمتها إياه في حدود استطاعتها، ومما لا شك فيه أن من أول ما يدخل في ذلك الخدمة في منزله، وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك) (1201) اهـ.
وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: (دخلت أيم العرب على سيد المسلمين صلى الله عليه وسلم أول العشاء عَروسا، وقامت آخِرَ الليل تطحن - يعنى: أم سلمة) (1202) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زفوا امرأة إلى زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه " (1203) .
__________
(1198) "الإحياء" (4/699) .
(1199) ما آلوه: أي لا أقصر في طاعته وخدمنه.
(1200) تقدم برقم (1042) .
(1201) انظر: "آداب الزفاف" ص (286) .
(1202) " سير أعلام النبلاء" (2/205)
(1203) راجع رقم (1039) ، وانظر: "المرأة المسلمة" لوهبي غاوجي ص (150) .(2/499)
(قال عَلىُّ عليه السلام: لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونضعه على الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها، ولما زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل بي معها بخميلة ووسادة آدم حشوها ليف، ورحاءين وسقاء وجرتين، فَجَرت بالرحاء حتى أثرت في يدها، واستقت بالقِربة حتى أثرت القربة بنحرها، وَقَمَّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القِدر حتى دنست ثيابها (1204) .
وعن أبي البَختَرِي قال علي رضي الله عنه لأمه: " اكفى فاطمة الخدمة خارجًا، وتكفيكِ هي العملَ في البيت، والعَجْن والخبز والطحن " (1205) .
وعن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوَّج فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف، ورحاءين، وسقاءين، قال: فقال علي لفاطمة يومَا: " لقد سنوت (1206) حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله بسبي، فاذهبي، فاستخدمي"، فقالت: " وأنا والله، قد طحنت حتى مجلت (1207) يداي "، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما جاء بك أي بنية،؟ فقالت: " جئت لأسَلمَ عليك"، واستحيت أن تسأله، ورجعت، فأتياه جميعًا فذكر له عليٌّ حالهما، قال: " لا والله، لا أعطيكما، وأدعُ أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيع وأنفق عليهم أثمانهم "، فرجعا، فأتاهما وقد دخلا قطيفتهما، إذا غطيا رؤوسهما بدت "أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رؤوسهما، فثارا،
__________
(1204) "أحكام النساء" لابن الجوزي ص (124) .
(1205) " سير أعلام النبلاء" (2/125) .
(1206) سنوت الدلو: إذا جررتها من البئر.
(1207) مجلت يدها: ثخن جلدها، وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة.(2/500)
فقال: " مكانكما ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ " فقالا: " بلى"، فقال: " كلمات علمنيهن جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما فَسَبِّحا ثلاًثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين "، قال علي: " فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن "، وقال له ابن الكواء: " ولا ليلة صفين؟ " فقال: " قاتلكم الله يا أهل الطروق، ولا ليلة صفين " (1208) .
قال ابن حبيب في" الواضحة": (حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم عَلَى فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت، وحكم على عَلِيٍّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة: العجين، والطبخ، والفرش، وكنس البيت، واستقاء الماء، وعمل البيت كله) (1209) .
وقال ابن حجر: قال الطبري: (يؤخذ من حديث عليّ رضي الله عنه في شكوى فاطمه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها من خبز وطحن وغير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفا أن مِثلها يلي ذلك بنفسه، ووجه الأخذ أن فاطمة لما سألت أباها الخادم فلم يأمر زوجها أن يكفيها ذلك إما بإخدامها بخادم أو باستئجار من يقوم بذلك، أو يتعاطى ذلك بنفسه، ولو كانت على الزوج لأمره به، كما أمره أن يسوق الصداق قبل الدخول) (1210) اهـ.
__________
(1208) أخرجه البخاري (7/71) في فضائل الصحابة: باب مناقب علي بن أبي طالب، وفي فرض الخمس (6/215) ، والنفقات (9/506) ، والدعوات (11/119) ، ومسلم (2727) في الذكر والدعاء: باب التسبيح أول النهار وعند النوم، وانظر: " الإصابة " (8/58-59) .
(1209) نقله عنه في " زاد المعاد" (5/186) .
(1210) "فتح الباري" (9/506 - 507) .(2/501)
وعن أسماء رضيِ الله عنها أنها قالت: (كنت أخدم الزبير خدمة البيت كُله، وكان له فرَس، وكنت أسُوسُه، وكنت أحتَش له، وأقوم عليه) (1211) .
وعنها رضي الله عنها: (أنها كانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتَخْرِز الدلوَ، وتَعجِن، وتنقُل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ) (1212) .
وقالت رضي الله عنها: (تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا شيء غير فرسه وناضحه (1213) ، فكنت أعلف فرسه، - زاد مسلم: وأسوسه - وأدق النوى لناضحه، وأستقي الماء وأخرز غربه (1214) ، وأعجن، وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ (1215) ، حتى أرسل إلي أبو بكر بجارية، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني، فجئت يومًا والنوى على رأسي، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إخ، إخ، يستنيخ ناقته ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، - وكان أغير الناس- فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فجئت الزبير فحكيت له ما جرى، فقال: والله لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه صلى الله عليه وسلم) (1216) .
__________
(1211) أخرجه الإمام أحمد في " المسند" (6/352) ، وصححه ابن القيم في " الزاد" (5/187) .
(1212) أخرجه الإمام أحمد في " المسند" (6/347) ، وصححه ابن القيم في " الزاد " (5/187) .
(1213) أي بعيره الذي يستقي عليه.
(1214) أي: أخيط دلوه بالخرز.
(1215) والفرسخ: ثلاثة أميال، وثلثاه: 36 و 3 كم.
(1216) رواه البخاري (9/ 281، 282) ، ومسلم (2182) ، وابن سعد في "الطبقات" (8/250) ، والإمام أحمد (6/347، 352) .(2/502)
وقد اختلف العلماء في حكم خدمة المرأة زوجها، وحقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى" فقال: (وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب، والخبز والطحن لمماليكه وبهائمه مثل علف دابته ونحو ذلك؟
فمنهم من قال: لا تجب الخدمة، وهذا ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء! فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن، إن لم يعاونه على مصلحته لم يكن قد عاشره بالمعروف، وقيل- وهو الصواب - وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها في كتاب الله - وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العاني والعبد الخدمة، لأن ذلك هو المعروف.
ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة) (1217) اهـ.
قال الألباني حفظه الله معقبًا على كلام شيخ الإسلام رحمه الله: قلت: (وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى أنه يجب على المرأة خدمة البيت، وهو قول مالك وأصبغ، كما في " الفتح" (9/418) ، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وكذا الجوزجاني من الحنابلة كما في " الاختيارات" ص (145) ، وطائفة من السلف والخلف كما في " الزاد" (4/46) ، ولم نجد لمن قال بعدم الوجوب دليلا صالحًا، وقول بعضهم: "إن عقد النكاح
__________
(1217) انظر " الفتاوى الكبرى" (34/90) ، (32/260) ، (28/384) .(2/503)
إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام " مردود بأن الاستمتاع حاصل للمرأة أيضًا بزوجها فهما متساويان في هذه الناحية، ومن المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أوجب على الزوج شيئا آخر لزوجته ألا وهو نفقتها وكسوتها ومسكنها، فالعدل يقتضي أن يجب عليها مقابل ذلك شيء آخر أيضا لزوجها، وما هو إلا خدمتها إياه، سيما وهو القوام عليها بنص القرآن الكريم كما سبق، وإذا لم تقم هي بالخدمة فسيضطر هو إلى خدمتها في بيتها، وهذا يجعلها هي القوامة عليه، وهو عكس للآية القرآنية كما لا يخفى، فثبت أنه لابد لها من خدمته، وهذا هو المراد، وأيضًا: فإن قيام الرجل بالخدمة يؤدي إلى أمرين متباينين تمام التباين: أن ينشغل الرجل بالخدمة عن السعي وراء الرزق وغير ذلك من المصالح، وتبقى المرأة في بيتها عطًلا عن أي عمل يجب عليها القيام به، ولا يخفى فساد هذا في الشريعة، التي سوت بين الزوجين في الحقوق، بل وفضلت الرجل عليها درجة، ولهذا لم يُزِل رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى ابنته فاطمة علبها السلام) (1218) اهـ.
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى مؤيدًا القول بالوجوب:
(وأيضا فإن العقود المطلقة إنما تنزَل على العرف، والعُرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلة، وقولهم: " إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعًا وإحسانًا "، يردُّه أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى مِن الخدمة، فلم يقل لعلي: " لا خدمة عليها، وإنما هي عليك "، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدًا، ولما رأى أسماء والعلفُ على رأسها، والزبيرُ معه، لم يقل له: لا خدمةَ عليها، وأن هذا ظلمٌ لها، بل أقرَّه على استخدامها، وأقَرَّ سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية،
__________
(1218) "آداب الزفاف" ص (288-289) .(2/504)
هذا أمر لا ريب فيه.
ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدِم زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يُشكِها، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانيةً، فقال: " اتقوا الله في النساء، فإنهن عَوان عندكم "، والعاني: الأسير، ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده، ولا ريب أن النكاح نوع من الرق، كما قال بعض السلف: النكاح رِق، فلينظر أحدكم عند مَن يُرِق كريمته، ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين) (1219) اهـ.
__________
(1219) " زاد المعاد" (5/188 - 189) .(2/505)
[فصل] (1220)
في علاقة الابن بوالديه بعد الزواج
وعلاقة الحماة بالكَنَّة (1221)
(وما يذكره بعضهم من الخلاف اللازم بين
الحماة والكَنة فأمر مبالغ فيه، وما يقع في
تلك الأسرة من بعض خلاف فشيء طبيعي بين
عاطفتين، وبين كبير وصغير، وبين تعجل
وحلم، ولكن حين يتوفر أدب الإسلام في
أفراد الأسرة، ويعرف كل فرد في الأسرة
حقه وواجبه، فإن الحياة تسير رضية سعيدة
في أغلب الأحيان، والله أعلم) (1222) .
1- من حق الزوج على زوجه: أن تبر أهلَه مِنْ والِدين وأخوات: - إن من أدب الإسلام أن تؤثر الزوجة رضى زوجها على رضي نفسها، وأن تكرم قرابته خصوصا والديه، ويتأكد هذا إذا كانت تقيم معهما، وفي إكرامهم إكرام لزوجها، ووفاء له، وإحسان إليه، لأنه مما يفرحه، ويؤنسه، ويقوي رابطة الزوجية، وآصرة الرحمة والمودة بينهما.
__________
(1220) استفدت كثيرا من فقرات هذا الفصل من " نظرات في الأسرة المسلمة" للدكتور محمد الصباغ، بتصرف.
(1221) الكَنة: امرأة الابن.
(1222) " المرأة المسلمة" للشيخ وهبي غاوجي ص (153) .(2/506)
- وإذا كان الزوج أعظم حقا على المرأة من والديها، وإذا كان الابن مأمورا شرعًا بأن يحفظ وُد أبيه (1223) تقوية للرابطة الاجتماعية في الأمة، فإن الزوجة مأمورة شرعًا بأن تحفظ ود أهلِ زوجها من باب أولى لتقوية رابطة الزوجية في الأسرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يحفظ الرجل أهل ود أبيه " (1224) فلأن تحفظ المرأة أهل ود زوجها من باب أولى.
- كما أن إكرام الزوجة إياهما وهما في سن والديها خلق إسلامي أصيل: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرف لعالمِنا حَقَّه " (1225) ، وعن ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا " (1226) ، وعن أنس وأسامة والأشعث رضي الله عنهم مرفوعًا: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا " (1227) .
- وفي إحسانها لوالديه شكر لهما على ما أنعم الله عليها من ولدهما الذي تسببا في وجوده من العدم، وربياه، فأصبح زوجا لها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يشكر الناس لا
__________
(1223) راجع ص (170 - 171) .
(1224) تقدم برقم (386) .
(1225) رواه الإمام أحمد (5/323) ، والحاكم (1/122) ، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب" (96) .
(1226) رواه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (354) ، والترمذي رقم (1920) ، وقال: " حسن صحيح"، والحاكم (1/62) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/185، 207، 222) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (5/103) .
(1227) رواه الترمذي رقم (1919) ، وقال: " غريب"، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (5/103) .(2/507)
يشكر الله " (1228) الحديث، وعن ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم مرفوعَا: " أشكرُ الناس لله أشكرهم للناس " (1229) . يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله:
(إن على الزوجة الفاضلة أن لا تنسى منذ البداية أن هذه المرأة التي قد تشعر أنها منافسة لها في زوجها، هي أم هذا الزوج، وأنه لا يستطيع مهما تبلَّد فيه إحساس البر أن يقبل إهانة توجه إليها، فإنها أمه التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وأمدته بالغذاء من لبنها، ووقفت على الاهتمام به حياتها حتى أصبح رجلًا سويا.
- واعلمي أيتها الزوجة أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك، كما أنك أنت أيضًا تحبين أهلك أكثر من أهله، فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله أو انتقاصهم أو أذيته فيهم، فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك.
إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترامه، وإن لم يقابل الزوج ذلك بادئ الأمر بشيء، فلن يسلم حبه إياها من الخدش والنقص والتكدير.
إِن الرجل الذي يحب أهله ويبر والديه إنسان صالح فاضل جدير بأن تحترمه زوجته، وترجو فيه الخير) (1230) .
__________
(1228) رواه الإمام أحمد (3/73 - 74) ، والترمذي رقم (1954) ، (1955) ، وقال: " حسن صحيح"، وصححه الألباني في " تحقيق المشكاة" حديث رقم (3025) (2/911) .
(1229) رواه الإمام أحمد (3/32) ، (5/211) ، وابن عدي في " الكامل" (5/794) ، والبيهقي (6/182) ، والطبراني (1/135) ، (1/207) ، والحديث صححه الألباني في " صحيح الجامع" (1/337) .
(1230) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (87 - 88) بتصرف.(2/508)
ثم يقول في موضع آخر مخاطبا الزوج:
(إن ما تقدم من والديك من إكرام وعناية وإحسان إليك، يجب أن يقابل منك بالعرفان والمكافأة، لقد تعهداك بالرعاية والخدمة وأنت ضعيف لا تملك من أمر نفسك شيئًا، وأنفقا عليك، وَحَرَما أنفسهما من أجلك، وسهرا على شئونك، وتعبا من أجل راحتك، أفلا يجدر بك إن كنت من أهل الخير والمروءة أن تقابل ذلك بعرفان وإحسان؟ و (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟
والأم ينبغي أن تُقَدَّمَ في البر لضعفها، ولذلك وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات قبل الأب، ثم وصى بالأب، ومما يعينك على تحقيق البر في حياتك أن تضع نفسك في محل أبيك وأمك ... فهل يَسُرُّك غدًا عندما يصيبك الكبر، ويهن العظم منك، ويشتعل رأسك شيبا أن تلقى من ابنك المعاملة السيئة والإهمال القاسي والإهانة الجارحة؟
أو ما علمت يا أخي أن الأيام دُوَل وأن الزمان لا يبقى على حالة واحدة (وتلك الأيام نداولها بين الناس) فلا تغتر بشبابك وقوتك ومالك، فسرعان ما يلقاك المشيب، ويعتريك الضعف، ويزول عنك المال، وقد يكون مقدرًا للإنسان أن يكون في آخر عمره مُقْعَدًا، فليتصور هذا الإنسان أنه - وهو في هذه الحالة من العجز - قوبل بالعقوق والجفوة من ابنه بسبب إيثاره زوجته ماذا يكون شعوره في ذاك الوقت وهو على ما ذكرنا؟ تصور هذا يا أخي وأنت تعامل والديك فهذا مما يعينك على تحقيق البر في حياتك) (1231) اهـ.
(إن عقوق الرجل والديه دمار عليه وعلى زوجته وأولاده، لأن
__________
(1231) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (102 - 103) .(2/509)
العقوق من المعاصي التي تعجل عقوبتها في الدنيا:
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين " (1232) ، وعن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: " بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي، والعقوق) (1233) ، وما يشير إليه الحديث أمر مشاهد ينطق به الواقع العملي، وإن من عدل الله تبارك وتعالى وسننه الماضية أن العقوبة عنده تكون من جنس العمل المستوجب لها، فإن أساءت المرأة معاملة والدي زوجها فقد تعاقب- حين تهرم وتشيخ- بأن يقيض الله لها من كَناتها- أي زوجات أولادها- من يسيء معاملتها جزاءً وفاقًا) (1234) اهـ.
وليس من شك في أن الزوجة الصالحة العاقلة، الخيرة الطيبة تكون عونا لزوجها على الخير، وتوصيه بالتزام حكم الشرع وآدابه، وتحرضه على زيادة بر والديه وإكرامهما:
حكى الإمام أبو الفرج بن الجوزي عن عابدة: كانت تصلي بالليل لا تستريح، وكانت تقول لزوجها: " قمْ ويحك! إلى متى تنام؟ قم يا غافل قم يا بطَّال، إِلى متى أنت في غفلتك؟ أقسمت عليك ألا تكسب معيشتك إلا من حلال، أقسمت عليك أن لا تدخل النار من أجلي، بِر أمكَ، صل رحمك، لا تقطعهم، فيقطع الله بك " (1235) .
__________
(1232) عزاه في " الجامع الصغير" إلى البخاري في " التاريخ"، والطبراني في الكبير، كما في "فيض القدير" (1/151) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (1/99) .
(1233) أخرجه الحاكم (4/177) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وأحمد (5/36) ، وصححه الألباني على شرط مسلم، كما في " الصحيحة" رقم (1120) .
(1234) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (88) بتصرف.
(1235) "صفة الصفوة" (4/437) .(2/510)
(إن الرجل الذي لا خير فيه لأبويه لا يمكن أن يكون فيه خير لزوجة ولا ولد ولا لأحد من الناس في هذا الوجود، إن موقف الزوجة الصالحة في إعانته على البر كفيل في كثير من الأحيان في حل المشكلة وتسوية الأزمة، لأن الوالدين عندما يشهدان الحب الصادق والاحترام والحنان من زوجة ابنهما يعطفان عليها وعليه، ويسود الود والتفاهم والصفاء جو الأسرة كلها.
.. واعلم أيها الأخ الفاضل أن تصرفات الوالدين وتصرفاتك أنت أيضا تتغير بعد الزواج.. إنهما في الغالب يصبحان شديدي الحساسية.. والأم أكثر حساسية من الأب، فلتكن في منتهى الحذر ... واعمل ما وسعك العمل على ألا يتغير قلبها نحوك.
ويساعدك في تحقيق ما تريد من المراعاة للوالدين والزوجة أمور أهمها:
1- أن تلجأ إلى الله، وتحسن صلتك به عبادة ودعاء والتزامًا لما شرع.
2- وأن تسكن منفردًا مستقلا عن أهلك وأهل زوجك، وأن لا تدخلا أحدا من أهليكما في مشكلاتكما الخاصة، وأن تتوليا حلها بينكما بروح المودة والرحمة.
3- وأن تصارح والديك مع الاحترام البالغ بما تنكره من أوضاع جديدة، وتبين لهم الواقع البعيد عن التأويلات، التي قد يوسوس الشيطان بها للإنسان للايقاع بين الأهل والأحباب.
4- وأن تزيد من برهما المادي والمعنوي، كالهدايا والزيارات والاتصال الدائم، والتكريم الكبير، وإشعار والدتك بأنها ما تزال عندك الأم التي لها حق عظيم.
5- والتفاهم مع زوجتك على السلوك الذي يحقق إرضاء الوالدين.(2/511)
6- هذا، وأنصح الأخ الزوج ألا يلزم نفسه في أول الأمر بما لا يستطع أن يستمر عليه، لأنه إذا بدأ به ثم قطعه فُسر تفسيرا ليس في مصلحته، وجَر عليه أسوأ العواقب ...
واحذر يا أخي أن تعطي والدتك- في تصرفاتك التي قد لا تنتبه إليها- الأدلة التي تشعرها بأن فلذة كبدها قد صارت لغيرها وقد تحولت عنها، إنها عندئذ ستكون شديدة التأثر واللوم ... وكلما كانت أكثر تعلقا بك وحبا لك كان تأثرها ولومها أكبر وأضخم.
وأنا أعلم أن كثيرا من الأمهات الجاهلات بسبب ما تقدم يحرجن أبناءهن، ويحرمنهم من السعادة، فإذا ابتلي إنسان بأم من هذا النوع كان عليه أن يقابل ذلك بالصبر والاسترضاء.. وهنا تظهر حقيقة البر وقوة الشخصية التي تقوى على الموازنة بين أصحاب الحقوق) (1236) اهـ.
ويقول الدكتور السيد محمد علي نمر حفظه الله مشيرا إلى أن الأمومة صنو التضحية، ونادبَا الأمهات إلى العدل في معاملة الكَنات:
(كثيرًا ما تسوء معاملة الأم لزوجة ابنها، ذلك أن الأم قد سهرت، وتعبت في سبيل أبنائها، وحين ينمو الابن، ويستوي على سوقه، ويصير رجلًا ويتزوج، تظن الأم أن ابنها لم يعد بعد في حوزتها وتحت قبضتها، وقد آلت ملكيته إلى امرأة أخرى، كما أن زوجة الابن تعتقد بدورها أن زوجها لا يشاركها فيه أحد، فتنشب الكراهية بين الأم وزوجة الابن، والأم الصالحة هي التي تعمل لإسعاد أولادها، وكما ضَحت بعمرها، وبذلت كل غال ورخيص ليخرج ولدها إلى الحياة شابًّا صالحا، فعليها أن تضحي حين تسلمه إلى امرأة أخرى، كما عليها أن تعلم أن هذه هي سنة الحياة، ولن
__________
(1236) "نظرات في الأسرة المسلمة" ص (103 - 105) .(2/512)
تجد لسنة الله تبديلًا.
إن الإسلام يطالبها أن تعتدل في نظرها إلى ولدها، حتى لا يكون منه عقوق لها) (1237) اهـ.
(ويطيب لي أن أهمس في آذان الأمهات أن ينتبهن لأنفسهن، وأن يكنَّ عونا لأولادهن على البر، وأن يعملن على تحقيق السعادة لهم.
ويبقى الحنان مفتاحًا في يد الولد العاقل، يجعل أمه سهلة الانقياد، سريعة التأثر، والأمهات أنواع، فقد ترضى الأم بكلمة حلوة، أو هدية متواضعة، أو استرضاء مبلل بالعاطفة الوافرة.
إن قلب الأم - إن لم يتحول بسبب العقوق- قريب المأخذ، يا أخي إن ارتباطك بوالديك أمر محتوم لا خيار لك فيه، ولا فكاك لك منه بحال من الأحوال، وليس في يديك ... فلا تنس هذه الحقيقة.
ولقد جاء الشرع فقرر لهما من الحقوق ما لم يقرره لمخلوق من الناس إذ أوجب أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا ولو كانا كافرين يدعوانِك للكفر، يا أخي إن أعظم ما يميز مجتمعنا الإسلامي هو هذا الترابط العظيم في علاقاته الأسرية، فلا تتهاون فيه، فإن في بقاء هذا الترابط خيرًا للناس الذين يعيشون معك) (1238) اهـ.
(إن قوة شخصية الإنسان تبدو في القدرة على أن يوازن بين الحق والواجبات التي قد تتعارض أمام بعض الناس، وأحيانًا يكونون سطحيين تافهين ضعفاء، إن قوة الشخصية تظهر في القدرة على أداء حق كُلّ من أصحاب الحقوق، دون أن يلحق جورًا بواحد من الآخرين.
__________
(1237) " إعداد المرأة المسلمة" ص (140) .
(1238) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (103 - 105) بتصرف، وانظر ص (88) .(2/513)
ومن عظمة هذه الشريعة أنها جاءت بأحكام توازن بين عوامل ودوافع وحوافز متعددة، فللوالدين حقوق، وللزوج حقوق، ولا تعارض بينهما في حقيقة الأمر، والمسلم الواعي قوى الشخصية يستطع أن يعطي كل ذي حق حقه.
ويبدو أن الناس فيما مضى - ولعوامل متعددة - كانوا يراعون حق والدي الزوج رعاية مبالغًا فيها، قد تدخل الجور على الزوجة في كثير من الأحيان عدوانا وظلما، ولكن الأمر - بعد اختلاطنا بالكفرة، وتأثرنا بحضارتهم التي حطمت فيها الأسرة- اختلف حتى أصبح الظلم يصيب الوالدين، وهو إن وجد ينصبُّ أكثر ما ينصب على الأم، لئن كنا في الماضي بحاجة إلى تذكير الزوج بحقوق الزوجة مع مراعاة بر الوالدين، إننا اليوم بحاجة إلى تذكير شبابنا برعاية الموازنة بين حقوق الوالدين وحقوق الزوج، وإلى تحذيرهم من العقوق.
إن كثيرًا من المآسي الاجتماعية والعائلية تقع بسبب الإخلال بهذا التوازن المطلوب، والخسارة الكبرى والإثم العظيم يقع على الزوج أولًا عندما يقع في غضب الجبار، ويدخل النار.
... أيها الزوج العروس: أنا لا أدعوك إلى ظلم زوجتك، فالظلم حرام بكل أنواعه ومظاهره، ولكنني أذكرك بأن ظلم والديك وعقوقهما من أعظم الذنوب.. واحرص في الوقت ذاته على إنصاف زوجك، والإحسان إليها ما استطعت إلى ذلك سبيلا) (1239) اهـ.
13- ومن حقه عليها: إرضاع الأطفال وحضانتهم:
الطفل جزء من أمه، وقطعة من كيانها، فهي تحنو له، وتحدب
__________
(1239) "السابق" ص (101: 102) بتصرف.(2/514)
عليه، وتعكف على راحته، وهذه الصلة الوثيقة التي تربط الأم بطفلها تبلغ ذروتها وأوج قوتها في الأسابيع ثم الأشهر الأولى من ولادته، إذ يبلغ بها الأمر أن تعكف عليه عكوفًا يشبه عبادة العابد، ونسك الناسك، بل تستطيع الأم أن تجعل عملية الإرضاع عبادة سامية إذا استحضرت النية الصالحة من ورائها، لتجني ثمارها كل حين بإذن ربها:
روى أن عمرو بن عبد الله قال لامرأة ترضع ابنًا لها: " لا يكونن رضاعك لولدك كرضاع البهيمة ولدَها قد عطفت عليه من الرحمة بالرحم، ولكن أرضعيه تتوخين ابتناء ثواب الله، وأن يحيا برضاعك خَلْق عسى أن يوحِّد الله ويعبده " (1240) .
إن للطفل حقا ثابتًا على أبويه في الرعاية والعطف والتربية، ومن هنا توجه الخطاب القرآني إلى كل والدة سواء كانت مزوجة أو مطلقة يستحثها ويندبها إلى الاهتمام برضاعة طفلها، فقال جل وعلا: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) الآية البقرة (233) .
ويثني الله تعالت أسماؤه على الأم إذ تتحلى بهذه السجية الإنسانية، ويعلن ما تستوجبه بهذه العاطفة من التكريم فيقول: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفِصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلي المصير) لقمان (14) .
والواقع أن هذا الوضع التشريعي الذي أمر به القرآن هو تحديد وفرض للوضع الطبيعي الذي بنيت عليه غريزة الأم، وانبنى عليها كيان الطفل، إن إرضاع الأم طفلها واجب عليها ديانة باتفاق الفقهاء، تُسأل عنه أمام الله تعالى حفظا على حياة الولد، سواء كانت متزوجة بأبي الرضيع،
__________
(1240) عزاه في " منهج التربية النبوية للطفل" ص (72) إلى " نصيحة الملوك" للماوردي ص (166) .(2/515)
أم مطلقة منه وانتهت عدتها.
واختلفوا في وجوبه عليها قضاء: أيستطيع القاضي إجبارها عليه أم لا (1241) ؟
وقد ذهب جهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإرضاع للندب، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها- أي قضاءً - إلا إذا تعينت مرضعًا بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزًا عن استئجار ظئر (مرضعة) ، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر، واستدلوا على الاستحباب بقوله تعالى: (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) .
ومذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجية، فهو حق عليها إذا كانت زوجة، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عُدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع علها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي إرضاعه فهي أحق، ولها أجرة المثل، هكذا كفل الإسلام للطفل حقه في الرضاع حتى بعد طلاق أمه، ولم يكتف بذلك بل تجاوزه إلى تعطيل إقامة الحد على الأم الزانية إلى حين انتهاء فترة رضاعه منها.
ففي قصة الغامدية التي حملت من الزنا، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا، فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة، قالت: " هذا قد ولدته"، قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه "، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: " هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام"، فدفع بالصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس
__________
(1241) انظر: " الفقه الإسلامي وأدلته " (7/698-704) .(2/516)
فرجموها) الحديث (1242) .
وتأمل ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي) الحديث، وفيه: (ثم انطلق بي، فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات، قلت: ما بال هؤلاء؟ قال: هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن (*) .
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يفرض لمولود حتى يفطم، فتراجع عن ذلك، وفرض له من حين ولادته حتى تطول فترة الإرضاع، فبينما هو يطوف ذات ليلة بالمصلى، بكى صبي، فقال لأمه: " أرضعيه"، فقالت: " إن أمير المؤمنين لا يفرض لمولود حتى يُفطم، وإني فطمته"، فقال عمر: " إن كدت لأن أقتله أرضعيه، فإن أمير المؤمنين سوف يفرض له"، ثم فرض بعد ذلك للمولود حين يولد (1243) .
إن الحكمة الإلهية جعلت هذه العاطفة السامية عاطفة الأمومة متجاوبة مع قوة اتصال الوليد بأمه، ومع حاجته الماسة إليها ماديا وعاطفيا، فالطفل يحتاج إلى أمه حاجة تتصل بكيانه كله، وتشمل مشاعره وأحاسيسه.
ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكِحي" (1244) ، قالها
__________
(1242) رواه مسلم ص (1322) ، والبيهقي (6/83) ، والدارقطني (3/ 92) ، والإمام أحمد (5/ 348) ، وغيرهم.
(*) أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " كما في " تحفة الأشراف" (4871) ، وابن خزيمة في " صحيحه " (1986) وعنه ابن حبان (1800 - موارد) ، والحاكم في " المستدرك " (1/430) مختصرًا، وقال: (صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وعزاه الحافظ في "الفتح" إلى الطبراني، وقال: " بسند جيد" اهـ.
(12/441) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب" (1/420) .
(1243) " المصنف " لعبد الرزاق (5/311) .
(1244) رواه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أبو داود رقم (2276) في =(2/517)
لمن شكت إليه زوجها، ندرك مدى اهتمام الإسلام بالطفل، حيث انتزع الرسول الله صلى الله عليه وسلم طفلًا من أبيه- وهو أقرب الناس إليه- ليكون في رعاية أمه، لأنها أشفق وأقدر على تربيته في هذا السن، كذلك ندرك أمرا آخر وهو أن الأم إذا شُغلت بزواج أو غيره، فهي ليست أهلَا للحضانة، لأن الطفل يجب أن ينشأ في جوٍّ تملؤه المودة والمحبة والعطف والحنان.
نسوق هذا الكلام إلى الذين ينادون بتخلي المرأة عن مهمتها وترك هؤلاء الأطفال إلى دور الحضانة حيث يحرم الطفل من حقه في رعاية أمه وحنانها، أمه التي لا يعوضه عنها أرقى وأعظم دور الحضانة.
إن مما يصادم الفطرة والشرع ما يتصوره بعض الناس من أن حاجة الطفل إلى أمه قاصرة على تغذيته باللبن خلال فترات منتظمة، وهو أمر يمكن استبداله بأي لبن كان، ثم تغيير ثيابه وتنظيفه بين الفينة والأخرى، وهو عمل تستطيعه أي حاضنة أمينة، وإذا تصور هذا أي رجل لم يذق إنسانية الحياة العائلية، فلا يتصوره من النساء إلا امرأة مُسِختْ حقيقتها، وانطوى صدرها على قلب قاس جامد، قد نُحِتَ من صُم الجلاميد الصلاب، ولله دَر من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من ... هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له ... أما تخلَّت أو أبا مشغولا
ألا فلترجع الأم " الهاربة" من ميدان كفاحها إلى بيتها، ولتعد " الأم" المتمردة على فطرتها إلى حجابها الأول: " وقرن في بيوتكن"،
__________
= الطلاق: من أحق بالولد؟، والدارقطني (3/305) ، والحاكم (2/207) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (8/4- 5) ، والإمام أحمد (2/182) ، وحسنه الألباني في " الإرواء" (7/244) .
وسبب وروده (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني "، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فذكره.(2/518)
ولتؤب إلي " المصنع" الذي رشحها الله لتمارس فيه أشرف وظائف المرأة بعد عبادة الله " والمرأة راعية في بيت زوجها " إنه مصنع الأبطال والمجاهدين والعباد، والدعاة، مصنع العفيفات العابدات العالمات المؤمنات الصابرات.
فإن كانت ممن لا يكتفي بالنصيحة إلا إذا دُعمت بإحصاءات العلم الحديث، ونتائجه المنسوبة إِلى أهله، فلترع سمعها ما يلي: أولًا: ما قالته مؤلفة كتاب " أطفال بلا أسر": (وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الولد في ظل أبويه ينشأ ذكيا، وتنخفض نسبة ذكائه كلما ابتعد عن أمه وأبيه، ففي دور المياتم والحضانة التي تشرف على كل عشرة أطفال فيها فقط مربية واحدة تنخفض نسبة الذكاء 40% عن الطفل الذي ينشأ مع أمه أو إحدى قريباته ...
وقد قام البروفيسور " وين دنيس" الحائز على شهادة الدكتوراة من جامعة كلارك، والذي يعتبر من ألمع أساتذة علم النفس في الولايات المتحدة بجولة علمية زار خلالها لبنان، والولايات المتحدة، وانكلترا، وهولندا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، والمجر، وتبين له مدى الفروق الهائلة في مستوى الذكاء لدى الأطفال من بيئة إِلى أخرى، وأثبتت دراساته أن الذكاء ينخفض لدى الطفل إن كان يعيش مع عشرة أطفال وتشرف على تربيتهم مربية واحدة إلى ما يزيد عن 40% من نسبة الذكاء لدى غيره من الأطفال الذين ينشأون في جو عائلي) (1245) اهـ.
ثانيَا: درج بعض الأطباء الأمريكيين الذين أجروا دراسات على الأطفال على أن يكتب في " الوصفة " لكل أم تذهب إليه بطفلها المريض العبارة التالية:
" العلاج: هو العودة إلى الأم الحقيقية" (1246) .
__________
(1245) انظر: " نظام الأسرة وحل مشكلاتها في ضوء الإسلام" ص (218) .
(1246) "الأخت المسلمة" للجوهري ص (118) .(2/519)
14- ومن حقه عليها: أن تحسن القيام عل تربية أولادها منه في صبر وحلم ورحمة:
فلا تغضب على أولادها أمامه، ولا ترفع صوتها عاليًا في مخاطبة أولادها أو زجرهم حتى يسمع خارج المنزل، ولا تدعو عليهم، ولا تسبهم، أو تضربهم، فإن ذلك قد يؤذيه منها، ولربما استجاب الله تعالى دعاءها عليهم، فيكون مصابهما بذلك عظيما.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةَ نَيل، فيها عطاءٌ، فيستجيب لكم) (1247) .
وقد تفننت نساء بعض البلاد في اللعن تفننَا غريبَا، فتسمع الدعاء الفظيع ينهال على الولد البريء الذي تصرف تصرفًا صبيانيًّا لم يوافق هوى أمه ورضاها، إنها تدعو عليه أحيانًا بأن يرسل الله عليه الحمّى والأوجاع المتعددة، وتدعو عليه أحيانًا أن يقتل بالرصاص، أو أن تذهب به داهية الدهس، أو أن يصيبه العمى، تدعو عليه بذلك وغيره، وهو ابنها وفلذة كبدها، وهي لا تدري أنه قد توافق دعواتُها ساعة الإجابة، فتندم ولات ساعة مندم، وقد قيل إن الدعوات كالحجارة التي يرمى بها هدف، فمنها ما يصيب ومنها ما يخطئ (1248) .
وعليها أن تربي أولادها على الطهارة والنظافة والعفة والشجاعة،
__________
(1247) رواه أبو داود رقم (1532) في الصلاة، وهو قطعة من حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر عند مسلم رقم (3006) ، وكذا ابن حبان (2411) .
(1248) انظر: " أضواء البيان" (3/417) ، " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (161- 162) .(2/520)
والزهد في سفاسف الأشياء، وملاهي الحياة، كي ينشأوا مسلمين، يعيشون بالإسلام وللإسلام، يكَثر الله تعالى بهم الخير في المجتمع، ويتباهى بهم وبأمثالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا (1249) .
وعليها أن تراعي الأمور الآتية حتى تنجح العملية التربوية: أولًا: أن لا تتصرف أمام أبنائها بصورة توحي بأن سياستها التربوية تخالف سياسة الأب.
ثانيا: أن لا تعترض المرأة على زوجها أثناء تأديبه أولاده وبحضرتهم، فإن كان ولابد، فلها أن تبدي رأيها في أمور التربية على انفراد به، وعليهما الخروج بسياسة تربوية محددة.
ثالثا: أن تحرص على الصدق مع زوجها، وتصارحه بالحقيقة في أمورها كلها، وأن تعلمه بالأحداث التي تتم في غيبته، ولا تتستر على أخطاء أولادها الجسيمة، والتي يجب معرفة الأب بها.
رابعًا: أن لا تأذن ولا تعطي ولدها عند غياب أبيه ما منعه منه.
خامسًا: أن لا تبدي الزوجة أمام أبنائها أي إشارة رفض أو ضجر من بعض عادات الأب أو تصرفاته، وأن تحذر أن تُخَطِّئ أقواله وأفعاله، أو أن تنتقص منه، أو أن تتظلم لأولادها منه قبالتهم.
__________
(1249) ومن خير ما يسترشد به الأبوان في هذه التربية كتاب " منهج التربية النبوية للطفل " لمؤلفه محمد نور سويد جزاه الله خيرا، فإنه في جملته من خير ما يسد هذه الثغرة.(2/521)
[فصل]
من آداب المرأة المسلمة أن تحسن القيام على أولاد زوجها من امرأة أخرى، كأنهم أولادها، فإن الزوجة الصالحة عون لزوجها على مصاعب الحياة، وأعباء المعيشة، وتأمل ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
(تزوجت امرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا جابر، تزوجت؟ " قلت: " نعم"، قال: " بكرًا، أم ثيبا؟ " قلت: " ثيبا"، قال: " فهلا بكرًا تلاعبها؟ " قال: قلت:
" يا رسول الله، إن لي أخوات، فخشيت أن تُدْخِلَ بيني وبينهن"، فقال: " ذاك إذا، إن المرأة تنكَح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين ترِبَتْ يداك " (1250)) .
وفي رواية للبخاري: (" فهلا جارية تلاعبك؟ قلت: يا رسول الله، إن أبي قُتِل يوم أحد، وترك تسع بنات، كُنَّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جاريةً خرقاءَ مثلهن، ولكن امرأة تمشطُهن، وتقوم عليهن "، قال: " أصبت " (1251) .
وفي رواية الترمذي: (فقلت: " يا رسول الله، إن عبد الله مات، وترك سبع بنات أو تسعًا، فجئت بمن تقوم عليهن، فدعا لي " (1252) .
__________
(1250) رواه مسلم رقم (715) في الرضاع: باب استحباب نكاح ذات الدين، وباب استحباب نكاح البكر.
(1251) رواه البخاري (9/122) ، (6/121) ، (11/ 190) ط. السلفية.
(1252) رواه الترمذي رقم (1086، 1100) في النكاح.(2/522)
فتأمل كيف أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم جابرا رضي الله عنه على نظرته التربوية في اختياره زوجة تنجز بعض المهام التربوية لأخواته الصغار، أليس بالأحرى أن تعين زوجها على بر والديه، والإحسان إلى أبنائه من غيرها؟
قال ابن بطال: (وعون المرأة زوجها في ولده ليس بواجب عليها، وإنما هو من جميل العشرة، ومن شيمة صالحات النساء) (1253) اهـ.
15- ومن حقه عليها: أن تتجنب الغيرة المذمومة:
توجد الغيرة في غالب النساء، غير أن منها ما هو مذموم، ومنها ما هو محمود: [فالمذموم منها تلك التي تتأجَّجُ في صدر صاحبتها نارا تُشعِلُ جيوش الظنون والشكوك كلُّ آن، فتحيلَ حياة الأسرة جحيمَا لا يطاق:
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قالوا: (يا رسول الله، الا تتزوج من نساء الأنصار؟ " قال: " إن فيهن لغيرةً شديدة " (1254) .
- ولذلك لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سَلَمة رضي الله عنها، إلا بعد أن دعا أن يذهِبَ الله غيرتها، عن أمَ سلمة قالت: لمّا توفيَ أبو سلمة، استرجعتُ، وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرا منه، ثم رجعت إلى نفسي، قلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عِدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أدبغُ إهابَا لي، فغلست يدي من القَرَظِ (ما يُدبَغ به) وأذِنتُ له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته، قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة فِي، ولكني امرأة في غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يُعذِّبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السنُّ، وأنا
__________
(1253) "فتح الباري" (9/513) : باب عون المرأة زوجها في ولده.
(1254) رواه النسائي (6/69) في النكاح، وقال الأرناؤوط في " تحقيق جامع الأصول" (إسناده صحيح) اهـ. (11/534) .(2/523)
ذات عيال، فقال: " أما ما ذكرتِ من غَيرتك فسوف يُذهبها الله عزَّ وجلَّ عنك (وفي رواية النسائي، فأدعو الله عز وجل فيُذهِبَ غيرتك) ، وأما ما ذكرتِ مِن السنّ فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرتِ من العيال فإنما عيالك عيالي ": قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها، قالت أمّ سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) (1255) .
- أمّا الغيرة المعتدلة التي لا تتسلط على صاحبتها، فهي مقبولة بل وقد تُستملَح أحيانًا:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه (وفي رواية عائشة) ، فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين (في رواية أم سلمة، وفي أخرى صفية) بصَحفة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفةُ، فانفلقتْ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: " غارتْ أمُّكم، غارتْ أمكم " ثم حبس الخادم، حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفعها إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها) (1256) .
- أما الغيرة المحمودة، فهي التي تكون إذا ما انتهِكَت محارم الله: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غَيرة الله أن يأتي المؤمنُ ما حَرَّم الله
__________
(1255) رواه أحمد (4/28) واللفظ له، والنسائي (6/ 81) في النكاح، وقال الأرناؤوط في " جامع الأصول": (إسناده صحيح) اهـ (11/410) .
(1256) البخاري (9/283) في النكاح، وأبو داود (3567) في البيوع، والترمذي (1359) في الأحكام، والنسائي (7/70) عشرة النساء.(2/524)
عليه " (1257) ] (1258) .
16- ومن حقه عليها: حفظه في دينه وعرضه:
وذلك ببعدها عن التبرج والتعرض للأجانب في البيت وخارجه، في الشرفة أو على الباب، أو في الطريق والمحلات التجارية، وقد سبق أن ذلك من حق المرأة على زوجها أن يحفظها من ذلك، لذا فهي لا تبدي زينتها، إلا لزوجها ولذوي محارمها على التأبيد مع أمن الفتنة، ولا تخلو بأجنبي، ولو كان شقيق زوجها، ولا تأذن لمن لا يرضى الزوج دخوله عليها، وهي حافظة لزوجها في غيابه من عرض فلا تزني، ومن سر فلا تفشي، ومن سمعة فلا تجعلها مضغة في الأفواه.
وعن أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: " خير نسائكم الودود الولود، المواتية المواسية، إذا اتقين الله، وشرُّ نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثلُ الغراب الأعصم " (1259) .
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها، خرق الله عز وجل عنها ستره " (1260) .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل " (1261) .
__________
(1257) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (115) .
(1258) "أسس اختيار الزوجة " للشيخ محمد عيد الصياصنة، " مجلة البحوث الإسلامية " عدد (24) ص (262-264) .
(1259) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (130) .
(1260) " السابق، ص (101) ، وانظر " صحيح الجامع" (2/392) .
(1261) " السابق" ص (131) .(2/525)
وعن فضالة بن عبيد مرفوعًا: " ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجُها قد كفاها مُؤنة الدنيا فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم " (1262) " الحديث.
17- ومن حقه عليها: أن تحفظ حواسه وشعوره، وتتحرى ما يرضيه فتأتيه، وما يؤذيه فتجتنبه:
وينبغي لأبوي المرأة خصوصًا الأم أن تعرفها حق الزوج، وتبالغ في وصيتها، رُوي أن أسماء بن خارجة الفَزَاري (1263) قال لابنته عند التزوج: (إنك خرجت من العش الذي فيه درجت، فصرت إلى فراش لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أرضًا، يكن لك سماءً، وكوني له مهادًا، يكن لك عمادًا، وكوني له أمة، يكن لك عبدًا، لا تلحفي به فيقلاك (1264) ، ولا تباعدي عنه فينساك، إن دنا منكِ فاقربي منه، وإن نأى عنك فابعدي عنه، واحفظي أنفه وسمعه وعينه، فلا يشمن منك إلا طيبا، ولا يسمع منكِ إلا حسنًا، ولا ينظر إلا جميلًا) (1265) .
وأوصى عبد الله بن جعفر بن أي طالب ابنته فقال: (إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء "، وقال رجل لزوجته:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سَوْرتي حين أغضبُ
ولا تنقريني نقرك الدفَّ مرةً ... فإنك لا تدرين كيف المُغيبُ
__________
(1262) " السابق" ص (131) .
(1263) انظر ترجمته في " الإصابة" (1/195 - 196) .
(1264) أي: لا تلحي عليه فيكرهك.
(1265) انظر: " أحكام النساء" لابن الجوزي ص (73) .(2/526)
ولاتكثري الشكوى فتذهب بالهوى ... ويأباكِ قلبي والقلوبُ تقلب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبُّ يذهب
(وقال بعض العرب: " لا تنكحوا من النساء ستة: لا أنانة، ولا منانة، ولا حنانة، ولا تنكحوا حداقة، ولا براقة، ولا شداقة"، أما الأنانة، فهي التي تكثر الأنين والتشكي، وتعصب رأسها كل ساعة، فنكاح الممراضة، أو نكاح المتمارضة لا خير فيه، والمنانة التي تمن على زوجها فتقول: " فعلت لأجلك كذا وكذا"، والحنانة التي تحن إلى زوج آخر، أو ولدِها من زوج آخر، وهذا أيضًا مما يجب اجتنابه، والحداقة التي ترمي إلى كل شيء بحدقتها فتشتهيه، وتكلف الزوج شراءه، والبراقة تحتمل معنيين: أحدهما: أن تكون طول النهار في تصقيل وجهها وتزيينه، ليكون لوجهها بريق محصل بالصنع، والثاني: أن تغضب على الطعام، فلا تأكل إلا وحدها، وتستقل نصيبها من كل شيء، وهذه لغة يمانية، يقولون: برقت المرأة، وبرق الصبي الطعام، إذا غضب عنده، والشداقة المتشدقة الكثيرة الكلام) (1266) .
وأوصت أمامة بنت الحارث ابنتها حين زفت إلى زوجها، فقالت: (أي بنية: إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب، أو لتقدم حسب، لزويت ذلك عنك، ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.
أي بنية: لو أن امرأة استغنت عن زوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عن ذلك، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
__________
(1266) "الإحياء" (4/712-713) .(2/527)
أي بنية: إنك قد فارقت الحمى الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك مليكًا فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكا، واحفظي له خصالا عشرا، تكن لك ذخرًا:
أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وفٍى حسن المعاشرة مرضاة للرب.
وأما الثالثة والرابعة: فالمعاهدة لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منكِ إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة" وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سرًّا، ولا تعصين له أمرا، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي مع ذلك كله الفرح إذا كان ترحا، والاكتئاب إذا كان فرحًا، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وأشد ما تكونين له إعظاما أشد ما يكون لك إكراما، وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة، واعلمي يا بنية أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت، والله يضع لك الخير، وأستودعك الله) (1267) اهـ.
إن الزوجة التي يندب إليها هي الهينة، اللينة، العفيفة، التي " تعين
__________
(1267) انظر: " أحكام النساء" لابن الجوزي ص (74-78) .(2/528)
أهلها على العيش، ولا تعين العيش عليهم، لا تؤهل دارا (1268) ، ولا تؤنس جارًا (1269) ، ولا تنفث (1270) نارًا " (1271) .
وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى:
(وينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج، فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه، وتقدم حقه على حق نفسها وحقوق أقاربها، وتكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة، ولا تفتخر عليه بجمالها، ولا تعيبه بقبيح إن كان فيه ... ) (1272) .
(وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته وبقى ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها، فإنه قد يجد وقد لا تجد هي، ومعلوم أن الملل للمستحسَن قد يقع، فكيف للمكروه؟) (1373) اهـ.
[والقول الجامع في آداب المرأة: أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمنزلها، لا يكثر صعودها واطلاعها، قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول، تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن
__________
(1268) لا تؤهل دارا: أي لا تجعل دارها آهلة بدخول الناس عليها.
(1269) لا تؤنس جارًا: أي لا تؤنس الجيران بدخولها عليهم.
(1270) لا تنفث نارا: أي لا تنم، ولا تغري بين الناس.
(1271) " عيون الأخبار " لابن قتيبة (4/4- 5) .
(1272) " أحكام النساء" ص (72-73) .
(1273) " السابق" ص (78) .(2/529)
خرجت بإذنه فمختفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع غريب صوتها، أو يعرفها بشخصها، لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو: تعرفه، همها صلاح شأنها، وتدبير بيتها، مقبلة على صلاتها وصيامها، وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب وليس البعل حاضرا لم تستفهم، ولم تعاوده في الكلام، غيرة على نفسها وبعلها، وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله، وتقدم حقه على حق نفسها، وحق سائر أقاربها، متنظفة في نفسها، مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء، مشفقة على أولادها، حافظة للستر عليهم، قصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج..] (1274) اهـ.
__________
(1274) " الإحياء" (4/749 - 750) .(2/530)
[فصل]
وفاؤها لزوجها
إن الثبات على صدق الوفاء من أفضل ما تتحلى به النساء، ولهذا (درجت المرأة المسلمة على مواتاة زوجها ومصافاته، واستخلاص نفسها له، واحتمال نبوة الطبع منه، وأكثر ما كان صفاء نفسها، وسماح خلقها وعذوبة طبعها، إذا استحال الدهر بالرجل فرزأهُ في ماله، أو نَكَبَهُ في قُوَّته، أو بدَّله بكرم المنصب، وروعة السلطان، أعرافًا من السجن، وأصفادًا من الحديد.
بل لقد كان وفاؤها له بعد عفاء أثره، وامِّحاء خبره، عديل وفائها له وهي بين أفياء نعمته، وأكناف داره، وكان إيثار الإسلام له بمَدِّ حدادها عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، لا تتجمل في أثنائها، ولا تزدان، ولا تفارق داره إلى دار أبيها - سُنَّةً من سنن هذا الرفاء، وآية من آياته.
لذلك كانت المرأة المسلمة ترى الوفاء لزوجها بعد الموت، آثر مما تراه لأبيها وأمها وذوي قرابتها، فكانت تؤثر فضائله، وتذكر شمائله في كل موطن ومقام، بل ربما عرض ذكره وهي بين خليفته من بعده، فلا تتحرج في ذكر فضائله وتفضيله إن كانت ترى الفضل له) (1275) .
ومن حديث ذلك أن أسماء بنت عُميس كانت لجعفر بن أبي طالب، ثم لأبي بكر من بعده، ثم خلفهما علي رضي الله عنه، فتفاخر مرة ولداها
__________
(1275) انظر: " المرأة العربية" (2/89) .(2/531)
محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، كل يقول: " أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك "، فقال لها علي: " اقضي بينهما يا أسماء"، قالت: " ما رأيت شاًّبا من العرب خيرا من جعفر، ولا رأيت كهلا خيرًا من أبي بكر "، فقال علي: "ما تركتِ لنا شيئًا، ولو قلتِ غير الذي قلت لمَقتُّكِ! " (1276) فقالت أسماء: " إن ثلاثا أنت أقَلهم لخيار " (1277) .
وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تُغَسلَه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، ففعلت، وكانت صائمة، فسألت من حضر من المهاجرين: وقالت: " إني صائمة، وهذا يوم شديد البرد، فهل عَلَي من غُسل؟ "، فقالوا: " لا "، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد عزم عليها (1278) لما أفطرت، وقال: " هو أقوى لك"، فذكرت يمينه في آخر النهار، فدعت بماء، فشربت، وقالت: " والله لا أتْبِعُهُ اليومَ حِنْثًا " (1279) .
ومن ذلك أيضًا ما رُوِي من أن النساء قمْنَ (حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحُد يسألن الناس عن أهلهن، فلم يُخْبَرن حتى أتين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا قال واحدة إلا أخبرها، فجاءته حَمْنَة بنت جحش، فقال: " يا حَمْنَةُ، احتسبي أخاك عبد الله بن جحش، قالت: " إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله، وغفر له "، ثم قال: " يا حمنة، احتسبي خالك حمزة بن عبد المطلب " قالت: " إنا لله، وإنا إليه راجعون، رحمه الله،
__________
(1276) وقيل: لعلها: (لومقتك) أي: أحببتك!
(1277) رواه ابن سعد في " الطبقات " (8/208 - 209) ، وأبو نعيم في " الحلية " (2/76) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء " (2/286 - 287) ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أخرجه ابن السكن بسند صحيح عن الشعبي) اهـ. من "الإصابة " (7/ 491) .
(1278) أي: أقسم عليها.
(1279) رواه ابن سعد في " الطبقات " (8/208) .(2/532)
وغفر له"، ثم قال: يا حمنة احتسبي زوجك مُصعب بن عمير "، فقالت: "يا حَرَباه، (1280) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن للمرأة لشُعبة من الرجل ما هى له في شيء " (1281) ، ولعمرك إن في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلاغا لما أوثرت المرأة به، وَأبَرَّت فيه من فرط الحنو على زوجها، وفضل الوفاء له بعد موته (1282) .
ولما تسور المجرمون الفَسَقَةُ على أمير البررة، وقتيل الفجرة، عثمان رضي الله عنه، وتبادروه بالسيوف، ألقت زوجته " نائلة بنت الفُرافِصة " بنفسها عليه حتى تكون له وِقاء من الموت، فلم يَرعَ القتلةُ الأثمةُ حرمتها، وضربوه بالسيف ضربة انتظمت أصابعها، ففصلتهن عن يدها، ونفذت إليه، فجندلته، ثم ذبحوه رضي الله تعالى عنه (1283) ، ولما خطبها أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أبت، وقالت: " والله لا قَعَدَ أحد مني مقعدَ عثمان أبدًا " (1284) .
* * *
__________
(1280) الحَرَبُ: السلَب، وفي لفظ ابن ماجه: " قالت: " واحزناه ") .
(1281) رواه ابن ماجه في سننه رقم (1590) بلفظ: (إن للزوج من المرأة لشعبَة، ما هي لشيء) ، وكذا ابن سعد في " الطبقات" (8/175) ، وابن إسحق في السيرة بلفظ: (إن زوج المرأة منها لبمكان) ، وضعفه الألباني في " ضعيف ابن ماجه" رقم (347) ص (120) ، وكذا في " ضيف الجامع" رقم (1960) .
(1282) ومن ثم قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى: " ولا ينبغي لوالدي المرأة، ولا لجميع أهلها أن يطلبوا منها الميل إلى إيثارهم أكثر من ميلها إلى زوجها، فإنها تميل إلى زوجها بالطبع، وقد أخبر عنها الشارع بذلك، فلتعذر في ذلك" اهـ. من " أحكام النساء" ص (70) .
(1283) " الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (517) ، " المرأة العربية" (2/117) .
(1284) " العقد الفريد، لابن عبد ربه، كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن (ج 3) ، و " الأعلام " (7/343) .(2/533)
ومع أن رغبة الأيم عن الزواج، وكراهيتها له، واعتكافها دونه، لم يكن من مبادئ الإسلام في شيء، فقد قال تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم) الآية، النور (32) .
وعن جابر عن أم مبشر الأنصارية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر بنت البراء بن معرور (1285) فقالت: " إني اشترطت لزوجي ألا أتزوج بعده "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا لا يصلح " (1286) .
ومع الرخصة لهن في النكاح والتوسعة عليهن في أمره - فإن كثيرًا من الأيامى أنفن أن يتبدلن ببعولتهن زوجا آخر، وفاءً لهم، وبقيًا على ذكراهم، بل أملا أن تمتد الزوجية بينهم في الدار الآخرة:
فقد كان مما بشر به الإسلام المرأة الصالحة، أن المؤمن إذا دخل الجنة، ألحق به أزواجه: قال تعالى: (جَنات عدن يدخلونها ومن صَلَح من ءابائهم وأزواجهم وذُرياتهم) (الرعد: 23) ، فيجمعهم الله في الجنات منعمِين، يتكئون في ظلالها مسرورين فرحين: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائِك متكون) (يس: 56) ، (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحْبَرُون) (الزخرف: 70) .
وكان من آيات وفاء كثير من الصالحات لأزواجهن بعد موتهن إمساكُهن عن الزواج، لا لغرض إلا ليكن زوجات لهن في الجنة.
فعن ميمون بن مهران قال: خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
__________
(1285) أي خطبها لزيد بن حارثة بعد أن مات أهله، كما في رواية البخاري في " التاريخ الكبير ".
(1286) رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (2/14) ، و " الصغير " (2/138) ، والحديث حسنه الحافظ في " الفتح" (9/219) ، وكذا حسنه الألباني بشاهده عند البخاري في" التاريخ الكبير"، انظر: " الصحيحة" حديث رقم (608) .(2/534)
أم الدرداء، فأبت أن تَزَوَّجَهُ، وقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرأة في آخر أزواجها، أو قال: لآخر لآخر أزواجها " (1287) .
وعن عكرمة: (أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديدًا عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: " يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تَزَوجْ بعده جُمع بينهما في الجنة) (1288) .
وكل حذيفة رضي الله عنه أنه قال لزوجته: " إن شئتِ أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تزوجي بعدي، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا " (1289) .
وعن جبير بن نفير، عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء: " إنك خَطَبتَنِي إلى أبَوَي في الدنيا، فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة"، قال: " فلا تنكحين بعدي"، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال: " عليكِ بالصيام " (1290) .
وقال الأصمعي: (خرج سليمان بن عبد الملك ومعه سليمان بن المهلب بن أبي صفرة من دمشق متنزهين، فمرا بالجبانة، وإذا امرأة جالسة
__________
(1287) انظر: " المطالب العالية" (1673) ، و" كنز العمال" (45557) ، (45580) ، " تاريخ بغداد " (9/228) ، " الفقيه والمتفقه" (48) ، والحديث صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (1281) بشواهده.
(1288) انظر: " الصحيحة" للألباني (3/276) ، و "التذكرة" للقرطبي ص (576) .
(1289) أخرجه البيهقي في "سننه" (7/69- 70) وتتمته: " فلذلك حرم الله على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده، لأنهن أزواجه في الجنة "، وفيه أبو إسحق السبيعي.
(1290) "سير أعلام النبلاء" (4/278) .(2/535)
على قبر تبكي، فهبت الريح، فرفعت البرقع عن وجهها، فكأنها غمامة جَلَت شمسا، فوقفنا متعجبين، ننظر إليها، فقال لها ابن المهلب: " يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين بعلا؟ "، فنظرت إليهما، ثم نظرت إِلى القبر، وقالت:
فإن تسألاني عن هواي، فإنه ... بملحود هذا القبر يا فتيانِ
وإني لأستحييه والتربُ بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني
فانصرفنا ونحن متعجبون) (1291) .
وأخيرًا: هذا مثل للزوجة المسلمة الفاضلة ينبغي لكل مسلمة أن تجعله نصب عينيها:
(إن فاطمة بنت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كان لأبيها - يوم تزوجت- السلطان الأعظم على الشام والعراق والحجاز واليمن وإيران والسند وقفقاسيا والقريم وما وراء النهر إلى نجارا وجنوة شرقَا، وعلى مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وإسبانيا غربا، ولم تكن فاطمة هذه بنت الخليفة الأعظم وحسب، بل كانت كذلك أخت أربعة من فحول خلفاء الإسلام وهم: الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ويزيد ابن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وكانت فيما بين ذلك زوجة أعظم خليفة عرفه الإسلام بعد خلفاء الصدر الأول، وهو أمير المؤمنين " عمر ابن عبد العزيز ".
بنت الخليفة، والخليفة جَدُّها ... أخت الخلائف، والخليفة زوجها " (1292)
__________
(1291) " الدر المنثور" ص (465-466) ، و" أخبار النساء " ص (138) ، وهذا الأخير منسوب خطأ لابن قيم الجوزية، كما حققه العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في " ابن قيم الجوزية: حياته، وآثاره" ص (121-126) .
(1292) " البداية والنهاية، (9/193) .(2/536)
وهذه السيدة التي كانت بنت خليفة، وزوجة خليفة، وأخت أربعة من الخلفاء، خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها يوم زفت إليه وهى مثقلة بأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والمجوهرات، ويقال إن من هذه الحلي قرطي (1293) مارية اللذين اشتهرا في التاريخ، وتغني بهما الشعراء، وكانا وحدهما يساويان كنزا.
ومن فضول القول أن أشير إلى أن عروس عمر بن عبد العزيز كانت في بيت أبيها تعيش في نعمة لا تعلو عليها عيشة امرأة أخرى في الدنيا لذلك العهد، ولو أنها استمرت في بيت زوجها تعيش كما كانت تعيش قبل ذلك لتملأ كرشها في كل يوم، وفي كل ساعة بأدسم المأكولات وأندرها وأغلاها، وتنعم نفسها بكل أنواع النعيم الذي عرفه البشر، لاستطاعت ذلك،.. إِلا أن الخليفة الأعظم عمر بن عبد العزيز اختار- في الوقت الذي كان فيه أعظم ملوك الأرض- أن تكون نفقة بيته بضعة دراهم في اليوم (1294) ، ورضيت بذلك زوجة الخليفة التي كانت بنت خليفة وأخت أربعة من الخلفاء فكانت مغتبطة بذلك لأنها تذوقت لذة القناعة، وتمتعت بحلاوة الاعتدال، فصارت هذه اللذة وهذه الحلاوة أطيب لها وأرضى لنفسها من كل ما كانت تعرفه قبل ذلك من صنوف البذخ وألوان الترف، بل اقترح
__________
(1293) (وكان أبوها عبد الملك بن مروان رحمه الله قد أعطاها قرطي مارية، والدرةَ اليتيمة، وكانت أحب أخواتها إليه، وكان قد دعا لها قائلا: " اللهم احفطني فيها" فتزوجها ابن عمها عمر بن عبد العزيز) اهـ من " البداية والنهاية" (9/67) .
(1294) (وقد خيرها عقب توليه الخلافة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكى جواريها لبكائها، فسمِعَت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله) اهـ من " البداية والنهاية" (9/198) .(2/537)
عليها زوجها أن تترفع عن عقلية الطفولة، فتخرج عن هذه الألاعيب والسفاسف التي كانت تبهرج بها أذنيها وعنقها وشعرها ومعصميها، مما لا يسمن، ولا يغني من جوع، ولو بيع لأشبع ثمنه بطون شعب برجاله ونسائه وأطفاله، فاستجابت له، واستراحت من أثقال الحلي والمجوهرات واللآلئ والدرر التي حملتها معها من بيت أبيها، فبعثت بذلك كله إلى بيت مال المسلمين.
وتوفي عقب ذلك أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئًا، فجاءها أمين بيت المال، وقال لها: " إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي، وإني اعتبرتها أمانة لك، وحفظتها لذلك اليوم، وقد جئت أستأذنك في إحضارها ".
فأجابته بأنها وهبتها لبيت مال المسلمين طاعة لأمير المؤمنين، ثم قالت: " وما كنت لأطيعه حيُّا، وأعصيه ميتًا ".
وأبت أن تسترد من مالها الحلال الموروث ما يساوى الملايين الكثيرة، في الوقت الذي كانت محتاجة فيه إلى دريهمات، وبذلك كتب الله لها الخلود، وها نحن نتحدث عن شرف معدنها ورفيع منزلتها بعد عصور وعصور، رحمها الله، وأعلى مقامها في جنات النعيم) (1295) .
__________
(1295) (مقدمة " آداب الزفاف في السنة المطهرة ") للألباني ص (84-88) بقلم الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى) طبعة سنة (1409 هـ) .(2/538)
[الفصل الخامس]
المرأة مؤمنةً مجاهدةً صابرةً
لقد رفع الإسلام المرأة إلى أبعد مما يطمح خيالها، ويصبو أملها،: ساق لها من آي الذكر الحكيم، ما بهر سناه بصرها، وملكت محجته نفسها، واستقادت بلاغته وحسن مساقه قلبها، وأنصتت لما وصف به الله رحمته وعزته، وناره وجنته، وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر، وسَنِي المنزلة، فأثار ذلك عاطفتها، وأفاض وجدانها، وأنار بصيرتها، فكان حقا لذلك أن يصيب حبة قلبها، ويجُول في مجال دمها، ويتأشب بين أحناء ضلوعها.
كذلك كان أمر نساء العرب، فإن أول قلب خفق بالإسلام، وتألق بنوره قلب امرأة منهن، هي سيدة نساء العالمين في زمانها: أم القاسم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، قال الإمام عز الدين بن الأثير رحمه الله تعالى: " خديجة أولُ خَلقِ الله أسلَمَ، بإجماع المسلمين " (1296) .
وما كانت تلك المرأة في سواء النساء، بل لقد هيئ لها من جلال الحكمة، وبعد الرأي، إلى زكاء الحسب، وذكاء القلب، ما عَزَّ على الأكثرين من الرجال، فلم تأخذ الدين مشايعة، ولم تتلقه مجاملة، بل أخذته عن تأثر به، وظمأ إليه.
ومناقبها جَمة، وهى مِمَّن كمُلَ من النساء، كانت عاقلة دَيِّنة
__________
(1296) " أسد الغابة " (7/78) .(2/539)
مَصُونةً كريمة، من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُثني عليها، ويُفَضلُها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: " ما غِرْتُ من امرأة ما غِرت من خديجة، من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها " (1397) .
ومن كرامتها عليه صلى الله عليه وسلم أنها لم يتزوج امرأة قبلها، وجاءه منها عدةُ أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تَسرَّي إلى أن قضت نَحْبَها، فَوَجَدَ لفقدها، فإنها كانت نِعم القرين، وكانت تنفق عليه من مالها، ويَتَّجِرُ هو صلى الله عليه وسلم لها.
" وقد أمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قَصَب، لا صخَبَ فيه ولا نَصَب " (1298)) (1299) اهـ.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها يومًا، فحملتني الغيرة، فقلت: " لقد عَوَّضك الله من كبيرة السن! "، قالت: فرأيتُه غضب غضبًا أسْقِطْتُ في خَلَدي (1300) ، وقلت في نفسي: " اللهم إن أذهبتَ غضبَ رسولك عني لم أعُدْ أذكرها بسوء "، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيتُ، قال: " كيف قلتِ؟ والله لقد آمنت بي إذ كَذَّبني الناسُ، وآوتني إذ رفضني الناس، وَرُزِقْتُ منها الولد وحرمتموه مني "، قالت:
__________
(1297) تقدم برقم (1033) .
(1298) أخرجه البخاري (7/105) ، ومسلم (2432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا أخرجه البخاري (7/104) ، ومسلم (2433) من حديث عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه. وأراد بالبيت: القصر، والقصب هنا: لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والصخب: اختلاط الأصوات، والنصب: التعب.
(1299) "سير أعلام النبلاء " (2/110) .
(1300) الخلَد: بالتحريك، البال والقلب والنفس.(2/540)
" فغدا وراح عَلَىّ بها شهرًا " (1301) .
أجل، لقد تأثرت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين - رضي الله عنها- بهذا الدين تأثرا نفذ إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فكان مبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النوب، واشتداد الخطوب، ثم أعقبها جمهور النساء فتأثرن بهذا الدين تأثرًا هان وراءه كل شيء.
وأول من سبق إليه فريق الضعاف اللواتي فقدن النصَفَة، وَاسْتَهَنَّ بما أصابهن في سبيل الله، من ظلم وذل وآلام.
وكانت لقريش صولة وانبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام، إلى الافتنان في التمثيل، والتأنق في التنكيل، ومن أولئك اللواتي استعذبن العذاب: سمية بنت خُبَّاط أم عمار بن ياسر كانت سابعة سبعة في الإسلام، وكان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة، والتهبت الرمضاء، خرجوا بها هي وابنها وزوجها إلى الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رَمْضاء مكة فيقول: " صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة " (1302) حتى تفادى الرجلان ذلك العذاب المر بظاهرة من الكفر أجرياها على لسانهما، وقلباهما مطمئنان بالإيمان، وقد عذر الله أمثالهما بقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فأما المرأة فاعتصمت بالصبر، وقرت على العذاب، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، فذهبوا بروحها، وأفظعوا قِتلتها، فقد أنفذ الشريف النذل أبو جهل بن هشام حربته فيها، فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
__________
(1301) تقدم برقم (1036) .
(1302) "الإصابة" (7/713) .(2/541)
قال ابن حجر: (وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر، وكانت عجوزًا كبيرة، ضعيفة،. ولما قُتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: " قَتَل الله قاتِلَ أمك " (1303) اهـ.
وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتملت:
فمنهن من كانوا يلقونها، ويحملون لها مكاوي الحديد، ثم يضعونها بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وممن عُذب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها، ولما ذهب بصرها قال المشركون: " ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى "، فقالت لهم: " والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء والله قادر على أن يرد عليَّ بصري "، قيل: " فرد عليها بصرها"، فقالت قريش: " هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم "، وقد اشتراها أبو بكر وأعتقها رضي الله عنه " (1304) .
ومنهن من كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال، ولها حرٌّ يذيب اللحم، ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ " (1305) ، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك غزيَّة بنت جابر بن حكيم- قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت،
__________
(1303) " الإصابة " (7/713) .
(1304) " سيرة ابن هشام " (1/126) وقد أعتق أبو بكر الصديق رضي الله عنه ممن كان يعذب في الله سبعة، وهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، وجارية بني المؤمل، والنهدية، وابنتها، وأم عُبَيس. (الإصابة 8/257) .
(1305) " المرأة العربية" (2/73) .(2/542)
ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًّا، فتدعوهن، وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها، وقالوا لها: " لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم "، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني، ولا يسقوني، فنزلوا منزلا، وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه ثم عاد، فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته، فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، فصنع ذلك مرارا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظو " إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: " انحللت فأخذتِ سقاءنا فشربت منه؟ " فقلت: " لا والله ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا"، فقالوا: " لئن كنت صادقة، فدينك خير من ديننا "، فنظروا إِلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا لساعتهم) (1306) .
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- قبل أن يسلم- يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني المؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط، حتى إذا مَل قال لها: " إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة "، فتقول له: " كذلك فعل الله بك " (1307) .
وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله- خمسة آلاف، أو ستة آلاف- فأتاني جدي أبو قحافة وقد عمي، فقال: " إن هذا قد فجعكم بماله
__________
(1306) "الإصابة" (8/248) ، " حلية الأولياء" (2/66) ، " الطبقات" لابن سعد (8/110-111) .
(1307) " الطبقات" لابن سعد (2/187) ، وانظر: " المرأة العربية" (2/73-74) .(2/543)
ونفسه "، فقلت: " كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا "، فعمدتُ إلى أحجار، فجعلتهن في كوة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذتُ بيده، ووضعتُها على الثوب، فقلت: هذا تركه لنا "، فقال: " أما إذ ترك لكم هذا، فنعم ".
وعن ابن إسحق قال: حُدِّثْتُ عن أسماء، قالت: أتى أبو جهل في نفر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: لا أدري- والله أين هو؟، فرفع أبو جهل يَدَه، ولطم خدي لطمة خرَّ منها قُرطي، ثم انصرفوا) (1308) اهـ.
وخرجت أم أيمن مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر، وكانت صائمة سمعت حسًّا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها " (1309) .
آمنت أم كلثوم بنت عقبة- وهو سيد من سادات قريش- دون رجال بيتها، وفارقت خدرها، ومستقر أمنها ودعتها، تحت جنح الليل، فريدة شريدة، تطوي بها قدماها ثنايا الجبال، وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها، ودار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها، فاتخذت سنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولهم، وهم في ضلال يعمهون (1310) .
ذلك قليل من كثير مما يشهد للمرأة المسلمة باحتكام الدين في ذات نفسها، واستهانتها بالدم والروح في سبيله.
__________
(1308) " سير أعلام النبلاء " (2/290) .
(1309) انظر: " حلية الأولياء" (2/67) ، "الطبقات " (8/162) .
(1310) انظر: " الطبقات" (8/167) ، " المرأة العربية " (2/75) .(2/544)
ومن هذا القبيل مواقف تكشف وضوح قضية " الولاء والبراء " في حس المرأة المسلمة وضوحًا لا يخالطه شائبة ضعف، أو انهزام، أو هوادة مع مَنْ حادَّ الله عز وجل ورسولَه صلى الله عليه وسلم.
فهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وقد جاءتها أمها " قُتَيْلَة " راغبة في صلتها، فتوقفت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله، إن أمي قدمت، وهى راغبة، أفأصلها "، قال: " نعم، صِلِي أمك " (1311) ، وفيها نزل قوله تبارك وتعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8) .
وعن يزيد بن الأصم قال: تلقيتُ عائشة، وهي مقبلة من مكة، أنا وابنُ أختها ولدٌ لطلحة، وقد كنا وقعنا في حائط بالمدينة، فأصبنا منه، فَبَلَغَها ذلك؛ فأقبلت على ابن أختها تلومه؛ ثم وَعَظَتنِي موعظةً بليغةً، ثم قالت: أما عَلِمتَ أن الله ساقك حتى جعلك في بيت نبيه، ذهبتْ والله ميمونة، ورُمِي بحبلك على غاربك! أما إنها كانت من أتقانا لله، وأوصلِنا للرحم (1312) وعن يزيد: أن ذا قرابة لميمونة دخل عليها، فوجدتْ منه ريح شراب، فقالت: " لئن لم تخرج إلى المسلمين، فيجلدوك، لا تدخلْ عليَّ أبدا " (1313) .
كذلك تأثرت المرأة بأدب الإسلام، وخرجت به عما احتكم بها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم.
__________
(1311) تقدم برقم (349) .
(1312) أخرجه ابن سعد (8/99) ، والحاكم (4/32) .
(1313) أخرجه ابن سعد (8/99) .(2/545)
وكان مِن أول ما لقنت المرأة من أدب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، الاعتصامُ بالصبر، إذا دجا الخطب، وجل المصاب.
وقد تقدم ذكر خبر الخنساء، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها، واضطرام حشاها على أخيها، لقد استحال كل ذلك إلى صبرٍ أساغه الإيمان، وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا.
أولئك أبناؤها، وهم أشطار كبدها، ونياط قلبها، خرجوا إلى القادسية وكانوا أربعة، فكان مما أوصتهم به قولها: " يا بَني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجَّنْت حَسبَكم، وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية.
اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أرواقها، فيمموا وطيسها (1314) ، وجالدوا رسيسها (1315) ، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة ".
فلما كشرت الحرب عن نابها، تدافعوا إليها، وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحدا في أثر واحد.
ولما وافتها النعاة بخبرهم، لم تزد على أن قالت: " الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة " (1316) .
__________
(1314) الوطيس: المعركة، أو الضرب فيها.
(1315) الرسيس: الأصل.
(1316) انظر: " الاستيعاب " لابن عبد البر (4/297) ، و "الإصابة" (7/615-616) ، و " المرأة العربية" (2/79 - 80) ، وقد تقدم برقم (و) ص (197) .(2/546)
ذلك أبعد مدى تبلغه المرأة من جلال الصبر وقوة الإيمان، ولعل أبعد منه:
ما حدَّث أنس بن مالك عن أمه أم سُليم بنت مَلْحان الأنصارية زوج أبي طلحة زيد بن سهل قال: (مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: " لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه "، فرجع من المسجد، وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: " ما فعل ابني "؟ قالت: " هو أسكن مما كان "، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه الذين قدموا معه، ثم قامت إلى ما تقوم له المرأة، فأصاب من أهله، فلما كان آخر الليل قالت: " يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية (1317) ، فتمتعوا بها، فلما طُلِبَتْ إليهم شق عليهم؟ " قال: " ما أنصفوا"، قالت: " فإن ابنك فلانا كان عارية من الله فقبضه إليه ".. فاسترجع، وحمد الله، وقال: " والله لا أدعك تغلبينني على الصبر "، حتى إذا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: " بارك الله لكما في ليلتكما"، فاشتملت منذ تلك الليلة على عبد الله بن أبي طلحة، ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، وخرج منه رجل كثير، ولم يمت عبد الله حتى رزق عشر بنين كلهم حفظ القرآن، وأبلى في سبيل الله) (1318) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: شهدت أم سُلَيم " حنينًا " مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها خنجر قد حزمته على وسطها، وإنها يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة، فقال أبو طلحة: " يا رسول الله إن أم سليم معها
__________
(1317) العارية: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال، مع بقاء عينها.
(1318) " الإصابة" (8/229) ، (الطبقات الكبرى) (8/316) ، وقد استشهد عبد الله بفارس، وأصل الحديث في الصحيحين وغيرهما، وله عدة روايات جمعها العلامة الألباني في " أحكام الجنائز وبدعها" ص (24-26) .(2/547)
خنجر " فقالت: " يا رسول الله أتخذه إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، أقتل به الطلقاء، وأضرب أعناقهم إن انهزموا بك "، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا أم سليمِ، إن الله قد كفى وأحسن " (1319) .
وعن عبد المؤمن بن عبد الله القيسي قال: ضَرَبَتْ أم إبراهيم العابدة دابة فكسرت رجلها، فأتاها قوم يُعَزُّونها، فقالت: " لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس " (1320) .
[وقال أبو الفرج بن الجوزي في " عيون الحكايات ": (قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها، فسلمنا فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: " ما أنتم؟ " قلنا: " قوم ضالون عن الطريق أتيناكم فأنسنا بكم "، فقالت: " يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل "، ففعلنا فألقت لنا مِسْحا (1321) فقالت: " اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني "، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وترده " (1322) إلى أن رفعتها، فقالت: " أسأل الله بركة المقبل أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني " (1323) ، فوقف الراكب عليها، فقال: " يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل "، قالت: " ويحك مات ابني؟ " قال: " نعم "، قالت: " وما سبب موته؟ " قال: " ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر "، فقالت: " انزل فاقض ذمام (1324) القوم، ودفعت إليه كبشا، فذبحه
__________
(1319) " الطبقات " (8/311) ، وصححه الحافظ في " الإصابة" (8/229) .
(1320) " صفة الصفوة" (3/190) .
(1321) المسحُ: الفراش.
(1322) يعني ترتقب قدوم ولدها.
(1323) يعني أنها تفرست وحدثت نفسها بوقوع مكروه لولدها لما رأت غيره راكبا بعيره.
(1324) الذمام: الحرمة، والحرمة ما لا يحل انتهاكه، والمقصود هنا أنها قالت له في أشد =(2/548)
وأصلحه، وقرب إلينا الطعام فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: " يا هؤلاء هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئًا؟ " قلت: " نعم "، قالت: " اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها "، قلت: " يقول الله عز وجل في كتابه: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) قالت: " آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ " قلت: " آلله إنها لفي كتاب الله هكذا "، قالت: " السلام عليكم "، ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: " إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلًا "، تقول ذلك ثلاثا، " اللهم إني فعلت ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني "] (1325) .
ولما مات عبد الله بن الفرج لم تُعْلِم زوجته لإخوانه بموته، وهم جلوس بالباب ينتظرون الدخول عليه في علته، فغسلته، وكفنته في كساء كان له، فأخذت فرد باب من أبواب بيته، وجعلته فوقه، وشدته بشريط، ثم قالت لإخوانه: " قد مات، وقد فرغت من جهازه "، فدخلوا، فاحتملوه إلى قبره، وأغلقت الباب خلفهم (1326) .
وقد مر بك نبأ صفية بنت عبد المطلب الهاشمية رضي الله عنها، وهي عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وشقيقة أسد الله حمزة، وأم حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، والعوام زوجها هو أخو سيدة النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وأمها من بني زُهرة وهي هالة بنت وهب خالةُ رسول الله
__________
= وقت وأصعبه عليها: اقض حق ضيافة القوم.
(1325) " المنحة المحمدية " للشيخ محمد عبد السلام الشقيري رحمه الله ص (208-209) .
(1326) " الغرباء " للآجري ص (67) .(2/549)
صلى الله عليه وسلم، وهي من المهاجرات الأوَل، وكانت قد خرجت يوم أحد في طليعة النسوة اللواتي خرجن لخدمة المجاهدين، ومداواة الجرحى.
صلى الله عليه وسلم ولما انهزم المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات سواء كان النصرُ أم كانت الأخرى، وانفض أكثر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق حوله سوى القلائل من أصحابه، قامت " صفية " رضي الله عنها وبيدها رمح تضرب به في وجوه الناس الفارين المنهزمين، والأعداء المشركين، وتقول لهم: " انهزمتم عن رسول الله!! "، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليها فقال لابنها " الزبير بن العوام ": " القَها فَأرجِعْها، لا ترى ما بشقيقها " أي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فلقيها " الزبير " فقال:
- " يا أمَّه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمرك أن ترجعي ... ".
فقالت صفية: " ولم؟ فقد بلغني أنه مُثِّل بأخي، وذلك في الله عز وجل قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى ".
وعاد الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " خل سبيلها "، فأتت " صفية " " الحمزة " فنظرت إليه، وصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُفِن (1327) .
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق جعل نساءه في أطُم (1328) يقال له فارع، ويُروى عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لقتال عَدُوه رفع نساءه في أطم حَسان رضي الله عنه لأنه كان من أحصن الآطام) إلى أن قال: (فجاء يهودي فلصق
__________
(1327) تقدم برقم (437) .
(1328) الأطم: كل حصن مبني بحجارة.(2/550)
بالأطم ليسمع، قالت صفية: " فأخذت عمودًا فنزلت إليه حتى فتحت الباب قليلًا قليلًا، فحملت عليه فضربته بالعمود فقتلته " (1329) .
وفي رواية ابن إسحاق زيادة: (وهي أول امرأة قتلت رجلًا من المشركين) .
وفي رواية: ( ... فجاء إنسان من اليهود فرقي في الحصن، حتى أطل عليهن، قالت صفية بنت عبد المطلب: " فقمت إليه، فضربتُه حتى قطعتُ رأسه، فأخذتُ رأسه فرميتُ به عليهم " (1330)) .
في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد إلى المدينة خرج الناس من المدينة للاستفسار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وذويهم المشتركين في المعركة، ويُروى أنه كانت من بينهم امرأة من بني دينار قتل يوم أحُد أبوها وزوجها وأخوها وابنها، فلما نُعوا لها لم تكترث كثيرا، فقد أنساها قلقها على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أحد، ولهذا فإنها قالت بعد أن نُعِي لها أبوها وابنها وأخوها وزوجها: " ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قالوا: " خيرًا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين "، قالت: " أرونيه حتى أنظر إليه "، فلما رأته سالمًا قالت- مشيرة إلى مصيبتها بفقد أبيها وزوجها وابنها وأخيها-: " كل مصيبة بعدك جلل " (1331) .
وفي رواية أن الدينارية هذه جاءت إلى مصارع القوم في المعركة فمرت
__________
(1329) رواه بنحوه ابن سعد في "الطبقات" (8/27) ، والحاكم (4/51) ، وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: (عروة لم يدرك صفية) ، وأورده الهيثمي في " المجمع" (6/134) ، وقال: رواه الطبراني ورجاله إلى عروة رجال الصحيح، ولكنه مرسل.
(1330) انظر: " الإصابة" (7/744) .
(1331) تريد صغيرة، قال ابن هشام: (الجلل يكون من القليل ومن الكثير) اهـ.(2/551)
بأبيها وابنها وأخيها وزوجها صرعى، وكلما سألت عن واحد وقالت: " من هذا؟ "، قيل لها: " هذا أبوك، وابنك، وزوجك، وأخوك "، فلم تكترث، بل صارت تقول: " ما فعل رسول الله؟ "، فيقولون: " أمامك "، حتى جاءته وأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب " (1332) .
وقبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت أم سعد بن معاذ سيد الأنصار رضي الله عنه تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه وسعد آخذ بلجامها، فقال سعد: " يا رسول الله.. أمي "، فقال: " مرحبًا بها "، فوقف لها، فلما دنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عزَّاها بابنها عمرو بن معاذ - وقد اسشهد في غزوة أحد وله اثنتان وثلاثون سنة- فقالت: " أما إذا رأيتك سالمًا، فقد اشتويْت المصيبة " - أي استقللتها -، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد، وقال لأم سعد: " يا أم سعد أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهها ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعًا "، قالت: " رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا منهم "، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا " (1333) .
وهذه أم عُمَارة نَسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف الصحابية (الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكَائين. شهدت أم عُمارة ليلة العقبة، وشهدت احُدًا، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة، وجاهدت، وفعلت الأفاعيل، وقُطِعت يدُها في الجهاد.
__________
(1332) " السيرة الحلبية " (2/44) .
(1333) " السابق" (2/47) .(2/552)
قال الواقدي: شهدت أحدا، مع زوجها غَزِيَّة بن عَمرو، ومع وَلَدَيها.
وكانت قد خرجت في جيش المسلمين تسقي الظماء، وتأسو الجرحى، وقاتلت، وأبلت بلاءً حسنًا.
وكان ضَمْرَةُ بن سعيد المازني يحدث عن جَدته، وكانت قد شهدت أحُدًا، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لَمُقَامُ نسيبة بنت كعب اليوم خير من مُقام فلان وفلان " (1334) .
وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين، ثم أشاحت بوجهها عنهم، فتناولتهم سيوف المشركين، تنهل من نحورهم، وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين، إلا عشرة أو نحوهم، وقفوا يدرأون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحولون دون الوصول إليه.
هنالك جاء دور نسيبة، فانتضت سيفها، واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، وحولها من الغر المذاويد علي وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير والعباس، وولداها وزوجها، فكانت من أظهر القوم أثرا وأعظمهم موقفا.
وكانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون سداده وملء لهوته حتى قال صلى الله عليه وسلم: " ما التفت يمينًا ولا شمالًا إلا وأنا أراها تقاتل دوني " (1335) .
وعن عمارة بن غزية قال: قالت أم عُمارة: (رأيتُني، وانكشف
__________
(1334) " الطبقات" (8/302) ، و " سير أعلام النبلاء" (2/278 -279) .
(1335) " الطبقات" (8/303) .(2/553)
الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقى إلا في نُفَيْر ما يُتِمُّون عشرة؛ وأنا وابناي وزوجي بين يديه نَدب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترسَ معي، فرأى رجلًا موليًا ومعه ترس، فقال: ألقِ ترسك إلى من يقاتل، فألقاه، فأخذته، فجعلت أترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيلَ أصحاب الخيل؛ لو كانوا رَجالةً مثلَنا أصبناهم، إن شاء الله.
فيُقبل رجل على فرس، فيضربني، وترستُ له، فلم يصنع شيئًا، وولَّى؛ فأضرب عُرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: " يا ابن أم عمارة، أمَكَ! أمك! قالت: فعاونني عليه، حتى أوردتُه شَعوب) (1336) .
ومما حدث ابنها عمارة قال:
(جُرحْتُ يومئذ جرحًا في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرَّقل (1337) ، ومضى عني، ولم يُعَرّج علىَّ، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعصب جرحك "، فأقبلت أمي إلي، ومعها عصائب في حَقْوَيْها، قد أعدَّتها للجراح، فربطت جرحي، والنبي واقف ينظر إليَّ، قالت: " انهض بُنَيَّ فضارِب القوم "، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ " قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضارب ابنك "، قالت: " فاعترضتُ له فضربتُ ساقه، فبرك"، قالت: " فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسمُ حتى رأيت نواجذه "، وقال: " استقدتِ يا أم عمارة "، ثم أقبلنا نَعُلَّه (1338) بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي ظفَّرك،
__________
(1336) " الطبقات " (8/302) ، وشَعوب: من أسماء المنية.
(1337) الرقل: جمع رقلة، وهي النخلة العالية.
(1338) عَلَّ الضاربُ المضروبَ: تابع عليه الضرب.(2/554)
وأقرَّ عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك ".
وأصيبت نسيبة في هذا اليوم بثلانة عشر جرحًا، واحد منها غار في عاتقها فنزف الدم منه (1339) ، وهي رغم ذلك كالصاعقة الساحقة، تضرب في نحور العدو، وترتمي بين صفوفهم، غير آبهة ولا دارية بالدم الناعر من جسمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمّك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان "، فلما سَمِعَتْ أمُه قالت: " ادع الله أن نرافقك في الجنة"، فقال: " اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة "، فقالت: " ما أبالي ما أصابني في الدنيا " (1340)) .
وولدها حبيب بن زيد بن عاصم هو الذي أخذه مسيلمة الكذاب، فقطًّع أعضاءه عضوًا عضوًا ليرتد عن دينه، حتى مات تحت العذاب، وهو ثابت على دينه (1341) .. وبلغها مقتله، فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يقتل أو تقتل، فذهبت إلى اليمامة، واشتركت في الموقعة
__________
(1339) ولقد ظلت تداوي هذا الجرح سنة، وحين نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلى حمراء الأسد "، بعد انتهاء غزوة أحد بساعات شدت عليها ثيابها، فما استطاعت من نزف الدم، رضي الله عنها ورحمها- انظر: " الطبقات" لابن سعد (8/302) .
(1340) " الطبقات " لابن سعد (8/302-303) .
(1314) وقصة ذلك: أن مسيلمة لعنه الله وجد فرصة على حبيب فقال له: " هل تشهد أني رسول الله "؟ فقال حبيب: " لا أسمع "، فقال مسيلمة: " أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ "، فقال حبيب: " نعم "، فأمر مسيلمة بقتل حبيب كما في " الحلية " (1/356) ، فكان رجاله يقطعون جسمه عضوا عضوا، وفي كل مرة يعرضون عليه نفس السؤالين، فكان رضي الله عنه يجيب السؤال الأول بالصمم، والثاني بنعم، وكأنه رضي الله عنه كان يتمثل قول الشاعر:
أصَمُّ عن الشيء الذي لا أريده ... وأسمع خلقِ الله حين أريد(2/555)
التي قتل فيها مسيلمة، وأبلت بلاء حسنًا -وكانت قد أصبحت مسنة- حتى قطعت يدها وهي تحاول قتل مسيلمة، وجُرِحت سوى يدها أحدَ عَشر جرحًا، ثم عادت من المعركة بيد واحدة، والدم ينزف، وكان أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة يأتيها يسأل عنها، واستمر جرحها ينزف دمًا حتى فارقت الحياة، وأدركتها الوفاة رضي الله عنها) (1342) .
[بعد الانسحاب الرائع لخالد بن الوليد من سرية مؤتة والذي أنقذ به جيشه من فناء محقق، لم يكد خالد بن الوليد رضي الله عنه يعود بجيشه، إلى ضواحي المدينة بـ (الجرف) حتى اصطدم بأهل المدينة يصيحون بالجيش: " يا فرار يا فرار، فررتم في سبيل الله "، ويحثون في وجوههم التراب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " ليسوا بفرَّار، ولكنهم كُرَّار إن شاء الله".
ورغم ذلك ظل أهل المدينة حانقين على الجيش يؤنبون كل من لاقوه من أفراده حتى المرأة كانت لا تفتح الباب لزوجها منهم، وتذكره بأنه من الذين فروا؛ وفضلوا الحياة على الاستشهاد في سبيل الله:
فقد روي عن أبي بكر بن عبد الله بن عتبة أنه كان يقول: (ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة، لقيهم أهل المدينة بالشر، حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب، فيأبون أن يفتحوا له، يقولون: " ألا تقدمت مع أصحابك؟ ") يعنى الذين استشهدوا] (1343) .
وفي وقعة اليرموك حرض أبو سفيان رضي الله عنه النساء، فقال: " من رأيتنه فارًّا فاضرِبْنه بهذه الأحجار والعصي حتى يرجع " (1344) ،
__________
(1342) " الطبقات" (8/304) ، و " سير أعلام النبلاء " (2/281) .
(1343) انظر: " البداية والنهاية " (4/ 241) ، و "غزوة مؤتة" لمحمد أحمد باشميل ص (330 - 331) .
(1344) " البداية والنهاية " (7/11) .(2/556)
وحمل المسلمون على الروم حملة منكرة، ودارت بينهم الحرب كما تدور الرحى، وتكاثرت جموع الروم على ميمنة المسلمين، فعادت الخيل تنكص بأذنابها راجعة على أعقابها منكشفة كانكشاف الغنم بين يدي الأسد، ونظرت النساء خيل المسلمين راجعة على أعقابها، فنادت النساء: " يا بنات العرب! دونكن والرجال، ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب "، قالت سعيدة بنت عاصم الخولاني: (كنت في جملة النساء يومئذ على التل، فلما انكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا عقيرة بنت غفار، وكانت من المترجلات الباذلات، ونادت: " يا نساء العرب! دونكن والرجال، واحملن أولادكن على أيديكن، واستقبلنهن بالتحريض "، فأقبلت النسوة، واستقبلن من انهزم من سرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة، ويرجمن وجوه الخيل بالحجارة، وجعلت ابنة العاص بن منبه تنادي: " قَبح الله وجه رجل يفر عن حليلته "، وجعلت النساء يقلن لأزواجهن: " لستم لنا ببعولة إن لم تمنعوا عنا هؤلاء الأعلاج " (1345) ، وكانت خولة تقول هذه الأبيات:
يا هاربًا عن نسوة ثقاتْ ... لها حمال ولها ثباتْ
تُسلِمُوهُن إلى الهَنات ... تَمْلِكُ نواصِينَا مع البنات
أعلاج سوء فسق عتاة ... ينلن منا أعظم الشتات
قال ابن جرير: (وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم، وقتلوا خلقًا كثيرا من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين، ويقلن: " أين تذهبون وتَدَعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى
__________
(1345) (قال منهال: فقد كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم) اهـ. من " فتوح الشام " للواقدي (1/129) ، وانظر " البداية والنهاية" (7/11) .
والأعلاج: جمع عِلْج: وهو الرجل من كفار العجم.(2/557)
القتال) (1346) اهـ. ورجعت الفرسان تحرض الفرسان على القتال، فرجع المنهزمون رجعة عظيمة، عندما سمعوا تحريض النساء، وخرجت هند ابنة عتبة، وبيدها مزهر، ومن خلفها نساء من المهاجرين، وهي تقول الشعر الذي قالته يوم أحد:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشي القطا الموافق ... قيدي مع المرافق
ومن أبى نفارق ... إن تغْلبُوا نعانق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير واثق
هل من كريم عاشق ... يحمي عن العواتق
ثم استقبلت خيل ميمنة المسلمين، فرأتهم منهزمين، فصاحت بهم: " إلى أين تهزمون؟ وإلى أين تفرون؟ من الله ومن جنته؟ هو مطلع عليكم "، ونظرت إلى زوجها أبي سفيان منهزمًا، فضربت وجه حصانه بعمودها، وقالت له: " إلى أين يا ابن صخر؟ ارجع إلى القتال، ابذل مهجتك حتى تُمَحصَ ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال الزبير بن العوام: فلما سمعت كلام هند لأبي سفيان، ذكرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند، وعطف المسلمون معه، ونظرت إلى النساء وقد حملن معهم، وقد رأيتهن يسابقن الرجال، وبأيديهن العمد بين أجل الخل (1347) ، ولقد رأيت منهن امرأة وقد أقبلت على علج عظيم وهو على فرسه، فتعلقت به، وما زالت به حتى نكبته عن جواده، وقتلته، وهى تقول: " هذا بيان نصر الله للمسلمين " " وفي هذه الموقعة قتلت أسماء بنت يزيد بن السكن بعمود خبائها
__________
(1346) " البداية والنهاية" (7/13) .
(1347) كذا بالأصل!(2/558)
تسعة من الروم " (1348) ، قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: " وحمل المسلمون حملة منكرة لا يريدون غير رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " فانكسر الروم) (1349) .
ويُروى أنه لما أسر ضرار بن الأزور في وقعة أجنادين سار خالد بن الوليد في طليعة من جنده لاستنقاذه، فبينا هو في الطريق، مَرَّ به فارس معتقل رمحه، لا يبين منه إلا الحَدق، وهو يقذف بنفسه، ولا يلوي على ما وراءه، فلما نظر خالد قال: " ليت شعري من هذا الفارس؟ وأيم الله إنه لفارس "، ثم اتبعه خالد والناس من ورائه، حتى أدرك جند الروم، فحمل عليهم"، أمعن بين صفوفهم، وصاح بين جوانبهم، حتى زعزع كتائبهم، وحطم مواكبهم، فلم تكن غير جولة جائل، حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء، وقد قتل رجالا، وجندل أبطالًا، ثم عرض نفسه للموت ثانية، فاخترق صفوف القوم غير مكترث، وخامر المسلمين من القلق والإشفاق عليه شيء كثير، وظنه أناس خالدًا، حتى إذا قدم خالد قال له رافع بن عميرة: " من الفارس الذي تقدم أمامك؟ فلقد بذل نفسه ومهجته "، فقال خالد: والله لأنا أشد إنكارًا وإعجابًا لما ظهر من خلاله وشمائله، وبينا القوم في حديثهم، خرج الفارس كأنه الشهاب الثاقب، والخيل تعدو في أثره، وكلما اقترب أحد منه ألوى عليه، فأنهل رمحه من صدره، حتى قدم على المسلمين، فأحاطوا به وناشدوه كشف اسمه، ورفع لثامه، وناشده ذلك خالد، وهو أمير القوم وقائدهم، فلم يحر جوابًا، فلما أكثر خالد أجابه وهو ملثم فقال: " أيها الأمير إني لم أعرض عنك إلا حياءً منك، لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور، وبنات الستور، وإنما
__________
(1348) " سير أعلام النبلاء" (2/297) .
(1349) "فتوح الشام" (1/127 - 128) .(2/559)
حملني على ذلك أني مُحْرَقَةُ الكبد، زائدة الكمد "، فقال خالد: " من أنت؟ "، قالت: " أنا خَوْلَةُ بنت الأزور، كنت مع نساء قومي، فأتاني آت بأن أخي أسير، فركبتُ، وفعلتُ ما رأيتَ "، هنالك صاح خالد في جنده، فحملوا، وحملت معهم خولة، وعظم على الروم ما نزل بهم منها، فانقلبوا على أعقابهم، وكانت تجول في كل مكان علها تعرف أين ذهب القوم بأخيها، فلم تر له أثرًا، ولا وقفت له على خبر، على أنها لم تزل على جهادها، حتى استنقذ لها أخوها.
ومن مواقفها الرائعة، موقفها يوم أسر النساء في موقعة " صحورا "، (فقد وقفت في النساء، وكانت قد أسرت معهن، فأخذت تثير نخوتهن، وتضرم نار الحمية في قلوبهن، ولم يكن من السلاح شيء معهن، فقالت: " خذن أعمدة الخيام، وأوتاد الأطناب، ونحمل على هؤلاء اللئام، فلعل الله ينصرنا عليهم "، فقالت عفراء بنت عَفَار: " والله ما دعوتِ إلى ما هو أحب إلينا مما ذكرتِ "، ثم تناولت كل واحدة عمودًا من عمد الخيام، وصِحنَ صيحة واحدة، وألقت خَوْلَةُ على عاتقها عمودها، وتتابع النساء وراءها، فقالت لهن خولة: " لا ينفك بعضكن عن بعض، وكُنَّ كالحلقة الدائرة، ولا تتفرقن فتُمْلكْنَ، فيقع بكن التشتيت، واحطمن رماح القوم، واكسرن سيوفهم "، وهجمت خولة، وهجم النساء وراءها، وقاتلت بهن قتال المستيئس المستميت، حتى استنقذتهن من أيدي الروم، وخرجت وهي تقول:
نحن بنات تُبَّعٍ وحِمْيَر ... وضربنا في القوم ليس يُنْكَر
لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تُسْقَوْن العذاب الأكبر) (1350)
__________
(1350) " السابق " (1/28-29) .(2/560)
وبعد:
فهؤلاء هن أمهاتنا الأوليات، كواكب السحَر في سماء العظائم، وأروع الغُرَرَ في جبين العزائم، وذلك شيء من حديث جهادهن، لا يَدَع لقائل قيلًا، ولا لِمُفْتَخِرٍ سبيلًا، يشهد بسر من أسرار القوة العظيمة، التي جعلت من العرب الأميين خير أمةٍ أخرجت للناس، إنها النفوس التي صاغها الله برحمته، ورواها من حكمته، واصطنعها لتربية جنده، هيَأها لتزكية خَلْقه:
سَلَامٌ عَلى تِلْك الخَلائِقِ إنَّها مُسَلًمَة ... مِنْ كُل عارٍ ومَأثَم
وهذا موقف من مواقف الإيمان، وقد خالطت بشاشته قلب امرأة رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، حكاه عن الماضي القريب الأستاذ عبد الله بن عفيفي الباجوري رحمه الله:
(في أصيل يوم من صيف سنة 1914 كنت واقفًا في جمهور الواقفين في محطة طنطا، أترقب القطار القادم من الإسكندرية لأتخذه إلى القاهرة. لقد كان كل في شُغل بتلك الدقائق المعدودات يقضيها في توديع وإشفاق، وترقب وانتظار، وحمل متاع وتنسيق آخر، وكنت في شغُل بصديق يجاذبنى حديثا شيقًا ممتعا.
في تلك اللحظات الفانيهَ، وبين ذلك الجمع المحتشد، راعَ الناسَ صياح وإعوال، وتهدج واضطراب، ومشادة ومدافعة، ثم أبصروا فإذا فتاة في السابعة عشرة من سنيها، يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساعٍ من سعاة معتمدي الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوروبي جاوز الستين مكتئب مهزول، وهى تدافع الرجلين حولها بيدين لا حول لهما.(2/561)
أقبل القطار ثم وقف! فكاد كل ينسى بِذلك الموقف موقفه وما قصد له، ثم أصعدت الفتاة، وصعد معها من حولها، وعجلت أنا وصاحبي فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم، كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يَجْملُ معها الصبر، ولا يُحْمدُ دونها الصمت، سألت الشيخ: " ما خطبه؟ وما أمر الفتاة؟ "، فقال وقد أشرقه الدمع، وقطع صوته الأسى:
" إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتَجَزَتْ ثيابها لتتولى أمر غسلها، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحتي وجهها، ومكشوف صدرها، ثم أخذت تُنْفِدُ وقتها في صلاة وصيام، وسجود وهجود، وكانت تُدْعَى " روز "، فأبت إلا أن تسمى " فاطمة "، ما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، فصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة، والزهرة بالزهرة.
فزعت لهول ذلك الأمر، وقصدتُ أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها فلم يجد إلا شِماسا وامتناعًا، وعَزَت على الرجل خيبته، فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية، بأمر الأسرة الخارجة على دينها، وهنالك آمر المعتمد حكومة مصر فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم ذويها ليقذف بها بين جوانب دير تسترد فيه دينها القديم! ".. .
قلت: " أوَ أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم ولا جريمة؟ ".
فزفر الرجل زفرة كاد يتصدَّع لها قلبه وأحناء ضلوعه، ثم قال: " أما لقد خُدعتُ ودُهِمْتُ، وغلب أمر الحكومتين أمري فما عساني أفعل؟ ".
على أثر ذلك انثنيت إلى الفتاة وهى تعالج من أهوال الحزن وأثقاله(2/562)
ما تخشع الراسيات دون احتماله، فقلت: " ما بالك يا فاطمة؟ "- وكأنها أنِسَتْ منى ما لم تأنسه ممن حولها- فأجابتني بصوت يتعثر من الضنى: (لنا جيرة مسلمون، أغدو إليهم فأستمع أمر دينهم، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يخطف سناها الأبصار، يقول وهو يلوح إلي بيده: " اقتربي يا فاطمة ") ، ولو أنك أبصرتها، وهي تنطق باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم لرأيت رعْدَة تتمشى بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلي أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانِها فتعقله، وإلى وجهها فتحيل لونه، فلم تكد تستتم جملتها حتى أخذتها رجفة فهوت على مقعدها كأنها بناء منتقض!
إلى ذلك الحد غشي الناس ما غشيهم من الحزن، وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار فطلبت إليه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله: " أشهد أن محمدًا رسول الله " تنفست الصُّعداء، وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى، فلما أفاقت قلت لها: " ومم تخافين وتفزعين؟ "، قالت: " إنه سيؤمر بي إلى دير.. حيث ينهلون من السياط دمي، ولست من ذلك أخاف، إلا إن أخوف ما أخاف يومئذ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي! "، قلت لها: " يا فاطمة أولا أدلك على خير من ذلك؟ "، قالت: " أجل"، قلت: " إن حكم الإسلام على القلوب، فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك، حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟ "، هنالك نظرت إليَّ نظرة تضاءلتُ دونها حتى خفيتُ على نفسي، ثم قالت:" دون ذلك حَزُّ الأعناق وتفصيل المفاصل! دعني! فإنني إن أطعت نفسي، عصاني لساني "، وكان ضلالًا ما توسلت به أنا وأبوها ومَن حولها.
كان ذلك حتى أوفينا على القاهرة فحيل دونها، لم أعلم بعد ذلك(2/563)
شيئًا من أمر فاطمة لأني لم أستطع أن أعلم، رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت أولى شهيدات الرأي الحر، والإيمان الوثيق) (1351) .
__________
(1351) " المرأة العربية " (2/8-11) .(2/564)
[الفصل السادس]
المرأة عالِمةً
يقولون- وكأنهم أدلَوْا بالجديد من الحجة والعلم-: " إن المرأة نصف المجتمع " يتخذونها وسيلة تسوغ هم كل مأرب في المرأة! ولكننا نعلم أن الإسلام قد أولى المرأة غاية الأهمية والعناية لا باعتبار أنها نصف المجتمع، بل إنها أكثر من نصف المجتمع، إنها صانعة المجتمع، فيجب أن تحوز تلك العناية كي تكون على مستوًى يجعلها تصوغ لَبِناتِ المجتمع على أكمل وجه.
- لقد كان أول ما نزل من الوحي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم) العَلَق (1- 5) ، فدل ذلك على مكانة العلم وشرفه في الإسلام.
- وقال عز وجل: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر (9) .
- وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة) التحريم (6) .
جاء عن عَليّ رضي الله عنه في تفسيرها: " أدبوهم، وعَلموهم "، وروى عنه الحاكم وابن المنذر قوله في تفسيرها: " عَلِّموا أنفسَكم، وأهليكم الخير، وأدبوهم ".(2/565)
قال الألوسي رحمه الله: (واستُدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بَعْضٌ من أبيه) .
- وقال عز وجل مخاطبًا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) الأحزاب (34) .
- وقال صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1352) .
قال الحافظ السخاوي: (قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث: " ومسلمة " وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كان معناها صحيحًا) (1353) اهـ.
من هنا قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى:
(ويجب عليهن- أي النساء- النفار للتفقه في الدين، كوجوبه على الرجال، وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصيام، وما يحل، وما يحرم: من المآكل، والمشارب، والملابس كالرجال، ولا فرق، وأن يعلمن الأقوال والأعمال: إما بأنفسهن، وأما بالإباحة لهم لقاء من
__________
(1352) (رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس، والطبراني في " الكبير" عن ابن مسعود، وفي " الأوسط " عن ابن عباس، وفيه أيضا وكذا البيهقي عن أبي سعيد، وتمام في فوائده عن ابن عمر، والخطيب في " تاريخه عن علي ") اهـ، وقال الحافظ العراقي- رحمه الله-: (قد صحح بعض الأئمة طرقه) ، وقال - المزي: (هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن) ، وقال السيوطي في " التعليقة المنيفة": (وعندي أنه بلغ رتبة الصحيح، لأني رأيت له نحو خمسين طريقا، وقد جمعها في جزء) اهـ، انظر: " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " (1/55 - 57) ، " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " رقم (86) .
(1353) " المقاصد الحسنة " ص (277) .(2/566)
يعلمهن، وفرضٌ على الإمام أن يأخذ الناس بذلك) (1354) اهـ.
وعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها، فأحسن تعليمها، وأدَّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " (1355) .
فقرن صلى الله عليه وسلم ثواب العتق من رِق العبودية بثواب العتق من رق الجهل بفرائض الله عز وجل، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أحست المرأة نتيجة لهذا الحث بحاجتها إلى العلم، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب منه مجلسًا خاصًا بالنساء، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله "، فقال صلى الله عليه وسلم: " اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا "، فاجتمعن، فأتاهن، فعلمهن مما علمه الله) (1356) .
لقد بلغ حرص النساء المسلمات على العلم غايته حتى تطلبن المجالس الخاصة بهن للتعليم مع أنهن يستمعن في المسجد لتعليمه ومواعظه صلى الله عليه وسلم.
كذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يسن للنساء سنة مؤكدة، ألا وهي: شهود مجامع الخير يتزودن منها:
فعن عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1354) عزاه في" الأسرة في ضوء الكتاب والسنة" ص (28) إلى: " الأحكام" لابن حزم (1/413) ، ووقفت عليه بمعناه في طبعة زكريا علي يوسف (1/325) .
(1355) تقدم تخريجه برقم (902) .
(1355) أخرجه البخاري (1/175) في العلم: باب هل يجعل للنساء يومًا على حدة في العلم، وفي الجنائز، وفي الاعتصام، ومسلم رقم (2633) في البر والصلة: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه.(2/567)
أن نخرجهن في الفطر: والأضحى: العواتق (1357) والحُيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين.. قلت: " يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ " قال: " لتلبسها أختها من جلبابها ") (1358) .
- وجاء في " فتوح البلدان " للبلاذري أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما كانت تتعلم الكتابة في الجاهلية على يد امرأة كاتبة تدعى " الشفاء العدوية " (1359) ، فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم طلب إلى الشفاء أن تعلمها تحسين الخط وتزيينه كما علمتها أصل الكتابة) (1360) .
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين " (1361) .
لقد أقبلت المرأة المسلمة على العلم منذ أكرمها الله تعالى بالإسلام، فنهلت من معينه، وأخذت منه بسهم وافر:
فهذه:
الصديقة بنت الإمام الصدِّيقِ الأكبر، خير من طلعت عليه الشمس
__________
(1357) العواتق: جمع عاتق، وهي البنت البالغة، والتي قاربت البلوغ، لأنها تعتق من الخروج لخدمة أهلها، لتمكث في البيت إلى أن تتزوج.
(1358) أخرجه البخاري (2/386) في العيدين، والحيض، والحج، ومسلم رقم (890) في صلاة العيدين، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة. (1359) الشفاء بنت عبد الله العدوية، كانت من عقلاء النساء وفضلائهن، وهى من المهاجرات الأول، كان عمر يقدمها في الرأي، ويرعاها، ويفضلها، وربما ولَّاها شيئا من أمر السوق- انظر: " الإصابة" (7/727 - 828) .
(1360) " تربية الأولاد في الإسلام " (1/277) ، وانظر: "المجموع " (9/55) . (1361) أخرجه مسلم رقم (332) في الحيض: باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فْرصَة من مسك في موضع الدم.(2/568)
بعد الأنبياء والمرسلين، رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، ومعينه في الأسفار، ووزيره في عهده، وخليفته بحق من بعده، رضي الله عنه وعن ابنته، القرشية، التَّيمية، المكية، أم المؤمنين، زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وحبيبة خليل الله صلى الله عليه وسلم، الفقيهة الربانية، المبرأة من فوق سبع سماوات، أفقه نساء هذه الأمة على الإطلاق، تزوج بها سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنوات، وهو صلى الله عليه وسلم ابن أربع وخمسين سنة، وأقام معها تسع سنوات، ومات عنها وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهي لم تخط بعد إلى التاسعة عشرة، على أنها ملأت أرجاء الأرض علمًا، فهى في رواية الحديث نسيج وحدها، وعت من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تعه امرأة من نسائه، وروت عنه ما لم يَرْوِ مِثلَهُ أحد من الصحابة إلا أبا هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (روت عنه صلى الله عليه وسلم علما كثيرًا طيبا مباركا فيه، وعن أبيها، وعن عمر، وفاطمة، وسعد، وحمزة بن عمرو الأسلمي، وجُدامة بنت وهب) (1362) .
عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين سنة، وتوفيت ولها من العمر ثمان وستون سنة.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله:
(وكانت امرأة بيضاء جميلة، ومِن ثَم يقال لها: الحميراء، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بِكرَا غيرها، ولا أحَب امرأةً حُبَّها، ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مُطلقًا، امرأة أعلم منها، وذهب بعض العلماء إلى أنها أفضل من أبيها، وهذا مردود، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، بل نشهد أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فهل فوق ذلك مَفْخَر؟) (1363) اهـ.
__________
(1362) " سير أعلام النبلاء " (2/135) .
(1363) "السابق" (2/140) .(2/569)
من فضائلها رضي الله عنها:
ما رواه هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرِيتُكِ في المنام ثلاثَ ليال، جاء بكِ الملَكُ فِى سَرَقَةٍ (1364) من حرير، فيقول: " هذه امرأتك "، فأكشفُ عن وجهك، فإذا أنتِ فيه، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمْضِهِ " (1365)) .
