عودة الحجاب
القسم الأول
معركة الحجاب والسفور
جمع وترتيب
محمد أحمد اسماعيل المقدم
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
توزيع دار الصفوة(1/1)
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة العاشرة
1428 هـ - 2007م
توزيع
دار الصفوة
ت: 0101999555
E-mail.ddarelsafwah@yahoo.com
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع(1/2)
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله الذي اخمد ذكر الطواغيت فصار بعز التوحيد والإسلام مطموساً وأذل بقهره منهم أعناقاً ورؤوساً وصرف عن أهل طاعته بلطفه وإسعاده أذى وبوساً ورفع كيد شياطين الإنس والجن عن قلوب أهل الإيمان فأصبح عنها محبوساً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى اللهم وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر التابعين مقصده الصابرين من البلاء على أشده.
أما بعد:
فما أشد حاجتنا إلى إعادة النظر في تقويم الرجال بعد رحلة الشقاء التي تركت قلوبنا مجرحة وأيدينا مرتعدة وسيوفنا ملثمة تلك الرحلة التي قام فيها على امرنا فريق التحف الإسلام وتبطن الكفر حمل بين فكيه لساناً مسلماً وبين جنبيه قلباً كافراً مظلماً حرص كل الحرص على أن يطفئ نور الإسلام ويهدم عز المسلمين فلم يجد أعون له على هذا الغرض السيئ من أن يقدم لنا الكفر والفسوق والعصيان في ثوب إسلامي ويتولى تزيينه لنا سدنته من الزعماء وربائبه من المفكرين فكانت النتيجة ركاماً ضحلاً تافهاً مظلماً من المبادئ التي أخذناها لنستر بها عُريَنا فعرينا! والمناهج التي اقتبسناها لننسج بها آمالنا فنسجنا بها أكفاننا!(1/3)
(إن كثيراً ممن نعتبرهم اليوم دعائم النهضة الحديثة لم يصبحوا كذلك في أوهام الناس إلا بسبب الدعايات المغرضة التي أرادت أن تضعهم في هذه المنزلة لتحقق بذلك أغراضها في نشر مذاهبهم والتمكين لأرائهم ولأن كثيراً من الآراء المنحرفة التي لم تكن تستطيع أن تجد طريقها إلى الفكر الإسلامي وإلى مجتمعاته قد أصبح قبولها ممكناً بنسبتها إلى هذه الزعامات وإلى هؤلاء الأئمة الذين لا يتطرق إلى الناس شك في إخلاصهم وعلمهم والواقع أن كثيراً من هؤلاء الرجال قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس ولم يكن الغرض من ذلك خدمتهم ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه
وخطة الاستعمار واليهودية العالمية في ذلك كانت تقوم - ولا تزال - على السيطرة على أجهزة النشر التي نسميها الآن " الإعلام " وإلقاء الأضواء من طريقها على كُتاب ومفكرين من نوع خاص يبنون وينشئون بالطريقة التي يبني بها نجوم التمثيل
والرقص والغناء بالمداومة عن الإعلان عنهم والإشادة بهم وإسباغ الألقاب عليهم ونشر أخبارهم وصورهم وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرون الذين يمثلون وجهات النظر المعارضة أو تُشوه آراؤهم وتُسفه ويُشهَّر بهم ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً أو هم يخاطبون الجيل نفسه فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل.
ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال لا نريد أن ننقص من قدر أحد ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد حتى أن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماماً من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه في الوقت الذي لا يهيجون(1/4)
فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم بما لا يقبلون أن يوصف به زعماؤهم " المعصومون "! ويحتمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به إجماع المسلمين ويأبون على مخالفيهم في الرأي هذه الحرية يخطئون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين ويجرحونهم بالظنون والأوهام ويثورون لتخطئة ساداتهم أو مواجهتهم بالحقائق الدامغة) اهـ (1)
- ويرهق كثير من الكتاب عقولهم في تحديد هوية أولئك المتآمرين وهذا لا مبرر له إذ يكفينا أنهم (كارهون لما أنزل الله) فلا نبالي حينئذ أن يكونوا حقاً صنائع اليهودية أو الصليبية أو الماسونية أو الشيوعية لأن الكفر مهما تعددت ألوانه فهو كفر ينبغي محاربته واستئصاله ودين الشيطان لا يعرف الجنسية.
- وهؤلاء الذين ما يزالون يتعامَون عن رؤية الواقع الصارخ الذي يؤكد أن هناك مؤامرة وتدبيراً خفياً يستهدف القضاء على الإسلام - غافلون مخدوعون بأصحاب القفازات الحريرية الذين هم " من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ".
إن من الغفلة أن نعمى عن أعداء ديننا بل ونتخذهم أولياء من دون المؤمنين وهم - في ذات الوقت - لا يدخرون وسعاً في تحطيم مقومات الأمة وتنفيذ مخططات أعدائها:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام
من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمين قيام
إن لا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام (2)
- وإذا كنا بصدد الحديث عن المؤامرة على المرأة المسلمة كجزء من مشروع استعماري شامل لتغيير وجه الحياة في مصر واقتلاع المجتمع الإسلامي من
__________
(1) (الإسلام والحضارة الغربية) للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، ص (47-49) بتصرف.
(2) (غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب) لمحمد بن أحمد السفاريني (2/14) .(1/5)
جذوره فلا ريب يستوقفنا مواقف رضعاء ألبان الغرب والشرق الذين غسلت أدمغتهم في دهاليز الكفر وترعرعوا في كنف الإلحاد وعادوا إلى بلادنا لترتفع على أكتافهم أعمدة الهيكل العلماني من هنا كان لابد من وقفات معهم تبين بالوثائق والأدلة موقفهم من الإسلام وعليه موقف الإسلام منهم.
ولئن كان هناك رجال وقفوا حياتهم على هدم الإسلام فلابد أن يكون مصيرهم الهدم ومن عجيب أمر بعض السذج أنهم تأخذهم بأولئك الهدامين رأفة في دين الله وينكرون على من يكشف كيدهم قائلين: " وما يدريك لعلهم تابوا! ففلان حج أو اعتمر وفلان بنى مسجداً وفلان أعلن أنه يستمع إلى إذاعة القرآن الكريم "!
نقول: هذا فهم قاصر لمعنى التوبة في حق هؤلاء فإن من شرط توبتهم أن يتوبوا عن مظالمهم وان يقلعوا عن غيهم ويتبرأوا مما بدر منهم في حق دين الحق ويندموا على ما بارزوا به الإسلام والمسلمين ويعلنوا ذلك على الملأ.
وقد يقول قائل: " لعلهم تابوا ولكن حيل بينهم وبين إعلان توبتهم "
نقول: هذا محتمل وقد قال الله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} البروج (10)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (..... وإنما الأعمال بالخواتيم) (3)
والخواتيم مغيبة فلهذا كان من أصول أهل السنة عدم الحكم لمعين بالجنة ولا الحكم على معين بالنار إلا بنص من الوحي ولكن هذا لم يمنعهم من أن يجروا أحكام الإسلام على من كان يظهر الإسلام في الدنيا وأحكام الكفر على من أظهره في الدنيا وانشرح به صدره ولم يمنعهم ذلك أيضاً من أن يحذروا من ضلال المضلين وتلبيس الملحدين مع علمهم بأن الخواتيم مغيبة إذ إن ذلك من واجبات الديانة.
__________
(3) قطعة من حديث رواه الشيخان - انظر " جامع الأصول " (10/220- 221) .(1/6)
وحينما نعرض الوثائق التاريخية التي تنطق بإدانة أولئك المتمسلمين الذين رفعوا عقيرتهم بالصد عن سبيل الله فإن مقصودنا الأول هو تحذير المسلمين من ضلالهم أما القطع بخاتمة شخص معين أو الحكم عليه بجنة أو نار فهذا لا يملكه إلا العزيز الغفار.
ومن هنا يتضح لك الجواب عما رمانا به أحد " عُباد الصليب " وقد أخذته الحمية وتدفقت من قلبه الغيرة على شخصيات تناولها البحث بالنقد فكتب في (الأهرام)
تحت عنوان: " تشويه العظماء ":
(إن محاولات هؤلاء المتخلفين وهجماتهم لم تقتصر على أعلامنا الأحياء بل امتدت لتشمل روادنا الراحلين أي أن حقد المتخلفين لم يقف احتراماً للموت بل استطاع أن يتجاوز حواجزه حتى ينفث سمومه هناك حيث رحاب الله وانهالت عليهم تهم الإلحاد
والكفر والزندقة وكأن هؤلاء المتخلفين قد ورثوا بابوات روما في العصور الوسطى المظلمة في منح صكوك الغفران لمن يحبونه وحجبها عمن يحقدون عليهم!!
(قلت: أنت أدرى!!) .
وقد آن الأوان ليعلم هؤلاء المتخلفون الجهلاء أن السلطة الوحيدة التي تملك حق اتهام الآخرين على وجه هذه الأرض هي السلطة القضائية وذلك بناء على قرائن وشواهد محددة أما أن يتخيل جاهل متخلف أن في قدرته تحديد الذاهبين إلى الجنة والساقطين في الجحيم فإنه بهذا يتدخل في إرادة الله سبحانه وتعالى) اهـ
ولا أجد جواباً عليه إلا أن أنقل قوله:
(ولكي ندرك خطورة ما يجري الآن فلنا أن نتخيل حياتنا الثقافية بدون طابور روادنا العظام ابتداء برفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وهدى شعراوي ولطفي السيد وطه حسين، ... وسلامة موسى ومحمد مندور وانتهاءً بتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود(1/7)
ولويس عوض وأمينة السعيد وعبد الرحمن الشرقاوي وحسين فوزي ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وغيرهم ممن حملوا شعلة الثقافة المستنيرة عبر ما يزيد عن قرن ونصف من الزمان) اهـ
ثم أتساءل: ما هو الذي يجمعك يا عابد الصلبان مع هؤلاء الرواد " العظام " سوى وحدة الهدف؟
إن وثائق الإدانة لهؤلاء الرواد العظام (!) تتزاحم أمامي الآن كل منها يستبق ليحتل السطور القليلة في هذه المقدمة ولكني أرجئ أغلبها وأتخير وثيقة واحدة وهي عبارة مظلمة نطق بها يوماً أحد روادك العظام وهو الذي أسماه أبوه (أحمد بهاء الدين) قال:
قال:
(لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيداً عن اللف والدوران وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير أما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل ومن باب تنظيم حياة نزلت في مجتمع بدائي إلى حد كبير ومن ثم فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا) اهـ (4)
إن الإسلام دين الله الحق لا يهزم أبداً في معركة شريفة ولا يهاب الصراع مع الباطل أياً كان إذ:
(ليس الخطر الذي يهدد المجتمع الإسلامي ناشئاً عن هذا الصراع فالصراع بين الأصيل والدخيل سنة من سنن الله العليم الحكيم يضرب فيها الحق والباطل
{فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} الرعد آية 17 ليس هذا الصراع إذاً مصدر خطر بل إنه ربما يدعو إلى التفاؤل والاطمئنان ولكن مصدر الخطر وعلامته هي أن يزول هذا الصراع وأن يفقد الناس الإحساس
__________
(4) انظر: (الصحافة والأقلام المسمومة) للأستاذ أنور الجندي - ص (214) .(1/8)
بالفرق بين ما هو إسلامي وبين ما هو غربي إن فقدان هذا الإحساس هو النذير بالخطر لأنه يعني فقدان الإحساس بالذات فالجماعات البشرية إنما تدرك ذاتها من طريقين معاً: من طريق وحدتها التي تكونها المفاهيم والتقاليد المشتركة ومن طريق مخالفتها للآخرين التي تنشأ عن المغايرة والمفارقة ولذلك كان الخطر الذي يتهدد هذه الوحدة يأتيها من طريقين: الشعوبية التي تفتتها والعالمية التي تميعها فزوال الإحساس بالمغايرة والمفارقة هو هدم لأحد الركنين اللذين تقوم عليهما الشخصية وهذا هو ما لا نريد أن يكون، نريد أن يظل هذا التمييز بين ما هو إسلامي وبين ما هو طارئ مستجلب - شرقياً كان أو غربياً - حياً في نفوس الأجيال الصاعدة والتالية وهي أمانة تلقاها جيلنا عمن قبله ولابد أن يحملها إلى من يجئ بعده) (5)
وأخيراً لا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل من أعان على نشر هذا الكتاب والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الإسكندرية في الجمعة الثالث عشر من شهر الله المحرم 1406 هـ.
__________
(5) (الإسلام والحضارة الغربية) ص (59- 60) .(1/9)
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إلى إلا الله وحده وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
(آل عمران: 102)
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}
(النساء: 1)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب: 70)
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
بين يديك - أيها القارئ - مواقف تاريخية تبين لك فصول (المعركة) التي نشبت في أواخر القرن الماضي واستمرت أمداً بعيداً بين (الحجاب) وبين (السفور) بين (العفة والفضيلة) وبين (التهتك والرذيلة) .(1/11)
وقد تركز البحث حول تاريخ هذه المعركة في (مصر) وإن كان من حقه أن يستوفي تفاصيل المعركة في سائر البقاع الإسلامية ولهذا الأمر مسوغات
- منها عزة المصادر المرضية التي يمكن من خلالها استنباط المقصود.
- ومنها أن مصر لما لها من مركز حساس ولما تتمتع به من صدارة تؤهلها للقيادة الفكرية - يقر بها الجميع - كانت الأسوة والقدوة في شتى المجالات بعامة وفي مجال
(المرأة) بخاصة الأمر الذي جعل من فصول المعركة خارجها صورة مطابقة لما حدث فيها ولا ينسى التاريخ وصية الملك " عبد العزيز " لأبنائه بأن يقيسوا حال الأمة العربية قوة وضعفاً بحال مصر فهي ميزان قوة العرب والمسلمين (6)
ولا ينسى التاريخ أن دفاع المسلمين المصريين ضد الإنكليز وعملائهم من دعاة ما يسمى بـ (تحرير المرأة) كان انطلاقاً من وجهة نظر الشاعر " أحمد محرم " التي يلخصها قوله مشيراً إلى " مصر ":
احفظوها إن مصر إن تضع ضاع في الدنيا تراث المسلمين
ومن هنا لم يكن عفواً أن يبدأ المبشرون الصليبيون بمصر قلعة الإسلام الصامدة ومركز ثقله ولم يكن عفواً أن يكون قادة الغزو الصليبي الجديد لمصر من القساوسة المعروفين بكيدهم للإسلام والمسلمين أمثال " دنلوب " هذا الكاهن الذي:
(خلع عنه ثوب الكهنوت ودخل في خدمة الحكومة يدير مدارسها في خلال ربع
قرن فكان يناهض القرآن مناهضة سرية متواصلة) (7)
وأمثال" كرومر" الذي تخرج هو ودنلوب من أكبر المدارس اللاهوتية في أوربا (8)
وغيرهم من النصارى الذين رحلوا إلى مصر ليتخذوها قاعدة انطلاق وليجندوا زملاءهم من المنافقين والمنافقات الذين أظهروا أسماء المسلمين وأبطنوا قلوب الذئاب
{يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}
(البقرة:9)
فمن هنا جاز تجريحهم وكشف عوارهم تحذيراً منهم ونصيحة للمسلمين كما بين ذلك علماء " الجرح والتعديل "
{ولا عدوان إلا على الظالمين} (البقرة: 193)
ولله در القائل:
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولولا رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب
__________
(6) "مدافع آية الله " لمحمد حسنين هيكل (ص 254) ، وانظر ص (17، 252) من نفس المصدر،
وانظر أيضاً: " تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين " للشيخ عبد الله الشرقاوي المطبوع
بهامش " فتوح الشام " للواقدي ص (11،17- 21) .
(7) " المخاطر التي تواجه الشباب المسلم " د / " مصطفى حلمي " ص (28) نقلاً عن (الإسلام وآسيا أمام
المطامع الأوربية) تأليف أوجين يونج ص (157) .(1/12)
هذا وقد حرصت أن أعزو - ما استطعت - كل قول إلى قائله لأخرج من تبعته وقصرت جهدي على الجمع والترتيب إلا فيما لابد منه من التوضيح والتهذيب.
وهذا الجزء هو الأول من مجموعة (عودة الحجاب) يتلوها إن شاء الله تعالى الأجزاء:
الثاني، وموضوعه: المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية.
والثالث، ويتضمن: مقدمة في ذم التبرج والحث على الحجاب - شروط زي المرأة المسلمة - الاختلاط وأضراره - معاني الحجاب وتاريخه - بدعة الدعوة إلى السفور - السفور والغيرة - السفور والحياء - أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب انتقاب المرأة وسرد المذاهب في ذلك ومناقشة أدلة المخالفين.
والرابع، ويتضمن: ثلاث قضايا جامعة: تعليم المرأة، وعمل المرأة، وأحكام القرار في البيوت - يسر الله إتمامها.
__________
(8) " المرأة ومكانتها في الإسلام " لأحمد عبد العزيز الحصين ص (207) .(1/13)
- هذا عدا مسائل أخرى تفرعت من أبواب هذا البحث تعم الحاجة إلى تبيينها وإن بعدت عن المقصود الأصلي منه ولكن قد يذكر الشيء بالشيء وتصح الإضافة بأدنى مشابهة في الزي والفيء وكلها نبضات قد يعوزها الترتيب والتنسيق ولكن أرجو ألا يعوزها الصدق والتوفيق والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل سعيي هذا مشكوراً وجهدي في هذا الجمع والترتيب - وإن كنت مقلاً - مبروراً ويتوب علينا وعلى سائر العصاة فيما فرط منا من السيئات والذنوب توبة لا يصيبنا بعدها نصب ولا يمسنا فيها لغوب وحسبي بعد ذلك أن أدعو الله أن لا يصرف من نيتي شيئاً إلى غيره وأن يوفقني كي لا أبتغي بما سطرته إلا وجه الله والدار الآخرة فإن من كان همه هناك كان في شغل شاغل عن مدح المادحين وقدح القادحين
{إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله وعليه توكلت وإليه أنيب}
(هود: 88)
والحمد لله رب العالمين.(1/14)
معركة الحجاب والسفور
(قضية المرأة)
بين المنهزمين والمتآمرين (9)
إن جملة الأحكام التي يطلق عليها عنوان (الحجاب) هي في الحقيقة مشتملة على أهم أجزاء النظام الاجتماعي في الإسلام فإذا وضعت هذه الأحكام موضعها الصحيح في النظام الإسلامي بكامله ثم تأملها أحد فيه أثارة من البصيرة الفطرية السليمة لم يلبث أن يعترف بأنها الصورة الوحيدة الممكنة التي تضمن القصد والاعتدال في الحياة الاجتماعية
وأن هذه الأحكام لو عرضت على العالم منفذة في الحياة العملية بروحها الحقيقية الصحيحة لهرولت الدنيا المنكوبة إلى هذا النبع الصافي تلتمس فيه الدواء لأدوائها الاجتماعية المتفشية بدل أن تنفر منه أو تطعن عليه.
في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ومطلع القرن التاسع عشر فوجئت الممالك الإسلامية بطوفان من الاستعمار الغربي وبينما المسلمون في هجود الكرى لم يستيقظوا بعد كل اليقظة جعل هذا السيل يمتد من قطر إلى قطر حتى شرق العالم الإسلامي وغرب وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيداً للغرب الأوربي وخولاً له والتي لم تدخل منها في عبوديته لم تسلم من الخضوع لسلطانه ورهبة بأسه وسطوته.
ولما بلغ هذا الانقلاب تمامه بدأت في المسلمين آثار اليقظة والحركة فلما فتحوا أعينهم على الحال التي قد صاروا إليها فشلت ريحهم وزال عنهم بغتة ذلك
__________
(9) مستفاد بتصرف من كتاب " الحجاب " للمودودي رحمه الله ص (37- 47) طبع مؤسسة الرسالة.(1/15)
الفخار والاعتزاز الذي طالما تأصل فيهم لبقائهم في عز الغلبة ومجد السيادة قروناً متوالية فعادوا يفكرون في أنفسهم كالسكران يفيقه توالي الضربات من عدو شديد ويبحثون عن الأسباب التي هبطت بهم وغلبت الإفرنج عليهم غير أن عقولهم لم تكن ثابت بعد إلى رشدها إذ كان السكر لا ريب قد ذهب عنهم ولكن ميزان الفكر كان لا يزال مختلاً فيهم:
فبجانب كان يلح بهم شعور بالذلة والهوان ويؤزهم أزاً على تبديل ما هم فيه من الأحوال وبجانب آخر يغلبهم من حب الراحة وإيثار الدعة والارتخاء ما يحملهم على توخي أقرب الطرق وأسهلها لتبديل تلك الحالة وقد خارت فيهم من جهة ثالثة قوى الفكر والعقل وصدئت ملكات الفهم والذكاء بطول تعطلها عن العمل زد على ذلك كله ما أخذ بمجامع نفوسهم من الدهشة والروعة التي تعتري بالطبع كل أمة منهزمة مستعبدة،
وتغلغلت هذه العوامل في محبي الإصلاح من المسلمين وأوقعتهم في كثير من الضلالات العقلية والعملية فأكثرهم ما كادوا يفطنون للأسباب الحقيقية في ارتقاء أوربة وانحطاطهم وأما الذين فهموها منهم وأدركوها فأعوزهم من بعد الهمة والعزيمة ما يتشجعون به على اختيار الطريق الوعرة للرقي والتقدم وكان من وراء ذلك كله الروعة والدهشة التي تعتري الطائفتين على السواء فلما مضوا بهذه العقلية المريضة الزائفة يريدون الإصلاح لم يروا أضمن للرقي من ولا أدنى للوصول إليه من أن يحاكوا في حياتهم اليومية كل مظاهر التمدن والحضارة الغربية فيعودوا كالمرآة الصافية يرى فيها خيال الروضة والأزهار والرياحين وليس فيها من حقيقة هذه المناظر من شيء.
" لتتبعن سنن من كان قبلكم " (10)
وهذه هي الفترة الانهزامية التي غدت الأمم الإسلامية فيها تحاكي أمم الغرب
__________
(10) صدر حديث رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي " وتتمته: =(1/16)
في الزي واللباس وسائر المظاهر الاجتماعية في آداب المجالس وأطوار الحياة حتى في الحركة والمشي والتكلم والنطق لقد حاولوا تشكيل المجتمع المسلم على الصيغة الغربية وقبلوا الإلحاد والدهرية والمادية في نشوة التجدد بدون حيطة أو شعور بالعواقب وعدوا من لوازم التنور الفكري إيمان المرء بكل ما بلغه من قبل الغرب من فكرة ناضجة أو فجة والإفاضة فيه في مجالسه ورحبوا بالخمر والقمار واليانصيب والتهتك والرقص وما إلى ذلك من ثمرات الحضارة الغربية ثم سلموا بجميع معتقدات الغرب وأعماله في الأخلاق والآداب والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون حتى في العقائد الإيمانية والعبادات سلموا بكل ذلك من غير فهم أو شعور ومن غير نقد أو تجريح كأنه تنزيل من السماء ليس لهم قبله إلا أن يقولوا: (آمنا) وأصبح المسلمون أنفسهم يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام بالتحقير والتعيير ولو كان هذا الشيء من الأمور الثابتة في الشرع الحنيف وطفقوا يحاولون أن يمحوا تلك السبة عن أنفسهم:
- اعترض الغربيون على ما عندهم من أحكام الجهاد فقال هؤلاء المنهزمون:
(ما لنا وللجهاد يا سادة؟ إنا نعوذ بالله من هذه الهمجية) ...
- اعترضوا على الرق فقال هؤلاء: (إنما هو حرام عندنا أصلاً) (11)
- وأطالوا لسان القدح في تعدد الزوجات فجاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه (12)
- ثم قال أولئك الغربيون: (لابد من مساواة الرجل والمرأة في جميع نواحي
__________
= (.... شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى
لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)
(11) انظر " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " للشنقيطي (3/386- 389) .
(12) انظر المرجع السابق (3/773- 380)(1/17)
الحياة) فوافقهم المنهزمون وقالوا: (وهذا هو الذي ينادي به ديننا ويدعو إليه) .
- وطعن القوم في أحكام الزواج والطلاق في الإسلام فقامت طائفة من المنهزمين تعالجها بالإصلاح والتعديل.
- ولما عابوا الإسلام بأنه عدو لما يسمى (الفنون الجميلة) استدرك هؤلاء قائلين:
(كلا بل ما زال الإسلام مذ كان يحتضن هذه الفنون ويحضوا عليها ويشرف على الرقص والموسيقى والتصوير والغناء ونحت التماثيل......)
ففي سبيل دفع تهم الجمود التي يلصقها الغربيون بالشريعة رأينا هؤلاء المنهزمين ينجرفون إلى أقصى الطرف المناقض في بيان ما تنطوي عليه الشريعة من مرونة التطبيق حتى يبلغوا بهذه المرونة حد الميوعة وانعدام الذات والمقومات تلك الميوعة التي تجعلها صالحة لأن تكون ذيلاً لأي نظام وتبعاً للأهواء وبذلك ينتهون إلى إلغاء وظيفة الدين لأنهم بدلاً من تقويم عوج الحياة بنصوص الشريعة يحتالون على نصوص الشريعة حتى يبرروا بها عوج الحياة المعاصرة.
نشأة " مسألة الحجاب ":
كان هذا الدور أخبث الأدوار وأخزاها في تاريخ المسلمين ففي هذا العصر نشأت
" مسألة الحجاب " ولو كان البحث في هذه المسألة مقصوراً على تعيين الحد الذي وضعه الإسلام لحرية المرأة لهان الأمر ولم يستعص حله لأن أكثر ما هنالك من الاختلاف بين المسلمين في هذا الباب هو منحصر في وجه المرأة ويديها: هل يجوز إبداؤها أم لا؟ وليس في هذا كبير خطورة ولكن الواقع ههنا غير ما ذكرنا.
الواقع في الحقيقة أنه نشأت هذه المسألة في المسلمين لكون الغرب قد نظر(1/18)
إلى الحجاب والنقاب بعين المقت والازدراء وصوره أقبح تصوير وأشنعه فيما كتب ونشر وعدَّ (حبس) المرأة - على حد تعبيره - من أبرز عيوب الإسلام ولكن أنى للمنهزمين أن يغضوا عن هذه النقيصة التي أخذها (سادتهم) عليهم فيما أخذوا؟! لقد فعلوا في هذه المسألة - الحجاب - مثل ما فعلوا في مسائل الجهاد والرق وتعدد الزوجات وما شاكلها من المسائل فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى الكتاب والسنة يتصفحون أوراقهما وإلى كتب الفقه والأحكام ينقبون عن اجتهادات الأئمة فيها وأقوال الفقهاء لعلهم يجدون في ثناياها ما يعينهم على أن يغسلوا عن أنفسهم هذا العار الذميم الذي عيرهم به الغربيون.
فإذا بهم يقعون على أقوال لبعض الأئمة تجيز للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها وتخرج كذلك من بيتها لحوائجها ويؤخذ منها أيضاً أن المرأة يجوز لها أن تشهد الحرب لسقي المجاهدين ومداواة الجرحى ثم وجدوا في تلك الأقوال إذناً بخروج المرأة إلى المسجد للصلاة وجلوسها للتعلم والتعليم فكفاهم هذا القدر من المعلومات لأن يدعوا أن الإسلام قد أعطى للمرأة حرية مطلقة (13) وأن الحجاب من تقاليد الجهلاء اتخذه المتأخرون من المسلمين الجامدين المتشددين ولا أثر له في آية ولا في حديث وإنما القرآن والسنة يعلمان الحياء والعفاف على سبيل التوجيه الخلقي العام وليس فيهما قانون أو ضابط بقيد حركة المرأة وتنقلها بقيد ما.
ومن الضعف الطبيعي في الإنسان إنه إذ اختار مذهباً من المذاهب في شئون حياته يكون بدء اختياره لذلك المذهب بنزعة عاطفية غير عقلية ثم يأتي بعد ذلك فيستعين بالمنطق والعقل ليثبت كون نزعته تلك صحيحة معقولة كذلك وقع في أمر الحجاب أيضاً فما عرضت للمسلمين مسألة الحجاب لشعورهم بضرورة عقلية أو شرعية إليه وإنما أتت من ذلك الميل والنزوع الذي نشأ من تأثرهم ببريق
__________
(13) يأتي في ثنايا هذا البحث إبطال هذه الادعاءات ومناقشة شبهات القوم إن شاء الله تعالى.(1/19)
حضارة أمة غالية ومن ارتياعهم لدعاية تلك الأمة ضد التمدن الإسلامي.
وذلك أن المسمين برجال (الإصلاح) لما رأوا المرأة الأوربية وما هي عليه من زينة وحرية في الحركة والجولة ونشاط زائد في المجتمع الغربي.... لما رأوا كل هذا بعيون مسحورة وعقول مندهشة تمنوا بدافع الطبيعة أن يجدوا مثل ذلك في نسائهم أيضاً حتى يجاري تمدنهم تمدن الغرب ثم أثرت فيهم الدعوات الجديدة إلى تحرير المرأة وتعليم النساء ومساواتهن بالرجال ... تلك الدعوات التي كانت تنصبُّ عليهم كالوابل المدرار بلغة قوية منطقية وفي طبع أنيق كذاب حتى أماتت هذه الكتب والمنشورات الغربية بقوة دعايتها ملكة النقد والتجريح عندهم فاستقر في سويداء قلوبهم أنه لابد لكل من يرغب أن يعدَّ من (المتنورين التقدميين) ويدفع عن نفسه تهمة (الرجعية والتخلف) أن يؤمن بتلك النظريات إيمانه بالغيب ويؤيدها ويحامي عنها فيما يكتب ويخطب ثم يروجها في الحياة العملية بحسب ما أوتي من همة وجراءة كان هؤلاء تكاد تسوح بهم الأرض من فرط الخجل حينما يرون الغربيين يتهكمون بنسائهم المتنقبات المستورات في اللباس العادي وينبذونهن بـ (الجنائز المكفنة المتحركة) وإلى متى - يا ترى - يطيق القوم الصبر على هذه الوخزات؟ ... لذلك استعدوا آخر الأمر - طوعاً أو كرهاً - لأن يقوموا فيدفعوا عن أنفسهم هذا العار المخزي.
وهذه النزعات والعواطف هي التي دفعت المنهزمين إلى أن يقوموا بحركة ما يسمى
: (تحرير المرأة) التي بدأوها في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي فمنهم من كانت هذه النزعات كامنة في شعورهم الخفي فلا يدرون بأنفسهم ماذا يجرهم ويدفعهم إلى تلك الحركة فكانوا مخدوعين عن أنفسهم ومنهم آخرون كانوا يشعرون بنزعاتهم شعوراً تاماً ولكنهم يستحيون ويحجمون عن إبداء نزعاتهم الحقيقية فهؤلاء لم يكونوا مخدوعين بل دهاة خادعين وأياً كان الأمر فقد قام(1/20)
كلا الفريقين بعمل واحد ألا وهو: سحب ذيل الخفاء
على المحركات والدوافع الحقيقية لحركته تلك وحاول أن يظهرها بمظهر حركة عقلية بدلاً من إظهارها حركة عاطفية وساق في تأييدها جميع الأدلة التي تلقاها من الغرب مباشرة كصحة النساء وارتقائهن في مجال الفكر والعمل وحقوقهن الفكرية واستقلالهن الاقتصادي وتخلصهن من ظلم الرجال وأثرتهم وانحصار رقي المدنية في رقيهن لكونهن شطراً كاملاً من الأمة ... إلى آخر هذه الحجج وحتى ينخدع عامة المسلمين ولا يفتضح عليهم صميم المقصد من تلك الحركة وهو حمل المرأة المسلمة على اقتفاء آثار المرأة الأوربية واتباع المناهج الاجتماعية الرائجة بين أمم الغرب أعني: اليهود والنصارى ...
ولكن الأدهى والأخبث أنهم عادوا يخدعون الناس في هذا الصدد عن طريق احتيالهم في إثبات حركتهم الضالة بنصوص واستنباطات من الكتاب والسنة بالرغم من وجود البون الشاسع بين المنهج الإسلامي الرباني في الاجتماع ومقاصد هذه الشريعة العليا وبين مبادئ النظام الاجتماعي الأوربي ومقاصده.
فإن المقصد الأعلى الذي يريد أن يحققه الإسلام من خلال نظامه الاجتماعي هو صون الأعراض وكبح جماح الشهوات وترويضها وضبطها وتقييدها بضوابط أخلاقية تضمن استعمالها في خير الإنسان وطهارته بدل إهمالها أو تضييعها في الفوضى والهمجية.
وأما النظام الاجتماعي الغربي فعلى العكس من ذلك يرمي إلى الحث على سير التمدن بإشراك المرأة والرجل في تدبير شؤون الحياة وتحمل تبعاتها على حد سواء واستعمال الشهوات في فنون ووسائل تحول متاعب الحياة إلى لذات ومسرات.
ومن هنا يتضح الفرق إذ أن الإسلام يضع نظاماً للاجتماع ليخدم مقاصده،(1/21)
فقد فصل فيه بين دائرتي عمل الرجل والمرأة إلى حد كبير وحُظر اختلاط الذكور بالإناث بدون قيد خلقي ثم حسمت فيه جميع الأسباب التي يمكن أن تخل بهذا الضبط والتقييد وبذلك تجفف منابع الفتنة وتسد الذرائع إليها وتراعى حرمات الله وتؤدى حقوقه سبحانه وتعالى وكذا حقوق النفس وحقوق الخلق في انسجام فطري وتناسق طبيعي وهذا بخلاف النظام الأوربي الذي يدفع الجنسين إلى ميدان مشترك في الحياة مع رفع جميع الحجب من بينهما تلك الحجب التي تحول دون اختلاطهما الحر ومعاملتهما المطلقة التي لا تحدها حدود.
ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي ثم يُسوِّغون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي.
إن أقصى ما أوتيت المرأة من الحرية في النظام الإسلامي هو أن تبدي وجهها وكفيها إذا دعت الضرورة وأن تخرج من بيتها لحاجتها ولكن هؤلاء يجعلون هذا الحد الأقصى من حريتها نقطة البدء وبداية المسير فيقومون إلى آخر حدود الإسلام ويتقدمون في سبيل الحرية ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين بل يجاوزه إلى تعرية الوجه والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيأة القبيحة المعروفة وهي الهيأة التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط بل يخرجن بكل تبرج من بيوتهن ويمشين في الأسواق ويخالطن الرجال في الجامعات ويأتين الفنادق والمسارح ويتبسطن مع الرجال الأجانب ...
ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف على أنها يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات وتتردد إلى المنتزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة وأفتنها للناظرين ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشؤون المنزلية - ذلك الإذن(1/22)
المقيد المشروط بأحوال خاصة - يتخذ حجة ودليل على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تماماً وحذو القذة بالقذة كما فعلت الإفرنجية.
وها هو ذا المودودي - رحمه الله - يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في سياستهم العبيد في عقليتهم قائلاً:
(ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يستخرج منه جواز هذا النمط المبتذل من الحياة؟ وإنكم - يا إخوان التجدد - إن شاء أحدكم أن يتبع غير سبيل الإسلام فهلا يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام ويتفلت من شرائعه؟ وهلا يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة التي تزيِّن له أن يتبع علناً ذلك النظام الاجتماعي وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلاً وموضوعاً ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتباع القرآن كي ينخدع به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن)
أهـ(1/23)
حركة " تحرير المرأة " في مصر
البذرة الأولى:
(إن المتتبع لتاريخ ما يسمى بحركة " تحرير المرأة " في مصر يجد أن جذور هذه الحركة تمتد إلى عهد محمد علي باشا والي مصر حينما بعث المبعوثين إلى فرنسا ليتلقوا هناك الخبرات والمهارات الفنية ثم يحملوها معهم إلى مصر لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل رجع المبعوثون من فرنسا حاملين تيارات فكرية مادية دخيلة على دينهم بعد أن بهرتهم رهبانية العلم المادي وتعبدهم سلطان العقل لقد عاد أولئك المبعوثون يحتلون مراكز الصدارة والتوجيه في مختلف الميادين السياسية والتربوية والفكرية) (14)
- دور الشيخ " رفاعة الطهطاوي " (1801- 1873 م) :
(وكان من أعضاء الجيل الأول لهؤلاء المبعوثين الشيخ " رفاعة رافع الطهطاوي " الذي أقام في باريس خمس سنوات " من 1826 - 1831 " تقريباً وكان قد رافق البعثة المصرية كواعظ وإمام لها وما إن عاد إلى مصر حتى بدأ يبذر البذور الأولى لكثير من الدعوات الدخيلة على البيئة المصرية المسلمة تلك الدعوات التي حمل جراثيمها معه من فرنسا مثل الدعوة إلى فكرة " الوطنية القومية " بمفهومها المادي المحدود المنابذ للرابطة الإسلامية بين المسلمين مهما تباعدت أوطانهم وكذا استوحى من واقع الحياة الفرنسية أفكاراً عن المرأة هي أبعد
__________
(14) انظر " الإسلام والحضارة الغربية " للدكتور " محمد محمد حسين " رحمه الله ص (17 - 18) .(1/25)
ما تكون عن شرائع الإسلام وآدابه وقد تجلى ذلك في مواقفه الجريئة من قضايا تعليم الفتاة وتعدد الزوجات وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين حيث ادَّعى في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " (15) (ص 305) أن:
{السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعياً إلى الفساد} اهـ وذلك ليُسوِّغ دعوته إلى الاقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص مدعياً - ما معناه -:
{الرقص على الطريقة الأوربية ليس من الفسق في شيء بل هو أناقة وفتوة}
وأنه لا يخرج عن قوانين الحياء ودعا المرأة إلى التعلم حتى تتمكن من تعاطي الأشغال والأعمال التي يتعاطاها الرجال) (16)
وهكذا كان "رفاعة الطهطاوي" أول من أثار قضية (تحرير المرأة) في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي فسنَّ بذلك أسوأ السنن وبذر هذه الأفكار الدخيلة في التربية الإسلامية ولم يدرك أنه حين ينقل هذه الآراء خاصة ما يتعلق منها بمدلول كلمة "الحرية"
إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى نفس النتيجة التي انتهت إليها أوربة وهي نبذ الدين وتسفيه رجاله والخروج على حدوده لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البراق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية حين تمارس في مختلف صورها وألوانها وفي أوسع حدودها فكان كالجائع المحروم الذي بهرته مائدة حافلة بألوان الأطعمة فيها ما يلائمه وما لا يلائمه ولكنه
__________
(15) (وقد كتب الطهطاوي هذا الكتاب أثناء إقامته في فرنسا وعرضه على أستاذه (جومار) قبل أن ينشره بعد عودته)
اهـ من "السابق" ص (19- 20) .
(وقد بين لنا هذا الكتاب - أي" تخليص الإبريز" - أن صاحبه خلق من جديد في الفترة التي قضاها في فرنسا يأنس إلى علمائها ويأنسون إليه فإذا عاد إلى القاهرة أشرف على حركة الترجمة وعُيِّن رئيساً لتحرير الوقائع المصرية وكتب المقالات وألف الكتب وترجم القوانين وعُيِّن ناظراً لمدرسة الألسن) اهـ من " تطور النهضة النسائية في مصر"لإبراهيم عبده ودرية شفيق ص (53)
(16) " الإسلام والحضارة الغربية " د / محمد محمد حسين ص (36) .(1/26)
لم ينظر إليها إلا بعين حرمانه ولم يرها إلا صورة من النعيم الذي يتوق إليه ويشتهيه.
(وكانت دعوة جريئة من " رفاعة " لم يجد لها معارضاً خاصة وأن حاكم البلاد قد بارك دعوته وبارك أول كتاب وضعه " رفاعة " وهو " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " يبرز فيه تقدم الغرب ويحسن لمواطنيه الانتفاع بتقدمه وأكثر من هذا فقد قرأ"محمد علي"الكتاب قبل نشره - بناء على تزكية له من الشيخ " حسن العطار " شيخ الأزهر - فأمر بطبعه وأصدر أمره بقراءته في قصوره وتوزيعه على الدواوين والمواظبة على تلاوته والانتفاع به في المدارس المصرية بل إنه أمر بعد ذلك بترجمته إلى التركية) (17) اهـ
لقد كان " رفاعة " أول من وضع الأفكار النظرية موضع التنفيذ وأول من أنتج عملاً فكرياً يمهد لخطة اجتماعية عملية وتجلى ذلك في مؤلفيه (تلخيص الإبريز) و (المرشد الأمين) الذي ألفه بناء على أمر الخديوي " إسماعيل " وذلك عام (1872) قبل افتتاح أول مدرسة للبنات ترعاها الحكومة بعام واحد وقبل موت رفاعة بأعوام قليلة ولما كان الخديوي " إسماعيل " يقود - في بداية تلك المرحلة - حركة التحديث في كل الميادين السياسية والفكرية والاجتماعية فقد حاول بعد ذلك أن يقنع أهل الرأي بتأليف كتاب في الحقوق والعقوبات يطبقه في المحاكم بحيث يكون سهل العبارة مرتب المسائل على نحو ترتيب القوانين الأوربية ولكن رفض أهل الرأي من مشايخ الأزهر هذه الدعوة فطلب الخديوي من الشيخ رفاعة إقناعهم بقبول ذلك ولكنه اعتذر عن ذلك على الوجه الذي وصفه الشيخ " رشيد رضا " في كتاب تاريخ الإمام " محمد عبده " على الوجه التالي:
__________
(17) " المؤامرة على المرأة المسلمة " د / السيد احمد فرج ص (38) .(1/27)
قال الشيخ " رشيد ": {حدثني " علي باشا رفاعة بن رفاعة بك الطهطاوي " قال:
إن " إسماعيل باشا " الخديوي لما ضاق بالمشايخ ذرعاً استحضر والده رفاعة بك وعهد إليه أن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب وقال له: (إنك منهم ونشأت معهم وأنت أقدر على إقناعهم فأخبرهم أن أوربا تضطرب إذ هم لم يستجيبوا إلى الحكم بشريعة " نابليون ") فأجابه بقوله: " إنني يا مولاي قد شخت ولم يطعن أحد في ديني فلا تعرضني لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي وأقلني من هذا الأمر" فأقاله} (18)
وكان أن انزوى " الطهطاوي " بعيداً عن مكان الصدارة وانتأى بعيداً ليحتل مكانه الشيخ " محمد عبده " الذي كان في ذلك الوقت في شرخ الشباب يحدوه جرأة الشباب وإقدامه وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل تحرير المرأة.
مرقص فهمي والقذيفة الأولى:
وفي سنة (1894) أي بعد الاحتلال الإنكليزي لمصر بحوالي اثنتي عشرة سنة ظهر أول كتاب في مصر أصدره صليبي حقود من أولياء (كرومر) الملقب باللورد أظهره محتمياً بالنفوذ البريطاني الذي أمَّن له الطريق نحو طعن الإسلام وأهله ذلكم هو (مرقص فهمي) المحامي وكتابه هو (المرأة في الشرق) دعا فيه صراحة وللمرة الأولى في تاريخ المرأة المسلمة إلى تحقيق أهداف خمسة محددة وهي: -
أولاً: القضاء على الحجاب الإسلامي.
__________
(18) " تاريخ الإمام محمد عبده " للشيخ محمد رشيد رضا (1/620- 621) .(1/28)
ثانياً: إباحة اختلاط المرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثاً: تقييد الطلاق وإيجاب وقوعه أمام القاضي.
رابعاً: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامساً: إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط.
وقد أحدث الكتاب ضجة عنيفة ولم يلبث المسلمون حين صدموا به حتى انطلقت في غمرات هذه الضجة قذيفة أخرى تفجرت في الوسط الإسلامي:
- " الدوق دراكير " و " المصريون ":
فقد صدر كتاب ألفه (الدوق دراكير) (19) باسم (المصريون) حمل فيه على نساء مصر وهاجم المصريين وتعدى على الإسلام ونال من الحجاب الإسلامي وقرار المرأة المسلمة في البيت واقتصار وظيفتها على تربية النشء ورعاية الزوج وقد هاجم (المثقفين) المصريين بصفة خاصة لسكوتهم وعدم تمردهم على هذه الأوضاع.
(وقد بدأ الاستعمار الإنكليزي إثر هذه الضجة يبحث عن وسيلة لشد أزر"مرقص فهمي" فلجأ إلى الأميرة [نازلي فاضل] (20) ليستعجلها على عمل شيء يساند"مرقص فهمي" من خلال صالونها) (21)
__________
(19) وكان داركير قد زار مصر ثلاث مرات سائحاً عابراً في خريف عام (1893م) .
(20) وهي ابنة الأمير " مصطفى فاضل " باشا نجل " إبراهيم " باشا ابن " محمد علي " باشا الكبير كان والدها مصطفى
فاضل يعتبر نفسه أحق بعرش مصر من الخديوي إسماعيل ومن هنا كانت الأميرة نازلي تعلن الحرب على الخديوي
(عباس) اهـ من جريدة المساء الخميس (4أغسطس 1983م) من مقالة [هل انتحر محرر المرأة بسبب امرأة؟]
للصحافي مصطفى أمين.
(21) " الحركات النسائية في الشرق " لمحمد فهمي عبد الوهاب ص (13- 14) طبعة دار الاعتصام.(1/29)
- الجذور (22) :
كانت دعوة تحرير المرأة جزءاً من منهج كلي شمل كافة اتجاهات الحياة في المجتمع المصري وتعود خيوطه إلى مدرسة الشيخ "محمد عبده" تلميذ " جمال الدين الأفغاني " أو إن شئت " المتأفغن " (23) وقد سارا على الدرب الذي رسمه الطهطاوي وزاد الأفغاني نشاطه المريب وعلاقاته بالمحافل الماسونية وتبنيه لمبادئ الثورة الفرنسية "الماسونية" (*) .
ومع وجود بعض الجوانب المشرقة في منهاج محمد عبده إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل نشاطه حيث كان له أخطر الأثر في عملية "التغريب" وتقريب الأمة الإسلامية نحو القيم الغربية مما جعل اللورد كرومر يشيد بدعوته وبتلامذته ويعلق عليهم أمله في تغريب المجتمع المصري ويذكر أنهم لذلك يستحقون (أن يعاونوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوربي وتشجيعه) اهـ
ويكفي للتدليل على خطر هذه المدرسة أن نقرر دور تلاميذها في إفساد الحياة في مصر:
فهذا " لطفي السيد " يحيي التاريخ الفرعوني والنعرة الوطنية الإقليمية ويرعى الدعوة إلى "الحرية" بمفهومها الغربي الدخيل على الأمة الإسلامية.
__________
(22) انظر " الإسلام والحضارة الغربية " ص (41 - 100) و " قاسم أمين " للدكتور " ماهر حسن فهمي " ص (19 - 20) .
(23) هناك خلاف منتشر في حقيقة نسب الأفغاني هل هو حقاً أفغاني أم إنه شيعي إيراني انظر (المجلة) العدد 233/3
أغسطس 1984 م / 7 ذو القعدة 1404 هـ - ص (61 - 63) وانظر أيضاً (الإسلام والحضارة الغربية) ص (61 - 63) .
(*) انظر: (دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام) للأستاذ مصطفى فوزي بن عبد اللطيف غزال نشر (دار طيبة) - الرياض وهي دراسة كشفت الكثير من جوانب الغموض في سيرته.(1/30)
وهي كلها مبادئ بلغت مداها على يد تلميذ آخر لمحمد عبده هو (سعد زغلول) .
وهذا تلميذه (قاسم أمين) يفسد الحياة الاجتماعية في مصر بدعوته إلى "تحرير المرأة" بالمعنى الذي يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
لقد كان يريد " محمد عبده " أن يقيم سداً في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه ولكن الذي حدث أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر ثم جاء فريق من تلاميذ"محمد عبده " وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية (اللادينية) .
رام نفعاً فضر به من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقاً(1/31)
قاسم أمين (1865م - 1908م)
فتنة الأجيال وداعية السفور في عهد الاحتلال
(ولد " قاسم أمين " في أول ديسمبر عام 1863م بالإسكندرية والتحق بمدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية وكانت تقع بحي رأس التين إلى جوار السراي) (24)
وقيل (إن أباه "محمد بك أمين" من أصل كردي) (25)
وقيل: (بل أصل الأسرة تركي وإن بعض أفراد أسرة " محمد بك أمين " قد ولي "السليمانية" من أعمال العراق وبقيت الأسرة ردحاً من الزمن تقوم بهذه الولاية حتى ظن أنها كردية وممن صحح هذا "أحمد خاكي" في كتابه "قاسم أمين") (26)
(وكان أبوه قد أخذ رهينة في الأستانة على أثر خلاف وقع بين الدولة العلية والأكراد ثم جاء إلى مصر في عهد إسماعيل باشا وانتظم في الجيش المصري ورقي إلى رتبة أميرالاي وتزوج بكريمة "أحمد بك خطاب" شقيق "إبراهيم باشا خطاب" فولدت له أولاداً أكبرهم " قاسم ") (27)
(وفي سنة 1881م نال قاسم إجازة الحقوق ثم عمل بمكتب صديق والده التركي "مصطفى فهمي" المحامي) (28)
(وانضم للكوكبة التي كانت تحيط
__________
(24) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (30) .
(25) (بناة النهضة العربية) تأليف جرجي زيدان ص (99) .
(26) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (28) .
(27) (بناة النهضة العربية) تأليف جرجي زيدان ص (99) .
(28) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (33) .(1/33)
بجمال الدين الأفغاني حيث التقى بمحمد عبده وسعد زغلول ومحمد فتحي زغلول وعبد الله النديم وأديب إسحاق وغيرهم) (29)
رحل " قاسم " إلى فرنسا ليتم تعليمه هناك وانبهر بالحياة في أوربا حتى أنه صرح بأن:
(أكبر الأسباب في " انحطاط " الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة التمثيل والتصوير والموسيقى) (30)
(وبعد أن كان يقر العامة حين يقولون: " مصر أم الدنيا " فإنه الآن في باريس يقول أن الأصح أن تسمى " خادمة الدنيا ") (31)
(ويتعرف قاسم على صديقته الفرنسية " سلافا " التي تصاحبه إلى المجتمعات الفرنسية والحفلات ويتعرف إلى كثير من الأسر وتقوى العلاقة بينهما فبينما كان يقرأ في مصر مقدمة ابن خلدون وإحياء علوم الدين للغزالي والأغاني نجده في فرنسا يقرأ مع زميلته حكم لارشفوكو وشعر لامارتين وفلسفة فنلون ورينان وأعمال فولتير وروسو وسبنسر وغيرهم) (32)
(وكانت في فرنسا في الوقت نفسه حركة نسائية كما كانت في إنكلترا وأمريكا حركة نسائية أخرى..) (33)
(كل هذه الأفكار تأثر بها مصري يعيش في قلب باريس في قلب هذه النظريات) (34)
__________
(29) (قاسم أمين) لأحمد خاكي ص (45) .
(30) (كلمات) تأليف قاسم أمين ص (24) .
(31) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (44) .
(32) السابق ص (40 - 41) .
(33) السابق ص (43) .
(34) السابق ص (43) .(1/34)
(وفي هذا الوسط اضطرب قاسم المسلم الشرقي) (35)
والتقى قاسم في فرنسا بالأفغاني ومحمد عبده وانضم إلى جمعية العروة الوثقى واتخذه محمد عبده مترجماً له) (36)
(وبعد أن أتم قاسم دراسته في فرنسا طلب إليه أستاذه لرنود أن يعمل معه بضعة شهور يكتسب فيها خبرات عملية ووافق قاسم أمين) (37)
الخطوة الأولى:
رده على " داركير "
قرأ قاسم أمين كتاب داركير عن المصريين فتألم أشد الألم حتى قيل إنه مرض عشرة أيام بعد قراءته لشدة تأثره فحاول أن يدافع عن المصريين والإسلام وألف رداً بالفرنسية حاول فيه تفنيد اتهاماته لمصر والمصريين وبين فيه فضائل الإسلام على المرأة المصرية ورفع من شأن الحجاب وعده دليلاً على كمال المرأة وحاول شرح الحكمة الإيجابية في قوانين الشرع الإسلامي إلا أن دفاعه قد بدا تبريرياً وشرحه قد اتسم بالخنوع والذلة فيقول وكأنه يناشد داركير أن يعتبر الإسلام في مرتبة النصرانية والمجوسية:
(إن الإسلام دين خلقي لا يقل عن المجوسية ولا عن المسيحية وإن روح القرآن لا تختلف عن الروح الإنجيلية) (38) اهـ
ويقول أيضاً:
( ... ولهذا كان أمامها - أي مصر - طريقان: العودة إلى تقاليد الإسلام أو محاكاة أوربا وقد اختارت الطريق
__________
(35) السابق ص (45) .
(36) السابق ص (47) .
(37) السابق ص (51) .
(38) (قاسم أمين - الأعمال الكاملة) تحقيق دكتور محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1976 -
(ج 1 / ص 217) .(1/35)
الثاني.. إنها قد خطت اليوم بعيداً في هذا الطريق حتى ليصعب عليها الارتداد عنه إن مصر تتحول إلى بلد أوربي بطريقة تثير الدهشة وقد أخذت إدارتها وأبنيتها وآثارها وشوارعها وعاداتها ولغتها وأدبها وذوقها وغذاؤها وثيابها تتسم كلها بطابع أوربي.. لقد اعتاد المصريون قضاء الصيف في أوربا (؟!) كما اعتاد الأوربيون قضاء الشتاء في مصر فلعل أوربا تقدر لمصر مسيرتها ولعلها ترد لها يوماً بعض هذا الود الكبير الذي تكنه لها مصر) (39) اهـ
ومما يجدر الإشارة إليه أن قاسماً استنكر في كتابه - المصريون - خطة بعض السيدات المصريات اللائي يتشبهن بالأوربيات فاقتنص بعض خصومه الفرصة ووشوا به إلى الأميرة نازلي بأن قاسماً إنما يعنيها هي بهذا التعريض بذم المصريات اللائي يقلدن الإفرنجيات ويسرن سيرتهن لأنه لم يكن في نساء مصر آنذاك من يتشبه بالنساء الأوربيات غيرها (40)
فقد كانت الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تبث منه الدعوة إلى التغريب عامة وإلى "تحرير المرأة" خاصة (41) .
__________
(39) المصدر السابق (1/263) .
(40) من مقال لداود بركات رئيس تحرير الأهرام (جريدة الأهرام مايو 1928 (.
(41) {وكان من رواد " صالون الضرار " هذا سعد زغلول والشيخ محمد عبده واللقاني ومحمد بيرم وغيرهم وكانت نازلي
تؤيد هؤلاء في قصر الدوبارة وهو مقر المندوب السامي الإنكليزي ضد قصر عابدين وتسعى لترقيتهم وهم يعتمدون
عليها في كل أمر وكانت الأميرة نازلي قد افتتحت هذا المنتدى إثر عودتها إلى مصر بعد الاحتلال وبعد أن قويت روابطها
مع اللورد كرومر واتخذت من المعتمد البريطاني أداة لحماية رواد هذه الدعوة وتعبئتهم لتوجيه هذه الحركة متى أمكن
ذلك} اهـ من (الأخوات المسلمات) ص 240 وما بعدها، (الحركات النسائية في الشرق) ص 15، مقالة داود
بركات في عدد الأهرام الخاص بمرور 75 عاماً على تأسيسه.(1/36)
- رد فعل الأميرة " نازلي ":
غضبت الأميرة مما فعله قاسم أمين وقالت للشيخ (محمد عبده) قولاً شديداً بعد أن هددت وتوعدت وقد أشير إلى جريدة (المقطم) لسان حال الإنكليز في مصر في ذلك الوقت - أن تكتب ست مقالات تتعقب آراء قاسم أمين في كتابه المصريون وتفند أخطاؤه في دفاعه عن الحجاب واستنكاره الاختلاط بين الجنسين ولكن لم تلبث هذه الحملة أن ألغيت بعد أن اقتنع قاسم أمين بضرورة تصحيح خطأه (42)
واتفق معه (سعد زغلول) و (محمد عبده) على أن ينشر كتاباً يصحح فيه خطأه ويؤيد فيه الدوق دراكير ويواصل مناصرته لكتاب (المرأة في الشرق) للقبطي (مرقص فهمي) وهكذا خرج قاسم أمين على البلاد بكتابه " تحرير المرأة " سنة (1899 م) ودعا فيه إلى نفس ما سبق أن دعا إليه ذلك الصليبي بحذافيره اللهم إلا أنه لم يتعرض لمسألة زواج المسلمات من الأقباط.
__________
(42) وقد حكت " هدى شعراوي " في مذكراتها المنشورة بمجلة (حواء) العدد رقم (1221) بتاريخ 16 فبراير 1980م
عن الشيخ عبد العزيز البشري أنه قال في احتفال بذكرى قاسم أمين:
(إن كثيرين من الحاضرين كانوا أشد من وجع الضرس وضرباته على دعوة قاسم أمين وعلى شخص قاسم أمين وقال: إن قاسماً كان في مبدأ حياته من الرجعيين حتى أنه لما رد على الدوق دراكير دافع عن الحجاب واستنكر السفور فظنت الأميرة نازلي فاضل - وكان مجلسها يجمع العلماء والفضلاء أمثال محمد عبده وسعد زغلول وعبد الكريم سلمان وفارس نمر ويعقوب صروف والمويلحي وأبنه - أنه يقصدها فغضبت لذلك ولكن سعداً قدم صديقه إليها ولما رأى شدة عقلها ورجاحة حلمها ووثاقة فضلها انقلب عن رأيه وأخذ يطالب بتحرير المرأة) اهـ(1/37)
- أثر الأميرة " نازلي " في فكر الشيخ " محمد عبده ":
كان الشيخ محمد عبده مقرباً لدى الأميرة نازلي فاضل وقد سعى لأستاذه الأفغاني كي يتوسط لها لدى السلطان في الآستانة ليمنحها وساماً سلطانياً (43) .
وكانت هي قد سعت لدى الخديوي " توفيق " ليعفو عن الشيخ محمد عبده عقب عودته من منفاه كما التمست وساطة كرومر للأمر نفسه (44) وتم المراد وعفا عنه الخديوي.
وقد أدركت تلك الأميرة ما للشيخ من تفوق عقلي وخلقي فخصته بمكانة متميزة (45) .
وقد ظهر تأثيرها على موقف الشيخ محمد عبده من الإنكليز الذين كان يشتد عليهم قبل التعرف على الأميرة أثناء صحبة الأفغاني وعقب الثورة العرابية أما بعد اتصال الشيخ بالأميرة التي كانت صديقة لبعض الإنكليز فقد خفت حملته ضد إنكلترا وسمح بصداقته الشخصية للورد كرومر صديق الأميرة (46) .
وهذا ما أحنق صدور بعض الوطنيين عليه وإن دافع عنه تلاميذه بقولهم:
(إنه سمح بصداقته للورد كرومر دون تفريط في حق بلاده أو عدول عن رأيه السياسي) (47) .
__________
(43) تاريخ الإمام محمد عبده) (1/897) .
(44) السابق (1/895) .
(45) مجلة الهلال - العدد الماسي ص (225) من الهلال ج 7 م 66.
(46) السابق. (47) السابق.(1/38)
الخطوة الثانية:
كتاب " تحرير المرأة " (48)
ظروف تأليف الكتاب:
كتب (فارس نمر) صاحب (المقطم) في مقال له في مجلة (الحديث) الحلبية
عام 1929 م يقول:
(إن الشيخ محمد عبده تطوع للقيام بهذه المهمة (49) وتحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة "نازلي" في هذا الشأن واتفق "محمد عبده" و"سعد زغلول" و"محمد المويلحي" وغيرهم على أن يتقدم "قاسم أمين" بالاعتذار إلى سمو الأميرة فقبلت اعتذاره ثم أخذ يتردد على صالونها وارتفع مقامها لديه وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذي كان الفضل فيه للأميرة نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان قاسم أمين أكثر الناس دعوة إلى الحجاب) اهـ
نظرة في الكتاب:
طبع الكتاب في سنة 1899م وقد ألغى فيه أفكاره الدفاعية التي أوردها في
__________
(48) بتأمل عنوان الكتاب يتبين لنا أنه كان يعتبر المرأة مستعبدة وقد أخذ على نفسه أن يحررها وقد جاء في مجلة الهلال أنه
كان ((يعلم ما يعتور مشروعه من العقبات وما سيلقاه من مقاومة تيار الرأي العام الآن إصلاح المرأة يقتضي منحها
الحرية ويتناول تقبيح الحجاب والنهي عن الطلاق وتعدد الزوجات مما يعده العامة من قبيل العقائد الدينية وهو ليس من
الدين في شيء فاضطر أن يبين ذلك في أثناء بحثه)) اهـ من مقدمة " أسباب ونتائج لقاسم أمين " ص (10) وانظر
أيضاً " بناة النهضة العربية " لجرجي زيدان" ص (101) .
(49) يشير إلى إيقاف مقالات الهجوم على " قاسم أمين ".(1/39)
كتابه السابق (المصريون) (50) سواء المتعلقة بتقييمه للإنسان المصري أو المتعلقة بالمرأة المصرية أو أحكام الشريعة وما يسميه (المدنية الإسلامية) فبينما نجده في كتابه المصريون يصف المصري بالأمانة والشجاعة والذكاء وقوة الاحتمال ويعزي هذه الخصال الجيدة لحقيقة الهوية الإسلامية للمصري نجده يقول بعد خمس سنوات في كتابه (تحرير المرأة) :
((فالتركي مثلاً نظيف صادق شجاع والمصري على ضد ذلك إلا أنك تراهما رغماً عن هذا الاختلاف متفقين في الجهل والكسل والانحطاط إذن لابد أن يكون بينهما أمر جامع وعلة مشتركة هي السبب الذي أوقعهما معاً في حالة واحدة ولما لم يكن هناك أمر يشمل المسلمين جميعاً إلا الدين ذهب جمهور "الأوروباويين" وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخرهم عن غيرهم)) (51)
قد انصرف جهد المؤلف في هذا الكتاب إلى التدليل على ما زعمه من أن:
((حجاب المرأة بوضعه السائد (52) ليس من الإسلام وأن الدعوة إلى السفور (53) ليس فيها خروج على الدين أو مخالفة لقواعده))
وقد تناول في كتابه هذا أربع مسائل وهي:
الحجاب، واشتغال المرأة بالشئون العامة، وتعدد الزوجات، والطلاق
وهو يذهب في كل مسألة من هذه المسائل إلى ما يطابق مذهب الغربيين زاعماً أن ذلك هو مذهب الإسلام - قال:
(سيقول قوماً إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول: نعم! أتيت ببدعة ولكنها ليست في الإسلام بل في العوائد وطرق المعاملة التي يحمد طلب الكمال فيها) (54)
__________
(50) بل لم يحاول نقل كتابه (المصريون) إلى اللغة العربية ولا إعادة إصداره في مصر
(51) (قاسم أمين - الأعمال الكاملة) (2/72)
(52) يقصد تغطية المرأة جميع بدنها عن الأجانب.
(53) يقصد به كشف وجهها.
(54) " تحرير المرأة " ص (5) ط محمد زكي الدين بالقاهرة 1347 هـ.(1/40)
والذي يهمنا فيما نحن بصدده ما كتبه فيما يتعلق بالحجاب:
لقد اعتبر قاسم أمين الحجاب
(أصلاً من أصول الأدب يلزم التمسك به ولكنه يطالب بأن يكون منطبقاً على الشريعة الإسلامية) (55) ثم يقول:
(إن الشريعة ليس فيها نصاً يوجب الحجاب على الطريقة المعهودة)
وإنما هي في زعمه:
(عادة عرضت لهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها) (56) ثم يورد قاسم أمين قوله تعالى:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن} الآيتان (57) ثم يقول:
(إن الآية قد أباحت أن تظهر بعض أعضاء من جسم المرأة أمام الأجنبي عنها غير أنها لم تسم تلك المواضع وقد قال العلماء (58) : إنها وكلت فهمها وتعيينها إلى ما كان معروفاً في العادة وقت الخطاب واتفق الأئمة على أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء في الآية ووقع الخلاف بينهم في أعضاء أخر كالذراعين والقدمين) (59) اهـ
ثم ينتقل إلى الكلام على الحجاب بمعنى قصر المرأة في بيتها وحظر
__________
(55) " تحرير المرأة " ص (54) .
(56) " المصدر السابق " ص (57 - 58) .
(57) سورة النور (30 - 31) .
(58) كذا!!! ولم يسمِّ واحداً منهم.
(59) " تحرير المرأة " ص (58) .(1/41)
مخالطتها بالرجال فيقول:
(إن الحجاب بهذا المعنى هو تشريع خاص بنساء النبي " ويستشهد على ذلك بقوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب} (60) الآية
وقوله تعالى:
{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} (61) الآية.
أما نساء المسلمين عامة فهن - في زعمه - منهيات عن الخلوة بالأجنبي فقط) (62) اهـ
ويستمر قاسم بنفس التهافت في علاج القضايا الأخرى ويزيد على ذلك تهكمه بالفقهاء واستهزاءه بعلماء الشريعة بل وبنصوصها الصريحة كما فعل في قضية تعدد الزوجات وهو في كل ذلك يستدل بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية (63) ثم يعرض لشرحها شرحاً ملتوياً مغرضاً يوجه لتبرير فكرة معينة يحاول أن يسخر النصوص لخدمتها تلبيساً على ضحاياه المخدوعين.
وما أصدق ما قاله بعض معاصريه: (ما رأيت باطلاً أشبه بحق من كلام قاسم أمين)
بل هذا " أحمد شوقي " يشير إلى لباقة قاسم أمين في دعم
__________
(60) الأحزاب (53) .
(61) الأحزاب (32) .
(62) اقتضت الضرورة " عدو المرأة المسلمة " أن يتظاهر في بعض المواضع بمظهر المسلم الوقور الغيور على دينه الحافظ لحدود الله المحترم للفقهاء والأدلة الشرعية بينما تخلى عن هذا القناع في مثل قوله:
((في البلاد الحرة قد يجاهر الإنسان بأن لا وطن له ويكفر بالله ورسله ويطعن على شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم ... يقول ويكتب ما شاء في ذلك ولا يفكر أحد أن ينقص شيئاً من احترامه لشخصه متى كان قوله صادراً عن نية حسنة واعتقاد صحيح (!) كم من الزمن يمر على مصر قبل أن تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟))
اهـ من (قاسم أمين - الأعمال الكاملة) (1 / 165) .
(63) " تحرير المرأة " ص (68)
هذا وقد وقع في آخر جملة في الكتاب خطأ مطبعي غير مقصود لفظاً، ولكن لا يبعد أن الحكمة الإلهية شاءت أن يقع في محله لأنه مطابق لمقصود الكتاب ألا وهو قول " قاسم أمين ": تم كتاب تجريد المرأة(1/42)
دعوته بالقرآن والسنة متسائلاً: أكان قاسم أمين يَغار على الإسلام أم يُغير عليه؟؟!!
ولك البيان الجزل في أثنائه العلم الغزير
في مطلب خشن كثير في مزالقه العثور
ما بالكتاب ولا الحديث إذا ذكرتهما نكير
حتى لنسأل هل تغار على العقائد أم تغير؟ (64)
وقد علق الدكتور " محمد محمد حسين " - رحمه الله - على هذا المنهج اللئيم بقوله:
(أحب أن أسأل الذين يحاولون أن يسوغوا باطلهم الذي يقحمونه على إسلامنا بمزاعم يتحايلون على إلصاقها بالدين ونصوصه أحب أن أسأل سؤالاً حاسماً يفرق بين الحق والباطل: هل تعلمون أن أحداً من المسلمين قد دعا قبل اليوم بدعوتكم؟ فإذا كان ذلك لم يحدث من قبل فهل تستطيعون أن تزعموا أن صحابة رسول الله " ورضي الله عنهم وفقهاء المسلمين قد غفلوا جميعاً عن فهم نصوص دينهم حتى جاء هؤلاء الذين أوحى إليهم شياطين الجن والإنس في باريس من أمثال قاسم أمين فانتكس تفكيرهم بين معاهدها ومباذلها حين لم يعتصموا في دين الله بحبل متين ولم يأووا بهديه إلى ركن رشيد يذود عنهم كل شيطان مريد وذلك حين بعثوا إلى تلك البلاد لينقلوا إلينا الصالح النافع من علومها وصناعاتها فضلوا الطريق وعادوا إلينا بغير الوجه الذي بعثوا به جاء هؤلاء بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن ليخرجوا للناس حقائق التنزيل التي غاب علمها عن الأولين والآخرين من الفقهاء والمفسرين ويضربوا بإجماع المسلمين في الأجيال المتعاقبة والقرون المتطاولة عرض الحائط أليس ابتداع هذه الدعوة في ظل الاحتلال
__________
(64) " الشوقيات " (2 / 168) .(1/43)
الإنكليزي وتزعم فريق من المتفرنجين الذين عرفوا بموالاة ذلك الأجنبي المحتل هو وحده دليلاً كافياً على إنها طارئة علينا من الغرب تقليداً لمذاهب أهله المبتدعين في دينهم بأهوائهم وأهواء رؤسائهم والخارجين على نصرانيتهم وكتابها) اهـ (65)
- هل كان للشيخ " محمد عبده " (1842 - 1905 م) دور في الكتاب؟
(كان المعروف عن قاسم أمين أنه ليس له إلمام بالعلوم الإسلامية بحيث يتمكن من إضفاء الصبغة الفقهية على كتابه ومن هنا شاع بين الناس وقتها أن مؤلفه في الحقيقة أستاذه هو الشيخ محمد عبده) (66) .
قال الدكتور " محمد محمد حسين":
(جاء كتابه - تحرير المرأة - مملوءاً بالمغالطات سواء كان ذلك في تفسير الآيات القرآنية أو في النصوص التاريخية والفقهية أو الأدلة العقلية وهذا الاتجاه الذي يفسر النصوص تفسيراً جيداً مخالفاً لكل ما هو ثابت متواتر في تفسيرها هو جزء من اتجاه عام تزعمه الشيخ " محمد عبده " متذرعاً إليه بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد الذي زعم أن الفقهاء أغلقوا بابه وهو يدعو إلى الملائمة بين الإسلام وبين الحضارة الغربية) (67) اهـ.
قال " داود بركات " رئيس تحرير الأهرام:
(وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في الرواق العباسي بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة يتساويان عند الله وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في
__________
(65) " حصوننا مهددة من داخلها " ص (121 - 122) طبعة المكتب الإسلامي (1398 هـ) .
(66) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " (1/ 281 - 282) للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله.
(67) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " (1 / 281 - 282) للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله.(1/44)
مراجعتها) (68) .
ومما أورده " لطفي السيد ":
(أنه اجتمع في جنيف عام 1897 م بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب تحرير المرأة وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده) (69) اهـ.
وقالت " وداد السكاكيني ":
(فتح - أي محمد عبده - على الناس أبواباً جديدة تلج منها المرأة المسلمة إلى الحياة التي وهبها الخالق إياها كما وهبها للرجل ولكن النفوس لم تكن هيئت تمام التهيؤ في البداية ورأى الإمام ألا يخاطر فيلج بنفسه هذا الميدان ويرقى مرتقاه الصعب فيقف أمام الجهلاء يحاربونه فيؤثر ذلك على مركزه كإمام للإصلاح يستند على الدين وتضيع بذلك فرص في الإصلاح في الميادين الأخرى فهيأ لهذا الميدان بالذات جندياً يصلح له من تلاميذه هو " قاسم أمين " ثم وقف يسانده ويحميه من بعيد حتى وصلت الدعوة في تحرير المرأة إلى أبعد مما كان يقصد الشيخ " محمد عبده " إذن لم تكن دعوة قاسم أمين مبتكرة ولا بدعة في سبقها) (70) اهـ
وقال د / محمد عمارة جامع الأعمال الكاملة لـ قاسم أمين ومحققها:
__________
(68) الأهرام - مايو 1928م
وانظر (دحض بدعة المساواة بين الرجل والمرأة) في القسم الثاني من هذا الكتاب ص (93 - 115) .