وعن ابن أبي مُليكة، عن عائشة رضي الله عنها: (أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هذه زوجتُك في الدنيا والآخرة " (1366)) .
(وكان تزويجه صلى الله عليه وسلم بها إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فتفرد بها ثلاثةَ أعوام حتى بنى بعائشة في شوال بعد وقعة بدر، فما تزوج بكرًا سواها، وأحبها حُبُّا شديدًا كان يتظاهر به، بحيث إن عمرو بن العاص، وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة، سأل النبي صلى الله عليه وسلم: " أي الناس أحبُّ إليك يا رسولَ الله؟ " قال: " عائشة"، قال: " فَمِن الرجال؟ "، قال: " أبوها" (1367) .
وهذا خبر ثابت رغم أنوف الروافض، وما كان صلى الله عليه وسلم يُحِب إلا طيبا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لو كنت مُتَخِذًا خليلًا من هذه الأمة، لاتخذت
__________
(1364) السرقَة: بفتح السين والراء والقاف: هي القطعة، وانظر: " الفتح" (9/156) .
(1365) " سير أعلام النبلاء " (2/140) .
(1366) " السابق " (2/141) .
(1367) أخرجه البخاري (7/19) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (8/59) في المغازي: باب غزوة ذات السلاسل، ومسلم (2384) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه.(2/570)
أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أخوةُ الإسلام أفضل " (1368) .
فَأحَبَّ أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حَري أن يكون بغيضًا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) (1369) .
وعن عمرو بن غالب: أن رجلًا نال من عائشة عند عمَّار، فقال: (اعزب مقبوحا منبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) (1370) .
وحُبُّه صلى الله عليه وسلم لعائشة كان أمرًا مستفيضًا، ألا تراهم كيف كانوا يتحروْنَ بهداياهم يومها تقربًا إلى مرضاته؟! قال حماد بن زيد، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: (كان الناس يتحرَّوْنَ بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة، فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يُهدوا له أينما كان، فذكرت أم سلمة له ذلك، فسكت، فلم يردَّ عليها، فعادت الثانية، فلم يَرُد عليها، فلما كانت الثالثة قال: " يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عَلَيَّ
__________
(1368) أخرجه البخاري (7/15) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المساجد، وفي الفرائض، وقد اختار صلى الله عليه وسلم أن يمرض في بيتها، ومن ثم قال أبو الوفا بن عقيل رحمه الله: (انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت، واختار لموضعه من الصلاة الأب، فما هذه الغفلة المستحوذة على قلوب الرافضة، عن هذا الفضل والمنزلة التي لا تكاد تخفى عن البهيم فضلًا عن الناطق) اهـ نقلًا من " الإجابة " للزركشي ص (54) .
(1369) " سير أعلام النبلاء" (2/142) .
(1370) أخرجه الترمذي رقم (3888) في المناقب وحسنه، وابن سعد في "الطبقات" (8/65) ، و" الحلية " (2/44) .(2/571)
الوحي وأنا في لحاف امرأةٍ منكنَّ غيرِها " (1371) متفق على صحته. وهذا الجواب منه دالّ على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حُبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها) (1372) .
وعن أنس مرفوعًا: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (1373) .
وعنها رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عائشُ، هذا جبريل وهو يقرأ عليكِ السلام"، قالت: " وعليه السلامُ ورحمةُ الله، تَرى ما لا نَرى يا رسول الله " (1374)) .
لقد كانتَ رضي الله عنها إحدى المجتهدات من أنفذ الناس رأيا في أصول الدين ودقائق الكتاب المبين، وكانت رضي الله عنها تحسن أن تقرأ، ولم يكن يعرف ذلك إلا عدد محدود من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم كان لها رضي الله عنها من استدراكات على الصحابة وملاحظات، فإذا علموا
__________
(1371) أخرجه البخاري (7/84) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب فضل عائشة، وفي الهبة، وأخرجه مسلم مختصرا رقم (2441) ، ومطولًا رقم (2442) .
(1372) " سير أعلام النبلاء " (2/143) .
(1373) أخرجه البخاري (7/73) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب فضل عائشة، وفي الأطعمة: باب الثريد، ومسلم رقم (2446) في فضائل الصحابة: باب فضل عائشة رضي الله عنها، والترمذي رقم (3887) .
(1374) أخرجه البخاري (7/83) في فضل عائشة، وبدء الخلق، والأدب، والاستئذان، ومسلم رقم (2447) ، في فضائل الصحابة: باب فضائل عائشة رضي الله عنها، وأبو داود رقم (5232) ، والترمذي رقم (3876) .
وقال الزركشي رحمه الله: (قال أبو الفرج: " وإنما سلم عليها ولم يواجهها لحرمة زوجها، وواجه مريم لأنه لم يكن لها بعل؛ فمن نُزهت لحرمة بعلها عن خطاب جبريل، كيف يسلط عليها أكف أهل الخطايا؟! ") اهـ. ص (55) .(2/572)
بذلك منها رجعوا إلى قولها) (1375) .
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ما أشكَلَ علينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا) (1376) ، وقال مسروق: "رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرايِض " (1377) .
وقيل لمسروق: " كانت عائشة تحسن الفرائض؟ " قال: " والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض " (1378) .
وقال عطاء بن أبي رباح: " كانت عائشة أفقه الناس، وأحسنَ الناس رأيا في العامة " (1379) .
قال الزهري: (لو جمع علم الناس كلهم، وأمهات المؤمنين، لكانت عائشة أوسعَهم عِلما) (1380) .
وعنه أيضًا: قال: " لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل " (1381) .
قال الذهبي رحمه الله: (مسند عائشة يبلغ ألفين ومائتين وعشرة
__________
(1375) انظر: " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للزركشي، و" السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين" للمحب الطبري ص (33-94) .
(1376) أخرجه الترمذي رقم (3883) ، وقال: " حسن صحيح".
(1377) " الإجابة" للزركشي ص (58) .
(1378) أخرجه الدارمي (2/342، 343) ، وابن سعد في " الطبقات " (8/45) ، والحاكم (4/11) .
(1379) " سير أعلام النبلاء " (2/185) .
(1380) " المستدرك" (4/11) .
(1381) قال الهيثمي في " المجمع": (رواه الطبراني، ورجاله ثقات) اهـ (9/243) ، وكذا الحاكم (4/11) .(2/573)
أحاديث، اتفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين) (1382) .
[وذكرها- رضي الله عنها- الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقاته في جملة فقهاء الصحابة، ولما ذكر ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام على مزية كثرة ما نقل عنهم، قدَّم عائشة على سائر الصحابة، وقال الحافظ أبو حفص عمر بن عبد المجيد القرشي الميانشي في كتاب" إيضاح ما لا يسع المحدث جهله": " اشتمل كتاب البخاري ومسلم على ألف حديث ومائتي حديث من الأحكام فروت عائشة من جملة الكتابين مائتين ونيفا وتسعين حديثا لم يخرج عن الأحكام منها إلا يسير " قال الحاكم أبو عبد الله: " فحُمِل عنها ربع الشريعة "] ، (1383) .
وعن عروة بن الزبير قال: " ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة رضي الله عنها " (1384) .
وذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: " أنها كانت وحيدة عصرها في ثلاثة علوم: علم الفقه، وعلم الطب، وعلم الشعر " (1385) .
ورُوي عن ابن شهاب قال: حدثنا القاسم بن محمد: أن معاوية دخل على عائشة، فكلمها، قال: فلما قام معاوية، اتكأ على يد مولاها ذكوان، فقال: " والله، ما سمعتُ قط أبلغَ من عائشة، ليس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) (1386) .
__________
(1382) " سير أعلام النبلاء " (2/139) .
(1383) " الإجابة " للزركشي ص (59) .
(1384) "الإصابة" (8/18) .
(1385) انظر: " الاستيعاب " (4/1881) وما بعده.
(1386) " سير أعلام النبلاء" (2/183) .(2/574)
وعن موسى بن طلحة قال؟ "ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة " (1387) .
وعن هشام عن أبيه قال: ربما روت عائشة القصيدة ستين بيتًا وأكثر، (1388) (وعن أبي الزناد؛ قال: ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة، فقيل له: " ما أرواك! "، فقال: " ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا " (1389)) .
ورُوى عن ابن سيرين عن الأحنف، قال: (سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء بعدهم، فما سمعتُ الكلامَ من فم مخلوق أفخمَ ولا أحسنَ منه مِن في عائشة) (1390) .
وعن الشعبي: أن عائشة قالت: رَوَيتُ لِلَبِيد نحوا من ألف بيت، وكان الشعبي يذكرها، فبتعجبُ من فِقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة (1391) !
وعن هشام بن عروة قال: كان عروة يقول لعائشة رضي الله عنها: يا أمَّتاه، لا أعجب من فقهك؛ أقول: زوجةُ نبي الله، وابنةُ أبي بكر، ولا أعجب من عِلمك بالشعْر وأيام الناس؛ أقول: ابنةُ أبي بكر، وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب: كيف هو، ومن أين هو، أو ما هو؟
قال: فضربَت علىَ منْكبِه، وقالت: أي عُرَية، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1387) رواه الترمذي (3884) ، وقال: حسن صحيح غريب ".
(1388) " سير أعلام النبلاء" (2/189) .
(1389) "الإصابة" (8/ 18) .
(1390) " المستدرك" (4/11) .
(1391) " سير أعلام النبلاء " (2/197) .(2/575)
كان يَسقمُ عند آخر عُمُره- أو في آخر عُمُره- وكانت تَقْدَمُ عليه وفودُ العرب من كل وجه، فَتَنْعَتُ له الأنعات، وكنتُ أعالجها له، فَمِنْ ثمَّ) (1392) .
وعن عروة قال: (ما رأيتُ أحدًا أعلم بالطب من عائشة رضي الله عنها، فقلتُ: يا خالة، مِمن تعلمتِ الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس يَنعَت بعضهم لبعض، فأحفظُه) (1393) .
وعن هشام، عن أبيه، قال: (لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدًا قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا، ولا بكذا، ولا بقضاء، ولا طب منها، فقلت لها: " يا خالةُ، الطب، من أين عُلِّمْتِهِ؟ "، فقالت: " كنتُ أمرضُ فيُنْعَتُ لي الشيءُ، ويمرض المريض، فينعتُ له، وأسمع الناسَ ينعتُ بعضهم لبعض، فأحفظه ".
قال عروة: فلقد ذهب عامةُ علمها، لم أسأل عنه) (1394) .
(وكانت زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا قسيمات عائشة رضي الله عنها في إذاعة العلم وإفاضة الدين على المسلمين، مما يؤكد أن المرأة المسلمة أقبلت على العلم منذ أكرمها الله تعالى بالإسلام، كثيرة تلك الأحاديث التي روتها أمهات المؤمنين عنه صلى الله عليه وسلم، وكثيرة تلك الأقوال المنسوبة إليهن في التفسير وفقه الحديث، وكثيرات هن النساء اللاتي حفظن كتاب الله تعالى أو حفظن كثيرة، وحفظن الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن يبلغن
__________
(1392) أخرجه الإمام أحمد (6/67) ، وأبو نعيم في " الحلية " (2/50) ، وانظر: " مجمع الزوائد " (9/242) .
(1393) " سير أعلام النبلاء " (2/183) .
(1394) " السابق " (2/183) ، " الحلية " (2/49) .(2/576)
ذلك الرجال من وراء حجاب كما أمر الله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب) الأحزاب (53) .
ولقد وجد على مر القرون نساء تجاوزن علوم فرض العين إلى فروض الكفاية، فكانت منهن المحدثات العظيمات، والراويات الثقات، وهذا الإماء محمد بن سعد صاحب الطبقات يعقد جزءًا من كتاب " الطبقات الكبير " لراويات الحديث من النساء أتى فيه على نيِّف وسبعمائة امرأة روين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته رضي الله عنهم، وروى عنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين، وكذا فعل غيره من الأئمة في مصنفاتهم.
وهل تجد موطنًا أوثق، ومرتقى أسمق، ومنزلة أوثق من أن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه- وهو العَلَم الأشم الذي لا يدانيه أحد في علمه وحكمته، وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته- يتلقى الحديث على مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقوم على خدمته، وهي ميمونة بنت سعد؟ فكيف بمن دون علي رضي الله عنه؟! (1395) .
ويُروى عن أم الدرداء الفقيهة الزاهدة قولها: " لقد طلبت العبادة في كل شيء فما أصبت لنفسي شيئًا أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم (1396) .
لقد تصدت المرأة لفنون العلم وشئون الأدب، وأمعنت في كل ذلك إمعانًا أعيا على الرجل دركه في مواطن كثيرة، (وكان لها مظهر خلقي كريم في العلم والتعليم فقد امتازت " العالمة المسلمة " بالصدق في العلم، والأمانة في الرواية، واستمع إلى هذه الشهادة يشهدها واحد من عظماء العلماء ألا
__________
(1395) " المرأة العربية" (3/141-142) بتصرف.
(1396) " الأخت المسلمة" للجوهري ص (74) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء" (4/277) .(2/577)
وهو الحافظ الذهبي (ت 748) ، وقد ألف كتابه " ميزان الاعتدال " في نقد رجال الحديث، خرَّج فيه عدة آلاف مُتَّهم من المحدثين، ثم أتبع قوله بتلك الجملة التي كتبها بخطه الواضح وقلمه العريض فقال: " وما علمت من النساء من اتُّهِمَتْ ولا من تركوها " (1397) .
ولعل قائلًا يقول: " وما للنساء ورواية الحديث؟ وهل تركهن الذهبي إلا من قلة أو ذلة؟ "، والجواب: أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ عهد عائشة رضي الله عنها حتى عهد الذهبي ما حُفِظَ ولا رُوِيَ بمثل ما حفظ في قلوب النساء، وروي على ألسنتهن.
ذلكم الحافظ ابن عساكر (ت 571 هـ) أوثق رواة الحديث عقدة، وأصدقهم حديثا، حتى لقبوه بـ " حافظ الأمة "، كان له من شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء، فهل سمع الناس في عصر من العصور، وأمة من الأمم أن عالمًا واحدا يتلقى عن بضع وثمانين امرأة علمًا واحدًا؟ فكم ترى منهن من لم يلقها أو يأخذ عنها، والرجل لم يجاوز الجزء الشرقي من الدولة الإسلامية، فلم تطأ قدماه أرض مصر، ولا بلاد المغرب، ولا الأندلس وهي أحفل ما تكون بذوات العلم والرأي من النساء) (1398) .
(وهذا الإمام أبو مسلم الفراهيدي المحدث يكتب عن سبعين امرأة) (1399) .
(وقد شهد الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله مجالس حافلة قرأ فيها على بعض المحدثات الحافظات الفقيهات، فتراه يختم كتابه " بغية الوعاة "
__________
(1397) " ميزان الاعتدال" (4/604) .
(1398) " المرأة العربية " (2/138-139) .
(1399) " من أخلاق العلماء " هامش ص (345) .(2/578)
بمسلسلات قرأ منها على الأصيلة الثقة الخيرة الفاضلة الكاتبة أم هانئ بنت الحسن الهوريني.
- وعلى هاجر بنت محمد المصرية.
- وأخبرته الشيختان المسندتان أم هانئ وأم الفضل بنت محمد المقدسي.
- وقرأ على الأصيلة نشوان بنت عبد الله الكناني.
- وأخبرته كمالية بنت محمد بن أبي بكر الجرجاني.
- وأنبأته أمة الخالق بنت عبد اللطيف العقبي.
- وأخبرته أمة العزيز بنت محمد الأمباسي.
- وفاطمة بنت علي بن اليسير مشافهة بالفسطاط.
- وخديجة بنت أبي الحسن بن الملقن ... إلخ) (1400) .
ولقد بلغت الكثيرات من العالمات المسلمات منزلة علمية رفيعة، فكان منهن الأستاذات والمدرسات (للإمام الشافعي، والإمام البخاري، وابن خلكان، وابن حيان) (1401) .
ونعرض فيما يلي نماذج من هؤلاء الفقيهات والمحدثات اللائي اعتززن بالإسلام، فكان لهن سهم في إعزازه، والبذل في سبيله.
__________
(1400) " السابق" ص (345) .
(1401) " تربية الأولاد في الإسلام" (1/279) ، وانظر مجلة " الأزهر " عدد رمضان 1404 هـ ص (1482) .(2/579)
[فصل]
صور من سيرة المسلمة العالمة
حفصه بنت سيرين: أم الهذيل، الفقيهة، الأنصارية.
قال هشام بن حسان:
" قرأت حفصة بنت سيرين القرآن وهى ابنة اثنتي عشرة سنة، وماتت وهي ابنة تسعين ".
وعنه أن ابن سيرين كان إذا أشْكِل عليه شيء من القرآن قال: " اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ ".
وعنه قال: اشترت حفصة جارية أظنها سِنْدِيَّة، فقيل لها: " كيف رأيتِ مولاتَك؟ "، فذكر إبراهيم كلامًا بالفارسية، تفسيره: " أنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنبًا عظيمًا، فهي الليلَ كله تبكى وتصلي ".
وعنه قال: قد رأيتُ الحسنَ وابنَ سيرين، وما رأيت أحدًا أرَى أنه أعقل من حفصة.
وعن عبد الكريم بن معاوية قال: " ذُكر لي عن حفصة أنها كانت تقرأ نصف القرآن في كل ليلة، وكانت تصوم الدهر، وتفطر العيدين وأيام التشريق ".
وعن هشام أن حفصة كانت تدخل في مسجدها فتصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم لا تزال فيه حتى يرتفع النهار، وتركع، ثم تخرج فيكون عند ذلك وضوءها ونومها، حتى إذا حضرت(2/580)
الصلاةُ عادت إلى مسجدها إلى مثلها.
عن مهدي بن ميمون قال: مَكَثَتْ حفصة في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة أو لِقائِلَةٍ) (1402) .
عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارةَ: (ت 98 أو 106 هـ) .
الأنصاريهَ، النجَّارية، المدنية، الفقيهة، تربية (1403) عائشة وتلميذَتُها، قيل: لأبيها صحبة، وجَدُها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة.
كانت عالمة، فقيههَ، حجة، كثيرة العلم، حدثت عن عائشة، وأم سلمة، ورافع بن خَديج، وأختها أم هشام بنت حارثة، وحدث عنها ولدها أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن، وابناه: حارثة، ومالك، وابن أختها القاضي أبو بكر بن حزم، وابناه: عبد الله، ومحمد، والزهري، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وآخرون، وحديثها كثير في دواوين الإسلام.
روى أيوب بن سويد، عن يونس، عن ابن شهاب، عن القاسم ابن محمد أنه قال لي: " يا غلام، أراك تحْرِصُ على طلب العلم، أفلا أدلك على وعائه "؟ قلت: " بلى"، قال: " عليك بِعَمْرَةَ فإنها كانت في حَجْرِ عائشة رضي الله عنها؛ قال: فأتيتُها، فوجدتُها بحرًا لا ينْزَف " (1404) .
(وهذه ابنة سعيد بن المسيب لما أن دخل بها زوجها " (1405) ، وكان
__________
(1402) " صفة الصفوة " (4/24-26) ، " سير أعلام النبلاء" (4/507) .
(1403) التربُ: اللذَةُ، والسنُّ، ومن وُلِد معك.
(1404) "سير أعلام النبلاء" (4/507-508) .
(1405) جاء في ترجمة سعيد بن المسيب (أن عبد الملك بن مروان خطب ابنته لولده الوليد حين ولاه العهد، فأبى أن يزوجها، قال أبو وداعة: كنت أجالس سعيد بن =(2/581)
من أحد طلبة والدها، فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج، فقالت
__________
= المسيب ففقدني أيامًا، فلما جئت قال: " أين كنت"؟، قلت: " توفيت أهلي، فاشتغلت بها "، قال: " فهلًا أخبرتنا فشهدناها؟ " قال: ثم أردت أن أقوم فقال: " هل أحدثت امرأة غيرها؟ " فقلت: " يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ " فقال: " إن أنا فعلتُ تفعل؟ " قلت: " نعم"، فحمد الله تعالى وصلى على النبي وزوجني على درهمين أو على ثلاثة، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، وصرت إلى منزلي، وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟، وصليت المغرب، وكنت صائمًا فقدمت عشائي لأفطر، وكان خبزًا وزيتًا، وإذا بالباب يُقْرعُ، فقلت: " من هذا؟ " فقال: " سعيد"، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلًا سعيد بن المسيب، فإنه لم يُر منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وِخرجت، إذا بسعيد بن المسيب، وظننت أنه بدا له، فقلت: " يا أبا محمد هَلا أرسلت إلي فأتيتك؟ " قال: " لا، أنت أحق أن تزار"، قلت: " فما تأمرني؟ " قال: " رأيتك رجلًا عَزَبًا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك "، فإذا هي قائمة خلفه فِي طوله، ثم دفعها في الباب، ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقتُ من الباب، ثم صعدت إلى السطح، وناديت الجيران، فجاءوني وقالوا: " ما شأنك؟ " قلت: " زؤَجني سعيد بن المسيب ابنته، وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار"، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت، وقالت: " وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أنا أصلحها ثلاثة أيام "، فأقمت ثلاثًا ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج، قال: فمكثت شهرا لا يأتيني ولا آتيه ثم أتيته بعد شهر، وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي، ولم يكلمني، حتى انفض مَنْ في المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: " ما حال ذلك الإنسان؟ " قلت: " على ما يحب الصديق، ويكره العدو " اهـ نقلًا من (" من أخلاق العلماء" لمحمد بن سليمان) ص (123-125) ، وفي " الإحياء" بزيادة: (فقال: " إن رابك منه أمرً، فدونك والعصا "! ، فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم) اهـ، فما أعظم اطمئنان ذلك التابعي الجليل إلى مصير ابنته، حتى أنه لم يفكر في استقصاء أحوالها، لاطمئنانه إلى أنها في كنف رجل تقي، يخشى الله تعالى، ويعرف حقها عليه، ومكانتها منه!(2/582)
له زوجته، " إلى أين تريد؟ "، فقال: " إلى مجلس سعيد أتعلم العلم"، فقالت له: " اجلس أعلمك علم سعيد ") (1406) .
معاذَة بنت عبد الله (ت 83 هـ) :
السيدة العالمة، أم الصهباء العدويةُ البصرية العابدة، زوجةُ السيدِ القدوة صِلَة بن أشيم. رَوَتْ عن عَلِي بن أبي طالب، وعائشة، وهشام بن عامر، حَدث عنها أبو قلابة الجَرمي، ويزيد الرشْك، وعاصم الأحول، وعمر بن ذر، وإسحاق بن سُوَيد، وأيوب السختِياني، وآخرون، وحديثُها محتج به في الصحاح، وثقها يحيى بن مَعِين.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله:
(بلغنا أنها كانت تُحْيي الليلَ عبادةً، وتقول: " عَجِبْت لعين تنام، وقد عَلِمتْ طولَ الرُّقاد (*) في ظُلَمِ القبور "، ولما استشْهِد زوجُها صِلَةُ وابنُها في بعض الحروب، اجتمع النساء عندها، فقالت: " مرحبًا بِكُنَّ، إن كُنْتُنَّ جئتُن للهَناء، وإن كنتن جئتُنَّ لغير ذلك فارجعن ".
وكانت تقول: والله ما أحب البقاء إلا لأتقرب إلى ربي بالوسائل، لعله يجمع بيني وبين أبي الشعثاء وابنه في الجنة") (1407) اهـ.
أم الدرداء الصغرى:
(السيدة العالمة الفقيهة، هُجَيْمَة بنت يحيى الوَصابِية الحِميَرِيَّة الدِّمَشقِيَّة.
روت علمًا جَما عن زوجها أبي الدرداء، وعن سلمان الفارسي،
__________
(1406) "المدخل" للإمام ابن الحاج (1/215) .
(*) انظر الحاشية رقم (1504) .
(1407) " سير أعلام النبلاء " (4/508 - 509) .(2/583)
وكعب بن عاصم الأشعري، وعائشة، وأبي هريرة، وطائفة، وعرضت القرآن وهي صغيرة على أبي الدرداء، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد.
وقال ابن جابر وعثمان بن أبي العاتكة: كانت أم الدرداء يتيمةً في حِجْر أبي الدرداء، تختلف معه في بُرْنُس، تصلي في صفوف الرجال، وتجلس في حِلَق القرآن تعلَّمُ القرآن، حتى قال لها أبو الدرداء يومًا: " الحقي بصفوف النساء".
وعن جبير بن نُفير، عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء عند الموت: " إنك خطبتني إلى أبَوي في الدنيا، فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة "، قال: " فلا تنكحين بعدى"، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال: " عليك بالصيام") .
قال مكحول: " كانت أم الدرداء فقيهة "، وعن عون بن عبد الله قال: " كنا نأتي أم الدرداء، فنذكر الله عندها"، وقال يونس بن ميسرة: " كن النساء يتعبدن مع أم الدرداء رضي الله عنها، فإذا ضَعُفْنَ عن القيام، تَعَلَّقنَ بالحبال "، قال إسماعيل بن عُبيد الله: كان عبد الملك بن مروان جالسًا في صخرة بيت المقدس، وأم الدرداء معه جالسة، حتى إذا نُودِي للمغرب قام، وقامت تتوكأ على عبد الملك حتى يدخلَ بها المسجد، فتجلس مع النساء، ويمضي عبد الملك إلى المقام يصلي بالناس.
وعن يحيى بن يحيى الغسَّاني قال: كان عبد الملك بن مروان كثيرًا ما يجلس إلى أم الدرداء في مُؤخَر المسجد بدمشق) (1408) اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (أم الدرداء الصغرى: تابعية عابدة
__________
(1408) "السابق" (4/277 - 279) بتصرف.(2/584)
عالمة فقيهة، كان الرجال يقرءون عليها، ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها مع المتفقهة، يشتغل عليها وهو خليفة رضي الله عنها) (1409) .
بنت الإمام مالك بن أنس:
وكان الإمام مالك يُقرأ عليه الموطأ، فإن لحن القارئ في حرف، أو زاد، أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: " ارجع، فالغلط معك "، فيرجع القارئ، فيجد الغلط (1410) .
جارية الإمام مالك بن أنس:
(وحكى عن أشهب أنه كان في المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأنه اشترى خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتنا نعطكِ الثمن، فقالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يدٍ بيد، فسأل عن الجارية، فقيل له: " إنها جارية مالك بن أنس " رحمه الله تعالى) (1411) اهـ.
أم علي تقِيَّة:
العالمة المصرية الفاضلة أبوها الثقة أبو الفرج غيث بن عليّ، وولدها النحوي القارئ أبو الحسين علىُّ بن فضل، صحبت الحافظ المحدِّث أبا طاهر السلَفي بثغر الإسكندرية زمانا، فذكرها في بعض تعاليقه، وأثنى عليها،
__________
(1409) " البداية والنهاية" (9/47) .
(1410) " المدخل" ص (1/215) .
(1411) " السابق".(2/585)
وعثر هو يومًا في منزله، فانجرح إخمصه، فشقَّت وليدة في الدار خِرْقَة من خمارها وعصَّبته، فأنشدت تقية المذكورة في الحال لنفسها تقول:
لو وجدت السبيل بخدِّي ... عوضًا عن خمار تلك الوليده
كيف لي أن أقبِّل اليوم رِجْلًا ... سلكت دهرَها الطريق الحميده
وقد كتب الشيخ السلَفي هذه الواقعة بخطه) (1412) .
والدة الفقيه الواعظ المفسر زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا: المعروف بـ "ابن نجية" سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الحنبلي.
قال ناصح الدين بن الحنبلي: قال لي والدي: زين الدين سَعِد بدعاء والدته، كانت صالحة حافظة، تعرف التفسير.
قال زين الدين: كنا نسمع من خالي التفسير، ثم أجيء إليها، فتقول: " إيش فَسر أخي اليوم؟ "، فأقول: " سورة كذا وكذا "، فتقول: " ذكر قول فلان؟ وذكر الشيء الفلاني؟ " فأقول: " لا "، فتقول: " ترك هذا"، وسمعت والدي يقول: (كانت تحفظ كتاب " الجواهر" وهو ثلاثون مجلدة، تأليف والدها الشيخ أبي الفرج، وأقعدت أربعين سنة في محرابها) (1413) .
فاطمة بنت الأستاذ الزاهد أبي علي الحسن بن على الدقاق: الشيخة، العابدة، العالمة، أم البنين النيسابورية، أهْل الأستاذ أبي القاسم القُشيري، وأم أولاده. وكانت عابدة، قانتة، متهجدة، كبيرة القدر (1414) .
__________
(1412) "من أخلاق العلماء" للشيخ محمد بن سليمان رحمه الله ص (37) .
(1413) " ذبل طبقات الحنابلة" (1/440) .
(1414) " سير أعلام النبلاء" (18/479 -480) .(2/586)
أم الخير الحجازية:
تصدرت حلقات وعظ وإرشاد المسلمات بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه في القرن الرابع الهجري (1415) .
[وجاء في مقدمة كتاب المعلمين لابن سحنون: (أن القاضي الورع عيسى بن مسكين كان يقرئ بناته وحفيداته.. قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل قبله فاتح صقلية " أسد بن الفرات" بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.
وروى الخُشني أن مؤدبًا كان بقصر الأمير محمد بن الأغلب، وكان يعلم الأطفال بالنهار، والبنات في الليل) ] (1416) .
قال الإمام ابن الحاج رحمه الله تعالى: (وقد كان في زماننا هذا سيدي أبو محمد رحمه الله تعالى قرأت عليه زوجته الختمة فحفظتها، وكذلك رسالة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله، ونصف الموطأ للإمام مالك رحمه الله تعالى، وكذلك ابنتاها قريبان منها، فإذا كان هذا في زماننا فما بالك بزمان السلف رضوان الله عليهم أجمعين، والعالم أولى من يحمل أهله ومن يلوذ به على طلب المراتب العلية فيجتهد في ذلك جهده، فإنهم آكد رعيته، وأوجبهم عليه وأولاهم به) (1417) .
فاطمة بنت السمرقندي:
(وكان لعلاء الدين السمرقندي " صاحب تحفة الفقهاء" ابنته
__________
(1415) "الأخت المسلمة " للجوهري ص (64) .
(1416) " تربية الأولاد في الإسلام " (1/278) .
(1417) " المدخل " (1/215-216) .(2/587)
" فاطمة " الفقهية العلامة، حفظت "التحفة " لأبيها، وطلبها جماعة من ملوك الروم، فلما صنَّف أبو بكر الكاساني الملقَب " ملك العلماء " كتابه " البدائع " وهو شرح التحفة، عرضه على شيخه وهو أبوها، فازداد به فرحًا، وزوَّجه ابنته، وجعل مهرها منه ذلك، فقالوا في عصره: " شرح تحفته، وتزوَّج ابنته "، قال صاحب " الفوائد البهية ص 158 " في ترجمة السمرقندي: " محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو بكر علاء الدين السمرقندي صاحب " تحفة الفقهاء " أستاذ صاحب " البدائع "، شيخ كبير فاضل جليل القدر تفقَّه على أبي المعين ميمون المكحولي، وعلى صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي، وكانت ابنته فاطمة الفقيهة العلامة زوجة علاء الدين أبي بكر صاحب " البدائع "، وكانت تفقهت على أبيها، وحفظت تحفته، وكان زوجها يخطئ فتردّه إلى الصواب، وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخط أبيها، فلما تزوجت بصاحب " البدائع " كانت تخرج وعليها خطّها وخط أبيها وخط زوجها) اهـ (1418) .
وكانت فقيهة عالمة بالفقه والحديث، أخذت العلم من جملة من الفقهاء، وأخذ عنها كثيرون، وكان لها حلقة للتدريس، قد أجازها جملة من كبار القوم، وكانت من الزهد والورع على جانب عظيم، وألفت المؤلفات العديدة في الفقه والحديث، وانتشرت مؤلفاتها بين العلماء الأفاضل.
وكانت معاصرة للملك العادل " نور الدين الشهيد "، وطالما استشارها في بعض أموره الداخلية، وأخذ عنها بعض المسائل الفقهية، وكان دائمًا ينعم عليها، ويعضد مسعاها " (1419) .
__________
(1418) " من أخلاق العلماء " ص (125) ، وانظر: " جولة في رياض العلماء" للدكتور عمر الأشقر ص (155) .
(1419) " الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (367) .(2/588)
فاطمة بنت الإمام الحافظ البرزالي:
كتبت البخاري في ثلاثة عشر مجلدًا، فقابله لها أبوها الإمام، وكان يقرأ فيه على الحافظ المزي تحت القبة، حتى صارت نسختها أصلا معتمدا يكتب منها الناس (1420) .
ستَيْتَة بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المَحَامِلِّي:
(العالمة، الفقيهة، المفتية، تفقهت بأبيها، وروت عنه، وحفظت القرآن، والفقه، والفرائض، والحساب، والدور، والعربية، وغير ذلك، وكانت من أحفظ الناس للفقه، ومن أعلم الناس في وقتها بمذهب الشافعي، وكانت تفتى به مع الشيخ أبي علي بن أبي هريرة، وكانت فاضلة في نفسها، كثيرة الصدقة، مسارعة إلى فعل الخيرات، وقد سمعت الحديث أيضا، وهي والدة القاضي محمد بن أحمد ابن القاسم المحاملي) (1421)
زوجة الحافظ الهيثمي (وهي بنت شيخه الحافظ العراقي) : كانت تساعد زوجها في مراجعة كتب الحديث (1422) .
فاطمة بنت محمد بن أحمد التَنوخِية (ت 778 هـ) :
(خاتمة المسندين في دمشق، كانت عالمة بالحديث، أخذ عنها جماعة: منهم الحافظ ابن حجر) (1423)
__________
(1420) " البداية والنهاية " (14/185) .
(1421) انظر: " البداية والنهاية" (11/306) ، " سير أعلام النبلاء " (15/264) .
(1422) "تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة " ص (39) .
(1423) " الأعلام " (5/132) .(2/589)
أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية: الشيخة، الصالحة، العالمة، المفتية، الفقيهة، المدرسة، العابدة، الناسكة، المجاهدة، وكل هذه ألقاب خلعها عليها أهل دهرها، وكلها صفات وصلت بها منتهى حدودها.
كانت تصعد المنبر، وتعظ النساء، وِانتفع بتربيتها، والتخرج عليها خلق كثير، وكانت عالمة موفورة العلم في الفقه والأصول (1424) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
(وكانتَ من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال، وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي خَتَمَتْ نساءً كثيرًا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته، آمين) (1425) .
توفيت في يوم عرفة، بظاهر القاهرة، وشهدها خلق كثير.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في " ذيل طبقات الحنابلة ": (فاطمة ابنة عباس بن أبي الفتح، أم زينب الواعظة، الزاهدة العابدة
__________
(1424) "المرأة العربية " (3/98) .
(1425) " البداية والنهاية " (14/72) .(2/590)
الشيخة الفقيهة، العالمة المسندة المفتية، الخائفة الخاشعة، السيدة القانتة، المرابطة المتواضعة، الدَّينة العفيفة، الخَيِّرة الصالحة، المتقنة المحققة الكاملة، الفاضلة المتفننة البغدادية، الواحدة في عصرها، والفريدة في دهرها، المقصودة في كل ناحية.
كانت جليلة القدر، وافرة العلم، تسأل عن دقائق المسائل، وتتقن الفقه إتقانًا بالغا، أخذت عن الشيخ عز الدين بن أبي عمر، حتى برعت، كانت إذا أشكل عليها أمر سألت ابن تيمية عنه، فيفتيها، ويتعجب منها ومن فهمها، ويبالغ في الثناء عليها.
كانت مجتهدة، صوَّامة قوَّامة، قوَّالة بالحق، خشنة العيش، قانعة باليسير، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، انتفع بها خلق كثير، وعلا صيتُها، وارتفع محلها، وقيل: إنها جاوزت الثمانين، توفيت ليلة عرفة سنة أربع عشرة وسبعمائة، رحمها الله تعالى ورضي عنها آمين) (1426) .
(وعلى سنتها سارت ابنتها زينب، فكانت تعظ النساء، وتخطبهن في حياة أمها، وبعد موتها) (1427) .
شهدَةُ بنت المحدث أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري: مسندة العراق، وفخر النساء، قعدت للحديث في القرن السادس، وهى صاحبة السماع العالي، ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر، بَعُد صيتها، وسمع عليها الخلق الكثير، وكان لها خط حسن، وخالطت الدُّورَ والعلماء، ولها بِر وخير (1428) .
__________
(1426) " ذيل طبقات الحنابلة" (2/467 - 468) .
(1427) " المرأة العربية " (3/98) .
(1428) " سير أعلام النبلاء" (20/542) .(2/591)
كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المَرْوَزِيَّة:
الشيخة، العالمة، الفاضلة، المسنِدة، سيدة الوزراء، المجاورة بحرم الله، كانت من راويات صحيح البخاري المعتبرة عند المحدثين، روت عن زاهر بن أحمد السَّرْخَسي، وغيره، وكانت نابغة في الفهم والنباهة وحِدَّة الذهن، رحل إليها أفاضل العلماء.
قال أبو بكر بن منصور السمعاني: سمعتُ الوالد يذكر كريمة، ويقول: (وهل رأى إنسان مثلَ كريمة؟ " (1429) .
عائشة بنت محمد بن الحسين البسطامي: عالمة محدثة، كان أبوها، وأخوها، وولده من كبار العلماء (1430) .
زينب بنت عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية الحنبلية:
ابنة الإمام شرف الدين عبد الله أخي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمهم الله تعالى، وزوجة الإمام العلامة أبو محمد عبد الوهاب بن السلار (1431) ، قال الحافظ ابن حجر: (سمعتْ من الحجار وغيره، وحدَثت، وأجازت لي) (1432) .
ومن تلاميذها الإمام الحافظ محمد بن ناصر الدين الدمشقي الشافعي (1433) .
__________
(1429) " السابق" (18/233- 235) .
(1430) " السابق" (18/425) .
(1431) انظر: " الرد الوافر" لابن ناصر الدين الدمشقي ص (110) .
(1432) " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " ص (30) .
(1433) " الرد الوافر" ص (110) .(2/592)
عائشة بنت حمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف ابن محمد بن قدامة المقدسي:
سمعت صحيح البخاري، وروى عنها الحافظ ابن حجر، وقرأ عليها كتبًا عديدة، وانفردت في آخر عمرها بعلم الحديث (1434) .
ومن المحدثات: السيدة نفيسة ابنة محمد (1435) .
ومنهن: فاطمة بنت محمد البغدادي: الشيخة، العالمة، الواعظة، الصالحة، المُعمَرة، مسندة أصبهان، حَدَّث عنها السمعاني، وابن عساكر، وأبو موسى المديني، وغيرهم " (1436) .
ومنهن: زينب ابنة الكمال، ومن تلاميذها الإمام محمد بن حمزة الحسيني (1437) .
ومنهن: كمال بنت المحدث أبي محمد عبد الله بن أحمد السمرقندي: أم الحسن صالحة خيرة، وهى زوجة المحدّث عبد الخالق اليوسفي (1438) .
ومنهن: وزيرة بنت عمر بن المنجى، ومن تلاميذها الإمام محمد بن سوار السبكي (1439) .
ومنهن: عائشة بنت حسن بن إبراهيم: الواعظة، العالمة، المسندة، أم الفتح الأصبهانية، قال ابن السمعاني: سألت الحافظ إسماعيل عنها،
__________
(1434) "المرأة ومكانتها" للحصين ص (57) .
(1435) " تربية الأولاد في الإسلام" (1/278) .
(1436) " سير أعلاء النبلاء" (20/148) .
(1437) " الرد الوافر" ص (55) .
(1438) " سير أعلام النبلاء " (20/420) .
(1439) " الرد الوافر " ص (50) .(2/593)
فقال: (امرأة صالحة، عالمة، تعظ النساء، وكتبت أمالي ابن مَنْدَة عنه، وهي أول من سمعتُ منها الحديث، بعثني أبي إليها، وكانت زاهدة) (1440) .
ومنهن: زينب بنت مكي: وممن سمع عليها الحافظ أحمد بن بكار النابلسي وعبد الله بن المحب وعمر بن حبيب وكثير من المحدثين (1441) .
وزينب بنت أبي القاسم:
كانت عالمة أدركت جماعة من أعيان العلماء وأخذت عنهم، وأجازها أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري مؤلف الكشاف، والمؤرخ شهاب الدين بن خلكان صاحب التاريخ المشهور (1442) .
أم سلمى فاطمة بنت أبي بكر بن عبد الله:
روت عن أبيها، وكتب عنها محمد بن جعفر كتاب "الجمل" (1443) .
ست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المنجا:
الشيخة الصالحة، راوية صحيح البخاري، وغيره (1444) .
خديجة بنت موسى بن عبد الله:
الواعظة، وتعرف بـ " بنت البقال"، قال الخطيب: " كتبت عنها،
__________
(1440) " سير أعلام النبلاء" (18/302-303) .
(1441) " الردَ الوافر " ص (80) ، (101) ، (113) .
(1442) " المرأة ومكانتها " ص (57) .
(1443) " السابق " ص (56) .
(1444) " البداية والنهاية " (14/79) .(2/594)
وكانت فقيرة، صالحة، فاضلة " (1445) .
أم الهذيل:
لها روايات كثيرة، وقد قرأت القرآن وعمرها اثنتا عشرة سنة، وكانت فقيهة عالمة، من خيار النساء (1446) .
أم السلامة بنت القاضي أبي بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة: سمعت من محمد بن إسماعيل النصلاني وغيره، وعنها الأزهري، والتنوخي، وأبو يعلى بن الفراء، وغيرهم، وأثنى عليها غير واحد في دينها، وفضلها، سيادتها (1447) .
فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي:
المسندة، المحدثة، الدمشقية، الصالحة، سمعت صحيح البخاري من ابن الزبيدي مرات، سمعت صحيح مسلم من ابن الحصيري، وأخذ عنها العلامة السبكي، والإمام المحقق ابن قيم الجوزية (1448) .
ست القضاة بنت الشيرازي:
تتلمذ عليها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، والقاضي الإمام أحمد ابن فضل الله العمري (1449) .
__________
(1445) " السابق " (12/54) .
(1446) "السابق " (11/302) .
(1447) "السابق " (11/328) .
(1448) انظر: " شذرات الذهب " (6/28) ، " الأعلام " (5/129) ، " ذيل طبقات الحنابلة " (2/448) ، " طبقات المفسرين" (2/91) (1449) "الرد الوافر" ص (81) .(2/595)
زبيدة زوجة هارون الرشيد وابنة عمه:
كانت عالمة، فقيهة، وذكر ابن خلكان: (أنه كان لها مائة جارية كلهن يحفظن القرآن العظيم، غير من قرأ منه ما قدر له وغير من لم يقرأ، وكان يسمع لهن في القصر دوي كدوي النحل، وكان ورد كل واحدة عُشْرُ القرآن) (1450) .
وقاية:
(امرأة عالمة فاضلة، كانت بإحدى مدن ليبيا، وكان يلجأ إليها أفاضل العلماء، ويقولون: " تعالوا بنا نستشير وقاية، فعصابتها خير من عمائمنا " (1451)) .
فاطمة بنت الحسن بن علي البغدادي العطار:
(المؤدبة الكاتبة وتعرف ببنت الأقرع، سمعت الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، وكانت تكتب المنسوب على طريقة ابن البواب، ويكتب الناس عليها، وبكتابها يُضرب المثل، وبخطها كانت الهدنة من الديوان إلى ملك الروم، وكتبت مرة إلى عميد المُلْك الكندي رقعة فأعطاها ألف دينار..) (1452) .
ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي الملقبة ب " ست الشام ":
واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة خاتون، أخت الملوك، وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكًا، وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانًا إلى الفقراء والمحاويج،
__________
(1450) " البداية والنهاية " (10/71) .
(1451) " حقائق ثابتة في الإسلام" لابن الخطيب ص (78) .
(1451) " البداية والنهاية " (12/134) ، " سير أعلام النبلاء" (18/480) .(2/596)
وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفرقه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة في دارها التي جعلتها مدرسة (1453) وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي، وكانت فاضلة، ولها تصانيف، وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة، ووقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى (1454) .
وقال الشيخ عطية محمد سالم حفظه الله: (قد رأيت بنفسي وأنا مدرس بالأحساء نسخة لسنن أبي داود عند آل المبارك وعليها تعليق لأخت صلاح الدين الأيوبي..) (1455) اهـ.
فاطمة بنت أحمد بن السلطان صلاح الدين الأيوبي:
(من فضليات النساء، روت الفقه، وشيئًا من الحديث، واشتهرت في عصرها) (1456) .
فاطمة بنت الحسين بن الحسن ابن فضلويه:
سمعت الخطيب وابن المسلمة وغيرهما، وكانت واعظة لها رباط تجتمع فيه الزاهدات، وقد سمع عليها ابن الجوزي مسند الشافعي وغيره) (1457) .
قال فضيلة الشيخ عطية محمد سالم حفظه الله:
( ... وذكر صاحب التراتيب الإدارية قوله: وقد ثبت عن كثير من
__________
(1453) انظر: " البداية والنهاية " (13/84- 85) .
(1454) " السابق " (13/170) .
(1455) " تتمة أضواء البيان " (9/360) .
(1456) " الإعلام " للزركلي (5/130) .
(1457) " البداية والنهاية " (12/198) .(2/597)
نساء أهل الصحراء الأفريقية خصوصًا شنقيط " شنجط "، وهي المعروفة بموريتانيا وتيتبكتو، وقبيلة كنت - العجبُ، حتى جاء أن الشيخ المختار الكنتي الشهير، ختم مختصر خليل للرجال، وختمته زوجته في جهة أخرى للنساء، ومما يؤيد ما ذكره أننا ونحن في بعثة الجامعة الإسلامية لأفريقيا، سمعنا ونحن في مدينة أطار وهى على مقربة من مدينة شنجط المذكورة، سمعنا من كبار أهلها أنه كان يوجد بها سابقًا مائتا فتاة يحفظن المدونة كاملة، وقد سمعت في الآونة الأخيرة أنه توجد امرأة تدرس في المسجد النبوي الحديث والسيرة، واللغة العربية وهى شنقيطية) (1458) اهـ.
وقال الأستاذ عبد الله عفيفي رحمه الله: (وأكثر ما عرف به الممتازات من نساء المغرب الأقصى حفظ القرآن الكريم بقراآته جميعًا ورواية الحديث ودرس الفقه والأصول وما إلى هذه من علوم الدين، ويذكر أهل ذلك الاقليم ثمانين امرأة من نساء المغرب جمعن إلى النفاذ في ذلك كله حفظ مدونة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وهي أكبر المطولات الجامعة في الحديث الفقه (1459) اهـ.
وذكر من النسوة اللاتي تخرجن في العلوم الدينية: (السيدة الشريفة فاطمة الزهراء ابنة السيد محمد بن أحمد الإدريسي، تحفظ القرآن الكريم بقراآته، وتحفظ كثيرًا من كتب الفقه والحديث، ولها فوق ذلك صلة وثيقة بالعلوم العصرية، ولم تبارح دار أبيها قط، وتخرجت على أبيها وجدها) (1460) .
وقال عبد الواحد المراكشي: (إنه كان بالربض الشرقي في قرطبة
__________
(1458) " تتمة أضواء البيان " (9/360 - 361) .
(1459) " المرأة العربية " (3/155) .
(1460) " السابق " (3/156) .(2/598)
سبعون ومائة امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي) (1461) .
أما بعد: فذاك غيض من فيض حديث النهضة العلمية الإسلامية، وتلك آثار المرأة المسلمة فيها، ومآثرها عليها، فهل رأيت ما رأيت في أمة من الأمم قديمها وحديثها؟ اللهم إنها حكمة الله ملأ بها أحناء تلك الصدور (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) (البقرة: 269) .
فلو كان النساءُ كَمَنْ ذَكَرنا ... لَفضلَتِ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسم الشمس عَيْبٌ ... وما التذكيرُ فخر للهلالِ
ومما ينبغي أن يعلم أن المرأة حازت تلك المكانة العلمية الرفيعة ضمن ضوابط شرعية محددة، تهيئ لها المناخ الصالح الذي تأمن فيه الاختلاط بالرجال، وحضور مجالسهم، فكانت تؤدي وظيفة العلم من وراء حجاب، ومن هنا فلا يجوز لأحد أن يستدل بهذه النماذج الطيبة من " العالمات المسلمات " على " استحلال " ما عليه مجتمعاتنا اليوم من اختلاط فاضح، وتهتك مزرٍ، وتبرج مشين، فهذا لا يمكن أن يقره دين ولا عقل، لتعارضه مع نصوص الشريعة الصريحة، ولمنافاته روحَها الراميةَ إلى سد الذرائع المفضية إلى الفتنة والفساد، ولكن تلك النماذج المشرقة دليل واضح على موقف الإسلام من حق المرأة في التعلم، على أن يتم في حدود ما أحل الله، وعلى أن تراعي طبيعتها وما يناسبها من أنواع العلوم، وعلى أن تصان مما يخدش عقيدتها وآدابها الإسلامية (1462) .
* * *
__________
(1461) " المرأة ومكانتها في الإسلام " للحُصَين ص (57) .
(1462) ويأتي مزيد بيان لقضية " تعليم المرأة " إن شاء الله في القسم الرابع من هذا الكتاب، يسر الله إتمامه.(2/599)
[الفصل السابع]
المرأةُ ... عابدةً
فَقُهَتْ المرأة المسلمة عن الله أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من فتنتهَا، وتجافي جنْبُها عن مضجعها، وتناءى قلبها من المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة، باكية والهة، وحفل التاريخ بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الزهد عن فرط علم، ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة كما تجد في كثير ممن عرفن بالنسك والتصوف من أشتات البلاد.
وثبت في دواوين الإسلام أخبار وأخبار عن النساء العابدات، بدءًا من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون:
فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد، فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفُتخ والقرطة والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال- وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن (1463) .
وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين.
وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنًا يضاعف لهم ولهم أجر كريم) الحديد (18) .
__________
(1463) انظر تخريجه " بالقسم الثالث" ص (365) .(2/600)
وكان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة، وحسن الأحدوثة فأصبح بالإسلام مما تفيض به الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضاة الله.
ويتصدر هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله عنهم وعنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأس هؤلاء: أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال:
(ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودُهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئًا لغد) (1464) .
قال القاسم: " كانت عائشة تصوم الدهر " (1465) .
وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم، وعن القاسم أنها " (كانت تصوم الدهر، لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر) (1466) .
(وعنه قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسَلمُ عليها، فغدوت يوما، فإذا هي قائمة تُسَبحُ، وتقرأ: (فَمَنَّ الله علينا ووقانا عذابَ السَّموم) الطور: (27) ، وتدعو، وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلى وتبكي) (1467) .
__________
(1464) "أحكام النساء" لابن الجوزي ص (125) .
(1465) أخرجه ابن سعد (8/47) ، ورجاله ثقات، والمعنى أنها كانت تصوم غير الأيام المنهي عنها كالعيدين، وأيام التشريق، والحيض.
(1466) " السمط الثمين" ص (90) .
(1467) " السابق".(2/601)
وعن عروة قال: (كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئًا مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به) (1468) .
وقال عروة: (بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فقسمَتها، لم تترك منها شيئًا، فقالت بريرة: " أنتِ صائمة، فهلا ابتعتِ لنا منها بدرهم لحمًا؟ " قالت: " لو ذكرتِني لفعلت " (1469) ، وعنه أيضَا قال: " وإن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها " رضي الله تعالى عنها) (1470) .
عن محمد بن المنكدر عن أم ذَرَّة وكانت تغشى عائشة رضي الله عنها، قالت: بعث إليها ابن الزبير بمال في غِرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف، فدعَت بطبق، وهى صائمة يومئذ، فجلست تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: " يا جاريةُ هلمي فَطُوري "، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذَرَّة: " أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحمًا نفطر عليه؟ " فقالت: " لا تُعَنفيني، لو كنت أذكرتِني لفعلتُ " (1471) .
و (عن ابن يمن المكي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطري ثمنه خمسة دراهم، فقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي، فانظر إليها، فإنها تُزْهَى (1472) أن تلبسه في البيت، وقد كان منهن درع على عهد
__________
(1468) " السابق" ص (88) .
(1469) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (2/47) ، والحاكم (4/13) .
(1470) رواه ابن سعد في " الطبقات " (8/45) .
(1471) رواه ابن سعد (8/46) في " الطبقات"، وأبو نعيم في " الحلية " (2/47) ، ورجاله ثقات.
(1472) تزهى أن تلبسه في البيت: أي تترفع عنه، ولا ترضاه.(2/602)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تُقَيَّنُ (1473) في المدينة إلا أرسلت إليَّ تستعيره) (1474) .
عن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقلت: " هذا ابن عباس يستأذن "، فأكب عليها ابن أخيها عبد الله، فقال عبد الله: " هذا ابن عباس، وهى تموت "، فقالت: " دعني من ابن عباس "، فقال لها: " يا أماه إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك، وَيُوَدِّعُكِ، فقالت: " ائذن له إن شئت "، فأدخلته، فلما جلس، قال: " أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم الأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنتِ أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب، إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تصبح في المنزل، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: (فتيمموا صعيدًا طَيبّا) (المائدة: 6) ، وكان ذلك في سببك، وما أنزل الله لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل براءتك من فوق سبع سماوات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل، وآناء النهار"، فقالت: " يا ابن عباس دعني منك، ومن تزكيتك، فوالله لوددت أني كنت نسيًا منسيا " (1475) .
وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رئاب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها امرأة صَنَاعا، وكانت تعمل بيدها، وتتصدق به في سبيل الله (1476) .
__________
(1473) تقين بالمدينة: أي تزين لزفافها، والتقين: التزين.
(1474) " السمط الثمين" ص (87) ، والحديث رواه البخاري (5/241-242) .
(1475) " أحكام النساء" ص (125-126) .
(1476) " سير أعلام النبلاء " (2/217) .(2/603)
وكانت رضي الله عنها صالحة، صوامة، قوامة، بارَة، ويقال لها: "أم المساكين"، وقالت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد موتها: " لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل " (1477) ، وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: " ما هذا الحبل؟ "، قالوا: حبلٌ لزينبَ، فإذا فترت تعلًقت به "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد " (1478)) .
وعن عبد الله بن رافع عن بررة بنت رافع قالت: " لما جاء العطاء بعث عمر إلى زينب رضي الله عنها بالذي لها، فلما دخل عليها قالت: " غفر الله لعمر، لَغيري من أخواتي كان أقوى على قَسْم هذا مني "، قالوا: " هذا كله لك "، فقالت: " سبحان الله! " واستترت دونه بثوب، وقالت: " صُبوه، واطرحوا عليه ثوبًا "، فصبوه، وطرحوا عليه، وقالت لي: " أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة، فاذهبي إلى آل فلان، وآل فلان " - من أيتامها وذوي رحمها -، فقسمته حتى بقيت منه بقية؛ قالت لها بررة: " غفر الله لك، والله لقد كان لنا من هذا حظ " قالت: " فلكم ما تحت الثوب "، فرفعنا الثوب، فوجدنا خمسة وثمانين درهمًا، ثم رفعت يدها، وقالت: " اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا "، قالت: فماتت
__________
(1477) " الإصابة " (7/670) .
(1478) رواه البخاري (3/278) في أبواب التهجد: باب ما يكره من التشديد في العبادة، والنسائي (3/218-219) في قيام الليل: باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، وفى رواية لأبي داود (قالوا: " زينب تصلي، فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به"، فقال: " خلُّوهُ، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسَل أو فتر فليقعد") .(2/604)
رضي الله عنها) (1479) .
وحدث محمد بن كعب قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم حمل إليها فقسمته في أهل رحمها، وفي أهل الحاجة، حتى أتت عليه، فبلغ عمر فقال: " هذه امرأة يراد بها خير "، فوقف على بابها، وأرسل بالسلام، وقال: " قد بلغني ما فرقتِ "، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها، فسلكت بها طريق ذلك المال (1480) .
ورُوِيَ أنها قالت حين حضرتها الوفاة: " إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إليَّ بكفن، فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما، إن استطعتم إذا أدليتموني أن تصدَّقُوا بِحَقْوي فافعلوا " (1481) .
وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أسرعُكن لحوقًا بي: أطولكن يَدًا "، وإنما عَنَى صلى الله عليه وسلم طول يَدِها بالمعروف، قالت عائشة رضي الله عنها: " فكُنَّ يتطاوَلنَ أيتهُن أطولُ يَدًا، وكانت زينب تعمل وتتصدق (1482) .
قالت عائشة رضي الله عنها: (كانت زينب بنت جحش تُساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تَصَدَّقُ به، وتَقَربُ به إلى الله تعالى ما عدا سَوْرَةً من حِدة كانت فيها تسرع منها الفيئة) (1483) .
__________
(1479) "سير أعلام النبلاء" (2/213 - 215) .
(1480) أخرجه ابن سعد بسند في الواقدي، كما في "الإصابة" (7/670) .
(1481) "السابق" (2/217) ، وأخرجه ابن سعد بإسناد فيه الواقدي كما في "الإصابة" (7/669) .
(1482) " السابق" (2/213) .
(1483) " السابق" (2/214) .(2/605)
أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية:
كانت رضي الله عنها تُدْعَى أم المساكين، لكثرة معروفها أيضًا (1484) .
أم المؤمنين حفصة بنت أميرِ المؤمنين أبي حَفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وهي التي كانت تسامي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت عابدة، خاشعة، قانتة رضي الله عنها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له بذلك، وقال: " إنها صَوامة، قوًامة، وهي زوجتك في الجنة " (1485) ، فأي شهادة وتزكية بعد شهادة الله عز وجل وتزكيته حفصة بنت الفاروق رضي الله عنهما؟!
أسماء بنت أبي بكر عبد الله بن أبي قُحافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين: أم عبد الله القرشية، التيمية، والدة الخليفة عبد الله بن الزبير، وأخت أم المؤمنين عائشة، وهى المعروفة بذات النطاقين، كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات.
قال ابن أبي مُلَيكة: (كانت أسماء تصدع، فتضع يدها على رأسها، وتقول: " بذنبي، وما يغفره الله أكثر " (1486)) .
(وعن فاطمة بنت المنذر: " أن أسماء كانت تمرض المرضة، فتعتِقُ
__________
(1484) " السابق" (2/218) .
(1485) "السابق " (2/228) ، وصححه ابن حجر في " الإصابة " (4/273) .
(1486) "السابق " (2/290) .(2/606)
كل مملوك لها ".
وعن محمد بن المنكدر، قال: " كانت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما- سَخِية النفس " (1487)) .
وعن الركَين بن الربيع، قال: (دخلتُ على أسماءَ بنتِ أبي بكر، وقد كَبرَت، وهي تصلي، وامرأة تقول لها: " قومي، اقعدي، افعلي، من الكِبَر " (1488)) .
أم الدرداء الصغرى:
السيدة، العالمة، الفقيهة، هُجَيمة زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن وهى صغيرة على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم، والعمل، والزهد.
قال عون بن عبد الله: " كنا نأتي أم الدرداء، فنذكر الله عندها " (1489) .
وقال يونس بن ميسرة: " كُنَّ النساء يتعبدن مع أم الدرداء، فإذا ضًعُفنَ عن القيام، تَعَلَّقْنَ بالحبال "، وعنه أيضًا قال: (كنا نحضر أم الدرداء، وتحضرها نساء عابدات، يقمن الليل كله، حتى إذ أقدامهن قد انتفخت من طول القيام) (1490) .
السيدة المكرمة الصالحة نفِيسة، ابنة الحسن بن زيد بن السيد سبطِ النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، العلوية، الحَسَنِيَّة. كانت- رحمها الله وأكرمها- من الصالحات العوابد، زاهدة،
__________
(1487) "السابق " (2/292) .
(1488) " السابق " (2/295) .
(1489) "السابق" (4/277-278) .
(1490) "السابق" (4/278) ، وانظر: " صفة الصفوة" (4/296-297) .(2/607)
تقية، نقيهَ، تقوم الليل، وتصوِم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها: "تَرَفَقي بنفسك "، لكثرة ما رأوْا منها، فقالت: " كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟ "، حجَّت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر بن محمد الصادق: (فأقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس، والجذمى، والزَّمْنَى، والمرضَى، وعموم الناس، وكانت عابدة، زاهدة، كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صَلَّى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت بجنازته فأدخِلَتْ إليها المنزل، فصلت عليه) (1491) اهـ.
ومن أخبارها رحمها الله تعالى:
(أنها أقامت بمصر مع زوجها إسحق بن جعفر الصادق، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عُيِّن واليًا على مصر من قِبل أبي جعفر المنصور.
وقد هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: في غدٍ، فكتبت رقعة، ووقفت بها في طريقه، وقالت: " يا أحمد بن طولون "، فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها، فإذا فيها:
" ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخُوِّلتُم فعسفتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة لا سيما في قلوب أوجعتموها، وأكبادٍ جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن
__________
(1491) " البداية والنهاية" (10/262) .(2/608)
يموت المظلوم، ويبقى الظالم.
اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون (وسيعلم الذين ظَلموا أي منقلب ينقلبون) ، فعدل لوقته) (1492) .
بل قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع عليها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له (1493)
[توفيت رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها الفطر، فقالت: " واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة، أأفطِر الآن؟! هذا لا يكون "، وخرجت من الدنيا، وقد انتهت قراءتها إلى قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (1494) (الأنعام: 12) ] (1495) .
__________
(1492) "إعداد المرأة المسلمة" ص (143 -144) .
(1493) "مرآة النساء " ص (82) .
(1494) " السابق".
(1495) قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دُعاة العُبَيْدِية) اهـ. من " سير أعلام النبلاء" (10/106) ، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين، وليست من سلالته، والذي ينبغي أن يعتَقد فيها: ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها) اهـ (10/262) .(2/609)
أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان الأموية، أخت الخليفة الراشد عمر ابن عبد العزيز رحمهما الله تعالى:
كانت مضرب المثل في الكرم والجود، فكانت تقول: " لكل قوم نَهْمة (1496) في شيء، ونهمتي في الإعطاء"، وكانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، وتقول: " أف للبخل، لو كان قميصًا لم ألبسه، ولو كان طريقًا لم أسلكه " (1497) .
عجردة العمية:
عن آمنة بنت يَعْلى بن سُهَيل قالت:
(كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، قالت: فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها، وتقنَّعت، ثم قامت إلى المحراب، فلا تزال تصلي إلى السحَر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها- أو قال لها بعض أهل الدار-: " لو نمتِ من الليل شيئًا؟ "، فبكت، وقالت: "ذكر الموت لا يدعُني أنام " (1498)) .
وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر؛ فإذا كان السحر، نادت بصوت لها محزون: " إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم، ثم تخر ساجدة فيُسمع لها وجبة، ثم لا تزال تدعو، وتبكي إلى الفجر (1499) .
__________
(1496) النهمَة: الشهوة للشيء، والرغبة فيه.
(1497) " أحكام النساء" ص (137) .
(1498) "صفة الصفوة" (4/31) .
(1499) " السابق" (4/ 31) .(2/610)
حبيبة العدوية:
وعن عبد الله المكي أبي محمد قال:
(كانت " حبيبة العدوية" إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدَّت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: " إلهي قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك "، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر، قالت: " إلهي هذا الليل قَد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها علي فأعزى؟ وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت، لما وقع في نفسي من جودك وكرمك " (1500) .
جارية الحسن بن صاع:
كان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلَّت العشاء، افتتحت الصلاة، فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: " يا أهل الدار قوموا! يا أهل الدار صَلوا! "، فقالوا لها: " نحن لا نقوم إلى الفجر "، فجاءت إلى الحسن ابن صالح، وقالت: (بعتني لقوم ينامون الليلَ كُلَّه، وأخاف أن أكسل من شهود نومهم "، فردها الحسن إليه رحمة بها، ووفاءً بحقها " (1501) .
عابدة من بني عبد القيس:
كانت إذا جاء الليل تحرمت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول:
__________
(1500) " إحياء علوم الدين " (15/2774 - 2775) .
(1501) " صفة الصفوة " (3/195) .(2/611)
" المحب لا يسأم من خدمة حبيبه "، وكانت تقول: " عاملوا الله على قدر نِعَمِهِ عليكم، وإحسانِه إليكم، فإن لم تطيقوا: فعلى قدر ستره، فإن لم تطيقوا: فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا: فعلى الرجاء لثوابه، فإن لم تطيقوا: فعلى خوف عقابه " (1502) .
امرأة الهيثم بن جماز:
قال الهيثم: (كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش عليَّ الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برِجلها، وتقول: " أما تستحي من الله؟ إلى كم هذا الغطيط؟ "، فوالله إن كنت لأستحي مما تصنع) (1503) .
أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم رحمهما الله: وهى تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت- رحمها الله- إذا جاء النهار تقول: " هذا يومي الذي أموت فيه "، فما تطعم حتى تمسي، فإذا جاء الليل تقول: " هذه الليلة التي أموت فيها "، فتصلي حتى تصبح، ومن قولها: " عجبتُ لعين تنام، وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة القبور " (1505) ، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم (1505) .
(وكانت تصلى الليل الطويل، فكانت تَكِل الرجال، وهي لا
__________
(1502) " السابق" (4/391) .
(1503) " السابق".
(1504) " إحياء علوم الدين" (15/2777) ، ومما يجب التنبيه عليه: أن الحياة في القبر ليست مجرد رقاد ونوم، بل هي حياة برزخية في نعيم أو جحيم.
(1505) " صفة الصفوة" (4/22) .(2/612)
تكلُّ) (1506) .
ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها (1507) ، أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن: " إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحبًا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن"، ولم تتوسد فراشًا بعد مقتل زوجها رحمهما الله تعالى.
شعوانة:
وقال يحيى بن بسطام: (كنت أشهد مجلس شعوانة، فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب في: " لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها؟ " فقال: " أنت وذاك "، قال: فأتيناها، فقلت لها: " لو رفقت بنفسك، وأقصرت عن هذا البكاء شيئًا، فكان أقوى لك على ما تريدين؟ " قال: فبكت، ثم قالت: " والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكى دمًا حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأني لي بالبكاء، وأني لي بالبكاء"، فلم تزل تردد: " وأني لي بالبكاء " حتى غشي عليها) (1508) .
وكانت شعوانة تقول في دعائها: " إلهي ما أشوقني إلى لقائك،
__________
(1506) " تنبيه المغترين أواخر القرن العاشر على ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر" ص (117) .
(1507) وقصة ذلك أن زوجها صلة بن أشيم (خرج غازيا هو وابنه، فقال صله لابنه: " يا بني! إلى أمك "، فقال ابنه: " يا أبت! أتريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجعة؟! أنت والله كنت خيرًا لأمي مني"، قال: " أما إذا قلتَ هذا فتقدَّمْ، فتقدم، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلة عن جسده، وكان رجلًا راميا، حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتِل رحمهما الله تعالى) ، انظر: " كتاب الجهاد" للإمام عبد الله بن المبارك ص (129) .
(1508) " إحياء علوم الدين" (15/2775) .(2/613)
وأعظم رجائي جزائك، وأنت الكريم الذي لا يخيب لديك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي إن كان دنا أجلي، ولم يقربني منك عملي، فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟ وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك! إلهي قد جرتُ على نفسي فِى النظر لها، وبقى لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي إنك لم تزل بي بَرّا أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه، أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي، إلهي إن كانت ذنوبي قد أخافتني، فإن محبتي لك قد أجارتني، فتولً من أمري ما أنت أهله، وعُدْ بفضلك على مَن غره جهله، إلهي لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعْني بما له هديتني، وأدِمْ في ما به سترتني.. " (1509) .
[وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: (كانت شعوانة قد كَمِدَت حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال:
أذري جفونكِ إما كنتِ شاجيةً ... إن النياحة قد تَشْفي الحُزَينِينَا
جِدِّي وقُومي وصومي الدهرَ دائبةً ... فإنما الدَّوب من فعل المطيعينا
فأصبحت فأخذت في الترنم والبكاء، وراجعتِ العمل.
وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي، وتبكِى النساكَ معها، تقول:
لقد أمِنَ المغرور دارَ مقامِه ... ويوشِك يومًا أن يخاف كما أمِنْ
وعن رَوْح بن سلمة قال: قال في مُضَر: ما رأيت أحدًا أقوى على
__________
(1509) " السابق" (15/2777-2778) .(2/614)
كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتًا قط أحرقَ لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نَشَجَت، ثم نادت: " يا مَوْتي، وبَني الموتى، وإخوةَ الموتى! ".
وقال أبو عمر الضرير: سمعتها تقول: " من استطاع منكم أن يبكي فليبكِ، وإلا فليرحم الباكي، فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه".
وعن الحارث بن مغيرة، قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين:
يُؤمِّل دنيا لتبقى له ... فوافَى المنيةَ قبلَ الأمَلْ
حثيثًا يُرَوي أصولَ الفَسيلِ ... فعايش الفَسِيلُ (1510) ومات الرجُلْ وعن فضيل بن عياض قال:
(قَدِمَتْ شعوانةُ، فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتُها أن تَدعوَ بدعاء، فقالت: " يا فضيل أمَا بينك وبين الله ما إن دعوتَهُ استجاب لك؟ "، قال: فشهق الفضيل، وخَرَّ مغشيا عليه) (1511) .
منيفة بنت أبي طارق البحرانية:
كانت إذا هجم عليها الليل تقول: " بخ بخ يا نفسُ قد جاء سرور المؤمن "، فتقوم في محرابها، فكأنها الجذع القائم حتى تصبح.
وعن أم عمار بنت مليك البحراني قالت: " بِتُّ ليلةً عند منيفة ابنة أبي طارق، فما زادت على هذه الآية ترددها، وتبكي: (وكيف تكفرون وأنتم تتلَى عليكم آيات الله وفيكم رسولُه ومن يعتصمْ بالله فقد هُدِي
__________
(1510) الفسيل: مفرده الفسيلة، وهي كل عود يقطع من شجرته، فيغرس، كالنخل وغيره.
(1511) "صفة الصفوة" (4/55-56) .(2/615)
إلى صراطٍ مستقيم) (1512) (آل عمران: 101) .
أم حيان السُّلَميَة:
قال أبو خلدة: " ما رأيت رجلا قط، ولا امرأة أقوى ولا أصبر على طول القيام من أم حيان السلمية، إن كانت لتقوم في مجلس الحي كأنها نخلة تصفقها الرياح يمينًا وشمالا "، وكانت تقرأ القرآن في يوم وليلة (1513) .
رَحلَة العابدة مولاة معاوية:
عن سعيد بن عبد العزيز قال: " ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحلة".
ودخل عليها نفر من القراء، فكلَّموها في الرفق بنفسها، فقالت: " ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيامُ مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدًا، والله يا إخوتاه لأصَليَنَ ما أقلَتْنِي جوارحي، ولَأصُومَنَّ له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي"، ثم قالت: " أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه؟ ".
ولقد قامت- رحمها الله- حتى أقعِدَتْ، وصامت حتى اسودَّت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول: " علمي بنفسي قَرحَ فؤادي، وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني، ولم أك شيئًا مذكورًا "، وكانت- رحمها الله- تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله (1514) .
غصنة وعالية:
كانتا من عابدات البصرة، قال أبو الوليد العبدي: " ربما رأيت
__________
(1512) " صفة الصفوة " (4/57) .
(1513) "السابق" (4/38) .
(1514) " السابق" (4/ 40- 41) .(2/616)
غصنة وعالية تقوم إحداهما من الليل، فتقرأ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف في ركعة (1515) .
غنضكة:
وهى من عابدات البصرة، وكانت تصلي عامة الليل، ثم تقول: " أعوذ بالله من ملائكةٍ غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون "، فإذا قضت صلاتها قالت: " هذا الجهد مني، وعليك التكلان " (1516) .
امرأة أبي عمران الجوني:
من عابدات البصرة، كانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق، فيقول لها أبو عمران الجوني: " دون هذا يا هذه "، فتقول: " هذا عند طول القيام في الوقف قليل "، فيسكت عنها " (1517) .
هنَيْدة:
عن عامر بن أسلم الباهلي، عن أبيه قال: (كانت لنا جارية في الحي يقال لها: " هُنيْدَة "، فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثُلثُه أو نصفه، فتوقِظُ ولدَها وزوجَها وخَدَمَها، فتقول لهم: " قوموا فتوضئوا، وصَلوا، فستغتبِطون بكلامي هذا"، فكان هذا دَأبَها معهم حتى ماتت، فرأى زوجها في منامه: " إن كنت تحب أن تَزَوجَها هناك، فاخلفها في أهلها بمثل فعلها، فلم يزل دأبَ الشيخ حتى مات، فأتَى أكبرَ ولدِه في منامه، فقيل له: " إن كنت تحب أن تُجاوِرَ أبويك في درجتهما من الجنة، فاخلفهما في أهلهما بمثل عَمَلِهما "، قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات "، فكانوا
__________
(1515) " السابق " (4/41) .
(1516) " السابق" (4/43) .
(1517) " السابق " (4/43) .(2/617)
يُدْعَوْنَ القوَّامين) (1518) اهـ.
بريرة:
وقال ابن العلاء السعدي: (كانت لي ابنة عم يقال لها: " بريرة "، تعبدت، وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء، فقال بنو عمها: " انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها في كثرة البكاء "، قال: فدخلنا عليها، فقلنا: " يا بريرة كيف أصبحت؟ " قالت: " أصبحنا أضيافًا منيخين بأرض غربة، ننتظر متى نُدْعَى فنجيب"، فقلنا لها: " كم هذا البكاء، قد ذهبت عيناكِ منه "، فقالت: " إن يكن لعيني عند الله خير، فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر، فسيزيدهما بكاءً أطول من هذا "، ثم أعرضت، فقال القوم: " قوموا بنا، فهي والله في شيء غير ما نحن فيه" (1519)) .
شقيقات بشر الحافي:
(وذكر الخطيب أنه كان لبشر الحافي الزاهد المشهور أخوات ثلاث، وهن: " مُخًة"، و " مضغة "، و "زبدة"، وكلهن عابدات زاهدات مثله وأشد ورعًا أيضًا، ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد فقالت: " إني ربما طفئ السراج، وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل عَلَيَّ عند البيع أن أمَيز هذا من هذا؟ "، فقال: " إن كان بينهما فرق، فميزي للمشتري ".
وقالت له مَرًةً إحداهن: " ربما تمر بنا مشاعل بني طاهر في الليل، ونحن نغزل فنغزل الطاق، والطاقين، والطاقات، فَخَلصْني من ذلك "، فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كُله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار (1520) .
__________
(1518) "السابق" (4/391) .
(1519) " إحياء علوم الدين" (15/2777) .
(1520) وفي بعض الروايات: أن الإمام أحمد قال لها: " من أنتِ عافاك الله؟ "، =(2/618)
وَسَألتْهُ عن أنين المريض أفيه شكوى؟ قال: " لا، إنما هو شكوى إلى الله عز وجلَ "، ثم خرجت فقال لابنه عبد الله: " يا بني اذهب خلفها فاعلم لي مَن هذه المرأة؟ "، قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته " مخة ") (1521) .
جارية روميهَ:
وقال عبد الله بن الحسن: (كانت لي جارية رومية، وكنت بها معجبًا، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت، فالتمستها، فلم أجدها، فقمت أطلبها، فإذا هي ساجدة، وهي تقول: " بحبك في إلا ما غفرت لي ذنوبي"، فقلت لها: " لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك "- يعني إرشادًا لها إلى التوسل المشروع بالعمل الصالح- فقالت: " لا يا مولاي، بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني، وكثير من خلقه نيام " (1522)) .
سرية:
وقال أبو هاشم القرشي: (قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها: " سرية"، فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنينًا وشهيقًا، فقلت يوما لخادم لي: " أشرف على هذه المرأة، ماذا تصنع؟ "، قال: فأشرف عليها، فما رآها تصنع شيئًا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء وهى مستقبلة القبلة، تقول: " خلقتَ سرية، ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة، وكل بلائك عندها جميل، وهي
__________
= فقالت: " أخت بشر الحافي" فبكى- رحمه الله- وقال: " من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها".
(1521) " البداية والنهاية " (10/298) ، وانظر: " أحكام النساء" ص (142) .
(1522) " إحياء علوم الدين " (15/2775 - 2776) ، وانظر: " صفة الصفوة " (4/46) .(2/619)
مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة، أتراها تظن أنك لا ترى سوء فعالها وأنت عليم خبير، وأنت على كل شيء قدير " (1523)) .
" عفيرة " العابدة:
كانت- رحمها الله- لا تضع جنبها إلى الأرض في ليل، وتقول: " أخاف أن أؤخذ على غِرة وأنا نائمة، وكانت لا تمل من البكاء، فقيل لها: " أما تسأمين من كثرة البكاء؟ "، فقالت: " كيف يسأم إنسان من دوائه وشفائه؟! " (1524) .
وكانت تقول في مناجاتها: " عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله لئن أعنتَ لأطيعنك- ما استطعتُ- بكل جارحة عصيتك بها " (1525) .
وقدا ابن أخ لها طالت غيبته، فَبُشرتْ به، فبكت، فقيل لها: " ما هذا البكاء؟! اليوم يوم فرح وسررو "، فازدادت بكاء، ثمِ قالت: " والله ما أجد للسرور في قلبي مسكنًا مع ذكر الآخرة، ولقد ذكَرني قدومُه يوم القدوم على الله فمِن بين مسرور ومثبور " (1526) .
ودخل عليها قوم، فقالوا: " ادعي لنا "، فقالت: " لو خرس الخطاءون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من نبق الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات، وهو أرحم الراحمين " (1527) .
__________
(1523) " السابق" (15/2776) .
(1524) " صفة الصفوة" (4/34) .
(1525) " السابق ".
(1526) " السابق "، وانظر: " البداية والنهاية" (10/177) .
(1527) " صفة الصفوة " (4/33) .(2/620)
وقال أحمد بن علي: (استأذنا على عفيرة، فحجبتنا، فلازمنا الباب، فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا، فسمعتها وهي تقول: " اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك "، ثم فتحت الباب، ودخلنا عليها، فقلنا لها: " يا أمة الله ادعي لنا "، فقالت: " جعل الله قِراكم في بيتي المغفرة "، ثم قالت لنا: " مكث عطاء السلمي أربعين سنة، فكان لا ينظر إلى السماء، فحانت منه نظرة، فخر مغشيًا عليه، فأصابه فتق في بطنه، فياليت عفيرة إذا رفعت رأسها لم تعص، وياليتها إذا عصت لم تعد) (1528) ، وعنها قالت رحمها الله: " ربما اشهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف أنام أو كيف يقدر على النوم، من لا ينام عنه حافظاه ليلًا ونهارًا؟ " (1529) .
جارية حبشية:
وقال بعض الصالحين: (خرجت يوما إلى السوق، ومعي جارية حبشية، فاحتبستها في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: " لا تبرحي حتى أنصرف إليك "، قال: فانصرفت، فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي، وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: " يا مولاي لا تعجل علي، إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكرًا لله تعالى، فخفت أن يُخسف بذلك الموضع"، فعجبت لقولها، وقلت لها: " أنت حرة "،، فقالت: " ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما " (1530)) .
عبدة البصرية:
وهي امرأة عكفت على العبادة، وأفرطت في السهر، وأسرفت في
__________
(1528) " إحياء علوم الدين" (15/2776) .
(1529) " صفة الصفوة" (4/33) .
(1530) " إحياء علوم الدين" (15/2776 - 2777) .(2/621)
البكاء حتى كف بصرها.
سمعت قائلا يقول: " ما أشد العمى على من كان بصيرًا "! فقالت: " يا عبد الله، عمى القلب عن الله أشد من عمى العين، وددت أن الله وهب لي كنه محبته، وأنه لم يبق مني جارحة إلّا أخذها " (1531) .
آمنة بنت أبي الورع:
(كانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار قالت: " أدخِلُوا النار، وأكلوا النار، وشربوا من النار، وعاشوا"، ثم تبكي، وكأنها حبة على مِقْلَى، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت) (1532) .
وذكر الحافظ ابن الجوزي رحمه الله:
(أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها- وهي تعجن- موتُ زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: " هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء"!!
وأخرى كانت تستصبح بمصباح، فجاءها خبر زوجها، فأطفأت المصباح، وقالت: " هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء " (1533)) .
ميمونة:
(بنت شاقولة الواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يومًا في وعظها أن ثوبها الذي عليها- وأشارت إليه- له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها، قالت: " والثوب إذا لم يُعْص الله فيه لا يتخرق سريعا "، وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا
__________
(1531) " المرأة العربية" (3/97) .
(1532) " التخويف من النار" للحافظ ابن رجب ص (23) .
(1533) "أحكام النساء" ص (147) .(2/622)
حائط يريد أن ينقض فقلت لأمي: " ألا ندعو البَنَّاءَ ليصلح هذا الجدار؟ "، فأخذت رقعة، فكتبت فيها شيئًا، ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار، فوضعتها، فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلمَ ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: (إن الله يمسك السمواتِ والأرضَ أن تزولا) اللهم ممسك السموات والأرض أمسكه) (1534) .
منيبة:
وعن أبي عياش القطان قال:
[كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها: منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن رُبما رآها، وتعجب من عبادتها على حداثتها.
فبينا الحسن ذات يوم جالس، إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت؟ فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها: "يا حبيبتي ما يبكيك؟ "، قالت له: (يا أبا سعيد الترابُ يُحْثَي على شبابي، ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: " احفر لابنتي قبرًا واسعا، وكفنها بكفن حسن"، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، كيف وأنا أجهزُ إلى ظلمة القبور ووحشتها، وبيت الظلمة والدود؟) ] (1535) .
قال الوضاح بن حسان الأنباري: (حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاثٍ مرة، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة، فقال لها إبراهيم التيمي: " صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي"، ففعلت، فلزمت بيتها، فلم تزدَد إلا خيرًا) (1536) .
__________
(1534) " البداية والنهاية" (11/ 333) .
(1535) "صفة الصفوة" (4/27) .
(1536) "صفة الصفوة" (3/192- 193) .(2/623)
عن ابن السماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنبًا، فَسَعَتْ إليه بالسوط، فلما قربت منه رمت بالسوط، وقالت: " ما تَركتِ التقوى أحدًا يَشْفِي غيظَه " (1537) .
فاطمة بنت نصر العطار:
كانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، كانت من العابدات المتورعات المخدرات، يقال إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات وقد أثنى عليها الخليفة وغيره والله أعلم (1538) .
رابعة بنت إسماعيل العدوية:
(ومن هؤلاء الناسكات رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، وكانت مضرب المثل في تَدَلُّه القلب واحتراق الكبد حبا لله وإيثارًا لرضاه، وكانت على تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، تستقل كل ذلك في جنب الله، قال يوما شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: " واحزناه! " فقالت: " لا تكذب! بل قل: واقلة حزناه، ولو كنت محزونا لم يتهيأ لك أن تتنفس ".
ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال- وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها-: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك، وهي فزعة: " يا نفس كم تنامين؟! يوشك أن تنامي نومة (1539) لا تقومين منها إلا بصرخة يوم النشور ") .
قالت عبدة: (وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها
__________
(1537) " السابق" (3/194) .
(1538) " البداية والنهاية " (12/299) .
(1539) بل هي حياة برزخية في نعيم أو عذاب! فكيف يعبر عنها بالنوم؟(2/624)
الوفاة دعتني، وقالت: " يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحدًا، وكفنيني في جبتي هذه "- وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون) ، ومن قولها: " ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئا "، ومن وصاياها " اكتموا حسناتكم، كما تكتمون سيئاتكم " (1540)) .
عن أزهر بن مروان قال: دخل على رابعة رِياح القيسي، وصالح بن عبد الجليل، وكلاب، فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة: " إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم "، قالوا: " ومن أين تَوَهمت علينا؟ " قالت: " إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم، فتكلمتم فيه " (1541)
[ (قال خالد بن خِداش: سَمعتْ رابعةُ صالحًا المُريَّ يذكر الدنيا في قصصه، فنادته: " يا صالح، من أحب شيئا أكثر مِنْ ذِكْرِه ".
وقال محمد بن الحسين البرجلاني: حدثنا بشر بن صالح العَتَكي، قال: استأذن ناس على رابعة، ومعهم سفيان الثوري، فتذاكروا عندها ساعةً، وذكروا شيئا من الدنيا، فلما قاموا، قالت لخادمتها: " إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه، فلا تأذني لهم، فإني رأيتهم يحبون الدنيا ".
وعن أبي يسار مِسْمَع، قال: (أتيت رابعة، فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزًا، فآثرتُ حديثك على طبيخ الأرز، فرجعتْ إلى القدر، وقد طُبخَت) .
وعن حماد قال: (دخلت أنا وسلام بن أبي مطيع على رابعة، فأخذ سلام في ذكر الدنيا، فقالت: " إنما يُذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس
__________
(1540) "المرأة العربية" (3/96 - 97) .
(1541) "صفة الصفوة" (4/29) .(2/625)
بشيء فلا ") (1542) .
وقال أبو سعيد بن الأعرابي: (أما رابعة، فقد حَمَلَ الناسُ عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشُعبة وغيرهما ما يَدُل على بطلان ما قيل عنها، وقد تمثلته بهذا:
ولقد جعلتُك في الفؤاد مُحَدثي ... وَأبَحْتُ جسمي مَنْ أرادَ جُلوسي فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه.
قلت- أي الحافظ الذهبي-: فهذا غلُو وجهل، ولعل مَنْ نسبها إلى ذلك مُباحِيُّ حلولي ليحتجَّ بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: " كنت سمعه الذي يسمع به " (1543)) (1544) اهـ.
قال ابن كثير رحمه الله:
وقد (ذكروا لها أحوالًا وأعمالًا صالحة، وصيامَ نهارٍ، وقيامَ ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم) وقال أيضا: (وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر) (1545) اهـ والله أعلم.
زوجة الملك الصالح نور الدين محمود بن زنكي: عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدولة:
كانت -رحمها الله- كثيرة التهجد، وأحسن النساء في عصرها،
__________
(1542) "سير أعلام النبلاء " (8/241-242) .
(1543) قطعة من حديث الولاية المشهور، رواه البخاري (11/292-293) في الرقاق: باب التواضع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1545) "سير أعلام النبلاء" (8/242 -243) .
(1545) "البداية والنهاية " (10/186-187) .(2/626)
وأعفَهن، وأكبرهن صدقة، و (كانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وِرْدها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومهَا الذي فوَّت عليها وِردَها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب " طبلخانة" في القلعة وقت السحر، لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرًا جزيلًا، وجراية كثيرة) (1546) .
وقد تزوجت هذه المرأة الصالحة بعد وفاة نور الدين تلميذه صلاح الدين الأيوبي (سنة 572 هـ) رحمه الله (1547) .
فخربة بنت عثمان البصرية:
كانت من أسرة عريضة الجاه موفورة الغنى، ولكن ذلك كله لم يطب لها، فخرجت، وتزهدت، وتنسكت، وهجرت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام، وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم.
وكانت أشبه الناس برابعة في الوحشة من الدنيا والتدله، هاجرت إلى بيت المقدس وأقامت أربعين عامًا تقف الليل كله بباب المسجد الأقصى تصلي حتى يفتح الباب، فتكون أول داخل وآخر خارج) (1548) .
__________
(1546) " البداية والنهاية " (12/317) .
(1547) " السابق " (12/295) .
(1548) " المرأة العربية " (3/98) .(2/627)
الخاتمة
"نسأل الله حسنها، إذا بلغت الروح المنتهى "
إن للأبواب السابقة تعلقًا بقضية " الحجاب"، وإن بدا لأول وهلة خلافُ ذلك، سيما إذا لم نضيق مفهوم " الحجاب "، ونفهم منه فقط ما يتعلق بستر بدن المرأة. كلا، ليس الحجاب مجرد غطاء لبدن المرأة، إن الحجاب هو عنوان تلك المجموعة الدقيقة من الأحكام الاجتماعية المتعلقة بوضع المرأة في النظام الإسلامي، والتي شرعها الله سبحانه وتعالى لتكون " الحصن الحصين" الذي يحمي المرأة، و " السياج الواقي " الذي يعصم المجتمع من الافتتان بها، و" الإطار المنضبط" الذي تؤدي المرأة من خلاله دورها العظيم الذي وكلها الله به، واصطفاها له من أجل تحصيل سعادتي الدنيا والآخرة لها ولأمتها كافة، وذلك كله في انسجام دقيق من خلال معنى أعم وأشمل هو تحقيق العبودية الخالصة لله رب العالمين.
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (1549) .
ويغالط هؤلاء المُضِلون المفسدون الذين يتشدقون بأن حجاب المرأة هو هو " حجاب على العقل، أو سُلَّم إليه.. " إلى آخر عباراتهم الجوفاء التى قد يسيغها الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، والأدباء الذين هم في كل واد يهيمون، ولكنها لا تجد مساغا عند أحد من العقلاء فضلًا عن العلماء. إن عقولهم هي "المحجوبة" عن إدراك حكمة العليم الحكيم من تشريع
__________
(1549) الذاريات (56) .(2/628)
" الحجاب".. وإن تصوراتهم وأذواقهم وأخلاقهم هي " الممسوخة" حيث تجعل العري " الحيواني" تقدمًا ورقيًا، والستر " الإنساني تخلفًا ورجعية! ولقد رأينا- فيما تقدم- كيف تأثرت المرأة المسلمة بهذه التشريعات الربانية الحكيمة، ومارست دورها العظيم على أكمل وجه- من خلال "الحجاب " بمفهومه الشامل، فكان أن أثرت في الأمة أجمل التأثير وأحسنه.
لقد اعتزت بالإسلام واعتز الإسلام بها، حتى صار بين أيدينا تاريخ مجيد حافل بسيرتها العطرة بوصفها أما وزوجة وابنة، وعالمة فقيهة محدثة، وعابدة خاشعة قانتة، فبان للجميع ما الذي كان يخفيه الحجاب، وماذا كان يدور خلف الخدور.
إنها الثمرات المباركة التي جنتها الأمة من وراء الحجاب..
إنه الشرف العزيز الذي صانه الحجاب..
وإن هؤلاء هن " خريجات مدرسة الحجاب" قبل أن تعرف الدنيا مدرسة، وقبل أن يطرق سمعها " حقوقُ المرأة وتكريمها "، وإنما كان ذلك الوثوب إلى المجد، وكانت تلك النهضة إلى علياء السمو، يوم أدرك المسلمون الأوائل عِظم مكانة المرأة، وخطورة دورها:
فأدوا إليها حق التربية والتهذيب "من وراء حجاب ".
وحفظوا لها حق التعليم النافع " في إطار الحجاب ".
فكان ما رأينا من نماذج مشرفة لا يأتي عليها الحصر.
واليوم:
(يريد نساؤنا أن ينهضن، فهن يبتغين الوسائل، ويتلمسن الخطى،(2/629)
وما لهن لا ينهضن؟ ومن ذا يذودهن عما شرع الله لهن من الحقوق؟ وهل هن إلا منابت حُماتِنا، وأساةُ جراحنا، وبناة نهضتنا، ومنار دعوتنا، ومثار قوتنا؟ وهل نحن وإيَّاهن إلا كجناحي النَّسْر الصاعد، إذا هِيض أحدُهما خُفِض الآخر، فيصبح لا يجد في الأرض مقعدًا، ولا في السماء مصعدًا؟ لينهض النساء ما شئن أن ينهضن- ففي نهوضهن نهوضنا وبلوغ غايتنا-، ولكن ليحذر الآخذون بيدها، والداعون إلى نهضتها التواءَ القصد، والتباس الطريق، والتنكب عن صراط الله المستقيم، وشرعه القويم، فينالها الزلل، وتلجَّ بها العثرات، حتى يقول قوم: " لقد كان ما كانت فيه خيرًا وأبقى ".
ألا وإن من التواء القصد، وضلال الطريق، أن يتخذ نساؤنا المرأة الغربية مثالًا يحتذينه، ويُمْعِنَّ في التشبه به.
ونحن لا نَكْذِبُ المرأة الغربية، فليست جديرة بأن تكون مثلا أعلى يحتذى، فهي أولًا كافرة أو لا دين لها، وهي ثانيا هائمة لا خلق لها، إلا أن تهتدي بنور الإسلام، وتستضيء بأخلاقه وأحكامه، ولا يشفع لها أن يقال: " هي كاتبة حاسبة، وصانعة بارعة، وباحثة قديرة "، فإنها لم تزد أن دعمت حياة " المادة"، وزادتها نوطا جديدًا.
ولا يخدعنا ما يدعيه مقلدة الأجنبي وعساكره الفكريون من أن المرأة الأوربية حظيت بتكريم حقيقي، فإنها إنما أعطيت مظاهر كاذبة تُستغل من ورائها كلُعبة للهو بها هنا وهناك، وغطى القوم ذلك بما أسموه تحريرا ورقيا.
إن وضع المرأة عند الأجانب ليس إلا مظهرًا خاليا من القيم الرفيعة الصادقة، مثلها في ذلك مثل التقليد الذي جرى عليه الحاكم البريطاني حين يأمر باعتقال شخص، فيرسل إليه كتابا يختمه بهذا التوقيع: (خادمكم المطيع فلان) هكذا يُذَيلُ الحاكم خطابه الذي يعتقل به سيده المطاع!!.(2/630)
ولا شك أنه لو لم يكن لهذه الوضعية المعكوسة للمرأة ما يؤيدها من قوة السلاح وبهارج المادة والدعاية المتعصبة التي ألبستها عند مقلدتهم في ديارنا لبوس الحق، لو لم يكن لها ذلك لكانت سواد وجه لأي قوم اختاروها وسلكوا طريقها، ولكن هكذا يَضِل من اغتر، وغاب عن طريق الله وهداه.
لكل ذلك نناشد نساءنا أن يسدلن الحجب بينهن وبين نساء أوروبة، ففي أمهاتنا الأوليات فضل وغَناء، أولئك اللواتي نَسْتَن عن طيب أعراقهن، وكرم أخلاقهن، وتلك دماؤهن تترقرق بين جوانحنا، وأعطاف قلوبنا، ولا نزال نَحِن إلى أمجادهن، لأن لنا في المجد نسبا عريقًا، وطريقًا عميقًا، فأما ما نحن فيه من مظاهر النوء بالواجب، والنكول عن الجِدّ، فإنما هو صدأ عارض وغشاء مستحدث ألقاه علينا تطاول الأمد، وتتابع الحادثات، وما أصابنا في سبيل ذلك من فداحة الظلم، وذل الإسار الذي فرضته علينا الأيدي الأوربية " الرحيمة" التي تمسح شعث الكلب، وتدمي قلوب الشعوب!
فيا أيتها الأخت المسلمة:
لقد حق لك أن تتيهي، وتفاخري نساء العالمين بما أسداه الإسلام إليك من تكريم، وما رفع عنك عن ظلم ومهانة.
فاحذري أن تبدلي نعمة الله كفرا، أو أن تستبدلي الذي هو أدني بالذي هو خير.
وأنت أيتها الأم الرؤوم (1550) :
ليس ذاك الذي بين يديك بالطفل الذي يبقى أمد الحياة طفلًا، بل
__________
(1550) الرؤوم: العطوف.(2/631)
هو سر الوجود يذاع عنك، وصفحة الحياة تنشر عن أثرك، وهو أدل عليك من أسارير (1551) وجهك، وبيان لسانك.
ليست هذه البَضْعةُ (1552) المتحركة باللعبة الملْهِية بل هي العالَم الأكبر، يضطرب كاضطرابه، ويتخايل في مخايله، فانظري على أي حالة تريدين أن يكون الكون.
ليس ذلك الدارج بين عينيك بالصبي الخَلي (1553) بل هو خبيئة الدهر وعُدَّتُه.
وربما ضُم معاطفُ ثوبك على رجل الدنيا وواحدها، وما ينبئك لعل هناك مُلْكًا يترقب سيفه، أو عرشًا يطمئن لقدميه، أو أمة متعثرة تنتظر النَصَفة من وَضَح رأيه، وفيض بيانه) (1554) .
إن تلك المنزلة التي أعدكِ الله لها هي تلك التي وصفها بعضهم بحق فقال: " إن المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بيسراها".
* * *
ليست المرأة بالخَلْق الضعيف النفس، فإن من احتمل ما احتملته في ظلمات التاريخ، وعَسْف الأب، وصَلَف الزوج، إلى وَقر الحمل، وألم المخاض، وسُهْد الأمومة- راضيًا مطمئنا- لا يكون ضعيف النفس.
__________
(1551) أسارير: واحدها أسرار، والأسرار واحدها سِرَرْ -كعنب- خطوط الجبهة والكف.
(1552) البضعة: القطعة من اللحم.
(1553) الخَلَى: مقصورة: الرطْب من النبات، والخلِي: " الفارغ.
(1554) " المرأة العربية" بتصرف (1/7-15) .(2/632)
وليست بالخلق الحقير، فإن من وكَلَه الله بابتناء الشعوب، وإنشاء الأمم لا يكون حقيرا.
ألا إنما المرأة دعامة المجتمع، لا يزال ناهضا مكينًا ما نهضت به، فإن هي وَهَنت دونه، وتخاذلت عنه، واستهانت بالفضيلة، وأغرقت في الترف، تهاوت عَمَدهُ، وتَصَدعت جوانبه، وانبت نظامه، وانفصمت عراه، وكان حقا على الله أن يُديل من الأمة، ويبدلها، (وما ربك بظلام للعبيد) (1555) .
والآن أيتها الأخت المسلمة:
- فمن أجل " عودة الحجاب " تصفحنا تاريخ" المعركة بين الحجاب والسفور " أولا.
- ومن أجل " عودة الحجاب" كانت هذه الوقفة مع " المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ثانيًا.
- ومن أجل " عودة الحجاب " نواصل المسيرة المباركة إن شاء الله مع القسم الثالث: " الأدلة".
اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا الإسلام حتى نلقاك عليه، ولا تحرمنا خير ما عندك، بسوء ما عندنا، واجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلين، سِلْما لأوليائك، حربًا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادى بعداوتك من عاداك، ربنا اغفر لي، ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، وصلِّ اللهم على عبدك ونبيك ورسولك محمدٍ، وعلى آله
__________
(1555) فصلت (46) .(2/633)
وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إِلى يوم الدين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الثلاثاء 17 من ذي القعدة 1404 هـ
الموافق 14 من أغسطس 1984م
وكان الفراغ من إعداد الطبعة الخامسة في ليلة الأحد 9 من ربيع الثاني 1411 هـ، الموافق 28 من أكتوبر 1990م.(2/634)
أدلة الحجاب
بحث جامع لفضائل الحجاب وأدلة وجوبه والرد على من أباح السفور
الدكتور محمد أحمد إسماعيل المقدم
عفا الله عنه
دار القمة لتوزيع الكتاب والشريط والسي دي
دار الإيمان إسكندرية(3/)
أدلة الحجاب(3/)
أدلة الحجاب
بحث جامع لفضائل الحجاب وأدلة وجوبه والرد على من أباح السفور
تأليف
الدكتور محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
دار القمة لتوزيع الكتاب والشريط والسي دي فاكس: 5457769 ت: 5222002
دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع إسكندرية ت: 5457769(3/)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هذه الطبعة
الحمد لله كما ينبغي لجلاله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله.
أما بعد:
فلا تزال قضية "الحجاب والسفور" تستقطب اهتمام المصنفين منذ فَتح بابَها "قاسم أمين " حتى اليوم، ولا تزال المطابع تقذف بالجديد من الإصدارات حول هذا الموضوع بين مؤيد ومُعارض، والجديد في هذا
"الجديد" أن بعض المصنفين من داخل الصف الإسلامي خاضوا فيه بأسلوب
ينتهي إلي موافقة "قاسم أمين " في القول بإباحة السفور، وإن سلكوا-
لإثبات ذلك- مسلكا يتنزه عن المقاصد الرديئة التي تلطخ بها "قاسم أمين " وشيعته من بعده، لكنه لم يسلم- في الوقت نفسه - من بعض التحفظات:
أولها: أن بعض المصنفين طوعت لهم أنفسهم استعمال مصطلحات "دخيلة" على الوسط العلمي، لم يعهد إطلاقها إلا في سياق الخطاب
العالماني الذي درج على وصف المتشرعين بالتطرف، والتشدد، والغلو، والتعصب.
الثاني: ضعف الملكة الفقهية، وغياب "الحِسِّ " الفقهي عند ربط حكم الحجاب بواقع المجتمعات الإسلامية المعاصر:
فهذا أحدهم يضيق ذرعًا بإعمال فقهاء المذاهب المتأخرين قاعدة "سد الذرائع " في هذه المسألة، قائلاً: ".. حتى اشترطوا ذلك الشرط العجيب الذي لم يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة، ألا وهو: شرط أمن الفتنة" اهـ.
وهذا أحدهم يبالغ في إهمال قاعدة "سد الذرائع " إلى حد القول بإباحة كشف الوجه والكفين من المرأة الجميلة، ولو خُشيت الفتنة، باعتبار السفور حقا مشروعًا لها.
- أ-(3/)
كما أنهم لا يراعون عواقب مذهبهم حيث إن هناك كما هائلا ممن يضقن بالحجاب الشرعي من ضعيفات الإيمان، يتربصن في انتظار الإشارة "الصفراء" التي تبيح لهن المرور إلى مرحلة السفور لتضيء في إثرها الإشارة "الخضراء" فينطلقن زرافات ووحدانًا إلى التبرج والتهتك في أبشع صوره، كما حدث في بعض البلاد الإسلامية، والتاريخ يعيد نفسه، والسفور مطية الفجور.
الثالث: أن هذه المصنفات موجهة أساسًا إلى المنقبات، وليس إلي المتبرجات، وتكاد تنحصر غايتها في حمل المنقبة على السفور، وليس هداية المتبرجة إلى الحجاب.
الرابع. إهمال بعض أدلة المخالف، والإعراض عنها، وبخاصة فقه بعض الآيات القرآنية المتعلقة بالحجاب رغم وضوح دلالتها على وجوب الحجاب الكامل.
الخامس: التركيز على نسبة القول بوجوب النقاب إلى المعاصرين
من العلماء والدعاة وطلبة العلم، والانبساط في نقدهم ووصفهم بالتشدد والغلو والتعصب مع حجب أسماء الأئمة السابقين الذين نصروا هذا المذهب وتبنوه، بحيث يخيل للقاصر في العلم أن هذا مذهب مُحْدَث ليس من السلف ولا الأئمة من قال به، وأنه من بنات أفكار "المتطرفين"
السادس: غلبة ملامح "الغرور العلمي " على المصنفين الذين يشتطون في دمغ مخالفيهم بأوصاف كريهة منفرة، ويسرفون في تحقيرهم، وطرحهم أرضًا الواحد تلو الآخر، وكأن الترجيح بين الآراء يعتمد على كم الشتائم والازدراء والتعالي على المخالف، ولو كان من العلماء العاملين، والهداة المهتدين، غافلين عن أنهم بهذا المسلك يقدمون لطلاب العلم أسوة تُحتذى، وأنموذجًا يقتدى به، ونحن لا ننكر أن في المسألة خلافا قديما، ولكن الذي ننكره هو الحيدة عن "أخلاقيات الخلاف " التي التزمها الأئمة
- ب -(3/)
المهديون في كل عصر ومصر.
السابع: أن بعضهم يعمد إلى المختلفين في المسالة فيقسمهم إلى طرفين ووسط، بحيث يحتكر لرأيه منذ البداية الوسطية والاعتدال، ومن خالفه إما غال مُفْرِط، وإما جافٍ مُفَرِّط.
إن ظاهرة "القسمة الثلاثية" هذه تعني التحكم بالعاطفة في قضايا الخلاف الفقهي السائغ الذي لا يجوز فيه رمي المخالف بالبدعة والضلالة والتشدد.. إلخ، كما أنها تعني مصادرة آراء المخالفين منذ البداية، لأن صاحب هذا المسلك- وبهذا الأسلوب العاطفي- يبدو وكأنه يسوق الناس بعصاه لتبني مذهبه "المحتَّم "، فهو يقول: "ليس لكم أن تبيحوا التبرج لأنه تفريط وجفاء، وليس لكم أن توجبوا النقاب لأن القول بالوجوب إفراط وتشدد، وغلو وتعصب، وبما أن "كلا طرفي قصد الأمور ذميم "، إذن فلا مناص لكم من السبيل الأوحد الذي يحتكر الوسطية والاعتدال، والذي لا بديل له ألا وهو القول بإباحة السفور".
* وهاك أمثلة لظاهرة "القَسمة الثلاثية" تشي بها عناوين بعض الكتب:
الأول: "الرد المفحم على من خالف العلماء، وتشدد، وتعصب، وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها، وأوجب، ولم يقنع بقولهم: إنه سنة ومستحب (1) .
الثاني: "النقاب للمرأة: بين القول ببدعيته، والقول بوجوبه "
الثالث: الحجاب بين الإفراط والتفريط.
__________
(1) ومفهوم هذا العنوان إخراج كل مخالف- في القديم والحديث- من زمرة العلماء، ويؤخذ منه رمي العلماء القائلين بوجوب الحجاب الكامل بالتشدد، والتعصب، كابن تيمية وابن القيم وعشرات غيرهما، ويفهم من نسبة "الإلزام" إليهم أنهم يتكلمون بالظن
وما تهوى أنفسهم، ولا يبنون مذهبهم على أدلة القرآن والسنة.
-ج-(3/)
ويبقى في هذه العجالة تنبيهان:
الأول: وهي مسألة دقيقة لا يتفطن إليها من "يحتار" بين الأقوال والأدلة المتعارضة في المسألة؟ وينزعج من الخلاف فيها، وهي أن مسائل الفقه ليست كلها على درجة واحدة من الوضوح والحسم في حكمها، فالألفاظ منها واضح الدلالة كالظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم، ومنها غير
واضح الدلالة كالمتشابه، والمجمل، والمشكل، والخفي، وأنه لا يشترط أن يقوم دليل قطعي على كل مسألة، بل أغلب مسائل الفقه ظنية، وإن الاجتهاد كما يجري في "ثبوت النص " كذلك يجري في "دلالته "، وأن المسائل الفقهية الخلافية يتم الترجيح فيها بالنظر في مجموع الأدلة، وليس في طائفة منها، وأن ضعف الدليل لا يستلزم ضعف المدلول، بمعنى أن صاحب المذهب الراجح قد يكون في ضمن أدلته دليل ضعيف من حيث ثبوته، أو من حيث دلالته، دون أن يقدح هذا في ترجيح مذهبه بالنظر إلى مجموع الأدلة التي استند إليها.
الثاني: أننا يجب أن نتلقى الحكم الشرعي الراجح بصدور منثسرحة، وتسليم مطلق، وثقة كاملة بأن شريعة الله فيها صلاحنا وخيرنا، وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأنه لا تخلو عبادة من مشقة معتادة، ومجاهدة للنفس، غير أن هذه المشقة إذا زادت وتضاعفت وصارت فوق الاحتمال، فهنا تأتي الرخصة الشرعية رفعًا للحرج، ودفعًا للعنت، وتيسيرًا على المكلفين، وأن على الباحث في المسألة أن يفرق بين "الحكم الشرعي" الأصلي الذي نستنبطه من الأدلة بتجرد، ونزاهة، وبين "الفتوى" التي تعتمد على المواءمة بين الحكم الشرعي وظروف المستفتي الخاصة أو الطارئة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الإسكندرية في السبت 28 صفر 1423 هـ
الموافق 11 مايو 2002م
-د-(3/)
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده! ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
[آل عمران: 102] .
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)) [الأحزاب: 75- 71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من نافلة القول أن نربط بين "عودة الحجاب " إلى وجوه المسلمات وبين الصحوة الإسلامية الناهضة التي أشرق بنورها كثير من البلاد الإسلامية ومنها "مصر"، فقد فرضت قضية "حكم النقاب " نفسها في واقعنا الفكري المعاصر بعد أن خُيِّل إلى الجميع أن مثل هذه المفاهيم، بل "التقاليد" (1) -
__________
(1) راجع "معركة الحجاب والسفور" للمؤلف (96 1-197) هامش رقم (396) .(3/5)
في زعمهم - قد ولَّت إلى غير رجعة.
أجل! حدث هذا في أعقاب الصحوة الإسلامية القائمة على الأصالة، والاقتباس من منابع ديننا الحنيف الذي حملت رسالته، وحفظت أمانتَه هذه الأمةُ طيلة اثنى عشر قرنا من الزمان- قبل طروء الغزو الفكري- فكان أن امتزجت به مشاعرها، وجرت في سبيله دماؤها، وأصبح هو حياتها وفكرها، ومبدأها ومعادها، ونبض قلوبها.
لقد تتابعت الحملات العسكرية ثم الفكرية للقضاء على هذا الدين وأهله، وخُيل إلى أعداء الإسلام أن الأمة مجتمعة قد استجابت لجهودهم، وأزمعت أن تُوَدعِّ الإسلام نهائيُّا إلى غير رجعة.
وإذا بالطائفة الظاهرة المنصورة من علماء الأمة الربانيين يتصدَّوْنَ عن وَعي واقتدار في كل عصر ومِصر لأعداء الإسلام، ويبشرون الذين تسرب اليأس إلى قلوبهم بقوله تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87] )
وتوله عز وجل (سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7] وقوله سبحانهْ: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28] ، وقوله جل وعلا: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21] .
ويوبخون أعداء الله بقوله جل وعز: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا) [الكهف: 102] . وإذا بشباب في ريعان الصبا، وفتياتٍ في عمر الورود ينسابون من كل حدب وصوب، ينضمون إلى ركب الإيمان، ينادون بالعودة إلى كتاب الله وتحكيم شرعه، حاملين أنفسَهم وأنفاسَهم وأموالهم وأوقاتهم وزهرات شبابهم على أكفهم، باذلين ذلك كله في سبيل إعلاء كلمة الله، متحملين العذاب، والاضطهاد، والتشريد، والتنكيل، واثقين بوعد الله
موقنين أن الشهداء والأسرى والمعذبين معالم على طريق النصر والتمكين.(3/6)
لقد تجاوبت الآفاق بأصداء دعائهم: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [آل عمران: 193] ، حين رددها شباب تركيا، والباكستان، وأفغانستان، ومصر، وجزيرة العرب، والشام، والمغرب، والسودان، وسائر الديار الإسلامية، بل في أعماق أوربة وأمريكا، وراحوا ينهلون من كتاب الله سبحانه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجهوا قلوبهم ووجوههم من جديد- بعد حيرة واغتراب- شطر البيت العتيق،
وولوْا ظهورَهم (لِلْقُلَّيْس) (1) قبلةِ الضرار التي أقامها "أبرهة" (2) روسيا، و"أبرهة، أمريكا في "موسكو" و "واشنطن "، والتي قام على سدانتها، وتسيير الوفود نحوها " آباءُ رِغال " (3) عصرنا.
لقد وَلَّوْها ظهورهم عملًا بقوله سبحانه وتعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 150] .
لقد أذهلت الصحوة الإسلامية أعداء الإسلام، فأخذوا يرقصون رقصة الموت التي يحاول فيها الذبيح باستماتة كأنه يحارب معركته الأخيرة، وما هي إلا "صحوة الموت " الزؤام أمام "صحوة البعث "
__________
(1) القُلَّيْس: اسم كنيسة بناها بصنعاء "أبرهة الأشرم" لم يُرَ مثلُها بشيء من الأرض، وأراد أن يصرف إليها حَجّ العرب. (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (170/ 2) ، والإشارة هنا إلى "الكرملين " و "الكونجرس " وغيرهما. "
(2) أبرهة الحبشي ملك اليمن، وهو الذي قاد أصحاب الفيل لهدم الكعبة.
(3) أبو رغال: هو الرجل الذي بعثته ثقيف مع أبرهة ليدله على طريق مكة كي يهدم البيت الحرام، فلما أنزله بالمغمس- موضع قرب مكة في طريق الطائف- مات أبو رِغال هنالك، فرجمت قبره العربُ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمُغَمس، وفيه قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم لقبر أبي رغال
انظر "البداية والنهاية " للحافظ ابن كثير (2/ 171) ، و "الأعلام" للزركلي (5/ 198) .(3/7)
الإسلامي المرتقب (1) .
__________
(1) ومن مظاهر ذلك تصريحات لساستهم تعكس هذا الرعب والفزع من "عودة الإسلام " من جديد! يقول "حاييم هبرتزوج" السفير اليهودي السابق لدى "الأمم المتحدة":
(إن ظهور حركة اليقظة الإسلامية بهذه الصورة المفاجئة المذهلة قد أظهر بوضوح
أن جميع البعثات الدبلوماسية، وقبل هؤلاء جميعًا وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت تغط في سبات عميق) اهـ. من صحيفة الـ "جيروزالم بوست " الصهيونية- بتاريخ (25/ 9/ 1978 م) - نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" للدكتور على جريشة هامش ص (11) .
وهذا راديو إسرائيل يبث في تعليق سياسي: (إن عودة الروح الدينية للظهور
من جديد في المنطقة يشكل تهديدا مباشرا لمستقبل إسرائيل، ولمستقبل الحضارة
الغربية بأسرها) اهـ. بصوت معلق إذاعة إسرائيل للشئون السياسية الساعة العاشرة والربع مساء يوم (5/9/1978 م) نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" هامش ص (12) .