(69) نقلاً عن كتاب (الأخوات المسلمات) ص (247)
وانظر (تطور النهضة النسائية) لإبراهيم عبده ودرية شفيق ص (74) (75) .
(70) " قاسم أمين " لوداد السكاكيني ص (46) .(1/45)
(ففي تحرير المرأة وبالذات في الفصول التي تتناول وجهة نظر الشريعة والدين في هذه القضية نلتقي بمجموعة من الآراء الفقهية والمناقشات لا يستطيع أن يبحثها ولا أن يستخلصها كاتب مثل قاسم أمين وأهم من ذلك نجد أحكاماً كلية تدل على أن صاحبها ومصدرها قد استقصى بحث هذا الأمر في جميع مصادره الرئيسية في الفكر الإسلامي على اختلاف مذاهبه وتياراته الفكرية وهو الأمر الذي لا نعتقد أنه قد توافر في ذلك العصر سوى لقلة قليلة في مقدمتهم جميعاً الأستاذ الغمام محمد عبده) (71) اهـ
بينما يجزم د / محمد عمارة في موضع آخر بهذه النسبة المشار إليها آنفاً بقوله وهو يعدد إنجازات الشيخ محمد عبده: (ومن أبرز أعماله الفكرية في هذه المرحلة ... الفصول التي شارك بها في كتاب " تحرير المرأة " لقاسم أمين سنة 1899 م) (72) اهـ
وذكرت "درية شفيق" (أن دور محمد عبده في الكتاب قد أثار حفيظة بعض الرجعيين الذين اتهموه بالزيغ والكفران) (73)
وقال الدكتور السيد أحمد فرج - حفظه الله -: (وقد بالغ بعض الكتاب فرأى أن فصولاً كاملة بنصوصها في كتاب تحرير المرأة كتبها الشيخ محمد عبده من إنشائه وهي الفصول الآتية:
1 - حجاب النساء من الجهة الدينية ص (59 - 72)
2 - الزواج ص (123 - 132)
3 - تعدد الزوجات ص (133 - 140)
__________
(71) " قاسم أمين الأعمال الكاملة " المقدمة: دراسة في فكر قاسم أمين ص 144.
(72) " الإسلام والمرأة في رأي الإمام محمد عبده " ص 138.
(73) (تطور النهضة النسائية) ص (78)(1/46)
4 - الطلاق ص (141 - 164)
(محمد عمارة - الأعمال الكاملة " لمحمد عبده " 2/ 105- 129 بيروت 1972)
وهذا الادعاء من كاتبه يرد عليه لأنه يحتاج إلى دليل يوثقه والأرجح أنها من فكر الشيخ محمد عبده وإنشاء كاتبها فالشيخ هو الذي وجه الأفكار وأرشد إلى ما يحتاجه الكاتب من نصوص الكتاب والسنة وكتب الفقه الإسلامي وهو الذي أرشده بتوجيهاته أثناء الكتابة أو قراءة أصول الكتاب قبل طبعه كما جاء في مذكرات احمد لطفي السيد.
والمعروف عن الشيخ محمد عبده أنه كان يملي الأفكار ويوجه إليه أكثر مما يكتب هكذا فعل مع قاسم أمين ومع أشهر تلاميذه في مجال الإصلاح الإسلامي السيد " محمد رشيد رضا ") (74) .
بين " قاسم " و " سعد ":
قال الصحافي " مصطفى أمين ":
(كان قاسم أمين لا يفترق عن سعد زغلول وكان قاسم أمين هو الذي توسط في زواج سعد زغلول بصفية زغلول وكان سعد زغلول هو الذي وقف إلى جوار قاسم أمين عندما أصدر كتاب تحرير المرأة وهوجم بعنف وضراوة واتهم بالكفر ومنع من دخول قصر الخديوي بدعوى أنه يدعو إلى الإباحية وأقفل الناس بيوتهم في وجهه وذهب عدد من الشباب المتحمسين إلى بيته في شارع الهرم واقتحموا بيته وطالبوا قاسم أمين أن يسمح لهم بأن يجتمعوا بزوجته على انفراد تطبيقاً لدعوته إلى سفور المرأة.
عندما أقفل كبار المصريين في وجه قاسم أمين فتح سعد له بيته
__________
(74) المؤامرة على المرأة المسلمة: تاريخ ووثائق ص (76 - 77) .(1/47)
ودعاه هو وزوجته ليتناول الغداء والعشاء على مائدته ومائدة صفية زغلول وأصر أن يخرج في عربته مع قاسم أمين ويطوف شوارع العاصمة متحدياً للأصدقاء الذين نصحوه بأن لا يظهر مع قاسم أمين في مكان عام وإلا ضربه الناس بالطوب وعندما وضع قاسم أمين كتابه الثاني " المراة الجديدة " متحدياً العاصفة الهوجاء ومطالباً أن تحضر المرأة مجالس الرجال وتمارس الأعمال الحرة أهدى كتابه الجديد إلى سعد زغلول صديقه الحميم ونصيره الأول) (75) اهـ
دور سعد زغلول:
قال العقاد: (وكان- أي "سعد زغلول" - رجلاً له رأي في المرأة وفيما ينبغي أن تكون عليه شريكة الحياة يخالف رأي السواد الغالب في تلك الأوقات وفي جميع الأوقات وحسبه من ذلك أنه هو الذي أعان قاسم أمين زميله وصديقه الحميم على إظهار كتابه في تحرير المرأة وتشجيعه على احتمال ما لقي في سبيله من سخط وعناء) (76) اهـ
وقال الدكتور السيد احمد فرج - حفظه الله -: (والرأي أنه لم يكن في استطاعة قاسم أمين أن يبرز نفسه بهذه الآراء الجريئة في ذلك العصر لولا تعضيد الإمام محمد عبده وأحد تلاميذه الذي صار زعيماً للأمة سعد زغلول باشا وقد بلغ حب قاسم أمين لهما مبلغاً كبيراً فأهدى كتابه الثاني المرأة الجديدة لسعد زغلول واستشهد على صحة أقواله فيه بمباركة الشيخ محمد عبده لها وينشر كل بنود اقتراح الشيخ في شأن
__________
(75) نقلاً عن جريدة المساء الخميس 4 أغسطس 1983 مقالة بعنوان (هل انتحر محرر المرأة؟) هذا وقد ذكر الصحافي
مصطفى أمين في مقالته هذه أنه حدثت قطيعة بين الصديقين حتى الموت تسببت من لعب قاسم أمين بالورق
" القمار " حتى خسر مبالغ طائلة أودت بثروته وأثقلته بالدين.
(76) (سعد زغلول) تأليف عباس محمود العقاد ص 527.(1/48)
إصلاح قانون الأحوال الشخصية في آخره.
وسعد زغلول في الحقيقة هو الذي ضمن تنفيذ أفكار قاسم أمين تنفيذاً عملياً فقد رحل الشيخ محمد عبده سنة 1905 ورحل تلميذه قاسم أمين بعده بسنوات قليلة وكان في ميعة شبابه ثم بقى سعد زغلول وقد أهلته مواهبه الفذة أن يقود المجتمع ويكيفه كما يريد وكان قادراً خاصة وأن الظروف الاجتماعية والفورة الوطنية قد هيأتا الناس لتقبل الأفكار الجديدة ووضعها موضع التنفيذ العملي فقد ظل العقلاء كما سماهم "جرجي زيدان" يتهامسون في موضوع تحرير المرأة حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فكثر مريدوه والمؤمنون على أقواله وأول أولئك قاسم أمين (77) وسعد زغلول المنفذ الحقيقي لهذه الأفكار) (78) اهـ.
وأياً ما كان الأمر فقد أحدث الكتاب ضجة عنيفة لأنه صادر من مسلم يشغل وظيفة مستشار في الدولة سبق له أن هاجم أعداء الحجاب منذ وقت قريب ولم تقتصر هذه الضجة على الأوساط الإسلامية الغيورة على دينها بل شملت الأوساط الوطنية والأدبية.
ردود فعل كتاب " تحرير المرأة ":
تجلت ردود الفعل في موجة عارمة من المعارضة كان أكثرها مقالات صحافية وقد اتهمه المعارضون بالهذيان وبأنه ممن تخطف زخارف التمدن الغربي بصائرهم يرى المحاسن ولا يرى المساوئ وهاجمه علماء الدين هجوماً عنيفاً وحكم الفقهاء بأنه خرق في الإسلام ومروق من الدين وعدها الكثيرون ضرباً من
__________
(77) " بناة النهضة العربية " لجرجي زيدان ص 105.
(78) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص 64.(1/49)
المبالغة في تقليد الغربيين واتهمه آخرون بالجناية على الدين ثم الوطن وأنه يرمي إلى قلب الهيئة الاجتماعية المصرية وممالأة الإنكليز على ضياع البلاد وإنه ينفذ أمنية من أماني الأمم الصليبية التي تريد بها هدم الإسلام وتقويض الآداب والأخلاق وتحريض النساء على الفساد واتهمه من يعضد هذه الدعوة بأنه ليس من المسلمين.
وبادر إلى مناصرة قاسم حفنة من الكتاب وعلى رأسهم "جرجي نقولا باز" الذي ألف تأييداً لقاسم كتابين أحدهما:
(إكليل غار على رأس المرأة) والآخر (النسائيات) (79) .
ولم يكتف دعاة الحق وأنصار الحجاب بالمقالات العنيفة بل ألفوا الكتب العديدة (التي بلغ عددها مائة كتاب) (80) تبطل شبهات قاسم وتقيم الحجة عليه من أدلة الشريعة المطهرة.
من هذه الكتب:
(" السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب " لمحمد إبراهيم القياتي.
ومنها: " الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس " لمحمد أحمد حسنين البولاقي.
ومنها: " خلاصة الأدب " لحسين الرفاعي.
ومنها: " نظرات في السفور والحجاب " لمصطفى الغلاييني.
ومنها: " قولي في المرأة " لمصطفى صبري.
ومنها: " رسالة في مشروعية الحجاب " لمصطفى نجا.
__________
(79) " قاسم أمين " د. " ماهر حسن فهمي " ص (172) .
(80) " تطور النهضة النسائية " ص (12) .(1/50)
ومنها: " رسالة الفتى والفتاة " لعبد الرحمن الحمصي) (81) .
موقف " محمد طلعت حرب ":
على أن أول كتاب ألف في الرد على قاسم أمين هو كتاب " تربية المرأة والحجاب " وهو أهم ما ألف وأعمقه أثراً ألفه " محمد طلعت حرب " الذي اقترن اسمه فيما بعد - وللأسف - بشئون الاقتصاد الربوي وقد استنكر في كتابه هذا على قاسم دعوته ودافع عن الحجاب (82) .
ويبدأ الكتاب بمقدمة يثبت فيها المؤلف أن المستعمر الغربي يجاهد بكل الطرق ليغير وضع المرأة المسلمة كأنما وكلتهم المرأة للدفاع عنها وما ذلك إلا ليثبتوا أن الشريعة الإسلامية قد ظلمتهن أما هدفهم البعيد فهو التدخل في شئون المسلمين باسم الإنسانية وفرنجة المرأة في المجتمع الشرقي لتنحل مقوماته الاجتماعية قال:
(إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوربا من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوربة بالعالم الإسلامي) .
وقال أيضا: (إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق لا في مصر وحدها - إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق)
وهو يذكر أن الخديوي " إسماعيل " حين أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية وعد ملوك أوربة - إن هم أيدوه من أجل تحقيق هدفه - أن يبدل أحكام القرآن فيما يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية فيفصل السياسة عن الدين ويطلق
__________
(81) " قاسم أمين " د. " ماهر حسن فهمي " ص (164 - 165) .
(82) ولمحمد طلعت حرب كتاب آخر في الرد على قاسم أمين هو: (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) شن فيه حملة عنيفة على ضلالات قاسم ووقفت كثرة الشعب في جانبه وأيدته فاستهدفت قاسم للإهانة تلو الإهانة
(انظر: " تطور النهضة النسائية " ص " 70 ")(1/51)
الحرية للنساء بحيث يسرن في أثر المرأة الغربية وينقل إلى مصر معالم المدنية الأوربية.
وذكر أن الحرية كانت دائما شعار الإسلام فكان أولى بقاسم أن يجعل عنوان كتابه تربية المرأة بدلاً من تحريرها ثم يقول طلعت حرب:
(ومن عجيب المصادفات أن الذي يقرأ " الرحلة الأصمعية " التي طبعت باللغة التركية سنة 1893 في مصر يقرأ فيها الاعتراضات التي وجهها الأوربيون إلى مؤلف الرحلة فيما يختص بوضع المرأة المسلمة فإذا ما قرأنا " تحرير المرأة " لقاسم أمين وجناه يردد نفس الاعتراضات فهل هذا يرجع إلى توارد الخواطر؟ ويتحدث طلعت حرب في الباب الأول من كتابه عن وظيفة المرأة فيقرر أن الأديان (83) جميعاً تنفي مساواة المرأة بالرجل مساواة كاملة ويورد النصوص من التوراة والإنجيل والقرآن التي تؤكد سيادة الرجل وحسن المعاملة والتقدير للمرأة ويقرر أن سعادة الأسرة لا تكون بوجود قائدين في بيت واحد وإنما تكون بتوجيه الرجل توجيها حكيما.
ثم قال: (إن للمرأة أعمالا غير ما للرجل ليست بأقل أهمية من أعماله ولا بالأدنى منها فائدة وهي تستغرق معظم زمن المرأة إن لم نقل كله: الرجل يسعى ويكد ويشقى ويتعب ويشتغل ليحصل على رزقه ورزق عياله وامرأته ترتب له بيته وتنظف له فرشه وتجهز له أكله وتربى له أولاده وتلاحظ له خدمه وتحفظ عينه عن المحارم وهو يسكن إليها ... ) (84)
__________
(83) اعلم - رحمك الله - أنه لا يصح أطلاق كلمة " الأديان "! هكذا مجموعة في سياق التقرير والاحتجاج بها لأن
الدين واحد هو الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}
(آل عمران: 19) والشرائع هي التي تختلف من نبي لآخر قال تعالى:
{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} (المائدة: 48) والله أعلم.
(84) " تربية المرأة والحجاب " ص (17) طبعة القاهرة.(1/52)
وينتقل إلى الباب الثاني فيتناول تربية المرأة ويؤكد أن
(الشريعة قد حثت على التربية الخلقية التي تضمن إصلاح النفس وعمار الكون وضمان السعادتين وكان السلف الصالح يعودون أبنائهم عليها فيشبون وقد تشبعوا بمكارم الأخلاق ولم تول الدنيا عنا إلا يوم أهملنا تلك التربية ثم دهمتنا المدنية الغربية بما بها من مظاهر خادعة فحسبناها منتهى ما يدركه الإنسان من الكمال فتسابقنا إلى التشبه والتقليد.
فإذا كنا نريد إصلاح حقيقي فلننظر إلى مدنيتنا الإسلامية ولنقتبس منها أسس التربية السليمة لكل أفراد المجتمع من بنين وبنات) .
ثم ينتقل إلى أهم نقاط البحث وهي مشروعية الحجاب فيعرض لقوله تعالى:
(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) وينقل من أحاديث رسول الله " وسيرة الصحابة رضي الله عنهم أن المقصود ستر الوجه لأنه أعظم زينة للمرأة أما ما جاء في قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) فهي الكحل والخضاب ثم كيف يمكن الاختلاط مع غض البصر؟
وإذا كان " قاسم أمين " يرى أن الحجاب خاص بنساء النبي " وأن قوله تعالى:
(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) (الأحزاب 32) فيه معنى التخصيص فإن قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) (الأحزاب 59) قد قطع كل شك في وجوب الحجاب وقد اعتمد "قاسم" على رأي بعض الفقهاء في إباحة كشف الوجه واليدين والقدمين مع أن رأى الفقهاء في هذه الإباحة كان خاصاً بالصلاة وحدها لا بقضية الحجاب والسفور.
على أن من يقول بجواز النظر لوجه المرأة عند أمن الفتنة قد قضى بتحريم ذلك على الإطلاق خصوصاً في هذه الأيام حيث نشاهد تبذل الشباب واستهتارهم كل(1/53)
حين فما بالنا لو خلعت المرأة الحجاب وأطلقنا لها الحرية؟
إن الإحصائيات تثبت أن المرأة الشرقية - بسبب الحجاب - أكثر نساء العالم تعففاً ولا نريد أن نمزق ستار العفاف.
وإذا كان " قاسم " يتساءل: لماذا اختص النساء بالاحتجاب والتبرقع دون الرجال وكلاهما مأمور بغض الأبصار؟ الإجابة واضحة إذ من المسلم به أن لكل من الزوجين وظيفة اختص بها وكانت وظيفة الرجل خارج بيته للسعي على معاشه ووظيفة المرأة منزلية داخل البيت وخروجها للضرورة فتكليفها بالتبرقع دون الرجل أكثر ملائمة لظروفها (*)
أما ما قيل عن علم عائشة رضي الله عنها فهو حجة على قائله لأنها كانت محتجبة حجابا تاما بالإجماع ولم يمنعها الحجاب من التفقه في أمور الدين والمشاركة في أمور الحياة وكذلك كان كل النساء المسلمات اللائي نبغن وبلغن درجة من العلم والكمال فالحجب لم يمنع من تحصيل العلم ولا تدريسه وإذا كان الحجاب هو المانع من الترقي فلما لم يترق كل الرجال؟
(*) قال الشيخ " سعيد الجابي " رحمه الله في كتابه " كشف النقاب ":
(وإذا قيل ينبغي على الرجال أن يستتروا خوف فتنة النساء اللواتي أمرن بغض أبصارهن.
فنقول: إن النساء اللواتي أمرن بالقرار والوقار وإخفاء صوت الخلخال عن الجار والكلام من وراء حجاب وإدناء الجلباب والإقلال من الخروج خارج الأبواب كاف لهن ومغن عن أن يكلف الرجال بستر وجوههم عنهن سيما وأن أعمال الرجال خارج البيوت وأعمال النساء في داخلها والفرق بين العملين ظاهر لا يماري فيه إلا مكابر ولا سيما أن جمال وجه الرجال سريع الزوال إذا راعوا الحكم الشرعي بإعفاء اللحى القائمة مقام النقاب والحجاب والجلباب وهي عند بعض الزوجات أعظم مصاب! وإذا كانت الضرورات تبيح المحظورات فلا مانع من أن تظهر المرأة عينيها أو عينها بعد ستر وجهها وحينئذ لا يقال: حرموا هذه المسكينة أن تبصر طريقها أو النور أو جمال الطبيعة بل يقال: حرموا هذا المسكين أن يرى جمال وجهها) اهـ
نقله عنه الشيخ محمد أديب كلكل في " فقه النظر " ص (64 - 65) .
ولو نظرنا إلى المرأة الأوربية لوجدنا الأمر يرجع إلى حاجة أوربا للأيدي العاملة بسبب ظروف حياتها فخرجت النساء لمساعدة الرجال على الكسب والتعمير فلما ابتذلت المرأة هناك أعرض الشباب عن الزواج فاضطرت المرأة أن تستمر في العمل لتعيش على أن الناظر إلى المرأة الشرقية الآن (85) يراها قد خرجت وأقبلت على ملاذ الدنيا وأغرتنا الحضارة الأوربية على التساهل وسيسير الزمن بنا - باسم الحرية والمدنية - حسب التخطيط الذي يدفعنا الأجنبي إليه إلى أن تصبح المرأة الشرقية مثل الأجنبية ما لم نبادر إلى تقييد تلك الحرية لا إطلاقها
__________
(85) طبع الكتاب سنة 1899 م.(1/54)
وإلى تحرير الرجل قبل المرأة من الجهالة والفساد.
ويختم " طلعت حرب " كتابه قائلا: (الحجاب أصل من أصول الأدب فيلزم التمسك به إلا أن المطلوب أن يكون منطبقا على ما جاء به الشرع) (86)
موقف " محمد فريد وجدي ":
ونشر"محمد فريد وجدي" في " المؤيد " و " اللواء " بضع مقالات قال في بعضها:
(إذا أشرنا اليوم بوجوب كشف الوجه واليدين فإن سنة التدرج سوف تدفع المرأة إلى خلع العذار للنهاية في الغد القريب التي بلغت بها حالة التبذل درجة ضج منها الأوربيون أنفسهم وبدلا من أن نضرب الأمثلة بالغرب دائما ينبغي أن نولي وجوهنا إلى عظمة مدنيتنا الإسلامية الماضية) (87)
ويتهكم أحد الكتاب بالدعوة إلى خروج المرأة للعمل ويحاول أن يتصور المرأة وقد خرجت إلى معترك الحياة تعمل فإذا البيوت مقفرة والشوارع مزدحمة بالرجال والنساء والمحال التجارية وقف بها المتحككون بالنساء البائعات أما الزى فخليط عجيب امرأة بقبعة وأخرى بغيرها والمقص قد تحيف الجيوب والذيول والأكمام والتصقت الملابس بالمرأة حتى صارت كبعض جسمها ثم يتساءل قائلا: (أهذا ما نريده؟ إن ما نريده حقا هو تربية المرأة قبل كل شيء) (88)
__________
(86) السابق ص (105) .
(87) " قاسم أمين " د / " ماهر حسن فهمي " ص (162) .
(88) السابق ص (163) .(1/55)
موقف " مصطفي كامل " (1874 - 1908) :
كان للكتاب دوي شديد في الأوساط الوطنية لأنه كان بمثابة تحدى صريح للرأي الإسلامي العام وهجوم سافر ضد الإسلام لذلك لم يكن عجبا أن يقف الحزب الوطني المصري أو بمعنى آخر أن يقف " مصطفى كامل " من هذه الحركة موقف المقاومة والعناد إذ تحسس ورائها الأصابع البريطانية فربط بين هذه الحركة التي يديرها ذلك النادي الذي جمع بين أذناب الاستعمار وبين الإنكليز على أنها وسيلة من وسائله المتلونة في القضاء على مقومات الأمة فسارع إلى مقاومة هذه الحركة الخائنة وتحذير الأمة منها فأشار إليها في أول اجتماع عام عقده عقب صدور ذلك الكتاب في الخامس من شعبان سنة (1317 هـ) الموافق الثامن عشر من سبتمبر (1899 م) حيث قال:
(إني لست ممن يرون أن تربية البنات يجب أن تكون على المبادئ الأوربية فإن في ذلك خطراً كبيراً على مستقبل الأمة فنحن مصريون (*) ويجب أن نبقى كذلك ولكل أمة مدنية خاصة بها فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله فالحجاب في الشرق عصمة وأي عصمة فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم الصحيح وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة ركيكة غير نافعة ... هو تعليم الدين) (89)
وقد بلغ " بمصطفى كامل" الاهتمام بمقاومة هذه الحركة المسمومة إلى الحد الذي جعله يفتح صدر صحيفة " اللواء " منذ أول ظهورها سنة (1900 م) لكل طاعن على
" قاسم أمين " وأفكاره فكانت " اللواء " - كما يقول الدكتور
__________
(*) الواجب أن يقول: (فنحن مسلمون) وإلا فما قيمة المصريين أو غيرهم بدون الإسلام؟
(89) " الحركات النسائية " ص (16 - 17) .(1/56)
" محمد حسين هيكل " -: (خصماً لدوداً لقاسم وأفكاره وكانت ميدان لأشد المطاعن عليه) (90) اهـ
وكتب " مصطفى كامل " في اللواء (31 يناير 1901 م) يؤكد على
(وجوب الالتفات إلى تربية النساء فهي دعوة يوافق عليها كل مثقفي الأمة أما الحرية للمرأة فلا محل للحديث عنها الآن وعملية التطور الطبيعي تسير سيرها المحترم وفرق بين التطور والتطوير القسري الذي لا يؤمن معه من سوء العاقبة فإن الرجل منا أهون عليه أن يموت من أن يرى من أهل بيته امرأة فاسدة ولو كانت بهجة العلم وحليته)
ثم يخدش قاسماً - وما أصاب - فيقول: (ولست أدري إذا كان هذا الشعور شعوراً طبيعياً عند الرجال أو منشؤه الميراث الذي يحمله كل منا في دمه من أخلاق آبائه وأجداده وسواء كان هذا أو ذاك فإن الحرية التي تقتل العصمة شر عندي من الحجاب القاتل للرذائل) (91) .
أثر كتاب " تحرير المرأة " في العراق والشام:
واجه الكتاب هناك معارضة عنيفة لا تقل عن التي واجهها في مصر وأعلن المعارضون لقاسم أن الدعوة إلى خروج المرأة المسلمة إقتداء بالغربية دعوة لا تستند إلى حجة مقبولة لأن الغربية لم تناد بالخروج إلى المجتمعات وإلى الحرية المطلقة وإنما الرجال هناك هم الذين دفعوها إلى العمل تخلصاً منها وطمعاً في الانتفاع بتعبها فكانت النتيجة أن استدرجت إلى مواقف لم تأمن معها الذلل وفقدت بيتها
__________
(90) " تراجم مصرية وغربية " للدكتور محمد حسين هيكل باشا ص (142) .
(91) " قاسم أمين " تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (160) ومما يلزم التنبيه إليه أن هذا الأسلوب المتضمن
للهمز واللمز يأباه الإسلام الذي يعلو ولا يعلى والذي يعد النعرة القومية والعصبية الوطنية جاهلية
خبيثة منتنة.(1/57)
وفقدت أنوثتها وإذا كان التاريخ يستفظع وأد بعض رعاع العرب لبناتهم تخلصاً من العار فكم يكون استفظاعه لحياة كثير من الفتيات في هذه المدنية التي يود البعض أن نقتضي بها؟ !
وثار علماء الدين في الشام ثورة عنيفة ضد " قاسم أمين " فأعلنوا أن دعاة السفور هم دعاة فساد لأنه يخالف ما أمر به الدين ولأن السفور يقود الناس حتما إلى المجون وهدم القيم وبذلك تنحل كل الروابط الاجتماعية (92)
الإنكليز يترجمون الكتاب وينشرونه:
وقد كتب"مصطفى كامل" في " اللواء " بتاريخ (9 فبراير سنة 1901 م) يقول:
(هذا وقد انتشر خبر كتاب "تحرير المرأة " في جهات الهند واهتم الإنكليز بترجمته وبث قضاياه وإذاعة مسائله لما وراء العمل به من فائدة لهم) اهـ
من مواقف الشعراء:
وكان للحركة صدى عميق في نفوس الأدباء والشعراء (93)
وهذا " أحمد محرم " (94)
الذي أعجب به " مصطفى كامل " وطالما أشاد به وبشعره على صفحات اللواء يقول مستنكراً دعوة " قاسم أمين ":
أغرك يا أسماء ما ظن قاسم؟! أقيمي وراء الخدر (95) فالمرء واهم
__________
(92) السابق ص (163 - 164) .
(93) كان أكثر شعراء تلك الفترة من أهل الرأي والفكر ولم يكونوا مجرد نظاميين.
(94) " أحمد محرم " (1871 - 1945) عده الأدباء في الطبقة الأولى من شعراء جيله وسلكوه في صف شوقي
وحافظ وطبع شعره الإسلامي بعنوان (الإلياذة الإسلامية) سنة 1963.
(95) الخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت وجارية مخدرة ومخدورة إذا ألزمت الخدور وانظر " لسان العرب "
(5 / 312 - 315) .(1/58)
تضيقين ذرعاً بالحجاب وما به سوى ما جنت تلك الرؤى والمزاعم
سلام على الأخلاق في الشرق كله إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم
أقاسم لا تقذف بجيشك تبتغي بقومك والإسلام ما الله عالم
لنا من بناء الأولين بقية تلوذ بها أعراضنا والمحارم
أسائل نفسي إذا دلفت (96) تريدها أأنت من البانين أم أنت هادم؟
ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها لما قام للأخلاق في مصر قائم
نبذت إلينا بالكتاب (97) كأنما صحائفه مما حملنا ملاحم (98)
ففي كل سطر منه حتف مفاجئ وفي كل حرف منه جيش مهاجم
إلى أن يقول:
لنا في كتاب الله مجد موثل (99) وملك على الحدثان (100) والدهر دائم
إذا نحن شئنا زلزل الأرض نابنا ودامت لنا أقطارها والعواصم
******
هممنا بربات الحجال (101) نريدها أقاطيع ترعى العيش وهي سوائم
وإن امرءاً يلقى بليل نعاجه إلى حيث تستن الذئاب بظالم
وكل حياة تثلم العرض سبة ولا كحياة جللتها المآثم
أتأتي الثنايا الغر والطرر (102) العلى بما عجزت عنه اللحى والعمائم؟
__________
(96) دلفت: أي تقدمت.
(97) يشير إلى كتاب " تحرير المرأة ".
(98) جمع ملحمة: وهي الوقعة العظيمة القتل.
(99) أي الحسيب الأصيل العظيم الشريف.
(100) الحدثان: النوب.
(101) الحجل بفتح الراء وكسرها: الخلخال.
(102) الطرر: جمع طرة: جانب الثوب الذي لا هدب له وطرف كل شيء.(1/59)
فلا ارتفعت سفن الجواء بصاعد إذا حلقت فوق النسور الحمائم
عفى الله عن قوم تمادت ظنونهم فلا التهج مأمون ولا الرأي حازم
ألا إن بالإسلام داءاً مخامراً وإن كتاب الله للداء حاسم (103)
***********************
وهاجم الشاعر العراقي " البناء " السفوريين وخاطب المرأة قائلاً:
وجوه الغانيات بلا نقاب تصيد الصيد في شرك العيون
إذا برزت فتاة الخدر حسرى تقود ذوي العقول إلى الجنون
وهذا الشاعر " جواد الشبيبي " يقول مستنكراً الدعوة الأثيمة:
منع السفور كتابنا ونبينا فاستنطقي الآثار والآيات
تلك الوجوه هي الرياض بها أزدهت للناظرين شقائق الوجنات
كانت تكتم في البراقع خفية من أن تمس حصانة الخفرات (104)
واليوم فتحها الصبا فتساقطت بعواطف الألحاظ والقبلات
صوني جمالك بالبراقع إنها ستر الحسان ومظهر الحسنات
وضعي الصدار على الترائب إنه حق عليكي فحق نهدك نات (*)
وتماثلي في البيت صورة دمية مكنونة الأعضاء في الحبرات (105)
وفي قصيدة للأزدي يعارض فيها "الرصافي"ويخاطب بنت بغداد " كريمة الزوراء " ويحذرها من ضلال السفوريين ويبصرها بعواقب مسلكهم الوخيم، يقول:
__________
(103) ديوان محرم (2/63 - 65) الطبعة الأولى (1338 هـ - 1920 م) - مطبعة الفتوح بدمنهور.
(104) امرأة خفرة: أي شديدة الحياء.
(*) كذا بالأصل!
(105) انظر " قاسم أمين " للدكتور " ماهر حسن فهمي " ص (173) .(1/60)
أولم يرو أن الفتاة بطبعها كالماء لم يحفظ بغير إناء
من يكفل الفتيات بعد ظهورها مما يجيش بخاطر السفهاء؟
ومن الذي ينهى الفتى بشبابه عن خدع كل خريدة حسناء؟
إلى أن يقول:
نص الكتاب على الحجاب ولم يبح للمسلمين تبرج العذراء
ماذا يريبك من حجاب ساتر جيد المهاة (106) وطلعة الذلفاء (107)
ماذا يريبك من إزار مانع وزر الفؤاد وضلة الأهواء
ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التهذيب أن يهتكن ستر حياء
هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى لو أصدقتك ضمائر الجلساء
شيد مدارسهن وارفع مستوى أخلاقهن لصالح الأبناء
أسفينة الوطن العزيز تبصري بالقعر لا يغررك سطح الماء (108)
وهذا " أديب التقى " يحذر من السفور كذريعة إلى الخلاعة والدمار الاجتماعي:
كيف ترضى بأن ترى حاسرات يتملى وجوهها الفجار
واتخذن الخلاعة اليوم خلقاً هو للشعب لو أفاق دمار (109)
وفي السودان هاجم الشيخ " حسيب علي حسيب " يعنف دعاة السفور فقال:
دعوا في خدرها ذات الدلال فقد أرهقتموها بالجدال
رأيت شعورها الحساس مضنى على هذا الجمود عن المعالي
تذوب وقد تناذرتم حياء بفحش اللفظ أو هجر المقال
ويعلو خدها خفر ينادي ألا يا للنساء من الرجال
__________
(106) الجيد - بالكسر: العنق أو مقدمه و (المهاة) : الشمس والبقرة الوحشية.
(107) الذلف: صغر الأنف.
(108) " الأدب العصري " (2 / 56) طبعة القاهرة (1923) .
(109) " الاتجاهات الفكرية في بلاد الشام " ص (144) طبعة القاهرة (1958) .(1/61)
زعمتم تعشقون لها صلاحاً فظني أن ذا عشق الجمال
ومسألة (السفور) غدت قديماً لدى الكتاب مشكلة النضال
وما أحد لها يدعوا فماذا يريد الناس من قيل وقال
أحب في مناجاة الغواني ترى: أم ذاك زهداً في المعالي
بلى فالعلم عندهم كريم ولكن المتيم غير سال
دعوها فهي تؤلمها كثيراً سهام المصلحين بلا اعتدال
عجبت لحلمهم في كل خطب وإن ذكر البنات دعوا نزال
وقال آخر:
زعموهن بالحجاب عن العلم ونور العرفان محتجبات
بنت مصر كالشمس يحجبها الليل وراء الآفاق والظلمات
وهي في أفقها ضياء ونور ساطع في جدورها النيرات
أو هي المسك ينفذ العرف منه من وراء الأستار والحجرات
انتهى من (التيار التراثي العربي الحديث) د/ سعد دعيبس ص (148)
الخطوة الثالثة:
كتاب (المرأة الجديدة)
لم يلبث مؤلف (تحرير المرأة) حين واجه هذه المعارضة التي أحرجته كثيراً أن (أسفر)
وجهه الحقيقي وخلع عنه ثوب الحياء وقناع التدين وكشف في جرأة وصراحة عن أهدافه المغرضة في كتاب ظهر في العام التالي وهو كتاب (المرأة الجديدة) الذي بدأ فيه أثر الحضارة الغربية واضحاً فالتزم فيه مناهج البحث الأوربية الحديثة التي ترفض كل المسلمات والعقائد السابقة سواء منها ما جاء من طريق الدين أو ما جاء من غير طريقه
ولا تقبل إلا ما يقوم عليه دليل من التجربة أو الواقع(1/62)
على حسب المنهج الذي يسلكه باحثو الاجتماع الأوربيين وهو ما يسمونه بـ (المنهج العلمي) (110) فتراه يعتمد على آراء مفكري الغرب ويصطنع أساليبهم في الإحصاء وفي الدراسات النفسية والاجتماعية والتجريبية.
بينما كنت تراه هادئاً في كتابه الأول يحوم حول النصوص الإسلامية ويمتص من رحيقها لتعضيد مواقفه في المطالبة بحقوق المرأة انقلب في الكتاب الثاني يسلط حمم غضبه ويستعمل عبارات قاسية في التعبير عن رأيه عبارات لا تقرها المرأة ذاتها فهو لا يقبل
- بزعمه - (حق ملكية الرجال للنساء) ويرى ترك حرية النساء للنساء حتى ولو أدى الأمر إلى (إلغاء نظام الزواج حتى تكون العلاقات بين الرجل والمرأة حرة لا تخضع لنظام ولا يحددها قانون) (111) ..
و (المرأة الجديدة) التي قصدها " قاسم أمين " هي المرأة الأوربية التي أراد من المصرية أن تتحول إليها وتتخذها مثلاً أعلى. قال " قاسم ":
(هذا التحول هو كل ما نقصد وغاية ما نسعى إليه هو أن تصل المرأة المصرية إلى هذا المقام الرفيع وأن تخطو هذه الخطوة إلى سلم الكمال وأن تكون مثلها تحرراً فالبنات في سن العشرين يتركن عائلاتهن ويسافرن من أمريكا إلى أبعد مكان في الأرض وحدهن ويقضين الشهور والأعوام متغيبات في السياحة متنقلات من بلد إلى أخرى ولم يخطر
__________
(110) " المرأة الجديدة " ص (75) ومما ينبغي التنبه له أن هذا الذي يسميه علماً ليس علماً بالمعنى الصحيح للكلمة إلا
فيما يتصل بالفروع التجريبية كالطبيعة والكيمياء والهندسة والطب أما ما يتصل منه بالنفس والاجتماع والأخلاق فإنه
لا يزيد على أنه فروض لحل بعض المشكلات ونظريات لتعليل ما غاب عن الحس ولذلك فهو دائماً موضع أخذ ورد
حتى بين دارسي الغرب ولا ننسى أن هذه الدراسات النفسية والاجتماعية قد أصبحت موجهة وتسخر لخدمة المذاهب
والأحزاب السياسية المختلفة وأن بعضها يتذرع باسم (العلم) ليهدم الدين والخلق ويفرض السياسات الاستعمارية،
انظر " الاتجاهات الوطنية " (1 / 283) .
(111) " مبادئ السياسة والأدب والاجتماع " لأحمد لطفي السيد ص (173) - كتاب الهلال 1383 هـ - 1963 م.(1/63)
على بال أحد من أقاربهن أن وحدتهن تعرضهن إلى خطر ما وكان من تحررها أن يكون لها أصحاب غير أصحاب الزوج والرجل يرى أن زوجته لها أن تميل إلى ما يوافق ذوقها وعقلها وإحساسها وأن تعيش بالطريقة التي تراها مستحسنة في نظرها) (112)
وطلب قاسم أمين من المصريين أن يتخلصوا مما وقر في أنفسهم من أن عاداتهم هي أحسن العادات وأن ما سواها لا يستحق الالتفات وقال: (إن طالب الحقيقة لا يجب أن يجري في إصدار أحكامه على هذا الضرب من التساهل بل يجب أن يعود نفسه على أن يجري نقده للحوادث الاجتماعية على أسلوب علمي) ص (75)
ويقول في موضع آخر: (إن التشريح الفسيولوجي والتجربة في البلاد التي منحت المرأة حريتها قد أثبتت أن المرأة مساوية للرجل في الملكات) ويستشهد في معرض كلامه عن أثر حرارة الجو في إثارة الشهوة بكلام كاتب إيطالي يقول: (إن العفة تكتسب بمنح الحرية للمرأة وإن اختلاف الأجواء لا أثر له في ذلك) .
ثم يقول في موضع آخر: (لما تخلصت المرأة المصرية من الاستعباد رأت نفسها في أول الأمر في حيرة لا تدري معها ماذا تصنع بحريتها الجديدة وهكذا يكون الحال بالنسبة لحرية النساء: أول جيل يظهر فيه حرية المرأة تكثر الشكوى منها ويظن الناس أن بلاء عظيما قد حل بهم لأن المرأة تكون في دور التمرين على الحرية ومع مرور الزمن تتعود المرأة على استعمال حريتها وتشعر بواجباتها شيئاً فشيئاً وترتقي ملكاتها العقلية والأدبية وكلما ظهر عيب في أخلاقها يداوى بالتربية حتى تصير إنساناً شاعراً بنفسه) (113)
ويقول في موضع آخر: (إننا قد ورثنا الصورة التي كوناها عن المرأة من العرب الذين قامت حياتهم - حسب زعمه - على الغزو والنهب ومن ثم لم
__________
(112) " آثار باحثة البادية " ص (274) .
(113) " المرأة الجديدة " ص (70 - 71) .(1/64)
يكن فيها للمرأة نصيب ثم لم يكن لها نصيب في تربية الولد لأن تربيته كانت مقصورة على تغذية جسمه ليشب مقاتلاً لا عالماً فاضلاً وصورة المرأة هذه التي ورثها المسلمون - حسب زعمه - عن العرب قد تكون صحيحة بالقياس إلى الماضي ولكنها مزورة إذا نظرنا إلى الحال والمستقبل) اهـ
وكان معارضو "قاسم أمين " يرون أن نهضتنا يجب أن تعتمد على تراثنا القديم وعلى حضارتنا الإسلامية وحدها فقام هو بالرد على ذلك بأن (الحضارة الإسلامية قامت على دعامتين: الأساس الديني الذي كون من القبائل العربية أمة واحدة والأساس العلمي الذي ارتفعت به الأمة الإسلامية وآدابها) ثم يزعم أن العلم وقت ذاك كان ضعيفاً في أول نشأته وكانت أصوله ضرباً من الظنون التي لم تؤيدها التجربة ولذلك كانت قوة العلم ضعيفة بجانب قوة الدين فتغلب الفقهاء على رجال العلم ووضعوهم تحت رقابتهم وزجوا بأنفسهم في المسائل العلمية ينتقدونها ويفتون بمخالفتها لنصوص القرآن والحديث التي يؤولونها وبذلك حملوا الناس (حسب زعمه) على إساءة الظن بالعلم فنفروا منه وهجروه وانتهى بهم الأمر إلى الاعتقاد بأن العلوم جميعاً باطلة إلا العلوم الدينية نفسها: إنها يجب أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه ثم تقدمت العلوم وظهرت المكتشفات الحديثة واستطاع العلم أن يشيد بناء لا يمكن لعاقل أن يفكر في هدمه وتغلب رجال العلم على رجال الدين) (114)
وينتهي " قاسم أمين " من هذا العرض
__________
(114) إن محاولة " قاسم أمين " إلقاء العداوة بين العلم والدين ما هي إلا مظهر من مظاهر التبعية العمياء للغرب حين سادت
العداوة بين النصرانية وبين العلوم التجريبية وفي سحب هذا الحكم على الإسلام والمدنية الإسلامية مغالطة تكشف عن
جهل بالواقع التاريخي من جهة وبحقائق الدين والعلم من جهة أخرى - راجع كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط
المسلمين) للشيخ أبي الحسن الندوي وانظر أيضاً (أضواء البيان) للشنقيطي (3/ 396 - 400) وانظر بحث (فصل الدين عن السياسة ضلالة مستوردة) للأستاذ يوسف العظم وانظر " بيان الهدى من الضلال " للشيخ إبراهيم
بن عبد العزيز السويح، ومما =(1/65)
إلى أن التمدن الإسلامي قد بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول العلم فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان نموذج الكمال البشري؟ ..
ثم يبين أن كثيراً من ظواهر التمدن الإسلامي لا يمكن أن تدخل في نظام معيشتنا الاجتماعية الحالية ويضرب الأمثلة من نظم هذا التمدن في الحكم وهي في رأيه أقل من المستوى الذي بلغه اليونان والرومان في كفالة الحريات (115) كما يضرب أمثلة من نظام الأسرة ليبين أنه كان غاية في الانحلال وأن الفرق واسع بينه وبين النظم والقوانين التي وضعها الأوربيون لتأكيد روابط الأسرة)
ويختم ذلك متسائلاً: (إذا كانت هذه حالهم فما الذي يطلب منا أن نستعيره منها؟ .. وأي شيء منها يصلح لتحسين حالنا اليوم؟)
ثم يقول: (متى تقرر أن المدنية الإسلامية هي غير ما هو راسخ في مخيلة الكتاب الذين وصفوها بما يحبون أن تكون عليه لا بما كانت في الحقيقة عليه وثبت أنها كانت ناقصة من وجوه كثيرة فسيان عندنا بعد ذلك أن احتجاب المرأة كان من أصولها أو لم يكن وسواء صح أن النساء في أزمان خلافة بغداد والأندلس كن يحضرن مجالس الرجال أو لم يصح فقد صح أن الحجاب هو عادة لا يليق استعمالها في عصرنا) اهـ (116)
__________
= يجدر التنبيه إليه أن مصطلح " رجل الدين " مصطلح دخيل على الفهم الإسلامي
الصحيح بل كل مسلم ينبغي أن يكون رجل دين عليه واجبات تجاه دينه لابد من تأديتها حتى يستحق وصف المسلم.
(115) هذه المقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الرومانية وترجيح كفة الأخيرة تبين أن المعين الذي كان يستمد منه قاسم أمين وأضرابه هو كتابات (المتحررين) في أوربا الذين كانوا يحقرون الحضارة المسيحية ويمجدون الحضارة اليونانية واللاتينية الوثنية السابقة على المسيحية وما هذه المقارنة الغبية إلا صورة جديدة تدل على التخلف الفكري والتقليد الأعمى الذي كان يعاني منه ذلك المفتون بحضارة الغرب الذي نلاحظ من كتاباته كم كان شامخ الأنف متغطرساً مع مواطنيه متعالياً على أمته وفي الوقت ذاته مهدور الكرامة مطأطأ الرأس ذليلاً أمام أعداء دينه وأمته قد وقف حياته على أن يجذب بمنهاجه السقيم أعناقنا نحن المسلمين وجباهنا - نحن الموحدين - لتستقر أمام أقدام أعدائنا اليهود والصليبيين خاشعة خاضعة.
(116) " المرأة الجديدة " ص (183) ويبدو أن الجذرية في كتابه الثاني هذا لم تكن رد فعل للهجوم القاسي من =(1/66)
ثم يستطرد (عدو المرأة المسلمة) قائلاً: (نحن لا نستغرب أن المدنية الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى ... )
ويقول (.. والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هون من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعاً لمحاربتها لأنه ميل إلى التدني والتقهقر..هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له من دواء إلا أننا تربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدنية الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها إذا أتى هذا الحين - ونرجو أن لا يكون بعيداً - انجلت الحقيقة أمام عيوننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أن من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلوم العصرية الحديثة وإن أحوال الإنسان مهما اختلفت وسواء كانت مادية أو أدبية خاضعة لسلطان العلم لهذا نرى أن الأمم المتمدنة على اختلافها في الجنس واللغة والوطن والدين متشابهة تشابهاً عظيماً في شكل حكومتها وإدارتها ومحاكمها ونظام عائلتها وطرق تربيتها ولغاتها (117) وكتابتها ومبانيها
__________
= أوساط العلماء الأزهريين وإنما كان قاسم أمين قد أعد أصول الكتابين في ذهنه قبل نشرهما وخطط لإخراجهما بهذه الصورة وقاسم أمين نفسه كان يؤمن بطريقة غرس الأفكار بالتدريج فقد قال في الصفحات الأولى من " تحرير المرأة "
: (إني لست ممن يطمع في تحقيق آماله في وقت قريب لأن تحويل النفوس إلى وجهة الكمال في شئونها لا يسهل تحقيقه وإنما يظهر أثر العاملين فيه ببطء شديد في أثناء حركته الخفية وكل تغيير يحدث في أمة من الأمم وتبدو ثمراته في أحوالها فهو ليس بالأمر البسيط وإنما هو مركب من ضروب من التغيير كثيرة تحصل بالتدريج في نفس كل فرد شيئاً فشيئاً ثم تسري من الأفراد إلى مجموع الأمة فيحدث التغيير في حال ذلك المجموع نشأة أخرى للأمة) اهـ من " تحرير المرأة " ص (2، 3) . وهذا يوضح أن قاسماً كان يضمر في نفسه شيئاً لم يشأ أن يعلنه في هذا الكتاب حتى لا تسقط كل جهوده فأبرزه في كتابه الثاني " المرأة الجديدة " التي كانت - بالفعل - امرأة " جديدة " مغايرة تماماً لتلك التي رأيناها في كتابه الأول " تحرير المرأة ".
فالحاصل أن كل ما يمكن تركه هجوم شيوخ الأزهر من أثر هو حدة الكلمات والعبارات لا جوهر الفكر ذاته - والله تعالى أعلم - انظر " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (65، 78) .
(117) من المعروف أن قاسم أمين كان يدعو إلى ثورة في لغة الأدب وخطته في ذلك تشبه ثورته الاجتماعية، =(1/67)
وطرقها بل في كثير من العادات البسيطة كالملبس والتحية والأكل هذا هو الذي جعلنا نضرب الأمثال بالأوربيين ونشيد بتقليدهم وحملنا على أن نستلفت الأنظار إلى
المرأة الأوربية) (118)
بعض ردود فعل الكتاب:
موقف مصطفى كامل:
تصدى " مصطفى كامل" من جديد لقاسم أمين وكتب في اللواء بتاريخ 9 / 2 /1901 م معلقاً على كتاب " المرأة الجديدة ": (أخرجه أخيراً قاسم أمين ليدعم به أمر كتابه الأول ويفتح به آفاقاً جديدة تحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم) اهـ
وحكى "مصطفى كامل " أن سلطان "ملديفي" لما بلغه خبر الكتاب وسئل عن رأيه في هذه الاتجاهات قال: (أما تعليم النساء المسلمات فقد أصبح من المسائل الحيوية للإسلام والمسلمين ولكنه لو مال عن طريق الشريعة الغراء إلى خطة مدنية الغرب الغبراء كان معولاً لهدم أركان الإسلام وفأساً لفتح القبور لأبنائه ودسهم فيها وهم أحياء أما رفع الحجاب فلا أرضاه لنسائي وبلادي وأما المرأة وحق طلاق زوجها فدعوة لا تصدر من معترف بقول الله في كتابه: (الرجال
__________
= فننسلخ من لغة القرآن ونكتب آدابنا بلهجاتنا العامية على نحو ما انسلخت اللغات الأوربية الحديثة من أمها اللاتينية
ونعبر في خطنا عن الحركات بحروف تدخل في بنية الكلمة على طريقة الكتابة بالحروف اللاتينية - (انظر "
الأعمال الكاملة " 1/ 157 - 158) ولا يخفى ما في هذا " التكتيك الخبيث " من خدمة عظيمة لأعداء
الإسلام تشير بإصبع الاتهام من جديد إلى " قاسم أمين ".
(118) " المرأة الجديدة " ص (185 - 186) . .(1/68)
قوامون على النساء) (النساء 34) فنسأل الله السلامة) اهـ (119)
وأفسح " مصطفى كامل " لعلماء المسلمين المجال في جريدة اللواء ليتصدوا لهذه الدعوة الاستعمارية وليبينوا حكم الإسلام فيها وفي أصحابها (وكان من الكتاب الذين نشرت لهم " اللواء " مقالات تعيب على قاسم أمين وذيوله خصومة الحجاب وتجاوز ذلك إلى تحرر يسيء إلى حياة الأمة الأستاذ " محمود سلامة " الأديب المعروف) (120)
ومن البحوث التاريخية التي نشرها " اللواء " أيضاً ذلك البحث الذي وضعه قاضي قضاة مصر (121) السيد " عبد الله جمال الدين أفندي " رحمه الله ونشرته له " اللواء " في عدديها رقم (456 و 457) بتاريخ (25 و 26 من ذي الحجة سنة 1318هـ أي في أواخر سنة 1900م) وقد استغرق هذا البحث من كل عدد الصفحة الأولى كاملة وثلث الصفحة الثانية (122) .
وبما أن هذه الحركة كانت قد نشأت في بيئة وطيدة الصلة بالاحتلال البريطاني معادية في نفس الوقت لحاكم البلاد الرسمي (الخديوي) فكان من الطبيعي أن يقف منها الخديوي موقف العداء ...
أولاً: لمنافاتها للإسلام في وقت كان الحكام والأمراء يفاخرون بالحرص عليه
وثانياً: لصلتها بالاحتلال الذي يعمل على حشد القوى المناصرة له لمناهضة الخديوي والحد من سلطانه وقد أبرز (مصطفى كامل) موقف الخديوي " عباس حلمي " من هذه الحركة في اللواء بتاريخ (22 إبريل من سنة
__________
(119) " الحركات النسائية في الشرق " ص (18) .
(120) انظر " تطور النهضة النسائية " ص (58) .
(121) كره بعض العلماء هذا اللقب لشبهه بلقب " شاهنشاه " أي ملك الأملاك المذموم في السنة الصحيحة وذلك
قوله " (إن أخنع اسم عند الله تعالى رجل تسمى ملك الأملاك) متفق عليه.
(122) وقد طبع حديثاً في كتيب بعنوان (حجاب المرأة العفة والأمانة والحياء) طبع مكتبة التراث الإسلامي
(1402 هـ - 1982 م) .(1/69)
1901 م) بعنوان: (رأي الجناب العالي في مسألة الحجاب) وقد جاء فيه ما نصه:
(يرى الجناب العالي حفظه الله في مسألة الحجاب وإطلاق حرية النساء ما يراه الشرع الشريف ويأمر به وقد عرف رأي جنابه في هذا الشأن بأمرين:
الأول: أنه أبى قبول كتاب " المرأة الجديدة " عندما ذهب " قاسم أمين " في الأيام الأخيرة إلى المعية السنية والتمس تقديمه إلى سموه.
الثاني: أنه قبل كتاب " الاحتجاب " الذي رفعه إليه يوم الجمعة الماضي حضره الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الله نقيب الأشراف برودس وقريب مؤلف الكتاب عبد الله جمال الدين أفندي رحمه الله وتقبله حفظه الله بكل ارتياح وانشراح وأعرب عن عظيم امتنانه من نشره حتى ينتفع به
المسلمون ويرشدهم إلى الحق والصواب) اهـ
هذا ولم يقف الأمر بالخديوي حيال " قاسم أمين " عند هذا الحد بل لقد أصدر أمراً بمنعه من دخول القصر في أي مناسبة مع أنه مستشار (123) في الدولة وذلك أنصع في الدلالة على استنكار الخديوي لهذه الحركة الأثيمة (124) .
__________
(123) درس " قاسم أمين " الحقوق في فرنسا وعاد إلى مصر سنة 1885 م فتعين وكيلاً للنائب العمومي في
محكمة مصر المختلطة وما زال يرتقي حتى صار مستشاراً في الاستئناف إلى أن مات بالسكتة في ليلة 23
أبريل 1908 م وهو في الثالثة والأربعين من عمره وقد زعم الصحافي " مصطفى أمين " أنه لم يمت موتاً
طبيعياً ولكنه انتحر وذكر سبب ذلك في مقالة نشرت بجريدة المساء (الخميس 4 / 8 / 1983)
بعنوان " هل انتحر محرر المرأة بسبب امرأة ".
(124) ومن المواقف (الملكية) النادرة ما روته وصيفة " الملكة نازلي " عن شدة معاملة " الملك فؤاد " لها
قالت:
{وفي السبع عشرة سنة التي عاشها الملك مع الملكة لم يسمح لها بالسفر إلى أوربا سوى مرة واحدة عندما أجمع الأطباء على ضرورة سفرها إلى إحدى مدن المياه المعدنية بفرنسا لتعالج فيها وذلك عام 1927 م وكان الملك مسافراً لبعض دول أوربا زيارة رسمية ورفض أن يصحبها معه في هذه الزيارات واشترط أن تبقى في أوربا محجبة ورفض أن تكون معه على نفس الباخرة وأمر بأن تسافر باليخت (المحروسة) ليتفادى سفرها بالبواخر العادية حتى لا تختلط بالرجال وأمر الملك أن يكون هناك (ديدبان) طوال =(1/70)
........................
__________
= الليل في الممشى أمام الجناح الخاص بالملكة في اليخت وعندما بدأت الرحلة وخيم الظلام في الليلة الأولى رأت الملكة الديدبان فغضبت وهاجت وماجت وأمرت قبطان اليخت المحروسة بسحب الديدبان فوراً وقال لها القبطان في احترام:
" إنني أنفذ أوامر جلالة الملك شخصياً "
وقالت الملكة:
" ولكن وجوده هنا يضايقني وصوت حذائه يزعجني ويقلق نومي "
ولم يستطع القبطان أن يقول إن صوت الحذاء لا يسمع مع وجود (البساط) المفروش على الأرض بل قال للملكة: إذا كان صوت حذاء الديدبان يزعج جلالتك فإنني سآمره أن يخلع حذائه وفعلاً كان الجنود الذين يتناوبون الحراسة ليلاً أمام جناح الملكة يخلعون أحذيتهم ويقفون حفاة تنفيذاً لأمر الملك من جهة وإرضاءً للملكة من جهة أخرى.
وحدث في تلك الأيام أن نشرت مجلة (روز اليوسف) صورة للملكة نازلي ووجهها مكشوف فقامت قيامة الملك فؤاد وطلب من " توفيق نسيم " باشا رئيس الديوان الملكي أن يطلب من " عبد الخالق ثروت " باشا رئيس الوزراء إغلاق مجلة روز اليوسف بتهمة (العيب في الذات الملكية) .. وحقق مدير المطبوعات مع " روز اليوسف " فقالت: " إن الصورة منقولة عن جريدة فرنسية وزعت في مصر " واكتفى مدير المطبوعات بتوجيه توبيخ شديد اللهجة إلى " روز اليوسف ".
وكان الملك فؤاد يحرص أن لا تظهر الملكة نازلي سافرة أمام رجل حتى أنها كانت لا تستطيع أن تتنزه في حدائق القصر الملكي إلا إذا حجبت نصف وجهها وبعدما يتحقق بوليس القصر من عدم وجود رجل في المنطقة التي ستتنزه فيها الملكة وفي الوقت الذي ستتنزه فيه الملكة وفي الوقت نفسه يصدر الأمر إلى جنود الحرس الملكي الذين يقفون فوق جدران القصر أن يديروا ظهورهم إلى حديقة القصر طول مدة سير الملكة في الحديقة!
وحدث أن قرر الملك (أمان الله خان) ملك أفغانستان أن يزور مصر وهو في طريقه إلى أوربا فصحب الملكة (ثريا) زوجته ورحب الملك فؤاد بملك أفغانستان ثم سمع أن الملك (أمان الله) دعا نساء أفغانستان إلى نزع الحجاب إقتداء بالغازي (كمال أتاتورك) الذي ألغى الحجاب في تركيا وجاءت البرقيات تقول أن الملكة ثريا سترافق الملك " سافرة " في رحلته وعندئذ ألغى الملك فؤاد استضافته ملك أفغانستان في قصر عابدين بحجة أن التقاليد تحول دون اشتراك الملكة ثريا في الزيارة الرسمية وعُرف أن الملك فؤاد لا يريد أن تقيم ثريا في قصر عابدين حتى لا تسمم أفكار الملكة نازلي ووافق الملك أمان الله على أن
تكون إقامة ثريا في مصر إقامة غير رسمية فلا تشترك في الحفلات والاستقبالات التي يدعى إليها ولم يكتفي الملك فؤاد بذلك بل أبلغ الملك أمان الله أنه يرجو ألا تظهر زوجته سافرة أثناء إقامتها في مصر مراعاة لتقاليدها وخضعت ثريا لرغبة الملك وأصدر الملك فؤاد أمره إلى وزارة الداخلية بعدم محاولة تصوير ملكة أفغانستان وفعلاً لم تظهر صورة واحدة للملكة ثريا في الصحف المصرية طوال مدة إقامتها. =(1/71)
هل رجع " قاسم أمين " عن آرائه؟
زعم بعض الباحثين أن قاسم أمين (عدل عن رأيه في عام 1906 م بعد أن تبين له أنه ضل الطريق وذلك ضمن حديث له إلى صحيفة " الظاهر " التي كان يصدرها " محمد أبو شادي " المحامي أعلن فيه رجوعه عن رأيه كما أعلن فيه أنه كان مخطئاً في
" توقيت " الدعوة إلى تحرير المرأة) (125)
وقد استدل من ذهب إلى ذلك بحديثه المذكور آنفاً في صحيفة " الظاهر " وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر لأن عبارته لم تكن صريحة في توبته عن ضلاله بالكلية ولكنه ادعى أن خطأه كان فقط في (توقيت) الدعوة إلى تحرير المرأة وليس في مضمون الدعوة ذاتها وإليك نص عبارته في ذلك:
قال " قاسم أمين ":
(لقد كنت أدعوا المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم.. ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس فلقد تتبعت خطوات النساء في
__________
وعندما انتهت الزيارة وصعدت ملكة أفغانستان إلى الباخرة الإيطالية التي أقلتها إلى أوربا أسرعت ونزعت الحجاب بحركة عصبية وقالت للصحافيين:
" أظن أننا لم نعد مقيدين بأوامر الملك فؤاد " اهـ
من مقالات بعنوان: (من عشرة لعشرين) للصحافي مصطفى أمين - أخبار اليوم 9 يناير 1982 م.
(125) (الأخوات المسلمات) ص (252) ولعل مما يضعف احتمال رجوعه عن مذهبه ما قالته " هدى شعراوي "
في حفل تكريم ذكرى رحيل " قاسم أمين " العشرين - والذي حضره صفية زغلول وطه حسين ولطفي السيد وواصف غالي وتوفيق دوس ومصطفى عبد الرزاق: (سادتي وسيداتي: اسمحوا لي أن أبدأ كلمتي بآخر
كلمة نطق بها المرحوم قاسم أمين في حفلة نادي المدارس العليا وهو يحيي الطلبة الرومانيين ليلة وفاته إذ
قال: " كم أكون سعيداً في اليوم الذي أرى فيه سيداتنا يزين مجالسنا كما تزين طاقات الزهور قاعات
الجلوس " هذه هي آخر جملة نطق بها المرحوم قاسم قبل أن يلبي دعوة ربه ببرهة وجيزة وهي
كما ترون تتضمن أمنية غالية لم يمهله الموت حتى يشاهد تحقيقها) اهـ
من (حواء) العدد (1249) 30 أغسطس 1980 م ص (14 - 15) .(1/72)
كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي..رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تتطاولوا إليها بألسنة البذاء ثم ما وجدت زحاماً في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسنة جميعاً.. أنني أرى أن الوقت ليس مناسباً للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل) (126)
وقد كان نشر هذا الكلام قبل موته بعام ونصف فلعله رأى - بعد أن تغيرت الظروف بزوال " كرومر " وانطفاء نفوذ " نازلي فاضل " ربيبته - أن يتخفف من تبعه هذه الدعوة المدمرة بل ربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه فمما يروى (أن صديقاً عزيزاً " هو المؤرخ الإسلامي رفيق العظم " زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: " جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك في بعض المسائل الاجتماعية! " فدهش قاسم أمين كيف يطلب مقابلة زوجته ومحادثتها؟ فقال له صديقه: " ألست تدعو إلى ذلك؟ إذاً لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك؟ " فأطرق " قاسم أمين " صامتاً)
(127)
(وكلمته زوجة قاسم من وراء ستار وأفهمته أن قاسماً لم يدعو إلى السفور ولا إلى الخلوة بأجنبي) (128) .
__________
(126) نقلاً عن كتاب (رجال اختلف فيهم الرأي) للأستاذ أنور الجندي ص (29) طبع دار الأنصار.
(127) عن مجلة (الاعتصام) عدد رمضان سنة 1399 هـ.
(128) " قاسم أمين " د / " ماهر حسن فهمي " ص (159) ،
= ومن الجدير بالذكر أن زوجة (قاسم أمين) كانت محجبة حجاباً كاملاً وقد ذكرت في بعض تصريحاتها بعد
وفاته:
(أنه - أي قاسم - لم يرغمها على السفور عندما كان ينادي إليه) وتقول: (إنها ظلت ترتدي البرقع
والحبرة) وإن قاسماً (كان يكتفي بالمناداة بفكرته ولكنه لم يطبقها في أسرته إلا على النشء الجديد، أعني
بناته) ثم تحاول تبرئة قاسم من وزر الفساد الذي ترتب على دعوته فتقول: (إن بنات الجيل الحالي
وشبابه قد أخطأوا فهم هذه الدعوة وتجاوزوا مداها فالمظهر الذي تظهر به فتيات هذا(1/73)
موت " قاسم أمين ":
(ومات قاسم أمين ليلة الثالث والعشرين من إبريل سنة 1908م فأوحى الإنكليز إلى شيعته بإقامة ما يسمى " حفل تأبين " له فأقاموا هذا الحفل وأشادوا فيه بدعوته إلى السفور فقابل رجال الحزب الوطني هذه الحركة بإقامة احتفال كبير للدعوة إلى الحجاب ولإبراز أصابع الإنكليز في فتنة السفور) (129)
من يحمل اللواء؟
وبموت " قاسم أمين " لم تهدأ هذه الدعوة إلى (تدمير) المرأة إلا قليلاً وكيف يهدأ للإنكليز بال والخطة لم تصل بعد إلى أهدافها؟
وإن مات قاسم أمين فهناك على الساحة السياسية من يستأنف الدور ويحمل اللواء هناك "حزب الأمة"وزعاماته المعروفة بعمالتها للإنكليز من أمثال (أحمد فتحي زغلول) (130) عضو محكمة دنشواي والهلباوي جلادها
__________
= العصر ليس سفوراً بل
بهرجة فظيعة لم يكن يخطر على بال قاسم أن ينادي بها أو يدعوا إليها وإنما كان قاسم ينادي
بالسفور الشرعي (!) الذي لا يزيد عن إظهار الوجه واليدين والقدمين ولا يتجاوزه إلى إظهار العورات
وإلى اختلاط المرأة بالرجل بالشكل الحاصل الآن وإني أعتقد أن قاسم بك لو كان حياً لما رضى عن هذه الحال
بل لانبرى إلى محاربتها) اهـ وانظر " قاسم أمين " لأحمد خاكي ص (106 - 107) .
(129) (الحركات النسائية في الشرق) ص (19) .
(130) أحمد فتحي زغلول شقيق سعد زغلول اشترك في الحكم على المتهمين في حادثة دنشواي إذ كان أحد قضاة
المحكمة المخصوصة، {وهي التي أصدر بطرس "باشا" غالي وزير الحقانية بالنيابة قراراً بتشكيلها
لمحاكمة المتهمين برياسته هو نفسه - أي بطرس - وعضوية كل من (المستر) هيتر و (المستر) بوند
والقائم مقام (لادلو) وأحمد فتحي (بك) زغلول رئيس محكمة مصر الابتدائية} اهـ من (مصطفى كامل
باعث الحركة الوطنية) لعبد الرحمن الرافعي ص (203) وفيه أيضاً أن (أحمد زغلول هو الذي كتب
الحكم بقلمه ورقي بعد الحكم وكيلاً لوزارة الحقانية وسماه مصطفى كامل قاضي دنشواي) اهـ
ص (419) وهو المقصود بقول شوقي في " وداع كرومر ":
أم من صيانتك القضاء بمصر أن تأتي بقاضي دنشواي وكيلاً؟(1/74)
وسفاحها وهناك وكلاء الغرب المنضوون تحت لواء هذا الحزب من أمثال " لطفي السيد " الذي حمل على عاتقه الدعوة إلى خروج النساء باسم التحرير وها هو ذا " أستاذ الجيل " أو " منشئ الوطنية المصرية " على حد تعبير " سلامة موسى " يتحدى المسلمين ويدخل الفتيات طالبات في الجامعة مختلطات بالطلاب سافرات الوجوه ولأول مرة في تاريخ الجامعة المصرية (131) وظل " أستاذ التضليل " يروج لحركة تحرير المرأة على صفحات
" الجريدة " لسان حزب الأمة (132) .
__________
(131) وكان عضده ونصيره في تلك الخطوة (طه حسين) و (كامل مرسي) من " المرأة المصرية " لدرية شفيق
ص (153، 267) أما تفاصيل ذلك فقد حكاها (طه حسين) في الاحتفال بتكريم أولى خريجات الجامعة
وأول طيارة مصرية في فبراير 1932 م حيث قال في كلمته: (أظن أن موقفي الآن - ولست من الرجال
الرسميين - يسمح لي بأن أكشف لحضراتكم عن مؤامرة خطيرة جداً حدثت منذ أعوام وكان قوامها جماعة
من الجامعيين فقد ائتمر الجامعيون وقرروا فيما بينهم أن يخدعوا الحكومة وأن يختلسوا منها حقاً اختلاساً لا
ينبئونها به ولا يشاورونها فيه وهو الإذن للفتيات بالتعليم العالي في الجامعة المصرية وأؤكد لكم أيها السادة
أنه لولا هذه المؤامرة التي اشترك فيها الجامعيون وبنوع خاص أحمد لطفي السيد باشا وعلي إبراهيم باشا
وهذا الذي يتحدث إليكم لولا هذه المؤامرة التي دبرناها سراً في غرفة محكمة الإغلاق لما أتيح لنا ولا للإتحاد
النسائي أن أقدم إليكم الآن محامية مصرية وأديبات مصريات اتفق هؤلاء الثلاثة فيما بينهم أن يضعوا وزارة
المعارف أمام الأمر الواقع وكان القانون الأساسي في الجامعة يبيح دخول المصريين وهو وإن كان لفظاً مذكراً
ينطبق على المصريين والمصريات وعلى ذلك ائتمرنا على أن تقبل الفتيات فقبلناهن ولم نحدث أحداً بذلك
حتى إذا تم الأمر وأصبح لهن حق مكتسب في الجامعة علمت الوزارة أن الفتيات دخلن الجامعة) اهـ
ص (23 - 24) من حواء العدد 1255 / 11 أكتوبر 1980 م.
(132) ومن المعروف أنه كان من الداعين إلى "إصلاح الخط العربي " سنة 1899 وذلك بالدلالة بالحرف على
الحركات فتكتب سعدٌ بالرفع هكذا (ساعدون) وبالنصب (ساعدان) والجر (ساعدين) وبفك الإدغام فتكتب
محمد هكذا (موحاممادان) في الرفع و (موحاممادان) في النصب و (موحاممدين) في الجر وهو يوافق في ذلك القاضي الإنكليزي (ولمور) و " الأب " (أنستاس) في خططهما الخبيثة للقضاء على لغة القرآن المجيد ومحو الشخصية المسلمة من الوجود.
{وقد كان (لطفي السيد) خصماً للعروبة والوحدة الإسلامية وكان يدعو إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان وكان يدعو إلى اللهجة العامية على وفق ما دعا إليه المستشرقون والمبشرون مثل " مولار(1/75)
صدور مجلة " السفور ":
ولما قامت الحرب العالمية الأولى وكانت الفرصة سانحة لإخفات صوت الإسلاميين وتشريد دعاتهم وكتم أنفاسهم - اعتقلت السلطات البريطانية رجال الحزب الوطني وانتهز أنصار الحركة النسائية الفرصة فأصدروا مجلتهم " السفور "
__________
، ويلكوكس " رافعاً شعار " تمصير العربية بإحياء العامية " وكان يقاوم التضامن العربي الإسلامي فقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي عام 1911 م ودعا إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية "التركية"
ومن مواقفه الشهيرة أنه مجّد اللورد كرومر ووصفه بأنه (من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال) ونشر عنه هذا الكلام في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسبّ المصريين جميعاً.
وقد رسم (أستاذ الجيل) منهجاً للحياة الاجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية في مصر يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبي والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة خادعة هي " مصر للمصريين ".
وقد أسس هذا الأستاذ " حزب الأمة " الذي كان " صناعة بريطانية" بإجماع الآراء وكان هدف هذا الحزب تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى مهادنة الغاصب وتقبل ما يسمح به بدون مطالبته بشيء!..
أما موقفه من الدين فيلخصه قوله:
(لست ممن يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر) } انتهى ملخصاً من كتاب (رجال اختلف فيهم الرأي) للأستاذ أنور الجندي ص (4 - 11) وقال د / حسين فوزي: (والفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها والعقيدة هي القومية والديموقراطية والتمدين) اهـ من " أحمد لطفي السيد " ص (287) .
وقد كان الرباط وثيقاً جداً بين (طه حسين) و (لطفي السيد) وآية ذلك:
- أول رسالة علمية في الجامعة منحت لطه حسين.
- وحينما تحولت الجامعة الأهلية إلى حكومية اشترط لطفي السيد أن يكون طه حسين أستاذاً فيها.
- وحينما أقيل طه حسين لعدوانه على الإسلام استقال لطفي السيد من الجامعة تضامناً معه.
(انظر " لطفي السيد " للدكتور حسين فوزي ص (270 - 278) .(1/76)
باسم " عبد الحميد حمدي " وقد أخذت على عاتقها نشر الدعوة ضد الحجاب وضد الآداب الإسلامية وممن كتب فيها داعياً إلى السفور مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق (133) وطه السباعي وصاحب " المجلة " وغيرهم (134)
وإلى قيام ثورة 1919 كانت هذه الدعوة الآثمة محصورة في أضيق الحدود حتى إن المتظاهرات اللاتي أغراهن دعاة التحرير بالخروج في ذلك الحين كن محجبات يرتدين البراقع البيضاء ولا يخالطن الرجال (135)
__________
(133) " علي عبد الرازق " صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) صدر كتابه سنة 1344هـ (1925 م) عقب
إلغاء الكماليين الخلافة الإسلامية في تركيا ليسوغ صنيعهم زاعماً أن الخلافة نظام تعارف عليه المسلمون
وليس في أصول الشريعة الإسلامية ما يلزم به والكتاب ملئ بالتهجم الظالم والمتهور على الخلافة والخلفاء
ولم يستثن من ذلك الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعلى رأسهم خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله عنه - وزعم
عدو الله أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين (حاشا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم) وأنكر أن القضاء وظيفة شرعية ووصف حكومة الخلفاء الراشدين بأنها كانت (لا
دينية) وهذه جرأة (لا دينية) من المؤلف وقد ذهب قبل تأليفه إلى بريطانيا وأقام فيها عامين ولقرائن عديدة
ذهب فضيلة الشيخ (محمد بخيت) رحمه الله إلى أن الكتاب ليس من تأليف " على عبد الرازق " ورجح
الدكتور " ضياء الدين الريس " بأن مؤلف الكتاب الحقيقي هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل وهو (
مرجليوث) ومن هنا أطلق عليه الأستاذ أنور الجندي (حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث) ! وقد
صدرت كتب عديدة ترد على الكتاب وتفضح مؤامراته وحوكم مؤلف الكتاب أمام هيئة كبار العلماء بالأزهر
فأصدرت حكمها في 22 من المحرم سنة 1344 هـ الموافق 12 أغسطس 1925 م وهو يقضي (بإخراج
الشيخ على عبد الرازق أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف
كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء ومع أن حركة اليقظة الإسلامية واجهت الكتاب المنحول
وفندت أباطيله إلا أن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه مع مقدمات إضافية يكتبها المضللون الشعوبيون
ليخدعوا المسلمين بأسمائهم وألقابهم - انظر (الاتجاهات الوطنية) (2 / 85 - 95) ،
(رجال اختلف فيهم الرأي) ص (61 - 72) .
(134) (تطور النهضة المسائية) ص (14) .
(135) من (خمسون عاماً على ثورة 1919) لأحمد عزت عبد الكريم أصدرته مؤسسة الأهرام مركز الوثائق(1/77)
الطفرة:
وقد كانت ثورة " 19 " أكبر طور طفر بحركة " تحرير المرأة " وقد تمثل ذلك في مشاركة المرأة في ثورة 1919 ومؤازرة " سعد زغلول " للحركة النسائية وكانت المشاركة الفعلية للمرأة بمظاهرة يوم 20مارس سنة 1919 وكانت هذه المشاركة في ذلك اليوم بمثابة جواز المرور الذي تجاوزت به المرأة الحائط القديم الذي قبعت طويلاً خلفه ولم تعد إليه أبداً بعد أن وضعت قدمها موضع قدم الرجل فعندما تشكل الوفد المصري من الرجال همت المرأة فشكلت لجنة الوفد من السيدات اللاتي اجتمعن برئاسة " هدى شعراوي " بالكنيسة المرقصية (يوم 8 يناير سنة 1920) ومنذ ذلك التاريخ انتقل التنظيم النسائي إلى مرحلة العمل المنظم على أساس أنه هيئة مستقلة حرة معترف بها لها الحق في أن تشارك في مجريات الأحداث التي تمر بها البلاد. وظلت الصحافة في هذه المرحلة تؤازر المرأة خاصة التي يحررها صحافيون سفوريون ممن كانوا يؤازرونها من قبل وممن انضم إليهم من أمثال الدكتور " محمد حسين هيكل " صاحب جريدة " السياسة " وبعض كتاب مجلة الهلال وغيرهم ورسمت الصحافة صورة المرأة المثالية التي يجب أن تتمثلها المرأة المصرية وهي نفسها صورة المرأة الأوربية في ذلك الوقت يقول أحد الكتاب: (المرأة الأوربية عندها واجبان مقدسان بيتها ووطنها وبين الواجبين تخص بساعة نفسها فتحضر حفل موسيقي أو تدعو أصحابها لليلة راقصة ولا تنسى أن تقف أمام المرآة لتزين حالها فتتذكر دائماً أنها امرأة إنها في نظري مثال المرأة الأعلى ويحسن بالمرأة الشرقية أن
__________
والبحوث التاريخية لمصر المعاصرة (ص 193 - 197) وقد ضمن الكتاب صور المتظاهرات في وسط
الطريق وهن يرتدين النقاب الأبيض والجلباب الأسود في حين وقف الرجال على جنبات الطريق ينظرون
إليهن وقد مضين قدماً.(1/78)
تقتبس عنها كل شيء) (136)
وربط كتاب هذه المرحلة صراحة بين تحرير المرأة وفكرة " المصرية " ونبذ فكرة
" الإسلامية " يقول " محمود عزمي " - وكان من أبرز كتاب تلك المرحلة:
(تأثرت بكتب " قاسم أمين " تأثراً عجيباً جعلني أمقت الحجاب مقتاً شديداً يرجع إلى اعتبار خاص هو اعتباره من أصل غير مصري ودخوله إلى العادات المصرية عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب فكان حنقي على أولئك الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد) اهـ (137) .
جريمة الزعيم:
(صحبت " صفية زغلول " زوجها " سعد زغلول " في باريس لحضور مؤتمر الصلح سنة 1920لعرض القضية المصرية وقد مكثت صفية ترتدي الحجاب إلى أن عادت مع سعد زغلول إلى مصر بعد عودته من منفاه وعلى ظهر الباخرة التي نقلتهما إلى الإسكندرية وجد سعد البحر وقد امتلئ بألوف المخدوعين يستقبلونه بالقوارب وقال سعد لصفية " ارفعي الحجاب " وتدخل " علي الشمسي " و " واصف بطرس "! - من أعضاء الوفد - وعارضا في ذلك فقال سعد زغلول " المرأة خرجت إلى الثورة بالبرقع ومن حقها أن ترفع الحجاب اليوم " ورفعت صفية زغلول الحجاب (138) ثم وقفت إحدى صنائع
__________
(136) انظر: (المؤامرة على المرأة المسلمة) ص (14) .
(137) " الهلال " العدد الماسي - ص (132) .
(138) ويبدو أن الأمر استقر أخيراً على أن لا تخلع صفية الحجاب نزولاً على رغبة (واصف بطرس غالي) !! ، فقد حكت هدى شعراوي في مذكراتها قصة عودتها على نفس الباخرة التي عاد عليها سعد فقالت:
(وقد بدأ - أي سعد - يهنئ على توفيقي في الوصول إلى رفع الحجاب وكيفية عمل الحجاب الشرعي (!) الذي أرتديه وقال: " إنه قد سر عندما رأى صورتي بهذا الزي الجديد في منفاه " ثم =(1/79)
الاستعمار تخطب في القاهرة في احتفال الشعب المخدوع بقدوم " الزعيم " وطلب منها رفع الحجاب وعندئذ رفعت الحاضرات الحجاب) اهـ (139)
وجاء في جريدة الجمهورية الصادرة في 20 / 4 / 1978 في الذكرى السبعين لموت قاسم أمين تحت عنوان: " تحليل شخصية قاسم أمين ":
(ولما تولى سعد زغلول زعامة الشعب في عام 1919 اشترط على السيدات اللواتي يحضرن سماع خطبه أن يزحن النقاب عما سمح الله به من وجوههن وكانت هذه أول مرحلة عملية للسفور) اهـ
وفي رواية: (نفت بريطانيا " صديقها " سعد زغلول وجماعته إلى جزيرة سيسل فترة ثم أعادته إلى مصر لتوليه رئاسة الوزارة وتوقع معه معاهدة فيكون احتلال بريطانيا لمصر شيئاً رسمياً متفقاً عليه!
هيئ الجو في الإسكندرية لاستقبال سعد وأعد سرادق كبير للرجال وآخر للنساء المحجبات وأقيمت الزينات في كل مكان ونزل " سعد " من الباخرة وعلى استقبال حافل وهتافات أخذ طريقها إلى سرادق النساء - دون سرادق الرجال - فلما دخل على النساء المحجبات استقبلته " هدى شعراوي " بحجابها ...
فمد يده - يا ويله - فنزع الحجاب عن وجهها تبعاً لخطة معينة وهو يضحك..
فصفقت هدى....
__________
= ثم طلب من السيدة حرمه أن تقلدني فوعدت بذلك..
صعدت إلى ظهر الباخرة للنزول وإذا بصفية هانم تقابلني ببرقعها وملاءتها فقلت لها " أين وعدك لسعد باشا بارتداء الإزار
الشرعي؟ " فقالت:" أنا ليس لي زوج واحد.. واصف باشا غالي استحسن ألا أغير زيي حتى لا أحدث تأثيراً سيئاً في المستقبلين " فعجبت من ذلك وصافحتها ونزلت إلى اللنش الذي كان في انتظاري " اهـ من (حواء) العدد (1237) 7 يونيو 1980 م.
(139) (الأخوات المسلمات) ص (255) .(1/80)
وصفقت النساء لهذا الهتك المشين ... ونزعن الحجاب
ومن ذلك اليوم أسفرت المرأة المصرية استجابة لـ " رجل الوطنية " سعد وأصبح الحجاب نشازاً في حياة المسلمة المصرية ...
لقد فعل " سعد " بيده ما دعا إليه اليهودي القديم بلسانه فكلفه دمه (140) أما سعد.....؟! (141)
ويستنكر الشيخ " مصطفى صبري " رحمه الله هذه الجريمة التاريخية البشعة قائلاً:
(وكأني بعلماء الدين سكتوا عند وقوع تلك الحادثة احتراماً لسعد أو انتقده عليه قليل منهم من غير تصريح باسمه كما هو المعتاد عند علماء مصر في النقد ولكن النهي عن المنكر ليس بجهاد مع الهواء وإن الحق وخاطر الإسلام أكبر من سعد وألف سعد وإني تذكرت هنا سعداً الصحابي رضي الله عنه وقول النبي " فيه (142) : أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني) (143) اهـ
__________
(140) لعله يشير إلى ما رواه بن هشام عن محمد بن إسحاق (وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن
أبي عون، قال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته في سوق بني قينقاع
وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى
ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان
يهودياً وشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضبت المسلمون
فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع) اهـ
من " السيرة النبوية " لابن هشام مع " الروض الأنف " للسهيلي (3/ 137) .واسناده مرسل معلق،
انظر: (دفاع عن الحديث النبوي والسيرة) للشيخ ناصر الدين الألباني ص (26 - 27) .
(141) " المرأة المسلمة " للشيخ وهبي سليمان غوجي الألباني ص (188) .
(142) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: " لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته
بالسيف غير مصفح " فبلغ ذلك رسول الله " فقال: " تعجبون من غيرة سعد؟ والله لانا أغير منه والله
أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " الحديث " جامع الأصول - في أحاديث
الرسول " " بتحقيق الأرناؤوط (8 /432) .
(143) " قولي في المرأة " للشيخ مصطفى صبري رحمه الله (ص 74 - 75) .(1/81)
" سعد زغلول "
المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين:
(في ثورة سنة 1919 استطاع المصريون بقيادة سعد زغلول أن يحققوا الاستقلال عن كل من تركيا وانجلترا وتحقق - وفي الوقت نفسه - بتعضيد من سعد زغلول ومعاونته استقلال المرأة وتحررها العملي وتحققت بذلك نبوءة " قاسم أمين " الذي كان يرى أن آراءه في المرأة لن تأخذ شكلها العملي إلا على يد سعد زغلول ومن ثم فقد أهداه كتاب
" المرأة الجديدة " الذي يمثل الثورة الجذرية الفعلية للمرأة المصرية.
والذي لا يعرفه الكثيرون أن " سعد زغلول " كان لا يقل تحمساً لتحرير المرأة عن شيخه الشيخ " محمد عبده " وصديقه " قاسم أمين " إن لم يكن أكثر حماساً وفاعلية منهما فهو الرجل الذي قدر له أن يقرر تاريخ مصر طوال العقد الثالث من هذا القرن.
وكان سعد زغلول من الذين تخرجوا من الأزهر الشريف ودرسوا الحقوق واحترفوا المحاماة واتصل برجال تركيا الفتاة الذين قضوا على الخلافة الإسلامية في تركيا وكانت الأميرة " نازلي فاضل " تؤيد أفكارهم فالتقت فكرياً بسعد زغلول وعهدت إليه بالإشراف على ممتلكاتها وعن طريق منتداها بدأ نجمه يبزغ في ظل نجم الأميرة ونجم الشيخ " محمد عبده " ثم سطع نجمه عندما مثل أول أدواره السياسية بوصفه صهر " مصطفى فهمي " باشا رئيس الوزراء المصري وأحد المقربين إلى اللورد " كرومر " سنة 1907 ثم عندما أسس حزب الأمة الذي بارك اللورد كرومر تكوينه راجياً أن يحد به من نفوذ الحزب الوطني ذي النزعة الإسلامية بقيادة مصطفى كامل - ثم أسند اللورد لسعد زغلول نظارة المعارف مكافأة له على خدماته قبل(1/82)
أن تتغير الاتجاهات السياسية في مصر في نهاية الحرب العالمية الأولى وثورة سنة 1919) (144)
(وفي هذه الفترة التي قدر لسعد زغلولا أن يقرر فيها تاريخ مصر قطعت مسألة تحرير المرأة شوطاً لم يكن يتحقق لها بدونه ومن ثم فقد بز دوره الشيخ محمد عبده وقاسم أمين معاً وذلك لأن سعد زغلول - كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا - في مجلة المنار (28 / 711و 712) : (دخل في أطوار التفرنج في معيشته وأفكاره الاجتماعية وغلبت نزعة " المصرية " عنده على فكر " الجامعة الإسلامية " ولم يعد يذهب إلى المساجد
" وهو خريج الأزهر الشريف " إلا في مناسبات الاحتفالات الرسمية وبعض صلوات
الجمعة في زمن زعامته وأنكر عليه أهل الدين أموراً منها عمله في تجرئة النساء على
(144) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (19 - 20) .
السفور المتجاوز للحد الشرعي حتى لقد بدا للعيان أنه لو كان الأمر بيد "سعد زغلول " لحول مصر إلى تركيا كمالية ولكن حال دون ذلك نزوع المصريين الفطري إلى التدين والتمسك بعرى الدين وخوف سعد - إذا تمادى في تحدي مشاعر الناس الدينية - من أن يفقد شعبيته واحترام البسطاء له) (145) اهـ.
__________
(144) "تاريخ الشعوب الإسلامية" - كارل بروكلمان - ص (724) - ترجمة نبيه أمين فارس - ومنير
البعلبكي - بيروت سنة (1968م)
(145) انظر " المؤامرة على المرأة المسلمة " - د. السيد أحمد فرج / ص (20-21)(1/83)
" سعد زغلول ":
أول وزير مصري في ظل الاحتلال:
لقد بدأ "الزعيم" حياته السياسية صديقاً للإنكليز وختمها كذلك صديقاً للإنكليز (146)
وبدأها بمصاهرة أشهر صديق للإنكليز عرفته مصر في تاريخ الاحتلال الإنكليزي من أوله إلى آخره وهو " مصطفى فهمي " باشا أول رئيس وزراء في مصر بعد الاحتلال
(وقد اختار اللورد " كرومر " سعداً وزيراً للمعارف فحاول بمجرد تعيينه إحباط مشروع الجامعة المصرية وتصدى للجمعية العمومية حينما طالبت الحكومة في مارس 1907 بجعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية وكان وقتئذ بالإنكليزية وكان الاحتلال هو الذي أحل اللغة الإنكليزية محل العربية في التدريس) (147)
(وبعد تعينه وزيراً أراد مجموعة من النساء المصريات في القاهرة أن يجتمعن به لأمر من الأمور فدخل عليهن وبهت إذ فوجئ بأنهن يسدلن الحجاب على وجوههن فرفض الدخول والاجتماع بهن إلا أن يكشفن وجوههن فأبين ذلك ولم يحصل الاجتماع) (148)
__________
(146) بل إن مما يحتاج إلى الفحص والتدقيق ما جاء في كتاب (الأخوات المسلمات) نقلاً عن مجلة (المصور) في
عددها الخاص الصادر في 23 ديسمبر 1927 بعد وفاة سعد زغلول فقد نشرت المصور صورة الجنازة تحت
عنوان: (الأمة والحكومة تشيعان الفقيد العظيم) وتحت الصورة مباشرة كتبت العبارة التالية: (وفد
البنائين الأحرار _ الماسون - في تشييع جنازة الزعيم الكبير وكان رحمه الله قطباً من أقطاب الماسونية)
ومن قبل ذلك نشرت جريدة " المقطم " في عددها الصادر يوم الجمعة 26 أغسطس في الصفحة الأولى
العبارة التالية: (حداد الماسونية على فقيد البلاد الأعظم.. فقدت الماسونية المصرية بفقد سعد العظيم الخالد
عضداً كبيراً وفضلاً كثيراً وذخراً وفيراً كانت تعتز بفضله.. وستقام حفلة جناز ماسونية للفقيد الأعظم يعلن
موعدها فيما بعد) اهـ.
(147) (مصطفى كامل) للرافعي ص (239، 431) وانظر مواقفه (الوطنية) ! المماثلة في (الاتجاهات الوطنية
في الأدب المعاصر) للدكتور " محمد محمد حسين " (2 /373 - 393) .
(148) من مقالة بقلم " فاطمة عصمت زكريا " ملحقة بكتاب (المرأة ومكانتها في الإسلام) لأحمد الحصين
ص (208) .(1/84)
ومن هنا فلا تعجب إذا رأيت مصطفى كامل يعلق على تصرفات الوزير سعد زغلول قائلاً: (إن الناس قد فهموا الآن أوضح مما كانوا يفهمون من قبل لماذا اختار اللورد
" كرومر " (149) لوزارة المعارف العمومية صهر رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا الأمين على وحيه الخادم لسياسته........ ألا إن الذين كانوا يحترمون الوزير كقاض ليأسفون على حاضره كل الأسف وليخافون على مستقبله كل الخوف ويفضلون ماضيه كل التفضيل ذلك لأن الوزير قائم الآن على منحدر هائل مخيف) (150) اهـ
ولنختم هذا الفصل بما كتبه سعد زغلول عن اللورد " كرومر " قال: (كان يجلس معي الساعة والساعتين ويحدثني في مسائل شتى كي أتنور منها في حياتي السياسية) ، (وكان يصفه بأن صفاته - أي كرومر- قد اتفق الكل على كمالها)
ويحكي " سعد " في مذكراته وقع خبر استعفاء كرومر من منصبه (11/4/1907) عليه فيقول: (أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هولها ... لقد امتلأت رأسي أوهاماً وقلبي خفقاناً وصدري ضيقاً) .
وكان سعد في مقدمة الداعين إلى إقامة حفل لتوديع اللورد كرومر الذي سب في
__________
(149) ذكر كرومر في تقرير سنة 1906 م (أن في مصر جماعة صغيرة العدد آخذة في الازدياد هي الحزب الذي يمكن أن أسميه على سبيل الاختصار بأتباع المفتي الأخير " محمد عبده ") وذكر في خصائصهم أنهم (غير متأثرين بدعوة الجامعة الإسلامية ويتضمن برنامجهم - إن كنت قد فهمته حق الفهم - التعاون مع الأوربيين لا معارضتهم في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم) ثم أشار كرومر إلى أنه (تشجيعاً لهذا الحزب - وعلى سبيل التجربة - قد اختار أحد رجاله وهو " سعد زغلول " وزيراً للمعارف) اهـ وانظر: " الإسلام والحضارة الغربية " للدكتور " محمد محمد حسين " ص (75) .
(150) (مصطفى كامل) للرافعي ص (422) .(1/85)
خطاب وداعه المصريين جميعاً ولم يمدح إلا رجلاً واحداً هو " سعد زغلول " وأعلن أنه يترك مصر مستريحاً لأنه أقام فعلاً القاعدة الأساسية لاستدامة الاحتلال وصدق فقد ألف في ذلك العام "حزب الأمة" (151) وأصبح " لطفي السيد " حامل لواء "الجريدة" (152)
وعين سعد زغلول ناظراً للمعارف وقال كرومر في تعليل هذا التعيين:
(إنه يرجع أساساً إلى الرغبة في ضم رجل قادر ومصري مستنير من تلك الطائفة الخاصة من المجتمع المعنية بالإصلاح في مصر) ، (كما أن سعداً من تلاميذ محمد عبده وأتباعه الذين أطلق عليهم " جيرونديي " (153) " الحركة الوطنية المصرية " والذي كان برنامجهم تشجيع التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر الأمر الذي جعل كرومر يحصر فيهم أمله الوحيد في قيام الوطنية المصرية) (154) اهـ
__________
(151) تكون " حزب الأمة " - كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا - " من أركان أصدقاء الشيخ محمد عبده من كبار رجال الحكومة ووجهاء القطر " اهـ من (تاريخ الإمام) (1 /591) - مطبعة المنار سنة 1935 م.
قال الدكتور السيد أحمد فرج: (إن حزب الأمة أنهى علاقاته بالجذور القديمة الإسلامية وصفى آثارها تماماً ليهيئ الجو للفكر العلماني الذي أطبق على البلاد بلا شريك - لأول مرة - وفرض أسلوب الغرب في الحكم والتربية والتشريع والاقتصاد، يوضح ذلك بيان الحزب نفسه الذي صدر ليحذر بجلاء الذين يتهمون هذه الحركة الجديدة حركة حزب الأمة بأن لها مظهراً من مظاهر التعصب الديني أي الـ "pan Islamism " لأنهم يريدون بهذه التهمة أن يبعدوا بيننا وبين أحرار الأوربيين خاصة وأنهم يعلمون أن المصريين أبعد الناس عن هذه التهمة وأبرؤهم منها " اهـ " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (17) . وانظر: (قصة حياتي) أحمد لطفي السيد ص (44) .
(152) (اتضح أن أهم أسباب إصدار " الجريدة " إظهار نوايا حزب الأمة في تطليق فكرة الإسلامية نهائياً والعمل
على تغيير العادات والأفكار الاجتماعية في مصر) اهـ من " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (17) .
(153) انظر " الموسوعة العربية الميسرة " ص (677) .
(154) انظر (رجال اختلف فيهم الرأي) لأنور الجندي ص (16 - 18) .(1/86)
تلميذ المدرسة الاستعمارية
وبداية " تحرير المرأة " (*)
لم يكن يتخيل أحد أن " يجاهر " أحد من القائمين على دعوة تحرير المرأة بأن هذا
" التحرير " في مفهومه يرادف " الأسر " بل ويرادف " الانحلال " بكل ما تحتمله الكلمة من معان.
ومع وضوح السلسلة التاريخية التي مرت بها حركة " تحرير المرأة " والتي سردنا بعضاً من حلقاتها فيما تقدم ومع إمكان الاختلاف في تحديد بدايتها على وجه الدقة إلا أنه لم يوجد " قلم " يحترم نفسه جرؤ على الزعم بأن عام 1800م هو عام تحرير المرأة المصرية!
وأن " الحملة الفرنسية " كانت نقطة " الانطلاق " إلى " تحرير المرأة" من كل قيد وأول ذلك قيد الدين والخلق والحياء.. فماذا عن عام 1800؟
(عام 1800 عام هزيمة ثورة القاهرة الثانية عام سبي جنود الاحتلال الفرنسي لنساء مصر وبناتها وغلمانها ... هو عام تحرير المرأة المصرية)
لقد أنفرد بهذا الكشف " لويس عوض "! يقول:
(أما عام 1800م فهو عام تحرير المرأة ففي الجبرتي وصف لبدايات حركة السفور ووصف لبدايات حركة تحرير المرأة ووصف لما أصاب بعض نساء القاهرة من انطلاق نتيجة لمخالطة المصريين للفرنسيين ومحاكاتهم في الزي وفي
__________
(*) بتصرف من " ودخلت الخيل الأزهر " ص (395 - 414) ط. أولى، (1391 هـ - 1972 م) - الدار
العلمية - بيروت.(1/87)
السلوك) (155)
ويستشهد " لويس عوض " على حركة " التحرير " هذه بقول الجبرتي: (ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقنها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن وكان ذلك التداخل أولاً مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخفائه فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات وصرن مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر ولما حل بأهل البلد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيين ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهم لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها
(156) فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصاً عقول القاصرات
__________
(155) " تاريخ الفكر " للويس عوض " ج 1 ".
(156) أي حذاؤها.(1/88)
وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم فيظهر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها)
(ومنها أنه أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن ووقع عند ذلك
من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيين ومصاحبتهن لهم في المراكب والرقص والغناء والشرب بالنهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة عليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة وبصحبتهم آلات الطرب وملاحوا السفن يكثرون من الهزل والمجون ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المجاديف بسخف موضوعاتهم وكثائف مطبوعاتهم وخصوصاً إذا دبت الحشيشة في رؤوسهم وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنائهم وتقليد كلامهم شيء كثير)
(وأما الجواري السود فإنهن لما علمن رغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفواجاً فرادى وأزواجاً فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطيقان ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك) اهـ
هكذا يفهم " لويس عوض " من العبرات السابقة للجبرتي أنه كانت هناك"ثورة نسائية" أو " ثورة حريم " في مصر " أو على الأقل في القاهرة عام 1800" ومع أن الجبرتي لم يترك فرصة لسوء الفهم هذا فإن تلميذ المدرسة الاستعمارية يصر على أنها ظاهرة عامة نابعة عن " ثورة تحررية "! وليست حالة انهيار تحدث في جميع المجتمعات التي تتعرض للاحتلال والنهب والسلب والتجويع وأسر بنات الأسر كالجواري ووضعهن في معسكرات الجنود " مأسورات ".
مؤرخ المدرسة الاستعمارية يجعل من انحطاط المرأة إلى حد التكسب "(1/89)
بالفاحشة " ثورة نساء وبداية تحرر المرأة!
وهو بذلك يعكس احتقاراً عميقاً للمرأة كما يعكس مفهوماً وقحاً لمعنى تحرر المرأة ولكنه لا يكتفي بذلك بل يصر على أن يجعل هذا التحرر بعلم رجال مصر ورضاهم.
والجبرتي دقيق وواضح حين يبين أن الفريق الأول أو " الرائدات " هن من النساء الأسافل والفواحش أما الفريق الثاني من الحرائر فهو يعتذر عنهن بالأسر ولكن " لويس عوض " يأبى إلا أن يلوي عنق النص ويدعي أن الجبرتي (يتحدث عن الحرائر من ربات البيوت وبناتها ... عن سيدات المجتمع وهؤلاء ما كان يمكن أن يخالطن الفرنسيات والفرنسيين إلا برضاء الأولياء عليهن) (157) اهـ
وهكذا بزعم تلميذ المدرسة الاستعمارية أن المجتمع المصري " المتحرر" تحولت نساؤه إلى بغايا وتحول رجاله إلى قوم يرضون بذلك!
ثم تأمل افتراءه - عامله الله بعدله - حينما يدعي أن طبقات النساء اللواتي حاكين المتفرنسات والعادات الفرنسية وطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار قد اتسعت
(بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق) اهـ
نعم في منطق " لويس عوض " وأمثاله لا تتعارض كلمة " سبايا " مع كلمة
" متحررات " لأن الحرية التي هي مسار الجدل هنا هي " الحرية الشهوانية " بمعناها السوقي المبتذل ومن ثم يمكن أن تكون المرأة جارية سبية وفي نفس الوقت " متحررة " بل
وطليعة ثورة تحررية لأنها تتبرج في ثيابها وتخرج سافرة الوجه متأبطة ذراع
" محررها " و " مالكها " في نفس الوقت ومن ثم يمكن أيضاً - في منطق الرجل - الفصل بين (حرية المرأة المملوكة) وبين (حرية الوطن الأسير) .
__________
(157) " تاريخ الفكر " لويس عوض (ج 1) .(1/90)
إن ظاهرة " الاحتلال " ظاهرة عامة في المستعمرات ولا علاقة لها بمركز المرأة إذ إنها ظاهرة تنشأ عند قشرة المجتمع عند نقطة احتكاكه بالمحتل الأجنبي وهي حينئذ لن تتحول إلى ثورة نسائية ولا إلى حركة تحرير المرأة لأن المرأة لا تتحرر على يد جيش احتلال يهتك الأعراض ويدنس الحرمات.(1/91)
الاستعمار الأوربي
حملة صليبية جديدة
(ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)
سورة البقرة آية (217)
كان الجندي الإيطالي يرتدي لباس الحرب قادماً لاستعمار بلاد الإسلام وهو ينشد بأعلى صوته:
(يا أماه ...
أتمي صلاتك.... ولا تبكي
بل اضحكي وتأملي ... ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني
وأنا ذاهب إلى طرابلس
فرحاً مسروراً ...
لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ... (*)
ولأحارب الديانة الإسلامية ...
سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن ... ) (158) .
(والمتتبع لتاريخ العلاقات ما بين الغرب وشعوب الإسلام يلاحظ حقداً مريراً يملئ صدر الغرب حتى درجة الجنون يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام
__________
(158) " قادة الغرب يقولون " نقلاً عن القومية والغزو الفكري " ص (208) وهذه الأنشودة المشهورة تسمى " أغنية الفاشيست " كانت جيوش الطليان الجرارة تترنم بها وهي تسير مدججة بالسلاح في طرقات طرابلس وبرقة بصوت واحد (انظر: الاتجاهات الوطنية 2 / 157) .(1/93)
إلى أبعد نقطة في النفسية الأوربية.
هذا الحقد وذلك الخوف لا شأن لنا بهما إذا كانا مجرد إحساس نفسي شخصي أما إذا كانا من أهم العوامل التي تبلور مواقف الحضارة الغربية من الشعوب الإسلامية سياسياً واقتصادياً وحتى هذه الساعة فإن موقفنا يتغير بشكل حاسم.
سوف تشهد لنا أقوال قادتهم أن للغرب والحضارة الغربية بكل فروعها القومية وألوانها السياسية موقفاً تجاه الإسلام لا يتغير إنها تحاول تدمير الإسلام وإنهاء وجود شعوبه دون رحمة.
(*) بل هي - ولله الحمد - أمة مرحومة كما قال نبيها نبي الرحمة: " أمتي أمة مرحومة " الحديث في الصحيحة رقم (959) .
حاولوا تدمير الإسلام في الحروب الصليبية (159) ففشلت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام بالملايين فعادوا يخططون من جديد لينهضوا.. ثم ليعودوا إليهم بجيوش جديدة وفكر جديد وهدفهم تدمير الإسلام من جديد) (160) .
ومهما حاولت هذه الحملات الاستتار تحت راية " نشر الحضارة والتقدم " في البلاد المستعمرة فإن الحقيقة التي لا تخفى على كل ذي لب أن الغرب بنى ولا يزال يبني علاقاته معنا على أساس أن الحروب الصليبية بيننا وبينهم لا تزال مستمرة وهاكم البراهين على ذلك:
فسياسة أمريكا معنا تخطط على هذا الأساس:
قال " أيوجين روستو " رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الرئيس " جونسون " لشئون الشرق الأوسط حتى عام 1967:
(يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست
__________
(159) (ويوم دخلوا بيت المقدس ذبحوا فيه سبعين ألفاً من المسلمين حتى غاصت الخيل إلى صدورها في دماء
المسلمين) اهـ من (حاضر العالم الإسلامي) لستودارد ص (208) .
(160) (قادة الغرب يقولون) للأستاذ جلال العالم ص (6 - 7) طبعة المختار الإسلامي.(1/94)
خلافات بين دول أو شعوب بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية لقد كان الصراع محتدماً ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا أنما هي جزء مكمل للعالم الغربي فلسفته وعقيدته ونظامه وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها) (161) اهـ
وبالأمس (وقف مندوب أمريكا في هيئة الأمم قائلاً: إن الصراع الحقيقي في الشرق ليس بين العرب واليهود إنما الصراع الحقيقي هو ما بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب فإذا استطعنا أن نزيح حضارة الإسلام عن ميدان الصراع هان علينا تصفية
القضية وسهل علينا الجمع ما بين العرب واليهود) (162) .
والحرب الصليبية الثامنة قادها " أللنبي ":
قال " باترسون سمث " في كتابه " حياة المسيح الشعبية ":
(باءت الحروب الصليبية بالفشل لكن حادثاً خطيراً وقع بعد ذلك حينما بعثت إنكلترا بحملتها الصليبية الثامنة ففازت هذه المرة إن حملة " أللنبي " على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى هي الحملة الصليبية الثامنة والأخيرة) (163) .
__________
(161) المصدر السابق ص (25 - 26) نقلاً عن (معركة المصير) ص (87 - 94) .
(162) " محاضرات الجامعة الإسلامية " موسم عام (1395 - 1396 هـ) هامش (124) .
(163) عن مجلة الطليعة القاهرية - مقال وليم سليمان عدد ديسمبر 1966 - ص (84) .(1/95)
ولذلك نشرت الصحف البريطانية صور أللنبي تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما فتح القدس: (اليوم انتهت الحروب الصليبية) ونشرت هذه الصحف خبراً آخر يبين أن هذا الموقف ليس موقف "أللنبي" وحده بل هو موقف السياسة الإنكليزية كلها
قالت الصحف: (هنأ " لويد جورج " وزير الخارجية البريطاني الجنرال " أللنبي " في البرلمان البريطاني لإحرازه النصر في آخر حملة من الحروب الصليبية التي سماها " لويد جورج ": (الحرب الصليبية الثامنة)
وقال " ألان مورهيد " مؤلف كتابي: (النيل الأبيض) و (النيل الأزرق) :
(إن احتلال الإنكليز لمصر سنة 1881 كانت لمواجهة مؤامرة إسلامية خطيرة وتيار محمدي متعصب) (164) .
والفرنسيون أيضاً صليبيون:
فالجنرال " غورو " عندما تغلب على جيش " ميسلون " خارج دمشق توجه فوراً إلى قبر صلاح الدين الأيوبي عند الجامع الأموي وركله بقدمه قائلاً:
(ها قد عدنا يا صلاح الدين) (165)
وقد صرح القائد الفرنسي " بيبر كيلر " (166) :
(إن مصالح فرنسا في الشرق الأوسط هي قبل كل شيء مصالح روحية وتعود هذه العلاقات إلى عهد الصليبيين حيث وقعت معاهدات لحفظ الأماكن المقدسة وجددت هذه
المعاهدات على مر القرون وتحملت فيها فرنسا مهمة حماية نصارى الشرق) اهـ
ويؤكد صليبية الفرنسيين ما قاله " بيدو " وزير خارجية فرنسا عندما زاره بعض
__________
(164) " محاضرات الجامعة الإسلامية " عام (1395 - 1396 هـ) ص (31) .
(165) " قادة الغرب يقولون " نقلاً عن (القومية والغزو الفكري) ص (84) .
(166) ص (119) عن (الاتجاهات الوطنية) (2 / 20) .(1/96)
البرلمانيين الفرنسيين وطلبوا منه وضع حد للمعركة الدائرة في " مراكش " فأجابهم:
(إنها معركة بين الهلال والصليب) (167)
وفي ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر قال الحاكم الفرنسي في الجزائر:
(إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية فيجب أن نزيل القرآن العربي من جودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم) (168) .
وهذا هو الكاتب الفرنسي " فرنسيس جانسون " يعترف بـ (أن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان منذ البدء يحمل طابع الحروب الصليبية: " التبشير والاستعمار") (169) .
وبعد سقوط القدس عام (1967)
قال " راندولف تشرشل ": (لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم المسيحيين واليهود على السواء إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود إن القدس قد خرجت من أيدي المسلمين وقد أصدر الكنيست اليهودي ثلاثة قرارات بضمها إلى القدس اليهودية ولن تعود إلى المسلمين في أية مفاوضات مقبلة ما بين المسلمين واليهود) (170)
وعندما دخلت قوات إسرائيل القدس عام 1967م تجمهر الجنود حول حائط المبكى وأخذوا يهتفون مع " موشى ديان ":
{هذا يوم بيوم خيبر ... يا لثارات خيبر}
وخرج أعوان إسرائيل بمظاهرات قبل حرب 1967 تحمل لافتات في باريس
__________
(167) " قادة الغرب يقولون " ص (28) نقلاً عن (القومية والغزو الفكري) ص (84) .
(168) السابق ص (33) نقلاً عن (المنار) عدد (9 / 11 / 1962 م) .
(169) " محاضرات الجامعة الإسلامية " (1395 - 1396 هـ) ص (131) .
(170) " قادة الغرب يقولون " عن (حرب الأيام الستة) لراندولف تشرشل ص (139) من الترجمة العربية.(1/97)
سار تحت هذه اللافتات اليهودي الوجودي " جان بول سارتر " وقد كتب عليها وعلى جميع صناديق التبرعات لإسرائيل جملة واحدة من كلمتين هما: (قاتلوا المسلمين)
فالتهب الحماس الصليبي الغربي وتبرع الفرنسيون بألف مليون فرنك خلال أربعة أيام فقط كما طبعت إسرائيل بطاقات معايدة كتبت عليها: " هزيمة الهلال "
بيعت بالملايين لتقوية الصهاينة الذين يواصلون رسالة الصليبية الأوربية في المنطقة وهي: (محاربة الإسلام وتدمير المسلمين) (171) .
وهذا " لورنس براون " يقول: (إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي) (172) .
وهذا " جلاد ستون " رئيس وزراء إنكلترا (173) وقد وقف في أواخر القرن الماضي في مجلس العموم البريطاني وقد أمسك بيمينه القرآن المجيد وصاح في أعضاء البرلمان قائلاً: (إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر: أولهما هذا الكتاب وسكت قليلاً بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: (وهذه الكعبة) (174)
وقال أيضاً: (ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان) (175) .
__________
(171) السابق ص (30 - 31) عن (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية ص 20 - 21) .
(172) (التبشير والاستعمار) ص (184) طبعة المكتبة العصرية بيروت 1957 م.
(173) كان (مصطفى كامل) قد راسل غلادستون هذا من باريس يسأله رأيه في مسألة مصر والاحتلال فأجابه (غلادستون)
جواباً جاء في جملته: (إننا يجب أن نترك مصر بعد أن نتم فيها بكل شرف - وفي فائدة مصر نفسها - العمل الذي
من أجله دخلناها) انتهى من (بناة النهضة العربية) ص (58) .
(174) (الحركات النسائية في الشرق) ص (7) .
(175) (الإسلام على مفترق الطرق) ص (39) .(1/98)
وهو القائل أيضاً: (لن تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن) (176) .
وهذا " كرومر" يقول:
{جئت لأمحو ثلاثاً: القرآن والكعبة والأزهر} (177)
وهذا القسيس " زويمر " يبشر المؤتمرين في " مؤتمر القاهرة التبشيري" (1906م) الذي ناقش خطة تنصير العالم الإسلامي ويوصيهم بجملة وصايا كان آخرها: (أن لا يقنطوا إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وإلى تحرير نسائهم) (178)
وهذا " جان بول رو" يقول في كتابه " الإسلام في الغرب " (179) : (إن التأثير الغربي الذي يظهر في كل المجالات ويقلب رأس على عقب المجتمع الإسلامي لا يبدو في جلاء أفضل مما يبدو في تحرير المرأة) اهـ
وفي تصريح لـ " بن غوريون " في الكنيست قال:
(اصبروا فلن يكون هناك سلام لإسرائيل ما دام العرب تحت قيادة الرجعيين إن الشرط الأساسي للسلام هو أن يقوم في البلدان العربية حكومات ديموقراطية تقدمية متحررة من " التقاليد " الإسلامية) (180) .
وبالأمس القريب نشرت مجلة (الأمة) أن رئيس أمريكا (ريجان) وجه إليه أحد الصحافيين سؤالاً نصه: (متى تنتهي مهزلة ما يحدث في بيروت والدماء تنزف؟)
__________
(176) (المرأة ومكانتها) للحصين ص (12)
(177) " الخنجر المسموم " لأنور الجندي ص (29) .
(178) " أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي " للدكتور علي جريشة ومحمد شريف الزيبق ص (34) .
(179) انظر ص (178 - 189) والكتاب ترجمة: نجدة هاجر وزميله طبع في مصر 1960 م.
(180) " محاضرات الجامعة الإسلامية " ص (131) عام (1395 - 1396 هـ) .(1/99)
فأجاب رئيس أمريكا في غرور واضح:
(إننا لا نزال صليبيين! ولابد من إنهاء المناوشات بين المسلمين واليهود وحماية أتباع المسيح في لبنان من المسلمين الغرباء) (181) .
(بل هذه قلعة " الشقيف " القائمة على تل في جنوب لبنان ويسميها الأوربيون قلعة
" بوفور" نسبة إلى القائد الذي أقامها أيام الحروب الصليبية منذ قرون وقد كانت محل قصف دائم من إسرائيل طيلة سنوات وفي اكتساحها للجنوب لم تتمكن من إخراج المقاومة منها إلا بعد أن دمرتها تماماً واستدعى يومها الجنرال " إيتان " قائد الجيش الإسرائيلي " مناحم بيجن " إلى أطلال القلعة ليقدم له القلعة هدية وجاء بيجن ليرفع عليها العلم الإسرائيلي قائلاً: (ها قد عدنا) ناسياً بذلك غزوه إلى الغزوات الأوربية التي أقامت ممالكها في تلك المنطقة قروناً قبل أن يستردها العرب ومستخدماً عبارة الجنرال
" غورو" القائد الفرنسي حين احتل دمشق سنة 1920، ووقف أمام قبر " صلاح الدين الأيوبي" وقال: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)) (182) .
ومن هنا:
لم يكن عفواً أن يبدأ المبشرون الصليبيون بمصر قلعة الإسلام الصامدة ومركز ثقله وموطن الأزهر.
ولم يكن عفواً أن يكون قادة الغزو الصليبي الجديد لمصر من القساوسة المعروفين بكيدهم للإسلام والمسلمين أمثال " دنلوب " كاهن السياسة التعليمية الفاسدة التي زرعها في مصر لقطع صلة الأجيال بالإسلام و " كرومر " الحاكم البريطاني الذي أذل
__________
(181) " الأمة " العدد (31) السنة الثالثة.
(182) (يوميات) الأهرام (12 / 8 / 1982 م) ص (18) .(1/100)
المصريين لمدة ربع قرن من الزمان والذي حرص على صياغة جيل من المثقفين ثقافة أوربية يقبل التعاون مع الاستعمار ويخلفه في حمل راية التفرنج بعد رحيل جيوشه حتى يضمن قهر الإسلام ويأمن بعث المسلمين من جديد بعد رحيله،
وكلا الرجلين " دنلوب" و " كرومر " قد تخرجا من أكبر المدارس اللاهوتية في أوربا ولم يكن من المستغرب أيضاً أن ينشط لدعوة الحرية عامة وتحرير المرأة خاصة النصارى والشاميون المقيمون في مصر (183) ، فهؤلاء كانوا يعملون لنصرة أبناء دينهم أمثال " كرومر وزويمر ودنلوب وغورو واللنبي "، (وتصورهم الديني غارق في التثليث والعشاء الرباني وصكوك الغفران ... لكن من المؤسف أن يصير في هذا الخط المدمر أناس من أبناء المسلمين أضلهم الشيطان على علم وعميت أبصارهم عن الحقيقة فكانوا خداماً لأسيادهم وأولياء نعمتهم من الفرنج) (184) .
وكعناصر أي معركة: كانت (القيادة) صليبية و (القاعدة) أرض وطننا المسلم مصر و (الأسلحة) بسطاء المسلمين ومستضعفيهم و (العملاء) الهواة منهم والمحترفون الحكام والقادة الفكريون يمارسون بأيديهم إبادة مقومات القوة في أمتنا ليسهلوا على العدو الخبيث المتربص التهامها.. وما أفظعها من مهمة يمارسها العملاء حين يدمرون أممهم ثم يدفعونها في فم الغول الاستعماري البشع ليلتهمها.. لقمة سائغة!
__________
(183) أمثال: مرقص فهمي وميخائيل عبد السيد وجرجي زيدان ولويس عوض وسلامة موسى وفرح أنطون
وشبلي الشميل وقسطنطين رزق وميشيل عفلق وجورج حبش وأنطون سعادة وشاعر المجون والعربدة
نزار قباني وغيرهم انظر (المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التحرر) للدكتور " عمر الأشقر " ص (14)
و (المرأة ومكانتها) للحصين ص (208) ، و (الاتجاهات الوطنية) (1 / 203) وما بعدها.
(184) (المرأة ومكانتها في الإسلام) للحصين ص (219) بتصرف.(1/101)
لقد استطاع أعداء الإسلام في تلك الحقبة أن يغرسوا في نفوس الكثير من المنهزمين أنهم ما أتوا إلا لتعمير بلادنا ونشر الحضارة والثقافة وجهل هؤلاء المنهزمون أن هؤلاء الأعداء الموتورين قد توارثوا الأحقاد على الإسلام وأنهم لا يألون جهداً حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.
كأن أنسالهم من بعدهم حلفوا أن يبعثوا الحقد نيراناً وينتقموا
هذي حضارتهم والشر يملؤها ماتت على صرحها الأخلاق والشيم
والآن.. وبعد أن انكشفت لنا الحقائق جلية عن نوايا أعدائنا بنا وخططهم لتدميرنا وعن حقيقة هؤلاء الذين قامت على أكتافهم دعوة " تحرير المرأة " وسنكشف فيما بعد إن شاء الله عن حقيقة هؤلاء اللاتي طفن بأوربا وحججن إلى حضارتها وشددن الرحال إلى مؤتمراتها و " مؤامراتها " ثم عدن نائبات عن (أسيادهن) في مهمة (تدمير المرأة المسلمة)
وبذلن كل فروض الطاعة والولاء الصريح لأعداء الإسلام وبخلن في الوقت نفسه بإظهار أي صورة من صور الولاء الحقيقي لله ولرسوله وللمؤمنين وجهر بعضهن بعد ذلك بالطعن في الدين والتبري مكن شريعة سيد المرسلين " أفلا يحق لنا بعد هذا كله أن نتساءل:
(ما سر العلاقة الودية الوثيقة التي تربط بين دعاة تحرير المرأة وبين القوى الاستعمارية والمعادية للإسلام وعلمائه ودعاته وأهله في كل مكان من العالم حولنا؟
إنه بالرغم من افتراض حسن النية أو الجهل عند من كان يظهر الإسلام من دعاة تحرير المرأة لكن هذا الافتراض لم يمنع بعض المحللين والباحثين حق الاجتهاد والبحث عن علاقة ما محتملة سرية أو علنية بين مخططات البهائية والصهيونية والماسونية ومسيرتها السرطانية الدؤوبة التي لا نشعر بها إلا بعد ظهور الأورام وتفشي الموت في الدم واللحم والعظم - وبين قيادات ودعاة السفور على مساحة ديار المسلمين الواسعة و " من أوقع نفسه في مواقع التهمة فلا يلومن من أساء الظن به ")(1/102)
فلنستصحب هذه المعاني ونحن نجول بين أعلام نسائية بارزة كان لها دور ما في معركة " الحجاب والسفور " ولنتأمل جيداً دورهن " كتلميذات للاستعمار " ما منهن واحدة إلا ورحلت إلى " هناك " لتلقن أصول الدعوة المدمرة ثم عادت إلى " هنا " لنتبوأ مراكز التوجيه ... متجردة من الولاء للإسلام والاعتزاز بأحكامه ومخلصة في عبادتها لأوربا بل فخورة باستعباد أوربا لها رافضة بلسان حاله وسلوكها ولحن قولها أن تجعل الإسلام منظار على عينيها ترى الأشياء من خلاله وتحكمه فيما هي عليه من عقيدة ومنهاج.
- - - - -(1/103)
خريجات البيوت العميلة
في موكب الرذيلة
ارتبطت الأحزاب النسائية في الشرق على اختلاف أسمائها بعجلة الاستعمار منذ أول يوم من نشأتها وقامت بتزعم هذه الأحزاب نسوة لا نستطيع تفسير نشاطهن ضد الآداب والأحكام الإسلامية إلا بإلقاء بعض الضوء حسبما تسمح هذه العجالة على الخلفيات والبيئات التي نشأن فيها وبالتالي خرجت منهن زعيمات مقلدات للغرب بل ومنفذات لخططه في تدمير الأسرة المسلمة وانخدع بهن كثير من المسلمات وانقدن وراء دعوتهن
أعمى يقود بصيراً لا أبالكم قد ضل من كانت العميان تهديه
1- " صفية زغلول " (185)
زوجة " الزعيم " " سعد زغلول " وابنة " مصطفى فهمي " رئيس الوزراء التركي الأصل الذي كانت سياسته تمثل الخضوع التام للاحتلال الإنكليزي وهو " أشهر صديق للإنكليز " عرفته مصر في تاريخ الاحتلال الإنكليزي من أوله إلى آخره (186) ، " ولم يكن من أنصار الاحتلال فحسب بل كان من المخلصين له العاملين على تحقيق مآربه مما دفع الخديوي " عباس " إلى إقصائه عن رئاسة الوزارة
__________
(185) هي بنت (مصطفى فهمي) وقد تسمت باسم زوجها " سعد زغلول " تشبهاً بالإفرنج في نسبة المرأة إلى زوجها ولقبت بأم المصريين.
(186) (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) (2 / 386) .(1/105)
سنة (1893م) فحدثت أزمة مع كرومر انتهت بتأليف " الوزارة الطويلة " برئاسة"مصطفى فهمي" ثانية والتي حكمت مصر بالحديد والنار لمدة ثلاثة عشر عاماً خضوعاً للاحتلال
الإنكليزي " (187) ، (وقد حرصت أن تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت أن تفتح مجالاً جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة خاصة) (188)
وقد ذكرنا آنفاً دورها في سن فتنة السفور إلى جانب أنها تزعمت مع " هدى شعراوي " أول مظاهرة نسائية سنة (1919 م) .
2- " هدى شعراوي " (ت 1947 م) :
(هي نور الهدى بنت محمد سلطان باشا - التي تسمت فيما بعد على الطريقة الأوربية بهدى شعراوي إلحاقاً لها باسم زوجها " على باشا شعراوي " بواسطة حرم حسين باشا رشدي الفرنسية وقد اعترفت هدى شعراوي بنفسها في مواضع كثيرة من مذكراتها بفضل هذه السيدة عليها (189) وأبوها " محمد سلطان باشا " (190) الذي كان يرافق جيش الاحتلال الإنكليزي في زحفه على العاصمة والذي كان يدعو الأمة إلى استقباله وعدم مقاومته ويهيب بها علانية أن تقدم له كافة المعاونات والمساعدات وقد سجل التاريخ فوق هذه الصفحة السوداء صفحة أخرى أشد سواداً حينما تقدم هذا الخائن مع فريق من الكبراء بهدية من الأسلحة الفاخرة إلى
__________
(187) (مصطفى كامل) للرافعي ص (416) .
(188) (رجال اختلف فيهم الرأي) ص (34) .
(189) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (23) .
(190) انظر تفاصيل خيانته للثورة العرابية في كتاب (محمد سلطان أمام التاريخ) للدكتور عبد العزيز رفاعي
و (الأستاذ الإمام محمد عبده) لرشيد رضا (1 / 258 - 259) ،
و (رجال اختلف فيهم الرأي) لأنور الجندي (31 - 33) .(1/106)
قادة جيش الاحتلال شكراً لهم على
" إنقاذ البلاد ".. وهكذا لم يكن عجباً أن يفرض الاحتلال على الخديوي أن يمنح أمثال هذا الخائن عشرة آلاف من الجنيهات الذهبية اعترافاً من بريطانيا له بالجميل.. ليس هذا فحسب بل لقد أنعمت عليه انجلترا بنيشان " سان ميشيل " و " سان جورج " الذي يلقب حامله بلقب " سير " (191) وهي زوجة " علي شعراوي " باشا ابن عمتها وتلميذ محمد عبده (*) ورفيق سعد زغلول وعبد العزيز فهمي أصدقاء الإنكليز والصديق الوفي للطفي السيد وأحد أعضاء " حزب الأمة " الذين أطلق عليهم " الإنكليز " اسم
" الرجال المعتدلون " لأنهم حاربوا في سبيل بريطانيا " مصطفى كامل " وناوأوه ووصفوه بالرجل العنيف وقد كان هذا الحزب المشبوه ينكر الجامعة الإسلامية ويحاربها داعياً إلى وطنية تقوم على المصلحة المتبادلة والمنفعة المادية لا على الإسلام وهو الحزب الذي عرف فيما بعد باسم (حزب الوفد) (192) والذي كان (علي شعراوي) نفسه وكيلاً له (193) .
وهي أيضاً رفيقة " صفية زغلول " ابنة " مصطفى فهمي " تلقفتها جماعات تحرير المرأة في روما وأمستردام ومرسيليا واستانبول وباريس وبرلين وبروكسل وبودابست وكوبنهاجن وجنيف وحيدر أباد ونيو دلهي لتقود حركة " تحطيم المرأة المسلمة " في مصر.
وهي أيضاً تلميذة وفية لزوجة " حسين رشدي " باشا الفرنسية التي كانت " هدى " تكبرها وتفيض في ذكر مبررات إعجابها بها واتخاذها مثلها الأعلى
__________
(191) (الحكات النسائية في الشرق) للأستاذ " محمد فهمي عبد الوهاب " ص (23 - 24) .
(*) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (64) .
(192) (الاتجاهات الوطنية) (2/ 135) ، و " حواء " العدد (1231) (26 / 4 / 1980 م) .
(193) (حواء) (1227) تاريخ (29 / 3 / 1980 م) ص (19) .(1/107)
فقالت:
(لم تكن تعني بظروفي وحالتي واسمي فقط وإنما كانت أيضاً تجتهد في تثقيفي في اللغة الفرنسية وكانت ترشدني إلى أثمن الكتب وأنفعها وكانت تناقشني فيما قرأت وتفسر لي ما يصعب عليّ فهمه وكانت تغذي عقلي وروحي بكل أنواع الجمال والكمال وتحتم عليّ حضور صالونها كل يوم سبت وتقول لي: أنت زهرة صالوني) (194) .
وكانت هذه المرأة الفرنسية الأصل التي أعدت "هدى شعراوي" إعداداً خاصاً لمهمتها قد ألفت كتابين الأول بعنوان " حريم ومسلمات مصر " وكتاب " المطلقات " تعبر فيهما - على حد قولها - عن مدى الألم والتعاسة التي تعانيها من " أجل تعاسة المصرية وظلم الرجل لها " (195) .
وكانت على صلة وثيقة بحركة تحرير المرأة المصرية كما كانت موضع إعجاب النابهين في مصر من رواد هذه الحركة وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين الذي كانت تعجب به كثيراً وتأسف لعدم تقدير المصريين له التقدير اللائق برسالته " وكانت كثيراً ما تقص على صفيتها هدى شعراوي ما كان يدور بينها وبين هؤلاء الثلاثة الكبار من حديث " (196) تشعل به كيانها وتدفعها إلى التطلع إلى تحسين أحوال المرأة المصرية والسير بحركتها إلى الأمام.
وكانت كثيراً ما تحدث هدى شعراوي " حول البحث عن الطريقة العملية المجدية للوصول إلى تحسين حال المرأة المصرية والترفيه عنها وكانت توجهها إلى أن تبدأ مشروعها بتوجيه المرأة المصرية إلى ممارسة الرياضة البدنية أولاً قبل تنبيهها إلى خوض الحياة الاجتماعية وترغيبها في دراسة الفنون والآداب وعقد اجتماعات تجمع بين
__________
(194) (مذكرات هدى شعراوي) ص (96) - كتاب الهلال سبتمبر / 1981.
(195) السابق ص (99) .
(196) السابق ص (102) .(1/108)
الرياضة الفكرية والرياضة البدنية وكذا إعداد ملعب " للتنس " في حديقة مصطفى رياض باشا) (197) .
قالت (وداد السكاكيني) في ترجمة " هدى شعراوي ": (.. وقد توقد فيها الذكاء والإباء فتأبت على هذه التقاليد التي كانت تضطر نظائرها من بنات الصعيد إلى التزام الحجاب (198) والبعد عن السياسة ولو كانت تدار من بيوتهن) (199) .
وقالت: (لما عادت هدى شعراوي للمرة الأولى من الغرب كانت تفكر في هذه التقاليد الموروثة التي لا تسمح لها بالظهور سافرة في بلادها فثارت عليها وما كادت تطل على الإسكندرية (200) حتى ألقت الحجاب جانباً ودخلت مصر مع صديقتها (سيزا نبراوي) بدون نقاب (201) فلقيتا من جراء هذا السبق بالسفور لغطاً وتعنتاً من المتزمتين ولم يكن هذا الأمر من رائدة النهضة النسوية بدعاً أو خروجاً على الحشمة والوقار بل كان منها سلوكاً مثالياً في السفور السليم "؟ ! " واستنكاراً للانحراف والتبرج "! ! " اللذين ظهرت فيهما بعض السافرات المتطرفات) (202) اهـ.
__________
(197) السابق ص (99) .
(198) ومن هذه الوجهة كانت تصف زوجها بأنه كان يسلبها كل حق في الحياة وذكرت من أمثلة ذلك ما نصه
: (ولا أستطيع تدخين سيجارة لتهدئة أعصابي حتى لا يتسلل دخانها إلى حيث يجلس الرجال فيعرفوا
أنه دخان سيجارة السيدة حرمه إلى هذا الحد كانت التقاليد تحكم بالسجن على المرأة وكنت لا أحتمل
مثل هذا العذاب ولا أطيقه) اهـ من (المرأة المصرية) ص (139) .
(199) (نساء شهيرات من الشرق والغرب) ص (5) .
(200) كانت في هذه الرحلة تستقل الباخرة التي يعود عليها سعد زغلول من فرنسا بعد استشفائه (المرأة المصرية)
ص (136) .
(201) وقد ذكرت (صافي ناز كاظم) أن (هدى شعراوي وسيزا نبراوي ألقتا حجابهما وداستاه بأقدامهما فور
وصولهما من مؤتمر النساء الدولي الذي عقد بروما صيف 1923 م) اهـ من (مسألة السفور والحجاب)
ص (9) ، وانظر (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (134 - 135) .
(202) (نساء شهيرات من الشرق والغرب) لوداد السكاكيني ص (5، 6) .(1/109)
تقول " درية شفيق ":
وقد شجعت (هدى) عدداً من الفتيات على السفر إلى أوربة (كي تعود الطالبات حاملات إلى الوطن عناصر الثقافية الغربية ومثلها العليا في الحياة الاجتماعية) (203) .
(كانت " هدى " لا تزال تفكر في النظرة التي تقابل بها المصرية كلما سافرت إلى أوربا إن القوم هناك يسخرون من ذلك الحجاب الذي يغطي وجوه المصريات حتى إنهم كانوا - إذ يرون هدى شعراوي وزميلاتها بلا يشامك ولا براقع - يشككون في مصريتهن وفي ذلك المؤتمر الأخير بالذات كانت مندوبات الدول المختلفة ينكرن على "هدى" مصريتها ولا يكدن يعترفن إلا بمصرية واحدة كانت تصر على حضور تلك المؤتمرات محجبة لا تكشف شيئاً من وجهها وهي السيدة " نبوية موسى ") (204) اهـ
تقول " هدى شعراوي " في حديث لها: و ".. ورفعنا النقاب أن وسكيرتيرتي
" سيزا نبراوي " وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذي يبدو سافراً لأول مرة بين الجموع فلم نجد له تأثيراً أبداً لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو " سعد " متشوقين إلى طلعته " (205) اهـ.
وقد دفعت بعد ذلك مباشرة ثمن جرأتها ورأت تأثير الوجه السافر حينما واجهتها هي وزميلاتها كثير من التعليقات الساخرة كلما سرن في الطريق وعرضن أنفسهن حتى للعبارات النابية والصفات المؤذية (206) .
وهذه " الزعيمة " هي التي قادت مع زوجة " الزعيم " سعد المظاهرة النسائية المشهورة سنة 1919 تقول في مذكراتها:
__________
(203) " تطور النهضة النسائية في مصر " ص (15) .
(204) (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (136) .
(205) المصدر السابق ص (137) .
(206) انظر المصدر السابق ص (138) .(1/110)
(وبينما كنت أتأهب لمغادرة منزلي في ذلك اليوم للاشتراك في المظاهرة بادرني زوجي بالسؤال: إلى أين تذهبين والرصاص يدوي ويتساقط في أنحاء المدينة؟
فأجبت: للقيام بالمظاهرة التي قررتها اللجنة!!
فأراد أن يمنعني فقلت له: هل الوطنية مقصورة عليكم معشر الرجال فقط وليس للنساء نصيب فيها؟
فأجابني: هل يرضيك إذا تحرش بكن الإنجليز أن يفزع بعض النساء ويولولن
" يا أمي ... يا لهوتي!! ".
فقلت له إن النساء لسن أقل منكم شجاعة ولا غيرة قومية أيها الرجال وتركته وانصرفت لألحق بالسيدات اللاتي كن في انتظاري ... ) (207) .
في ذمة الفضلى هدى جيل إلى هاد فقير
أقبلن يسألن الحضارة ما يفيد وما يضير
ما السبل بينه ولا كل الهداة بها بصير (208)
وتقول وداد السكاكيني:
(وكانت هدى اليد اليمنى لصفية زغلول والمفكرة المتحررة لنسوة الطليعة الواعية بمصر والبلاد العربية وقد استجابت لدعوة المؤتمرات النسوية في الشرق والغرب فلما عقد أول مؤتمر دولي للمرأة في روما عام 1923 م حضرته " هدى شعراوي " مع " نبوية موسى " و " سيزا نبراوي " صديقتها وأمينة سرها.. وقد توالت بعدئذ رحلات
" هدى شعراوي " للشرق والغرب ممثلة نساء بلادها رافعة علمها بين أعلام
__________
(207) (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (139) وانظر: (رجال اختلف فيهم الرأي) لأنور الجندي ص
(34 - 35) .
(208) (الشوقيات) (2 / 168) .(1/111)
الدول الوافدات على المؤتمر) (209) اهـ.
لقاء (هدى) و (موسوليني) :
قالت (هدى) في (مذكراتها) :
(كان من بين ما حققه مؤتمر روما الدولي أننا التقينا بالسنيور موسوليني ثلاث مرات وقد استقبلنا وصافح أعضاء المؤتمر واحدة واحدة وعندما جاء دوري وقدمت إليه كرئيسة وفد مصر عبر عن جميل عواطفه ومشاعره نحو مصر وقال إنه يراقب باهتمام حركات التحرير في مصر،.. ثم كررت رجائي الخاص بمنح المرأة الإيطالية حقوقها السياسية) (210) اهـ.
ولما عادت هدى من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي المذكور كونت الاتحاد النسائي المصري سنة 1923 ووضعت الحجر الأساسي له في إبريل 1942 م وبطبيعة الحال عمل ذلك الاتحاد بقيادتها لتحقيق الأهداف التي حرص الاستعمار على الوصول إليها وردد نفس المبادئ التي نادى بها من قبل (مرقص فهمي) ونقلها عنه (قاسم أمين) وفي مقدمتها تعديل قوانين الطلاق ومنع تعدد الزوجات علاوة على المطالبة للمرأة بالحقوق الاجتماعية والسياسية المزعومة التي وصلت أخيراً (211) إلى حد المطالبة
__________
(209) (نساء شهيرات) ص (5) .
(210) (حواء) العدد (1223) تاريخ (10 مايو 1980) .
(211) {ومن الجدير بالذكر أن سلامة موسى النصراني كان قد خطب في جمعية (الشبان المسيحية) وتحدث في
أمر لا يخصه وهو التعرض للمرأة المسلمة وحجابها وسفورها وما عينه لها القرآن من نصيب في الميراث
وبعد هذه المحاضرة حاول - زيادة منه في الكفر - أن يحرض هدى شعراوي على مطالبة الحكومة
المصرية بسن قانون يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث وذلك ضمن رسالة شخصية بعث بها إليها لكنها
أنكرت عليه ذلك وردت عليه في مقال بجريدة الأهرام} انظر (المرأة بين الفقه والقانون) للسباعي رحمه الله
ص (219 - 220) (حواء) العدد (1252) تاريخ (20 سبتمبر 1980) ص (34 - 36) .(1/112)
بالمساواة في الميراث) (212) .
وقفة مع الاتحاد النسائي:
وقد اهتمت الدوائر الأجنبية بأمر ذلك الاتحاد النسائي عند قيامه حتى أن الدكتورة
(ريد) رئيسة الاتحاد النسائي الدولي حضرت بنفسها إلى مصر لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية ولتناصر الحركة بنفوذها في المحيط الأوربي وبتصريحاتها التي ترمي إلى المساعدة بإعطاء المرأة المصرية الحقوق السياسية المزعومة.
وبعد عشرين عاماً من تكوين هذا الاتحاد استطاع بالنفوذ الأجنبي وأذناب الاستعمار أن يمهد لعقد ما سمي بالمؤتمر النسائي العربي سنة 1944 م وقد حضرت مندوبات عن الأقطار العربية المختلفة (213) واتخذت فيه القرارات "المعتادة " وفي مقدمتها بالطبع:
- المطالبة بالمساواة في الحقوق السياسية مع الرجل وعلى الأخص الانتخاب.
- تقييد حق الطلاق.
- الحد من سلطة الولي أياً كان وجعلها مماثلة لسلطة الوصي.
- تقييد تعدد الزوجات إلا بإذن من القضاء في حالة العقم أو المرض غير القابل للشفاء
- الجمع بين الجنسين في مرحلتي الطفولة والتعليم الابتدائي.
ثم في نهاية القرارات:
(اقتراح: تقديم طلب بواسطة رئيسة المؤتمر إلى المجمع
__________
(212) (الحركات النسائية في الشرق) ص (24) .
(213) ولقد احتج علماء سوريا رسمياً على حكومتهم على تمثيل بعض النساء السوريات في ذلك المؤتمر كما أصدر
الملك عبد الله ملك شرق الأردن حينذاك منشوراً إلى رئيس وزرائه يلفت فيه نظره إلى حركة التمرد على
الآداب والتقاليد الإسلامية ووجوب التزام المرأة بالحجاب الذي كرمها الله به. (المصدر السابق ص (25))(1/113)
اللغوي في القاهرة والمجامع العلمية العربية بأن تحذف نون النسوة من اللغة العربية) (214) .
(هدى شعراوي) .. والأديان:
{وطالبت هدى شعراوي في المؤتمر الثاني عشر للاتحاد النسائي الدولي في مدينة استانبول (18 إبريل 1935 م) بإزالة الفوارق الجنسية والدينية بين الشعوب} (215) .
وتجلى موقفها في هذه القضية من قبل حينما صورت في (مذكراتها) العلاقة بين ممثلي الأديان خلال ثورة 19 فقالت:
(.. وكان أن تآخى الجميع وصاروا يجتمعون في الكنائس والمساجد والمعابد وهم شيع مختلفة وكان الشيخ يتأبط ذراع القسيس أو الحاخام أمام عدسات المصورين ليظهروا للملأ اتحاد الجميع على الثورة ضد الإنجليز) (216) .
__________
(214) المصدر السابق ص (25) وانظر: (تطور النهضة النسائية في مصر) (145 - 147) .
(215) (حواء) : العدد (1227) تاريخ (29 مارس 1980) ص (15) .
(216) السابق ص (18) ومن الجدير بالذكر أن ثورة 19 قد استغلت تحت ستار مقاومة الاحتلال في الترويج في
مفاسد خطيرة ما كانت لتجد إلى قلوب الناس سبيلاً لولا جو الثورة الذي يلهي الناس عن تدبر ما يراد بهم
ومن أخطر هذه المفاسد الترويج لتحرير المرأة وتمييع قضية مولاة المؤمنين ومعاداة الكافرين تحت ستار
الأخوة الوطنية بهدف محو معالم الإسلام من ضمير الأمة شيئاً فشيئاً كما نرى ذلك جلياً في النص المنقول
أعلى ومن المواقف المماثلة لذلك ما حكاه الشيخ العلامة محمد بخيت رحمه الله قال: (لما قامت الحركة
الوطنية عقب الحرب العظمى السابقة واتحد هؤلاء المارقون مع الأقباط ليطالبوا بالاستقلال كان مقر
اجتماعهم وقطبهم الجامع الأزهر ومنه كانت تنظم المظاهرات فكان يعمر بالأقباط والقسس منهم يصعدون
إلى المنبر خطباء مناوبة مع المصريين قال: وذات يوم كان المسمى " مصطفى القاياتي " وهو من
المدرسين في الأزهر والقائل بأن سعداً أفضل من النبي (وأنه جاء بما لم يأتي به النبي) وأنه رسول
الوطنية كان هذا الرجل حاضراً معهم فأخذ الصليب ووضعه في محراب الأزهر وقام - لعنه الله - خطيباً
فدعا إلى اتحاد الإسلام والنصرانية القبطية ودعا الحاضرين إلى صلاة ركعتين جميعاً مع وضع الصليب في
المحراب وكبر وصلى ركعتين والصليب أمامه يصلي له ولله معاً في زعمه لعنه الله تعالى) اهـ انتهى بنصه
من " مطابقة الاختراعات العصرية " لأبي الفيض أحمد بن الصديق ص (84) .(1/114)
وفي الخطبة التي ألقتها (هدى) بمناسبة الاحتفال بالعيد العشرين للاتحاد النسائي قالت:
(.. ومنذ ذلك اليوم - أي يوم قبلت عضوية مصر في الاتحاد النسائي الدولي - قطعنا على أنفسنا عهداً أن نحذو حذو أخواتنا الغربيات في النهوض بجنسنا مهما كلفنا ذلك وأن نساهم بأمانة وإخلاص في تنفيذ برامج الاتحاد النسائي الدولي الذي يشمل أغراضنا المشتركة.
وهنا يطيب لي أن أذكر حادثاً كان له تأثيره عند افتتاح ذلك المؤتمر وهو إننا لما دخلنا قاعة الاجتماع قبل انعقاده ووجدنا أعلام الدول المشتركة ترفرف على جدرانها ولم نكن قد أخذنا الأهبة لذلك لعدم معرفتنا بهذا التقليد كلفنا طلاب البعثة المصرية بتحضير علم مصري يتعانق فيه الهلال والصليب فصنعوه وإذا به أكبر الأعلام الموجودة حجماً.. ولما رأت رئيسة المؤتمر الصليب يعانق الهلال تأثرت تأثراً عظيماً وأمرت بوضعه على يسار المنصة معادلاً لعلم الدولة المنعقد المؤتمر بأرضها فشغل بذلك محلاً ممتازاً وقدمتنا الرئيسة عند الافتتاح بعبارات ملؤها التأثر والتقدير وكانت أكبر عامل في إزالة الفكرة الخاطئة التي شابت حركتنا الوطنية بوصفها بالتعصب الديني) (217) .
'
لقاء (هدى) و (أتاتورك) :
عقد المؤتمر النسائي الدولي الثاني عشر في استانبول في 18 إبريل 1935 م وتكون من هدى شعراوي رئيسة وعضوية اثنتي عشر سيدة - وقد انتخب المؤتمر
__________
(217) " تطور النهضة النسائية في مصر " ص (124) .