وهذا "ابن جوريون " يرتجف قائلاً:
(نحن لا نخشى الاشتراكيات، ولا الثوريات، ولا الدِيمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نحشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلا، وبدأ يتململ من جديد اهـ. - نقلا عن "أجنحة المكر الثلاثة" للأستاذ عبد الرحمن حبنكة ص (131) .
وقال أيضا في "الكنيست ": اصبروا، فلن يكون هناك سلام لإسرائيل ما دام العرب تحت قيادة الرجعيين، إن الشرط الأساسي للسلام هو أن يقوم في البلدان العربية حكومات ديمقراطية تقدمية متحررة من التقاليد الإسلامية اهـ.
انظر "القسم الأول" ص (82) .
وهذا "شعيا بومان "- كاتب يهودي - يصيح في هَلَع وفَزَع:
إن على أوربة أن تظل خائفة من الإسلام، ذلك الدينً الذي ظهر في مكة لم يضعف من الناحية العددية، بل هو في ازدياد واتساع، ثم إن الإسلام ليس دينًا فحسب، بل إن من أهم أركانه الجهاد، وهذا ما يجب أن تتنبه له أوربا جيدا)
اهـ. من "أجنحة المكر الثلاثة" ص (131) .
ومن الجدير بالذكر أن أحد أعضاء الكنيست اليهودي علق على أحداث الانتفاضة الإسلامية في فلسطين مؤخرَا بقوله: =(3/8)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= إننا نواجه نوعًا جديدا من البشر لم يكن موجودًا من قبل، رجال يقبلون على الموت بقدر ما نريد نحن الحياة اهـ.
انظر "الاعتصام" عدد جمادى الآخرة 1408 هـ - فبراير 1988 م ص (12) .
ويقول المنصِّر "لورنس براون ": (لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد
الاختبار نجد مبررًا لمثل هذه المخاوف، لقد كنا نُخَوَّف من قبل بالخطر اليهودي، وبالخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخوف كله لم يتفق كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا فكل مضطهد لهم عدونا
الألد، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر فهنالك دول ديمقراطية
كبرى تقاومها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي) اهـ. من "أجنحة المكر الثلاثة" ص (67) .
وجاء في صحيفة (أحرونوت) الإسرائيلية:
(إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما، ويجب أن يبقى
الإسلام بعيدَا عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية قي المنطقة المحيطة بنا) اهـ.
من صحيفة (أحرنوت) اليهودية بتاريخ (18/3/ 1978م) نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" هامش ص (12) .
ويقول المستشرق شاتلي "
إذا أردتم أن تغزوا الإسلام، وتخضدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بإماتة روح
الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى =(3/9)
وما أكثر الإرهاصات التي تبشر باقتراب الوعد الحق الذي وعد الله عباده المؤمنين في قوله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ) .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا
يذهبُ الليلُ والنهار حتى تُعْبَد اللات والعزى"، قالت: قلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ) أن ذلك تام، قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله " (1) الحديث "
ومما يوضح هذه البشارة:
ما رواه شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله زَوَىَ (2) لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ
مُلْكها ما زويَ لي منها" (3) الحديث.
__________
= لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج البسطاء لكفانا ذلك؛ لأن الشجرة يجب
أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها اهـ.
من "غزو العالم الإسلامي " للمستشرق "شاتلي " ص 264) - نقلا عن "أجنحة المكر الثلاثة".
(1) رواه مسلم رقم (2907) في "الفتن" باب "لا تقوم الساعة حتى تعبد دَوْس ذا الخلصة" (8/ 182) ، والحاكم (4/ 446، 447، 549) ، وفال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه اهـ.
قال الألباني رحمه الله: (في هذا الحديث بيان أن الظهور المذكور قي الآية لم يتحقق بتمامه، وإنما يتحقق في المستقبل، ومما لا شك فيه أن دائرة الظهور اتسعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ولا يكون التمام إلا بسيطرة
والإسلام على جميع الكرة الأرضية، وسيتحقق - هذا قطعا لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك) اهـ. من "تحذير الساجد" ص (173) .
(2) أي: جمع وضم.
(3) رواه مسلم (8/ 171) ، رقم (2889) في الفتن، باب "هلاك هذه الأمة =(3/10)
وما رواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَه قال: "لَيَبلُغَن هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا ترك الله بيتَ مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بِعِز عزيز، أو بِذلِّ ذليل، عِزّا يعز الله به الإسلام، وذلّا يذل به الكفر" (1) .
إن واقع الصحوة الإسلامية العالمية اليوم يبشر بأنها أخذت تقترب شيئًا فشيئًا من الموعد المرتقب الذي بَشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " (2) .
__________
= بعضهم ببعض، وأبو داود رقم (4252) في الفتن "باب ذكر الفتن ودلائلها. والترمذي رقم (2176) في الفتن، باب "ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا في أمته "، وابن ماجه في الفتن باب (ما يكون من الفتن، رقم (4016) .
والأمام أحمد (5/ 278، 284) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
والإمام أحمد أيضا من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه (4/ 123) .
(1) رواه من حديث تميم الداري رضي الله عنه مرفوعا الإمام اْحمد (4/ 103) ، ورواه أيضا عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه مرفوعًا (6/ 4) ولفظه: "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل، إما يعزهم الله عز وجل فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها"، والحاكم (4/ 430- 431) ، قال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ، ووافقه الذهبي، وهو على شرط مسلم وحده.
و (المَدَرُ) : المدن والحَضَر، و (الوَبَرُ) : صوف الإبل والأرانب ونحوها
(2) جزء من حديث رواه الإمام أحمد (4/273) .
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 189) : (رواه أحمد والبزار أتم منه،
والطبراني ببعضه في "الأوسط " ورجاله ثقات) اهـ.
عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون،
ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت ".(3/11)
وآية ذلك أنك ترى الشباب يترقى رويدا رويدا ليصل إلى "منهاج النبوة" فها هم يقيمون دعوتهم على أصل الأصول في دعوة الأنبياء والمرسلين ألا وهو توحيد الله سبحانه، والبراءة من الشرك، وتحرير ولائهم لله ورسوله والمؤمنين، ومنابذة أعداء "لا إله إلا الله " والبراءة منهم، والدعوة إلى التوحيد، ونشر عقيدة "أهل السنة والجماعة"، كل ذلك يحتل مساحة شاسعة من خريطة دعوتهم، أليس هذا هو جوهر "منهاج النبوة" ولبه وقطب رحاه؟
وها هم يحيون الدعوة إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة في كل ما يعرض لهم من قضايا ومشكلات.
وها هم يجددون الدعوة إلى نبذ الفرقة والاختلاف، والاعتصام بحبل الله والائتلاف بالتمسك بالسنة، والبراءة من البدعة.
وها هم ينفضون الغبار عن تراثهم، ويُحْيُونَ مفاهيم السلف الصالح رضي الله عنهم، ويجتهدون في أن يترقَوْا، إلى منهج السلف الصالح، وأن "يَتَسَامَوْا"، إلى أخلاقهم وعبادتهم! وجهادهم، وأن "يتقدموا " إلى تصوراتهم التي تلقوها من مشكاة النبوة الخاتمة دونما كدر ولا دَخَن.
أليست هذه أهم خصائص "منهاج النبوة"؟!
لقد أوْلى الإسلام المرأة اهتماما بليغا، وَبَوَّأها مكانة سامقة، وكرَّمها أعظم تكريم، وكيف تفاعلت بهذا كُلّه، فمارست دَوْرَها العظيم، وخلَّفت لنا تاريخًا حافلًا بسيرتها العطرة كأم وزوجة وابنة، وكمؤمنة مجاهدة صابرة، وكعالمة فقيهة محدثة، وكعابدة خاشعة قانتة، حتى بان للجميع ما الذي كان يخفيه الحجاب، وماذا كان يدور خلف الخدور؟
إنها الثمرات المباركات التي جنتها الأمة من وراء الحجاب، إنه الشرف العزيز الذي صانه الحجاب، وإن هؤلاء هُنَّ خريجات "مدرسة الحجاب" قبل أن تعرف الدنيا مدرسة، وقبل أن يطرق سمعها "حقوق المرأة وتكريمها".(3/12)
لقد كان من القضايا التي واجهت الصحوة الإسلامية "قضية المرأة" تلك القضية ذات الارتباط الوثيق بالنظام الاجتماعي في الإسلام، والتي يتفرع عنها مسائل تعليمها، وعملها، وحجابها..
وحول هذا الأخير نشأ الجدل، وثارت التساؤلات ما بين مخلص حائر يبحث عن الحق، وبين مغرض مجادل في الحق بعد ما تبين.
من هنا احتدم الجدال حول "حكم تغطية المرأة وجهها وكفيها عن الرجال الأجانب عنها. وهل ذلك فرض أم فضل؟ ".
فمن قائل: إن النقاب بدعة تركية، أو مملوكية، أو فارسية إيرانية.
ومن قائل: إنه رجعية جاهلية.
ومن قائل إنه بدعة وتنطع يأباه دين الإسلام ... إلخ.
بل ذهب بعض المضلين إلى الإفتاء بأن العلماء مجمعون على بدعيته، و"براءة" الإسلام منه!!
لقد راجت هذه القضية في توقيت لافت للنظر، من حيث اقترانه بأحداث سياسية جذرية، وتحركات فكرية عَلمانية، وحملات قمع محمومة، وإجراءات تعسفية (1) حاول الساسة من خلالها إخفاء هزيمتهم النفسية أمام الصحوة الإسلامية الجارفة، وخنق هذه الدعوة الناشئة، ووأدها في مهدها.
__________
(1) ووصل الأمر في تركيا- مثلًا- إلى حَدِّ أن الحكومة هناك لم تكتف بمطاردة المحجبات داخل تركيا، حتى (تقدم السفير التركي في ألمانيا الغربية بطلب إلى الحكومة الألمانية يطلب فيه منع الطالبات التركيات الدارسات في ألمانيا من ارتداء الحجاب، غير أن رد وزارة الخارجية الألمانية كان بمثابة صفعة قوية إذ أجابت بأن ألمانيا دولة علمانية، ولذا فهي لا تتدخل في الشئون الدينية للطلاب) اهـ.
من (المختار الإسلامي) - العدد (58) - السنة الثامنة- ربيع أول 1408 اهـ، نوفمبر 1987 م.(3/13)
وكانت كل هذه الأحداث والتحركات والحملات والإجراءات تصب في مجرى العداء والخصومة للإسلام وللعاملين من أجله، ذلك المجرى الخبيث الذي أصبح من السمات الثابتة لخارطة الوقائع على طول القرن الحالي، والذي ازداد اندفاعه النكِد في العهود القريبة.
إذ طفت على السطح "فقاقيع " المتغربين، واعتلت المنابرَ الإعلامية وجوه مشبوهة، وألسنة مسعورة سبق اختيارها بدقة وعناية، ثم دُفع بها إلى حلبة الإعلام لتؤدي دورها المرسوم سلفا خدمة للعديد من تيارات التدخل الدولي، أو التبعية المحلية، ولتسعى سعيا حثيثا دائبا لتقليص مساحة هيمنة الإسلام على الحياة وتخطيطه لها، وتفريغه من مضمونه الرباني الشمولي.
من هنا كان لزاما أن تُواجَهَ هذه الحملاتُ الخبيثة، وأن تُفْضَحَ هذه المؤمرات، وَتكشَفَ أبعادُ قضية "تحرير المرأة، وخلفياتها لوضعها تحت منظار الفحص، وتعرية جذور وفروع هذا النبت الخبيث.
وقد تقدم بيان ذلك في كتاب "معركة الحجاب والسفور".
والآن: جاء دور التفنيد والرد وبيان الأدلة وكشف الشبهات:
لقد حرَّر لفيف من الكُتَّاب كثيرَا من المصنفات المطوَّلة، والرسائل المختصرة، حول "حكم كشفَ الوجه والكفين من المرأة"، وركز بعضهم على جانب من جوانب أدلته دون سائرها، فكان كلا منها على حدة، لا يَشفي من القارئ المعاصر غُلةَ الصدى (1) ، فتجاسر المقصر المذنب، المتعرض لما لا يطيق، وتطفَّل على مائدة أولئك الأفاضل، وحاول جهده أن يجمع من كتبهم ورسائلهم مجموعا يؤلف بينها، ويلم شعثها، ويجمع شتاتها، - ويستوعب ذكر أدلتها، ويدفع شُبَه المخالفين لها، في صحيفة
__________
(1) الصدى: العطش.(3/14)
كاملة، ورقيمة حافلة.
فشرعت منذ سنوات طوال أحاول الإنجاز والإتمام، لكن يعوقني القصور والتقصير، فظللت بين إقدام وإحجام، حتى مَن الكريم المتعال بإخراج كتابين، الأول: "معركة الحجاب والسفور"، والثاني: "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية"، وهما كالتوطئة والتمهيد، لهذا الثالث المقصود.
ثم جمعت- حسبما تمكنت، وقدر ما تَحَصَّلتُ- آيات بينات، وأحاديثَ شريفات، وأخبارَا نيرات في موضوع البحث، مع تفسيرها الذي حرَّره العلماء الفحول، وشرحِها الذي حبَّره أئمة المنقول، وأذعن له جمهورهم بالتلقي والقبول، ضاما إلى ذلكّ من مقالات أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين ما وقفت عليه، جامعا لأشتات هذه الأبواب المتفرقة في الدواوين.
غير أن هذا المجموع مع كونه شَذَرَمَذَرَ، لفقده الترتيبَ المتقن والتهذيبَ المستحسن، لم يُوفّ بالمقصود، لكنني حاولت من باب "سَددوا، وقاربوا"، فا لا يُدْرَكُ كُلُّه لا يُتْرَك جلّه.
ولم أرَ في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمامِ(3/15)
هذا، وقد رتبتُ الكتاب على مقدمة، وستة أبواب، وخاتمة:
الباب الأول:
الفصل الأول: فتنة المرأة.
الفصل الثاني: احتياطات الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة.
الباب الثاني:
الفصل الأول: معنى الحجاب ودرجاته.
الفصل الثاني: تاريخ الحجاب.
الباب الثالث:
الفصل الأول: فضائل الحجاب.
الفصل الثاني: مثالب التبرج.
الباب الرابع:
الفصل الأول: شروط الحجاب الشرعي.
الفصل الثاني: أين نحن من الحجاب الشرعي.
الباب الخامس: أدلة وجوب ستر الوجه والكفين:
الفصل الأول: أدله القرآن الكريم.
الفصل الثاني: الأحاديث النبوية المتعلقة بحكم الحجاب.
الباب السادس:
الفصل الأول: شبهات وجوابها.
الفصل الثاني: نصوص علماء المذاهب الأربعة في حكم الحجاب(3/16)
والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعله نورا لإخواني المسلمين، ونارا على أعداء الدين، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الإسكندرية في/ الأحد 15 جمادى الآخرة 1409 هـ
الموافق 22 يناير 1989 م.(3/17)
الباب الأول
الفصل الأول:
فتنه المرأة.
الفصل الثاني:
احتياطات الإسلام لسد منابع الفتنة بالمرأة(3/19)
الفصل الأول
فتنة المرأة
إن المرأة المسلمة لقيت عناية فائقة من الإسلام بما يصون عفتها، ويجعلها عزيزة الجانب، سامية المكانة، وإن الضوابط التي فرضها عليها في ملبسها، وزينتها وعلاقتها بالرجال لم تكن إلا لِسَدِّ ذريعة الفساد، وتجفيف منابع الافتتان بها، فإذا هي تنكبت تلك المحجة، وانحرفت عن هذا السبيل، وحطمت تلك الحواجز، وتعدت تلك الضوابط، فثارت على البيت والولد، وانكشفت في المجامع والأندية، وانغمرت في اللهو واللعب، وراحت تعلن عن نفسها بشقاشق القول، وفضول اللسان، فهنالك الويل والوبال، والفتنة والدمار، والداء العضال.
لقد كان الإشفاق من وبال ذلك الداء أشد ما خامر قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيله ألقى على السابقين الأولين من المسلمين كلمته الخالدة-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه " (1) ، ليبين لنا كيف أن الافتتان بالمرأة قد يؤدي إلى إحباط عمل مِن أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وهو
__________
(1) رواه البخاري (1/ 15) - طبعة المكتبة السلفية- في بدء الوحي، والإيمان، والعتق، وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والنكاح، والأيمان والنذور، والحيل، ومسلم رقم (1907) في الإمارة، وأبو داود رقم (2201) في الطلاق، والترمذي رقم (1647) في فضائل الجهاد، والنسائي (1/ 59-60) في الطهارة، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(3/21)
الهجرة إلى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى خطر الفتنة بالمرأة، فقال سبحانه وتعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14] ، فقدَّم سبحانه النساء لعراقتهن في هذا الباب؛ ولأن أكثر الرجال إنما دخل عليهم الخلل من قِبل هذه الشهوة، ولعله لأجل ذلك أيضا قدم سبحانه وتعالى المرأة على الرجل في قوله جل وعلا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] ،.
وقال سبحانه وتعالى حاكيا عن عزيز مصر: (قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف: 28] ،.
وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتنة المرأة، ونصح لأمته قي هذا الباب أعظم النصح.
فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما تركتُ بعدي فتنةً هي أَضَر على الرجالِ من النساء " (1) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان " (2) .
__________
(1) رواه البخاري (9/ 41) في النكاح: باب ما يُتَقَّى من شؤم المرأة، ومسلم رقم (2740) في الذكر والدعاء: باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وبيان الفتنة في النساء، والترمذي في الأدب: رقم (2785) باب ما جاء في التحذير من فتنة النساء، وقال: - "هذا حديث حسن صحيح".
(2) رواه الترمذي رقم (1173) في الرضاع: باب رقم (18) ، وقال: " حسن غريب"، وقد رمز السيوطي له بالصحة، وقال المناوي: (رواه عنه أيضا باللفظ
المذكور الطبراني، وزاد: " وإنها أقرب ما تكون من الله وهي في قعر بيتها" قال
الهيثمي: رجا له موثقون، ورواه أيضَا ابن حبان (رقم 329- موارد) عنه) =(3/22)
قال الطيبي: والمعنى المتبادر أنها ما دامت في خِدرها لم يطمع الشيطان فيها، وفي إغواء الناس، فإذا خرجت طمع، وأطمع لأنها حبائله، وأعظم فخوخه (1) .
قوله: "فيستشرفها الشيطان " أصل الاستشراف: وضع الكف فوق الحاجب، ورفع الرأس للنظر.
قال المنذري: أي ينتصب ويرفع بصره إليها، ويَهمُّ بها؛ لأنها قد تعاطت سببًا من أسباب تسلطه عليها، وهو خروجها من بيتها (2) اهـ.
وعنه رضي الله عنه قال: "إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عَبَدَت امرأة رَبها مثلَ أن تعبده في بيتها" (3) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلِفُكم فيها، فناظِر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أولَ فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء" (4) .
__________
= اهـ. من "فيض القدير" (6/ 267) .
(1) "فيض القدير" (6/ 266) .
(2) وعلق الألباني قائلاً: "هذا في شيطان الجن، فما بالك في شيطان الإنس، لاسيما شياطين إنس هذا العصر الذي نحن فيه، فإنه أضر على المرأة من ألف شيطان؛ لأن أغلب شبان هذا الزمان لا مروءة عندهم، ولا دين، ولا شرف، ولا إنسانية، يتعرضون للنساء بشكل مفجع، وهيئة تدل على خساسة ودناءة وانحطاط، فعلى ولاة الأمر- إن كانوا مسلمين- أن يؤدبوا هؤلاء الفسقة الشررة، والوحوش الضارية" اهـ من "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 138) . رواه الطبراني في "الكبير" وقال الهيثمي في "المجمع ": "رجاله ثقات " (2/ 35) ، وقال المنذري: "إسناده حسن " ووافقه الألباني.
رواه مسلم رقم (2742) في الذكر، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي =(3/23)
وقد أوغل نساء بني إسرائيل في المعاصي، وتَفَنَّنَّ في فتنة الرجال، ومن مظاهر ذلك:
ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: "كانت أمرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وخاتما من ذهب، مُغَلَّفًا بطين، ثم حشته مِسكا، وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين، فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا" (1) .
وفي رواية. "فكانت إذا مرت بالمجلس حركته، فنفخ ريحه ".
وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلًا من خشب يتشرفن للرجال في المسجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسُلِّطت عليهن الحيضة" (2) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان الرجال والنساء من بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة إذا كان لها خليل تلبس القالَبين (3) تطوّل بهما لخليلها، فألقى الله عليهن الحيض، فكان ابن مسعود يقول: أخرجوهن من حيث أخرجهن الله" (4) .
__________
= رقم (2192) في جملة حديث طويل في الفتن، باب: ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، وابن ماجة رقم (4000) في الفتن، باب: فتنة النساء.
(1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 0 4، 46، 68) ، وأخرجه النسائي مختصرًا في الزينة: (8/ 151، 190) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير، (4/ 159) رقم (4340) .
(2) قال الحافظ رحمه الله: أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح وهذا- وإن كان موقوفًا- حكمه حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي، وروى عبد الرزاق نحوه بإسناد صحيح عن ابن مسعود اهـ- نقله عنه في "الفتح الرباني " (5/ 202) .
(3) القالبين: بفتح اللام وكسرها نعل من خشب كالقبقاب.
(4) رواه الطبراني في "الكبير،، ورجاله رجال الصحيح "مجمع الزوائد" (2/ 35) .(3/24)
وقد عاقبهن الله عز وجل على إحداث التبرج والزينة.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت فيما روته عنها عمرة بنت عبد الرحمن: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما مُنِعَهُ نساءُ بنى إسرائيل " (1)
قيل لعمرة: أوَ مُنِعْنَ؟ قالت: نعم.
وجاء في كتبهم ما يشر إلى هذا العقاب، فقد جاء في الأصحاح الثالث من سفر أشعيا: "إن الله سيعاقب بنات صِهيون على تبرجهن، والمباهات برنين خلاخيلهن باْن ينزع عنهن زينة الخلاخيل، والضفائر، والأهلة، وا لحِلَق، والأساور، والبراقع، والعصائب ".
وقد نبأ النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع بعض نساء أمته في نفس الكبيرة، وبشرهن بأسوء مصير، فقال صلى الله عليه وسلم: "صِنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (2)
وقد يقع الافتتان بالمرأة من وجه آخر، إذا خلبت لُبَّ الرجل،
__________
(1) رواه البخاري (2/ 406) في الأذان: باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، ومسلم رقم (445) في الصلاة، بابْ خروج النساء إلى المساجد، و "الموطأ" (1/198) في القبلة، باب: ما جاء في خروج النساء إلى المساجد، وأبو داود
رقم (569) في الصلاة، باب: التشديد في خروج النساء إلى المساجد، وانظر: "سنن الترمذي" (2/ 420) ، وكذا رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/
91،193،235) .
(قال الكرماني: فإن قلت: من أين علمت عائشة رضي الله عنها هذه الملازمة، والحكم بالمنع وعدمه ليس إلا لله تعالى قلت: مما شاهدت من القواعد الدينية المقتضية لحسم مواد الفساد. اهـ. نقلًا عن "الفتح الرباني" (5/ 202) .
(2) أخرجه مسلم رقم (2128) في الجنة: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء.(3/25)
وسحرت عقله، وزينت له ترك الواجب، أو فعل المحرم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقلٍ ولا دين أغلبَ لذي لُبّ منكن " (1) الحديث.
ولذا قال الشاعر:
يَصْرَعْن ذا اللُّبِّ حتى لاحِراك به ... وَهُنَّ أضعفُ خلقِ الله أركانا
ومن هنا قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) [التغابن: 14، 15] ،.
__________
(1) رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رقم (4679) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وهو قطعه من حديث رواه مسلم رقم (79) في الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وابن ماجه رقم (4003) في الفتن: باب بيان فتنة النساء.
. وأخرج البخاري نحوه (3/ 381) ضمن حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُب الرجل الحازم من إحداكُنَ يا معشر النساء" في الزكاة: باب الزكاة على الأقارب، وفيْ الحيض: باب ترك الحائض الصوم، وفي العيدين: باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، وفي الصوم: باب الحائض تترك الصوم والصلاة، وفي الشهادات: باب شهادة النساء.(3/26)
الفصل الثاني
احتياطات الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ركب في الإنسان شهوة الفرج تركيبا قويا، وجعل لها عليه سلطانَا شديدَا، فإذا ثارت كانت أشد الشهوات عصيانًا على العقل، فلا تقبل منه صرفَا ولا عدلا، إلا من تحجزه التقوى، ويعصمه الله عز وجل بتوفيقه.
والدليل على شدة هذا الميل أن الإنسان يحتمل بكل الرضا مشاق وتكاليف الزوجية وتربية الأولاد، والكد والتعب من أجلهم، بحيث صار الإنسان مسوقا عن طريق تسليط هذه الشهوة إلى التناسل وعمارة الدنيا ليقضي الله أمرًا كان مفعولا.
إن المرأة من طبعها استهواءُ الرجل، والسيطرة على مشاعره، وامتلاك حسه ولبه، وفي سبيل إغوائه، ولفت نظره إليها قد تصنع من ألوان الفتن ما يجر إلى المنكر.
والإسلام يقدر ما رُكب في طبيعة النوعين من التجاذب الذي يؤدي إلى الافتتان والفساد، فإذا تُرِك الناس لدواعي أهوائهم فسدت الأعراض، وفثست الإباحية.
والله سبحانه وتعالى عليم بخلقه سواء منهم الرجل أو المرأة أو الشيطان، قال جل وعلا: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14] ، وقد نبهنا سبحانه إلى أن غاية الشيطان في هذا الباب أن يوقع النوعين في حضيض الفحشاء، لكنه يسلك في تزيينها، والإغراء بها مسلك التدرج والاستدراج عن طريق خطوات يقود بعضها إلى بعض،(3/27)
أولها النظرة، ثم النظرة تولد خطرة تطرق القلب، فإن دفعها العبد استراح مما بعدها، وإن لم يدافعها قويت، فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها، وإلا قويت، وصارت شهوة، فإن عالجها، وإلا صارت إرادة، فإن عالجها، وإلا صارت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها، وأقترن بها الفعل ولابد) (1) .
ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر، وأعان التوفيق.
ومن هنا قال العليم الخبير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور: 21] ، ولما أراد الله عز وجل أن ينهانا عن الفاحشة لم يقل: (ولا تزنوا) ، ولكن قال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء: 32] ، فهذا أبلغ؟ لأنه نهى عن مجرد الدنو منه عن طريق ذرائعه ومقدماته، وقال سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا) [البقرة: 187] ، فا بالك بمن يتخطاها؟!
ومن أجل ذلك كله كان (الحفاظ على العرض) أحد المقاصد الأساسية العليا للشريعة الإسلامية، والتي تدور حولها جملة كبيرة من الأحكام، مَنْ تأمَّلَها وجد أنها كُلَّها تقود إلى هدفٍ واحد وهو: "منع وقع فاحشة الزنا"؛
- تعظيمًا لحرمات الله.
- وصيانة للأعراض.
- ومحافظة على النسل.
- وتطهيرا للمجتمع من الرذيلة.
واتخذت الشريعة في ذلك اتجاهين:
الأول: اتجاه وقائي يمنع وقوع الفاحشة عن طريق سد المنافذ المؤدية إليها سدًّا محكمَا.
__________
(1) "التبيان في أقسام القرآن " ص (304) .(3/28)
والثاني: اتجاه علاجي عن طريق فتح أبواب التعفف والحصانة على مصاريعها، وشق الطرق المعبدة الموصلة إلى ما أحَلَّه الله.
وهذا نفصله فيما يلي إن شاء الله تعالى.
أولاً- الإجراءات الوقائية:
تحريم الزنا وبيان أنه خراب للدنيا والدين
أجمعت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، واعتبرته من أكبر الآثام، وأعظم الجرائم التي تدنس النفس البشرية، وتحول بينها وبس سعادتها وكمالها، ووضعت له أقصى عقوبة في باب العقوبات وأشنعها، وهي الرجم بالحجارة حتى الموت، وتوعدت فاعليها بالعقوبات العاجلة، والعذاب الأليم في الآخرة، واتفقت المذاهب الأخلاقية علي تحريم الزنا واستقبحته، وحكمت عليه بالشناعة القبيحة، وجعلته قب عداد الجرائم الكبرى، قال سبحانه وتعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32] ،
والقرآن الكريم يجعل الزنا قرين الشرك والقتل قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا (70)) [الفرقان: 68 - 71] عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في صلاة الكسوف:
"يا أمة محمد، والله إنه لا احَدَ أَغْيَرُ مِنَ الله، يَزْنِي عَبْدَه، أو تزني أَمَتُهُ، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحِكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرا"، ثم رفع يديه
فقال: "اللهم هل بلغت" (1) .
__________
(1) رواه البخاري رقم (1044) ، كتاب الكسوف: باب الصدقة في الكسوف =(3/29)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولّا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (1) .
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلَّة، فإذا أقلع رجع إليه " (2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول صلى الله عليه وسلم: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " (3) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوْا" (4) .
__________
= "فتح الباري " (2/ 615) ، ومسلم في كتاب الكسوف "شرح النووي " (6/201)
(1) رواه البخاري (5/ 143) في الظالم: باب النهبى بغير إذن صاحبه، وفي الأشربة في فاتحته، وفي الحدود: باب الزنا وشرب الخمر، وفي المحاربين: باب إثم الزناة، ومسلم رقم (57) في الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن التلبس بالمعصية، وأبو داود رقم (4689) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، والنسائي (8/ 64) في السرقة: باب تعظيم السرقة.
(2) رواه بنحوه أبو داود رقم (4690) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، وصححه الحاكم (1/122) ، ووافقه الذهبي.
(3) رواه الحاكم (2/ 37) ، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، "ورواه الطبراني، وأبو يعلى بإسناد جيد، انظر: "الترغيب " (3/194) ، "مجمع الزوائد" (4/118) .
(4) قطعة من حديث رواه ابن ماجه رقم (4019) في الفتن: باب العقوبات (2/ 489) ، وأبو نعيم في الحلية" (8/33 -334) ، والحاكم (4/540) وقال:
صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني لشواهده في "الصحيحة"
رقم (106)(3/30)
وعن بريدة مرفوعا: "ما ظهرت فاحشة في قوم قط إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت " (1) .
وبلغ التنفير من هذه الفاحشة وأهلها أن أم جرَيْج العابد دعت على
ابنها أن يعاقبه الله بأن "لا يموت حتى يرى وجوه المياميس " (2) كما جاء في الحديث، وقد ابتلي بذلك- رحمه الله- في قصة معروفة، والشاهد منها أن مجرد وقوع العين على هؤلاء الفواحش عقوبة وشر.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى التعفف عن الزنا، والتصون منه من صفات المؤمنين المفلحين، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)) [المؤمنون: 1 - 8] ،.
وفي قصة يوسف عليه السلام أبلغ دليل على فضيلة العفة وحسن عاقبتها.
وفي السنة أحاديث كثيرة صحيحة في هذا المعنى:
ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
فعَدَّ منهم رجلاً "دعته امرأة ذاتُ مَنْصب وجمال، فقال: إنى أخاف
الله " (3)
__________
(1) قطعة من حديث رواه الحاكم (2/ 126) ، والبيهقي (3/ 346) ، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.
(2) انظر نص الحديث في البخاري (3/ 94) في كتاب العمل في الصلاة: باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة، وفي المظالم، والأنبياء، ومسلم في " صحيحه، كتاب البر والصلةْ باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها.
(3) جزء من حديث ش رواه البخاري (2/168) في الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة. وفي الزكاة، وفي الرقاق، وفي المحاربين، ومسلم رقم (1031) =(3/31)
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضمنْ لي ما بين رجليه، وما بين لَحْيَيهِ أضمنْ له الجنة" (1) .
وفي حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة وهم في الغار، فلم يجدوا بُدًّا من التوسل إلى الله بصالح أعمالهم، فاستشفع أحدهم ببره لوالديه، واستشفع الثاني برده أجر عامل كان تركه عنده، فنماه له أضعافًا مضاعفة، واستشفع الثالث بأنه كانت له ابنة عمِّ يهواها، فما زال يراودها عن نفسها، حتى ألمّ بها قحط، فراودها، فخضعت له، فلما تمكن منها، قالت له: اتق الله، ولا تفضَّ الخاتمْ إلا بحقه، فإذا هو يرتعد من خشية الله، وينصرف عنها، ويترك لها الذهب الذي أعطاها ابتغاء وجه الله، فأزال الله الصخرة عن فم الغار بفضل أعمالهم الصالحة (2) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكِفْل، وكان لا ينزع عن شيء"- وفي رواية: " كان الكفْل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتى امرأة علم بها حاجه، فأعطاها عطاءً كثيرًا"- وفي رواية: "ستين دينارًا- فلما أرادها على نفسها- ارتعدت، وبكت، فقال؟ ما يُبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عمِلته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنتِ هذا من مخافة الله؟ فأنا
__________
= في الزكاة: باب فضل إخفاء الصدقة، والموطأ (2/ 952، 953) في الشعر: باب ما جاء في المتحابين في الله، والترمذي رقم (2392) في الزهد: باب ما جاء
في الحب في الله، والنسائي (8/ 222-223) في القضاء: باب الإمام العادل.
(1) رواه البخاري (11/ 314) في الرقاق: باب حفظ اللسان، وفي المحاربين: باب فضل من ترك الفواحش، والترمذي رقم (2410) في الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان
(2) انظر نص الحديث في "صحيح البخاري، (6/584) في الأنبياء: باب حديث الغار، وفي البيوع، وفي الإجارة، وفي الحرث والمزارعة، وفي الأدب، ومسلم رقم (2743) في الذكر: باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، وأبو داود رقم
(3387) في البيوع: باب في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه.(3/32)
أحرى، اذهبي فَلَك ما أعطيتُكِ، ووالله لا أعصيه أبدا، فمات مِن ليلته، فأصبح مكتوب على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه " (1) .
وقد شدد الله عز وجل عقوبة الزاني الأثيم المادية والمعنوية، فالعقوبة المادية: العذابّ الأليم بالجلد أو الرجم، والمعنوية: أن لا نرأف به، ولا نشفق عليه حتى يبرأ من جريرته، ويتوب منها، قال تعالى:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)) [النور: 2، 3] ،.
وقد زادت السنة الشريفة وهي الوحي الثاني بعد القرآن على الحكم بجلد الزاني البكر والزانية البكر مائه جلدة أن يغربا عامًا.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عنى، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم (2) ، ويؤخذ منه أن زنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما.
قال أبن القيم رحمه الله:
وخَصَّ سبحانه حَدّ الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص:
__________
(1) رواه بنحوه الترمذي رقم (2498) في صفة القيامة، باب رقم (49) ، ورواه ابن حبان رقم (2453- موارد) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن " وهو عند الحاكم (4/ 254-255) ، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) رواه مسلم رقم (1690) في الحدود: باب حد الزنا، وأخرجه أحمد (5/ 318) ، وأبو داود رقم (4415) في الحدود: باب في الرجم، والترمذي رقم (1434) في الحدود: باب ما جاء في الرجم على الثيب، والطبري رقم (8806) ، (8807) ، والبيهقي (8/ 210) .(3/33)
أحدهما: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه فقد جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة (1) .
الثاني: أنه نهى عباده عن أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم.
الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حَدُّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون
في خلوة حيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد، وحكمة الزجر (2) اهـ.
ويعذب الزناة في قبورهم إلى يوم القيامة على النحو الذي جاء في حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي رأى فيها صورا من عذاب القبر، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم أنه جاءه جبريل وميكائيل، قال: "فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا- أي صاحوا من شدة حره- فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء هم الزناة والزواني " يعني من الرجال والنساء، فهذا عذابهم في القبر إلى يوم القيامة
__________
(1) أجمع العلماء سلفًا وخلفا على أن الزاني المحصن يرجم لا محالة، وذهب جمهورهم إلى أن الواجب في حد الزاني المحصن هو الرجم فحسب، ومن هؤلاء الأئمة الأربعة، وذهب البعض إلى الجمع بين الرجم، والجلد، منهم علي رضي الله عنه، والحسن البصري، وإسحق بن راهويه، وداود، والظاهرية، واْجمع العلماء سلفَا وخلفا على وجوب الجلد على الزانيين غير المحصنين، ولم يعرف في ذلك مخالف، أما التغريب عاما وهو النفي من مكان الجريمة إلى مكان آخر، فقد اختلف فيه الفقهاء:
فذهب الجمهور إلى الجمع بينهما: الجلد، والتغريب، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك والأوزاعي بالجمع بينهما بالنسبة إلى الرجال الأحرار، ولا نفي على النساء، وذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلى عدم الجمع بين الجلد والنفي.
انظر: "الحدود في الإسلام، للعلامة الدكتور محمد أبو شهبة ص (150: 201) .
(2) " الجواب الكافي لمن سال عن الدواء الشافي " ص (144) بتصرف.(3/34)
نسأل الله العافية، وفي رواية: "فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة " وفي نهاية الحديث: "والذي رأيته في الثقب فهم الزناة" (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يلج الناسُ به النار، فقال: "الأجوفان الفم والفرج " (2) .
وعن أبي بَرزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن أكثر ما أخاف عليكم شهوات الغَيّ، وبطونكم، وفروجكم، ومُضِلات الفتن" (3) .
والزنا له مراتب، فهو بأجنبية لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبية
لها زوج، وأقبح منه: زوجة الجار:
عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قا! ل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنا؟ " قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من
__________
(1) رواه من حديث حمرة بن جندب رضي الله عنه البخاري (12/ 457-458) في التعبير: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، وفي صفة الصلاة: باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، وكذا في التهجد، والجنائز، والبيوع، والجهاد، وبدء الخلق،
وا لأنبياء، وتفسير سورة براءة، والأدب، ومسلم رقم (2275) في الرؤيا: باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم والترمذي رقم (2294) في الرؤيا: باب ما جاء فى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الميزان والدلو.
(2) رواه الترمذي رقم (2004) كتاب البر: باب ما جاء في حسن الخلق، وقال: هذا حديث صحيح غريب (4/ 363) وابن ماجه رقم (4315) في الزهد: باب ذكر الذنوب (2/ 561) والإمام أحمد (2/ 291، 392، 442) .
(3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 420، 423) ، وكذا رواه البزار والطبراني في معاجمه الثلاثة(3/35)
أن يزني بامرأة جاره " (1) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال؟ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك "، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك " (2) ، الحديث.
وعن بريدة رضي الله عنه مرفوعًا: " حُرمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، ما من رجل من القاعدين يخلف وجلا من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى"، ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "فما ظنكم؟ " وزاد النسائي قوله: "أترون يدع له من حسناته شيئًا؟ " (3) .
ثم إن زنا الشيخ- لكمال عقله- أقبح من زنا الشاب:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، ومَلِك كذاب، وعائل مستكبر" (4) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد (6/ 8) ، والبخاري فى (الأدب المفرد" رقم (103) ، وقال المنذري (3/195) ، والهيثمي (8/ 168) : (رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و "الأوسط " ورجاله ثقات) اهـ.
(2) رواه البخاري (8/ 13) في تفسير سورة البقرة: باب قول الله تعالى: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] ، وفي تفسير سورة الفرقان، وفي الأدب، وفي المحاربين وفي الديات، وفي التوحيد، ومسلم رقم (86) في الإيمان. باب الشرك أعظم الذنوب، والترمذي رقم (3181) و (3182) في التفسير: باب ومن سورة الفرقان، والنسائي (7/ 89- 90) في تحريم الدم: باب ذكر أعظم الذنب، وأبو داود رقم (2310) في الطلاق: باب في تعظيم الزنا.
(3) رواه مسلم رقم (1897) في الأمارة: باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خان فيهم، وأبو داود رقم (2496) في الجهاد: باب حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، والنسائي (6/ 50 - 51) في الجهاد: باب من خان غازيًا في أهله.
(4) رواه مسلم رقم (107) في الإيمان: باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن =(3/36)
ومن مفاسد الزنا وعواقبه الوخيمة:
أنه يعمي القلب، ويَطْمس نوره، وأنه يُحَقِّر النفسَ، ويقمعها، ويُسْقِطُ كرامة الإنسان عند الله وعند خلقه، وأنه يؤثر في نقصان العقل، وأنه يمحق بركة العمر، ويضعف في القلب تعظيم الله، ويوجب الفقر، ويكسو صاحبه سواد الوجه، وثوب المقت بين الناس، ومن خاصيته أيضًا أنه يشتت القلب، ويمرضه، ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان.
فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدة الزنا، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبدَ أن امرأة من نسائه قُتِلَتْ لكان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زَنَت.
وبما أن الجزاء من جنس العمل، فقد ينتقم الله من الزاني بأن يسلط على عرضه من لا يتقي الله فينال منه، كما فعل هو بعرض غيره، قال الشاعر:
يا هاتكًا حرمَ الرجال وتابعا ... طرقَ الفساد فأنت غير مكرمِ
من يَزْنِ في قوم بألفي دِرْهَم ... في أهلهِ يُزْنَى بربع الدرهم
إن الزنا دَيْن أذا استقرضته ... كان الوفا من أهل بيتك فاعلم (1)
وقد وصف بعضهم آثار هذه الفاحشة المدمرة فقال:
"عارُه يهدِمُ البيوتَ الرفيعة، ويطأطئ الرؤوسَ العالية، وُيسَوِّدُ الوجوهَ البيض، ويصبغ بأسودَ من القارِ أنصع العمائم بياضًا، ويُخْرِسُ الألسنةَ البليغة، وَيُبَدّلُ أشجع الناس من شجاعتهم جبنا لا يدانيه جبن، ويهوى
__________
= بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، والنسائي (6/ 86) في الزكاة: باب الفقير المحتال.
(1) موارد الظمآن لدروس الزمان " (3/ 473) ، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (370) .(3/37)
بأطول الناس أعناقا، وأسماهم مقامًا، وأعرقهم عِزا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة ليس لها من قرار.
وهو أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما اتسع، ونباهة الذكر مهما بعدت، وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كان في بيوتهم لفتة احترام، وهو- أي الزنا- لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كل صحائفه البيض، وتركت العيون لا ترى منها إلا سوادًا حالكًا.
وهو الذنب الظلوم الذي إن كان في قوم لا يقتصر على شَيْن مَنْ قارفته من نسائهم، بل يمتد شينه إلى من سواها منهم، فيشينهن جميعا شينا يترّك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهم النسوي، وهو العار الذي يطول عمره طولا، فقاتله الله من ذنب، وقاتل فاعليه " (1) . وقال ابن القيم رحمه الله:
ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار عل أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا: فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيًا ليس منهم، فورثهم وليس منهم، ورآهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم وليس منهم، وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضًا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد، ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين " (2) .
عود لى بدء
يعتبر إصلاح القلب، وتطهيره، وتعميره بتقوى الله عز وجل ومراقبته
__________
(1) السابق (3/ 454- 455)
(2) انظر "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" ص (352- 363)(3/38)
أعظم رادع عن المعاصي، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه " (1) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " (2) .
ومن هنا كانت التربية الإيمانية، والتوجيه الواعي، ولزوم الجماعة الصالحة، واجتناب صحبة الفاسقين والبطالين، من وسائل الإسلام في محاربة الرذيلة، واستئصال شأفتها.
غير أن الشريعة المطهرة لم تكلنا فقط إلى الضمائر التي قد تهن، والنفوس التي قد تضعف، ولكنها حددت إجراءات ترد هذه الضمائر إلى الاستقامة إذا نزعت إلى التمرد، ولم ترتدع بوازع الإيمان والتقوى، وتروض هذه النفوس إذا استشرفت للفتن، وتعيدها إلى الجادة، وقد ذكرنا طرفا من هذه الإجراءات، ونردف بجملة أخرى من الإجراءات الوقائية ضد الفاحشة، فمن ذلك:
أن الله سبحانه منع الزواج ممن عُرف- أو عرفت- بالفاحشة إذا لم يتب
فقال سبحانه: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)) [النور: 3] ، أخذَا بالحيطة؛ إذ من اعتاد الفاحشة لا يأمن أن يعاودها.
حرَّم البذاء، ومنع الفحش في القول، وكره التلفظ بالسوء:
قال عز وجل: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء: 148] ،
__________
(1) رواه عن أنس بن مالك رضي الله عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 198) ، وتتمته: "ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه ".
(2) رواه البخاري (1/ 153) ، ومسلم (1599) ، وابن ماجه (3984) ، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(3/39)
وقال: ليس المؤمن بالطعَّان، ولا باللعان، ولا الفاحش ولا البذيء" (1) .
* وحرم أن يُظَنَّ بمؤمن سوء.
وأوجب على المؤمن إذا سمع عن أخيه سوءًا أن يظن به البراء من الإثم، والطهارة من السوء كما هو طاهر وبريء، قال الله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)) [النور: 12 - 14] ، والقصد من وراء هذا عدم السماح للفاحشة أن تظهر، ولو على ألسنة المتكلمين، أو في أذهان السامعين تركيزا للطهارة وتثبيتَا لها في جو البلاد والعباد، وفي هذا من معنى محاربة الفاحشة- بالوقاية مالا يخفى على عاقل.
* وحرم قذف المؤمن أو المؤمنة بالفاحشة، ووضع لذلك عقوبة زاجرة:
(الجلد ثمانين جلدهّ) ، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4، 5]
وعليه فمن قذف امرأة مؤمنة عفيفة اْو مؤمنًا عفيفَا بكلمة الفاحشة،
__________
(1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الترمذي رقم (1978) في البر: باب ما جاء في اللعنة، وقال: "حديث حسن غريب"، ورواه الإمام أحمد رقم (3839) ، وا بن حبان رقم (48- موارد) ، والبخاري في الأدب المفرد" رقم (312) ، والحاكم
في " المستدرك " (1/ 12) ، وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) وعلى هذا فمن حدثك أن فلانًا أو فلانة فعل كذا، وجب عليك أن ترد عليه قائلاً: هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء؟ وإلا فهذا إفك مبين.(3/40)
وجب عليه أن يحضر أربعة شهود على صحة ما قاله، أو يجلد حدا على ظهره ثمانين جلدة، مع إسقاط عدالته حتى يتوب توبة نصوحا.
وحرم مجرد حب إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد:
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19] ، يردُّ على من يتصاغر هذا الأمر، ويقول في نفسه: كيف تعظم العقوبة لمجرد حب الفاحشة وظهورها وإن لم يعمل على ظهورها؟
فنبه إلى أن مجرد حب الفاحشة عمل على إيجادها وانتشارها، وإن الفاحشة البغيضة يجب أن تطارد من القلوب والنفوس قبل أن تطارد من العضلات والحركات.
ومن إجراءات الإسلام في هذا الشأن تحريم التحدث بما يكون بين الزوجين متعلقا بالوقاع ونحوه (2) .
* حظر على الرجل أن يغيب عن زوجه مدة طويلة.
قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) [البقرة: 226 - 228] ،
فإذا حلف الرجل ألا يطأ زوجته أربعة أشهر فأكثر كان موليا، فإما أن يرجع في تلك المدة فيطؤها، ويكفر عن يمينه، وإلا تطلق منه بمجرد مضي المدة حتى لا تتضرر الزوجة.
ومن أعظم التدابير الوقائية في هذا الباب:
فرض الحجاب على النساء، واعتبار قرارهن في البيت هو الأصل
__________
(1) انظر دور الصحافة في إشاعة الفاحشة في "معركة الحجاب والسفور" ص (135 – 142)
(2) انظر: المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" للمؤلف ص (169) .(3/41)
الأصيل في دائرة عملهن، قال صلى الله عليه وسلم: "والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها" (1) ، وما عداه استثناء، ثم إن هي خرجت تخرج محجوبة، لا تخالط الرجال، وبشروط أخرى جِماعها: حمايتها، وحماية المجتمع من الافتتان بها.
* عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس، فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتِهِ، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها" (2) .
* ومن ذلك أيضَا:
تحريم التبرج، وإظهار الزينة، والتجمل للفت نظر الأجانب، قال تعالى: (وَقَرن فِي بيُوتكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرجَّ الجاهِلِيَّةِ اَلأُولَى) [الأحزاب: 33] .
ء ومنها!: تشريع الاستئذان:
فقد حرم الله عز وجل الدخول إلى البيوت إلا بعد الإذن، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا
__________
(1) قطعة من حديث رواه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما البخاري (13/ 119) في الأحكام في باب وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وفي الجمعة،
والاستقراض، والعتق، والوصايا، والنكاح ومسلم رقم (1829) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والترمذي رقم (1705) في الجهاد باب ما جاء في الإمام، وأبو داود رقم (2928) في الإمارة: باب ما يلزمه الإمام من حق الرعية.
(2) تقدم تخريجه.(3/42)
حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) [النور: 27-28] .
ووضحت السنَّة الهدف من الاستئذان، وهو خشية أن تقع عين آثمة على عورة غافلة، فتلد تلك النظرة الخاطفه فاحشة فاضحة، لا قِبَلَ بتحملها.
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان
من أجل البصر".
وعنه رضي الله عنه قال: اطَّلع رجل من ثقب في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه مِدْرَى- مشط كبير من حديد - يحك به رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أنك تنظر، لطعنت به عينيك، إنما جُعِل الإذن من أجل البصر" (1) .
وهذا المسلك يدل على مبلغ عناية الإسلام بصيانة البيوت، وحفظها من النظر إلى ما فيها، فقد يقع البصر على شيء يكره أهل البيت اطلاع أحد عليه، ولولا الاستئذان لتعرضت البيوت إلى انكشاف العورات.
* وهده طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستئذان:
* عق عبد الله بن بُسْر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ع ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر؟ فيقول: "السلام عليكم.. السلام عليكم " (2) ذلك أن الدُّور لم يكن عليها يومئذ ستور) .
__________
(9) رواه البخاري (12/ 253) في الديات: باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له، وفي اللباس، والاستئذان، ومسلم رقم (2156) في الآداب: باب تحريم النظر في بيت غيره، والترمذي رقم (2710) في الاستئذان: باب من اطلع
في بيت قوم بغير إذنهم، والنسائي (7/ 60- 61) في القسامة: باب في العقول.
(2) رواه أبو داود رقم (5186) في الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان وفيه بقية بن الوليد، وهو صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، لكنه صرح هدا الحديث بالتحديث(3/43)
وهذا ما صنعه الصحابة رضوان الله عليهم:
فقد ثبت أِن عمر رضي الله عنه قال لأُبي بن كعب رضي الله عنه: ما منعك أن تأتينا؟، فقال: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات، فلم تردَّ عليّ، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له، فليرجع " (1) .
* ولابد أن يُعَين المستأذِنُ اسمه، ليؤذن له أم لا، فربما يكون شخصا غير مرغوب فيه، أو ربما يكون أهل البيت على حالة لا تخول لهم استقبال الزائرين، فعن جابر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب، فقال: "من ذا؟ " فقلت: أنا، فقال: "أنا، أنا؟! " كأنه كرهها (2) .
- وتبلغ عناية الإسلام بأدب الاستئذان آفاقًا لا تُطاول، ودرجة من الخلق الكريم، الذي لم تعرف الدنيا له مثيلًا، فلم يخول للابن أن يدخل على أمه أو أخته دون استئذان.
رُوي في حديث عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أسْتَأذِنُ على أمي؟ فقال: "نعم "، فقال: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذن عليها"، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذن عليها، أتحب أن تراها عُريانة؟ "، قال: لا، قال: "فاستأذن
__________
(1) رواه البخاري (11/ 29) في الاستئذان: باب التسليم والاستئذان ثلاثا، وفي البيوع والاعتصام، ومسلم رقم (2153) في الآداب: باب الاستئذان، والموطأ (2/ 963- 964) في الاستئذان: باب الاستئذان، وأبو داود أرقام (5180:
5184) في الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، والترمذي رقم (2691) في الاستئذان والآداب: باب ما جاء في الاستئذان ثلاثَا.
(2) رواه بنحوه البخاري (11/ 37) في الاستئذان: باب إذا قال: من ذا؟ قال: أنا، ومسلم رقم (2155) في الآداب: باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل: من هذا؟ وأبو داود رقم (5187) في الأدب: باب الرجل يستأذن بالدقِّ، والترمذي رقم (1712) في الاستئذان: باب ما جاء في التسليم قبل الاستئذان.(3/44)
عليها" (1) .
فهذه الآداب تبرز لنا مدى عناية الإسلام بحرمة البيوت، وكيف أعطاها التشريع الإلهي من القداسة ما يجعلها في مأمن من الشكوك والريب، وفي حصانة من جراثيم الفساد، وعوامل الانهيار (2) .
* ومنها الأمر بغض البصر:
قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور: 30، 31] الآيتان.
فالله سبحانه يعلم مدى تأثير النظرة المحرمة في القلب، وما تحدثه من تحويل النفس إلى بركان، وما تحركه من الاندفاع نحو المرأة، والواقع يصدق ذلك، فكم من نظرة محرمة أودت بصاحبها إلى الوقوع في المعصية، وفتنةِ الرجل بالمرأة، وفتنةِ المرأة بالرجل.
وقد قرن الله عز وجل الأمر بغض البصر بالأمر بحفظ الفرج لأن غض البصر هو السبيل لحفظ الفرج (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) .
__________
(1) رواه في "الموطأ" في الاستئذان: باب الاستئذان، وإسناده منقطع، فإن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر: "مرسل صحيح، ولا أعلمه يستند من وجه صحيح ولا صالح اهـ من "الموطأ" ص (597) ط. الشعب.
(2) وانظر: "الأدب الضائع " للمؤلف.(3/45)
وقد تقع النظرة الخائنة دون أن يراها أحد، ومن ثم جاء ختام الآية بعلم الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فقال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) .
وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) [غافر 19]
،قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به، فإذا غَفَلوا لَحَظَ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غَفَلوا لَحَظ، فإذا فطنوا غَضَّ "، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود لو اطَّلع على فرجها وأن لو قدر عليها فزنى بها (1) .
وقال سفيان الثوري: الرجل يَكون في المجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة تمر بهم، فإن رأوه ينظر إليها اتَّقاهم فلم ينظر، وإن غَفَلوا نظر، هذا خائنة الأعين (وَمَا تخفِى ألصُدُورُ) قال: ما يجد في نفسه من الشهوة (2) .
وعنه رحمه الله تعالى أنه قال في قوله تعالى: (يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ) وهي النظرة بعد النظرة (3) .
فإن النظرة، الأولى تكون وليدة المفاجأة فلا مؤاخذة عليها، وإذا وقعت
__________
(1) "رواه ابن أبي حاتم، كذا في "الصارم المشهور" للتويجري ص (21) ،
(2) رواه أبو نعيم في "الحلية" عن محمد بن يزيد بن خُنَيس عنه. المصدر السابق، وقد قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله تعالى:
وقد تضاءلت خائنة الأعين في زماننا، ولم تبق إلا عند الذين تستتر نساؤهم من المسلمين، وأما الذين فتنوا بتقليد طوائف الإفرنج والتزيّ بزيهم، فقد عُدمت فيهم خائنةُ الأعين، وحَل محلها تسريح النظر في محاسن النساء الأجنبيات، والتمتع بالنظر إليهن، ومضاحكتهن ومجالستهن، والتحدث معهن في الخلوة وغير الخلوة اهـ. من السابق " ص (21، 22)
(3) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (15/ 303) .(3/46)
فعلى الناظر ألا يُعْقِبَها بأخرى، وعليه أن يُحَوّلَ بصره إلى الأرض، أو إلى جهة أخرى.
فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة" (1) .
وعن جرير بن عبد الله قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري " (2) .
وعلى من يرى رجلًا يترصد امرأة لينظر إليها أن ينصحه، ويرشده إلى غض البصر.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الفضل ابن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" (3) .
ومنها تحريم مس الأجنبية ومصافحتها:
وإذا كان الإسلام يطارد الحرام أنى وجد، ويترصد المنكر حيثما كان ليقضي عليه، فلمس المرأة باليد يحرك كوامن النفس، ويفتح أبواب الفساد، ويسهل مهمة الشيطان، من أجل ذلك توعد الله من يفعل ذلك بصارم عقابه، وشديد عذابه.
__________
(1) رواه الترمذي رقم (2777) في الأدب: باب ما جاء في نظر الفجأة، وأبو داود رقم (2149) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والإمام أحمد (3/
353، 357) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب اهـ.
(2) رواه مسلم رقم (2159) في الآداب: باب نظر الفجأة، وأبو داود رقم (48 1 2) قي النكاح: باب ما يؤمر من غض البصر، والترمذي رقم (2777! في الأدب: باب ما جاء في نظر الفجأة.
(3) يأتي تخريجه إن شاء الله ص (418) .(3/47)
* فعن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في
رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " (1) ، وإذا كان هذا في مجرد المس إذا كان بغير شهوة، فما بالك بما فوقه؟!
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "كُتبَ على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجْلُ زناها الخطا، والقلب يهوي ويتمنى، وَيُصَدقُ ذلك الفرجُ ويكذبه" (2) والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "واليد زناها البطش " وهو المس باليد بأن يمس امرأة أجنبية بيده.
ومن تساهل في مصافحة النساء، واحتج بطهارة قلبه، وسلامة نيته،
وأنه لا يتأثر بذلك، فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وهذا أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله، وأرعاهم لحدوده، يقول وهو المعصوم: "لا أمس أيدي النساء" (3) ، ويقول: "إني لا أصافح النساء" (4) ، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم؟! كيف وقد قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
__________
(1) "رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح كذا قال المنذري في "الترغيب " (3/ 66) .
(2) رواه مسلم في كتاب القدر: باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، "شرح النووي" (16/206) ، والإمام أحمد (2/317، 431)
(3) رواه الطبراني في "الأوسط، عن عقيلة بنت عبيد، كما في صحيح الجامع الصغير" (6/ 123) رقم (7054) .
(4) رواه عن أميمة بنت رقيقة "الموطأ" (2/ 982) في البيعة: باب ما جاء في البيعة، والنسائي (7/ 149) في البيعة، باب: بيعة النساء، وابن ماجه رقم (2874) في الجهاد: باب البيعة، والإمام أحمد (6/357) ، وصححه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (8/122)(3/48)
حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21)) [الأحزاب 21] .
وعن عائشة رضي الله عنها: "وما مستا يَدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَدَ امرأة إلا امرأة يملكها" (1) أي يملك نكاحها.
* ومن ذلك تحريم الخلوة بالأجنبية:
وحقيقة الخلوة أن ينفرد رجل بامرأة في غيبة عن أعين الناس.
إن الخلوة بالأجنبية من أعظم الذرائع، وأقرب الطرق إلى اقتراف الفاحشة الكبرى.
وقد صرح القرطبي رحمه الله تعالى بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر،
__________
(1) رواه البخاري (8/ 504) في تفسير سورة الممتحنة، باب: إذا جاءك المؤمنات مهاجرات، وفي الطلاق، وفي الأحكام، ومسلم رقم (1866) في الإمارة: باب كيفية بيعة النساء، والترمذي رقم (3303) التفسير، باب: ومن سورة الممتحنة.
تنبيه تمس الحاجة إليه:
يتعلق بتهاون بعض الناس بهذا الحكم - وهو تحريم مصافحة الأجنبية - بزعم أنهم يستحيون من إحراج من يمد يده للمصافحة غافلين عن أن هذا عجز وليس حياءً، قال القرطبي رحمه الله فيما نقله عنه المناوي في "الفيض":
(وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء، وبأمر به، ويحث عليه، ومع ذلك
فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكًا بقوله في الحديث الآتي:
"إن الله لا يستحي من الحق " رواه النسائي وابن ماجه عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وهذا هو نهاية الحياء، وكماله، وحسنه، واعتداله، فإن من فرطّ عليه الحياء حتى منعه من الحق، فقد ترك الحياء من الخالق، واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حُرم منافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء.
والحياء من الله هو الأصل والأساس، فإن الله أحق أن يستحيي منه، فليُحفظ
هذا الأصل، فإنه نافع اهـ. (1/ 487) . وانظر رسالة "أدلة تحريم مصافحة
الأجنبية " للمؤلف.(3/49)
ومن أفعال الجاهلية (1) .
وقال مجاهد في قوله تعالى: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ) [الممتحنة:
12] ،: لا تخلو المرأة بالرجال، ذكره البغوي في تفسيره، وذكره أيضًا عن سعيد بن المسيب، والكلبي، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا: لا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.
إن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، وداعية الإثم والفجور، وكيف لا يكون ذلك، والفرصة سانحة، وقد مهدت الخلوة للغريزة ألن تستيقظ؟
وإذ كان الفعل يمر بمراحل ثلاث:
* مرحلة النزوع والرغبة في الفعل.
* ثم مرحلة الوجدان، فيجد الشخص، ويعزم علي الفعل.
* ثم تأتي المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي مرحلة التنفيذ.
أما في هذا الباب، فالكائن البشري حين تتقد فيه نار الشهوة، ويستيقظ
فيه الحيوان، تراه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى.
ومن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنى، فيعالج
هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، فيقول تعالى: (وَلَا تَقربُوأ الزِّنَى) الآية [الإسراء: 32] ،، بينما يعالج جريمة القتل بتوجيه النهي إلى الفعل نفسه، وهو جريمة بشعة؟ إذ ليس بعد الشرك بالله أعظم ولا أكبر من القتل،- ولكن النفس بطبيعتها تأباه وتنكره، قال عز وجل: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: 33] ) ،.
وهذا يرينا إلى أيِّ حَد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل منفذ، ويحجز النفس عن أسبابها.
__________
(1) "الجامع لأحكام القرآن " (18/ 74) .(3/50)
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية، وشدَّد في ذلك، والأحاديث في ذلك كثيرة منها:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم " (1) الحديث.
ومنها: حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " (2) الحديث، وهذا يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين أو مسنين، وجميع النساء ولو كن صالحات أو عجائز.
ومنها: حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان " (3) .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المُغِيبات" (4) .
وعنه رضي الله عنه قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن (5) .
__________
(1) رواه البخاري (4/ 86) في الحج: باب حج النساء، وفي الجهاد: باب كتابة الإمام الناس، وفي النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (1341) في الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.
(2) رواه الإمام أحمد (6/ 446) ، ورواه عن عمر رضي الله عنه الترمذي رقم (2165) في الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحاكم (1/ 114- 115) وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(3) رواه الإمام أحمد في "لمسند" (3/ 339) .
(4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/397) ، (4/ 196، 205) .
(5) رواه الترمذي رقم (2780) في الأدب: باب ما جاء في النهي عن الدخول على النساء، وقال: "حسن صحيح"، والإمام أحمد في (المسند) (4/ 203) .(3/51)
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان " (1) .
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم " (2) .
وقد تكون القرابة إلى المرأة أو زوجها سبيلًا إلى سهولة الدخول عليها أو الخلوة بها، كابن العم وابن الخال مثلا، ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لأنه من مداخل الشيطان، ومسارب الفساد.
فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على. النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت " (3) ، والحمو هو قريب الزوج الذي لا يحل للمرأة، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفسد الحياة الزوجية كما يفسد الموت البدن.
وقد حكى الإجماعَ كل تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء منهم النووي، وابن حجر العسقلاني.
قال النووي رحمه الله: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لِصِغَره كابن سنتين، وثلاث، ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام (4) اهـ.
__________
(1) رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مسلم رقم (2173) في السلام: باب تحريم الخلوة بالأجنبية.
يقال: امرأة مُغِيبة: إذا كان زوجها غائبا.
(2) رواه الترمذي وقم (1172) في الرضاع؟ باب رقم (17) ، وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه " (3/ 475) .
(3) رواه البخاري (9/ 242) في النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (2172) في السلام: باب تحريم الخلوة بأجنبية والدخول عليها، والترمذي رقم (1171) في الرضاع: باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات.
(4) "شرح النووي على صحيح مسلم (9/109) .(3/52)
قال الأبي رحمه الله: لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد، وإن قل الزمن، لعدم الأمن لا سيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جُبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب (1) اهـ.
لا يأمنن على النساء أخ أخًا ... مافي الرجال على النساء أمين
إن الأمين وإن تعفف جهده ... لابد أن بنظرة سيخون
* ومن ذلك: أنه حَرَّم سفر المرأة بغير محرم:
فإن المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي- نفسها، لضعفها ونقصها، ولا يغار عليها مثل محارمها، الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم، وسفرها بدون محرم يعرضها إلى الخلوة بالرجال ومحادثتهم، وقد يطمع فيها من في قلبه مرض، وربما سهل خداع المرأة، وربما يعتريها مرض، وإذا سلمت من كل هذا فلن تسلم من القيل والقال إذا سافرت بدون محرم يصونها ويرعاها.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، يقول: "لا يخلون وجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " (2) ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة،
__________
(1) "إكمال إكمال المعلم" (3/436) .
(2) هكذا مطلقا، والعمل على هذا الحديث عند أكثر العلماء، قال النووي رحمه الله: كل ما يسمى سفرًا تنهي عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يومَا أو بريدًا أو غير ذلك لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المطلقة: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرما، وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرًا اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات اهـ.
وقال النووي أيضًا: ليس المراد من التحديد- أي الوارد في بعض الروايات- ظاهره بل كل ما يسمى سفرًا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع، فلا يعمل بمفهومه اهـ.(3/53)
وإني اكْتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا؟ قال: "انطلق فَحُجَّ مع امرأتك " (1) .
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: النساء لحم على وَضَم (2) إلا
ما ذُبَّ عنه، كُلُّ أحدٍ يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام، فحض الله عليهن بالحجاب، وقطع الكلام، ومباعدة الأشباح، إلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يمنع منها وهم أولو المحرمية، ولما لم يكن بدٌّ من تصرفهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة، ومعدن الوحدة (3) اهـ.
وقال النووي رحمه الله: المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كبيرة، وقد قالوا: "لكل ساقطة لاقطة"، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطتهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وحيائه (3) اهـ.
فتبُّا لهؤلاء المستغربين، وسحقا سحقًا لعبيد المدنية الزائفة الذين أطلقوا لبناتهم ونسائهم العنان يسافرن دون محرم، ويخلون بالرجال الأجانب، مُدَّعين أن الظروف تغيرت، وأن ما اكتسبته المرأة من التعليم، وما أخذته من الحرية يجعلها موضع ثقة أبيها وزوجها، فما هذا إلا فكر خبيث دَلَفَ إلينا ليفسد حياتنا، وما هي إلا حجج واهية ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم غيرة الرجولة والشهامة فضلًا عن كرامة المسلم ونخوته.
__________
وانظر: "إكمال الإكمال، للأبي (3/ 436) .
(1) تقدم تخريجه.
(2) وَضَم: الوضم ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب وحصير اهـ. من "مختار القاموس" ص (661) .
(3) نقله عنهما الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في "الرد القوي " ص (250- 251)(3/54)
ومَثَل الذين يتهاونون في الخلوة والاختلاط الآثم بدعوى أنهم رُبّوا على الاستجابة لنداء الفضيلة ورعاية الخُلُق، مَثَلُ قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لا يكون لأن على البارود تحذيرًا من الاشتعال والاحتراق.. إن هذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطهْ للنفس، وطبيعة الحياة وأحداثها (1) .
* ومنها تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة:
فمن المعلوم أن من دواعي فتنة الرجل بالمرأة، ونزوعه إليها ما يشم منها من الطيب الذي يفوح شذاه فيجر إلى الفتنة، ويكون رسولًا من نفس شريرة إلى نفوس أخرى شريرة.
قال صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية" (2) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا، يعني زانية" (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا" (4) .
__________
(1) "تحريم الخلوة بالأجنبية الفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن لطفي الصباغ حفظه الله ص (29- 30) ، وانظر رسالة (يا بنتي ويا ابني) للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.
(2) رواه من حديث أبي موسى رضي الله عنه الإمام أحمد (4/ 414) ، والنسائي (8/ 153) في الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب، والحاكم (2/ 396) ، وقال: (صحيح
الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي، وانظر "فيض القدير" (3/ 147) .
(3) رواه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الترمذي- رقم (2787) في الأدب: باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة- واللفظ له، وأبو داود رقم (4174) ، (4175) في الترجل: باب في المرأة تتطيب للخروج، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ".
(4) رواه من حديث زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما مسلم رقم (443) - واللفظ له - في الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد، والنسائي (8/ 154) في الزينة: باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت بخورًا.(3/55)
ولا ضير على المرأة أن تستعطر في بيتها ولزوجها، بشرط أن لا تغشى به مجالس الرجال؟ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة، والحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس أن لا يحتمل حتى هذا العامل اللطيف الخفي.
خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه متطيبة، فوجد ريحَها، فعلاها بالدرة، ثم قال: "تخرجن متطيبات، فيجد الرجل ريحكن؟ وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تَفِلات " (1) .
* ومنها تحريم الخضوع بالقول:
فقد يكون صوت المرأة رخيمًا، يحرك النفوس المريضة، فيجرها إلى التفكير في المعصية، أو يوقعها ويوقع بها في بلية العشق، قال بشار:
يا قومِ أُذْني لبعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ ... والأذْنُ تَعْشَقُ قبلَ العينِ أحيانا
ومن هنا نهيت المرأة عن مخاطبة الأجانب بكلام فيه ترخيم كما تخاطب زوجها، وأمرت أن تتحرى الصوت الجاد العاري عن أسباب الفتنة، ولم يخول لها الإسلام إذا نابها شيء في الصلاة أن تسبح كالرجال، بل عليها أن تصفق، وهي في الحج لا ترفع صوتها بالتلبية، ولا يشرع لها أن تؤذن للصلاة في المسجد، ولا أن تؤم الرجال.
وقد سدَّ الإسلام على المرأة كل سبيل للتسيب في هذا الباب حينما جعل أمهات المؤمنين " محلا للقدوة، فلم يبق هناك عذر لمعتذر، قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32] ) ،
وقال صلى الله عليه وسلم: "والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام " (2) .
وفي رواية: "والأذن تزني، وزناهما السمع ".
__________
(1) المصنف للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (4/ 370) .
(2) تقدم تخريجه.(3/56)
ومن أعظم وسائل الإسلام لتجفيف منابع الفتنة بالمرأة:
* تحريم الاختلاط المستهتر:
تعريف الاختلاط المستهتر: هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعًا يؤدي إلى ريبة، أو: هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة، أو الكلام، أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد.
وقد حذر القرآن الكريم من هذا الاختلاط كما في قوله تعالى:
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ، فخير حجاب للمرأة بيتها، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] ) ، إلى غير ذلك من الآيات.
* وقال صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" (1) .
وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق: "استأخِرن، فليس لكن أن تَحْقُقْنَ (2) الطريق، عليكن بحافات الطريق "، فكانت المرأة تلصَقُ بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (3) . وقد أفرد صلى الله عليه وسلم في المسجد بابا خاصا للنساء يدخلن ويخرجن منه، لا يخالطهن
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تحققن: أي تذهبن في حاق الطريق، وهو الوسط.
(3) رواه أبو داود رقم (5272) في الأدب: باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق (4/ 369) ، وسكت عنه المنذري، وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "ليس للنساء وسط الطريق " رواه ابن حبان في "صحيحه " رقم (1969)
موارد.(3/57)
ولا يشاركهن فيه الرجال:
فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو تركنا- هذا الباب للنساء؟ " قال نافع: فلم يدخل منه ابنُ عمر حتى مات (1) .
وعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ينهى أن يُدْخَلَ المسجدُ من باب النساء" (2) .
ومن ذلك: تشريعه للرجال إمامًا ومؤتمين أن لا يخرجوا فور التسليم
من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة بالمسجد نساء، حتى يخرجن، وينصرفن إلى دورهن قبل الرجال، لكي لا يحصل الاختلاط بين الجنسين- ولو بدون قصد- إذا خرجوا جميعا.
قال أبو داود في "سننه": (باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة) ثم ساق حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث قليلا، وكانوا يرون أن ذلك كيما يَنفُذَ النساء قبل
الرجال " (3) .
ورواه البخاري أيضًا وفيه: قال ابن شهاب: (فنُرى والله أعلم- لكي
ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن مَن انصرف من القوم) (4) أي
الرجال.
__________
11) رواه أبو داود رقم (571) في الصلاة: باب التشديد في خروج النساء إلى المساجد، وفي رواية عن نافع قال: قال عمر، قال الجزري: "وهو أصح "، وقال الألباني: "صحيح على شرط الشيخين" اهـ من: هامش "المرأة المسلمة للبنا" ص (15-16) .
(2) رواه أبو داود رقم (464) ، في الصلاة، وإسناده منقطع.
(3) رواه أبو داود رقم (1040) في الصلاة: باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة (1/ 273) .
(4) رواه البخاري (2/ 389) - فتح) رقم (849) .(3/58)
* وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان يسلم فينصرفُ النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أّن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وروي النسائي: "أن النساء كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال " (2) .
قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث ... كراهة مخالطة الرجال للنساء
في الطرقات فضلًا عن البيوت) اهـ (3) .
* وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي " (4) .
* وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتُهن خير لهن" (5) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" (6) ، وهذا
__________
(1) السابق رقم (850) .
(2) عزاه الحافظ ابن حجر إلى النسائي- "فتح الباري" (2/336) .
(3) "فتح الباري" (2/ 392) .
(4) عزاه الحافظ في "الفتح " إلى الإمام أحمد والطبراني، وقال: "وإسناد أحمد حسن "، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود (2/350) ، وقد رواه أيضَا في صحيحيهما ابن خزيمة (3/ 94) ، وابن حبان (328- موارد) .
(5) رواه أبو داود رقم (567) في الصلاة: باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، والإمام أحمد (2/ 76) .
(6) رواه مسلم رقم (440) في الصلاة: باب تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود =(3/59)
كله في حالة العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه.
* وعن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغَر ما شهدتُه، حتى أتى العَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن، وذكَرهن، وأمرهن بالصدقة (1) الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: قوله: "ثم أتى النساء" يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم، قوله: "ومعه بلال " فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهدٍ ونحوه؟ لأن بلالا كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم، ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره اهـ (2) .
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة، ثم يخطب بعد، خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجَلِّس بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء" (3) الحديث.
وفي رواية مسلم: " يُجَلِّس الرجال بيده" وذلك كي لا يختلطوا بالنساء.
__________
= رقم (678) في الصلاة: باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول، والترمذي رقم (224) في الصلاة: باب ما جاء في فضل الصف الأول، والنسائي (2/93) في الإمامة: باب ذكر خير صفوف النساء، وشر صفوف
الرجال.
(1) رواه البخاري رقم (977) في العيدين: باب العَلَم الذي بالمصلى.
(2) "فتح الباري" (2/ 540) .
(3) رواه البخاري رقم (979) في العيدين: باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، ومسلم رقم (884) في العيدين في فاتحته.(3/60)
* ولقد حرصت الصحابيات علي عدم الاختلاط حتى في أشد المساجد زحاما، وفي أشد الأوقات زحامًا، في موسم الحج بالمسجد الحرام: (فعن ابن جريج قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساءَ الطوافَ مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟) أي غير مختلطات بهن (قال: قلت: أَبَعْدَ الحجاب أو قبلُ؟ قال: أي لَعمري، لقد أدركتهُ بعد الحجاب، قال: قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يَكُنَّ يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف. حَجْرَةً) بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها راء أي ناحية، يقال: نزل فلان حجرة من الناس أي معتزلا، وفي رواية: "حجزة" بالزاي يعني مجوزًا بينها وبين الرجال بثوب (من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: "انطلقي نستلم يا أم المؤمنين "، قالت: " انطلقي عنكِ "، وأبت، يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن) أي وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه (حتى يدخلن، وأخْرِج الرجال) (1) .
ودخلت على عائشة رضي الله عنها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين، طفت بالبيت سبعا، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثًا، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: "لا آجركِ الله، لا آجركِ الله، تدافعين الرجال؟! ألا كبرتِ ومررتِ؟! " (2) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة (3) .
__________
(1) رواه البخاري رقم (1618) كتاب الحج: باب طواف النساء مع الرجال.
(2) رواه الإمام الشافعي في (مسنده" ص (127) ط. دار الكتب العلمية- لبنان.
(3) "فتح الباري" (3/ 561) .(3/61)
ولقد حط الله عن النساء الجمعة، والجماعة، والجهاد، وجعل جهادهن لا شوكة فيه، وهو الحج المبرور.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعْتَدي عند ابنِ أُمِّ مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، ولا يراك " (1) .
إلى أمثلة أخرى كثيرة كلها تؤكد حرص الإسلام على وضع وتثبيت حواجز الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء الأجنبيات.
ومن صور الاختلاط المنهي عنه:
1- اختلاط الأولاد الذكور والإناث- ولو كانوا إخوة- بعد التمييز
في المضاجع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع " (2) .
2- اتخاذ الخدم الرجال، واختلاطهم بالنساء، وحصول الخلوة بهن، رُوِي في بعض الآثار أن فاطمة عليها السلام لما ناوَلَت أحَدَ ابنَيْها بلالًا أو أنسًا قال: "رأيت كفًا" يعني أنه لم يَرَ وجهًا (3) ، وقد كان أنس رضي الله عنه خادمًا خاصُّا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعيش عنده كأحد أهله.
3- اتخاذ الخادمات اللائي يبقين بدون محارم، ْ وقد تحصل بهن الخلوة. 4- السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، ثم إلى
__________
(1) أخرجه مسلم (4/ 195) ، أبو داود (2284) ، والنسائي (2/ 74- 75) ، والبيهقي (7/ 432) ، وأحمد (6/412) .
(2) رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أبو داود رقم
(495، 496) في الصلاة: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟
(3) "تكملة فتح القدير" (8/98) .(3/62)
ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضًا.
5- استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب، وأصدقاءه- في حال غيابه ومجالستهم.
6- الاختلاط في دور التعليم كالمدارس، والجامعات، والمعاهد، والدروس الخصوصية
7- الاختلاط في الوظائف، والأندية، والمواصلات، والأسواق، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران، والأعراس، والحفلات.
8- الخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، والمكاتب، والعيادات، وغيرها.
فيا أولياء النساء والبنات والأزواج:
احذروا: "الخلوة، والاختلاط المستهتر، والتبرج "، فإنها والزنى رفيقان لا يفترقان وصنوان لا ينفصمان غالبا.
واعلموا: أن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة، وأن احترام القيود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين هو صمام الأمن من الفتنة والعار، والفضيحة والخزي.
احذروا أجهزة الفساد السمعية منها والبصرية التي تغزوكم في عقر داركم، وهي تدعو نساءكم وأبناءكم إلى الافتتان، وتضعف منهم الإيمان، وقد قيل: "حسبك من شَر سماعه"، فكيف برؤيته؟!!
صونوا بناتكم وزوجاتكم، ولا تتهاونوا فتعرضوهن للأجانب فـ:
إن الرجال الناظرين إلى النساء ... مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها ... أُكلت بلا عِوّض ولا أثمَانِ
إن الأعراض إذا لم تصن بهذه الحصون والقلاع، ولم تحصن بالأسوار والسدود، فستسقط لا محالة- أمام هذه الهجمة الشرسة، ويقع(3/63)
المحظور، ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة، واللوم أولًا وأخيرا على ولي البنت الذي ألقى الحبل على غاربه، وأرخى لابنته العنان، فيداه أوكتا، وفوه نفخ:
نَعَبَ الغراب بما كرهـ ... ـتَ، ولا إزالة للقدرْ
تبكي وأنت قتلتها! ... اصبر، وإلا فانتحر
آخر:
أتبكي على لبنى وأنت قتلتها ... لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع (1) ؟!
* * *
فتش عن الثغرة
إن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة، التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعد ما تبين.
وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة بل صارخة بخطر الاختلاط على الدنيا والدين، "لخصها العلامة أحمد وفيق باشا العثماني الذي كان سريع الخاطر، حاضر الجواب، عندما (سأله بعض عُشَرائه من رجال السياسة في أوربة، في مجلس بإحدى تلك العواصم قائلاً:
"لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال، ويغشين مجامعهن؟ ".
فأجابه في الحال قائلاً:
"لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجَهن".
__________
(1) انظر: "صون المكرمات برعاية البنات" بقلم جاسم الفهيد الدوسري- حفظه الله، ص (52) .(3/64)
وكاد هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر) (1)
ولما وقعت فتنة الاختلاط بالجامعة المصريه، كان ما كان من حوادث يندى لها الجبين، ولما سئل "طه حسين " عن رأيه في هذا، قال: "لابد من ضحايا"!! ولكنه لم يبين. "بماذا" تكون التضحية؟ و "في سبيل ماذا" لابد من ضحايا (2) ؟
وأي ثمرة يمكن أن تكون أغلى وأثمن من أعراض المسلمين؟!!
والآن نستطيع- بكل قوة - أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها، وهى أنك إذا وقفت على جريمةٍ فيها نُهِشَ العِرضُ، وذُبح العفافُ، وأُهْدِرَ الشرفُ، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة، وَسَهَّلت سبيلها، فإنك حاتمًا ستجد أن هناك ثغرةً حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة. . . دخل الشيطان!!
وصدقِ الله العظيم: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) [النساء: 27 - 28] ) .
***
ثانيا: التدابير الإيجابية
بينا فيما مضى كيف أن الإسلام "يطارد" أسباب الفتنة حتى يقضي عليها، ويتتبع ذرائع المعصية، حتى يسد منافذها، ومنابع الفساد حتى
__________
(1) "الفتن" للشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله - ص (214) . (2) "المرأة المسلمة" لوهبى غاوجي الألباني ص (241) ،(3/65)
يجففها، ووسائل الفوضى حتى يجتثها من جذورها.
يبقى أن ننبه إلى أنه في مقابل ذلك فتح للنكاح أبوابه على مصاريعها، وقضى على العقبات التي تعترضه بكل قوة، وهاك بعض وسائله في ذلك: علم س بالضرورة من دين الإسلام الترغيب في الزواج المشروع والحث عليه، وأنه من سنن الهدى، وجادة الإسلام.
ودلت نصوص الشريعة على النهي عن التبتل والرهبانية (1) ، وأنها مولود مبتدع في الديانة النصرانية شدَّد الله النكير على فعلتها، فليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، وحديث الرهط نص في ذلك كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه (2) ، ولهذا قَرَنَ في حديث آخر بين الأمر بالزواج، والنهي عن الرهبانية، وذلك فيما رواه أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" (3)
وذكر الذهبي في "السير": أن طاوسا رحمه الله قال: "لا يتم نسك
__________
(1) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام، وإهانة الجاهلية" ص (161- 163) .
(2) ونص الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم: فلما أخبروا كأنهم تقالوها، قالوا: فأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
والحديث رواه البخاري (5/9) في النكاح: باب الترغيب في النكاح، ومسلم رقم (1401) فيه: باب استحباب النكاح، والنسائي (6/60) في النكاح أيضا باب النهي عن التبتل.
(3) رواه البيهقي، وساقه الحافظ قي "الفتح " (9/ 13) ، وسكت عليه.(3/66)
الشاب حتى يتزوج "، وقال لإبراهيم بن ميسرة: تزوج أو لأقولن لك ما قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: "ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور" اهـ (1)
وقال المرُّوذي قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل- ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أربع عشرة، ومات عن تسع، ولو تزوج بشر بن الحارث لتم أمره، ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج، ولا كذا ولا كذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عندهم شيء، ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه، ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق
ويعقوب في حزنه قد تزوج وَوُلِدَ له.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "حببَ إلي النساء" (2)
قلت له: فإن إيراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال: "لَروعة صاحب العيال "، فما قدرت أن أتم الحديث (3) ، حتى صاح بي وقال: وقعنا في بنيات الطريق، انظر- عافاك الله - ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال: لبكاء الصبي بين يدي أبيه يطب منه خبزا أفضل من
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (5/47 – 48) .
وإنما أراد أمير المؤمنين رضي الله عنه أن يثير حفيظته ليسعى إلى التزوج، إذ رأى أبا الزوائد، وقد تقدمت به السن، ولم يتزوج، وانظره في "الفتح" (9/ 13) ، و "الإحياء" (2/ 23) ، و "المحلى" (9/ 44) ، و"موسوعة فقه عمر رضي الله عنه" (643) .
(2) رواه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه النسائي (7/ 61) في عشرة النساء: باب حب النساء، بلفظ: "حُببَ إلي الطيبُ، والنساء، وجعلَ قرةُ عيني في الصلاة"، وكذا رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 128، 199، 285) ، والحاكم (2/
160) ، والبيهقي، وغيرهم، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه
الذهبي وقال الحافظ العراقي، "إسناده جيد"، وقال ابن حجر: "حسن".
(3) تتمته كما في "الإحياء": (أفضل من جميع ما أنا فيه) اهـ.(3/67)
كذا وكذا، أنى يلحق المتعبد المتعزبُ المتزوجَ؟! انتهى كلامه (1) .
وعن عثمان بن خالد قال: قال شداد بن أوس: (زَوِّجوني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا ألقى الله عزبًا" (2) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لو لم يبق من أجلي سوى عشرة أيام أعلم أني أموت بعدهن، ولي طَول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة" (3) .
* إن جمهور فقهاء الإسلام يقررون أن النكاح سنة مؤكدة، وقال بعض الفقهاء من السلف وغيرهم: "إنه واجب"، بناء على الأوامر الإلهية، والخطابات النبوية الكثيرة، وقد اتفقوا جميعَا على أن من خاف العنت أو الزنا على نفسه وجب عليه أن يبادر إلى النكاح ليقي نفسه من الحرام، وإن لم يستطع فعليه بالصوم يكثر منه، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه لى وجاء" (4) .
وحسب شبابنا لفهم هذه الأهمية أن العلماء بينوا أن النكاح أفضل عن التفرغ للعبادة.
ولو سأل سائل فقال: "إني رجل مستطيع النكاح، ولا أخاف على
__________
(1) "روضة المحيين" لابن القيم ص (214) .
(2) "تلبيس إبليس" طبعة المدني، ص (414) .
(3) انظر: "الإحياء" (1/ 685) .
(4) رواه البخاري (4/142) في الصوم: باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، وفي النكاح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، وباب من
لم يستطع الباءة فليصم، ومسلم رقم (1400) في النكاح: باب استحباب النكاح
لمن تاقت إليه نفسه، وأبو داود رقم (2046) في النكاح: باب التحريض على النكاح، والترمذي رقم (1081) ، في النكاح؟ باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، والنسائي (4/ 169) في الصوم: باب فضل الصيام، (6/56،
57) في النكاح: باب الحث على النكاح.(3/68)
نفسي الحرام لو لم أتزوج، وأريد أن أظل عزبا ليكفيني أقل مال وعمل لكسب معيشتي، وسأشغل وقّتي كله بالعبادات النافلة من صلاة وصوم وذكر وقرآن.. إلخ" لقال العلماء لهذا الرجل "الزواج مع أداء العبادات المفروضة والسننْ الراتبة أفضل " (1)
ومن تشريعات الإسلام في هذا الباب:
* الترخيص لمن لم يقدر على نكاح الحرائر أن ينكح الإماء، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء: 25] ) ،
* ومنها: وجوب تعاون المسلمين على تزويج عزابهم من نساء ورجال حتى لا يبقى في القرية أو الحي عَزَبٌ تخشى فتنته، قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 32] ) ، والأيامى جمع أيم، وهو من ليس متزوجًا من ذكر أو أنثى، فالرجل أيّم، والمرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:"التمسوا الغنى في النكاح "، وتلا هذه الآية، وقال عمر رضي الله عنه: "عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (2) .
وبين هذا المعنى قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "حق على الله عونُ من نكح التماس العفافِ عما حَرمَ الله. (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله،
__________
(1) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية ص (161 – 173) ، (234- 235) ، (259)
(2) "الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/241)
(3) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابن عدي وابن منيع والديلمي أفاده المناوي في الفيض (3/ 93) وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (3/93)(3/69)
والمكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف " (1) .
وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تيسير النكاح وتذليل عقباته، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "خير النكاح أيسره " (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره" (3) .
* ومنها: أَمْرُ مَنْ لم يجد النكاح بالاستعفاف:
قال عز وجل: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 33] ) .
* * *
__________
(1) رواه الترمذي رقم (1655) في فضائل الجهاد: باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب وعون الله وإياهم، وحسنه، والنسائي (6/ 61) في النكاح: باب معونة
الله الناكح الذي يريد العفاف، ورواه أيضَا الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه.
(2) رواه أبو داود رقم (2117) في النكاح: باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات، وابن حِبان، والحاكم (2/ 182) ، وصححه، ووافقه الذهبي.
(3) انظر تخريجه في "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (180) .(3/70)
وبعد
فهكذا نظم الإسلام الحياة الاجتماعية للناس تنظيما دقيقا، ووضع لهم التشريعات التي تكفل سعادتهم واستقامتهم، وقد تبين لنا من هذا الباب كيف أن الشريعة الإلهية عندما تحرم شيئا فإنها لا تكتفي بتحريمه فحسب،
بل إنها تنادي في الوقت ذاته بتحريم كل ما يرغب الناس في إتيانه، أو يهيئ لهم فرصه، أو ما يكرههم عليه من الأسباب والدواعي.
فها هي الشريعة المطهرة عندما تحرم الجريمة تحرم معها أسبابها وذرائعها ووسائلها، حتى تستوقف المرء على مسافة بعيدة قبل أن يفضي إلى حدود الجريمة الأصلية.
ولا ترتضي الشريعة المحكمة حين تحرم شيئًا من الجرائم أن تلقي في روع الناس أن العقوبة قد وجدت لمجرد التنكيل بهم، ومحاسبتهم فقط، بل تشعرهم بأنها ناصحة لهم، ومصْلِحَة لمفاسدهم، ومُذَلِّلَةٌ لمشاكلهم، فتستخدم كل ما يؤثر فيهم من التدابير الوقائية الممكنة، وكذا الإجراءات العلاجية التي توصد باب الفتنة، وتعين على اجتناب الموبقات.
وقد بان لك موقع الحجاب الشرعي من هذه الإجراءات، وكيف أن فرضيته تتواءم مع مقاصد الشريعة التي منها: المحافظة على النسل والعرض.
* * *(3/71)
الباب الثاني
الفصل الأول:
معنى الحجاب ودرجاته
الفصل الثاني:
تاريخ الحجاب(3/73)
الفصل الأول:
معنى الحجاب ودرجاته
* معنى الحجاب:
أولًا- في اللغة (1) :
الحَجْب والحِجاب: المنع من الوصول، يقال: حَجَبَهُ أي: مَنَعَه حَجْبًا وحجابًا، ومنه قيل للستر الذي يحول بين شيئين: حجاب؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما، وسمي حجاب المرأة حجابا؟ لأنه يمنع المشاهدة، وقيل للبواب: حاجب؛ لأنه يمنع من الدخول عليه إلا بإذنه خشية الأذى يصيبه، وفي الحديث: "قال بنو قصي: فينا الحجابة" يعنون حجابة الكعبة، وهي سدانتها، وتولي حفظها، أو هم الذين بأيديهم مفاتيحها، وكل شيء منع شيئًا فقد حجبه كما تحجب الإخوة الأمَّ عن فريضتها، فإنهم يحجبون الأم عن الثلُثِ إلى السُّدُسِ.
والحاجبان من الرأس لكونهما كالحاجبين للعينين في الذَبِّ عنهما، واحتجب الملِكُ عن الناس، وتحجَّب: إذا اكتن من وراء حجاب، ومادة الحجاب وردت في ثمانية مواضع من القرآن الكريم، ومعناها فيها جميعا يدور بين الستر والمنع:
ومنه قوله تعالى: (حَتَى تَوَارَتْ بِاَلحجَابِ) [ص: 32] ، أي: احتجبت، وتوارت بالجبل أو الأفق، ومنه قوله عز وجل: (وَبَيْنَهُمَا جِجَابٌ)
__________
(1) انظر "المصباح المنير" ص (131) ، "لسان العرب" (1/ 289) ، "تاج اللغة" (1/ 41) ، "إصلاح الوجوه والنظائر" ص (117) ، "المفردات " للراغب الأصبهاني ص (155) .(3/75)
[الأعراف: 46] ، أي: سور، ومنه قوله تعالى: (وَمَا كاَنَ لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ الله إلا وحيا أَؤ مِن وَرَاء جِجَاب) [الشورى: 51] ، أي من حيث لا يراه، وكذا في قوله سبحانه: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين: 15] ) ، أي: مستورون، فلا يَرَوْنَهُ.
ولم يذكر لفظ الحجاب في موضوع بحثنا- وهو ستر النساء عن الرجال- إلا في موضعين، أحدهما: قوله عز وجل: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم: 17] ) ، وثانيهما في قوله جل وعلا: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53] ) ، أي: ساتر يحول بينكم وبين رؤيتهن.
ومن استعمال الحجاب في المعاني قولهم: العجز حجاب بين الإنسان ومراده، والمعصية حجاب بين العبد وربه، وجمع حجاب حجُب، مثل كتاب كتب.
ثانياَ - في الشرع:
وردت عدة تعريفات شرعية للحجاب، يدور أغلبها حول جانب معين منه، غير جامع لكل أركانه ومقوماته، مثل قول بعضهم:
(هو ساتر يستر الجسم فلا يشف، ولا يصف) (1) .
وقول البعض الآخر:
(هو حجب المرأة المسلمة من غير القواعد من النساء عن أنظار الرجال غير المحارم لها) (2) .
والذي يساعد على وضع تعريف جامع للحجاب هو معرفة الغرض منه، وكما أسلفنا القول فإن الحجاب أحد التدابير الوقائية التيَ شرعت من أجل منع وقوع الفتنة بين الرجال والنساء من جهة الشهوة.
__________
(1) " إعداد المرأة المسلمة" ص (106) .
(2) فصل الخطاب " للشيخ أبي بكر الجزائري ص (26) ، وقال حفظه الله: (بعض العوام يطلقون لفظ "الحجاب" على الحرز يكتب للمنع من العين أو الجان، وهو ادعاء باطل، وعمل لا يجوز) اهـ.(3/76)
ْإذن فالحجاب لفظ ينتظم جملة من الأحكام الشرعية الاجتماعية المتعلقة بوضع المرأة في المجتمع الإسلامي من حيث علاقتها بمن لا يحل لها أن تظهر زينتها أمامهم.
وقد بَيَّنا جملة صالحة من هذه الأحكام في الفصل السابق بحيث نستطيع الآن أن ندرك موقع الحجاب بالنسبة لمقاصد الشريعة العليا خاصة ما يتعلق بحفظ العرض.
* معنى السفور (1) :
يقال: سفرت الريحُ الغيمَ عن وجه السماء سَفْرًا، فانسفر، فرَّقته فتفرق، وسُمىَ السفَرُ سَفَرًا لأنه يُسفِرُ عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيًا منها. . .
وإذا ألقت المرأة نقابها قيل: سفرت فهي سافرٌ بغير هاء، قال أبو منصور: وسفرت المرأة وجهها إذا كشفت النقاب عن وجهها، تَسْفِرُ سُفورًا فهي سافرة.
وبهذا يعرف أن السفور لغة هو كشف الوجه، وقد خرج السفور اليوم عن معناه في أصل اللغة، وتحول إلى التبرج الفاحش والاختلاط المزري بالأجانب.
من صور الحجاب:
للحجاب صور متعددة يمكن أن تحتجب بها المرأة عن الأجنبي، فقد يكون الحائط مثلًا، أو الستارة السميكة، أو الباب حجابَا بينهما، وقد تغطي المرأة وجهها:
* بالنقاب: وهو القناع الذي تضعه المرأة على مارن أنفها بحيث يُظْهِرُ
__________
(1) "لسان العرب" (6/ 33- 37) باختصار.(3/77)
عينيها ومحاجرهما (1) ، وهو ما يسمى باللفام، فإن كان لا يظهر منه إلا عيناها فقط سمي برقعا أو سمي بالوصوصة.
وسمي النقاب نقابا لوجود نقبين في مواجهة العينين لمعرفة الطريق، قال الشاعر وهو يصور النقاب، وقد صنع من وجه المرأة هلالا به العينان؟
سفرن بدورًا وانتقبن أهلة
* أو بالخمار، ويسمى أيضا: النَّصِيف، وهو ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كُلِّها، وير نصيفًا؟ لأنه نَصَف بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها، وقيل: نصيف المرأة معجرها، والمعجر: ثوب تلفه المرأة فوق رأسها، ثم تتجلبب فوقه بجلبابها، والاعتجار: أن يلف المعجر على الرأس، ويرد طرفه على الوجه، وقال ابن حجر في تعريف الخمر: ومنه خمار المرأة؟ لأنه يستر وجهها) اهـ (2) .
درجات الحجاب
للحجاب الشرعي المأمور به ثلاث درجات بعضها فوق بعض في الاحتجاب والاستتار، دل عليها الكتابُ والسنة:
الأولى: حجاب الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر، وأمثالها، بحيث
لا يرى الرجال شيئا من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن الظاهرة ولا الباطنة ولا شيئا من جسدهن من الوجه والكفين وسائر البدن، وقد أمر
__________
(1) محجر العين: هو ما دار بالعين من العظم الذي هو أسفل الجفن، وهو يظهر من نقاب المرأة، فكل ما بدا من النقاب محجر. "لسان العرب " (2/295)
(2) وبهذا يعلم أن الحجاب والنقاب ليسا شيئين مختلفين، بل الأول أعم من الثاني، وبهذا أيضا يتبين خطأ السؤال الشائع في هذا الزمان متعلقا بحكم كشف الوجه، وهو: أيهما الفرض الواجب: الحجاب أم النقاب، ويعنون بالحجاب كشف الوجه، فالأصح أن يقال: الحجاب أم السفور، أو: النقاب أم السفور؟ والله أعلم.(3/78)
الله عز وجل بهذه الدرجة (1) من الحجاب فقال (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53] ) وِقال سبحانه وتعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ،. ويرشح هذه الدرجة أحاديث تحبب إلى المرأة القرار في البيت، وعدمَ الخروج حتى إلى صلاة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قرارها في بيتها أرجى لها في الأجر عند الله تعالى.
الثانية: خروجهن من البيوت مستورات، ومن أدلتها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية [الأحزاب: 59] ،.
الثالثة: خروجهن مستورات الأبدان من الرأس إلى القدم، مع كشف الوجه واليدين عند أمن الفتنة عند بعض الأئمة (2) .
واتفق جمهور علماء المذاهب في هذا الزمان على وجوب تغطية الوجه والكفين من المرأة سدُّا لذرائع الفساد، وعوارض الفتن، فلم يبق يشرع إلا الدرجتان الأولى والثانية.
* * *
__________
(1) انظر "جواهر القرآن " لمفتي عموم باكستان العلامة محمد شفيع، و "أحكام الحجاب في القرآن " للشيخ المفسر الأستاذ أمين أحسن الإصلاحي.
(2) ويعد بعض العلماء الدرجة الثالثة من الحجاب هي "الحجاب الداخلي " الذي يحدد ما تظهره المرأة داخل البيت لمن يدخل عليها- بعد الاستئناس والاستئذان بشروطه وآدابه- من المحارم وغيرهم الذين ورد استثناؤهم في سورة النور، وانظر "أحكام الحجاب في القرآن" ص (9- 20)(3/79)
الفصل الثاني
تاريخ الحجاب
تعتبر قضية "الحجاب" جزءا من مقومات المرأة، مرتبطًا بأوائل وجودها، إذ كانت بدايته مع الأبوين في الجنة حيث أسكنهما الله تعالى، يأكلان منها حيث شاءا إلا شجرة واحدة فوسوس لهما الشيطان حتى أكلا منها، قال تعالى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 22] ، ثم أهْبِطا إلى الأرض، وبدءا حياة جديدة، فأنزل الله عليهما اللباس مرة أخرى.
كما قال تعالى:
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] ) ،.
وقد حذر الله عز وجل بني آدم من فتنة الشيطان في موضوع هذا اللباس خصوصًا حتى لا يعيد معهم الكرَّة، فقال جل وعلا:
(يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27] ،.
فماذا عن التطورات التاريخية لحجاب المرأة عند الأمم المختلفة، ونخص منها أهل الكتاب وعرب الجاهلية؟
الحجاب عند أهل الكتاب
من الأوهام الشائعة خاصة عند الغربيين أن حجاب النساء نظام ابتدعه الإسلام، وأنه لم يكن له وجود قبل الإسلام لا في جزيرة العرب، ولا في(3/81)
غيرها، وكادت المرأة المحجبة عندهم أن تكون مرادفة للمرأة المسلمة، أو المرأة التركية (1) التي كانت تمثل الإسلام في نظرهم من خلال "تركيا" دار الخلافة، وهذا الوهم مما يبين مدى جهلهم لا بحقائق الإسلام نفسه فحسب، بل أيضا بحقائق التاريخ، ونصوص كتبهم الدينية التي يتداولونها، ويتعصبون لها، ولا يكلفون أنفسهم عناء قراءتها ومراجعتها، ونخص بالذكر التوراة، والإنجيل.
فمن يقرأ كتبهم يعلم بغير عناء كبير في البحث أن حجاب المرأة كان معروفا بين العبرانيين، من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعا، إلى ما بعد ظهور النصرانية (2) .
وقد تكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهدين القديم والجديد (3) : ففي الأصحاح الرابع والعشرين من "سفر التكوين" عن
__________
(1) اشتهر الحجاب في تركيا لا لأنه "تقليد" تركي كما يزعم المغالطون أو الواهمون، وإنما كمظهر من مظاهر تمسك التركيات بالإسلام، فالحجاب في تركيا كان إسلاميّا فحسب، والترك لم يعرفوه إلا من خلال إسلامهم؟ لأنهم أخذوه عن الشعوب التي تعلموا منها الإسلام، الذي يفرض على المرأة الحجاب، ومن ثم
كان الحجاب- بصورة من الصور- أصلا مرعيُّا في العالم الإسلامي كله- وليس في تركيا وحدها- خلال قرون متطاولة من الزمان.
انظر: "واقعنا المعاصر للأستاذ "محمد قطب " ص (157) .
وليس العجب من ترويج الكتاب الغربيين لهذه الفِرية أمثال أرنولد توينبي" صاحب كتاب "مدخل تاريخي للدين"، وذلك لأن هؤلاء الغربيين جميعا كانت،
لهم مهمة معروفة عندما كتبوا هذا في حق الأتراك، ولكن العجب من أناس يدعون العلم والمعرفة وهم مقلدة لهؤلاء الغربيين حتى في أكاذيبهم الصارخة مثل دعواهم أن الحجاب بدعة تركية (!) .
(2) وهنا نسأل: هل يحتمل عند "توينبي" وأذنابه أن يكون الأتراك هم الذين كتبوا لليهود والنصارى كتابهم المقدس عندهم؟
(3) أنظر: "المرأة في القرآن" لعباس محمود العقاد، الفصل السادس ص (87) ، وما بعدها.(3/82)
"رفقة" أنها رفعت عينيها، فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل، وقالت للعبد: "من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي "، فقال العبد: "هو سيدي "، فأخذت البرقع، وتغطت.
وفي الأصحاح الثامن والثلاثين من "سفر التكوين " أيضًا: أن ثامار مضت، وقعدت في بيت أبيها، ولما طال الزمن، خلعت عنها ثياب ترمُّلِها، وتغطت ببرقع، وتلففت.
وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة أخبرني يا من تحبه نفسى أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟.
وفي الأصحاح الثالث من "سِفر أشْعِيا": إن الله سيعاقب بنات صِهْيْونَ على تبرجهن والمباهات برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهِلَّة والحِلَق والأساور والبراقع والعصائب (1) .
ويقول "بُولس" في رسالته "كورنثوس " الأولى: (إن النقاب شرف للمرأة) ، وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلتقي بالغرباء، وتخلعه حين تتروي في الدار بلباس الحداد.
وكانت الكنيسة في القرون الوسطى تخصص جانبا منها للنساء حتى لا يختلطن بالرجال.
قال الكونت "هنري دي كاستري":
ربما كان الإنجيل أكثر تدقيقًا في التشديد- يعني في الحجاب- ولكنه لا يعمل به إلا قوم خصَّهم الله بمواهب الكمال، اهـ من كتاب "الإسلام خواطر وسوانح " اهـ (2) .
__________
(1) ولعل من مظاهر هذه العقوبة منعهن من المساجد لما أحدثن الزينة كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم ص (22) .
(2) "المرأة العصرية وصفاتها المنافية للإسلام " للشيخ محمد الزمزمي الغماري ص (8) .(3/83)
(وفي يوم من الأيام حكمت الكنيسة الأرثوذوكسية بحرمان المرأة حقها
في المجتمع، فحظرت عليها حضور المآدب والحفلات، وألزمتها الحجاب صامتة صابرة،، لا شأن لها إلا الطاعة للزوج، والقيام بالغزل والنسيج، وطهي الطعام، وإذا خرجت من بيتها خرجت مستورة الجسم من قمة رأسها إلى أخمص قدمها) (1) .
ولعله لهذا بقيت آثار البرقع والحجاب عند أهل الكتاب حتى يومنا هذا، وذلك واضح في زي راهبات النصارى، ودخول النصرانيات الكنيسة، وقد غطين رؤوسهن بساتر، بل هن حتى اليوم في حفلات أعراسهن يغطين وجوههن بنقاب شفاف فلعله من بقايا دينهم.
الحجاب عند عرب الجاهلية
نبين في هذا الفصل- إن شاء الله- أن العرب عرفوا في جاهليتهم حجاب القرار في البيت، وئقاب الوجه، ولعل هذا من بقايا الحنيفية السمحة التي تلقاها عرب الجاهلية عن ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما تلقوا منها الختان والعقيقة وغيرهما، كما عرفوا سفور الوجه الذي كان أغلب حالات فتيات العرب، وعرفوا هيئات مختلفة من التبرج الذي وصفه الله عز وجل بأنه "تيرج الجاهلية الأولى"، وذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33] ؛ فقد كانت المرأة تلبس درعًا من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال (2) .
وفي أقصى الطرف الآخر كان هناك طائفة من العرب عرفوا التكشف الفاضح حيث كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويُسَوِّغون ذلك بقولهم: "لا
__________
(1) "حقوق المرأة في الإسلام" - من رسائل الجزائري ص (7) (2) (2) "تفسير غرائب القرآن " للنيسابوري (22/ 10) - حاشية الطبرى(3/84)
نطوف في ثياب عصينا الله فيها" (1) !، بل افتروا على الله الكذب حيث قالوا في تسويغ تلك الفاحشة: (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) [الأعراف: 28] ،.
وفي "صحيح مسلم"، (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافًا؟ تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3) الآية [الأعراف: 31] ،.
وكان من لباس نساء الجاهلية المهلهل والهفاف، وهما دقيقا الخيط، رقيقا النسيج، أما ما كَثُف حَوْكُه، وضوعفت حواشيه فيدعى بالصفيق والشبيع والحصيف.. ومن لباسها الدثار، وهو جلباب شامل، والنطاق وهو ثوب تشده المرأهْ إلى وسطها، وترخي نصفه الأعلى على نصفه الأسفل (4) .
وقد سجلت لنا آثارهم الأدبية وأشعارهم على وجه الخصوص الحالة الاجتماعية للمرأة الجاهلية، وهذا ما نفصِّله فيما يلي إن شاء الله.
أولا: حجاب الجدر
عرف العرب حجاب الجدر، وهو قرار المرأة في بيتها،- فمن ذلك قول
__________
(1) انظر "تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/398) ط. دار الشعب.
(2) "صحيح مسلم بشرح النووي" (18/ 162) .
(3) وهذه الضلالة الجاهلية المشار إليها أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع حين أذن مؤذنه في الناس يوم النحر بمنى: "ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " رواه البخاري وغيره.
(4) "المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها" (1/ 110- 111) بتصرف.(3/85)
بعضهم:
ما كان أغناني عن حُب مَن ... مِن دونه الأستار والحجبُ
ومنه أيضًا قول امرئ القيس:
وَبَيْضَةِ خِدر لا يُرَام خِباؤها ... تَمَتَّعْتُ! مِنْ لَهْوٍ بها غَيْر مُعْجلٍ
يقول: وَرُبَّ امرأة كالبيض في سلامتها أو في الصون والستر أو في صفاء اللون ونقائه ملازمة خِدرَها غير خَرَّاجةٍ وَلا ولاجَة انتفعت باللهو فيها على تمكث وتلبث لم أعجل عنها، ولم أشغل عنها بغيرها (1) . وامتدح العرب المرأة التي تقر في بيتها، ولا تخرج منه، فقال بعضهم في ذلك:
من كان حربًا للنسا ... ءِ فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني ... وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل ... فقصارهن ملاحهنه
فقوله: قصارهن يعني المقصورات منهم في بيوتهن اللاتي لا يخرجن منها إلا نادرًا، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله:
وأنتِ التي حببتِ كل قصيرة ... إليَّ وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحَجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر
والحجال جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن، البحاتر: جمع بُحْتُر وهو القصير المجتمع الخَلْق.
وذكر بعضهم أن رجلًا سمع آخر قال: لقد أجاد الأعشى في قوله:
غراءُ فرعاء مصقول عوارضها ...
تمشي الهوينا كما يمشى الوَجِي الوَحِلُ (2)
__________
(1) شرح المعلقات السبع للزوزني ص (15)
(2) الوَجِي: من يشتكي ألما في قدمه، والوَحِلْ الذي يتوحل في الطين.(3/86)
كان مشيتها من بيت جارتها ...
مر السحابة لا ريث ولا عجلُ
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ...
ولا تراها لسر الجار تختتل
فقال له: قاتلك الله، تستحسن غير الحسن، هذه الموصوفة خرَّاجة وَلاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها، ولا ملاحة لها، فهلا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها فيزرنها ... وتعتل من إتيانهن فَتُعْذَرُ (1)
ومن امتداح العرب المرأة القارَّة فِى بيتها قول امرئ القيس:
ويضحى فتيتُ المسكِ فوق فراشها ...
نؤومَ الضُّحى لم تنتطِقْ عن تَفَضُّلِ (2)
فهو يذكر ترف هذه المرأة، وأن لها من يكفيها، فقال "نؤوم الضحى" أي أنها تنام إلى وقت الضحى، وأن فتيت المسك - وهو ما تفتت من المسك عن جلدها فوق الفراش- يبقى إلى الضحى، وهي لا تنتطق أي لا تلبس النطاق في وسطها لِتَخْدُمَ، ولكنها في بيتها متفضلة.
بل كان من الجاهليات من توصف بأنها غاية في التستر والانجماع عن الأجانب، ولزوم الأخلاق الفاضلة، ألم تسمع قول الشَّنْفَرى يمتدح زوجته أميمة:
لقد أعجبتني لا سَقُوطًا قِناعُهاِ ...
إذا ما مشت، ولا بذات تَلَفّتِ (3)
__________
(1) "أضواء البيان " (7/687- 688) .
(2) انظر "شرح المعلقات " للزوزني ص (23) .
(3) يقول: إنها عفيفة ستيرة رزينة في مِشيتها، لا تتعمد إسقاط نقابها أمام الأجانب لاحتشامها، وحيائها، ولا تكثر من التلفت كما تفعل ذوات الريبة من النساء.(3/87)
تبيتُ بُعَيْد النوم تُهدى غَبُوقَها ...
لجاراتها إذا الهديةُ قَلَّتِ (1)
تُحِل بمنجاةٍ من اللؤم بيتَها ...
إذا ما بُيوت بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ (2)
كأنَّ لها في الأرض نِسْبًا تَقُصُهُ ...
على أُمِّها، وإن تكَلّمكَ تَبْلِتِ (3)
أمَيْمَةُ لا يُخزي نَثَاها حليلَها ...
إذا ذُكرَ النسوانُ عَفَّتْ وَجَلَّتِ (4)
إذا هو أمسى آبَ قرَّة عينِه ...
مآبَ السعيدِ، لم يَسَلْ: أين ظَلَّتِ (5)
ثانيا: حجاب البدن والوجه
أما حجاب الوجه فقد كان معروفًا عندهم أيضا:
فمما يذكر في كتب التاريخ والأدب (أن النابغة أحد فحول الشعر لجاهلي (6) قد مرت به امرأة النعمان المسماة بالمتجردة في مجلس، فسقط
__________
(1) وهي كريمة سخية تجود بالهدية على جاراتها في وقت يعز فيه الإهداء.
(2) وهي حريصة على سمعتها، وسمعة بيتها، فهي تصونه عن كل ما يُخِل، فالذمُّ لا يلحقها.
(3) وهى من شدة حيائها إذا مشت تُطْرِقُ بصرها في الأرض، ولا ترفعه، حتى يظن من رآها أنها تبحث عن شيء ضاع منها، فهي تتبع أثره، وإن كَلَّمت غريبًا، فإنها تكلمه بما تحتاج، ولا تطيل حديثها معه.
(4) لذا فإذا ذكرت أفعالها وأخبارها، لم تَسُوْ حليلها لحسن مذهبها وعفتها.
(5) وإذا عاد زوجها آخر النهار وجد ما يَسُرُّه منها، ولم يحتج إلى سؤالها: أين كانت؟ لأنها لا تبرح بيتها.