ومما ينبغي أن يعلم أن (الهلال) علامة مهنية ترمز في عرف الناس إلى مهنة الطب، أما (الصليب)
فعلامة اعتقا دية تشير إلى ما يعتقده النصارى الكفرة في شأن عيسى عليه السلام فالمسلم الذي يتخذ هذه
العلامة على خطر عظيم لأن في إقرارها تكذيباً صريحاً للقرآن الذي جاء فيه قوله تعالى: (وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم) النساء (157) ولهذا لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه
والله تعالى أعلم.(1/115)
" هدى " نائبة لرئيسة الاتحاد النسائي الدولي تقول (هدى) في مذكراتها:
(وبعد انتهاء مؤتمر استانبول وصلتنا دعوة لحضور الاحتفال الذي أقامه " مصطفى كمال أتاتورك " محرر تركيا الحديثة.. وفي الصالون المجاور لمكتبه وقفت المندوبات المدعوات على شكل نصف دائرة وبعد لحظات قليلة فتح الباب ودخل
" أتاتورك " تحيطه هالة من الجلال والعظمة وسادنا شعور بالهيبة والإجلال، ... وعندما جاء دوري تحدثت إليه مباشرة من غير ترجمان وكان المنظر فريداً أن تقف سيدة شرقية مسلمة وكيلة عن الهيئة النسائية الدولية وتلقي كلمة باللغة التركية تعبر فيها عن إعجاب وشكر سيدات مصر بحركة التحرير التي قادها في تركيا (*) ، وقلت: إن هذا المثل الأعلى من تركيا الشقيقة الكبرى للبلاد الإسلامية شجع كل بلاد الشرق على محاولة التحرر والمطالبة بحقوق المرأة، وقلت: إذا كان الأتراك قد اعتبروك عن جدارة أباهم وأسموك " أتاتورك " فأنا أقول إن هذا لا يكفي بل أنت بالنسبة لنا "أتاشرق" فتأثر كثيراً بهذا الكلام الذي تفردت به ولم يصدر معناه عن أي رئيسة وفد وشكرني كثيراً في تأثر بالغ ثم رجوته في إهدائنا صورة لفخامته لنشرها في مجلة " الإجيبسيان ".
وذكرت هدى في حديث لها مع جريدة المقطم بعد عودتها إلى مصر ما معناه:
(إن ما أحدثه الغازي العظيم بلا ريب من نعمة الأقدار على أخواتنا في استانبول)
(218) .
__________
(*) انظر ص (193: 202) من هذا القسم.
(218) (حواء) العدد (1256) (18 أكتوبر 1980 م) ص (16) وأفعال " أتاتورك " وجرائمه في حق
الإسلام أكثر من أن تحصى فليت شعري ما الذي يدعو (هدى) إلى هذا الانبهار به سوى وحدة الهدف
والخطة بين أعداء الإسلام في مصر وفي تركيا؟
ولعله من أجل هذا علق الأستاذ " محمد أمين هلال " في مقال له في مجلة " الإسلام " الغراء بتاريخ
الجمعة 16 أغسطس 1935 م بقوله:
( ... ولعل السبب في دفاعه عن الكماليين إنه رأى وليات نعمته من بعض النسوة الأرستقراطيات
المدعيات كذباً تمثيل نساء مصر ولم يجتمعن في الغالب إلا للغناء والرقص وإمتاع النظارة بضروب من
المغريات ولم يحاولن أن يلمسن جوانب الإصلاح الحق الذي يستدعي هجر الراحة والتضحية فليس =(1/116)
3- " سيزا نبراوي ":
تقول في مذكراتها:
(وعندما عدت من الخارج حيث عشت حتى بلغت الثامنة عشرة من عمري كنت متحررة متحمسة ولهذا رفضت لبس البرقع وأصررت على لبس القبعة وبحكم الصداقة التي كانت بين والدتي وبين هدى شعراوي أخذت تهدئ من ثورتي وتقنعني بأن الظروف غير مواتية للحصول على حقوق المرأة مرة واحدة وأن المطالبة بها في هدوء يجنبنا ثورة الرجال الذين كانوا كل شيء في ذلك الوقت) (219)
(ولما تقدم الفنان مصطفى نجيب للزواج منها قالت: إنها لا تستطيع أن ترتبط بحياة يكون من حق أحد طرفيها فقط أن يتخلى عن التزامه فيها بالطلاق في أي وقت يشاء فتزوجها على أن تكون العصمة في يدها ولم يدم الزواج أكثر من أربع سنوات) (220)
(وفي أثناء مرور " غاندي " بمصر عائداً إلى الهند بعد حضوره مؤتمر المائدة المستديرة بلندن في ديسمبر 1931 م فكرت الهيئات في إرسال وفود عنها لتحيته والتعبير عن مشاعر المصريين نحوه وقد سافر (محمود فهمي النقراشي) مندوباً عن
" الوفد "،.. والآنسة " سيزا نبراوي " مندوبة عن " الاتحاد النسائي " وقد طلبت منه سيزا أن يوجه كلمة للسيدات المصريات فكتب بالإنكليزية ما ترجمته بالعربية
: " أرجو أن تلعب الأخت المصرية نفس الدور الذي تلعبه أخواتها الهنديات في حركة تحرير أراضيهم المحترمة لأني أعتقد أن عدم القسوة هو امتياز المرأة " (221) اهـ.
__________
= لهن سبيل إلى المعرفة بها وإن عرفنها فلا يصبرن عليها قد ذهب وفدهن إلى إسلام بول مدعياً بهتاناً وزوراً
أن نساء مصر راضيات بما اختطه الكماليون للمرأة التركية وبكل ما فعله الكماليون!! مع أن كل المسلمين
ومعظم الشرقيين لا يرضون مذاهب الكماليين ومذهبهم حيال الدين والمرأة ويستعيذون بالله من الشيطان
ويلعنون الطغيان) انتهى ص (44) .
(219) (مجلة حواء) العدد 21 / 12 / 1957 م.
(220) (الأخوات المسلمات) ص (258 - 259) .
(221) (مجلة حواء) العدد 4 أكتوبر 1980 م رقم (1254) ص (16 - 17) .(1/117)
4- درية شفيق.. المرأة الغامضة (222)
(وبعد ظهر يوم 20 سبتمبر 1975 م عدت إلى بيتي بعد أن
تناولت الغداء في أحد الفنادق وفي ردهة العمارة رأيت جمعاً
من الناس يلتف حول ملاءة بيضاء وسألت: ماذا حدث؟
قالوا:إن سيدة ألقت بنفسها من شرفة الطابق السادس
ورفعت الملاءة البيضاء ووجدت جثة جارتي درية شفيق)
" مصطفى أمين " الأخبار 12 / 4 / 86.
تلميذة وفية من تلميذات (لطفي السيد) رحلت وحدها - بمجرد تخرجها - إلى فرنسا لتحصل على الدكتوراة ثم تعود لتشكل حزب (بنت النيل) ثم ترحل إلى إنكلترا حيث تقابل بحفاوة بالغة قيل أنه لم ينل مثلها كثير من رؤساء الدول وزعمائها ورحبت بها الصحف البريطانية بدون استثناء ونشرت عنها الأحاديث العديدة التي تصورها بصورة الداعية الكبرى إلى تحرير المرأة المصرية من أغلال الإسلام وتقاليده.. أغلال الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات، ومن هذه الأحاديث ما كتبه مراسل جريدة الـ
(سكتشمان) يقول: (إن الأهداف المباشرة لحزب بنت النيل هي كما أوضحتها الدكتورة " درية شفيق ": منح المرأة حق الاقتراع
__________
= ومن الجدير بالذكر أن (غاندي) هذا كان هندوسياً وثنياً كارهاً للإسلام ومتعصباً ضد المسلمين وكان يخفي
وثنيته البغيضة وراء المغزل والشاة وهو الذي سرق الحركة الإسلامية من الزعماء المسلمين بالخيانة
والتآمر مع الاستعمار الإنكليزي فسيقوا إلى السجن وسحب غاندي الحركة الوطنية من أيديهم واستعان
ببريطانيا من أجل تحويل المسلمين في الهند إلى أقلية وقد كان للمسلمين قوة بلغت حداً جعل الحكومة التي
صارت تقبض على ألف مسلم في الصباح تطلقهم في المساء بسبب أن السجون لم تعد تسع المعتقلين
وخطب الـ (لورد) ريدنج الحاكم العام في كلكتا فقال:
(إنني شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدري ماذا أصنع فيها؟) فلا تغتر أيها المسلم بهذا الوثني
الذي يحرص أعداء الإسلام على أن يرسموا له صورة مزخرفة تخفي جرائمه في حق الإسلام والمسلمين
وتنبه لخطر " القومية النسائية " التي تجعل المسلمة الموحدة أختاً للهندية المشركة.
انظر ص (123 - 124) من هذا الكتاب، و (رجال اختلف فيهم الرأي) ص (104 - 114) .
(222) (الحركات النسائية في الشرق) ص (29) وما بعدها.(1/118)
وحق دخول البرلمان والمطمع الثاني الذي تهدف الدكتورة لتحقيقه هو إلغاء تعدد الزوجات وإدخال قوانين الطلاق الأوربية في مصر) اهـ.
ولما عادت إلى مصر عظم نشاطها وتوفرت لها أسباب الحماية والحرية وتهيأت لها عوامل النشر والإذاعة حتى لقد حيل بين أهل الرأي ودعاة الدين وحماته وبين الرد على دعوتها التي وصفتها هي نفسها بأنها تريد للمرأة (حقاً في الحرية الحرة المطلقة من كل قيد) (223) .
وبلغ التوتر مبلغه ونهض علماء الدين ودعاة الفضيلة والأخلاق على قلب رجل واحد يجابهون الاستعمار في شخص هذه المرأة أمام أعظم حصن من حصون الإسلام وهو الأسرة المسلمة ووقف الاستعمار بأمواله ونفوذه ...
وانكشف بعض المستور حين قدمت إحدى عضوات مجلس إدارة الحزب استقالة مسببة ما لبثت أن قبلتها الرئيسة دون عرضها على مجلس الإدارة وكم كانت الدهشة كبيرة حين علم انه قد حيل بين كثير من الصحف وبين نشر سبب الاستقالة حتى فوجئ الشعب بأن السبب هو أن السفارة الإنكليزية والسفارة الأمريكية تمدان الحزب بألفين من الجنيهات سنوياً (224) عدا الورق المصقول وغيره فضلاً عن تقديم المشورة والتوجيه
وقد أشادت " درية شفيق " بجهود " طه حسين " بك ومدرسته من أصدقائه وتلامذته في القضاء على ما أسمته " التقاليد السخيفة " حتى أخذ الناس بفضلها
__________
(223) " تطور النهضة النسائية " ص (60) .
(224) وكانت (درية) قد أنشأت معهداً نسائياً لتدعيم نشاطها في حركة " تحرير المرأة " وقد عددت في كتابها
(تطور النهضة النسائية في مصر من عهد محمد على إلى عهد الفاروق) أفضال بعض الشخصيات
(الكريمة) التي مولت عملية إنشاء هذه الدار قالت: (وهنا لا يمكنني أن أجحد فضل المرحوم (! !)
المستر هربرمان الأمريكي الذي تبرع بمبلغ مائتي جنيه أرسلها من أمريكا مساعدة في تأسيس هذه الدار) ،
وقالت: (كما أخذ المسيو بيانكي المقاول الكبير على عاتقه بناء هذه الدار بقدر ما يمكن من العناية
والاقتصاد) اهـ ص (131) .(1/119)
يتسابقون في تحرير بناتهم ثم تقول:
(وكان من نتيجة هذه الجهود مجتمعة أن تيسر تحقيق حلم الخديوي إسماعيل القديم وهو اعتبار مصر جزءاً من أوربا) (225)
وهي تعتبر أن الخديوي إسماعيل كان (ضرورة) لمصر ليطفر بها من الخمول واليأس إلى النضوج والاستواء وتقيم أدلتها الدامغة (!) على ذلك فتقول:
(ترقت الحياة في عهد إسماعيل فشهدت قصوره حياة اجتماعية لم تعرف في مصر الحديثة شهدت قصوره الحفلات الراقصة وشهد عصره أذواق الملابس الجديدة حتى ألوان الطعام تنوعت ودخل فيها جديد)
ثم تتحدث عن " اكتشاف " تاريخي " خطير " قائلة:
(وقد حدثتنا الوثائق المكتشفة أخيراً أنه اشترك لزوجاته وسيدات أسرته في سبع مجلات " للموضة " فكانت نماذج الأزياء في مصر والشرق العربي تخرج من قصوره) ، ثم تقول:
(وهذه العناية بشئون النساء - وإن كانت خاصة - إلا أن ورائها قلباً كبيراً يعرف للمرأة حقها ونوايا طيبة بدأ أثرها في خلال عصره الزاهر) (226) .
وهذه المرأة هي التي قادت مظاهرة الجامعة الأمريكية في إبريل سنة (1951 م) بتحريض من وزير الشئون الاجتماعية البريطانية " سمر سكيل " حين اجتمعت به في مصر (227) وقادت الإضراب عن الطعام والاعتصام بنقابة الصحافيين في (12 مارس 1954 م) - مطالبة بحقوق المرأة المزعومة.
وفي إبريل سنة (1951 م) عقد مؤتمر نسائي دولي في أثينا حضرته هذه المرأة ممثلة المرأة المصرية زوراً وبهتاناً وقد كان المؤتمر مؤامرة استعمارية بعيدة المدى
__________
(225) (تطور النهضة النسائية في مصر) ص (15) .
(226) السابق ص (45 - 46) .
(227) انظر تفاصيل تلك (المهزلة) في كتابها (المرأة المصرية) ص (201 - 208) .(1/120)
كما يبدو من أحد قراراته التي أيدتها " درية شفيق " فيما يتعلق بإقرار " سياسة التسليح الدفاعي " مما كان من شأنه تأييد الاحتلال البريطاني لمصر ولذلك صفقت المندوبة البريطانية تصفيقاً حاراً لذلك القرار.
وكانت تلك المرأة تصرخ مطالبة بحق المرأة في الانتخاب والترشيح وبضرورة إيجاد نص في القانون يجعل النساء سواسية مع الرجال إزاء هذا الحق المزعوم فقامت ضدها قومة علماء الدين " وعلى رأسهم فضيلة مفتي الديار المصرية آنذاك الشيخ محمد حسنين مخلوف حفظه الله " ودعاة الفضيلة والأخلاق بحملتهم الناجحة التي أحبطت كيد الاستعمار وأذنابه وأسندت ظهر الأمة أمام الخطر وإذا " بالزعيمة " تتصل بإنكلترا مستغيثة فلجأت على الفور إلى مندوب الإذاعة البريطانية في مصر
" باتريك سميث " ليرفع إلى بلاده شكوى عميلتها من الحكومة المصرية!
ولذلك لم يعجب هؤلاء الذين استمعوا إلى المذيع البريطاني المذكور حينما تكلم إلى بلاده حينذاك قائلاً ما ملخصه:
(جاءتني الدكتورة " درية شفيق " زعيمة حزب بنت النيل وقد شكت إلىّ من أن الجهات المسئولة في مصر تعارض بشدة مطالبتها بحقوق المرأة السياسية وكفاحها من أجل تمثيل المرأة داخل البرلمان المصري وطلبت مني أن أناشد الصحف البريطانية كي تؤازرها بكل ما تستطيعه وأن تضغط على الدوائر المصرية حتى تكف عن معارضتها القائمة) ، ثم أوصى " حضرته " في رسالته (بضرورة مؤازرة هذه الزعيمة في
دعوتها إلى تحرير المرأة المصرية عملاً بميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي تحتكم إليه الزعيمة والذي ينص على تطبيق مبدأ المساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية بين الرجال والنساء في الدول الأعضاء والتي من بينها مصر) اهـ، وفي عهد وزارة
" على ماهر " إذا به يسمح لها بالسفر إلى لندن لحضور المؤتمر النسائي الدولي هناك ثم تنتقل بعد ذلك على الفور بصحبة مندوبة إنكلترا لحضور المؤتمر النسائي في نابلي وقد استقبلتها الصحف الإنجليزية جميعها على عادتها(1/121)
استقبالاً حاراً علقت عليه بعض الصحف المصرية - في دهشة - بأنه استقبال لم يحدث له مثيل.
ثم اتجهت " الزعيمة " إلى " روما " بصحبة مندوبة إنكلترا ومندوبة إسرائيل " تبيهلا مانمون " وأثناء انعقاد المؤتمر اتصلت بوفد إسرائيل ورئيسته المذكورة طوال الأيام التي مكثتها هناك ونشرت الصحف الأوربية وبعض المجلات النسوية المصرية الصور الكثيرة التي بدت فيها الدكتورة " درية شفيق " في أحاديث هامة وأوضاع شتى مع هذه الإسرائيلية الخطيرة..
وأعلنت المندوبة الإسرائيلية المذكورة ارتياحها بالمندوبة المصرية بلندن ومصاحبتها لها إلى نابلي حيث قالت فيما نشرته الصحف الإيطالية والفرنسية:
(إنني أهنئ نفسي بهذا الاتصال الذي ربط بيني وبين السيدة " درية شفيق " وإنني أعلن لعضوات المؤتمر السادس عشر في نابلي أني عقدت أمالي على الزعيمة المصرية لحل جميع المشكلات بين البلدين: إسرائيل ومصر) .
وقد نشرت مجلة نسوية مصرية الصور المختلفة لدرية شفيق مع رئيسة وفد إسرائيل نقلاً عن الصحف الإيطالية كما نشرت صورة زنكوغرافية لمقال نشرته بعض الصحف الإسرائيلية الصادرة في " تل أبيب " باللغة العبرية وكانت صورة " درية شفيق " وهي تحادث مندوبة إسرائيل تزين (!) المقال المذكور وقد جاء في هذا المقال بعد ترجمته:
(إن تل أبيب تتوقع أن الحوادث المقبلة ستزيد مكانة"درية شفيق"شأناً ورفعة) (228) اهـ.
__________
(228) نقلاً عن (الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية) تأليف محمد فهمي عبد
الوهاب ص (28 - 50) باختصار.(1/122)
" درية شفيق "، ومثلها الأعلى:
وتجهر " درية شفيق " بالدعوة إلى التبعية المطلقة للغرب ولبريطانيا التي كانت تحتل مصر آنذاك على وجه الخصوص فتقول:
(وبالرغم من أن ثقافة معظم المصريين المتعلمين متأثرة أشد التأثر بالثقافة الفرنسية وبالرغم من أن كثيراً من مظاهر حياتنا الاجتماعية منقولة عن مظاهر الحياة الفرنسية الاجتماعية فإنا لا نجد في ظروفنا الحاضرة مثلاً أرفع من مثل الإنجليزية المثالية التي نرجو أن نخطو في نشاطنا النسائي على نهجها وهداها.
فالمرأة الإنجليزية سيدة عركها الزمن واستحقت مكانها في حياة بريطانيا " العظمى " بجدارة تحسدها عليها بنات جنسها جميعاً إنها سيدة بيت من الطراز الأول..، وهي أم مثالية بين الأمهات.. لأن وظيفة الأم عندها رعاية الابن الممثل فيه الجيل الجديد: جيل إنجلترا الذي ينبغي أن يحافظ على تقاليد تلك الأمة وفي مقدمتها تربية الطفل تربية تليق بـ " عظمة " بريطانيا،.. فيشب مواطناً يعرف مقامه في الدنيا وحسبه هذا المقام الذي يشغله الإنجليز منذ مئات السنين) (229) .
وتقول: (وقد تأثرت المرأة الإنجليزية في ذلك كله بملكة إنجلترا..، ونحن بذلك نضرب المثل بخير مثل وهو جلالة ملكة بريطانيا..
فلنأخذ القدوة من أهل القدوة وليكن في السيدة الإنجليزية وعلى رأسها ملكة إنجلترا مثالاً لنا في كفاحنا من أجل السيدة المصرية ونصيبها في الحياة) (230) اهـ.
" درية شفيق ".. و " الحملة الفرنسية ":
وفيما رأى المسلمون الواعون أن الحملة الفرنسية بقيادة " نابليون بونابرت " سنة
__________
(229) " تطور النهضة النسائية " ص (97) .
(230) السابق ص (99) .(1/123)
1798 م كانت حملة صليبية جديدة فاجتمعوا يواجهونها ويجاهدونها الجهاد المقدس في سبيل الله رأت " درية شفيق " أن اعتبار تاريخ مصر الحديثة يبدأ بنزول الفرنسيين إلى وادي النيل - مبدأ مقبول إلى حد بعيد، وتقول:
(ذلك لأن مصر شهدت جديداً أثناء تلك الحملة وأنها منذ عرفت الفرنسيين عرفت التقدم في مراحله جميعاً وأنها مضت قدماً نحو أهداف سياسية واجتماعية ... ) (231) .
لماذا فشلت " درية شفيق "؟
(كانت " درية شفيق " قلقة مضطربة كالعصر الذي ظهرت فيه فلم تكن في تعقل
" هدى شعراوي " التي كانت تتحرك كجزء في الجهاز العام لحركة " التنوير " التي وضع أسسها الشيخ " محمد عبده " و " قاسم أمين " و " سعد زغلول " على اختلاف مواهبهم الدينية أو الفكرية أو السياسية.
ولم تستطع " درية شفيق " أن تسوس الرجل فتملكه ثم تطلب ما تريد كما فعلت سابقاتها ولكنها أرادت أن تثور على الرجل فتأخذ حقها غلاباً بأسنانها وأنيابها فلم تستطع لأن أنياب الرجل وأظافره لا تزال أقوى وستظل كذلك.
أما السبب الأكثر خطورة في فشل " درية شفيق " فيتمثل في أنها رأت أن من النساء من هن أحق من الرجال بحق التمثيل السياسي وأنه من العار بزعمها " أن يصوت الطاهي وتحرم من ذلك السيدة التي تستخدمه في منزلها " (232) فتجاوزت بذلك الحدود والأطوار الأمر الذي لم يقبله الرجل ولم يرض عنه) (233) .
__________
(231) السابق ص (29) ومما يعكس بعضاً من تلك الأهداف الاجتماعية ما حكاه الجبرتي في " تاريخ عجائب
الآثار والتراجم والأخبار " وقد تقدمت الإشارة إليه، فراجع ص (73 - 76) .
(232) " الحركة النسائية " د / إجلال خليفة ص (174) .
(233) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (108 - 109) .(1/124)
5- " ماري إلياس زيادة ":
(الأديبة السورية الأصل التي اشتهرت فيما بعد " بالآنسة مي " وكان لها محفل يشبه محافل الباريسيات يجتمع فيه الرجال والنساء وكانت " مي " سافرة متحررة يجتمع في دارها في هذا المحفل الذي أسسته سنة 1913م (234) أهل الأدب والسياسة والفن ورجال الأعمال والصحافيون وكان المحفل يضم رجالاً ونساءاً من طرز مختلفة من الأوربيين والمصريين والعرب المقيمين بمصر خاصة النصارى منهم وكان يؤمه من الشيوخ الأزهريين الشيخ مصطفى عبد الرزاق وكان يضم طائفة من العلمانيين واللادينيين والليبراليين والماسونيين أمثال: يعقوب صروف وشبلي شميل وأنطوان فرح وإدريس راغب وغيرهم وكانت " مي " غالية في تحررها وقد انعكس تأثير محفلها على طبقة محصورة من الرجال والنساء الأوربيين والمصريين دون أن ينعكس انعكاساً مباشراً على أغلبية نساء المجتمع المصري وإن ظل يؤرخ له على أنه أحد العوامل المساعدة في سير الحركة النسائية نحو التحرر) (235) .
6- " أمينة السعيد ":
تلميذة وفية لـ " طه حسين " ترأس تحرير مجلة (حواء) ، (ومن خلالها تحرض نساءنا على النشوز وفتياتنا على التهتك والانحلال) (236)
وقد تواتر لدى الجميع أنها تهاجم الحجاب الإسلامي بكل جرأة وهي - وإن كانت تلقفت الراية من " الزعيمات " السابقات - إلا أنها تفوقت على كل اللائي سبقنها في باب التجرد من الآداب والأخلاق الأساسية، إذ إنها لا تألو جهداً في الصد عن سبيل الله
__________
(234) وأسس هذا المحفل - فيما بعد - بصورة رسمية سنة 1914 وذلك بجهود البرنس " أولفادي لبيدف ".
(235) انظر: " رجال عرفتهم " لعباس محمود العقاد (الهلال 1963) فصل: " رجال حول مي "، و" المؤامرة
على المرأة المسلمة " للدكتور السيد أحمد فرج ص (21) .
(236) (الأخوات المسلمات) ص (264) .(1/125)
والاستهزاء من شرعه عز وجل حتى وصل بها الأمر إلى أن قالت:
(كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟) ، وقالت:
(إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث) (237) .
وهي المرأة التي أزعجتها ظاهرة (عودة الحجاب) إلى المجتمع المصري فجردت قلمها المسموم لتواجه هذه الظاهرة (المقلقة) ووصفت الحجاب بأنه (كفن ككفن الموتى)
فقد قالت في إحدى جولاتها ضد الحجاب:
(إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة أو اكتساب رضا الله فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها " زي إسلامي " لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء) (238) اهـ
وقالت أيضاً مستنكرة:
(هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماماً وتجعلهن كالعفاريت.. وهل لابد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة حتى لا يرى منها شيء وهي تسير في الشارع؟) (239) اهـ.
وقالت أيضاً:
(عجبت لفتيات مثقفات! كيف يلبسن أكفان الموتى وهن على قيد الحياة؟!) (240) اهـ.
__________
(237) السابق (ص 268 - 269) نقلاً عن (المصور) .
(238) مجلة (حواء) تاريخ 18 نوفمبر 1972 م.
(239) (المصور) 22 يناير 1982 م ص (75) .
(240) نقلاً عن (الولاء والبراء في الإسلام) لمحمد بن سعيد بن سالم ص (404) .(1/126)
بل إنها تعتبر ظاهرة (عودة الحجاب) مشكلة وترهق نفسها في البحث عن تبرير لهذه الظاهرة فيهديها شيطانها إلى تبرير يشابه إلى حد كبير موقف المنافقين الذين كانوا يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات الذين لا يستطيعون أن يتصوروا إخلاص المؤمنين في طاعتهم لربهم وصدقهم في الصبر على دينه وامتثال أمره لأنهم لم يألفوا
الصدق ولم يذوقوا الإخلاص ومن هنا راحوا يطعنون في الغني المتصدق بأنه مراء وفي الفقير بأنه أحوج إلى صدقته قال تعالى:
(الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) التوبة (79) .
تقول أمينة السعيد:
(الانفتاح أباح لبعض الفتيات الفرصة في ارتداء الأزياء الغالية ومتابعة الموضات المختلفة مما تسبب عنه مشكلة اجتماعية ترتب عليها في نظري مشكلة الحجاب وارتداء الملابس الإسلامية.. وهو في معظم أوقاته ليس تديناً بل هرباً من مواجهة المقارنة الرهيبة في الجامعة بين الأزياء الباهظة الثمن المتنوعة وبين البنت غير القادرة وهي عندما تلبس ما يطلقون عليه الزي الإسلامي تنقذ روحها من محنة مالية هي غير قادرة عليها) (241) اهـ.
وتفاخر (أمينة السعيد) بصفحات نضالها ضد الشريعة الإسلامية تحت ستار (تحرير المرأة) فتقول:
(اقتراحي بإجراء تلقيح صناعي لزوجة عقيم من زوجها أقام الدنيا وأقعدها ومطالبتي بإلغاء المحاكم الشرعية كاد يدخلني السجن أما مهاجمتي لقانون الأحوال الشخصية فقد أثارت الدنيا من حولي وجاءت مظاهرة إلى "دار الهلال" تهتف بسقوطي) (242) اهـ.
__________
(241) (المصور) العدد رقم (3139) 14 ربيع الأول 1405هـ، 7 ديسمبر 1984 م، ص (74) .
(242) السابق.(1/127)
ولنعرض فيما يلي - إن شاء الله - أنموذجاً من جولاتها ضد الحجاب والآداب الإسلامية في ردها على بعض الشيوخ مستنكرة عليه آراءه التي (أثارت القلق والأسف) على حد تعبيرها ولن نتتبع شبهاتها بالرد والتعقيب لأن فسادها يغني عن إفسادها وصدق القائل:
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
وهي تذكر أن أكث ما أثار القلق في أقوال الشيخ الفاضل نقطتان:
أولاهما: الدعوة إلى إلزام الطالبات بما يسمونه " الزي الإسلامي " وهو ما تفضل سيادته بتسميته الحجاب بحجة أنه دليل إسلامي رائع على الإيمان العميق والبعد عن
الفتنة والإغراء.. إلخ، ثم ترتدي هذه المرأة (الثعلب) ثياب (الناسكين) وتعظ الشيخ قائلة:
(ما كان ينبغي على شيخ المفروض فيه - بحكم ثقافته ومكانته - أن يكون ضليعاً في الإسلام أن يصدر عنه مثل هذا الكلام ونحن نعرف جميعاً استناداً إلى ما ورد بالقرآن الكريم - وهو دستورنا الديني الأول- أن الإسلام لم يحدد على الإطلاق زياً معيناً للمرأة المسلمة ولم يقدم رسماً كامل الأوصاف لا من حيث الشكل أو النوع أو اللون)
ثم تزعم أن (المعنى الواضح من هذا الكلام المقدس أن الدين الحنيف لا يستهدف من ملابس المرأة سوى الوقار والاحتشام والبعد عن التبرج والابتذال فكان أي ثوب تتوافر فيه هذه الاشتراطات هو زي إسلامي بمعنى الكلمة سواء كان مقتبساً من الغرب أو الشرق أو الشمال أو الجنوب أما ما نراه اليوم شائعاً بين الفتيات والسيدات مما يسمونه
" الزي الإسلامي " فالإسلام منه براء لأنه تقليد حرفي لزي الراهبات المسيحيات والذي نعلمه جميعاً أن لا كهانة ولا رهبانية في الإسلام)
ثم تستطرد تحت عنوان: (أزياء دخيلة) (243) فتقول:
(والأدهى من
__________
(243) تعني بتلك الأزياء الدخيلة الجلباب والنقاب وهي تعلم تماماً أن ما عدا هذه الأزياء هو الدخيل الطارئ وأن
هذا الحجاب كان سائداً في كل المجتمع المصري قبل ظهور دعاة تحرير المرأة ولكنها =(1/128)
ذلك: " المقنعات " وهن قلة من المتطرفات في إعلان عن تدينهن فقد ذهبن في ثيابهن إلى تحريم ما أحله الله فغطين وجوههن بأنسجة كثيفة ليس بها سوى خرمين صغيرين للاستعانة بهما في النظر ولم يكتفين بذلك بل ذهبن في مبالغتهن إلى تغطية الخرمين الصغيرين بنظارات سوداء خوفاً من أن تتغلغل الأنظار من خلال الخرمين إلى حدقتي العينين وهو كل ما يحتمل أن يظهر من هذا القناع العجيب الدخيل هذا بالطبع غير جائز في الإسلام بدليل الفتوى الذي أصدرها سيد الأئمة كلهم الإمام الأكبر الشيخ " محمد عبده " وقد أورد فيها أن " المقنعات " لا ينبغي أن ترفع لهن قضية أو تسمع لهن شهادة في المحاكم ... ولو كنا نساير روح الإسلام الأصيل ما سمحنا لهن بدخول الامتحانات العامة لسهولة تزييف الشخصية تحت هذا القناع العجيب) .
وتشتد " غيرة " " أمينة السعيد " على الإسلام و " يتدفق " حرصها على"مخالفة الكفار " فتقول:
(وما يقال عن الحجاب يسري أيضاً على ملابس الرجال فمع عظيم إجلالي للعمامة والجبة والقفطان أعرف أنها ليست زياً إسلامياً أصيلاً وإنما هي اقتباس من ملابس الأحبار اليهود في قديم الزمان)
وتختم مقالتها الطويلة مستنكرة على الشيخ تصريحاته قائلة:
(إنها عملية هدم للإسلام من أساسه فاللهم ارحمنا وارحم ديننا من شر أنفسنا إنه السميع المجيب) (244) اهـ وصدقت فإن ما تفعله حقاً هو عملية هدم للإسلام من أساسه وهي أولى بهذه الكلمات من غيرها، وصدق الله العظيم:
(ولتعرفنهم في لحن القول)
الآية (245) .
__________
= تستغل جهل الجيل
الحاضر بالماضي الذي عاصرته هي وأمثالها من الطاعنات في السن وتتحدث عن الحجاب كأنه من اختراع
" المتطرفات الجدد " على حد تعبيرها.
(244) من مقالة بعنوان (هذه دعاوي غير إسلامية) مجلة حواء.
(245) جزء من آية رقم (30) سورة محمد ".(1/129)
لعبة العرائس المتحركة:
وفي موكب الرذيلة صحافيات أخريات ومذيعات ومعلمات طبيبات وسياسيات قد تلونت تصوراتهن بألوان شتى وتفرقت مللهن أيما تفرق وبرغم انتساب بعضهن إلى الإسلام فقد جمعهن هدف واحد هو طعن الإسلام في الصميم وهؤلاء جميعاً وضعن أنفسهن بهذا المسلك الوخيم في صف المواجهة مع الإسلام يرمينه عن قوس واحدة شئن أم أبين رضين أم كرهن وتحصنّ في هذه الحرب في خندق واحد ضم إليهن اليهود والنصارى والملاحدة والمنافقين والفاسقين وكأني بهن يشرن إلى أوليائهن ورفاقهن قائلين:
(هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) الآية النساء (51) ،
فما أجدر هؤلاء بقوله تعالى:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) (246) .
وغير هؤلاء صفوف وصفوف ممن رباهن الاستعمار الصليبي والصهيوني في محاضنه وأخريات ممن هن في دور الإعداد والتربية ليخلفهن في مهمة "تدمير المرأة "
كل بأسلوبه وبقدر طاقته، (ولكل وجهة هو موليها) البقرة (148) ، لكن يجمعهن محور واحد يؤكد أن هذه الشخوص التي تبدو للناظر كأنها تتحرك بإرادتها لا تتحرك إلا حسب خطة واحدة قدّرها ورسم خطوطها الذين فضلوا أن يجذبوا الخيوط من خلف ستار كفانا الله والمسلمين شرورهم.
من يحرر من؟
إن المرأة المسلمة الواعية البصيرة بحقوقها وواجبتها في ضوء كتاب الله وسنة رسوله " هي المرأة الجديرة بصفة الحرية أما المرأة الغير المسلمة أو المنحرفة في
__________
(246) سورة النساء آية (115) .(1/130)
فهمها للإسلام فهي الأسيرة التي تحتاج إلى تحرير سواء كان هذا التحرير من رق الشرك والوثنية وعبادة غير الله أو رق الرذيلة والتهتك أو رق العادات والأعراف والتقاليد المنافية لدين الإسلام.
(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
آل عمران (85)
" لا " للقومية النسائية:
(كان دأب دعاة تحرير المرأة منذ البداية لجعل القضية: قضية " تحرير المرأة " فقط مع إسقاط التعيين " المسلمة " ومن ثم ربطها بقضية تحرير المرأة في العالم كأنما صارت هناك قومية خاصة اسمها " القومية النسائية " تربط المرأة المسلمة بالمرأة النصرانية بالمرأة اليهودية بالمرأة عابدة البقروالأوثان بالمشركة بالملحدة (247) ... إلخ.
__________
(247) بل الأدهى من ذلك أن تتجاوز هذه (القومية النسائية) حدود الزمان لتجعل
المسلمة الموحدة أختاً لنساء قدماء المصريين الوثنيات انظر ما كتبته (إحداهن)
مفتخرة بالفراعنة:
(كان الفراعنة هم أول من رفع المرأة إلى مقاعد الحكم وارتضى رجالهم في
فخر واعتزاز أن تحكمهم ملكات كانت عهودهن رمز العدالة والتقدم
والاستقرار.. ولقد وصلت المرأة الفرعونية إلى هذه المكانة العالية في قومها
بغير معارك وبدون اعتراض.. وما كان ذلك إلا لأن المجتمع الفرعوني كان
هو المجتمع المتحضر الذي رسم للبشرية بأجمعها طريق الحضارة والعلم
والحكمة) اهـ من (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (7)
ثم تفتخر ببعض مظاهر حرية المرأة عند الفراعنة مثل:
(حق اقتسام الميراث في مساواة مع رجل أسرتها وكانت تملك حق تطليق
زوجها بعد أن تدفع له تعويضاً وكانت تسمي أولادها باسمها) اهـ ص (15)
وتنقل بإعجاب عن (هيرودوت) قوله:
(إن المرأة في مصر القديمة أكثر نشاطاً من رجلها فالنساء يذهبن إلى السوق يبعن ويشترين في حين
أن الرجال يلازمون بيوتهم حيث يقومون بنسج الأقمشة) اهـ ص (16) ثم تفتخر زعيمة حزب
(بنت النيل) بنفرتيتي زوجة إخناتون {التي حملت لواء حركة الانقلاب الديني.. وهي الحركة التي
قامت في عهد حكم زوجها واشتركت نفرتيتي معه في صنع أسس الدين الجديد الذي توحدت فيه لأول
مرة في تاريخ الأديان (!!) جميع الآلهة في إله واحد هو (آتون) أي الشمس} اهـ ص (16) ،
وليت شعري ما الذي يدعو إلى هذا الفخار وقد انتقلت نفرتيتي وقومها من شرك إلى شرك؟ وأي
شيء يدعو للإعجاب والاعتزاز بفراعنة وحدوا آلهتهم المتعددة في (كومبانية) آلهة مشتركة هي
(الشمس) تعالى الله عما يشركون! ، وهل خفى على هذه (المتحررة) أن عقيدة توحيد الله سبحانه
وتعالى أول من نزل بها إلى الأرض من البشر آدم وحواء.. وأنهما كانا على دين الإسلام الذي أرسل
الله به جميع رسله وأنزل به جميع كتبه؟ وأن التوحيد ليس إختراعاً =(1/131)
كأن قضيتهن واحدة ومطالبهن واحدة وأهدافهن واحدة ومعتقداتهن واحدة وكان السعي
وكان السعي فعلاً حثيثاً لتأخذ المرأة المسلمة ملامح المرأة الغربية وكلما تطابقت صورتها مع الغربية كلما زاد الإعجاب بها وتقريظها بأنها لا تفترق عن الأجنبية! حتى سقطت بعض المسلمات فيما لم تسقط فيه عابدة البقر التي ظلت معتزة بزيها الخاص
" الساري " وتميزها بالنقطة الحمراء بين عينيها) (248) .
وقد قامت الدوائر الاستعمارية خاصة في أمريكا وإنكلترا بتغذية هذه"القومية النسائية " في البلاد الإسلامية خاصة مصر فحينما استطاع " الاتحاد النسائي المصري " أن يعقد ما سمي بـ " المؤتمر النسائي العربي " سنة 1944 م وسط استنكار الشعوب العربية والمسئولين فيها ووسط احتجاج العلماء وثورة الإسلاميين إذا بزوجة الرئيس الأمريكي
" روزفلت " (249) تبرق إلى المؤتمر المذكور في 17 ديسمبر 1944 م البرقية الآتية:
(يسرني أن تتاح لي فرصة إرسال تحيتي إلى مندوبات الاتحادات النسائية في مختلف بلاد الشرق العربي والواقع أن نفوذ السيدات ليتعاظم ويزداد قوة في مختلف أرجاء العالم وإني لواثقة من أن النساء العربيات سيقمن بدورهن إلى جانب " شقيقاتهن " في باقي بلدان العالم أملاً في نشر التفاهم والسلم العالمي في المستقبل) (250)
ومن قبلها حضرت إلى مصر " الدكتورة ريد " رئيسة الاتحاد النسائي الدولي
__________
= فرعونياً؟ وهل تتجاهل الكاتبة
حقيقة تلك الوثنية الفرعونية البغيضة التي لا يصح إسلام أحد حتى يتبرأ منها ومن أصحابها؟ قال
تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما
تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده}
الآية (4)) الممتحنة: 4) .
(248) (في مسألة الحجاب والسفور) (لصافي ناز محمد كاظم) ص (26) بتصرف.
(249) (ولسنا في حاجة إلى أن نذكر الدور الخطير الذي لعبته " مسز روزفلت " في تكوين الوطن القومي لليهود
في فلسطين) من (الحركات النسائية) لمحمد فهمي عبد الوهاب ص (28) .
(250) (الحركات النسائية في الشرق) ص (27) .(1/132)
بنفسها لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية ولتناصر الحركة بنفوذها في المحيط الأوربي وبتصريحاتها التي ترمي إلى " المسارعة بإعطاء المرأة المصرية الحقوق السياسية " المزعومة!
(ومن هنا أيضاً لم يدهش الشعب المصري لزيارة وزيرة الشئون الاجتماعية البريطانية
" مسز سمر سكيل " لتتفقد الأحزاب النسائية في مصر وتجتمع بـ " درية شفيق " رئيسة حزب " بنت النيل " المشبوه وتحرضها على أن تترك المقالات والمناقشات والمجلات وتتجه إلى المظاهرات واقتحام أبواب البرلمان (251) .
وتمتثل رئيسة " حزب بنت النيل " لتلك التوجيهات ففي إبريل سنة 1952 خرجت مظاهرة من قاعة "إيوارت" بالجامعة الأمريكية - ذات التاريخ الطويل في التبشير - قوامها بضع عشرات من الفتيات الكاسيات ... ، تتقدمهن زعيمة الحزب المذكور وبعض الشبان من أصدقاء حزبها وأنصاره إلى دار البرلمان هاتفات بالحقوق السياسية المزعومة!
وفوراً أبرقت جمعية " سان جيمس " الإنكليزية إلى الزعيمة المذكورة بتهنئتها على نجاحها في اتجاهها الجديد نحو المظاهرات وتعلن تأييدها لها حتى تنال المرأة المصرية على يديها الحقوق السياسية تحت قبة البرلمان وفوق كرسي الوزارة) (252) اهـ.
فهل أدركت يا أخت الإسلام:
حقيقة " الحركات النسائية "..
وهدف " القومية النسائية العالمية "؟
(إن الكلام عن " العالمية " في هذا المجال ضار جداً وهادم لأسباب النهضة عند الأمم الضعيفة بنوع خاص لأنها إذا أرادت أن تنهض فلن تقوم لها نهضة إلا على
__________
(251) وكان الهدف من ذلك كله إشغال الرأي العام بقضية المرأة عن التفرغ لقضية (الوطن الأسير) الذي كانت
تحتله آنذاك الدولة التي تمثلها " مسز سمر سكيل " الغيورة على (حقوق المرأة المصرية) !
(252) (الحركات النسائية في الشرق) ص (37 - 39) بتصرف.(1/133)
مغارسها وأصولها الأولى والنهضة على غير هذا الأساس فناء لذات العنصر الأضعف في العنصر الأقوى) (253) .
حصاد المؤامرة:
في نفس الوقت الذي ارتفعت فيه نعرة توحيد " القومية النسائية " كان دأب " دعاة تحرير المرأة " رجالاً ونساءً الأهم هو فصل قضية تحرير " المرأة " المسلمة عن قضية تحرير " الوطن " المسلم وفصل قضية الظلم الواقع عليها عن قضية الظلم الواقع على الرجل المسلم: تجزئة للقضية الواحدة من أجل أن تتفتت في مسارات متباينة متعارضة بل ومتصارعة إذ لم يقف الأمر عند هذه التجزئة بل تعداه إلى أن جُعلت المرأة المسلمة تقف خصماً أمام الرجل المسلم وأمام الوطن المسلم تقف خصماً ضد شريعتها
تمتلئ رعباً وهلعاً كلما قيل لها: هناك من يطالب بتطبيق حكم شريعتك وتنفرج أساريرها فرحة كلما وجهت ضربة إلى الشرع الحنيف عن طريق سن المزيد من القوانين العلمانية المستمدة من قوانين الغرب.
ذهب العصر الذي شيبنا وأتى عصر الشباب الملحدين
عيرونا إن عبدنا ربنا وحفظنا عهده في الحافظين
وعدوها لنا " رجعية " جعلوها سبة للمؤمنين
للمصلين إذا ما سجدوا من حديث السوء ما للصائمين
نسخ الأخلاق في شرعتهم أنها من ترهات الجامدين
إن نقل"دين"يقولوا"فتنة" هاجها في مصر بعض المفسدين
فسد الأمر فهل من مصلح أصلحوه يا شباب المسلمين (*)
__________
(253) من مقالة للدكتور " محمد محمد حسين " رحمه الله بمجلة الأمة العدد (31) السنة الثالثة ص (26) .
(*) " الاتجاهات الوطنية " (2 / 314) .(1/134)
الصحافة، والمرأة المسلمة (*)
وصف "محمد التابعى"- الذى كانوا يعدونه أستاذ جيل الصحافيين الذين خرجتهم مجلة (روز اليوسف) - واقع الصحافة يوما، فقال ما نصه:
{هذه الصحيفة صنيعة أمريكا، وهذه الصحيفة مأجورة للإنجليز، وهذه المجلة تصدر بأموال شيوعية، وهذا الصحفى يتلقى أوامره ومرتبه الشهرى من موسكو أو وارسو أو براج.
وهكذا أصبحنا جميعا نحن الصحفيين بين فاسدين ومفسدين، ومنافقين وخونة، مأجورين للكتلة الغربية والكتلة الشرقية، وأصبح الشعب في حيرة من لسانه المسموم:
الصحف التى أيدت الطغيان ودافعت عن الفساد، الصحفيون الذين مرغوا جباههم تحت أقدام الطغيان، بعد أن أسفر الطغيان} .
انتهى من (الصحافة والأقلام المسمومة) للأستاذ " أنور الجندي " ص (68 - 69) نقلاً من: (أخبار اليوم) تاريخ (25 / 10 / 1952) .
دور الصحافة فى حركة (تدمير) المرأة
أولت الصحافة (اليومية والأسبوعية) اهتماما كبيراً للمرأة، وظهرت صحف متخصصة لقضايا المرأة، تحمل ذلك الفكر الذى يعتمد على مفاهيم مضللة عن حرية المرأة، وعمل المرأة من خلال مفهوم يقوم على الهجوم الدائم والمتصل على كل الدعوات التى تحمل لواء مسئولية المرأة فى المنزل، ورسالتها الحقيقية فى الأسرة والزواج وتربية الأبناء، وتركز على مجموعة من المفاهيم الخاطئة كالقول بأن عمل المرأة من شأنه أن
__________
(*) مختصر - بتصرف - من: " الصحافة والأقلام المسمومة " للأستاذ أنور الجندي.(1/135)
يزيد دخل الأسرة مادياً، وأن المرأة تعاون الزوج فى نفقات البيت، ثم تركز على مسائل الأزياء الجديدة، وكل ما يتصل بالزينة والملابس والإغواء، وهى تتمثل بأن هناك عداءً للمرأة يحمل لواءه الرجل، وأن نظم الزواج والطلاق لا تحقق للمرأة رغبتها فى التحرر وامتلاك الإرادة، والقضاء على ما يسمى بالقوامة، وتستمد هذه الكتابات مفاهيمها من دعوة منحرفة تقودها منظمات عالمية هي فى الأغلب على صلة بالصهيونية العالمية، وتعتمد على عبارات مسمومة مما يتردد فى كتابات بعض دعاة الهدم أمثال (سيمون دى بوفوار) و (فرانسوا ساجان) وكثيرات ممن يجرين في نفس الفلك.
ولعل مجلتي (حواء) و (الشرقية) كانتا أشد المجلات عنفاً وجرأة فى هذا المجال، حيث تشن حملات مستمرة شديدة متصلة على كل قيم الإسلام، وقد حملتا حملات واسعة على حركة الدعوة إلى الله التى ظهرت فى مجال الطالبات الجامعيات والدعوة إلى الحجاب الإسلامي، ووصفتا هذه الحركة بكل تحقير، كما أعلنتا خصومتها لكل دعوة إلى الملابس المحتشمة أو أخلاقيات الملابس، وسخرتا من القائمين بها، كما حملتا على القائمين على حدود الله فى أمور الطلاق وتعدد الزوجات.
وما تزال المجلات النسائية فى مصر والبلاد العربية تحتضن فى أعماقها خلفية من الكراهية للمفهوم الإسلامي، وتعليماً واضحاً لبث هذه السموم يوماً بعد يوم.
لقد حرصت الصحافة العربية على أن تغير العرف الإسلامي العام فى مجال الاجتماع والمرأة والأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة، مستهدفة تحطيم ذلك الحاجز القوى الذى أقامه الإسلام على أساس المحافظة على العرض والشرف والخلق، وتنطلق النظرة
الغربية الوافدة التى تحمل لواءها الصحافة العربية من خلفية آثمة تستهدف إخراج المرأة من دائرة حياتها الحقة، من موقعها الأصيل، لتكون أداة تسلية ولهو وإفساد كما تصور ذلك
(بروتوكولات صهيون تحت اسم تحرير المرأة، وحقوق المرأة، وقد أكد كثير من الباحثين أن المرأة ما تزال سلعة يتلاعب بها يهود العالم، وأن الصحافة هي وسيلتهم(1/136)
الكبرى فى ترويج هذه السلعة.
إن من أشد مقاتل الصحافة ومصادر اتهامها أنها لا تقدم الحقيقة للمرأة، وإنما تفضل أن تقدم لها الرأي المضل الخادع الغاش، أنها تخفى الحقائق الأصلية، وتحجبها لأنها تتعارض مع هدفها الأساسي من التدمير.
مثال ذلك أنها تكثر من تقديم كتابات الغرب الداعية إلى الفساد، وتتجاهل عمدا عشرات الأبحاث الجادة التى تكشف الحقيقة، والتي كتبها غربيون منصفون، يحذرون من مخاطر المنزلق الذى هوت إليه المرأة.
ففي قضية (عمل المرأة وحريتها) حذر الكثيرون من أمثال (ألكس كاريل) والكثيرات ومنهن (مارتن باولى) من أخطار انهيار الأسرة بسبب تمرد المرأة على التزاماتها التى توثقها بالأسرة، وبسبب اندراج عدد كبير من الزوجات في العمل خارج المنزل، مما يخضعن لسلطة أخرى هي سلطة المؤسسات وقوانينها، مما أدى إلى ارتفاع معدل الطلاق إلى ما يقارب الخمسين بالمائة من عدد الزيجات، وتغيرت صورة المنزل التقليدية وأصبحت مجرد خيال ... حتى العلاقة بين الآباء والأبناء، أصبحت تعصف بها الشكوك ... الخ.
وفى مسألة " تحديد النسل ": كشفت دراسات غربية كثيرة عن فساد الدعوة إلى تحديد النسل، وكيف أن الغرب يدعو إلى ما يضادها من تشجيع النسل، وكيف أن قادة الدين النصراني رفضوا الموافقة على تحديد النسل.
وكشفت الأبحاث عن أخطار طبية واجتماعية نتيجة حبوب منع الحمل، ولكن صحافتنا تحجب هذه الجوانب.
وفى مجال قضايا الأسرة والشباب كشفت دراسات كثيرة فى مقدمتها كتابات
(برتراند راسل) عن فساد الأسرة فى المجتمع الغربي الذى تصوره لنا الصحافة العربية(1/137)
على أنه المثل الأعلى.
إن الصحافة العربية متهمة بأنها تخفى عن قومنا أن المرأة فى الغرب تجأر الآن بالشكوى، وتطلب العودة إلى البيت.
ويمكن تلخيص عمل الصحافة فى سبيل إفساد المرأة المسلمة فى ميادين مختلفة:
أولاً: فى مجال الدعوة إلى حريتها الزائفة، وغرس الشعور " بالقومية النسائية " عن طريق التهليل والتصفيق لكل امرأة وليت عملا من الأعمال: منادية فى البورصة، سائقة تاكسي، كناسة فى شوارع روسيا.. الخ.
ثانياً: إشاعة جو من التبرج الصارخ، والتمرد على الفطرة من خلال قنوات الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية والسينما والمسرح والقصة، وغيرها، والإفاضة فى شأن الموديلات والسهرات ومسابقة الجمال وأخبار الفاسقات من الممثلات والراقصات، والإلحاح فى ذلك حتى يوجدوا لدى الجميع انطباعاً بأن هذه هي صورة المجتمع الطبيعية التى لا مناص من الإقرار بها ثم الاندماج فيها.
وبينما يدعو الإسلام المرأة إلى إغماد سلاح الفتنة أمام الرجل، وتجنب مخالطتهم والاحتجاب عنهم، تدعو الصحافة إلى الملابس الضيقة والعرى وإيقاد الشهوات.
ثالثاً: تعمل الصحافة جاهدة لتحقيق هدف خطير ألا وهو: دمج الرجولة فى الأنوثة، وتحويل الأنوثة إلى رجولة والعكس، وإلباس الرجل ثياب المرأة، والمرأة ثياب الرجل، وذلك معارضة لحكمة الإسلام فى حتمية الفصل الدقيق والعميق بين الرجل والمرأة.
رابعاً: دعوة الصحافة إلى إغراء المرأة باتخاذ حبوب منع الحمل: تحمل فى طياتها خطراً شديداًً، فإن انتشار هذه الحبوب بلا رقابة من شأنه إشاعة الفاحشة، والترويج للحرام، وهدم الأسر.(1/138)
خامساً: تستهدف الصحافة من وراء نشر عشرات الحوادث المخلة والإغراء بها، وكذا ما تنقله عن المجتمعات الغربية تستهدف بذلك أن تبدو العلاقة المحرمة فى نظر الناس سهلة يسيرة بل ومقبولة، ويحاول بعض الصحافيين الإيحاء بين الناس أن الشرف والفضيلة والعرض كلها مسائل تافهة لا يتمسك بها إلا السذج والبسطاء والرجعيون؛
تقول (أمينة السعيد) :
(الحرية الجنسية فى البلاد الأخرى طاغية فى خطابات القراء عندهم، فإذا وجدوا بنتاً معقدة شجعوها أن تنطلق جنسياً، وتمارس حياتها بلا حدود، عندنا البنت عندما تخطيء تكاد تقتل نفسها، هناك يقولون: " إنها إحدى تجارب الحياة، ستتعلمين منها،
واحترسي فى المرة القادمة "، إذا كانت حاملاً دون زواج، يقولون: " وماله؟! أعط الطفل أمومتك، وواجهي به المجتمع " يعنى شيء مختلف لا يمكن أن يسرى عندنا..) (254) .
وجاء فى مجلة " صباح الخير ":
(إن نظام الزواج فى وطننا العربي هو نظام مضحك يدعو إلى السخرية: مهر، وعقد.. مظاهر جوفاء تقتل فيها الإرادة، وتقتل المشاعر الإنسانية) (255) اهـ.
وتقول (عايدة ثابت) في (أخبار اليوم) تاريخ (17 سبتمبر 1970) وهى تتحدث عن المجتمع الأوربي تحت عنوان: " حرية الفتاه بلا حدود ":
(إن ما نسميه نحن انحلالاً يفعلونه كأي ظاهرة طبيعية أخرى، فلم يعد فى هذا المجتمع شيء غير مباح وغير مقبول، ولم يعد الشباب يواجه فى سلوكه وعلاقاته كلمة "ممنوع ") اهـ.
ولقد عمدت الصحافة إلى الغش والتمويه وذلك فى طرق عرض الجرائم الخلقية، وهى تعرف أن أخبار الجرائم الأخلاقية تثير النفوس، فتعرضها على نحو تهون فيه من
__________
(254) (المصور) العدد (3139) تاريخ 7 ديسمبر 1984 م - ص (74) .
(255) نقلاً من: (مجلة الجامعة الإسلامية) (1395 - 1396 هـ) ص (128) .(1/139)
شأنها، وتوحي من وراء التعدد والموالاة والتكرار أن الظاهرة عامة، وأنها طبيعية، وأنها لا تؤثر على المجتمع.
وهى لا تحاول مطلقاً أن تقدم مع الحدث الوجهة الصحيحة أو الدرس المستفاد، أو الدعوة إلى الإصلاح، فذلك أمر تتجاهله تماماً، ولا ريب أن موالاة عرض الجرائم والأحداث أسبوعاً بعد أسبوع، ويوماً بعد يوم، وإعداد صفحات دائمة، وأبواب ثابتة لها هو من أخطر ما تقوم به الصحافة فى سبيل توهين روابط المجتمع، وليس عملها فى هذا المجال أقل من اهتمامها بنشر التفصيلات الوافية عن أفلام الجريمة والفحش.
وهناك فى الصحافة النسوية اهتمام بالغ بالموضة (أي بالأساليب المتجددة للزى) وهناك إصرار بالغ واهتمام كبير بهذه التغييرات، وبالرغم من الأخطار التى يتحدث الباحثون عن آثارها فى المرأة فان موجة الاندفاع لا تتوقف، يقول واحد من هذه الأبحاث:
إن المجتمع يدفع المرأة إلى الجنون، ففي كل دقيقة تظهر موضة جديدة، وفى كل لحظة هناك منتجات ظهرت خصيصاً للمرأة، وتجد المرأة نفسها منجذبة نحو هذا التيار الجارف من المعروضات لدرجة تكاد تدفعها إلى الجنون، إنها تريد أن تجرب كل شيء، وتشترى كل شيء، وعندما لا تستطيع تصاب بعقدة.
ويقول علماء النفس:
" إن المرأة التى ليس لها رصيد من القناعة، يصبح لها رصيد من العقد، فهناك آلاف من الأشياء التى تجذب المرأة إليها، والتي تجعلها تفقد الاهتمام بزوجها، والحل هو أن المرأة عليها أن تلزم التوازن، وأن تحدد باقتناع ما تريد، وتزن الأمور حتى لا تصبح فى النهاية فريسة للضياع فى بحر من العقد ".
هذا ما قاله علماء النفس، لكن الصحافة العربية تقول غير هذا، تقول على لسان(1/140)
" أنيس منصور " (256) .
(سوف تكون خيوط الموضة هذا الشتاء حشمة جداً، وسخيفة جداً لأن الفساتين سوف تكون طويلة وواسعة، وسوف تبدو المرأة وكأنها شماعة تحمل هذه الفساتين، وأن ما بينها وبين هذه الفساتين خصام) ،
ثم يصف فى عبارة بذيئة هذه الثياب إلى أن يقول:
(ثم إن الفساتين تبدو وكأنها إهانة للمرأة، فلا الساقان ظاهرتان، ولا ... ولا ... ولا الذراعان، ولا العنق، كأنها أنواع مختلفة من الخيام، وإن المرأة قد ضربت حولها وأمامها ووراءها الخيام فلا يراها أحد)
ثم يقول:
(إن ملوك الأناقة عوضوا المرأة عن هذه الخيمة بأشكال جميلة من قمصان النوم، ومعنى ذلك أن الموضة ستعجل المرأة جميلة فى البيت، وغير ذلك فى الشارع، على الرغم من أن المرأة حريصة على أن تبدو جميلة لكل الناس، فإنها تفضل أن تكون جميلة لشخص واحد، والمرأة التى لا تسعد برجل واحد، فإنها تحاول أن تلفت عيون الآخرين، ولذلك فإن المرأة تسارع إلى الشارع، وتتمتع بنظرات الناس إليها، لأنها لا تجد هذه المتعة فى البيت) (257) .
سادساً: ومن أخطر محاولات الصحافة بالنسبة لتغيير العرف الإسلامي للمرأة هي رفع قدر الممثلات والراقصات والمغنيات، وجعلهن مثلاً أعلى للفتاة فى أمور الملبس والمأكل والعادات والتقاليد.
__________
(256) (محمد أنيس منصور) من أعداء المرأة المسلمة الكارهين لما أنزل الله الذين لم يدخروا وسعاً في بلبلة الأفكار وتشويه العقائد وصرف الشباب عن مفهوم الدين الحق وقد قام بدور ضالع في إحياء الأساطير الفرعونية والفكر الفلسفي عند الفراعنة وسوّد الصفحات بأفكار مسمومة عن سارتر والوجودية وفرنسوا ساجان الكاتبة الفرنسية الإباحية وهو لا يألو جهداً في الترويج للراقصات والفاجرات بطرق شتى تهدف في جملتها إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا فراجع " الصحافة والأقلام المسمومة " للأستاذ أنور الجندي ص (107 - 111) ، (184) لتطالع دوره في الصد عن سبيل الله وتحطيم الشباب المسلم.
(257) انظر (الصحافة والأقلام المسمومة) ص (42 - 43) ، (56) .(1/141)
سابعاً: ومن ذلك الدعوة إلى إلغاء قوامة الزوج على زوجته تقول (أمينة السعيد) :
(القوامة اليوم لا مبرر لها لأن هذه القوامة مبنية على المزايا التي كان الرجل يتمتع بها في الماضي في مجال الثقافة والمال وما دامت المرأة استطاعت اليوم أن تتساوى مع الرجل في كل المجالات فلا مبرر للقوامة) (258) اهـ.
ولا ريب أن هذه الآراء المسمومة التي ترددها (أمينة السعيد) هي نفسها التي طرحتها
(سيمون دي بوفوار) ، ومجمع المؤامرات المنعقد ضد المرأة المسلمة.
ثامناً: فساد توجيه الصحافة لطالبات الإجابة عن المشاكل والقضايا وما يتخلل الردود من سخرية واضحة بالدين واستهانة بالخلق ودعوة إلى التخفف من العقوبات الشرعية واللامبالاة الاجتماعية بالآثام والميل إلى اعتبار الآثام الخلقية داخلة في إطار الحرية الشخصية.
تاسعاً: حملت الصحافة حملات شعواء على العلماء على العلماء الذين قدموا حكم الإسلام في المرأة في مواجهة سمومهم وضلالاتهم وذلك كما فعل
" أحمد بهاء الدين " و " موسى صبري " وغيرهما.
عاشراً: حاولت الصحافة تصوير الدعاة إلى تحرير المرأة بأنهم أنصارها الذين يدفعونها إلى الحرية والعمل والواقع غير ذلك فإن هؤلاء هم أعداؤها الحقيقيون الذين يدعونها إلى النار ويقودونها إلى الهاوية وصدق الله العظيم:
(والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً) النساء (27 - 28) .
__________
(258) السابق ص (48) - وانظر القسم الثاني من هذا الكتاب ص (93 - 99) .(1/142)
وقفة مع بعض دعاة " تحرير المرأة "
1- إحسان عبد القدوس:
(وهو أحد المسئولين عن إفساد هذا الجيل بما كتبه من روايات تجر الشباب جراً إلى القاع وتقتل فيهم نوازع السمو والسعي نحو مستوى خلقي أفضل إنه يرضي مظاهر واتجاهات الانحراف فيشجعها ويمجدها ويفلسفها ويرصد اتجاهات الاستقامة والفضيلة فيخذلها ويصدر عنها ويحاربها) (259) .
يقول " إحسان ": (إن إيماني بحرية المرأة ليس له حدود) .
{وقد كتب في إحدى توجيهاته التي كان يبثها في المجلة التي تحمل اسم والدته اليهودية (روز اليوسف) : (إنني أطالب كل فتاة أن تأخذ صديقها في يدها وتذهب إلى أبيها وتقول له: " هذا صديقي "!) ، وقال في " أخبار اليوم ":
إنه زار إحدى الجامعات الألمانية ورأى هناك من أوضاع الطلاب والطالبات كذا وكذا - مما يرفض جبين القلم من الخجالة بتسطيره - ثم قال:
(فقلت في نفسي: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط! لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه!) اهـ (*) .
(وما زال " إحسان " يقف مع كوكبة من أمثال " لويس عوض " و " نجيب محفوظ " و " مصطفى أمين " و " يوسف إدريس " في إصرار عجيب على الترويج للفحشاء وتبريرها في نفس الوقت الذي أخذت فيه ظاهرة المرأة المسلمة المحتشمة تبدو واضحة في كل مكان على أنها واقع أصيل يصفع الداعين إلى الشهوات والآثام) (260) .
__________
(259) مجلة (المجتمع) الكويتية العدد (18 / 1 / 1977 م) .
(*) انظر: " واقعنا المعاصر " ص (294 - 295) .
(260) انظر: " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (205) .(1/143)
2- (نجيب محفوظ:
{الشاك في كل قيمة المتذبذب في كل فكره الضائع في كل واد المتحدي لعقيدة الأمة والمتجه ناحية المشارب الأخرى يعب منها حتى يطفح فيفيض ما عليه على غيره وينتكس بعد ذلك إلى غيره} (261) .
{وقد اتضح في آثاره ظاهرتان خطيرتان أولاهما: إشاعة الفاحشة وتبريرها وثانيتهما: الإلحاد ولهذا يوليه الماركسيون اهتماماً خاصاً وقد استخدموه في دعوتهم إلى الإباحية وإلى المفاهيم الهدامة للأسرة والفتاة وعمل المرأة وعلاقتها بالرجل} (262) .
3- مصطفى أمين:
خريج مدرسة " التابعي " والصحافي البارع في وضع السموم في علب ملونة حلوة المظهر تخدع القراء قال الأستاذ " أنور الجندي ":
(كان " مصطفى أمين " يصنع الأصنام ويعبدها ويحاول أن يجر الشعب معه ليسجد لتلك الأصنام) ، ومن مواقفه إزاء حركة الإصلاح الإسلامي قوله:
(حارب الأحرار في هذه البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها ويظهر أن بعض الناس يريدون العودة بنا إلى الوراء وقد يحدث هذا في أي مكان
__________
(261) انظر: " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (189 - 196) .
وإذا عرفنا أنه صنيعة (طه حسين) و (سلامة موسى) لم نستغرب اجتهاده في تحطيم الشباب فإن
أستاذيه كانا يعرفان أنهما يقدمان سماً من نوع خطير إلى الأجيال الجديدة فيخدمان به دعوتهما
ويكونان جيلاً يحمل أفكارها انظر المرجع السابق ص (186) ، (189) .
(262) السابق، هذا وقد كافأته الأيدي الملحدة القذرة بمنحه جائزة نوبل للآداب لعام 1988 لتأليفه رواية
" أولاد حارتنا " وجاء في حيثيات الترشيح الرسمية أن الرواية تعني بالبحث الأزلي للإنسان عن
القيم الروحية فآدم وحواء وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء والرسل يظهرون في تخف
طفيف) اهـ وقد نشر ملخص هذه الرواية بجريدة النور عدد (22 ربيع الأول 1409 هـ) فإذا بها
تتضمن الإلحاد في ذات الله والتفريط في جنب الله والاستهزاء بكعبة الله والتطاول على مقامات
أنبياء الله وتجريح رسل الله بما فيهم موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
والاستخفاف بملائكة الله بحيث يتحقق في صاحب هذه الرواية قول القائل:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
ولا نبالغ إذا قلنا في ضوء هذه الرواية التي رقعت بوثنيات اليونان وإباحيات الرومان وخبث
الماسون وإلحاد الماركسيين لا نبالغ إذا قلنا عن انتساب " نجيب محفوظ " إلى البشرية عار على
الجنس البشري وأولى به أن يرجم كرجم العرب قبر أبي رغال وإن الكفر البواح والشرك الأكبر
الذين تلبس بهما ليجعلانه عدواً لدوداً لكل ذي دين ولو كان يهودياً أو نصرانياً بله المسلم الموحد.(1/144)
ولكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر) (263) .
ومع أنه قلما يفصح عن أهدافه إلا أنه كتب يوماً تحت عنوان:
" الأهداف التي ستعمل لها مصر بعد الاستقلال " (264)
وجعل من أهدافه التي سيعني بها ويقود لها الرأي العام:
(أن يحارب التعصب الديني وأن يجدد الأزهر وأن ينادى بتحرير المرأة قلبياً لأن الحب الطاهر لا يزال جريمة يعاقب عليها المجتمع والمجتمع المصري إلى اليوم مجتمع لا روح فيه لأنه خال من المرأة والشباب المصري لا شخصية له لأنه ليس في حياته امرأة ... ومن أهدافه أن يشجع المرأة على المطالبة بحقوقها السياسية وتولي الوظائف وأن ترث كما يرث الرجل تماماً وأن يدعو إلى اتحاد شرقي لا اتحاد إسلامي (265) على نظام الولايات المتحدة الأمريكية) (266)
ومع أن أسمى ما تطمح إليه الأمة في هذا العصر هو تطبيق الشريعة الإسلامية نجد
" مصطفى أمين " يسفه هذا المطلب ويقول:
(إن حضارة مصر عمرها سبعة آلاف سنة ولا يمكن أن تعود القهقري إلى الخلف) (267) .
4- نزار قباني (268) :
وهو من عصابة المجان الكارهين لما أنزل الله المحرضين على الفساد والفاحشة يقول في بعض أحاديثه:
(لو كنت حاكماً لألغيت مؤسسة الزواج وختمت أبوابها بالشمع الأحمر) ، ويقول مستهزئاً: (العري أكثر حشمة من التستر) ،
وقد حمل لواء الرفض لكل ما يمت إلى الإسلام والعروبة بصلة ويعده المتحررون من أعمدة الدعوة
__________
(263) (أخبار اليوم) (5 نوفمبر 1977 م (.
(264) وتاريخ المقال (15 مارس 1943 م) بمجلة الاثنين.
(265) بهذا النص!
(266) انظر " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (99 - 106) .
(267) انظر " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (99 - 106) .
(268) " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (167 - 168) بتصرف.(1/145)
إلى تحرير المرأة، قال الأستاذ " أنور الجندي ":
أما شعر " نزار قباني " الذي أوسعت له الصحافة العربية الصفحات فيكفيني في التعريف به ما كتبه " محمد سالم غيث " في كتاب له حول شعر " نزار " يقول: لقد خلع " نزار " ثياب الرجل كثيراً ولبس ثياب المرأة وتقمص شخصيتها وتحدث بلسانها وقال: إنه يفعل ذلك " دفاعاً عن المرأة التي حكم عليها هذا الشرق الغبي بالإعدام "
حتى إنه ليقدم أحد كتبه الفاجرة إلى طالبات الجامعة الأمريكية ويقول:
" إنه كتابكن كتاب كل امرأة حكم عليها هذا الشرق الغبي بالإعدام ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها ولأن هذا الشرق غبي وجاهل ومعقد يضطر رجل مثلي أن يلبس ثياب امرأة ويستعير كحلها وأساورها ليكتب عنها من مفارقات القدر أن أصرخ أنا بلسان النساء ولا تستطيع النساء أن يصرخن بأصواتهن الطبيعية "؟
ولا نستطيع أن نعلق على هذا إلا بما كتبه " صالح جودت " قائلاً:
(لا رحم الله نزار: لقد مات كسوري ومات كعربي
ومات كشاعر ومات كإنسان) (269) اهـ.
شعر:
لا بوركت تلك الأكف فإنها ضربت على الألباب سداً عاتياً
حجبت صديع (270) الرشد عنها فارتمت تجتاب ليل الغي أسفع داجياً
بعثوا الصحائف يلتوين كأنما بعثوا بهن عقارباً وأفاعيا
صحف يزل الصدق عن صفحاتها ويظل جد القول عنها نابيا
ليت الزلازل والصواعق في يدي فأصبها للغافلين قوافيا
فنيت براكين القريض ولا أرى ما شفني من جهل قومي فانيا
فلئن صمتُّ لأصمتن تجلدا ولئن نطقت لأنطقن تشاكيا (271)
__________
(269) " الصحافة والأقلام المسمومة "، ص (167 - 168) بتصرف.
(270) الصديع: الصبح.
(271) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر "، (1 / 220) .(1/146)
موقف الإسلام من دعاة تحرير المراة
إذا كان حال هؤلاء الدعاة والداعيات كما تقدم وولاؤهم لأعداء الإسلام كما وصفنا فهل يحتاج الأمر منا إلى كثير تدبر فيما ينبغي أن يكون عليه موقف كل مسلمة ومسلم من دعوتهم الأثيمة؟
أليس هؤلاء ممن قال تعالى فيهم:
(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم
في الدنيا والآخرة) النور (19)
وإذا كان القوم أشربت قلوبهم حب الكافرين وأولعوا بما هم عليه من الضلال المبين فأين أنت أيتها المسلمة من قوله تعالى:
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه) آل عمران (28)
وقوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) المجادلة (22)
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) آل عمران (149)
وقوله تعالى:) وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (الأنعام (121)
وقوله تعالى:) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم (المائدة (51) .
قال حذيفة: " ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر لهذه الآية
(ومن يتولهم منكم فإنه منهم) ".
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) المائدة(1/147)
(54)
قال علي: " (أذلة على المؤمنين) أهل رقة على أهل دينهم (أعزة على الكافرين) أهل غلظة على من خالفهم في دينهم "
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء) المائدة (57)
وقال تعالى: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) المائدة (80)
وقال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود (113)
قال بن عباس: " (ولا تركنوا) ولا تميلوا ".
قال بعض المفسرين في الآية: (فالنهي متناول للانحطاط في هوتهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزياراتهم ومداهنتهم والرضي بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم والركون هو الميل اليسير) اهـ
وقال تعالى:) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة (الآية الممتحنة (1)
قال بن عباس: " من أحب في الله وأبغض في الله وعادى في الله ووالى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك "
وقال تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) الأنفال (73) .