وانظر "المفضليات" بشرح التبريزي (1/ 515- 518)
(6) النابغة: زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني، شاعر جاهلي من الحجاز، كان عند النعمان بن المنذر- من ملوك الحيرة- وقد شبب بامرأته بهذا البيت المشهور به =(3/88)
نَصِيفها- أي برقعها- الذي كانت قد تقنعت به، فسترت وجهها بذراعيها، وانحنت على الأرض ترفع النصيف بيدها الأخرى، فطلب النعمان من النابغة أن يصف هذه الحادثة في قصيدة، فعمل القصيدة التي مطلعها:
أمن أل مية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود
إلى أن قال:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ، وَاتَقَتْنَا بِالْيَدِ) (1)
ومما يدل على أنهم عرفوا البرقع قول أحدهم:
إن لم أقاتل فألبسوني برقعًا ... وفتخات في اليدين أربعا
وفي قصيدته التي مطلعها:
أفاطِمُ قَبل بَيْنِكِ وَدّعيني ... ومنعَك ما سألتُك أنْ تبيني
قال محصن بن ثعلبة الشاعر الجاهلي الملقب ب "المثقب العبدي":
وثقبن الوصاوص بالعيون
والوصاوص: البراقع.
وكانت بعض نساء العرب لا يسفرن عن وجوههن إلا لخطب عظيم يلم بهن، ولهذا قال رؤبة الحميري عاشق "ليلى الأخيلية" من قصيدة يمدحها بها، ويثني عليها بالتبرقع غالبا، مع جمالها، ويشير فيها إلى أن إسفارها عن وجهها تارة رابه إذ لعله لخطب ألمَّ بها:
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... وقد رابني منها الغداةَ سفورها (2)
وقال ربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير:
من كان مسرورًا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهارِ
__________
= من قصيدة له، فأراد النعمان قتله، فهرب إلى الغسانيين بالشام، ثم رجع إلى النعمان "الأعلام " للزركلي ص (54) ،
(1) نقلًا من "الإسلام وتيارات الجاهلية" لآدم عبد الله الألوري ص (151-152) .
(2) "زاد المسلم بحاشية فتح المنعم " (1/383) .(3/89)
تجد النساء حواسرًا يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
فد كن يخبأن الوجوه تسترًا ... فاليوم حين برزن لِلنظار (1)
وكانت المرأة في حالة الحرب، إذا اشتملت عليها الوقائع، أو دارت على فريقها الدوائر، وارتقبت من وراء ذلك ذل السباء وعار الإسار، تظهر سافرة حاسرة حتى تلتبس بالإماء، وفي هذا الموطن يقول مُهَلْهِلُ بن ربيعة:
قربا مربط المشهر مني ... سوف تبدو لنا ذواتُ الحجال (2)
وقال سبرة بن عمر الفقعسى يْعَيِّرُ أعداءه بكشف وجوه نسائهم في الحرب:
ونسوتكم في الرَّوْعِ بادٍ وجوهُها ... يُخَلْنَ إماءً، والإماء حرائر
وهو صريح فيْ أنْ ستر الوجوه وكشفها كان هو الفارق بين الحرائر
والإماء.
وقالي عمرو بن معد يكرب يحكي احتدام حرب من حروبه التي كانت قبل الإسلام:
وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى
أي إنها! التجأت لشدة الحرب، وشغلها بالجليل من الأمر إلى كشف وجهها، فظهرت كالبدر، ومعناه أنها كانت تحتجب في عامة أحوالها.
(وهذه حرت الفجار تنشب بين قريش وهوازن بسبب تعرض شباب
من كنانة لامرأة من غمار الناس، راودوها على كشف وجهها، فنادت:
"يا آل عامر" فلبتها سيوف بني عامر) (3) .
وكان بين نساء الجاهلية من تستر وجهها لِكَلَف أصابه، وفي نحو ذلك ما نقل أبو زيد في نوادره عن أعرابي قيل له:
__________
(1) "المرأة العربية" (1/107) .
(2) المشهر: فرس مهلهل والحجال- جمع حجلة- ستور العروس
(3) المرأة العربية (1/ 28) .(3/90)
"ما تقول في نساء بني فلان؟ " فقال: "بَرْقِعْ وانظر"، يريد بذلك أن عيونهن خير ما فيهن.
وشبيه ذلك ما حَدَّثَ الراغب (أن أسديًّا قبيح الوجه خطب امرأة قبيحة، فقيل لها: إنه قبيح وقد تعمَّم لك، فقالت: إن كان تَعَمَّم لنا، فإنا قد تبرقعنا له) (1) .
وهذا أعرابي تضايقه البراقع لأنها تحول بينه وبين الحسان، وتخدعه في غير الحسان، فيقول:
جؤى الله البراقع من ثياب ... عن الفتيان شرًا ما بقينا
يوارين الحِسانَ فلا نراها ... ويسترن القباح فتزدهينا (2)
ثالثا: سفور الوجه
وبين أيدينا أمثلة سائرة مما أرسله العرب تنبئنا أن كشف القناع كان أغلب حالات فتيات العرب (3) وأمثلها بهن، فمن ذلك قولهم: "تَرَكَ الخِداعَ مَن كَشَفَ القِناع "، يريدون أن الفتاة لا تستر وجهها إلا لشر تؤثر أن تستره، وقولهم فيمن لا يستر عيبه:
"كذات الشيب ليس لها خمار"، فهم لا يرون الخِمار لزامًا إلا لذات الشيب، فإن خليقا بها أن تواريه (4) .
ولم يكن لحجاب الانتقاب بين نساء العرب نظام شامل، ولا هيئة
__________
(1) "المرأة العربية" (1/ 104- 105) .
(2) "فتح المنعم حاشية زاد المسلم" (1/383) .
(3) ومن ثَمَ قال العلامة محمد بن جزي الكلبي رحمه الله: كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء. اهـ من "التسهيل" (3/ 144) .
وقال العلامة أبو حيان رحمه الله: كان دأب الجاهلية أن تخرج المرأة الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار) ، وقال أيضَا: الذي كان يبدو منهن في الجاهلية
هو الوجه. اهـ من "البحر المحيط " (7/ 250) .
(4) "المرأة العربية" (1/ 105) .(3/91)
واحدة، ففي القبيلة الواحدة ترى "الْبَرْزَةَ" وهي التي تجلس إلى الرجال، وتجاذبهم الحديث سافرة غير محجوبة، و"المحتشمة" كما قدمنا، وهي التي ترخي قناعها إذا خرجت من بيتها، فلا تطرحه حتى تعود.
قال الفراء: "كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قُدَّامَها فأُمِرن بالاستتار" اهـ (1) .
ومنهن "سقوط القناع " وهي التي لا تكاد تنتقب ثقة بنفسها، وإدلالَا بحسنها، أو سيرًا على سجيتها.
وفي مثلها يقول المسيِّب بن علس:
إذا تستبيك بأصلتيّ ناعم ... قامت لتفننه بغير قناع
تستبيك: تغلبك على نفسك حتى تكون سبيًا لها، والأصلتي: الخد الحسن.
وقال المرقش الأصغر:
أرتك بذات الضال منهما معاصما ...
وخدّا أسيلًا كالوذيلة ناعما
ذات الضال: موضع، والوذيلة: المرأة، ومعنى ذلك أنها لم تتحرج بما يخفى معاصمها، أو يحجب وجهها.
وإلى هذه يشير عمر بن أبي ربيعة في قوله:
فلما توافقنا وسلمت أقبلت ... وجوهٌ زهاها الحسن أن تتقنَّعا
زهاها الحسن: استخفها، يقول: إن هذه الوجوه استخفها الحُسن عن
أن تتقنَّع.
وقال الأصمعي: وقد تُلْقي المرأةُ خِمارَها لحسنها وهي على عفة، وأنشد
في ذلك قول أبي النجم في إحدى أراجيزه:
مِن كُلَ غراء سَقْوطِ البرقع ... بَلْهَاءَ لم تَحْفَظْ ولم تُضَيِّع
__________
(1) نقله عنه الحافظ في "الفتح " (8/347) .(3/92)
غراء: من الغُرَّةَ وهي بياض الوجه، والبلهاء الغافلة عن الشر، الحسنهَ الظن بالناس (1) .
وكان من شيمة نساء العرب تطويلُ الثياب، وجَرُّ الذيول كما اشتهر في أشعار أهل الجاهلية منهم كامرئ القيس الذي قال في معلقته:
خرجتُ بها تمشي تَجُرُّ وراءنا ... على أثَرَيْنا ذَيلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
والمرط الكساء من صوف أو خز أو غيرهما، والمرَحل - بالحاء المهملة - المنقوش بنقوش تشبه رحال الإبل.
وكذلك اشتهر في أشعار العرب بعد الإسلام، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر المفلق المتهالك قي مدح النساء:
كتِبَ القتلُ والقِتالُ علينا ... وعلى الغانياتِ جَزُ الذّيُولِ (3)
* * *
__________
(1) "المرأة العربية" (1/ 103- 104) بتصرف.
(2) "زاد المسلم بحاشية فتح المنعم " (1/383) .(3/93)
94(3/94)
الباب الثالث
الفصل الأول:
فضائل الحجاب
الفصل الثاني:
مثالب التبرج(3/95)
96(3/96)
الفصل الأول:
فضائل الحجاب
أولًا: الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجب الله تعالى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) [الأحزاب: 36، 37] )
وقال عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء: 65] )
وقد أمر الله سبحانه وتعالى النساء بالحجاب فقال عز وجل:
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] ) ،.
وقال سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ،
وقال تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] ) ،
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] ) ،.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" (1) يعني أنه يجب سترها.
__________
(1) تقدم تخريجه.(3/97)
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أختٍ له نذرت أن
تحج حافية غير مختمرة، فقال: "مروها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام " (1) .
قال الخطابي رحمه الله: أما أمره إياها بالاختمار، فلأن النذر لم ينعقد
فيه؛ لأن ذلك معصية، والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار. اهـ (2) . ثانيَا: الحجاب إيمان
والله سبحانه وتعالى لم يخاطب بالحجاب إلا المؤمنات، فقد قال سبحانه: (وَقُل لِلِمُؤمِنَاتِ) وقال عز وجل: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) .
ودخل نسوة من بني تميم على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عليهن ثياب رقاق، فقالت: إن كنتن مؤمنات، فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات، فتمتعن به" (3) ، وأدْخِلت امرأة عروس عليها رضي الله عنها، وعليها خِمار قبطي معصفر، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: " لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا" (3) .
ثالثا: الحجاب طهارة
بَيَّن الله سبحانه الحكمة من تشريع الحجاب، وأجملها قي قوله تعالى:
((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] )) ، فنص سبحانه على أن الحجاب طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/145) ، سنن أبي داود (3/ 233) رقم (3293) ، سنن ابن ماجه (1/ 654) ، سنن الترمذي (4/116) ، وحسنه، سنن النسائي (7/20) ، وضعفه الألباني في إرواء الغليل " (8/218) رقم (2592) .
(2) "معالم السنن" (4/ 376) .
(3) "تفسير القرطبي" (14/ 244) .(3/98)
وبيان ذلك أنه إذا لم تر العين لم يشته القلب، أما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب، وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر؛ لأن الرؤية سبب التعلق والفتنة، فكان الحجاب أطهر للقلب، وأنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية والعصمة "
رابعا: الحجاب عفة
رغَب الإسلام في التعفف (1) ، وعظَّم شأنه، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر به، وَيَحُثُّ عليه، ففي الحديث أن هرقل سأل أبا سفيان: ماذا يأمركم؟ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - ففال: قلت: يقول "اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة" (2) .
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أسألك الهدى والتقى والعفة" (3) ، وفي لفظ آخر: "إني أسألك الهدى والتقى والعفاف " (4) الحديث.
والعفة صفة من صفات الحور العين التي أشار إليها قوله تعالى: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) [الرحمن: 72] ) ، وقوله عز وجل: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) [ص: 52] ) ، وقوله جل وعلا: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) [الصافات: 48] )
فقوله جل وعلا: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) يعني: أنهن عفيفات لا ينظرن إلى
__________
(1) العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف: المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، انظر: "المفردات " للراغب (ص 507) .
(2) جزء من حديث طويل رواه البخاري (1/43) في كتاب بدء الوحي وغيره، ومسلم في كتاب الجهاد، والإمام أحمد (1/ 262- 263) .
(3) رواه الإمام أحمد (1/ 389، 434، 443) .
(4) رواه مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في الدعوات، وابن ماجه في الدعاء، والإمام أحمد (1/411، 416، 437) .(3/99)
غير أزواجهن، (عِينٌ) أي: حسان الأعين، جميلات المظهر، عفيفات تقيات نقيات.
فقد جعل سبحانه عفتهن قرينة حجابهن وقرارهن في خيامهن، وامتدحهن بالعفة مع الجمال، فأعظم ما تكون العفة إذا ما اقترنت بالجمال، وقد وصف بهما يوسف عليه السلام في قول امرأة العزيز: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف: 32] ) ،.
ومن إعظام الإسلام لأمر العفاف أن شرط في إباحة الزواج من الكتابيات كونهن محصنات أي عفائف، كما أن العفة في القرآن خلق المؤمنات وسجية المحجبات.
وقد جعل الله عز وجل الحجاب عنوان عفة المرأة عن التهمة الموجبة للتأذي:
* فقال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ) الإدناء (أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن عفائف (فَلَا يُؤْذَيْنَ) فلا يتعرض لهن الفساق بأذى من قول أو فعل، وذلك لأن التي تبالغ في التستر حتى تحجب وجهها لا يُطمع فيها أنها تكشف عورتها.
والآية دليل على وجود أذية إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظُنَّ أنهن غير عفيفات، وقوله تعالى: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب: 59] ، نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاءً لها ولذويها بالفتنة والشر.
وقال سبحانه وتعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) رخص لهن في وضع الجلابيب، ورفع الإثم عنهن في ذلك، ثم عقبه ببيان المستحب فقال عز وجل: (وأن يستعففن) باستبقاء الجلابيب (خير لهن والله سمِيع(3/100)
عليمٌ) [النور: 60] فحرض القواعد العجائزْ على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن وإن لم يتبرجن.
فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز (1) ، فوجب أن يكون التحجب الكامل والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرًا للشابات من باب أولى، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة، فظهر بذلك أن الحجاب عفة ونقاء وصيانة.
خامسا: الحجاب ستر
عن يعلى بن شداد بن أوس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى
حَيِيٌّ ستير، يحب الحياء والستر" (2) الحديث.
وقد امتن الله سبحانه وتعالى على الأبوين بنعمة الستر فقال عز وجل:
(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)) [طه: 118] ، وقال سبحانه ممتنًا على عباده: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الآية [الأعراف: 26] ،
قال عبد الرحمن بن أسلم:، يتقى الله فيواري عورته، فذاك لباس التقوى) .
ولذلك تجد وظيفة اللباس عند من لا يتقون الله ولا يستحيون منه كعامة
__________
(1) وذلك لأن النفس الأبية لا ترضى بالدون، وقد عاب الله عز وجل قومًا استبدلوا طعاما بطعامِ أدنى منه، فنعى ذلك عليهم فقال عز من قائل: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة: 61] ؛ لأن ذلك دليل
على وضاعة النفس وقلة قيمتها.
(2) رواه أبو داود رقم (4012) و (4013) في الحمام: باب النهي عن التعري، والنسائي (1/ 200) في الغسل: باب الاستتار عند الاغتسال، ورواه الإمام أحمد
في "المسند" (4/244) .
(3) قال في "الدر المنثور": أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 76) .(3/101)
الغربيين مثلًا، لا يتجاوز غرض الزينة والرياش، وأما المؤمنون المتقون فإنهم يحرصون على اللباس؟ أولَا لستر العورات التي يستحيا من إظهارها، ثم بعد ذلك لهم سعة في إباحة الزينة والتجمل.
إن الذنوب معايب يُبْتعدُ عنها، ويُستتر منها، والعورات كذلك معايب يجب أن تستر، ويبتعد عما يحرم منها، وكأن المكثرين من الخطايا هم الذين لا يبالون بما يبدو من عوراتهم، ومن هنا ترى المؤمنين المبتعدين عن الذنوب بعيدين عن إظهار العورات.
وجوب ستر العورات
قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31] .
وقال جل وعلا: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور: 30، 31] ، ويدخل في حفظ الفروج حفظها عن التكشف، وعن أن يُنظر إليها. وعن جابر بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا نُهينا أن تُري عوراتنا " (1) .
حب الستر من أخلاق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام
* فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى كان رجلًا حَييًّا سِتِّيرًا، لايرى من جلده شيء، استحياءً منه " (2) الحديث.
__________
(1) رواه الحاكم (3/ 222- 223) ، وابن أبي حاتم في العلل (2/ 276) .
(2) رواه البخاري (1/ 459) في الغسل: باب من اغتسل عريانا وحده، وفي =(3/102)
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي " (1) الحديث، وفي لفظ: "اللهم استر عورتي ".
* وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينُك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لايرينها أحد فلا يَرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يُستحيا منه من الناس " (2) .
فيستحب ستر العورة حتى في حال الخلوة - وقيل يجب؛ تأدبا مع الله سبحانه وتعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه من الناس ".
وعن سعيد بن يزيد رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني فقال: "أوصيك أن تستحيي من الله تعالى كما تستحيي من الرجل الصالح من
__________
= الأنبياء: باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، وفي تفسير سورة
الأحزاب، والترمذي (3219) في التفسير- سورة الأحزاب، والإمام أحمد (2/515) .
(1) جزء من حديث رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما أبو داود في "الأدب " (4/ 318- 319) رقم (5074) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" رقم (40) ص (15) ، والحاكم في "الدعاء" (1/517) ، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن ماجه في "الدعاء" (2/1273) – 1274) رقم (3871) ، وابن حبان في "صحيحه " رقم (2356) موارد، وصححه النووي في " الأذكار" ص (66) ، وحسنه الحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات الربانية " (1/ 108) .
(2) رواه أبو داود رقم (4017) ، في الحمام: باب ما جاء في التعري، والترمذي (2670) و (2795) في الأدب: باب ما جاء في حفظ العورة، وابن ماجه،
وذكره البخاري تعليقا بصيغهّ الجزم (1/266) في الغسل: باب من اغتسل
عريانا وحده في خلوة فالتستر أفضل، وقال الحافظ في "الفتح ": وإسناده إلى بهز صحيح اهـ، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم(3/103)
قومك " (1) .
* وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة " (2) الحديث.
بل ندبتنا الشريعة إلى الستر حتى عن أعين الجن الذين يَرَوْننا ولا نراهم.
* فعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: بسم الله " (3) ، وعن علي رضي الله عنه بلفظ: "إذا دخل أحدهم الخلاء" (4) .
وكل ما تقدم من الأدلة في حق الرجال فهو ينتظم النساء أيضًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "النساء شقائق الرجال " (5) .
وقد وردت أدلة خاصة تفيد أن المرأة كلها عورة بالنسبة للأجنبي، فيجب ستر ما يصدق عليه اسم العورة:
* منها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" ص (46) ، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" ص (50) ، وغيرهما.
(2) رواه مسلم رقم (338) في الحيض: باب تحريم النظر إلى العورات، وأبو داود رقم (4018) في الحمام: باب ما جاء في التعري، والترمذي رقم (2794) في الأدب: باب ما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل، والمرأة المرأة.
(3) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص (8) رقم (20) - وانظر: "إرواء الغليل " (1/ 89) .
(4) أخرجه الترمذي رقم (606) (2/503 - 504) في الصلاة: باب ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؟ وإسناده ليس بذاك القوي" اهـ. وابن ماجه (1/ 127- 128) .
(5) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أبو داود رقم (236) في الطهارة: باب في الرجل يجد البلة فى منامه، والترمذي رقم (113) في الطهارة. باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللاً، ولا- يذكر احتلاما.(3/104)
"المرأة عورة" (1) الحديث.
* وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباشر المرأةُ المرأة فتنعتها لزوجها، كأنه ينظر- إليها" (2)
الحديث يفيد أنه لم يبق للرجال سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء لشدة حرصهن على الستر إلا من طريق الصفة أو الاغتفال ونحو ذلك، ولهذا قال "كأنه ينظر إليها".
وعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي لا يسترن زينتهن ضمن أهل النار:
* فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (3) .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات" (4) .
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) رواه الإمام أحمد (1/ 387) ، والبخاري (9/250) في النكاح: باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، وأبو داود رقم (2150) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي رقم (2793) في الأدب: باب مما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة، وقال "هذا حديث حسن صحيح".
(3) تقدم تخريجه
(4) انظر تخريجه ص (135)(3/105)
نماذج من حرص الصحابة رضي الله عنهم
على ستر النساء
رُوي أن امرأة خرجت متزينة في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أذن لها زوجها في البروز، فَأُخْبرَ بها عمر رضي الله عنه، فطلبها، فلم يقدر عليها، فقام خطيبا، فقال: َ "هذه الخارجة، وهذا المرسلها لو قدرت عليهما لشترت (1) بهما"، ثم قال: "تخرج المرأة إلى أبيها يكيد بنفسه (2) ، وإلى أخيها يكيد بنفسه، فإذا أخرجت فلتلبس معاوزها" (3) .
ورُوي أنه رضي الله عنه سمع نائحة، فأتاها، فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها، فقيل: "يا أمير المؤمنين، المرأهّ المرأة قد وقع خمارها"، فقال: "إنها لا حُرْمَةَ لها" (4) .
والشاهد جزع الصحابة رضي الله عنهم لما انحسر الخمار عن رأسها.
ولما دخل الثوار المتمردون على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ليقتلوه حاولت زوجته نائلة بنت الفرافصة أن تستره بشعرها، فقال لها أمير المؤمنين رضي الله عنه: "خذي خمارك، فلَعمري لَدخولُهم عليَّ أعظم من حُرْمَة شعرك " (5) .
__________
(1) شترت به تشتيرًا: إذا سمعت به، ونددت، وأسمعته القبيح، وكان حقيقة التشتير إبراز مساوئ الرجل، وإظهار ما بطن منها، من الشتر: وهو انقلاب في الجفن الأسفل؛ لأنه بروز ما حقه أن يبطن، وهو عيب- انظر "الفائق " (2/ 220) ، و "غريب الحديث" (1/105) .
(2) يكيد بنفسه: أي يسوق سياق الموت.
(3) المعاوز: الخلقان: واحدهما: معوز، من الإعواز، وهو الفقر والحاجة- انظر: "الفائق " للزمخشري (2/ 220) ، "غريب الحديث " للخطابي (2/105- 155) ، و "مصنف عبد الرزاق " (4/371- 372) . (4) الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (18/ 75) و "الزواجر" للهيثمي (5) كذا (!) ولعله (ما دخولهم عليَّ) ، أو يكون المقصود بالسياق الاستفهام =(3/106)
نماذج من حرض الصحابيات رضي الله عنهن على الستر
قالت عائشة رضي الله عنها - في قصة الإفك: "فلما أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى المعسكر، وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس، فتلفعت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، إذ مر بي صفوان ابن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليَّ، فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي" (1) .
والشاهد منه مبادرتها رضي الله عنها إلى تغطية وجهها حرصا على الستر، إقامة لحدود الله عز وجل.
* وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: "رأيت حفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور (2) ؟! ثم دعت بخمار فكستها) (3) ، وفي رواية الموطأ "وكستها خمارا كثيفا" (4) .
* ودخل عليها- رضي الله عنها- نسوة من نساء أهل الشام، فقالت: لعلكن من الكُورة (5) التي يدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم، قالت:
__________
= الإنكاري، والله أعلم.
(1) انظر تخريجه ص (؟؟؟) .
(2) تشير- رضي الله عنها- إلى قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31]
(3) انظر تخريجه ص (؟؟؟) .
(4) "الموطأ" للإمام مالك (3/ 103) .
(5) الكورة اسم يقع على جهة من الأرض مخصوصة كالشام والعراق وفلسطين، =(3/107)
أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب " (1) .
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها، خرق الله عز وجل عنها ستره " (2) ، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل.
* وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بعبدِ قد وهبه لها، قال: وعلىَ فاطمة رضي الله عنها ثوب، إذا قَنَعت به رأسها، لم يبلغ رجليها، و، اذا غطت به رجليها، لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغُلامُكِ " (3) .
وَيُرْوَى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت "يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع النساء أن يُطْرحَ على المرأة الثوبُ فيصفها"، فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئًا رأيته بالحبشة؟ "، فدعت بجرائد رطبة، فحتتها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تُعرف به المرأة من الرجل (4) فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعليّ ولا يدخل عَلَيَّ أحدٌ، فلما تُوُفِّيت غسلها علي وأسماء
__________
= ونحو ذلك اهـ من "جامع الأصول" (7/ 339) .
(1) رواه أبو داود رقم (4009) و (4010) في الحمام في فاتحته، والترمذي رقم (2803) و (2804) في الأدب: باب ما جاء في دخول الحمام، وقال: "هذا حديث حسن".
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه أبو داود (4/ 62) رقم (4106) كتاب اللباس: باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته، وعنه البيهقي (7/ 95) ، وصححه الألباني في "الإرواء" (6/ 206) .
(4) وفي رواية أنها قالت لها: "سترك الله كلما ستريني"، انظر: "سير أعلام النبلاء، (2/ 129، 132) ، و "المستدرك" (3/162) .(3/108)
رضي الله عنهما" (1) .
والشاهد منه أن فاطمة عليها السلام استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح.
* ومثله ما جاء عن نافع وغيره أن الرجال والنساء كانوا يخرجون بهم سواء، فلما ماتت زينب بنت جحش رضي الله عنها أمر عمر رضي الله عنه مناديا فنادى: "ألا لا يخرج على زينب إلا ذو رحم من أهلها"، فقالت بنت عميس: "يا أمير المؤمنين ألا أريك شيئًا رأيت الحبشة تصنعه لنسائهم؟ "، فَجَعَلَتْ نعشًا، وغَشَّتْة ثوبها، فلما نظر إليه قال: "ما أحسن هذا! ما أستر هذا" فأمر مناديًا أن اخرجوا على أمكم " (2) .
* وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرا"، قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: "فيرخين ذراعا، ولا يزدن عليه" (3) .
* وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما:
ألا أُريك امرأة من أهل الجنة: قلت: بلى، قال هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصْرعُ، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 43) ، والسياق له، والبيهقي (4/ 34- 35) ، وفي سنده جهالة، قال ابن التركماني: "في سنده من يحتاج إلى كشف حاله" اهـ.
(2) رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 79) ، و "سير أعلام النبلاء" (2/213) .
(3) رواه الترمذى رقم (1731) في اللباس: باب ما جاء في جر ذيول النساء، وقال: "حسن صحيح"، والنسائي (8/ 209) في الزينة: باب ذيول النساء، وأبو داود رقم (4119) في اللباس: باب في قدر الذيل، وفي روايته قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبرا، فاستزدنه، فزادهن شبرًا، فكُن يُرْسِلنَ إلينا، فنذرع لهن ذراعا، والشاهد في هذه الرواية قوله: "فاستزدنه " مما يدل على شدة حرصهن على الستر.(3/109)
شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله عز وجل أن يعافيك "، قالت أصبر، قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها (1) . والشاهد فيه حرصها على الستر حتى في حال العذر، ففي رواية البزار من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما في نحو هذه القصة أنها قالت "إني أخاف الخبيث أن يجردني " الحديث.
* وعن امرأة من الأنصار قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه غضبان، فاستترت بكم درعي، فتكلم بكلام لم أفهمه، فقلت: يا أم المؤمنين كأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان؟ قالت: نعم أوَ ما سمعتيه؟ قالت: وما قال؟ قالت: قال: "إن السوء إذا فشا في الأرض فلم يُتناه عنه أنزل الله عز وجل بأسه على أهل الأرض "، قالت: قلت: يا رسول الله! وفيهم الصالحون؟ قال: "نعم، وفيهم الصالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يقبضهم الله عز وجل إلى مغفرته ورحمته، أو إلى "رحمته ومغفرته " (2) والشاهد قولها: "فاستترت بكم درعي ".
* وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: "اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما"، فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتُها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، قال: فسَمعتْ ذلك المرأةُ، وهي في خدرها، فقالت: إن كان
__________
(1) أخرجه البخاري (10/ 119) ، رقم (5652) في المرض: باب فضل من يصرع من الريح، وقولها: "إني أتكشف "، قال الحافظ: "المراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر" اهـ (10/115) .
(2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 418) ، وقال في "الفتح الرباني" (أورده الهيثمي، وقال: "رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح" اهـ قلت:
هو السند الأول من طريق يزيد بن هارون، ورواه أيضا الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية") اهـ (19/175) .(3/110)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشُدك"، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرتُ إليها فتزوجتُها، فَذَكَر من موافقتها" (1) ، وموضع الشاهد منه واضح.
* وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل "، فخطبتُ جاريةً فكنتُ أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوجتها " (2) .
والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطاع" إلخ؛ لأنه يبرز حرص المرأة المسلمة على الستر، حتى ليشق على من أراد رؤيتها أن يراها إلا بعناء واستغفال واختباء.
* وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: "خطبت امرأةً، فجعلت أتخبأ لها، حتى نظرت إليها في نَخْل لها، فقيل له: أتفعل هذا، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى الله في قلب امرئٍ خِطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها" (3) ، ولو كانت هذه المرأة متكشفة
__________
(1) روى شطره الأول: الترمذي رقم (1087) ، وحسَّنه في النكاح: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، والنسائي - واللفظ له – (6/ 69- 70) في النكاح: باب ما جاء في النظر قبل التزويج، وصححه ابن حبان (1236- موارد) ،- ورواه بطوله ابن ماجه رقم (1888) (1/ 575) والإمام أحمد (4/ 245) -، وقال في "الفتح الرباني": "وصححه ابن حبان والحاكم، وأقره الذهبي " اهـ. (16/ 154) .
(2) أخرجه أبو داود (2082) في النكاح: باب الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها، والإمام أحمد (3/ 334، 360) ، والحاكم (2/ 165) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في "الفتح " (9/ 87) : "سنده حسن " اهـ، وقال في "بلوغ المرام": (رجاله ثقات) اهـ.
(3) رواه سعيد بن منصور في "سننه " رقم (159) ، وابن ماجه (1886) (1/ 574) ، والإمام أحمد (4/ 225) ، وإسناده ضعيف فيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وقد عنعنه، وقواه الألباني بطرقه في "الصحيحة" رقم (98) .(3/111)
معروضة كنساء هذا الزمان- إلا من رحم ربك لما احتاج إلى الاختباء وفي رواية عن سهل بن أبي حثمة قال "رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك فوق إجَّار- وهو السطح الذي ليس حواليه ما يرد الساقط عنه - لها ببصره طردَا شديدًا فقلت- أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، فقال: فذكر الحديث".
* وعن عاصم الأحول قال: "كنَّا ندخل على حفصة بنت سيرين، وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به، فنقول لها: رَحِمَكِ الله، قال الله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) هو الجلباب، قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) ، فتقول: هو إثبات الحجاب " (1) .
(ولما كان العلامة الكاساني في حلب طلبت منه زوجته الفقيهة فاطمة بنت السمرقندي الرجوع إلى بلاده، فلما همَّ بذلك استدعاه الملك العادل نور الدين، وسأله أن يقيم بحلب، فعرفه أنه لا يقدر على مخالفة زوجه، إذ هي بنت شيخه، فأرسل الملك إلى فاطمة خادما بحيث لا تحتجب منه، ويخاطبها عن الملك في ذلك، فلم تأذن للخادم، وأرسلت إلى زوجها تقول له:! أبَعُدَ عهدُك بالفقه إلى هذا الحدِّ؟ أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إلىَّ هذا الخادم؟ وأي فرق بينه وبين الرجال في عدم جواز النظر؟ فأرسل إليها الملك امرأة لتكلمها في هذا) (2) .
__________
(1) أخرجه البيهقي (7/ 93) .
(2) (كذا في "الجواهر المضيئة" بدائع الصنائع للكاساني) اهـ - ذكره في "رؤية دينية في ضوء العصر" ص (14) .(3/112)
سادسا الحجاب حياء
* الحياء مشتق من الحياة، والغيث يسمى حيا- بالقصر - لأن به حياةَ الأرض والنبات والدواب، وكذلك سميت بالحياء حياة الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، وحقيقته أنه خُلُق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
* وبين الذنوب وبين قلة الحياء، وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، وكل منهما يستدعي الآخر، ويطلبه حثيثا (1) .
* والحياء من أبرز الصفات التي تنأى بالمرء عن الرذائل، وتحجزه عن السقوط إلى سفاسف الأخلاق، وحمأة الذنوب، كما أن الحياء من أقوى البواعث عل الفضائل وارتياد معالي الأمور:
* عن أبي السَّوَّار العدوي حسان بن حريث قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي رواية قال: " الحياء خير كله "، أو قال: "الحياء كله خير" شك الراوي (2) .
* ولعظيم أثره جعله الإسلام في طليعة خصائصه الأخلاقية:
يُروَى عن زيد بن طلحة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء" (3) .
__________
(1) انظر: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص (72) ، و"مدارج السالكين" (2/ 259) .
(2) أخرجه البخاري (10/ 537) في الأدب: باب الحياء، ومسلم رقم (37) في الحياء: باب بيان عدد شعب الإيمان، وأبو داود رقم (4796) في الأدب: باب الحياء.
(3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 905) في حسن الخلق: باب ما جاء في الحياء مرسلا، ووصله ابن ماجة رقم (4181) و (4182) بسندين ضعيفين.(3/113)
* وَبَيِّن صلى الله عليه وسلم أن الحياء لم يزل مستحسنا في شرائع الأنبياء الأولين، وأنه
لم يُرفع، ولم ينسخ في جملة ما نسخ الله من شرائعهم، فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت " (1) .
* والحياء نوعان:
أولهما: نفسي، وهو الذي خلقه الله تعالى في جميع النفوس، كحياء كل شخص من كشف عورته والوقاع بين الناس، والآخر: إيماني، وهو خصلة تمنع المؤمن من ارتكاب المعاَصي خوفًا من الله تعالى، وهذا القسم من الحياء فضيلة يكتسبها المؤمن، ويتحلى بها، وهي أمُّ كل الفضائل الأخرى.
فلذلك وجب على المسلمين أن يُعوِّدُوا بناتهم على الحياء، والتخلق بهذا الخلق الذي اختاره الله تعالى لدينه القويم، لأن عدم الحياء علامة لزوال الإيمان، ولا يخفى ما يتولد عن ذلك من العواقب الوخيمة (2) .
* عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحياءُ والإيمانُ
قرِنا جميعًا، فإذا رُفِعَ أحَدُهُما رُفِعَ الآخر" (3) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري (10/ 540) في الأدب: باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت، وفي الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، وأبو داود رقم (4797) في الأدب: باب
ما جاء في الحياء، وابن ماجة رقم (4183) في الزهد: باب الحياء.
(2) " حجاب المرأة العفة والأمانة والحياء" تأليف السيد عبد الله جمال الدين أفندي ص (15) .
! 3) رواه الحاكم في (المستدرك) (1/ 22) ، وقال هذا حديث صحيح على شرطهما " وأقره الذهبي.
(4) أخرجه الترمذي رفي (2010) في البر والصلة باب ما جاء في الحياء، وقال =(3/114)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار، وهو يَعِظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعْهُ فإن الحياء من الإيمان " (1) .
__________
* والحياء من أخلاق الملائكة عليهم السلام:
* فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظهر أنه قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا" الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "فإن جبريل أتاني حين رأيتِ، فناداني، فأخفاه منك، فأجبتُه، فأخفيتُه منكِ، ولم يكن ليدخل عليك، وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم " الحديث (2) .
والشاهد منه أن جبريل عليه السلام استحيا أن يدخل عليها، وقد وضعت ثيابها رضي الله عنها، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يدخل.
* وكانت شدة الحياء من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المثل الأعلى لكل مسلم ومسلمة.
__________
= الترمذي: "حسن صحيح ".
(1) رواه البخاري (1/93) في الإيمان: باب الحياء من الإيمان، وفي الأدب: باب الحياء، ومسلم رقم (36) في الإيمان: باب بيان عدد شعب الإيمان، والترمذي رقم (2618) في الإيمان: باب ما جاء أن الحياء من الإيمان، وأبو داود رقم (4795) في الأدب: باب في الحياء، والنسائي (8/121) في الإيمان: باب الحياء، وابن ماجة رقم (58) في المقدمة: باب في الإيمان.
(2) أخرجه مسلم (3/14) واللفظ له، والنسائي (1/ 286) ، (2/ 160- 161) ، والإمام أحمد (6/ 221) ، وانظر: "سير أعلام النبلاء" (2/196) .(3/115)
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءَ
من العذراء في خِدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه " (1) .
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل من حيضتها؟ قال: فذكرت أنه علمها كيف تغتسل ثم تأخذ فرصة من مسك فتطهر بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: "تطهري بها سبحان الله "، واستتر، وأشار إلينا سفيان بن عيينة- أحد رواة الحديث- بيده على وجهه، قال: قالت عائشة: واجتذبتها إليَّ، وعرفت ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تتبعي بها أثر الدم (2) .
ولهذا؛ تأدب أصحابه رضي الله عنهم بهذا الخلق الإيماني، واختص بعضهم بمزية ظاهرة فيه، منهم أميرُ البررة، وقتيلُ الفجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان، وأحيى أمتي عثمان " (3) .
ومن فضائله رضي الله عنه ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه "؟ (4)
__________
(1) أخرجه البخاري (10/ 538) في الأدب: باب الحياء، وفي الأنبياء: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (2320) في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، والخِدْر: بالكسر سِتر يمد للجارية في ناحية البيت، راجع (تاج العروس) للزبيدي (3/170) .
(2) رواه مسلم (4/ 13-15) بشرح النووي.
(3) رواه ابن عساكر- وانظر (سلسلة الأحاديث الصحيحة) رقم (1828) (4/442) ، وابن ماجه المقدمة باب رقم (11) ، والإمام أحمد (1/74) ، (3/184،
281) .
(4) رواه الأمام أحمد في (المسند) (6/ 62) ، وروى نحوه مسلم رقم (2401) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عثمان رضي الله عنه(3/116)
* وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "إني لأدخل البيت المظلم أغتسل فيه من الجنابة، فأحني فيه صلبي حياء من ربي " (1) .
وكذلك كان حال نساء الصحابة رضي الله عنهن، فلقد جاءت فاطمة بنت عتبة رضي الله عنها تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخذ عليها: (أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ) الآية، فوضعت يدها على رأسها حياءً، فأعجبه ما رأي منها، فقالت عائشة رضي الله عنها: "أقِرِّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا"، قالت: "فنعم إذَا"، فبايعها بالآية (2) .
النقاب حارس الحياء
إن الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء، ولن تتزين امرأة بزينة هي أحمدُ ولا أجملُ من برقع الحياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما كان الحياء في شيء إلا زانه" (3) .
ولقد أبرز القرآن الكريم خلق الحياء في ابنتي الرجل الصالح، اللتين انحدرتا من بيت كريم، كله عفة وطهارة، وحسن تربية، وآية ذلك ما حكى القرآن من صيانتهما وحيائهما.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص: 25] .
قال: "ليست بِسَلفع (4) من النساء خراجة ولَّاجة، ولكن جاءت
__________
(1) (المستطرف) (1/ 113) ..
(2) رواه الإمام أحمد في (المسند) (6/ 151) .
(3) عجز حديث عن أنس رضي الله عنه الترمذي رقم (1975) في البر والصلة: باب ما جاء في الفحش والتفحش، وحسنه، وابن ماجة رقم (4185) في الزهد: باب الحياء، والإمام أحمد (3/ 165) ، والبخاري في الأدب المفرد" (2/ 601) .
(4) امرأة سلفع: سليطة جريئة، قال في لسان العرب) :(3/117)
مستترة، قد وضعت كم دِرْعها على وجهها استحياء" (1)
ورواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلةً بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَع من النساء ولَّاجة خَرَاجة" (2) .
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر رضي الله عنه، والله ما دخلتُهُ إلا مشدودة عَلَيَّ ثيابي حياءَ من عمر رضي الله عنه " (3) .
* وروى البخاري في صحيحه بسنده عن فاطمة عليها السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها وعليًّا رضي الله عنه وقد أخذا مضاجعهما" الحديث، وفيه في رواية على بن أعبد: "فجلس عند رأسها فأدخلت رأسها في اللفاع،
__________
= "وفي الحديث: شرهن السلفعة البلقعة: البذية الفحاشة القليلة الحياء، ورجل سلفع: قليل الحياء، وفي حديث أم الدرداء: "شر نسائكم السلفعة" هي الجريئة على الرجال، وأكثر ما يوصف به المؤنث، وهو بلا هاء أكثر، ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) قال: ليست بسلفع " اهـ مختصرا (10/35 - 36) .
(1) أخرجه الفريابي، وابن أبي شيبة في "المصنف "، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اهـ كل من "الدر
المنثور" (5/ 124) .
(2) ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وقال: "هذا إسناد صحيح " اهـ من تفسير القرآن العظيم " (6/238) ، وقال ابن كثير في تفسير الاَية: "أي تمشي مشي الحرائر، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: "كانت مستترة بكم ذراعها " اهـ (6/ 238) ، وانظر: " المستدرك، (2/ 407) .
(3) "السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين " ص (91) ، وقد روى نحوه الحاكم (4/ 7) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، وسكت عنه الذهبي.(3/118)
حياءً من أبيها" الحديث (1) .
* والحادثة التالية- إن صحت- تجسد قيمة الحياء:
عن فرج بن فضالة عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟! فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابنك له أجر شهيدين "، قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب" (2) .
* ومما يؤكد ارتباط تغطية الوجه بشدة الحياء ما ثبت:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سُلَيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل عل المرأة من غسل إذا احتلمت؟، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء"، فغطَّت أم سلمة (3) - تعني وجهها - وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟، قال: "نعم، تربت يمينك، ففيم يشبهها ولدها"؟ (4) .
ومما يذكر في كتب التاريخ والأدب أن النابغة أحد فحول الشعر الجاهلي قد مرت به امرأة النعمان في مجلس فسقط نصيفها (أي برقعها)
__________
(1) (فتح الباري) (11/ 125) .
(2) رواه أبو داود (3/ 5- 6) رقم (2488) في الجهاد: باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم، وفي إسناده عبد الخبير بن ثابت قال البخاري: (روى عن فرج ابن فضالة، حديثه ليس بالقائم، فرج عنده مناكير) ، وقال أبو حاتم الرازي: "عبد الخبير حديثه ليس بالقائم، منكر الحديث". انظر "مختصر المنذري" (3/ 359) .
(3) قال الحافظ: "في مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة أيضًا، ويمكن الجمع بأنهما كانتا حاضرتين) " اهـ من "الفتح" (1/277) .
(4) رواه البخاري رقم (130) ، في العلم: باب الحياء في العلم - وانظر "الفتح" (1/276) .(3/119)
الذي كانت قد تقنعت به فسترت وجهها بذراعيها وانحنت على الأرض ترفع النصيف بيدها الأخرى، فطلب النعمان من النابغة أن يصف هذه الحادثة في قصيدة فعمل القصيدة التي مطلعها.
أمن آل مية رائح ومغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود
إلى أن قال:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد (1)
إن التجرد من خلق الحياء مدرجة الهلاك، والسقوط من درك إلى درك
إلى أن يصبح الإنسان صفيق الوجه، وينزع منه خلق الإسلام، فيجترئ على المخالفات، ولا يبالي بالمحرمات، وهناك تلازم بين ستر ما أوجب الله ستره، وبين التقوى، كلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان:
فمن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح التكشف والحياء منه.
قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الآية [الأعراف: 26] ،
قال الشاعر:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانًا وإن كان كاسيا
وخير خصال المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا
إن مسارعة آدم وحواء إلى ستر عوراتهما بأوراق الشجر دليل على أن الحياء عنصر أصيل مركوز في فطرة الإنسان، فعليه أن يهتم به، ويحافظ عليه، ويصونه من أن يثلم، ففي صيانته، وسلامته سلامة للفطرة عن أن تمسخ أو تحرف، لأن في انحرافها مسخا وتشويها لآدميته، ولأن الحياء شعبة من شعب الإيمان، فمن تمسك به فقد تحصن ضد الشيطان، وأغلق
__________
(1) تقدم ص (89) .(3/120)
في وجهه بابا منيعَا، لو قدر له أن يدخل منه، لنال صاحبَه شر عظيم، والعياذ بالله.
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
سابعا: الحجاب يناسب الغيرة
إن الحجاب يتناسب مع الغيرة التي جبل عليها الإنسان السويُّ، والغيرة غريزة تستمد قوتها من الروح، والتحرر عن القيود غريزة تستمد قوتها من الشهوة، فهذه تغري بالسفور، وتلك تبعث على الاحتجاب.
إن المدنية الغربية انحازت إلى الطبيعة الأولى، وقررت أن لا تحرم المنتسبين إليها التمتع بسفور النساء، واختلاط الجنسين، وضحَّتْ بالطبيعة الثانية في سبيل ذلك، فالرجل الغربي يخالط نساء الناس، ويجالسهن متهتكات، مقابل التنازل عن غيرته على زوجته وأخته وبنته، فيخالطهن غيره، ويجالسهن.
إن القضاء على الغيرة بلغ عند مدنية الغرب إلى أن اعتبرتها من النقائص، بالرغم من أن الإنسان يشعر بفطرته أنها فضيلة، وتواضع كتابها وشعراؤها على تغيير هذه الفطرة.
ومن الدليل على كون السفوريين يتكلفون إسكات صوت الغيرة في قلوبهم، وإماتتها مقابل ما يتمتعون به من الاختلاط بنساء غير نسائهم، أن مقلدتهم من المسلمين لا يسمحون بالدخول على نسائهم إلا لمن يسمح لهم بالدخول على نسائه، فلو قصدوا بالسفور الذي يدعون له إلى تحرير المرأة من أسر الاحتجاب كما يدعونه، لما حافظوا على شرط المعاوضة في سفور نسائهم عند أي رجل من معارفهم (1) .
__________
11) انظر: "قولي في المرأة" ص (25- 27) .(3/121)
* وفي السطور التالية نتوقف قليلا لنفصل معنى الغيرة وفضيلتها، وبيان ارتباطها الوثيق بقضية صيانة المرأة وحفظ العرض، فنقول بتوفيق الله وحده:
إن من آثار تكريم الإسلام للمرأة ما غرسه في نفوس المسلمين من الغيرة، ويُقْصَدُ بالغيرة تلك العاطفة التي تدفع الرجل لصيانة المرأة عن كل مُحرم وشين، وعار.
قال النحاس: "الغيرة هي أن يحمي الرجل زوجته وغيرها من قرابته، ويمنع أن يدخل عليهن، أو يراهن غيرُ مَحْرَم " (1) .
* ويَعُدُّ الإسلام الدفاع عن العرض، والغيرة على الحريم جهادا يبذل من أجله الدم، ويضحى في سبيله بالنفس، ويجازي فاعله بدرجة الشهيد في الجنة.
* فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قُتِلَ دُونَ ماله فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دون دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد" ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (2) .
بل يعد الإسلام الغيرة من صميم أخلاق الإيمان، فمن لا غيرة له لا إيمان له، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة:
* فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا
مع امرأتي لضربته بالسيف غيرَ مُصْفِح (3) ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) "زاد المسلم" (5/ 158) .
(2) رواه الترمذي رقم (1418) ، (1421) في الديات: باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، وأبو داود رقم (4772) في السنة: بابْ في قتال اللصوص، والنسائي (7/ 115، 116) في تحريم الدم: باب من قتل دون ماله، وابن ماجة رقم (2580) في الحدود: باب من قتل دون ماله فهو شهيد، وأحمد في "المسند" رقم (1628) ، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(3) ضربه بالسيف غير مصفح: إذا ضربه بحدِّه، وفربه صَفْحًا: إذا ضربه بعرضه.(3/122)
فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟ والله، لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها، وما بطن " الحديث (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله: أن يأتي المؤمنُ ما حَرمَ الله عليه " (2) .
* وإن من ضروب الغيرة المحمودة: أنفةَ المحبِّ وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره، ومن هنا كانت الغيرة نوعَا من أنواع الأثرة، لابد منه لحياطة الشرف، وصيانة العرض، وكانت أيضا مثار الحمية والحفيظة فيمن لا حمية له ولا حفيظة.
وضد الغيور الدَّيُّوث، وهو الذي يقر الخبث في أهله، أو يشتغل بالقيادة، وقال العلماء أيضًا: (الديوث الذي لا غيرة له على أهل
بيته) (3) ، وفي المحكم: (الديوث الذي يُدخل الرجال على حرمه بحيث يراهم) (4) ، وقد ورد الوعيد الشديد في حقه:
* فعن عبد الله بن "عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجِّلة، والدَّيُّوث " الحديث (5) .
__________
(1) رواه البخاري (12/ 181) في الحدود: باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله، وفي التوحيد، ورواه تعليقَا في النكاح: باب الغيرة، ومسلم رقم (1499) في اللعان: في فاتحته.
(2) رواه البخاري (9/ 230) في النكاح: باب الغيرة، ومسلم برقم (2761) في التوبة: باب غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، والترمذي رقم (1168) في الرضاع: باب ما جاء في الغيرة.
(3) "النهاية لما غريب الحديث" (2/147) .
(4) "الزواجر" للهيثمي (2/52) .
(5) أخرجه النسائي (1/ 357) واللفظ له، والإمام أحمد (2/ 134) ، وابن خزيمة في (التوحيد) (235) ، وابن حبان (56) ، وصححه العلامة أحمد شاكر رقم (6180) (9/34) .(3/123)
إن الغيرة على حرمة العفة ركن العروبة، وقوام أخلاقها في الجاهلية والإسلام، لأنها طبيعة الفطرة البشرية الصافية النقية، ولأنها طبيعة النفس الحرة الأبية.
لقد رأينا هذا الخلق يستقر في نفوس الجاهليين الذي تذوقوا معاني تلك الفضائل، وتحلوا بها، فإذا هم يغارون على عِرض جيرانهم من هوى أنفسهم ذاتهم، استمع معي إلى. عنترة يقول مفتخرا بنفسه:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
وقول حاتم الطائي:
إذا ما بت اختل عرس جاري ... ليخفيني الظلام فلا خفيت
أأفضح جارتي وأخون جاري ... فلا والله أفعل ما حييت
وفي عصر الإسلام يقول مسكين الدرامي:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القِدْرُ
ما ضر جاري إذ أجاوره ... أن لا يكون لبيته ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواريَ جارتي الخِدر
ويقول آخر في جارته أيضًا:
ولم أكن طلابا أحاديث سرها ... ولا عالمًا إذا ما مرت أي جنس ثيابها
وربما قامت الحروب غيرة على المرأة، وحمية لشوفها، واستجابة لاستغاثتها واستنجادها: فقد (تدافعت أشراف العرب في مساق عامتهم
يوم الفِجار (1) قريش وهوازن وكان من أمر ذلك أن شبابًا من كِنانة أطافوا بامرأة من غِمار الناس في سوق عُكاظ، فأعجبهم ما رأوْا من حسنها، وسألوها أن تُسْفِرَ لهم عن وجهها، فأبت ذلك عليهم، فاخذوا يُعْنِتُونَها (2)
__________
(1) حروب الفِجار: حروب نشبت بين العرب في الجاهلية في سوق عكاظ وهي أربع، وإنما دعيت بهذا الاسم لأن العرب أباحوا فيها حرمة الأشهر الحرم فقاتلوا، فكان ذلك منهم فِجارَا أي تفاجرَا.
(2) أعنته: شق عليه.(3/124)
ويسخرون بها، وهنالك نادت: يا آل عامر!، فَلَبَّتْها سيوف بني عامر، ووقف بنو كنانة يدرأون عن فتيانهم، وهاجت هَوَازِن لعامر، واغتمرت قريش في كنانة (1) ، وهنالك تفجرت الدماء، وتناثرت الأشلاء (2) ، ولولا حكمة بدرت من حرب بن أمية يومئذ لكان الخطب أفدحَ، والمصاب أطَمَّ، فقد وقف بين القوم فحسم ضغينتهم، واحتمل ديات قتلاهم) (3) . نماذج من غيرة الصحابة رضي الله عنهم
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديد الغيرة على النساء، فهو الذي أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بحجب نسائه، فوافقه القرآن فعن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب (4) .
* عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة، الحديث وفيه: "ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟، فقال: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك "، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: "فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته، فولَّيت مُدْبِرا" فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟ (5) .
* وعن أبي السائب مولى هشام بن زُهرة رضي الله عنه: أنه دخل على أبي سعيد
__________
(1) عامر بطن من بطون هوازن، وقريش فرع من فروع كنانة.
(2) الأشلاء- جمع شلو- قطع اللحم.
(3) "العقد الفريد" (3/109) ، وانظر "المرأة العربية" (1/ 27- 28) .
(4) رواه البخاري (8/ 387) رقم (4790) في التفسير: باب (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) الآية.
(5) رواه البخاري (7/ 50) في فضائل الصحابة: باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقم (3679) ، (3680) ، وقال السفاريني: (أي كيف أغار على دخولك قصرًا أنت السبب في حصوله لي؟ بل وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم" اهـ من (شرح ثلاثيات المسند" (2/21) .(3/125)
الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت، فالتفت، فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إليَّ أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟، فقلت: نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعُرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة" فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به - وأصابته غيرة - فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل، فإذا بحية عظيمة مُنْطَوِية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدْرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا ذلك له، وقلنا: ادْعُ الله يحييه لنا، فقال: "استغفروا لصاحبكم"، ثم قال: "إن بالمدينة جنّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا، فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان (1) . والشاهد منه قول الرواي: "وأصابته غيرة".
* وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ألا تستحيون ألا تغارون: أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العُلوج (2) ، أما تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار" (3) .
__________
(1) رواه مسلم (14/ 234- 235) بشرح النووي، كتاب قتل الحيات وغيرها، وانظر "المرقاة" (4/3430)
(2) انظر: (المسند) بتحقيق أحمد شاكر (2/ 255) ، وصححه، (والعلوج: جمع عِلْج، وهو الرجل من كفار العجم، أو الضخم القوي) اهـ من "الفتح الرباني، (17/303) .
(3) هذه الزيادة في "المغني" لابن قدامة (7/ 27) .(3/126)
* وذكر أبو عمر في "التمهيد" أن عمر رضي الله عنه لما خطب عاتكة بنت زيد شرطتْ عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيَّل عليها أن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مَرَّت به ضرب على عَجيزتها؟ فلما رجعت قالت:
"إنا لله! فسد الناس! "، فلم تخرج بعد (1) .
* ويروى أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الله ليغار للمسلم، فَلْيَغَرْ" (2)
ولما دخل الخوارج المفسدون على أمير البررة، وقتيل الفجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه ليقتلوه، حاولت زوجه الوفية نائلة بنت الفرافصة رضي الله عنها أن تستر أمير المؤمنين بشعرها، فقال لها: "خذي خمارَكِ، فلعمري لدخولهم على أعظم من حرمة شعرك" (3) .
أحداث صنعتها الغيرة
* ذكر الحافظ ابن كثير- رحمه الله - في حوادث سنة ست وثمانين ومائتين: قال في المنتظم: ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري (4) ، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟، فلما صمَّموا علي ذلك قال الزوج: "لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدَّعيه، فأقرَّ بما ادعَتْ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون
__________
(1) "الإصابة (8/ 12) ، وانظر: أسد الغابة (6/ 185) .
(2) "أخبار النساء" ص (82) .
(3) "أعلام النساء" لكحالة (5/ 150) ، و"الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (517) .
(4) سماه السمعاني: موسي بن إسحق الأنصار الخطمي.(3/127)
وجهها عن النظر: هو في حِل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة اهـ (1) ، زاد الحافظ السمعاني في "الأنساب": فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكْتَبُ هذا في مكارم الأخلاق اهـ.
* ويذكر بعض المؤرخين في حسنات الحجاج بن يوسف الثقفي:
أن امرأة مسلمة سُبيت في الهند، فنادت: (واحَجَّاجاه) واتصل به ذلك، فجعل يقول: (لبيكِ) ، وأنفق سبعة ملايين من الدراهم حتى أنقذ المرأة) (2)
* وهذه امرأة شريفة أسرها الروم، لا تربطها بالخليفة (المعتصم بالله) رابطة سوى أخوة الإسلام، تستنجد به لما عذبها صاحب عمورية، وتطلقها صيحة يسجل التاريخ دويها الضخم: "وامعتصماه"، وما إن بلغت المعتصم هذه الندبة- وكان يأخذ لنفسه شيئًا من الراحة - حتى قالها بملء جوارحه: (لبيكِ) ، وانطلق لتوه إلى القتال، وانطلقت معه جحافل المسلمين، وقد ملأت الغيرة لكرامة المرأة نفس كل جندي إباءً وحماسا، فأنزلوا بالعدو شر هزيمة، واقتحموا قلاعه في أعماق بلاده حتى أتوا عمورية، وهدموا قلاعها، وانتهوا إلى تلك الأسيرة، وفكوا عقالها، وقال لها المعتصم: (اشهدي لي عند جَدك المصطفى صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك) (3)
* (وفي القرن السابع الهجري حين ضرب التفرق أطنابه بين المسلمين
__________
(1) "البداية والنهاية" (11/ 81) ..
(2) "معجم البلدان " لياقوت الحموي (8/ 381) .
(3) "شبهات حول العصر العباسي " للدكتور مؤيد فاضل ملا رشيد ص (83) ،
ونضيف: أليس من حقنا أن نصم آذان حكامنا اليوم بقول الشاعر المعاصر:
رب (وامعتصماه) انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتم
صادفت أسماعهم لكنها ... لم تصادف نخوة المعتصمَ
لا يُلام الذئب في عدوانه ... إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم(3/128)
حتى أضعفهم، واحتل الصليبيون قسمًا من بلادهم، وطمعوا في المزيد، واستعانوا ببعضهم على بعض، حتى أوشكوا أن يحتلوا مصر، فكر حاكم مصر الفاطمي آنذاك المدعو "العاضد لدين الله " أن يستعين بوالي الشام "نور الدين زنكي "، ولكنْ كيف وملك الشام لا يعترف بالخليفة الفاطمي في مصر، ولا يؤمن بشرعية خلافته، وحكمه إنما يدين بالاعتراف للخلافة العباسية في بغداد، وبينها وبين الفاطميين أشد الخصام؟
لقد وجد الحل بواسطة المرأة والغيرة على كرامتها، وهكذا أرسل العاضد إلى نور الدين زنكي رسالة استنجاد أرفقها بأبلغ نداء: أرفقها بخصلة من شعور نساء بيت خلافته في القاهرة، وكان أن بلغ التأثير مداه في قلب نور الدين، فسرت حمية الغيرة والنخوة قي جند الشام وأهله، فبذلوا- لإنقاذ مصر من الصليبيين- فلذات أكبادهم بقيادة أسد الدين شيركوه، ويوسف بن أيوب "صلاح الدين الأيوبي".
وهكذا صنعت المرأة بخَصلة شعرها حدثًا غيَّر مجرى التاريخ، وقلب الأحداث رأسا على عقب، إلى أن كان يوم حطين الذي غسل الأرض المقدسة من العار، وأرغم جحافل الصليبيين على حمل عصا الرحيل والتسيار) (1) .
إن حياة الغيرة التي يحياها المجتمع المسلم، والتي يسموا بها فوق النجوم رفعة، ويرتقي بها إلى أعلى المنازل فضلًا وطهرا، يقابلها في المجتمعات الكافرة قي الشرق والغرب حياة الدياثة (2) والخباثة، والقذارة والحقارة، واللوثة والنجاسة، والذلة والمهانة، التي قد تترفع عنها بعض الحيوانات حيث تغار فحولها على إناثها، ويقاتل الفحل دون أنثاه كل فحل يعرض لها حتى تصير إلى الغالب، وتأمل معي القصة التالية:
__________
(1) "ماذا عن المرأة؟ " ص (25- 26) ، وانظر: "البداية والنهاية" (12/ 255) .
(2) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (46- 47) .(3/129)
عن عمرو بن ميمون الأودي رضي الله عنه قال: "رأيت في الجاهلية قرْدة اجتمع عليها قرَدةٌ قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم" (1) .
فاستقباح الزنا، والغيرة على العرض فطر الله سبحانه عليه هذا الحيوان البهيم الذي لا عقل له!
والغيرة علي الحريم رمز الإسلام، ومن فقدها من أبناء البلاد الإسلامية، فإنما فقدها بعد اندماجه في أمم لا يغارون على نسائهم، ولا يرون أي بأس في مخاصرة زوجاتهم لرجال آخرين، في مرأى منهم ومشهد اهـ (2) .
لقد وقع الشقاق الواسع بيننا وبين الأوربيين في الغيرة، يقول الدكتور نور الدين عثر حفظه الله: (إن أوربا لم تقدس العفة في يوم من الأيام، بل لم تحافظ على الطهر العذري، وحسبنا من المقياس الخلقي في موقفهم من المرأة أن لا نجد في لغتهم كلمة تعبر عن كرامة المحافظة والاستقامة في السلوك "الغريزي" أعني كلمة "العرض" هذه الكلمة الجامعة لمعاني الفضيلة "الغريزية"، وحمية المؤمن في الغيرة عليه والدفاع عنه) اهـ (3) .
إن الأوربيين يستهجنون هذه المعاني، ولا يستسيغونها، بل هم ينددون
بهذه ا! لفطرة الإنسانية العالية، ويحاربونها بمختلف الأساليب، ويرمون من خلال قصصهم وأدبهم أن يهبطوا بالإنسان السامَي إلى مستوى الحيوانية السافلة.
قال رفاعة الطهطاوي في مجلة "روضة المدارس " التي كان يرأس تحريرها: (من محاسن الإسلام أن الله سبحانه وتعالى قد أودع في قلب الرجل الغيرة على نسائه، حتى جعل سبحانه وتعالى بدن الحرة عورة
__________
(1) رواه البخاري (7/ 191) في مناقب الأنصار: باب القسامة في الجاهلية.
(2) "الفتن" للبيانوني ص (213- 214) .
(3) "ماذا عن المرأة؟ "، للدكتور نور الدين عثر ص (22- 23) .(3/130)
بالنسبة للآخرين، فلا يحل لها كشفه عليه، ولا يحل له نظرها أيضًا، فلذلك كانت نساء الإسلام مصوناتٍ في بيوتهن، سيدات على غيرِهن.. ومن العادة أيضا العامة لسائر المسلمين، أنه لا يليق أن يسأل الإنسان عن حال زوجته، وإن كان هذا يُعَدُّ في بلاد الإفرنج من اللطافة والظرافة، لفقدهم الغيرة) اهـ (1) .
عود على بدء
إن الحجاب بمعناه الواسع يتناسب مع الغيرة المحمودة، وإن التبرج والاختلاط والخلوة المحرمة، وسائر أسباب الافتتان بالمرأة إنما تنتج عن عدم الغيرة وضعف الحمية.
ولو أن المرأة التزمت درجة الحجاب المثلي وقرَّت في بيتها، ولو أنها إذا احتاجت للخروج فخرجت، حجبت كل بدنها عن الأجانب، لما كان لهذه الفتن مكان في حياتنا.
ولو أننا تأملنا الواقع من حولنا لأدركنا أن بداية الفتتة إنما هي النظرة المحرمة على حد قول القائل:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
فلو أسدل الحجاب علي وجه المرأة أيضا إذن لأخمدت الفتنة من أصلها، (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) [الأحزاب: 25] ،.
ولقد سبق أن بَيَّنا أن من الغيرة المحمودة أنفةَ المحب، وحميته أن يشاركه
في محبوبه غيره، فإذا كان النظر المحرم إلى وجه المرأة وغيره هو "زنا العين " بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم نحتج إلى إثبات أن هذا النظر نوع من المشاركة فيما ينبغىِ أن يستأثر به الزوج، أو المحارم لأمن الفتنة من جانبهم.
__________
(1) نقله عنه الدكتور السيد أحمد فرج في "المؤامرة على المرأة المسلمة"، ص (141) .(3/131)
ومن هنا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون إليها" (1) .
وأخيرَا قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: وبالجملة، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء
في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب، مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشرية وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز ... بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك، ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عُجابُ (2)
* * *
__________
(1) "الزواجر" للهيثمي (2/ 46) .
(2) "أضواء البيان" (6/ 602) .(3/132)
الفصل الثاني
مثالب التبرج
التبرج لغة:
هو إبداء المرأة زينتها، وإظهار وجهها، ومحاسن جيدها للرجال، وكل
ما تستدعي به شهوتهم حتى التكسر والتبختر في مشيتها، ما لم يكن ذلك للزوج (1) .
التبرج شرعا:
هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة لمحاسنها، وقيل: هو التبختر والتكسر في المشية (2) .
وقيل: (هو كل زينة أو تجمل تقصد المرأة بإظهاره أن تحلو في أعين الأجانب، حتى القناع الذي تستتر به المرأة إن انتخب من الألوان البارقة، والشكل الجذاب لكي تلذ به أعين الناظرين، فهو من مظاهر تبرج الجاهلية أيضا) (3) .
وفيما يلي نوضح مثالب التبرج وخطره على الدين والدنيا:
أولا: التبرج معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم:
ومن يعص الله ورسوله فإنه لايضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئَا، قال
__________
(1) "لسان العرب" (3/ 33) ، و"القاموس المحيط" (1/ 187) ، "المعجم الوسيط " (1/ 46) ، ويأتي - بإذن الله - زيادة بيان لمعنى التبرج، فانظر ص (277) ، (324) .
(2) "تفسير الطبري" (22/ 4)
(3) "الحجاب" للمودودي رحمه الله ص (132)(3/133)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" فقالوا: يا رسول الله من يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" (1) .
واعلم- رحمك الله - أن كل آية أو حديث اشتملت، أو اشتمل على الزجر عن معصية الله عز وجل، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم يصلح أن يستدل به هنا، غير أننا- اختصارًا- نورد فيما يلي ما جاء في النهي عن معصية التبرج بخصوصها، فمن ذلك:
ما رواه أبو حريز مولى أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قال: "خطب الناسَ معاوية رضي الله عنه بحمص، فذكر في خطبته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ سبعة أشياء، وإني أبلغكم ذلك، وأنهاكم عنه، منهن النوح، والشعر، والتصاوير، والتبرج، وجلود السباع، والذهب، والحرير" (2) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم "كان يكره عشر خصال" وذكر منها: "والتبرج بالزينة لغير مَحَلها" (3) .
قال السيوطي رحمه الله: والتبرج بالزينة: أي إظهارهما للناس الأجانب، وهو المذموم، فأما الزوج فلا، وهو معنى قوله "لغير محلها" اهـ (4) .
ثانيا: التبرج كبيرة موبقة:
جاءت أميمة بنت رُقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعكِ على أن لا تُشركي بالله، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي وَلدَكِ، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية
__________
(1) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري (13/ 263) في الاعتصام: باب الاقتداء بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) رواه الإمام أحمد في "مسنده " (4/ 101) .
(3) رواه النسائي في "سننه" (8/ 141) .
(4) وكذا ذكره السندي في حاشيته - انظر: "سنن النسائي" (8/ 141- 142) .(3/134)
الأولى" (1) .
فتأمل كيف قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم التبرج الجاهلي بأكبر الكبائر المهلكة.
ثالثًا: التبرج يجلب اللعن والطرد من رحمة الله:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي نساءٌ كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخْت، العنوهن فإنهن ملعونات" (2) .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في آخِر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرجال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت وراءكم أمة من الأم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يَخدِمْنكم نساءُ الأمم قبلكم " (3) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 196) ، وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: "إسناده صحيح"، وذكر أن الحديث نقله الحافظ ابن كثير في "تفسيره " (8/ 327
- 328) عن المسند، وقال: "هذا إسناد صحيح"، ثم نسبه للترمذي والنسائي
وابن ماجة. اهـ من "تحقيق المسند" (11/ 15) حديث رقم (6850) .
(2) أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" ص (232) ، وصححه الألباني في "الحجاب" ص (56) ، ونقل السيوطي عن ابن عبد البر قوله (أراد صلى الله عليه وسلم النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف، ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة) اهـ من "تنوير الحوالك" (3/ 103) ، وانظر: "نيل
الأوطار" (2/ 131) .
(3) رواه الأمام أحمد في "مسنده" رقم (7083) ، قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: (إسناده صحيح) (12/ 36) ، والحاكم في (المستدرك) (4/ 436) ، وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ، وقال الهيثمي في "المجمع": (رواه
أحمد والطبراني في الثلاثة، ورجال أحمد رجال الصحيح) اهـ (5/ 137)
وقوله "كأسنمة البخت" هو جمع "سنام" وهو أعلى ظهر البعير، و"البخت" بضم الباء وسكون الخاء: جمال طوال الأعناق، والعِجاف: جمع عجفاء، =(3/135)
رابعًا: التبرج من صفات أهل النار:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات
عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البُخْت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" (1) .
وعن عمارة بن خزيمة قال: بينما نحن مع عمرو بن العاص رضي الله عنه في حج
أو عمرة، فإذا نحن بامرأة عليها حبائر (2) لها، وخواتيم، وقد بسطت يدها على الهودج، فقال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشّعْب إذ قال: "انظروا: هل ترون شيئًا"؟، فقلنا: نرى غربانَا فيها غراب أعصمَ (3) ؛ أحمرُ
__________
= وهي المهزولة، وانظر: "الفتح الرباني" (13/ 302) .
(1) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2128) في الجنة: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء.
قال النووي رحمه الله: (قيل: معنى كاسيات أي من نعمة الله عاريات من شكرها، وقيل: معناه تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه إظهارًا لجمالها ونحوه، وقيل: تلبس ثوبًا رقيقا يصف لون بدنها وهو المختار، ومعنى مائلات: عن طاعة
الله وما يلزمهن حفظه، مميلات أي: يعَلِّمْنَ غيرهن فعلهن المذموم، وقيل: يمشين متبخرات مميلات لأكتافهن، وقيل: مائلات يمتشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا، ومميلات: يمشطن غيرهن تلك المشطة، ومعنى رؤوسهن كأسنمة البخت أي: يكبرنها، ويعظمنها بلف عمامة أو- نحوها، والله أعلم) اهـ من "المجموع شرح المهذب " (4/ 307) ، وانظر: (القسم الأول) ص (171) .
(2) حبائر ثياب جديدهّ، وثوب حبير أي جديد – انظر: (الصحاح) للجوهري (2/620) .
(3) الأعصم: هو الأبيض الجناحين، وقيل الأبيض الرجلين، وقيل: هو أحمر المنقار والرجلين، انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 249) .
وفي الحديث كناية عن قلة من يدخل الجنة من النساء، لأن هذا الوصف في الغربان قليل، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الكسوف: "رأيت النار" ورأيت أكثر أهلها النساء متفق عليه، وفي الصحيحين أيضا من حديث أسامة بن زيد رضي =(3/136)
المنقارِ والرجلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من النساءِ إلا منْ كان منهن مثل هذا الغراب في الغِربان " (1) .
خامسًا: التبرج سواد وظلمة يوم القيامة:
قال الإمام الترمذي رحمه الله: حدثنا علي بن خَشْرم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن ميمونة بنت سعد- وكانت خادمًا للنبي صلى الله عليه وسلم - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الرافلة في الزينة في غيرِ أهلها، كَمَثَل ظُلمَةٍ يوم القيامة، لا نُورَ لها" (2) .
قوله: الرافلة: قال في "النهاية": الرافلة: هي التي تَرْفُلُ فِى ثوبها، أي تتبختر، والرفل: الذيل، ورفل إزاره: إذا أسبله، وتبختر فيه اهـ.
__________
= الله عنهما: "وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء"، وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أقل ساكني الجنة النساء"، وانظر: "التذكرة" للقرطبي (1/ 369) ، و"الجنة والنار" للأشقر ص (83- 84) .
(1) رواه الأمام أحمد (4/197، 205) ، والحاكم (4/602) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وزاد الألباني في تخريجه: أبا يعلى، وابن عساكر، وابن قتيبة في " إصلاح الغلط؟ وقال: (وهذا سند صحيح، وقول الحاكم:
"صحيح على شرط مسلم " خطأ، وافقه الذهبي عليه، فإن أبا جعفر اسمه عمير بن يزيد لم يخرج مسلم له شيئا) اهـ. من الصحيحة" رقم (1850) (4/446) ، وقال التويجري حفظه الله: "والظاهر أن عمرو بن العاص رضي الله عنه إنما حَدَّث به قصد الإنكار على المرأة المبدية لزينتها بين الرجال الأجانب" اهـ من "الصارم المشهور" ص (14) .
(2) رواه في "سننه" رقم (1167) ، كتاب الرضاع: باب ما جاء في كراهية خروج النساء في الزينة، وقال: (هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عُبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه، وهو صدوق، وقد رواه بعضهم عن موسى بن عبيدة، ولم يرفعه) اهـ (3/ 470) ، وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (1800)(3/137)
وقوله: "في الزينة": أي في ثياب الزينة، قوله: "في غير أهلها" أي بين من يحرم نظره إليها، قوله: "كمثل ظلمة يوم القيامة" أي تكون يوم القيامة كأنها ظلمة، قوله: "لا نور لها" الضمير للمرأة، قال الديلمي: يريد المتبرجة بالزينة لغير زوجها اهـ (1) .
وقال في الفردوس: والرَّفْلُ التمايل في المشي مع جَر ذيل، يريد أنها تأتي يوم القيامة سوداء مظلمة كأنها متجسدة من ظلمة اهـ (2) .
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ذكره الترمذي، وضعفه، ولكن المعنى صحيح؛ فإن اللذة في المعصية عذاب، والراحة نصب، والشبَعَ جوع، والبركة مَحَق، والنور ظلمة، والطيب نتن، وعكسه الطاعات، فخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ودم الشهيد اللون لون دم، والعَرْفُ عرف مِسْك اهـ (3) .
سادسَا: التبرج نفاق:
فعن أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير نسائكم الوَدُودُ الوَلودُ، المواتية، المواسية، إذا اتقَينَ الله، وَشر نسائكم المتَبَرجاتُ المتُخَيلاتُ، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مِثلُ الغرابِ الأعصم " (4) .
سابعًا: التبرج فاحشة:
فإن المرأة عورة، وكشف العورة فاحشة ومقت، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)) [الأعراف: 28] ،.
__________
(1) (تحفة الأحوذي) (4/ 329) .
(2) نقله المناوي في "الفيض" (5/507) .
(3) "عارضة الأحوذي" (5/ 113- 114) .
(4) أخرجه البيهقي في "السنن" (7/ 82) ، ورواه عن ابن مسعود رضي الله عنه أبو نعيم في الحلية (8/ 376) ، وانظر "السلسلة الصحيحة" رقم (1849) ، (632) .(3/138)
والشيطان هو الذي يأمر بهذه الفاحشة: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) [البقرة: 268] ،
والمتبرجة جرثومة خبيثة ضارة تنشر الفاحشة في المجتمع الإسلامي، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)) [النور: 19]
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية" (1) .
ثامنًا: التبرج تهتك وفضيحة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل" (2) .
ومثل ذلك ما ثبت عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، فمات عاصيًا، وأمةٌ أو عبد آبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها، وقد كفاها مؤنة الدنيا،
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) رواه الإمام أحمد (6/ 199، 267) ، والحاكم في "المستدرك " (4/ 288) ، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وابن ماجه (2/409) رقم (3812) .
قال المناوي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "وضعت ثيابها في غير بيت زوجها) كناية عن تكشفها للأجانب، وعدم تسترها منهم "فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل" لأنه تعالى أنزل لباسا ليوارين به سواءتهن وهو لباس التقوى، وإذا لم يتقين الله، وكشفن سواءتهن، هتكن الستر بينهن وبين الله تعالى، وكما هتكت نفسها ولم تصن وجهها، وخانت زوجها يهتك الله سترها، والجزاء من جنس العمل، واهتك خرق الستر عما وراءه، والهتيكة الفضيحة اهـ.(3/139)
فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم " (1) .
تاسعَا: التبرج سنة إبليسية:
المعركة مع الشيطان معركة جدية، وأصيلة، ومستمرة، وضارية، لأنه عدو عنيد يصر على ملاحقة الإنسان في كل حال، وعلى إتيانه من كل صوب وجهة، كما وصفه الله تعالى في قوله: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)) [الأعراف: 16، 17] ، ولا عاصم لبني آدم من الشيطان إلا التقوى والإيمان والذكر، والاستعلاء على الشهوات، وإخضاع الهوى لهدى الله تبارك وتعالى.
ومن استعراض ما حدث لآدم عليه السلام مع عدوه إبليس نرى أن
الحياء من التعري وانكشاف السوءة شيء مركوز؟ في طبع الإنسان وفطرته إذ يقول الله سبحانه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 20] ،. وقال عز وجل: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 22] ،.
وقال عز من قائل: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [طه: 121] .
لقد نسي آدم، وأخطأ، وتاب، وأستغفر، فقبل الله توبته، وغفر له، وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى، ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين
__________
(1) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (590) ، وابن حبان (50) ، والحاكم (1/ 19) ، والإمام أحمد (6/19) ، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (89) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وفيه أن هذه المرأة الخائنة احتاجت إلى غياب زوجها حتى تتبرج، فما عسانا نقول في نساء اليوم اللائي لا يحتجن إلى ذلك، بل يرتكبن أقبح أنواع التبرج وعلى مرأى ومسمع، بل وإقرار ورضَا من أزواجهن؟!(3/140)
ابن آدم في صراعه الطويل المدى مع الشيطان الذي يأتيه من مواطن! الضعف فيه، فيغويه، ويمنيه، ويوسوس له حتى يستجيب فيقع في المحظور.
إن قصة آدم وحواء مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله على كشف السوءات، وهتك الأستار، وإشاعة الفاحشة، وأن هذا هدف مقصود له.
ومن ثم حذرنا الله عز وجل عن هذه الفتنة خاصة، فقال. جل وعلا: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)) [الأعراف: 27] ،.
ومن هنا فإن إبليس هو رائد الدعوة إلى كشف العورات، وهو مؤسس الدعوة إلى التبرج بدرجاته المتفاوتة، بل هو الزعيم الأول لشياطين الإنس والجن الداعين إلى (تحرير) المرأة عن قيد الستر والصيانة والعفاف.
ومن ثم قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)) [فاطر: 6] ،.
عاشرًا: التبرج من سنن اليهود والنصارى:
(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)) [المائدة: 64] ،.
لقد اتفق مخططوا الدولة الصهْيُونية العالمية التي تريد أن تسيطر على
العالم في (بروتوكولات حكماء صهيون) على أن من السبل التي يجب اتباعها لإخضاع من يسمونهم (الجوييم) أو (الأمميين) - حربَ الأخلاق، وتقويض نظام الأسرة بشتى الوسائل الممكنة، ووجدوا أن الأسباب المدمرة للأسرة تتركز في كل ألوان الإغراء بالفواحش، وإثارة الشهوات. وهكذا غَدَوْا يصنعون: عن طريق الأفلام الماجنة التي توزعها في العالم (دور صهيونية) ، وعن طريق الأزياء الخليعة التي تنشرها دور الأزياء(3/141)
الصهيونية؟ وكذا المجلات والقصص ونحوها
ولليهود باع كبير في هذا المجال، عرفوا به في كل عصر ومصر (1)
وها هو ذا ناصحنا الأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرنا أولا من فتنة النساء (2)
في حديث أسامة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" (2)
ثم ها هو يخص فتنة النساء بالتحذير، ويبين لنا أنها كانت أول ما فتن به
بنو إسرائيل، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أولَ فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (3) .
وقد شرع الله لهن الستر، وأمَرَهُنَّ بالصيانة، فقلن (سمعنا وعصينا) ،
كما كانت عادة الأمة المغضوب عليها.
ويشرح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من فتنة نساء بني إسرائيل وإلحاحهن
على التحيل لبث هذه الفتنة فيما روراه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب (4) ، وخاتما من ذهب، مُغَلفا بطين، ثم حَشَته مِسكا، وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين؟ فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا" (5)
وَيُروَى عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في
__________
(1) انظر: "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (29) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) وذلك لتبدو طويلة، تماما كما يفعل بعض النساء اليوم من لبس ما بـ (الكعب العالي) وللغرض نفسه.
(5) تقدم تخريجه.(3/142)
المسجد، إذ دخلت امرأة مُزَيَّنة، ترفل (1) في زينة لها في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة، والتبختر في المسجد، فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبست نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد" (2) . وقد حكت كتبهم أن الله سبحانه وتعالى عاقب بنات صهيون على تبرجهن، ففي الأصحاح الثالث من سِفْر أشْعِيا: (إن الله سيعاقب بنات صهيون علي تبرجهن والمباهات برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهِلةِ والحِلَقِ والأساور والبراقع والعصائب وفي سفر أشعيا: (وقضى الله على بنات صهيون إذ يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق، غامزات لعيونهن، وخاطرات في سيرهن، يخشخشن بأرجلهن أن يعري عورتهن، وينزع في ذلك اليوم زينة الخلاخيل، والأساور، والبراقع) .
وقد كان نساء العجم من اليهود أو النصارى الذين يعيشون مع المسلمين يحرصن على هذا التبرج، قال سعيد بن أبي الحسن للحسن البصري أخيه: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، قال: اصرف بصرك عنهن (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) الآية (3)
ضعف الأمة مرض التبرج أحد أعراضه
وقد ظلت فتنة التبرج تطل برأسها حينًا بعد حين خلال أحقاب التاريخ الإسلامي، ولكنها ما كانت تستشري إلا في حالة ضعف الأمة
__________
(1) ترفل: من رفل في ثيابه، إذا أطالها وجرها متبخترا.
(2) رواه ابن ماجه في الفتن: باب فتنة النساء، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد ضعيف، داود بن مدرك لا يُعرف، وموسى بن عبيدة ضعيف اهـ (3/241) .
(3) "فتح الباري " (11/ 9) .(3/143)
وانهزامها، مثال ذلك: الغزو العسكري الكافر وأقرب مثال أمامنا الحملة الفرنسية (1) ، ومثال آخر: الغزو الفكري من الداخل على يد أعداء الأمة المسلمة من أمثال "أتاتورك"، و"عبد الناصر"، و"السادات "، وسائر الطواغيت من الساسة والمفكرين (2) .
ولا يزال أهل الكتاب خاصة اليهود يحرضون المرأة على التهتك والتبرج، فيهود الدونمة أول من حاول نزع الحجاب قي الولايات الإسلامية غير العربية، (من ذلك ما حدث في مدينة "سالونيك " مقر تجمعهم في عام 1914م من تنظيمهم لحفل ليلي، وقد استدعوا بعض النساء اليهوديات يحملن أسماء إسلامية ليقمن بتمزيق الحجاب على خشبة المسرح أمام الناس، ولكن الحكومة منعت هذا الحفل لئلا تثير عواطف المسلمين) (3) .
وقد وقفت الأصابع الصليبية والصّهْيُوْنِيَّة تحرك عملاءها من وراء ستار، وأحيانًا عيانًا بيانًا: ْ-
* فهذان القسيسان اللاهوتيان (دنلوب) و (كرومر) يناهضان الإسلام مناهضة متواصلة تحت ستار الاحتلال الإنكليزي لمصر.
* وهذا (مرقص فهمي) القبطي يدعو صراحة إلى القضاء على الحجاب
الإسلامي.
* وهذا (الدوق داركير) يهاجم الحجاب.
* وهذه الأميرة (نازلي) ترعى دعوة السفور، وتبثها في المجتمع المصري
من خلال صالونها المشهور.
* وهذا (جرجي نقولا باز) يؤلف كتابين تأييدًا لدعوة السفور التي
__________
(1) راجع "معركه الحجاب والسفور" ص (89) .
(2) وقد أشبعنا الكلام في تاريخ هذه المؤامرات في "السابق".
(3) "التبرج والاحتساب عليه" لعبيد بن عبد العزيز ص (44) .(3/144)
تبناها (قاسم أمين) .
* وهذا (لويس عوض) يحرض على التبرج والتحرر من قيود الدين الإسلامي، إلى آخر تلك القائمة السوداء في كل عصر ومصر: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)) [التوبة: 32] ،.
ومع تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشبه بالكفار، وسلوك سبلهم خاصة في مجال المرأة إلا أن أغلب المسلمين خالفوا هذا التحذير، وتحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سَنن مَن كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَب لتبعتموهم "، قيل: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ (1) .
فما أشبه هؤلاء اللاتي أطعن اليهود والنصارى، وَعَصَيْنَ الله ورسوله بهؤلاء اليهود المغضوب عليهم الذين قابلوا أمر الله بقولهم: (سمعنا وعصينا) ، وما أبعدهن عن سبيل المؤمنات اللاتي قلن حين سمعنِ أمر الله: (سمعنا وأطعنا) ، قال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)) [النساء: 115] .
حادي عشر التبرج جاهلية منتنة:
قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33] .
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية بأنها منتنة أي خبيثة، وأمرنا بنبذها، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف: 157] ،.
__________
(1) تقدم تخريجه في "معركة الحجاب والسفور" ط. الثالثة ص (14) .(3/145)
وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل من يدعو بدعوى الجاهلية، فقال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية، (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطَّلِبُ دمِ امرئ بغير حق ليهريق دمه " (2) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه اهـ.
ودعوي الجاهلية شقيقة تبرج الجاهلية، كلاهما منتن خبيث، أبغضه الله تعالى، وحرَمه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الأولى: "ما بال دعوى الجاهلية؟ دَعوها فإنها منتنة" (3) ، فوجب أن نقول في الأخرى: "دعوها فإنها منتنة"، بل ضعوها حيث وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قال؟ "ألا إنَّ كُلَّ شيء من أمرِ الجاهلية تحت قَدَمي موضوع " (4) .
فلا يجوز لأي مسلمة بحال أن ترفع ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تعَظِّمَ
__________
(1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه البخاري (3/ 198) في الجنائز: باب ليس منا من ضرب الخدود، ومسلم رقم (103) في الإيمان: باب تحريم ضرب الخدود، والترمذي رقم (999) في الجنائز: باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود، والنسائي (4/ 20) في الجنائز: باب ضرب الخدود.
(2) رواه البخاري في "الديات" باب، من طلب دم امرئ بغير حق (12/ 219) ط. السلفية - حديث رقم (6882) .
(3) قطعة من حديث رواه عن جابر رضي الله عنه البخاري (6/ 631) في المناقب: باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، وفي تفسير سورة المنافقون (8/ 516-1517) ، ومسلم رقم (2584) في البر والصلة: باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، والترمذي رقم (2312) في تفسير سورة المنافقون.
(4) رواه أبو داود في المناسك: باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (1905) ، والترمذي في التفسير، وابن ماجة في المناسك، والدارمي في المناسك، والإمام أحمد (2/ 103) (5/ 73) .(3/146)
ما حَقره من أمر الجاهلية سواء في ذلك: ربا الجاهلية أو تبرج الجاهلية، أو دعوى الجاهلية، أو حكم الجاهلية، أو ظن الجاهلية، أو حمية الجاهلية، أو سنة الجاهلية.
ثانِى عشر: التبرج انتكاس، وتخلف، وانحطاط:
من استعراض ما حدث لآدم عليه السلام مع عدوه إبليس نرى أن الحياء من التعري وانكشاف السوءة شيء مركوز في طبع الإنسان وفطرته، إذ يقول الله سبحانه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 20] .
ويقول عز وجل: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف: 22] .
ويقول سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 27] ،.
وكل هذه الآيات توحي بأهمية هذه المسألة وعمقها في الفطرة البشرية، فاللباس، وستر العورة ة زينة للإنسان، وستر لعوراته الجسدية، كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية.
والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوءاتهما الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها، والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس، وتعرية النفس من التقوى ومن الحياء من الله، ثم من الناس.
والذين يطلقون ألسنتهم، وأقلامهم، وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة - في شتى الصور والأساليب الخبيثة - هم الذين يريدون سلب الإنسان خصائص فطرته، وخصائص إنسانيته، التي بها صار إنسانًا متميزَا عن الحيوان (1) .
قال تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
__________
(1) "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية" ص (16- 17) ،(3/147)
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)) [الإسراء: 70] ،.
إن العري فطرة حيوانية، ولم تزل الحيوانات في انكشاف منذ خلقت، لم يتغير حالها يومًا، بعكس الإنسان الذي يصح أن نَصِفَهُ بأنه (حيوان مستور) . وهذه الفطرة الحيوانية لا يميل الإنسان إليها إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان،
إن رؤية العُرْي والتكشف جمالًا هو انتكاس في الذوق البشري قطعَا، ومؤشر واضح يبين انتشار التخلف في المجتمع البشري.
وحتى هؤلاء الذين يتشدقون بالتقدم المزعوم، يقولون:
إن الإنسان بدأ حياته على طريقة الحيوان عاريَا من كل ستر إلا شعره،
ثم رأى أن يستر جسمه بأوراق الشجر، ثم بجلود الحيوانات، ثم جعل يترقى في مدارج الحضارة حتى اكتشف الإبرة، وابتدع وسيلة الحياكة، فاستكمل ستر جسمه.
وهكذا كانت نزعة التستر وليدة التقدم المدني، فكل زيادة في هذا التقدم كانت مؤدية إلى زيادة في توكيد الحشمة، وكل خلل في كمال الستر عنوان التخلف والرجعية.
وآية ذلك أن المتخلفين في أواسط أفريقيا عراة، حين تشرق حضارة الإسلام في هذه المناطق، يكون أول مظاهر هذه الحضارة اكتساء العراة، وانتشالهم من وهدة التخلف، والتسامي بهم إلى مستوى (الحضارة) بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها. قال الشيخ (مصطفى صبري) رحمه الله: لا خلاف في أن السفور حالة بداوة وبداية في الإنسان، والاحتجاب طرأ عليه بعد تكامله بوازع ديني أو خلقي يَزَعُهُ عن الفوضى في المناسبات الجنسية الطبيعية، ويسد ذرائعها، ويكون حاجزًا بين الذكور والإناث....
ثم إن الاحتجاب كما يكون تقييدًا للفوضى في المناسبات الجنسية(3/148)
الطبيعية، ويضاد الطبيعة من هذه الحيثية، فهو يتناسب مع الغيرة التي جُبل عليها الإنسان، ويوافق الطبيعة من ناحيته الأخرى، إلا أن الغيرة غريزة تستمد قوتها من الروح، والتحرر عن القيود في المناسبة الجنسية غريزة تستمد قوتها من الشهوة الجسمانية، فهذه تغري بالسفور، وتلك تبعث على الاحتجاب، وبين هاتين الغريزتين تجافِ، وتحارب يجريان في داخل الإنسان اهـ (1) .
ثالث عشر: التبرج باب شر مستطير:
وذلك لأن من يتأمل نصوص الشرع، وعِبَر التاريخ يتيقن مفاسد التبرج وأضراره على الدين والدنيا، لا سيما إذا إنضم إليه الاختلاط المستهتر. فمن هذه العواقب الوخيمة: تسابق المتبرجات في مجال الزينة المحرمة لأجل لفت الأنظار إليهن، مما يجعل المرأة كالسلعة المهينة الحقيرة المعروضة لكل من شاء أن ينظر إليها
ومنها: الإعراض عن الزواج، وشيوع الفواحش، وسيطرة الشهوات. ومنها: انعدام الغيرة، واضمحلال الحياء.
ومنها كثرة الجرائم.
ومنها: فساد أخلاق الرجال خاصة الشباب، خاصة المراهقين، ودفعهم إلى الفواحش المحرمة بأنواعها.
ومنها: تحطيم الروابط الأسرية، وانعدام الثقة بين أفرادها، وتفشي الطلاق.
ومنها: المتاجرة بالمرأة، كوسيلة دعاية، أو ترفيه في مجالات التجارة وغيرها.
ومنها: الإساءة إلى المرأة نفسها، والإعلان عن سوء نيتها، وخبث طويتها، مما يعرضها لأذية الأشرار والسفهاء.
__________
(1) "قولي في المرأة، للشيخ مصطفى صبري رحمه الله ص (24- 25) .(3/149)
ومنها: انتشار الأمراض: قال صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط؛ حتى يعلنوا بها؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوْا" (1) .
ومنها: تسهيل معصية الزنا بالعين، قال صلى الله عليه وسلم: "العينان زناهما النظر" (2) ، وتعسير طاعة غض البصر التي أُمِرنا بها إرضاء لله سبحانه. ومنها: استحقاق نزول العقوبات العامة التي هي قطعًا أخطر عاقبة من القنابل الذرية، والهزات الأرضية، قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)) [الإسراء: 16] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب " (3) .
* * *
__________
(1) جزء من حديث طويل رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما ابن ماجة (4019) ، وأبو نعيم في (الحلية) (8/ 333- 334) ، والحاكم (4/540) ، وقال صحيح
الإسناد، ووافقه الذهبي.
(2) تقدم تخريجه.
(3) رواه أبو داود في الملاحم، والترمذي في الفتن، وابن ماجة فيه أيضًا، والإمام أحمد (1/ 5، 7) .(3/150)
الباب الرابع
الفصل الأول:
شروط الحجاب الشرعي
الفصل الثاني:
أين نحن من الحجاب الشرعي(3/151)
الفصل الأول
شروط الحجاب الشرعي
إذا تتبعت الآيات القرآنية، والسنة المحمدية، والآثار السلفية في هذا الموضوع، تبين لك أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن لا تُظْهرَ شيئا من زينتها، وأن تستر جميع بدنها بأي نوع أو زي من اللباس، ما اجتمعت (1) فيه الشروط الآتية.
الأول: استيعاب جميع بدن المرأة (على الراجح) .
الثاني: أن لا يكون زينة في نفسه.
الثالث: أن يكون صفيقًا لا يشف.
الرابع: أن يكون فضفاضا غير ضيق.
الخامس: أن لا يكون مبخرًا مطيبا.
السادس: أن لا يشبه لباس الرجل.
السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات.
الثامن: أن لا يكون لباس شهرة (2) .
__________
(1) فإذا تخلف منها شرط واحد لم يُعَدَّ الحجابُ شرعيا، غير أنه يراعى الخلاف الفقهي في الشرط الأول فقط، وأما سائر الشروط فقد اختصرتها من كلام العلامة الألباني في "حجاب المرأة المسلمة"، وكأنه أول من ضبط شروط الحجاب هذا الضبط، فجزاه الله خيرَا، ورحمه رحمة واسعة.
(2) الشروط من السادس إلى الثامن تحرم على المرأة مطلقَا سواء داخل بيتها أو خارجه.(3/153)
الشرط الأول
استيعاب جميع البدن
وهو موضوع البحث في هذا القسم، وسوف نفصل أدلته من القرآن والسنة والاعتبار في الباب الخامس إن شاء الله، وكذا سنعرض لمناقشة الشبهات التي استدل بها المخالفون والرد عليها في الباب السادس إن شاء الله تعالى.
الشرط الثاني
ألا يكون زينة في نفسه
ومن أدلة ذلك:
قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) الآية [النور: 31] ،، لأنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها، ويشهد لذلك قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33] ،.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجها، قد كفاها مؤونة الدنيا، فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم " (1) .
و (التبرج: هو أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تَستدعي به شهوة الرجل) (2) .
قال العلامة (الألباني) : (والمقصود من الأمر بالجلباب إئما هو ستر زينة
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) راجع ص (133) .(3/154)
المرأة، فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة، وهذا كما ترى بَيِّن لا يخفى، ولذلك قال الإمام (الذهبي) في كتاب (الكبائر) (1) : (ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب، وتطييبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأقبية القصار، مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة، ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء، قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلعت على النار، فرأيت أكثر أهلها النساء") اهـ (2) .
قلت: ولقد بلغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أنه قرنه بالشرك والزنى والسرقة وغيرها من المحرمات، وذلك حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء على أن لا يفعلن ذلك، فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: جاءت أمَيمة بنت رُقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى" (3) .
__________
(1) الكبائر ص (102) .
(2) انظر ص (136) .
(3) تقدم تخريجه، وقد قال الآلوسي في "روح المعاني ": (ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن ويستترن به إذا خرجن من بيوتهن، ووهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان، وفيه من النقوش الذهبية والفضية ما يبهر العيون، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة، وقد عمت البلوى بذلك.
ومثله ما عمت به البلوى أيضًا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن، وعدم مبالاة بعولتهن بذلك، وكثيرا ما يأمرونهن به، وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أيامًا إلى أن يعطوها شيئَا من الحلي ونحوه فتبدولهم، =(3/155)
الشرط الثالث
أن يكون صفيقا فلا يشف
أما الصفيق فلأن الستر لا يتحقق إلا به، وأما الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، وعلى رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات " (1) ، زاد في حديث آخر: "لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (2) .
قال ابن عبد البر:، أراد صلى الله عليه وسلم النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة) (3) .
وعن دحية الكلبي رضي الله عنه قال؟ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بَقَبَاطِيّ (4) ، فأعطاني قُبْطِيَّة، وقال: "اصْدَعْها صَدْعين (5) ، فاقطع أحدهما قميصا، وأعط الآخر امرأتك تختمر به"، فلما أدبر قال: "وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبا لا
__________
= ولا تحتجب منهم بعد، وكل ذلك مما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) اهـ (6/ 56) . انظر (حجاب المرأة المسلمة) للألباني ص (55- 56) .
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر: "تنوير الحوالك " (3/ 103) .
(4) القباطي: بفتح القاف، وكسر الطاء المهملة، وتحتية مشددة؛ وجمع قبطية، وهي ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، كأنه منسوب إلى القبط، وهم أهل مصر، وضم القاف من تغيير النسب، وهذا في الثياب، فأما في الناس فقِبطي بالكسر، انظر: (النهاية) (4/ 6) .
(5) أي: نصفين، وانظر: (معالم السنن " للخطابي (6/62) .(3/156)
يَصِفُها" (1) .
وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن
أبي بكر دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها وقالت: " أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟! ثم دعت بخمار فكستها" (2)
وعن هشام بن عروة: أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوةٍ من ثياب مروية وقوهية (3) رقاق عتاق بعدما كف بصرها، قال فلمستها بيدها ثم قالت: "أف، ردوا عليه كسوته "، قال: فشق ذلك عليه"، وقال: "يا أمة إنه لا يشف "، قالت: "إنها إن لم تشف فإنها تصف" (4) .
وعن عبد الله بن أبي سلمة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الناس القباطي، ثم قال: "لا تدرعها نساؤكم"، فقال رجل: "يا أمير المؤمنين قد ألبستها امرأتي، فأقبلت في البيت، وأدبرت، فلم أره يشف "، فقال عمر: "إن لم يشف فإنه يصف" (5) .
__________
(1) رواه أبو داود (6/ 64) ، حديث رقم (4116) في اللباس: باب في لبس القباطي للنساء، والبيهقي في "السنن " (2/ 234) ، وقال المنذري: في إسناده عبد الله بن لهيعة، ولا يحتج بحديثه، وقد تابع ابن لهيعة على روايته هذه ابو العباس يحيى بن أيوب المصري، وفيه مقال، وقد احتج به مسلم، واستشهد به البخاري اهـ نقلاً
من "عون المعبود" (11/175)
(2) أخرجه ابن سعد (8/ 49- 50) ، ومالك (3/ 103) بنحوه، والبيهقي (2/ 235) ومداره على أم علقمة مرجانة، ذكرها ابن حبان في (الثقات) (1/ 236) ،
وقال الذهبي: (لا تعرف) ، قال الألباني: فمثلها لا يحتج بها، وإنما يستشهد بروايتها. اهـ من (الحجاب) ص (57) .
(3) مروية: ثياب مشهورة بالعراق منسوبة إلى "مرو" قرية بالكوفة، و"قوهية" من نسيج "قوهستان" ناحية بخراسان كما في "الأنساب للسمعاني " (10/268) .
(4) أخرجه ابن سعد (8/ 184) ، وصحح الألباني إسناده إلي المنذر.
(5) رواه البيهقي في "السنن" (2/ 234- 235) ، وابن أبي شيبة في "المصنف" =(3/157)
قال الألباني رحمه الله: وفي هذا الأثر والذي قبله إشارة إلى أن كون الثوب يشف أو يصف كان من المقرر عندهم أنه لا يجوز، وأن الذي يشف شر من الذي يصف، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "إنما الخمار ما وارى البشرة والشعر" (1) ، وقالت شميسة: "دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها ثياب من هذه السَّيد (2) الصفاق (3) من درع وخمار ونقبة (4) قد لونت بشيء من عصفر" (5) .
من أجل ذلك كله قال العلماء: (ويحب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة. . . من ثوب صفيق أو جلد أو رق (6) ، فإن ستر بما يظهر فيه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز فيه لأن الستر لا يحصل بذلك) (7) .
وقد عقد ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" بابَا خاصُّا في لبس المرأة ثوبًا رقيقا يصف بشرتها وأنه من الكبائر، ثم استدل بحديث صنفان من أهل
__________
= (195/8) بنحوه، ومعنى قوله "إن لم يشف فإنه يصف": أي: إن لم ير ما وراءه، فإنه يصف خلفها لرقته اهـ من "الفائق في غريب الحديث " (3/153) ، وقال مالك رحمه الله: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى النساء أنه يلبسن القباطي، قال: وإن كانت لا تشف، فإنها تصف، قال مالك: معنى تصف: أي تلصق بالجلد) اهـ من "المنتقى" للباجي (7/ 224) .
(1) رواه البيهقي معلقًا، فقال: روينا عن عائشة أنها سئلت عن الخمار، فقالت، فذكره (2/ 235) .
(2) كذا بالأصل، ولعلها: "سيراء" انظر: "نيل الأوطار" (2/95) .
(3) ثوب صفيق: متين بَين الصفاقة، وثوب صفيق وسفيق: جيد النسيج، كذا في (لسان العرب) وفي (القاموس) : (وثوب صفيق ضد السخيف) (3/ 262) ، والسخيف: هو القليل الغزل.
(4) ثوب كالإزار يُشد كما تشد السراويل، كذا في (القاموس) (1/138) .
(5) أخرجه ابن سعد (8/48) ، وصحح الألباني إسناده إلى شميسة. اهـ من (الحجاب) ص (58) .
(6) بفتح الراء أو كسرها: جلد رقيق يُكتب فيه،
(7) انظر (المهذب) (3/ 176) بشرح المجموع طبعة الشيخ زكريا على يوسف رحمه الله.(3/158)
النار لم أرهما" الحديث، ثم قال: " وذكر هذا من الكبائر ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد، لم أر من صرح بذلك، إلا أنه معلوم بالأولى مما مر في تشبههن بالرجال " اهـ (1) .
الشرط الرابع
أن يكون فضفاضا غير ضيق فيصف شيئا من جسمها
وذلك لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع! وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة، فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لا يخفى، فوجب أن يكون واسعا.
وقد قال أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: "مالك لا تلبس القبطية"؟ قلت: "كسوتها امرأتي "، فقال: "مُرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها" (2) .
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية الثخينة كلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب -؛ ليمنع بها وصف بدنها (3) ، والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول.
__________
(1) "الزواجر" (1/ 156- 157) ، وانظر الأحاديث في ذلك ص (157) .
(2) أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة" (1/ 441) ، والإمام أحمد في "المسند" (5/205) ، والطبراني في "الكبير" (1/160) ، والبيهقي (2/ 234) ،
وابن سعد في "الطبقات" (4/64- 65) ، ونقل في (الفتح الرباني) عن الهيثمي قوله وفيه عبد الله بن عقيل وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات" اهـ (17/301)
(3) وذلك لأن الثوب - وإن كان ثخينا - قد يصف الجسم إذا كان من طبيعته الليونة والانثناء على الجسد، كبعض الثياب الحريرية والجوخ المعروفة في هذا العصر.(3/159)
قال العلامة الألباني: (ومما يحسن إيراده هنا استئناسا ما روي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "يا أسماء إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء أن يُطرح على المرأة الثوب فيصفها"، قالت أسماء: "يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريكِ. شيئًا رأيتُه بالحبشة"؟ فدعت بجرائد رطبة، فحتتها، ثم طرحت عليه ثوبًا، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تُعْرَفُ به المرأة عن الرجل فإذا مت أنا فاغسليني أنتِ وعلي، ولا يدخل عَلَيَّ أحدٌ"، فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهم (1) .
قال العلامة الألباني: فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت
أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح، فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة، ثم ليستغفرن الله تعالى، "وليتبن إليه، وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياءُ والإيمان قُرِنا جميعا، فإذا رُفِعَ-أحدُهما رُفع الآخر" (2)) اهـ (3) .
الشرط الخامس
أن لا يكون مبخرا مطيبا
وذلك لأحاديث كثيرة تنهى النساء عن التطيب إذا خرجن من بيوتهن؟ منها:
ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" (4) .
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) (حجاب المرأة المسلمة) ص (63) .
(4) تقدم تخريجه، وانظر شرحه قي: "فيض القدير" (3/147) .(3/160)
وعن زينب الثقفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبا" (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما أمرأة أصابت بخورا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" (2) .
وعن موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن امرأة مرت به تعصف ريحها، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبتِ؟ قال!: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل" (3) .
قال الألباني رحمه الله: ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكرنا العمومُ الذي فيها، فإن الاستعطار والتطيب كما يستعمل في البدن، يستعمل في الثوب أيضَا لا سيما وفي الحديث الثالث ذكر البخور، فإنه بالثياب أكثر استعمالًا وأخص.
وسبب المنع منه واضح وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة، وقد اْلحق به العلماء ما في معناه، كحسن الملبس، والحلي الذي يظهر، والزينة
__________
(1) رواه مسلم رقم (443) في "الصلاة،: باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (4/ 163- نووي) ، ورواه النسائي (8/
154- 155) في الزينة: باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة أذا أصابت بخورًا.
(2) رواه مسلم رقم (444) في الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد، وأبو داود رقم (4175) في الترجل: باب في رد الطيب، والنسائي (8/ 154 في الزينة:
باب في النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت من البخور.
(3) أخرجه البيهقي (3/ 133- 246) ، وعزاه المنذري لابن خزيمة في "صحيحه "، انظر: الترغيب " (3/ 94) ، وأخرج نحوه أبو داود رقم (4174) في الترجل:
باب في رد الطيب.
قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله العمري، ولا
يُحتج بحديثه اهـ انظر "عون المعبود" (11/ 231) .(3/161)
الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال (1) .
وقال ابن دقيق العيد: وفي حرمة التطيب علي مريدة الخروج إلى المسجد
لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال، وأُلْحِقَ به حسن الملبس، والحلي الظاهر اهـ (2) .
قلت: فإذا كان ذلك حرامًا على مريدة المسجد فما يكون الحكم علي مريدة السوق والأزقة والشوارع؟ لا شك أنه أشد حرمة، وأكبر إثمَا، وقد ذكر الهيتمي في "الزواجر" أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر، ولو أذن لها زوجها (3) .
ثم إن هذه الأحاديث عامة تشمل جميع الأوقات، وإنما خص بالذكر العشاء الآخرة في الحديث الثالث لأن الفتنة وقتها أشد، فلا يتوهمن منه أن خروجها في غير هذا الوقت جائز) (4) .
وقال ابن الملك: والأظهر أنها خصت بالنهي لأنها وقت الظلمة وخلو الطريق، والعطر يهيج الشهوة، فلا تأمن المرأة في ذلك الوقت من كمال الفتنة، بخلاف الصبح والمغرب، فإنهما وقتان فاضحان، وقد تقدم أن مَس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقًا اهـ (5) .
الشرط السادس
أن يشبه لباس الرجل
وذلك لما ثبت من الأحاديث التي تتوعد المرأة إذا تشبهت بالرجل في
__________
(1) انظر: "فتح الباري" (2/ 407) .
(2) نقله عنه المناوي في "فيض القدير" (3/137) .
(3) " الزواجر" (2/ 37) .
(4) "حجاب المرأة المسلمة" ص (65) .
(5) نقله عنه القاري في "المرقاة" (2/71) .(3/162)
لباس أو غيره باللعن والطرد من رحمة الله، ومنها:
ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال" (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسَةَ المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل " (2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمرجلاتِ من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم " قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانًا، وأخرج عمر فلانًا (3) . وفي لفظ: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال". وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديُّوث " (4) .
وعن ابن أبي مليكة- واسمه عبد الله بن عبيد الله- قال: قيل لعائشة
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 199- 200) ، وأبو نعيم في "الحليه " (3/ 321) ، وصححه الألباني في "الحجاب "- ص (66- 67) .
(2) أخرجه أبو داود رقم (4098) في اللباس: باب لباس النساء، وابن ماجة (1/588) ، والحاكم (4/ 194) ، والإمام أحمد (2/325) ، وقال الحاكم: "صحيح"
على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وصححه النووي في "المجموع".
(3) أخرجه البخاري (10/ 346) في اللباس: باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، وفي المحاربين: باب نفي أهل المعاصي والمخنثين، وأبو داود رقم
(4930) في الأدب: باب في الحكم في المخنثين، والترمذي رقم (2785)
و (2786) في الأدب، باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء، والدارمي (2/280- 281) ، والإمام أحمد رقم (1982، 2006، 2123) ، وابن ماجه
(1/589) .
(4) تقدم تخريجه.(3/163)
رضي الله عنها: إن المرأة تلبس النعل؟ فقالت: "قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَةَ من النساء" (1) .
وفي هذه الأحاديث دلالهّ واضحة على تحريم تشبه النساء بالرجال، وعلى العكس، وهي عامة تشمل اللباس وغيره إلا الحديث الأول، فهو نص في اللباس وحده.
وقد قال أبو داود في "مسائل الإمام أحمد": سمعت أحمد سئل عن الرجل يُلْبِسُ جاريته القرطق: قال: لا يلبسها من زي الرجال، لا يشبهها بالرجال (2) .
وقد عد الهيتمي رحمه الله هذه المعصية من كبائر الذنوب، فقال: (عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد، والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان: أحدهما: أنه حرام، وصححه النووي، بل صَوبه، وثانيهما: أنه مكروه، وصححه الرافعي في موضع، والصحيح، بل الصواب: ما قاله النووي من الحرمة، بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة، ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عَده منها، وهو ظاهر) (3) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس، وقال
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (4099) في اللباس: باب لباس النساء، وفيه عنعنة ابن جريج، ويشهد له حديث أبي هريرة السابق، وقد صححه النووي رحمه الله في "المجموع " (4/307) .
(2) "مسائل الإمام أحمد" للإمام أبي داود ص (261) (باب في اللباس) والقُرْطَقُ هو القَباء، ومنه حديث الخوارج في أبي داود في كتاب السنة باب رقم (28) : (كأني انظر إليه حبشي عليه قريطق) مصغرا، وانظر: (النهاية في غريب الحديث) (4/
42) .
(3) "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (1/ 155) .(3/164)
الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير.
قال: والحكمة في لعن من تشبه: إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: "المغيرات خلق الله" اهـ (1) .
فثبت مما تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن يكون زيها مشابهًا لزي الرجل،
فلا يحل لها أن تلبس رداءَه وإزاره ونحو ذلك، كما تفعله بعض بنات المسلمين في هذا العصر من لبسهن ما يعرف ب (الجاكيت) و (البنطلون) ، وإن كان هذا في الواقع أستر لهن من ثيابهن الأخرى الأجنبية، فاعتبروا يا أولى الأبصار!.
الشرط السابع
أن لا يشبه لباس الكافرات
وذلك لما ثبت من أن مخالفة الكفار، وترك التشبه بهم من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ولما يترتب على التشبه بالكفار من آثار سيئة على عقيدهّ المسلمين وسلوكياتهم (2) .
__________
(1) نقله عنه الحافظ في الفتح" (10/ 345) ، والحديث المشار إليه رواه البخاري (8/498- فتح) ، (10/384، 390، 391، 393) ، ومسلم رقم (2125) في اللباس (14/105 - 107- نووي) ، وأبو داود رقم (4169) في الترجل، والترمذي رقم (2783) في الأدب، والنسائي (8/ 146) فِى الزينة، وابن ماجه (1/640) ، والدارمي (2/ 279) ، والإمام أحمد (1/ 433، 454) ، وابن حبان (7/416) .
(2) وانظر تفصيل ذلك في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم"، الذي =(3/165)
ومما ينبغي أن يعلم أن أدلة هذه القاعدة الجليلة كثيرة جدا في الكتاب
والسنة:
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)) [الحشر: 19] ،.
ومنها قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)) [الجاثية: 18] ،
يخبر تعالى أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في "الذين لا يعلمون" كل من خالف شريعته، و"أهواؤهم " ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه: اتباع لما يهوونه، ولذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويسرون بذلك، ويودون أن لو بذلوا مالا عظيمًا ليحصل ذلك.
وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) [الحديد: 16] ،.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: فقوله: "ولا يكونوا" نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي اهـ (1) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية اهـ (2) .
__________
= هو من نفائس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ويجدر بكل مؤمن
في هذا الزمان أن يتدارسه بإتقان.
(1) "اقتضاء الصراط المستقيم" ص (43) .
(2) "تفسير القرآن العظيم" (4/ 310) .(3/166)
وفي الباب آيات أخر كثيرة وفيما ذكرنا كفاية.
فتيين من هذه الآيات أن ترك هدي الكفار، والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها، وجاء بها القرآن الكريم، وقد قام صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك وتفصيله للأمة، وحققته في أمور كثيرة من فروع الشريعة فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من عمل سنة غيرنا" (1) ، حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم يتحرى أن يخالفهم في- كل شئونهم الخاصة بهم، فقالوا: "ما يريد هذا الرجلُ أن يَدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه " (2) .
وهذا لا ينحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلا، وإنما تعداها إلى غيرها من العبادات، والآداب، والعادات، وسوف نقتصر هنا على إيراد ماله علاقة بموضوعنا إن شاء الله تعالى: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بعثت
بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم" (3) .