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله " لأبي ذر: يا أبا ذر أي عرى الإيمان أوثق؟
قال: الله ورسوله أعلم قال: المولاة في الله والحب في الله والبغض في الله (272)
وعن أبي أمامة عن النبي " قال: من أحب لله وأغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان (273)
وقال ": المرء مع من أحب (274)
وقال ": ولا يحب رجل قوماً إلا جاء
__________
(272) حسن بشواهده أنظر تحقيق (شرح السنة) للبغوي (13 / 53 - 54) .
(273) جزء من حديث أخرجه أبو داود وحسنه الأرناؤوط (شرح السنة 13 / 54) .
(274) متفق عليه.(1/148)
معهم (275)
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد فرض علينا تلاوة سورة الفاتحة في اليوم والليلة سبع عشرة مرة في كل مرة ندعو الله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) ثم يبين سبحانه صفة هذا الصراط بقوله (غير المغضوب عليهم) وهم اليهود
(ولا الضالين) وهم النصارى (الفاتحة 7) فما ذاك إلا لأنه لا يمكن للمسلم أن يستقيم إلا إذا خالف أصحاب الجحيم وتميز عن هديهم وطريقهم (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الأنعام (153) .
كيف إذاً نصدق هؤلاء الأفاكين وننقاد لأولئك المغررين من أعداء ديننا وأمتنا الذين يخبرنا سبحانه عما في قلوبهم بقوله:
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم (البقرة (120)
وقوله:) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (آل عمران (118) .
فيا أيتها الأخت المسلمة:
إن أيديهم الماكرة الخبيثة الخادعة قد امتدت إليك في هذه الفتنة لتنزلك من علياء كرامتك وتهبط بك من سماء مجدك وتخرجك من دار سعادتك فاقطعيها بسرعة وبقوة فإنها يد مجرمة ظالمة واهتفي بما هتفت به من قبل " عائشة التيمورية " (276) :
بيد العفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أعلو على أترابي
وبفكرة وقادة وقريحة نقادة قد كملت آدابي
ما ضرني أدبي وحسن تعلمي إلا بكوني زهرة الألباب
ما عاقني خجلي عن العليا ولا سدل الخمار بلمتي ونقابي (277)
__________
(275) قطعة من حديث أخرجه البغوي في " شرح السنة " (13 / 64) .
(276) هي الأديبة الألمعية شقيقة أحمد تيمور باشا (ت 1902) .
(277) (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) لزينب يوسف فواز العاملي ص (309) .(1/149)
قولي كما قالت أختك من قبل:
أيها القوم أصلحوا أنفسكم خاب من رام السفور اليوم خابا
برقعي وسط محيطي شرفي لم أحد عنه ولو ذقت العذابا
واحذري من الذين:
قالوا ارفعي عنك الحجابا أو ما كفاك به احتجابا
واستقبلي عهد السفور اليوم واطرحي النقابا
عهد الحجاب لقد تباعد يومه عنا وغابا
ألقميهم الحجارة وأخرسيهم قائلة:
فأجبتهم والضحك ملء ... فمي ولم أعدم جوابا
مهلا فما هذا الذي ... قد غركم إلا سرابا
أو لا ترون الغرب كيـ ... ـف غدا الرجال به ذئابا
أو لا ترون عري الأ ... خلاق تنشعب انشعابا
كم نظرة للوجه تو ... رث في الحشا جمرا مذابا
إن ترغبوا لنسائكم ... صونا وعيشا مستطابا
فدعوا السفور لأهله ... وارخوا عليهن النقابا (278)
__________
(278) (فقه النظر في الإسلام) لمحمد أديب كلكل ص (188) .(1/150)
السفور مَطِيَّة الفجور
عن النواس بن سمعان عن رسول الله " أنه قال:
" ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " (281) .
وعن حذيفة أنه قيل له: (في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟) قال: (لا ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه) (282) .
ومعلوم أن المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضاً حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها فكلما فرط من العبد معصية قالت أخرى إلى جانبها: (اعملني أيضاً) فإذا عملها قالت الثالثة كذلك وهلم جرا حتى تصير المعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة بحيث لو عطل المسيء سيئاته لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأحس من نفسه أنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه ولا يزال المسكين يألف المعاصي حتى ينسلخ من قلبه استقباحها فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له بل يحبها حتى يرسل الله عليه الشياطين تؤزه إليها أزاً فيكونون أعواناً عليه.
__________
(281) رواه الإمام أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان وأخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وقال: صحيح على
شرط مسلم ووافقه الذهبي، قال الألباني " وهو كما قالا " (صحيح الجامع رقم 3782) .
(282) رواه عن حذيفة أبو نعيم في الحلية.(1/151)
وقال شيخ من أهل الشام:) من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولاً لم ينج آخراً وإن كان جاهداً) (283)
وفي بعض الآثار:
(إذا استشرفت للفتن استشرفت لك) ومن هنا قال أبو السعود في " مراقي السعود ":
سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم
إن الذي يسمح لقدمه أن تنزلق خطوة واحدة في أول الطريق لا يدري إلى أين تسوقه قدماه وإلى أين ينتهي به المسير لذا كان علينا أن نضع للأشياء حدوداً لا نسمح لأنفسنا بتخطيها.
سنة إبليسية:
(لقد نهج دعاة التحرير نفس منهج إمامهم الأول إبليس لعنه الله إذا ما كان من إبليس إلا أن زيف للأبوين الحقيقة وألبس الحق لباس الباطل والباطل لباس الحق لم يأت الشيطان ليقول للإنسان: كل من الشجرة المحرمة كي يغضب الله عليك ويطردك من جنته وينزلك إلى دار الشقاء بل قال له: إن في الأكل من الشجرة سعادتك وهناءك وخيرك وقال له: إن أنت أكلت من الشجرة حصلت على الملك العظيم والحياة الخالدة وتحولت إلى ملك غير قابل للفناء.
وزيادة في الإضلال وإمعاناً في التغرير بآدم أقسم له ولزوجه أنه صادق فيما يقول وأنه ناصح لهما يقدم لهما الخير ويدلهما على الطريق الحق (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه (120) ، (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما
__________
(283) (ذم الهوى) لابن الجوزي.(1/152)
إني لكما لمن الناصحين) وما النتيجة؟ (فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما
من ورق الجنة) الأعراف (20: 22) . (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (284) .
وهكذا تذرع الشيطان إلى الفجور الذي نراه اليوم ونعاني ويلاته بالسفور كخطوة أولى يستنزل بها المرأة المسلمة من عليائها وعفتها وما كان للمسلمة أن تطيعه أبداً إذا دعاها صراحة وهي في قمة الاحتجاب والتعفف إلى ما نراه الآن مثلاً على شواطئ البحار وفي دور الخيالة لكن الخبيث تدرج معها ابتداءً بأن السفور (كشف الوجه) جائز شرعاً وانتهاءً بأن خير الهدي هدي أوربا وأمريكا.
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في معرض كلامه عن أثر كشف المرأة وجهها في وقوع الافتتان بها: (.. ولهذا أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن فيقع الافتتان) (285) اهـ.
جاء في ترجمة عبيد بن عمير المكي من " ثقات العجلي " قال: (كانت امرأة جميلة بمكة كان لها زوج فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحداً يرى هذا الوجه ولا يفتن به؟ قال: نعم فقالت: من؟ قال: عبيد بن عمير قالت: فأذن لي فلأفتننه! قال: قد أذنت لك فأتته فاستفتته فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام قالت: فأسفرت عن مثل فلقة القمر فقال لها:" يا أمة الله اتقي الله ") (286) .
ومن قبل قال (بعض) أهل الأهواء في تصوير فتنة السفور أو الحجاب " النصفي ":
__________
(284) (المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم) للدكتور عمر سليمان الأشقر ص (17 - 18) بتصرف.
(285) (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) ص (67) .
(286) (حجاب المرأة المسلمة) للألباني هامش ص (53) .(1/153)
قل للميلحة في الخمار المذهب أذهبت دين أخي التقى المتعبد
نور الخمار ونور وجهك ساطع عجباً لوجهك كيف لم يتوقد
تمسك المصريين بالحجاب:
لقد بلغ تمسك المسلمين في مصر بالحجاب مبلغاً عظيماً إلى حد دفع الشاعر (حافظ إبراهيم) يعبر عن عجز المتفرنجين عن إزاحة النقاب عن وجه المرأة المسلمة ويأسه هو نفسه من استجابة الشعب لتلك النعرة بقوله (وبئس ما قال) :
فلو خطرت في مصر حواء أمناً يلوح محياها لنا ونراقبه
وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه
وخلفها موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه
وقالوا لنا: رفع النقاب محلل لقلنا لهم: حق ولكن نجانبه (287)
مع أن (حافظاً) هو نفسه القائل:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً بين الرجال يجلن في الأسواق
يدرجن حيث أردن لا من وازع يحذرن رقبته ولا من واقي
يفعلن أفعال الرجال لواهياً عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهن شؤونهن كثيرة كشئون رب السيف والمرزاق (288)
سياسة " تكسير الموجة "
ولما كان تمسك المسلمين بالحجاب أصلاً من أصول نظامهم الاجتماعي نهج أعداء المرأة المسلمة سياسة تكسير الموجة شيئاً فشيئاً وهي سياسة استعمارية
__________
(287) جريدة الأهرام (5 / 9 / 1982 م) .
(288) المزراق: الرمح.(1/154)
معروفة (289) فكانت الخطوة الأولى إبراز فكرة جديدة كنقطة انطلاق يتبعها ما وراءها وتضفي عليها الصبغة الدينية الشرعية حتى لا تصدم شعور العامة ويكون التذرع بالدين وفتح باب الاجتهاد سبيلاً إلى قبولها ولابد في ذلك من استدراج بعض الشيوخ والعلماء لكي يدلوا بدلوهم في القضية باعتبار أنها خلاف فقهي فيه راجح ومرجوح ومن هنا تبدأ القابلية للتردد وزلزلة الأفكار، أجل! لابد أن يبدأ الزحف بصحبة الشيوخ الذين تقدسهم العامة والذين يستغلون في البداية كأسلحة مؤقتة ولا بأس أيضاً بالتنقيب في الأسفار والبحث هنا وهناك عن عبارات وفتاوى مبتورة تبرر الانحراف عن الشريعة ثم بعد ذلك وبعد تمكن الفكرة الجديدة من القلوب وشن الحملات على ما يخالفها من الأوضاع الاجتماعية السائدة يبدأ الانخلاع من الدين شيئاً فشيئاً لتختفي النبرة الإسلامية حيناً ثم تأتي مرحلة الهدم والضرب العشوائي الذي يحطم كل شيء.
لقد بدأت حركة (تحرير المرأة) على أيدي المتفرنجين فقلدهم بعض الخطباء الجهلة والكتاب الفسقة ونشبت المعركة أول ما نشبت حول (كشف وجه المرأة) أي السفور وأقام العلماء الناصحون الدنيا وأقعدوها ليحبطوا تلك الدعوة إلى السفور لا لأنه الحكم الراجح في المسألة فحسب ولكن لأنهم فطنوا لحقيقة الخطة المدمرة التي تستهدف القضاء على المرأة المسلمة وتحطيم كيانها لقد نادوا بتخليص المرأة من الحجاب ولزوم البيت والخضوع للآباء والخنوع للأزواج والبعد عن الحياة الاجتماعية والسياسية وواتت هذه الحركة فرصة وجود الأمة المسلمة مستعبدة للأجنبي الكافر مستعمرة له ترزح تحت نيرانه وتأن تحت كلكله تتوجب لما يصب عليها من جم غضبه وما يسومها من سوء عذابه فنسبوا - مكراً وخديعة - كل ما حل بالأمة
__________
(289) انظر: (الاتجاهات الوطنية) (2 / 245 - 246) ، و (من أصداء الدين في الشعر المصري الحديث)
للدكتور سعد الدين محمد الجيزاوي (1 / 322) .(1/155)
المسلمة من تأخر وضعف وهون ودون إلى حجاب المرأة وعفتها وحيائها وبعدها عن التعليم العقيم والسياسة الفاجرة والحياة الاجتماعية الفاسدة.
وانخدع كثير من النساء وأوليائهن بتلك الدعاوى المعسولة المسمومة وأخذت الفتاة المسلمة تتمرد على الحجاب وتحاول التخلص منه فبدأت لأول مرة بإلقاء البرقع الذي كان على وجهها ونزع النقاب من الوجه كذلك فظهرت الوجوه ما يحجبها برقع ولا يغطيها نقاب - وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد كانت خطوة جريئة من المرأة يومذاك صفق لها دعاة السفور وعباد الشهوات ورواد الفجور.
سنة سيئة:
ثم كان أن خطا الناس إلى أبعد مما نادى به " قاسم أمين " فقد زعم أنه إنما يدعو إلى الوقوف بالحجاب عندما أمر الله به ولم يدع قط إلى كشف العورات كالأذرع والسوق وغيرها ولم يدع صراحة إلى الاختلاط بالرجال ومراقصتهم كلا ولا دعا إلى شيء مما نراه الآن من انحطاط وتهتك ولكن قاسم أمين - وإن لم يدعو إلى شيء من ذلك صراحة - هو الذي فتح الباب لهذه الدعوات وهو الذي سن تلك السنة القبيحة سنة السفور لتكون ذريعة إلى ما تلاها من فساد وهو الذي خطا بالمرأة المسلمة في طريق يعلم كل عاقل أن الناس لابد أن يسيروا فيه من بعده خطوات وخطوات.. ويعلم كل مدرك واع أن الخلف بين المسلمين وبين الغربيين في هذه القضية خاصة مما لا يرجى معه اتفاق إلا بفناء أحد المذهبين في الآخر تماماً وبلا قيود وبلا حد وسط.(1/156)
" ومعظم النار من مستصغر الشرر ":
أخذت الأمور تتطور سريعاً حتى استنفدت " دعوة قاسم أمين " - في وقت وجيز - كل أغراضها وسارت الحال على سنة التدرج المعروفة واندفع الناس إلى ما وراء السفور في سرعة غير منتظرة فقد بدأت الفتنة العظمى بان خلعت المرأة النقاب وخلعت معه ما هو أغلى منه وأثمن ألا وهو ثوب الحياء الذي طالما صان وجهها أن يكون معروضاً ومبذولاً لكل من شاء أن يراه من أجنبي أو فاسق أو كافر ثم استبدلت المرأة المعطف الأسود بالحبرة (290) وما هي إلا فترة من الزمن حتى امتدت يد التحرر إلى الخمار الذي كان لا يزال يستر شعر الرأس وبدا - لأول مرة - شعر المسلمة مكشوفاً لا شيء عليه يستره عن أعين الناس من أجانب وأقارب وبذلك شل جسم الحياء في المرأة ولم يعد قادراً على منعها من أن تحدث وتجالس أو تصافح وتضاحك من شاءت من الرجال عامة وأصدقاء وأقارب الزوج خاصة وإن بعدوا أو سفلوا.
وتأتي بعد ذلك الخطوة الأكثر جرأة إذ تعمد المرأة إلى ملاءتها أو عباءتها أو معطفها فتلفها كالثوب الخرق وترمي بها بعيداً عن ساحة الحياة وتخرج المرأة المسلمة لأول مرة في تاريخ إسلامها في درع سابغ مزين بالألوان المزخرفة تحته غلالة لطيفة وما فوقه شيء ...
ثم إذا بالمقص يتحيف هذه الثياب في الذيول والأكمام وفي الجيوب (291) ولم يزل يجور عليها فضيقها على صاحبتها حتى أصبحت كبعض جلدها ثم أنها تجاوزت ذلك كله إلى الظهور على شواطئ البحر في المصايف بما لا يكاد يستر شيئاً ولم تعد
__________
(290) الحبرة: بفتحتين - إزار كانت المرأة تلتحف به إذا برزت للطريق وقد كان يتخذ من قماش أسود ويتكون
من قطعتين تدور إحداهما حول الخصر وتنسدل إلى أن تغطي الساقين وتنزل الأخرى من فوق الرأس فتغطي
الصدر والكتفين وتنتهي إلى ما دون الخصر وقد اختفى هذا الزي الآن.
(291) الجيب: فتحة إدخال الرأس.(1/157)
عصمة النساء في أيدي أزواجهن ولكنها أصبحت في أيدي صانعي الأزياء في باريس وغيرها من اليهود ومشيعي الفجور.
وقطعت المرأة مراحل التعليم المختلفة واقتحمت الجامعة مخالطة للرجال في الطرقات والمواصلات والمدرجات مزاحمة فيما يلائمها وفيما لا يلائمها من ثقافات وصناعات وشاركت في وظائف الحكومة ثم لم تقف مطالبها عند حد في الجري وراء ما سماه أنصارها " حقوق المرأة " أو " مساواتها بالرجل " وكأنما كان عبثاً خلق الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى وأقام كل منهما فيما أراد بحكمته جل وعلا، وامتلأت المصانع والمتاجر بالعاملات والبائعات وحطم النساء الحواجز التي كانت تقوم بينهن وبين الرجال في المسارح وفي الترام وفي كل مكان فاختفت المقاعد التي جرت العادة بتخصيصها للسيدات بعد أن أصبحن لا يستحيين من مشاركة الرجال.
تتابعت هذه التطورات في سرعة مذهلة ولم تدع فرصة للمعارضة وأعان على اندفاعها جو الثورة التي تلت الحرب وما كان يوحي به من جرأة ومن تمرد على كل قديم وقد ظهرت طلائع ذلك في مظاهرة النساء المشهورة في مارس سنة 1919 التي طافت بشوراع القاهرة هاتفة بالحرية في طريقها إلى دار المعتمد البريطاني لتقدم إليه احتجاجا مكتوباً على تعسف سلطات الاحتلال وقد كان عدد المتظاهرات يربو على الثلاثمائة
وعلى رأسهن " صفية زغلول " و " هدى شعراوي " (292) وهذه المظاهرة هي التي قال فيها " حافظ إبراهيم " يصف تعرض الجيش البريطاني لها متهكماً (293) :
__________
(292) ومن النساء اللاتي اشتركن في تلك المظاهرة كزعيمات (حرم حنا مسيحة، حرم د. نجيب اسكندر، حرم
اسكندر مسيحة، الآنسة جولييت صليب، رفائيل بغدادي، حرم ويصا واصف، الآنسة ماري ميرهم، حرم
صليب منقريوس، حرم ميخائيل لبيب) ، وحرم قاسم أمين.
(293) ديوان حافظ إبراهيم (2 / 87) .(1/158)
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
وظللن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه
يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه
وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنه
والخيل والفرسان قد ضربت نطاقاً حولهنه
والورد والريحان في ذاك النهار سلاحهنه
فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه
فتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن مُنَّه (*)
ثم أنهزمن مشتتات الشمل نحو قصورهنه
فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه
فكأنما الأ لمان قد لبسوا البراقع بينهنه
وأتوا (بهندنبرج) (294) مختفياً بمصر يقودهنه
فلذاك خافوا بأسهن وأشفقوا من كيدهنه
وتجرأت المرأة منذ ذلك الوقت على المشاركة في القضايا الوطنية (295)
وفي مختلف
__________
(*) منة: أي قوة.
(294) هو رئيس الجمهورية الألمانية وقائد جيشها، انظر الموسوعة العربية الميسرة ص (1905) .
(295) من ذلك ما حدث يوم الجمعة 12 ديسمبر من نفس العام حيث (سبقت حفنة من سيدات مصر جمع الهيئات
الوطنية إلى الاحتجاج - ضد لجنة ملنر - على شكل مؤتمر وطني في دار الكنيسة المرقسية بالقاهرة) اهـ
عن (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (126) .(1/159)
الميادين الاجتماعية فتألفت لجنة مركزية للسيدات الوفديات شاركت مشاركة فعالة في حركة المقاطعة الاقتصادية سنة (1922) وتزعمت " صفية زغلول " حرم
زعيم الثورة الأول وكريمة مصطفى فهمي باشا هذه الحركة الأولى التي طفرت بالمرأة إلى وضع لم يحلم به " قاسم أمين " أن تبلغه في مثل هذه المدة الوجيزة وبهذه السهولة
وغفلت عين المعارضين من المحافظين عن هذه الخطوات الجريئة التي أضفى عليها جو الثورة لون من النبل حفظها من أن تهاجم أو تمس.
ثم تنبه المعارضون فإذا المراة ماضية قدماً في استئناف الطريق التي وضعت قدمها على أوله باشتراكها في ثورة (1919) فأخذت تؤسس الجماعات وتقيم الحفلات وتعقد الندوات والمحاضرات وتزعمت هذه الحركة النسوية " هدى شعراوي " وتجرأت هذه المتزعمة على ما لم تتجرأ عليه امرأة مسلمة من قبل فسافرت إلى باريس وإلى أمريكا لدراسة شئون المرأة وأخذت تلقي بالتصريحات والأحاديث لمندوبي الصحف وجزع المحافظون لما صحب هذه الحركة من ميل إلى التبرج ومن نزوع إلى التحرر والانطلاق وأنكروا ما رأوا من تغير حال المراة ومن جرأتها على التقاليد وتمردها على
سلطة الأب والزوج وراحوا يتابعون في ذهول تطور الزي وتقلص الثوب فوق جسدها في سرعة تجاوزت كل ما يتخيلون من حدود.
يقول عبد المطلب ناعياً على النساء تقصير الثياب والتبرج (296) :
ما في بنات النيل من أرب لذي غرض نبيل
أصبحن عاباً في الزمان وسوأة في شر جيل
ما هذه الحبرات تهفو في الخمائل والحقول
__________
(296) {ديوان عبد المطلب (ص 184 - 188) وليت شعري ماذا كان عساه قائلاً لو رأى أزياء المرأة اليوم فقد
يبدو أن أشد أنصار الحشمة تطرفاً لا يكاد يطمع في أن يعيد المرأة إلى مثل هذا الزي الذي يشكو منه الشاعر}
من تعليق الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله (الاتجاهات الوطنية 2/240) .(1/160)
نكر العفاف ذيولها ومن الخنى قصر الذيول
إن ينتسبن إلى الحجاب فإنه نسب الدخيل
يختلن أبناء الهوى بالدل والنظر الختول
من كل خائنة الحليل تهيم في طلب الخليل
ما لأبنة الخدر المصون وربة المجد الأثيل
أودى شفيف نقابها بكرامة الأم البتول (297)
وعلى رنين حجولها أسفاً على الذيل الطويل
فإذا مشت النقاب محاسن الوجه الجميل
ولقد ينم عبيرها فتحسه من نحو ميل
ترتاد خائنة العيون بلحظ فاتنة قتول
يا هل درى (ذاك) الغيور بما جرى!؟ ويح الجهول (298)
أهي التي فرض الحجاب لصونها شرع الرسول؟
جعل الحجاب معاذها من ذلك الداء الوبيل
يا منزل القرآن نوراً للبصائر والعقول!
عميت بصائر أهل وادي النيل عن وضح السبيل
ذهلوا عن الأعراض لو يدرون عاقبة الذهول!
كان تيار السفور والتبرج جارفاً لم تستطع صيحات المحافظين أن تقف في وجهه بل لم تستطع أن تقلل من حدته أو تخفف من سرعته ولكن ذلك لم يكن ليثنيهم عن التنبيه والتحذير على كل حال ...
__________
(297) الشاعر هنا لا يشكو من نزع النقاب ولكنه يشكو من رقته التي تشف عما تحته؟! .
(298) لعله يُعَّرِض بـ " قاسم أمين ".(1/161)
صيحة نذير:
وهذا هو " شكيب أرسلان " (299) ينشر مقالاً عن (السفور والحجاب) (300)
يحاول أن يقدم للناس درساً يستنبط فيه العظة من تطورات السفور في تركيا فيعرض للمراحل التي مر بها ليبين أن الدعوة إلى نزع الحجاب هي مرحلة تهيئ لما يليها من الدعوات التي ترمي إلى هدم أحكام الإسلام فيقول فيما يقول:
(عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 قال " أحمد رضا " بك من زعماء أحرار الترك: " ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة التركية على جسر غلطة (301) وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية " فكانت هذه المرحلة الأولى وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب "رفقي بك" الذي كان كاتباً عند " جمال باشا " في سورية كتب: " إنه ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت ولو كان من غير المسلمين (302) بل
__________
(299) ولولد " شكيب أرسلان " في بلدة الشويفات من مقاطعة " الشوف " التي تبعد من بيروت قرابة عشرة أميال
ومعنى " شكيب " بالفارسية: الصابر ومعنى " أرسلان " بالفارسية والتركية: الأسد، وهو من طائفة
(الدروز) اللبنانية وهم (إسماعيلية فاطمية) وقد ذكر الشيخ الشرباصي أن الأمير شكيباً كان سنياً وإن
انتسب سياسياً أو إدارياً إلى الدروز وأنه كان يتعبد على طريقة السنيين فهو يصلي ويصوم ويحج كما يفعل
جمهور المسلمين قال: (وقد أكدت لي زوجته هذه الحقيقة وقالت أن الدروز يحرمون الزواج من سنية
ولكن زوجي تزوجني وأنا سنية مسلمة وقد تسبب هذا الوضع في متاعب لشكيب فمن الدروز من لا يرونه
درزياً كاملاً ومن السنيين من لا يرونه سنياً كاملاً فضاع جانب من حقه بين هؤلاء وهؤلاء) اهـ من (شكيب
أرسلان) للشيخ أحمد الشرباصي، ص (51 - 52) ويعكر على هذا ما هو معلوم من زواج (كمال
جنبلاط) زعيم الدروز من " مي " ابنة شكيب فالله أعلم بحقيقة أمره.
(300) (المنار) عدد 29 ذي الحجة 1343 هـ - 21 يولية 1925 م ص (206 - 210) .
(301) كوبري جلتا أو بلتا جسر شهير في مركز مدينة استانبول يربط بين قارتي أسية وأوربة ويصل بين شطري
المدينة التي تمتد في القارتين.
(302) وبالفعل نص القانون المدني التركي فيما بعد على إباحة زواج النصراني من المسلمة، انظر مجلة الرسالة
العدد =(1/162)
ما دامت لا تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلماً كان أو غير مسلم فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياً " فهذه هي المرحلة الثانية)
ثم يقول " شكيب أرسلان ":
(فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجئ كيفما تشاء بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل بعضها ببعض لابد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها فإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة فعليه أن يقبلها بحذافيرها ...
أما أن نجمع بين حرية المراة وعدم حريتها وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت وتحادث من أرادت وتضاحك من أرادت وتغامز من أرادت ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا فذهبت وساكنته وكان بينها وبينه ما يكون بين الرجل وزوجته أقمن القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا: يا للحمية يا للأنفة يا للغيرة على العرض! فهذا لا يكون! وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون) .
ثم يقول: (والنتيجة التي نريدها قد حصلت وهي أن سلوكنا مسلك الأوربيين حذو القذة (303) بالقذة في هذه المسألة هذا له توابع ولوازم لابد أن نقبلها ولا يبقى معها محل لكلمة: " أعوذ بالله " كلا! لا يوجد هناك " أعوذ بالله " بل تلك مدنية وهذه مدنية تلك نظرية وهذه نظرية وعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: أعوذ بالله) اهـ.
وقد كان الذي قاله " شكيب أرسلان " وتوقعه في سنة 1925 صحيحاً
__________
= 80 تاريخ 9 شوال 1353 هـ 14 يناير 1935 م ص (45) .
(303) القذة: ريش السهم، والحذو: القطع والتقدير على مثال أي كما تقدر كل واحدة منها على صاحبتها وتقطع(1/163)
تماماً فلم تمض عليه ثلاث عشرة سنة حتى ارتفع صوت يقول تحت عنوان:
" بعد السفور " (304) :
(إننا لم نخط بعد الخطوة الحاسمة في سبيل تطبيق روح الحضارة العصرية على عاداتنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا إن نساءنا العصريات المتعلمات اللواتي يطالعن الصحف ويقرأن القصص ويغشين المسارح ودور السينما ما يزال يحال بينهن وبين الظهور في المجتمعات البيتية أمام رجل غريب فنحن قد سلمنا بمبدأ تعليم نسائنا ولكنا لم نسلم بعد بقدرة هؤلاء النساء على الانتظام في حفل كبير يضم عدداً من أفراد الجنسين ويتألف منه مجتمع مصري مختلط أشبه بالمجتمعات الأوربية التي نشهدها في مصر ونحسد الأجانب عليها) .
ويزعم الكاتب الكاثوليكي أن ذلك راجع إلى أن (ثقة الرجل المصري بالرجل المصري لا تزال معدومة)
ثم يقول: (وقد ترتب على ذلك أنك أصبحت ترى امرأة صديقك السافرة في الشارع وفي المحل التجاري وفي دار المسرح أو السينما ثم لا تستطيع أن تراها في بيتها لتتفهم حقيقة شخصيتها وتعرف كيف تعيش؟ وكيف تشعر؟ وكيف تفكر؟ أصبحت تبصرها في الحياة العامة وتعجب بها ولكنك متى أردت تهذيب عواطفك وصقل إحساساتك ومشاعرك بالجلوس إليها والتحدث معها وإشراكها في المسائل التي تشغل عقلك وعقل مواطنيك حيل بينك وبينها واتهمت بفساد النية وسوء القصد) .
ثم يزعم الكاتب في مقاله أن (المجتمع المختلط هو الذي يقرر مسافة الخلف بين الجنسين ويقيم علاقات بين الرجل والمرأة على قاعدة التفاهم الفكري العاطفي) .
__________
(304) مقال في (الهلال) بعدد أول يناير 1938 - 29 شوال 1356 هـ ص (268 - 272) للصحافي
الكاثوليكي إبراهيم المصري - انظر جريدة " أخبار اليوم " تاريخ 30 / 10 / 1980 م ص (11) .(1/164)
ثم يدعو الكاتب المصريين لأن يطردوا من عقولهم: (الاعتقاد الشرقي الشائع بأن الرجل والمرأة متى التقيا فلابد أن ينهض الشيطان بينهما وينفث في نفسيهما سموم الرذيلة والشر (305) هذا هو سر تأخرنا وهو بقايا عصور الجهل والخوف والظلام) أهـ كلامه.
شعر:
من عذيري من معشر هجروا العقل وحادوا عن طرقه المستقيمة
لا يرون الإنسان قد نال حظاً من صلاح حتى يكون بهيمة (306)
وإذا كانت هذه أدنى ثمرات السفور فلننظر إلى أقصى ثمراته المريرة لندرك الهدف الذي يدعو إليه (المتحررون) : جاء في مجلة " صباح الخير " ما نصه:
(إن نظام الزواج في وطننا العربي هو نظام مضحك يدعو إلى السخرية: مهر وعقد.. مظاهر جوفاء تقتل فيها الإرادة وتقتل المشاعر الإنسانية) (307) اهـ
والآن يا أختي المسلمة:
هل أدركت مدى فطنة فقهائنا لما حرموا السفور سداً للذريعة؟
وهل لك أن تسمعي هذه النصيحة من شيخ ناصح أمين (308) :
(إن بداية السفور والتبرج الجاهلي الذي عليه جل نساء المؤمنين اليوم في ديار المسلمين إنما بدأ من كشف الوجه بإزالة البرقع والنقاب عنه حتى بات وأصبح
__________
(305) هذا من الكاتب النصراني زيادة في الكفر إذ إن الذي يشير إليه ليس اعتقاداً شرقياً ولكنه معنى حديث شريف
عن سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -.
(306) من شعر الإمام (ابن دقيق العيد) رحمه الله نقلاً عن " المجددون في الإسلام " ص (270) .
(307) نقلاً من " محاضرات الجامعة الإسلامية " موسم عام (1395 - 1396 هـ) ص (128) .
(308) هو فضيلة الداعية الإسلامي الكبير " أبو بكر جابر الجزائري " حفظه الله في رسالته: (إلى الفتاة السعودية والمسئولين عنها) ص (26) .(1/165)
وأضحى وظل وأمسى من المعلوم بالضرورة: أن من كشفت من الفتيات عن وجهها اليوم ستكشف غداً حتماً عن رأسها وصدرها وساقيها وحتى فخذيها ولا يجادل في هذا أو لا يسلمه إلا مغرور مخدوع أو مضلل مغرر مخادع يعمل لحساب الماسونية العالمية التي جعلت من أهدافها القضاء على الإسلام عقيدة وبيتاً ومجتمعاً ودولة.. وبناء على هذا فإن اليد التي
تحاول أن تحسر الحجاب عن وجه فتياتنا اليوم ينبغي الضرب عليها وإن اللسان الذي يدعو فتاتنا إلى نزع الحجاب بإسقاط ملاءتها ينبغي أن يقطع)
ويقول فضيلته محذراً من المغررين (309) :
(إنهم اليوم لا يطلبون منك أكثر من كشف وجهك وبحجة أن كشف الوجه مختلف فيه بين أهل العلم في كونه الزينة التي يجب أن تخفيها المسلمة أو من غير الزينة مما لا يجب عليها إخفاؤها.. غير إنهم يعلمون علم اليقين - بحكم التجارب الطويلة العديدة - أنك يوم تكشفين عن وجهك ويذهب ماؤه وحياؤه ستكشفين لهم عما عدا ذلك) اهـ.
وصدق الشيخ " سعيد الجابي " رحمه الله إذ قال:
رفع النقاب وسيلة إن حبذت ضمت إليها للفجور وسائل
فالاختلاط فمرقص فتواعد فالإجتماع فخلوة فتواصل (310)
وصدق الشاعر " أحمد شوقي " حين قال:
صداح يا ملك الكنار ويا أمير البلبل
إن طرت عن كنفي وقعت على النسور الجهل
حرصي عليك هوى ومن يحرز ثميناً يبخل (311)
__________
(309) السابق ص (17 - 18) .
(310) (فقه النظر في الإسلام) ص (74) .
(311) (مهلاً يا صاحبة القوارير) ص (29) .(1/166)
وقال آخر:
يا أخت سابغة البراقع في الأباطح والوعور
قري فديتك حيث لا تؤذيك لا فحة الهجير
ودعي الجنوح إلى السفور وخففي ألم العشير
النمر لو لزم الشرى (312) من كان يطمع في النمور؟
والطير تأخذها شباك الصيد في ترك الوكور (313)
عبرة
والآن فلنتوقف - إلى حين - لنطالع هذه (العبرة) كما حكاها الكاتب الأديب
" المنفلوطي " في مقال له في مسألة الحجاب (314) قال رحمه الله:
{ذهب فلان إلى أوربا وما ننكر من أمره شيئاً فلبث فيها بضع سنين ثم عاد وما بقي مما كنا نعرف منه شيء: ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر وعاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها وعلى السماء وخالقها وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها وذهب بنفس مملوءة حكمة ورأياً وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يملأه إلا الهواء المتردد وذهب وما على الأرض أحب إليه من دينه ووطنه وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما وكنت أرى أن هذه الصور الغريبة التي يتراءى بها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين
__________
(312) الشرى: كعلي، الجبل، وطريق في سلمى كثيرة الأسد، وجبيل بتهامة كثيرة السباع - انظر " القاموس
المحيط " (4 / 350) .
(313) (فقه النظر في الإسلام) ص (49) .
(314) (العبرات) للمنفلوطي ص (49) .(1/167)
من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تنصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء وأن مكان المدنية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة إذا انحرف عنها زال خياله منها فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق فلبسته على علاته وفاء بعهده السابق ورجاء لغده المنتظر متحملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره ما لا طاقة بمثلي باحتمال مثله حتى جاء في ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب فكانت آخر عهدي به دخلت عليه فوجدته واجماً مكتئباً فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء فسألته ما باله؟
...
فقال: " ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ولا أدري مصير أمري فيه " قلت: " وأي امرأة تريد؟ "
قال: " تلك التي يسميها الناس زوجتي وأنا أسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي " قلت: " إنك كثير الآمال يا سيدي ففي أي آمالك تَحَدَّث؟ "
قال: " ليس لي في الحياة إلا أمل واحد وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد "
قلت: " ذلك ما لا تملكه ولا أرى لك فيه " قال: " إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي ويتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بين نزعه عن وجوه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهم إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي (315) القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وأعظمته وخيل إليها أنني جئتها بإحدى النكبات العظام والرزايا الجسام وزعمت إنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياءاً منهن وخجلاً ولا خجل
__________
(315) أي القديم، نسبة إلى عاد.(1/168)
هناك ولا حياء ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن حتى يأتيهن الموت فينقلهن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة فلابد لي أن أبلغ أمنيتي وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين إما بكسره أو بشفائه "
فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً ونظرت إليه نظرة الراحم الرائي:
" أعالم أنت أيها الصديق ما تقول؟ "
قال: " نعم أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت "
قلت: " هل تأذن لي أن أقول لك أنك عشت فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهن ونسائهن فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه؟ "
قال: " ربما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد؟ " قلت: " أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يلم به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك "
قال: " إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال وهي من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع "
فداخلني ما لم أملك نفسي منه وقلت له: " تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها
الضعفاء والثلمة التي يعثر بها في زوايا رؤوسكم فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم الشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلما نجدها والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر والعفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها وقلما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة "
قال: " أتنكر وجود العفة بين الناس؟ "
قلت: " لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة بين البله والضعفاء والمتكلفين ولكنني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا(1/169)
سقط بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم: أفي جو المتعلمين وفيهم من سئل مرة: " لِمَ لم تتزوج؟ فأجاب: نساء البلد جميعاً نسائي " أم في جو الطلبة وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه حياءاً وخجلاً إن خلت محفظته يوماً من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته وأقفرت من رسائل الحب والغرام أم في جو الرعاع والغوغاء وكثير منهم يدخل البيت خادماً ذليلاً ويخرج صهراً كريماً؟ وبعد فما هذا الولع بقصة المرأة والتمطق (316) بحديثها والقيام والقعود بأمرها وأمر حجابها وسفورها وحريتها وأسرها كأنما قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز أبواب الفخر أمامكم كثيرة فاطرقوا أيها شئتم ودعوا هذا الباب موصداً فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلاً عظيماً وشقاءاً أروني رجلاً واحداً منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواها بين يدي رجل ترضاه إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه وتطلبون عندها ما لا تعفونه عند أنفسكم فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعدها أم تخسرونها وما أحسبكم إلا خاسرين ما شكت المرأة إليكم ظلماً ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها فما دخولكم بينها وبين نفسها وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟
إنها لا تشكوا إلا فضولكم وإسفافكم ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيث سارت وأينما حلت حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلاً إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها فأوصدت من دونها بابها وأسبلت أستارها
__________
(316) التمطق: التصويت باللسان عند استطابة الطعام.(1/170)
تبرماً بكم وفراراً من فضولكم فواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها! إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجاً وسفوراً ويتدفق خلاعة واستهتاراً وتودون بجدع الأنف لو
ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقباً والعفة تسيل منه قطرة قطرة حتى تقبض وتكرش ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشها ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها أو وقفة تقفها بين يدي ربها أو عطفة تعطفها على ولدها أو جلسة تجلسها إلى جارتها تبثها ذات نفسها
وتستبثها سريرة قلبها وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عن رضاهما وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام فتحب زوجها لأنه زوجها كما تحب ولدها لأنه ولدها فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب فقلتم لها:
" إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من النظر لنفسك فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك " فازدرت أباها وتمردت على زوجها وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها وقلتم لها:
" لابد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك " فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها فلم يزد عمر سعادتها عن يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم وقلتم لها:
" إن الحب أساس الزواج " فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فغنيت به عنه وقلتم لها:
" أن سعادة المرأة في(1/171)
حياتها أن يكون زوجها عشيقها " وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق فأصبحت كل يوم تبغي زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت وقلتم لها:
" لابد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شئون بيتك " فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شئون بيتها وقلتم لها:
" نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا وشعورها شعورنا " فرأت أن لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ومباهج انظاركم لتتجمل لكم بما تحبون فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات والضحكات اللاعبات والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن وتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم وتنزل عند محبتكم ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما تعرض الأمة نفسها في سوق الرقيق فأعرضتم عنها ونبوتم عنها وقلتم لها:
" إنا لا نتزوج النساء العاهرات " لأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم فرجعت أدراجها خائبة منكسرة وقد أباها الخليع وترفع عنها المحتشم فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت كذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعاً وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها فتعاجز الفريقان وأظلم الفضاء بينهما وأصبحت البيوت كالأديرة (317) لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين ونساء عانسات.
ذلك بكاؤكم على الرمأة أيها الراحمون وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها نحن نعلم كما تعلمون أن المرأة في حاجة إلى العلم فليهذبها أبوها وأخوها أنفع لها من العلم (318) وإلى اختيار الزوج العادل الرحيم فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج
عشرة نسائهم وإلى النور والهواء تبرز إليهما وتتمتع فيهما برؤية الحياة
__________
(217) الأديرة جمع دير.
(218) يعني علم ما لم يكون ضرورياً كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(1/172)
فيأذن لها أولياؤها بذلك وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحاتها كما يرافق الشاه راعيها خوفاً عليها من الذئاب فإن عجزنا أن نأخذ الآباء والأزواج بذلك فلننفض أيدينا من الأمة جميعاً نسائها ورجالها فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها.
أعجب ما أعجب له من شئونكم أنكم تعلمتم كل شيء إلا شيئاً واحداً هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء وهو أن لكل تربة نباتاً ينبت فيها ولكل نبات زمن ينمو فيه رأيتم العلماء في أوربا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء ... ورأيتم الرجل الأوربي حراً مطلقاً يفعل ما يشاء ويعيش كما يريد لأنه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها فرأيتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيف الإرادة والعزيمة يعيش في حياته الأدبية في رأس منحدر زلق إن زلت به قدمه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك حتى يبلغ الهوة ويتردى في قرارتها ورأيتم الزوج الأوربي الذي أطفأت بيئته غيرته وزالت خشونة نفسه وحرشتها يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء وتصاحب من تشاء وتخلو بمن تشاء فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد فأردتم من الرجل الشرقي الغيور المتلهب أن يقف موقفه ويستمسك استمساكه ورأيتم المرأة الأوربية الجريئة المتفتية تستطيع في كثير من مواقفها مع الرجال أن تحتفظ بنفسها وكرامتها (*) فأردتم من المرأة المصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها وتحتفظ بنفسها احتفاظها وكل نبات يزرع في أرض
__________
(*) في هذه العبارة نظر، إذ ليست علة منع الاختلاط سذاجة المرأة وعدم جرأتها بحيث يقال إذا زالت العلة زال
المعلول فيباح الاختلاط للمرأة الجريئة المتفتية ويمنع للساذجة الضعيفة وهذا باطل لمخالفته نصوص
الشريعة وقواعدها وقد فصَّلت ذلك في " القسم الثالث " من هذا الكتاب فانظره ص (51: 60) .(1/173)
غير أرضه أو في ساعة غير ساعته إما أن تأباه الأرض فتلفظه وإما أن يستنبت فيها فيفسدها.
إنا نذرع إليكم باسم ... الحرمة الدينية أن تتركوا تلك البقية من نساء الأمة آمنات مطمئنات في بيوتهن ولا تزعجوهن بأحلامكم وآمالكم كما أزعجتم من قبلهن فكل جرح
من جروح الأمة له دواء إلا جرح الشرف فإن أبيتم إلا أن تفعلوا فانظروا بأنفسكم قليلاً ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم سعداء آمنين ".
فما زاد الفتى أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية وقال:
" تلك حماقات إلا لنعالجها فلنصطبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها "
وقلت له: " لك أمرك في نفسك وأهلك فاصنع بهما ما تشاء وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أن اختلف إلى بيتك بعد اليوم إبقاءً عليك وعلى نفسي لأن الساعة التي ينفرج لي فها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك تقتلني حياءً وخجلاً ثم انصرفت وكان هذا فراق ما بيني وبينه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله وأن بيته أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابه فذرفت عيني دمعة لا اعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المزال أو الحزن على الصديق المفقود.
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره ولا يزورني ولا ألقاه في طريقه إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر ثم أنطلق في سبيلي.
وإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس - وقد مضى الشطر الأول من الليل - إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية الذاهل الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو(1/174)
يحرسه أو يقتاده فأهمني أمره ودنوت منه فسألته عن شأنه فقال:
" لا علم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي علني أحتاج بعض المعونة فيما قد يعرض لي هناك من الشئون؟ "
قلت: " لا أحب إلي من ذلك " ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً ثم شعرت كأنه يزور في نفسه كلاماً يريد أن يفضي به إلي فيمنعه الخجل والحياء ففاتحته الحديث وقلت له: " ألا تستطيع أن تذكر لهذه الدعوة سبباً؟ " فنظر إلي نظرة حائرة
وقال: " إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث فقد رابني من أمرها أنها لم تعد إلى المنزل حتى الساعة وما كان ذلك شأنها من قبل "
قلت: " أما كان يصحبها أحد؟ " قال: " لا "
قلت: " ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه؟ " قال: " لا "
قلت: " ومم تخاف عليها؟ " قال: " لا أخاف شيئاً سوى أني أعلم أنها امرأة غيور حمقاء فلعل بعض الناس حاول العبث في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها إلى مخفر الشرطة "
وكنا وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور فوقفنا بين يديه فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمها ثم استدنى الفتى إليه وقال له:
" يسوءني أن أقول لك يا سيدي إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة برجل وامرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لها بك صلة فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها فإن كانت صادقة أذنا لها بالانصراف معك إكراماً لك وإبقاءً على شرفك وإلا فهي امرأة عاهرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات وها هما وراءك فانظرهما " وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى
فالتفت وراءه فإذا المرأة زوجته وإذا الرجل أحد أصدقائه فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت(1/175)
نوافذه وأبوابه عيوناً وآذاناً ثم سقط مكانه مغشياً عليه فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل وأطلق سبيل صاحبها ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله "
ثم ذكر السيد المنفلوطي رحمه الله وحاصلها أن الفتى مات كمداً وحسرة من هذه الفضيحة التي اختتم بها حياته ...(1/176)
" طه حسين " عميد التغريب في الفكر المعاصر دوره في " تحرير المرأة " وجرائمه في حق الإسلام (319)
في يناير 1950 م:
حمل " حسين سري " (رئيس الديوان) إلى الملك " فاروق " مشروع التشكيل الوزاري الذي سلمه إليه " مصطفى النحاس " رئيس حزب الوفد أخذ الملك في مراجعته ولما بلغ اسم " طه حسين " قال فاروق:
(مستحيل مستحيل أنتم لا تعرفون خطورة هذا الرجل)
وقال أيضاً:
(من المحال أن أوافق على أن يكون وزيراً للمعارف بالذات مستحيل)
وتدخل " كريم ثابت " الصليبي وأقنع الملك بالعدول عن موقفه.
فمن هو ذلك الرجل الذي أشفق الطاغية " فاروق " من خطره؟
لعل أغلب أبناء هذا الجيل طرق أسماعهم اسم " طه حسين " الموصوف زوراً بأنه
" عميد الأدب العربي " وتخيلوه - من جراء الدعاية المسلطة على عقولهم - الرجل المسلم الوقور تحيطه هالة من الشهرة المدوية والتاريخ الحافل بالأمجاد.
إن من الواجب على أبناء اليقظة الإسلامية المعاصرة أن يمحصوا حقيقة ذلك
__________
(319) استفدت فقرات هذا الفصل من (طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام) للأستاذ " أنور الجندي "
بتصرف وانظر: (محاكمة فكر طه حسين) له أيضاً.(1/177)
الرجل حتى لا ينخدعوا بالدعايات الكاذبة التي تملأ الآفاق مدحاً في " طه حسين " وتمجيداً له
في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام وداعية للتبعية المطلقة للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها.
إن " طه حسين " مسئول عن كثير من مظاهر الفساد والتحلل التي ينوء بها المجتمع اليوم ولقد خاض معركة بل معارك من أجل " تسميم " الآبار الإسلامية وتزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي معتمداً على سياسة المستشرقين في التحول من المهاجمة العلنية للإسلام إلى خداع المسلمين بتقديم طعم ناعم في أول الأبحاث ثم دس السم على مهل متستراً وراء دعوى " البحث العلمي " و " حرية الرأي "!! وليس المقام مقام
(الترجمة) لطه حسين ولكنه مقام التنبيه إلى دوره الخطير في محاربة الإسلام وتهديد حصونه من داخلها ثم سرد مقتطفات من أقواله وأفعاله التي تبين مدى حقده على هذا الدين وعلى هذه الأمة ولا أجد أصدق في التعبير عن ذلك من حكم أستاذه " التلمودي " المستشرق " ما سينيون " عليه.
فقد قال الدكتور زكي مبارك:
(وقف المستشرق ماسنيون يوم أديت امتحان الدكتوراة وقال: إنني حين أقرأ بحثاً لطه حسين أقول: " هذه بضاعتنا ردت إلينا ") (320) اهـ
وهاك أمثلة من أقواله الكفرية ومواقفه الإبليسية:
1 - فمن ذلك: تكذيبه القرآن المجيد وسائر الكتب السماوية في قوله:
(للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب ونحن مضطرون أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام
__________
(320) (زكي مبارك) للأستاذ " أنور الجندي " ص (132) .(1/178)
واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى) اهـ.
2 - ومن ذلك قوله: (أن القرآن المكي يمتاز بالهروب من المناقشة والخلو من
المنطق) تعالى الله عما يقول الملحدون علواً كبيراً.
3 - ومن ذلك قوله: (إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض كما
خرجت الجماعة نفسها)
(إن الدين حين يقول بوجود الله ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لا يعترف بهما العلم) اهـ.
4 - ومن ذلك قوله: (إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين وستبقى كذلك بل يجب أن تبقى وتقوى والمصري فرعوني قبل أن يكون عربياً ولا يطلب من مصر أن تتخلى عن فرعونيتها وإلا كان معنى ذلك: إهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام وانسي نفسك واتبعينا لا تطلبوا من مصر أكثر مما تستطيع أن تعطي مصر لن تدخل في وحدة عربية سواء كانت العاصمة القاهرة أم دمشق أم بغداد وأؤكد قول أحد الطلبة القائل:
" لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه ") اهـ.
5 - ومنه قوله في مجلة " كوكب الشرق " (12 أغسطس 1933) :
(لم أكن في اللجنة التي وضعت الدستور القديم ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد ولم يستشرني أولئك وهؤلاء في هذا النص الذي اشتمل عليه الدستوران جميعاً والذي يعلن أن للدولة المصرية ديناً رسمياً هو الإسلام ولو قد استشارني أولئك وهؤلاء لطلبت إليهم أن يتدبروا وأن يتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور) اهـ.
6 - ومن ذلك أنه دعا طلاب كلية الآداب إلى اقتحام القرآن في جرأة ونقده بوصفه كتاباً أدبياً يقال فيه: هذا حسن وهذا (كذا) تعالى الله عن(1/179)
زندقته علواً كبيراً فقد حكى عنه
(عبد الحميد سعيد) قوله:
(ليس القرآن إلا كتاباً ككل الكتب الخاضعة للنقد فيجب أن يجري عليه ما يجري عليها والعلم يحتم عليكم أن تصرفوا النظر نهائياً عن قداسته التي تتصورونها وأن تعتبروه كتاباً عادياً فتقولوا فيه كلمتكم ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شيء من هذا الكتاب ويبين ما يأخذه عليه) (*) اهـ.
7 - ومن ذلك: حملته الشديدة على الأزهر الشريف وعلمائه الأفاضل ورميهم جميعاً بالجمود وحثه على:
(استئصال هذا الجمود ووقاية الأجيال الحاضرة والمقبلة من شره) على حد تعبيره.
8 - ومن ذلك أيضاً تشجيعه لحملة (محمود أبو رية) على السنة الشريفة ومن ذلك أيضاً تأييده لـ (عبد الحميد بخيت) حين دعا إلى الإفطار في رمضان وثارت عليه ثائرة علماء المسلمين.
9 - ومنه: مطالبته بإلغاء التعليم الأزهري وتحويل الأزهر إلى جامعة أكاديمية للدراسات الإسلامية وقد أطلق عليها (الخطوة الثانية) وكانت " الخطوة الأولى " هي إلغاء المحاكم الشرعية التي هلل لها كثيراً.
10 - قوله: (خضع المصريون لضروب من البغي والعدوان جاءتهم من الفرس والرومان والعرب أيضاً) اهـ.
11 - ومن ذلك أنه أعاد خلط الإسرائيليات والأساطير إلى السيرة النبوية بعد أن نقاها العلماء المسلمون منها والتزيد في هذه الإسرائيليات والتوسع فيها.
12 - ومن ذلك: حملته على الصحابة رضي الله عنهم وعلى الرعيل الأول من الصفوة المسلمة وتشبيههم بالسياسيين المحترفين الطامعين في
__________
(*) من " طه حسين " لأنور الجندي ص (229) .(1/180)
السلطان - وحاشاهم رضي الله عنهم - وذلك في محاولة منه لإزالة ذلك التقدير الكريم الذي يكنه المؤرخون المسلمون لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
13 - ومن ذلك: عمله على إعادة طبع رسائل " إخوان الصفا " وتقديمها بمقدمة ضخمة في محاولة إحياء هذا الفكر الباطني المجوسي المدمر وإحياؤه شعر المجون والفسق والحديث عن شعرائهما بهالة من التكريم كأبي نواس وبشار وغيرهم وكذا ترجمة القصص الفرنسي الإباحي الماجن وطعنه في ابن خلدون والمتنبي وغيرهما.
14 - ومن ذلك قوله: (أريد أن أدرس الأدب العربي كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان والنبات ومالي أدرس الأدب لأقصر حياتي على مدح أهل السنة وذم المعتزلة من الذي يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشراً للإسلام أو هادماً للإلحاد) اهـ.
15 - ومنه قوله: (إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمناً وكافراً في وقت واحد مؤمناً بضميره كافراً بعقله فإن الضمير يسكن إلى الشيء ويطمئن إليه فيؤمن به أما العقل فينقض ويبدل ويفكر أو يعيد النظر من جديد فيهدم ويبني ويبني ويهدم) اهـ.
16 - ومن ذلك قوله: (علينا أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً فنأخذ الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب) اهـ.
17 - ومن ذلك قوله في تصوير سر إعجابه " بأندريه جيد ": (لأنه شخصية متمردة بأوسع معاني الكلمة وأدقها متمردة على العرف الأدبي وعلى القوانين الأخلاقية وعلى النظام الاجتماعي وعلى النظام السياسي وعلى(1/181)
أصول الدين)
وذكر أنه يحب " أندريه جيد " ويترسم خطاه ويصور نفسه من خلال شخصيته.
18 - ومن ذلك: وصفه لوحشية المستعمرين الفرنسيين وقسوتهم في معاملة المسلمين المغاربة: بأنها (معانة ومشقة في سبيل بسط الحضارة الفرنسية والمدنية على تلك الشعوب المتوحشة التي ترفض التقدم والاستنارة) .
19 - ومن ذلك: استقدامه لبعض المستشرقين المحاربين لله ورسوله الطاعنين في القرآن الكريم لإلقاء محاضرات حول الإسلام في الجامعة المصرية لتشكيك الطلاب في القرآن والإسلام.
20 - ومن ذلك: تشجيعه تيار التنصير في الجامعة وحينما اكتشف هذا المخطط التنصيري قال: (ما يضر الإسلام أن ينقص واحداً أو تزيد المسيحية واحداً) وعندما تكشف أن هناك كتباً مقررة في قسم اللغة الإنكليزية تتضمن هجوماً على الإسلام ورسوله " قال: (إن الإسلام قوي ولا يتأثر ببعض الآراء) واكتفى بهذا في حين ترك للأساتذة الإنكليز مطلق الحرية في هذا العمل.
21 - ثم عمد " طه حسين " إلى إخراج كل من له رأي أو أصالة من كلية الآداب واستبقى أعوانه الذين سار بهم إلى الطريق الذي رسمه وعانه على ذلك " لطفي السيد " الذي كان مديراً للجامعة وفي نفس الوقت تابعاً لخطط " طه حسين " وخاصة في خطة إنشاء معهد " التمثيل والرقص الإيقاعي " ودعوة الطالبات إلى الاختلاط وتحريضهن على ذلك ومعارضة الجبهة المسلمة التي حاولت أن تدعو إلى الدين والأخلاق وهكذا تحولت الجامعة إلى مجتمع متحلل من قيود الأخلاق الإسلامية فأقيمت حفلات رسمية في دار الأوبرا خليت لها الراقصات المحترفات ومن ثم عرفت(1/182)
حفلات الرقص والسمر في البيوت مما قصت أخباره بعض الخريجات وغيرها والرحلات المشتركة وما كان يجري في اتحاد الجامعة ورابطة الفكر العالمي من محاضرات مادية
إلحادية ومقطوعات فرنسية على البيانو وروايات تمثيلية تقوم على الحب والغرام.. وقد وصل الأمر إلى حد أن أحد الأساتذة " الأجانب " ضاق ذرعاً بذلك الفساد فكتب يقول:
(إنه خليق بالجامعة أن تمثل المثل الأعلى - " يعني للطلاب " - لا أن تمثل فيهم دور السكير) !.
وكان " طه حسين " يرعى ذلك ويقول: (إن هذا النوع من الحياة الحديثة يمضي عليه وقت طويل في مصر حتى يغير العقلية المصرية تغييراً كبيراً) .
22 - وتتابعت خطوات " طه حسين " في كلية الآداب في سبيل خطته فأقام حفلاً لتكريم " رينان " الفيلسوف الفرنسي الذي هاجم الإسلام أعنف هجوم ورمى المسلمين والعرب بكل نقيصة في آدابهم وفكرهم وكذلك جعل " طه حسين " الشعار الفرعوني هو شعار الجامعة وقد لقي من ذلك كله معارضة شديدة وخصومة واسعة وصلت إلى كل مكان في البلاد العربية وأرسل إليه الأستاذ " توفيق الفكيكي " من العراق برقية قال فيها: " إن شعاركم الفرعوني سيكسبكم الشنار وستبقى أرض الكنانة وطن الإسلام
والعروبة برغم الفرعونية المندحرة ".
23 - وذكرت مجلة " النهضة الفكرية " في عددها الصادر في 7
نوفمبر 1932 م:
(أن الدكتور " طه " تعمد في إحدى كنائس فرنسا وانسلخ من الإسلام من سنين في
سبيل شهوة ذاتية) (321) .
__________
(321) انظر ما قيل حول تنصره في " طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام " للأستاذ أنور الجندي
ص (73 - 74) .(1/183)
صراع حركة اليقظة مع "طه حسين"
ولقد هوجم " طه حسين " منذ اليوم الأول إلى اليوم الأخير لم تتوقف حركة اليقظة عن متابعته وكشف شبهاته وتزييف آرائه ودحر مخططه ولكنه مع كل ذلك كان يقبض الثمن ويكافأ بكل إصرار على خدماته لأعداء الإسلام فلقد ظل يترقى في المناصب رغم الحملات التي شنها عليه علماء الإسلام في كافة البقاع الإسلامية ظل يترقى في مخطط مرسوم من أستاذ إلى عميد إلى مدير جامعة إلى مستشار فني إلى وزير وظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته مشرفاً على اللجنة الثقافية في الجامعة العربية ورئيساً لمجمع اللغة العربية وله نفوذه الواسع في وزارة المعارف والجامعات وذلك مصداق قول " هاملتون جب " المستشرق:
(سواء قوبلت آراء " طه حسين " بالموافقة أم لم تقابل فلابد أن يقضي نفوذه الواسع الذي يتمتع به إلى توطيد المبادئ التي يدعو إليها) اهـ.
وقال المستشرق " كاممفاير ":
(إن المحاولة الجريئة التي قام بها " طه حسين " ومن يشايعه في الرأي لتخليص دراسة العربية من شباك العلوم الدينية هي حركة لا يمكن تحديد آثارها على مستقبل الإسلام) اهـ
بل قال هو عن نفسه: (إنني أفكر بالفرنسية وأكتب بالعربية) اهـ.
وفي تقرير خطير يصف المكر اليهودي الأمريكي لإبادة الجيل المسلم وبصورة مكشوفة يطالب التقري بوجوب الإفادة من آراء " طه حسين " ومؤلفاته.
{وقد دعا هذا التقرير إلى وجوب تأليف " لجنة مكافحة الإسلام " تنبع من وكالة الأمن القومي الأمريكي وقد استعانت هذه اللجنة بعدة شخصيات منها نائب ما يسمى بـ (البابا المسئول عن التبشير مع الجمعيات الدينية كما استعانت بتقرير الإدارة(1/184)
البريطانية وغيرها من تقارير الدول الاستعمارية في الغرب والشرق.
وقد جاء في توصيات اللجنة السابقة بالحرف الواحد:
" وجوب تسليط الدعاية والإعلام على مجددي الدين المزعومين
كطه حسين وأمثاله "} (322) اهـ.
هذا وقال الأستاذ الشيخ " عبد ربه مفتاح " من علماء الأزهر في مقالة
نشرها الكوكب مخاطباً " طه حسين ":
(وكيف تزعم أيها الدكتور أن " بعض " العلماء أثار هذا الأمر- أمر كفرك - وهاأنا ذا أصرح لك - والتبعة في ذلك علي وحدي - بأن العلماء أجمعين وعلى بكرة أبيهم يحكمون عليك بالكفر وبالكفر الصريح الذي لا تأويل فيه ولا تجوز وأتحداك وأطلب منك بإلحاح أو رجاء أن تدلني على واحد منهم " وواحد فقط " يحكم عليك بالفسوق والعصيان دون الكفر أجل إني وأنا من بينهم أتهمك بالكفر وأتحمل تبعة هذا الاتهام وعليك تبرئة نفسك من هذا الاتهام الشائن والمطالبة بما لك من حقوق نحوي) (323) اهـ.
وأخيراً: فهذه لمحة خاطفة عن " طه حسين " الرجل الذي تشهد كتبه بأنه لم يكن إلا
بوقاً من أبواق الغرب وواحداً من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير يروج
لثقافاته ويعظمها ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم (ويوطد دعائم الود
والتفاهم بين الحمار وراكبه وهي دعائم تفيد الراكب دائماً ولا تفيد الحمار!) (*) .
__________
(322) (طه حسين في ميزان العلماء والأدباء) للأستاذ محمود مهدي الاستانبولي، نقلاً عن مجلة (حضارة الإسلام) ع: (4420) بين 1391 (1919) .
(323) السابق - ص (552) .
(*) انظر: (حصوننا مهددة من داخلها) ص (101) الطبعة السابعة.(1/185)
كيف واجه المسلمون مؤامرات " طه حسين "؟
أصر (طه حسين) على استبقاء كتب (برنارد شو) وغيره التي تهاجم الإسلام في
كلية الآداب بحجة أن الإسلام قوي ولن يتأثر بهذا الرأي وذاك.
سرت عند ذلك روح الغيرة الإسلامية عند الطلاب فقاومت مؤامرات (طه حسين) على
الإسلام وحاصرته في مكتبه بكلية الآداب وكادت أن تفتك به لولا أن أنقذه بعض الخدم
فهرب - واعتكف كمقدمة لخروجه من كلية الآداب.
وأحرق الشباب العربي في الشام كتب (طه حسين) في ميدان عام في العاصمة دمشق
ووصفه العلماء بالإلحاد والزندقة.
وقام بعض تلامذته الذين استيقظ فيهم الشعور بالكرامة والعزة الإسلامية وكشفوا حقيقته
بفضح أهدافه وكشف تزويره وسرقته من كتب المؤلفين الغربيين (324) .
وتصدى له عشرات العلماء والدعاة والمفكرين لعدوانه المتكرر على حرمات
الإسلام وفضحوا مؤامراته على الإسلام ومن ذلك المقالة التالية:
بين " حسن البنا " و " طه حسين ":
فقد عقد الأستاذ " حسن البنا " رحمه الله فصلاً في مجلة " التعارف " تحت عنوان:
" إذا كان هذا (325) صحيحاً يا دكتور فقد أتفقنا "
وكان مما جاء فيه بصدد قضية " الاختلاط ":
(وهل من الدعوة الإسلامية يا دكتور أن تخلط بين الفتيان والفتيات هذا الخلط
__________
(324) انظر " طه حسين " للأستاذ أنور الجندي ص (79) .
(325) يقصد الشيخ حسن البنا رحمه الله بكلمة (هذا) الإشارة إلى قول " طه حسين " في حفل تكريم أقيم له:
(وأتمني أن يقيض الله للإسلام من يدافع عنه كما أدافع أنا عنه وأن ينشره ويحببه للناس كما أبشر به أنا
وكما أحبب مبادئه للناس) اهـ! وانظر " طه حسين " للأستاذ أنور الجندي ص (85 - 89) .(1/186)
في كلية الآداب فتحذو حذوها غيرها من الكليات وتبوء أنت بإثم ذلك كله؟ وتريد
للفتيات في صراحة هذا الاختلاط وتحثهن عليه وتدعوهن إليه ولا تقل إن هذا من عمل
غيرك فيداك أوكتا وفوك نفخ وما تحمس لهذا ودعا إليه وحمل لواءه واستخدم نفوذه في
تحقيقه أحد كما فعلت ذلك أنت ولعلك تعتبر هذا من مآثرك ومفاخرك ولكني أخالفك يا
دكتور وأصارحك بأن هذا الاختلاط ليس من الإسلام وقد رأينا - وسترى - ما كان
وما سيكون له من آثار) اهـ.
وقالت (درية شفيق) :
(وفي سنة 1932 ظهرت صورة للدكتور " طه حسين " بك في نادي الجامعة وعلى
يمينه ويساره الطلبة والطالبات جلوساً يتناولون الشاي وقامت القيامة لهذه الصورة
البريئة التي تضرب المثل للأبوة في وجود العميد و " الإخوة "! في جلسة الطلبة
والطالبات واتخذت الصورة تكأة يتخلص بها الرجعيون من (طه حسين) و (لطفي
السيد) ووقف الرجعيون في مجلس النواب يحملون على الجامعة ورجالها فكرة تعليم
البنات فيها ويرون ذلك فضيحة من الفضائح يجب أن تحول دونها الحكومة) (326) اهـ.
وفي غرة المحرم 1356 هـ (الموافق 14 مارس 1937 م) زحف موكب كبير من
طلبة الجامعة المصرية والأزهر ودار العلوم يزيد على أربعة آلاف نسمة ومن خلفهم
أضعافهم من ولاة أمور الطلاب واتجه الموكب إلى قصر الأمير (محمد علي) رئيس
مجلس الوصايا مطالبين بتعميم التعليم الديني والتربية الإسلامية في جميع أدوار التعليم
إلى نهاية درجته العليا وفصل الشابات عن الشبان في الجامعة المصرية كما هو الحال
في أدوار التعليم التي قبل الجامعة والاهتمام بالتربية بقدر الاهتمام بالتعليم) (327) اهـ.
__________
(326) من " تطور النهضة النسائية في مصر " ص (72) .
(327) " إهابة " للكاتبة " عزيزة عباس عصفور " ص (128، 133) ، وقد كان لهذه المطالب صدى واسع لدى المؤيدين والمعارضين وفي هذا الكتاب " إهابة " جمعت الكاتبة النشرات والمقالات التي باركت تلك الحركات الإسلامية الطلابية فراجعه إن شئت.(1/187)
وانبرى الأديب الكبير (مصطفى صادق الرافعي) يبارك مطالب شباب الجامعة التي تجاوبت بها أصداء البلاد ويرد على " طه حسين " وأشياعه تحت عنوان:
إلى شباب الجامعة (328)
(حياكم الله يا شباب الجامعة المصرية لقد كتبتم الكلمات التي تصرخ منها الشياطين
كلمات لو انتسبن لانتسبت كل واحدة منهن إلى آية مما أنزل به الوحي في كتاب الله.
وطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الآية {إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس} الأحزاب 33 وطلب الفصل بين الشباب والفتيات يرجع إلى هذه الآية:
{ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} الأحزاب 53 يريد الشباب مع حقيقة العلم حقيقة الدين
فإن العلم لا يعلم الصبر ولا الصدق ولا الذمة يريدون قوة النفس مع قوة العقل فإن
القانون الأدبي في الشعب لا يضعه العقل وحده ولا ينفذه وحده.
يريدون قوة العقيدة حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة ما تعلموه نفعهم ما اعتقدوه..
لا ... لا ... ، يا رجال الجامعة! إن كان هناك شيء اسمه حرية الفكر فليس هناك
شيء اسمه حرية الأخلاق.
وتقولون: أوربا وتقليد أوربا؟ ونحن نريد الشباب الذين يعملون لاستقلالنا لا
__________
(328) " وحي القلم " (3 / 184 - 188) تحت عنوان (قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر) ، وانظر " إهابة " لعزيزة عباس عصفور ص (78 - 80) .(1/188)
لخضوعنا لأوربا.
وتقولون: إن الجامعات ليست محل الدين ومن الذي يجهل أنها بهذا صارت محلاً
لفوضى الأخلاق؟
وتزعمون أن الشباب تعلموا ما يكفي من الدين في المدارس الابتدائية والثانوية فلا
حاجة إليه في الجامعة.
أفترون الإسلام دروساً ابتدائية وثانوية فقط؟ أم تريدونه شجرة تغرس هناك لتقلع
عندكم؟) اهـ.
بين " الزهاوي" و " ابن الخطيب ":
ومن فصول المعركة الهجمات التي شنها الشاعر العراقي الملحد المدعو " جميل صدقي
الزهاوي " (329) حيث أكثر من الطعن في الدين والتنفير من شرائعه حتى قال في
الحجاب:
أخر المسلمين عن أمم الأرض حجاب تشقى به المسلمات
فانبرى له الشيخ ابن الخطيب وعارضه قائلاً (330) :
بئس ما يدعي فلاسفة العصر من أن السفور فيه الحياة
__________
(329) والزهاوي هو القائل في حب الإنكليز أعداء الإسلام والتنفير من الترك المسلمين:
تبصر أيها العربي واترك ولاء الترك من قوم لئام
ووال الإنجليز رجال عدل وصدق في الفعال وفي الكلام
أحب الإ نكليز وأصطفيهم لمرض الإخاء في الأنام
جلوا في الملك ظلمة كل ظلم بعدل ضاء كالبدر التمام
(من ديوان الزهاوي) ط دار الدعوة - بيروت وله أشعار كثيرة في ذم الحجاب والتنفير منه ضربنا عنها صفحاً - عليه من الله ما يستحقه.
(330) (حقائق ثابتة في الإسلام) لابن الخطيب ص (81 - 86) .(1/189)
وهو حق إذ أن أسلافنا الأعراب من فرط ما يحبون ماتوا (331)
يا خليلي حدث عن الشرق قدماً حين كانت تعظم المعجزات
حين كان القرآن يرجى ويخشى والقوانين آية البينات
حين كان الحديث يتلى ولا يرويه إلا ذوو العقول الثقات
إننا في الزمان نلقى أناساً في التوضي علومهم قاصرات (332)
وهموا بعد يدعون علوماً أنكرتها عصورنا الخاليات (333)
ليت شعري ماذا يريدون منا وصنوف الأذى بنا محدقات
بنت مصرهاتي سفورك واغشي كل ناد ولتمل منك الجهات (334)
عرفي نفسك الغداة وطوفي لا تفتك الأسواق والحانات
ثم أمي مجالس القوم وادعيهم إلى حيث لا تمل الدعاة
علناً بالسفور نبني حصوناً شامخات بها ترد العداة
وعسانا نرى البرايا سجوداً لابن مصر وقد علاه الثبات (335)
__________
(331) تهكم بهذا الرأي الفاسد والقول المذموم فهو يصدقهم في ما زعموه من أن السفور سبب للحياة إشارة إلى أن من مات من أعفاء العرب حزناً وجوى لعجزهم عن رؤية من يحبون نظراً لأن الحجاب كان يحول دون ذلك فيموت العاشق أو يجن وفي هذا يقول قائلهم:
ما كان أغناني عن حب من من دونه الأستار والحجب
في حين أن السفور الممقوت قد خلط الحابل بالنابل وجعل العاشق متمكناً ومالكاً لمن يعشقها فانقشع (بفضل)
السفور الأسى والجوى وحل محلهما القرب والنجوى فعم بذلك الشر والبلوى واستوجبوا به غضب الجبار ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
(332) أي أنهم لا يتقنون الوضوء، أو: لا يتوضئون أصلاً لتركهم الصلاة.
(333) وذلك لأنهم مع جهلهم حتى بفقه الوضوء يتقمصون صور العلماء والأحبار ويتشدقون بالنصوص الشرعية بعد تحريفها وتأويلها مدعين أن السفور لا ينافي الدين ويأتون بفهم للنصوص سقيم لم يسبقهم إليه سلف ولا خلف.
(334) أمر قصد به التهكم والاستهزاء.
(335) أي تركه النوم والخمول.(1/190)
ولعمري قد بكى الدين حزناً حين قال الخطيب: يا سيدات (336)
ومن قذائف الحق في هذه المعركة:
ما قاله الأديب الشاعر "مصفى صادق الرافعي" رداً على دعاة "تحرير" المرأة:
أراك ترجين الذي لست أهله وما كل علم إبرة وثياب
كفى الزهر ما تندى به راحة الصبا وهل للندى بين السيول حساب
وما أحمق الشاة استفرت بظلفها إذا حسبت أن الشياه ذئاب
فحسبك نبلاً قالة الناس أنجبت وحسبك فخراً أن يصونك باب
لك القلب من زوج وولد ووالد وملك جميع العالمين رقاب
ولم تخلقي إلا نعيماً لبائس فمن ذا رأى أن النعيم عذاب
دعي عنك قوماً زاحمتهم نساؤهم فكانوا كما حف الشراب ذباب
تساووا فهذا بينهم مثل هذه وسيان معنى يافع وكعاب
وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب (237)
ومنها: ما كان من الشاعر الأستاذ (محمد حسن النجمي) وقد أطلع على رد
__________
(336) أي عندما غشيت النساء المحافل والمنتديات مختلطات بالرجال وصار الخطباء يفتتحون كلامهم بقولهم
(سيداتي سادتي) ، هذه العبارة كان (سعد) يحلم باليوم الذي تقال فيه إذ قال في حفل تكريم له أقامه تجار
العاصمة على أثر عودته من منفاه: (سادتي.. كنت أود أن أقول: " سيداتي وسادتي "،.. وأتعشم أن
يأتي يوم أرى فيه خطباءنا يبدأون بتلك البداية) اهـ من كتاب (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (133)
(337) ديوان الرافعي (2/1321هـ) (ربة الحسن والقلم) وللرافعي قصيدة أنشأها ينقد فيها تبرج النساء لاقت في
زمنه رواجاً عظيماً ووزع منها عشرة آلاف نسخة وذكر ذلك صديقه (أبورية) في كتابه (من رسائل الرافعي)
قال في مطلعها: دلالك في التبرج من ضلالك وما عاب الدلال سوى دلالك(1/191)
فضيلة الشيخ (مصطفى صبري) رحمه الله على السفوريين (338) فأنشأ القصيدة الآتية:
زعم السفور والاختلاط وسيلة للمجد قوم في المجانة أغرقوا
كذبوا متى كان التعرض للخنا شيئاً تعز به الشعوب وتسبق
أيكون كشف السوأتين فضيلة فيذيعها هذا الشباب الأحمق
ما بالهم والبنت قد فتنت بما قالوا وحل بها الجنون المطبق
وبدت مقاتل عرضها لرماته حتى لهم به الجبان الأخرق
والقول أصبح في الخروج لها فلا كَفٌ تكُف ولا رتاج يغلق
كرهوا الزواج بها وباتت سوقها بعد التبذل عندهم لا تنفق
ما خطبهم كلفوا بنزع حجابها وتكلفوا فيها البيان ونمقوا
وتناولوا بالضعف من حاجاتنا واللين ما هو بالصرامة أخلق
أغدت مشاكلنا الكبيرة كلها ذيل يجرجره السفور المطلق
أم أنهم ضلوا السبيل وغرهم ببريقه هذا الجديد المخلق
***
أشبابنا المرجو صيحة جازع أغرى بها هذا البلاء المحدق
ونصيحة يفدي برائع سرها لقوام نهضتنا محب مشفق
لا ترهفوا سمع الحفي لقالة أبداً بها بوم البطالة تنعق
لم يقصدوا خيراً بها لكنهم رأوا القوى يسيغها فتملقوا
ولربما أجترح القوى خطيئة فمضى الضعيف بمدحها يتشدق
قوا أهلكم ونفوسكم عاراً إذا لم تتقوه بغيركم لا يعلق
__________
(338) في كتابه (قولي في المرأة) .(1/192)
وتناولوا بالزجر حمراً كلما هيجت إلى متع الإباحة تنهق
ليس التمدن أن نرى روح الحيا بيد الخلاعة كل يوم تزهق
والبنت يدفعها براحته الهوى فتروح تهوى من تشاء وتعشق
لكنه العلم اهتدى بضيائه غرب البسيطة حين ضل المشرق
قال الشاعر " محمد إقبال " في قصيدته " جواب شكوى " (*) :
لقد سئم الهوى في البيد قيس ومل من الشكاية والعذاب
يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا احتجاب
يريد سفور وجه الحسن لما رأى وجه الغرام بلا نقاب
فهذا العهد أحرق كل غرس من الماضي وأغلق كل باب
قد أفنت صواعقه المغاني وعاثت في الجبال وفي الهضاب
***
هي النار الجديدة ليس يلقى لها حطب سوى المجد القديم
خذوا إيمان إبراهيم ينبت لكم في النار روضات النعيم
ويذكوا من دم الشهداء ورد سني العطر قدسي النسيم
ولعل مما يصور واقع (المرأة الجديدة) التي أنتجتها دعوة التحرير أصدق تصوير هذه
القصيدة لفضيلة الشيخ"عبد الفتاح عشماوي" كتبها جواباً لشاب مسلم حائر بعنوان:
__________
(*) (تنزيه الشريعة عن إباحة الأغاني الخليعة) لأحمد بن يحيي النجمي ص (59) .(1/193)
" حيرة "
سأل الفتى هلا أزلت لحيرتي كيف السبيل وقد جعلتك قدوتي؟
فأجبت أفصح ما بذاتك علني أجد السبيل بقدر ما في طاقتي
فأجاب أبغي أن أصون غريزتي بزواج من تدعى بحق زوجتي
ليست مشاع للجميع يرونها تمشي لتعرض ما يذل رجولتي
إن قلت صوني سمعتي وتستري ألفيتها عابت عليَّ (رجعيتي)
أو قلت: قال الله كان جوابها ما قال (قاسم) أو (فرويد) غايتي
وإذا خطبت وقلت: ما هو مهرها؟ لم يتركوا إلا الفراغ بجعبتي
وإذا رأتني بالشعيرات التي في عارضي طلبت إزالة لحيتي
أو لا زواج وقد أطاعوا أمرها وأنا الطريد أجر ذيل الخيبة
فإذا رضخت وصار وجهي ناعماً وتزوجتني والمضيع سنتي
ورأيتها يوماً تغادر بيتنا وسألتها قالت: أريد إدارتي
لم يبق إلا أن أكون مكانها وهي التي تسعى لتجلب لقمتي
وطعامها أطهو وأغسل ثوبها وكذاك أرضع طفلها يا بلوتي
لم لا تكون وقد رأت حكامها أعطوا لها ما حرمته شريعتي
من لي بذات الدين تحفظ غيبتي غابت فلم أر من أراها زوجتي
فأجبته وأنا أغالب دمعتي أسمعتني ما زادني من حسرتي
لكن أقول وقد وُهِبْتَ هداية لا تيأسن وأبحث عن المهدية
فهناك من صن الحياء وإنما غيبن خلف الخدر خدر العفة
قل للتي أخضرت ولكن من دمن (339) لا أشتريك لكي أبيع ديانتي
__________
(339) مأخوذ من معنى حديث ضعيف جداً نصه: (إياكم وخضراء الدمن فقيل وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) - أنظر سلسلة الأحاديث الضعيفة حديث رقم (14) .(1/194)
لو عشت طول العمر غير مزوج فأنا حريص أن أبيض صفحتي
ولدي وعد الله حق قاطع عندي عروسك والزفاف بجنتي (340)
المصير الأسود
وكنتيجة حتمية لذلك السفور وهذا التبرج الجاهلي الكبير ولنفس النظام التعليمي الفاسد
الذي غايته المثلى وهدفه الأسمى الوظيفة الحكومية وغير الحكومية امتلأت دور
الحكومة ومصالحها بالموظفات وازدحمت بهن المسارح ودور السينما وكذلك المسابح
والمصطافات وضمت البلاد بالخبث وعمها الفساد وانمسخ المجتمع الإسلامي فأصبح
غيره بالأمس في مظهره ومخبره وظاهره وباطنه.
ثم جردت جيوش الشيطان ونفثت سمومها في كل مكان عبر السينما والتليفزيون
والمسارح وإذا بنا أمام مخطط إلحادي يجوس خلال ديارنا وإذا بالزنا يحميه قانون
وإذا بالفسقة والفاسقات من أهل " الفن " تقام لهم الأعياد وتضفى عليهم صفات البطولة
وتهدى لهم الجوائز ليستعينوا بها على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
لقد كرم الإسلام المرأة كتاباً وسنة وحفلت شريعته برفع شأنها وصيانة حقوقها لكنها
أذلت نفسها لما اتبعت الذين حرضوها ضد فطرتها ودينها وفسلخوها من دينها
وأبعدوها عن ربها وألقوا بها في متاهات الحياة لتقاسي شظف العيش ومكاره المحن
التي ناء بها كاهل الرجل بله المرأة لقد حملوها حملاً على أن تصطف في طابور
المنقادين لحضارة الغرب لتدخل جنته المنشودة ولكن بعد أن تخلع على أعتابها إيمانها
بالله واليوم الآخر.
__________
(340) محاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - الموسم الثقافي للعام الدراسي 1394 هـ - 1395 هـ.(1/195)
- ودفعت المرأة الثمن:
لقد فقدت المرأة التي كان يلوح لها " أنصارها " بسعادة التحرر والتطور - ليس فقط سعادتها - بل فقدت وجودها كله ذات قيمة في المجتمع ووزن فيه لقد قبضت فيما مضى على دينها فقبض الله عنها السوء وبسط لها الحلال حتى لم تكد تينع الثمرة في بيت أبيها إلا وتمتد يد الحلال وتقطفها فلا تفتح عينها إلا على حليلها ولكنها قد ابتذلت وأهينت على يد أصدقائها وأنصارها كان أول من زهد فيها أنصارها المخادعون ولم تعد - كما كانت - تتمتع باحترام الآباء والأزواج ولم تعد تحاط بهالة التقدير والتعظيم وإنما أصبحت في نظر الجميع أشبه بمحترفة تطلب العيش وتقرع كل باب للعمل لعلها تحصل على وظيفة - أي كانت - تدر عليها دراهم معدودة تنفق أكثرها في المساحيق للتجميل وفي الثياب القصيرة للفتنة ولفت الأنظار.
هذا هو المنحدر الفظيع والهاوية السحيقة والمصير الأسود القاتم الذي انتهت إليه المرأة في كثير من بلاد المسلمين.
- والآن:
وقد خلعت المرأة حجابها وغادرت حصنها وعصت ربها فهل جنينا حقاً التقدم والرخاء والحضارة؟
لقد خالطت الرجال واختلط الحابل بالنابل فهل زالت العقد النفسية؟ وهل استقرت دواخلهما؟ وهل جنينا سوى الثمار المريرة؟
لقد فتحنا بلادنا أمام الغزو الفكري اليهودي والصليبي والعلماني الذي سلط علينا سموم الشبهات وسهام الشهوات التي كانت أفتكها المرأة فهل وجدناهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً؟(1/196)
- التجربة خير شاهد:
إننا لن نطيل في وصف الهاوية التي تردت إليها المرأة " المتحررة " بفضل
" أنصارها " و " أصدقائها " لأن الواقع حولنا يكفينا مؤنة هذه الإطالة إنه حقاً واقع مرير مرير تستطيع أن تدرك عواقبه وآثاره حيثما وقعت عينك في كل بيت في كل طريق في كل وظيفة.
وربما إذا كنا نتكلم من خلال خيال حالم أو حتى منذ قرن واحد مضى لا تهمنا بالتحامل أو المبالغة..
ولكنه واقع أليم خير من ينبئك عنه:
هذه المرأة الضحية ...
وهؤلاء " الأ نصار " و " الأصدقاء " ...
إن صدقوا!(1/197)
السياسة في المعركة
- معركة سلاحها الأقلام:
رأينا - فيما سبق - كيف تحولت قضية (تحرير) المرأة المسلمة إلى حملة (السفور) مسعورة ضد الحجاب وكيف أخذت كلمة (تحرير) مدلول (السفور) برغم أن التحرير في الإسلام يأخذ مدلول الحجاب فكانت المحجبة هي " الحرة " والسافرة - أي التي تكشف وجهها - هي " الأمة " فكان السفور عنوان العبودية أما في ظل دعاة التحرير فأن الحجاب عندهم هو عنوان العبودية.
وتابعنا فيما مضى بعض فصول المعركة الفكرية التي انتصر فيها (السفور) على
(الحجاب) وكانت ساحة هذه المعركة في الغالب صفحات الصحافة ثم الكتب والمطبوعات وقاعات الجامعة وسائر وسائل الإعلام..
وقد كانت هذه الوسائل متوافرة في أيدي دعاة السفور ومن ثم لم تكن المعركة متكافئة ولم تكن الحرب عادلة خاصة إذا انضم غلى ذلك ادعاء السفوريين أن السفور جاء نتيجة طبيعية للتطور الحضاري المرتقب وأن السفور هو اختيار المرأة ذاتها ورغبتها الفعلية الحرة من أجل خلاصها من العبودية.
بل لم يبخل السفوريون بان يخدعوا أنفسهم أو يخادعوا الإسلاميين بقواعد شرعية صحيحة يحرفونها عن مواضعها ويستدلون بها لتسويغ باطلهم.
وتطوع علماء السوء بالتزلف - تحت ضغط " سيف المعز " و " ذهب المعز " - وراحوا ينتزعون من النصوص الشرعية ما يمكن أن يبرروا به للحكام مخالفتهم للشرع هؤلاء الحكام الذين راحوا يتشدقون بأن (الدين في نظرهم ثقافة ليس إلا) وإنه (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) هم أنفسهم رحبوا بالدين طالما صلى لهم " رجال الدين " " صلاة الاستسقاء " إذا عطشوا و " صلاة النصر "(1/198)
إذا انتصروا و " صلاة الحاجة " إذا مرضوا ثم " صلاة الجنازة "إذا ماتوا.
- معركة سلاحها البطش:
إذا كانت دعوة " تحرير المرأة " أساساً دعوة استعمارية أسسها الاستعمار وربى دعاتها على موائده ومكن تلاميذه من نشرها..
وإذا كان هؤلاء السفوريون سلكوا تلك الأساليب الملتوية في عرض دعوتهم لتزييف الحقيقة والصد عن سبيل الله.. وإذا كانت إعراض التآمر واضحة في كل خطوة من خطوات حركة تحرير المرأة.. فهل يمكن بعد ذلك أن يزعم زاعم أن المعركة التي
انتصر فيها السفور على الحجاب في بلاد المسلمين كانت معركة شريفة حقاً انتصر فيها (السفور) لأنه التطور الحضاري المرتقب كما يزعمون ولأنه الرغبة الفعلية للمرأة واختيارها الحر من أجل خلاصها؟
وإذا كانت فصول المعركة الفكرية بعد أن انتهت بهذا الانتصار الكاذب قد تحولت إلى معركة حقيقية تفرضها سياسة جائرة تحكم أمة مستضعفة مقهورة وجنود مسلحون أمام نساء عزل وقوانين إرهابية وإجراءات تعسفية ومشانق تعلق وسجون تعمر ونيران تضرم فهل يمكن بعد هذا كله القول بأنها كانت معركة شريفة انتصر فيها السفور على الحجاب طبقاً للاختيار الحر للمرأة وأنها ثمرة من ثمرات " الديموقراطية " المزعومة أو " الحرية " الأسيرة أو " التقدم " الرجعي الذي يعيدنا إلى الجاهلية الأولى؟
والآن - وقبل أن نستأنف عرض تفاصيل المعركة المسلحة ضد الحجاب - دعونا نطالع أولاً هذه السطور المضيئة للإمام المحقق ابن قيم الجوزية وهو يعدد واجبات أولي الأمر:(1/199)
- مسؤولية الحاكم المسلم:
قال رحمه الله (341) :
(ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال.
قال مالك رحمه الله ورضي الله عنه:
" أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم وأرى أن لا يترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع فأما المرأة المتجالة والخادم الدون التي لا تتهم على القعود ولا يتهم من تقعد عنده: فإني لا أرى بذلك بأساً " انتهى.
فالإمام مسؤول عن ذلك والفتنة به عظيمة قال ":
" ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " (342)
وفي حديث آخر أنه قال للنساء: " لكُن حافات الطرق " (343) ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات كالثياب الواسعة والرقاق ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات ومنع الرجال من ذلك
وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة - إذا تجملت وتزينت وخرجت - ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب وهذا من أدنى عقوبتهن المالية وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها - ولا سيما إذا خرجت متجملة - بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية والله سائل ولي الأمر عن ذلك وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي
__________
(341) " الطرق الحكمية في السياسة الشرعية " ص (280 - 281) .
(342) رواه الشيخان وغيرهما عن أسامة رضي الله عنه.
(343) أخرجه أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري بلفظ: (ليس لكُن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق: وفي سنده مجهول لكن له شاهد حسن من حديث أبي هريرة بلفظ: (ليس للنساء وسط الطريق) رواه ابن حبان وغيره، فيتقوى به (صحيح الجامع 5 / 98) ، وتحقيق " شرح السنة " (12 / 322) .(1/200)
في طريق الرجال والاختلاط بهن في الطريق (344) فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك.
وقال الخلال في جامعه: أخبرني محمد بن يحيي الكحال أنه قال لأبي عبد الله: أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال: صح به وقد أخبر النبي ":
" أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية " (345)
ويمنع المرأة إذا أصابت بخوراً أن تشهد عشاء الآخرة في المسجد (346) فقد قال النبي ": " المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان " (347) .
ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة) اهـ.
فهذه نبذة يسيرة مما ينبغي أن يكون عليه الحاكم المسلم وأن سلطته - بقوة الشرع الذي يجعل طاعته جزء من الدين - تمتد إلى هذه الحدود الواسعة ردعاً للفسقة ومشيعي الفاحشة ومراعاة لقوله ":
" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته "
الحديث (348) .
__________
(344) وقد روى أنه رأى رجلاً وامرأة يتكلمان في الطريق - وقد تكون زوجته أو من محارمه - فعلاهما
بالدرة، وقال: (ما وجدتما مكاناً غير هذا تتكلمان فيه؟) فأين أنت يا عمر وأين درتك؟ ما أحوجنا إليكما
الآن! .
(345) أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي والحاكم والإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من
حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)
وقال الترمذي: حسن صحيح وقال الحاكم: صحيح الاسناد، ووافقه الذهبي.
(346) لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ": (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)
أخرجه مسلم وأبو عوانة في صحيحيهما وأصحاب السنن وغيرهم.
(347) رواه البزار والترمذي والطبري في الكبير وصححه الألباني (إرواء الغليل 1 / 303) رقم (273) .
(348) رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما.(1/201)
قال الله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميه ليمكروا فيها)
الآية الأنعام 123.
وهذا ما جرى من " أكابر مجرميها " قرانا حيث تمكن منها تلامذة الاستعمار الأمناء على عهده الحافظون لمآربه وهم قوم صغار النفوس لا يقف استهتارهم وعنادهم للشرع عند حد والأمة إذا أسندت أمرها إلى صغار النفوس كبرت رذائلهم لا نفوسهم وإذا حكم الفاسق فقد حكم الفسق.
وللخير أهل يعرفون بهديهم إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
وللشر أهل يعرفون بشكلهم تشير إليهم بالفجور الأصابع
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ": " صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات (349) مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ".
قال الأستاذ " محمد أديب كلكل " (350) مشيراً إلى فوائد هذا الحديث:
(وفيه ربط بين الاستبداد السياسي " قوم معهم سياط " والانحلال الخلقي " ونساء كاسيات عاريات " وهذا ما يصدقه الواقع فإن المستبدين من الطغاة والمتسلطين من الفراعنة يشغلون الشعوب عادة بما يقوي الشهوات ويزينها ويلهي الناس بالمتاع الشخصي عن مراقبة القضايا العامة لكي يبقوا سادرين في غفلاتهم غارقين في شهواتهم لا يهتمون
__________
(349) قال الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: (" مائلات مميلات " مائلات: أي زائغات عن طاعة اللهو عما
يلزمهن من حفظ الفروج ومميلات: يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن) اهـ محل الغرض منه
(جامع الأصول 11 / 789) .
وقال الشيخ إسماعيل حقي في تفسير قوله (مميلات) : (أي قلوب الرجال إلى الفساد بهن، أو مميلات
أكتافهن وأكفالهن كما تفعل الراقصات أو مميلات مقانعهن عن رؤوسهن لتظهر وجوههن) اهـ من
(روح البيان) (7 / 170) - وانظر هامش " المجموع " للنووي (4 / 307) .
(350) في كتابه (حكم النظر في الإسلام) ص (134) .(1/202)
بطغيان ولا يسألون عن انحراف ولا يقاومون ظلماً ولا عدوان) اهـ بمعناه.
أجل! لقد تطرف هؤلاء " الأكابر " في انجذابهم إلى طريق الشيطان حتى خرجوا من الدائرة بالكلية وصاروا هم في الحقيقة الرجعيين المتطرفين الداعين إلى الرجعية الجاهلية المظلمة قبل بزوغ فجر الإسلام.
ومن عجيب أمرهم أنه إذا أنكر عليه منكر فتحهم باب الطعن في أحكام الإسلام احتجوا بأن هذه أمور تخضع للحرية الشخصية وأن لابد من التزام مبدأ حرية الرأي والسلوك أفلا يحتجون بحرية الرأي والسلوك في حق من يكفر بنظمهم " الأساسية " ويطعن في مناهجهم العلمانية؟ أم أنهم يغارون على دنياهم ويستكثرون منا أن نغار على ديننا؟
يقاد للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار(1/203)
عود على بدء
الآن نعرض فصولاً من المعركة التي دارت بين الحجاب والسفور في بعض البقاع الإسلامية وقد تحولت من معركة فكرية سلاحها القلم والتضليل إلى معركة حقيقية سلاحها البطش والإرهاب والتنكيل.
1 - في تركيا:
(شرع أتاتورك - عليه من الله ما يستحق - قانونه لنزع حجاب المرأة المسلمة وراقب تنفيذه وعاقب مخالفيه وشنق معارضيه) (351) .
وقال في تسويغ حربه على الحجاب:
" لقد رأيت كثيرات من أخواتنا يغطين وجوههن إذا ما رأين غريب يتقدم نحوهن ومن المؤكد أن هذا الغطاء يضايقهن كثيراً في الحر " (352) اهـ.
وقام عام (1925) بإجبار تركيا بأكملها - وليس المرأة فقط - على هجر الإسلام كلية حتى الحرف الذي تكتب به اللغة التركية متشابهاً مع لغة القرآن أم نزع حجاب المرأة التركية فقد تم بالإرهاب والإهانة في الطرقات حين كان البوليس يقوم بنزع حجاب المرأة التركية بالقوة) (353) .
وهكذا كان نزع الحجاب خطوة
__________
(351) (المرأة المسلمة) لوهبي غاوجي الألباني ص (189) .
(352) " مصطفى كمال أتاتورك " إعداد لجنة الرواد والمشاهير " بإشراف الدكتور رء وف سلامة موسى
ص (96) .
(353) (في مسألة السفور والحجاب) لصافي ناز كاظم ص (9) .(1/205)
ضمن خطة علمانية شاملة لإزالة كل أثر للإسلام في تركيا مركز الخلافة العثمانية (354) ويصور الأستاذ " أحمد حسن الزيات " بعض ملامح هذه الخطة فيقول:
(وألزموا التركي المسلم بلبس القبعة وأرغموه أن يكتب من الشمال وفصلوا الدين عن الدولة وانتزعوا العربية من التركية وألغوا العيدين واستبدلوا بعيد الجمعة عيد الأحد وعطلوا الصلاة بمسجد أيا صوفيا وأسكتوا المؤذنين وأبعدوا المصلين فلا يمرون عليه إلا باكين مستعبرين وحولوه إلى متحف وبيت للأوثان وطمست منه آيات القرآن وأظهرت فيه الصور والأوثان - وكأن أتاتورك وأشياعه قد نقلوا أمتهم المروعة المشدوهةعلى المدرعات إلى الشاطئ الأوربي ثم أحرقوامن ورائها سفائن طارق) (355)
(أجل! لقد حولوا جامع " أيا صوفيا " وهو مسجد الأستانة الكبير كنيسة بمنع الصلاة فيه ومحو ما فيه من آيات قرآنية وأحاديث والكشف عما ستره المسلمون الفاتحون من الصور التي زعمها النصارى للملائكة ومن يسمونهم القديسين والصلبان ونحوها من نقوش نصرانية) (356) .
وفي هذا قال حافظ:
" أيا صوفيا " حان التفرق فاذكري عهود كرام فيك صلوا وسلموا
إذا عدت يوماً للصليب وأهله وحلي نواحيك المسيح ومريم
ودقت نواقيس وقام مزمر من الروم في محرابه يترنم
فلا تنكري عهد المآذن إنه على الله من عهد النواقيس أكرم (357)
__________
(354) ومن الجدير بالذكر أن زوجة أتاتورك رفضت الاستجابة لطلب زوجها حينما راودها على كشف وجهها
ورأسها وأمرها بالتخلي عن الحجاب وأصرت على لزوم الحجاب حتى كان هذا الأمر أحد أسباب طلبها
الطلاق منه.
(355) مستفاد من (الرسالة) العدد 88 السنة الثالثة 6 ذي الحجة 1353 هـ، 11 مارس 1935 م.
(356) مجلة " الإسلام " - 17 جماد الأولى 1354 هـ - 16 أغسطس 1935 م - ص (44) .
(357) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " (2 / 20 - 21) .(1/206)
(ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة في 3 مارس عام 1924 من دون مناقشة للجمعية الوطنية وصدر قانون يحكم بالإعدام على من يتآمر على عودتها (358) ....
وفي نفس العام (1924) صدر قانون بإلغاء التعليم الديني وجعل التعليم مدنياً فقط ثم ألغيت المحاكم الشرعية وأصبحت التركية هي لغة البلاد وأنقرة هي عاصمتها.
وكان أتاتورك يجوب تركيا لابساً قبعة من القش وكان يثور كلما رأى رجلاً يلبس الطربوش وقد أثار أزمة مع سفير مصر في أنقرة إذ صرخ فيه في إحدى الحفلات:
" قل للملك إني لا أحب هذا اللباس ".
وفي عام (1926) ألغى الزواج الشرعي وجعله مدنياً وألزم توثيقه أمام موظفي الدولة وقد أمر أتاتورك الأتراك بالتوقف عن إلقاء السلام بالفم ونصحهم بأن تكون تحيتهم بالمصافحة باليد وحرم ارتداء الملابس الدينية لغير رجال الدين ثم ألغى الحريم وأصدر قانوناً بإلغاء الحجاب للمرأة وألغى تعدد الزوجات وأدخل التعليم المختلط ... واستبدل بالقانون المدني التركي القانون السويسري وأوقف التقويم الهجري وأمر باستخدام التقويم الميلادي وجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد من كل أسبوع) (359) .
وهذه صحيفة " السياسة الأسبوعية " (360) تكتب مقالاً عن (فتاة تركيا 1926) تصف فيه باخرة اتخذتها وزارة التجارة التركية معرضاً عاماً في رحلة على
__________
(358) (جاء في دائرة المعارف الماسونية ص (162) ما نصه: " إن الانقلاب الذي قام به الأخ " مصطفى كمال
أتاتورك " أفاد الأمة الماسونية فقد أبطل السلطنة وألغى الخلافة الإسلامية وأبطل المحاكم الشرعية وأبعد
دين الإسلام عن الحياة ") ، وانظر " محاضرات الجامعة الإسلامية " عام (1395 م - 1396 هـ)
ص (132) .
(359) انظر " مصطفى كمال اتاتورك " د. رؤف سلامة موسى ص (93: 96) .
(360) " السياسة الأسبوعية " - عدد 17 يوليو 1926 م.(1/207)
نفقة الحكومة تنتقل فيها بين موانئ أوربا الشهيرة فتقول أن هذه الباخرة كانت تقل (خمساً وعشرين فتاة من فتيات تركيا الجديدة كلهن جميلات مقصوصات الشعور لا يكاد يميزهن الرائي من فتيات لندن وباريس)
ويقول المراسل: " إن أكثر الفتيات يتكلمن الإنجليزية بإتقان يدعو إلى الدهشة وإن بعضهن قد تلقى العلم في الكلية الأمريكية في القسطنطينية " ويروي بعض ما صرحت به الفتيات من مثل قول إحداهن في بعض الموانئ الإنجليزية:
(إن المرأة التركية اليوم حرة فلن تسير إلى الطرقات في ظلام وإننا نعيش اليوم مثل نسائكم الإنجليزيات نلبس أحدث الأزياء الأوربية والأمريكية ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا)
ومن مثل تصريح أخرى بأن (معيشتهن على ظهر الباخرة معيشة سرور وصفاء لا يوصف فكلهن يرقص وبعد العشاء يبدأ الرقص من " تانجو " و " فوكس تروت " وقد تعلمت ذلك في المدرسة)
ويعلق مراسل الصحيفة على ذلك الوصف بقوله: (إن هذا من أظهر الآثار التي تدل على تقدم المرأة التركية ومجاراتها لأختها الغربية في ميدان العمل والجهاد الفكري والاقتصادي ولا يسع كل محب لتركيا إلا أن يغبطها على هذه الخطوات) اهـ.
وهذه هي صحيفة (المقتطف) تكتب مقالاً عن (الأحوال في تركيا المعاصرة) (361) تشيد فيه بمصطفى كمال أتاتورك وتقرنه بواشنجتن زاعمة إنه أكبر زعيم معاصر وهي تثني على صنيعه في فصل الدولة عن الدين واعتباره الدين (أمراً شخصياً بين المرء وخالقه) ثم تشيد الصحيفة بالتطور الاجتماعي الذي طرأ على تركيا بسفور النساء واشتراكهن في المجتمعات مع الرجال ومشاركتهن الشبان في الدراسات الجامعية وإنشاء صحيفة تدافع عن حقوقهن ويشير الكاتب بإعجاب إلى ما أنشئ من الدور المختلطة التي تضم الشباب من الجنسين ليمارسوا الرياضة ويروي الكاتب
__________
(361) المقتطف عدد إبريل (نيسان) 1926 (ص 410 - 413) .(1/208)
بلهجة الاستحسان (طلب بعض النابغات منهن أن يسمح لهن بإلقاء خطب في الجوامع كل أسبوع في تدبير المنزل وما أشبهه من الموضوعات) اهـ.
لقد كان أتاتورك يجعل من رذائل الأوربيين فضائل لهم على رغم أنفهم يتبرءون منها ويلحقها هو بقومه.. إنه لم يحكم على شبر من أوربا بجعله تركيا ولكنه جعل رذائل أوربة تتجنس بالجنسية التركية.
المثل الأعلى للفراعنة:
ولعل سيرة اتاتورك تفسر لنا لماذا يصر طواغيت اليوم على اتخاذه أسوة وقدوة حتى لقد افتخر " فرعون مصر " الملقب بـ " أنور اليهود " يوماً بأن مثله الأعلى هو"أتاتورك" وكأنه لم يكفه أن زعيم الترك بعد أن أرغم قومه على إلغاء الحروف العربية بغضاً في العرب ودينهم وحملهم على لبس القبعة فأحسوها ذلة تطأطأ لها الرءوس وعاراً تذل له النفوس وحاول بعض المتقين نبذها فقطعت رءوسهم وأراد بعض الغيورين استهجانها فشلت ألسنتهم ولم يكفه أن " أتاتورك " رمى بالمصحف ساخراً وقال لعنة الله عليه:
" لا تفلحوا ما دام هذا الكتاب البالي أمامكم "
وكان يأمر فيترجم له بعض آياته لنقدها والسخرية بها.
وقال في حديث مع (المس جريس أليسون) :
" إنك تتحدثين عن الدين ألا فاعلمي أني رجل لا دين له وكثيراً ما وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان إلى البحر! إن الحاكم الذي يشعر بحاجته إلى الدين ليدعم به حكومته لهو أخرق الرأي ضعيف السلطان يحاول اصطياد الرعية بالحبال الواهية أما الشعب التركي فسيتعلم مبادئ الديموقراطية الصحيحة ويرضع لبان العلوم الحقة وسنضرب الخرافات بيد من حديد ثم ندع للناس حرية الاعتقاد ليعبدوا ما يشاءون ".(1/209)
وقرر أن لا يدرس الفقه الإسلامي في جامعة استمبول الجديدة لأنه يعتقد أن التخصص في العلوم الدينية لا يطابق حالة العصر (362) .
(وتبنى القانون المدني السويسري وقانون الجرائم الإيطالي وأمر بتحريق مصادر الفقه الإسلامي ثم أضطهد علماء المسلمين أبشع الاضطهاد وقتل منهم العشرات وعلق جثثهم على أعواد الشجر بأقمشة عمائمهم.
لقد أحياهم في التاريخ أم هم فقتلوه في التاريخ وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعاً) (363) .
وجاء في جريدة "المسلمون " الدولية - العدد الثالث والثلاثون - السبت (7 - 13 المحرم 1406 هـ) الموافق (21 - 27 سبتمبر 1985م) تحت عنوان:
(الدكتورة " نبهة " هل تخلع الحجاب بالقوة في تركيا؟) :
(الدكتورة " نبهة كورو " اسم تردده وكالات الأنباء العالمية أستاذة مساعدة في جامعة إيجه في أزمير مشكلتها أنها تعرضت للاضطهاد بسبب ارتدائها الحجاب وإصرار السلطات على أن تخلعه.
قصتها بدأت في منتصف العام الماضي عقب عودتها من الولايات المتحدة بعد حصولها على درجة الدكتوراة في الطاقة الشمسية وجدت أن الحكم العسكري الذي كان مسيطراً على مقاليد الحكم في تركيا في ذلك الوقت قد سيطر على الجامعات من خلال تنظيم مجلس التعليم العالي وأسند رئاسة المجلس إلى " إحسان دوجر ماس " وهو أستاذ تلقى تعليمه في الولايات المتحدة وقام بعد رئاسته للمجلس بشن حملة فصل تعسفي شملت أكثر من ألفي عضو هيئة تدريس بحجة مخالفة القوانين.
__________
(362) مجلة " الإسلام " 17 جمادى الأولى 1354 هـ - ص (43 - 44) - ومما يذكر أن الطاغية
" جمال عبد الناصر " كان هو أيضاً يفاخر في مناسبات عديدة بأن مثله الأعلى هو " أتاتورك ".
(363) مجلة " الجامعة الإسلامية " عام 1395 - 1396 هـ ص (133) .(1/210)
حرصت الدكتورة " نبهة " على ارتداء الحجاب أثناء إلقاء محاضراتها بجامعة أزمير وسرعان ما بدأ الصدام حيث بدأ الأستاذ دوجر ماس - مفوض الحاكم العسكري على الجامعات - حملة مضايقات ضدها وكان الإنذار الأول بأن لا ترتدي غطاء الرأس أثناء وجودها في الجامعة والإنذار الثاني من السلطات الرسمية يتضمن طلباً رسمياً بخلع الحجاب.
ورفضت الدكتورة " نبهة " خلع الحجاب وكان ذلك بمثابة تحد وعصيان على سلطة
" دوجر ماس " المطلقة على التعليم العالي في تركيا وأحيلت إلى المحاكمة ورفضت أن يدافع عنها أحد ووقفت لمدة ساعة تترافع عن نفسها ولم تستشهد إلا بنصوص القانون العلماني الذي يريدون أن يحاكموها طبقاً له واستحوذ أسلوبها على اهتمام الناس وهي تطالب بإلغاء الحكم الصادر ضدها بخلع الحجاب ولم تكتف بالدفاع عن الحجاب بل كشفت أيضاً تفاصيل المعاملة غير العادلة التي تقوم بها سلطات الجامعة.
وقد أعلنت المحكمة تأجيل القضية للحكم وبعد شهرين من التأجيل أصدرت المحكمة العليا حكماً جاء في حيثياته:
" رغم أن مواد الدستور تنص على حماية الحرية الدينية لكل مواطن إلا أن هناك مبادئ عليا في الدولة هي المبادئ الكمالية - نسبة إلى مصطفى كمال اتاتورك - وإن إصرار الدكتورة " نبهة " على ارتداء الحجاب ضد روح الدستور ".
والدكتورة نبهة تقدمت بطعن إلى المحكمة العليا لم ينظر حتى الآن ومنعت من ممارسة التدريس وما زالت في الانتظار تبحث عن جواب ...
من يملك الحق في تحريم الحجاب؟)(1/211)
دعاة " حقوق الإنسان " ضد الحجاب
أعرب " معمر إكسوي " أحد الموقعين على التماس إلى الرئيس التركي لإعطاء مزيد من الحريات للشعب عن رأيه بضرورة صياغة قانون لمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات والهيئات الحكومية.
كما وجهت " توريكان أديكان " رئيسة منظمة الدفاع عن حقوق المرأة وعضو البرلمان اللوم إلى زوجات أعضاء البرلمان اللائي حضرن حفل افتتاح جلساته وهن يرتدين الحجاب وتقول: إنه لا يجب التسامح في ارتداء السيدات للحجاب وجدير بالذكر أن " معمر " و " توريكان " من كبار الدعاة لحقوق الإنسان (*) في تركيا.
وطبقاً للقانون العلماني في تركيا يعاقب كل من يكتب في الصحف أو يشير في وسائل الإعلام الأخرى عن الشريعة الإسلامية أو الحجاب بالسجن لمدة تصل إلى سبع سنوات والتهديد بالإغلاق.
ورغم ذلك هناك أصوات إسلامية قوية تقف ضد التيار العلماني الذي يطالب بمنع الحجاب فهناك الكاتبة الإسلامية " سولي يوكسل سينلر " التي تعرضت للسجن أكثر من مرة وتعيش في أحد الأحياء الفقيرة في أنقرة واكتسبت شهرة كبيرة بين أوساط النساء بدعوتها إلى الحجاب عندما ظهر أول مقال لها في صحيفة الاستقلال في عام 1967 تحت عنوان (خطاب إلى المرأة المسلمة) وبدأت تجذب انتباه عشرات الآلاف في تركيا تم القبض عليها وحكم عليها بالسجن عامين.
وفي عام 1972 تأسس حزب " السلامة " الإسلامي
بزعامة " نجم الدين أرباكان " وحاز على تأييد قوي في انتخابات عام 1973 بعد ستة أشهر فقط من
__________
(*) إنما ذكرت هذا من باب إلزامهم بما ألزموا أنفسهم به ألا وهو احترام الحرية الشخصية والفكرية وهذا
الإلزام هو من باب " ورهبانية ابتدعوها " الآية، وإلا فإن ما يسمى بـ " إعلان حقوق الإنسان "
يتضمن مخالفات صريحة للشرع الإسلامي ومصادمات واضحة لمقاصده العليا مما لا يتسع المجال لبسطه(1/212)
تأسيسه وبدأ الحزب حملة نضال من أجل حقوق المرأة المحجبة ولكن رئيس الحزب فوجئ باتهام موجه له بأنه يعمل على محاولة إقامة دولة دينية ويواجه الآن حكماً بالسجن لمدة عامين.
وقد وصل عدد الطالبات اللاتي تم فصلهن من جامعة أنقرة بسبب ارتدائهن الحجاب إلى مائة طالبة ومن بين حالات الطالبات اللاتي تم فصلهن الطالبة " أيس نورمان " التي كانت على أبواب التخرج من كلية الطب في جامعة أنقرة وكان تخرجها بعد خمسة أشهر إلا أن الجامعة خيرتها بين خلع الحجاب وبين الفصل من الجامعة
و" هدم مستقبلها "! وفضلت الطالبة الفصل من الجامعة على أن لا تخلع الحجاب وقالت: " أنها لا تشعر بالأسف على هذا الاختيار وإنها لن تتخلى عن موقفها
وتخلع الحجاب ".
والطالبة " ربيعة ألماظ " من كلية الطب في اسطنبول كان مفروضاً أن تلقي خطاباً في حفل التخرج باعتبارها أولى الخريجات ولكن سلطات الجامعة منعتها من إلقاء الخطاب لأنها ترتدي الحجاب.
ومن الحوادث المؤلمة في تاريخ جامعة لنقرة حادث " هايتس بابا كان " والمعروف باسم حادث جامعة أنقرة في أواخر الستينات كانت " هايتس " تدرس الأديان في جامعة أنقرة ورفضت خلع الحجاب وكانت حالة لم يسبق لها مثيل في كلية دراسة الأديان وفي محاضرة عن مقارنة الأديان قام الأستاذ " نيست كاجاتي " بطرد " هايتس " من قاعة المحاضرات بعد إهانتها بألفاظ غير لائقة لأنها ترتدي الحجاب وقام مجلس الكلية بفصلها وهنا وقع انقسام وتمرد بين الطلاب وقاطعوا الدراسة وأعلنوا الإضراب عن الطعام تضامن مع زميلتهم وتم إغلاق الكلية لمدة ستة أشهر وتقول " هايتس " وهي تتحدث اليوم عن هذه الذكريات:
(إن عميد الكلية " حسين غازي " استدعاني إلى مكتبه وقال لي: " إنني اعلم أنك تغطين رأسك(1/213)
وجسمك لأنك غير قادرة على التحكم في غريزتك الجنسية ولأنك شاذة جنسياً فيجب أن تخجلي من نفسك ".
وتضيف " هايتس ": لقد كان يغشى علي عند سماعي هذا الكلام من أستاذ جامعي وبدءوا في محاصرتي وحاولوا إشاعة أنني مريضة نفسياً ونصحني البعض بالحصول على شهادة طبية تثبت صحة قواي العقلية للرد على هذه الشائعات) .
وفي عام 1968 أصدرت حكومة " سليمان ديميريل " قانوناً يحظر على المدرسات المسلمات ارتداء الحجاب في العمل وتم فصل عدد كبير منهن واضطرت أعداد كبيرة إلى الاستقالة ولجأ بعضهن إلى القضاء ولكنه لم ينصفهن.
- المحاميات ممنوعات من الحجاب:
ولم تنج مهنة المحاماة من الاضطهاد فتم منع " أمينة إيكينار " - وهي محامية مسلمة - من المرافعة في المحكمة مرتدية الحجاب ورفعت المحامية قضية ضد الحكومة كانت نتيجتها الخسارة واضطرت إلى ترك المحاماة والتزام منزلها.
يتغير الموقف تدريجياً الآن فهناك أربع مجلات إسلامية توزع نحو مائة ألف نسخة أسبوعياً والحكومة التركية بدأت تطالب بالتخفيف من القوانين العلمانية خاصة فيما يتعلق بحجاب المرأة المسلمة.
أصدرت المحكمة العسكرية التركية حكماً على الكاتبة التركية المسلمة " أمينة سينليكو جلو " بالسجن ست سنوات والنفي داخل البلاد لمدة سنتين بحجة انتهاك قوانين الدولة العلمانية وكانت الكاتبة التركية قد وضعت كتاباً عن مستقبل الإسلام بين النشء في تركيا الحديثة وهي متزوجة وأم لطفل واحد) .(1/214)
2 - في إيران (364) :
في عام 1926 عندما نصَّب الإنجليز الكلونيل " رضا بهلوي " شاه إيران مؤسساً للأسرة
البهلوية ألغى من فوره الحجاب الشرعي وكانت زوجته أول من كشفت عن رأسها في
احتفال رسمي ثم أصدر أوامره إلى الشرطة بمضايقة النساء اللواتي رفضن الاقتداء
بملكتهن وخرجن محجبات فما كانت امرأة تخرج من بيتها محجبة إلا وعادت إليه سافرة
فقد كانت الشرطة تنزع حجابها غصباً وتستولي على عباءتها وتهين صاحبتها ما
استطاعت إلى الإهانة سبيلاً وحُظِرَ على الفتيات والمعلمات وضع الحجاب ودخول
مدارسهن به ومنع أي ضابط من ضباط الجيش من الظهور في الأماكن العامة أو في
الشوارع برفقة امرأة محجبة مهما كانت صلته وقرابتها به وقد كان " رضا خان "
صديقاً حميماً لكمال أتاتورك وكان يحرص دوماً على تقليده واقتفاء خطاه وبالفعل كان
" رضا بهلوي " في حربه للإسلام صورة طبق الأصل عن أتاتورك.
وعندما سئل ذلك الشاه عن سبب ضغطه على النسوة في نزع الحجاب مع أن عجلة التاريخ قد تضمن له تحقيق أهدافه أجاب: (لقد نفد صبري إلى متى أرى بلادي وقد ملئت بالغربان السود؟!) اهـ.
3 - وفي أفغانستان:
تولت السلطة نزع حجاب المرأة بقانون وذلك في عهد " محمد أمان ".
__________
(364) انظر (وجاء دور المجوس) للدكتور محمد عبد الله الغريب ص (91 - 92) ، و (في مسألة السفور والحجاب) لصافي ناز كاظم ص (9) واعلم أن " إيران الشيعة " لا تدرج بالمقياس الإسلامي الصحيح ضمن البلاد الإسلامية إلا باعتبار وجود أقلية سنية فيها أو عوام جهلة لم تقم عليهم الحجة وإلا فإن شيعة إيران الروافض أبعد ما يكونون عن أصول وفروع الإسلام كما يعلمه من له مسكة من علم أو معاشرة لهم والله تعالى أعلم.(1/215)
4 - في ألبانيا:
حارب " أحمد زوغو " الحجاب بقانون ثم عادت المرأة المسلمة الألبانية إلى الحجاب أيام
الحرب العالمية الثانية ثم عاد " أنور خوجة " مرة ثانية وشن حرباً شعواء على الحجاب
في ألبانيا.
5- في روسيا:
حاربت روسيا الحجاب في تركستان والقوقاز والتشن والقرم وسائر ما تحتل من بلاد
المسلمين وهم يبلغون ستين مليوناً.
6 - في يوغسلافيا:
وكذلك فعل " تيتو " في يوغسلافيا (365)
7 - في الجزائر:
سرق " أحمد بن بيلا " الثورة الإسلامية وحولها إلى ثورة اشتراكية بعيدة عن الإسلام مناوئة
له ودعا المرأة الجزائرية إلى خلع الحجاب بحجة عجيبة حين قال:
(إن المرأة الجزائرية قد امتنعت عن خلع الحجاب في الماضي لأن فرنسا هي التي كانت تدعوها إلى ذلك! أما اليوم فإني أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر) (*)
__________
(365) (المرأة المسلمة) لوهبي الألباني ص (189 - 190) .
(*) (واقعنا المعاصر) للأستاذ محمد قطب ص (260) ويقال أن " بن بيلا " عاد إلى الإسلام بعد حبسه.(1/216)
8 - في سوريا:
(طرح " حافظ الأسد " فكرة تعديل قانون الأحوال الشخصية وفكرة التجنيد الإجباري للمرأة كما مزق الحجاب في شوارع دمشق ومنع المحجبات من دخول المدارس بحجابهن) (**) اهـ
9 - في تونس:
(نادى " بورقيبة " بتخليص المرأة من قيود الدين وجعلها رسولاً لمبادئه العلمانية) (366)
(وفي حديث " للحبيب بو رقيبة " بأهرام 20 / 12 / 1975م صرح الرئيس التونسي بأنه أصدر في سنة 1956 م قانوناً بمنع تعدد الزوجات يعتبر التعدد جنحة يعاقب مرتكبها بالسجن لمدة سنة وغرامة مالية " 240 " ديناراً) (367) اهـ
10 - في الصومال:
(شددت حكومة " سياد بري " حملتها ضد الإسلام في الصومال وقد طردت مؤخراً كل طالبة ترتدي الزي الإسلامي من المدارس كما ألغت تفسير القرآن الكريم من المناهج وتقوم بطرد الطلاب الذين يقبض عليهم وهم يؤدون الصلاة أو يقرؤون القرآن الكريم من المدارس)
(368)
11 - في ماليزيا:
جاء في (أخبار اليوم) تاريخ السبت (7محرم 1406 هـ) الموافق (21 / 9 / 1985 م)
: (أصدرت الجامعة التكنولوجية في ماليزيا قراراً بإيقاف تسع طالبات عن الدراسة بحجة ارتدائهن الحجاب الذي تمنعه وزارة التعليم الماليزية وذكر مسؤول كبير في الجامعة أن قرار إيقاف الطالبات سيظل سارياً مادام هؤلاء الطالبات يرتدين الحجاب) اهـ
__________
(**) " هذه تجربتي وهذه شهادتي " للأستاذ سعيد حوي رحمه الله وعفا عنه ص (105) .
(366) (المرأة ومكانتها في الإسلام) لأحمد عبد العزيز الحصين ص (225) وانظر محاضرات الجامعة الإسلامية
الموسم الثقافي (1395 - 1396هـ) ص (126) .
(367) (أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي) هامش ص (89) وجاء فيه أيضاً: (وفي مقال شيخ الأزهر ذكر
أن أحد التونسيين ضبط متلبساً بجريمة الزواج الثاني ولم يخل سبيله إلا بعد أن قرر أن هذه الثانية خليلة
وليست زوجة) اهـ {ألا ساء ما يزرون} .
(368) (المرأة ومكانتها في الإسلام) للحصين ص (62) .(1/217)
11 - في مصر:
وضع عبد الناصر وزبانيته كتاب " الميثاق " متأسياً في ذلك بإمامه الأول جنكيز خان حيث وضع الأخير كتابه (الياسق) (369) ليصد به الناس عن القرآن وكان مما جاء بصدد المرأة في (الميثاق) :
(المرأة تتساوى بالرجل ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك الرجل بعمق وإيجابية في صنع الحياة) اهـ
وبوحي من هذه الفلسفة العلمانية المادية اتخذت إجراءات وخطوات حاسمة في هذا الصدد وصدرت قوانين تقضي:
- بفرض ثلاثين نائبة على الأقل في مجلس الشعب.
- بفرض خمسة وعشرين بالمائة من النساء على الأقل في عضوية جميع المجالس الشعبية والمحلية.
- بجعل الانتخاب والتصويت إجبارياً على كل أنثى تبلغ الثامنة عشرة من عمرها مع كونهما ليسا إجباريين على الرجل.
وأخيراً صدر قانون تعديل أحكام قوانين الأحوال الشخصية الذي خططوا له طويلاً وتحقق أمل " مرقص فهمي " و " قاسم أمين ".
__________
(369) انظر " عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير " لمحدث الديار المصرية العلامة أحمد شاكر رحمه الله
(4 / 171 - 174) .(1/218)
الحركة النسائية في ظل النظام الجمهوري (*)
{ظهرت الحركة النسائية في ظل الحكم الجمهوري بمظهر يغاير نظيره في العهد الملكي فبينما كانت المرأة تطالب أو تحرض على المطالبة بما أسمته " حقوقها " منذ بدأت حركتها في منتصف القرن العشرين سارعت حكومات العهد الجمهوري باستقطابها والاستفادة منها في حقل الإنتاج هذا من ناحية
أما الجانب الآخر فقد بات واضحاً أن أهم المسائل التي تشغل الحكومة قبل المرأة تنحصر في شيئين هامين هما: حق العمل للمرأة وهذا الحق مؤدٍّ بالضرورة لحق آخر وهو التمثيل النيابي والمشاركة في حل القضايا الاجتماعية ومن ثم لم تعد المرأة هذا المخلوق الضعيف الذي يطالب بل صارت المخلوق القوي الذي يمنح ويعطي كل ما يمنحه ويعطيه الرجل تماماً.
وهذا الرأي بالضرورة لا يتناقض مع فشل حركة المرأة عند قيامها بأعنف مظاهرة لها في تاريخها الحديث في 12 مارس 1954 م أي في بداية العهد الجمهوري لأن اللاتي قمن بهذه المظاهرة كن ينتمين للعهد السابق " الملكي " ويرتبطن به ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ولا يرتبطن بأوهى رباط بالعهد الجديد وقيمه وإن بدا في الأفق - وقتها - أن الحكومة الجمهورية راضية عن هذا العمل رضاء تاماً حينما أعلن اللواء " محمد نجيب " رئيس الجمهورية الاستعداد للاستجابة لهن وأن حقوقهن في أيدي أمينة وأنه سيشكل لجنة مختصة للنظر في تكوين الجمعية التأسيسية للنظر في مطالبهن وكان ذلك في 21 مارس 1954 م.
وبعد ذلك اختفت الحركة التي تزعمتها " درية شفيق " واختفت معها زعيمتها ولم تعد للظهور أبداً حتى فاجأ الطاغوت " جمال عبد الناصر " خلف محمد
__________
(*) من " المؤامرة على المرأة المسلمة " للدكتور السيد أحمد فرج ص (115 - 122) بتصرف.(1/219)
نجيب الناس في يوم (16 يناير 1957)
بخطاب أعلن فيه منح المرأة لأول مرة حقوقها السياسية (لأن الحقوق التي اكتسبها الشعب بالثورة باشرتها المرأة أيضاً كما باشرها الرجل فقد وقفت المرأة مع الرجل جنباً إلى جنب طوال كفاحه المرير واستشهدت بعض نسائنا في سبيل الكفاح المشترك من أجل الحرية والحياة وكما كافحت المرأة من أجل الحصول على حق الشعب فمن حقها أن تسترد حقوقها كاملة) (370)
وكان دستور (1956) قد نص على (أن الانتخاب حق للمصريين على الوجه المبين في القانون وأن مساهمتهم في الحياة العامة واجب وطني عليهم) (371)
فجاء خطاب الطاغية بمثابة البيان لهذا النص الذي تأكد عملياً في العام نفسه في أول انتخابات تجرى في العهد الجمهوري عام (1957) إذ انتخبت سيدتان لمجلس الأمة هما: " أمينة شكري " في الإسكندرية و " راوية عطية " في حي الجيزة.
ثم كان أكبر دفعة لتحرير المرأة ما جاء في " الميثاق الوطني " سنة 1962 لينص على أن (المرأة تتساوى بالرجل ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية في صنع الحياة) (372)
ذلك أن الميثاق وهو دليل العمل في الستينات نظر للمرأة على إنها كم اقتصادي كالرجل سواء بسواء.
وكان الطاغية عبد الناصر الموصوف بأنه صاحب الإرادة الوحيد في تلك الفترة قد مهد لهذا من قبل فقال وهو يخطب في معسكر للفتيات في رشيد في (28 يوليو 1959)
: (كان لابد لنا بعد أن اكتشفنا أنفسنا أن نكتشف نصف شعبنا - المرأة - ونعطيها جميع حقوقها وقد وضعنا هذا موضع التنفيذ) (373) ثم
__________
(370) من خطاب جمال عبد الناصر يوم 16 يناير 1957 بمناسبة تقديم الدستور (1956) .
(371) دستور 1956 مادة: (16) .
(372) " الميثاق الوطني الباب السابع: الإنتاج والمجتمع.
(373) مجموعة خطب عبد الناصر وتصريحاته وبياناته القسم الثاني ص (571) - مصلحة الاستعلامات.(1/220)
أكد ذلك في خطابه في معسكر الفتيات للتدريب العسكري بالورديان بالإسكندرية في (4 أغسطس 1959) معلناً شعوره بالفخر (لأن المرأة العربية اليوم نصف المجتمع وعليها مسئولية كبرى لتشارك الرجل في بناء هذا الوطن وفي بناء المصانع وفي التعليم الفني وفي التدريب العسكري (374) وفي اليوم نفسه زار معسكر فتيات المكس بالإسكندرية وطالب فيه بضرورة تضافر جهود كل فرد من المواطنين جميعاً من الرجال والنساء (375)
كان عبد الناصر قادراً على أن يبرر للشعب أهمية مساواة المرأة بالرجل في كل المجالات: في الإنتاج وفي التدريب العسكري وغير ذلك لأن الوطن يحتاج إلى تضافر الجنسين معاً نساءً ورجالاً ومن ثم فقد نادى في جلسات المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في شرح الميثاق:
(بوجوب عمل المرأة لأن في عملها يمكنها أن تحافظ على نفسها إذا كانت غير متزوجة)
(376) !!
وفي المؤتمر نفسه أبدى عزمه على (تعيين المرأة في كل الأعمال ابتداء من الأعمال اليدوية حتى الوزارة) (377)
وبعد ليلتين أي في مساء 28 / 5 / 1962 رأى عبد الناصر تحرير المرأة بدنياً ومعنوياً برفضه لطلب مواطن سأله بصفته رئيساً للجمهورية أن يوجه نظر الناس إلى أهمية الحجاب الشرعي للمرأة " الخاص بالملبس فقط " لأنه على حد تعبيره (لا يريد أن يدخل معركة كبيرة جداً مع 25 مليون من المواطنين " هم كل تعداد مصر في ذلك الوقت " أو مع نصفهم على الأقل) (378)
وهكذا أعطى عبد الناصر المرأة ما طلبت وما لم تطلب وفوق ما كانت تطمع بل أعطاها تصريحاً بالإمعان في السفور
__________
(374) السابق (2 / 603) .
(375) السابق (2 / 605) .
(376) السابق (4 / 69) .
(377) السابق (4 / 70) .
(378) السابق (4 / 81) .(1/221)
واختفت القيادات النسائية القديمة لأنهن لا يستطعن التجاوب مع الفكر الجديد أو التفاعل معه وظهرت نجمات أخريات استقطبتهن القيادة السياسية الجديدة التي قادت البلاد تعتنق الفكر الجديد وهو ليس كفكر " درية شفيق " المتعالي " فكر المرأة سيدة الدار " المترفع على الرجل " طاهيها " (379) لأنه لا يتناسب مع روح الاشتراكية الجديدة هذا بالإضافة إلى أن القيادة الجديدة للحركة النسائية لم تكن في يد هذا الصنف من النساء اللاتي ينتمين لطبقة الأعيان التي كان منها الوزراء وأصحاب المراكز الهامة الحاكمة في الدولة وزعيمات الحركة النسائية في العهد الملكي ولكن الريادة في هذه المرة انتقلت إلى نوع آخر من المثقفات الجامعيات اللائى نشأن ودرجن في أحضان الطبقة الشعبية العاملة مثل الدكتورة " حكمت أبو زيد " التي بدأ ظهورها وبروزها في المجتمع في أكتوبر 1962 أي بعد إعلان الميثاق الوطني بثلاثة شهور وعينت وزيرة للشئون الاجتماعية في أول حكومة تتولى حكم البلاد بعد إعلان القوانين الاشتراكية سنة 1961 والميثاق الوطني سنة 1962 ومنذ ذلك التاريخ صارت وزارة الشئون الاجتماعية قصراً على النساء بحيث لم يعد يخطر على قلب رجل أن يفكر في ولوج بابها.
وتحت رعاية الحكومة أو من استأمنتهم الحكومة على حراسة الفكر الجديد تحدد وضع المرأة في النظام الجديد كله على أنها أصبحت " كمًّاً إنتاجياً " في ميدان الاقتصاد دون النظر إلى التأثير السلبي الناتج عن ذلك والذي أثر تأثيراً سيئاً في وضع المرأة نفسها في مجالات أخرى أكثر أهمية لوجودها الاجتماعي نفسه كما ان المؤتمرات النسائية التي عقدت في تلك الفترة بدعوة من الحكومة نفسها أعطت إشارة البدء لإعلان أفكار جذرية تخص حركة المرأة نفسها نابعة من الفكر الاشتراكي الذي بينه الميثاق وبوحي من
الفلسفة المادية العلمانية ومن هنا نظر الناظرون الجدد إلى
__________
(379) راجع ص (124) .(1/222)
الطريقة القديمة وأسلوب العمل الذي كانت تمارسه الحركة النسائية منذ ظهور " هدى شعراوي " وانتهاء بـ
" درية شفيق " نظرة ازدراء وعدوها طريقة عفنة لمعالجة القضايا لا تليق بالمرحلة
" الثورية " التي تعيشها البلاد ورأوا أن المرأة منذ ظهور " هدى شعراوي " حتى الآن لم تتمكن من تحقيق التحرر الفعلي لها وكل ما حققته لم يتجاوز الحقوق الشكلية لمقاصد المرأة المتعالية المرفهة.
إن الذين يفكرون بالطريقة الجديدة يرفضون النظر إلى المرأة - بزعمهم - (من خلال مفاهيم رومانسية للأمومة والشرف وتربية الأجيال ومن خلال مفاهيم قبلية أو رعوية حول الشرف والعرض وإطاعة الزوج والسهر على راحته) (380) وهم يطالبون بالقضاء على النظام الاجتماعي الأبوي الذي يسيطر فيه الرجل - رب العائلة - والقضاء على سلطة الرجل في أي شكل كان (زوجاً أو أخاً أو رئيساً) على المرأة لأن هذا النظام يعطل تحرير المرأة وللقضاء على هذه السيطرة يجب السيطرة على النظام كله المتمثل في " سيطرة الأب والنظام الطبقي الرأسمالي " (381) ولهذا فإن هؤلاء ينظرون إلى المجتمع الذي يقوم على الأسرة المستقرة على أنه مجتمع تسلطي يجب أن يعاد النظر في بحث أهم قضاياه " وهي قضية سلطة الرجل على المرأة سلطة الذكر على الأنثى " (382) .
ومن هنا فهم يحرضون المرأة (على أن لا يقتصر دورها على إنجاب الأبناء الذين يحملون عادة اسم الأب وأن لا يقتصر أيضاً على العمل المنزلي لأنه غير مقيم اقتصادياً وأيضاً الإشباع الجنسي والعاطفي للرجل وهذا الدور الأخير بالذات يناط بها من خلال عقد الزواج المكرس في قوانين واضحة) (383) وهو ما يجب أن ترفضه.
__________
(380) مجلة الطليعة عدد نوفمبر 1968 ص (78) - د / إجلال خليفة.
(381) مجلة " المستقبل العربي " ص (120) عدد يناير (1981) د / نوال السعداوي.
(382) السابق - ص (122) - د / عباس مكي.
(383) السابق نفسه.(1/223)
والخلاصة:
أنهم يريدون أن يتحقق للمرأة الاستقلالية الكاملة وهي لا تتحقق إلا إذا تمسكت بالوسائل الآتية:
1 - أن تحصل المرأة على الأمن الاقتصادي والبدني (وإن فرضت عملية الزوجية - واللفظ لهم - طاعة الزوج تستطيع أن تتحول بشكل غير مباشر إلى باردة عاطفياً)
(384)
2 - أن تحصل كذلك على الأمن الاجتماعي (المرأة غير آمنة كلية من الناحية الاجتماعية ويصل الأمر إلى أنها لا تستطيع أن ترتاد وحدها بعض الأماكن) (385) وتتصرف بحرية كاملة كالرجل.
3 - أن تخرج من استغلالية الرجل بتوفير العمل لها (في كل الميادين العملية مع ضمان أن لا يكون الرجل هو المتحكم في الدخل أو الأجر الذي تتقاضاه المرأة وبذلك تخرج من وضعها المقهور أو المكبوت) (386)
4- قيام حركة نسائية موجهة ضد الرجل ( {المطلق} ويكون هو المقصود بها فعلاً)
(387)
5 - أن تحرير المرأة يحتاج إلى القضاء على النظام الطبقي كما يحتاج إلى تغيير النظام الأبوي في الأسرة ويحتاج إلى قوانين مدنية عادلة {لا شرعية} تسوي بين المواطنين {فالمرأة يجب أن تسمى مواطناً لا امرأة} وإلى قوانين علمانية لا دينية مدنية تطبق في الأسرة (388) .
والأمر الذي يجدر ملاحظته ان حركة المرأة سارت منذ البداية مع حركة التغيير
__________
(384) السابق نفسه.
(385) السابق د / هدى بدران ص (126) .
(386) السابق ص (128) د / إيليا حريق.
(387) السابق نفسه ص (132) .
(388) السابق نفسه ص (129) د / نوال السعداوي.(1/224)
الاجتماعي في ظروفه المختلفة سواء جنحت به هذه الظروف نحو الغرب أو نحو الشرق ففي حركة المرأة الأولى التي بدأت من " منتدى الأميرة نازلي فاضل " بريادة الشيخ محمد عبده وانتهاء بإضراب النساء عن تناول الطعام سنة 1954 كانت حركة المرأة تواكب حركة التغيير في كل الميادين في مصر في ميلها نحو الغرب وانجذابها له وعندما اتجهت وجهة المجتمع في بداية الستينات إلى اعتناق الاشتراكية اتجهت معها الحركة النسائية إلى وجهتها وبدأت تظهر قيادات نسائية تؤمن بالثقافة الاشتراكية وتعتنقها وتبرز دور المرأة المشارك لعملية الإنتاج وتقييم المرأة على أنها كم اقتصادي
على أن المرأة في كل من المرحلتين كانت تابعة للرجل فهو الذي يحرضها على أن تطلب ثم يمنح فهو المانح دائماً بينما اقتصر دورها على قبول هذا المنح غير أن الرجل في الحالة الأولى - حالة الاتجاه التغريبي - حافظ للمرأة على شخصيتها الاعتبارية فبدت للعيان - على أقل تقدير - أنها هي التي كافحت من أجل ما تسميه حقوقها التي حصلت عليها بينما اختلفت الأمور في الحالة الثانية - حالة التطبيق الاشتراكي - فقد عمل الرجل على إذابتها في الجماعة فهو الذي أشار عليها أن تقبل منحه وأرغمها على ألا ترفضه فهو الذي فرض عليها ان تكون عضواً في المجالس النيابية والمحلية وهو الذي فرض عليها أن تكون وزيرة وسفيرة وشاغلة لمناصب الرجال دون أن يعطيها فرصة إبداء رأيها أو معرفة رأيها الحقيقي فيما آلت إليه حياتها) اهـ.
تكلف ... واصطناع:
ومن يتأمل حال القوم يدرك أن اعتراضاتهم على الشرائع الإسلامية تأتي لمجرد الاعتراض فهذه المطالب التي تلهث المتحررات وراءها لمجرد إسماع الناس أصواتهن وهذه المنازعات الوهمية بين الرجل والمرأة كل هذه مشاكل مصطنعة وأزمات مختلقة(1/225)
فهم يخالفون لمجرد المخالفة لا لحاجة أوجبت هذا الاختلاف والمرأة لا توضع حيث
تدعو الحاجة - صحيحة كانت أو مزعومة - إلى أن توضع ولكنها توضع لمجرد إثبات وجودها في كل مكان ولإقحامها على كل ما كان العقل والعرف ينادي بعدم صلاحيتها له فلم يكن المقصود بتوظيفها مثلاً في تلك الأيام سد حاجة موجودة ولكن كان المقصود هو مخالفة عرف راسخ وتحطيم قاعدة قائمة مقررة وإقامة عرف جديد في الدين وفي الأخلاق وفي الذوق وابتداع المبررات التي تجعل انسلاخنا من ديننا أمر واقع وتجعل دخولنا في دين الغرب ومذاهبه وفسقه أمر واقع كذلك.
وقصة " دعاة التحرير " هنا في مصر وغيرها تشبه (قصة ذلك الرجل الذي قدم إلى أبرز ساحة في العاصمة فملأ وسطها بالأنقاض ثم جاء بسارية رفع عليها مصباح أحمر
وجعل الناس ينظرون بدهشة إلى عمله ... وسأله بعضهم: ماذا تريد بهذا المصباح؟ فأجاب: تنبيه الناس إلى الخطر لكي لا يصطدموا بالأنقاض فلما سألوه: ولما جئت بهذه الأنقاض أجاب: لكي أرفع هذا المصباح) (389) .
وإذا أردنا أن نشرح دور السياسة في معركة الحجاب في مصر فلا شك يقفز إلى أذهاننا الدور الذي لعبه " صديق إسرائيل " (390) و " خادم أمريكا " و" حليف الشيطان " الذي تهكم بالحجاب علناً ووصفه بأنه " خيمة " وجرائم
__________
(389) (تأملات في المرأة والمجتمع) لمحمد مجذوب ص (33 - 34) .
(390) وقد أقيمت الصلوات اليهودية في ميادين تل أبيب على ضوء الشموع حزناً على موته وحضر ثلاثة من رؤساء أمريكا قداساً جنائزياً بالكنيسة على روحه.. لقد كان مصراً على أن يدخل التاريخ وقد دخله.. ولكن من نفس الباب الذي دخل منه إبليس وفرعون وقارون ومضى إلى ربه بعد أن صفى كل عداواته إلا عداوته لأمته.(1/226)
هذا المخلوق في حق الإسلام ثم في حق وطنه كثيرة لا تكاد تخفى على أحد وقد ختم حياته " النضالية " ضد أمة محمد " بتلك الإجراءات التعسفية والحرب المسعورة ضد المحجبات عموماً والمنقبات خصوصاً فكان رجاله يتعرضون للمنقبات في الطرقات وكانت صحفه ناراً تصب حميمها على المنقبات وفرض عليهن الخيار بين السفور وبين الفصل من وظائفهن ولم تنج النساء من حملة الاعتقالات الواسعة التي عمت البلاد واصطف جنود الشرطة البواسل صامدين رابضين كالأسود على بوابات الجامعة ودور التعليم للتصدي
لأي طالبة منقبة تسول لها نفسها دخول الجامعة بهذا النقاب الساتر وذلك الجلباب السابغ الذي وصفه بأنه خيمة:
فرعون حقير يرقد الآن في مزبلة التاريخ وحسابه على الله.
بل هذه زوجة هذا الفرعون تدلي قبل أن تدور عليها دائرة السوء وهي في قمة غرورها - ولا أقول مجدها - بحديث إلى مجلة " ماري كلير " الفرنسية المتخصصة في شئون المرأة حول ما يتعلق بالمرأة الشرقية من عرف وتقاليد متوارثة كالحجاب وختان الفتيات (391) وجريمة الزنا وذلك خلال أربعة أسئلة وجهتها الصحافية الفرنسية " كاتي برين " التي زارت مصر أخيراً لإجراء هذا الحوار وكان السؤال الأول:
{انتشرت عادة الحجاب بين الفتيات في مصر فما رأي السيدة " جيهان السادات " في تلك الظاهرة؟ فأجابت: (أنني ضد الحجاب لأن البنات المحجبات يخفن الأطفال بمنظرهن الشاذ وقد قررت " بصفتي مدرسة بالجامعة " أن أطرد أي طالبة محجبة في محاضرتي فسوف آخذها من يدها وأقول لها: " مكانك الخارج " وفي نظري فإن المسئولية تقع على عاتق أساتذة الجامعات فهم سبب في انتشار هذه الظاهرة فإذا قام أستاذ بطرد فتاة واحدة من محاضراته مرة واثنين فسوف تقلع الفتيات عن ارتداء الحجاب.