__________
(1) عزاه السيوطي إلى الديلمي في "مسند الفردوس"، وعزاه الألباني إلى الطبراني في "الكبير"، وحسنه في "صحيح الجامع" رقم (5315) (5/ 102) ، وانظر شرحه
في "فيض القدير" (5/ 386- 387) .
(2) قطعة من حديث رواه مسلم رقم (302) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وأبو داود رقم (258) في الطهارة، ورقم (2165) في النكاح، والترمذي رقم (2981) في التفسير، والنسائي (1/ 152) في الطهارة.
(3) أخرجه الإمام أحمد (رقم 5114، 5115، 5667) ، وعلق البخاري في "صحيحه" بعضه (6/ 115) ، وأخرج القطعة الأخيرة منه أبو داود (2/ 173) وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء": "إسناده جيد" اهـ (39) ، وصححه
العراقي في "المغني" (1/ 342) ، وحسنه الحافظ في (الفتح) (10/ 282) ، وذكر =(3/167)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَ ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها" (1) .
وعن علي رضي الله عنه رفعه: "إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تَزَيا بهم أو تشبه، فليس مني " (2) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: "يا معشر الأنصار حَمروا أو صَفروا، وخالفوا أهل الكتاب "، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون، ولا يأتزرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسرولوا، وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخففون، ولا ينتعلون، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فتخففوا، وانتعلوا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم (3) ، ويوفرون سبالهم (4) ، فقال صلى الله عليه وسلم: "قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب" (5) .
__________
= في "بلوغ المرام" أن ابن حبان صححه (4/239 - سبل السلام) .
(1) أخرجه مسلم (6/ 144) ، والنسائي (2/ 298) ، والحاكم (4/ 190) ، والإمام أحمد (2/162، 164، 193، 207، 211) ، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
(2) قال الحافظ في "الفتح": أخرجه الطبراني في "الأوسط " بسند لا بأس به. اهـ (10/ 284) .
(3) العثانين: جمع عثنون، وهي اللحية.
(4) السبال: جمع سَبَلة، وهي الشارب.
(5) أخرجه الإمام أحمد (5/ 264) من طريق القاسم قال: سمعت أبا أمامة به، قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 131) : "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر" اهـ، والحديث حسنه الحافظ في "الفتح" (9/ 291) وقال: "وأخرج الطبراني نحوه من حديث أنس"، =(3/168)
وفي كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد رضي الله عنه: ".. وإياك والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير.. " (1) .
الشرط الثامن
أن لا يكون لباس شهرة
وذلك لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة فى الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارًا" (2) .
ولباس الشهرة هو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثوب نفيسَا يلبسه تفاخرًا بالدنيا وزينتها، أو خسيسا يلبسه إظهارًا للزهد والرياء، وقال ابن الأثير: (الشهرة ظهور الشيء، والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفه لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر) (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "ألبسه الله ثوب مذلة"
__________
= وذكر الهيثمي له شاهدَا من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عند الطبراني، قال في آخره: "وخالفوا أولياء الشيطان بكل ما استطعتم".
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند" رقم (92) بتحقيق العلامة أحمد شاكر رحمه الله (1/ 194) ، وقال: "إسناده صحيح".
(2) أخرجه أبو داود رقم (4029) في اللباس: باب في لبس الشهرة، وابن ماجة (2/ 378- 379) رقم (3668) ، (3669) في اللباس: باب من لبس شهرة من الثياب، وحسنه المنذري في "الترغيب" (3/ 112) ، وابن مفلح في "الآداب" كما
في "غذاء الألباب" (2/ 138) ، وقال الشوكاني: "رجال إسناده ثقات" اهـ من
"نيل الأوطار" (2/ 125) ، وقال في "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني":
"وسنده صحيح " اهـ (17/ 289) ، وحسنه الألباني في "الحجاب" ص (110) .
(3) نقله عن الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/126) .(3/169)
قال ابن رسلان: لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز، ويفتخر على غيره، ويلبسه الله يوم القيامة ثوبًا يشتهر بمذلته واحتقاره بينهم عقوبة له، والعقوبة من جنس العمل. اهـ (1) .
وقال المناوي: "ثم تلهب فيه النار" عقوبة له بنقيض فعله، والجزاء من جنس العمل، فأذله الله كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة اهـ (2) .
تنبيهات.
* الأول: ليس هذا الحديث مختصَّا بنفيس الثياب، بل قد يحصل ذلك ممن يلبس ثوبَا يخالف ملبوس الفقراء من الناس، ليراه الناس فيتعجبوا
من لباسه، ويعتقدوه، وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس، فلا
فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس الناس والمخالف، لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد، وإن لم يطابق الواقع) (3) ،
لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (4) .
* الثاني: لعل الحكمة في تحريم أو كراهة لباس الشهرة؛ أنه يزري بصاحبه، وينقص مروءته.
وفي "الغنية" للشيخ عبد القادر رحمه الله: (من اللباس المنزََّه عنه كل لبسة يكون بها مشتهرًا بين الناس، كالخروج عن عادة بلده وعشيرته
__________
(1) نقله عنه في "نيل الأوطار" (2/126) .
(2) "فيض القدير" (6/ 219) .
(3) "نيل الأوطار" (2/ 126) ، وراجع- لزاما - "مجموع الفتاوى" (22/ 137- 139) .
(4) رواه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه البخاري (1/ 15) في بدء الوحي، والإيمان، والعتق، وغيرها، ومسلم رقم (1907) في الإمارة، وأبو داود رقم (2201) في الطلاق، والترمذي رقم (1647) في فضائل، الجهاد، والنسائي (1/95 -60) في الطهارة: باب النية في الوضوء.(3/170)
فينبغي أن يلبس مما يلبسون لئلا يشار إليه بالأصابع، ويكون ذلك سببا إلى حملهم علي غيبته، فيشركهم في إثم الغيبة له) اهـ (1) .
ومن فعل ذلك خيلاء حرم كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله،
أما لغير ذلك فقد رأي الإمام أحمد رجلًا لابسًا بردا مخططًا بياضًا
وسوادًا، فقال: "ضع هذا، والبس لباس أهل بلدك "، وقال: "ليس هو بحرام، ولو كنت بمكة أو المدينة لم أعب عليك "، يعني: لأنه لباسهم هناك (2) .
* الثالث: إذا تقرر أن المعتبر في الشهرة القصد والنية، فلا بأس حينئذ:
1- بلبس المنخفض من الثياب كسرًا لسورة النفس الأمارة بالسوء التي
لا يؤمن عليها من التكبر إن لبست غالي الثياب، وتواضعَا لله عز وجل، واحتسابا للثواب الموعود علي ذلك، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيِّره من أي حُلَلِ الإيمان شاء يلبَسها" (3) .
2- ولا بأس أيضًا بلبس الغالي من الثياب التي تحل شرعًا عند الأمن
علي النفس من التسامي المشوب بنوع عن التكبر، إذا نوى بذلك تحصيل مطالب دينية صالحة:
أ- كإظهار نعمة الله عليه، والتحدث بها امتثالا لقوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) [الضحى: 11] ، وليجمع بين الجمال الظاهر بالنعمة، والجمال الباطن، بالشكر عليها، ولموافقة ما يحبه الله، قال
__________
(1) ، (2) "غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب" للسفاريني (2/138 - 139) .
(3) أخرجه الترمذي رقم (2483) في صفة القيامة: باب رقم (40) ، وقال: "هذا حديث حسن"، ورواه الحاكم في "المستدرك " (4/ 184) ، وصححه، ووافقه الذهبي، ورمز له السيوطى بالصحة، وانظر شرحه في "فيض القدير" (6/101) .(3/171)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (1) .
وعن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعلي ثوبَ دُون فقال لي: "ألَك مال"؟، قلت: نعم، قال: "من أيّ المال"؟، قلت: من كل المال قد أعطاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والرقيق، قال: "فإذا آتاك الله مالًا فَلْيُر أثَر نعمةِ الله عليك وكرامتِهِ " (2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سَرَف، ومخيلَة" (3) .
ب- أو ليتعرف على غناه الفقراءُ، فيقصدونه لطلب الزكاة والصدقات وقضاء الحاجات.
ج- أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كلنا هو الغالب على عوام زماننا، وبعض خواصِّه (4) .
3- يتميز العلماء بلباس خاص (5) حتى يستدل عليهم المستفتي وطالب العلم.
* الرابع: يدندن بعض ذوي الأغراض بدعوى أن التزام الحجاب فيه خروج عما ألفه المجتمع، واعتاده، وقد يشتبه الأمر على البعض فيتساءل:
__________
(1) أخرجه- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- الترمذي (2819) في الأدب: باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته علي عبده، وقال:
"هذا حديث حسن" – وانظر "تحفة الأحوذي" (8/106 - 107) .
(2) أخرجه النسائي (8/ 196) في الزينة: باب ذكر ما يستحب من لبس الثياب، وما يكره منها، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 473) واللفظ له.
(3) أخرجه البخاري تعليقا (10/ 265) في اللباس: في فاتحته، وقال الحافظ: "وصله ابن أبي شيبة في مصنفه، والدينوري في المجالسة، اهـ.
(4) "نيل الأوطار" (2/ 125) .
(5) انظر ص (202)(3/172)
وهل يكون الحجاب حينئذ لباس شهرة؟
ولإزالة هذا التوهم نقول بتوفيق الله:
أولًا: إن هذا الأمر - أعني كون الحجاب نفسه لباس شهرة- محتمل في حالة واحدة فقط وهي: (مجتمع التزم نساؤه بكل شروط الحجاب، وشذت شرذمة منهن، فالتزمت كل شروط الحجاب ما عدا الشرط الأخير، وهو أن لا يكون لباس شهرة) ، وإلا فإن شروط الحجاب السابق ذكرها، والواجب توافرها مجتمعةً لا تتناقض.
ثانيًا: أما في مجتمع شاع فيه السفور والتبرج والتهتك، ثم التزمت فئة قليلة من نسائه بزيِّ يستوفي كل شروط الحجاب، غير أنهن قصدن من وراء ذلك الشهرة أو التكبر والتفاخر، ولم يقصدن طاعة الله سبحانه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهؤلاء النسوة حظ من الوعيد الوارد فيمن لبس ثوب شهرة؟ لأن المدار في اعتبار الثوب ثوبَ شهرة من عدمه إنما هو على النية والقصد، فالواجب هنا تصحيح النية، وتوجيهها خالصة لله عز وجل، لا مطالبة هؤلاء النسوة بخلع الحجاب موافقة للمجتمع الفاسد (1) .
مثال ذلك: رجل هاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، لا يقصد وجه
الله عز وجل، وإنما هاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، هل نكلفه بالبقاء فى دار الكفر، أم نأمره بتصحيح النية، ونذكره بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الإعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " الحديث (2) .
فأين يا عباد الله من يلبس الثوب ليباهي به الناس، ويختال عليهم، ويشار إليه فيهم بالبنان عِزُّا وتعظيمًا، ويخالف زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة، أين هذا من نساء مسلمات عفيفات، يتجشمن المشاق
__________
(1) بل من الواجب أيضًا دعوة المتبرجات إلى اتباع سبيل المؤمنات، وتغيير هذا العرف الفاسد حتى يعود موافقَا للشرع المطهر.
(2) تقدم تخريجه.(3/173)
لاستمساكهن بحبل الله المتين، ويعانين من أذى السفهاء وأعوان الشياطين، ويقاسين الغربة في أوطانهن وبين الأهلين؟!
ثالثا: أن الشرع - وإن اعتبر موافقة لباس أهل البلدة، وعَدَّ مخالفتهم شهرة- إلا أن هذا مشروط بأن يكونوا مستقيمين على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما إذا فسدت فطرتهم، وانحرفوا عن الجادة، بحيث صار المعروف عندهم منكرًا، والمنكر معروفَا، فليس ذلك العرف الكاذب مسوغا لأن نجاريهم في ضلالهم بحجة عدم الاشتهار (1) .
فإن واجبنا حينئذ ألا نقصد الاشتهار، بل نقصد التمسك بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) الآية [المائدة: 105] ، أما الزعم بان مخالفة أزياء قوم قد أسرفوا في محاكاة المشركين رجالا ونساءً ولم يرفعوا بآيات الله تعالى، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسًا، هو من الشهرة لشذوذه عما ألفه المجتمع، فهذا من أعجب الأشياء! إذ كيف يكون التمسك بالآيات القرآنية والنصوص النبوية شذوذًا؟!
وهل يستقيم أن يكون اتباع سبيل الإفرنج المجرمين في التبرج والسفور استقامة واعتدالًا، واتباع سبيل المؤمنين في التستر والصيانة شذوذَا واعوجاجا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ" (2) ، وإذا كان الأمر كذلك فأين تقع الأحاديث الشريفة التالية
__________
(1) وقد أشار إلى هذا المعنى سَيّد العُبادِ في زمانه محمد بن واسع رحمه الله لما دخل على بلال بن أبي بردة أمير البصرة، وكان ثوبه إلي نصف ساقيه، فقال له بلال: ما
هذه الشهرة يا ابن واسع؟، فقال له ابن واسع: أنتم شهرتمونا، هكذا كان لباس
من مضى، وإنما أننم طوَّلتم ذيولكم، فصارت السنة بينكم بدعة وشهرة اهـ، وقد عزاها ابن الحاج رحمه الله في "المدخل" (1/ 131) إلى الإمام أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك والخفاء"، وراجع ص (403) .
(2) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها البخاري تعليقا بصيغة الجزم (4/ 416) في البيوع: باب النجش، ووصلة في الصلح (5/ 221) ، ومسلم =(3/174)
موقعها؟ وهي.
* ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (1) .
* وما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده يقول: "طوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "ناس صالحون في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " (2) .
* وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي علي الناس زمان، الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر" (3) .
أين تقع هذه النصوص موقعها من الترغيب، إن لم يكن التمسك بالكتاب والسنة هو المتعين؟!
* * *
__________
= رقم (1718) في الأقضية، وأبو داود في السنة (2/ 506) ، وابن ماجه رقم (14) في المقدمة.
(1) رواه مسلم رقم (145) في الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبَا.
(2) رواه ابن المبارك في "الزهد" رقم (775) ، والإمام أحمد (2/ 177، 222) ، قال الألباني رحمه الله: إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات من رجال "الصحيح" غير ابن لهيعة، وهو ثقة صحيح الحديث إذا روى عنه أحد العبادلة، ومنهم عبد الله بن المبارك، وهذا الحديث من روايته عنه كما ترى اهـ من "الصحيحة" رقم (1619) .
(3) رواه الترمذي رقم (2261) في الفتن. باب رقم (73) ، وفي سنده عمر بن شاكر البصري، وهو ضعيف، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه "،
وله شواهد يتقوى بها، ذكرها الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (957) .(3/175)
الفصل الثاني
أين نحن من الحجاب الشرعي
أيها الأب الرحيم..
أيها الزوج الغيور..
أيتها الأم الرءوم..
أيتها الأخت المسلمة!
إن المسلم الغيور لو نظر إلى أحوال المسلمين والمسلمات اليوم، فسوف يندى جبينه خجلًا، ويقشعر بدنه أسفًا وحزنًا، وينخلع قلبه كمدا وغيظًا..
يكفيك أن تخرج من بيتك إلي أقرب طريق، أو متجر، أو وظيفة فترى بعينيك، وتسمع بأذنيك، إذًا.
لهالك الأمر، واستهوتك أحزان ... فالعين باكية، والقلب حَرَّانُ
فتجري دماء الغيرة في عروقك، وتصرخ مع الصارخ:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان
سوف ترى المرأة الكاسية العارية المتبرجة، هي وزوجها، وقد وضع ذراعه في ذراعها، ومشى إلى جوارها في الطريق فرحًا بفضيحتها، فخورا
بعريها، مسرورًا بزينتها، مبهورا بمساحيقها وألوانها.
وترى أباها قد أهمل تربيتها على - كتب ربها، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورأى حالها المزرية، فغض منها الطرف، وتركها سادرة في غيها، تمرح وتلعب مع شيطانها، فلا يزجرها ولا ينهاها، متوهما أن هذا من حقها وترى أمها- بئست القدوة- وقد تبرجت مثلها، وأغرتها بالسفور، وحرضتها على التبرج والفجور، وزجرتها عن التستر والتحجب حتى يأتيها (نصيبُها)(3/177)
بفاسق مثلها.
تراهم جميعا، وقد نزعوا برقع الحياء نزعا، وأجابوا واعظ الإيمان في قلوبهم قائلين: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) .
وبينما كانت الصحابيات رضي الله عنهن يستزدن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول ثيابهن، ترى هؤلاء النسوة قد قَصَّرن ثيابهن، وقصرن، وزين لهن الشيطان سوء عملهن فزعمن التبرج تقدمَا وتحررًا، وكلما ازداد تقلص الثوب عن بدن المتبرجة كلما كانت أحرى بوصف التقدم والتحرر، وأبرأ من التخلف والرجعية.
يُقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حَسَنًا ما ليس بالحسَنِ
فأين الفطرة الآدمية؟ أين الحياء والغيرة؟ أين الإحساس والشعور؟ توارت كلها عن العين، وصارت أثرا بعد عين:
لِحَد الركبتين تشمرينا ... بربك: أي نهر تعبرينا
كأن الثوب ظل في صباح ... يزبد تقلصا حينا فحينا
تظنين الرجال بلا شعور ... لأنكِ ربما لا تشعرينا (2)
ولو أنك عَرَّجْتَ إلى البحر، واقتربت قليلا من الشاطئ لشاهدت الوحوش البشرية، والبهائم الآدمية في أوضاع مزرية يندى لها الجبين، كأنهم- في عريهم الفاضح- وحوش الغابات، وحيوانات الأدغال (3) !
__________
(1) كما تقدم ص (109) .
(2) "فقه النظر في الإسلام" ص (170) .
(3) اعلم أنه لا يحل للمرأة أن تظهر شيئًا من بدنها أمام الرجال الأجانب؛ لأنها
كلها عورة، كذا لا يحل لها أن تظهر ما بين السرة والركبة ولو للنساء المسلمات،
ولهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بمنع النساء من دخول الحمامات العامة مطلقا: فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام "
رواه النسائي، والترمذي، وَحَسنه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وفي حديث أبي أيوب رضي الله عنه بلفظ: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم =(3/178)
ففي البحر سوءات وفي البر مثلها ...
فيا ضيعة الأخلاق في البر والبحر (1)
آخر:
هل رأيتَ الجموعَ محتشداتِ ... فوق شَط الخِضَمِّ أو سابحاتِ
ورأيتَ الحِسانَ يَمشينَ زَهْوا ... مُقبلات يَتهْنَ أو مُدْبِرات
ضَلَلَتْهنَّ قُدْوَةْ الوالداتِ ... ومِنَ الوالدِين سوءُ أناِة
ومن الزوجِ غَضُّ طَرْفٍ لِضَعْف ... أو طِباع في نفسِهِ فاسدات
وانغماس الشقيقِ في شَهَواتٍ لا يُبالًي بمنهجِ الأخَوات
فاطَرَحْن الحِشْمَةَ يَحْسَبَنْهَا مِنْ ... بالياتِ الأمُورِ والعادات
حالةٌ تَجْرحُ الفضيلةَ حقا ... ولها تَدْمَى نَفْسُ ذِي النَّخَوات
أيها البحرُ طهر القومَ واغسل ... ما تراهُ منهم منَ المنكرات (2)
التبرج المقنع
لئن كنا عرضنا آنفًا لصور من التبرج الصريح، فإننا نعرض فيما يلي إن شاء الله - لصور محدثة من التبرج لم يتعرض لها المصنفون قبل هذا العصر، لا لانعدامها، ولكن لأن أحدًا لم يكن ليجرؤ على تسمية المعاصي بغير
__________
= فلا يدخل الحمام" رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وقال: "صحيح
الإسناد".
وعن أبي المليح الهذَلي أن نساءً من أهل "حمص" أو من أهل "الشام" دخلن على عائشة رضي الله عنها، فقالت: " أنتن اللاتي يدخلن نساؤكن الحمامات؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها، إلا هتكت الستر بينها وبين ربها " رواه الترمذي وحسنه، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال: "صحيح علي شرطهما".
وعلى أساس هذه الأحاديث فلا ينبغي التردد في تحريم ارتياد شواطئ الاصطياف، والحمامات المنتشرة في النوادي، بقياس الأولى، وذلك لما يجري في هذه الأماكن الموبوءة من أحوال يَرْفَضُ جبين القلم عرقًا من الخجالة بتسطيرها.
(1) ، (2) "قولي في المرأة" ص (29- 30) بتصرف.(3/179)
اسمها، فيسمى التبرج حجابا شرعيُّا! لقد كانت هذه الصور من التبرج تُدْرَج في مصنفات العلماء تحت اسم الفسوق، والعصيان، والتبرج الذي يضاهي تبرج الجاهلية الأولى، أما اليوم فقد انعكس الحال، واضطربت المفاهيم.
لقد جهد أعداء الصحوة الإسلامية لوأدها في مهدها بالبطش والتنكيل، وأبى الله سبحانه إلا أن يتم نوره، ويظهر كلمته، فصار كيدهم هباءَ منثورَا.
فرأوا أن يتعاملوا معها بطريقة خبيثة ترمي إلى الانحراف بها عن طريقها الرباني، فراحوا يروجون صورًا مبتدعة للحجاب على أنها (حل وسط) ترضي به المسلمةُ رَبها- زعموا-، وفي ذات الوقت تساير مجتمعها، وتحافظ على (أناقتها) ! وكان أن قذفت (بيوت الأزياء) التي أشفقت من بوار تجارتها المحرمة بنماذج ممسوخة من الأزياء تحت اسم (الحجاب العصري) الذي قوبل في البداية بتحفظ واستنكار.
وكانت ظاهرة (الحجاب الشرعي) قد بدأت تفرض نفسها على واقع المجتمع، حتى صارت تشكل قوة اجتماعية ضاغطة أحرجت طائفة من المتبرجات، اللائي هرولن نحو (الحل الوسط) تخلصا من ذلك الحرج الاجتماعي، وبمرور الوقت تفشت ظاهرة (التبرج المقنع) المسمى بـ (الحجاب العصري) أو (حجاب التبرج) بإزاء ظاهرة (الحجاب الشرعي) .
فما صفات حجاب التبرج؟ (1)
* الأولى: أنه يكشف عورات مجمعا على تحريم كشفها:
فبينما كان أول شروط الحجاب الشرعي أن يكون ساترا لبدن المرأة،
__________
(1) انظر: "تبرج الحجاب" للشيخ محمد حسان وفقه الله.(3/180)
رأينا حجاب التبرج يكشف الوجه المنمص الحاجبين، وقد اختفى تحت قناع من الألوان الزاهية، وتلطخ وجهها بمساحيق متنوعة كأنها الطيف في تعددها، أما الحلي بأنواعها فقد برزت من الأذنين، وربما ظهر العنق، وجزء من الشعر، والقدمان، وربما تجاوزتهما، وترى صاحبته وقد ارتدت (عَينة) ترمز إلى الخمار، وقد خرجت مزينة مزخرفة، وترى في الخمار ما شئت من الألوان الصارخة كالأحمر والأصفر، وربما زادت على هذا الخمار ما يزيده زينة علي زينة فتضع شريطًا ذهبيًّا أو فضيًّا أو مزركشا، وقد التف على أعلى الخمار كأنه تاج، ثم تزعم صاحبة هذه الزينة الصارخة أنها محجبة، أي حجاب هذا الذي تزعمين؟!
إن هذا خمار الخداع والتزييف، حجاب الزينة والفتنة، إنه حجاب عارِ متبرج فوق رأس فارغ خاوِ من العلم، والتقوى، والورع، والخوف، والاستحياء من الله تبارك وتعالى.
وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا!
* الثانية: أنه زينة في نفسه:
فترى هؤلاء الكاسيات العاريات صواحب (حجاب التبرج) يتفنن في فتنة الناس بألوان ثيابهن، ويضفن إلى ذلك ما شئن من الزوائد التي تزيدهن فتنة كالحلي وغيرها، وكأن القرآن الذي نزل فيه قول الله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) الآية وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآية وقوله عز وجل: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) الآية، إنما نزل علي قوم آخرين غير نساء المسلمين، وكأن الحق فيها على غيرنا وَجَبَ، وكأن هؤلاء الكاسيات العاريات يعاندن رب العزة، ويقلن بلسان الحال: "سمعنا وعصينا" تمامًا كما استقبلت أمة الغضب واللعنة أوامر الله عز وجل.(3/181)
الثالثة: أنه شفاف، يظهر ما يجب ستره من العورات، فلا يحجب رؤية، ولا يمنع نظرا.
الرابعة: أنه ضيق يصف العورات:
فتراه التصق بها، حتى يتحققَ في صاحبته قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ونساء كاسيات عاريات، مائلات مملات" الحديث.
الخامسة: أنه يكون معطرًا:
فربما خرجت صاحبة هذا الحجاب المشئوم، فإذا بها ترسل سهام الشيطان إلى قلوب الرجال عبر تلك العطور الخبيثة فتلفت الأنظار، وتشيع الفاحشة في المؤمنين
السادسة والسابعة: أنه أحيانًا يشبه ملابس الرجال:
فتراهن يرتدين السروالات الضيقة، وأحيانَا يشبه ملابس الكافرات اللائي يتتبعن (الموضات) شبرًا بشبر، وذارعًا بذراع.
الثامنة: أنه لباس شهرة وتفاخر:
فترى صاحبته تتفنن في تطبيق قاعدة: (خالف تعرف) ، وكأن بين هؤلاء الكاسيات العاريات سباقًا حادا في عرض أزياء مستتر فهذه تلبس الحجاب الفاقع، وهذه تلبس الثوب الضيق الذي يكاد يشل حركتها، ثم تضع حول خصرها هذا (الحزام) الذهبي أو الفضي اللامع فإذا تلبست ببعض هذه الأفعال الشنيعة، أو كلها، تم توقيع العقد مع الشيطان للخروج إلى الشوارع بهذه الحال من التبرج والتهتك تحت ستار (الحجاب) المزعوم!
ويظن البعض أنهن متدينات، وهن يحسبن في أنفسهن أنهن خير البنات والزوجات، وما هن إلا كما وصفهن الشاعر محمد عبد المطلب، وصدق(3/182)
في قوله:
إنْ يَنْتَسِبْنَ إلى الحِجَاب ... فَإنه نَسَبُ الدَخيل
أهي التي فرض الحجا ... ب لصونها شرع الرسول؟
جُعِلَ الحجابُ مُعاذَها ... من ذلك الداءِ الوبيل (1)
تقول الداعية الفاضلة نعمت صدقي رحمها الله:
(ولو أن المتبرجة تأملت بعين بصيرتها، ولو كان لها قلب يعي، لوجدت أنها- باصطناعها هذا الجمال المزور، ومبالغتها في التزين- لن تكتسب في الحقيقة جمالا ولا محاسن، بل إنها تمسخ وجهها، وتخفي ما حباها الله به من الجمال الفطري، بقناع من الأصباغ الزاهية، التي تختلف وتشذ عن الطبيعة، ينبو عنها الذوق السليم، وهي لا تأبه لذلك، ولا تفطن لما صنعت لوجهها من التشويه والتقبيح، فإن الله تعالي لم يخلق جفونًا زرقاء لامعة، ولا سوداء قاتمة، إلا في القردة والكلاب، ولا شفاهًا حمراء قانية، كأنها ولغت في الدم المسفوح، ولا خدودًا مضطرمة متوهجة الاحمرار، ولا حواجب هلاليه لامعة تذكر بما يتخيلون ويصفون في الأساطير من حواجب الشيطان، وأظافر مدببة حمراء كأنها مخالب حيوان كاسر مخضبة بدماء فريسته، فبالله هل هذا جمال أم دمامة وبشاعة؟!
قل للجميلةِ أرسلَتْ أظفارَها ...
إني لخوفٍ كدتُ أمضي هاربا
إن المخالبَ للوحوشِ نخالُها ...
فمتى رأينا للظباءِ مخالبا
بالأمسِ أنتِ قصصتِ شعرَكِ غيلة ...
ونقلتِ عن وضع الطبيعة حاجبا
وغدًا نراك نقلتِ ثغرَكِ لِلقَفا ...
وأزحتِ أنفَكِ رغم أنفِكِ جانبا
__________
(1) راجع القصيدة في "معركة الحجاب والسفور" ص (160- 161) .(3/183)
من علَّمَ الحسناءَ أنَّ جمالَها ...
في أنْ تخالفَ خَلْقَهَا وَتُجانبا؟) (1)
وبعد
فيا صاحبة (حجاب التبرج) ! حذارِ أن تصدقي أن حجابك هو الذي أمر به القرآن السنة، وإياك أن تنخدعي بمن يبارك عملك هذا، ويكتمك النصيحة، ولا تغتري بأنك أحسن حالًا من صاحبات التبرج الصارخ فإنه لا أسوة في الشر، والنار دركات بعضها أسفل من بعض.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وفوقكم في الدين، فذلك أجدر أن لا تزدروا (2) نعمة الله عليكم " (3) .
وعن الزهري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلا هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)) [فصلت: 30] ، قال: "استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا (4) روغان الثعالب " (5) .
__________
(1) "التبرج" ص (30-31) .
(2) الازدراء: الاحتقار، والعيب، والانتقاص.
(3) هذه الروايج ذكرها رزين، وأصل الحديث رواه - بلفظ آخر - البخاري (11/330) في الرقاق، ومسلم رقم (2963) في الزهد، والترمذي رقم (2515) في القيامة، قال الحافظ في "الفتح": (وقد وقع في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "خصلتان من كانت فيه كتبه الله صابرا شاكرا: من نظر في دنياه
إلي من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به") اهـ (11/ 330 - السلفية) ، والحديث ضعفه المناوي فى "الفيض" (3/ 244) ، والألباني في "الضعيفة" رقم (1924) (4/ 397 - 398) .
(4) راغ الثعلب روغانًا: مال، وحاد عن الشيء، وذهب ها هنا، وها هنا.
(5) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" ص (115) ، وابن المبارك فيه ص (110) رقم =(3/184)
وَعن الحسن رحمه الله أنه قال: (إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما في طاعة الله فبغاك (1) ، وبغاك، فرآك مداوما، مَلَّكَ وَرَفضَكَ، وإذا كنت مرة هكذا، ومرة هكذا، طمع فيك (2) .
ومسك الختام ما ختم الله عز وجل به الآيات الآمرة بالحجاب في قوله جل وعلا: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31] ،.
الحجاب مسؤولية من؟
أولًا: المرأة المسلمة:
مادامت عاقلة مكلفة، وقد خاطبها القرآن بالحجاب، ونَوَّعَ أساليب الخطاب: فتارة يأمرها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) الآية.
وقوله عز وجل: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الآية
وخاطبهن شخص أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقال جل وعلا: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) .
فالمرأة مسئولة- أمام الله - عن الحجاب ليس لها أن تتخلى عنه، ولو رضي وليها بالتبرج أو أمرها به، وحثها عليه.
قال الله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14))
__________
= (325) ، ومن طريقه أخرجه الطبري (24/ 66) .
(1) فبغاك، وبغاك: أي طلبك مرة بعد مرة.
(2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص (7) رقم (20) .(3/185)
[الإسراء: 13، 14] ، وقال تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور: 21] .
وعن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" (1) .
* ثانيًا: ولي المرأة:
سواء أكان أبًا أو ابنا أو أخا، أو زوجًا، أو غيره.
قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34]
وليس المقصود بالقوامة - كما يظن بعض الجهلة - ظلم المرأة، والاستبداد بها، والاستعلاء عليها، وإنما هي المبالغة بالقيام على رعاية المرأة والإنفاق عليها، وإعطائها حقوقها، والحفاظ علي عرضها وعفافها، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6] ، (2) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهله، وهو مسئول عن رعيته " الحديث (3) .
وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسترعي الله تبارك وتعالى عبدًا رعية قَلَّتْ أو كثرت إلا سأله الله تبارك وتعالى عنها يوم القيامة، أقام فيهم أمر الله
__________
(1) أخرجه البخاري (13/ 130- فتح) ، ومسلم واللفظ له (6/15) ، وأبو داود رقم (2625) ، والنسائي (2/ 187) ، وأحمد (1/ 94) ، وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" أرقام (179، 180، 181)
(2) انظر: "معركة الحجاب والسفور" ص (210)
(3) تقدم تخريجه.(3/186)
تبارك وتعالى أم أضاعه، حتى يسأله عن أهل بيته خاصة" (1) .
وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سائل كلَّ راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيَّع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" (2) .
ولا شك أن أحوال أغلب النساء اليوم تعكس مدى تفريط الرجال
في أداء حق هذه الرعاية التي جعلها الله واجبا حتمًا في أعناقهم، ومن هنا شدَّد العلماء النكير على هؤلاء المفرطين، ورتبوا علي ذلك أحكامَا، وأصدروا فتاوى.
ومن ذلك ما قاله الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى: (أما خروج النساء متبرجات بذلك اللباس الضيق القصير الذي يحدد العورة، فقد أجمع علماء المسلمين على منعه، ونصوص الكتاب والسنة طافحة به، فيحرم علي كل مسلم أن يترك ابنته، أو زوجته، أو أخته تخرج إلا وعليها الدروع السابغة مع طول الذيول لأجل الستر.
وكل من ترك زوجته تخرج بادية الأطراف على صفة تبرج الجاهلية الأولى، فهو آثم شرعًا، عليه وزر ذلك، وعلى المرأة أيضًا، لقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآية، ولقوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إلى آخر الآية.
ولا تصح أيضًا إمامة رجل ترك امرأة له عليها ولاية تخرج متبرجة ذلك التبرج، وكذا لا تصح شهادته، ولا يجوز إعطاؤه شيئا من الزكاة الواجبة ولو كان فقيرا مظهرًا للشكوى، كما في فتاوى المالكية لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي إقليما.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 15) ، (5/ 25) .
(2) عزاه الألباني في "الصحيحة" رقم (1636) إلى النسائي في "عشرة النساء" والضياء في "المختارة"، وابن حبان في "صحيحه"، وابن عدي في "الكامل".(3/187)
وقد أشار إلى ذلك أخونا الشيخ محمد العاقب - رحمه الله - دفين فاس
في نظمه لهذه الفتاوى بقوله:
من تركَ الزوجة عمدًا تخرجُ ... بادية أطرافها تبرج
فلا إمامةَ ولا شهادة ... له وإن جرت بذاك العادة
ولا له قسط من الزكاة ولو فقيرا مظهر الشكاة (1)
يعني ولو كان فقيرا مظهر الشكوى للأغنياء من شدة فقره.
* ثالثًا: الحاكم:
(فإن واجب الخليفة أو الحاكم المسلم حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وإن أحد حقوق الإنسان المسلم صيانة عرضه، الأمر الذي لا يتم إلا بمراعاة التدابير الشرعية في هذا الباب.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "ما يَزَعُ الناس السلطانُ أكثر مما يَزَعُهُم القرآنُ") (2) .
(وإن حفظ حدود الحجاب الشرعي بين الرجال والنساء، وتعليم ذلك، والترغيب فيه، ومعاقبة المنحرفين والمنحرفات عن هذه الحدود، وتعزير الداعين إلى ما يضاده، ونفيهم؛ حماية للبلاد والعباد من شرورهم، وتسخير أجهزة التعليم والإعلام لنصرة دين الله تعالى، وترسيخ هذه المفاهيم الإسلامية من أهم ما يناط بالحكام الذين استرعاهم الله هذه
الأمة) (3) .
* * *
__________
(1) "زاد المسلم" (1/ 382 - 383) .
(2) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (23) .
(3) وقد تقدم تفصيل ذلك في "السابق" ص (23-26) ، (32-38) وانظر: "معركة الحجاب والسفور" ص (200 -203)(3/188)
الباب الخامس
أدلة وجوب ستر الوجه والكفين
الفصل الأول:
أدلة القرآن الكريم
الفصل الثاني:
أدله السنة الشريفة(3/189)
ص 190(3/190)
الفصل الأول
أدلة القرآن الكريم
الدليل الأول
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)) [الأحزاب: 59] ،.
* قول الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) :
قال رحمه الله في تأويل هذه الآية:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) : لا تتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول. ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به.
فقال بعضهم: هو أن يغطين وجوههن ورؤوسهن، فلا يبدين منهن إلا
عينًا واحدة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح (1) قال: ثني معاوية، عن علي (2) ، عن
__________
(1) أبو صالح المصري عبد الله بن صالح فيه ضعف "التقريب" (1/423) .
(2) هو علي بن أبي طلحة، تكلم فيه بعض الأئمة، ولم يسمح من ابن عباس، بل =(3/191)
ابن عباس، قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدة. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عَبيدةَ (1) في قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فلبسها عندنا ابن عون، قال: ولبسها عندنا محمد، قال محمد: ولبسها عندي عبيدة، قال ابن عون: بردائه، فتقنع به، فغطى أنفه، وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبًا من حاجبه أو على الحاجب.
حدثني يعقوب، قال. ثنا هُشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ)
__________
= لم يره، وقد قيل إن بينهما مجاهدا، انظر هامش ص (209) .
(1) رجال هذا الإسناد جبال في الثقة والضبط، فابن جرير هو الحافظ الطائر الصيت، المفسر المشهور، ويعقوب هو ابن إبراهيم الدورقي ثقة، وابن عُلَيَّة هو إسماعيل بن علية إمام كبير ثقة، وابن عون هو عبد الله بن عون المزني أحد الأعلام ثقة ثبت، ومحمد هو ابن سيرين أحد الأعلام التابعين، وعَبيدة هو السلماني إمام ثقة زاهد، وهو من أعلام التابعين الكبار، ومخضرم ثقة ثبت، قال الحافظ في "التهذيب": (كان "شريح" القاضي إذا أشكل عليه شيء من أمر دينه سأله، ورجع إليه) اهـ (7/ 84) ، قال الإمام الذهبي: (عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي الفقيه العَلَمَ، كاد أن يكون صحابيّا، أسلم زمن الفتح باليمن، وأخذ العلم عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، قال الشعبي: (كان يوازي شريحًا في القضاء) ، وقال العجلي: عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن مسعود الذين يقرءون، ويفتون الناس "، وقال ابن سيرين: (ما رأيت رجلا أشد توقيًا من عبيدة) ، وكان مكثرًا عنه) انظر: "تذكرة الحفاظ " (1/ 50) ، وإذا تقرر لديك أن عبيدة السلماني من كبار التابعين، وأنه آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نزل المدينة
في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل بها حتى مات، لعلمت حينئذ أنه يفسر ما كان سائدًا في المجتمع الذي كان يمثله أجلة الصحابة رضي الله =(3/192)
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال: فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.
وقال آخرون: بل أمِرْنَ أن يشددن جلابيبهن على جباههن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) إلى قوله: (وَكَانَ الله غَفورا رَحِيما) قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنع (1) ، وتشدَّهُ على جبينها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) وقد كانت المملوكة إذا مرَّت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال. ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يتجلببن فيُعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهنَّ فاسق بأذى من قول ولا ريبة. . .
__________
= عنهم، وأكابر الأمة الذين عليهم مدار هذا الدين.
(1) اعلم أن (التقنع يطلق على تغطية الوجه، وبهذا التفسير تتوافق هذه الرواية لما قبلها، ومعلوم أن التوفيق بين القولين في كلام العقلاء واجب مهما أمكن، وأن ضرب أحدهما بالآخر لا يجوز، ومن العجيب أن ابن جرير نقل قول ابن عباس هذا في سياق من لا يقول بستر الوجه، ولم يلتفت إلى الروايات التي توضح معنى التقنع في هذه الرواية) اهـ من كلام الشيخ أبي هشام الأنصاري - نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية".(3/193)
وقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) يقول تعالى ذكره: إدناؤهن جلابيبهن إذا أدنينها عليهن أقرب وأحرى أن يعرفن ممن مررن به، ويعلموا أنهن لسن بإماء، فيتنكبوا عن أذاهنَّ بقول مكروه، أو تعرض بريبة (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) بهنَّ أن يعاقبهن بعد توبتهن بإدناء الجلابيب عليهن) اهـ (1) .
* قول الإمام أبي بكر أحمد بن علِى الرازي الجصاص الحنفي (ت 370 هـ) :
قال رحمه الله تعالى:
(حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي خيثم، عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها.
قال أبو بكر: في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن.
وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها لأن قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) ظاهره أنه أراد الحرائر، وكذا روي في التفسير لئلا يكن مثل الإماء اللاتي هن غير مأمورات بستر الرأس (2) والوجه، فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء، وقد روي عن عمر أنه كان يضرب الإماء، ويقول: "اكشفن رؤوسكن، ولا تشبهن بالحرائر" اهـ (3) .
__________
(1) "جامع البيان عن تاويل آي القرآن" (22/ 45- 47) .
(2) رُوي من حديث عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فاختبأت مولاة لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حاضت"؟، فقالوا: نعم، فشق لها من عمامته، فقال: "اختمري بهذا" رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة.
(3) "أحكام القرآن" (3/371- 372) .(3/194)
* قول الإمام الفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بـ "إلكيا الهراس" (1) (ت 504 هـ)
قال رحمه الله في تفسيره:
(قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية- الجلباب: هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب على الإماء ذلك) اهـ (2) .
* قول الإمام محيي السنة أبو الحسين البغوي (ت 516 هـ) في "معالم التنزيل":
اكتفى رحمه الله في تفسير الإدناء بقول ابن عباس وعبيدة السلماني ولم يلتفت إلى قول آخر، كأنه لم يره شيئًا مذكورًا، وكذا فعل "الخازن" رحمه الله (3) .
* قول أبي القاسم محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري الملقب بـ "جار الله" (4) (ت 538 هـ) :
__________
(1) إلكيا: كلمة فارسية بمعنى الكبير القدر المقدم بين الناس و"إلكيا الهراس، هو علي بن محمد بن علي، وكنيته أبو الحسن الملقب بعماد الدين، ولد في سنة
(450 هـ) ، وتفقه على إمام الحرمين، وهو من أجل تلاميذه بعد الغزالي، ومن مصنفاته: "شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين"، وهو من أجود كتب الخلافيات، وكتاب في أصول الفقه.
انظر ترجمته في (طبقات الشافعية) (7/ 231- 234) ، والبداية والنهاية" (12/
172) ، و"شذرات الذهب" (8/4) ، و"فيات الأعيان" (2/ 488) ، و "النجوم
الزاهرة" (5/ 201) .
(2) "تفسير إلكيا الهراس الطبري" (4/ 354) .
(3) "لباب التأويل في معاني التَنزيل" (5/ 227)
(4) لقب بهذا لأنه جاور في مكة مدة من الزمان، كان من أكبر رؤوس الاعتزال في عصره، وكان حنفي المذهب، وقد كشف الزمخشري في تفسيره "الكشاف" =(3/195)
قال- عفا الله عنه- في تفسيره:
ومعنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة (1) يتعرضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليُحتَشَمن ويُهَبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك في قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أي: أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يُتعرض لهن، ولا يَلْقَين ما يكرهن.
فإن قلت: ما معنى (مِن) في (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) ؟
قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:
أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدًا في بيتها.
والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله كل وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة.
__________
= النقاب عن وجوه إعجاز القرآن الكريم، وأبدع في بيان نكتها ما شاء الله أن يبدع، حتى عُدَّ كل من كتب في التفسير بعده - من الناحية البلاغية - عالة عليه، غير أنه انتُقدَ عليه أشياء، أشدها محاولته تطبيق آيات القرآن على مذهبه الاعتزالي، ووقوعه في أهل السنة والجماعة بعبارات فاحشة، وقد انتصر لأهل السنة الشيخ أحمد بن محمد بن منصور المنير الإسكندري المالكي (ت 680 هـ) وتعقب اعتزاليات الزمخشري تعقبا حثيثا في كتابه "الانتصاف"
(1) الشاطر: من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرًا - مولدة، كما في القاموس وشرحه.(3/196)
وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها، وعن السدي: أن تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وعن الكسائي: يتقنغن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالانضمام معنى الإدناء اهـ (1) .
* قول القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي (ت 543 هـ) :
قال رحمه الله تعالى في تفسيره:
المسألة الثانية: اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة، عمادها أنه الثوب الذي يُستر به البدن، لكنهم نوَّعوه ههنا، فقد قيل: إنه الرداء، وقيل: إنه القناع.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ) قيل: معناه تغطي به رأسها فوق خمارها، وقيل: تغطي به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى.
المسألة الرابعة: والذي أوقعهم في تنويعه أنهم رأوا الستر والحجاب مما تقدم بيانه واستقرت معرفته، جاءت هذه الزيادة عليه، واقترنت به القرينة التي بعده وهي مما تبينه، وهو قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ) ،
والظاهر أن ذلك يسلب المعرفة عند كثرة الاستتار، فدلَّ، وهي:
المسألة الخامسة: على أنه أراد تمييزهن عن الإماء اللاتي يمشين حاسرات، أو بقناع مفرد، يعترضهن الرجال فيتكشفن، ويكلمونهن؛ فإذا تجلببت، وتسترت، كان ذلك حجابًا بينها وبين المتعرض بالكلام، والاعتماد بالإذاية، وقد قيل- وهي:
المسألة السادسة: إن المراد بذلك المنافقون.
__________
(1) "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" (3/ 274) .(3/197)
قال قتادة: كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالإذاية، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء؛ لئلا يلحقهن مثل تلك الإذاية.
وقد روي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء على التستر وكثرة
التحجب، ويقول: "أتتشبهْن بالحرائر"؟ وذلك من ترتيب أوضاع الشريعة بين اهـ (1) .
* قول الإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي الحنبلي (ت 597 هـ) :
قال رحمه الله تعالى في "تفسيره":
سبب نزولها أن الفساق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل، فإذا رأوْا المرأة عليها قناع تركوها، وقالوا: هذه حرة، وإذا رأوها بغير قناع، قالوا: أمة، فآذَوْها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال ابن قتيبة: يلبس
الأردية، وقال غيره: يغطين رؤوسهن ووجوههن ليُعْلَمَ أنهن حرائر (ذَلِكَ أَدْنَى) أي: أحرى وأقرب (أَن يُعْرَفْنَ) أنهن حرائر (فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ (2) . قول الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن الرازي (ت 606 هـ) (3)
قال في "تفسيره الكبير":
وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة، وتقِع التهم، فأمر الله الحرائر بالتجلبب، وقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا
__________
(1) "أحكام القرآن" (3/ 1585- 1587) .
(2) "زاد المسير في علم التفسير" (6/422) .
(3) انظر ترجمته في "البداية والنهاية" (13/ 55 – 56) ، "سير أعلام النبلاء" (21/ 500) ، "لسان الميزان" (4/ 426 - 429) .(3/198)
يُؤْذَيْنَ) قيل: يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن، ويمكن أن يقال: المراد أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها - مع أنه ليس بعورة (1) لا يُطْمَعُ فيها أنها تكشف عورتها، فُيعرفن أنهن مستورات، لا يمكن طلب الزنا منهن اهـ (2) .
* قول الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي (ت 671 هـ) :
قال رحمه الله تعالى في "تفسيره":
لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن اهـ.
وقال أيضا: قوله تعالى: (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الجلابيب: جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء؟ وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وفي صحيح مسلم عن أم عطية قالت: قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟، قال: "لتلبسها أختها من جلبابها" اهـ.
وحكى رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
"ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها (3) ، أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها"؟.
__________
(1) يأتي إن شاء الله بيان أنه ليس بعورة أي: في الصلاة، لا مطلقا، بل الأمر بحجاب الوجه في هذه الآية دليل على أن الوجه عورة في باب النظر، والله أعلم،
وانظر ص (244- 250) .
(2) "مفاتيح الغيب" (6/ 591) .
(3) الأطمار جمع طِمر - بكسر الطاء، وسكون الميم- وهو الثوب الخلق.(3/199)
وقال القرطبي رحمه الله أيضَا:
قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي الحرائر، حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عُرِفن لم يقابَلْن بأدنى من المعارضة مراقبةً لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن، وليس المعنى أن تُعرف المرأة حتى تُعْلَمَ من هي (1) ، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر.
وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساءَ المساجدَ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج كما مُنِعَتْ نساء بني إسرائيل"، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع. اهـ (2) .
* قول الإمام القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي الشافعي (ت 691 هـ) :
قال رحمه الله في "تفسيره":
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا
برزن لحاجة، و (مِن) للتبعيض، فإن المرأة ترخي بعض جلبابها، وتتلفع ببعض (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) يُمَيَّزنَ عن الإماء والقينات (فَلَا يُؤْذَيْنَ) فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لما سلف (رَحِيمًا) بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها. اهـ (3) .
__________
(1) وانظر أيضا تفسير الثعالبي المالكيّ (ت 875 هـ) ، الموسوم بـ "الجواهر الحسان في تفسير القرآن" (3/237) .
(2) "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 243 - 244) .
(3) "أنوار التنزيل، وأسرار التأويل" (2/ 280) .(3/200)
قول العلامة أحمد بن محمد شهاب الدين الخفاجي (ت 1069 هـ) : قال رحمه الله في "حاشيته على تفسير البيضاوي" شارحا الفقرة السابقة
منه
قوله: (مِن) للتبعيض ... إلخ - وقد قال في "الكشاف": إنه يحتمل وجهين:
أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، فيكون البعض واحدَا منها،
أو يكون المراد ببعض جزءًا منه بأن ترْخِيَ بعض الجلباب، وفضلَه على وجهها فتتقنَّع به، والتجلبب على الأول لبس الحجاب على البدن كله، وعلى هذا التقنع بستر الرأس والوجه، مع إرخاء الباقي على بقية البدن، وقوله (يُدْنِينَ) يحتمل أن يكون مقول القول، وهو خبر بمعنى الأمر (1) ، أو جواب الأمر على حَدِّ: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) الآية [إبراهيم: 31] .
والجلباب إزار واسع يُلْتَحَفُ به، فما قيل: إن النظم (عَلَيْهِنَّ) دون "على وجوههن"، وقد فسره بستر وجوههن وأبدانهن به، فكيف يصح الحمل على التبعيض حينئذ، إذ لا يصح لفظ "البعض" في موضع "مِنْ" إلا أن يبقى بعض من الجلباب غير مستعمل في الوجه والبدن، ليس بشيء، لأن قوله: (عَلَيْهِنَّ) إما على تقدير مضاف أي على رؤوسهن، أو وجوههن، أو على أنه مفهوم منه - وإن لم يقّدَّر-، وأما قوله: "وأبدانهن" فبيان للواقع؛ لأنها إذا أرخت على الوجه بعضَه بقي باقيه على البدن، لكن المأمور به ضم بعض منه لأن به الصيانة، قوله: "عن الإماء والقينات " إما من عطف أحد المترادفين أو المراد بالقينات البغايا، وأما إرادة المغنية فلا وجه له، وقوله: "يميزن" فالمراد بالمعرفة التمييز مجازا لأنه المقصود، ولو
__________
(1) وعليه تكون صيغة المضارع هنا للأمر، وظاهر الأمر الوجوب، بل إن الأمر إذا ورد بصيغة المضارع فإنه يكون آكد في الدلالهَ على الوجوب.(3/201)
أبقى على معناه صح.
قال السبكي في "طبقاته": واستنبط أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزًا لهم حتى يعرفوا فيُعمل بأقوالهم (1) .
قوله: "لما سلف": ليس المراد به أمر التجلبب قبل نزول هذه الآية حتى يقال إنه لا ذنب قبل الورود في الشرع، فهو مبني علي الاعتزال والقبح العقلي، بل المراد: ما سلف من ذنوبكم المنهيِّ عنها مطلقا، فيغفرها إن شاء، ولو سلم إرادته فالنهي عنه معلوم من آية الحجاب التزامَا، وقيل: المراد لما عسى يصدر من الإخلال في التستر) اهـ (2) .
* قول الإمام عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي (ت 701 هـ) :
قال رحمه الله في تفسيره":
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك (3) ، و (مِن) للتبعيض، أي: ترخي بعض جلبابها وفضله على
__________
(1) وقد أنكر هذا الاستنباط العلامة صديق حسن خان رحمه الله، ونقل عن علماء السلف المنع منه – انظر "فتح البيان في مقاصد القرآن" له (7/413 - 414) ، وانظر ص (163) من هذا القسم.
(2) "عناية القاضي، وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي".
(3) (وهذا الذي نقله النسفي في تفسيره يدل دلالة ظاهرة على أن المرأة المسلمة في المجتمعات الإسلامية تستر وجهها، وكان الإدناء للثوب عندما ينقشع عن وجه المرأة متعارفًا عليه بين المسلمين حتى مضت هذه الصورة مثالَا يحتذى) اهـ من تعليق الشيخ عبد العزيز بن خلف "نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة للألباني" هامش ص (51) .(3/202)
وجهها اهـ (1) .
تنبيه: تحتجب الأمة إذا خيف بها الفتنة:
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله رحمة واسعة:
وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها، وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها، وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء، ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بها أمر الحرائر، والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم يفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد، فلم يُجْعَلْ عليهن احتجاب، واستثنى بعض الرجال وهم غير أولي الإربة، فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأنْ يستثنى بعض الإماء أولى وأحرى، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها، وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف لم يجز إبداء الزينة الخفية له، فالخطاب خرج عامُّا على العادة، فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة، وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك. اهـ (2) .
وزعم نفاة الحكمة والتعليل والقياس أن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين، وأيدوا ذلك بأمور: منها أن الشارع حرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة، وجوزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال، وقد انبرى الإمام المحقق شمس الدين محمد
__________
(1) "مدارك التنزيل، وحقائق التأويل" (3/79) .
(2) "تفسير سورة النور" ص (86) .(3/203)
ابن أبي بكر ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، للرد عليهم وتتبع ما استدلوا به، وكان مما قال رحمه الله في الرد على الشبهة السابقة: وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة، وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع، فأين حرَّم الله هذا، وأباح هذا؟ والله سبحانه وتعالى إنما قال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور: 30] ، ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظر إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حرم عليه بلا ريب.
وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن، فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟
فهذا غلط محض على الشريعة، وأكَّد هذا الغلطَ أن بعض الفقهاء سمع قولهم: "إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبًا كالبطن والظهر والساق"، فظن أن ما يظهر غالبًا حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة، لا النظر، فإن العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك، والله أعلم (1) اهـ.
وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام المحقق ابن القيم عليهما الرحمة من احتجاب الحسان من الإماء، وبروز غير الحسان، قد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فنقل ابن منصور عنه أنه قال: "لا تنتقب الأمة"، ونقل ابن منصور عنه أيضًا، وأبو حامد الخَفَّاف أنه قال: "تنتقب
__________
(1) "القياس في الشرع الإسلامي" ص (69) .(3/204)
الجميلة" (1) اهـ.
* قول العلامة محمد بن أحمد بن جَزي الكلبي المالكي (ت 741) : قال رحمه الله في "تفسيره":
كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويُفَهمَ الفرقُ بين الحرائر والإماء.
والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء، وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقيل: أن تلويه حتى لا يظهر إلا عيناها، وقيل: أن تغطي نصف وجهها (2) .
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك أقرب إلى أن يعرف الحرائر من الإماء، فإذا عرف أن المرأة حرة لم تعارض بما تعارض به الأمة، وليس المعنى أن تعرف المرأة من هي، إنما المراد أن يفرق بينهما وبين الأمة لأنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء، وربما تعرض لهن السفهاء (3) أهـ.
* قول الإمام النحوي المفسر أثير الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن علي أبن حيان الأندلسي الشهير بأبي حيان (ت 745 ص) :
قال رحمه الله في "تفسيره":
... وقال السدي: (تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين "، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة) (4) . وقال أيضا رحمه الله: والظاهر أن قوله: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) يشمل
__________
(1) "الصارم المشهور" ص (74) .
(2) ونسبه القرطبي إلى الحسن "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 243) . (3) "التسهيل لعلوم التنزيل" (3/ 144) .
(4) "البحر المحيط " (7/ 250) .(3/205)
الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح (1) ، و (مِن) في (جَلَابِيبِهِنَّ) للتبعيض، و (عَلَيْهِنَّ) شامل لجميع أجسادهن، أو: (عَلَيْهِنَّ) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه، (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا
يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت غاية في التستر والانضمام لم يُقْدَمْ عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها. اهـ.
فصل
في بيان الدليل على صحة التفريق بين الحرائر
والإماء في الحجاب
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء كما كانِت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه: أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز" (2) أهـ، وقال رحمه الله
تعالى: قولة: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
__________
(1) يتضح من هذا أن الإمام أبا حيان رحمه الله يذهب إلى التسوية بين الحرائر والإماء في حكم الجلباب الشامل للوجه والكفين، بناء على عدم وجود دليل
. يفرق بينهما في الحكم، ومنه يتبين مرجوحية ما ذهب إليه فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله من الاستدلال بقول أبي حيان: "فيحتاج إخراجهن
من عموم النساء إلى دليل واضح" على صحة مذهبه في التسوية يبن الحرائر والإماء - لا في وجوب الحجاب الكامل كما هو مذهب أبي حيان صاحب هذا النص بل في التسوية بينهما في السفور.
(2) "تفسير سورة النور" ص (56)(3/206)
جَلَابِيبِهِنَّ) الآية:
دليل على أن الحجاب إنما أُمِر به الحرائر دون الإماء؟ لأنه خص أزواجه وبناته، ولم يقل: وما ملكت يمينك وإمائك وإماء أزواجك وبناتك؟ ثم قال (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) والإماء لم يدخلن في نساء المؤمنين كما لم يدخل في قوله (نِسَائِهِنَّ) ما ملكت أيمانهن حتى عُطف عليه في آيتي النور والأحزاب (1) ، وهذا قد يقال إنما ينبني على قول من يخص ما ملكت اليمين بالإناث، وإلا فمن قال: هي فيهما أو في الذكور ففيه نظر. وأيضَا فقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسَائِهِمْ) [المجادلة: 2] إنما أريد به الممهورات دون المملوكات، فكذلك هذا، فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن؛ فهذا مع ما في الصحيح من أنه لما اصطفى صفية بنت حيي، وقالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، دل على أن الحجاب كان مختصُّا بالحرائر.
وفي الحديث دليل على أن أمومة المؤمنين لأزواجه دون سراريه، والقرآن ما يدل إلا على ذلك، لأنه قال: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) ، وقال: (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) ، وهذا أيضًا دليل ثالث من الآية؛ لأن الضمير في قوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) عائد إلى أزواجه فليس للمملوكات ذكر في الخطاب،
لكن إباحة سراريه من بعده فيه نظر (2) 0 اهـ.
__________
(1) وهما قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) إلى قوله تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) [النور: 31] ، وكذا قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) إلى قوله عز وجل: (وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)
(الأحزاب: 55)
(2) "مجموع الفتاوى" (15/448 -449) ، وفيما ذكره رد على استبعاد العلامة الألباني تخصيص قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) بالحرائر دون الإماء، كما جاء
في "حجاب المرأة المسلمة" ص (44-47) ، مع تصحيحه لما ورد عن عمر رضي الله عنه
من التفريق كما يأتي إن شاء الله.(3/207)
فصل
* ذكر الآثار الواردة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التفريق بين الحرائر والإماء في التقنع بالجلباب (1) :
روى عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن عمر رضي الله عنه ضرب أمة لآل أنس رآها متقنعة، فقال: "اكشفي رأسك (2) ، لا تشبهي بالحرائر".
وروى ابن جّريج عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى الإماء
عن الجلابيب أن يتشبهن بالحرائر، قال ابن جريج عن نافع: إن صفية بنت أبي عبيد حدثته، قالت: خرجت امرأة مختمرة متجلببة، فقال عمر: من هذه المرأة؟ فقيل له: جارية لفلان، رجل من بيته، فأرسل إلى حفصة، فقال: ما حملك على أن تخمري هذه الأمة، وتجلببيها، حتى هممت أن أقع بها، ولا أحسبها إلا من المحصنات؟! لا تشبهوا الإماء بالمحصنات. انتهى. ورواه البيهقي، وقال؟ "الاَثار بذلك عن عمر صحيحه" انتهى.
روى ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا علي بن مسهر، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك، قال: دَخَلت على عمر بن الخطاب أمَة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين، أو الأنصار، وعليها جلباب متقنعة به فسألها: عتِقْتِ؟ قالت: لا، قال: فما بال الجلباب؟! ضعيه على رأسك، إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين، فتلكأت فقام إليها بذلك بالدرة،
__________
(1) انظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 300 - 301) ، "المحلى" لابن حزم (3/ 218) ، "إرواء الغليل" للألباني (6/ 203 – 204) حيث صححوا هذه الآثار في التفريق بين حجاب الحرائر والإماء.
(2) الظاهر- بضميمة الآثار الآتية عن الفاروق رضي الله عنه أنه عبر هنا عن الجزء بالكل، وأن مقصوده: "اكشفي وجهك"، والله أعلم(3/208)
فضرب بها رأسها حتى ألقته.
وروى محمد بن الحسن في كتاب "الآثار": أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء أن يتقنعن، ويقول: لا تتشبهن بالحرائر. انتهى.
* قول الإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل عماد الدين ابن عمر بن كثير القرشي الشافعي (ت 774 هـ) :
قال في "تفسيره الجليل":
يقول الله تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بان يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء.
والجلباب: هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد، وهو بمنزلة الإزار اليوم.
قال الجوهري: الجلباب: الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلًا لها:
تمشي النسور إليه وَهْيَ لاهية ... مَشْيَ العَذَارى عليهن الجلابيبُ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدةً" (1) .
__________
(1) رواية علي بن طلحة عن ابن عباس منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: "روى عن ابن عباس ولم يسمع منه، بينهما مجاهد"، وقال دحيم: "لم يسمع التفسير من ابن عباس"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "روى عن ابن عباس، ولم يره) -
له عند مسلم حديث واحد في ذكر العزل، وروى له الباقون حديثا آخر في الفرائض، قال الحافظ ابن حجر: "قلت ونقل البخاري من تفسيره رواية =(3/209)
وقال محمد بن سيرين: "سألت عبيدة السلماني عن قول الله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فغطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى (1) . اهـ (2) .
* وقد فسر الإمام جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المحَلِّي رحمه الله (ت 864 هـ) الآية بقوله:
(مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) جمع جلباب، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، أي: يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة (ذَلِكَ أَدْنَى) أقرب إلى (أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن حرائر (فَلَا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن، بخلاف الإماء، فلا يغطين وجوههن، فكان المنافقون يتعرضون لهن، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لما سلف منهن لترك الستر (رَحِيمًا) بهن إذ سترهن. اهـ (3) .
وقال السيوطي رحمه الله:
هذه آية الحجاب في حق سائر النساء ففيها وجوب ستر الرأس والوجه
__________
= معاوية بن صالح عنه عن ابن عباس شيئا في التراجم وغيرها، ولكنه لا يسميه، يقول: قال ابن عباس أو يذكر عن ابن عباس " اهـ، ويفهم من صيغة الجزم احتجاج الإمام البخاري بهذه الرواية - أعني رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما - في مواضع عديدة من كتاب التفسير حيث أوردها
معلقه، وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح، ووصلها ابن حجر في
"الفتح"، فانظر: "فتح الباري" (8/ 54) ، (8/76) ، (8/ 114) ، و "تهذيب التهذيب" (7/ 339 -340) .
(1) أورد هذا الأثر السيوطي في "الدرر المنثور" (5/ 221) وقال: أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين. اهـ.
(2) تفسير القرآن العظيم" (6/ 470) .
(3) "قرة العينين على تفسير الجلالين" ص (560)(3/210)
عليهن" (1) اهـ.
وقال الإمام الخطيب الشربيني رحمه الله في تفسيره:
" (يُدْنِينَ) يقربن (عَلَيْهِنَّ) أي على وجوههن وجميع أبدانهن، فلا يدعن شيئًا منها مكشوفًا" (2) ، أهـ.
وقال أيضَا:
قال ابن عادل: ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي في الصلاة لا يُطمع فيها أنها تكشف عورتها فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن " (3) 0 اهـ. * وقال الشيخ أبو السعود محمد بن محمد العمادي (ت 951 هـ) في "تفسيره":
أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي (4) . أهـ.
* وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي (ت 1137 هـ) رحمه الله في "تفسيره":
والمعنى يغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرجن مكشوفات الوجوه والأبدان كالاماء حتى لا يتعرض لهن السفهاء ظنُّا بأنهن إماء.
ونقل عن أنس رضي الله عنه قال: "مرت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه جارية متقنعة
__________
(1) "عون المعبود" (4/106) ، "الإكليل" على هامش "جامع البيان" ص (334) .
(2) "السراج المنير" (3/271) .
(3) السابق (3/ 372) .
(4) "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" (7/ 115) .(3/211)
فعلاها بالدرة، وقال: يالكاع (1) تتشبهين بالحرائر ألقي القناع" (2) . اهـ.
* قال العلامة الشوكاني (ت 1250 هـ) في "تفسيره":
قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورءوسهن إلا عينَا واحدة، فيعلم أنهن حرائر لا يعرض لهن بأذى.
إلى أن قال رحمه الله: "وليس المراد بقوله (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر (3) . اهـ
* وقال الشيخ السيد محمد عثمان ابن السيد محمد أبي بكر ابن السيد عبد الله الميرغني المحجوب المكي (ت 1268 هـ) في "تفسيره":
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أي يرخين على وجوههن وسائر أجسادهن ما يسترهن من الملاآات والثوب الساتر (4) . اهـ.
* وقال العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي (ت 1270 هـ) في " تفسيره":
والإدناء: التقريب، يقال: أدناني، أي قربني، وضمن معنى الإرخاء
أو السدل، ولذا عُدِّيَ بـ "على"، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل. وقال أيضًا رحمه الله:
__________
(1) لكاع: كلمة تقال لمن يُستَحقَرُ به مثل العبد والأمهَ والخامل والقليل العقل، مثل قولك: يا خسيس. اهـ من "فتح البيان" لصديق حسن خان (7/ 415) .
(2) "روخ البيان" (7/ 240) .
(3) "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير" (4/ 304- 305) .
(4) "تفسير الميرغني " (2/ 93) .(3/212)
والظاهر أن المراد بعليهن: على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. وقال أيضًا. وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه. تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت: "لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها" (1) .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ) الآية، شققن مروطهن، فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان (2) . اهـ.
* وقال نعمةُ الله بنُ محمود الخجواني:
يدنين يُغطين (عَلَيْهِنَّ) أي على أيدهن وأرجلهن وعلى جميع معاطفهن (مِن) فواضل (جَلَابِيبِهِنَّ) وملاحفهن بحيث لا يبدو من مفاصلهن وأعضائهن شيء سوى العينين، بل عين واحدة (3) . اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن أحمد الدميري:
يدنين يرخين الرداء سترا ... للوجه والرأس يعم الصدرا (4)
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 182) بإسناد صحيح، وأورده في "الدر" (5/ 221) برواية عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أم سلمة بلفظ: "من أكسية سود يلبسنها"، والغربان؟ جمع غراب، شبهت الأكسية في سوادها بالغربان
(2) "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" (22/88-90) .
(3) "الفواتح الإلهية" (2/163) نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية".
(4) "التيسير في علوم التفسير" ص (91) نقلَا عن "مجلة الجامعة السلفية".(3/213)
* وقال المهايمي:
(يُدْنِينَ) أي يقربن تقريب تغطية (عَلَيْهِنَّ) أي على وجوههن
وأبدانهن (1) . اهـ.
* وقال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) - رحمه الله - في "تفسيره":
فَأمِرنَ - يعني الحرائر- أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويُهبن فلا يطمع فيهن طامع.
وقال أيضا: وأخرج - يعنى ابن أبي حاتم - عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري: هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب، لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات (2) .
* قال علامة القصيم الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في "تفسيره":
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية: هذه الآية هي التي تسمى آية الحجاب، فأمر الله نبيه أن يأمر النساء عموما، ويبدأ بزوجاته وبناته لأنهن آكد من غيرهن، ولأن الآمر لغيره ينبغي أن يبدأ بأهله قبل غيرهم كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) أن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه، أى يغطين بها وجوههن وصدورهن.
__________
(1) "تبصير الرحمن" (2/ 164) نقلأ عن "مجلة الجامعة السلفية"
(2) "محاسن التأويل" (13/4908 - 4909)(3/214)
ثم ذكر حكمة ذلك فقال: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) دل على وجود أذية إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظُنَّ أنهن غير عفيفات
فيتعرض لهن من في قلبه مرض فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظُنَّ أنهن إماء فتهاون بهن من يريد الشر، فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن.
(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) حيث غفر لكم ما سلف، ورحمكم بأن بين لكم الأحكام، وأوضح الحلال والحرام، فهذا سد للباب من جهتهن، وأما من جهة أهل الشر فتوعدهم بقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي مرض: شك أو شهوة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) أي المخوفون المرهبون الأعداء المتحدثون بكثرتهم وقوتهم وضعف المسلمين.
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه ليعم ذلك كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة من أمثال هؤلاء (ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ونسلطك عليهم ثم إذا فعلنا ذلك لا طاقة لهم بك وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: (ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) (1) "، اهـ.
* قول العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ) :
قال رحمه الله:
ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
__________
(1) "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان" (6/ 122) .(3/215)
جَلَابِيبِهِنَّ) أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها، وممن قال به ابن مسعود، وابن عباس، وعَبيدة السلماني وغيرهم.
فإن قيل: لفظ الآية الكريمة وهو قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لا يستلزم معناه ستر الوجة لغة، ولم يرد نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسرين إنه يستلزمه معارَض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين، فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب كما ترى.
ومن الأدلة على ذلك أيضَا هو ما قدمنا في سورة النور (1) في الكلام على قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصح تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين كما تقدم إيضاحه، وأعلم أن قول من قال: "إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) قال: وقد دل قوله: (أَنْ يُعْرَفْنَ) على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن لأن التي تستر وجهها لا تعرف " باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منْعًا باتا لأن قوله:
__________
(1) انظر ص (303) وما بعدها(3/216)
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) صريح في منع ذلك، وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن لا يمكن بأي حال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن، وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابيب منافٍ لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه كما لا يخفى.
وقوله في الآية الكريمة: (لِأَزْوَاجِكَ) دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة
في الآية ليست بكشف الوجوه، لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين.
والحاصل: أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة:
الأول: سياق الآية كما أوضحناه آنفا.
الثاني: قوله (لِأَزْوَاجِكَ) كما أوضحناه أيضًا.
الثالث: أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء، ولا يتعرضون للحرائر، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى، ظنا منهم أنهن إماء، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، فإذا فعلن ذلك، ورآهن الفساق علموا أنهن حرائر، ومعرفتهن بأنهن حرائر لا إماء هو مبنى قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) فهي معرفة بالصفة لا بالشخص، وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن كما ترى، فقوله:
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لأن إدناءهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر فهو أدنى وأقرب لأن يعْرفن: أي يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء.
وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسيرِ هذه الآية، وهو واضح،(3/217)
وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز (1) بل هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) إلى قوله: (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) .
ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالى: (َّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الآية، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى:
حافظ للفرج راض بالتقى ... ليس ممن قلبه فيه مرض
وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب. اهـ (2) .
* ونقل العلامة أبو الأعلى المودودي (ت 1399 هـ) رحمه الله تعالى جملة من أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية ثم قال رحمة الله عليه:
"ويتضح من هذه الأقوال جميعا أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة، حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد، هو الذي قد فهمناه من كلماتها، وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار، علمنا منها أيضا أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم
__________
(1) وقد شنع بعضهم بذلك، وزعم أن لازم هذا التفسير: أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين.
انظر: "المحلى" (3/ 219) ، "الحجاب" للألباني ص (44-45) ، وهذا الاستنباط ليس بلازم أصلًا، لأن سياق الآيات يرده صراحة كما هو واضح أعلى والله أعلم.
(2) "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (6/ 6! هـ) .(3/218)
بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي، وكن لا يخرجن سافرات، فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الأحاديث أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن "المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين"، و"نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب" وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامة، فنهين عنه في الإحرام، ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تُعْرَضَ الوجوه في موسم الحج عرضا، بل كان المقصود في الحقيقة أن لا يكون القناع جزءا من هيئة الإحرام المتواضعة، كما يكون جزءًا من لباسهن عادة، فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمات كنَّ يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضا، ففي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوْا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" (1) ، وفي الموطأ للإمام مالك عن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فلا تنكره علينا" (2) .
وقد ورد في "فتح الباري" عن عائشة رضي الله عنها: "تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها" (3) .
وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق، وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير في الأمر مجالا
__________
(1) رواه أبو داود رقم (1833) ، في الحج: باب في المحرمة تغطي وجهها (2/167) .
(2) الموطأ- باب تخمير المحرم وجهه، ص (217) ط. الشعب، بدون قولها: "فلا تنكره علينا".
(3) انظر: "فتح الباري" - كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب (3/ 474) ط السلفية.(3/219)
للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب، ما زال العمل جاريا عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم (1) . اهـ. وقال رحمه الله في "تفسير سورة الأحزاب":
والجلباب في اللغة العربية: الملحفة والملاءة واللباس الواسع، والإدناء يعني: التقريب واللف، فإن أضيف إليه حرف الجر "على" قُصد به الإِرخاء والإِسدال من فوق.
وبعض المترجمين والمفسرين في هذه الأيام غلبهم الذوق الغربي، فترجموا هذا اللفظ بمعنى الالتفاف؟ لكي يتلافوا حكم ستر الوجه، لكن الله لو أراد ما ذكره هؤلاء السادة لقال: "يدنين إليهن"، فإن من يعرف اللغة العربية لا يمكن أن يسلم بأن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ) تعني: أن يتلففن أنفسهن فحسب، هذا بالإضافة إلى قوله: (جَلَابِيبِهِنَّ) يحول أكثر وأكثر دون استخراج هذا المعنى.
(ومِنْ) هنا للتبعيض يعني جزءَا أو بعضا من جلابيبهن، ولو التفت المرأة بالجلباب لالتفت به كله طبعًا لا ببعضه، أو بطرف منه، ومن ثم تعني الآية صراحة أن يتغطى النساء تمامًا، ويلففن أنفسهن بجلابيبهن ثم يسدلن عليهن من فوق بعضا منها أو طرفها، وهو ما يعرف عامة باسم النقاب. هذا ما قاله أكابر المفسرين في أقرب عهد بزمن الرسالة وصاحبها صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن جرير وابن المنذر أن محمد بن سيرين رحمهِ الله سأل عبيدة السلماني عن معنى هذه الآية،- وكان عبيدة قد أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت إليه، وجاء المدينة في عهد عمر رضي الله عنه، وعاش فيها، ويعتبر نظيرا للقاضي شريح في الفقه والقضاء - فكان جوابه أن أمسك بردائه وتغطى به، حتى لم يظهر من رأسه ووجهه إلا عين واحدة.
__________
(1) "الحجاب" ص (302 - 303)(3/220)
وقد فسرها ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بما يقارب هذا إلى حد كبير، وما ثقله عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه يقول فيه: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة"، وهذا ما قاله قتادة والسدي أيضًا في تفسير هذه الآية.
ويتفق أكابر المفسرين الذين ظهروا في تاريخ الإسلام بعد عصر الصحابة والتابعين على تفسير الآية بهذا المعنى" اهـ.
* ثم قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) :
المراد بقوله (يُعْرَفْنَ) أن كل من يراهن في هذا اللباس الوقور المحتشم
غير المزين يعرف أنهن شريفات حرائر، لا أوباش متهتكات متبذلات فيطمع أي مستهتر خليع في أن ينال منهن مراده.
والمقصود من قوله: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) لا يتعرض لهن أحد بأذى.
ونحن نتوقف هنا قليلا، ونحاول أن نفهم معًا أي روح لقانون الاجتماع الإسلامي يعبر عنها هذا الأمر القرآني؟ وما هو غرضه ومقصوده الذي ذكره رب العالمين بنفسه؟
لقد أمر الله النساء في الآية رقم (31) من سورة النور ألا يبدين زينتهن
إلا لأشخاص معينين ذُكِروا في هذه الآية: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ، فإذا قرأنا هذا الأمر متصلًا مع الآية التي بين أيدينا من سورة الأحزاب، ظهر لنا في وضوح أن الأمر الصادر إلى النساء في هذه الآية أن يدنين عليهن من جلابيبهن يعني: إخفاء الزينة عن غير المحارم، ولا يتحقق هذا الغرض طبعًا إلا إذا كان الجلباب غير مزين ولا منقوش في ذاته، وإلا ضاع هذا الغرض بارتداء جلباب مزين منقوش لافت للنظر.(3/221)
وفوق هذا أن الله تبارك وتعالى لا يأمر النساء بإرخاء الجلباب وإخفاء الزينة فحسب، بل يأمرهن كذلك أن يسدلن على أنفسهن - يعني من أعلى - طرفًا من جلابيبهن، وأي إنسان عاقل لا يمكن أن يفهم من هذا القول شيئَا سوى أنه يقصد ضرب النقاب أو التنقب؛ حتى يختفي الوجه أيضا إلى جانب إخفاء زينة الجسم واللباس، ثم يذكر رب العالمين ذاته علة هذا الأمر فيقول: إن هذه أمثل طريقة لأن يعرف نساء المسلمين فلا يؤذين.
ويظهر من هذا تلقائيًّا أن هذا الأمر صادر إلى النسوة اللاتي لا يتلذذن بمعاكسة الرجال لهن، وحملقتهن في وجوههن وأجسامهن، ورغبتهم فيهن، بل يتألمن ويتأذين، واللاتي لا يردن جعل أنفسهن في عداد نجوم المجتمع الداعرات، بل يردن أن يعرفن بأنهن مصابيح البيوت العفيفات التقيات، هؤلاء الشريفات الطيبات يقول الله لهن: إن كنتن تردن أن تعرفن بهذه الصفة فعلًا، وإن كان اهتمام الرجال بكن، ورغبتهم فيكن لا يلذ لكن حقيقة، بل يؤذيكن، ويؤلمكن، فليس السبيل إلى ذلك أن تخرجن من بيوتكن متزينات كعروس ليلة زفافها، وتظهرن جمالكن وحسنكن براقًا
أخاذا كأحسن ما يكون أمام الأعين الطامعة الجائعة، بل إن أفضل سبيل لهذا الغرض أن تخرجن خافيات زينتكن كلها في جلباب مسدل غير مزين، وتضربن النقاب على وجوهكن، وتمشين بطريقة لا يلفت نظر الناس فيها إليكن شيء حتى ولا صوت حليكن.
إن المرأة التي تتزين وتتهيأ قبل خروجها، ولا تخرج قدمها من منزلها قبل أن تكون قد وضعت أصنافا وألوانا من المساحيق والخطوط بين أحمر وأزرق وأسود وأبيض، لا يمكن أن يكون غرضها من هذا سوى أنها تريد أن تلفت إليها نظر الرجال، وتدعوهم هي نفسها إلى الالتفات إليها، والاهتمام بها، والرغبة فيها، فإن قالت بعد ذلك إن النظرات الجائعة العطشى تؤذيها، وتضايقها، وإن ادعت أنها لا تريد أن تُعرف بأنها "سيدة(3/222)
مجتمع " و"امرأة محبوبة مرغوب فيها"، بل تحب أن تكون ربة بيت شريفة
محترمة، فليس ذلك منها غير خداع ومكر.
إن قول الإِنسان لا يحدد نيته، بل إن نيته الحقيقية هي التي تختار، وتحدد
شكل عمله، ومن ثم فالمرأة التي تجعل نفسها شيئًا لافتًا للنظر، ثم تمشي أمام الرجال، يفضح فعلها هذا الدوافع التي تكمن خلفه، والمحركات التي تعمل
وراءه، ولهذا يتوقع طلاب الفتنة منها نفس ما يتوقعونه من امرأة من هذا
الصنف، فالقرآن يقول للنساء: هيهات هيهات أن تكُنَّ مصابيح البيوت النيرات، ونجوم المجتمع الداعرات في وقت واحد، فلكي تكن مصابيح البيوت اتركن تلك المناهج والطرق والأساليب التي تناسب نجوم المجتمع،
واسلكن أسلوب الحياة الذي يساعدكن في أن تصبحن مصابيح البيوت، إن الرأي الشخصي لأي إنسان - سواء كان مطابقا للقرآن أم مخالفا،
وسواء أراد قبول هدي القرآن منهج عمل، وقاعدة سلوك أم لم يرد - إن
كان لا يريد بحال أن يرتكب جريمة عدم الأمانة في التفسير، فلا يمكن أن
يخطئ في فهم مراد القرآن وقصده، وما لم يكن منافقًا فسوف يُسَلم بأن
مراد القرآن هو ما ذكرنا آنفًا، فإن خالف بعد ذلك فسوف يخالف بعد أن
يعترف بأنه يعمل على خلاف القرآن، أو أنه يفهم هدي القرآن فهمًا أعوج
خاطئا " (1) اهـ
* وقال فضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري - حفظه الله تعالى -: "قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .
هذه الآية من سورة الأحزاب، وهي متأخرة في التلاوة عن الآيتين
قبلها (2) أبطلت دعوى الخصوصية في الحجاب؛ حيث أشركت في
__________
(1) "تفسير سورة الأحزاب " ص: (161- 163) ، (165 - 167) .
(2) يعني قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) الآية، وقوله =(3/223)
الخطاب نساء المؤمنين باللفظ الصريح، وهي تطالب المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن لحاجة استدعت ذلك أن يغطين وجوههن، ويسترن محاسنهن.
أما التعليل في الآية فهو يشير إلى المجتمع الإسلامي في تلك الأيام،
وأنه كان مخلخلًا مهزوزًا؛ لوجود أغلبية فيه من المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، وحُكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستقر بعد، والأمن لم يستتب، بدليل أن المنافقين كان منهم من يتعرض للجواري في الشوارع،
ويغازلهن لإيقاعهن في الريبة، فمن باب الوقاية العاجلة أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول آمرا أزواجه وبناته ونساء المؤمنين به إذا خرجت إحداهن لحاجتها أن تغطي رأسها ووجهها، لتُعرف أنها حرة، وليست جارية تخدم البيوت، فلا يتعرض لها أولئك المنافقون بالكلام المريب والمغازلة الفاتنة، والمقصود من الكلام أن هذه الآية مؤكدة لفرضية
الحجاب، ومقررة له.
ودعاة السفور يقولون إن هذه الآية لم تأمر بتغطية الوجه، وإنما أمرت بتغطية الرأس فقط، وهو فهم باطل؛ إذ الجلباب هو ما تضعه المرأة على رأسها، فكيف يقال لها: أدني الجلباب من رأسك تغطية (1) .
وإنما تدنيه عن رأسها لتغطي به وجهها، هذا هو المعقول والمفهوم من العرب، ثم مجرد تغطية الرأس لا تمنع من المغازلة المخوفة، وإنما يمنع منها تغطية الوجه بالمرة، أما كاشفة الوجه فإن النظر إليها ومنها يسَهلُ المكالمة، فالمغازلة، كما قال الشاعر الحكيم:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء". (2)
__________
= عز وجل: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) الآية إلى قوله تعالى: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) .
(1) كذا في الأصل، ولعله: (فكيف يقال لها: "أدنى الجلباب من رأسك" وهو يغطيه؟) يريد أنه يكون حينئذ تحصيل حاصل، والله أعلم.
(2) "فصل الخطاب في المرأة والحجاب" (ص: 38 - 39) .(3/224)
* وقال الدكتور محمد محمود حجازي في تفسيره:
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فيسترن أجسادهن كلها حتى وجوههن إلا
ما به ترى الطريق (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"والمفهوم من الجلباب أنه لا ينحصر باسم ولا بجنس ولا بلون، وإنما هو كل ثوب تشتمل به المرأة لستر مواضع الزينة من ثابت ومنقول، وإذا عرفنا المقصود منه، زال الحرج في وصفه ومسماه.
فقوله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) (2) يدل على تخصيص الوجه لأن الوجه عنوان المعرفة فهو نص على وجوب ستر الوجه.
وقوله تعالى: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) هو نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاء
لها ولغيرها بالفتنة والشر، ولذلك حرم الله تعالى عليها أن تخرج من بدنها ما تعرف به محاسنها أيا كانت" (3) اهـ.
* وقال حفظه الله تعالى (2) :
"الجلباب" أكمل من ضرب الخمار لأنه يحيط ببدن المرأة كلها، ويستر جميع ما يعلو بدنها من الزينة، أو ما يصف جسمها، لأن لبس الثياب التي تصف حجم المرأة حرام عليها استعمالها بحضرة الرجال الأجانب ...
__________
(1) "التفسير الواضح (22/ 27)
(2) وقال فضيلته معلقا على هذا الموضع: (لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله تعالى لكفى به حكمَا موجبَا، لأن الوجه هو العنوان من المرأة لمعرفتها من الناحية المحذورة، والله تعالى أمر المرأة بأن تعمل على حجب ما يدل على معرفتها من بدنها، وهذا الأمر يقتضي الوجوب، ولا يوجد
أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الخيار) اهـ من هامش ص: 48.
(3) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 48 - 49) .
(4) "السابق" (ص: 52) .(3/225)
ص 226 فارغة(3/226)
في البيوت.
وهذه الآية الكريمة تستدعي التأمل وإدارة الفكر من وجوه:
الأول: أن الله تعالى لم يقل: "يتجلببن" وإنما قال: (يُدْنِينَ) ومعلوم أن الإدناء ليس هو نفس التجلبب، بل هو أمر زائد على التجلبب، فلا يحصل الامتثال بهذا الأمر بمجرد التجلبب، بل لابد من الإِتيان بقدر زائد عليه يصح أن يطلق عليه كلمة الإِدناء.
الثاني: أن الإِدناء لا يطلق على لبس الثياب، ثم إنه لا يتعدى بعلى، بل يتعدى باللام، ومِن، وإلى فتعديته هنا بعلى لتضمينه معنى فعل آخر، وهو الإِرخاء، والإِرخاء يكون من فوق، فالمعنى: يرخين شيئا من جلابيبهن من فوق رؤوسهن على وجوههن.
أما قولنا: على وجوههن، فلأن الجلباب لابد أن يقع على عضو عند الإِرخاء، ومعلوم بالبداهة أن ذلك العضو لا يكون إلا الوجه وأما أن يكون على الجبهة فقط فمعلوم أن هذا القدر القليل من عطف الثوب لا يسمى إِرخاء، ويؤيد هذا المعنى - أي: أن المراد بالإِدناء هو الإِرخاء، لا مجرد، التجلبب - أيضًا، أن الله أتى بكلمة (مِن) التبعيضية قبل الجلابيب، فمقتضاه أن الإِدناء يكون بجزء من الجلباب مع أن التجلبب يطلق على مجموع هيئة لبسه.
الثالث: أن الضمير في (يُدْنِينَ) يرجع إلى ثلاث طوائف جمعاء: إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإلى بناته، وإلى نساء المؤمنين، وقد أجمعوا على أن ستر الوجه والكفين كان واجبا على أزواجه صلى الله عليه وسلم، فإذا دل هذا الفعل على وجوب ستر الوجه والكفين في حق طائفة منها؛ فلم لا يدل نفس ذلك الفعل على نفس ذلك الوجوب في حق طائفتين أخريين؟!
الرابع: أن الله أمر أمهات المؤمنين بالتستر الكامل في آية الحجاب، ولم يستثن عضوًا من عضو، فلو كان المراد بإدناء الجلباب مجرد تغطية الرأس(3/227)
من غير أن يشمل الوجه والكفين لكان كلامه تعالى عبثا في حق أمهات المؤمنين إذ من العجائب أن يؤمر أولًا بالتستر الكامل حتى الوجه والكفين، ثم يؤمر بتغطية الرأس فقط، مع بقاء الآية الأولى محكمة غير منسوخة.
وياليت شعري أي حاجة مست إلى الأمر بستر الرأس بعد الأمر بستر جميع الأعضاء؟!
الخامس: أن أساليب الرواة وإن اختلفت في بيان سبب نزول هذه
الآية، لكنهم متفقون على أن من أهداف هذا الأمر تمييز الحرائر من الأِماء
بالزي.
فعلينا أن نرجع في معرفة ذلك إلى تقاليد العرب في ذلك الزمان وقبله، ويبدو من إشعار الشعراء الجاهليين أن الحرائر والشريفات كن محتجبات الوجوه في الجاهلية أيضا، وحجاب الوجوه – وإن يكن عامًّا - لكنه كان هو الزي الفارق بين الحرة والأمة.
ثم ساق فضيلته شواهد شعرية لتأييد أن ستر الوجوه وكشفها كان هو الفارق بين الحرة والأمة في زمن الجاهلية (1) ، إلى أن قال حفظه الله: وبعد معرفة هذا القدر من تقاليد نساء الجاهلية يسهل علينا فهم معنى الآية، وأن الله تعالى أمر المؤمنات بالتزام الزي الذي كان قد تقرر عندهم أنه زي الحرة، وليس بزي الأمة، ومعلوم أن ذلك الزي كان هو ستر الوجه بالجلباب.
السادس: أن الروايات التي وردت في بيان سبب نزول هذه الآية إما ساكتة عن بيان الزي الذي يفرق بين الحرة والأمة، وإما صريحة جازمة فيه
__________
(1) وقد تقدم ذكر جملة صالحة منها في فصل تاريخ الحجاب في الجاهلية، فراجع ص (84) .(3/228)
فالرواية التي فيها، الصراحة ببيان الزي هى ما رواه أبن سعد عن محمد ابن كعب القرظى قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين يؤذيهن، فإذا قيل له، قال: "كنت أحسبها أمة"، فأمرهن الله أن يخالفن لفي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) ، يقول ذلك أحرى أن يعرفن (1) ويقرب منها الرواية التي رواها ابن جرير، ونقلها فضيلة الدكتور الهلالي فإن فيها تفسير (يُدْنِينَ) بكلمة: يتقنعن، والتقنع يطلق على تغطية الوجه، ومنه مقنع الكندي، سمى مقنعا لأنه كان لا يخرج إلا وعلى وعلى وجهه ستر (2) .
ومنه ما قال أحمد بن أبي يعقوب في "تاريخه": وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجهها البراقع، فيفال: إن أول عربى كشف قناعه ظريف ابن غنم العنبري (3) .
ومنه المثل السائر: ألقى عن وجهه قناع الحياء.
فالروايات التي تبين سبب النزول تصرح أيضًا بان الفرق بين الحرة والأمة إنما كان بستر الوجه وكشفه.
وأما استدلالاهم بما تقرر في كتب الفقه من أن الأمة لا تستر رأسها
فليس بناهض:
أما أولا: فلأن الله تعالى إنما رد المسلمين إلى التقاليد التي كانت متقررة
في مجتمع العرب، ولم يردهم إلى ما تقرر في هذا الشرع، فإن ما تقرر فيه،
لم يتقرر إلا بعد نزول هذه الآية.
وأما ثانيا: فلأن كشف الرأس للإِماء ليس بمتفق عليه (4) .
__________
(1) "طبقات ابن سعد" (8/176، 177) .
(2) انظر: "الأغاني" ترجمه مقنع (17/60) .
(3) "تاريخ اليعقوبي" ط. أوربة (2/ 315) .
(4) "تفسير ابن كثير" (5/516) ، و"تفسير سورة النور" لابن تيمية =(3/229)
وأَما ما قاله فضيلة الدكتور من أن عمر رضي الله عنه كان يضرب الإِماء على ستر الرأس فليس بصحيح، بل الصحيح أنه كاد يضربهن على ستر الوجه وهاك لفظ الرواية: قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة، فعلاها بالدرة، وقال: يالكاع تتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع (1) .
والعجب من فضيلة الدكتور أنه كيف رضي أن يستدل به على جواز كشف الوجوه للحرائر؟!
السابع؟ أنا لو سلمنا - على سبيل التنزل - أن مجرد ستر الرأس يكفي لتمييز الحرة من الأمة، فلا شك أن ستر الوجه مع ستر الرأس أوْلى في إِعطاء هذا التمييز، وفي تأدية هذا الغرض، فسبب النزول على تقدير صحة
ما فهمه منه فضيلة الدكتور لا يقتضي نفي ستر الرأس ولا ينافي وجوبه.
الثامن أن سبب النزول ينص على أن الله تعالى دَرَأَ- بأمر إِدناء الجلباب-
مفسدة من المفاسد، وهي التعرض للنساء، ولكن هناك مفاسد أخرى أكبر منها، وذلك أن المرأة- ولو كانت فاجرة- إذا تعرض لها أحد في الطريق بالتغزل، أو بإلقاء الكلمات تثور الحمية والغيرة فيها، وتستشيط غضبًا، إلا التي ترامت في وقاحتها وفجورها إلى النهاية، قلما يظفر الرجل بجدوى في
مطلوبه بمثل هذا التعرض، ولا يجتني من عمله هذا إلا شوك الذل
والهوان
ولكن إذا خرجت المرأة سافرة الوجه فلا غرو أن يلتقي نظرها بنظر أحد من الرجال، ومعروف أن التقاء النظرين يحدث انجذابا في القلبين قلما يصبر أحدهما عن الآخر، ويقع كل واحد منهما فريسة لصاحبه
بسهولة تامة، ولذلك ورد "أن النظر سهم من سهام إبليس مسموم " (2) . وقال الشاعر:
__________
= ص (17) ، و"المحلى" (3/ 281) .
(1) "فتح البيان" للنواب صديق حسن خان (7/316)
(2) انظر: "تفسير ابن كثير" (5/87) .(3/230)
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال آخر:
يصرعن ذا اللب حتى لاحراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
وليست هذه المفاسد متخيلة مفروضة، بل قد ابتلي بها المجتمع البشري في
العالم كله، وكل ذلك من عواقب هذا السفور.
فإذا كانت هناك مفاسد أخرى بجنب المفسدة التي نزلت لدرئها الآية الكريمة فهل من حكمة الحكيم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يتطور إليه المجتمع بفضل السفور، هل من حكمته أن يدرأ مفسدة واحدة صغيرة، ويترك مفاسد أخرى كبيرة مفتحة الأبواب، يدرؤها مع أنها من قبيلها وأشد منها؟
فالصحيح أن مفسدة واحدة صغيرة - وهي التعرض للنساء في الطرقات - لما ظهرت واقتضت أمرًا من أوامر الله يسد به بابها أمر الله بأمر يكفي لسد باب هذه المفسدة، ولسد أبواب المفاسد الأخرى التي هي أكبر من أختها، فأمر بستر الرأس والوجه حتى ينقطع السبيل.
ولعل قائلاً يقول: إن الأمر إذا كان كذلك؛ فلم لم ينبه الله تعالى على
تلك الأغراض النبيلة التي تكمن وراء هذا الأمر؟ ولم اقتصر على الإشارة إلى تلك الأَغراض في آية الحجاب بقوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) فلم يحتج إلى الإِعادة، ويالها من كلمة جامعة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من أغراض هذا الباب إلا أحصتها في طيها، ثم إن قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) يشير إلى هذه الأغراض أيضًا، قال الرازي: "قيل: يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن، ويمكن أن يقال: المراد أنهن
لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أن تكشف عورتها" (1) اهـ.
__________
(1) انظر: "التفسير الكبير" (6/ 799) .(3/231)
التاسع: أن أعمال أمهات المؤمنين، وأعمال نساء المسلمين ترشدنا إلى
ما هو الصحيح في معنى إدناء الجلباب، لأن الخطاب كان موجها إليهن مباشرة، وكان الله مهيمنَا عليهن، والرسول قيما ورقيبًا على أعمالهن، فلا نحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة والصحابيات على عمل لم يوجبه الله، مع أنه كان قد جاء لرفع الأواصر والأغلال، وكان عزيزَا عليه ما عنتوا، وقد أعطت الروايات عن أعمالهن تفصيلًا لا يحوم حوله شك، ولا ريب بأنهن كن يسترن الوجوه إيمانا بكتاب الله، وتصديقًا بتنزيله (1) .
العاشر: أن من تصدى من الصحابة والتابعين وعلماء أهل التأويل لتفسير إدناء الجلباب فسره بستر الوجوه، إلا بعض أقوال شاذة، وهاك شيئا من تلك النصوص ...
ثم سرد فضيلته جملة كبيرة من النقول عن جماهير المفسرين، وقد تقدم نقل أقوالهم آنفا.
ثم قال حفظه الله معقبًا: هذه هي أقوال أعلام هذه الأمة من لدن أفضل القرون إلى القرن الرابع عشر الذي نعيش فيه، يعرف منها أن من تصدى لتفسير إدناء الجلباب فقد فسره بتغطية الوجه، ولو كان ممن يقول بجواز كشفه، ولا يُعْرَف أحد خالف هذا التفسير صريحا، وإنما يستأنس بأقوال بعضهم أنه لا يرى تغطية الوجه جزءًا من إدناء الجلباب، وهاك نصوص هولاء:
قال مجاهد: يتجلببن (2) .
وقال عكرمة: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها (3) .
وقال سعيد بن جبير: يسدلن عليهن (4) .
__________
(1) وقد سردنا فيما مضى النصوص التي تقرر هذه الدعوى بما لا مجال للكلام فيه.
(2) ، (3) "تفسير ابن كثير" (5/516) .
(4) "روح المعاني" للآلوسي (22/ 83) .(3/232)
وقال ابن قتيبة: يلبسن الأردية (1) .
وهذه الأقوال كما ترى ليست صريحة في نفي ستر الوجه، فإن التجلبب، وسدل الجلباب ولبس الأردية لا ينافي تغطية الوجه، على أن التجلبب كان له طريق معروف في نساء المسلمين، وهو لبسها مع تغطية الوجه، فمن يدعي حمل هذه الأقوال على خلاف المعروف فليأت عليه بدليل.
ثم هذا الوجه العاشر من الوجوه التي أشرنا إليها في بداية الكلام على هذه الآية، فتلك عشرة كاملة، ولدينا مزيد.
الحادي عشر: أن قوله (يُدْنِينَ) صيغه مضارع للأمر، ومعلوم أن الأمر للوجوب، وأنه إذا ورد بصيغة المضارع يكون آكد في الدلالة على الوجوب.
وإذا تعين بعشرة وجوه أن المراد بإدناء الجلباب هو تغطية الوجه، تعين
أنه واجب نطق به كتاب الله، فلا مناص عن الالتزام به.
وفي ختام البحث على معنى هذه الآية لا أرى بأسًا أن أتكلم حول ما
قاله فضيلة الدكتور في الإدناء.
إن فضيلة الدكتور نقل عن ابن جرير اختلاف أهل التأويل في
الإدناء: أهو تغطية الوجه، أم شد الجلباب على الجبهة؟ ثم رجح الأخير، بل صرح بأنه هو المتعين لخمسة أمور. . .
أقول: قد عرفت مما قدمنا أن هذا التقسيم لا يبتني على أساس متين،
فكل ما يتفرع عليه فهو مثله.
قال فضيلة الدكتور: (الأول: ما تقدم من النصوص التي يفسر بها كتاب الله ومن رويت عنه - وهو النبي وأصحابه - أعلم بكتاب الله) اهـ
أقول:
__________
(1) "زاد المسير في علم التفسير" (6/ 422) .(3/233)
سينكشف الغطاء عن تلك النصوص وعن عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وأمته، فاصطبروا.
قال: (الثاني: أقوال العلماء السابقة (1) لا تتمشى مع القول بوجوب
ستر الوجه والكفين بوجه، ولا يقدر أحد أن يقول أن أولئك كانوا يجهلون معنى هذه الآية، ويتواطئون على خلاف ما دلت عليه) اهـ
أقول:
لا يغرن أحدًا إجماعُ العلماء أو شبه إجماعهم على إخراج الكفين والوجه عن العورة، فمدار الحجاب ليس هو العورة، بل إنما أمر الحجاب لأنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات، ولو صح أن موقفهم وأقوالهم لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين، فلا شك أنهم أو كثير منهم ناقضوا أنفسهم حيث صرحوا بالوجوب، ولا يقدر أحد أن يقول إن أولئك كانوا يجهلون معنى التناقض، وفضيلة الدكتور ينقل عن بعضهم التصريح بأن الوجه والكفين ليسا بعورة، والتصريح بأن سترهما واجب، وأن سبب الوجوب هو خوف الفتنة، ومع ذلك يقول فضيلته "إن أقوالهم لا تتمشى مع القول بالوجوب"، ولا أدرى أي شيء يمنع عن التمشي بعد هذا كله؟
ثم ليعلم أن الصحابة والأمة المسلمة التي التزمت نساؤها بستر الوجوه بعد نزول آيتي النور والأحزاب – كما سنورد مدللًا - وكذلك أكابر الصحابة والتابعين وفطاحل العلماء المفسرين الذين فسروا إدناء الجلباب بستر الوجوه، لا يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا يجهلون لغة العرب، أو كانوا يجهلون أنهم يمتثلون ويفسرون أمرَا من أوامر الله، وأن الأمر
للوجوب.
__________
(1) يشير فضيلة الدكتور الهلالي - رحمه الله تعالى - إلى تنصيص كثير من العلماء على
إخراج الوجه والكفين من حدود العورة.(3/234)
قال: (الثالث: أن إدناء الجلابيب غير صريح في تغطية الوجه، ولا
سيما إذا عرفت سبب نزولها، والتعليل الذي هو في آخر الآية وهو قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ.
أقول:
قد عرفت أن إدناء الجلابيب لا يصلح لمعنى غير تغطية الوجه، ولا
سيما إذا عرفت سبب نزولها والبيئة التي نزلت فيها، وعرفت معنى التعليل الذي هو في آخر هذه الآية، وفي آية الحجاب.
قال: (الرابع: كثرة القائلين بالثاني حتى ابن عباس، إلخ) اهـ.
أقول:
أولًا: الكتاب والسنة هما العيار على الناس، والناس ليسوا عيارا على الكتاب والسنة.
ثانيًا: قد عرفت – وستعرف - حقيقة الكثرة والقلة في الجانبين، فليس القائلون بالسفور إلا نزرا يسيرًا في جنب هذه الأمة الزاخرة المتدفقة بأسرها.
قال: (الخامس: أن هذه الآية مفسرة في القرآن نفسه، وأولى ما فُسر به القرآنُ، القرآنُ. . . الخ) اهـ.
أقول:
نعم، هذه الآية يفسرها قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، وقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، وأما تفسيرها بقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فتفسير لجزء من مدلولها، ولناحية من نواحي معناهِا الواسعة الأرجاء، فلا يصح الاقتصار عليه، وقد قدمنا ما في الاستدلال بهذه الآية على جواز كشف الوجه (1) ، فلا حاجة إلى الإعادة.
__________
(1) انظر (299) ، (314) .(3/235)
وإذا كانت في القرآن عدة آيات تصلح لتفسير آية منه فليس لنا أن نفسرها ببعضها، ونهمل بعضا آخر فلا نراعيها، على أن التأسيس معلوم الأولوية كل التأكيد (1) .
فإذا قلنا: إن آية النور بيان لجزء (2) من آداب النساء في المجتمع
__________
(1) وذلك لأن اللفظ إذا احتمل أكثر من معنى، رجح تقديم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح: كالتأسيس، فإنه يقدم على التوكيد، مثال ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الآية، فكلمة (وَصَدُّوا) هنا يحتمل أن يكون لازمة مثل قوله تعالى: (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) وعليه يكون معنى الصدود الكفر، فتكون كالتوكيد لقوله تعالى: (كَفَرُوا) ، ويحتمل
أن تكون متعدية، وحينئذ يدل قوله تعالى: (كَفَرُوا) على كفرهم في أنفسهم،
وقوله: (وَصَدُّوا) على أنهم حملوا غيرهم على الكفر، وصدوه عن الحق، فهنا يترجح القول الأخير لأن فيه تأسيسَا لمعنى جديد، خلاف القول الأول الذي يقتضي التكرار والتوكيد.
ونظير ذلك قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)) إن حملنا الحياة
الطيبة في هذه الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسًا، وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) الآية، لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه، قال أبو حيان في "البحر المحيط": (والظاهر من قوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) إن ذلك في الدنيا، وهو قول الجمهور،
ويدل عليه قوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني في الآخرة) اهـ.
ومثال ذلك أيضًا قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، وقوله عز وجل: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، قيل: تكرار اللفظ فيهما توكيد، وكونه للتأسيس أرجح
لما ذكرنا، فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم قبل ذلك التكذيب، فلا يتكرر منها لفظ، وكذا يقال في سورة المرسلات، فيحمل على المكذبين بما ذكر قبل كل لفظ، والله تعالى أعلم.
(2) إنما يسوغ هذا الجمع بناء على التسليم الجدلى بصحة ما ذهبوا إليه من آية النور تفيد جواز السفور، ومع ذلك فإنها - طبقَا لما فهمته الصحابيات رضي الله عنهن -
لا تفيد ذلك كما سيأتي إن شاء الله.(3/236)
الإِسلامي، وآية الأحزاب بيان لجزء آخر منها، يكون ذلك أوفق بلطائف التنزيل وببلاغة كلام الله تعالى وإعجازه" اهـ.
* وقال العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في تفسير الآية:
"والجلابيب جميع جلباب، والجلباب هو ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب، والتستر به، أمر الله سبحانه جميع النساء بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى لا يُعرفن بالعفة فلا يُفتتن، ولا يَفْتِنَّ غيرَهن فيؤذيهن" (1) اهـ.
* * *
__________
(1) رسالة تبحث في مسائل السفور والحجاب " ص: (6) .(3/237)
فصل في بيان معنى الحجاب
تقدمت عبارات المفسرين في تحديد المقصود من الجلباب، وقد جمعها الحافظ ابن حجر في "الفتح" سبعة أقوال: (المقنعة، والخمار أو أعرض منه، والثوب الواسع يكون دون الرداء، والإِزار، والملحفة، والملاءة، والقميص) (1) اهـ.
وأرجحها ما ذهب إليه كثير من المحققين، ألا وهو أنه الجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه.
ذكره ابن حزم في "المحلى" (2) ، وصححه القرطبي في تفسيره (3) .
وقال ابن الأثير: (الجلباب: الملحفة والإِزار الذي تتغطى به المرأة) (4) اهـ.
وقال البغوي: (هو المُلاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار) (5) اهـ.
وقال ابن كثير: (هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإِزار اليوم) (6) اهـ.
قال الألباني: (ولعله العباءة التي تستعملها اليوم نساء نجد والعراق ونحوهما) (7) . اهـ.
وقال الشيخ أنور الكشميري: (والجلباب رداء ساتر من القرن إلى
__________
(1) "فتح الباري" (1/ 505) .
(2) "المحلى" (3/217) .
(3) "الجامع لأحكام القرآن" (14/243) .
(4) "جامع الأصول" (6/ 152) .
(5) "معالم التنزيل".
(6) "تفسير القرآن العظيم" (3/518) .
(7) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 38) .(3/238)
القدم) (1) . اهـ.
وقال الشيخ إبراهيم الشوري، والشيخ محمد الشيباوي: (والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وكل امرأة أعرف بما يستر جسمها، ولا تحتاج إلى تعليم في ذلك) (2) اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف: (والمفهوم من الجلباب لا ينحصر
باسم ولا بجنس ولا بلون، وإنما هو كل ثوب تشتمل به المرأة لستر مواضع الزينة من ثابت ومنقول، وإذا عرفنا المقصود منه زال الحرج في وصفه ومسماه) (3) اهـ.
حكم لبس الجلباب
روى الشيخان وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق (4) ، والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها".
قال الحافظ ابن حجر: (وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب) (5) اهـ. وقال البدر العيني: (ومنها - أي من فوائد الحديث - امتناع خروج النساء بدون الجلاليب) (6) اهـ.
قال العلامة الألباني معلقًا على عبارة الكشميري (7) رحمه الله:
__________
(1) "فيض الباري" (1/ 388) .
(2) "تيسير التفسير" "العشر الثامن من القرآن" (ص:46) .
(3) (نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة) (ص: 48) .
(4) العواتق. جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك.
(5) "فتح الباري" (1/ 505) .
(6) "عمدة القارئ" (3/ 305)
(7) "فيض الباري" (1/388)(3/239)
"الجلباب لستر زينة المرأة عن الأجانب، فسواء خرجت إليهم، أو دخلوا عليها فلابد على كل حال من أن تتجلبب (1) ، ويؤيد هذا ما قاله
قيس بن زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر. . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فتجلببت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن جبريل أتاني فقال لي أرجع. حفصة فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة" (2) ، وقد صح عن عائشة أنها كانت إذا صلت تجلببت، فدل على أن الجلباب ليس خاصا بالخروج" (3) اهـ.
فتوى العلامة الألباني في وجوب الجلباب:
قال رحمه الله تعالى:
" ... الحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر، وتلبس الجلباب على الخمار، لأنه كما قلنا سابقًا أستر لها، وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها، وهذا أمر يطلبه الشارع. . .، وهذا الذي ذكرته هو الذي فسر به السلف آية الإِدناء، ففي "الدر" (5/ 222) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال: يسدلن عليهن
من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها"، (4) اهـ.
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 310) .
(2) أخرجه ابن سعد (8/ 58) ، قال الألباني: (الحديث مرسل، وأخرجه الحاكم " (4/ 15) ، وذكر له شاهدا من حديث أنس، فيتقوى به إن شاء الله تعالى) اهـ من
"حجاب المرأة المسلمة" هـ (ص: 40) .
(3) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 40) .
(4) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 39 – 40)(3/240)
وقال رحمه الله في موضع آخر:
"الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع، وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البَشَرة فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما
لا يخفى، فوجب أن يكون واسعًا، وقد قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: مالك لم تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي،
فقال: "مرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها" (1) .
فقد أمره صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب - ليمنع بها وصف بدنها، والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول " (2) اهـ.
وقد صرح الحديث بأن القبطية كانت "كثيفة" أي: ثخينة غليظة، كما صرح بالمحذور الذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القبطية فقال: "إني أخاف أن تصف حجم عظامها".
فمن هنا جزم الشيخ- رحمه الله - بأن الحديث وارد على الثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها، ولو كانت غير رقيقة، ولا يمكن حمله على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة، ومن ثم استنكر الشيخ على بعض الشافعية قوله: ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار، وتتخذ جلبابًا كثيفًا فوق ثيابها ليتجافى عنها، ولا يتبين حجم أعضائها (3) ، فقال معلقا:
(والقول بالاستحباب فقط ينافي ظاهر الأمر فإنه للوجوب كما تقدم،
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 60) .
(3) ذكره الرافعي في "شرحه " (4/ 92، 105 بشرح المهذب) .(3/241)
وعبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" قريب مما ذهبنا إليه، فقد قال (1/78) : "وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة. . فإن صلى في قميص يصفه، ولم يشف كرهت له، ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة، والمرأة في ذلك أشد حالًا من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها الدرع، وأحب إلي أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك، وتجافيه عنها لئلا
يصفها الدرع".
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "لابد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلى فيها: درع، وجلباب، وخمار، وكانت عائشة تحل إزارها فتجلببُ به " (1) .
وإنما كانت تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها، وقولها "لابد" دليل
في وجوب ذلك، وفي معناه قول ابن عمر رضي الله عنهما: إذا صلت المرأة، فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة (2) .
وهذا يؤيد ما سبق أن ذهبنا إليه من وجوب الجمع بين الخمار والجلباب على المرأة إذا خرجت) (3) اهـ.
فصل
مناقشة ما ذهب إليه فضيلة الشيخ الألباني في تفسير آية الإدناء
* قال رحمه الله:
"لا دلالة في الآية على، أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره، بل غاية ما
__________
(1) أخرجه ابن سعد (8/48 - 49) ، وصحح الألباني إسناده على شرط مسلم
(الحجاب) هـ (ص: 62) .
(2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وصحح سنده الألباني في "الحجاب" (ص: 62) .
(3) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 61- 62) .(3/242)
فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها، وهذا كما ترى أمر مطلق، فيحتمل أن يكود الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى (1) - وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، فعليه يشمل الوجه
وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين، وساق أقوالهم في ذلك ابن جرير في تفسيره، والسيوطي في "الدر المنثور"، ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور
الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا، وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تقييد الإِدناء هنا بما عدا الوجه توفيقًا بين الآيتين.
الأخر: أن السنة تبين القرآن، فتخصص عمومه، وتقيد مطلقه، وقد دلت النصوص الكثيرة منها على أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تفسير هذه الآية على ضوئها، وتقييدها بها.
فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره، وهو مذهب أكثر العلماء كما قال ابن رشد في "البداية" (1/ 89) ، ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد، كما في "المجموع" (3/ 169) ، وحكاه الطحاوي في "شرح المعاني " (2/ 9) عن صاحي أبي حنيفة أيضا، وجزم في "المهمات"
من كتب الشافعية أنه الصواب، كما ذكره الشيخ الشربيني في "الإقناع " (2/110) .
لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا يكن على الوجه وكذا الكفين شيء من الزينة لعموم قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) وإلا وجب ستر ذلك، لاسيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن
__________
(1) يعني لذلك قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الآية(3/243)
بأنواع من الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم بل عاقل ذو غيرة في تحريمه اهـ (1) .
وأنت ترى من كلام فضيلته أنه صرح بأن القول الأول الذي حكاه
"أشبه" بالصواب، وذكر أن مرجع هذا الشبه" إلى أمرين:
الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا.