__________
(391) انظر " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (72 - 73) .(1/227)
وتستطرد قائلة: إن التحجب ليس بالشكل وبارتداء الأقنعة فالإسلام لم يدع إلى ارتداء الحجاب إنما تلك مسائل تفصيلية بعيدة عن جوهر الإسلام وعن مبادئه الأساسية ثم تذكر في نهاية الحوار أنها تعمل ليل نهار حتى تحقق للمرأة المصرية بعض حقوقها وأن أبرز ما أنجزته هو صدور قانون الأحوال الشخصية الجديد ثم ذكرت أنها دائماً " تعاكس " زوجها في طلباتها للمرأة ولكنه يجيب بقوله: " إن هذه ليست هي اللحظة المناسبة " وتقول: " ولكنني أعاود وألح عليه في طلباتي من أجل المرأة " (392)
ويتضح من هذا الحديث أن ظاهرة "عودة الحجاب " كانت قد أخذت في الانتشار السريع وكادت تفرض نفسها كواقع يكشف الحقيقة للمخدوعين والمخادعين على السواء لولا أن " الأكابر بدءوا يبيتون " وأد " هذه " العودة " قبل أن يفلت الزمام فبدأت الدوائر
السياسية والصحافية تمهد للحملة المجنونة التي توجتها السلطة بمذبحة " سبتمبر 1981م " ومن هذه الإرهاصات المقالة التالية:
" الغزالي حرب " وحربه ضد الحجاب:
" الغزالي حرب " مفتش أول اللغة العربية بشمال القاهرة إنسان أقلقه كثيراً مظهر الحجاب الإسلامي وشيوعه وسط الفتيات يوماً بعد يوم فشهر قلمه ليدلي بدلوه مع إخوانه من دعاة السفور فنشر في الأهرام أكثر من مقال يهاجم فيه الحجاب ويحرض فيه
" الأكابر " على تشريع جديد يصفه بأنه (قرار حاسم يحقق التوازن والاعتدال في أزياء الطالبات والمدرسات بين التفريط والإفراط وبين الانغلاق والانضباط)
ويفتتح إحدى مقالاته بقوله: (منذ بضعة أيام اتصل بي تليفونياً الشيخ الدكتور عبد المنعم النمر ليحدثني عن بعض الطالبات في إحدى المدارس الأجنبية الثانوية ممن
__________
(392) ملحق جريدة (القبس) العدد (2625) تاريخ الاثنين 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1980.(1/228)
يحرصن على ارتداء ما يسمينه " الزي الإسلامي " أو " الزي الشرعي " ولقد اتفقنا في هذا الحوار التليفوني على أن تغطية الوجه بالنقاب أو البرقع للطالبات تطرف لا يقره الشرع الإسلامي ولا ترتاح إليه اللوائح والتعليمات المدرسية أو الجامعية وما هو إلا شذوذ مظهري مريب)
ثم يقول: (فهذا الزي المبرقع أو المنقب ليس إلا زياً من صميم الأزياء الجاهلية البائدة التي عفى عليها الزمان ولم يعد لها اليوم مكان إلا في بعض البلاد المتخلفة أو النامية ولن يبقى فيها طويلاً أمام التطور الوثاب الذي يؤكد ما قاله داعية تحرير المرأة الأول في مصر والشرق العربي " قاسم أمين " من أن هذا الزي الشاذ يمثل دوراً من الأدوار التاريخية لحياة المرأة في العالم ومن العبث الذي لا طائل من ورائه أن تتشبث بعض المدرسات أو الطالبات متمسحات في ذلك بالإسلام الذي يدعو المرأة - ولا شك - إلى الاحتشام المنضبط الذي يقره العرف القويم والذوق السليم لا إلى الاحتشام " المنغلق " المثير للشبهات ولا سيما شبهة محاولة " إخفاء الشخصية (393) "
ثم يستطرد قائلاً (ما أروع الحديث النبوي الشريف القائل: " ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ - طلب البراءة والسلامة - لدينه وعرضه) وخاصة في ظروفنا الحاضرة التي تمس فيها الحاجة دائماً إلى التحقق من كل طالب وطالبة حرصاً على استتباب الأمن والنظام وسيادة الأمن العام وحرام - والله - أن نضيع مثقال ذرة من الوقت الغالي
الثمين بلابسات البراقع والجدل حولهن باسم الإسلام الذي يقول بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام:
" ما غضب الله على قوم إلا ابتلاهم بالجدل وصرفهم عن العمل " (394)
..... حرام والله - أن تشغلنا هذه " الظاهرة المرضية " عن النصح
__________
(393) يأتي دفع هذه الشبهة الإبليسية إن شاء الله عند تفسير قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين} الآية بالقسم الثالث من هذا الكتاب يسر الله تمامه.
(394) روى الترمذي وبن ماجه والإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا: {ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون}
(الزخرف 58) وقال الترمذي حسن صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي=(1/229)
لكريماتنا وأخوتنا المنتقبات أن يكن في أزيائهن منضبطات متفتحات لا منغلقات أو مبرقعات وأن يذكرن - والذكرى تنفع المؤمنين والمؤمنات - أنه عندما نهض قاسم أمين بدعوته المتحررة باركها باسم الإسلام أستاذنا " الإمام محمد عبده " حاربه الجامدون والمتنطعون داعين النساء إلى ارتداء النقاب والبرقع اتقاء للفتنة فانتهزت ملاهي أوربا هذه الفرصة وأخذت تعرض رقصة أسمتها " رقصة برقع الإسلام " وهكذا التقى جد الرجعيين وهزل العابثين في اتهام الإسلام بأنه دين البراقع) .
ثم يذكر معنى الحجاب في الإسلام في نظره فيقول: (وما هو إلا دين الاحتشام المعتدل المشرق بأنوار العفة والفضيلة والحياء وفي ضوئها وهداها التقى الجنسان على سواء معتصمين بحجاب الوازع الخلقي والضمير الحي)
إلى أن يبتهل داعياً المولى عز وجل في نهاية مقاله قائلاً: (واللهم أبعد عن مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا وطرقاتنا وسائر مجالاتنا شبح الجمود والممات وشبح الظواهر المرضية المثيرة للفتن والخلافات والانقسامات) (395) انتهى
ولا يقل عنه تحاملاً الصحافية " منى رمضان " التي كتبت مقالاً في مجلة " أكتوبر " تحت عنوان " طبيبات ولكن محجبات " تبدؤها بقولها:
(عاد الحجاب مرة أخرى كظاهرة على وجوه الفتيات والسيدات في مصر وهذه ليست آخر صيحة في عالم الموضة كما قد يتبادر إلى الذهن ولكنه نوع من الحشمة وإحياء التقاليد (396)
__________
= (جامع الأصول 2 / 749) والجدال والمراء: المخاصمة والمحاجة وطلب المغالبة ولا شك أن الحديث نفسه يدين الكاتب وهو حجة عليه لعدوانه على أهل الحق ومجادلته إياهم بالباطل كما سترى الحمد لله الذي أنطقه بالحجة لنا.
(395) الأهرام - الاثنين 2 فبراير 1981 م مقالة بعنوان (أزياء الطالبات بين الانضباط والانغلاق) .
(396) ينبغي التحفظ من مثل هذه العبارات فليس الإسلام " تقاليد " وما عرفناه إلا مناراً وتعاليم وشرائع ومعالم وردت في أكثر من حديث: منها قول رسول الله ": (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم معالم - أي =(1/230)
الإسلامية التي تطلب من النساء أن " يدنين عليهن من جلابيبهن ")
وتحت صورة التقطت لمحجبتين تكتب قائلة:
(النقاب الذي ترتديه فتاة الجامعة يقربها إلى الرهبانية ولا رهبنة في الإسلام) لكنها حرصت على أن تنشر ثلاث صور إحداها على غلاف المجلة لفتاتين سافرتين ترتديان
" الحجاب النصفي " أو " الحجاب العصري " الضيق المزين والثانية لثلاث فتيات سافرات ولكن في عرفهن
__________
= دلائل ومسائل - دينكم) رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر - رضي الله عنه - بهذا اللفظ
ومنها قوله ": (إن الإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الإيمان " وغيره - أنظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة " حديث رقم (333)
ومعنى " صوى " جمع صوة: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازة المجهولة يستدل بها على الطريق وعلى طرفيها أراد أن للإسلام طرائق وأعلام يهتدي بها كذا في " لسان العرب ".
عن أبي عمرو بن العلاء.
وعن عبد الله بن يسر المازني - رضي الله عنه - عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى قال: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وفي بعض الآثار (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم) ...
فكم تفر أعين المتغربين والمتفرنجين والمجامحين الخارجين عن ربقة الإسلام بكلمة " التقاليد " الإسلامية؟!
إنهم بذلك يحولون شرع الله ووحيه إلى أعراف وتقاليد تواضع الناس - في زمن من الأزمان - على احترامها وبناء على ذلك فما يصلح لجيل لا يصلح لآخر وما يناسب مجتمعاً لا يناسب المجتمعات الأخرى وما يتفق مع زمن فلا شأن له بباقي الأزمان!
فالهدف إذاً من التعبير عن الأحكام الشرعية بـ (التقاليد) واضح وهو جعلها عرضة للتغيير والتبديل بحجة أن " تقاليد " عصر الصحراء لن تناسب عصر الفضاء {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} الكهف 5!
أنظر: " مهلاً يا صاحبة القوارير " ص (10 - 11) .(1/231)
" محجبات " يرتدين ثياباً لا يقرهن عليها مسلم عالم وقد علقت مسرورة بثيابهن قائلة:
(الحشمة الغير مبالغ فيها مطلوبة داخل الجامعات المصرية بدلاً من التقليعات الدخيلة علينا)
والثالثة لفتاة متزينة بالحجاب العصري الفتان وقد علقت الصحافية تحتها:
(هكذا تكون الفتاة الجامعية: علم وإيمان) .
تقول الكاتبة الحائرة القلقة: (والحشمة هنا نابعة من داخل المرأة وعلى أساسها فصَّلت هذه الثياب وفضلت أن تخرج بها إلى الشارع وإلى الجامعة.. وقد تكون هذه الظاهرة عودة إلى عصر الحريم (*) لا ينقصها إلا " قاسم أمين " جديد ليطلق صرخته مرة أخرى.. وربما تكون نوعاً من الموضة تأخذ مداها ثم تتلاشى بعد فترة طالت أو قصرت وقد تكون حنيناً على العودة إلى رحاب الروحانيات بعد أن طغى سلطان المادة على نواح كثيرة في حياتنا إلى آخر هذه التساؤلات التي تتبادر إلى أذهاننا جميعاً)
ثم تعبر عن حسرتها وقلقها قائلة: (إن هذه الظاهرة انتشرت وبصورة أكثر وأوسع داخل كليات الطب في الجامعات الثلاث) .
ثم تنقل الكاتبة في حوارها كلمة " دكتور يوسف عبد الرحمن " رئيس قسم الفسيولوجيا بطب القاهرة:
(باعتباري رجلاً مسلماً أفضل الزي الإسلامي فهو
__________
(*) الصحافية هنا تنسج على منوال إخوانها في الضلال حيث أخذوا يسخرون ويتفكهون بعصر " الحريم " ثم ربطوا الدعوة إلى الحجاب بعصر الحريم تنفيراً منه تماماً كما يربط العلمانيون الملاحدة الدين بالرجعية ولكن ما هو (الحريم) ؟ جاء في مجلة (الأسبوع العربي) اللبنانية العدد (14153 أيار) : (كانت كلمة " حريم " تعني منذ الأزمان البعيدة الحرم المقدس أو المعبد المحرم الدخول إليه وقد أطلق هذا الاسم على القسم الخاص بالعائلة أي بالنساء والأطفال والذي كان محرماً على الغرباء ولوجه بينما سمح لهم بالدخول على باقي أقسام المنزل ولم يكن النساء ليبرحن " الحريم " إلا لزيارة صديقاتهن أو لحضور الاحتفالات العائلية أو الدينية فقد كان للنساء إذاً عالمهن الخاص المقتصر عليهن فقط إذ حرم عليهن تماماً الاختلاط بالرجال أو استقبالهم أو التحدث إليهم) اهـ.
وجاء في جريدة (الأخبار) على لسان باحثة أمريكية مشهورة تدعى الدكتورة " إيدالين " ما نصه: (إن تدهور الأخلاق في أمريكا راجع إلى ترك المرأة بيتها واشتغالها بالحياة العامة وإن عودة المرأة إلى " نظام الحريم " هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الخلقي الذي يسير فيه) اهـ. من (الحركات النسائية في الشرق) ص (35) .(1/232)
" مستحب " لأنه حشمة ويخفي عورة المرأة وهذا الزي كما أعرف لا يعوق المرأة عن العمل أما النقاب الذي ظهر حالياً فهو غير مستحب ولا أفضله أبداً فهو يقترب بالمرأة من الرهبانية ولا رهبانية في الإسلام) ثم يقول:
(وما دامت المرأة قد خرجت إلى الشارع والعمل فلابد أن يتعرف عليها المدرس وكمسري الأتوبيس وكل من يتعامل معها أما النقاب فهذا غريب وغير عملي في هذا العصر وأنا أعلم أن النقاب كان موجود في العصور المظلمة فقط) انتهى كلامه.
وهذه (مها عثمان) تكتب في " آخر ساعة " مقالاً بعنوان
(ظاهرة الحجاب: لماذا؟)
وتقول: (ظاهرة الحجاب من الظواهر اللافتة للنظر الآن ليس فقط في الشارع المصري وإنما في الدواوين والمصالح الحكومية والكثير من مواقع العمل والظاهرة تتنامى ويأخذ معها الحجاب أشكالاً متعددة.
والأسئلة التي تثيرها تلك الظاهرة عديدة وفي مقدمتها: لماذا الحجاب؟ وماذا وراء تلك الظاهرة؟ ثم ما هو الفرق بين الحجاب والنقاب؟ وتحاول الكاتبة الإيحاء بأن الحجاب تقليد مملوكي أو تركي.
ثم تقول: (وظلت المرأة تحرص على وضع النقاب على فمها وأنفها عند ظهورها في المجتمعات الراقية واستمر حجاب المرأة بهذه الطريقة حتى دعا " قاسم أمين " إلى السفور عام "1912" (397) والتحرر من قيود هذه الأغطية وغيرها) .
وتتسلل روح التغريب وكراهية الحضارة الإسلامية بين السطور فتقول الكاتبة:
(ويمكننا فهم دعوة " قاسم أمين " للسفور وإلغاء الحجاب على إنها دعوة للإنسان للأخذ بقيم الحضارة الغربية على حساب حضارة أخرى وهي الحضارة التي تمثلها الدولة العثمانية)
فما هي تلك الحضارة " الأخرى " التي تمثلها الدولة العثمانية إن لم
__________
(397) كذا!(1/233)
تكن الحضارة الإسلامية؟
ثم تمضي الكاتبة قائلة: (وقد نجحت دعوة " قاسم أمين " حيث كان الجو العام مهيئاً.. وأصبح هذا النمط السائد في التعليم والملبس والمسكن و " القانون " و " السياسة " والفلسفة لكن إذا كان هذا هو ما حدث في فترة تاريخية معينة فما هو تحليل " عودة الحجاب " مرة أخرى؟) .(1/234)
المركز القومي للبحوث الاجتماعية في حالة (طوارئ) بسبب عودة الحجاب
تقول الدكتورة " زينب رضوان " رئيسة وحدة البحوث الدينية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية:
(إن هذه الظاهرة من أهم الظواهر التي اهتم المركز برصدها وتحليلها ولذلك فقد أجري بحثاً حول عوامل هذه الظاهرة وأسبابها والتفاعلات الاجتماعية المرتبطة بها والصلات التي تربط الحجاب بالعوامل الاقتصادية والثقافية والدينية وتلك التي تتعلق بالتنشئة الاجتماعية.
وقد ضم هذا البحث تقريرين أحدهما يتعلق بالطالبات والثاني يهتم بالموظفات وقد تناول البحث حوالي 800 من الفتيات ما بين محجبات وغير محجبات.. واهتمت الأسئلة
بالدوافع بالنسبة لكل من الطالبة والسيدة المتزوجة.. وهل هي واحدة أم أنها مختلفة؟ وهل هذه الدوافع دينية أم أنها لأسباب أخرى؟)
وتضيف الدكتورة " زينب رضوان ": إنه ينبغي لنا أن نسجل ملاحظة هامة وهي:
(أن الإنسان يتصرف وفق ما يعتقد أنه صحيح لا وفق ما هو صحيح بالفعل ولذلك فبعض المحجبات يرفضن المساواة بالرجل مستشهدات بالآية الكريمة {الرجال قوامون على النساء} وهذا تفسير نختلف عليه.. والحجاب ليس مجرد مظهر ولكنه سلوك إسلامي حضاري..) ثم تستطرد قائلة:
(إنه إذا أردنا ان نضع هذه الظاهرة داخل إطار معين وأن نفسرها فسنجد أن هناك ثلاثة تفسيرات مختلفة:(1/235)
التفسير الأول: يرى أن الحجاب في مصر يدخل ضمن مجموعة من الظواهر التي يمكن التأريخ لها عام (1967) وأنه دليل على اتجاه المجتمع للبحث عن " بديل " للفكر والقيم والسلوكيات العلمانية التي نقلها مجتمعنا عن الغرب ولهذا فإن هذه الظاهرة ما هي في الحقيقة إلا جزء من فكر " بديل " ألا وهو البديل الديني) اهـ.
لا.. لا أيتها الباحثة! حاشا أن يكون دين الإسلام " بديلاً " فبئس ما قلت إنما العودة إلى الإسلام عودة إلى الله بعد أن طغى سلطان " اللادينية " في ظل " انقلاب يوليو 1952 " وليس الإسلام في ذلك بديلاً كأي بديل ولكنه سير على الطريق الوحيد الموصل إلى سعادتي الدنيا والآخرة فكل طريق إلى الجنة مسدود إلا طريقاً على رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما كان قبله) (398)
وليس الإسلام (بديلاً) ولكنه هو الأصل وما عداه طارئ بل ما عداه " زبد " حانت له الفرصة يوماً ما أن يطفو على السطح ثم لم يلبث أن تلاشى كأن لم يكن
{فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ينفع الناس فيمكث في الأرض} (الرعد 17) .
قال فضيلة الأستاذ الدكتور " مصطفى حلمى " حفظه الله في تحليل ظاهرة عودة الشباب إلى الدين:
(وكما يفيق المغمى عليه ويعود إلى نفسه كذلك أخذت الطلائع الشابة الواعية ترقب فشل الأنظمة المستوردة من الشرق أو الغرب التي أدى تطبيقها إلى المزيد من الفشل والهوان وأدركت أن هذا الفشل يرجع إلى بعد الأمة عن طريقها وانقطاع صلتها بالعقيدة والتراث وأخذ صوت الإسلام يدوي بين الصفوف لم الاستغراب إذن
__________
(398) رواه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني ولمسلم نحوه بلفظ: " يهدم ".(1/236)
من عودة ظهور التدين بين شباب الإسلام؟ إن العقيدة لم تختف أصلاً بل ظلت باقية كل ما هنالك أنها اختفت وراء ستر رقيق ذلك أنه ينبغي التمييز بين العوامل الجوهرية للنهوض بالأمم واندثارها وبين مظاهر التدهور والضعف التي تنتابها بين حين وآخر كعوارض مرضية تظهر لتختفي) (399) اهـ.
ثم تقول الكاتبة:
(التفسير الثاني: يحاول أن يتجاوز الواقع المصري إلى الواقع الإسلامي بأكمله فهو يرى أن الحجاب ما هو إلا نوع من الإحياء للحضارة والثقافة الإسلامية في مواجهة الطابع الإنساني للعلاقات التي سقطت فيها الحضارة الغربية.
أما التفسير الثالث والأخير: فهو يرى أن الحجاب شكل من أشكال الرفض التلقائي للظواهر الاستهلاكية التي بدأت تسود مجتمعنا والتي تحول هذه المجتمعات إلى أسواق استهلاكية تابعة للحضارة الرأسمالية الغربية المنتجة فهي صحوة تحاول الحفاظ على " طهارة " الذات القومية في مقابل الترف الاستهلاكي) اهـ.
ولن نشغل أنفسنا بمناقشة هذه التفسيرات الهزيلة لأن هدفها واضح وهو إضعاف الصبغة الإسلامية لعودة الحجاب والتشويش على نوايا الفتيات المخلصات لربهن المعتزات بإسلامهن و " الانحراف " بهذه الظاهرة الإسلامية الواضحة إلى مفاهيم مائعة تفت في عضد الملتزمات وتوهن عزيمة الراغبات في التحجب وهيهات هيهات.
__________
(399) " المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها؟ " ص (16 - 17) .(1/237)
(ولتعرفنهم في لحن القول) سورة محمد (30)
(ردة ونكسة ومأساة) زكي نجيب محمود (*)
أعداء الإسلام من المنافقين المتمسلمين الكارهين لما أنزل الله الصادين عن سبيل الله الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف لا يملون ولا يكلون من ممارسة هوايتهم الرخيصة في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا والترويج للذرائع المفضية إلى مزيد من
الفساد والإفساد لهذه الأمة الغافلة عما يراد بها إنهم لا يألون جهداً في قطع صلتنا بأسلافنا ووصل الحبال مع أعداء ديننا الكارهين - أيضاً - لما أنزل الله.
نشرت جريدة الأهرام في عددها الصادر بتاريخ 9 / 4 / 1984 م مقالاً بعنوان (ردة في عالم المرأة) للفيلسوف الهرم (الذي أفنى عمره داعية لثقافة الغرب وكارهاً للحياة في ظلال الإسلام إنه الرجل الذي رشح لاقتعاد محل الصنم الضال " طه حسين " بعد هلاكه الذي أنفق ردحاً من عمره في دراسة الفكر المادي الذي كانت قمته كتابه المعروف بـ (خرافة الميتافيزيقا) أي بمعنى آخر: اتهام مفهوم (الغيب) بأنه (خرافة) وإنكار كل ما سوى المحسوس تبعاً لمدرسة الفيلسوف الملحد " أوجست كنت " تلك المدرسة التي يفاخر فيلسوفنا الهرم بأنه يمثلها) (400)
إنه الكاتب الذي (باع عقله للهوى وانضوى تحت لواء الأعداء فهو جندي من جنود الاستعمار الفكري والانحراف الخلقي) (401) إنه الرجل الذي لم يستح أن يجهر في
" الأهرام " بقوله: (من الخطأ الظن بأن التشريع الإلهي قد غطى كل معضلات الحياة) (402)
__________
(*) استفدت كثيراً من فقرات هذا الفصل من كتاب " صحوة في عالم المرأة " للدكتور عبد الحي الفرماوي حفظه الله.
(400) انظر " رجال اختلف فيهم الرأي " ص (115 - 224) .
(401) (الاعتصام) عدد رمضان 1404هـ / يونيو 1984 م - ص 10.
(402) (الصحافة والأقلام المسمومة) ص (215) نقلاً عن الأهرام.(1/238)
لقد أثار الفيلسوف الهرم في مقاله " قضية المرأة " ومن خلال هذه القضية أثار قضية أخرى أخطر وأهم وهي قضية ارتباط جيلنا بدينه وأسلافه المسلمين أكثر من ارتباطه بجيل الآباء ورأى الكاتب في هذا الارتباط خطراً وبيلاً على الفكر والأمة والمستقبل.
وأول ما يفجع القارئ أن يرى الكاتب يعنون مقالته بقوله " ردة في عالم المرأة " فلربما يستبشر القارئ ويخيل إليه من أول وهلة أن الكاتب يقصد استنكار الحال الذي وصلت إليه بعض النساء اللاتي ارتددن عن الإسلام بأن تكون منهن - مثلاً - من قد أنكرت ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو استحلت شيئاً حرمه الله أو أنها اتهمت شرع الله بالنقص أو طعنت في حكمه سبحانه وتعالى أو اتهمت الإيمان بالغيب بأنه (خرافة) مثلاً
ولكن القارئ لا يلبث أن يصدم شعوره حين يرى الكاتب منكوس القلب منكوس الرأي مطموس البصيرة مركوس السريرة قد رأى الأشياء على عكس حقائقها كالمريض الذي فسد مزاجه فإنه يحس بالأشياء على خلاف طبائعها:
وما على العنبر الفواح من حرج أن مات من شمه الزبال والجعل
فتراه كالجعل الذي اعتاد الخبائث فهو يندفع إليها ويسقط عليها وينفر غاية النفرة أو يموت من الروائح الطيبة.
فالمرأة المسلمة عنده (مرتدة) لأنها كفرت بفكر (مرقص فهمي) و (قاسم أمين) و (سعد زغلول) وأمثالهم ورضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
والمرأة المسلمة في نظره قد أصابتها (نكسة) لأنها كفرت بهدى شعراوي وصفية(1/239)
زغلول ودرية شفيق وأمينة السعيد ومن على شاكلتهن في حين أنها عادت تلتمس القدوة في أمهات المؤمنين ونساء وبنات المهاجرين والأنصار ومثيلاتهن من خيرات نساء العالمين الطاهرات المحصنات المؤمنات الخاشعات رضي الله عنهن.
والمرأة المسلمة عنده (نكصت على عقبيها) لأنها سترت عورتها وحجبت بدنها وأطاعت زوجها ووقفت حياتها على أولادها ورفضت أن تقتدي بهدى شعراوي التي ألقت حجابها في البحر عند شواطئ الإسكندرية وأبت أن تتأسى برائدات (الفن) من الراقصات الفاسقات وداعيات (الموضة) من الصهيونيات والماسونيات.
ويبدو أن الرجل لا يقصد بمقاله المرأة وحدها بل يقصد إدانة الاتجاه العام السائد بين الشباب والذي يرمي إلى استلهام التصور الإسلامي في بعث الأمة الإسلامية والوصول بها إلى واقع جديد يختلف عن واقع الهزيمة والتخلف والظلم وها هو يهاجمنا - نحن المسلمين - في أخص ما نملك وأعز وأغلى ما عندنا إلا وهو ديننا الحنيف ومن هنا وقبل أن نتتبع أقواله ينبغي:
أولاً: أن نرفع اللبس والإبهام والتعتيم عن كلمة (المرأة المصرية) التي يتحدث عنها فنقول إنه يعني بالمرأة المصرية (المرتدة الناقصة على عقبها المنتكسة الرجعية التي تعيش مأساة ... إلخ) المرأة المسلمة.. فالمرأة المسلمة المصرية وحدها هي المقصودة وهي المستهدفة بسهامه المسمومة وأفكاره المحمومة وفتنته المضلة التي تطل برأسها بين الحين والحين والتي (زرعت في أرحام بلاد غير بلادنا وولدت في أكناف غير أكنافنا ولكنها زرعت خصيصاً للمسلمين وولدت خصيصاً للمسلمين وصدرت منهم خصيصاً للمسلمين) . (403)
__________
(403) راجع ص (79 - 81) .(1/240)
ثانياً: أن تحدد هدف هذا المقال وهو كما يمكن استخلاصه من عباراته: التصدي لظاهرة (عودة الحجاب) والدعوة صراحة إلى الخلع الحجاب وإلقائه في البحر وإغراقه في اليم ليصبح نسياً منسياً وبالتالي: محاكاة المرأة الغربية في كل ما تأتي وتذر
بيد أن الهدف يتسلل بين السطور على استحياء ويدخل على الناس ممتطياً حلو الكلام ولين الحديث وبريق الخداع قال تعالى في وصف المنافقين: (وإن يقولوا تسمع لقولهم) المنافقون (4) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) (404) .
ولعل أبرز ما يتميز به الكاتب أنه يتقن الصنعة اليهودية القديمة وهي حرفة " التبديل " وعكس المعاني فإنك لو عكست أكثر كلامه لكان هذا الأكثر هو الحق فهو كمن " يمشي مكباً على وجهه " وهو كالذين (يحرفون الكلم عن مواضعه) المائدة (13) ¸في صده عن سبيل الله وتنفير المسلمات عن الحجاب وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مثل
الذي (ينهى عبداً إذا صلى) العلق (10) ومثل الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) التوبة (67) وبقوله سبحانه: (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) آل عمران (118) وبقوله عز وجل:
(ولتعرفنهم في لحن القول) محمد (30) .
فالكاتب في الحقيقة هو المنتكس المرتد إلى الجاهلية حين يرى طاعة الله ورسوله ردة قال تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) المائدة (50) وقال تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الأحزاب (33)
والكاتب الذي يصف عودة المرأة المسلمة إلى
__________
(404) رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(1/241)
الله وعودتها إلى الحجاب بأنها قد
خرجت بذلك من ضوء النهار إلى غسق الظلام والله عز وجل يقول: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) البقرة (257)
والله تعالى يقول: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) الأعراف (3) هو الناكص على عقبيه.
والكاتب الذي يدعو المرأة إلى دخول عصر النور الذي بدأ في زعمه بإلقاء الحجاب في البحر على شواطئ الإسكندرية وانتهى إلى ما نعلمه اليوم على شواطئ الإسكندرية هو شيطان الظلام وليس الدعاة إلى الإسلام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر
والمأساة التي يتصور الكاتب أن المراة المسلمة تعيشها اليوم لا وجود لها إلا في قوله الفاسد ورأيه الكاسد وإنما هي من صنع نفسه التي سولت له أن المجتمع يرفض دعوته ودعوة أمثاله من شياطين الإنس ولن يؤثر في عقل المراة اليوم وسوسة شيطان يدعي أنها بهذا الاختيار تكون " تابعة " أو " خاضعة " لأحد من البشر إنما هي متبعة لأوامر ربها وخاضعة لحكم الله رب العالمين تتحجب صيانة لنفسها واستجابة لشرع الله وترفض السفور لأنه دعوى الشياطين ووسوسة الذين في قلوبهم مرض.
إن " المأساة حقاً " هي التي تعيشها المرأة في التعليم المختلط والنوادي المختلطة والشواطئ المتجردة من ثوب الحياء.
إن (المأساة) حقاً هي واقع أمثاله من دعاة (تدمير المرأة) الذين وقفوا حياتهم على هدم حصون الإسلام وعرقلة مسيرة الصحوة الإسلامية أما أن تعيش المسلمة في مأساة لأنها تحجبت بمحض أختيارها فقد: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) الكهف (5) .(1/242)
يقول صاحب (الردة) : (المرأة اليوم - بعد كل ما صنعته أخوات لها من بنات الجيل الماضي لترفع عنها نير الهوان - تتبرع سلفاً بحجاب نفسها قبل أن يأمرها بحجاب والد
أو زوج فكأنها بذلك الحجاب الطوعي تقف على مئذنة لتصيح في الناس: ها هي ذي سلعة من عهود الحريم لمن يشتري) اهـ
ويلك يا شيخ التغريب! لقد قلبت الأمور رأساً على عقب.
ما مقصودك بهذا؟
أنت مطالب ببيان الفرق بين " الإنسان " وبين " السلعة " ثم إثبات ان المسلمين قد عاملوها معاملة السلعة ببراهين وأدلة صحيحة أما الكذب والفجور فكل خبيث ساقط منسلخ من الدين لا يعجز عنه ولايهابه لأنه غذاء قلبه وروحه:
لي حيلة فيمن ينم وليس لي في الكذب حيلة
من كان يخلق قوله فحيلتي فيه قليلة
إن مجرد إحصان المرأة في البيت لا يقضي بكونها سلعة فإن السلعة لا تختص بالأحراز في البيوت بل أكثر السلع تعرض في الأسواق والمجامع وفي كل مكان بل السلع التي تحرز أنفس من السلع التي تعرض في كل محل وليس مجرد المعاوضة يوجب التشبيه بالسلع.
ومن المسلم به في عالم التجارة وفي قانون العرض والطلب أن على أصحاب السلعة أن يحسنوا عرضها على الناس فيكشفوا عنها حتى يتعرف الراغبون في شرائها على مزاياها والأمر هنا مختلف جد الاختلاف إذ أن المرأة في حياتنا هذه تخفي مفاتنها وتحجب عن الناس رؤية وجهها وهو أمارة الجمال وعلامته فهي إذن لم تحاول عرض نفسها كسلعة تباع وتشترى ولم تناد من فوق مئذنة بصوت خفيض أو(1/243)
جهوري لأنها أكرم على نفسها من هذا الوصف المهين الذي لا يليق بالمسلمة المحجبة ولكنه أليق بتلك التي خلعت حجابها على شواطئ الإسكندرية لتدخل " عصر النور " في زعمك فأنت في الحقيقة الذي جعلتها سلعة لأنك أعرضت عن كل ما شرعه لها ربه ورسولها صلى الله عليه وسلم من الحقوق التي هي في غاية العدل والإحسان من العفة والإحصان والصيانة والتكريم والتعليم الصحيح وأنت الذي سلكت فيها مسلك السلع المبتذلة وطلبت منها أن تخرج من بيتها لتخالط الرجال بادية عوراتها وأن تنطلق إلى عصر " النور " لتكون رائدة في " الفن والموسيقى والرقص " وأن تعمل " مضيفة في الطائرة وبائعة في المحلات وسكرتيرة في الإدارات وأن تمرح وتسرح وتذهب وتجئ كالسائمة المهملة كيف شاءت شهواتها.. أليس هذا هو شأن " بعض " السلع المبتذلة؟!
كلا ليس التوبة ردة وليس النور ظلاماً وليست اليقظة مأساة بل هي " صحوة " مباركة أدركت المرأة بعد أن عثرت على ذاتها التي ضاعت في عصر " الثورة " فلما عاد إليها صوابها أدركت بعقلها وسليقتها وفطرتها حاجتها إلى أن تحتمي بنور الإيمان فأسبغت على نفسها ملابسها وغطت رأسها وبذلك عادت إليها روحها أصيلة وهي راضية حيث
رجعت من تلقاء نفسها إلى طاعة ربها (قبل أن يأمرها بذلك والد أو زوج) كما يعترف الفيلسوف الهرم وهذا هو السمو الخلقي والروحي الذي لا سمو يعلو عليه.
فما الذي رابك أيها العجوز من ستر الأجساد وصيانة الأعراض؟
وما الذي تعيبه على نساء مسلمات عرفن أن الله سبحانه وتعالى هو ربهم الواحد الجدير بأن يطاع لا شياطين الشرق والغرب من أعداء الله ورسوله والمؤمنين؟!
فإن كنت ترثي للمحجبات لأنهن في زعمك (مرتدات) فأولى بك أن ترثي لنفسك وقد تماديت في غيك وضلالك وأنت ابن الثمانين ولم يزدك تطاول السنين إلا(1/244)
تهوراً واستكباراً عن الرجوع إلى الله والتكفير عن الصد عن سبيل الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة) رواه البخاري
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة لقد أعذر الله إليه) رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه
والمقصود أنه سبحانه لم يبق فيه موضعاً للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة.
إن المسلمة المحجبة يهمها أولاً أن تنجو من عذاب النار وغضب الواحد القهار ولا يهمها بعد ذلك أن تنجو من اتهام الأقزام أمثالك بالردة او الرجعية أو النكسة أو النكوص على الأعقاب أو التزمت أو التطرف.
فإن المؤمنين والمؤمنات تعودوا على هذا المسلك من أعداء الدين فيما مضى ولابد من أن يعيد التاريخ نفسه (ولكل قوم وارث) وقد سبق الكاتب من هم على شاكلته بهذه السخرية وذلك الاستهزاء كما قال تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) المائدة (58)
وقال تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) الآيات (المطففين 29) فالمهم من يضحك أخيراً (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) هود (38)
وقال عز وجل: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) البقرة (212) .
هذا وإن هذه الدعاوي التي رمى بها (الفيلسوف الهرم) والمهانة التي ألحقها بكرامة المرأة المسلمة لو أن أكفر يهودي أدعاها على شعب أو أمة لكان لابد أن تعامله معاملة أعدى عدو لها فكيف بأمة الإسلام وكيف بنساء المسلمين!.
ويتمادى الكاتب في عدوانه ليصف ظاهرة عودة الحجاب بأنها (موجة رجعية عاتية نثرت رذاذها في كل اتجاه حتى أصاب المرأة ما أصابها)(1/245)
نقول: إن التقدم الفكري ليس له صلة بكشف العورات أو إلهاب الشهوات لأن الشهوة هي التي تطفئ العقل وتذهب باللب وإلا فأن الحيوانات العارية التي تقارف الشهوة في قارعة الطريق أدنى - في نظرك - وبهذا المنطق الممسوخ إلى التقدم الفكري وكأنك بهذا النهج الذي يدل على (التخلف الفكري) تصف النساء المسلمات منذ عصر النبوة
حتى بدأ غزو الحضارة الغربية بالتخلف والجمود والانحطاط ولا يستبعد صدور هذا من أمثالك.
ولعمر الحق.. إن أقل امرأة منهن - ولو كانت أمية جاهلة بفلسفتك - لهي أدنى إلى الحق والصواب والحكمة منك لأنها آمنت بدين الله والتزمت أوامر الله بفطرتها أما أنت فقد فسدت فطرتك حين ضيعت عمرك في فلسفة أكثرها سفه وأعرضت عن علم الوحي والحكمة واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير إن عودة المرأة إلى جادة الصواب ليس رجعية ولكنه تعبير فطري بجانب أنه تعبير عقائدي تسعى إليه الفطرة السليمة التي تأبى الفوضى الاجتماعية.
وعقد الكاتب مقارنة هزيلة بين (الليلة) و (البارحة) في حياة (المرأة المصرية) فقال - عامله الله بعدله - (ألا ما أبعد الفرق في حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة ففي بارحتها ألقت بحجابها في مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية إيذاناً بدخولها عصر النور وأما في ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام أن ينسجوا لها حجاباً يرد عنها ضوء النهار) اهـ.
نقول: نعم! (إن المرأة المصرية حين ألقت بحجابها في بداية القرن العشرين في مياه البحر عند الإسكندرية إنما ألقته عندما كان البحر الأبيض المتوسط في حالة الجزر فانحسرت الأمواج عن شواطئ الإسكندرية وهي تحمله فوق زبدها فلما أسبل الليل سدوله انتشر الظلام وهبت الريح العاتية وخضع البحر لعوامل المد فزحف الموج عائداً إلى الشاطئ حاملاً مع ما فوقه من الزبد الميني جيب فالتقطه قلة(1/246)
من المصريات وفرحن به فارتدينه أسوة بأخوات لهن في أوربا وأمريكا فكشفت كل واحدة منهن عن ساقيها وسرن بهذا اللباس في الطرقات وذهبن به إلى بعض أماكن العمل ثم دار الزمان دورة أخرى وجاء ليل مظلم آخر وسيطر على البحر عامل المد مرة ثانية وزحف الموج كعادته عندما يعم الظلام قاصداً شواطئ الإسكندرية وحاملاً " ملابس البحر فوق زبد الموج الزاحف فهرعت إليه قلة قليلة من فتياتنا وأعجبن به كما أعجبت به من قبل أخوات لهن في أوربا وأمريكا فارتدينه وسرن به شبه عاريات على بعض شواطئ الإسكندرية واستمر سيرهن على هذا الحال..) (405) اهـ
حتى شاء الله أن يعود لهؤلاء الفتيات أو لقسم كبير منهن (الوعي) بحقائق الإسلام التي جهدت مدرسة (السفور) أن تطمسها.. وعاد الوعي بأباطيل خصوم الإسلام ومؤامراتهم.. وعاد الوعي بحقيقة (الرائدات) والرواد الذين أضرموا فتنة ما يسمى بـ (تحرير المرأة) .. وكانت نتيجة ذلك كله ضرورة أن (عاد الحجاب) .
إن الفرق بين نهار المرأة المسلمة المحجبة وليلتها البارحة هي أنها أدركت أنكم يا شياطين الظلام تعيشون في حالة (ردة) عن دين الله القويم إلى الجاهلية الأولى
و (نكسة) إلى الفرعونية الوثنية و (مأساة) يرثى لكم من أجلها من أنعم الله عليهن بالهداية إلى الصراط المستقيم.
ولعل من أغرب ما في كلام الفيلسوف الهرم أن أكثر ما يشعل النار نار الغيظ في قلبه هو أن الفتيات يرتدين الحجاب طوعاً لا كرهاً بمحض اختيارهن وقناعتهن الذاتية و (حريتهن الشخصية) فإذا كان هو أحد دعاة احترام (الحرية الشخصية) و (حرية الرأي) فما الذي يغيظه ويكيده سوى الحقد الأعمى على الإسلام والمسلمين
__________
(405) من مجلة الأزهر عدد رمضان 1404 هـ يونيو 1984 م من مقالة الأستاذ عبد المنعم عمر بعنوان (حجاب المرأة عودة للتمسك بالدين والعفة والفضيلة) ص (1484) .(1/247)
والكيد الرخيص لمعاندة شرع الله (قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) ولما لم تصدر منه عبارة واحدة في استنكار صور الانحراف الأخلاقي في المجتمع وما أكثرها وإنما الذي استحق أن يلفت نظره هو فتيات آمنَّ بالله سبحانه وصدقن في اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وحجبن عوراتهن عن نظر قوم فاسقين لا خلاق لهم ولا خلق لا تعني
" حرية الرأي " عندهم إلا " حرية الفسق والفجور ".
ثم عقد الفيلسوف الهرم مقارنة أخرى بين الشباب الثائر في العالم وبين الشباب المسلم في بلادنا فقال: (بينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة وبطء حركتها نحو المستقبل الجديد المأمول رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو إلى عودة بها إلى نموذج السلف) (406) اهـ.
هكذا يرتمي الكاتب ثانية في أحضان أوربا وأمريكا ويجتهد في التمسح بالغرب حتى في فساد عقول شبابه.
إن الفرق جد واضح بين هذا وذاك.
إن ثورات الشباب في أمريكا ظهرت بالانحلال وعدم المبالاة والجري اللاهث وراء
" اللامعقول " بل محاولة كل ما ليس بمعقول فظهرت هناك - والكل يعلم ذلك - فرق الخنافس والهيبز وسائر الفرق الحشرية ... وانتشر بينها تعاطي الماريجوانا والحشيش وعقاقير الهلوسة وشاع بين أفرادها الفحش والانحراف والانتحار الجماعي..إلخ.
ولسنا بصدد الحديث عن (مظاهر) تلك الفوضى تاريخاً وأسباباً ولكن نريد أن نثبت أن: التنطع على أبواب الغرب والتمسح بعتبات الغرب مرض استشرى في كثير من كتابنا.
__________
(406) " بريد غاضب " الأهرام (7 / 5 / 84) .(1/248)
فهل الذين يعبدون الله وحده لا شريك له ... متأثرون بثورات الشباب الغربي الماجن؟
وهل المسلمة التي تتحجب ابتغاء رضوان الله متأثرة بالفتيات الأوربيات التي لا يعلم كثيرات منهن أباً أو أماً أو بيتاً ويتسكعن على الأرصفة هنا وهناك في أزقة عالمهن المادي الكافر؟
وهل من يتأثر باطنه بظاهره فيصدق الحديث ويفي بالعهد ويؤدي الأمانة ويصبح - هو أو هي - عضواً نافعاً في الجماعة التي يحيا بينها ويشيع الطمأنينة والراحة النفسية بينه وبين كل من يتعامل معهم
هل نقول عنه: إنه متأثر بثورات الشباب الذي يدفعه اليأس والضلال كل يوم إلى مزيد من العنف والجرائم الخلقية ومزيد - كذلك - من الانتحار؟!! أم كنت أيها الفيلسوف الهرم تحب أن يكون شبابنا وبناتنا كهؤلاء حتى لا يكون " الصدى جاء عندنا - كما تقول - ليعكس الترتيب الطبيعي للأوضاع "؟؟
ويثير صاحب " الردة " شبهة طالما يحلو لأمثاله أن يرددوها وهي أن هذا الحجاب
(نموذج نقل إلينا عن آخرين فوجد ذلك النموذج ترحيباً من الشباب اليائس) اهـ.
نقول: إن كان قصدك بالآخرين: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ونساءهم رضي الله عنهن والتابعين لهم بإحسان من المؤمنين والمؤمنات الممتثلين والممتثلات لشرع الله سبحانه وتعالى في أي مكان وجدوا أو في أي زمان عاشوا منذ أن كان الصحابة وإلى زماننا هذا ...
فنحن نوافقك في ذلك تمام الموافقة مع تصحيح بسيط جداً وهو أن الذين رحبوا بهذا
(النموذج المبارك) ليسوا هم الشباب (اليائس) لكنهم الشاب (المؤمن)(1/249)
والمؤمن لا ييأس أبداً لقوله تعالى:
(ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) يوسف (87)
فمهما بلغ الأمر بالعاصين والمفرطين فهم لا يزالون يستمعون وينصتون إلى قول الله تبارك وتعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) الزمر (53) .
وإن كان قصدك بالآخرين الذين نقل عنهم ذلك النموذج غير هؤلاء.. فخبرنا بربك عنهم.. لتزداد سعادتنا نحن المسلمين بهم ونزهو بكثرة أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تعرفهم أنت وحدك.
ثم يؤرخ صاحب النكسة لبداية ظهور مأساة عودة الحجاب فيقول:
(لقد بدأت هذه الموجة المتحفظة مع شبابنا - ذكوراً وإناثاً - بعد نكسة 1967 م ثم أخذت في التضخم والاتساع حين وجدت من ينفخ لها النار حتى أصبحت " ظاهرة " في حياتنا الاجتماعية) اهـ
ثم يحاول صاحب (الردة) أن يعلل هذه الظاهرة الخطيرة التي أقضت مضجعه فيقول: (ماذا حدث فأحدث في حياتنا الاجتماعية تلك المفارقة؟ والذي حدث - أولاً - هو هزيمة 1967 م فنتج عن تلك الهزيمة - ثانياً - شعور قوي بالإحباط واليأس وانسداد الطريق أمام الشباب قبل سواهم) اهـ.
والخطأ الأول الذي وقع فيه صاحب الردة هو في تحديد تاريخ امتثال المؤمنات لأوامر الله عز وجل ولا نقول تاريخ الظاهرة..فإنه لم يبدأ بعد النكسة ولكن قبلها ومنذ زمن بعيد بعيد جداً.
ولكن صاحب الردة لا يعرف ذلك التاريخ وهو أمر سيئ.
أو: يعرف ولكنه يغالط ويغش ويخدع.. وهو أمر أسوأ.(1/250)
وعلى كلا الاحتمالين: فلقد بدأ الامتثال:
1 - يوم أنزل الله تعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً) الأحزاب (59) .
2 - يوم أن أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال في سورة النور:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) النور (31)
3 - يوم أن قال تعالى آمراً أمهات المؤمنين: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الأحزاب (23) ولسائر المؤمنات فيهن أسوة.
4 - ويوم أن أمر الله عز وجل المؤمنين بقوله في حق أمهات المؤمنين: (وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) الأحزاب (53) وغيرهن من المؤمنات أولى بذلك.
5 - ويوم أن أثنت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على الممتثلات لأمر الله سبحانه وتعالى في قولها: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن أكف مروطهن فاختمرن بها) .
ويوم ... ويوم ... ويوم ...
فإن كنت تعرف تلك (الأيام الكثيرة الحافلة) خاصة وأنك تزعم أن القرآن(1/251)
كتابك كما هو كتابنا.. فأنت تخدع نفسك وتكذب على ربك وتغش القارئين.
وإن كنت لا تعرف: فأنت - بالتالي - لا تقدر ما تقول قدره.
المهم: أن المسلمين حافظوا على هذا الامتثال - ذكوراً وإناثاً - غير من شذ منهم وعصى الله سبحانه وتعالى وخالف تعاليم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وظل الأمر على ذلك: حتى كانت تلك الفترة التي تغدق عليها آيات التمجيد وتعطرها بالفخر والثناء وهي الخمسون سنة التي بدأت مع مطلع هذا القرن وهي التي أسميتها
" بارحة المرأة المصرية ".
وفيها.. وبعد التزام المرأة المسلمة المصرية لتشريع الله تعالى طيلة هذه القرون..رأينا: أول امرأة مصرية منتسبة إلى الإسلام.. تخلع الحجاب (407)
ورأينا كذلك: أول زوجة زعيم سياسي عربي - تقريباً - تظهر معه سافرة الوجه في المحافل والصور (408) وتبعهما في ذلك من تبع..
ورأينا من ينفخ لهن النار..نار تلك الفتنة من أمثال صاحب (الردة) بيد أنه قد بقيت الكثرة الغالبة منهن: تؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن كتاباً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً في كل ما تأتي وتذر وذلك قبل نكسة (67) وبعد نكسة (67) وستظل كذلك بإذن الله إلى ما شاء ربك..دون أن تحتاج إلى من ينفخ لها النار كما يدعي صاحب
(الردة) .
أما عن علاقة النكسة بـ (عودة الحجاب) ..
__________
(407) وهي (هدى شعراوي) انظر (الأعلام) للزركلي (8 /87) .
(408) وهي (صفية زغلول) انظر (سعد زغلول) ص (204) .(1/252)
فلا ننكر أنها قد أثرت في تقوية هذا الاتجاه لدى كثرة كثيرة من الناس أيقنت بصدق شيئين وهما:
أولاً: أن نكسة 67 واحدة من الآثار المشئومة والنتائج الحتمية لبارحة المرأة المصرية التي أخذت تتغشى المجتمع المصري كله بفسادها وضلالها وانحرافها تحت ستار
" تحرير المرأة " وبعبارة أخرى: إن الحجاب لم يكن ثمرة النكسة بقدر ما كانت النكسة ثمرة التخلي عن الحجاب كمظهر من مظاهر التخلي عن الإسلام.
ثانياً: أن الخلاص من تلك البارحة التي انساق المجتمع كله في تيارها وسرت فيه عدواها وأن التخلص من آثارها ونتائجها الوخيمة لا يكون ولن يكون - إلا بالعودة إلى الله تعالى والالتجاء إلى حماه والالتزام بشرعه والامتثال لمنهجه - توسلاً لمرضاته تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وبعبارة أخرى: أن التخلص من آثار (العدوان) اليهودي لن يتم إلا بالتخلص من آثار العدوان العلماني على شريعة الله عز وجل وأن الصوت الوحيد الذي ينبغي أن يعلو كل صوت هو الذي يدوى قائلاً: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف (40)
وقد ظهر ذلك كله في الجنود المسلمين يوم دكوا خط (بارليف) بصيحة " الله أكبر " قبل أن يدكوها بسلاحهم ويوم تجاوبت أصداء البلاد بالمطالبة بالحكم بما أنزل الله وتحرير البلاد من الاستعمار (التشريعي) ويوم كانت عودة المرأة إلى الحجاب (رمزاً صامتاً) يصفع أحلام الرائدات والرواد الأول ويتحدى مؤامرات اللاحقين من دعاة
" النهضة " النسائية - استغفر الله -: بل (الكبوة) الشيطانية.(1/253)
صدق وهو كذوب:
ومن عجيب أمر صاحب الردة أنه فهم من أمر الحجاب معنا زائداً على ما يفهمه كثير من بسطاء المسلمين في هذا الزمان وهم الذين يصفون كل ما يمت إلى المظهر الإسلامي بصلة كالحجاب واللحية ... إلخ بأنه (قشور وفرعيات) لا ينبغي أن تشغل حيزاً من اهتمام المسلمين.
أما صاحب الردة فقد فطن إلى أن الحجاب (رمز له دلالته) في قوله:
(ولم يكن أحد ليعلق بكلمة واحدة على قطعة من ثياب امرأة اختارتها كما يختار أي إنسان ثيابه التي تلائم ذوقه لكن الموقف يتغير إذا أريد بقطعة معينة من الثياب أن تكون رمزاً له دلالته) اهـ.
وهذا حق.. فإن " الحجاب " عند نساء المسلمين و " اللحية " عند رجالهم وغيرهما من المظاهر الإسلامية المتميزة بجانب أنها طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنها أيضاً " رمزاً لتحدي الواقع الجاهلي الحريص على طمس معالم الشخصية الإسلامية وهي " تعبير صامت " عن الحنين إلى جذورنا الأصيلة الضاربة في أعماق التاريخ والتي جعلت من سلفنا خير أمة أخرجت للناس وهي أخيراً (راية) على وجوه المسلمين رجالاً ونساءاً تؤكد استعلاءهم على مؤامرات أعداء الإسلام الذين يقف معهم صاحب الردة في خندق واحد حاملاً (قوسه المشدود إلى صدر الإسلام وقد شحن بالتحفز حتى إذا ما ارتخت عنها قبضة الرامي ارتدت إلى نحره وكان فيها حتفه بإذن الله) {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} الشعراء (227)
ولما كان من المستحيل أن يجمع الإنسان بين إيمانه بالإسلام كما فهمه السلف الصالح وعملوا له وبين الإيمان بمبادئ " العلمانية " و " الليبرالية " (409) ولما كان
__________
(409) تعني الليبرالية: (أي: التحررية) رفض الخضوع لسلطان الدين والتسليم بقضاياه والوقوف عند =(1/254)
الاقتداء بالسلف الصالح ينافي دعوة " المتغربين " إلى الاقتداء بفلاسفة الغرب ورجالاته..
ولما كانت قوة المسلمين منوطة بمدى انتهاجهم النهج السلفي القويم.. رأينا
" شيخ التغريب " لا يفوته أن يربط (عودة الحجاب) بـ (سلفية الشباب والفتيات) على أن هذا الرباط من الأمور التي أزعجته وجعلته يجرد قلمه المسموم ليحذر من هذه
(الموجة الرجعية العاتية) فيقول:
(لقد أصبحت هذه الموجة المتحفظة ظاهرة في حياتنا الاجتماعية ولا أظن أن لها شبيهاً في بلدان أخرى كثيرة والظاهرة التي أعنيها هي أن يكون الجيل الأكبر في معظم الأسر أو قل في كثير منها أقل نزوعاً إلى تلك المحافظة من الجيل الأصغر ففي حالات كثيرة نرى الأم سافرة وابنتها محجبة ... وفي حالات كثيرة أيضاً ترى الوالد حليق اللحية وأبنه مرسلها على هذا النحو أو ذاك وإنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع: أن ترى الجيل
الأصغر سلفياً بدرجة تزيد على الحد المألوف وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية - في ظاهرة على الأقل - من أبنائه وبناته) اهـ.
وقال في بريده الغاضب: (بينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة وبطء حركتها نحو المستقبل الجديد المأمول رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو إلى عودة بها إلى نموذج السلف) اهـ
لقد أتي الفيلسوف الهرم من عقدة الخضوع للمفاهيم الغربية الشائعة والانسياق ورائها ظناً منه أنها مطابقة للتصورات المماثلة في المجتمعات الإسلامية فمال هو وأمثاله إلى الغض من الاتجاه السلفي وأصحابه ونفروا الناس منه وقاموا بحملة تشهير ظالمة ضده
__________
= حدوده والتزام أوامره ونواهيه في تنظيم المجتمع ورسم سياسته انظر (الإسلام والحضارة الغربية) للدكتور محمد
محمد حسين رحمه الله ص (116 - 118) .(1/255)
ولنقف هذه الوقفة مع هذا المصطلح الشريف:
(السلفية) (410) .
(فمن حيث المصطلح أصبحت السلفية علماً على أصحاب منهج الاقتداء بالسلف من الصحابة والتابعين من أهل القرون الثلاثة الأولى وكل من تبعهم من الأئمة كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن وشمل شيوخ الإسلام المحافظين على طريقة الأوائل مع تباين العصور وتفجر مشكلات وتحديات جديدة أمثال ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وكذلك أصحاب أغلب الاتجاهات السلفية المعاصرة بالجزيرة العربية والقارة الهندية ومصر وشمال أفريقيا وسوريا وكانت ذات أثر واضح في تنقية مفاهيم الإسلام ودفعه إلى الأمام لمواجهة الحضارة والتطور وللكشف عن جوهر الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة القادرة على الحياة في كل جيل وكل بيئة) .
(ومن حيث المضمون تعني السلفية في الإسلام التعبير عن منهج المحافظين على مضمونه في ذروته الشامخة وقمته الحضارية كما توجهنا إلى النموذج المتحقق في القرون الأولى المفضلة وفيها تحقق الشكل العلمي والتنفيذ الفعلي ومنه استمدت حضارة المسلمين أصولها ومقوماتها ممثلة في العقيدة خضوعاً للتوحيد وبياناً لدور الإنسان في
هذه الحياة وتنفيذاً لقواعد الشريعة الإلهية بجوانبها المتعددة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وروابط الأسرة وفضائل الأخلاق.
والسلفية كمصطلح تعني أيضاً في مدلولها الخاص - الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فإن أمتنا تنفرد بمزية لا تشاركها فيها أمة أخرى في الماضي أو الحاضر أو المستقبل تلك هي تحقق القدوة في شخصه صلى الله عليه وسلم - إذ حفظت سيرته كاملة محققة بكافة
__________
(410) انظر (قواعد المنهج السلفي) و (السلفية بين العقيدة الإسلامية والفلسفة الغربية) للأستاذ الدكتور مصطفى
حلمي.(1/256)
تفاصيلها فنحن نعلم عنه كل شيء وفقاً لما نقل إلينا في كتب وعلوم مصطلح الحديث بأدق منهج تاريخي علمي عرفه المؤرخون.
وهكذا فإن السيرة النبوية حية في كياننا ونحن نعيشها كل يوم وهي تمثل القمة للسلفيين وتطبيق الشريعة الإسلامية ممتد على طول الزمن لا يتعلق بعصر دون آخر بل إن كل جيل من المسلمين مطالب بتنفيذ أصولها النصية مع الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص عند مواجهة أحوال الحياة المتغيرة كما هو معروف في أصول الفقه.
وإزاء خطط الغزو الفكري ومظاهر الاشتباك العقلي مع خصوم الإسلام صمد السلفيون للمحافظة على جوهر الإسلام وأصوله إيماناً بأنه لم يظهر زيف هذه العقائد والنحل إلا بطريقة السلف أنفسهم مهما تغيرت الأزمنة والأعصار لأنها طريقة موضوعية ذات أسس عليمة منهجية تعتمد على النصوص الشرعية الموثقة فهناك مسائل ثابتة لا تتغير: كفطرة التوحيد ومخاطبة العقول البشرية للبرهنة على النبوات عامة ونبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة والرد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في كل ما انحرفوا به عن الشرع المنزل مع دحض شبهات الملحدين والمشركين.
هذا فضلاً عن ثبات الفضائل الأخلاقية وقواعد التحليل والتحريم في المأكل والمشرب والملبس وتنظيم العلاقات الاجتماعية في الأسرة والمجتمع وإقامة العلاقات الدولية مع سائر الأمم وفقاً لأصول الشرع ولقد أصبحت الحركة السلفية هي الحركة الكبرى التي جددت الدعوة الإسلامية ولولاها لهان على الغرب أن يستعبد الشرق روحياً وفكرياً إلى أمد بعيد.
فإذا كان المسلمون يتلمسون اليوم طريقاً للنهوض فليس لهم من سبيل إلا وحدة جماعتهم ووحدة الجماعة ليس لها من سبيل إلا الإسلام الصحيح والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة وهذه خلاصة الاتجاه السلفي: عودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/257)
وفي العصر الحديث يعمل السلفيون على استئناف الحياة الإسلامية على أساس هذا الفهم وطبقاً للنظرة الرحبة الفسيحة لكل جوانب الإسلام كمنهج رباني شامل لا يعتوره نقص في أي من مجالات الحياة.
وقد اتفق المسلمون السلفيون على قاعدة اضطراد العلاقة بين تقدم المسلمين واستمساكهم بالإسلام وعلى العكس تدهورهم وضعفهم عند الانسلاخ منه فالعلاقة بينهما علاقة المد والجذر مع الإسلام والإيمان.
السلفية والتقدم:
يزعم خصوم الإسلام بعامة والسلفية بخاصة أنها دعوة رجعية وهو زعم خاطئ من جذوره فلا تتعارض السلفية مع التقدم لأن التقدم في الإسلام تقدم أخلاقي يمضي قدماً في تحقيق الرسالة التي نيطت بهذه الأمة مع الأخذ بأسباب العمران المادي في نواحي الحياة كلها.
والقديم في تاريخ أوربا تعبير يطلق على العصور المظلمة في القرون الوسطى السابقة لعصر النهضة ورفض أوربا لتاريخها القديم موقف عادي يتلاءم مع رغبتها في التقدم لأن الماضي يعد سبباً لتخلفها.
" وإذا قارنا الإسلام بمختلف ديانات العالم عرفنا أن عقائدها منعت معتنقيها من التقدم الحضاري عندما استمسكوا بها ودارس التاريخ يلاحظ أن أهل أوربا والبوذيين في اليابان على سبيل المثال لما كانوا راسخين في معتقداتهم الدينية كانوا على أسوأ ما يكون من أدوار التخلف ولما أحرزوا لأنفسهم الرقي والتقدم في حياتهم العلمية والعقلية والمادية ما عادوا مؤمنين بمعتقداتهم المسيحية والبوذية إلا اسماً.
أما المسلمون فعندما كانوا أقوياء في إيمانهم بمعتقداتهم صاروا أكثر أمم الأرض تقدماً وازدهاراً وقوة ومجداً وما أن دب دبيب الضعف في إيمانهم بها حتى تخلفوا في(1/258)
ميادين العلم وضعفوا في صراعهم للرقي الدنيوي وتحكمت فيهم واستولت عليهم أمم أجنبية وهذا فرق عظيم بين معتقدات الإسلام ومعتقدات الديانات الأخرى في العالم " (411) .
فالأمر عكسي بالنسبة لنا تماماً: فإن تاريخنا يعبر عن تقدم حضاري في كافة المجالات وإذا نحن طالبنا (بالترقي) إلى مستوى السلف فإننا نعني بذلك التمسك بالمفاهيم الإسلامية الشاملة للعقيدة والعبادة والشريعة وسائر الأنشطة الإنسانية التي منها - بلا شك - الحقل العلمي.
ولكننا في الوقت نفسه لا نزعم - ولا نظن أن عاقلاً يخطر له على بال - أن نضع الأمة الإسلامية في متحف للتاريخ! بمعنى أن نطالب بإرجاعها للأخذ بوسائل العصور السابقة في الحياة العمرانية بأساليبها في الإنتاج والنقل والتعليم والتطبيب وتشييد المدن وتجهيز الجيوش وبناء المدارس والجامعات والمستشفيات....إلخ.
ويتضح لكل دارس للإسلام أن المفهوم الإسلامي للحضارة أرقى بكثير من التصور الغربي فلا نحن نرضى بتخلف المسلمين الحالي عن تحقيق النموذج الإسلامي ولا نرضى في الوقت نفسه بتقليد الغرب في فلسفته ومضامينه الفكرية الشاملة.
أما نبذ السلفية بحجة التسابق مع الزمن واللحاق بكل ما هو جديد فمنهج خاطئ قائم على مفاهيم غربية متصلة بفلسفتها فإن ما نراه اليوم جديداً سيصبح غداً - وحتماً - قديماً فليست الموازنة إذن بين قديم وجديد موازنة صحيحة ولكن ينبغي أن تتم بالمقارنة بين الحق والباطل أياً كان العصر والزمان لأن القيم لا تتغير ولا تتبدل فليس الجديد مقدماً بالضرورة عن سلفه.
ولعلنا نصدم أصحاب دعوى التجديد المتغربين النابذين للسلفية عندما نضع
__________
(411) " المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها؟ " للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي ص (48 - 49) .(1/259)
أمامهم الحديث النبوي:
(إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (412)
والتجديد إنما يكون بعد الدروس فالتجديد ارتقاء وتقدم بالأمة لتسلك طريقها مرة أخرى كلما بعدت عن الصحيح الأصيل المتوارث.
ونحن نرفض تقليد الغرب ونبحث عن الأصالة ولا تأتي الأصالة بترقيع الشخصية بل بالارتباط بالعقيدة التي كانت حجر الزاوية في كيان هذه الأمة وينبغي هنا التمييز بين تقليد (مقومات الشخصية والعقائد والتصورات) وبين النتائج العلمية فلا وطن للعلم ولا جنسية للاكتشاف والأبحاث الإنسانية في الميادين المختلفة.. ولكن المشكلة هي اختلافنا الأساسي معهم على قواعد جوهرية تتناول عقيدة التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى وإفراده بالألوهية والربوبية وما هية الإنسان والغرض من خلقه وبيان مآله في اليوم الآخر وما هي وسائله لسلوك أحسن السبل الممكنة في الحياة والارتقاء بها؟
وتأتي آفة التقليد عندما ننسى أصالتنا ولذا ينبغي التنبيه إلى الحكمة النبوية في الحديث الذي رواه البخاري (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون " الأمم " قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟) (413) .
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب خرب لتبعتموهم قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن غيرهم!) (414) .
__________
(412) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في " المعرفة " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني.
(413) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(414) رواه الإمام أحمد والشيخان وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه.(1/260)
إذا عرفنا كل هذا أصبح هدف السلفية واضحاً أمامنا كضوء الشمس وهو يتلخص في:
تطهير العقيدة من شوائب البدع وتربية الشخصية الإسلامية وفتح الذهن البشري لقبول كل جديد في ميادين العلوم التجريبية وإحياء العقيدة من منابعها بعيداً عن المذهبية
الضيقة بصورتها الأخيرة أو تطويع العقيدة والشريعة في الإسلام لدعاوي التطوير الخاطئة ورفض فكرة لا دينية الدولة.
وأخيراً: أسعفت الفيلسوف الهرم ذاكرته فتذكر أن هناك قرآناً يستدل المسلمون بآياته على حتمية الحجاب فقال: (ثم وجدت هذه اللفتة السلفية من يربطها للشباب بالدين وهنا تأتي النقطة الرابعة التي سأجعلها الأخيرة) وهذه النقطة المؤخرة عنده - أخره الله وأخزاه - هي آيات القرآن المجيد الآمرة بالحجاب وكان ينبغي أن يبدأ بما انتهى به وأن يقدم ما أخره فإن حق كلام الله عز وجل أن يقدم على كل كلام لو كان صدقاً فكيف إذا كان لغواً وزوراً وافتراءً على الله كتلك المئات من السطور التي سودها ذلك المنافق يصد بها الناس عن القرآن؟!
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الآية
(الحجرات: 1)
وقال عز وجل: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الآية
(الحشر: 7)
وقال تبارك وتعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء
قليلاً ما تذكرون) (الأعراف: 3)
ولقد ذم الله قوماً يعرضون عن آياته فقال عز وجل: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم) (النجم: 30)
وقال سبحانه: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن(1/261)
يضلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً) إلى قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)
النساء (60 - 65) .
ثم إن الفيلسوف الهرم لم يكتف بذلك بل تجاهل آيات القرآن تماماً فضلاً عن مناقشة تفسيرها وترقى إلى ما هو أبعد من ذلك - رماه الله في المهالك - حين تقول على الله بغير علم وفكَّر وقدَّر فقتِل كيف قدَّر ثم قتل كيف قدر ثم حكم ببطلان أن الحجاب أمر تحتمه الشريعة الإسلامية فقال - قاتله الله - (أوردت الرسائل في سياقها آيات قرآنية كريمة يستشهد بها أصحاب الرسائل على أن فتور الهمة نحو العلم ونحو العمل في
امرأة هذا الجيل وميلها نحو العودة إلى البيت ونحو أن تتحجب - أو على الأقل أن تضع فوق رأسها رمزاً يشير إلى معنى الحجاب - هو أمر تحتمه الشريعة الإسلامية وأقول إنه لو كان ذلك صحيحاً لكنت أول الداعين إليه ولكن هل هو صحيح؟) اهـ
وهنا بدأت نبرة الكاتب تتحول إلى الإنسحاب الهادئ فبعد أن طعن الدين في الصميم وشعر أنه أسرف في الكذب والافتراء وجد نفسه مضطراً إلى ممارسة (فن التلون الحربائي) فإذا به يتوارى ويتحصن في الدين فيقول: (لو كان ذلك - يعني أن القرآن يحتم الحجاب - صحيحاً لكنت أول الداعين إليه) ونحن إذا أحْسَنَّا الظن به حملنا أمر الفيلسوف " الكبير "! على أنه لم يقرأ القرآن مرة واحدة أو أنه قرأه ثم نسيه لانشغاله عنه بفلسفة أكثرها سفه وإلا فهو عدو للإسلام والمسلمين متآمر ضد أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) القتال (30)(1/262)
ثم يذكر الكاتب دليله على قطع الصلة بين القرآن والحجاب فيقول: (أكانت تلك الشريعة معطلة حتى جاء شباب هذا الجيل ليعيدها إلى الحياة؟) اهـ
نقول: كلا بل ما زالت شريعة القرآن نافذة وسائدة طوال عصور الإسلام وما زالت قلوب المسلمين رجالاً ونساءً تخفق بالاعتزاز بها والإذعان لها إلى أن هجمت جيوش الغزو الفكري متترسة بالفلاسفة والعملاء والعميلات اللائى أسميتهن (رائدات الجيل الماضي) ليرفعوا الحجاب عن وجه المرأة ويعطلوا الشريعة الحنيفية شكلاً ثم موضوعاً وواقعاً فجاء شباب هذا الجيل ليصحح الأوضاع ويعود إلى حظيرة الإيمان ويجدد معالم دينه الذي ارتضاه الله له فما الذي يغيظك من ذلك كله؟
وإذا كنت محباً لهذه الأمة المحمدية ومخلصاً لهذه الملة الحنيفية فلماذا تنزعج هكذا من عودة الشباب على الإسلام وعودة المسلمات إلى الحجاب؟
ثم يمضي غمام الضلالة مدعياً مرتبة الاجتهاد المطلق بل ها هو ذا يقدم نفسه على كل أئمة الهدى في كافة عصور الإسلام ويبرهن على ذلك بقوله:
(إنني مهما تواضعت في قدر نفسي فلا أظنني أصل بذلك التواضع درجة تحرمني من فهم الآيات الكريمة التي سيقت في الرسائل شواهد على ما أراده أصحابها فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي) اهـ
أقول: لو أن هذا المختال الفخور درس القضية في ضوء الكتاب العزيز والسنة المطهرة لوجد فيها من الشفاء والهدى والنور ما يغنيه عن ظلماته وضلالاته التي أوقعته في مهواة البلاء والعجب بنفسه وتكبره الذي دعاه إلى أن يضرب بسهم مع الأفاضل وأرباب التقوى مع أنه كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل(1/263)
وكما قال القائل:
أيها المدعي لسلمى انتساباً لست منها ولا قلامة ظفر
والفيلسوف الزائغ ليس من أهل الترجيح لأقوال أهل العلم بعضها على بعض بل لا يصلح أن يكون حكماً بين صبيين فضلاً عن أن يكون حكماً بين العلماء الربانيين:
ما أنت بالحكم الترضي حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
فإن من شرط الحكم أن يكون عالماً بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومذاهب المجتهدين فمن أين لهذا الزائغ من هذه العلوم وهو بالنسبة إلى الأئمة الذين " قضوا بالحق وكانوا به يعدلون " طفل راقد في مهد طفوليته؟!
بل أين المخلصون المجاهدون في سبيل الإسلام من الطاعنين فيه الصادين عن سبيله؟! قال تعالى:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) النساء (115)
وقال عز وجل: (ألم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ص (28)
أما قول صاحب (الردة) : (فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي)
فما أشبهه بقول من حكى الله عنهم: (ويحلفون بالله أنهم لمنكم وما هم منكم)
التوبة (56)
وقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون) المنافقون (1)
فعادة المنافقين " الاستجنان " بالإيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) المنافقون (2)
فيتخذون حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة تحميهم مما يعامل به الكفار وأخبر سبحانه عن صفتهم وشأنهم فقال:
(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) المنافقون (4)(1/264)
لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم إلى أن قال عز وجل (هم العدو) أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجى الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي (فاحذرهم) لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم
فلا تقنع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب
فمن هذا الباب قول الكاتب (فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي) نقول: إن القرآن حق في نفس الأمر وليس هو محتاجاً لأن يحامي مثلك عنه والمحاماة عن القرآن تكون بإقامة البراهين ودفع الشبهات الباطلة أما تحريف معناه وتغييره أما تجاهله والإعراض عنه أما مراغمة نصوص القرآن ومعاكستها ووصف الممتثلين لها بوصف (الردة والنكسة
والمأساة) وما إلى ذلك من العبارات الشنيعة فهذا كله إفساد للقرآن وصد عن سبيله واستحلال لحرماته واستهزاء بآياته:
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)
الأنبياء (18)
ولئن جاز أن يتسامح المسلمون مع الكاتب فيما كتب - وهذا بعيد جداً - فلا يمكن أن يتسامحوا معه بأي وجه من الوجوه حينما (أبى واستكبر وعاند) الآيات التي بلغها إليه القراء في رسائلهم الغاضبة ثم إذا به يضرب بها كلها عرض الحائط ويتبجح في عتو عناد بمقولة تعيد إلى أذهاننا عناد صناديد قريش:
(إنني لم أجد في تلك الرسائل جميعاً ما يحملني على أن أغير حرفاً مما كتبته ولو أعدت الكتابة لكررت ما قلته كلمة كلمة) اهـ
فإذ لم يرفع بآيات الله الآمرة بالحجاب رأساً فإنا نذكره بقول الله تبارك وتعالى:
(ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين) الجاثية (7 - 9) .(1/265)
وقوله عز وجل: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) السجدة (22) .