وهذا حق، ولكن لو طبقناه على آيات الحجاب مجتمعة لعلمنا أن آيات
سورتي النور والأحزاب متضافرة على إثبات عموم الإدناء لسائر البدن، وقد تقدمت الإشارة إلى أن التأسيس معلوم الأولوية على التوكيد إذا دار الأمر بينهما، فلو سلمنا أن آية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) تفيد إباحة السفور، فإن آية الإِدناء تؤسس حكمًا جديدا، وتقدم بيان ذلك في الكلام الذي نقلناه عن الشيخ أبي هشام الأنصاري فراجعه (2) .
والأمر الثاني: الذي ذكره الشيخ هو دعوى أن النصوص الكثيرة من
السنه دلت على أن الوجه لا يجب ستره.
ويجاب عنها بأن هذه النصوص المشار إليها محتملة، وليست صريحة في
إباحة السفور، والد ليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، ويأتي بيان ذلك مفصلا أن شاء الله تعالى (3) .
ثم خلص فضيلته من الأمرين السابقين إلى أن الوجه ليس بعورة، فقال
رحمه الله: فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره ثم قال: وهو مذهب أكثر العلماء. . . إلخ.
والجواب: أن هذا صحيح، ولا تعارض- بحمد الله- بين ما ذهب
__________
(1) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 40 -42) ويأتي مزيد بيان في تفسير الآيات المشار إليها إن شاء الله.
(2) راجع ص: (236) .
(3) انظر ص: (391) وما بعدها، ص (426 – 429)(3/244)
إليه أكثر العلماء من أن الوجه ليس بعورة، وبين إفتاء بعضهم بوجوب ستره أمام الأجانب، لأن حدود العورة ليست هي حدود الحجاب، فإذا قيل: إن وجه المرأة ليس بعورة، فهذا المذهب إنما هو في الصلاة إذا لم تكن المرأة بحضرة الرجال الأجانب، وأما بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها عورة لابد من ستره عن الأجنبي مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" (1) .
ولهذا غالبًا ما تجد تصريح العلماء بأن الوجه والكفين ليسا بعورة إنما يكون عند الكلام على شرط ستر العورة في أبواب "شروط صحة
الصلاة".
قال الشافعي- رحمه الله- في "باب كيف لبس الثياب في الصلاة " (2) : (وكل المرأة عورة، إلا كفيها ووجهها) اهـ.
وقال أيضا: (وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل ما عدا كفيها ووجهها) اهـ.
وقال الشهاب: (وما ذكره - أي البيضاوي - من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها مذهب الشافعي رحمه الله) (3) اهـ.
وقال الشيخ محمد عليش رحمه الله: (والعورة من الحرة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها، وهذا بالنسبة للصلاة. . .) (4) اهـ.
وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى في باب "صفة الصلاة": (وقال الأوزاعي والشافعي: جميع المرأة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة) (5) اهـ.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) "الأم" (1/77) .
(3) "عناية القاضي" (6/ 373) ، وانظر: "روح المعاني" للآلوسي (18/141) .
(4) "منح الجليل على مختصر العلامة خليل" (1/133) .
(5) "المغني" (1/101) .(3/245)
ونقل عنه الشيخ محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي قوله: (أجمعوا على أن للمرأة كشف وجهها في الصلاة) (1) اهـ.
وبعد أن صحح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ليس للمرأة أن تبدي الوجه واليدين والقدمين للأجانب، قال: (وأما ستر ذلك في الصلاة، فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها كشف الوجه بالإجماع) (2) اهـ.
وقال الشيخ مصطفى الرحيباني: (لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة - ذكره في المغني وغيره) (3) 0 اهـ.
وقال المرداوي رحمه الله: (قال الزركشي: "أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه أو على غير الصلاة"، وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة، قال الشيخ تقي الدين: والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه) (4) اهـ.
وقال الشيخ العلامة فقيه الحنابلة في وقته منصور بن إدريس البهوتي (5) : (والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ "، قال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" رواه أبو داود، وصحح عبد الحق وغيره أنه موقوف على أم سلمة "إلا وجهها".
__________
(1) "بذل المجهود لحل سنن أبي داود" (4/ 301) .
(2) "حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة" ص (6)
(3) "مطالب أوى النهى في شرح غاية المنتهى" (1/330) .
(4) "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (1/452) .
(5) "كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/243) .(3/246)
ولا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة،
ذكره في المغني وغيره "قال جمع: وكفيها" واختاره المجد، وجزم به في
العمدة والوجيز، لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) .
قال ابن عباس وعائشة "وجهها وكفيها" رواه البيهقي، وفيه ضعف،
وخالفهما ابن مسعود، وهما - أي الكفان والوجه من الحرة البالغة -
عورة خارجها، أي: الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها لما تقدم من قوله
صلى الله عليه وسلم "المرأة عورة") اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(اختلفت عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة، فقال بعضهم: ليس
بعورة وقال بعضهم: عورة، وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة،
والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز
النظر إليه)
وقال أيضًا: (فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا
ولا عكسا) (1) اهـ.
وقال المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي:
(والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها،
قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية
بدنها) (2) اهـ.
وقال: (ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلى الرجل ملثمًا،
والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان، وهناك أجانب لا يحترزون عن
النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب) (3) اهـ.
__________
(1) نقله عنه التويجري في "الصارم المشهور" ص: 72- 73.
(2) "الإقناع" (1/ 88) .
(3) "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" (185) باب ستر العورة وبيانها.(3/247)
قال الشيخ الإمام عبد القادر بن عمر الشيباني الحنبلي: "والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة، حتى ظفرها وشعرها "إلا وجهها"، والوجه والكفان
من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار، والنظر كبقية بدنها" (1) اهـ.
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: "العورة عورتان: عورة
في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك" (2) اهـ.
أما احتجاج فضيلة الشيخ ناصر الدين الألباني بما ذكره "الشربيني" في "الإِقناع" فمردود بما تقدم بيانه من أن مدار الحجاب ليس هو العورة، بل مردود بما ذكره الشربيني نفسه في تفسيره المسمى "السراج المنير" حين نقل قول ابن عادل: (ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين، لأن تستر وجهها مع أنه ليس بعورة- أي: في الصلاة - لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها) (3) اهـ.
بل هذا الشربيني نفسه يصرح بترجيح تحريم النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها (4) ، فتراه ينقل عن السبكي قوله: "إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة" اهـ.
وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) :
"والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن
هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج
والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة" (5) اهـ.
__________
(1) (نيل المآرب بشرح دليل الطالب) (1/ 39) .
(2) "القياس في الشرع الإسلامي" ص: 69.
(3) "السراج المنير" (3/ 271) ، وانظر أيضَا كلام الشربيني المذكور ص: (؟؟؟)
(4) "مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج" (3/129) .
(5) "عناية القاضي وكفاية الراضي" (6/ 373) .(3/248)
قال الشهاب في شرحه: ومذهب الشافعي رحمه الله كما في الروض وغيرها أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقًا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتها بكشفها" (1) اهـ.
وقال الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله: "ويباح كشف وجهها حيثا لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند الصلاة بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه" (2) اهـ.
وقال المودودي رحمه الله تعالى: "وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذين يبيحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة، مع أن الفرق كبير جدا بين الحجاب وستر العورة، فالعورة مالا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة، وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال " (3) اهـ.
وقال فضيلة الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري: (لا يغرن أحدًا إجماعُ العلماء أو شبه إِجماعهم على إخراج الوجه والكفين عن العورة،
فمدار الحجاب ليس هو العورة، بل إنما أمر بالحجاب لأنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات، ولو صح أن موقفهم وأقوالهم لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين، فلا شك أنهم أو كثير منهم تناقضوا أنفسُهم حيث صرحوا بالوجوب، ولا يقدر أحد أن يقول: إن أولئك كانوا يجهلون معنى التناقض) (4) اهـ.
__________
(1) السابق.
(2) "سبل السلام" (1/ 176) .
(3) "تفسير سورة النور" ص: 158.
(4) "مجلة الجامعة السلفية - ذو القعدة 1398هـ، ص: 69.(3/249)
وقال الدكتور محمد محمود حجازي: "وعورة المرأة في الصلاة كل بدنها إلى وجهها وكعبيها (1) ، وهي كلها عورة بالنسبة للرجال الأجانب، وبعضهم يقول: كلها إلا الوجه والكفين ما لم تخف الفتنة" (2) اهـ. وقال الشيخ محمد على الصابوني: "الأمر بالجلباب إنما جاء بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب "ستر العورة"، فلابد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدَا على ما يجب من ستر العورة، ولهذا اتفقت عبارات
المفسرين- على اختلاف ألفاظها- على أن المراد بالجلباب: الرداء الذي تستر به المرأة جميع بدنها فوق الثياب، ... وليس المراد ستر العورة كما
ظن بعض الناس" (3) اهـ.
فهذا القدر من النقول عن أهل العلم كاف لإثبات الفرق بين حدود العورة وحدود الحجاب.
وعليه فلا يصح ما أيَّد به البعض إباحته للسفور من إِجماع العلماء أو شبه إجماعهم على إِخراج الوجه والكفين من العورة، فتدبر ذاك، والله سبحانه يتولى هداك.
__________
(1) كذا بالأصل، ولعل ما يقتضيه السياق: (إلا وجهها وكفيها) .
(2) "التفسير الواضح " (18/ 66) .
(3) "روائع البيان " (2/ 378) .(3/250)
الدليل الثاني
آية الحجاب
وهي قوله تعالى مخاطبًا الصحابة رضي الله عنهم في شأن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53] .
هذه هي آية الحجاب، نزلت في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وهي نعم بإطلاقها حجاب جميع الأعضاء بما فيها الوجه والكفان، لا تستثني عضوًا من عضو.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له عمل أمهات المؤمنين، ولم يختلف العلماء في تعيين هذا المعنى حتى نطيل الكلام في تحقيقه، وإنما يقول من يظن أن الوجه والكفين خارجان عن الحجاب: "إن هذه الآية مختصة بأمهات المؤمنين"، وهذه الناحية هي التي تقتضي البحث والتنقيب في هذه الآية. * قال شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى:
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يقول تعالى ذكره:
سؤالكم إياهنَ المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها، التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون(3/251)
للشيطان عليكم وعليهن سبيل " (1) اهـ.
* وقال العلامة أبو بكر الجصاص الحنفي - رحمه الله تعالى -:
"قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قد تضمن
حظْر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وَبَيَّن به أن ذلك أَطهر لقلوبهم وقلوبهن؛ لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميلُ والشهوة، فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب، قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) يعني: بما بَيَّنَ في هذه الآية من إِيجاب الاستئذان، وترك الإطالة للحديث عنده، والحجاب بينه وبين نسائه، وهذا الحكم وإن نزل خاصًّا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره، إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا ما خصه الله به دون أمته" (2) اهـ.
ولعله يشير إلى قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الآية، وغيرها من الآيات العديدة في الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
* وقا! ل الإمام القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي:
"المسألة الثالثة عشرة- قوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) وفي المتاع أربعة أقوال: الأول: عارية، الثاني: حاجة، الثالث: فتوى، الرابع: صحف القرآن، وهذا يدل على أن الله أذن فى مساءلتهن
من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها، والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتُها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنُّ، وَيَعْرِضُ
__________
(1) "جامع البيان" (22/39) .
(2) "أحكام القرآن" (3/369 – 370) .(3/252)
عندها.
المسألة الرابعة عشرة - قوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)
المعنى: أن ذلك أنفى للرِّيبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية، وهذا يدل
على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته" اهـ (1) .
* وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي- رحمه الله -:
"واختلف في المتاع، فقيل:- ما يتمتع به من العواري (2) ، وقيل: فتوى، وقيل: صحف القرآن، والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين، وسائر المرافق للدين والدنيا".
وقال أيضًا: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يُستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنتة أصول الشريعة من أن المرأة
عورة، بدنُها وصوتُها، كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داءٍ يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيَّن
عندها " (3) اهـ.
ومما يؤيد عموم آية الحجاب وأنها ليست خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن قوله تعالى بعدها: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) [الأحزاب: 55] .
__________
(1) "أحكام القرآن" (3/578 – 579) .
(2) العواري: جمع عارية، ما تداولوه بينهم.
(3) الجامع لأحكام القرآن " (14/227) .(3/253)
* قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله:
"لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بَيَّن أن هؤلاء الأقارب لا
يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية" (1) اهـ.
* وقال النسفي في تفسيره:
"لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ "، فنزل: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ) أي: النساء المؤمنات (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) أي: لا إِثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء" (2) اهـ.
* وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي رحمه الله:
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الماعون وغيره (فَاسْأَلُوهُنَّ) أي: المتاع (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) من خلف ستر، ويقال خارج الباب (ذَلِكُمْ) أي سؤال المتاع من وراء الحجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي: أكثر تطهيرًا من الخواطر النفسانية، والخيالات الشيطانية، فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قلبه شيء.
قال في "كشف الأسرار": نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبيَّن أن البشر بشر، وإن كانوا من الصحابة وأزواج النبي عليه السلام، فلا يأمن أحد على نفسه من الرجال والنساء، ولهذا شدد الأمر في الشريعة بأن لا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمية، كما
__________
(1) "تفسير القرآن العظيم" (3/ 504)
(2) "مدارك التنزيل، وحقائق التأويل"(3/254)
قال عليه السلام: "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان "، وكان عمر رضي الله عنه يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيرا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: "لو أطاع فيكن ما رأتكن عين " اهـ.
وقال أيضُا: "وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال (1) اهـ، يعني قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الآية.
* وقال الإمام محمد بن على بن محمد الشوكاني- رحمه الله-: "والإِشارة بقوله (ذَلِكُمْ) إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل:
الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإِشارة مبتدأ، وخبره (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي أكثر تطهيرًا لها من الريبة، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال.
وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من
لا تحلُّ له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه".
وفي تفسير قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ) قال: (وَلَا نِسَائِهِنَّ) هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات، لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة" اهـ (2) .
* وقال السيوطي- رحمه الله تعالى-:
(هذه آية الحجاب التي أمِر بها أمهات المؤمنين بعد أن كان النساء لا يحتجبن) (3) اهـ.
__________
(1) "روح البيان، (7/ 215) .
(2) "فتح القدير" (4/ 298) .
(3) (الإكليل في استنباط التنزيل" (ص: 179) .(3/255)
* وقال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها
أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا وتكون في نفس الآية قرينة تدل على
عدم صحة ذلك القول، وذكرنا له أمثلة في الترجمة، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك:
ومن أمثلته قول كثير من الناس: إن آية الحجاب أعني قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعم معلولها، وإليه أشار في مراقي السعود" بقوله:
وقد تخصصُ وقد تعمم ... لأصلها لكنها لا تخرم
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة – وبما ذكرنا تعلم أن
في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاصٌّ بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن،
لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه.
ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) هو علة قوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق عن جزئياته: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علةً لذلك الحكم، لكان الكلام معيبا عند العارفين، وَعَرف(3/256)
صاحب "مراقي السعود" دلالة الإِيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإِشارة والإيماء والتنبيه بقوله:
دلالة والإيماء والتنبيهِ ... في الفن تقصد لذى ذويهِ
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن ... لغير عله يَعِبْهُ من فَطِنْ
وعَرَّفَ أيضَا الِإيماء والتنبيه في مسالك العلة بقوله.
والثالث الإيما اقتران الوصفِ ... بالحكم ملفوظين دون خلفِ
وذلك الوصف أو النظير ... قِرانه لغيرها نصير
فقوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) لو لم يكن علة لقوله
تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) لكان الكلام معيبَا غير منتظم عند الفطن العارف.
وإذا علمت أن قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) هو علة قوله: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) وعلمت أن حكم العلة عام، فاعلم أن
العلة قد تعمم معلولها، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت "مراقي السعود"، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته، وإذا كان حكم هذه الآية عامَّا بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء (1) اهـ.
خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة
ودلالة ذلك على عموم حكم الجلباب
* قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى:
وعن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام، هو ما تقرر في الأصول من
أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك
__________
(1) "أضواء البيان" (6/ 584) .(3/257)
الواحد المخاطَب؛ لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحدٍ من أمته يعم حكمه جميع الأمة، لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص يجب الرجوع
إليه، وخلافُ أهلِ الأصول في خطاب الواحد هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم؟ خلاف في حال، لا خلاف حقيقي، فخطاب
الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم، أن خطاب الواحد لا يعم؛ لأن اللفظ الواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعًا، فلا يكون صيغة عموم، ولكن أهل هذا القول موافقون على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره، ولكن
بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس.
أما القياس- فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي- والنص كقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أُصَافحُ النسَاءِ، وما قَولي لامرأةٍ واحدة إلا كقَولي لمائةِ امرأة".
وأشار إلى ذلك في "مراقي السعود" بقوله:
خطابُ واحدٍ لغير الحنبلِ ... من غير رَعي النصِ والقيسِ الجلي
وبهذه القاعدة الأصولية (1) التي ذكرنا تعلم أن حكم آية الحجاب عام، وإن كان لفظها خاصّا بأزواجه صلى الله عليه وسلم، لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة كما رأيت إيضاحه قريبًا (2) اهـ.
وقال الشنقيطي رحمه الله أيضا: وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة عل احتجاب
جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب. ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهن خير
__________
(1) وممن صحح هذه القاعدة العلامة الألباني، ونقل عن بعض المحققين ما يؤيد أنها الحق، ويلزم من ذلك تعميم آية الحجاب خلافا لمذهبه، انظر "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" ص 41-42.
(2) أضواء البيان، (6/589 - 581) بتصرف(3/258)
أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة، فمن يحاول منع نساء المسلمين- كالدعاة للسفور
والتبرج والاختلاط اليوم- من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاشٌّ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مريضُ القلب كما ترى (1) اهـ.
* وقال الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية السابق في تفسيره:
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) إذا طلبتم من نسائه صلى الله عليه وسلم (مَتَاعًا) شيئًا يُتمتع به الماعون ونحوه، ومثله العلم والفتيا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي سِتر بينكم وبينهن (ذَلِكُمْ) أي السؤال من وراء حجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) من الريب وخواطر السوء، وكان نزول آية الحجاب في شهر ذي القعدة من السنةَ الخامسة من الهجرة، وحكم نساء المؤمنين في ذلك
حكم نسائه صلى الله عليه وسلم (2) اهـ.
* وقال الأستاذ محمد أديب كلكل:
"ومن الأدلة على وجوب ستر الوجه واليدين من المرأة قوله سبحانه وتعالى حيث أمرنا إذا سألنا النساء متاعًا أن نطلبه من وراء حجاب، فقال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) فلو لم يكن ستر الوجه أمرًا مطلوبَا لم يكن لطلب الحاجة من وراء حجاب أي معنى، وقد قرر الله عز وجل أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع، فلا يقل أحد غير ما قال الله عز وجل ".
إلى أن قال: "فإن قال قائل: إن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين وقد
__________
(1) "السابق" (6/ 592) .
(2) "صفوة البيان لمعاني القرآن" (2/190) .(3/259)
نزلت بحقهن، قلت: إنها وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامة من جهة الأحكام، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأكثر آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها بلا خلاف
بين العلماء، فإذا حصرنا أحكامها ضمن دائرة أسبابها فما هو حظنا منها إذن؟ وبذلك نكون قد عطلنا آيات الله، وأبطلنا أحكامها جملة وتفصيلًا، وهل أنزل القرآن ليطبق في عصر دون عصر وفي زمن دون أزمان؟
فادعاء أنها خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى ما ذكرته لا ينهض حجة
لأن الاستثناء في آية (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) عام، وهو فرع من الأصل وهو الحجاب، فدعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع، وهو غير مسلم لما علم تعميمه، فهل يقال لامرأة أباح الله لها أن تظهر على أبيها وابنها وأخيها: إن الله لم يوجب عليك التحجب عن غيرهم؟! فقصر الله عز وجل ظهور المرأة على محارمها فقط بقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ ... ) الآية، أما غيرهم من الأجانب فإنه يجب عليها الاحتجاب عنهم بداهة بمقتضى مفهوم الآية" (1) اهـ.
* يقول الشيخ سعيد الجابي رحمه الله في كتابه "كشف النقاب":
"فقوله عز وجل: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يدفع هذا- أي دعوى التخصيص - لأنه قد أشير إليه بغير ما يدعيه أهل التخصيص من أن الحجاب لأجل تميزهن عن غيرهن، ورفعهن على من سواهن، بل بيَّن سبحانه أن الباعث للحجاب هو تطهير قلوب الفريقين، وإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم المطهراتُ من السفاح، المحرماتُ علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين قد أمرن بالحجاب طهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحُهن، فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع
__________
(1) "فقه النظر في الإسلام" (ص: 40- 43) .(3/260)
لهن أهل السفاح، هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير منتقبات! وبارزات غير محجبات.؟!
ومما يدفع دعوى الاختصاص: قول العربي العالم بلغته أكثر منا على
أثر نزول آية الحجاب: "نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب،
لئن مات محمد لأتزوجن فلانة، فنزل: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) .
ومما يدفع دعوى الاختصاص: إشراك الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين في حكم واحد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فبطلت دعوى التخصيص.
وإذا كان الأمر كذلك، فكل ما ثبت لنسائه عليه السلام ثبت لغيرهن،
وكل ما ثبت لغيرهن ثبت لهن، ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن الأمر يقتضي العموم، وأن سياق الآية يفيده ويقتضيه" (1) اهـ.
*وقال الأستاذ محمد أديب كلكل:
"وأما قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) إنما يعني توجيههن وتربيتهن توجيهَا ساميًا، وتربية عالية بأنهن لسن كأحد من النساء في المكانة والمنزلة والرفعة والحرمة، إنه أسلوب في التربية لا يختلف عن قولك لولدِ نجيب مثلا: "يا بني لست كأحد من عامة الأولاد حتى تطوف في الشوارع، وتأتي بما لا يليق من الحركات، فعليك بالأدب واللياقة"، فقولك هذا لا يعني أن سائر الأولاد يُحْمَدُ فيهم طواف الشوارع، وإتيان الحركات السيئة، ولا يطلب منهم الأدب واللياقة، بل المراد بمثل قولك هذا تحديد معيار لمحاسن الأخلاق وفضائلها، كي يتطلع
__________
(1) السابق.(3/261)
ويصبو إليها كل ولد يريد أن يعيش كنجباء الأولاد فيسعى في بلوغها
والحصول عليها، إن القرآن قد اختار هذا الأسلوب وهذه الطريقة في مخاطبة نساء النبي صلى الله عليه وسلم لضبطهن بضابطة على وجه خاص حتى يكن أسوة لسائر النساء، وتتبع طريقتهن وعاداتهن في بيوت عامة المسلمين.
فقوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)) إنها وصايا ربانية وأوامر إلهية، فأي منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟ وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين الله تعالى، أو قد أبيح لهن أن يخضعن بالقول، ويكلمن الرجال كلاما يغريهم ويشوقهم؟ أو يجوز لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة ويمنعن الزكاة، ويعرضن عن طاعة الله ورسوله؟ وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟
فإذا كانت هذه الأوامر والإِرشادات عامة لجميع المسلمات فما المبرر لتخصيص ما ورد في سياق مخاطبة أمهات المؤمنين من قرار في البيوت وملازمة للحجاب، وعدم مخالطة الأجانب بهن خاصة؟ إن التوجيه الرباني، والتربية الإِلهية لكل النساء عامة بشخص أمهات المؤمنين من باب
"إياك أعني، واسمعي يا جارة" (1) اهـ.
* وقال الشيخ وهبي سليمان غاوجي الألباني:
"للحجاب الشرعي المأمور به ثلاث درجات بعضها فوق بعض في الاحتجاب والاستتار، دل عليها الكتاب والسنة، الأولى: حجاب
__________
(1) السابق.(3/262)
الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر وأمثالها بحيث لا يرى الرجال شيئا من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن الظاهرة ولا الباطنة، ولا شيئا من جسدهن من الوجه والكفين وسائر البدن.
وقد أمر الله تعالى بهذه الدرجة من الحجاب فقال: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) إذ إن هذا يدل على أن سؤال أي شيء منهن يكون من خلف ستر يستر الرجال عن النساء والنساء عن الرجال، وما ذكر من سبب نزول الآية يقرر هذا الأمر ويؤكده، وأمر بها في قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) .
قال محمد بن سيرين: نُبِّئْتُ أنه قيل لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت، واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقرَّ في بيتي، فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت، قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها، حتى خرجت جنازتها، وهذا الحكم عام قد استثنى منه الخروج للحاجة، قال صلى الله عليه وسلم: "أُذِنَ لكن في الخروج لحاجتكن" رواه البخاري، ويرشح هذه الدرجةَ أحاديثُ تحبب إلى المرأة القرار في البيت، وعدم الخروج حتى إلى صلاة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قرارها في بيتها أرجى لها في الأجر عند الله تعالى" (1) . اهـ
* وقال الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري:
"إن الأمر بالحجاب في هذه الآية لا يختص بأمهات المؤمنين، وإن كان ضمير النسوة يرجع إليهن لأجل أنهن هن المذكورات في السياق؛ ولأنهن الأسوة والقدوة لنساء المسلمين في جميع نواحي الحياة، ومعلوم أن التخصيص بالذكر لا يوجب التخصيص بالحكم، والدليل على عدم الاختصاص من وجوه:
__________
(1) "المرأة المسلمة" (ص: 197- 198) .(3/263)
الأول: تقرر في أصول الشريعة أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة حتى يرد دليل على التخصيص، وليس! هناك أي دليل على تخصيص حكم الحجاب بأمهات المؤمنين، كما ستعرف.
الثاني: أن سياق الآية هو العموم،- وإن كان المورد خاصا- فقوله تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ليس معناه أنهم يدخلون بيوت غير النبي من غير أن يؤذن لهم، ثم قوله، (إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) إلى قوله: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) ليس معناه أنهم لا يتأدبون بهذه الآداب، ولا يراعونها إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان سياق الآية هو العموم، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر إنما لأجل أن ما عرض له هو المورد والسبب في نزولها، ولأجل أنه هو القدوة للمسلمين، فكيف يسوغ لنا أن نتحرر عن جزء من آداب هذه الآية قائلين إنه مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه؟!
الثالث: أن الله تعالى بين حكمة الحجاب وعلته فقال: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ، وهذه العلة عامة إذ ليس أحد من المسلمين يقول إن غير أزواج النبي لا حاجة إلى تزكية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وعموم علة الحجاب وحكمته دليل على عموم حكم الحجاب لجميع نساء المسلمين.
الرابع: دليل الأولوية! وهو أن أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا قلوبا، وأعظمهن قدرا في قلوب المؤمنين، ومع ذلك أمرن بالحجاب طلبًا لتزكية قلوب الطرفين؛ فغيرهن من النساء أولى بهذا الأمر.
الخامس: أن آية إدناء الجلباب تتمة وتفسير لآية الحجاب، وتلك عامة لنساء المؤمنين نصًّا، فلابد وأن تكون آية الحجاب كذلك.
السادس: أن نساء المسلمين التزمن بالحجاب كما التزمت أمهات
المؤمنين" اهـ.(3/264)
إلى أن قال فضيلته:
"هذا؛ وإنك لو تصفحت نصوص العلماء لا تكاد تجد أحدًا يقول بتخصيص الحجاب بأمهات المؤمنين، والحجاب الذي جعله من جعله خاصًّا بهن هو قدر زائد على الحجاب المعروف الذي نحن في بحثه، ويتضح ذلك بالتأمل في نصوصهم.
قال القاضي عياض: "فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة، ولا في غيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن- وإن كن مستترات- إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز. . وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر، ولما توفيت زينب جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها". انتهى، انظر: "صحيح مسلم مع شرحه للنووي " (2/ 215) ؛ "فتح الباري" (8/ 530) .
فالذي يراه القاضي مختصًّا بهن هو عدم جواز كشف الوجه والكفين لهن مهما اشتدت الحاجة إلى ذلك، وعدم إبراز شخوصهن وإن كن مستترات، وأصرح من كلام القاضي ما قاله من المفسرين البغوي وغيره.
فال البغوي: "فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت أو غير منتقبة" (انظر: "تفسير البغوي" على هامش "الخازن" (5/ 224) .
ومعلوم أن اختصاص هذا القدر الزائد على الحجاب بأمهات المؤمنين
لا ينافي عموم الحجاب لعامة النساء (1) ، على أن المحققين رَدُّوا على القاضي
__________
(1) قال الشيخ شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغيرَ رحمه الله- في كتابه "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج":
(وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء - أي منع الولاة لهن يعني من =(3/265)
عياض ما ادعاه، وأثبتوا أن هذا الاشتداد في الحجاب لم يقع رأسًا (1) اهـ.
__________
= الخروج سافرات- معار ض لما حكاه القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف- أي النووي عليه الرحمة- في شرح مسلم، وأقره عليه.
ودعوى بعضهم عدم التعارض في ذلك، "إذ منعهن من ذلك ليس لكون الستر
واجبا عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة، وفي تركه إخلال بالمروءة"
مردودة، إذ ظاهر كلامهما أن الستر واجب لذاته، فلا يتأتى هذا الجمع، وكلام القاضي ضعيف، وحيث قيل بالجواز كُرِه، وقيل: خلاف الأولى، وحيث قيل بالتحريم- وهو الراجح- حرم النظر إلى المنقبة التي لا يبين منها غير عينيها ومحاجرها، كما بحثه الأذرعي، ولا سيما إذا كانت جميلة، فكم في المحاجر من خناجر) اهـ (6/ 187) .
مع أن الحافظ ابن حجر رحمه الله نقل عن القاضي عياض ما يشعر بأنه يستدل بآية الإدناء على حجاب جميع البدن، قال الحافظ رحمه الله في شرح حديث
الخثعمية: (وفي الحديث منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر، قال عياض:
"وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة"، قال: "وعندي أن فعله إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول" ثم قال: "ولعل الفضل لم ينظر نظرَا يُنكَر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب" اهـ من
"الفتح" (11/12) ، ولا شك أن هذا الاحتمال الأخير ضعيف، لأن حجة الوادع التي وقعت فيها تلك القصة كانت في السنة العاشرة من الهجرة، وآيات الحجاب نزلت قبل ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، والله أعلم.
(1) قال الحافظ رحمه الله تعالى: (وفي الحديث من الفوائد: مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض: "فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا في غيرها، ولا إظهار شخوصهن- وإن كن مستترات- إلا ما دعت إليه الضرورة من براز"، ثم استدل بما في "الموطأ" أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يُرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها" انتهى، وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن،
وقد كنَّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن، ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون =(3/266)
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله:
"لم يرد في آية "النور" وآية "الحجاب" أي تخصيص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم
بما قضت به من الأحكام، فهي أحكام عامة للمسلمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وإن من الزعم الباطل أن يقال: إن آية الحجاب
خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن ما ورد عن الأحكام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب التستر ومنع ما يدعو إلى الفتنة وصيانة المرأة المسلمة من بذل زينتها وشرفها وكرامتها للرجال الأجانب عنها، عام لكل مسلمة إلى يوم القيامة، وأما مسارعة أمهات المؤمنين إلى العمل بالشرائع الدينية، فهذا لا يدل على أنه خاص بهن، لأنهن القدوة الحسنة لكل مسلمة إلى يوم القيامة، وأثر الفعل في الاقتداء وامتثال الأحكام أعظم من القول فقط،
وهذا ملموس.
ومثله ما وقع في عمرة الحديبية فيما ثبت في رواية البخاري قال: "لما تم صلح الحديبية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال: "قوموا، فانحروا، ثم احلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت
أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى
__________
= منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: "أقبل الحجاب أو بعده؟ " قال: "قد أدركت ذلك بعد الحجاب" اهـ. وقال الحافظ أيضا: (والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه النفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله
عليه الصلاة والسلام: "أحجب نساءك"، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلًا، ولو كن مستترات فبالغ ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعا للمشقة، ورفعًا للحرج، اهـ من "فتح الباري" (8/ 391) ، وانظر نص الحديث المشار إليه في "الفتح" (8/ 388) رقم (4895) .(3/267)
تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلق، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا" اهـ.
فمثل هذه القصة فيها امتثال للأمر، واقتداء بالقدوة الحسنة، لأن الأمر الذي يلازمه فعل يكون كذلك، فهو أقوى في مسارعة المسلم للأخذ به من الأمر وحده، وهكذا كان حال النساء المسلمات في زمن التنزيل لما نزل أمر الله بالحجاب، كانت أول من سارع للأخذ به أمهات المؤمنين ليقوى به جانبا الأخذ بالتشريع لظهورهن أمام سائر المسلمين بصورة ما أراده الله تعالى من المؤمنات في تنزيله عز وجل" (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله بعد أن ذكر آيتي سورة الأحزاب (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الآية، (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) الآية:
"فإن قيل: الآيتان الأخيرتان سياقهما وظاهرهما الخصوص بأزواج
النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: كلا، بل الأصل في كل شريعة وآية أنه يدخل تحتها كل فرد من الأمة ما لم يخرجه دليل، ولا دليل على اختصاصهن بذلك، إذ كل مؤمنة منهية عن الخضوع بالقول للرجال، والتبرج الجاهلي بإبداء زينتها، كما أمرت بالقرار في البيت، وترك الخروج منه إلا لمصلحة، وكذا كل مؤمن مأمور بحسن الأدب مع المؤمنات إذا سألهن حاجة أو متاعَا أن يكون من وراء حجاب، وأن لا يخرق عليها الحجاب، ولا يأمرها بتركه، ولا يقرها على معصية إذا ائتمرت لأمره، فإذا خالفت فلا إثم على من سألها من المتقين، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد أُذنَ لَكُنَ أن
تخرجن لحوائجكن" رواه البخاري" (2) اهـ.
__________
(1) "نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 92 – 93) .
(2) "تيسير الوحيين" (1/ 144- 145) .(3/268)
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري- حفظه الله -:
(فهذه الآية الكريمة تعرف بآية الحجاب، إذ هي أول آية نزلت في شأنه،
وعلى أثرها حَجَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وحجب المؤمنون نساءهم، وهي نص في فرض الحجاب، إذ قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قطعي الدلالة في ذلك، ومن عجيب القول أن يقال إن هذه الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بهن دون باقي نساء المؤمنين، إذ لو كان الأمر كما قيل لما حجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، ولما كان لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر لمن يخطبها معنى أبدا.
وفوق ذلك أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم جعلهن الله تعالى أمهات المؤمنين، إذ قال الله تعالى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) ، فنكاحهن محرم على التأبيد كنكاح الأمهات، فأي معنى إذا لحجبهن وحجابهن إذا كان الحكم مقصورًا عليهن، ومن هنا كان الحكم عاما يشمل كل مؤمنة إلى يوم القيامة، وكان من باب قياس الأولى، فتحريم الله تعالى التأفيف للوالدين يدل على تحريم ضربهما من باب أولى، وهذا الذي دلت عليه نصوص الشريعة، وعمل به المسلمون) (1) اهـ.
تنبيه
لم يتعرض فضيلة الشيخ ناصر الدين الألباني لمناقشة استدلال هذه الكثرة من العلماء بآية "الحجاب" في كتابه "حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" وكأنه- رحمه الله- ذهب إلى تخصيص الوجوب بأمهات المؤمنين، وعدم تعميم الحكم على سائر المسلمات، مع أن هذا "العموم" لازم من كلامه- رحمه الله -، فقد أستشهد بحديث أم عطية رضي الله عنها
__________
(1) "فصل الخطاب في المرأة والحجاب" (ص: 34- 35) .(3/269)
لإثبات أن الأمر بإخراج النساء إلى صلاة العيد إنما وقع بعد نزول الحجاب، ونص الحديث المشار إليه:
"لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (1) جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن، فرددن السلام، فقال: "أنا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكن"، فقلن: مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسوله، فقال: "تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا. تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف؟ " فقلن: "نعم"، فمد عمر يده من خارج الباب، ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: "اللهم اشهد"، وأمرنا (وفي رواية: فأمرنا) أن نخرج في العيدين العتق والحيض، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا، فسألته عن البهتان، وعن قوله: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ؟ قال: هي النياحة" (2) ...
ثم قال الشيخ: ووجه الاستشهاد به إنما يتبين إذا تذكرنا أن آية بيعة النساء (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. . .) إنما نزلت يوم الفتح كما قال مقاتل (الدر 6/ 209) ، ونزلت بعد آية
الامتحان كما أخرجه ابن مردويه عن جابر (الدر 6/ 211) ، وفي البخاري عن المسور أن آية الامتحان نزلت في يوم الحديبية، وكان ذلك سنة ست على الصحيح كما قال ابن القيم في "الزاد"، وآية الحجاب إنما نزلت سنة ثلاث وقيل: خمس حين بنى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، كما في ترجمتها في "الإصابة".
__________
(1) تعني من الحديبية وليس قدومه مهاجرا منه مكة كما قد يتبادر إلى الذهن- أفاده الشيخ في حاشية. ص: 26.
(2) أخرجه أحمد في "المسند" (6/ 408- 409) ، والبيهقي (3/184) ، والضياء المقدسي في "المختارة" (1/104- 105/1) ، وحسن إسناده الذهبي في "مختصر البيهقي" (133/ 1) ] اهـ. من هامش "حجاب المرأة المسلمة" ص: 26 مختصرا.(3/270)
فثبت من ذلك أن أمر النساء بالخروج إلى العيد إنما كان بعد فرض
الحجاب، ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء، وإنما بايعهن من وراء الباب، وفي هذه القصة أبلغهن أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأن يخرجن للعيد، وكان ذلك في السنة السادسة عقب رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، بعد نزول آية الامتحان والبيعة كما تقدم" (1) اهـ.
والشاهد منه قول الشيخ رحمه الله: "بعد فرض الحجاب" مشيرًا إلى آية الحجاب (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الآية، ثم دعم كلامه بقوله: "ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء، وإنما بايعهن من وراء الباب" فيلزم من هذا أن الشيخ يستدل بعموم آية الحجاب في حق سائر النساء، والله أعلم.
* * *
__________
(9) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 25- 26) .(3/271)
الدليل الثالث
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)) [الأحزاب: 32، 33] .
ومحل الشاهد منه قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)
* قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري- رحمه الله تعالى-:
"قيل إن التبرج في هذا الوضع التبختر والتكسر".
ثم روى بسنده عن قتادة قال: "أي إذا خرجتن من بيوتكن؛ قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج، يعني بذلك الجاهلية الأولى، فنهاهن الله عن ذلك.
حدثني يعقوب، قال ثنا ابن علية، قال: سمعت ابن أبي نُجيح، يقول في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) قال: التبختر، وقيل: إن التبرج هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة محاسنها للرجال " (1) .
* وقال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى:
وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) روى هشام عن محمد بن سيرين قال: قيل لسودة بنت زمعة: ألا تخرجين كما تخرج أخواتك؟ قالت: والله لقد حججت واعتمرت ثم أمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج، خرجت حتى أخرجوا جنازتها.
__________
(1) "تفسير الطبري" (22/4) .(3/272)
وقيل: إن معنى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) كن أهل وقار وهدوء وسكينة، يقال: وقر فلان في منزله يقر وقورًا إذا هدأ فيه واطمأن به، وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت منهيات عن الخروج.
وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) قال: كانت المرأة تتمشى بينِ أيدي القوم، فذلك تبرج الجاهلية، وقال سعيد عن قتادة (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) يعني إذا خرجتن من بيوتكن، قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهاهن الله عن ذلك، وقيل: هو إظهار المحاسن للرجال، وقيل: في الجاهلية الأولى ما قبل الإِسلام، والجاهلية الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أولئك.
فهذه الأمور كلها مما أدب الله تعالى به نساء النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لهن،
وسائر النساء المؤمنين مرادات بها (1) اهـ.
* وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله:
"قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) يعني اسكنَّ فيها، ولا تتحركن، ولا تبرحن منها، حتى إنه رُوي- ولم يصح (2) - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من حجة الوداع قال لأزواجه: "هذه، ثم ظهور الحصر"؛ إشارة إلى ما يلزم المرأة من لزوم بيتها، والانكفاف عن الخروج منه، إلا لضرورة.
وقد دخلت نَيّفًا على ألف قرية من برية، فما رأيت نساءٌ أصون عيالًا،
ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رُمِي فيها الخليل عليه السلام بالنار، فإني أقمت فيها أشهرًا، فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قُضيت الصلاة، وانقلبن
__________
(1) "أحكام القرآن" (3/359 - 360) .
(2) ولكن صححه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/88) ، وانظر: "صحيح الجامع الصغير" (6/ 77) حديث رقم (6885) .(3/273)
إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدةٍ منهن إلى الجمعة الأخرى، وسائر القرى تُرى نساؤها متبرجات بزينة وعُطلة، متفرقات في كل فتنة وعُضْلة، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشْهِدْنَ فيه" (1) اهـ.
* وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي- رحمه الله -:
معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم
فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (2) " اهـ.
وقال ابن عطية رحمه الله: "والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها، فأمِرْن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهى ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرَة عندهم، وكان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه، وليس المعنى أن ثَمَّ جاهلية أخرى (3) ، وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة قبل الإِسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس في البخاري: سمعت أبي في الجاهلية يقول" (4) إلي غير هذا" (4) اهـ.
__________
(1) "أحكام القرآن" (3/ 1535 - 1537) .
(2) "الجامع لأحكام القرآن" (14 / 179- 180) .
(3) انظر نقد العلامة الألباني لمصطلح "جاهلية القرن العشرين" في "حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه" تصنيف الأستاذ محمد إبراهيم الشيباني (1/ 391- 394) .
(4) "الجامع لأحكام القرآن (14/ 180) .(3/274)
قال القرطبي معلقَا: قلت: وهذا قول حسن، ويُعْترضُ بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المِشية على تغنيج وتكسير وإظهارِ المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا بجوز شرعَا، وذلك يشمل الأقوال كلَها ويعمُّها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام، والله الموفق" (1) اهـ.
وقال القرطبي أيضا.
"لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإِماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إِليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن" (2) اهـ.
* قال الإمام أبو حيان:
"كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار".
وقال أيضا: "الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه"
ونقل أبو حيان أيضَا عن الليث أنه قال: (تبرجت المرأة: أبدت محاسنها من وجهها وجسدها) . اهـ.
ونقل عن مقاتل في تفسير التبرج: (تلف الخمار على وجهها، ولا تشده) (3) . اهـ.
ونقل الحافظ في "الفتح" عن الفراء قوله: (كانوا في الجاهلية تسدل
__________
(1) "الجامع لأحكام القرآن" (14/180)
(2) "السابق" (14/ 243)
(3) "البحر المحيط" (7/ 230)(3/275)
المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمِرْنَ بالاستتار) (1) اهـ.
وقال الإمام أبو حيان أيضَا:
"وكان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإِماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإِماء" (2) اهـ.
* وقد ذكر العلامة محمد أنور الكشميري الديوبندي رحمه الله تعالى الآيات التي لها تعلق بأنواع الحجب المأمور بها فقال:
"ومنها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... ) إلخ، والخطاب فيها- وإن كان خاصّا- إلا أن الحكم عام، ثم الخروج عند الحوائج ليس من تبرج الجاهلية الأولى في شيء، إنما تبرجهن أن يخرجن كالرجال بالوقاحة، وعدم تستر" (3) اهـ.
ونقل عن الحافظ تقسيمه الحجاب بأن منه ما يكون بإدناء النقاب عند الخروج، واسمه حجاب الوجوه، والثاني اسمه حجاب الأشخاص) (4)
يعني: القرار في البيوت، والله أعلم.
* وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي:
" (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... ) والمعنى: الزمن يا نساء النبي بيوتكن، واثبتن
في مساكنكن، والخطاب- وإن كان لنساء النبي- فقد دخل فيه غيرهن" (5) اهـ.
__________
(1) "فتح الباري" (8/347) .
(2) "البحر المحيط" (7/ 250) .
(3) ، (4) "فيض الباري" (1/ 254) .
(5) "روح المعاني" (7/170) .(3/276)
" وقال الراغب الأصفهاني:
"ثوب مُبرَّج صُوّرتْ عليه بروج، فاعتبر حُسْنُهُ، فقيل: تبرجت المرأة، أي تشبهت به في إظهار المحاسن، وقيل: ظهرت من برجها أي قصرها، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) وقوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ) ، والبرج سعة العين وحسنها تشبيهَا بالبرج في الأمرين" (1) اهـ.
* وقال الشوكاني رحمه الله:
ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإِسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إِسلامكن تبرجًا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن، أي: لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشبه الجاهلية التي كانت من قبل" (2) اهـ.
* وقال الألوسي رحمه الله:
"والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء، أخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها".
وأخرج البزار عن أنس قال: جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
"من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى"
__________
(1) "المفردات" (ص: 54) .
(2) "فتح القدير" (4/ 278) .(3/277)
وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته، وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة، أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المريض، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها" (1) اهـ.
* وقال الشيخ أحمد مصطفى المراغي- رحمه الله-:
" (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي: الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء" (2) اهـ.
* وقال المودودي - رحمه الله -:
"إن مقام المرأة ومستقرها هو البيت، وما وضعت عنهن واجبات خارج البيت إلا ليلازمن البيوت بالسكينة والوقار ويقمن بواجبات الحياة العائلية، أما إن كان بهن حاجة إلى الخروج فيجوز لهن أن يخرجن من البيوت بشرط أن يراعين جانب العفة والحياء، فلا يكون في لباسهن بريق أو زخرفة أو جاذبية تجذب إليهن الأنظار، ولا في نفوسهن من حرص على إظهار زينتهن، فيكشفن تارة عن وجوههن، وأخرى عن أيديهن، ولا في مشيتهن شيء يستهوي القلوب، ولا يلبسن كذلك من الحلي ما يحلو وسواسه في المسامع ولا يرفعن أصواتهن بقصد أن يسمعها الناس، نعم يجوز لهن التكلم في حاجتهن، ولكنه يحب أن لا يكون في كلامهن لين وخضوع ولا في لهجتهن عذوبة وتشويق، كل هذه الضوابط والحدود - إن راعتها النساء - جاز لهن أن يخرجن لحوائجهن" (3) اهـ.
__________
(1) "روح المعاني" (22/ 6) .
(2) (تقسير المراغي" (22/ 6) .
(3) "الحجاب" (ص: 313) .(3/278)
* وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق- رحمه الله-:
" (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الزمنها فلا تخرجن لغير حاجة شرعية، ومثلهن
في ذلك سائر نساء المؤمنين". اهـ.
وقال أيضا: "ومما يباح خروجهن لأجله الحج، والصلاة في المسجد، وزيارة الوالدين، وعيادة المريض، وتعزية الأقارب، والعلاج ونحو ذلك بشروطه التي منها التستر وعدم التبذل" (1) . اهـ.
* وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله:
"نهى سبحانه في هذه الآيات نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين وهن من خيرِ النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال، وهو تليين القول وترقيقه؛ لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا ويظن أنهن يوافقنه على ذلك، وأمر بلزومهن البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية، وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا.
وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن، وإيمانهن، وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى بالتحذير، والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن، ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن" (2) . اهـ.
__________
(1) "صفوة البيان لمعاني القرآن" (2/183)
(2) "رسالة في الحجاب والسفور" (ص: 13 14)(3/279)
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله:
"في هذه الآية الكريمة دلالات كبرى كلها تؤكد حكم الحجاب، وتقرره، وهي كالتالي:
1- منع المؤمنة من ترقيق قولها وتلينه إذا تكلمت مع أجنبي عنها ليس محرمًا لها.
2- تقدير وجود مرض الشهوة في قلوب بعض المؤمنين، وهو علة نهي المرأة عن ترقيق قولها إذا قالت.
3- وجود تحديد العبارة والتكلم على قدر الحاجة، بحيث لا تزيد المرأة إذا تكلمت مع أجنبي في كلامها ما ليس بضروري للإفهام، فلا يجوز منها إطناب ولا استطراد، بَل يجب أن تكون كلماتها على قدر حاجتها في خطابها.
4- لزوم المرأة المسلمة بيتها وهو مقر عملها الطبيعي، فلا تخرج إلا لحاجة ماسه إذ البيت هو محل تربية أولادها، وخدمة زوجها، وعبادة ربها بالصلاة، والزكاة، وذكر الله وما والاه.
5- تحريم التبرج، وهو خروج المرأة المسلمة من بيتها كاشفة من (1) وجهها، مظهرة لمحاسنها غير خجلة ولا محتشمة حيية.
إن هذه الدلالات الخمس من هذه الآية في خطاب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن كل واحدة منها دالة بفحواها على فرضية الحجاب، وتَحتُّمِه على المرأة المسلمة، غير أن المبطلين (2) لم يروا ذلك، فقالوا في هذه الآية والتي قبلها: "إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بهن ولا تعلق لها بغيرهن من نساء المؤمنين وبناتهم"، وهو قول مضحك عجيب. . . وهاتان الآيتان مثلهما مثل إقسام الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لو أشرك
__________
(1) كذا بالأصل، ولعله (عن) .
(2) لعل فضيلته يقصد بالمبطلين دعاة التحرر من الحجاب بالكلية، لا العلماء الفضلاء المخالفين في حكم كشف الوجه والكفين عن اجتهاد مخلص.(3/280)
لحبط عمله، وكان من الخاسرين في آية الزمر، مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتأتى منه الشرك ولا غيره من الذنوب، ولكن الكلام من باب "إياك أعني، واسمعي يا جارة"، وعليه فإذا كان الرسول على جلالته لو أشرك لحبط علمه، وخسر فغيره من باب أولى، كما أن الحجاب لو فرض على نساء النبي وهن أمهات المؤمنين كان على غيرهن من باب أولى. ويبدو أنه لما كان الحجاب مخالفا لما كان عليه العرب في جاهليتهم، ولم يشرع تدريجا، وشيئًا فشيئا حتى بالقوة، إذ لا يمكن فيه التدريج، فلما شرع دفعة واحدة كان أمرا عظيما، فبدأ الله تعالى فيه بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقال- وما أكثر من يقول يومئذ، والمدينة مليئة بالنفاق والمنافقين-: انظروا كيف ألزم نساء الناس البيوت والحجاب، وترك نساءه وبناته غاديات رائحات ينعمن بالحياة. . . إلى آخر ما يقول ذوو القلوب المرضى في كل زمان ومكان، فلما فرضه على نساء رسوله صلى الله عليه وسلم لم يبق مجال لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَرْغَبَ بنفسها عن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم فترى السفور لها، ولا تراه لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته، وهذا يعرف عند علماء الأصول بالقياس الجلي، ومن باب أولى كتحريم
ضرب الأبوين قياسا على تحريم التأفيف في قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف رحمه الله:
"قد قرن الله تعالى هذا التوجيه بالتقوى حيث لا تلتزم بتلك الصفات المحمودة المشروعة إلا من تخشى الله تعالى وتنقيه من كل النساء، وهذا السياق قيل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يقول أحد من المسلمين: إن الحكم خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقط؟! وأن للنساء المؤمنات أن يخالفنه؟ هذا لا
__________
(1) "فصل الخطاب في المرأة الحجاب" (ص: 35- 38) .(3/281)
يقول به أحد، والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
... وهذا كله ظاهر، لأن هذه كلَّها أحكام وآداب وتوجيه من الله
جل جلاله لتحتفظ المرأة المسلمة بكرامتها وحصانتها، ولقطع دابر الوسائل التي تقرب إلى الفتنة والشر، وهذا سبيل من كان يرجو الله واليوم الآخر.
وأما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فمضمون الآيات مخاطبتهن تعظيمَا وإكبارَا لهن،
مع أن الحق استبعاد الفتنة معهن من أصحابه صلى الله عليه وسلم، لأنهن لسن كأحد من النساء بالفضل وعظيم القدر، لا بما يدعو إلى الفتنة والشر من بدن المرأة ومواضيع الزينة منها، فلا ريب أنهن وسائر المسلمات المؤمنات سواء، لأن الجميع في باب واحد من عدم العصمة، وحينما نقول: "إن الجميع في باب واحد من عدم العصمة"، نقول ذلك لعموم أنه لا عصمة لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم، غير أنهن أتقى النساء، لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الله لهن بأنهن الطيبات وأنهن المبرآت، فعلى أزواجه وبناته ومن تبعهن من المسلمات المؤمنات رضوان الله تعالى ورحمته وبركاته" (1) اهـ.
* وقال الدكتور السيد محمد علي نمر:
"ولأمر ما أضاف الله البيت إلى المرأة لكثرة ملازمتها له، حيث يقول سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فالبيوت للأزواج، ولكنها أضيفت إلى المرأة لما تقوم به من دور عظيم فيه" (2) .
يا أختُ سابغة البرا ... قع في الأباطح والوعورْ
قَرِّي فديتُك حيث لا ... تؤذيكِ لافحة الهجير
ودعي الجنوحَ إلى السفو ... رِ، وخَففي ألمَ العشير
النمر لو لزم الشرى ... من كان يطمع في النمور؟
__________
(1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 94- 95) . (2) "إعداد المرأة المسلمة" (ص: 59) .(3/282)
والطير تأخذها شبا ... كُ الصَّيْدِ في ترك الوكور (1)
الدليل الرابع
قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)) [النور: 31] .
في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاثة مواضع استُدلَّ بها على وجوب الحجاب:
الأول: قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) .
فقد صح عن ابن مسعود وغيره تفسير الزينة بالثياب الظاهرة من المرأة، وأما من قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الوجه والكفان فقد بنى مذهبه:
1- إما على آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما، منها صحيح (2) ومنها ضعيف.
2- وإما على أساس الترجيح بالإِلزام الفقهي، بناءَ على أن عورة المرأة
في الصلاة: البدن كله ما عدا الوجه والكفين، وأن إحرامها في الوجه والكفين، قالوا: فيلزم من ذلك إباحة إظهارهما.
ومما يلفت النظر أن كثيرَا من المفسرين وقعوا في بعض التناقض حيث
__________
(1) "فقه النظر في الإسلام" (ص: 188) .
(2) قوله رضي الله عنه: "الكف ورقعة الوجه " رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (4/283) .(3/283)
التزموا في سائر آيات الحجاب القول بوجوبه على سائر النساء، ثم ذهبوا في هذا الموضع بالذات إلى ترجيح المذهب المنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، واحتجوا بهذا الإلزام الفقهي غير اللازم لوجود الفرق بين داخل الصلاة، وخارجها.
وقد رجح بعضهم جواز كشف الوجه والكفين لأن الحاجة قد تمس إلى إظهارهما كالخِطبة والشهادة والتطبيب إلخ، والجواب أنه يرخص لها ذلك في حدود حاجتها، والله أعلم.
أما الموضع الثاني: فقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) ، أما الثالث: فقوله عز وجل: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) .
تحقيق الآثار المنسوبة إلى ابن عباس رضي الله عنهما والآثار المسندة إلى أبن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:
(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)
قال فضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب السندي المدرس بمعهد الحرم المكي الشريف أثناء نقده لأئر: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه" (1) .
وليس هناك حديث صحيح مرفوع في هذا المعنى إلا ما جاء عن عبد الله
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في أثر أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره (2) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3) .
قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال ثنا مروان، قال
__________
(1) انظر تحقيقه ص (370 - 371) .
(2) "تفسير الطبري" (8/119) .
(3) "السنن الكبرى" (2/182- 183) ، (7/86) .(3/284)
ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) قال: الكحل والخاتم.
قلت: إسناده ضعيف جدًّا، بل هو منكر.
قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد الله الضبي الكوفي الملائي الأعور عن أنس وإبراهيم النخعي، وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي روى عن سعيد بن جبير- وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد بن جبير (1) .
ثم قال الإمام الذهبي فى ترجمته: "عن الثوري ووكيع بن الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضَا: زعموا أنه اختلط، وقال يحيى القطان: حدثني حفص بن غياث قال: قلت لمسلم الملائي: عمن سمعت هذا؟ قال- عن إبراهيم عن علقمة، قلنا: علقمة عمن؟ قال: عن عبد الله، قلنا: عبد الله عمن؟ قال: عن عائشة-، وقال النسائي: متروك الحديث" (2) اهـ.
"وقلت: هذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفى على أهل هذا الفن الشريف.
وقال الإمام الحافظ البيهقي في "السنن الكبرى": "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: ما في الكف والوجه" (3) اهـ.
__________
(1) "تهذيب الكمال " (7/ 663) .
(2) "ميزان الاعتدال" (4/ 106) .
(3) "السنن الكبرى" (2/ 225) ، (7/ 852) ، وقال الشيخ منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) قال ابن عباس=(3/285)
قلت: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال الإمام الذهبي. أحمد بن عبد الجبار العطاردي روى عن أبي بكر بن عياش وطبقته، ضعفه غير واحد، قال ابن عدي: رأيتهم مجمعين على ضعفه ولا أرى له حديثَا منكرا، إنما ضعفوه لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم، وقال مطين: كان يكذب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه، وقال ابن عدي: كان ابن عقدة لا يحدث عنه، وذكر أن عنده قِمَطْرًا على أنه كان لا يتورع أن يحدث عن كل أحد، مات سنة 272 هـ (1) .
وقال الحافظ في التقريب: ضعيف (2) .
وكذا يوجد في هذا الإِسناد- عند الإمام البيهقي- عبد الله بن مسلم بن
هرمز المكي عن مجاهد وغيره، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين،. وقال: وكان يرفع أشياء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن المديني: كان ضعيفا (مرتين) عندنا، وقال أيضا: ضعيف، وكذا ضعفه النسائي (3) ، وقال الحافظ في "التقريب": ضعيف (4) .
قلت: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد لا يحتج بهما ولا يكتبان، وهنا أسانيد أخرى لا تقل درجتها في الضعف والنكارة، وبذلك يمكن أن يقال إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (5) .
__________
= وعائشة: وجهها وكفيها. رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود. اهـ من "كشف القناع" (1/243) .
(1) "ميزان الاعتدال" (1/ 112 - 113) .
(2) "تقريب التهذيب" (1/ 19) .
(3) "ميزان الاعتدال" (2/ 503) .
(4) "تقريب التهذيب" (1/ 450)
(5) في هذا التعميم نظر، فقد صحت بعض آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذا المعنى، منها ما تقدم ص (283)(3/286)
ولو صح الإِسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء أهل الحديث فكيف
في هذه الحال، وقد صحت الأسانيد إلى ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من الصحابة رضي الله عنهم عكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" والبيهقي في "سننه" وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره"، وزد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي مفصلا من أمره صلى الله عليه وسلم بالحجاب والستر.
* وإليكم أولا ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله تعالى: حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب (1) .
قلت: إسناده في غاية الصحة وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره (2) .
ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسنادَا آخر بقوله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي
الأحوص، عن عبد الله مثله - قلت: إسناده في غاية الصحة.
وقال الإمام السيوطي: أخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الزينة الظاهرة الوجه والكفان وكحل العينين، ثم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن" الآية.
__________
(1) "تفسير الطبري" (18/ 119) ، وقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم من طريقه، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في
"التلخيص".
(2) "تفسير القرآن العظيم" (2/283) .(3/287)
ثم قال رضي الله عنه: "والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها، فإنها لا تبديه إلا لزوجها (1) " قلت: رواية ابن عباس رضي الله عنهما هذه قد اطلعت على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره ورجالها كلهم ثقات إلا أنها منقطعة؛ لأن فيها على بن أبي طلحة المتوفى سنة 143 هـ يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ولم يلقه والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي - وهو إمام كبير ثقة ثبت كما لا يخفى على أحد - وقد احتج بهذه الرواية - أعني رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- البخاري في "الجامع الصحيح " (2) ؛ إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة وإن كانت ليست على شرطه في "الجامع الصحيح" - قال ذلك الحافظ في "التهذيب" (3) .
وقال الإمام المزي في "تهذيب الكمال" مشيرَا إلى رواية التفسير هذه "في ترجمة على بن أبي طلحة: "هو مرسل عن ابن عباس، وبينهما مجاهد (4) "، واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في "تفسيره" (5) ، والإمام القرطبي في تفسيره (6) ، وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة فكانت قوية ومحتجُّا بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وأثار الصحابة والتابعين تؤيدها
فليعتمد عليها ويستأنس بها". (7) اهـ من "رسالة الحجاب" للسندي.
__________
(1) "الدر المنثور" (5/ 42) .
(2) انظر مثلا: "فتح الباري" (8/ 54، 76، 114) .
(3) "تهذيب التهذيب" (7/ 340) .
(4) "تهذيب الكمال" (5/ 480) .
(5) "محاسن التأويل" (4/ 4909) .
(6) "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 243) .
(7) "رسالة الحجاب في الكتاب والسنة" (ص: 21 26) .(3/288)
ولو أن فضيلته اقتصر على قوله: "يُستأنس بها" لكان أقرب من قوله: "فليعتمد عليها" لما في الكلام الذي أسلفه في رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ما أجاب به العلماء عن قول
ابن عباس رضي الله عنهما
* أولَا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم.
قال: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين، زينةَ ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوَّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما
الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم.
وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع أنسَا أن ينظر.
ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي
من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها.
فلما أمر الله أن لا يُسئلن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته
ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ والجلباب هو المُلاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة: الأزار، هو الأزار(3/289)
الكبير الذي، يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عَبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب " فكن النساء ينتقبن" وفي الصحيح "إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين"، فإذا كنَّ مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهر للأجانب، فما بقي يَحِلُّ للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة
فابن مسعود ذكر آخر الأمرين؛ وابن عباس ذكر أول الأمرين" (1) اهـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
ثانيا: قال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
"وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر "إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها، ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك ما رواه على بن أبي طلحة عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق وهو الحق الذي لا ريب فيه، ومعلوم ما يترتب على ظهور
__________
(1) "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة" ص: 13 – 17، "مجموع الفتاوى" (22/ 110) ، ويتضح من هذا أن شيخ الإسلام يذهب إلى وقوع النسخ في مراحل تشريع الحجاب قال رحمه الله: (وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها
أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب) اهـ، وقال أيضَا رحمه الله تعالى: (وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تُنه عن أَبدائه للنساء ولا لذوى المحارم) اهـ.
من "مجموع الفتاوى" (22/ 117 - 118) .(3/290)
الوجه والكفين من الفساد والفتنة، وقد تقدم قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ولم يستثن شيئا وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك" (1) اهـ.
وهذا الجمع أولى لما ورد عن ابن عباس أيضًا من قوله: تدني الجلباب
إلى وجهها ولا تضرب به. قال روح في حديثه: قلت: وما (لا تضرب به) ؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب قال: "تعطفه وتضرب به على وجهها كما هو مسدول على وجهها". رواه أبو داود في كتاب المسائل قال: حدثنا أحمد - يعني ابن محمد بن حنبل - قال حدثنا يحيى وروح عن ابن جريج قال أخبرنا عطاء قال أخبرنا أبو الشعثاء أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فذكر الحديث – وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقول ابن مسعود رضي الله عنه ومن وافقه هو الصحيح في تفسير هذه الآية لاعتضاده بآية سورة الأحزاب وهي قولة تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) .
* قال الإمام أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله: "قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي لا يُظهِرنها لغير محرم، وزينتهن
على ضربين: خفية كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك،
وظاهرة وهي المشار إليها بقوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وفيه سبعة أقوال: أحدها: أنها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، وفي لفظ آخر
قال. هو الرداء.
__________
(1) "رسالة في الحجاب والسفور" ص: 19.(3/291)
والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه.
والثالث: الكُحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: القُلبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة.
والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد.
والسادس: الخاتم والسِّوار، قاله الحسن.
والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك.
قال القاضي أبو يعلى: والقول الأول أشبه، وقد نص عليه أحمد فقال:
الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر.
ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر
مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فإنه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لشهوة ولا لغيرها، وسواء في
ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة فالجواب: أن في تغطيته مشقة فعفي عنه" (1) اهـ.
* قال ابن عطية:
"ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي (2) ، وأن تجتهد
في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة
حركة فيما لابد منه ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه" (3) اهـ.
__________
(1) "زاد المسير" (6/ 31) .
(2) كذا، ولعله: "بألا تبدي وجهها" كما يظهر من السياق، ومن تعقيب القرطبي رحمه الله.
(3) "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 229) .(3/292)
ثم عقب القرطبي رحمه الله قائلاً:
"قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما (1) ، يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها وساق حديث أسماء (2) مستدلا به، إلى أن قال رحمه الله: وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزًا أو مُقَبَّحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها" (3) اهـ.
* وقال البيضاوي رحمه الله تعالى في تفسيره:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها
لمن لا يحل أن تبدي له (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجَا.
وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف (4) ، أو ما يعم المحاسن
__________
(1) "الجامع لأحكام ألقرآن" (12/ 229) .
(2) وقد تعقب الألباني هذا الاستدلال من القرطبي بقوله: (قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا، لأنه وإنا كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم الواقع، فإنما ذلك بقصد من المكلف، والآية حسب فهمنا إنما أفادت استثناء ما ظهر دون قصد، فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلًا شاملا لما ظهر بالقصد؟ فتأمل) اهـ من
"حجاب المرأة المسلمة" (ص: 24) .
(3) انظر الجواب عنه (ص: 336) .
(4) ونظيره قوله تعالى: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) والمراد بها الجنة، لأنها مكان الرحمة، وكذلك: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) والمراد مواضع الصلاة، قال الزمخشري: (وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر فإنه ما نهى عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة) اهـ.(3/293)
الخلقية والتزيينية، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة" اهـ.
* قال الشهاب في "شرحه":
"ومذهب الشافعي - رحمه الله - كما في "الروضة" وغيرها أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقَا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتها بكشفهما".
وقال أيضَا: قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: بلا إظهار كأن كشفته الريح، والاستثناء عن الحكم الثابت بطريق الإشارة، وهو المؤاخذة به في دار الجزاء، وفي حكمه ما لزم إظهاره لتحمل شهادة ومعالجة طبيب.
وقال أيضًا: "قوله: "وقيل المراد بالزينة مواضعها" وفي نسخة: مواقعها، وهو بمعناه، وهذا ما ارتضاه الزمخشري، وهو على مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وجعله كناية عما ذكر كنقي الجيب وهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل، وقيل: إنه بتقدير مضاف كما ذكره المصنف رحمه الله. وفي "الانتصاف": قوله: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي، ولو حمل على ما ذكر لزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع التزيين، وهو باطل لأن بدن الحرة جميعه عورة يعني عند
الشافعي ومالك، وأما إبداء الزينة وحدها فلا خلاف في جوازه، إذ لا يحرم نظر سوار امرأة يباع في يد رجل، وأما كونه تنكسر به قلوب الفقراء فلا وجه له ولذا مرضه المصنف لمخالفته مذهبه وفيه نظر، والزينية نسبة إلى الزينة وفي نسخة "التزيينية"، وقوله "والمستثنى" أي على هذا القول وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، والقدمان والذراعان فى رواية (قوله: بدن الحرة(3/294)
عورة) كما في الحديث: "المرأةُ عورة مستورة" رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، لكن ليس فيه لفظ مستورة، وما ذكره من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها مذهب الشافعي رحمه الله، وفيه كلام في ابن الهمام فراجعه " (1) اهـ.
* وقال الشيخ العلامة محمد بن أحمد بن جزي الكلبي رحمه الله:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) نهى عن إظهار الزينة بالجملة
ثم استثنى الظاهر منها، وهو ما لابد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك، فقيل: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني الثياب فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها، وقيل: الثياب والوجه والكفان، وهذا مذهب مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة وزاد أبو حنيفة
القدمين" (2) اهـ.
* وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات.
وقال رحمه الله. وقال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي:
ولا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، وقال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاناه (3) نساء العرب، من المِقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود: الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء
__________
(1) "عناية القاضي وكفاية الراضي" (6/ 373) .
(2) "التسهيل لعلوم التنزيل" (3/ 64) .
(3) أي يأخذن أنفسهن به.(3/295)
وإبراهيم االنخعي وغيرهم" (1) اهـ.
* وقال السيوطي رحمه الله:
(وَلَا يُبْدِينَ) يظهرن (زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهو الوجه والكفان فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين، والثاني: يحرم لأنه مظنة الفتنة، ورجح حسمًا للباب" (2) اهـ.
__________
"تفسير القرآن العظيم" (6/ 46- 47) ، قال الشيخ الأنصاري معلقا على عبارة ابن كثير رحمه الله هذه:
(والمقصود أن فيها الدلالة على أن ستر جميع الجسد كان قد صار ديدن نساء الصحابة والتابعين ونساء المسلمين.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه آيات الحجاب فقام بتعليمها وتعليم تأويلها وحكمتها، هاهم أولئك الصحابة كافة الأنصار منهم والمهاجرون تعلموا منه
معنى تلك الآيات، ثم رجعوا إلى بيوتهم فعلموهم أزواجهم وبناتهم وأخواتهم ونساء بيوتهم، وهاهن الصحابيات الطاهرات سمعن هذه الآية وتعملنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ممن تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فشققن مروطهن وغطين وجوههن، وجعلن النقاب جزءًا أو لباسَا من ألبستهن، وهذا هو الذي صار ديدن نساء العرب ونساء المسلمين كافة، لا زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فقط، بل حكى الشوكاني عن ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق (نيل الأوطار 6/ 245) . ولم يكن فعلهم وفعل نسائهم هذا تطوعَا، ولا التزاما من قبل أنفسهن بما لم يلزمه الله ورسوله، كما يزعمه الله ورسوله، كما يزعمه الزاعمون، بل فعلوا كل ذلك - كما أخبرتنا الصديقة بنت الصديق- إيمانا بكتاب الله وتصديقًا بتنزيله، وامتثالَا بأوامر الله وتناهيًا عن نواهيه، ولم يكن يخفى عليهم أن أوامر الله للوجوب ونواهيه للتحريم، وأن نساءهم بتغطيه وجوههن يمتثلن أمر الحجاب
وأمر إدناء الجلباب، ويتناهين عن إبداء الزينة، وأنهن ممثلات للمجتمع الذي يريد الله ثم يريد رسوله إقامته، وبعد هذا كله لا أدري كيف يشك شاك في وجود
ستر الوجوه وحرمة إبدائها؟ وماذا ومن ذا بعد الله ورسوله والصحابة والمؤمنين حتى يعتمد عليه؟ اهـ "من مجلة الجامعة السلفية".
__________
(2) "تفسير الجلالين" (2/ 54) .(3/296)
وروى ابن أبي حاتم والسيوطي في "الدر" عن سعيد بن جبير موقوفا أنه قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يعني: ولا يضعن الجلباب وهو القناع من فوق الخمار (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ) الآية قال: فهو محرم" (1) اهـ.
* وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى:
قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية، ونقل أبو طالب: "ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا ولا خفها فإنه يصف القدم" وأحبُّ إليَّ أن تجعل لكمها زرَا عند يدها. واختار القاضي قول من قال: المراد بما ظهر من الزينة: الثياب لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسرها ببعض الحلي أو ببعضها فإنه الخفية، قال: وقد نص عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة الثياب وكل شيء منها عورة حتى الظفر (2) اهـ.
* وقال العلامة الكشميري رحمه الله:
فإن قلت: وإذا جاز كشف هذه الأعضاء مطلقا فما معنى التخصيص والاستثناء؟ قلت: ومن ادعى أن القرآن رغبهن في كشفها؟ ولكن
السياق في إبداء الزينة عند من يباح له ضرورة، أما من لا ضرورة فيهم فالسنة فيهم كما ذكرها في آية أخرى وهي إدناء الجلباب لأن ذلك أستر لها، وإن جاز لها كشفها أيضا إلا أنه لما كان قد ينجر إلى الفتن حرض القرآن بسترها في عامة الأحوال (3) اهـ.
وقال أيضَا رحمه الله: وإنما قلت: إن كشف الوجه جائز لولا الفتنة
لحديث فضل بن عباس وشابة في الحج فصرف صلى الله عليه وسلم وجهه عنها وقال: "خشيت أن يقع بينهما شيطان" (4) فافهم وتشكر (4) اهـ.
__________
(1) نقله الخجندي في "حبل الشرع المتين" (ص: 234) .
(2) "الفروع" (1/ 601) .
(3) ، (4) "فيض الباري" (4/ 24) ، وانظره (4/308) ، وسيأتي الجواب عن حديث الفضل (ص: 381) إِن شاء الله.(3/297)
* وقال الألوسي رحمه الله:
ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في "الزواجر": أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة. . . وذهب بعض الشافعية إلى حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة، وليس بمعول عليه عندهم، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقَا في غاية البعد، فتأمل (1) .
واعلم؛ أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة، وقيل بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من
استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)
من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون المعنى: أن ما ظهر منها من غير إظهار كان كشفته الريح مثلًا فهن غير
مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب، وروى الطبراني، والحاكم وصححه، وابن المنذر،
وجمع آخرون، عن ابن مسعود أن "ما ظهر": الثياب والجلباب، وفي
__________
(1) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
(إن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن، والأمر بحفظ الفروج أمر به، وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن وسائله تغطية الوجه لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك، وبالتالي إلى الوصول والاتصال، وفي الحديث: (العينان تزنيان، وزناهما النظر) إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "والفرج يصدق كل ذلك
أو يكذبه "، فإذا كان الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأمورا به لأن الوسائل
لها أحكام المقاصد) اهـ من "رسالة الحجاب" (ص: 6) .(3/298)
رواية الاقتصار على الثياب، وعليها اقتصر أيضَا الإمام أحمد، وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) على ما في البحر" (1) اهـ.
* قال الشيخ أبو هشام الأنصاري:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) .
وهذه أول آية من الثلاث حسب ترتيب القرآن، يستأنس من بعض الروايات أنها نزلت قبل آية إدناء الجلابيب، بينما يستأنس من بعض الروايات الأخرى أنها نزلت بعدها، وعلى كلا التقديرين لها محمل صحيح فلا تعنينا هذه الناحية من البحث.
وهذه الآية تأمر المؤمنات بإخفاء الزينة كلها سواء أردنا بالزينة الزينة الخلقية من الوجه والعينين، والأنف والشفتين، والشعر والخدين،
والأذنين والصدغين، وغيرها من جسد المرأة وأعضائها، أو أردنا الزينة
المكتسبة، من السوار والخاتم، والخضاب والكحل، والفتخ والقلب،
والدملج والقرط، والإكليل والثوب المبرقش وغيرها.
إن هذه الآية تأمر بإخفاء هذه الزين كلها لا تستثني منها زينة من زينة (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، و (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) مبهم لم يفسره الكتاب والسنة
بل تركاه على إبهامه، وقام الصحابة والتابعون والعلماء المفسرون برفع هذا الإبهام، ولا شك أنهم لو أجمعوا على شيء لكان فيه غنى وكفاية، ولكان ذلك رافعا للإبهام، والنزاع معا، ولكن شاء الله أن لا يرتفع هذا الإِبهام رحمة بهذه الأمة، فاضطربت أقوالهم وتخالفت، حتى استحقت أن نتركها على حالها ونرجع إلى الله ورسوله، فلما رجعنا إلى الله ورسوله وجدنا الإِبهام باقيا على حاله، وستعرف أن بقاءه خير، ولنبحث الآن عن ناحية أخرى.
__________
(1) "روح المعاني" (8/ 141) .(3/299)
إن الله تعالى حينما نهى إبداء الزينة أسند الفعل إلى النساء، وجاء به متعديَا، لكنه حينما استثنى لم يقل "إلا ما أظهرن منها"، بل قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فعدل الفعل عن التعدي إلى اللزوم ولم يسنده إلى النساء،
ومقتضى هذا أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقا، وليست مخيرة في إبداء شيء منها، نعم! إنها إذا التزمت بالإخفاء، وتقيدت به، ثم ظهر من تلك الزينة شيء من غير أن تقصر وتفرط في الإخفاء، ومن غير أن تقصد وتتعمد الإِبداء، فإنها لا تعاتب عليه ولا تؤاخذ به عند الله، هذا هو المفهوم من سياق هذه الآية، وهذا الذي يقتضيه نظم الكلام.
ومن هنا يعرف أن كل زينة يمكن للمرأة إخفاؤها فهي مأمورة بإخفائها، سواء كان الوجه والكفان أو الكحل والخاتم والسواران، وأنها لو قصرت في إخفاء مثل هذه الزينة، وكشفتها تعمدًا تؤاخذ عليها، وأن كل زينة لا يمكن إخفاؤها- مثل الثياب الظاهرة- أو يمكن إخفاؤها
ولكنها انكشفت من غير أن تتعمد المرأة لكشفها أو تشعر بانكشافها، فإنها
لا تؤاخذ عليها، ولا تستحق عتابًا ما، كما أنها لا تؤاخذ ولا تعاتب إذا كشفتها عمدا- لأجل حاجة أو مصلحة ألجأتها إلى كشفها، فكأن المرأة لم تباشر ولم تتعمد كشفها، وإنما الحاجة أو المصلحة هي التي كشفتها، فلا
عتاب على المرأة، فقوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) في معنى قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
والحاصل أن الزينة نوعان، نوع يمكن إخفاؤها، فالمرأة مأمورة بإخفاء هذا النوع من الزينة مهما كانت، ونوع لا يمكن إخفاؤها، أو يمكن ولكنها تنكشف من غير أن تتعمد المرأة كشفها، أو تعتري حاجه تلجئ المرأة إلى إبدائهما، فهذا النوع هو المراد بقوله تعالى: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) والمرأة لا تؤاخذ على ظهور هذا النوع من زينتها، ولما كان هذا النوع من الزينة يختلف باختلاف الظروف والحاجات والمصالح، ولا يمكن تحديدها بحد معين لا يقبل الزيادة والنقصان تركها الله ورسوله على إبهامها تيسيرا(3/300)
لهذه الأمة واجتنابَا عن التضييق عليها.
ويضرب لذلك مثلا بالثياب الظاهرة، أو ما انكشفت من أعضائها لأجل تيار الهواء من غير قصد منها، والنظر إلى المخطوبة قبل النكاح، أو كشف المرأة بعض أعضائها أمام الطبيب لدفع الحرج، أو كشفها للوجه والكفين أمام الشاهد، هذه وأمثالها من الصور، التي تلتجئ المرأة فيها إلى كشف أعضائها التي أمرت بسترها إجماعَا، ولا عتاب عليها في تلك
الصور، فإن كل ذلك مما ظهر من زينتها من غير أن تبديها بخيارها.
ومن هنا يظهر أن تحديد (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) في الوجه والكفين أو الخاتم والسوارين أو الكحل والخضاب وأمثالها لا يصح، بل الصحيح هو تركه على إبهامه وعمومه، وأنه شامل لجميع جسد المرأة حسب الحاجة والظروف، وأن الذين حددوه في مقدار معين فقد وقعوا في التفريط، ولكنهم بجنب هذا التفريط وقعوا في الإفراط، فإنهم أباحوا لها أن تبدي هذا القدر مطلقا، سواء دعت الحاجة إلى كشفها أم لا، مع أن الله لم يخيرهن في إبداء شيء من الزينة، وإنما عفا عنهن ما ظهر منها بنفسها.
وإذا تحقق معنى هذه الآية فليكن على ذكر من القارئ الكريم أن قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ) مضارع في معنى النهي، والنهي للتحريم، وإذا وقع النهي بصيغة المضارع يكون آكد في التحريم، فالآية صريحة في أن إبداء الزينة حرام على المرأة، فهي دليل على وجوب الحجاب، وأن الوجه والكفين داخلان فيه.
والذين يستدلون بهذه الآية على جواز كشف الوجه والكفين لم أر لهم شيئا يروي الغليل ويشفي العليل، وإنما جل ما يتوكئون عليه هو صرف الآية عن معناها المنصوص إلى غيره مستدلا بقول ابن عباس وأصحابه، وقول ابن عباس يأبى عما ينحلون إليه.
وذلك لأن ابن عباس وعدة من أصحابه فسروا إدناء الجلباب بتغطية الوجه، ولم يكن يخفى عليهم أنهم يفسرون أمرا من أوامر الله تعالى، وأن(3/301)
أمره تعالى للوجوب، وأن الله أوجب ذلك لإقامة التمييز بين الحرة والأمة، فلا يمكن صرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، وإلا يفوت الغرض المطلوب والهدف المنشود، فهل يا ترى أنهم تناقضوا أنفسهم فقالوا بوجوب ستر الوجه، وقالوا بجواز كشفها مطلقَا؟ لا، بل يستأنس من قول ابن عباس أنه يرى جواز الكشف لأجِل الضرورة، فقد روى ابن جرير عنه في قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ؛ قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل من الناس عليها "تفسير ابن جرير" (18/83، 84) .
فابن عباس لا يفتي بجواز كشف الوجه واليدين مطلقًا، وإنما يفتي بجواز كشفهما عند من دخل عليها في البيت، ثم المراد بالداخلين في البيت إما أن يكون حق أقاربها من ليس بمحرم لها، مثل أبناء عمها وعمتها وخالها وخالتها ومثل أحمائها، فإن هؤلاء يكثر دخولهم في البيت، فابن عباس يرى في التستر عنهم مشقة وحرجا، ويستنبط جواز كشف الوجه والكفين أمامهم من قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فكأن المرأة ليست هي التي أبدت الزينة أمامهم بل المشقة هي التي أظهرتها، وإما أن يكون المراد بالداخل في البيت كل من دخل في البيت مطلقَا بعد الإذن، وبالجملة فتقييد الجواز بالبيت يفيد أن ابن عباس يرى اشتغال المرأة بمهنتها في بيتها، من الحوائج التي تبيح لها كشف الوجه أما الأجانب، فهو يرى الجواز في حالة خاصة، وهو ينبئ عن
عدم الجواز في عامة الأحوال، فانظر أين قوله هذا من الذين يميلون إلى السفور، ويزعمون أن ابن عباس هو إمامهم في هذا (1) اهـ.
* أما العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي فقد قال بعد أن ذكر ما أثر عن السلف في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) :
__________
(1) "مجلة الجامعة السلفية" عدد مايو، يونيو 1978م.(3/302)
"وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا:
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليها برؤية شيء من بدنها كقول ابن مسعود رضي الله عنه، ومن وافقه: إنها ظاهر الثياب، لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهى ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى.
وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة، ما تتزين به، وليس من أصل خلقتها أيضا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم برؤية شيء من بدن المرأة، وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك، لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملامس له من البدن كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها لقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان- وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم.
وإذا عرفت هذا فاعلم؛ أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول (1) ، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع، لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ، وذكرنا له بعض الأمثلة في
__________
(1) "أضواء البيان" (1/10 - 12)(3/303)
الترجمة (1)
وإذا عرفت ذلك فاعلم؛ أن هذين النوعين من أنواع البيان اللذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها.
أما الأول منها: فبيانه أن قول من قال في معنى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أن المراد بالزينة: الوجه والكفان مثلَا، توجد في الآية
قرينهّ تدل على عدم صحة هذا القول، وهي أن الزينة في لغة العرب، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي والحلل، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادَا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) وقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) وقوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) وقوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) وقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) الآية وقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) الآية وقوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ)
الآية، وقوله تعالى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) ، وقوله تعالى عن قوم موسى: (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) الآية وقوله
__________
(1) "السابق" (1/ 15- 16) .(3/304)
تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)
فلفظ الزينة فى هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم، وهو المعروف في كلام العرب كقول
الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطِلن فهن خيرُ عواطلِ
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة فى القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسرها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر
الثياب، وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب ونحو ذلك.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي الله عنه أن الزينة الظاهرة: هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر، لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد عن الوقوع فيما لا ينبغي (1) اهـ.
__________
(1) "انظر "أضواء البيان" (6/192 - 202) .(3/305)
* وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله رحمة واسعة:
"وأما قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فقد جعلت البيانات المختلفة في كتب التفسير مفهوم هذه الآية مغلقا إلى حد عظيم، وإلا فإن هذه الآية واضحة جدا لا خفاء فيها ولا إبهام، فإذا قيل في الجملة الأولى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي: لا يظهرن محاسن ملابسهن وحليهن ووجوههن وأيديهن وسائر أعضاء أجسادهن، استثنى من هذا الحكم العام بكلمة (إلا) في جملة (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: ما كان ظاهرا لا يمكن إخفاؤه أو هو ظهر بدون قصد الإِظهار من هذه الزينة، وهذه الجملة تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة، غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن- كأن يخف الرداء لهبوب الريح وتنكشف بعض الزينة مثلا - أو ما كان ظاهرا بنفسه لا يمكن إخفاؤه، كالرداء التي تجلل به النساء ملابسهن، لأنه لا يمكن إخفاؤه وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال- فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى.
وهذا هو المعنى الذي بينه عبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي لهذه الآية، وعلى العكس من ذلك قال غيرهم من المفسرين: إن معنى مَا ظَهَرَ مِنهَا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية، ثم هم يدخلون فيه وجه المرأة وكفيها بكل ما عليها من الزينة، أي أنه يصح عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمسحق والصبغ ويديها بالحناء والخاتم والحلق والأسورة ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها وهذا المعنى للآية مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
وتلامذته، وإليه ذهبت طائفة كبيرة من فقهاء الحنفية.
وأما نحن فنكاد نعجز عن أن نفهم بأي قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى (مَا ظَهَرَ) : "ما يظهره الإنسانُ" فإن الفرق بين "أن يظهر الشيء بنفسه" و"أن يظهره الإنسان بقصده" واضح لا يكاد يخفى على(3/306)
أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في هذه الرخصة إلى حد "إظهارها عمدا" مخالف للقرآن، ومخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كن يبرزن إن الأجانب سافرات الوجوه، وأن الأمر بالحجاب كان شاملًا للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءًا من لباس النساء إلا في
الإِحرام.
وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذي يبيحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا
بعورة مع أن الفرق كبير جدًّا بين الحجاب وستر العورة، فالعورة ما لا
يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال، وإن موضوع
البحث في هذه الآية هو الحجاب لا ستر العورة" (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله:
وزينة الوجه هي أكبر الزينة التي نهين عن إبدائها لأجنبي وكشفها، كما
أمر الرجال أن يغضوا أبصارهم عنها وعن كل محرم، ولهذا ما أحد ينظر إلى شيء من المرأة قبل وجهها لما جعل الله عليه الناس من تفضيل زينته وحسنه على كل زينة فيها، والله لم يخاطب الناس إلا بما يعقلون بفطرتهم، وما جرت به عادتهم ودلت عليه لغتهم، وليس من المعقول ولا من حكمة الله ولا دينه الذي أنزله رحمة وهداية وصيانة للأعراض والفضائل، وسياجا لها أن يحرم الزنا ووسائله، ويعظم عقوبته، ثم يبيح للنساء أن يكشفن وجوههن بين الرجال الأجانب، ويسفرن بها، ويتبرجن في الطرقات، لا مرية أن هذا أكبر دواعي الزنا وأسبابه، وهتك الأعراض،
__________
(1) "تفسير سورة النور" (ص: 157- 158) .(3/307)
والضرر بالرجال الذين جبلهم على الميل إلى زينة وجه المرأة وحسنه والمغالاة في المهر لأجله" (1) اهـ محل الغرض منه.
* وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله:
"إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقا إلا ما ظهر منها، وهي التي
لابد أن تظهر كظاهر الثياب، ولذلك قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، لم
يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد، ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
4- أن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولى الإربة
من الرجال، وهم الخدم الذين لا شهوة لهم، وللطفل الصغير الذي لم يبلغ الشهوة، ولم يطلع على عورات النساء، فدل هذا على أمرين:
أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين.
الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة، فيكون ستره واجبَا لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال، (2) اهـ.
* وقال الدكتور محمد فؤاد البرازي- حفظه الله-:
لو كان المعنى بـ (مَا ظَهَرَ) الوجه والكفين، بمعنى أن العادة فيهما أنهما لا يُستران. بل يبرزان، لكان الملائم مقامًا في التعبير أن يكون: "إلا
__________
(1) "تيسير الوحيين" (1/ 142- 143) .
(2) "رسالة الحجاب" (ص: 8- 9) .(3/308)
الظاهر منها"، وإنما قال النص: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فأشار إلى حصول ذلك عفوًا، ودون قصد حيث أسند الظهور إلى الشيء، لا إلى فاعله" (1) .
وقال أيضًا: ولا نرتاب في أن بعض السلف الذين فسروا: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين يشترطون مع ذلك أمن الفتنة، وإلا فهل يجيز واحد منهم لامرأة كشف وجهها - في مثل هذا الزمان أمام الرجال، وفيهم الفسقة لصوص الأعراض الذين يتشببون بمحاسن النساء، ويذرعون الطرقات بحثَا عنهن، والفتنة في هذا غالبة، إن لم نقل متحققة" (2) اهـ.
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى:
قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية،
إن دلالة هذه الآية على الحجاب قوية إذ تضمنت الأمر بغض، البصر وحفظ الفرج، فحفظ الفرج لا يتم إلا بغض البصر، وغض البصر لا يتم إلا بالحجاب التام، وتقدم لنا في هذا الباب أن غض البصر يتأتى لأحد الجنسين وكلاهما مأمور به إذا لم يكن هنا اختلاط، أو مع الاختلاط فلا يتأتى، وليس في إمكان أي مؤمن أو مؤمنة أن يطيع ربه في هذا الأمر بحال.
ومن هنا كان مدلول كلمة الحجاب ليس هو أن تغطي المرأة محاسنها فحسب، بل مدلوله الحق هو أن يكون هناك حاجب وحاجز يحول دون اختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء، وعندئذ يمكن غض البصر وحفظ الفرج، ولما كان خروج المرأة ضروريا لما يطرأ لها من أمور تستدعي
__________
(1) "حجاب المرأة في الأسلام" ص: 20) - طبعة مجلس إشاعهَ العلوم بالجامعة النظامية - حيدر آباد - الهند.
(2) "السابق" (ص: 25) .(3/309)
خروجها، أذن لها في الخروج ولكن غير مبدية لزينتها بل ساترة لها إلا ما لا يمكن ستره كعين تبصر بها، أو كف تتناول به أو ثياب عليها، وهذا معنى الاستثناء في الآية (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وبه فسره غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم" (1) اهـ.
الدليل الخامس
قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) .
وهذا يتضمن أمر النساء بتغطية وجوههن ورقابهن، وبيان ذلك أن المرأة إذا كانت مأمورة بسدل الخمار من رأسها على جيبها لتستر صدرها فهي مأمورة ضمنًا بستر ما بين الرأس والصدر وهما الوجه والرقبة، وإنما لم يُذكر هاهنا للعلم بأن سدل الخمار إلى أن يضرب على الجيب لابد أن يغطيهما.
قد يطلق الاختمار لغة على تغطية الوجه
قال بعضهم في وصف امرأة بالجمال وهي مخمرة وجهها:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المذهب
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يتلهبَ
* قال الألباني:
فقد وصفها - يعني المليحة - بأن خمارها كان على وجهها أيضا (2) اهـ.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
الخمر التي تغطى الرأس والوجة والعنق، والجلابيب التي تسدل من
__________
(1) "فصل الخطاب في المرأة والحجاب " (ص، 50- 51) . (2) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 33)(3/310)
فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله:
قال تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قد أمر الله تبارك وتعالى المرأة بعدم إبداء شيء من زينتها إلا ما ظهر منها عن غير قصد الفتنة، ثم أراد - جل ذكره - أن يعلمها كيف تحيط مواضع الزينة بلف الخمار الذي تضعه على رأسها فقال: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ) يعني من الرأس وأعالي الوجه (عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يعني الصدور حتى تكون بذلك قد حفظت الرأس وما حوى، والصدر وما تحته، وما بين ذلك من الرقبة وما حولها، لتضمن المرأة بذلك ستر الزينة الأصلية والفرعية، فمن استثنى شيئًا من تلك المنطقة المحرمة بنص القرآن العزيز، فعليه الدليل الذي يخصص هذا، ويحدد المستثنى، وهذا غير ممكن قطعًا، لأنه يحتاج إلى نص صريح من القرآن العزيز، أو من السنة المطهرة، وأنَّى لأولئك الذي قد استثنوا الوجه من تلك المنطقة بالأمور الظنية أن يأتوا بالدليل القطعي؟ ويشهد لما قلناه من تحريم خروج الزينة الأصلية والمنقولة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته صفية، وفعل أمهات المؤمنين، وفعل نساء المؤمنات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، وآية الأحزاب، من الستر الكامل بالخمر والجلابيب (2) اهـ.
__________
(1) نقله عنه في "السابق" (ص:) 71.
(2) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة (ص: 44- 45) ، وقال الشيخ أيضَا:
والقاعدة الأساسية في تفسير ألفاظ القرآن العزيز، وتطبيق ما أراده الله منها، فيما يختص بالرجال، مقيد بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، وما كان من اختصاص النساء. فإن من فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، لأنهن أعلى مستوى في الاقتداء لنساء المؤمنين إلى يوم القيامة. اهـ، وانظر أيضا كتابه ع: (70-71) ، (77- 79) .(3/311)
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف أيضا:
"قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) صريح في إدناء الخمار من
الرأس إلى الصدر، لأن الوجه من الرأس الذي يجب تخميره عقلا وشرعًا وعرفا، ولا يوجد أي دليل يدل على إخراج الوجه من مسمى الرأس في لغة العرب، كما لم يأت نص على إخراجه أو استثنائه بمنطوق القرآن والسنة ولا بمفهومهما، واستثناء بعضهم له، ونفيهم بأنه غير مقصود في عموم التخمير مردود بالمفهوم الشرعي واللغوي ومغمور بأقوال بقية علماء السلف والخلف، كما هو مردود بقاعدتين اصطلح عليهما رجال الفقه في السنة.
الأولى: أن حجة الأثبات مقدمة على حجة النفي.
والثانية: أنه إذا تعارض مبيح وحاظر قدم الحاظر على المبيح.
الموضع الثالث: آية الحجاب في سورة الأحزاب فهي صريحة في تخمير الوجه لأنه - عنوان المعرفة". اهـ (1)
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
"قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطية بها كالغدقة (2) ، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على
جيبها كانت مأمورة بستر وجهها إما لأنه من لازم ذلك أو بالقياس، فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى لأنه موضع الجمال والفتنة، فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، فإذا كان جميلًا لم ينظروا إلى ما سواه نظرا ذا أهمية، ولذلك إذا قالوا: "فلانة جميلة" لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه،
__________
(1) "نظرات" هامش (ص: 15) .
(2) كذا بالأصل!(3/312)
فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلبَا وخبرا، فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر، ثم ترخص في كشف الوجه" اهـ (1) .
" وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
"قال البخاري رحمه الله في "صحيحه": باب "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" وقال أحمد بن شبيب: حدثنا أبي، عن يونس، قال ابن شهاب
عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات
الأول، لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها" (2) .
حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن
صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "لما نزلت هذه الآية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي
فاختمرن به" اهـ. من صحيح البخارى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" في شرح هذا الحديث: "قوله: (فاختمرن) أي غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع، قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار".
وقال الحافظ أيضَا في كتاب (الأشربة) في أثناء تعريف الخَمر: ومنه خمار
__________
(1) "رسالة الحجاب" (ص: 7-8) .
(2) قال الشيخ محمود بن أحمد العيني في "عمدة القاري" (10/ 92) : (قوله: "نساء المهاجرات" أي: النساء المهاجرات، قوله: "مروطهن" جميع مِرْط بكسر الميم، وهو الإزار، وقوله: "فاختمرن بها" أي: غطين وجوههن بالمروط التي شققنها) اهـ.(3/313)
المرأة لأنه يستر وجهها" اهـ.
* قال الشنقيطي رحمه الله في حديث عائشه هذا:
"وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يقتضي ستر
وجوههن، وأنهن شققن أزُرَهن فاختمرن أي سترن وجوههن بها امتثالًا لأمر الله في قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) المقتضي ستر
وجوههن.
وبهذا يتحقق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إلا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، والله جل وعلا يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن" اهـ من "أضواء البيان".
وقد روي ابن أبي حاتم من حديث صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلًا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة
النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرطِها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات (1)
__________
(1) قال محمد بن الحسن: لا يكون الاعتجار إلا مع تنقب، وهو أن يلف بعض =(3/314)
كأن على رؤوسهن الغِرْبان"
ومعنى معتجرات: مختمرات كما جاء موضحَا في رواية البخاري المذكورة أنفًا، والاعتجار: هو لَف الخمار على الرأس مع تغطية الوجه. قال ابن الأثير: "وفي حديث عُبيد الله بن عدي بن الخيار: جاء وهو معتجر بعمامته ما يَرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه، الاعتجار بالعمامة هو أن يلفها على رأسه وَيرُدّ طرَفَها على وجهه ولا يعمل منها شيئًا تحت ذقنه" اهـ.
* قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
"فترى عائشة رضي الله عنها مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرحت بأنها ما رأت أشدَّ منهن تصديقًا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله (1) ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى.
فالعجب كل العجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله، ومعنى هذا
__________
= العمامة على رأسه، وطرفا منه يجعله شبه المعجر للنساء وهو أن يلفه حول وجهه اهـ. من "المبسوط" (1/ 31)
(1) وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري:
(ومن الطرائف أن بعضهم استدل بقوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) على أن الوجه ليس بداخل في الحجاب، لأن الله تعالى لم يأمر فيه بستر الوجه، أقول:
نعم إن الله لم يأمر هنا بستره، ولكنه لم يأمر هنا بستر الرأس والعنق والعضدين
أيضا، فهل يجوز لهما كشف هذه الأعضاء؟ فما هو جوابكم فهو جوابنا) . اهـ
من "مجلة الجامعة السلفية" عدد مايو، ويونيو 1978.(3/315)
ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلة
وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى" (1) اهـ.
الدليل السادس
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)
* وقال الشيخ أبو بكر الجزائري:
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) إن دلالة هذه الآية على الحجاب الكامل أظهر وأقوى من الآيات السابقة، وذلك لأن إثارة الفتنة بسماع صوت الخلخال في الرجل إذا ضربت المرأة برجلها وهي تمشي أقل بكثير من فتنة النظر إلى وجهها وسماع حديثها، فإذا حرم الله تعالى بهذه الآية على المرأة أن تضرب الأرض برجلها خشية أن يسمع صوت حليها فيفتن به سامعه كان تحريم النظر إلى وجهها- وهو محط محاسنها- أولى وأشد حرمة" (2) اهـ.
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
"قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يعني: لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه فكيف بكشف الوجه.
فأيما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالا بقدم المرأة لا يدري ما هي وما جمالها لا يدري أشابة هي أم عجوز، ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء، أيما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل ممتلئ شبابَا
__________
(1) "أضواء البيان" (6/595)
(3) "فصل الخطاب" (ص: 41)(3/316)
ونضارة وحسنا وجمالا وتجميلا بما يجلب الفتنة، ويدعوا إلى النظر إليها؟ إنَّ كل إنسان له إربة في النساء ليعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإِخفاء" (1) .
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يؤخذ من هذا أن الله تعالى حرَّم على المرأة ما يدعو إلى الفتنة، حتى بالحركة والصوت، وهذا غاية في تأديب المسلمة، ومبالغة في حفظ كرامتها، ودفع الشر عنها، فلو كان شيء أخفى من هذا لذكره جل شأنه توجيهَا للمرأة المسلمة وتعليمًا لها، فما أكرمها على الله حيث تمتثل أوامره، وتعمل بأحكامه، وما أنقصها وأفسدها لما وهبها حينما تخالف أمره، ومن هذه النبذة يظهر لنا ملموسًا - كما يظهر للناس جميعًا - أن المرأة حينما تكون متحجبة ساترة لمواضع زينتها، فإن جِبلة الرجل تتوق إلى النظر لأدنى شيء يبدو منها، فهي قد احتفظت بنور يعترفه كل أحد تحت هذه الحجب.
بخلاف المرأة السافرة التي قد بذلت مواهبها الأصليه والمكتسبة للناظرين، فكل مبذول ممتهن، وقد نزع الله تعالى منها النور الذي يهبه لمن أطاعه واتقاه، فلو علمت المرأة السافرة والمتبرجة، ومن بذلت نفسها ممتهنة للسوقة والأنذال ما تحت هذا الخمار من النور والكرامة لسارعت إليه، فسبحان من له في خلقه شؤون!.
فالله سبحانه وتعالى أدَّب من أطاعه من النساء، ووجههن أكمل توجيه، وعلمهن من العلم النافع ما يكنَّ به عضوا نافعًا في المجتمعات
الإنسانية، وأما صالحة كريمة. . .
__________
(1) "رسالة الحجاب" (9 – 10) .(3/317)
ومن أجل ذلك جاء القرآن العزيز بتوجيهها التوجيه الذي يحبه الله ويرضاه، فبدأها في هذه الآية بأعلى ما فيها وأفضله، وهو الرأس، وختمهما بأسفل ما فيها وأدناه، وهي الأرجل، فيؤخذ من هذا أن المرأة عورة، حرام عليها أن يظهر من بدنها أي شيء يراه الرجال الأجانب منها، حتى ما وضعته على سبيل التجمل، سواء في ذلك ما كان ظاهرًا أو خفيا من الرأس حتى القدم" (1) اهـ.
* وقال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله:
قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وهذا يدل
على أن النساء يجب عليهن أن يسترن أرجلهن أيضا، وإلا استطاعت إحداهن أن تبدي ما تخفي من الزينة، وهي الخلاخيل، ولاستغنت بذلك عن الضرب بالرجل، ولكنها كانت لا تستطيع ذلك، لأنه مخالفة للشرع مكشوفة، ومثل هذه المخالفة لم تكن معهودة في عصر الرسالة، ولذلك كانت إحداهن تحتال بالضرب بالرجل لتُعْلِم الرجال ما تخفي من الزينة، فنهاهن الله عن ذلك" (2) اهـ.
ونقل عن ابن حزم رحمه الله قوله بأن هذا نص على أن الرجلين
والساقين مما يخفى، ولا يحل إبداؤه.
ولا ريب أن الفتنة المتوقعة من كشف الوجه أعظم بكثير وأشد ضراوة
من فتنة كشف القدمين أو الضرب بالأرجل، والله أعلم.
الدليل السابع
قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ
__________
(1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 45- 47) . (2) "حجاب المرأة المسلمة" (ص 36)(3/318)
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 60]
* قال شيخ المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -:
يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء،
فلا يحضن، ولا يلدن، واحدتهن قاعد (اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) يقول:
اللاتي قد يئسن من البعولة فلا يطمعن في الأزواج (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يقول: فليس عليهن حرج، ولا إثم أن يضعن ثيابهن، يعني جلابيبهن، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من
الرجال، وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا)
وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها
الجلباب، ما لم تتبرج لما يكره الله، وهو قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) .
ثم قال: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) حُدّثتُ عن الحسين، قال: سمعت
أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) : يعني الجلباب، وهو القناع، وهذا للكبيرة التي قعدت عن الولد، فلا يضرها أن لا تتجلبب فوق الخمار، وأما كل امرأة مسلمة حُرَّة، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار، وقال الله في سورة الأحزاب: (نَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ.(3/319)
ثم روى بإسناده عن مجاهد قال: (ثِيَابَهُنَّ) : جلابيبهن، وقال ابن زيد: وضع الخمار، وقال ابن مسعود: الجلباب أو الرداء أو الملحفة، إلى أن قال رحمه الله: وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فيلبسنها خير لهن من أن يضعنها، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل ثم ذكر بسنده عن مجاهد قال: أن
يلبسن الجلابيب، وعن الشعبي قال: ترك ذلك، يعني ترك وضع الثياب" (1) اهـ.
* وقال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى:
وقوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية قال
ابن مسعود ومجاهد: والقواعد اللاتي لا يرجون نكاحا هي اللاتي لا يردنه، وثيابهن: جلابيبهن، وقال إبراهيم وابن جبير: الرداء، وقال الحسن: الجلباب والمنطق، وعن جابر بن زيد: يضعن الخمار والرداء.
قال أبو بكر: لا خلاف في أن شعر العجوز عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليه كشعر الشابة، وأنها إن صلت مكشوفة الرأس كانت كالشابة في فساد صلاتها، فغير جائز أن يكون المراد وضع الخمار بحضرة الأجنبي.
فإن قيل: إنما أباح الله تعالى لها بهذه الآية أن تضع خمارها في الخلوة بحيث لا يراها أحد، قيل له: فإذا لا معنى لتخصيص القواعد بذلك إذ كان للشابة أن تفعل ذلك في خلوة، وفي ذلك دليل على أنه إنما أباح للعجوز وضع ردائها بين يدي الرجال بعد أن تكون مغطاة الرأس، وأباح لها بذلك كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهي، وقال تعالى: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فأباح لها وضع الجلباب، وأخبر أن الاستعفاف
بأن لا تضع ثيابها أيضًا بين يدي الرجال خير لها" (2) اهـ.
__________
(1) "جامع البيان" (18/ 165- 167) .
(2) "أحكام القرآن" (3/ 333- 334) .(3/320)
* وقال الإمام الفقيه عماد الدين الطبري المعروف بإلكيا الهراس رحمه الله:
قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية: عني به الكبيرة السن، وجوز لها أن تضع الرداء واللحاف أو الخمار، قال ابن عباس: المراد به الجلباب من فوق الخمار، ومعلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عورة لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها فالعجوز والشابة سواء، وإن كان بين الناس فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا
نفس الخمار لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية، ومع الخمار
قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف، فأبان الله تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة، ولذلك قال في آخره: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) (1) اهـ.
* ونقل الإمام محيي السنة البغوي رحمه الله في تفسيره "القواعد" عن ربيعة الرأي قال: هُنَّ العُجَّز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقيهَ من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية (2) اهـ.
* وقال أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي في "تفسيره":
"قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية، والمراد بالثياب: الثياب
الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) غير مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية التي أرادها في قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا
__________
(1) "تفسير إلكيا الهراس الطبري".
(2) "معالم التنزيل".(3/321)
احتجن إليه، والاستعفاف من الوضع خير لهن، لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب بعثَا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (1) اهـ.
* وقال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي رحمه الله تعَالى:
قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الآية: قرر الزمخشري هذه الآية على ظاهرها، ويظهر لي - والله أعلم - أن قوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)
من باب "على لاحب لا يهتدى بمناره" (2) أي: لا منار فيه فيهتدى به، وكذلك المراد هنا: والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن
الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب؟.
__________
(1) "الكشاف" (3/76) .
(2) قال الإمام جمال الدين محمد بن نباته المصري:
على لاحب لايهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
يصف قفرا، لا أعلام فيه، وقوله "لا يُهتدى بمناره" يعني ليس فيه منار يهتدى
به، لا أن فيه منارا إلا أنه لا يهدي، والعود: الجمل البالغ تمام سنة، وسافه:
إذا شمه، وجرجرا: إذا حن، وعادة الإبل أن تشم الأرض التي لا تعرفها،
فتحن لعلمها ببعد المسافة اهـ. من "سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون" ص: 186.
ونظيره قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل: زهير:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... عليَّ ومعروفي بها غير منكر
أي لا يسد بابها علي، يعني: ليست فيها أبواب حتى تسد، على حد قول الآخر:
ولا ترى الضب بها ينجحر. اهـ من "أضواء البيان" (4/42) .
ومثله في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) كأنهم قالوا:
ولا تأويل للأحلام الباطلة، فنكون به عالمين. اهـ من "محاسن التأويل" للقاسمي (9/ 3546 - 3547) .(3/322)
وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانًا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد
فكيف بالكواعب؟ والله أعلم" (1) اهـ.
* قال الإِمام البيهقي في "سننه":
باب ما جاء في القواعد من النساء:
أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسه، ثنا أبو داود، ثنا
أحمد بن محمد المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد
النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) الآية فنسخ واستثنى من ذلك (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية (2) اهـ.
* وقال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
قوله تعالى: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أي: عند الرجال، ويعني بالثياب: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار، هذا المراد بالثياب لا جميع الثياب (3) ، (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي من غير أن يردن بوضع الحجاب أن تُرى زينتهن، والتبرج: إظهار المرأة محاسنها، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) فلا يضعن تلك الثياب (خَيْرٌ لَهُنَّ) .
وقال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأة وأضع إذا كبرت فوضعت الخمار، ولا يكون هذا إلا في الهرمة، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه
الآية دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال،
وأما شعرها فيحرم النظر إليه كشعر الشابة" اهـ.
__________
(1) "الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال" بهامش "الكشاف" (3/ 76) .
(2) "السنن الكبرى للبيهقي (7/ 93) .
(3) لأنه من باب إطلاق الكل، وإرادة الجزء.(3/323)
* وقال الرازي في "تفسيره":
لا شبهة أنه تعالى لم يأذن في أن يضعن ثيابهن أجمع لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون: المراد بالثياب هنا الجلباب والبرد والقناع الذي فوق الخمار، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ (أن يضعن جلابيبهن) وعن السدي عن شيوخه: أن يضعن خمرهن عن
رؤوسهن، وعن بعضهم أنه قرأ (أن يضعن من ثيابهن) وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن، وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب، ولذلك قال: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وإنما جعل ذلك أفضل من حيث هو أبعد من المظنة، وذلك يقتضي أن عند المظنة يلزمهن أن لا يضعن ذلك كما يلزم مثله في الشابة" (1) اهـ.
* وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله:
قوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي: غير مظهرات ولا معترضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق.
والتبرج: التكشف والظهور للعيون، ومنه بروج مشيدة، وبروج السماء والأسوار؛ أي: لا حائل دونها يسترها، وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء،
قصتكن قصة امرأة واحدة أحل الله لكُنَّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن مُحرما" (2) (3) اهـ.
__________
(1) "التفسير الكبير" (6/ 307) .
(2) رواه ابن أبي حاتم - كذا في "تفسير القرآن العظيم" (6/ 91) .
(3) "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 309- 311) .(3/324)
وعن عاصم الأحول قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به، فنقول لها: رحمك الله، قال الله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) : هو الجلباب، قال: فتقول لنا: "أي شيء بعد ذلك؟ " فنقول: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فتقول: "هو إثبات الحجاب" (1) .
* وقال الشيخ إسماعيل حقي رحمه الله تعالى:
" (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ) عند الرجال (ثِيَابَهُنَّ) أي: الثياب الظاهرة كالجلباب والإزار فوق الثياب والقناع فوق الخمار" (2) .
وقال أيضَا رحمه الله. "اعلم أن العجوز إذا كانت حيث لا تشتهى جاز النظر إليها لأمن الشهوة، وفيه إشارة إلى أن الأمور إذا خرجت عن معرض الفتنة، وسكنت نائرة الآفات سهل الأمر وارتفعت الصعوبة وأبيحت الرخص، ولكن التقوى فوق أمر الفتوى كلما أشار إليه قوله تعالى: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وفي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرَا مما به بأس" (3) .
__________
(9) تقدم تخريجه، وحفصة هي أم الهذيل الأنصارية البصرية التابعية أخت محمد بن
سيرين، قال ابن معين: "ثقة حجة"، وقال إياس بن معاوية: "ما أدركت أحدًا أفضله عن حفصة" وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وانظر: "تهذيب التهذيب" (12/409 -410) .
(2) "روح البيان" (6/ 178) .
(3) أخرجه الترمذي (2451) ، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه،
وابن ماجه (4215) ، والحاكم (4/319) وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي
(5/335) عن عطية السعدي رضي الله عنه مرفوعَا، وفيه عبد الله بن يزيد الدمشقي، قال فيه الجوزجاني: "روى عنه ابن عقيل أحاديث منكرة".
انظر: "تهذيب التهذيب" (6/ 82- 83) .(3/325)
قال ابن سيرين: ما غشيت امرأة قط لا في يقظة ولا في نوم غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري (1) ، قال بعضهم: "ليت عقلي في اليقظة كعقل ابن سيرين في المنام" (2) اهـ.
* وقال علامة القصيم عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى:
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ) أي: حرج وإثم (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أي: الثياب الظاهرة كالخمار ونحوه الذي قال الله فيه للنساء (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فهؤلاء يجوز لهن أن يكشفن وجوههن لأمن المحذور منها وعليها.
ولما كان نفي الحرج عنهن في وضع الثياب ربما تُوهم منه جواز استعمالها لكل شيء دفع هذا الاحتراز بقوله: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أى: غير مظهرات للناس زينة من تجمل بثياب ظاهرة وتستر وجهها، ومن ضرب الأرض ليعلم ما تخفي من زينتها لأن مجرد الزينة على الأنثى ولو مع تسترها ولو كانت لا تشتهى يفتن فيها ويوقع الناظر إليها في الحرج (3) اهـ.
* قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
"وأظهر الأقوال في قوله: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أنه وضع ما يكون فوق الخمار والقميص من الجلابيب التي تكون فوق الخمار والثياب، فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب" (4) اهـ.
__________
(1) ومثله قول بعضهم في مدح عفيف:
إن هََم في حُلْم بفاحشة ... زجرته عفته فينتبهُ
(2) "روح البيان" (6/ 178) .
(3) "تيسير الكريم الرحمن" (5/218) .
(4) "أضواء البيان" (6/ 591) .(3/326)
* وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحًا لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة.
فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك ولو كانت عجوزا، لأن كل ساقطة لها لاقطة (1) ، ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزًا فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لا شك أن إثمها أعظم والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر.
وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح، وما
ذاك،- والله أعلم- إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج طمعًا في الأزواج، فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة، ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف
وأوضح أنه خير لهن، وإن لم يتبرجن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز وأنه خير لهن من وضح الثياب فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرًا للشابات من باب أولى،
وأبعد لهن عن أسباب الفتنة" (2) اهـ.
* وقال التويجري رحمه الله:
ومفهوم الآية الكريمة أن من لم تيأس من النكاح بعد وهي التي قد بقي فيها بقية من جمال وشهوة للرجال فليست من القواعد، ولا يجوز لها وضع
__________
(1) وقالوا في هذا المعنى:
لكل ساقطة في الحي لاقطة ... وكل كاسدة يومًا لها سوق (2) "رسالة الحجاب والسفور" (ص: 6-8) .(3/327)
شيء من ثيابها عند الرجال الأجانب، لأن افتتانهم بها وافتتانها بهم غير مأمون" (1) اهـ.
***
__________
(1) "الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور" (ص: 63) .(3/328)
الفصل الثاني
الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بحكم الحجاب
وقد جمعتها في ثلاثه أقسام:
القسم الأول: أحاديث استنبط منها العلماء وجوب الحجاب على المسلمات عامة.
القسم الثاني: أحاديث تبين حجاب أمهات المؤمنين، ومنها أحاديث استنبط منها بعض العلماء ما يفيد عموم الحجاب لسائر المؤمنات.
القسم الثالث: أحاديث تفيد مشروعية الحجاب الكامل لسائر نساء الأمة المحمدية، أو تفيد شيوعه فى نساء الصدر الأول، أو تفيد منع الرجال من النظر إلى الأجنبيات، ونبين فيها محاولة بعض العلماء استنباط
وجوب الحجاب الكامل لسائر المسلمات من بعض هذه الأحاديث.
القسم الأول
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرْأَةُ عَوَرَة" (1) .
* قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله:
"وهذا الحديث دال على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، وسواء في ذلك وجهها وغيره من أعضائها، وقد نقل
أبو طالب عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: ظُفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها فلا تُبِنْ منها شيئَا ولا خُفَّها، فإن الخُفَّ يصفُ القدم،
__________
(1) تقدم تخريجه.(3/329)
وأحبُّ إلي أن تجعل لكمها زرا عند يدها حتى لا يبين منها شيء" اهـ.
وقد تقدم ذكر ما نقله شيخ الإِسلام ابن تيميه عن الإمام أحمد أنه قال:
كل شيء منها عورة حتى ظفرها، قال شيخ الإسلام: "وهو قول مالك" (1) اهـ.
عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" (2) .
* قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:
وقد ذكر هذا الحديث صاحب مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة، وما جاء فيه من كون المرأة عورة: يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما
يصدق عليه اسم العورة، ومما يؤيد ذلك: الهيثمي أيضا في مجمع الزوائد
عن ابن مسعود قال: "إنما النساء عودة، وإن المرأة لتخرج عن بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان فيقول: "إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته،
وإن المرأة لتلبس ثيابهما فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا أو أشهد
جنازة أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها" ثم
قال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات اهـ منه ومثله له حكم الرفع إذ
لا مجال للرأي فيه (3) .
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَنْتقِب المرأةُ المحرِمَةُ، ولا تَلْبَسُ القُفازَينِ" (4) .
__________
(1) "الصارم المشهور" (ص: 96) ، "الرد القوي" (ص: 245) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) "أضواء البيان" (6/ 596) .
(4) أخرجه البخاري (4/63) رقم (1838) في جزاء الصيد: باب ما ينهى من =(3/330)
* قال الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري:
هذا الحديث أحسن دليل على ما وقع من التغير والتطور في ألبسة النساء بعد نزول الحجاب والأمر بإدناء الجلباب، وأن النقاب كان قد صار من ألبسة النساء بحيث لم يَكُنَّ يخرجن إلا به، وليس معنى النهي عن الانتقاب للمحرمة أنها لا تستر وجهها،. . .، وإنما المراد أنها لا تتخذ النقاب
لباسا على حدة من ألبستها، وإنما تستر وجهها بجزء من لباسها" (1) اهـ.
* قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله:
والمسألة الرابعة عشرة: قوله في حديث ابن عمر: "ولا تَنَتقِب الَمرأةُ" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئًا من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها" (2) اهـ.
* وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله:
وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي
لم يُحْرِمْنَ وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن (3) .
وقال شيخ الإسلام أيضًا: ووجه المرأة في الإِحرام فيه قولان في مذهب
__________
= الطيب للمحرم والمحرمة، والموطأ (1/ 324) في الحج: باب ما ينهى عنه من لبس الثياب في الإِحرام والترمذي رقم (833) في الحج: باب ما جاء فيما لا
يجوز للمحرم لبسه، وقال: "حسن صحيح"، وأبو داود رقم (1825، 1826)
في المناسك: باب ما يلبس المحرم، والنسائي (5/ 135) في الحج، باب النهي أن تلبس المحرمة القفازين، والإمام أحمد (2/ 119) .
(1) "إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب" - الحلقة الخامسة - مجلة الجامعة السلفيه.
(2) "عارضة الأحوذي" (4/ 56) .
(3) "مجموع الفتاوى" (15/370 – 37) .(3/331)
أحمد وغيره، قيل: إنه كرأس الرجل فلا يغطى، وقيل: إنه كبدنه فلا يغطى بالنقاب والبُرْقُع ونحو ذلك مما صنع على قدره؛ وهذا هو الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب.
وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع
ما يجافيها عن الوجه، فعلم أن وجهها كبدن الرجل، وذلك أن المرأة كلها عورة، فلها أن تغطي وجهها ويديها (1) لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل ويلبس الإِزار" (2) اهـ.
* وقال الإمام العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في "تهذيب السَنن":
"وأما نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المرأة أن تنتقب وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفُصِّل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع ولا يحرم عليها ستره بالمِقْنَعة والجِلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، ومنعها من القفازين والنقاب، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصَّل على قدرهما وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حرف واحد، في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القفازين، فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء، وهذا واضح بحمد الله" (3) اهـ.
وفال أيضًا في "إعلام الموقعين" في نفس الحديث:
"ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كن يَسْدُلن على وجوههن
__________
(1) يعني في حال الإحرام.
(2) "مجموع الفتاوى" (20/ 120) .
(3) "تهذيب سنن أبي داود" (5/ 282- 283) بهامش "عون المعبود".(3/332)
إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن - ورَوى وكيع، عن شعبة، عن يزيدَ الرِّشْك، عن معاذة العدوية قالت: سألتُ عائشة رضي الله عنها ما تلبسُ المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوبَ على وجهها" (1) .
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى قول الذين يمنعون المحرمة من تغطية وجهها ورد عليهم إلى أن قال: فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها جلبابها، لئلا تُعرف ويفْتَتَن بصورتها" (2) اهـ. وذكر الإمام ابن القيم أيضا في "بدائع الفوائد" سؤالَا في كشف المرأة وجهها في حال الإِحرام وجوابا لابن عقيل في ذلك، ثم تعقبه بالرد فقال: سبب هذا السؤال والجواب خفاءُ بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة
في الإِحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النصُّ بالنهي عن النقاب خاصة، كما جاء بالنهي عن القفازين، وجاء بالنهي عن القميص والسراويل.
ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء، لم يُرِد أنها تكون مكشوفة لا
تستر ألبتة بل قد أجمع الناسُ على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودِرْعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإِزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، وكيف يُزاد على موجَب النص
ويُفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملا جهارًا؟ فأي نص اقتضى هذا أو مفهومِ أو عموم أو قياس أو مصلحة؟
__________
(1) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "تلبس المحرمة من الثياب ما شاءت إلا ثوبَا مسه زعفران أو ورس، ولا تتبرقع، ولا تتلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت ". رواه البيهقي (5/ 47) ، وغيره، انظر: "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود (ص: 108-110) .
(2) انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 222 -223، 276) ، "بدائع
الفوائد" (3/ 141-143) .(3/333)
بل وجه المرأة كبدن الرجل، يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبُرقع، بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليدين كالقُفَّاز، وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم يُنْه عنه البتة، ومن
قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرِم، لما جعل الله بينهما من الفرق.
وقول من قال من السلف: "إحرام المرأة في وجهها"، إنما أراد به هذا المعنى، أي لا يلزمها اجتناب اللباس كما يَلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل.
ولو قدر أنه أراد وجوبَ كشفه فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه ولا سبيل إلى واحد من
الأمرين. وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كنا إذا مَرَّ بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها"، ولم تكن إحداهن تتخذ عودا
تجعله بين وجهها وبين الجلباب" (1) ، كما قاله بعض الفقهاء، ولا يُعْرَفْ هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين البتة، لا عملا ولا
فتوى، ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإِحرام، ولا يكونَ ظاهرًا
مشهورًا بينهن يعرفه الخاص والعام.
ومن آثر الإِنصاف، وسلك سبيل العلم والعدل، تبين له راجح المذهب من مرجوحها، وفاسدها من صحيحها، والله الموفق والهادي" (2) اهـ.
* ونقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن ابن المنذر أنه قال:
أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيطَ كله والخِفافَ، وأن لها أن تغطي رأسها وتستُر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلًا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال الأجانب، ولا تخمره، إلا ما روي عن فاطمة
__________
(1) انظر: "نيل الأوطار" (5/ 71) .
(2) "بدائع الفوائد" (3/ 174- 175) .(3/334)
بنت المنذر قالت: " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنها تعني جدتها "
قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزونا رفعناه" (1) اهـ.
* قال العلامة الصنعاني في حاشيته على "شرح العمدة" بعد ما ذكر الحديث "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين".
قال: قوله: بوجهها وكفيها، أقول: فلا يُلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب، ولأجل اليدين كالقفازين، لا لأن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها كما توهم، فإنه يجب سترهما، لكن بغير النقاب والقفازين" (2) اهـ.
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جَر ثَوبَه خُيلاَءَ لم يَنظر الله إليه يوم القِيامَةِ" فقالتْ أمُّ سَلَمة رضي الله عنها:
فكيف يَصْنَعُ النسَاء بذُيولهن؟ قال: "يُرخِينَ شبرَا" فقالت: "إذًا تنكَشِف أقَدامهن " قال: "فيرخينَه ذِرَاعا لا يزِدن عليه" (3) .
وقال الترمذي: وفي الحديث رخصة للنساء في جَرِّ الإزار لأنه يكون أستَرَ لهن".
وقال البيهقي: في هذا دليل على وجوب ستر قدميها.
وفي رواية لأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) "فتح الباري" (3/475) ، وانظر ص 319 الحاشية رقم (1) .
(2) "العدة شرح العمدة بحاشية الصنعاني" (3/ 476) .
(3) رواه أبو داود رقم (4117) ، والترمذي (4/ 223) ، والنسائي (8/209) ،
والإمام أحمد (2/ 5، 55) وعبد الرزاق (11/ 82) ، وأبو عوانة (5/ 482) ،
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ".(3/335)
رخص للنساء أن يُرْخين شبرًا، فقلن: يا رسول الله إذًا تنكشف أقدامُنا، فقال: "ذِرَاعا ولا يَزِدنَ عليه" (1) .
ْوفي رواية له أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الذيل، فقال: "اجعلنَه شِبرَا" فقلن: شبرا لا يَسْتُرُ من عَورَةِ، فقال: "اجعلْنَه ذرَاعَا" فكانت إحداهن إذا أرادت أن تتخذ درعا أرخت ذراعَا فجعلته ذيلا (2) .
* قال التويجري:
وفي هذا الحديث والحديثين بعده دليل على أن المرأة كلها عورة في حق الرجال الأجانب، ولهذا لما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في إِرخاء ذيولهن شبرًا، قلن له:
إنَ شبرا لا يستر من عورة، والعورة ها هنا القدم، كما هو واضح من باقي الروايات عن ابن عمر وأم سلمة رضي الله عنهم.
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم النساء على جعل القدمين من العورة وإذا كان الأمر هكذا القدمين فكيف بما فوقهما من سائر أجزاء البدن ولا سيما الوجه الذي هو مجمع محاسن المرأة؟ وأعظم عا يَفْتَتِنُ به الرجال ويتنافسون في تحصيله إن كان حسنا.
ومن المعلوم أن العشق الذي أضنى كثيرا من الناس وقتل كثيرا منهم إنما
كان بالنظر إلى الوجوه الحسنة، لا إلى الأقدام وأطراف الأيدي ولا إلى الحلي والثياب، وإذا كان قدم المرأة عورة يجب سترها، فوجهُها أولى أن يُسْتَر والله أعلم (3) .
__________
(1) انظر: سنن النسائي (8/209) ، وابن ماجه (3580) ، وأحمد (6/293، 309) ، وابن أبي شيبة (8/ 220) ، والدارمي (2647) ، وابن حبان (1451 - موارد) ، والطبراني في "الكبير" (23/358، 384، 416، 417) .
__________
(2) "المسند" (2/90) .
(3) "الصارم المشهور" (ص: 97 – 98) .(3/336)
* وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله:
هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة، وأنه أمر معلوم عند
نساء الصحابة رضي الله عنهم، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب، فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه، وما هو أولى منه بالحكم، وحكمة
الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة، ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه (1) اهـ.
4- عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخولَ
على النساءِ" فقال رجل من الأنصَارِ: "يا رسُولَ الله! أفرأيتَ الحَمُو؟ "، قال: "الحَمُو الموتُ" (2) .
* قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:
فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحذير الشديد من الدخول على النساء فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعًا إلا من وراء حجاب، ِ لأن من سألها متاعَا لا من وراء حجاب فقد
دخل عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذّره من الدخول عليها، ولما سأله الأنصاري
عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرمَا لزوجته كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك - قال له صلى الله عليه وسلم: "الحَمو الموتُ" فسمى صلى الله عليه وسلم
دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت، ولا شك
أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير، لأن الموت هو أفظع حادث
يأتي على الإنسان في الدنيا، كما قال الشاعر:
__________
(1) "الحجاب" (ص: 18) .
(2) رواه البخاري (9/242) في النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، ومسلم رقم (2172) في السلام: باب تحريم الخلوة
بالأجنبية والدخول عليها، والترمذي رقم (1171) في الرضاع: باب ما جاء في
كراهية الدخول على المغيبات، والإمام أحمد (4/ 149، 153) .(3/337)
والموت أعظم حادث ... مما يمر على الجبلة
والجبلة: الخلق - ومنه قوله تعالى: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء: 184]
فتحذيره صلى الله عليه وسلم هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء،
وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت، دليل صحيح
نبوي على أن قوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) عام في جميع النساء كما ترى، إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه صلى الله عليه وسلم، لما حذَّر الرجال هذا
التحذير البالغ العام من الدخول على النساء.
وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريمًا
شديدا بانفراده، كما قدمنا أن مسلما رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها فدل على أن كليهما حرام" (1) اهـ.
* وقال ابن حجر في "فتح الباري" في شرح الحديث المذكور:
إياكم والدخولَ بالنصب على التحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحذر عنه كما قيل: إياك والأسد، وقوله: إياكم، مفعول لفعل مضمر تقديره: اتقوا.
وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن
يدخلن عليكم، ووقع في رواية ابن وهب بلفظ: لا تدخلوا على النساء،
وتضمن منع الدخول منعَ الخلوة بها بطريق الأولى" (2) اهـ.
* وقال الشيخ عبد القادر السندي:
الحديث فيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز دخول الأجنبي على
__________
(1) "أضواء البيان" (6/ 592 - 593) .
(2) "فتح الباري" (9/ 242) .(3/338)
الأجنبية، وكذا قريب الزوج من أخ وعم ونحو ذلك، وفي رواية لمسلم في "الصحيح" عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول:
"الحمو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج وابن العم ونحوه"، وفي
الحديث تغليظ شديد وتنبيه خطير من الدخول على النساء.
* وقال الإمام ابن الأثير في "النهاية":
لا يخلون رجل بأجنبية، وإن قيل حموها، ألا حموها الموت، أحد الأحماء أقارب الزوج، والمعنى فيه: أنه إذا كان رأيه في أخي الزوج وما شابهه وهو قريب فكيف بالغريب؟ أي: فلتمت، ولا تفعل ذلك، وهذه الكلمة تقولها العرب كما تقول الأسد: الموت، والسلطان: النار، أي لقاؤهما مثل الموت والنار، يعني أن خلوة ابن عم الزوج معها أشد من خلوة غيرها من الغرباء
لأنه ربما حَسَّنَ لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج من التماس ما
ليس في وسعه أو سوء عشرة أو غير ذلك".
قلت: إذا كان الوجه والكفان ليستا من العورة والزينة وجاز كشفهما
أمام الأجانب فلماذا هذا التشديد في هذه الأحاديث الصحيحة، ولماذا
هذا التناقض بين تلك الأحاديث وقد سبق أن قلت: إن تلك الأحاديث غير صحيحة فلا يجوز أن يقال إنها متعارضة مع هذه
الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد والتحريم الموثق، فلو
كانت تلك الأحاديث والآثار التي يستدل بها بعض الناس على جواز
كشف الوجه والكفين صحيحة الإسناد لكانت شاذة غير محفوظة في
أنظار أهل الحديث، فكيف وهي ضعيفة منكرة، فلا يحتج بها بحال من
الأحوال فلا ينبغي أن يقال بعد هذا النقل إن الوجه والكفين ليستا من
العورة والزينة استنادًا على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي
سبق بيانه من ناحية الإسناد" (1) اهـ.
__________
(1) "رسالة الحجاب" (ص: 33 - 35) .(3/339)
* وقال البوطي:
فلولا أن المرأة بمجموعها عورة بالنسبة للأجانب من الرجال، لما أطلق
النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن دخولهم عليهن إذا النهي يشمل مختلف ما عليه المرأة
من حالات، وما دامت بادية الوجه كما هو شأن كل امرأة في بيتها، ولقد
انسحب الحكم كما نرى حتى على أخي الزوج فلا يجوز له هو الآخر أن
يدخل على امرأة أخيه، ولو كان الوجه غير عورة لاستثنى - تسهيلَا للأحماء - أن تكون المرأة ساترة لما عدا الوجه والكفين من أجزاء
جسمها" (1) اهـ.
5- عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعَيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت: "فَأبَيْتُ أن
آذنَ له، فلما جَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أخبرتُه بالذي صَنَعْتُ، فأمرني أن آذنَ له" (2) .
وفي رواية أنه قال لها: "أتحتجبين مني، وأنا عمك؟ ".
وفي ثالثة: فقلت: لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخا
أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس".
ورواية: "وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة".
وقال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حَرموا من الرضاع ما يحرم
__________
(1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص: 40- 41) .
(2) هي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "ائذني له، فإنه عمك، تربت يمينك" وفي رواية: "صدق وأفلح، ائذني له".
والحديث رواه البخاري (8/ 392) كتاب التفسير: باب إن تبدوا شيئا أو تخفوه. . . وفي الشهادات، وفي النكاح، ومسلم رقم (1444) في الرضاع:
باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، والموطأ (2/601، 602) في الرضاع:
باب رضاعة الصغير، والترمذي رقم (1147) في الرضاع، وأبو داود رقم (2055) في النكاح، والنسائي (6/ 99) في النكاح.(3/340)
من النسب"، وفي رواية مسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحتَجِبِي منه، فإنه يحَرُمُ من الرضَاعِ ما يحَرُمُ من النسَبِ".
* قال الحافظ ابن حجر في فوائد هذا الحديث:
"وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب" (1) اهـ.
والشاهد فيه واضح، وهو أن الحافظ عمم حكم الوجوب على سائر النساء.
6- عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانَ لإحداكن مَكُاتب، وكانَ عندَه ما
يؤدّي، فلتَحتَجِب منه" (2) .
* قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
"وجه الدلالة من هذا الحديث - يعني على وجوب الحجاب - أنه يقتضي
أنَّ كشف السيدة وجهها لعبدها جائز ما دام في ملكها، فإذا خرج منه، وجب عليها الاحتجاب لأنه صار أجنبيا، فدل على وجوب احتجاب
المرأة عن الرجل الأجنبى" (3) اهـ.
وروى الطحاوي بإسناده عن ابن شهاب أن نبهان مولى أم سلمة حدثه
__________
(1) "فتح الباري " (9/ 56) .
(2) أخرجه أبو داود (4/ 21) رقم (3928) ، والترمذي رقم (1261) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم على التورع، وقالوا:
لا يعتق المكاتب، وإن كان عنده ما يؤدي حتى يؤدي اهـ. وأخرجه وابن ماجه (2520) ، والحاكم (2/ 219) ، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1412) ، والبيهقي (10/ 327) ، وأشار إلى جهالة نبهان، ثم قال: قال الشافعي: لم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث. اهـ، والإمام أحمد (6/289، 308، 311) ، وانظر الكلام في نبهان مولى أم سلمة (ص: 346) .
(3) "رسالة الحجاب" (ص: 19) .(3/341)
أنه بينا هو يسير مع أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة، وقد بقي من كتابته ألفا درهم، قال: فكنت كلما أدخل عليها وأراها، فقالت: وهي تسير: "ماذا بقي عليك من كتابتك يا نبهان؟ "، قلت: "ألفا درهم"، قالت: "فهما عندك؟ "، فقلت: "نعم"، فقالت: "ادفع ما بقي عليك من كتابك إلى محمد بن عبد الله بن أمية، فإني قد أعنته بها في نكاحه، وعليك السلام"، ثم ألقت دوني الحجاب فبكيت، وقلت: "والله لا أعطيه إياها أبدًا"، قالت: "إنك والله يا بني لن تراني أبدًا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا أنا إذا كان عند مُكاتب إحداكن وفاء بما بقي عليه من كتابته؛ فاضربوا دونه حجاب".
ثم قال الطحاوي رحمه الله: ومما يستخرج من هذا الحديث من الأحكام مما يدخل فيه مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مَن سواهن من الناس. . . إلخ" (1) اهـ.
وعن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة رضي الله عنها، فقالت: من هذا؟ فقلت: سليمان، قالت: كم بقي عليك من مكاتبتك؟ قال: قلت: عشر أواق، قالت: ادخل فإنك عبد ما بقي عليك درهم (2) .
***
__________
(1) "مشكل الآثار" (1/ 121) .
(2) رواه البيهقى (7/ 95) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل" (6/183) وقال
البيهقي عقبه: "وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال: إن كانت أمهات المؤمنين يكون لبعضهن المكاتب، فتكشف له الحجاب ما بقي عليه درهم، فإذا قضى أرخته دونه".(3/342)
القسم الثاني
حجاب أمهات المؤمنين
انعقد الإجماع على وجوب الحجاب الكامل في حق أمهات المؤمنين، وذلك أمتثالَا لأمر الله تعالى في آية الحجاب، وبيت الأحاديث ذلك، وهاك بعضا منها:
1- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك قالت: "فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه (1) حين عرفني، فخمرت. (وفي رواية: فسترت وجهي عنه بجلبابي" (2) الحديث.
__________
(1) تعني قوله: "إنا لله، وإنا إليه راجعون".
(2) جزء من حديث الإفك الطويل، رواه البخاري (5/ 320) في الشهادات، والجهاد، والمغازي، وفي تفسير سورة يوسف، والنور، والإيمان والنذور، والاعتصام، والتوحيد، ومسلم رقم (2770) في التوبة: باب حديث الإفك، والترمذي رقم (3179) في التفسير: سورة النور، والنسائي (1/ 163 - 164) في الطهارة باب بدء التيمم، وما خمرت الصديقة بنت الصديق وجهها إلا لأنه عورة وزينة ينبغي إخفاؤها.
قال الشيخ عبد العزيز بن خلف رحمه الله: (وهذا أيضًا من أدلة الوجوب لتخميرها وجهها بالجلباب، لأنه لم يرد أن ستره خاص بهن بأي لفظ في القرآن ولا في السنة، ولأن الحجاب غير الإِدناء، وهو ظاهر) اهـ من (نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 96) .(3/343)
2- وعن عكرمة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول، وقد بلغه أن - عائشة رضي الله عنها احتجبت من الحسين بن علي رضي الله عنهما. . .، فقال: "إن رؤيته لها لحل".
وعن عمر بن دينار عن أبي جعفر قال: كان الحسن والحسين لا يريان أمهات المؤمنين. .، فقال ابن عباس: "إن رؤيتهما لهن تَحِلُّ" (1) .
3- وعن يزيد بن بابنوس قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة رضي الله عنها فاستأذنا عليها، فألقت إلينا وسادة، وجذبت إليها الحجاب، فقال صاحبي: ما تقولين في العراك. . . الحديث.
4- وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قلت لعائشة: إنما فاقنا عروة (2) بدخوله عليكِ كما أراد، قالت: "وأنت إذا أردت فاجلس من وراء حجاب فسلني عما أحببت، فإنا لم نجد أحدً بعد النبي صلى الله عليه وسلم أولى لنا من أبيك. . . " الحديث (3) .
والشاهد منه قولها رضي الله عنها: "فاجلس من وراء حجاب" امتثالا لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .
5- عن صفية بنت شيبة قالت: حدثتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: "يا رسول الله! يرجع الناس بِنُسُكَين، وأرجع بنسك واحد؟ "، فأمر بي أخي عبد الرحمن فأعمرني من التنعيم، وأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة، فجعلت أحسر عن خماري، فتناولني بشيء في يده، فقلت: "هل ترى من أحد؟ (4) .
__________
(1) "الطبقات الكبرى" (8/ 178) ، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 232)
(2) عروة هو: ابن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر، فعائشة رضي الله عنها خالته، ولهذا كان يدخل عليها.
(3) الطبقات الكبرى" (8/ 211) .
(4) رواه الطيالسي في "مسنده".(3/344)
6- عن أم سنان الأسلمية قالت: لما نزلنا المدينة لم ندخل حتى دخلنا مع صفية منزلها، وسمع بها نساء المهاجرين والأنصار، فدخلن، فرأيت
أربعًا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منتقبات: زينب بنت جحش، وحفصة، وعائشة، وجويرية. . . الحديث (1) .
7- وعن أم معبد بنت خليف قالت: رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجَّا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت على هوادجهن الطيالسة الخضر، وهن حجرة من الناس، يسير أمامهن ابن عفان على راحلته، يصيح إذا دنا منهن أحد: "إليك، إليك"، وابن عوف من ورائهن يفعل مثل ذلك، فنزلن بقرية قريبًا من منزلي، اعتزلن الناس، وقد ستروا عليهن الشجر عن كل ناحية، فدخلت عليهن وهن ثمان جميعًا (2) .
وقد تقدم خبر اتخاذ النعش لأم المؤمنين زينت رضي الله عنها وتغشيته بثوب، واستحسان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هذه السنة (3) .
8- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم سُلَيم صنعت حيسا (4) ، وأرسلت
به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وجلسوا يأكلون ويتحدثون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط إلى أن خرجوا (5) .
__________
(1) "الطبقات الكبرى" (8/ 126) .
(2) "الطبقات الكبرى" (8/ 209) .
(3) انظر: ص (102) .
(4) الحَيس: نوع من الحلوى.
(5) رواه مسلم وغيره، وقال الدكتور البوطى: (لا يقال إن هذا قد يكون حكما خاصَا بزوجات الرسول عليه الصلاة والسلام لأن الفرق بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسائر نساء المسلمات فيما يتعلق بالحجاب، إنما هو فارق زمني فقط، ذلك أن مشروعية الحجاب تمت في حق نسائه عليه الصلاة والسلام أولا، ثم إنها عمت سائر النساء بعد حين) اهـ. من "إلى كل فتاة تؤمن بالله" ص (41-42) .(3/345)
9- عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو" (1) .
10- قال الإمام الترمذي: حدثنا سويد نا عبد الله بن يونس بن زيد، عن ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدثه أن أم سلمة حدَّثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها ميمونة، فأقبل ابنُ أم مكتوم، وذلك بعد أن أُمِرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتَجبَا منهُ"، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يُبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعميَاوانِ أنتما؟ ألستُما تبصِرَانه؟ " (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (9/ 248) ، ومسلم (3/ 22) ، والنسائي (1/ 236) ، والبيهقي (7/ 92) ، وأحمد (6/ 84- 85) .
(2) رواه أبو داود رقم (4112) (4/361) في اللباس: باب في - قوله عز وجل: - (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) ، والترمذي رقم (2779) (5/102) في الأدب: باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، والإمام أحمد (6/ 296) ، وابن سعد في "الطبقات" (8/ 126- 127) ، وابن حبان (1457، 1968) ، والطحاوي في "المشكل" (1/ 115 - 116) ، والبيهقي (7/ 91 -92) ، والبغوي في "شرح السنة" (9/ 34) .
وقال النووي رحمه الله: (وهذا الحديث حسن، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة) اهـ من "شرح النووي" (10/ 97) ، ونبهان هو المخزومي مولى أم سلمة، قال الحافظ ابن حجر: (أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما عُللَ به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحْه أحد، لا تُرَدّ روايته) اهـ من "الفتح" (9/248) ، وقال في موضع آخر: (حديث مختلف في صحته) اهـ. "الفتح" (1/ 654) ، وقال في "تلخيص الحبير": (ليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة، شيخ الزهري، وقد وُثق) اهـ (3/148) ، ولعله يعني توثيق ابن حبان له، كما صرح به في "التهذيب" (10/ 146) ، وقد وثقه الحافظ الذهبي في "الكاشف"، وضعفه =(3/346)
11- وعن أنس رضي الله عنه في قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية
رضي الله عنها: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه، فقالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملك يمينه، فلما ارتحل وطَّأ لها خلفه، ومد الحجاب بينها وبين الناس (1) .
وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه أيضا قال:
"فلما قُرب البعير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج، وضع رسول الله رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه، وجعل رداءه على ظهرها ووجهها، ثم شده من تحت رجلها وتحمَّل بها وجعلها بمنزلة نسائه"، اهـ.
* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله:
وهذا الحديث من أدلة الوجوب أيضا، لأنه من فعله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، فهو عمل كامل، حيث إنه صلى الله عليه وسلم ستر جسمها كله، وهذا هو الحق الذي يجب اتباعه، فهو القدوة الحسنة، ولو لم يكن دليل من النصوص الشرعية على وجوب ستر المسلمة وجهها وجميع بدنها ومقاطع لحمها إلا هذا الحديث الصحيح، لكفى به موجبًا وموجهَا إلى أكمل الصفات" (2) اهـ.
__________
= الألباني في "تخريج فقه السيرة" ص (44-45) ، و"إرواء الغليل" رقم (1806) (6/ 210) ، وانظر لزاما: "عمدة القاري" (20/216 - 217) ، فإن صح الحديث، فإن قول الترمذي: (باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال) ، يفيد عموم حكم الحجاب لجميع نساء هذه الأمة، وأنه ليس خاصا بأمهات المؤمنين، والخطاب - وإن توجه إليهن - فغيرهن تبع لهن رضي الله عنهن.
(1) رواه البخاري في عدة مواضع في الصلاة، والأذان، وصلاة الخوف، والجهاد، والأنبياء، والغازي، ومسلم رقم (1365) في النكاح: باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وفي المغازي باب غزوة خيبر، والنسائي (6/ 131-134) في النكاح باب البناء في السفر.
(2) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 97) .(3/347)
* وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري في معرض رَدِّه على من احتج بقصة صفية رضي الله عنها على أن الحجاب خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم: "قلت: إن قصة صفية هذه لا تدل على اختصاص الحجاب بأمهات المؤمنين، بل على عكس من ذلك تدل عل عمومه لهن ولنساء المسلمين، لأن السياق يصرح تمام التصريح بان الصحابة كانوا مترددين في أمر صفية أنها مملوكة سُرية أو حرة متزوجة؟ وأنهم كانوا على جزم صارم بان النبي صلى الله عليه وسلم لو حجبها فهي أمارة على أنه أعتقها وتزوجها، ولم يكن جزمهم هذا إلا لأنهم كانوا يعرفون أن الحجاب مختص بالحرائر، وأنه أكبر ميزة وأعظم فارق في معرفة الحرة من المملوكة (1) ، فإذا حجبها فلابد وأن تكون حرة، والحرة لا تصلح أن تكون سُرِّيَّة فهي إذن من أزواجه وأمهات المؤمنين.
فالصحابة رضي الله عنهم إنما جعلوا الحجاب أمارة على العتق والتزويج، لأن صفية كانت سبيًا مملوكة، نعم لو كانت من الحرائر المؤمنات من قبل، ثم جعلوا الحجاب أمارة على كونها من أمهات المؤمنين لكان في ذلك دليل على اختصاص الحجاب بهن، وأما إذ ليس فليس.
ثم ليعلم أن التزوج والعتق ليسا من خصائصهن، فالحجاب الذي جعلوه أمارة على العتق والتزوج كيف يكون مختصا بهن؟ ثم إن القصة لا تدل على أكثر من أن أمهات المؤمنين كن محتجبات، ولا يلزم من كونهن محتجبات اختصاصهن بالحجاب" (2) اهـ.
***
__________
(1) انظر ص: (206) .
(2) "مجلة الجامعة السلفية".(3/348)
القسم الثالث
1- عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها" (1) .
وروى ابن أبي حاتم هذا الحديث من طريق صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلَا، وإني والله ما رأيت أفضل من
نساء الأنصار أشد تصديقًا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن، يتلون عليهن ما أنزل الله عليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان" (2) .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: "رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها، وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان" (3) .
ولا يتأتى تشبيههن بالغربان إلا مع سترهن وجوههن بفضول أكسيتهن (4) .
__________
(1) رواه البخاري رقم (4758) في التفسير: باب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) "فتح الباري" (8/ 347) .
(2) "تفسير ابن كثير" (5/ 90) .
(3) "فتح القدير" للشوكاني (4/ 307) .
(4) "إلى كل فتاة تؤمن بالله " ص: 41.(3/349)
والاعتجار: هو الاختمار.
قال الحافظ: "قوله: "فاختمرن" أي: غطين وجوههن" اهـ (1) .
وتفسير الاختمار بتغطية الوجه هو الصحيح، لما مضى (2) من التفصيل عن أعمالهن.
***
2- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوْا بنا سَدَلَتْ إحدانا جلبابها
من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" (3) .
وهذان الحديثان (4) صريحان في شمول الحجاب للوجوه، بل يفيدان أن تغطية الوجوه كان هو المقصود بأمر الحجاب، والحديث الأخير حكمه عام لجميع نساء المؤمنين، فإن المراد بضمائر جمع المتكلم ليست أمهات المؤمنين فحسب كما يزعمه الزاعمون، والدليل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها هي التي روت هذا الحديث، وهي التي كانت تفتي: بأن المرأة المحرمة تسدل جلبابها من فوق رأسها على وجهها.
__________
(1) "فتح الباري" (8/ 347) .
(1) انظر ص: (310) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (6/30) ، وأبو داود رقم (1833) في الحج: باب في المحرمة تغطي وجهها (2/167) ، وابن ماجه (2935) ، والبيهقي (5/48) ، والدارقطني (286، 287) ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وتكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم في جماعة غير محتج به، وقال الحافظ في التلخيص (2/ 292) : ". . . أخرجه ابن خزيمة، وقال: في القلب من يزيد بن أبي زياد، ولكن ورد من وجه آخر، ثم أخرج من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر - وهي جدتها - نحوه، وصححه الحاكم. اهـ.
الإشارة إلى هذا الحديث، وإلى الذي قبله، وهو حديث الإفك، وفيه قولها رضي الله عنها: (وكان يراني قبل الحجاب) ، وقولها: (فخمرت وجهي بجلبابي) .(3/350)
وروى مالك في الموطأ ما يفيد أن تغطية الوجوه في الإِحرام كان عامًّا في النساء، لا في زمن الصحابة فقط، بل فيما بعدهم أيضَا، فقد روى عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا (1) .
وهذا العموم هو الذي فهمه العلماء في حديث عائشة.
قال في "عون المعبود" في قولها: "يمرون بنا": أي علينا معشر النساء (2) .
وقال الشوكاني في "النيل": واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة
إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها أن تسدل ثوبها من فوق رأسها على وجهها، لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقَا كالعورة، لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة، هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم، وظاهر الحديث خلافه، لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان التجافي شرطًا لبينه صلى الله عليه وسلم ".
وقال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط والخفاف، وأن لها
أن تغطي رأسها لا وجهها فتسدل الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال" (3) انتهى.
والمقصود من نقل كلام الشوكاني وابن المنذر أن العلماء لا يرون هذه الضمائر راجعة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة" (4) اهـ.
3- وعن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "كنا نغطي وجوهَنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في
__________
(1) الموطأ" (1/328) ، كتاب الحج: باب تخمير المحرم وجهه.
(2) "عون المعبود" (5/ 102، 104، 105) .
(3) "نيل الأوطار" (5/ 77) .
(4) "مجلة الجامعة السلفية" عدد أكتوبر 1978م.(3/351)
الإِحرام" (1)
4- وعن فاطمة بنت المنذر فى رحمها الله قالت: "كنا نخمر وجوهنا، ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما" (2) .
وفي تعبير أسماء رضي الله عنها بصيغة الجمع في قولها: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال " دليل على أن عمل النساء في زمن الصحابة رضي الله
عنهم كان على تغطية الوجوه من الرجال الأجانب والله أعلم، أما حديث
فاطمة بنت المنذر فيفيد أن تغطية الوجه في الإِحرام كان عامًّا في النساء لا في زمن الصحابة فقط بل فيما بعدهم أيضًا.
5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا خَطَبَ أحدُكُم المرأةَ، فإن استطَاعَ أن يَنظُرَ إلى ما يدعُوه إلى نِكَاحِها
فليَفعَل " فخطبت جارية فكنت أتخبَّأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، وتزوجتُها (3) .
6- وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: خطبتُ امرأةُ فجعلتُ أتخبأ لها حتى نظرتُ إليها في نَخل لها، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أَلقى الله في قلب
امرِئ خطبَة امرأة فلا بأس أن ينظُرَ إليها" (4) .
__________
(1) أخرجه الحاكم (1/ 454) ، وقال: "صحيح على شرط الشيخين،، ووافقه الذهبي، وهو صحيح على شرط مسلم وحده.
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 328) في الحج: باب تخمير المحرم وجهه، والحاكم (1/ 454) ، وصححه، ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه الإمام أحمد (3/ 334) ، (3/360) ، وأبو داود رقم (2082) في النكاح باب الرجل ينظر إلى المرأة، وهو يريد تزويجها، والحاكم (2/ 165) ،
وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في "بلوغ المرام": رجاله ثقات، وقال في "الفتح" وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة اهـ (9/87)
(4) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/146) رقم (519) ، وابن ماجه (1886) =(3/352)
7- وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتُ له امرأة أخطُبُها فقال:"اذهَبْ فانظُر إليها فإنه أجْدَر أن يؤدَمَ بينَكما" فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتُهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرِها ذلك، قال: فَسَمِعت ذلك المرأةُ وهي في خِدْرِها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشدُك، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها (1) .
* قال التويجري:
"وفي هذا الحديث والحديثين قبله دليل على مشروعية احتجاب النساء
من الرجال الأجانب، ولهذا أنكروا على محمد بن مسلمة لما أخبرهم أنه تخبأ لمخطوبته حتى نظر إليها وهي لا تشعر، فأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخَّص في ذلك للخاطب.
وكذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما طلب النظر إلى المخطوبة كَرِه ذلك
__________
= والطحاوي (2/ 8) ، والبيهقي، والطيالسي (1186) ، والإمام أحمد (4/ 225) ، والحاكم (3/434) ، وقال: هذا حديث غريب، وإبراهيم بن صرمة ليس من شرط هذا الكتاب، وقال الذهبي في "التخليص": ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: شيخ. اهـ، والحديث رواه ابن حبان في "الزوائد" (1235) .
(1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/145) رقم (516) ، والترمذي (3/ 397) رقم (1087) في النكاح: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، وحسَّنه، والنسائي (6/ 69) في النكاح، باب إباحة النظر قبل التزويج، والدارمي (2/ 134) ، وابن ماجه (1888) ، والطحاوي (2/8) ، وابن الجارود في "المنتقى" ص:
312، والدارقطني (3/ 252) ، والبيهقي (7/ 84) ، والإمام أحمد (4/144) ، (4/ 245) ، عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بن شعبة، وأخرجه عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، قال: (أراد المغيرة أن يتزوج. . .) الحديث وابن ماجه
(1887) ، وابن حبان (1236 - موارد) ، والدارقطني (3/253) ، والحاكم (2/165) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح، رجال ثقات. اهـ (1/118) .(3/353)
والداها، وأعظمت ذلك المرأة وشددت على المغيرة ثم مكنته من النظر إليها طاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الأحاديث أيضا بيان ما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهم من المبالغة في التستر من الرجال الأجانب، ولهذا لم يتمكن جابر ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما من النظر إلى المخطوبة إلا من طريق الاختباء والاغتفال، وكذلك المغيرة لم يتمكن من النظر إلى مخطوبته إلا بعد إذنها له في النظر إليها" (1) اهـ.
وكذلك يشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "فإن استطَاعَ أن يَنطرَ إلى ما يَدعُوه إلى نِكَاحِهَا فَليَفعَل".
* وقال الشيخ أبو هشام ا! لأنصاري معلقا على حديث المغيرة رضي الله عنه:
وهذا الحادث يدل أيضَا على أن النساء كن قائمات بالتستر بحيث لم يكن الرجل يقدر على أن يراهن إلا بالحيل والتصرفات، أو إلا أن يسمحن له بالرؤية، ولو كن يخرجن سافرات الوجوه، كاشفات الخدين، مكتحلات العينين، مخضوبات الكفين لم يكن الرجال يحتاجون إلى تجشم هذه المشقات في رؤيتهن ". اهـ.
وقال معلقًا على قول جابر رضي الله عنه في آخر حديثه: فخطبت امرأة من بني سلمة فكنت أختبئ تحت الكرب حتى رأيت منها بعض ما دعاني إِليها
(المحلى لابن حزم (11/220) .
وفي هذا الحديث دليل من وجهين:
الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطاع أن ينظر. . . إلخ" يدل على أن النظر
إلى النساء لم يكن سهلَا، بل كان لابد لها من حيل وتصرفات، ولو كانت النساء يخرجن سافرات الوجوه في ذلك الزمان لم يكن لاشتراط الاستطاعة
__________
(1) "الصارم المشهور" (ص: 94- 95) .(3/354)
في النظر إليهن معنى.
والثاني: ما فعله جابر من الاختباء تحت الكرب دليل على أن النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في أمن من نظر الرجال.
وقال في حديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه:
وهذا الحادث مثل حادث جابر في الدلالة على، المطلوب، مع مزيد الدلالة على أن النظر إلى المرأة الأجنبية كان من أسباب التعجب والنكران
عند أوائل هذه الأمة" (1) اهـ.
* * *
8- وعن موسى بن يزيد الأنصاري عن أبي حميد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خَطَبَ أحدُكم امرأةَ، فلا جُنَاحَ عليه أن يَنظُرَ إليها إذا
كان أنما يَنظر إليها لخِطبته، وأن كانت لا تعلَمُ" (2) .
! قال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله:
إن رفع الجناح عن إظهار التزين في هذه الحالة المخصوصة لأجل هذه المصلحة الخاصة دليل على أن في إظهار التزين في عامة الأحوال جناحًا وإثما.
والدليل على تغاير حكم الخطبة عن حكم عامة الأحوال أن الخاطب أبيح له النظر إلى المخطوبة، بل هو مأمور بذلك أمر حض وإرشاد، أو أمر
استحباب وندب، بينما هو مأمور بغض البصر عن الأجنبيات، وحرم
عليه النظر إليهن إلا النظرة الأولى أو نظرة الفجأة التي تصدر منه من غير
__________
(1) "مجلة الجامعة السلفية" عدد نوفمبر، ديسمبر 1978.
(2) أخرجه الإمام أحمد (5/ 424) ، وفي "مجمع الزوائد": (رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير") (4/276) ، وقال: "ورجال أحمد رجال الصحيح" اهـ، وسكت عليه الحافظ في "التلخيص" (3/147) .(3/355)
تعمد وقصد، والذين لهم إلمام بقواعد الشريعة يعرفون جيدًا أن تقييد إِباحة الشيء أو جوازه أو رخصته بحالة خاصة دليل على تحريمه في الأصل كما أن ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة (انظر زاد المعاد 1/224) فجواز أو إباحة إظهار التزين - الذي يعده البعض كشف الوجه - للمخطوبة دليل على تحريم إظهار تلك الزينة في عامة الأحوال.
وصنيع الفقهاء والمحدثين يرشد إلى ما قلنا: فإن عامتهم بوبوا على أحاديث الخطبة بباب جواز النظر إلى الخطوبة وأمثاله، فتقييدهم النظر إلى المخطوبة بالجواز يشعر بأن النظر إلى غير المخطوبة غير جائز عندهم (1) .
* قال الشيخ أبو محمد المقدسي في "المغني":
"لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها. . .، ولا بأس بالنظر إليها بإذنها وغير إذنها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالنظر وأطلق. . .
ولا يجوز له الخلوة بها لأنها محرمة ولم يَرد الشرعُ بغير النظر فبقيت الخلوة على التحريم ولأنه لا يُؤمَن مع الخلوة مواقعة المحظور. . .، ولا ينظر إليها نظرة تلذذ وشهوة ولا لريبة، قال أحمد في رواية صالح: ينظر إلى الوجه ولا يكون عن طريق لذة، وله أن يردد النظر إليها ويتأمل محاسنها لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك" (2) اهـ كلامه ملخصًا.
وقيَّد الحجاوي والفُتُوحي وغيرهما جواز النظر بما إذا غلب على ظنه إجابته، قال الجراعيُ: متى غلب على ظنه عدم إجابته لم يجز، كمن ينظر إلى امرأة جليلة يخطبها مع علمه أنه لا يُجاب إلى ذلك" اهـ.
__________
(1) "مجلة الجامعة السلفية" نوفمبر، ديسمبر 1978
(2) "المغني" (6/ 552 - 553) مختصرا، وفي المسألة تفصيل يراجع في "السلسلة الصحيحة" حديث رقم (95) إلى (99) .(3/356)
وكما أن الأحاديث التي ذُكرت آنفًا قد دلت بمنطوقها على جواز نظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، فكذلك هي دالة بمفهومها على أنه لا يجوز النظرُ إلى غيرها من سائر الأجنبيات - ويوضح ذلك قوله في حديث أبي حُميد رضي الله عنه: إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، فدل على أنه لا يجوز النظر إلى الأجنبية لغير خاطب.
وأيضا فوضع البأس والجُناح على الخاطب إذا نظر إلى مخطوبته يدل على أنه لا يجوز النظر لغير خاطب، وأن عليهْ في نظره إلى الأجنبية بأسا وجناحَا، والله أعلم.
وقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى في "الجامع" نحو حديث المغيرة بن
شعبة رضي الله عنه فقد عقد بابًا إذ قال: (باب النظر إلى المرأة قبل التزويج) .
وقال الحافظ في "الفتح":
قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى الخطوبة، قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها (1) .
* قال السندي:
"وأما المفهوم المخالف لهذا الحديث فإنه لا يجوز لغير الخاطب أن ينظر
إليها ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت المرأة محجبة وأما في حالة كشف الوجه
والكفين فلا معنى لهذا الحديث بالمفهوم، فهذا أيضَا دليل على عدم جواز
كشف الوجه والكفين" (2) اهـ.
وسياق حديث محمد بن مسلمة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ألقَى الله عز وجل في قلب امرئ خِطبَةَ امرأة فلا بأس أن ينظُرَ إليها" فهذا الإذن بهذا السياق يدل على تحريم النظر إلى الوجه والكفين لغير الخاطب.
__________
(1) راجع الخلاف في هذا في "الفتح" (9/87 -88) .
(2) "رسالة الحجاب" ص (42 - 43) .(3/357)
9- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُباشِرِ المرأةُ المرأة، فَتنعَتها لزوجِها، كأنه يَنظُرُ إليها" (1) .
* قال القسطلاني رحمه الله:
"قال الطيبي رحمه الله تعالى: المعنى به فى الحديث النظر مع المس، فتنظر إلى ظاهرها من الوجه والكفين، وتجس باطنها باللمس" (2) اهـ.
* قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله:
"وفي نهيه صلى الله عليه وسلم المرأة أن تباشر المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها دليل
على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، وأنه لم يبق للرجال
سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء إلا من طريق الصفة أو الاغتفال ونحوِ ذلك، ولهذا قال: "كأنه ينظُرُ إليها" فدلَّ على أن نظر الرجال إلى
الأجنبيات ممتنع في الغالب من أجل احتجابهن عنهم، ولو كان السفور جائزًا لما كان الرجال يحتاجون أن تُنْعَتَ لهم الأجنبيات من النساء بل كانوا يستغنون بنظرهم إليهن كما هو معروف في البلدان التي قد فشا فيها
التبرج والسفور" (3) اهـ.
* * *
10- وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
__________
(1) رواه البخاري (9/ 250) في النكاح: باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها،
وأبو داود رقم (2150) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي رقم (2793) في الأدب: باب ما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل، والمرأة
المرأة.
(2) "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" (9/ 237) .
(3) "الصارم المشهور" ص (95) .(3/358)
نظر الفُجَاءَةِ فأمرني أن أصرف بصري" (1) .
* وقال التويجري:
"ويستفاد من هذا الحديث أن نساء المؤمنين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كن
يستترن عن الرجال الأجانب ويغطين وجوههن عنهم، وإنما كان يقع النظر عليهن فجأة في بعض الأحيان، وأيضَا لو كُنَّ يكشفن وجوههن عند الرجال الأجانب لكان في صرف البصر عنهن مشقة عظيمة. ولاسيما إذا كثرت النساءُ حول الرجل، لأنه إذا صرف بصره عن واحدة فلا بد أن
ينظر إلى أخرى أو أكثر، وأمَّا إذا كن يغطين وجوههن كما يفيده ظاهر
الحديث، فإنه لا يبقى على الناظر مشقة في صرف النظر، لأن ذلك إنما
يكون بغتة في بعض الأحيان والله أعلم" (2) .
__________
(1) رواه مسلم رقم (2159) في الآداب: باب نظر الفجأة، وأبو داود رقم (2148) في النكاح: باب ما يؤمر من غض البصر، والترمذي رقم (2777) في
الأدب: باب ما جاء في نظرة الفجأة.
(2) "الصارم المشهور" ص (92) ، وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري في معرض الرد
على من استدل بهذا الحديث على إباحة السفور: (هذا لا يتم به الاستدلال، فإنه
غاية ما فيه إمكان وقوع النظر على الأجنبيات، وهذا لا يستلزم جواز كشف الوجوه والأيدي أمام الأجانب، وإيضاح ذلك أن المرأة كثيرَا ما تكشف وجهها
وكفيها ظنًّا منها أنها بمأمن من نظر الأجنبي بينما تكون هي بمرأى منه، مثلَا تمر في طريق خالية من الرجال فتكشف وجهها ويكون رجل عند باب غرفته أو شباكها أو في شرفة أو على سقف أو في ناحية أخرى يراها وهى لا تشعر به
كذلك ربما تضطر المرأة إلى كشف بعض جسدها لأمر ما، كما أنها ربما ينكشف
بعض أعضائها من غير خيار منها أو من غير أن تشعر بانكشافه - وقد أسلفنا
بعض هذا - وربما تكون المرأة غير مسلمة أو مسلمة اجترأت على هتك أوامر الله وكشفت بعض أعضائها تعمدَا - وقد عمت به البلوى في هذا الزمان - فالسبيل في هذه الصور وأمثالها أن يؤمر الرجل بغض البصر، وليس من مقتضيات هذا أن
يجوز للمرأة كشف وجهها من غير عذر أو حاجة أو مصلحه) اهـ من "مجلة =(3/359)
11- عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة "وفي رواية أخرى: ثلاث طلقات" وهو غائب، فجاءت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: "تِلكَ امرأة يغشاها أصحَابي (1) ، اعتَدِّي عند ابن أم مكتُوم فإنه رجل
أعمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عندَه".
وفي رواية: "انتَقِلي إلى أم شريكٍ، وأم شريك امرأة غنية من الأنصارِ،
عظيمةُ النفقَةِ فى سبيلِ اللهِ، ينزلُ عليها الضيفَانِ، فإني أكره أن يَسقُطَ
خمارُك أو ينكشفَ الثوبُ عن سَاقَيكِ، فيرى القومُ منك بعضَ ما تكرهين، ولكن انتقِلي إلى ابنِ عمك عبدِ الله ابن أم مكتومِ الأعمى - وهو من البطن
التي هي منه - فإنك إذا وَضَعتِ خمارَك لم يَرَك"، فانتقلتُ إليه، فلما انقضت عدتي سمعتُ نداء المنادي ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته جلس على المنبر
فقال: "إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميمَا
الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. . ." الحديث (2) .
__________
= الجامعة السلفية" عدد (نوفمبر وديسمبر 1978) .
(1) قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي - رحمه الله - في "عارضة الأحوذي":
(قوله لها: "تلك امرأة يغشاها أصحابي" قيل في ذلك وجهان:
أحدهما: أن ذلك قبل نزول الحجاب، وهو ضعيف، لأن مغيب عليّ إلى اليمن حين سافر معه زوج فاطمة كان بعد نزول الحجاب بمدة.
الثاني: وهو الصحيح: أن أم شريك كانت مبجلة رجلة، فكان المهاجرون والأنصار يداخلونها بجلالتها ورجولتها، فلم يكن ذلك موضع تحصين لكثرة
الداخل فيه والخارج، وعسر التحفظ فيه، فنقلها منه إلى دار امرأة لها زوج
أعمى، فتكون فى حصانة من الرجال، وفي ستر من ضراوة الرجل المختص بذلك المنزل) اهـ (5/146) .
(2) أخرجه مسلم (4/196) - واللفظ له -، وأبو داود (2284) ، والنسائي (2/ =(3/360)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك" وفي رواية: "فإني أكره
أن يسقط منك خمارك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين" دليل على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها - فضلا عن غيره - عند البصير من الرجال
الأجانب، وذلك لأن الخمار عام لمسمى الرأس والوجه لغة وشرعَا (1) ،
ويشهد لهذا ما حكيناه سابقًا من قول الحافظ ابن حجر في تعريف الخمر:
ومنه الخِمار لأنه يغطي وجه المرأة.
وقول القاضي أبي علي التنوخي فيما ينسب إليه:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المذهب
نور الخمار، ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يتلهب
وهذا الحديث ينبغي أن يفهم في ضوء قوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عَورَةُ".
وإذ! كان النظر إلى وجوه النساء أعظم فتنة من النظر إلى رؤوسهن، فبعيد أن تأتي الشريعة الكاملة بإيجاب ستر الرؤوس، وإباحة كشف الوجوه، وقوله "لم يرك" ظاهر في إرادة جميع ما يبدو منها من وجه ورأس ورقبة، وليس في الحديث ما يدل على وجوب ستر الرأس وحده دون الوجه.
***
12- عن عائشة رضي الله عنها قالت. خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب (2) لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها
__________
= 74 – 75) ، والطحاوي (2/38) ، والبيهقيّ (7/432) ، وأحمد (6/412) ،
وانظر: "العدة شرح العمدة بحاشية الصنعاني" (4/240 -241) .
(1) انظر ص (285) ، وانظر: "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" ص (72 - 73) ، و"الصارم المشهور" ص (77 - 78) .
(2) وجاء في كتاب الطهارة في البخاري أنه كان قبل الحجاب والجواب كما ذكره
الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن (المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني، =(3/361)
عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف
تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفى يده عَرْق - هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم- فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: "إنه أُذِنَ لَكن أن تخرُجنَ لحاجَتِكُن" (1) .
* قال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله:
"ومقتضى هذا أن سودة لولا طولُ قَدّها لخفيت على الناس، وأن عمر لم يكن عرفها لكونها كاشفة الوجه، بل لطول قدمها وهيئتها التي تميزها عن غيرها، وفي هذا الحديث دليل أيضا أن الحجاب لم يكن مختصُّا بأمهات المؤمنين، وذلك لأن سياق الحديث يدل على أن عمر لم يكن يحب أن تعرف أشخاص أمهات المؤمنين، ولو كان الحجاب مختصُّا بهن لكان أول دليل عليهن، وأول فارق وأعظم هيئة تميزهن عن غيرهن، ولعرفهن كل أحد، وعرف أعيانهن في معظم الأحوال" (2) اهـ.
واعلم؛ أن غاية ما يؤخذ من هذا الحديث بانفراده هو اشتراك أمهات
__________
= والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع أجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: "احجب نساءك"، وأكّد ذلك، إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا - ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنِع منه، وأذِن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعا للمشقة، ورفعا للحرج) .
(1) رواه البخاري (1/ 300) في الوضوء: باب خروجِ النساء إلى البراز وفي التفسير: في تفسير سورة الأحزاب: باب قوله (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، وفي الاستئذان، باب آية الحجاب، ومسلم رقم (2170) في السلام: باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان
(2) "مجلة الجامعة السلفية".(3/362)
المؤمنين مع سائر النساء في "مشروعية الحجاب"، وهذا موضع اتفاق مع المخالف، فإنه يستدل به على عموم هذه المشروعية، أما الوجوب ذاته فلا يستدل عليه بهذا الحديث بانفراده، وإنما بما سبق من الأدلة الكثيرة على عموم آية الحجاب، وعدم تخصيصها بأمهات المؤمنين، والله أعلم.
13- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجعنا، وحاذينا بابه إذ هو بامرأة لا نظنه عرفها، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة من أين جئتِ؟ "، قالت: جئت من عند أهل الميت، رَحِمتُ إليهم مَيتهم، وَعَزَّيتهم. . . (1) الحديث.
فقد ظن الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه المرأة التي مرت من عنده، لأنها كانت مستترة، ولكنه عرفها، وقال لها: "يا فاطمة" كما عرف عائشة رضي الله عنها وسط الناس وهي منتقبة (2) .
***
(1) رواه الإمام أحمد (2/ 169) ، والبيهقي في السنن (4/ 60) ، وفي الدلائل (1/192) ، والحاكم في المستدرك (1/ 373) ، وقال: "صحيح على شرط الشيخين،
ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(2) وذلك - فيما يروى - حينما جاءت عائشة رضي الله عنها لتنظر إلى صفية رضى الله عنها أول ما قدمت المدينة، (فتنكّرت، وتنقبت، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عينيها، فعرفها) الحديث رواه ابن ماجة، وله شاهد مرسل عن عطاء بن يسار ذكره ابن سعد.(3/363)
الباب السادس
الفصل الأول:
شبهات وجوابها
الفصل الثاني:
المذاهب الفقهية في حكم كشف الوجه والكفين(3/365)
الفصل الأول
شبهات وجوابها
لعل فيما تقدم من الأدلة الواضحة على وجوب الحجاب كفاية وبلاغًا
لمن صدق الله عز وجل في طلب الحق، وصدق مع نفسه.
غير أنه بقيت بعض النصوص استدل بها المبيحون للسفور، نحاول فيما
يلي - إن شاء الله - رفع الغشاوة عنها، ودفع الشبه فيها، مع حسن الظن
بالمخالفين الذين بنوا عليها مذهبهم.
غير أن هناك فريقَا من الذين في قلوبهم مرض، ممن هو على شعبة من النفاق في إيمانه بالله، تعرفهم في لحن القول، استغلوا هذه الشبهات
ليبرروا بها دعوتهم إلى ما يسمُّى بـ "تحرير المرأة " (1) .
إن الغرض مرض، وصاحب الغرض الخبيث يستطيع أن يقحم في كل سطر مما ذكره شبهًا وإشكالات يتعلق بها في إثبات عكس ما تقدم تحقيقه، ليتخذ السفور سلمَا إلى مآربه الأبليسية، وان كان يعلم من نفسه أنه كاذب
__________
(1) فلا تغتر - أخي - بالمجادلات الواقعة من هؤلاء المغرضين من دعاة ما يسمى بـ (تحرير المرأة، فكلها خيالات مختلة، وعلل معتلة، وما تمسكوا به من الأدلة النقلية فهو إما اعتماد على نص ضعيف أو مكذوب، وإما خبر متشابه لا يدل على المطلوب، وأما ما تمسكوا به من الأدلة العقلية فهو كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وإما يتصرفون في النقل بما يوافق أهواءهم فيحذفون ما عليهم، ويثبتون ما لهم، وإما لقصور عن فهم عبارات
العلماء مما لم يريدوه، وإما بالتقصير في النظر والحكم بالظن الكاذب، والتمسك بالأمور المتشابهة الخفية، والإعراض عن الأشياء الواضحة الجلية، وليس هذا طريق العلماء القاصدين لإيضاح الدين، وإرشاد المسلمين، بل هو السمة المميزة لأولئك المضلين على اختلاف أمصارهم(3/367)
في دعواه.
(وصناعة التأويل في الكلام والتلاعب بالألفاظ ليست عسيرة، أتقنها بنو إسرائيل من قبل لنيل عَرَض من الدنيا قليل، ويتقنها كثير من المحامين اليوم لجمع مزيد من البضاعة نفسها، كما يتقنها كثير من المشتغلين
ببضاعة العلم الشرعي ليتجملوا بذلك أمام من يملكون – في الظاهر - رعايتهم ودفعهم في سلم المناصب الدنيوية الفانية) (1) .
يقول الإمام الشاطبي في "الموافقاتَ" بعد أن أستَعرض صورا ونماذج من حيل المبطلين في التلاعب بنصوص، الأدلة، والتحايل على قواعد الأحكام:
"ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحدًا من المختلفين في الأحكام يعجز عن الاستدلال على مذهب بظواهر من الأدلة وقد مَرَّ من
ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل
الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة. . . " (2) اهـ.
ولكن ليس معنى هذا أن الطالب لمعرفة الحق يضيع بين تلبيس المخادعين ونصيحة العلماء الصادقين، فإن الصادق في طلب الحق لا يعدم أن يجد دلائل الحق في محكمات النصوص الواضحة النيرة، فإن تاه
عن معرفة هذه النصوص لم يعدم أن يجد دلائله فيما اجتمع عليه السلف الصالح خلال القرون الماضية.
يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – معلقا على الفقرة السابقة:
"فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه
الأولون، وما كانوا عليه من العمل فهو أحرى بالصواب، وأقوم في
__________
(1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" ص (55 – 56) .
(2) "الموافقات" (3/76 - 77) بتصرف.(3/368)
العلم والعمل" (1) اهـ.
فإن لم يعلم شيئَا عن. أخبار السلف؛ لم يعدم أن يجد دلائله في استقامة العالم الذي يفتيه، وحسن سيره وسيرته بين الناس، وثباته أمام مزالق الفتن والأهواء، فإن عدم من حقائق إسلامه ما يبصره بشيء من هذا كله، فإن بلاءه من نفسه قبل أن يكون من مكيدة المخادعين، أو مكر الضالين المضلين، إذ لا يكون مسلما حقُّا إلا بعد أن يكون على شيء من البصيرة
بدينه، بحيث تشير له - ولو من بُعْدٍ - إلى معالم الحق، وتحذره - ولو في الجملة - من مهاوي الضلال، فإن على الحق نورًا.
تدور شُبه المغرضين حول أقوالٍ لا رصيد لها من المعنى الذي يمكن أن
يتقبله العقل السليم، لأنها من نوع ما يسميه علماء المنطق بالسفسطة التي
لها شكل الحجة، وليست لها حقيقتها (2) .
وهي أقوال يراد بها إخضاع النفس، أكثر مما يراد بها إقناع العقل.
هذا فيما يتعلق بالمغرضين من أعداء الدين الذين يتخذون السفور
ذريعة لمقاصدهم السيئة، أما الفريق الآخر الذي يبيح السفور بناءً على اجتهاد فقهي مخلص في طلب الحق، فأغلب ما تعلقوا به:
- إما أحاديث ضعيفة، لا تثبت عند أهل العلم بالحديث.
- وإما وقائع أحوال لا عموم لها.
- وإما نصوص يفهم منها إباحة السفور لكنها كانت قبل نزول الحجاب.
- وإما نصوص يفهم منها حصول السفور في حالة من حالات الترخيص فيه مثل الخِطبة، والشهادة، والتطبيب، وغيرها، وهذه في الحقيقة تؤيد أن الأصل منع السفور، وإلا لما كان لهذه الاستئناءات
__________
(1) السابق.
(2) انظر الجواب عن بعضها في صفحة (408-456) .(3/369)
معنى (1) .
- وإما نصوص غير صريحة يطرقها الاحتمال، فيسقط بها الاستدلال. وقد تقدم الجواب عن بعض الشبهات (2) ، وهذا أوان الشروع في الجواب عما تبقى من شبهات الفريقين، فنقول بتوفيق الله وحده:
الشبهة الأولى
* ما أخرجه أبو داود في "سننه" باب: فيما تبدي المرأة من زينتها، قال:
حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: أخبرنا الوليد، عن سعيد بن بَشير، عن قتادة، عن خالد- قال يعقوب: ابن درَيك - عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يَصلُح أن يُرَى منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه (3) .
قالوا: فهذا نص صريح في أنه يجوز للمرأة كشفُ وجهها وكفيها عند الرجال الأجانب.
__________
(1) انظر "المغني" لابن قدامة (6/ 559) .
(2) مثل: دعوى إجماع العلماء على إخراج الوجه والكفين من العورة، انظر جوابها في صفحة (244 - 250) .
ومثل دعوى خصوصية آيات الحجاب بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وقد تقدم
جوابها ص (256) وما بعدها.
(3) رواه أبو داود في "سننه" رقم (4104) ، في اللباس: باب فيما تبدي المرأة من زينتها، والبيهقي في "السنن الكبرى" من هذا الوجه في موضعين: (2/ 226) ، (7/ 86) .(3/370)
جواب هذه الشبهة
الأصل أنه لا يُتكلف الجوابُ عن الحديث حتى يصح، والضعيفُ يكفي في رَدِّه كونُه ضعيفا، فمن باب (أثبت العرش، ثم انقش) نناقش:
* أولا: إسنادَ الحديث:
في الحديث علل قادحة:
العلة الأول: انقطاع سنده، كما صَرَّح بذلك الأمام أبو داود رحمه الله نفسه، فقد قال عقب روايته الحديث:
هذا مُرْسَل، خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة. (1)
وكذا قال أبو حاتم الرازي (2) ، وعبد الحق في "أحكامه" (3) .
وقال ابن معين: مشهور، وقال مرة: ثقة، وقال النسائي. ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، في أتباع التابعين (4) .
وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": ثقة يرسل (5) .
العلة الثانية: أن في سنده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري (6) ،
__________
(1) "السابق".
(2) ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (3/ 294) .
(3) "تهذيب التهذيب" (3/ 87) .
(4) "السابق" (3/ 86-87) .
(5) "تقريب التهذيب" (1/ 212) ،
(6) وفي ترجمته في "تهذيب التهذيب" (4/ 8-10) ، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 304- 305) ما حاصله: [قال أبو مسهر: "لم يكن في بلدنا أحد أحفظ منه، وهو منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "محله الصدق"، وقال أبو أحمد الحاكم: "ليس بالقوي"، وقال بقيهَ: سألت شعبة عن سعيد بن بشير، فقال: "ذاك صدوق اللسان"، وقال ابن عيينة: "حدثنا سعيد بن بشير، وكان حافظا"، وقال دحيم:
"يوثقونه، كان حافظا"، وأما ابن مهدي فروى عنه، ثم ترك، وقال أبو زرعة:
"لا يحتج به، ومحله الصدق"، وقال البخاري: "يتكلمون في حفظه"، وقال ابن =(3/371)
قال الحافظ: "ضعيف" (1) .
العلة الثالثة: أن فيه قتادة، وهو مدلس، وقد عنعنه، كما أن فيه الوليدَ ابنَ مسلم، قال الحافظ: "ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية" (2) ، وقد عنعنه.
والحديث رواه أبو داود في "المراسيل" عن محمد بشار، عن أبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة مرسلا: "إن الجارية إذا حاضت، لم يصلع أنه يُرى منها إلا وجهُها ويداها إلى المفصل".
* ثانيا: فرض صحة الحديث:
وعلى فرض صحة الحديث، أو تقويته بشواهده، فبماذا أجاب عنه العلماء القائلون بتحريم السفور؟
لقد اختلفت أجوبتهم عنه:
1- فمنهم من حمله على أنه كان قبل الأمر بالحجاب:
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:
__________
= معين والنسائي: "ضعيف"، وقال سعيد بن عبد العزيز: "كان حاطب ليل"، وقال علي بن المديني: "كان ضعيفا"، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: "منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات"، وقال ابن عدي: "له عند أهل دمشق تصانيف، ولا أرى بما يرويه بأسا، ولعله يهم في الشيء بعد الشيء، ويغلط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق"، وقال الساجي: "حَدث عن قتادة بمناكير": وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، يروي عن قتادة ما لا يتابع عليه" وقال أبو بكر
البزار: (هو عندنا صالح ليس به بأس"] اهـ.
(1) "تقريب التهذيب" (1/ 292) .
(2) "تقريب التهذيب" (2/ 336) .(3/372)
فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخضاب.
ثم بين رحمه الله أن تشريع الحجاب مر بمرحلتين:
أولاهما تغطية البدن ما عدا الوجه والكفين.
والأخرى: حجاب جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفان.
ثم قال رحمه الله تعالى ما نصه: "فإذا كُنَّ مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أُمِرَت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يَحِل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول
الأمرين" (1) اهـ.
إلى أن قال شيخ الإسلام: وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب " (2) اهـ.
* وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله - في معرض الرد على من أباح النظر إلى الوجه والكفين محتجًا بحديث أسماء رضي الله عنها:
وأما حديث أسماء فيحمل على أنه كان قبل نزول آية الحجاب، فنحمله عليه (3) .
* وقال القاري في شرح هذا الحديث:
قولها "وعليها ثياب رِقَاق" بكسر الراء جمع رقيق، ولعل هذا كان قبل الحجاب (4) .
__________
(1) "مجموع الفتاوى" (22/110-112) بتصرف.
(2) "السابق" (22/117 - 118) .
(3) "المغني" (6/559) .
(4) مرقاة المفاتيح" (4/438) .(3/373)
وقد ضعف الشنقيطي - رحمه الله تعالى – الحديث، ثم قال:
"مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب" (1) اهـ.
* وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي:
"لو قدرَ أن حديث عائشة صحيح، فهو محمول على أنه كان قبل الأمر بالحجاب، وبناءً على هذا يكون منسوخا، لا يجوز العمل به" (2) اهـ.
* وقال الشيخ محمد علي الصابوني في "روائع البيان":
ويحتمل أنه كان قبل آيات الحجاب، ثم نسخ بها (3) .
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
ثم على تقدير الصحة - أي صحة حديثه عائشة رضي الله عنها - يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه (4) .
__________
(1) "أضواء البيان" (6/597) .
(2) "يا فتاة الإسلام" ص (257) .
(3) "روائع البيان" (2/157) .
(4) "رسالة الحجاب" ص (30) .
واعلم أنه هناك جملة من الأحاديث والآثار يفهم منها كشف الوجه واليدين أو اليدين فقط، وعادة العلماء الموجبين للحجاب أن يجيبوا عنها بقولهم (هذا كان قبل الأمر بالحجاب) " ومن أمثلة ذلك:
أ- حديث عائشة هذا الذي نحن بصدده.
ب- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَت علي خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص الأسلمية، وكانت عند عثمان بن مظعون رضى الله عنه،
قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي: "يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة! "، فقالت: فقلت: يا رسول الله امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم =(3/374)
2- ومن العلماء من ذهب إلى وجوب تأويل حديث عائشة رضي الله عنها إن صَحَّ:
إذا ثبت لدينا دليل واحد يفيد تحريم كشف الوجه والكفين؛ ثم فرضنا جدلًا ثبوت حديث عائشة رضي الله عنها الذي يبيح كشفهما؛ وافترضنا أيضا تكافؤ الدليلين من حيث الثبوت؛ وعلمنا أن الأصل في الدليل
__________
= الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها، وأضاعتها. . . الحديث، وقد تقدم في القسم الثاني ص 172، وانظر "الفتح الرباني" (17/304) .
ج- عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء، فقال: فجاءه سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة (أي لابسة ثياب المهنة، وتاركة للبس ثياب الزينة) ، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة. . . الحديث، رواه البخاري (4/ 246-247) ، والترمذي (3/ 290) ، والبيهقي (4/ 376) ، والمؤاخاة كانت في أوائل الهجرة، وانتهت بعد آية التوريث، وآية التوريث نزلت قبل الحجاب.
د- ما رواه البيهقي في قصة توبة أبي لبابة وقال "حديث صحيح"، وفيه قول أم سلمة رضي الله عنها: أفلا أبشره يا رسول الله بذلك؟ قال: "بلى إن شئتِ" قالت: فقمتُ على باب حجرتي، فقلت - وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب - يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك.
هـ- وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب عليه بحَجَفَة له. . . ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما وأم سُليم وأنهما لمُشَمرتان أرى خَذمَ سُوقِهما - يعني الخلاخيل - تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم) ، رواه البخاري في المغازي، باب إذا همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما "فتح الباري" (7/ 418) ، وفي الجهاد، باب (عزو النساء وقتالهن مع الرجال، وباب المجن ومن يتترس بترس صاحبه، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب أبي طلحة، ومسلم رقم (1811) في الجهاد، باب غزوة النساء مع الرجال.
مجوب عليه بحَجَفَةْ أي ساتر له، قاطع بينه وبين الناس، مترس عليه بترس، تنقزان: أي تثبان، والمقصود تحملان القرب، وتقفزان بها وثبا.(3/375)
الشرعي الإعمال لا الإهمال؛ وأن الواجبَ - عند التعارض - أن لا يصار إلى ترجيح أحد الدليلين إلا عند تعذر الجمع بينهما، لأن إعمال الدليلين
معا أولى من إلغاء أحدهما؛ إذن يتعين محاولة الجمع بينهما (1) ، وهذا ما
فعله فريق من العلماء:
* قال ابن رسلان في حديث عائشة رضي الله عنها:
"والحديث مقيد بالحاجة إلى رؤية الوجه والكفين كالخطبة ونحوها (2) ،
ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن
__________
(1) لا يتَصَوَّرُ أن تأمر الآية والأحاديث الصحيحة المؤمنين بغض الأبصار، في حين نجد في هذا الحديث تصريحًا بإباحة النظر إن الوجه والكفين مِمّا يوجب تأويل
الحديث - على فرض ثبوته- لأن فيه قرينةَ تدل على قابليته للتأويل، أو التقييد
بالحاجة أو الضرورة، ألا وهي قوله: "لا يصلح أن يُرى منها"، ومعلوم معارضة
لفظه "يُرى" للنصوص الآمرة بغض البصر، وهذا بخلاف ما لو قال: (لا يصلح
أن يظهر منها إلا وجهها وكفيها) ، بل إنه إذا أباح الكشف بلا قيد فقد أوقع
المسلمين في حرج شديد حين يطلق الكشف، وبأمر بالغض، والشريعة منزهة عن ذلك الحرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) ولأنه يحول دون
أطهرية قلوب المؤمنين بكثرة المشاهد، ومحاولات الغض، خاصة في زماننا، وهذا بخلاف نظرة الفجأة إلى ما قد يظهر من النساء بدون قصد إظهار، فذلك قليل نادر في المجتمع الإسلامي.
وعلى فرض جواز كشف الوجه واليدين بلا تقييد بحاجة أو ضرورة، مع الأمر
بغض البصر، فما هو واجب المرأة المسلمة إذا عاشت بين قوم رَقّ دينهم، وذهب ورعهم، فلا يرتدعون عن النظر المحرم إلى وجهها، هل تعينهم على هذا الفسق،
وتشارك في هذه الفتنة أم أنه يجب عليها حينئذٍ منع هذا المنكر، إما بقرارها في بيتها، وإما بالخروج عند الحاجة متسترة محجبة درءًا للفتنة وسدُّا للذريعة؟!
__________
(2) ومثلها: النظر للمداواة، وللشهادة لها أو عليها، والنظر للمعاملة من بيع أو رهن أو إجارة، أو تعليم، ويشترط لجواز ذلك فقْدُ جنس، ومحرم صالح، وتعذره من وراء حجاب، ووجود مانع خلوة، ويشترط في النظر للتزويج أن يكون بعد العزم على التزوج، ورجاء الإجابة.(3/376)
سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساق (1) اهـ.
* وقال الشيخ خليل أحمد السهارنفوري:
"ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساد وظهوره" (2) اهـ.
* وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي:
"لو ثبت أن حديث عائشة صحيح - مع العلم بأنه لم يثبت - فحينئذِ كشف المرأة وجهها لرجل أجني مقيد ذلك بالحاجة، والضرورة، لا مطلقا" (3) اهـ.
ومقصودهم - والله أعلم - أن المرأة إذا بلغت لم يحل أن يظهر من بدنها شيء لأنها كلها عورة، إلا أن تحتاج أو تضطر لكشف وجهها وكفيها فيحل لها ذلك حينئذ بقدره.
أو: أن المرأة إذا بلغت حل لها أن تظهر وجهها وكفيها ما لم تُخَفْ الفتنه
بهما، فإن خيفت الفتنة فعليها ستر ذلك.
فإذا قيل: بل يتعين الترجيح لأن التكلف في الجمع بينهما غير خافٍ
على من تأمله.
قلنا: نحن أسعد بهذا المسلك منكم؛ إذ إن أدلة وجوب ستر الوجه والكفين ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مُقَدَّم كما هو معروف عند الأصوليين، وذلك لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه، فإذا وجد الدليل الناقل عن الأصل دل ذلك على طروء الحكم على الأصل وتغييره إياه.
__________
(1) نقله عنه الشوكاني في "نيل الأوطار" (6/130) .
(2) "بذل المجهود في حل أبي داود" (16/164)
(3) "يا فتاة الإسلام" ص (258) ، بهذا السياق.(3/377)
ولذلك نقول: إن مع الناقل زيادةَ علم، وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي، والمثبِت مقدم على النافي، وهذا الوجه إجمالي ثابت حتى على تقدير تكافؤ الأدلة ثبوتَا ودلالة (1) .
* فوائد:
الأولى: أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل، على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود" في مبحث الترجيح باعتبار المدلول:
وناقل ومثبت والآمر ... بعد النواهي ثم هذا الآخر
على أباحة. . . إلخ
لأن معنى قوله: (وناقل) أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على
__________
(1) رسالة الحجاب للشيخ محمد بن صالح العثيمين (ص 28) .
ويحسن أن ندعم هذا الكلام بقول محدث الشام رحمه الله في معرض الرد على من استدل بقول جابر بن عبد الله عن النساء في صلاة العيد: (فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن) على إباحة الذهب المحلق للنساء، فقال حفظه الله في أثناء الرد: [لو فرضنا أنه جاء في حديث أو أحاديث
التصريح بذلك - أي إباحة المحلق - فينبغي أن يحمل ذلك على الأصل الأول، وهو الإباحة، ثم طرأ عليها ما أخرجها من هذا الأصل إلى التحريم بدليل أحاديث التحريم، فإن مثل هذه الأحاديث لا تصدر من الشارع في الغالب إلا لرفع ذلك الأصل وهو الإباحة في الأمور التي نص على تحريمها، ولذلك يقول علماء "أصول الفقه": (إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر) ، وفي هذه الحالة
لا يلزمنا أن نثبت تأخر النص المحرم على النص المبيح، لأن النص المحرم يتضمن
في الواقع الإشارة إلى رفع ما تضمنه النص المبيح كما هو ظاهر] اهـ. من
"حجاب المرأة المسلمة" هامش ص (27) .
وهو كما ترى يحمل في طياته الرد على من قال: "أين دليل التراخي الزمني بين الحاظر والمبيح الذي هو أحد شروط النسخ؟ "، وانظر أيضَا: "إرواء الغليل" (1/149) .(3/378)
الخبر المبقي عليها، وعزاه في شرحه المسمى "نشر البنود، للجمهور، وهو المشهور عند أهل الأصول" (1) اهـ.
واستدل الجمهور لمذهبهم بما يأتي:
أولاً: أن الحديث المبقي للبراءة لا يستفاد منه فائدة جديدة، وذلك لأنه
لا يفيد أكثر مما استفيد من البراءة الأصلية، أما الحديث الرافع للبراءة فيستفاد منه فائدة جديدة.
ثانيا: أن الخبر الناقل عند ترجيحه يُقَدَّرُ متأخرا، وعليه فيكون ناسخا
للخبر المبقي للبراءة الأصلية، والخبر المبقي لها لم ينسخ البراءة الأصلية،
وإنما هو مُقَرِّر لها، وبذلك يتحقق النسخ مرة واحدة.
أما لو جعل لخبر المبقي للبراءة هو الراجح فسيقدر متأخرَا فيكلون ناسخا للناقل للبراءة، والناقل قد نسخ البراءة الأصلية لأنه غير مقرر لها فيلزم من ذلك النسخ مرتين، والنسخ خلاف الأصل، فالخبر الناقل مقلل له، وعليه يكون راجحا (2) .
الفائدة الثانية:
ذهب جماعة من أهل الأصول إلى أنه إِذا تعارض خبران، وكان أحدهما دالا على الوجوب، والآخر دالا على الإباحة، ففي هذه الحالة يقدم الدال على الوجوب، وذلك لأن العمل به مقَدم للاحتياط في الخروج من عهدة
الطلب، ثم الدال على الإباحة - ويشمل غير الواجب - فيدخل فيه المسنون والمندوب لاشتراك الجميع على عدم العقاب على ترك الفعل (3) .
__________
(1) "أضواء البيان" (5/657 - 658) .
(2) انظر: "شرح الأسنوي" (3/178) ، و"أصول الفقه" للشيخ محمد أبو النور زهير (4/213) .
(3) "أضواء البيان" (5/658) ، وانظر: "حاشية السعد" (2/312) .(3/379)
الفائدة الثالثة:
أن المسلمة إن عملت بقول من أوجب ستر الوجه والكفين فأدت ذلك على سبيل الوجوب برئت ذمتها عند القائلين بأنه فرض وعند القائلين بأنه فضل كليهما، ولو أسفرت عن وجهها وكشفت كفيها، ولم تسترهما على سبيل الوجوب تبقى مطالَبَة بواجب على قول جمع كبير من العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "دع ما يَريبُك إلى ما لا يَرِيبُك" (1) ، ويقول: "فمن اتقَى الشُبُهاتِ فقد استبرَأ لدِينِه وعِرْضِهِ" (2) .
* ثالثًا: متن الحديث:
قد عرفتَ ضعف هذا الحديث من حيث السند، أما من حيث معانيه وألفاظهُ فهو معارض للأدلة المتوافرة على وجوب الحجاب سواء في ذلك عموم آيات الحجاب، أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره، فهل يسوغ أن يؤخذ بظاهرِ حديثْ هذا حاله فيكون مخصصًا لكل ما ورد من عموم ألفاظ القرآن وما صح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صفية، وتقريره لفعل سودة رضي الله عنهما؟
أضف إلى ذلك مخالفة لفظه: "لا يصلح أن يرى منها" لحديث جرير بن
__________
(1) وتتمته "فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" أخرجه الترمذي عن الحسن بن
علي رضي الله عنهما رقم (2518) في صفة القيامة، باب رقم (60) وقال:
(حسن صحيح) ، والنسائي (8/327 - 328) بدون التتمة في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، والإمام أحمد في مسنده (1/200) ، (3/112 -
153) ، وصححه ابن حبان (512) ، والحاكم (2/13) ووافقه الذهبي،
وأخرج النسائي هذه الجملة في آخر حديث طويل (8/ 230) في القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، وقال: (هذا الحديث جيد جيد) .
(2) قطعة من حديث رواه البخاري (1/153) في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، وفي البيوع: باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، ومسلم
(1599) في المساقاة: باب لعن آكل الربا وموكله.(3/380)
عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن
أصرف بصري" (1) . وقد كان إسلام جرير رضي الله عنه في رمضان سنة عشر من
الهجرة (2) .
كما أنه مخالف لحال أمهات المؤمنين ونسائهم، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عملا ليسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ" (3) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمات، فإذا حاذَوْنا سَدَلت إحدانا جلبابَها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" (4) .
وعنها رضي الله عنها قالت: "تَسدُل المحرمة جلبابها من فوق رأسها على وجهها" (5) .
روى ابن أبي خيثمة من طريق إسماعيل بن خالد عن أمه، قالت: كنا ندخل على أم المؤمنين يوم التروية، فقلت لها: "يا أم المؤمنين! هنا امرأة
تأبى أن تغطي وجهها وهي محرمة"، فرفعت عائشة خمارها من صدرها،
فغطت به وجهها (6) - أي وجه المرأة المشار إليها.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مُحرمات فيمر بنا الراكب فتَسدُل المرأة الثوب من فوق رأسها على وجهها" (7) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.
(3) أخرجه مسلم (1718) (18) بهذا اللفظ، وقد اتفقا على إخراجه بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) .
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.
(6) انظر "تلخيص الحبير" (2/ 292) .
(7) انظر: ص (350) .(3/381)
وعن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن
مع أسماء رضي الله عنها" (1) .
فلو كان لهن سعة من السفور؛ ولو كان حديث عائشة صحيحَا ومعمولًا به؛ لما كان النساء يلتزمن تغطية الوجوه، ولاسيما في حالة الإحرام.
وحديث عائشة رضي الله عنها أيضًا مخالف لما ثبت عن أسماء رضي الله عنها نفسها:
فقد قالت أسماء رضي الله عنها: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا
نمتشط قبل ذلك في الإحرام" (2) .
و (عمل من نسب إليه الحديث بخلافه حتى عند الرخصة دليل على ضعف الحديث أو على الأقل نسخه) (3) .
* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
فتمسك أسماء بهذا يرد على من أخذ بحديث عائشة أن أسماء قد أمرها
النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا تكشف إلا وجهها وكفيها (4) اهـ.
* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
وأيضًا فإن أسماء رضي الله تعالى عنها كان لها حين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
سبع وعشرون سنة، فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم
وعليها ثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين، فلابد على تقدير الصحة من أن يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) "فصل الخطاب" ص (88) .
(4) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" ص (54) .(3/382)
الأصل فتقدم عليه (1) اهـ.
* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"هذا الحديث - يقصد حديث عائشة رضي الله عنها - لا يصح العمل به، لأنه ضعيف هو وطرقه، وأيضا فغير سائغ أن تدخل أسماء بنت أبي
بكر الصديق رضي الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب رقاق تصف بَشرَتها، وذلك بالمدينة بعد أن نزل الحجاب، إلا أن يكون ذلك في مكة وقبل الهجرة، وقبل نزول الحجاب، وإذا كان كذلك، فلا يلتفت إليه،
وليس بحجة" (2) اهـ.
__________
(1) "رسالة الحجاب" ص (30) ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بستر المرأة المسلمة منذ أوائل مراحل الدعوة بمكة، وأمر ابنته زينب بتخمير نحرها، فهل يخفى ذلك
على المسلمات، بما فيهن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وهى التي كان
يتردد صلى الله عليه وسلم، على بيت أبيها صباح مساء.
روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي إلا
وهما يَدينان الدين، ولم يمر عليهما يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا. . . الحديث - انظر "فتح الباري" (10/671-672) .
وعن الحارث بن الحارث الغامدي، قال: قلت لأبي ونحن بمنى: ما هذه
الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا - وفي
رواية: فتشرفنا - فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به،
وهم يردون عليه قوله، ويؤذونه، حتى انتصف النهار، وتصدّع عنه الناس،
وأقبلت امرأة قد بدا نحرها تبكي، تحمل قدحًا فيه ماء، ومنديلا، فتناوله منها، وشرب، وتوضأ، ثم رفع رأسه، فقال: "يا بنية! خمري عليك نحركِ، ولا تخافي
على أبيك غلبة ولا ذلا"، قلت: من هذه؟ قالوا: هذه زينب ابنته.
قال الألباني: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" اهـ. من "حجاب المرأة المسلمة" ص (35-36) .
(2) "نظرات في حجاب المرأة المسلمه" ص (66-67) .(3/383)
* وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي:
إن أسماء رضي الله عنها عندها من التقوى، والخشية لله، والورع،
والحياء، ما يمنعها أن تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق (1) .
وعن محمد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة رضي الله عنها: ماذا تصلي
فيه المرأة من الثياب؟ قالت: "تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب
ظهور قدميها" (2) .
وفي رواية أبي داود عن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس لها إزار؟ قال: "إذا كان الدرع سابغَا يغطي ظهور قدميها" (3) .
فإذا عدَّ القدمين عورة، وأذن لها في الإسبال كي لا تنكشف القدمان،
وأمر بعدم الضرب بالأرجل حتى لا يسمع صوت الخلاخل، أو تظهر
الزينة الخفية، فإن أمره بتغطية الوجه الذي هو مجمع الحُسْن والفتنة أولى.
فهذا من باب "التنبيه بالأدنى على ما فوقه، وما هو أولى منه بالحكم"،
وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة، ويرخص كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه.
وأخيرًا: فإن هذا الحديث لو سلمنا صلاحيته للاحتجاج فهو حجة على
أهل السفور، وذلك لأن هذا نص يقضي بأن المرأة إذا بلغت المحيض لا
يجوز لها أن تكشف غير الوجه والكفين أمام أحدٍ كائنًا من كان، أبا أو
__________
(1) "يا فتاة الإسلام" ص (258) .
(2) رواه مالك في "الموطأ" كتاب صلاة الجمعة (8) ، باب الرخصة في صلاة المرأة في
الدرع والخمار (10) ، رقم (37) ، موقوفا على أم سلمة رضي الله عنها.
(3) "سنن أبي داود" - كتاب الصلاة (2) ، باب في كم تصلي المرأة (83) ، ورواه الحاكم في "المستدرك" (1/ 250) كتاب الصلاة، وقال: (هذا حديث صحيح
على شرط البخاري، ولم يخرجاه) اهـ، ووافقه الذهبي.(3/384)
أخا أو ابنَا، أو عما، أو غيرهم، ومعلوم أن الله قد أذن للمرأة في إبداء
الزينة أمام المحارم، ومنع عنه أمام الأجانب، فما هي الزينة التي تبديها
أمام المحارم، ولا تبديها أمام الأجانب؟
وبتعبير آخر: لما جاز لها كشف وجهها وكفيها أمام الأجانب، ولم يجز لها كشف شيء من أعضائها سوى الوجه والكفين أمام المحارم فأي فرق
يبقى بين المحارم والأجانب؟ مع أن القرآن ينص على الفرق بينهما في
صراحة باتة، فتفكر!، ولو قيل: إن هذا نص يجري فيه التخصيص من
نصوص أخرى، قلنا: فما لناحية الحجاب والسفور لا يجري فيها التخصيص بالنصوص؟! " (1) .
الشبهة الثانية
* وهي ما رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2) ، قال رحمه الله تعالى:
حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
قال:. . . قالت عائشة رضي الله عنها: دخلت عَلَيَّ ابنةُ أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض، فقالت عائشة: يا
رسول الله إنها ابنة أخي وجارية، فقال: "إذا عركت (3) المرأة لم يحل لها أن
تظهر إلا وجهها، وإلا ما دون هذا"، وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكفِّ مثل قبضة أخرى.
والحسين هو سُنَيْد بن داود المِصيصي المحتسب، قال الحافظ في
"التقريب": ضعيف مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يُلَقَّن حجاج بن محمد
__________
(1) "مسالة السفور والحجاب" لأبي هشام الأنصاري - مجلة الجامعة السلفية، ص (77) ، عدد نوفمبر، ديسمبر 1978م.
(2) "تفسير الطبري" (18/ 119) ، وانظر: "الدر المنثور" (5/ 42) .
(3) عركت: حاضت.(3/385)
شيخَه" (1) اهـ.
وقال الذهبي في "الميزان": حافظ له تفسير، وله ما يُنكَر، وقال: صدقه
أبو حاتم، وقال أبو داود: لم يكن بذلك، وقال النسائي: الحسين بن داود ليس بثقة" (2) اهـ.
كما أن هذا الحديث معضل، لأن بين ابن جريج وعائشة رضي الله
عنها مفاوز، فقد توفي ابن جريج بعد المائة والخمسين، ولم يدرك عائشة
رضي الله عنها.
ونقل الذهبي في "الميزان" عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قوله:
"قال أبي: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها، يعني قوله: أخبِرت، وحُدثت عن فلان" (3) !
وقال الحافظ في "التهذيب": "وقال الأثرم عن أحمد: إذا قال ابن
جريج: قال فلان، وقال فلان، وأخبرت، جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني، وسمعت فحسبك به،. . . وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقًا، فإذا قال: حدثني، فهو سماع، وإذا
قال: أخبرني، فهو قراءة، وإذا قال: "قال" فهو شبه الريح" (4) .
وقال الدارقطني: "تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن
__________
(1) "تقريب التهذيب" (1/ 335) .
(2) "ميزان الاعتدال" (2/ 236) ، وانظر ترجمته أيضَا في "تهذيب التهذيب" (4/ 244) ، و"الجرح والتعديل" (4/ 326) ، و"تاريخ بغداد" (8/ 42-44) ، و"طبقات المفسرين" (1/209) ، و"سير أعلام النبلاء" (10/627) .
(3) "ميزان الاعتدال" (2/ 659) رقم (5227) .
(4) "تهذيب التهذيب" (6/ 404) .(3/386)
عبيدة وغيرهما" (1) .
وقال الإمام صلاح الدين العلائي: "يكثر من التدليس" (2) .
واعلم؛ أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون شاهدا لحديث عائشة السابق وذلك لتخالف متن الحديثين، ولإعضال هذا الحديث كما أشرنا (3) .
الشبهة الثالثة
* ما أخرجه البيهقي في "سننه" من طريق محمد بن رمح، ثنا ابن لَهِيعة،
عن عياض بن عبد الله أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري يخبر
عن أبيه أظنه عن أسماء ابنة عميس أنها قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنهم، وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخرج، فقالت عائشة رضي الله عنها: تَنَحَّي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا كرهه، فتنحت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة
رضي الله عنها: لم قام؟ قال: "أو لم تَرَ إلى هيئتها؟! إنه ليس للمرأة
__________
(1) "السابق" (6/ 405) .
(2) "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" ص (108) رقم (33) .
(3) وقد تعقب العلامة الألباني الشيخ أبا الأعلى المودودي رحمه الله في تقويته هذا الحديث بمرسل قتادة، ثم احتجاجه بهما على أن المرأة عورة كلها إلا الوجه
واليدين على جميع الناس حتى على الأب والأخ وسائر المحارم!
غير أن مدار المساجلة كان حول لفظ لم أعثر عليه في مظانه من تفسير ابن جرير،
وكلا الشيخين لم يعزه إلى موضعه فيه، واللفظ المشار إليه: عن ابن جريج قال: "خرجت لابن أخي عبد الله بن الطفيل مزينة، فكرهه النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنه ابن أخي يا رسول الله، فقال: "إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها إلا ما دون هذا"، وقبض على ذراع نفسه"، وبين الألباني رحمه الله مخالفة لفظ الحديث لنص القرآن (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية، وفيها: (أَوْ بَنِي =(3/387)
المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا"، وأخذ بكميه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفيه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صُدْغَيْهِ حتى لم يَبْدُ إلا
وجهه.
قال البيهقي: إسناده ضعيف (1) .
وعياض بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر هو الفهري (2) ، من رجال
مسلم، قال أبو حاتم: "ليس بالقوي"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجي: "روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر"، وقال يحيى بن
معين: "ضعيف الحديث"، وقال ابن شاهين: "في الثقات"، وقال أبو صالح: "ثبت له بالمدينة شأن كبير، في حديثه شيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث"، وقال الحافظ في "التقريب": "فيه لين" (3) .
لكن علة هذا الحديث ابن لَهِيعة، واسمه عبد الله الحضرمي أبو
عبد الرحمن المصري القاضي وهو ثقة فاضل، لكنه كان يحدث من كتبه
فاحترقت، فحدث من حفظه فخلط (4) .
قال الهيثمي: "وفيه ابن لهِيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح" (5) .
وقال في موضع آخر: "ابن لَهِيعة حديثه حسن، وفيه ضعف" (6) .
__________
= إِخْوَانِهِنَّ) ثم قال: (فهي - أي الآية - صريحة الدلالة على جواز إبداء المرأة
زينتها لابن أخيها، فكان الحديث منكرَا من هذه الجهة أيضًا) اهـ من "حجاب المرأة المسلمة" هامش ص (18) .
(1) "السنن الكبرى" (7/ 86) .
(2) "تهذيب التهذيب" (8/ 201) .
(3) "تقريب التهذيب" (2/96) .
(4) فمن حدث عنه قبل احتراق كتبه كالعبادلة وغيرهم فحديثه قوي، ومن روى عنه بعد احتراق كتبه فحديثه ضعيف، إلا أن يجبره وجه آخر.
(5) "مجمع الزوائد" (5/ 137) ، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، والأوسط) اهـ.
(6) "السابق" (5/137) .(3/388)
وقال الإمام أبو محمد عبد الرحمن الرازي ابن الإمام أبي حاتم الرازي
بعدما ساق سندين في كل منهما ابن لهيعة: "قلت لأبي: فأيهما أصح؟ قال: لا يضبط عندي، جميعا ضعيفين" (1) .
وقال الجوزجاني: "لا يوقف على حديثه، ولا ينبغي أن يحتج به، ولا يغتر بروايته، وقال ابن حبان: سبرت أخباره، فرأيته يدلس على أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم" (2) .
وقال الألباني: "ضعيف من قبل حفظه" (3) .
وقال أيضًا. "وبعض المتأخرين يحسن حديثه، وبعضهم يصححه" اهـ.
ثم قال: والذي لا شك فيه أن حديثه في المتابعات والشواهد لا ينزل
عن رتبة الحسن، وهذا منها" (4) اهـ.
__________
(1) "علل الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 482) .
(2) "الضعفاء الصغير" ص (66) ، "الضعفاء والمتركون" ص (95) .
(3) "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" رقما (319) ، (461) .
(4) "حجاب المرأة المسلمة" ص (25) .
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن فضيلة الشيخ الألباني يخالف كلا من ابن عباس رضي الله عنهما ومَنْ وافقه مِن الصحابة، ومن بعدهم كالبيهقي والقرطبي
ممن استدلوا بقوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) على أن المراد: الوجه والكفان،
انظر كتابه (ص 33) ، ورجح فضيلته أن الآية تستثني ما ظهر منها بدون قصد، فلا يسوغ أن تُجعل دليلَا شاملا لما ظهر منها بالقصد (ص 24) ، فحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود هو الأصل الذي بنى عليه الشيخ مذهبه، وإذا كان هذا الأصل ضعيفَا في سنده ومعناه كما تقدم، ولا تقوم به حجة، فإن الفرع الذي ساقه لتقويته أولى بالطرح، ومن المعلوم أن من أباح السفور من العلماء إنما استدل مع حديث عائشة وأسماء بثلاثة أدلة:
أولها: أن الوجه والكفين ليسا من العورة في الصلاة والحج.
والثاني: تفسير قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين.
وكلاهما يبطل الشيخ الألباني الاستدلال به على إباحة السفور، انظر "حجاب
المرأة المسلمة" (ص 33) . =(3/389)
وبعض من صحح أحاديث ابن لَهِيعة إنما صححها من رواية العبادلة (1)
عنه.
ومع تضعيف الإمام البيهقي رحمه الله هذا الحديثَ، فإنه- إلى جانب
ذلك - أعرض عن الاستشهاد به لتقوية حديث عائشة رضي الله عنها، مع
أنه- دون غيره من المحدثين - أخرجهما معًا في سننه، فكأنه رحمه الله لم
يَعُدَّهُ صالحا في المتابعات والشواهد (2) .
أما احتجاجه رحمه الله بما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقد تقدم الجواب عنه في تفسير قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (3) وبيان ضعفه سندا.
فعلى هذا يكون تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين محتاجًا إلى
دليل صحيح، ودليلهم الذي بنوا عليه مذهبهم الحديث المرسل المروي عن عائشة رضي، الله عنها، فكيف يكون مجرد قولهم دليلا على صحة الحديث؟ وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالثياب، وإذا صح ما رُوي عن ابن عباس (4) رضي الله عنهما يكون قول صَحابي
__________
= والثالث: دعوى جريان عمل النساء به، وهذه فيها نظر، انظر ص (475) ، وكذا جواب الشبهات من الرابعة إلى الثامنة، وكذا العاشرة، والحادية عشرة.
(1) والبعض يضيف إلى العبادلة آخرين حدثوا عنه قبل احتراق كتبه، ليس منهم محمد بن رمح راوي هذا الحديث عنه.
(2) بل لما أراد رحمه الله تقوية حديث عائشة رضي الله عنها عدل عن هذا الحديث إلى تقويته بالآثار الواردة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، فقال عقب روايته: "مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة رضي الله عنهم في بيان ما أباح الله
من الزينة الظاهرة، فصار القول بذلك قويًّا، والله الموفق" اهـ. من "السنن
الكبرى" (2/ 226) ، وانظر: "النقد البناء لحديث أسماء" فإنه بحث متين.
(3) راجع (ص 284-289) .
(4) وقد صحح الألباني تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، بأن المقصود: =(3/390)
خالفه صاحبي آخر، فوجب أن نختار أقرب القولين إلى الكتاب والسنة.
واعلم؛ أن من حسَّن حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه عنها
خالد بن دريك، إنما حسنه - رغم انقطاعه - باعتبار حديث أسماء بنت
عميس - هذا رغم ضعفه - شاهدا موصولًا له.
ولو سلمنا بتحسين الحديثين، لكان الجواب عن حديث أسماء هذا
كالجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها، تماما كما تقدم (1) ، والعلم
عند الله تعالى.
الشبهة الرابعة
حديث السفعاء الخدين
* ذهب بعض الفضلاء إلى تحسين حديث أسماء السابق، وبعد أن صلح
عنده الاحتجاج به قال: "وقد جرى العمل عليه عند النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كن يكشفن عن وجوههن وأيديهن بحضرته صلى الله عليه وسلم وهو لا ينكر
ذلك، عليهن" اهـ.
وهذا السياق لا يصح جملة وتفصيلا، بل ذهب بعض العلماء إلى القول
بأن: "سياق هذا بأسلوب الجزم فيه افتئات في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق النساء
المؤمنات رضي الله عنهن، لأن الأدلة التي كانت هي السند في سياقه لا تحمل أمورا قطعية، وإنما تضمنت احتمالات ضعيفة لا تقوم بها حجة على ما قاله، لأن مثل ذلك يحتاج إلى أدلة قطعية ومتواترة، ولا شيء من هذا
__________
= "الكف، ورقعة الوجه"، وهو في "المصنف" لابن أبي شيبة (4/ 283) ، وقال الألباني: "وروى نحوه عن ابن عمر بسند صحيح أيضَا" اهـ، وانظر: "تمام المنة
في التعليق على فقه السنة" (ص 160 – 161)
(1) راجع (ص 372-384) .(3/391)
كله" (1) اهـ.
ومن هذه الأدلة التي استدل بها فضيلته على هذه الدعوى:
* ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم
قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ
الناس، وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء (2) فوعظهن، وذكَرهن، فقال:
"تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم"، فتكلمت امرأة من سطة النساء (3) سفعاء الخدين (4) ، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاية،
وتكفرن العشير"، قال: فجعلن يتصدقن من حُليّهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن (5) .
قال: وقول جابر في هذا الحديث: سفعاء الخدين، يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها، ولما علم بأنها
سفعاء الخدين.
والجواب
*أولا:
أن الحديث ليس فيه حجة لإثبات ما أورده من أجله.
__________
(1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 67-68) .
(2) وفي رواية النسائي: (ومضى إلى النساء ومعه بلال) قال القاري في "المرقاة": ولا
يلزم منه رؤيته لهن اهـ (2/255) .
(3) أي جالسة وسطهن.
(4) أي فيهما تغير وسواد.
(5) أخرجه البخاري في خمسة عشر موضعًا، ومسلم في العيدين، والنسائي،
والدارمي، والبيهقي، والإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ صححه السندي.(3/392)
* قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
"وأجيب عن حديث جابر هذا بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم
رآها كاشفة عن وجهها، وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث أن
جابرا رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدًا، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد، فيراه بعض الناس في تلك الحال، كما قال نابغة ذبيان:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليدِ
فعلى المحتج بحديث جابر المذكور أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة، وأقرها
على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك" اهـ (1) .
* وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري حفظه الله تعالى:
"وأما حديث جابر رضي الله عنه فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك المرأة سافرة
بوجهها، وأقرها على ذلك، حتى يكون فيه حجة لأهل السفور، وغاية ما
فيه أن جابرًا رأى وجه تلك المرأة، فلعل جلبابها انحسر عن وجهها
بغير قصد منها، فرآه جابر، وأخبر عن صفته، ومن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها كما رآها جابر، وأقرها فعليه الدليل" (2) اهـ.
* وقال الأستاذ درويش مصطفى حسن حفظه الله:
"إن هذه المرأة كانت مبدية وجهها وهي في وسط النساء، وفي مصلاهن
يوم العيد، ولا حرج عليها في ذلك، أما وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أتاهن يخبرهن بأن أكثر النساء حطب جهنم، نسيت كل شيء، ولم تهتم إلا بأمر واحد دون ما عداه، وهو معرفة سبب هذا الأمر الخطير، فهمَّت
تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغافلت حينا عن تغطية وجهها دون أن تقصد،
__________
(1) "أضواء البيان" (6/597) .
(2) "الصارم المشهور" ص (117 - 118) .(3/393)
فوقع نظر جابر - راوي الحديث - على حالتها تلك، فأخبر بهذا الوصف
الذي رآه، لكي تعرف به هذه المرأة من غير أن يقصد النظر إليها" (1) اهـ.
* ثانيًا:
أنه قد روى هذه القصة المذكورة من الصحابة غير جابر رضي الله عنه،
ولم يذكروا كشف المرأة المذكورة عن وجهها، وقد ذكر مسلم "صحيحه"
ممن رواها - غير جابر - أبا سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر رضي
الله عنهم، وذكره غيره عن غيرهم، ولم يقل أحد ممن روى القصة غير
جابر إنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين (2) .
* قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله:
"ومما يدل على أن جابرًا رضي الله عنه قد انفرد برؤية وجه المرأة التي خاطبت
النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وأبا سعيد
الخدري رضي الله عنهم رَوَوْا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وموعظته للنساء، ولم يذكر
واحد منهم ما ذكره جابر رضي الله عنه من سفور تلك المرأة وصفة خديها.
فأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد في "مسنده"،
والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه
الذهبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن ولو من
حُلِيكُن فإنكن أكثر أهل جهنم"، فقالت امرأة ليست من عِليَةِ النساء: وبم يا رسول الله نحن أكثر أهل جهنم؟ قال: "إنكن يكثِرنَ اللعن وتكفرن العشير (3) ".
__________
(1) "فصل الخطاب في مسألة الحجاب والنقاب" (ص 95) .
(2) (فلعل هذا كان لقبَا للمرأة، أو أن الراوي كان يعرفها قبل الحجاب) اهـ. من
"حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" لمكية نواب مرزا - رسالة ماجستير جامعة أم القرى (ص 54) .
(3) أي الزوج، أي يجحدن إحسان أزواجهن.(3/394)
فوصف ابن مسعود رضي الله عنه المرأة التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ليست من علية النساء، أي ليست من أشرافهن، ولم يذكر عنها سفورًا ولا صفة الخدين.
وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فرواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقالت امرأة منهن جَزْلَة: وما لنا يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير"،
فوصف المرأة بأنها كانت جزلة، ولم يذكر ما رواه جابر من سَفْع خَدَّيها.
قال ابن الأثير: امرأة جزلة أي تامةُ الخَلْق، ويجوز أن تكون ذات كلام جزل أي: قوي شديد.
وقال النووي: جزلة بفتح الجيم وإسكان الزاي، أي ذات عقل ورأي، قال ابن درَيد: الجزالة العقلُ والوقار.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فرواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي، وفيه: فقالت امرأة واحدة لم يُجِبْهُ غيرها منهن:
نعم يا نبي الله، لا يُدرى حينئذٍ من هي، قال: فتصدقن. . ." الحديث.
قال النووي رحمه الله في قوله "لا يدري حينئد من هي": معناه لكثرة النساء، واشتمالهن بثيابهن لا يدرى من هي؟ اهـ.
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لم يذكر عن تلك المرأة سفورًا، ولا عن غيرها من النسوة اللاتي شهدن صلاة العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شهودُ
ابن عباس رضي الله عنهما لصلاة العيد في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي،
وقال: "حديث حسن صحيح"، وفيه. "فقالت امرأة منهن: ولم ذلك يا رسول الله؟ . . ." الحديث.
وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فأخرجاه في الصحيحين وفيه: "فقلن:
وبم يا رسول الله؟ . . ." الحديث.(3/395)
فهؤلاء خمسة من الصحابة رضي الله عنهم، ذكروا نحو ما ذكره جابر
رضي الله عنه، من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، وسؤالهن له عن السبب في كونهن أكثر
أهل النار، ولم يذكر واحد منهم سفورًا، لا عن تلك المرأة التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيرها، وهذا يقوي القول بأن جابرا رضي الله عنه قد انفرد
برؤية وجه تلك المرأة، ورؤيته لوجهها لا حجة فيه لأهل التبرج والسفور،
لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها سافرة بوجهها، وأقرها على ذلك" (1) .
* ثالثًا:
* قال الإمام النووي رحمه الله في شرح حديث جابر هذا عند مسلم:
وقوله: "فقامت امرأة من سطة النساء" هكذا هو في النسخ سِطة بكسر السين، وبفتح الطاء المخففة، وفي بعض النسخ: واسطة النساء، قال القاضي: "معناه: من خيارهن، والوسط: العدل والخيار"، قال: وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغيَّر في كتاب مسلم، وأن صوابه: من سفلة النساء، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مسنده"، والنسائي في "سننه"،
وفي رواية لابن أبي شيبة: (امرأة ليست من علية النساء) ، وهذا ضد التفسير الأول، ويعضده قوله بعده: "سفعاء الخدين " وهذا كلام القاضي، وهذا الذي ادَّعَوْه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسَّره به هو، بل المراد: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن، قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: يقال وسطت القوم أوسطهم وسطًا وسطة أي توسطتهم " (2) اهـ.
* قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله:
وهذا التفسير الأخير هو الصحيح، فليس في حديث جابر ثناء: ألبتة على
__________
(1) "الصارم المشهور" (ص 118-122) بتصرف،
(2) "شرح النووي على صحيح مسلم" (6/175) .(3/396)
سفعاء الخدين المذكورة، ويحتمل أن جابرا ذكر سُفْعَةَ خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها (1) ، لأن سُفْعة الخدين قبح في النساء، قال النووي: "سفعاء الخدين: أي فيهما تغير وسواد"، وقال الجوهري في "صحاحه": والسُّفْعَة في الوجه سواد في خدي المرأة الشاحبة، ويقال للحمامة سفعاء، لما في عنقها من السُّفْعة، قال حميد بن ثور:
من الورق سفعاء العلاطين باكرت ... فروع أشاء مطلع الشمس أسحما
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له:
السُّفْعَةَ في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب أنها سوادٌ وتغير فى الوجه من مرض أو مصيبة أو سفر شديد، ومن ذلك قول متمم بن نُويرة التميمي يبكي أخاه مالكا:
تقول ابنةُ العمري مالَكَ بعد ما ... أراك خضيبا ناعم البال أروعا
فقلت لها طولُ الأسى إذ سألتِني ... ولَوْعَةُ وَجْد تترك الخدَّ أسفعا
ومعلوم أن من السُّفْعَة ما هو طبيعي كما في الصقور، فقد يكون في خَدَّيِ الصقر سواد طبيعي، ومنه قول زهير بن أبي سَلْمى:
أهوى لها أسفعُ الخدين مطرق ... ريش القوادم لم تنصب له الشبك
والمقصود أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه، وبعض أهل العلم يقول: إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا" (2) اهـ.
__________
(1) وقيل إنه لم يرها، ولكنه تكلم عنها بوصفها السائد الذي لا يتوقف على رؤيتها كما مر ذلك قريبا، يؤيد ذلك أنه من المعاني الشهيرة في كلام العرب بصفته تغيرَا وسوادًا في الوجه من مرض أو مصيبة.
(2) "أضواء البيان" (6/597 – 599) ، ومما يؤيده أن الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى أشار إلى استثناء القواعد، من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا من قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية، فحكى رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (فنسخ، واستثنى من ذلك (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ =(3/397)
* رابعا:
أن هذه المرأة ربما تكون من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا، فلا تثريب عليها في كشف وجهها على النحو المذكور، ولا يمنع ذلك من وجوب الحجاب على غيرها، قال تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)) [النور: 60] .
يؤيد ذلك أن الراوي وصفها بأنها سفعاء الخدين، أي فيهما تغير وسواد فهي من الجنس المعذور في السفور حيث لم يكن بها داع من دواعي الفتنه. ويؤيده أيضَا ما تعارف عليه النساء غالبا من أن المرأة التي تجرؤ على سؤال الرجال هي أكبرهن سنا، والعلم عند الله تعالى (1) .
* خامسا:
أن هذا الحديث ليس فيه ما يدل على أن هذه القصة كانت قبل الحجاب أو بعده، فيحتمل أنها كانت قبل أمر الله تعالى النساء أن يضربن يخمرهن على جيوبهن، وأن يدنين عليهن من جلابيبهن.
" قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
إما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا فكشف وجهها مباح، ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها، أو يكون قبل نزول آية الحجاب، فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة، وصلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة (2) .
__________
= اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية) ، ثم قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "وفي معنى ذلك الشوهاء التي لا تشتهى) اهـ. من المغني " (6/ 560) .
(1) انظر: "الصارم المشهور" ص 122، "نظرات" ص 68، "رسالة الحجاب" (ص 32) ، "فصل الخطاب" ص 96، "الحجاب" للسندي (ص 44 – 45)
(2) "رسالة الحجاب" ص 32، ولا يمتنع أن تشرع في السنة الثانية وتخرج النساء =(3/398)
وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله:
"من المعروف والمتقرر أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، ولا تتضارب، ولا يرد بعضها بعضا، لأنها من عند الله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أوتيت القرآن ومثله معه"، ولكن إذا حصل تعارض بين أحاديث الرسول فحينئذ لابد من سلوك طريق الجمع، فنقول: إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى المرأة سفعاء الخدين وأقرها، وأنها لم تكن من القواعد (1) ، فالجمع هو أن حديث جابر كان قبل الأمر بالحجاب، فيكون منسوخًا بالأدلة التي ذكرناها، وهي أكثر من أربعين دليلًا، ومن ترك الدليل، ضل السبيل، وليس على قوله تعويل" (2) اهـ.
* وقال الشيخ عبد الله بن جار الله رحمه الله:
"هذا وإن أدلة وجوب الحجاب ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم كما هو معروف عند الأصوليين، لأن مع الناقل زيادة علم، وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي" (3) اهـ.
__________
= إليها قبل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لو قلنا إنه كان في السنة السادسة، أما استدلال محدث الشام رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم "لتلبسها أختها من جلبابها" على أن المرأة السفعاء الخدين كانت مجلببة محجبة مما يؤيد أن الحادثة بعد نزول آية
الإدناء، فلا يمنع أن النساء كن يلبسن الجلباب أولا، ثم نزل الأمر بمجرد
الإدناء، بل هو ظاهر الآية كما يفهم من إضافة الجلباب إليهن في قوله (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أي الموجودة بالفعل (راجع ص 213) .
(1) وأنها لم تكن أَمَة، وقد جاء في المسند: (أنها كانت من سفلة النساء) ، وأخرجه مسلم وأبو داود والدرامي.
(2) "يا فتاة الإسلام" (ص 262-263) .
(3) "مسئولية المرأة المسلمة" ص 58، وراجع ص (378) .(3/399)
* وقال الشيخ عبد العزيز بن [راشد] النجدي رحمه الله:
"وأما حديث جابر فليس فيه أنه كان بعد نزول آيات الحجاب حتى يصلح دليلًا لما ذهب إليه مَن جوَّز كشف وجه المرأة، ولم يوجب حجبه عن الأجنبي منها باجتهاد وحسن نية، ولو علم ما جَرَّ على المسلمين وغيرهم من الإباحية والشر لما أفتى بذلك ولو ضرب بالسياط ما لم يشرف على
الهلاك، ولو طَلَب منه أو من مقلديه زائروه وأصدقاؤه أن يُحْضرَ إليهم
زوجته أو أخته أو إحدى محارمه فيْ مجلسهم عنده كاشفات الوَجوه أو محتجبات لَعَدَّ ذلك استخفافًا بحقه ودينه وسخرية منهم له، ولتسبب عن
ذلك هَجره إياهم، ومقاطعتهُ لهم مادام عنده حياءُ الإسلام، والإيمان بالكتاب.
يعلم ما ذكرنا قطعًا، ويجزم بحرمته وضرره على الرجال من لفت نظره
سفورُ النساء في الطرقات، والمجامع كالمواصلات والمحاكم والمستشفيات إذ أول ما يُطْمِعُه فيهن كشفُ وجوههن، وما إليها من عنق وشعر وصدر
تابعٌ للوجه في السفور والحجاب فعليك بالاحتياط لنفسك وعرضك لعلك تنجو من هذا الليل والفتن الجارفة، ولا تقولن: إذا أمِنَت الفتنه عند
الأجنبي منها جاز لها كشفُه ولو نظر إليها، فإن الفتن لا تؤمن على أحد مادامت الشهوة تجري في دمه، ويطمع في تفريغها ما لم يكن معصومًا من
قِبل الله بالنبوة أو تأييد إلهي، فإن لم يفتتن الناظر والمنظور بالوقوع في الفاحشة، فلن يُؤمَنَ عليها تعلقُ قلب أحدِهما بالثاني، والوقاية خير من
العلاج" (1) اهـ.
الشبهة الخامسة
* عن ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: شهدت العيدَ مع النبي صلى الله عليه وسلم؟
__________
(1) "أصول السيرة المحمدية" (ص 167) .(3/400)
قال: نعم، ولولا مكاني من الصغَر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلىَّ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجَلِّس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم، ثم أتى النساء ومعه بلال، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) فتلا هذه الآية
حتى فرغ منها، ثم قال حين فرغ منها: "أأنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة
واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله، ثم قال: "هلم لكنَّ فداكن أبي وأمي"، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه، وفي رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته" (1) .
قال ابن حزم: "فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أيديهن
فصحَّ أن اليَدَ من المرأة والوجه ليسا بعورة، وما عداهما ففرض ستره" (2) اهـ.
والجواب:
أنه ليس في الحديث ذكر الوجه بحال، فأين فيه ما يدل على أن وجه المرأة ليس بعورة؟
وفي الحديث ذكر الأيدي ولكن ليس فيه تمرير بأنها كانت مكشوفة
حتى يتم الاستدلال به على أن يد المرأة ليست بعورة.
غاية ما فيه أن ابن عباس رضي الله عنهما رآهن يهوين بأيديهن (3) ، ولم
يذكر حسرهن عن أيديهن، وإذا كان الحديث محتملًا لكل من الأمرين لم يصح الاستدلال به على أن يد المرأة ليست بعورة، فإن الدليل إذا طرقه
الاحتمال سقط به الاستدلال، والله تعالى أعلم.
__________
(1) رواه البخاري (2/ 539 - 541) ، وأبو داود (1/174) ، والبيهقي في "سننه"
(3/ 307) ، والنسائي (1/ 227) ، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 331) .
(2) "المحلى" (3/217) .
(3) ولعل صغر سنه المنوه به في صدر الحديث يقضي بأن يغتفر له حضور موعظة النساء.(3/401)
الشبهة السادسة
* عن عائشة رضي الله عنها قالت: أومت – وفي لفظ: أومأت - امرأة
من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
يده، فقال: "ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ " قالت: بل امرأة - وفي لفظ: بل يد امرأة -، قال: "لو كنتِ امرأة لغيرت أظفارك" - يعني بالحناء" (1) .
* والجواب عنه من وجهين:
أولاَ: أن في إسناده مطيعَ بن ميمون العنبري، قال في "التقريب": لين الحديث (2) ، وقال في "التهذيب": روى عن صفية بنت عصمة. . . قال ابن عدي: له حديثان غير محفوظين، قلت: أحدهما في اختضاب النساء بالحناء" والآخر في الترجل والزينة، قال: وذكر له ثالثًا، وقال: وهما جميعا غير محفوظ " (3) اهـ.
وفيه أيضا: صفية بنت عصمة، قال س الحافظ في "التقريب": لا تعرف (4) ، وقال المناوي: "رمز المصنف - أي السيوطي - لحسنه، ظاهر سكوته عليه أن مخرجه أحمد أخرجه وأقره، والأمر بخلافه فقد قال في "العلل": حديث منكر، وفي "الميزان": وعن ابن عدي أنه غير محفوظ، وقال في المعارضة: أحاديث الحناء كلها ضعيفة أو مجهولة" (5) اهـ.
وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (6) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 262) ، وأبو داود في الترجل رقم (4148) باب في
الخضاب للنساء، والنسائي (8/ 142) في الزينة باب الخضاب للنساء.
(2) "تقريب التهذيب" (2/ 255) .
(3) "تهذيب التهذيب" (10/ 183) .
(4) "التقريب " (2/603) .
(5) "فيض القدير" (5/ 330) .
(6) "ضعيف الجامع الصغير" (5/ 49) رقم (4846)(3/402)
ثانيا: وعلى فرض! صحته، ليس فيه دليل على إباحة السفور بل هو مختص بذكر اليد.
*وعن عائشة رضي الله عنها أن هند ابنة عتبة قالت: يا نبي الله بايعني، قال: "لا أبايعك حتى تغيري كفيك، كأنهما كفا سَبُع" (1) .
* والجواب عنه كسابقه، مع أن هذا ليس فيه ما يفيد أن كفيها كانتا مكشوفتين، وفي سنده غبطة بنت عمرو المجاشعية البصرية، وعمتها، وجدتها، ثلاثتهن مجهولات.
أما غبطة: فقد ذكرها الحافظ في "لسان الميزان" (2) في (فصل في النساء المجهولات) وقال في "التقريب": "مقبولة" (3) ، يعني إذا توبعت، وإلا فلَيّنة.
وأما عمتها أم الحسن: فقال في "التقريب": "لا يعرف حالها" (4) ،
وأما جدتها: فقال الذهبي في "الميزان": أم الحسن عن جدتها عن عائشة، لا يدرى من هاتان (5) .
الشبهة السابعة
* عن سهل بن سعد (6) رضي الله عنه "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت:
يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد منها شيئًا
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه رقم (4147) في الترجل، باب في الخضاب للنساء،
والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (6/ 57) ، رقم (6182) وذكر أنه ضمنه "السلسلة الضعيفة" رقم (4466) .
(2) "لسان الميزان" (7/ 528) .
(3) "التقريب" (2/ 608) .
(4) "السابق" (2/ 620) .
(5) "ميزان الاعتدال" (4/612) .
(6) كان عمره حينئذ خمسة عشر عاما.(3/403)
جلست. . ." الحديث (1) .
* والجواب من وجوه:
أحدها: ليس في الحديث أنها كانت سافرة الوجه، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها
لا يدل على سفورها، لأن تصويب النظر لا يفيد رؤية الوجه، فيمكن أن
يكون نظرة إليها لمعرفة نبلها وشرفها وكرامتها، فإن هيئة الإنسان قد تدل على ذلك،
الثاني: ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي من أنه "يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده لكنها كانت متلفعة (2) .
وسياق الحديث يبعد ما قال سيما الأخير، بل إنه يشير إلى وقوع ذلك
في أوائل الهجرة، لأن الفقر كان قد تخفف كثيرًا بعد بني قينقاع والنضير
وقريظة، ومعلوم أن نزول الحجاب كان عقب قريظة، وفي الحديث إشارة
إلى شدة فقر الرجل الذي تزوجها حتى أنه لم يكن يملك خاتما من حديد.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، ولا يقاس عليه غيره من البشر (3) .
الرابع: أنه ثبت في صحيح السنة أنه يباح للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة
لقصد الخطبة، ويباح لها النظر إليه وكشف وجهها له، وعليه فلا حجة في
الحديث على إباحة كشف الوجه لأجنبي غير خاطِب، ومن استدل به على ذلك فقد حمل الحديث على غير مَحْمله، والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري (9/ 34) ، ومسلم (4/ 143) ، والنسائي (2/ 86) ، والبيهقي
(7/ 84) - وترجم له: (باب نظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها) .
(2) "فتح الباري" (9/118) .
(3) قال الحافظ ابن حجر: والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره اهـ "الفتح" (9/210) .
وانظر "مجلة الجامعة السلفية" عدد نوفمبر، وديسمبر 1978م ص 74، 76.(3/404)
الشبهة الثامنة
حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها
* عن سُبيعة بنت الحارث أنها كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها
في حجة الوداع، وكان بدريًّا، فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته، فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلَّت (1) من نفاسها، وقد اكتحلت واختضبت وتهيأت، فقال لها: أربَعي (1) على نفسك - أو نحو
هذا - لعلك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك.
قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك،
فقال: "قد حللتِ حين وضعت" (3) .
قال الألباني: "أخرجه الإمام أحمد من طريقين عنها، أحدهما صحيح،
والآخر حسن، وأصله في "الصحيحين" وغيرهما، وفي روايتهما: "تجملت
للخطاب"، وفيها أن أبا السنابل كان خطبها فأبت أن تنكحه.
والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة، وكذا الوجه أو العينان على الأقل، وإلا لما جاز لسبيعة رضي الله عنها أن تظهر ذلك أمام أبي السنابل لاسيما وكان قد خطبها فلم
ترضه" (4) اهـ.
__________
(1) أي خرجت من نفاسها، وسلمت.
(2) أي: ارفقي.
(3) أخرجه الإمام أحمد (6/ 432) ، والبخاري في (9/414) ، ومسلم رقم
(1485) ، والترمذي رقم (1193) ، والنسائي (6/190) كلهم في كتاب
الطلاق.
(4) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 32) .(3/405)
* والجواب بمعونة الملك الوهاب:
أولا: ليس في الحديث دليل على أنها كانت سافرة الوجه حين رآها
أبو السنابل بل غاية ما فيه أنه رأى خضاب يديها وكحل عينيها، ورؤية ذلك لا يستلزم رؤية الوجه.
* قال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"والمستمسك من الحديث هو أنه عرف منها أنها كانت مكتحلة
ومخضبة، وله أن يعرف أنها كانت مكتحلة حين تكون قد لوت الجلباب
على وجهها، وأخرجت عينا كما وصف ابن عباس رضي الله عنهما فعل
المؤمنات بعد نزول آية إدناء الجلابيب" (1) اهـ.
وقد أشار الألباني في الحاشية إلى هذا الاحتمال بقوله: "والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة،
وكذلك الوجه أو العينان على الأقل" اهـ.
ثانيًا: قال الحافظ ابن حجر في الفوائد المستنبطة من قصة سبيعة: وفيه
جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها، لأن في رواية الزهري التي فى المغازي: "فقال: ما لي أراك تجملت للخُطَّاب؟ "، وفي رواية ابن
إسْحاق: "فتهيأت للنكاح، واختَضبت"، وفي رواية معمر عن الزهري
عند أحمد: "فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت"، وفي رواية الأسود: "فتطيبت وتعطرت" (2) اهـ.
ويتضح من هذا أن إظهار زينتها إنما كان للخُطَّاب، وعليه ينبغي حمل
هذه الروايات، وقد سبق ذكر جملة من النصوص في الترخيص في نظر
الخاطب إلى المخطوبة بإذنها، أو بغير إذنها، فعلم أبو السنابل بخضابها
واكتحالها، وقال لها: "ما لي أراك تجملت للخطاب"، وكان قد نظر إليها
__________
(1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 75) ، وانظر (ص 181) .
(2) "فتح الباري" (9/379) .(3/406)
مريدا خطبتها لكنها أبت أن تنكحه.
جاء في رواية البخاري أنه كان ممن خطبها، فأبت أن تنكحه، فقال لها
ما قال، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "كذب (1) أبو السنابل" رواه أحمد، وفي رواية
الموطأ: فخطبها رجلان أحدهما شاب، وكهل، فحطت إلى الشاب، فقال الكهل: "لم تحلي"، وكان أهلها غَيَبًا فرجا أن يؤثروه بها" (2) اهـ.
فأين في الحديث جواز كشف الوجه والكفين لغير الخاطب؟
ثالثا: أما استدلال محدث الشام بقصة سبيعة على أن الكفين لم يكونا عورة في عرف نساء الصحابة: فيرده ما سبق ذكره (3) مرارًا امن أدلة الكتاب والسنة وأقوال العلماء على أن عرفهن الغالب كان الاستتار
الكامل عن الرجال، ويرده كذلك قول سبيعة نفسها في رواية أخرى: "فلما قال لي ذلك - أي أبو السنابل - جمعتُ عَلَيَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. . . الحديث".
فقولها: "جمعت علي ثيابي" يوحى بأنها خرجت عن حال التزين المذكورة، وإذا ضممنا إليها قولها: "حين أمسيت" فهمنا عن سلوكها رضي الله عنها حرصها الشديد على الاستتار عن الأجانب ليس فقط بالحجاب بل أيضا بظلام الليل.
__________
(1) وقد يراد بالكذب الخطأ في الفتوى، وهو في كلام أهل الحجاز كثير، أو يراد به ظاهره من جهة أنه كان عالمَا بالقصة وأفتى بخلافه، وهذا بعيد، قال الحافظ: "وفيه أن المفتي إذا كان له ميل إلى الشيء لا ينبغي له أن يفتي فيه لئلا يحمله الميلُ
إليه على ترجيح ما هو مرجوح كما وقع لأبي السنابل حيث أفتى سبيعة أنها لا
تحل بالوضع لكونه كان خطبها فمنعته، ورجا إذا قبلت ذلك منه وانتظرت مُضي المدة حضر أهلها فرغبوها في زواجه دون غيره " اهـ (9/ 475) .
(2) "الموطأ" (2/ 589- 590) في الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا، ومعنى (حطّت إلى الشاب) : مالت إليه، ونزلت بقلبها نحوه. و (غَيَبًا) بفتح الياء جمع غائب "جامع الأصول" (8/108) .
(3) انظر ص (450) ، (474)(3/407)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"وفيه مباشرة المرأة السؤال عما ينزل بها، ولو كان مما يستحي النساء
من مثله، لكنْ خروجُها من منزلها ليلا، ليكون أستر لها كما فعلت سبيعة" (1) اهـ.
الشبهة التاسعة
* احتج المبيحون للسفور بنصوص وردت في الأمر بغض البصر على أن هذا يلزم منه أن تكون وجوه النساء مكشوفة، وإلا فعن ماذا يُغَض البصر إذا كانت النساء مستورات الوجوه؟
وذلك مثل قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)) [النور: 30] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرةَ، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة" (2) .
وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري" (3) .
فاستنبطوا من الآية القرآنية الآمرة بغض البصر أن في المرأة شيئا مكشوفًا، ثم أثبتوا- باجتهادهم- أن هذا الشيء المكشوف هو الوجه والكفان، ثم استشهدوا لذلك بالأحاديث التي فيها أيضًا أمر بغض البصر.
* والجواب بمعونة الملك الوهاب:
أن هذا الأمر بغض البصر أمر من الله سبحانه وتعالى، وأمر من
__________
(1) فتح الباري" (9/ 379) .
(2) تقدم تخريجه (ص 47) .
(3) تقدم تخريجه (ص 47) .(3/408)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بوجوب التزامه طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أما كونه يقضي بأن هناك شيئًا مكشوفا للأجانب من المرأة المسلمة هو الوجه والكفان، فهذا قول غير صحيح يرده النقل والعقل، ويأباه الواقع، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المدينة المنورة في زمن التنزيل كان فيها نساء اليهود والسبايا والإماء، ونحوهن، وربما بقي النساء غير المسلمات في المجتمع الإسلامي سافراتٍ كاشفات الوجوه، فأُمِروا بغض البصر عنهن.
وغاية ما في الأمر بغض البصر إمكان وقوع النظر على الأجنبيات، وهذا لا يستلزم جواز كشف الوجوه والأيدي أمام الأجانب.
قال البخاري رحمه الله تعالى: قال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن
نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك عنهن،
يقول الله عز وجل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) قال قتادة: عما لا يحل لهم (1) .
والأمر بالحجاب منذ اللحظة الأولى لم يتوجه لغير المؤمنات، لأنهن مظنة الاستجابة لأمر الله عز وجل، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ، [سورة الأحزاب: 36] الآية، وقال جل وعلا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)) [النور: 51] .
وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية [سورة الأحزاب: 59] ، ولم يقل (ونساء أهل المدينة) .
وقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية، وقال
__________
(1) صحيح البخاري - كتاب الاستئذان رقم 79 – "فتح الباري" (11/9) .(3/409)
سبحانه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) الآية، ولم يقل (وقل لنساء المدينة) ، لكن الأمر توجه لمن شرفهن الله تعالى بالإيمان مطلقا.
والقرآن اليوم يخاطبنا كما خاطب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من قبل، فنحن اليوم أيضا لا نخاطب الكوافر والفواسق بستر الوجه وإنما نخاطب المؤمنين والمؤمنات، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
وإذا كانت المرأة غير مسلمة، أو مسلمة اجترأت على هتك أوامر الله، وتعمدت كشف زينتها - وهذا ما عمت به البلوى في زماننا - فالواجب هنا - على الأقل – أن يؤمر الرجل بغض البصر، مع العلم بأن هذا لا
يقتضي أن ما فعلته هذه المرأة من كشف الوجه وغيره تجيزه الشريعة بغير عذر أو مصلحة.
الثاني: أن الله تبارك وتعالى أمر بغض البصر، لأن المرأة - وإن تحفظت غاية التحفظ، وبالغت في الاستتار عن الناس - فلابد أن يبدو بعض أطرافها في بعض الأحيان كما هو معلوم بالمشاهدة من اللاتي يبالغن في التحجب والتستر، فلهذا أمر الرجال بغض البصر عما يبدو منهن في بعض الأحوال.
وهذا الأمر بالغض لا يستلزم أنها تكشف ذلك عمدا وقصدا، فكم من
امرأة تحرك الريح ثيابها، أو تقع فيسقط الخمار عن وجهها من غير قصد
منها فيراها بعض الناس على تلك الحال، كما قال النابغة الذبياني:
سَقَط النصِيف ولم تُرِدْ إِسقاطه ... فَتَنَاوَلَتْهُ، وأتَّقَتْنا بالْيَدِ
أي تناولته بيدٍ، واتقتنا فسترت وجهها باليد الأخرى.
ومن هنا قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ولم يقل (إلا ما أظهرنه) لأن "أظهر" في معنى التعمد، بخلاف "ظهر" أي من غير قصد منها فهذا مَعفُوٌّ عنه، لا ما تظهره هي بقصد، فعليها حرج في تعمد
ذلك، وكثيرا ما يصادف الرجل المرأة وهي غافلة، فيرى وجهها أو غيره(3/410)
من أطرافها، فأمره الشارع حينئدِ بصرف بصره عنها كما في حديث جرير
ابن عبد الله رضي الله عنه، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري) (1) فهذا هو موقع نظر الفجأة.
وفي سؤال جرير عن نظر الفجأة دليل على مشروعية استتار النساء عن
الرجال الأجانب وتغطية وجوههن عنهم، وإلا لكان سؤاله عن نظر الفجأة لغوًا لا معنى له، ولا فائدة من ذكره.
الثالث: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة حجها، وبعث معهن
عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه،
قال: فكان عثمان ينادي: ألا لا يدنوا إليهن أحد، ولا ينظر إليهن أحد، وهن في الهوادجِ على الإبل، فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشِّعب، وكان عثمان وعبد الرحمن بذنَب الشعب، فلم يصعد إليهن أحد (2) .
ومن المقطوع به أن أمهات المؤمنين كن يحتجبن حجابًا شاملا جميع
البدن بغير استثناء، ومع هذا قال عثمان رضي الله عنه: "ولا ينظر إليهن أحد"
يعني إلى شخوصهن لا إلى وجوههن لأنها مستورة بالإجماع، ومع ذلك نهى
عن النظر إلى شخوصهن تعظيمًا لحرمتهن، وإكبارًا وإجلالًا لهن، وذلك
لشدة احترام الصحابة رضوان الله عليهم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. ويستفاد من هذا أن مِنْ حِفظ حرمة المؤمنة المحجبة غضَّ البصر عنها -
وإن تنقبت -، خاصة وأن جمالها قد يعرف، وينظر إليها -لجمالها وهي
مختمرة، وذلك لمعرفة قوامها أو نحوه، وقد يعرف وضاءتها وحسنها من مجرد رؤية بنانها كما هو معلوم، ولذلك فسَّر ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى:
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بأن الزينة هى الملاءة فوق
__________
(1) تقدم تخريجه (ص 47)
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/152)(3/411)
الثياب، ومما يوضح أن الحسن قد يعرف مع الاحتجاب الكامل قول الشاعر:
طافَتْ أُمامَةُ بالركبانِ آونَةً ... يا حُسْنَها مِن قوام ما وَمنْتَقِبا
فقد بالغ في وصف حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفا، وهو يصفها بهذا الحسن أيضا مع كونها منتقبة.
ومن ثم قال العلماء: إنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى بدن المرأة نظر شهوة ولو كانت مستورة، لأن ذلك مدعاة إلى الافتتان بها كما لا يخفى،
ووقوعه فيما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: "زنا العين"، قال صلى الله عليه وسلم: "والعينان تزنيان، وزناهما النظر" (1) .
ولا مخرج من ذلك إلا غض البصر عنها ولو كانت محجبة، لأنه إذا نظر إليها نظر شهوة - ولو كانت محجبة - لكان حرامًا عليه كما تقدم.
الرابع: أنه قد تعرض للمرأة المحجبة ضرورات بل حاجات تدعوها إلى
كشف وجهها، ويرخص لها في ذلك مثل نظر القاضي إلى المرأة عند الشهادة، والنظر إلى المرأة المشتبه فيها عند تحقيق الجرائم، ونظر الطبيب
المعالج إلى المرأة بشروطه، والنظر إلى المراد خطبتها، وهذا كله يكون بقدر
الحاجة فقط لا يجوز له أن يتعداها، فإن دعته نفسه إلى الزيادة عن قدر
الحاجة فهو مأمور بغض البصر عنها، والله أعلم.
الخامس: أن اعتبار أمر الله تعالى المؤمنين بغض الأبصار دليلا على أن
وجوه المسلمات كانت مكشوفة للأجانب مجرد وهم وظن، بدليل ترتيب
آيات الحجاب حسب نزولها، وذلك لأن الأمر بالحجاب الكامل الذي جاء في قوله عز وجل: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآية [الأحزاب: 33] .
وقوله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، انظر "شرح النووي" (6/ 206)(3/412)
ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53] .
وقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)) [الأحزاب: 59] ، كل هذه الأوامر بالحجاب إنما نزلت في
سورة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وشاع الحجاب بعدها في المجتمع المسلم بعد نزولها، وقبل الأمر بغض البصر، الذي نزل في سورة النور التي نزلت في السنة السادسة من الهجرة (1) .
ومما يدل على ذلك أيضا قول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فى قصة الإفك:
"بينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت - وفي رواية: فسترت - وجهي بجلبابي" (2) .
فهذا الحديث يؤكد أن الأمر بغض البصر الوارد في سورة النور متأخر
عن الأمر بالحجاب الذي ورد في سورة الأحزاب التي نزلت في السنة
الخامسة، ثم جاء الأمر بغض البصر في السنة السادسة بعد عام من شيوع الحجاب وامتثال المجتمع الإسلامي للأمر بالحجاب حتى صار هو
القاعدة.
ومن هنا يتضح أن استنباط البعض من الأمر بغض البصر أن وجوه النساء كانت سافرة غير صحيح، بدليل أن الأمر بالحجاب نزل أولَا،
وامتثله نساء المؤمنين، ثم نزل في السنة التي تليها الأمر بغض البصر،
__________
(1) أنظر "عمدة القاري" للعيني (20/ 223) .
(2) تقدم تخريجه.(3/413)
ولعّل الحكمة في ذلك أن الأمر بغض البصر مع بقاء الوجوه سافرة قد يشق على بعض النفوس، ولكنه مع الحجاب أيسر، ومن ثم فإن الأمر بغض البصر نزل تأكيدًا للحجاب القائم فعلًا، أي أنه - أي إطلاق البصر - لا يجوز للمرأة الأجنبية، وإن كانت محجبة سدّا للذرائع، ودرءًا
للفتنة، فتناولت الشريعة الحكيمة إخماد الفتنة وسد ذريعتها من الجانبين:
من جانب المرأة حيث كلفتها بالحجاب، ثم من جانب الرجل حيث كلفته بغض البصر.
ولقد صار الحجاب بعد نزول الأمر بغض البصر في سورة النور أصلا
من أصول النظام الاجتماعي في الدولة المسلمة، واستمر عليه المسلمون
قرونا مديدة، ولم يستطع أحد أن يشكك في وجوب التزامه، ولم يطالب
أحد ببتر جزء من هذا الحجاب خوفًا من تفريغ آية غض البصر من
مضمونها، أو تعطيلها عن مجال عملها، تالله إنها لشبهة أوْهَى من بيت العنكبوت يغني فسادها عن إفسادها.
السادس: سلمنا جدلا أن الأمر بغض البصر يُشِعر بأن هناك شيئًا مكشوفًا من المرأة هو الوجه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأمر بغض البصر يفيد تحريم النظر إلي وجه الأجنبية، ينتج أن النظر إلى الوجه المكشوف حرام.
فلننتقل إلى السؤال التالي:
كيف يكون الحكم لو شاع الفسق، وعاشت المرأة في مجتمع لا يتورع رجاله عن النظر إلى وجهها بشهوة، وأرادت هي أن لا تتسبب في حدوث هذا المنكر؟
والجواب لا يخرج عن أحد احتمالات:
الأول: أن تلزم المرأة بيتها، ولا تغادره أبدًا، ولا يخفى ما فيه من مشقة
لبعض النساء.
والثاني: أنها إذا خرجت لحاجتها تكلف كل من تمر عليه من الرجال(3/414)
بأن يغمض عينيه، حتى لا تتسبب بسفورها في معصية النظر المحرمة، ولا يخفى ما فيه.
والثالث: أنها إذا خرجت لحاجتها تغطي هي وجهها منعا لحدوث هذا المنكر الغالب على الظن وقوعه، ولا يخفى أن هذا أيسرها، والله أعلم.
ومن هنا قال بعض العلماء:
نعم، من تحققت من نظر أجنبي لها يلزم ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم (1) .
السابع: أن الأمر بغض البصر مطلق، فيشمل كل ما ينبغي أن يُغَضَّ
البصر عنه، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ولم يبين
الشيء الذي يُغَض عنه البصر، فدل على أن هذا الأمر مطلق فيشمل كل ما
ينبغي غض البصر عنه، سواء أكان ذلك عن المسلمة المحجبة حتى في حالة
احتجابها لشدة حرمتها، ودرءًا للفتنة، أو حينما يظهر شيء من بدنها عفوا
من غير قصد، أو يقصد عند الضرورة أو الحاجة الشرعية، وسواء كان
غض البصر عن الإماء المسلمات السافرات، أو عن نساء أهل الكتاب والسبايا اللائي لا يتحجبن، درءًا للفتنة بهن كذلك.
ومما ينبغي أن نلتفت إليه أن من مقاصد الأمر بغض البصر: أن لا
ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وكذلك ألا تنظر المرأة إلى عورة المرأة.
جاء في تفسير قوله تعالى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أن حفظ الفروج قسمان:
أحدهما: حفظها عن أي شيء محرم سواء المباشرة كالزنا واللواط وإتيان
الزوجة في الدبر أو المحيض وما إلى ذلك، فيكون موافقا لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7))
__________
(1) "حواشي الشرواني والعبادي" (6/ 193) .(3/415)
[المؤمنون: 5 - 7] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنا نُهينا أن تُرى عوراتنا" (1) .
وأما الثاني: فأن يحفظوها عن أن تنكشف للناس، وقد بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذلك حينما سأله معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن
استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟
قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه من الناس" (2) .
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا. "لا ينظر الرجل الى عورة الرجل، ولا
المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفْضِي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا
تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (3) .
وبين صلى الله عليه وسلم عورة الرجل الى ينبغي غض البصر عنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "الفخذ عورة" (4) .
وقوله لجرهد الأسلمي رضي الله عنه: "غط فخذك، فإن الفخذ عورة" (5) .
__________
(1) أخرجه الحاكم (3/222 - 223) ، وعنه البيهقي في الشعب، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/276) منْ حديث جبار بن صخر رضي الله عنه.
(2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة، والبيهقي وغيرهما، وصححه الحاكم والذهبي.
(3) أخرجه مسلم (1/ 183) ، والإمام أحمد (3/ 63) ، والترمذي (2/130) وقال:
"حسن غريب صحيح"، والبيهقي (7/98) ، ولابن ماجة النصف الأول منه (661) .
(4) رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الترمذي رقم (2796) في الأدب:
باب ما جاء أن الفخذ عورة، وفيه أبو يحيى القتات، وهو ضعيف.
(5) رواه البخاري في "صحيحه" تعليقَا (1/570) ، وضعفه في تاريخه للاضطراب في سنده، ورواه أبو داود رقم (1014) في الحمام: باب النهي عن التعري، والترمذي رقم (2799) في الأدب: باب ما جاء أن الفخذ عورة، وحسنه،
وابن حبان، وصححه، والإمام أحمد في "المسند" (3/478) ، وقال البخاري: =(3/416)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين السرة والركبة عورة" (1) .
فإذا تبين لك أن هذه المقاصد كلها تندرج تحت الأمر بغض البصر تبين لك فساد قول السفوريين، وجواب تساؤلهم:
ما معنى الأمر بغض البصر إذا لم تكن وجوه النساء مكشوفة؟
والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
الشبهة العاشرة
* وهي ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلْفه على
عَجُزِ راحلته، وكان الفضل رجلًا وضيئَا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس
يُفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنُها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها،
فأخلف (2) بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدَّل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدْرَكَت أبي شيخا كبيرَا لا
يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال:
"نعم" (3) .
وفي رواية لعلي بن أبي طالب قال: ولوى عنق الفضل، فقال له
__________
= "حديث أنس أسند، وحديث جَرْهَد أحوط، حتى نخرج من اختلافهم" اهـ.
وانظر "إرواء الغليل" (1/ 298) .
(1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في سننه، والدارقطني في "سننه"، من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا.
(2) أي أدار وجه الفضل عنها بيده الشريفة من خلف الفضل.
(3) أخرجه البخاري (3/ 422) ، (4/ 80) ، (11/10) واللفظ له، ومسلم (4/101) ، وأبو داود (1/286) ، والنسائي (2/ 5) ، وابن ماجه (2/314) ،
ومالك (1/309) .(3/417)
العباس: يا رسول الله لمَ لويت عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شابًّا وشابة
فلم آمن الشيطان عليهمَا" (1) .
* تنوعت أجوبة العلماء عن هذا الحديث نذكر بعضها فيما يلي إن شاء الله:
* قال الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي:
قلت: لا حجة في الحديث للذين يقولون بجواز كشف الوجه والكفين
لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على الفضل بن عباس إنكارًا باتا بأن لوى عنقه وصرفه إلى
جهة أخرى، وكان في هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار واضح لأنه
أنكر باليد (2) .
وقال الحافظ في "الفتح" مشيرًا إلى هذا الحديث:
"ويقرب ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى بإسناد قوي من طريق سعيد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان
يلبي حتى رمى جمرة العقبة" ثم قال الحافظ: فعلى قول الشابة: إن أبي،
لعلها أرادت جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوجها (3) .
ثم قال الحافظ وفي الحديث: منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر،
__________
(1) رواه الترمذي رقم (885) في الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف وقال:
(حسن صحيح) ، وأبو داود رقم (1735) في المناسك: باب الصلاة بجمع، والإمام أحمد (1/ 76) .
(2) "رسالة الحجاب" (ص 35) .
(3) "فتح الباري" (4/ 82) .(3/418)
وقال عياض: "وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال:
وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم غطى وجه الفضل أبلغ من القول، ثم قال: لعل
الفضل لم ينظر نظرا ينكر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب" اهـ.
ثم قال الحافظ: روى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطى وجهه: "هذا يوم مَن ملك فيه سمعه
وبصره، ولسانه غفر له" (1) اهـ.
* وقال الشيخ صالح بن فوزان أثناء رده على الدكتور يوسف القرضاوي:
وأما استدلال المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة
بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف
ما يقول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك، بل صرف وجهه، وكيف يمنعه من شيء مباح! (2)
قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: "منها تحريم النظر
إلى الأجنبية، ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه" (3) .
وقال العلامة ابن القيم: "وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزًا لأقره عليه" (4) اهـ.
وقال الدكتور البوطي معلقًا على نفس الحديث: "قالوا: فلولا أن وجهها عورة لا يجوز نظر الرجل الأجنبي إليه لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
__________
(1) "السابق" (4/ 70) .
(2) "الإعلام" ص (69) .
(3) "شرح النووي لصحيح مسلم" (9/98) .
(4) "روضة المحبين" (ص 102) .(3/419)
بالفضل، أما المرأة ذاتها فقد كان عذرها في كشفه أنها كانت محرمة بالحج" (1) اهـ.
* وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الحديث:
قالوا: فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة
عن وجهها.
وأجيب عن ذلك أيضَا من وجهين:
الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه، وأقرها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة، وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها.
إلى أن قال رحمه الله: ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت
لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها، ومما يوضح هذا أن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة، ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قَدَّمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله (2) ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل، وهو لم يقل له: إنها كانت كاشفة عن وجهها، واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها
من غير قصد منها، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها.
__________
(1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 40) .
(2) ثبت في "الصحيحين" و "المسند" و "السنن".(3/420)
فإن قيل: قوله إنها وضيئة، وترتيِبه على ذلك بالفاء قوله: "فطفق الفضل ينظر إليها"، وقوله: "وأعجبه حسنها" فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها وينظر إليه لإعجابه بحسنه.
فالجواب: أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما لا ينفك أنها كانت كاشفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها وأقرها لما ذكرنا من أنواع الاحتمال، مع أن
جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدِّها وقوامها، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم، ولذلك فسر ابن مسعود، (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالملاءة فوق الثياب كما تقدم.
ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر:
طافت أمامة بالركبان آونة ... يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفَا.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة، وإحرام المرأة في وجهها وكفيها، فعليها
كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها (1) ، وعليها ستره عن الرجال في الإحرام كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
وغيرهن، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل
ابن عباس رضي الله عنهما (2) ، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها،
__________
(1) انظر: "عارضة الأحوذي" (4/ 56) المسألتان الرابعة عشرة، والخامسة عشرة.
(2) الذين شاهدوا قصة الفضل والخثعمية لم يذكروا حسن المرأة ووضاءتها ولم يذكروا أنها كانت كاشفة عن وجهها - كما في حديث علي بن أبي طالب، وفيه قول العباس (يا رسول الله لمَ لويت عنق ابن عمك؟) وكذا حديث جابر في صحيح مسلم في الحج وفيه (فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظُعُن يَجرين فطفق
الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على =(3/421)
وبذلك يعْلم أنها محرمة لم ينظر إليها فكشفها عن وجهها إذًا لإحرامها لا
لجواز السفور (1) .
فإن قيل: كونها مع الحجاج مظنة أن يرى الرجال وجهها إن كانت سافرة لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج، لا تخلو ممن ينظر إلى
وجهها من الرجال.
فالجواب: أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى
النساء، فلا مانع عقلًا ولا شرعًا ولا عادة من كونها لم ينظر إليها أحد
منهم، ولو نظر إليها لحكى كما حكى نظر الفضل إليها، ويفهم من صرف
النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة كما ترى، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم.
وبالجملة فإن النصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال،
والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشرية وداعٍ إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك؟ ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عجيب (2)
__________
= وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر) .
(1) وقد استدل ابن بطال بحديث الخثعمية على أن ستر وجه المرأة ليس بفرض، ثم
قال: (لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء) ، غير أن الحافظ تعقبه بقوله: (وفي استدلاله بقصة الخثعمية لِما ادعاه نظر، لأنها
كانت محرمة) اهـ من "الفتح" (11/ 12) .
(2) "أضواء البيان" (6/599 - 602) .(3/422)
* وقد قال الألباني في هذا الحديث:
والحديث يدل على ما دل عليه الذيَ قبله من أن الوجه ليس بعورة،
لأنه كما قال ابن حزم: لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرَّها على كشفه
بحضرة الناس ولأمرها أن تسبل عليه من فوق؛ ولو كان وجهها مغطى ما
عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء (1) .
* قال الشيخ حمود التويجري:
وأما قول ابن حزم: "لو كان وجهها مغطى ما عرف ابنُ عباس أحسناءُ
هي أم شوهاء" فجوابه: أن يقال: إن عبد الله بن عباس لم يشهد قصة
الخثعمية (2) ولم يَرَ وجهها، وإنما حدثه بحديثها أخوه الفضل بن عباس رضي الله عنهما.
ثم قال: وإن كان الفضل قد رأى وجهها فرؤيته له لا تدل على أنها كانت مستديمة لكشفه، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها سافرة بوجهها وأقرها
على ذلك، وكثيرًا ما ينكشف وجه التحجبة بغير قصد منها، إما بسبب اشتغال بشيء أو بسبب ريح شديدة أو لغير ذلك من الأسباب فيرى
وجهها من كان حاضرَا عندها، وهذا أولى ما حُملت عليه قصة الخثعمية،
والله أعلم (3) اهـ.
* وقريب من هذه الأجوبة ما أجاب به فضيلة الشيخ عبد العزيز بن
راشد النجدي حيث قال رحمه الله:
__________
(1) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 27) .
(2) وقد أشار الحافظ في "الفتح" إلى احتمال شهود ابن عباس القصة، فقال:
(ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن
عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده) إلخ، (4/80) .
(3) "الصارم المشهور" (ص 139- 140) .(3/423)
قلت: أما حديث ابن عباس فليس فيه أن الخثعمية كانت كاشفة وجهها نصا، ومن زعم ذلك فقد أقحم فيه ما ليس في لفظه، وإنما فيه أنها وضيئة وحسناء، والوضاءة والحسن: البياض والجمال مطلقا وهو لا يختص
بعضو دون آخر، كما يصدق هذا النعت والوصف على كل عضو على
انفراده من أعضائها، ومن الجائز أن الفضل لما رأى بياض وجمال بعض
ما بدا منها، بغلبته لها واضطرارها لإظهاره، كسائر النساء إذا ركبن
الدواب أعجبه لشدة بياضه وحسنه.
وقال رحمه الله: ويحتمل أنها كانت كاشفة وجهها أمام الناس، فسكت عنها النبي كسكوته عن الكلام مع الفضل، مكتفيًا بتحويل وجهه عن
النظر إليها لقربه منه، ولم ينكر عليها لحداثة عهدها بالإسلام، كما سكت
عن المرأة التي بايعت على الإسلام وشرط عليها ألا تنوح على ميت،
فقالت: فلانة أسعدتني، وأنا أريد أن أجزيها، فما قال لها شيئَا، ولا أنكر عليها ولا أبى عن مبايعتها لعلمه أنها إذا تمكن الإيمان من قلبها لابد أن
تنقاد لأوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتُحرم النياحة.
وقال: "واحتمال آخر قريب هو أن البدويات ومن لم يتعودن ركوب الدواب ولا الأسفار إلا قليلا، يعرض لهن ما يضطرهن إلى كشف بعض ما وجب ستره عليهن، وما اعتدن أن يحجبنه عن الأجنبي" (1) اهـ.
* وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله:
"هذا هو النص الذي كثيرًا ما يتوكأ عليه من يتصدى لشق ستور النساء
من علماء هذا الزمان، يتوكأ عليه لإقامة الحجة على جواز السفور، مع أن
هذا الاستدلال لا يتمشى على طريقة الفقهاء المحدثين، فهي واقعة حال لا
عموم لها، يتطرق إليها من الاحتمالات ما لا يتركها كمصدر للدليل،
__________
(1) "أصول السيرة المحمدية" (ص 165 -166)(3/424)
فمعلوم أن كشفها عن وجهها كان لأجل الإحرام (1) لا لجواز السفور، ثم
يحتمل أن تلك المرأة كانت راكبة فكانت تحتاج إلى كشف وجهها للتثبت
على راحلتها والتمكن عن ظهرها وزمامها، أو التجأت إلى ذلك لازدحام الحجيج وإيابهم وذهابهم فكان ما انكشف منها من قبيل (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، أو تعمدت من كشف وجهها أن يراها النبي صلى الله عليه وسلم شابة وضيئة حسناء فلعله يميل إلى التزوج بها، أو كشفت وجهها لأنها علمت أنها بمأمن من نظر الرجال.
ويستأنس لذلك أن الراوي ذكر نظر الفضل إليها ولم يذكر نظر أحد
غيره إليها، فلو نظر إليها أحد غيره، لحكى ذلك كما حكى نظر الفضل
إليها، ولما صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لم يبق أحد ينظر إليها حتى
تحتاج إلى ستر الوجه وتؤمر به.
ويفهم من صرف نظر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة، وأن وجه المرأة هو مصدر الفتن ومزلة
الأقدام، فمن شاء فليفتح بابها، ومن شاء فليغلق.
__________
(1) والدفع بأن المرأة كانت محرمة فيه نظر، وذلك بالنظر إلى ما تقدم تحقيقه (ص
303 - 306) من أن المرأة لا تمنع من تغطية الوجه والكفين، وأن الذي تمنع منه
هو النقاب والقفازان، واختلف في المكان الذي وقعت فيه الحادثة، ففي رواية
ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري: (ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى) ، فأفاد أنها كانت محرمة، لكن يرد عليه ما أشرنا إليه آنفَا، وفي قصة أخرى
رواها علي رضي الله عنه التصريح بأنها وقعت في منى عند المنحر، وبعد رمي جمرة العقبة
كما في "المسند" (1/75 - 76) ، ومع ذلك يجيب عنها من يرى كشف الوجه
والكفين حال الإحرام بقولهم: لو صح أنه وقع عند المنحر، فلا يلزم منه أنها
تحللت، حتى لو كانت قد رمت جمرة العقبة، وحتى لو كانت قد نحرت، فقد رفع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرج عمَن قدم أو أخر شيئَا من أعمال يوم النحر، والله أعلم.
وانظر "فتح الباري" (4/ 80-84) .(3/425)
والحاصل أن كل ما قدمنا من النصوص الدالة على وجوب الحجاب من الكتاب والسنة هي أصول وقوانين كلية، وهذه واقعة عين، وقد علمت ما فيها من الاحتمالات، فهي لا تصلح لمقاومة تلك النصوص، ولا يترك القانون الكلي في مقابلة واقعة عين مثل هذه" (1) اهـ.
الشبهة الحادية عشرة
* عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر مُتَلَفِّعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين
يقضين الصلاة، لا يعرفُهن أحد عن الغَلَس".
وفي رواية: ثم ينقلبن إلى بيوتهن، وما يُعْرَفن من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالصلاة، وفي رواية للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح
بِغَلَسٍ، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يُعْرَفْنَ من الغلس، ولا يعرف بعضهن بعضا (2) .
قال الأصمعي: التلفع: أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك، وقال
الجوهري: تلفعت المرأة بمرطها أي تلحفت به، وكذا قال ابن الأثير،
وزاد: وتغطت، قال: واللفاعُ: الثوب يُتغطى به، قال الجوهري: وتلفع
الرجل بالثوب والشجرُ بالورق إذا اشتمل به وتغطى.
__________
(1) "مجلة الجامعة السلفية"، وانظر هامش (ص 409- 410) .
(2) رواه البخاري (2/65) في مواقيت الصلاة: باب وقت الفجر، وفي الصلاة في
الثياب: باب في كم تصلي المرأة من الثياب، وفي صفة الصلاة: باب خروج
النساء إلى المساجد بالليل والغلس، وباب سرعة انصراف النساء من الصبح،
وقلة مقامهن في المسجد، ومسلم رقم (645) في المساجد: باب استحباب
التكبير بالصبح في أول وقتها، والموطأ (1/ 5) في وقوت الصلاة: باب وقوت
الصلاة، وأبو داود رقم (423) في الصلاة: باب وقت الصبح، والترمذي رقم
(153) في الصلاة: باب في التغليس في الفجر، والنسائي (1/271)
المواقيت: باب التغليس في الحضر(3/426)
* قال التويجري:
"وهذا الحديث يدل على أن نساء الصحابة كن يغطين وجوههن، ويستترن عن نظر الرجال الأجانب، حتى إنهن من شدة مبالغتهن في التستر
وتغطية الوجوه لا يَعْرِفُ بعضهُن بعضَا، ولو كُنَ يكشفن وجوههن لعرف
بعضهُن بعضا كما كان الرجال يعرفُ بَعضهم بعضَا، قال أبو بَرْزَة رضي الله عنه: "وكان - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ينفتل من صلاة الغداة حين يعرفُ الرجل جليسه" (1) .
قال الداودي في قوله "ما يعرفن من الغَلَس" معناه: لا يعرفْن أنساء أم
رجال؟ أي لا يظهر للرائي إلا الأشباح خاصَّة.
وقيل: لا يُعْرَفُ أعيانهن، فلا يُفَرَّقُ بين خديجة وزينب - قال النووي: وهذا ضعيف لأن المتلفعة في النهار لا يُعْرف عينُها فلا يبقى في الكلام فائدة (2)
__________
(1) رواه البخاري (2/ 33) في مواقيت الصلاة: باب وقت العصر، وباب القراءة
في الفجر، ومسلم رقم (647) في المساجد: باب استحباب التبكير بالصبح في
أول وقتها، وأبو داود رقم (398) في الصلاة: باب وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
والنسائي (1/ 246) في المواقيت: باب أول وقت الظهر، وباب ما يستحب من
تأخير العشاء.
(2) قال العيني رحمه الله بعد حكاية كلام النووي: (ورُدَّ بأن المعرفة إنما تتعلق
بالأعيان، فلو كان المراد غيرها لنفى الرؤية بالعلم، وقال بعضهم: "وما ذكره
من أن المتلفعة بالنهار لا يعرف عينها فيه نظر، لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة
الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مغطى" انتهى، قلت: هذا غير موجه، لأن
الرائي من أين يعرف هيئة كل امرأة حين كن مغطيات، والرجل لا يعرف هيئة
امرأته إذا كانت بين المغطيات إلا بدليل من الخارج، وقال الباجي: "وهذا يدل
على أنهن كن سافرات إذ لو كن منقبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهن لا
الغلس" قوله "من الغلس " كلمة "من" ابتدائية، ويجوز أن تكون تعليلية،
والغَلس بفتحتين: آخر الليل، ولا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث أبي =(3/427)
وقول النووي هذا مع ما تقدم عن أئمة اللغة في تفسير التلفع يؤيد ما ذكرتُه من مبالغة نساء الصحابة رضي الله عنهم في التستر وتغطية وجوههن عن الرجال الأجانب، ويؤيد هذا ما تقدم (1) عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت نساء الأنصار وفضلهن، وأنهن لما أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قامت كل امرأة منهن إلى مِرْطها فاعتجرت به،
فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجراتِ كان على رؤوسهن الغربان، رواه
ابن أبي حاتم - وقد تقدم تفسير الاعتجار وأنه لف الخمار على الرأس مع تغطية الوجه" (2) اهـ.
* قال بدر الدين العيني رحمه الله:
ثم عدم معرفتهن يحتمل أن يكون لبقاء ظلمة من الليل، أو لتغطيتهن بالمروط غاية التغطي، وقيل: معنى "ما يعرفهن أحد" يعني ما يعرف أعيانهن، وهذا بعيد، والأوجه فيه أن يقال: "ما يعرفهن أحد" أي: نساء هم أم رجال، وإنما يظهر للرائي الأشباح خاصة" (3) اهـ.
وقال في موضع آخر: "قوله "متلفعات" حال، أي متلحفات من التلفع، وهو شد اللفاع، وهو ما يغطي الوجه، ويتلحف به" (4) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
"وهذا الحديث أيضَا ليس فيه دلالة على كشف الوجه مطلقًا، وحينما
__________
= برزة الذي مضى من أنه كان ينصرف حين يعرف الرجل جليسه، لأنه إخبار
عن رؤية جليسه، وهذا إخبار عن رؤية النساء من البعد) اهـ. من "عمدة القاري
شرح صحيح البخاري" (6/ 74- 75) .
(1) انظر ص (314) .
(2) "الصارم المشهور" ص (85-87) .
(3) "عمدة القاري" (4/ 90) .
(4) "السابق" (6/ 74) .(3/428)
تكون المرأة في ظلمة لا تعرف فيها، فلا جناح عليها في كشف وجهها،
لأن المقصود من لزوم التخمير هو عدم تمييز محاسن الوجه، وهذا
ظاهر" (1) اهـ.
الشبهة الثانية عشرة
* قول بعضهم: "إن الدين يسر" وإباحة السفور مصلحة تقتضيها مشقة
التزام الحجاب في عصرنا.
والجواب من وجوه:
أولا:
تقرير خاصة اليسير ورفع الحرج في الدين عن المسلمين بأدلة القرآن والسنة:
قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78] .
وقال سبحانه: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)) [النساء: 27، 28] .
وقال عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] .
وقال جل وعلا: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] .
وقال تبارك وتعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ (2) حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 72) .
(2) أي يشق عليه، ويعنته، ويحرجه كل أمر يشق على أمته، ويعنتها، أو يحرجها، وهو حريص على أمته، حريص على جلب المصالح لها، ودفع المفاسد والمساوئ
عنها، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا.(3/429)
رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)) [التوبة: 128]
وقال في صفته في التوراة والإنجيل: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157] .
فهذه الآيات صريحة في التزام مبدأ التخفيف والتيسير على الناس في
أحكام الشرع، قال الشاطبي رحمه الله تعالى: إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع (1) .
* أما السنة القولية:
فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة" (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحد إلا غلبه،
فسددوا وقاربوا، وأبشروا" (3) .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذًا إلى
اليمن، فقال: "ادعُوا الناسَ، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (4) .
__________
(1) الموافقات (1/340) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/266) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله
عنهما، ومن حديث أبي أمامة رضي الله عنه، والديلمي في "مسند الفردوس" من حديث
عائشة رضي الله عنها - انظر "كشف الخفا" ص (251) .
(3) رواه البخاري (1/ 116) في الإيمان: باب الدين يسر، وفي الرقاق (11/
300) ، باب القصد في المداومة على العمل، والنسائي (8/121 - 122) في
الإيمان، باب الدين يسر.
(4) رواه البخاري (7/657 – 658) في المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى
اليمن، وفي الجهاد، وفي الأدب، والأحكام، والأحكام، ومسلم رقم (1733) في الجهاد،
باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، وفي الأشربة، وأبو داود رقم (3684) في
الأشربة باب النهي عن المسكر، والنسائي (8/298، 299، 300) في
الأشربة، باب تحريك كل شراب أسكر.(3/430)
وقال للصحابة في حادثة الأعرابي الذي بال في المسجد: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا" (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "خير دينكم أيسره" (3) .
* وأما سنته الفعلية صلى الله عليه وسلم:
فـ "ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن
إثما، فإن كان إثما، كان أبعدَ الناس منه" (4) الحديث.
أضف إلى ذلك ما ثبت من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ثم إجماع علماء الأمة على عدم وقوع المشقة غير المألوفة في التكاليف
الشرعية.
والحاصل: أن الشارع لا يقصد أبدًا إعنات المكلفين أو تكليفهم ما لا
__________
(1) البخاري (1/386) في الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، وأبو داود رقم (380) في الطهارة، باب الأرض يصيبها البول، والترمذي رقم
(147) في الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، والنسائي (1/48،
49) في الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء.
(2) رواه البخاري (1/196) في العلم من حديث أنس رضي الله عنه، ومسلم رقم (1732) في الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، وأبو داود رقم (4835) في الأدب، باب في كراهية المراء.
(3) رواه الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" والطبراني في "الكبير" عن محجن
ابن الأدرع، والطبراني في "الكبير" أيضا عن عمران بن حصين، وفي
"الأوسط"، وابن عدي، والضياء عن أنس، قال الزين العراقي: "سنده جيد"، ورمز له السيوطي بالصحة - انظر "فيض القدير" (3/ 486) .
(4) رواه البخاري (10/541) في الأنبياء، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأدب،
والحدود، والمحاربين، ومسلم (رقم 2327) في الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم
للآثام، والموطأ (2/903) في حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق،
وأبو داود رقم (4785) في الأدب، باب في التجاوز في الأمر.(3/431)
تطيقه أنفسهم، فكل ما ثبت أنه تكليف من الله للعباد فهو داخل في مقدورهم وطاقتهم.
ثانيا:
أما دعوى أن إباحة السفور مصلحة معتبرة نظرَا لمشقة التزام الحجاب
خصوصا في البلاد التي شاع فيها التبرج والانحلال، وحتى لا يرمى
الإسلام بالتشدد، والمسلمون بالتطرف.
فنبين فيما يلي - إن شاء الله - ضوابط المصلحة الشرعية، وعلاقة
التكليف بالمشقة.
يقول الوضعيون: (حيثما وجدت المصلحة فثم وجه الله) ، إما الأصوليون فيصدق على منهجهم أنه (حيثما وجد الشرع فثمة مصلحة العباد) .
وحتى نفرق بين المنهجين، ونميز بين من أسلم وجهه لله، ومن أسلم
نفسه للهوى نحدد ما هي:
ضوابط المصلحة الشرعية
الأول: اندراجها في مقاصد الشرع - وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال -، فكل ما يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة.
الثاني: عدم معارضتها للقرآن الكريم، وذلك لأن معرفة مقاصد
الشريعة إنما تم استنادًا إلى الأحكام الشرعية المنبثقة من أدلتها التفصيلية،
والأدلة كلها راجعة إلى الكتاب، فلو عارضت المصلحة كتاب الله لاستلزم
ذلك أن يعارض المدلول دليله، وهو باطل.
قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة: 49] ، وقال جل وعلا: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ(3/432)
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء: 59] الآية.
الثالث: عدم معارضتها للسنة، وإلا اعتبرت رأيا مذموما، وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم تواصيهم باجتناب الرأي في الدين.
قال عمر رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن:
أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واسْتَحْيَوْا حين سُئِلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم.
الرابع: عدم معارضتها القياسَ الصحيح".
الخامس: عدم تفويتها مصلحة أهم منها، أو مساوية لها.
وإذا أحسنا تطبيق هذه الضوابط لى مسألتنا فلن نشك أن هذه
"المصلحة" الموهومة غير معتبرة لمنافاتها هذه الضوابط.
ثالثًا:
فإذا كان لابد للمصلحة من أن تنضبط بكل ما ذكرنا، فما معنى قولهم
إذن: المشقة تجلب التيسير؟
وقولهم: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان؟ (1)
والجواب: أنه ليس بين هاتين القاعدتين وبين الضوابط آنفة الذكر أي
تعارض، بل هما منسجمتان معها موافقتان لها.
أما الأولى وهي أن:
"المشقة تجلب التيسير"
فمعناها أن المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب
شرعي صحيح للتخفيف فيه بوجهٍ ما.
لكن ينبغي أن لا تفهم هذه القاعدة على وجه يتناقض مع الضوابط السابقة للمصلحة، فلابد للتخفيف أن لا يكون مخالفًا لكتاب ولا سنة ولا
__________
(1) ويأتي - بإذن الله - توضيح هذه القاعدة ص (442) .(3/433)
قياس صحيح ولا مصلحة راجحة.
ومن المصالح ما نص على حكمه الكتاب والسنة، كالعبادات والعقود
والمعاملات، وهذا القسم لم يقتصر نص الشارع فيه على العزائم فقط، بل ما من حكم أحكام العبادات والمعاملات إلا وقد شرع إلى جانبه سبل التيسير فيه:
كالصلاة شرعت أركانها وأحكامها الأساسية، وشرع إلى جانبها أحكام ميسرة لأدائها عند لحوق المشقة كالجمع والقصر والصلاة من جلوس، وكالصوم شرع إلى جانب أحكامه الأساسية رخصة الفطر بالسفر
والمرض، وكالطهارة من النجاسات في الصلاة شرع معها رخصة العفو
عما يشق الاحتراز منه، وحرم الله عز وجل أخذ مال الغير، وأرخص
للمضطر أن يأخذ قدر ضرورته منه.
وأوجب الله سبحانه وتعالى الحجاب على المرأة، ثم نهى عن النظر إلى
الأجنبية، وأرخص في كشف الوجه والنظر إليه عند الخطبة، والعلاج،
والتقاضي، والتعليم، والمعاملة، والإشهاد.
إذن فليس في التيسير الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في مقابلة عزائم أحكامه ما يخل بالوفاق مع ضوابط المصلحة، ومعلوم أنه لا يجوز
الاستزادة في التخفيف على ما ورد به النص، كأن يقال: إن مشقة الحرب بالنسبة للجنود تقتضي وضع الصلاة عنهم أو تأخيرها إلى القضاء فيما
بعد أو كأن يقال: إن مشقة التحرز عن الربا في هذا العصر تقتضي جواز التعامل به أو كأن يقال: إن مشقة التزام الحجاب في بعض المجتمعات
تقتضي أن يباح للمرأة التبرج مثلا بدعوى عموم البلوى به
قال ابن نجيم: المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما
مع النص بخلافه، فلا يجوز التخفيف بالمشقة (1) .
__________
(1) "الأشباه والنظائر" (1/117) ، "رسائل ابن عابدين" (2/120) .(3/434)
ومما ينبغي توضيحه أن المشقة نوعان:
الأول: مشقة معتادة مألوفة: وهي التي يستطيع الإنسان تحملها دون
إلحاق ضرر به، فهذه المشقة غير مرفوعة عنا، ولا تنفك عنها العبادة
غالبا، لأن كل عمل في الحياة لا يخلو عن مشقة، بل إن معنى التكليف -
وهو (طلب ما فيه كلفة ومشقة) - لا يتحقق إلا بها، غير أنها محتملة تتلاءم
مع طاقة الإنسان العادية، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] .
* قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"إن كانت المشقة مشقة تعب، فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب،
ولا راحة لمن لا تعب له، بل على قدر التعب تكون الراحة (1) .
ورُبَّ حكم شرعي جُلُّ مصلحته مرتبط بما فيه من المشقة والجهد
كالقصاص والحدود، فمثل هذه المشقة لا أثر لها في التيسير والتخفيف،
وإنما المشقة التي أنيط بها ذلك هو ما كان فوق الحد المعتاد بسبب طارئ".
* قال العز بن عبد السلام رحمه الله:
المشاق ضربان: أحدهما مشقة لا تنفك العبادة عنها، كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات (2) ، وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد،
ولاسيما صلاة الفجر، وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار،
وكمشقة الحج التي لا انفكاك عنها غالبًا، وكمشقة الاجتهاد في طلب
العلم والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على
الجناة، ولاسيما في حق الآباء والأمهات والبنين والبنات، فإن في ذلك
مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرقة والمرحمة بها
__________
(1) "إعلام الموقعين" (2/ 112)
(2) السبرات: جمع سبرة وهي شدة البرد.(3/435)
للسراق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب والبنين والبنات.
ثم قال رحمه الله:
"فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات، ولا في
تخفيفها، لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات، في جميع
الأوقات، أو في غالب الأوقات، ولفات ما رتب عليها من المثوبات
الباقيات، مادامت السماوات والأرض (1) .
وهذه المشقة - وإن كانت سببَا للثواب والأجر - إلا أنها ليست هي المقصودة أصلا للشارع من الأفعال التي كلفنا بها (2) ، وأنما المقصود هو المصالح المترتبة عليها.
الشبهة الثالثة عشرة
هل يلحق إظهار الوجه بما يكشف بدعوى
عموم البلوى بكشفه؟
* أجاب عن هذا الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله فقال:
__________
(1) "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/7) .
(2) وعليه فلا ينبغي أن نقصد في أعمالنا المشقات ونتحرى الاستزادة منها، ظانين أن وراء ذلك الأجر العظيم، وأن الثواب على قدر المشقة، فهذا يخالف قصد الشارع، فمن ترك طريقًا معبدَا إلى المسجد، وسلك طريقا آخر فيه عقبات يبتغي بذلك زيادة الأجر، فقد أخطأ القصد، ولا ثواب له، قال صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا، أخرجه مسلم رقم (2670) في العلم، باب "هلك المتنطعون"، وأبو داود رقم (4608) في السنة، باب في لزوم السنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "اكفلوا من الأعمال ما تطيقون" رواه البخاري في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، ومسلم في الصلاة رقم (782) ، والنسائي (3/
218) في صلاة الليل، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل.(3/436)
"لا يصح هذا لأمور:
أولاً: أنه لا حاجة تدفع إلى كشفه كالمذكورات، ويمكنها أن تحجب ما
سوى العينين في طريقها دائمًا كما تشهد التجارب عند كل من أوجب ستره، كما أنها مستغنية عن إبدائه.
ثانيا: أنه أزين شيء في المرأة، وأجمل ما يدعو إليها، ويغري بها، وهذا معترف به عند جميع الناس ممن يدين بالحجاب، ومن لا يدين به.
ثالثا: أن كشفه أكبر مثير لشهوة الناظرين إليه من الرجال ما لم يكونوا من محارمها، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه منها، لأن حسنه يحمل على الرغبة فيها، كما يمنع قبحه عنها، وإن إدامة النظر إليه هي بريد الزنا،
وانتهاك الأعراض، ووسيلة إلى اختلاط الأنساب وفشو الفواحش، وما
ينتج عنه من أمراض وسفك دماء عند ذوي الغيرة.
رابعا: أن من حكمة التشريع الإلهي وكذلك البشري العمل على تقليل
الشر بمنع وسائله، وتكثير الخير بتقريب أسبابه وتسهيلها على طالبيه.
خامسا: أنه قد لُمِس وشوهد عيانا أن الفجور المتفشي في الأمم اليوم، وقبل الأيام الحاضرة، أول أساس له كشف وجوه النساء عند غير
محارمهن، وذلك أنه إذا كشفته زال عنها الحياء، الذى هو أكبر حصن
عليها لعفتها، وسياج عن الرجال إليها، وحينئذ تجترئ على مخاطبة
الرجال، وتأنس من الدنو من فلان وعلان، ويطمع فيها كل فاجر يتمكن
من الاتصال بها للين حديثها، وارتفاع الخفر عنها كما تيقن هذا من لم
يغلب هواه على عقله ودينه وفطرته، ويصدقه التجارب عند جميع أجناس
البشر في كل زمان" (1) اهـ.
* وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:
__________
(1) "أصول السيرة المحمدية" (ص 163-164) .(3/437)
"وعلى هذا فلم يكن هذا التقليد (1) الذي يخالف السنة مبيحًا لما ثبت من
المنهيات الشرعية، وأخذت به الأمة الإسلامية، فالبلوى لها حكمها،
والمجتمعات لها أحكامها، لأن البلوى لا تبيح محرما في نفس الأمر، كما
لا تبيحه عادات المجتمعات، ولا ينقلب الحرام مباحًا بتغير الزمان
والمكان.
إن الفتنة هي قاعدة من قواعد التحريم، فلو قلنا بانتفاء الفتنة عمن
كانت في "لندن" مثلا، بحيث إن السفور هو العادة المتبعة، وربما تنتفي
الفتنة غالبًا، فهل يقال: إن هذا السفور مباح للمرأة المسلمة؟
نقول: لا يكون السفور مباحًا، لأنه لا يجوز لها أن تكشف وجهها للرجال الأجانب لعموم النص، ولو انتفت الفتنة غالبا رغم أنه قد
يكون من الصعب عليها أن تكون غير سافرة هناك، وربما كان التستر شهرة تلفت أنظار المجتمع بأسره، وكل ذلك لا يكون عذرا لإبداء وجهها" (2) اهـ.
الشبهة الرابعة عشرة
هل إباحة السفور من الرفق بالنساء؟
* استدل بعضهم - إلى جانب الأحاديث المشيرة إلى يسر الإسلام وسماحته – بقوله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرا" (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "رفقًا
__________
(1) يقصد هنا - كما يعلم من السياق - ما عمت به البلوى من حلق الرجال لحاهم تقليدا للإفرنج،
(2) "نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة" للألباني (ص 35 - 36) .
(3) رواه البخاري (9/ 160- 161) في النكاح، باب المداراة مع النساء، وفي
الأنبياء، وفي الأدب، والرقاق، ومسلم رقم (1468) في الرضاع، باب الوصية
بالنساء، والترمذي رقم (1188) في الطلاق، باب ما جاء في مداراة النساء.(3/438)
بالقوارير" (1) ، على أن هذه النصوص تقتضي إباحة السفور لهن.
* وجواب ذلك أن وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا حق لا ريب فيه، ولكن
السؤال: هل السفور من الخير الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم؟
إن النصوص الواردة في الوصية بالنساء خيرًا في جملتها تأتي بحسن العشرة، وإلزامهن بالخير لهن في أمري الدين والدنيا بأسلوب الرفق
وحسن الخلق وما إلى ذلك.
فالحق الذي يصح به اتباع وصيته صلى الله عليه وسلم هو اتباع هديه القائم بنفسه، وفي
أهله وبناته ونساء المؤمنين من الأقوال والأفعال، ومن خالف ذلك فإنه لم يعمل بوصيته صلى الله عليه وسلم.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "رفقا بالقوارير" (2) فهو يعني أمهات المؤمنين ومن خالطهن من نساء الصحابة رضي الله عنهم وعنهن، وأما قياس السافرات عليهن في هذا الخطاب فهو خطأ، وليس من الحق في شيء.
ويؤخذ من وصفه صلى الله عليه وسلم النساء بالقوارير أن ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها" (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، رقم (6149) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض
نسائه - ومعهن أم سُليم فقال: "ويحك يا أنجشة، رويدك سوقَا بالقوارير". وسبب ورود الحديث أن أنجشة كان يحدو بالنساء يسوق بهن في سفر، وكان
حسن الصوت، فاشتد بهن في السياق، فخاف عليهن النبي صلى الله عليه وسلم من حث السير
بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ عن السرعة، أو
خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد، فلهذا قال له: "رويدك ارفق بالقوارير" يعني
النساء، شبههن بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، انظر "فتح الباري" (10/ 562) .
(3) تتمة الحديث الذي سبق تخريجه آنفا برقم (1) ، وهذه رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، انظر "شرح النووي" (10/ 57) .(3/439)
وفي رواية هشام عن قتادة: "رويدك سوقك، ولا تكسر القوارير" قال
أبو قلابة: يعني ضعفة النساء، قيل في تفسيره: شبههن بالقوارير لسرعة
انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها
الكسر، ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير (1)
والمقصود أن من أراد تقويم الزجاجة كسرها، ومن هذا الوجه جاءت وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرَا، وباستعمال الرفق بهن في كل أمر يُطلب منهن الاستقامة عليه، وهذا من أهداف حسن العشرة.
ومعلوم أن غالب النساء ضعيفات بالخير، قويات بالشر والفتنة،
فالرجل قائم على المرأة مسؤول عنها بالمعنى الكامل في جميع أوجه الخير،
وإلزامها بلوازم الإسلام، وما يجب لها، وعليها، من إيصال النفع، ودفع الشر.
وهذا كله داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا" أو "لتقصرنه على الحق قصرًا" (2) .
والأطر معناه العطف، أي: تعطفونه، وتردونه، والقصر: معناه الحبس أي يحبس عن فعل الشر، هكذا قال العلماء.
فكل من لا يمتثل الحق، ويأخذ الواجبات الشرعية فإنه ظالم يجب
__________
(1) "فتح الباري" (10/ 561) .
(2) جزء من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه أبو داود رقم (4336) في
الملاحم، باب الأمر والنهي، والترمذي رقم (3050) في أبواب تفسير القرآن باب (48) من تفسير سورة المائدة وحسنه، ورواه ابن ماجة رقم (4006) في
الفتن، باب الأمر بالمعروف، والطبري (10/ 491) ، وفي سنده عند الجميع
انقطاع لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه كما نص عليه غير
واحد، وفي الباب عن أبي موسى عند الطبراني، قال الهيثمي في "المجمع" (7/
269) : "ورجاله رجال الصحيح" اهـ،(3/440)
وجوبًا شرعيا على من خاطبهم الخبر الأخذ على أيديهم ما أمكن، لا
يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
إذا تبين هذا، فإننا نقول:
إن استجابة المرأهٌ للحق، أو عدم استجابتها ليس شرطًا في تحريم السفور أو إباحته، وإنما ذلك يبنى على أمرين:
الأول: أن السفور شر عام للمرأة والرجل، سواء في ذلك من رضي أو
من كره، ولا يمكن لفرد مسلم أن يقول: "إنه من الخير"، وإذا كان الأمر
كذلك، فإنه يجب علينا وجوبا شرعيا محاربة الشر أيًّا كان مصدره، سواء
تغلبنا عليه بمحاربتنا إياه أو لا، وعلى قدر المراتب التي أقامها صلى الله عليه وسلم
كأساس لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر في قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى
منكم منكرَا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الأيمان" (1) .
الثاني: أن النزاع في إثبات الواجب إنما يكون في الدعوة إلى ما هو الحق
الذي شرعه الله تبارك وتعالى وشرعه نبينا صلى الله عليه وسلم، وعليه السلف الصالح، وامتثلته المرأة المؤمنة في عهده صلى الله عليه وسلم، وهم القدوة الحسنة في الاتباع.
***
__________
(1) رواه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مسلم رقم (49) في الإيمان باب كون
النهي عن المنكر من الإيمان، والترمذي رقم (2173) في الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد، وأبو داود رقم (1140) في صلاة العيدين، باب الخطبة يوم العيد، ورقم (4340) في الملاحم، باب الأمر والنهي، والنسائي (8/111) في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، وأخرجه ابن ماجه رقم (4013) في الفتن، باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.(3/441)
الشبهة الخامسة عشرة
الفهم المغلوط لقاعدة:
"تبدل الأحكام بتبدل الأزمان"
أولا: تقرر عند أهل العلم أن "الحكم الشرعي" لا يتبدل مهما تبدلت
الأزمان، وتغيرت الأعراف اللهم إلا عن طريق النسخ، وقد أُغْلِق بابُه بعد تكامل هذا الشرع الحنيف بانتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. وقاعدة "تبدل الأحكام بتبدل الأزمان" مبنية على قاعدة فقهية أخرى وهي أن "العادة مُحَكَّمة" أي أن عرف الناس مُحَكَّم في الأحكام الشرعية، وقد فهم القوم من ذلك أنه مادامت أعرافهم متطورة بتطور الأزمان؛ فلابد أن تكون الأحكام الشرعية كذلك.
ولا ريب أن هذا الكلام إذا كان مقبولا على ظاهره، لاقتضى أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهنًا بيد عادات الناس وأعرافهم، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، لكن تحقيق المراد من هذه القاعدة:
أن ما تعارف عليه الناس، وأصبح عرفًا لهم:
(1) إما أن يكون هو بعينه حكما شرعيّا أيضا، بأن أوجده الشرع، أو كان موجودًا فيهم فدعا إليه وأكَّده، مثال ذلك: الطهارة عند النجس والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وحجب المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص في الجنايات، والحدود في الزنا والسرقة والخمر وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعَدُّ من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب، وتركها العقابَ؛ سواء منها ما كان متعارفًا قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيدا ومحسِّنًا له، كحكم القسامة والدية والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة(3/442)
والصلاة والزكاة وغيرها
فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة، وتطورت العادات والأحوال، لأنها بحد ذاتها أحكام شرعية ثبتت بأدلة باقية ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بقول الفقهاء: "العادة محَكمة".
(2) وإما أن لا يكون حكما شرعيًا، ولكن تعلق به الحكم الشرعي بأن كان مناطًا له، مثال ذلك: ما يتعارفه الناس من وسائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال المخلة بالمروءة، والآداب، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا دخل للإرادة والتكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ، وفترة الحيض والنفاس.
فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكامًا شرعية كالأمثلة السابقة في النوع الأول، ولكنها متعلق ومناط لها، وهذه الصورة من العرف هي المقصودة من قول الفقهاء (العادة مُحَكَمة) ، فالأحكام المبنية على العرف والعادة هي التي تتغير بتغير العادة، وهنا فقط يصح أن يقال: (لا يُنكَر تبدلُ الأحكام بتبدل الأزمان) ، وهذا لا يعد نسخا للشريعة، لأن الحكم باق، وإنما لم تتوافر له شروط التطبيق، فطُبِّق غيره، يوضحه أن العادة إذا تغيرت فمعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو: أن الحكم الأصلي باقٍ، ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لتطبيقه.
مثال ذلك: "ما ذهب إليه أبو حنيفة من الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، فلم يشترط تزكية الشهود فيما عدا الحدود والقصاص لغلبة الصلاح على الناس وتعاملهم بالصدق، ولكن لما كثر الكذب في زمان أبي يوسف ومحمد صار في الأخذ بظاهر العدالة مفسدة وضياع للحقوق، فقالا بلزوم تزكية الشهود، وقال الفقهاء عن هذا الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه:(3/443)
"إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان"، ومثله أيضا سقوط خيار الرؤية برؤية ظاهر البيت وبعض حُجَرِه، وهذا ما أفتى به أئمة الحنفية لأن الحُجَر كانت تبنى على نمط واحد، ولكن لما تغيرت عادة الناس في البناء أفتى متأخروهم بعدم سقوط خيار الرؤية إلا برؤية جميع حجر البيت" (1) اهـ.
وإذا تحرر المعنى المراد من قولهم: "العادة محكمة"، علمت أنها لا تستلزم تغيير الأحكام بتغير الأزمان، وعندئذ يصبح قول من قال: (تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان) إما كلامًا باطلًا لا صحة له إن حمل على ظاهره كما قد يفهمه كثير من الناس، وإما كلامَا متجوزا فيه محمولا على غير ظاهره، وذلك بأن يقصد به الأحكام المرتبطة من أصلها بما قد يتبدل ويتغير من أعراف الناس ومصالحهم التي لم يُقْضَ فيها بحكم مبرم، كتلك الأمثلة التي مر ذكرها، ولكن ينبغي أن يعلم أن دوران تلك الأحكام مع مناطاتها لا يمكن أن يعتبر تبدلًا أو تغييرًا حقيقيًّا لها، بل هذا الذي يظهر في مظهر التغيير منه إنما هو ممارسة حقيقية له كما مر بيانه (2) .
بيان علاقة هذه القاعدة بأحكام الحجاب
مما تقدم يتضح أنه لا يصح احتجاج أعداء الحجاب بهذه القاعدة على استباحة التبرج الذي حَرمه الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه القاعدة ونظائرها هي كل ما يحفظه أولئك المفتونون بالحياة الغربية من قواعد الشريعة الإسلامية وأصولها، وإنما يتعلقون بها في مجال التخفيف والتسهيل والسير مع مقتضيات التحلل من الواجبات فقط، ولكنهم يتناسون هذه القاعدة تماما عندما يقتضيهم الأمر عكس ذلك.
__________
(1) "الوجيز في أصول الفقه" ص258 - 259، وانظر: "الموافقات" (2/ 283 - 284، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 83 - 84) .
(2) "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" (ص291) .(3/444)
بل نستطيع أن نقول أيضا إنه لا يصح احتجاج من يبيح السفور اعتمادا على نفس القاعدة، لأنه لا يستطيع منصف ناصح للأمة - ممن يرى إباحة كشف وجه المرأة - أن يعثر على مثالٍ تتجلى فيه ضرورة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان؛ مثل ضرورة القول بوجوب ستر المرأة وجهها عن الأجانب عنها، نظرًا لمقتضيات الزمان الذي نعيشه، ونظرا لما تكاثر فيه من المنزلقات التي تستوجب مزيدَا من الحذر في السير، والتبصر بمواقع الأقدام، ريثما يهيئ الله عز وجل للمسلمين مجتمعهم الإسلامي المنشود. وهذا نفس ما قرره العلماء اعتمادَا على التطبيق الصحيح لهذه القاعدة:
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى، وعفا عنه:
"وكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في حضور المسجد، والصواب الآن المنع، إلا العجائز، بل استُصْوِبَ ذلك في زمان الصحابة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء بعده لمنعهن عن الخروج"، ولما قال ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، فقال بعض ولده: "بلى والله لنمنعهن" فضربه، وغضب عليه، وقال: تسمعني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا" فتقول: بلى، وإنما استجرأ على المخالفة لعلمه بتغير الزمان، وإنما غضب عليه لإطلاقه اللفظ بالمخالفة ظاهرا من غير إظهار العذر" (1) .
وجاء في "المنتقى": "تمنع الشابة عن كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة،
وفي زماننا المنع واجب، بل فرضٌ لغلبة الفساد" (2) اهـ.
وقد شرط المالكية، والحنفية، وبعض الشافعية (3) لجواز كشف المرأة
__________
(1) "إحياء علوم الدين" (1/728) .
(2) نقله في "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية" ص (141) .
(3) انظر: "أحكام القرآن" لأبي بكر بن العربي (3/ 1357) ، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/289) و "الدر المختار) في باب الحظر والإباحة من "حاشية ابن
عابدين" (5/244) .(3/445)
وجهها: أن لا يكون ذلك في حالة تثير الفتنة بأن تكون مزينة أو بارزة الجمال، وأن لا تظهر أمام فساق يغلب على الظن أنهم لا يغضون من أبصارهم، كما أمر الله تعالى، بل ينقادون لدوافع أهوائهم وشهواتهم، فإن فُقِدَ أحد الشرطين كان عليها أن تستر وجهها درءًا للفتنة بالنسبة للحالة الأولى، وإزالة للمنكر الذي تسببت به في الحالة الثانية، وإنما يكون إزالة المنكر في مثل هذه الحال بأن تمنع الفساق من النظر إليها، أو بأن لا تخرج من بيتها إلى هؤلاء الناس، أو بأن تحجب وجهها عنهم، وهو أيسر الأسباب الثلاثة
إذًا إذا تغير حال الناس، وعم الفسق وطم، بحيث تعلم المرأة أن حولها مَن قد ينظر إليها النظر المحرم الذي نهى الله تعالى عنه، باْن يتْبعَ النظرةَ النظرةَ، ولا تستطيع أن تزيل هذا المنكر إلا بحجب وجهها عنه، وعلى هذه الحالة يحمل ما نَقله الخطيب الشربيني عن إمام الحرمين من اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه (1) .
وقد صرح بهذا القيد القرطبي فيما نقله عن ابن خويز منداد من أئمة المالكية: "أن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك" (2) ، وكذا في "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي.
وقال صاحب "الدر المختار" من الحنفية: "وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، ولا يجوز النظر إليه بشهوة (3) ، وكذا في "الهدية العلائية".
* قال الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله في كتابه "الفتن": "قول الأئمة: "عند خوف الفتنة" إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر
__________
(1) "مغني المحتاج" (3/ 129) .
(2) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 228)
(3) "الدر المختار" على هامش ابن عابدين (1/284)(3/446)
إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعا، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة" (1) اهـ.
* قال الأستاذ محمد أديب كلكل في كتابه "فقه النظر في الإسلام":
وإذا علمت المرأة بأن أحدًا من الرجال ينظر إليها، وجب عليها ستر وجهها لئلا توقع غيرها في الإثم، وتعرضه للفتنة وإثارة الشهوة، وفي عصرنا هدا لا يقول بجواز كشف الوجه والكفين إلا مكابر ومُنْكِر للحقائق والوقائع، وعليه اتفاق الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين، لأن الفتنة أمرها محقق لا تحتاج إلى إيراد حجة، أو إقامة برهان، أو تقديم دليل، أو يجادل
في أن القطبين السالب والموجب إذا تقاربا لا يلتقيان أو لا يتجاذبان. وحتى يوجد المجتمع المسلم الكامل الذي قد تربى تربية إسلامية صحيحة، وسرت حقائق الإيمان في دمه وعروقه، واستنار فؤاده بنور اليقين، فأشرق على جوارحه سلوكا طيبًا، ونفعًا عامًا؛ حينئذٍ نبحث في خلاف الفقهاء رحمهم الله تعالى في جواز كشف الوجه واليدين، وإلى أن يتم ذلك، ويتحقق نقول:
"إن ستر الوجه واليدين من المرأة في عصرنا هذا واجب اتفاقا لأن
الفتنة قائمة لا محالة، وسدا لذرائع الفتنة المحققة".
* قال القرطبي في تفسيره:
"وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من
__________
(1) "الفتن" (ص 210) .(3/447)
الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل" (1) اهـ.
فما الذي أحدثته النساء في زمن عائشة رضي الله عنها بالنسبة لما عليه المرأة اليوم من تهتك وانحلال، وسفور وفجور، وتكشف فاضح، وإغراء لعين حتى منعت من المسجد؟؟ أفلا يكون هذا دليلًا كافيَا بمفرده على وجوب الستر الكامل في عصرنا هذا؟ وأن لا يكون هناك تحدث وكتابة عن غيره حتى تشرق الأرض بنور ربها، ويعمها الهدى والرشاد، ويسود فيها حكم الله؟ " (2) اهـ.
* وقال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:
"وهكذا، فقد ثبت الإجماع عند جميع الأئمة - سواء من يرى منهم أن وجه المرأة عورة كالحنابلة، ومن يرى منهم أنه غير عورة كالحنفية والمالكية - أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان مِن حولها مَن ينظر إليها بشهوة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم بأن الفتنة مأمونة اليوم، وأنه لا يوجد في الشوارع من ينظر إلى وجوه النساء بشهوة؟ " (3) اهـ.
الشبهة السادسة عشرة
نساء خيرات كن سافرات
* احتج دعاة السفور بأن في شهيرات النساء المسلمات على اختلاف طبقاتهن كثيرًا ممن لم يضربن على وجوههن الحجاب، رغم ما عرفن به من الاختلاط بالرجال.
__________
(1) "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 244) .
(2) "فقه النظر في الإسلام" (ص 37-38) .
(3) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 45) .(3/448)
ولقد عمد المروجون لهذه الشبهة إلى التاريخ وكتب التراجم، يفتشون في طولها وعرضها، وينقبون فيها بحثا عن مثل هؤلاء النساء، حتى ظفروا بضالتهم المنشودة، ودرتهم المفقودة، فالتقطوا أسماء عدد من النساء لم يكنَّ يبالين- فيما نقلته الأخبار عنهن- أن يظهرن سافرات أمام الرجال، واْن يلتقين معهم في ندوات أدبية وعلمية دونما تحرز أو تحرج.
* وجواب هذا من وجوه:
الأول: أن نسألهم: قد علمنا الأدلة الشرعية التي عليها تبنى الأحكام
من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، فضمن أي مصدر من مصادر التشريع تندرج مثل هذه الأخبار، خاصة وأن أغلبها وقع بعد زمن التشريع وانقطاع الوحي؟
الثاني: فإذا علم أن حكم الإسلام إنما يؤخذ من نص ثابت كتاب الله تعالى، أو حديث صحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قياس صحيح عليهما، أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم، لم يصح حينئذ الاستدلال بالتصرفات الفردية عن آحاد الناس، أو ما يسميه الأصوليون بـ "وقائع الأحوال" (1) .
فإذا كانت هذه الوقائع الفردية من آحاد الناس لا تعتبر دليلا شرعيًّا
__________
(1) وقائع الأحوال، وقضايا الأعيان هي عبارة عن مواقف فردية وقعت في عصر التشريع، على خلاف مقتضى أدلة العموم، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة وقد أراد أن يضحي بعناق: "تجزئك، ولا تجزئ أحدًا بعدك" وكاعتباره شهادة خزيمة بمنزلة شاهدين، فهذه وأمثالها لا يقام عليها أحكام عامة، لأنها وردت متأثرة بأسباب استثنائية خاصة، فبقيت محصورة في نطاق الحال الذي ظهرت فيه، ولم يجز أن يمتد لها ذيل من التشريع العام المتجاوز لطبيعة تلك الحال، ومن أبرز قرائن وقائع الأحوال أنها تأتي معارضة لعموم حكم كلي لا شبهة فيه من أجل سبب استثنائي لو نقبت عنه لاكتشفته.(3/449)
لأي حكم شرعي حتى لو كان أصحابها من الصحابة (1) رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم، فكيف بمن دونهم؟
بل المقطوع به عند المسلمين جميعًا أن تصرفاتهم هي التي توزن - صحة وبطلانًا - بميزان الحكم الإسلامي، وليس الحكم الإسلامي هو الذي يوزن بتصرفاتهم، ووقائع أحوالهم، وصدق القائل: "لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله".
الثالث: ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلًا قوةُ الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر، لبطل أن يكونوا معرضين للخطأ والعصيان، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم وعلى خاتمهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فحق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء" (2) ،
وإلا فما بالنا لا نقول – مثلًا - بحل شرب الخمر، وقد وجِد فيمن سلف في القرون الخيرية من شربها؟
الرابع: وما بال هؤلاء الدعاة إلى السفور قد عمدوا إلى كتب التاريخ والتراجم فجمعوا أسماء مثل هؤلاء النسوة من شتى الطبقات والعصور، وقد علموا أنه كان إلى جانب كل واحدة منهن سواد عظيم، وجمع غفير، من النساء المتحجبات الساترات لزينتهن عن الأجانب من الرجال؟ فلماذا لم يعتبر بهذه الجمهرة العظيمة، ولم يجعلها حجة بدلًا من حال أولئك القلة الشاذة المستثناة؟
أما علموا أن "الاستثناء" يؤيد القاعدة، ولا ينقضها؟ وأن ندرة هذه
__________
(1) هناك فرق بين "قول الصحابي" وبين "واقعة حال له" فتنبه.
(2) صدر حديث رواه الترمذي رقم (2501) في صفة القيامة، باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وأخرجه ابن ماجة رقم (4251) في الزهد، باب ذكر التوبة، والدرامي (2/303) في الرقاق، باب في التوبة، والإمام أحمد (3/198) ، كلهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وتتمته: "وخير الخطائين التوابون".(3/450)
الحفنة المبعثرة في هامش التاريخ الإسلامي، أقوى دليل على صحة قول:
الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله:
"لم تزل الرجال على مرّ الأزمان تكشف الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، أو يمنعن من الخروج" (1) ،
* والإمام ابن رسلان رحمه الله:
"اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات" (2) .
* وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
"إن النساء كن يخرجن إلى المساجد والأسفار منتقبات لئلا يراهن
الرجال" (3) .
ولماذا لم يحتج بمواقف نساء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في تمسكهم بالحجاب الكامل (4) ، واعتباره أصلًا راسخًا من أصول البنية الاجتماعية؟!
الشبهة السابعة عشرة
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)
* يشيع أعداء الإسلام حول الحجاب أراجيف ينطق بها الشيطان على ألسنتهم، مثل قولهم: إن الحجاب يُسَهِّل عملية إخفاء الشخصية، وقد يتستر وراءه بعض النساء اللواتي يقترفن الفواحش، ويتعاطين المآثم،
(ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
__________
(1) "إحياء علوم الدين" (1/729) .
(2) نقله عنه في "عون المعبود" (4/106) .
(3) "فتح الباري" (9/248) .
(4) وقد مر بك أمثلة من ذلك، فانظر ص (107) .(3/451)
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة: 30] .
* إنه قول بوار لا يصدر إلا ممن أكلهم الهوى، وأعجزهم البيان، فغفلوا عن حرمة أحق الذي أنزله علام الغيوب، ونسوا أن الله سبحانه وتعالى يحكم ولا معقب لحكمه، ويقضي ولا راد لقضائه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] .
فما حكم الله به عدل، وما أخبر به صدق (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) [الأنعام: 115] .
فقد حكم سبحانه بوجوب النقاب أو استحبابه على الأقل، وأخبر أنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات.
فحينما يأتي مرضى القلوب ويشغبون بهذه الأراجيف، فلا يمكن بأي حال أن يسوقنا هذا التخوف المحتمل من سوء استخدام النقاب إلى التخلي عن حكم الله عز وجل، وكل عاقل يفهم من سلوك المرأة التي تبالغ في ستر نفسها حتى أنها لا تبدي وجهًا ولا كفّا، فضلًا عن سائر بدنها أن هذا دليل الاستعفاف والصيانة، قال تعالى بعد الأمر بالحجاب: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) قال أبو حيان: "لتسترهن بالعفة، فلا يُتعرض لهن، ولا يَلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يُقْدَمْ عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها" (1) اهـ.
وكل عاقل أيضا يعلم أن تبرج المرأة وإظهارها زينتها، يشعر بوقاحتها، وقلة حيائها، وهوانها على نفسها، ومن ثم فهي الأوْلى أن يساء بها الظن بقرينة مسلكها الوخيم حيث تعرض زينتها كالسلعة، فتجر على نفسها وصمة خبث النية، وفساد الطوية، وطمع الذئاب البشرية، ومن أوقع نفسه مواقع التهمة، فلا يلومن مَن أساء به الظن.
إن هؤلاء المنافقين مرضى القلوب فساق هذا الزمان الذين يتشدقون بأن
__________
(1) "البحر المحيط" (7/ 250) .(3/452)
الحجاب يمكن أن يكون وسيلة لإخفاء هوية البغي يجب أن يؤدبوا ويعزروا أشد التأديب وأعنف التعزير، لأنه لهم نصيبَا وافرَا من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)) [الأحزاب: 58] .
ولقد كان إخوانهم من منافقي المدينة أفقه منهم وأعقل حينما كانوا يتجرءون على السافرة، فإذا أخِذوا في ذلك قالوا - تخفيفًا لجريمتهم - حَسِبناها أمَةَ، لأنهم فهموا من المبالغة في التستر أن صاحبتها عفيفة محصنة.
واليوم انعكس الحال، وانقلبت المفاهيم رأسًا على عقب، بفضل أنصار المرأة ومحرريها، فصارت التي تحتجب مستعبدة، وصارت المتبرجة امرأة حرة متحررة، لقد شرع الله سبحانه وتعالى حكمه في مثل هؤلاء المنافقين فقال مباشرة بعد الأمر بإدناء الجلابيب: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)) [الأحزاب: 60 - 62]
ثم إن من المتواتر لدى الكافة أن المسلمة التي تتحجب في هذا الزمان تذوق الويلات من الأجهزة الحكومية، والإدارات الجامعية، والحملات الإعلامية، والسفاهات من المنافقين في كل مكان، ثم هي تصبر على هذا كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولا يفعل هذا إلا مؤمنة صادقة رباها القرآن والسنة، فإذا حاولت فاسقة مستهترة ساقطة أن تتجلبب بجلباب الحياء، وتواري عن الأعين زلتها بارتداء شعار العفاف ورمز الصيانة، وتستر عن الناس آفتها وفجورها بمظهر الحَصان الرزان فما ذنب الحجاب إذن؟
إن الاستثناء يؤيد القاعدة ولا ينقضها كما هو معلوم لكل ذي عقل،
مع أن نفس هذه المجتمعات التي يروج فيها هذه الأراجيف، قد بلغت من(3/453)
الانحدار والتردي في مهاوي التبرج والفسوق والعصيان ما يغني الفاسقات عن التستر، ولا يحوجهن إلى التواري عن الأعين.
وإذا كان بعض المنافقين يتشدقون بأن في هذا خطرًا على ما يسمونه (الأمن) فليخبرونا بالله كيف يهتز الأمن ويتزلزل بسبب المنقبات مع أنه لم يتزلزل مرة واحدة بسبب السافرات والمتبرجات؟
هب أن رجلًا انتحل شخصية قائد عسكري كبير، وارتدى بَزَّته، وتحايل بذلك، واستغل هذا الثوب فيما لا يباح له كيف تكون عقوبته؟ وهل يصلح سلوكه - في نظركم - مبررًا للمطالبة بإلغاء الزي المميز للعسكريين مثلا خشية أن يسيءَ أحَد استعماله؟
وما يقال عن البزة العسكرَية، يقال عن "لباس الفتوة، وزي الرياضة،
فإذا وجد في المجتمع الجندي الذي يخون، والفتى الذي يسيء، والرياضي الذي يذنب، هل يقول عاقل إن على الأمة أن تحارب شعار العسكر، ولباس الفتوة، وزي الرياضة،. . . لخيانات ظهرت، وإساءات تكررت؟ فإذا كان الجواب: "لا" فلماذا يقف أعداء الإسلام من الحجاب هذا الموقف المعادي، ولماذا يثيرون حوله الشائعات الباطلة المغرضة؟ " (1) .
إن الهدف البعيد من وراء هذه الأراجيف الكاذبة هو تنفير المسلمات
من الحجاب الذي فرضه الله عز وجل، وترسيخ روح الاشمئزاز والكراهية من التجلبب به، والتحصن بعفافه، حتى إذا خلعن الحجاب ظهرن في المجتمع بأقبح ما تظهر به امرأة في تهتكها وانحلالها.
إن الإسلام كما يأمر المرأة بالحجاب، يأمرها أن تكون ذات خلق ودين، إنه يربي مَنْ تحت الحجاب قبل أن يسدل عليها الجلباب، ويقول لها: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26] ، حتى تصل إلى قمة الطهر والكمال، قبل أن تصل إلى قمة الستر والاحتجاب، فإذا اقتصرت امرأة
__________
(1) "إلى كل أب غيور يؤمن بالله" د. عبد الله ناصح علوان (ص 44) .(3/454)
على أحدهما دون الآخر، تكون كمن يمشي على رجل واحدة، أو يطير بجناح واحد.
إن التصدي لهؤلاء المستهترات - إن وجدن - أن تصدر قوانين صارمة بتشديد العقاب على كل من تسول له نفسه استغلال الحجاب لتسهيل الجرائم وإشباع الأهواء، فمثل هذا التشديد جائز شرعًا في شريعة الله الغراء التي حرصت على صيانة النفس، ووقاية العرض، وجعلتهما فوق كل اعتبار، وإذا كان التخوف من سوء استغلال الحجاب مخطرة محتملة، إلا أن المخطرة في التبرج والسفور بنشر الفاحشة وفتح ذرائعها مقطوع بها لدى كل عاقل.
ويدلي بعضهم بحجة مقلوبة فيقول: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء، يلقى ويُسدل على جسمها، وكم من فتاة محتجبة عن الرجال في ظاهر، وهي فاجرة في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس سافرة) الوجه لا يعرف السوء سبيلَا إلى نفسها أو سلوكها؟
* قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في دفع هذه الشبهة:
"إن هذا صحيح، فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفة مفقودة، ولا
أن تخلق له استقامة معدومة، وربَّ فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها، ولكن من هذا الذي فى زعم أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع الحجاب لجسم المرأة ليخلق الطهارة نفسها أو العفة في أخلاقها؟
ومن هذا الذي زعم أن الحجاب إنما شرعه الله ليكون إعلانا بأن كل
من لم تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية؟
إن من حكمة الله عز وجل في تشريع الحجاب وفرضه على المرأة المحافظة على عفة الرجال الذين تقع أبصارهم عليها، وليس فقط حفاظا على عفتها من الأعين التي تراها، ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان، فإن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر، وإلا(3/455)
فهل يقول عاقل - تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة - إن للفتاة أن تتجرد أمام الرجال مادامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟! إن بلاء الرجال بما تقع عليه أبصارهم من فتنة المتبرجات هو المشكلة التي أحوجت المجتمع إلى حل، فتكفل به شرع الله على أفضل وجه، وبلاء الرجال إذا لم يجد في سبيله هذا الحل الإلهي، ما من ريب سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا، ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المتبرجة عندئذ باستقامة في سلوكها أو عفة في نفسها، فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوسهم ما قد يتغلب على كل استقامة، ويقضي على كل عفة قد تتصف بها المرأة المتبرجة التي تعرض فنون التبرج والفتنة أمامهم" (1) اهـ.
***
__________
(1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 82-83) بتصرف، ومن الجدير بالذكر أن البوطي أشعري خَلَفي، وله مواقف من السلفية تناولها العلماء بالرد والإبطال، نسأل الله عز وجل أن يلهمه رشده، وأن يوفقه إلى اتباع منهج أهل السنة والجماعة.(3/456)
الفصل الثاني
المذاهب الفقهية في حكم
كشف الوجه والكفين
من المناسب قبل أن نشرع في سرد نُقُول علماء المذاهب الأربعة المتبوعة- رحمهم الله - أن ننبه إلى أن واجب المسلم أن يأخذ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة الفقه والحديث، في القديم والحديث، ولا لوم في الانتساب المذهبي المجرد من العصبية، هذا هو المذهب الحق، والقول الصدق، وله مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه عمل به من أي مذهب كان، محتجًّا بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه على الإطلاق، ومتجاهلًا أنه:
ليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
ونظرية "جواز التعبد بالخلاف" التي يتبناها في زماننا عوام فسدت فطرتهم بفعل التربية المعوجة ماِ هي إلا صدى لقول سلفهم: "من قلد عالمًا لقي الله سالما"، مع فارق وهو أن الأولين كانوا يلزمون مذهبًا واحدَا لا يحيدون عنه، أما هؤلاء فقد تركوا الحبل على الغارب، وأطلقوا لأهوائهم العِنان حتى تظفر بمرادها في زلة عالم، أو رخصة متكلفة، أو قول شاذ ملفق دون أي اعتبار لمخالفة العالم غير المعصوم لقول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) .
لقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءَ داءِ الفرقة والاختلاف في قوله:
"فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافَا كثيرَا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء(3/457)
الراشدين المهديين". . . الحديث، فالسنة تجمع المتفرقين، وتُوحّدُ المختلفين.
ولقد جعل الله عز وجل الإجماع حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يضاده وهو الاختلاف حجة أيضًا، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود رضي الله عنه قوله "الخلاف شر".
وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى:
"الاختلاف ليس بحجةِ عند أحدٍ علمتُه من فقهاء الأمة إلا مَنْ لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله" (1) اهـ.
وشتان بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر، وبين الأجر الواحد مع العذر، وبين من يتتبع الزلات، ويتحكم بالتشهي، ويرجح بالهوى، فيئول حاله إلى البطالة، ورقة الدين، ونقص العبودية.
ومع أن دائرة الخلاف في القضية التي نحن بصددها قد ضاقت جدًّا في زماننا كما سيتبين لك عما قليل إن شاء الله تعالى، إلا أنه لزم التحذير من "بدعة التعبد بالخلاف مطلقا" لشيوع استدلال "أنصار البدعة" بها في قضايا أشد خطورة مما نحن بصدده، والله المستعان.
* أولا: المذهب الحنفي:
الأصل في المذهب الحنفي أنه يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها (2) عند
__________
(1) "جامع بيان العلم وفضله" (2/109) .
(2) بل جاء في متون المذهب (وبدن المرأة الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها) انظر: "اللباب في شرح الكتاب" (1/62) "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (1/96) ، واعلم أن القدمين عورة داخل الصلاة وخارجها =(3/458)
أمن الفتنة (1) ، لكن المتأخرين منعوا ذلك لا لأنهما عورة، لكن لانتشار الفساد، وغلبة الظن بحصول الفتنة، فضلا عن تحققها، وهاك بعض نصوصهم:
* قال الكاساني رحمه الله:
"فلا يجوز النظر من الأجنبي إلى الأجنبية الحرة إلى سائر بدنها إلا الوجه والكفين، لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) إلا أن االنظر إلى مواضع الزينة الظاهرة، وهي الوجه والكفان، رخص بقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، والمراد من الزينة مواضعها، ومواضع الزينة الظاهرة: الوجه والكفان، ولأنها تحتاج" إلى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولا يمكنها ذلك – عادةً - إلا بكشف الوجه والكفين، فيحل لها الكشف، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يحل النظر إلى مواضع الزينة منها من غير شهوة، وأما عن شهوة فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان"، وليس زنى
__________
= في الأصح لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أتصلي في درع وخمار وعليها إزار؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي، وانظر: "الدين الخالص" للشيخ محمود خطاب السبكي (2/104) .
وما يؤديه أيضَا قول أم سلمة رضي "الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يرخين شبرا"، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: "فيرخينه ذراعَا لا يزدن عليه "أخرجه الترمذي، وقال: "حسن صحيح"، قال البيهقي: (وفي هذا دليل على وجوب ستر قدميها) ، واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وجوب ستر القدمين، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: (هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه) اهـ من المحلى" (3/216) .
انظر "الفتاوى الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان" (1/58) .(3/459)
العين إلا النظر عن شهوة،. . والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية، وكذا الشابة؛ لما فيه من خوف حدوث الشهوة، والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أنه الرداء والثياب، فكان غض البصر، وترك النظر أزكى وأطهر" (1) اهـ.
* وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى في كلام له حول النظر إلى الأجنبيات:
". . فدل أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها، ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة، وعامة محاسنها في وجهها، فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء".
إلى أن قال رحمه الله: "ولكنا نأخذ بقول علي وابن عباس (2) رضي الله عنهم فقد جاءت الأخبار في الرخصه بالنظر إلى وجهها وكفها (3) . . " إلى أن قال: "وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها" (3) اهـ.
__________
(1) "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (5/ 123) ، وانظر "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/17) .
(2) يشير هنا إلى ما روى عنهما رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بأنها الكحل والخاتم، وقد تقدم بيان الراجح في تفسيرها (ص 263) ، وقد بين الإمام أكمل الدين محمد البابرتي الحنفي في "شرح العناية على الهداية" أن دلالة قولهما على الوجه والكفين غير واضح قال: (إذ الظاهر أن موضع الكحل
هو العين، لا الوجه كله، وكذا موضع الخاتم هو الإصبع، لا الكف كله، والمدّعى جواز النظر إلى وجه الأجنبية كله، وإلى كفيها بالكلية) اهـ (10/ 24) .
(3) "المبسوط" (10/ 152 - 153) .(3/460)
* وقال الإمام أبو بكر الجصاص في تفسير قوله تعالى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) :
"في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن" (1) اهـ.
* وجاء في "الدر المختار":
"يعزر المولى عبده، والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمه ليسمعها أجنبي، أو كشفت وجهها لغير محرم" (2) اهـ.
وجاء فيه كذلك قول الطحطاوي:
"وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة كمسه وإن أمن الشهوة لأنه أغلظ" (3) .
* وقال ابن عابدين في شرحه:
"المعنى: تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة،
لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة" (3) اهـ.
* ونقل ابن عابدين عن صاحب "المحيط" قوله:
". . . ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة" (4) اهـ.
__________
(1) "أحكام القرآن" (3/ 458) .
(2) "هامش رد المحتار" (3/ 261) .
(3) "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 272) .
(4) السابق (2/ 189) .(3/461)
* وقال الإمام محمد أنور الكشميري ثم الديوبندي رحمه الله:
"ومنها - أي من آيات الحجاب -: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) قيل: الزينة
هي الوجه والكفان، فيجوز الكشف عند الأمن عن الفتنة على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس. .
إلى أن قال: "ومنها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) إلخ، والخطاب فيها وإن كان خاصًا إلا أن الحكم عام" (1) اهـ.
* وقال العلامة ابن نجيم - المتوفى سنة سبعين وتسعمائة - رحمه الله:
وفي فتاوى قاضيخان (2) :
"ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة"، وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان، ووجودِ الأجانب واجب عليها" (3) اهـ.
وقال أيضًا:
"قال مشايخنا: تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة" (4) اهـ.
* وفي الهدية العلائية":
"وينظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط للضرورة، قيل: والقدم والذراع والمرفق إذا آجرت نفسها للخبز ونحوه من الطبخ وغسل
الثياب، لأنه يبدو منها عادة، وتمنع الشابة من كشف وجهها خوف
__________
(1) "فيض الباري على صحيح البخاري" (1/ 254) .
(2) وهو الشيخ العلامة محمود الأوزجندي رحمه الله.
(3) "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (2/381) .
(4) "السابق" (1/284) .(3/462)
الفتنة" (1) اهـ.
* وفي "الهدية العلائية" أيضًا:
"والنظر إلى ملاءة الأجنبية بشهوة حرام، أما بدونها فلا بأس، ولو إلى جسدها المستور بثياب لا تصف، ولا يظهر حجمها" (2) اهـ.
* وفي "المنتقى":
"تمنع الشابة من كشف" وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد" (3) اهـ.
* ونقل البيانوني في "الفتن" عن الجرداني رحمه الله قوله:
"وعورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها" يدون استثناء شيء منه أصلا، ولو كانت عجوزًا شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها، ولو بغير شهوة. . ويجب أن تستتر عنه، وهذا هو المعتمد (4) اهـ.
* ونقل الأستاذ درويش مصطفى حسن عن بعض علماء الأحناف قولهم:
"فحل النظر مقيد بعدم الشهوة، وإلا فحرام، وهذا زمانهم، أما في زماننا فمنع من الشابة أي فمنع نظر الوجه من الشابة، ولو من غير شهوة" (5) .
* وقال الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله:
__________
(1) نقلا عن: "فقه النظر في الإسلام" للشيخ محمد أديب كلكل (ص 36) .
(2) نقلأ عن: "السابق" (ص 63) .
(3) نقلًا عن "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية" (ص 141) .
(4) "الفتن" ص 196 - 197.
(5) "فصل الخطاب" (ص 55) .(3/463)
"قول الأئمة "عند خوف الفتنة" (1) إنما يُعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر
إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم؛ فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعَا، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب اْبي حنيفة وأصحابه في المسألة" (2) اهـ.
* ثانيَا: المذهب المالكي:
* قال العلامة صالح عبد السميع الآبى الأزهري المالكي:
"وعورة الحرة مع رجل أجني مسلم جميع جسدها عدا الوجه والكفين ظهرًا وبطنا، فالوجه والكفان ليسا عورة، فيجوز لها كشفهما للأجنبي، وله نظرهما إن لم تخش الفتنة، فإن خيفت الفتنة: فقال ابن مرزوق: مشهور المذهب وجوب سترهما، وقال عياض: لا يجب سترهما، ويجب غض البصر عن الرؤية، وأما الأجنبي الكافر فجميع جسدها حتى وجهها وكفيها عورة بالنسبة له" (3) اهـ.
* ويقول الشيخ أحمد الدردير في "أقرب المسالك إلى مذهب مالك":
"وعورة المرأة مع رجل أجنبي عنها جميع البدن غير الوجه والكفين، وأما هما فليس بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف الفتنة" (4) .
__________
(1) يعني قول السرخسي: (حرمة النظر لخوف الفتنة - يعني: لا لكونه عورة -، وخوف الفتنة في النظر إلى وجهها - وعامة محاسنها في وجهها - أكثر منه إلى سائر الأعضاء) اهـ من "المبسوط " (10/ 152) .
(2) "الفتن" ص (197) .
(3) "جواهر الإكليل في شرح مختصر العلامة الشيخ خليل في مذهب الإمام مالك إمام دار التنزيل" (1/41) ، وانظر: "شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل" للشيخ محمد عليش (1/33) ، و"إكمال إكمال المعلم" للآبي (5/430) .
(4) نقلًا عن "مجلة الجامعة السلفية" مقالة الشيخ الأنصاري.(3/464)
وحكى الشيخ أحمد الصاوي قولين في وجوب ستر الوجه في تلك الصورة:
الأول: الوجوب، وهو مشهور المذهب.
والثاني: وجوب غض البصر على الرجل، وهو قول عياض (1) .
* وقال القاضي عياض رحمه الله:
"فرض الحجاب مما اختصصن به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وأن يكن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. . . " إلخ (2) اهـ.
* قال ابن بطال:
"وفيه - أي حديث المرأة الحثعمية - دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضَا لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء، وأن قوله (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) على الوجوب في غير الوجه" (3) اهـ.
* قال ابن رسلان رحمه الله:
"وهذا - أي جواز نظر الأجنبية - عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع
__________
(1) نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية" مقالة الشيخ الأنصاري.
(2) نقله عنه في "الفتح، وتعقبه الحافظ بقوله: (وليس فيما ذكره دليل على ما ادَّعاه) اهـ انظر: "فتح الباري"، (8/391) .
(3) نقله عنه الحافظ في "الفتح" (11/12) .(3/465)
النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساق" (1) اهـ.
* وقال الشيخ محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي:
"وإن كانت أجنبية جاز أن يرى الرجل من المتجالة الوجه والكفين، ولا يجوز أن يرى ذلك من الشابة إلا لعذر من شهادة، أو معالجة، أو خِطبة" (2) اهـ.
* قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى:
"والمرأة كلها عورة بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة كالشهادة، أو داء يكون ببدنها" (3) اهـ.
وقال أيضا:
"قوله في حديث ابن عمر: "ولا تنتقب المرأة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئَا من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتُعْرِضُ عن الرجال، ويُعْرِضون عنها" (4) اهـ.
* وذكر القرطبي في تفسيره:
"أن ابن خويز منداد من علماء المالكية قال: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كاتَ عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها" (5) اهـ.
__________
(1) نقله عنه الشوكاني في "نيل الأوطار" (6/ 130) .
(2) "قوانين الأحكام الشرعية، ومسائل الفروع الفقهية" ص 484 الباب التاسع عشر، وانظر: "أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك" للشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر البغدادي (1/ 184) .
(3) "أحكام القرآن" (3/ 1578) .
(4) "عارضة الأحوذي" (4/56) المسألة الرابعة عشرة.
(5) "الجامع لأحكام القرآن" (12/228) .(3/466)
* قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المعروف بالحطاب المالكي:
"واعلم أنه إن خشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين، قاله القاضي عبد الوهاب ونقله عنه الشيخ أحمد زروق في "شرح الرسالة" وهو ظاهر التوضيح هذا ما يجب عليها" (1) اهـ.
* وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي رحمه الله:
"قوله: "كستر وجه الحرة ويديها" فإنه يجب إذا خيفت الفتنة بكشفها" (2) اهـ.
وقال أيضَا:
"متى أرادت - يعني المحرمة - الستر عن أعين الرجال جاز لها ذلك مطلقًا، عَلِمَت أو ظنت الفتنة بها أم لا، نعم إذا علمت أو ظنت الفتنة بها كان سترها واجبًا" (3) اهـ.
* ثالثًا: المذهب الشافعي:
في كشف وجه المرأة وكفيها والنظر إلى ذلك - عند الشافعية - ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يخاف الفتنة، أو ما يدعو إلى الاختلاء بها لجماع أو مقدماته، فالنظر والكشف في هذه الحالة حرام بالإجماع كما قاله الإمام. الحالة الثانية: أن ينظر إليهما بشهوة، وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد،
__________
(1) "مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" (1/499) .
(2) "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/214) ، والمقصود: وإن لم يكن الوجه والكفان عورة في أصل المذهب كما يقتضيه السياق.
(3) "السابق" (4/54-55) .(3/467)