وقوله سبحانه وتعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً) سورة المدثر (16) .
ثم نقول كون هذه الآراء صحيحة عندك وأنك مؤمن بها لن تتراجع عن كلمة منها لا يدل على صحتها في نفسها فكل حيوان يستطيب ريقه وإن كان خبيثاً وقد قال تعالى في إخوانك من قبل:
(ويحسبون أنهم على شيء ألا انهم هم الكاذبون استحوذ عليهم
الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان
ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) (المجادلة: 18 - 19)
وما أحسن ما قيل في مثله:
ولقد أقول لمن تحرش بالهدى عرضت نفسك للبلا فاستهدف
آخر:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أرفق على الرأس لا ترفق على الجبل (*)
__________
(*) وفي أحدث محاولات الفيلسوف الهرم لينطح الجبل العالي كتب مقالة مطولة في " آخر ساعة " يدافع فيها
عن العلمانية ويهاجم الجماعات الإسلامية وفيها تطرق إلى الحجاب زاعماً أن علة انتشاره بين الفتيات هي
: (انخفاض الدخل في كثير من الأسر مما جعل عدد من السيدات والفتيات يعجزن عن التنافس في دنيا
الثياب - الموضات - فيجدن ملاذاً في الزي الديني) وادَّعى أن من الأسباب أيضاً: (ارتفاع أجور العناية
بالشعر عند الكوافير فيحدث أن حجبه - حجب الشعر تحت الحجاب - أيسر وأقل تكلفة) ولما سئل عن
رأيه في المنقبات قال في غرور: (المنقبات =(1/266)
فنسألك اللهم أن تخلع من أعداء الحق وثائق قلوبهم وأفئدتهم وأن تباعد بينهم وبين أزودتهم وأن تحيرهم في سبلهم وأن تضللهم عن وجههم وأن تقطع المدد عنهم وأن تنقص منهم العدد وأن تملأ أفئدتهم بالرعب وتقبض أيديهم عن البسط وتحرم ألسنتهم عن النطق وتشرد بهم من خلفهم وتنكل بهم من وراءهم وتقطع بحربهم أطماع من بعدهم اللهم عقم أرحام نسائهم ويَبِّس أصلاب رجالهم وعجل لهم الوبال والنكال وأخرس منهم عضو المقال وفرق جمعهم وشتت شملهم وأفسد رأيهم وأخمد أنفاسهم وهدِّم أساسهم إنك على ما تشاء قدير.
__________
= لا يستأهلن الحديث مني عنهن ... ) ثم راح يتساءل (هل هو
عدم جمال خلقة؟ .. ولكن أقول إن فيهن صاحبات وجوه مليحة ومقبولة! أيضاً أقول: هل هي حركة
احتجاجية داخل الأسرة؟ هل هي حالة عدم رضاء كاملة عن النفس؟ هل النقاب هو الإسلام؟) اهـ
من " آخر ساعة " ص (34) مايو 1986 م.(1/267)
حقاً.. إنها معركة
مارق يتحدى مشاعر المسلمين
ويستعدي " السلطة" على المحجبات
إنه المدعو " حسين احمد أمين " (*) الذي فتحت له الصحافة أبوابها على مصراعيها فصال وجال داعياً إلى البهتان العظيم والعدول عن صراط الله المستقيم ومناقضة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَدَحَ به كتاب الله المبين جاء هذا الغبي الجاهل المكابر فأعرض عن الحق الصريح الظاهر وكتب المقالات المطولة التي حشاها من الكذب والافتراء والظلم والعدوان وشتم أهل الحق وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات والصد عن سبيل الله عز وجل.
ويبدو أن الدور الذي شاء له أسياده ووقع اختيارهم عليه لأجل إنجازه هو " محاربة الحجاب ".. ذلك الحجاب الذي أشعلت عودته نار الحقد والغيظ في قلبه فأنشأ يسوِّغ محاربته إياه قائلاً: (رأيت ظاهرة تنتشر في مجتمعنا انتشار النار في الهشيم هي ظاهرة الحجاب وسمعت أنصارها يربطون بينه وبين الإسلام فأحببت أن أتحقق بنفسي مما إذا كان القرآن قد أمر به وقد توصلت إلى أن حجاب المرأة ليس من الإسلام) اهـ
وقال في موضع آخر (415) :
(ليس للحجاب أي علاقة بالإسلام) ! ثم يزعم أن الحجاب إنما عرف عند
__________
(415) من مقاله المنشور بمجلة " روز اليوسف " الاثنين 17 يونية 1985 م العدد (2975) بعنوان (المفكر الإسلامي " حسين أمين " يتحدى: ليس في القرآن آية واحدة تفرض الحجاب) وفي نفس المقالة استهزأ من حكم الإسلام بأن شهادة الرجل تعادل شهادة امرأتين قائلاً: (هل يمكن أن تكون شهادة بواب عمارتنا تعادل شهادة " أمينة السعيد " " سهير القلماوي " معاً هل نستطيع الآن أن نقول هذا..؟) اهـ ص (35) .
(*) وانظر: " قصة الهجوم على السنة " للدكتور علي السالوس - حفظه الله - ص (54) لتقف على بعض افتراءاته
على الإسلام.(1/268)
الفرس ويقول: (ومن المعروف أن أول مفسرين للقرآن الكريم على الإطلاق كانوا من الفرس (*) ومن الطبيعي أن يتأثر المفسرون بالتقاليد والقيم التي نشأوا عليها. لقد درست الآيات القرآنية التي ورد ذكر الحجاب بها ووجدت أنه ليس هناك آية واحدة تفرض الحجاب على المسلمات) اهـ
.
ونراه يبين منهجه الذي انتهجه في هذا " التحقيق الفذ " فيقول:
(إنني أعتمد على أمهات الكتب وأدرس ما اتفق عليه العلماء والأئمة الأربعة وغيرهم غير إني لا أعتبر نفسي ملزماً إلا بما انتهى إليه تفكيري ... ولا يضيرني أن أكون أول من قال بهذا الرأي أو ذاك دون أن أستند إلى مرجع) (416)
والفقهاء كلهم - في نظره - (لا قولهم حجة ولا من الواجب الأخذ به)
بل إنه يرد على مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف حمزة قائلاً: (نعم يا سيدي المفتي أنا زعيم لك بأني أهل لأن أنافس الأئمة المجتهدين وأن أدلي بدلوي كما أدلوا بدلائهم) اهـ
(417)
فانظروا أيها المسلمون ما يقول ذلك (الإمام المجدد) والعبقري الفذ والمجتهد المطلق! الذي نفتق عنه القرن الرابع عشر الهجري وحلَّق في آفاق الاجتهاد حتى أنه ليشهد لنفسه بملء فمه أنه أهل لأن " ينافس " أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد وسفياناً وسائر الأئمة وأن تتمخض عبقريته عن آراء واكتشافات كان هؤلاء جميعاً في غفلة عنها بل مخطئين فيها ومن أعظم هذه " الاكتشافات " أن حجاب المرأة ليس من الإسلام!!
قال اخزاه الله (418) :
__________
(*) راجع " التفسير والمفسرون " للدكتور محمد حسين الذهبي - رحمه الله - (1 / 32 - 142) حتى تقف على فساد هذا القول
(416) ، (417) جريدة " الأهالي " الماركسية تاريخ (23 / 1 / 85) ص (10) .
(418) مجلة أكتوبر العدد (351) تاريخ 17 يوليو 1983 م 7 شوال 1403 هـ ص (24 - 26) .(1/269)
(متى نشأ في مجتمع معين وفي زمن محدود ما لا يمكن وصفه إلا بأنه ظاهرة متفشية تنطوي إلى حد ما على عنصر المفاجأة فلابد لنا من أن نلتمس التفسير أو بعضه على الأقل في أسباب خارج نطاق الموضوع محور الظاهرة فعودة الكثير من نسائنا (419) - بمحض إرادتهن - لا نتيجة ضغط من آبائهن أو أزواجهن " بل أحياناً ضد رغبة آبائهن وأزواجهن ورغم استهجان السلطة في بلدهن " يمكن أن نحدد لبدايتها تاريخاً لا يزيد على ستة عشر عاماً (420) ثم انتشرت منذ ذلك الحين وفي هذه الحقبة القصيرة انتشار النار في الهشيم مثل هذا الانتشار المفاجئ لظاهرة ما إن كان يمكن تفسيره في بعض الأحيان بظهور نبي جديد (421) أو قيام حكومة ثيوقراطية في بلد معين فليس بالوسع الاقتصار في تفسيره على الإشارة إلى رغبة عامة مفاجئة في التمسك بتعاليم الدين علماً بأن القرآن كان دائماً بين أيدينا وكانت تعاليم الدين دوماً في متناول الجميع (422) فلم ظهر الأمر فجأة إذن؟ ولم اتخذ صورة الظاهرة المتفشية خلال سنوات قلائل؟ لا مفر إذن من تفسير هذا النوع الذي ذكرناه في بداية المقال وإن كره الكارهون وغضب الغاضبون) اهـ.
ولعمر الحق لو كان هذا مخلصاً للإسلام محباً لأهله لشغلته الفرحة والابتهاج بتوبة العاصيات وإنابتهن إلى ربهن عن البحث في أسباب الظاهرة التي إن بحث فيها المخلص إنما ليدعمها ويسعى في تمكينها وتدعيمها لا تهوينها والتنفير عنها كما يفعل الذين في قلوبهم مرض وحتى ندرك الفرق بين الفريقين نضرب المثال بقول أحد الدعاة
__________
(419) كذا (!) ولعل تمام العبارة: (إلى الحجاب) .
(420) قد بينا الخطأ الفادح في هذا التأريخ في الرد على مقالة " ردة في عالم المرأة " للدكتور زكي نجيب محمود في
هذه الطبعة فراجعه ص (236 - 239) .
(421) وهل ظهور نبي جديد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين أمر قابل للاحتمال في عقيدة الكاتب؟ .
(422) ومن هنا فنحن نوجه للكاتب سؤالاً صريحاً: إن كنت تعلم أن الحجاب من تعاليم الدين ومن أوامر القرآن الذي
بين أيدينا فما هو موقفك الصريح من هذه التعاليم وما هو الموقف الذي ترتضيه وترضاه من غيرك تجاه أوامر
القرآن؟ التي هي حجة على من يخالفها أو حجة لمن يتبعها فأين أنت منهما؟ .(1/270)
المسلمين في تحليل نفس الظاهرة (423) (أ) قال حفظه الله:
(على الداعية الإمساك بهذه الظاهرة - ظاهرة تدين الشباب واستمساكه بالإسلام - وجعلها باعثاً لتحقيق الآمال في النفوس فما الشباب إلا تجسيد لآمال المستقبل وتعبير عن استعادة الأمة لحيويتها بسواعد أبنائها على أن الطريق لن يكون مفروشاً بالورود فما ظهور الشباب المتدين إلا بمثابة مولود جديد خرج إلى الحياة بعد آلام المخاض التي عانت منها الأمة الإسلامية ما عانت فإذا لم يحظ بالعناية الكافية ربما حدثت ردة لا يعلم إلا الله مدى آثارها) اهـ كلامه.
ثم يستمر الكاتب - حسين أمين - في تحليل أسباب تمسك البعض بالحجاب فيقول:
(إن ظاهرة عودة نسائنا إلى الحجاب لا يمكن وصفها بأنها شأن عادي ولا القول بأن العائدات إليه - في مجموعهن - وكطائفة نساء عاديات ولا عجب في هذا أن نجد من بينهن الكثيرات من الفتيات والنسوة العاديات اللواتي خضعن لتأثير أو ضغط أو دفعهن إلى التحجب نزوع إلى تقليد أو اتجهن إلى التدين ثم سألهن من يعتقدن أنهم أفقه منهن في أمور الدين فاخترن ما ذكر لهن أنها ثياب إسلامية يأمر الشرع بها فالمهم هنا ليس أن المتحولة إلى هذا النوع من الثياب امرأة عادية إنما المهم هو نوعية ممارسي الضغط والتأثير في المناخ العام الذي جعل هذا الضغط وهذا التأثير شائعين) اهـ.
وكأن الكاتب الحاقد يشير بكلمات مسمومة هدفها الواضح: أن هذه الثياب لا علاقة لها بالإسلام وإنما هناك ضغوط خفية مؤثرة يجب البحث عنها والقضاء عليها.
ثم يؤكد في مقاله على القيم التي يرى من وجهة نظره أن تكون أساساً لاختيار المرأة ثيابها فيعتبر جمال الوجه والقوام أساس اختيار الثوب أما اختيار الثوب طبقاً
__________
(423) (أ) (المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها) للأستاذ الدكتورمصطفى حلمي-حفظه الله-ص (17) .(1/271)
لأحكام الإسلام وأوامر القرآن فهذه عنده سلوك غير عادي ويجب محاربته يقول:
(ولو أن امرأة اختارت ارتداء الثوب الإسلامي على أساس أنه أجمل أو أنسب لوجهها وقوامها ولا شيء غير ذلك لكان سلوكها عادياً ولما كان الأمر محل جدل ومثار مناقشات عنيفة وسبب احتكاك عائلي وشجارات وطلاق ومنع من دخول الجامعات إلى آخره غير أن الواقع أن تبنى الرجل أو المرأة للزي الإسلامي ليس نابعاً من مزاج إنما هو موقف ... يراه البعض شاذاً مستنكراً وجديراً بالمحاربة ويراه أصحابه الموقف السليم الوحيد الذي ينبغي محاربة غيره واستئصاله) اهـ.
وكأن العبقري الفذ الذي يقول: (أهلاً وسهلاً ومرحباً بطاعة " بيوت الأزياء " الصهيونية الفاجرة ولا مرحباً بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)
يريد أن يذكرنا بمسلكه الوخيم هذا بمن قال فيه الله تبارك وتعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان (43، 44)
وقوله عز وجل: (وإذا ذكر الله وحده أشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) الزمر (45) .
ثم يحاول ذلك الشيطان الإنسي أن يبث بذور الفرقة والعداوة ويوطد دعائم " الحواجز النفسية " الحاقدة بين المحجبة وغير المحجبة حتى لا تتأثر الأخيرة بدعوة الأولى لها إلى الحجاب يوماً ما فيقول: (إنه يكاد يكون من المؤكد أنه ما من امرأة محجبة تجلس إلى غير محجبة إلا ونظرت كل منهما إلى الأخرى نظرة الارتياب هذه في استنكار وتحفز وتلك في حيرة وتساؤل كما أنه من الصعب أن نتخيل قيام علاقة عادية بين الاثنين) اهـ
ثم يدعي أنه قابل منذ أيام عاملاً ميكانيكياً بسيطاً ومرت بهم امرأة محجبة وينسب إلى ذلك الميكانيكي " الملهم ... الأديب ... " تعليقه على منظرها قائلاً في(1/272)
امتعاض: (أنا لست ضد الدين وأنا وامرأتي نصلي ونصوم ولله الحمد ولكن هذا الشيء (423) (ب) من ديننا في شيء هؤلاء - لاحظ استخدامه لكلمة "هؤلاء" في معرض الحديث عن واحدة (424) - قوم يبغضوننا ويتربصون بنا وينتظرون أن تكون لهم الغلبة حتى يخسفوا بنا الأرض - أنا لست ضد الحجاب في حد ذاته.. فليتحجب من شاء.. ولكني ضد ما يخفيه هذا الحجاب من مشاعر سوداء.... تسألني ماذا لقيت منهن؟ لم ألق منهن شيئاً ولكني أحس إحساساً قوياً بما تشعر به نحوي وهي تنظر إليَّ وأعرف ما تهددني به " إننا " نتركهن يرتدين ما يردن ويتصرفن كما يحلو لهن ولكن أتظن متى وصلت جماعتهن إلى السلطة يتركننا نلبس ما نشاء ونتصرف كما نريد؟)
ثم يمضي الكاتب ينفث سمومه السوداء وأحقاده الدفينة قائلاً:
(وقد هالني أن أرى الشبه الشديد بين موقفه هذا من المرأة المحجبة وموقف الرومان خلال القرون الثلاثة الأولى بعد مولد المسيح من المسيحيين في الإمبراطورية لقد كان يسود الإمبراطورية خلال تلك القرون تسامح ديني نادراً ما عرف العالم نظيراً له غير أنهم استثنوا المسيحيين من هذا التسامح وكان هذا الاستثناء راجعاً إلى مخالفة المسيحيين لهم في العقيدة إنما إلى عداء المسيحية لكل من عاداها من عقائد مما دفع الرومان إلى تسمية أتباعهم بأعداء الجنس البشري، كانت روح المسيحية خطراً على تقاليد.........
..... على تقاليد المجتمع الروماني وأسسه ومع ذلك فقد كانت كراهية عامة الشعب للمسيحيين أقوى منها عند الأباطرة والسلطات فالجمهور قد أزعجه أن يرى أتباع هذا الذين يكرهون آلهتهم ويصلون من أجل نهاية العالم ويفرحون متى لحقت الهزيمة بجيوش الإمبراطورية وكانت العامة تنسب الكوارث التي تحل بها كالفيضانات
__________
(423) (ب) يقصد الميكانيكي الفذ بكلمة " هذا الشيء ": الحجاب.
(424) هذا التعليق من ذلك الكاتب الحاقد على دين الله أو ممن وراءه من (الميكانيكية) - هدفه إقامة الحواجز النفسية
بين أهل الطاعة وعموم الناس حتى يترسخ العداء بينهما ويحول دون استجابتهم لأحكام الشرع.(1/273)
والمجاعات والحرائق إلى ما يمارسه المسيحيون من سحر أسود وكانت تدرك أن المسيحيين يبغضون كافة مظاهر الحضارة التي يعيشون في ظلها وأنهم إن تمت لهم الغلبة فسيسحقون أنظمة الدولة وآلهتها ولن يبدوا تجاه الأديان المخالفة ذلك التسامح الذي يطالبون به لأنفسهم فاستثناؤهم إذن من تطبيق مبدأ التسامح الديني إنما كان لحماية مبدأ التسامح الديني) (425) اهـ.
يتضح من هذا أن الكاتب يحاول أن يقيم أدلة على أن " الشبه شديد " بين موقف " الميكانيكي " من " المحجبات " وبين موقف " الرومان " من
__________
(425) {اعلم أخي المسلم أن بعض الناس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً فإذا سمعك أحدهم مثلاً تقول:
" لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني لأنه لا يدخل الجنة " اعتبر هذا تشدداً وتعصباً وتشدق بأن رحمة الله واسعة وعدَّ نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول:
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة فالتعصب: أن تعامل الذمي اليهودي أو النصراني بحيف وتبخسه حقه والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف وتعاشره بالمجامة والألطاف وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك وأن تصله إن كان من قرابتك غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك ولا من زكاة فطرك لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين وشرط هذا كله أن لا يكون محارباً ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه أنه على باطل وإنه إن مات كافراً لا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له بالمغفرة قال تعالى:
(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) من الخير كصدقة وصلة رحم وإغاثة ملهوف (فجعلناه هباءً منثوراً) الفرقان (23) لا ثواب له في الآخرة وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون لأن الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول وعملهم غير مقبول لبطلان دينهم المخالف للإسلام
(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران (85)
وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمداً بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه الإمام أحمد ومسلم
فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم فقد تخلى عن عقيدته ودينه إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما ظن المخلطون الواهمون لكنه تنازل عنها يلزم منه الخروج من الدين لأنه مبني على العقيدة فإذا فقدت فقد، فينبغي عدم إقراره على كفره وعدم الرضا به وبغضه ببغض الله تعالى له وعدم موالاته وموادته قال تعالى:
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) آل عمران (28)
وعدم التشبه به وعدم إنكاحه المؤمنة وعدم بداءته بالسلام وأن يضطره إلى أضيق الطريق فهذا كله من التمسك بالدن وليس من التعصب في شيء والتفريط فيه ليس تسامحاً ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل والله سبحانه وتعالى أعلم(1/274)
" المسيحيين " ويلزم من قياسه أن يرمي المسلمين في واقعنا زوراً بأنهم " أعداء الجنس البشري "وأنهم (يصلون من أجل نهاية العالم) وأنهم " يبغضون كافة مظاهر الحضارة التي يعيشون في ظلها ".
وذلك كله كي يصل إلى نتيجة وهي: أنه يجب على الحكومات استثناء المسلمين من مبدأ " التسامح " تماماً كما فعل الرومان مع المسيحيين (*) وقياسه هذا باطل من أوجه عديدة لا
تخفى على المخلصين لدينهم المؤمنين بأن الحق واحد لا يتعدد وبأن هؤلاء النصارى إن كانوا على دين الحق الذي بعث الله به عيسى عليه السلام وهو دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه التي منها " الإنجيل " فإنما هم مسلمون موحدون مؤمنون يحررون ولائهم لله سبحانه وتعالى وحده ويتبعون رسولهم المسيح عليه السلام ويصبرون على أذى الرومان ابتغاء وجه الله ونصرة لدينه الحنيف فعداوة (الإسلام) لما عداه من العقائد الكفرية أمر لا ينكره إلا من لا حظ له في الإسلام قال تعالى:
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) البقرة (256)
فالعروة الوثقى هي " كلمة لا إله إلا الله " المتضمنة لإفراد الله سبحانه وحده باستحقاق العبادة والكفر بكل طاغوت يعبد من دون الله عز وجل.. وهذا هو جوهر الإسلام ولبه، فأين أنت منه يا صاحب القياس؟
ثم يستطرد ذلك الشيطان قائلاً:
(أعود فأقول إن ما يدفع البعض إلى اعتبار المرأة المحجبة امرأة غير عادية هو أن الزي الذي تبنته يفصح عن موقف عقلي غير عادي وعن مفاهيم وقيم يراها الآخرون غير عادية فخلاصة اعتقاد مثل هذه المرأة هي: أن النظر سهم من سهام إبليس مسموم
ولا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل حيث إن قصدها منه كقصده منها،..فالمرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها.. والكشف عن غير الوجه
__________
(*) وتماماً كما قال: " مناحم بيجن " في إذاعة فلسطين المغتصبة: (لقد سمعت اعتراضات كثيرة في أمريكا ضد حملة السادات على المتعصبين المتطرفين " الذين يريدون العودة إلى تطبيق قوانين العصور الوسطى بل العصور الحجرية " وقد سمعت اعتراضات كثيرة هناك ضد هذه الحملة باعتبارها تتعارض مع التقاليد الديموقراطية ولكنني دافعت عن إجراءات السادات بحرارة وأقنعت المعترضين بأنه يجب عليهم أن يتناسوا التقاليد الديموقراطية حين يتعلق الأمر بالمسلمين) اهـ باختصار نقلاً عن صحيفة " القبس " الكويتية عدد رقم (3382) تاريخ (12 / 10 / 1981 م)(1/275)
والكفين مدعاة للافتتان فإن كانت المرأة جميلة الوجه وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك.. إلى آخره مما نقلناه من تفسيرات القرطبي فالمرأة التي تعتقد مثل هذا في أيامنا هذه حين أصبح بالإمكان أن يجلس الرجل إلى المرأة دون أن تخطر ببال أيهما فكرة جنسية والتي ترفض أن تصافح الرجل بيد عارية خشية أن تثور لدى أيهما إحساسات جنسية محرمة والتي تشغل بالها مشكلة ما إذا كان ظاهر قدمها سيثير عند الرجل في الطريق رغبات حيوانية امرأة غير عادية)
ثم ذكر فوق هذه التعبيرات الساخرة عبارات " فاحشة " ننزه قلمنا وأسماع إخواننا عن تسطيرها بل لم يكتف - أخزاه الله - بهذا بل ها هو يصف المحجبات " بالكبت بدل أن يصف فعلهن " بالتعفف " والامتثال لأوامر رب العالمين بل تصل الجرأة وسوء الأدب أقصاهما حين يصف معنى الحجاب الوارد في قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب} الأحزاب (53) بأنه معنى " ضيق " ثم يمضي فيتهم المحجبات
العفيفات المحصنات - بارك الله فيهن - بأنهن لا يفكرن إلا فيما سماه " الجنس " وأنها - أي المحجبة - ترتدي الحجاب (ليقيها من هذه المثيرات التي تسببت من قبل في إحداث تهيج شديد عندها لم يكن لها طاقة به.. بمعنى أنها قبل أن ترتدي الحجاب قد تأثرت بهذه المثيرات التي أحدثت لها هذا التهيج الجنسي الذي استجابت له ولم تستطع مقاومته ... ) اهـ
إلى هذا الحد يطعن هذا الفاجر في سلوك المحجبات نسأل الله أن يجعله هو وأمثاله من أعداء الدين عبرة لمن يعتبر وأن يحبط كيدهم ويرده في نحورهم وأن يشغلهم بأنفسهم عن أهل محبته وطاعته وأن يجعل تدبيرهم في تدميرهم إنه سميع مجيب.
ثم يتحدى مشاعر المسلمين جميعاً قبل المسلمات بقوله: (ولو كانت مرتديات الحجاب صريحات مع أنفسهن لاعترفن في النهاية بأن سبب ارتدائهن له هو تعرضهن لاختبار صعب أو موقف صعب لم تكن لهن به طاقة) اهـ.(1/276)
ثم يشير إلى أن هدف المتمردين على التقاليد هو (أن يشد بعضهم من أزر بعض حتى أصبح مجرد سيرهم في الطريق ورؤيتهم فيه لأمثالهم يشعرهم بأنهم ليسوا وحدهم في خضم الصراع فإذا بإرادتهم الاستمرار في المقاومة تثبت وإذا ثابتهم يدفع غيرهم إلى التشبه بهم فيكثرون وإذا الكثرة تبهجهم فيشجعون والحجاب في مجتمعنا يؤدي الغرض نفسه) اهـ.
ثم يمضي الكاتب متحفزاً مستنفراً إخوانه من أعداء الإسلام مستعدياً إياهم على أولياء الله قائلاً: (فإذا كان منا من يعلم هذا كله ويرى مع ذلك ضرراً اجتماعياً خطيراً في العودة إلى الحجاب فعليه أن يضع في حسبانه - فوق كل اعتبار آخر - أن انتهاج سبيل العنف مع هؤلاء كوسيلة للحل ليس فقط من قبيل العبث إنما هو أمر يرحب به هؤلاء فما من سعادة يرونها أعظم من سعادة الاستشهاد في سبيل العقيدة) اهـ
ويختتم مقاله مستنهضاً همم إخوانه من دعاة العري والانحلال قائلاً: (ليست الحكومة وحدها المطالبة بالتصدي لتصحيح الأوضاع التي دفعت هؤلاء إلى مثل هذا الموقف والمسلك.. فالأفراد والجماعات كافة - حتى ميكانيكي السيارات الذي تحدثت عنه - مطالبون هم أيضاً بالمساهمة وهي مساهمة نوجزها في جملة واحدة: كبح جماح النفس قبل أن يأتي اليوم الذي يذهب بنفوسهم) انتهى كلامه عليه من الله ما يستحقه ونحن لا نملك إلا أن نقول له: (اخسأ فلن تعدو قدرك) هذه نفثة مقهور وأنه معثور
{موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} آل عمران (119) .
ولتكونن " عودة الحجاب " شجى في حلقك وقذى في عينك وريبة في قلبك إلى أن يقطع الله دابرك وصدق الله العظيم:
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار} غافر (51 - 52)
فاللهم وعدك الذي وعدت به عبادك المؤمنين (ولقد(1/277)
سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} الصافات (171 - 173)
{إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} المجادلة (20 - 21) .
لقد هذا الموتور أنه بهذه الترهات والقحة الزائدة ينال من أهل الإسلام ويشفي غيظه.. وهيهات {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} غافر (25) .
وهل حط قدر البدر عند طلوعه إذا ما كلاب أنكرته فهرت
وما إن يضر البحر إن قام أحمق على شطه يرمي إليه بصخرة (426)
وما أحرى ذلك المأفون بقول الشاعر:
ألا أيها الغمر (427) الذي غره الكبر ترديت من عال وناسبك القعر
تفكر طويلاً يا جهولاً ترادفت عليه المخازي فهي في متنه أسر
نبذت نفيس الدر واخترت ضده ومن يكره الياقوت يعجبه البعر
فأصبحت مصبوباً عليك شتائم كما كان مشبوباً على قلبك الجمر
ظننت خداع الله في الدين هيناً ولن يخرج الله الذي كنه الصدر؟
فجئت بأقوال النفاق مخادعاً فقد بان ما تخفيه وانهتك الستر
تحارب دين الله يا شر ملحد وتلصق آراء به ما لها قدر
وتسلك في أمر النسا شر مسلك إباحية صلعاء ليس لها ستر
__________
(426) " بيان الهدي من الضلال " للشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح (1 / 539) .
(427) الغمر: بفتح الغين وضمها وتسكين الميم: من لم يجرب الأمور.(1/278)
ألا يا نصير الكفر ويلك فاتئد ولا تنطح الصفوان يدمغك الصخر
لقد ضل من أغراك بالسب والهجا كما زل من أغواك نيته المكر
أتحسب أن الدين سهلاً أساسه ستنزله أقوالك الجور والفجر
أتحسب أن الدين تخفى ضياءه عجاجتك (428) الهوجا وآثارها الكدر
أتحسب أن الناس قد غاب عنهم مقاصدك السوءى وأفعالك المر
فما أنت في دعواك إلا منافق كأصـ ـحابك النوكى (429) وهم في الورى كثر
فأنتم فساد الناس في كل أمة وجرثومة يضنى بها الجسم والفكر
لحي الله (430) قوماً صانعوك غباوة لأهواء نفس نالها الخوف والذعر
فلا تجعل العدوان للدين راحة فبعداً وسحقاً عاقك العسر والخسر
فإنك لن تشفى من الغيظ والبلا بلى إن هذا الوحر (431) يلهبه الوحر
فمهلاً قليلاً إنك اليوم غافل ستندم في الدنيا ومن بعدها القبر (432)
ومن بعد ذا يوم عسير حسابه به يعلم الإنسان ما أثمر العمر
وكل بذي الأيام يلقى جزاءه فليس بها هضم لحق ولا جور (433)
__________
(428) عجاجتك: العجاج: الغبار والدخان وعجعج: صاح ورفع صوته.
(429) النوكي: جمع أنوك وهو الأحمق.
(430) لحي الله قوماً: أي قبحهم ولعنهم.
(431) الوحر: بفتحتين هو الحقد والغيظ.
(432) القبر: مبتدأ مؤخر فهو ليس معطوفاً على الدنيا.
(433) السابق (2 / 595) بتصرف.(1/279)
اعرف عدوك
يتحلى أغلب أعداء الحجاب بخاصية " الجهل المركب " فهم ليسوا فقط جُهالاً بل يجهلون أيضاً أنهم جُهال ... وقديماً قالوا " عدو عاقل خير من صديق جاهل " فإذا اجتمعت في شخص العداوة مع الجهل ترى كيف يكون حاله وماذا يكون مقاله؟
نورد فيما يلي ما كتبته الطبيبة النفسية والكاتبة (نوال السعداوي) تحت عنوان:
" ليس هناك نص ... أتحدى " (434) :
(إن ما هو طبيعي وما هو إنساني أن تعامل المرأة كعقل وجسد وتتعامل مع الآخرين من هذا المنطلق أنا ضد أن نحكم على المرأة بالزي فحجاب المرأة ونقابها ما هو إلا اختزال لإنسانيتها وأنا ضده بالذات حين يكون باسم الدين..
.. والذين ينادون بأن تتحجب المرأة لم يفهموا المرأة المسلمة ولم يدرسوا أحاديث الرسول ولم يقرأوا القرآن قراءة صحيحة ولم يطلعوا على التاريخ بل أخذوا أشياء
دخيلة على الإسلام الحقيقي وعلى الحضارة المصرية والعربية الحقيقية، فأنا لي خمسة وعشرون عاماً أدرس الدين الإسلامي وأقارن.. ولا توجد آية قرآنية واحدة تنص على تحجيب المرأة.. زوجات سيدنا محمد لم يكن محجبات وأتحدى أي شخص يقول بأن السيدة خديجة مثلاً - كانت محجبة أو أن سيدنا محمد فرضه عليها ... والحجاب تاريخياً بدأ في الدين اليهودي الذي يرى أن حواء ترمز إلى الخطيئة الأولى وما هي إلا جسد فقط على عكس آدم الذي يرمز للعقل لذلك يجب أن تشعر بطبيعتها الناقصة وتغطي رأسها خجلاً وعاراً) اهـ.
__________
(434) جريدة (الأهالي) الشيوعية عدد 5 / 10 / 83 الصفحة الثالثة ومن الجدير بالذكر أن هذه الكاتبة ممن يطالبون
بما يسمى " التحرر الجنسي " ولها في هذا الشأن ومتعلقاته مؤلفات عديدة انظر (الصحافة والأقلام المسمومة) للأستاذ أنور الجندي ص (200) .(1/280)
شيوخ في المعركة
{إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا
نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية}
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
طال الأمد على المسلمين وتم تحريف تصوراتهم بتأثير هذه الهجمات واعتادت قلوبهم وعيونهم رؤية المنكر فلا يحركون ساكناً ولا يتمعر لأكثرهم وجه غضباً الله تعالى وتضاعفت المحنة حينما وقع بعض الشيوخ أسرى للغزو الفكري المسموم فراحوا يرددون دعاوى انهزامية لا تليق أن تصدر من أفواه ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدلوا بدلوهم في فتنة (تحرير المرأة) عن طريق السخرية والتهكم أحياناً وعن طريق دعاوى علمية زائفة أحياناً أخرى فمن الأول قول الكاتب محمد الغزالي: (إن المحجبة تظهر في سمت عفريت) وأن الدعاة إلى حجاب المرأة وقرارها في البيت
(قوم غلبهم الهوى الجنسي وأنهم أصحاب عقد نفسية وأنهم يصدرون في غيرتهم عن
ضعف جنسي أو شبق جنسي)
ويتساءل: (لماذا تحترم الراهبات ولا تحترم المحجبات وزيهما واحد) (435) ومن الثاني قول بعضهم: (إن النقاب
__________
(435) انظر " أضواء على تفكيرنا الديني " للشيخ محمد الغزالي ص (22 - 29) ومما يجدر ذكره أن لهذا الكاتب دوراً مؤسفاً في تغذية الاتجاه العقلاني المنحرف لا في قضية المرأة وحدها بل في كثير من القضايا العلمية وقد كانت آراءه المبتدعة متناثرة في ثنايا كتبه وكان العلماء يغضون الطرف عنها لضالتها وتفرقها إلى أن خرج على الأمة بكتابه الأبتر الذي لم يفتح بالحمد ولا بالبسملة والذي ضم محصلة طعونه في السنة المشرفة: (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) وهنا توالت ردود حماة السنة وفرسان الحديث وجهابذة الفقه وجماهير الدعاة الغيورين وطلاب العلم المخلصين متعاقبة متناصرة ترد كيد المعتدي في نحره:
جاءت تهادي مشرفاً ذراها تحن أولاها على أخراها
فتتبعوا كلامه الساقط وشبهاته المتهافتة وبينوا أنه حاف في حكمه وجار في قضائه وانتصر لرأي نفسه وسفه علماء الأمة وبث الخلاف وشق الصف وحشر نفسه في خندق واحد مع خصوم سنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. =(1/281)
بدعة لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا مذهب إمام من
__________
= وعلى الجانب الآخر احتفى بالكتاب المسموم كافة وسائل الإعلام المشبوهة واحتفل به العلمانيون واليساريون والأعداء التقليديون للصحوة الإسلامية من الساسة والصحافيين وضربوا الدفوف ابتهاجاً به وصرح أحدهم بأن هذا الكتاب هو " بيروسترويكا " في الإسلام!
أما أهم ملامح منهج الكاتب فتتلخص في:
1 - العقلانية الاعتزالية المفرطة التي تهدر ميزان أهل السنة والجماعة في ضبط العلاقة بين العقل والنقل.
2 - تشوش مفهوم الاعتزاز بذاتية الإسلام والاستعلاء بأحكامه وشريعته على ما خالفها وكذا اضطرابه في قضية الولاء والبراء الذي يتجلى في موقفه الفظ الغليظ من شباب الصحوة الأمر الذي عمق الحواجز النفسية بينه وبين طلاب العلم سيما وأنهم رأوا الكاتب في غاية التلطف والرفق مع " القوانين العالمية " وبعض أهل الكتاب وأهل البدع كالرافضة وغيرهم.
3 - الانهزام النفسي بسبب " عقدة ضغط الواقع الغربي " والذي يتجلى في افتتانه البالغ ببعض ما تواضع عليه الغرب من قيم ومفاهيم واعتباره إياها نبراساً ييهتدى به ويخضع له بل أنه يجعل مراعاة خاطر الغرب مرجحاً في الخلافيات له حضور الحاكمية وله سلطة التأثير على مسار الفتيا سلباً وإيجاباً
4 - عدوانه على عشرات الأحاديث الصحيحة عن طريق إهدار اعتبار قواعد علم الحديث والقفز فوق الضوابط الفنية التي أحكمها العلماء خصوصاً في مجال التعارض والترجيح وفتح باب الطعن على السنة وأهلها من خلال بدعة " فتح باب نقد متن الحديث وإن صح سنده " لكل من هب ودب متأثراً في ذلك بالقرآنيين وربما بالمستشرقين.
5 - استخفافه بقضايا الهدي الظاهر وتناوله إياها بأسلوب ساخر مما يجرئ السفهاء على تنقص بعض الأحكام الشرعية والاستهانة بها تقليداً له.
6 - الاستبداد الفكري ومصادرة آراء الآخرين والفرار من الحوار العلمي المنضبط وتحت ستار من العاطفة والغيرة على الإسلام رفع الكاتب الأسنة على بعض أئمة أهل السنة بكل ما أمكنه من الهجاء اللاذع وأطلق في حقهم عبارات لا تليق مع الصبية الأحداث فضلاً عن قمم الإسلام ورموز نهضته من
العلماء الربانيين والمجددين المجاهدين بل لم يسلم من تجاوزاته بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
إن خطورة منهج البيروسترويكا الغزالية الحقيقية سوف تظهر جلية صريحة عندما يمسك بتلابيب هذا المنهج المتربصون بالإسلام والصحوة الإسلامية الذين سيجدون في أيديهم آلة فعالة تتيح لهم هدم قواعد الدين وأركانه وخصوصياته التشريعية وذلك لأن كتابات الغزالي تتسق - رغماً عنه - مع خطط خبيثة ترمي لضرب شريعة الله في مقتل وإنهم يستغلون الغزالي - وإن لم يقصد - كمصدة ريح أو كاسحة ألغام تمهد الطريق أمام طروحات أكثر خطورة وتحدث الثغرة الأولى في التحصينات الفكرية الإسلامية لينفذ منها بعده من يبدأ من حيث انتهى الغزالي فيشتط في التطاول على أحكام الشريعة الغراء فبينما سمعنا الغزالي يقول:
(المرأة الروسية غزت الفضاء ويراد أن تعجز المرأة المسلمة عن معرفة الطريق إلى المسجد)
سمعنا من سماه أبوه " أحمد بهاء الدين " يوبخ المسلمين الذين (يبحثون حتى الآن في مسألة هل الربا حرام أم حلال وفوائد البنوك؟ بينما الأمريكيون يتابعون رحلات الفضاء الهائلة التي جاوزت كوكب نبتون) =(1/282)
الأئمة) (436) ومنهم من يحمل المنقبة على خلع النقاب وينفرها منه.
وهؤلاء جميعاً يهرفون بما لا يعرفون يثبطون ولا يثبتون وكان الأحرى بهم -إذ قصرت هممهم عن همم هؤلاء الفتيات المؤمنات الصابرات على دينهن القابضات على الجمر - أن يتمثلوا ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرة - رضي الله عنه -: " زادك الله حرصاً " (437) أي على الخير وقد مضت السنة أن من رأى شخصاً على عمل صالح فليثبته عليه فعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال: (اعملوا فإنكم على عمل صالح) (438) وعنه رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ (439) فشرب وسقى فضله أسامة وقال:
(أحسنتم كذا فاصنعوا) (440) .
نعم كان الأولى بهم أن يحفظوا قوله - صلى الله عليه وسلم - لجابر بن سليم الهجيمي - رضي الله عنه -: (اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً) (441) وليتهم قلدوا العلماء الذين يبيحون كشف الوجه ورغبوا في النقاب باعتباره فضلاً لا فرضاً ولكن هؤلاء
__________
= وإنا لنسأل الله عز وجل أن يلهم الغزالي التوبة من هذا المنهج الخطير ليصون جهاده الطويل ومواقفه المجيدة في الانتصار للإسلام فيما مضى بأن يحسن عاقبته فيما بقى:
فكم يوماً رأينا فيه صحواً فأسمعنا بآخره الرعودا
وعاد الصحو بعد كما علمنا وأنت كذاك نرجوا أن تعودا
(436) (الدعوة) عدد (59) جمادى الأولى 1401 هـ ص (12 - 13) .
(437) رواه البخاري (كتاب الآذان - باب إذا ركع دون الصف) .
(438) رواه البخاري في صحيحه (انظر فتح الباري 3 / 491) .
(439) النبيذ: كل شارب نبذ سواء تعجلوا شربه وهو حلو قبل أن يختمر وهو الأكثر وهو المراد هنا أو تركوه حتى يختمر وكل ذلك يسمى عندهم نبيذاً.
(440) رواه مسلم وانظر "الأذكار" للنووي ص (259) .
(441) أخرجه جمع الأئمة منهم الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والبغوي وابن حبان وغيرهم (فيض القدير) (1 / 133) .(1/283)
ادَّعوا أن الانتقاب بدعة لا فرض ولا فضل واستباحوا السخرية والتهكم من المنقبات وهذا ما لم يسبقهم إليه عالم.
ومن تناقضاتهم أنهم يعيبون دعوة " قاسم أمين " وينددون بها وبالويلات التي جرتها على الأمة ثم هم يفكرون بعقلية " قاسم أمين ".
ألا إن كل من يدعو المرأة إلى كشف وجهها وإلى الخروج للعمل والمشاركة في الحياة العامة مخالطة للرجال إنما هو " قاسم أمين " جديد مهما كان اسمه بلا فرق بين الأصل والصورة في هذه الدعوة الأثيمة فلا تحاربوا يا قوم " قاسم أمين " وأنتم من حيث لا تشعرون تدعون بدعوته.
أخطاء ... أم خطايا؟ :
هذا وإن الذي يدفعنا إلى التنبيه على دور هؤلاء الشيوخ في المعركة أنهم جهروا بهذه الآراء ونشرت لهم على نطاق واسع خلال الصحف التي حرصت - خلال المعركة - على أن تخلط دائماً ذهبنا بعملتها المزيفة لتتناولها الأيدي متسترة وراء هذه الأسماء.
ومما يبعث على الأسف أن العديد ممن تصدروا وترأسوا في هذا الزمان يدعون احترام الأئمة والعلماء - وقد ذابوا في تعظيم الأجانب - ثم هم يخرجون على الأمة بآراء
انهزامية أمام افتتانهم بالحضارة الغربية العاتية وكأنهم يحملون تحت العمائم أدمغة أصحاب القبعات.... ثم هم يفرضون هذا الفكر المنهزم على الدعوة الإسلامية الفتية الناهضة ويحكمون على مخالفيهم بما يحلو لهم من عقوبات ظالمة يستبيحون في سبيل تطبيقها حتى أساليب الأحزاب السياسية وبذلك يقفون غصة في حلق دعوة الحق ويقهرون العمل الإسلامي والإصلاح السلفي " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ".(1/284)
إن هذا الأمر دين
فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم
قال البخاري رحمه الله في أول كتاب الفرائض من "صحيحه": قال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -:
" تعلموا قبل الظانين " قال البخاري: يعني الذين يتكلمون بالظن،
وقال النووي رحمه الله تعالى: " ومعناه: تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابهم ومجيء قوم يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي " (442) اهـ.
وقال الإمام العلامة أبو شامة رحمه الله (443) :
(وفي الحديث عن ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ") (444) .
قال الإمام الطرطوشي رحمه الله: (وقد صرَّف عمر - رضي الله عنه - هذا المعنى تصريفاً فقال: " ما خان أمين قط ولكن ائتمن غير أمين فخان " قال: ونحن نقول: " ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل " وكذلك فعل ربيعة، قال مالك رحمه الله تعالى: بكى ربيعة يوماً بكاءاً شديداً فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ قال: لا ولكن استفتى من لا علم عنده وظهر في الإسلام أمر عظيم) اهـ.
__________
(442) " المجموع شرح المهذب " (1 / 41) .
(443) " الباعث على إنكار البدع والحوادث " للعلامة أبي شامة رحمه الله ص (56) - مطبعة السعادة.
(444) أخرجه الشيخان وهو مسوق بالمعنى فإنه مغاير لسياقهما في بعض الألفاظ.(1/285)
شعر: وكنا نستطب إذا مرضنا فصار هلاكنا بيد الطبيب
آخر: بالملح يصلح ما يخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغير
آخر: إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء؟
آخر: فلو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ونحمد الله عز وجل أن تكفل ببقاء طائفة أهل الحق من العلماء الربانيين الذين أضطلعوا بواجبهم وأنكروا على الخالفين المخالفين وألفوا كتباً ورسائل وأصدروا فتاوى تفضح خطط المتآمرين على المرأة المسلمة وتدعوها إلى الحرية الحقيقية الممثلة في العبودية الكاملة لله رب العالمين وتوجب على المرأة قرارها في البيت ولزوم الانتقاب والحجاب الكامل عند خروجها للحاجة (*) .
__________
(*) وسيأتي ذكر أسمائهم ومصنفاتهم حول هذه القضية في " القسم الثالث " إن شاء الله تعالى.(1/286)
بشائر عودة الحجاب
{فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث
في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} الرعد (17)
أرأيت من ينطح برأسه الصخر ويشرب بفيه البحر؟
إنه هذا الذي يتنكر للإسلام ويسعى في إذابة أهله وصدَّهم عن دين ربهم..
إنه لا يحطم الصخر ولا يجفف البحر..
ولكنه يمشي على رأسه إلى القبر..
السيادة لقانون الله:
علمنا - مما تقدم - أن السفور حالة طارئة بدأت على استحياء منذ ما يقرب من خمسين عاماً وبلغت أوجها منذ ثلاثين عاماً ثم بدأ صعودها البياني في التوقف ثم الهبوط ولا يزال آخذاً في الهبوط السريع منذ عشر سنوات تقريباً ويلاحظ الجميع أن المؤشرات كلها تؤكد أن السفور يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وستبقى بإذن الله السيادة لقانون الله وأمره بالحجاب {وكلمة الله هي العليا} التوبة (40) .
إن الشارع المصري يخبرنا أنه قد آن الأوان لهذا المرض الطارئ - السفور وملحقاته - أن ينقشع وتبرأ منه أمتنا ككل باطل مصيره الهزيمة والاندحار مهما طال الأمد.
فطوبى لمن تنزع عنها غلالة الرجعية الجاهلية وتعود من غربتها واغترابها وتأتي اليوم وغداً بالحجاب ومعها العلم والوعي والبصيرة والحرية الحقة من عبودية العبيد،
قائلة(1/287)
لشياطين الإنس الذين يزينون لها معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -:
{إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} يونس (15)
وجهة نظر صحافي ألماني:
قال الكاتب الألماني هيلمنسدورفر في كتابه " العبور العظيم والروح الجديدة لمصر ":
(لقد عشت في القاهرة كمراسل صحفي من عام 1956 م حتى عام 1961 م ومنذ هذا التاريخ كانت طبيعة عملي وراء حضوري إلى المنطقة بين الحين والحين وكنت أفضل دائماً الإقامة بجوار النيل إن التغيير الهائل الذي طرأ على القاهرة عاصمة الملايين معروف للجميع فقد انتقلت هذه المدينة الضخمة من الطابع الشرقي حيث كانت النساء يرتدين الأحجبة والرجال يرتدون الطربوش إلى عاصمة كبرى ولم تعد الفتيات اللواتي يرتدين البنطلونات والملابس العصرية يلفتن نظر أحد أو يقابلن بدهشة واستغراب وأصبحت العلاقات بين الجنسين علاقة سوية لا تتخللها رواسب الجاهلية التي استمرت فترات طويلة في الشرق ويكفي أن تعلم أنه منذ عشرين عام فقط كان (90) في المائة من الرجال في القاهرة يرتدون الجلباب وكانت كل النساء تقريباً يرتدين الحجاب أما اليوم فإن القاعدة العامة هي ارتداء البدل العصرية وعلى أحدث موضة في الغرب وبالنسبة للنساء فإنه حتى في أكثر المناطق شعبية لم نعد نرى الحجاب) (445) اهـ
لقد فرح ذلك الصحافي الألماني.. ولم يكن يدري أنها فرحة.. لن تتم فتلك طبيعة هذه الدعوة وتلك سنة الله في خلقه.. أن دولة الباطل ساعة.. ودولة الحق إلى قيام الساعة بل لعله فرح لأنه لم يبلغه رأي أخيه (لاكوست) وزير المستعمرات الفرنسي منذ سنوات مضت:
__________
(445) نقلاً عن ترجمة الكتاب المنشورة في جريدة الأهرام بتاريخ 1 / 10 / 1982.(1/288)
أقوى من فرنسا:
ففي ذكرى مرور مائة عام على احتلال فرنسا للجزائر وقف الحاكم الفرنسي في الجزائر يقول:
(يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم) (446) ..
وبعد ذلك بسنوات قلائل:
(قامت فرنسا - من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر - بتجربة عملية فتم انتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية ولقنتهن الثقافة الفرنسية وعلمتهن اللغة الفرنسية فأصبحن كالفرنسيات تماماً.
وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج رائعة دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحافيون..
ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري..
فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: " ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً؟! "
أجاب (لاكوست) وزير المستعمرات الفرنسي:
(وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!) (447) .
__________
(446) المنار عدد 9 / 11 / 1962.
(447) جريدة الأيام عدد 7780 - بتاريخ 6 كانون الأول 1962.(1/289)
رجع الصدى.. وترديد الببغاوات:
قالوا: إن العودة إلى الحجاب عودة إلى الجاهلية الأولى..
وقالوا: إن الحجاب لا يصلح إلا في مجتمع قبلي جاهلي..
وقالوا: إن الحجاب تقليد من التقاليد البالية العتيقة..
وقالوا: إن الحجاب تطرف وتنطع يأباه الإسلام..
وراحوا يبحثون عن علة هذه الظاهرة فمن قائل: إنه اكتئاب حط على القلوب الشابة حتى لجأن إلى الحجاب يتوارين فيه.
ومن قائل: بل هو تطرف مفاجئ نتج عن الفراغ السياسي والعاطفي عقب النكسة.
العودة إلى الحجاب.. عودة إلى الله
لقد فعلوا - كما تقدم آنفاً - شتى الحيل ليصدوا المسلمة عن دينها ويوقعوها في شراكهم ويذبحوا على أعتاب جامعاتهم ومصانعهم ومتاجرهم حياءها قرباناً لأغراضهم وقد استجاب لهم كثيرات وكثيرات.
ولكن لم تعدم أمتنا من يقمن الحجة على هؤلاء الكثيرات ويحيين السنة المطهرة فخرج من بينهن فتيات عفيفات طاهرات يهتفن من أعماق سويدائهن بنداء صارم بدد أطماع الأعداء فردهم خاسئين:
(رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً)
وبعائشة الصديقة بنت الصديق وفاطمة الزهراء وأسماء ذات النطاقين والخنساء أسوة وقدوة لعلنا نحشر في زمرتهن يوم القيامة قال - صلى الله عليه وسلم -: (المرء مع من أحب) (448) .
__________
(448) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.(1/290)
وإذا بالفتيات المسلمات في كل مكان تهوى قلوبهن لهذا النداء العزيز وتنضم الواحدة تلو الأخرى إلى موكب العفاف والفضيلة بعد أن تهجر الفسق والرذيلة..
{وقل جاء الحق وزهق الباطل إن البطل كان زهوقاً} الإسراء (81) .
وأنى لباطل أعداء الإسلام أن يصبر أمام الحجة والبرهان؟ إن باطلهم ظلام وحجتنا نور وبرهان وأنى تصبر جيوش الظلام أمام جحافل الحق.
{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} الأنبياء (18) .
إن الرد على دعاوى المبطلين قريب وأقوى رد هو تخلى المرأة المسلمة عن هؤلاء بعد أن انخدعت بهم زمناً طويلاً وخلعت الحجاب وخالطت الرجال وذاقت ويلات جاهلية القرن العشرين وجرت في دروب التقدميين والاشتراكيين طويلاً فما وجدت عندهم إلا الشقاء والضنك فعادت المسلمات - زرافات ووحداناً - مستغفرات تائبات خاشعات قانتات ما لهن هجيرى سوى.
{سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} البقرة (285) .
يا أعداء الإسلام! موتوا بغيظكم:
لقد اغتاظ أدعياء التحرر وصارت (عودة الحجاب) غصة في حلوقهم فراحوا يتابعون هذه الظاهرة في حسرة وقلق (449) .
__________
(449) حتى إنهم اعترفوا بهزيمتهم في " المعركة الحقيقية " وعللوا ذلك بأن الفتيات يتحجبن عن اقتناع كامل متحديات كل ما وضع في طريقهن من العراقيل والضغوط حتى صار الحجاب في عرف القوم حرياً بوصف " الظاهرة
" ومن هنا كان هذا الإقرار الواضح والاعتراف الصريح وثيقة إدانة لكل الذين يصرون على فرض التبرج والسفور بالقهر زاعمين في الوقت نفسه احترام ما يسمى بـ " الحرية الشخصية " و " حرية الرأي ".(1/291)
الصنم الذي تحطم:
كتبت جريدة الأهرام بتاريخ (29 / 4 / 77) تقول:
(أمس مر (71) عام على وفاة " قاسم أمين " محرر المرأة الذي دعا إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب)
ثم يقول الكاتب مغتاظاً متحسراً متأسفاً:
(الغريب أنه بعد مرور (71) سنة على وفاته - وفي نفس الوقت الذي نحتفل فيه بذكراه - تقوم الدعوة إلى رجوع المرأة إلى البيت وحجبها عن المشاركة في الحياة العامة) اهـ
الإسلام يعود من الجامعة:
وهذا الصحافي (مصطفى أمين) يقلقه انتشار المد الإسلامي بين الفتيات في مصر خاصة في الجامعات وبين أعلى الطبقات ثقافة فيقول:
(حارب الأحرار في هذا البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها ويظهر أن بعض الناس يريدون العودة بها إلى الوراء وقد يحدث هذا في أي مكان لكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر) (450) اهـ.
ذهب مع الريح:
وقال أحدهم في " صباح الخير" وقد تلقى بعض الردود المفحمة من فتيات محجبات عن آرائهن في ما يسمى (الحب) فلم ترقه إجاباتهن:
(أي جامعة هذه؟ وأي طالبات جامعيات هؤلاء في النصف الثاني من القرن العشرين!؟ حيث المرأة مساوية للرجل وتصعد إلى الفضاء إن كل ما يفعله المجتمع وكل ما تفعله الحكومة من تعليم البنت وتشغيلها وما تفعله زعيمات النشاط النسائي
__________
(450) (أخبار اليوم) 5 نوفمبر 1977م.(1/292)
في مصر لتأكيد هذه المساواة وتربية المرأة المصرية على الخروج على عقلية الحريم تهدمه مثل هذه الأساليب في التربية والرعاية في المدن الجامعية للطلاب) (451) اهـ.
لا.. لجيل " هدى شعراوي ":
وجاء في مجلة أكتوبر عدد (22) : نشرت صحيفة " كريستيان مونتيور " بحثاً عن الإنجازات التي حققتها المرأة المصرية في ميادين العلم والدراسات الاجتماعية وقالت الصحيفة: (شيء غريب في مصر لقد كانت الأمهات من جيل " هدى شعراوي " أكثر تحرراً وتقدماً من بعض الفتيات في مصر الآن.. الفتيات المحجبات والمتشددات! ومعنى ذلك أن هدى شعراوي وجيلها كن أكثر تحرراً وتطوراً من فتيات اليوم بنات وحفيدات هدى شعراوي) اهـ.
وهذه جريدة " الأهالي " الشيوعية تتابع الظاهرة في قلق وغيظ وتفرد لها بحثاً جاء في أثنائه على لسان " د / زينب رضوان " قولها: (انتشر الحجاب بين الطبقة المثقفة قبل العوام وهذا على عكس ما هو متعارف عليه ونفس هذه الطبقة المثقفة هي التي رفضت الحجاب في زمن " هدى شعراوي " وخلعته وداسته (452) وهي ذاتها التي عادت تنادي به وبالعودة إلى الأصالة بالإضافة إلى أن الغالبية العظمى من المحجبات من الطبقة الوسطى وهي الطبقة التي تقود التغيير في أي مجتمع صحيح أنه انتشر أيضاً بين الطبقة الأرستقراطية ولكن بنسبة أقل) (453) اهـ.
وهذه (أمينة السعيد) تصف الحجاب بأنه ثياب ممجوجة وتقول وقد ملأتها الحسرة:
(فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها زي
__________
(451) (صباح الخير) 16 يناير 1975 م.
(452) أقول: بل وأحرقته بأن سكبت عليه البترول وأشعلت فيه النار وذلك في ميدان الإسماعيلية
(التحرير فيما بعد) - انظر " واقعنا المعاصر " للأستاذ " محمد قطب " ص (258) .
(453) (الأهالي) تاريخ 5 / 10 / 1983 الصفحة الثالثة.(1/293)
إسلامي لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء) (454) .
عاد الحجاب:
وكتبت " منى رمضان " في (أكتوبر) :
(عاد الحجاب مرة أخرى كظاهرة على وجوه الفتيات والسيدات في مصر وهذه ليست آخر صيحة في عالم الموضة كما قد يتبادر إلى الذهن ولكنه نوع من الحشمة و " إحياء " التقاليد الإسلامية التي تطلب من النساء أن " يدنين عليهن من جلابيبهن " والحشمة هنا نابعة من داخل المرأة وعلى أساسها فصلت هذه الثياب) اهـ.
سلفيات.. لا مرتدات:
حقاً إنهم حائرون.. وهذا فيلسوفهم الهرم " زكي نجيب محمود " يتباكى على تبرج الجاهلية الذي انقشع أمام الصحوة الإسلامية فيقول:
(أصابت المرأة المصرية في أيامنا هذه نكسة ارتدت بها إلى ما قبل.. هناك اليوم عشرات الألوف من النساء المرتدات ينزلقن تطوعاً إلى هوة الماضي.. والمأساة أن المرأة اليوم تتبرع سلفاً بحجاب نفسها قبل أن يأمرها بالحجاب والد أو زوج.
إن أبشع جوانب هذه الردة في حياة المرأة المصرية ليس أن أحداً يتدخل في شئون حياتها ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى فيمنعها أحد لأن أحداً لا يمنعها من ذلك وليس هو أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد لأن أحداً لا يقفل في وجهها أبواب العمل وإنما الجانب البشع من تلك الردة هو أن المرأة اليوم تريد أن
__________
(454) (حواء) (18 نوفمبر 1972 م) .(1/294)
تجعل من نفسها - وبمحض اختيارها - حريماً يتحجب وراء الجدران أو يتستر وراء حجب وبراقع) (455) .
ثم يصف زمن السفور متحسراً عليه قائلاً: (ذلك زمن أوشك على الذهاب مع رائدات الجيل الماضي) ، ويستطرد قائلاً:
(إن في طائفة كبيرة من نساء هذا الجيل وبناته نكوصاً على الأعقاب بالقياس إلى الطموح الذي تميزت به أمهاتهن في الجيل الماضي وأنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع أن ترى الجيل الأصغر منه سلفياً بدرجة تزيد على الحد المألوف وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية..
وبينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو إلى العودة بها إلى نموذج السلف) (456) .
وفي فرنسا أيضاً قلقون:
فقد كان أول سؤال وجهته الصحافية الفرنسية " كاتي برين " إلى " سيدة مصر الأولى والأخيرة ": (انتشرت عادة الحجاب بين الفتيات في مصر فما رأي السيدة " جيهان " في هذه الظاهرة؟)
فتجيب - وكأنه أسقط في يدها أمام قوة انتشار هذه الظاهرة:
(في نظري أن المسئولية تقع على عاتق أساتذة الجامعات فهم سبب في انتشار تلك الظاهرة فإذا قام أستاذ واحد بطرد فتاة واحدة من محاضراته مرة واثنتين فسوف تقلع الفتيات عن ارتداء الحجاب ... ) اهـ.
__________
(455) (الأهرام) (9/ 4 / 84) ص (13) .
(456) (الأهرام) (7 / 5 / 84) ص (13) .(1/295)
أمريكا وإسرائيل تحذران الغرب:
" الإسلام قادم ونحن على خطر عظيم ":
في مقال عن قلق أمريكا وإسرائيل من الصحوة الإسلامية كتبت صحيفة " فورتشن " تقول: (إنه حتى في الجامعات العبرية في إسرائيل بدأ الطلاب العرب المسلمون يبدون اهتماماً متزايداً بالعودة إلى دينهم وبدءوا يمارسون ضغوطاً على السلطات اليهودية للسماح بفتح كليات للثقافة الإسلامية والشريعة الإسلامية في الجامعات اليهودية كما بدأ العديد منهم يطلقون لحاهم ويؤدون العبادات الإسلامية في الجامعات اليهودية في حين بدأت الفتيات المسلمات في ارتداء الزي الإسلامي الشرعي) (457) .
" عسى أن يكون قريباً "
وفي مقال آخر تقول الصحيفة نفسها: (إن الاتجاه الديني في مصر يرسخ أقدامه يوماً بعد يوم فالشباب المصري مفتون بالصحوة الإسلامية الثورية كما أن الفتيات المصريات يبدين اهتماماً متزايداً بالإسلام وفي جامعة القاهرة يزيد عدد الطالبات الملتزمات بالزي الشرعي وقد يأتي يوم لا تبقى فيه طالبة مصرية واحدة إلا وقد ارتدت الزي الشرعي الإسلامي) (458) اهـ.
المعركة مستمرة:
أعداء الحق في كل عصر على وتيرة واحدة وقلوبهم متشابهة فيما يرد عليها من الخواطر والشئون وعلى المسلمة الصادقة أن توقن أن المعركة بين الحجاب والسفور بين الحق والباطل بين الإيمان والكفر لا تنقطع فإن التاريخ يعيد نفسه وإن هذه سنة الله في خلقه {ولن تجد لسنة الله تحويلاً} فاطر (43) .
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات
فلا تبطلن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات
__________
(457) نقلاً عن صحيفة " القبس " الكويتية عدد (30 / 6 / 86) .
(458) المصدر السابق عدد (8 / 7 / 1979) .(1/296)
قال تعالى:
{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}
(459) التوبة (73) .
وعن كعب بن مالك مرفوعاً:
" اهجوا بالشعر إن المؤمن يجاهد بنفسه وماله
والذي نفس محمد بيده كأنما تنضحوهم بالنبل " (460)
فيا كتائب الحق في كل مكان:
جردوا أسنة العزائم والرد واستعينوا على رد الباطل بالواحد الفرد اكشفوا ما في مناهجهم من المؤاخذات وبينوا ما فيها من الخطأ والغلطات ليظهر جهل أعداء الحق وفساد أقوالهم للناظرين ولا عدوان إلا على الظالمين.. فتالله ما بارز جنود الحق قط قرن إلا كسروا قرنه فقرع من ندم سنه ولا ناحرهم خصم إلا بشروه بسوء منقلبه وسدوا عليه طريق مذهبه لمهربه.
فاللهم من أراد الإسلام وأهله بسوء فاردد عليه دائرة السوء ورد كيده في نحره واجعل تدبيره في تدميره - اللهم اغفر لجامعه ولوالديه
و {ارحمهما كما ربياني صغيراً}
ولإخوانه في الله ولمن نظر فيه فدعا له بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك مجيب الدعوات وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله القسم التاريخي من " عودة الحجاب " ويليه بإذن الله القسم الخاص بمكانة المرأة وموضوعه:
المرأة
بين تكريم الإسلام
وإهانة الجاهلية
الإسكندرية في
السبت 12 من ربيع الثاني 1404 هـ
الموافق 17 من ديسمبر 1983 م
__________
(459) قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (جاهد الكفار) بالسيف (والمنافقين) بالحجة (واغلظ عليهم)
في الجهادين جميعاً ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد
بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن) اهـ من الكشاف (1 / 516) .
(460) رواه الإمام احمد في مسنده وحسنه الألباني.(1/297)
المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية
تأليف محمد بن احمد إسماعيل المقدم
عفا الله عنه
دار ابن الجوزي
القاهرة(2/)
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1426 هـ/2005 م
رقم الإيداع: 8713/2005
دار ابن الجوزي
للنشر والتوزيع
جمهورية مصر العربية
22 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر
القاهرة
ت: 002025143141
تليفاكس: 002025111750(2/)
أنت نصف الأمة. .
ثم إنك. .
تلدين لنا النصف الآخر. .
فأنت أمة بأسرها. .(2/4)
بسم الله الرحمن الرحيم(2/5)
مقدمة الطبعة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على فضله ونعمائه، والصلاة والسلام على خير أصفيائه، وعلى آله وصحبه وأوليائه، وبعد:
فهذه هي الطبعة الخامسة من "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" وقد أضيف إليها زيادات وتحقيقات نافعة إن شاء الله.
وهذا الكتاب كان قد أدرِجَ ضمن مجموعة "عودة الحجاب" مع أن تعلقه به غير مباشر، وربما كان الدافع إلى ذلك درء ما يدعيه أعداء الإسلام وأدعياؤه من أن الحجاب بمعناه الشرعي الشامل يشل حركتها، ويعوق رسالتها، وهذا الزعم مبني على افتراض أن المرأة داخل بيتها خلية فارغة، وهذه الدراسة مما يؤكد بطلان هذه النظرة، ومناقضتها للحقيقة، فهي تبين للمنصف أن للمرأة في بيتها وظيفة مقدسة، ورسالة سامية، تجعل من هذا البيت قلعة من قلاع العقيدة، وحصنا من حصون الإسلام، وتبين أيضا مدى الجرم الذي ترتكبه الأمهات والزوجات "الهاربات" من ساحة "جهادهن المقدس" الذي هو "حسن التبعل" و "صناعة الأبطال" و "إعداد أمهات المستقبل".
إن جوانب عظمة الإسلام لا حصر لها، وإذا ما جئته من أي النواحي متأمِّلا ما فيه من الحكمة والإبداع لازددت يقينَا بأن هذا دين الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وهذا الكتاب محاولة لتوكيد هذه الحقيقة من خلال الأحكام التشريعية، ومن خلال النماذج التطبيقية الواقعية التي(2/7)
أثمرتها التربية الربانية لخير أمة أخرجت للناس.
والله تبارك وتعالى هو المسئول المرجو الإجابة أن يتقبله بقبول حسن، وأن ينفع به النفع العميم، في الدنيا ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الإسكندرية في الأحد
9/4/1411 هـ
28/10/1990 م(2/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
* الباب الأول *
تمهيد
الحمد لله مستحق الحمد وأهلِه، ومبين الهدى بإيضاح سبله، أحمده حمدًا دائمًا بلا فترة، وأشكره على نعمه التي لا تحصى كثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها نجاة من عذاب الحفرة، وسلاماً من العدو في العسرة واليسرة.
أحمده على نعماه، وأصلي على عبده ورسوله محمد الذي اختاره واجتباه، وأحبه وارتضاه، وعظَّمه وكرمه، ورفعه على من سواه..
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداه.
لا يخفى على أي مؤمن صادق ما آل إليه أمر الإسلام وحال المسلمين في زماننا هذا من الغربة، فالموافق المتابع فيه على وصفه الأول قليل، والمخالف هو الكثير، وقد اندرست رسوم كثير من الشرائع أو كادت، حتى مدت الفتن أعناقها، واستطار شررها، وعم ضررها، والتبست الأمور على الجمهور، فظهر مصداق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدرس الإسلام كما يدرس وَشْيُ الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة (*) الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ،
__________
(*) قطعة من حديث رواه ابن ماجه (4049) والحاكم في " المستدرك" (4/473) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم،، وزاد في "الجامع الصغير، عزوه إلى البيهقي في "الشعب"، والضياء عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال السندي: " وفي الزوائد: =(2/9)
فطوبى للغرباء" (1) .
وفي رواية: " قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس" (2) .
وفي رواية للإمام أحمد: "الذين يصلحون إذا فسد الناس" (3) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طوبى للغرباء، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم" (4) ، وفي رواية:
__________
= إسناده صحيح، ورجاله ثقات" اهـ. من حاشيته على سنن ابن ماجه (2/498) ، و "درس الرسم دروسًا إذا عفا وهلك، و"درس الثوب درسا، إذا صار عتيقا، ويؤيد الثاني قوله " وشي الثوب" أي نقشه.
(1) رواه مسلم رقم (145) في الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، " وطوبى": (فُعْلَى من الطيب: أي فرحة، وقرة عين، أو سرور وغبطة، أو الجنة، أو شجرة في الجنة) اهـ. من " فيض القدير" (2/321) .
(2) أخرجه من حديث عبد الرحمن بن سنة رضي الله عنه عبد الله بن أحمد في زوائده، (4/73-74) ، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد" وقال: (رواه عبد الله، والطبراني، وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك) اهـ. (7/278) ، وله شواهد عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم، انظر: "الغرباء" للآجري تحقيق بدر البدر ص (15-26) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (3/71) ، وابن جرير (13/149) ، وابن حبان (2625- موارد) ، والخطيب في "تاريخه" (4 لم 91) ، والآجري في الغرباء! ص (16) وفيه ضعف، ورواه من طريق أخرى الترمذي (2/104) ، وقال: "حسن صحيح"، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (1273) .
(4) أخرجه الإمام أحمد (2/177، 222) ، وابن المبارك في " الزهد" (775) ، والآجري في " الغرباء، ص (23) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد": (وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف) اهـ. (7 /278) ورواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي: (رجال أحدها =(2/10)
"من يُبْغِضُهم أكثر ممن يحبهم".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان، الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر" (5) .
قال المناوي رحمه الله: "شبه المعقول بالمحسوس، أي الصابر على أحكام الكتاب والسنة يقاسي بما يناله من الشدة والمشقة من أهل البدع والضلال مثلَ ما يقاسيه من يأخذ النار بيده، ويقبض عليها، بل ربما كان أشد، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فإنه إخبار عن غيب، وقد وقع (6) .
وقال المباركفوري رحمه الله: (قال الطيبي: (المعنى: كا لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده، كذلك المتدين يومئذ لا يقدر على ثباته على دينه، لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان" انتهى، وقال القاري: (الظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمر إلا بصبر شديد وتحمل غلبة المشقة، كذلك في ذلك الزمان لا يُتَصَورُ حفظُ دينهِ ونورِ إيمانه إلا بصبر عظيم" انتهى) (7) اهـ.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من ورائكم زمانَ صبر، للمتمسك فيه أجْرُ خمسين شهيدا منكم" (8) .
__________
= رجال الصحيح) اهـ، وانظر: "فيض القدير" (4/274) .
(5) رواه الترمذي رقم (2261) (2/42) في (الفتن،: باب رقم (73) ، وفي سنده عمر بن شاكر البصري، وهو ضعيف كما في "التقريب" (2/57) ، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه،، ورمز له السيوطي بالحسن، وصححه الألباني بشواهده كما في " السلسلة الصحيحة" رقم (957) ، وانظر: تحقيق "جامع الأصول" (10/5) ، و "الغرباء" للآجري ص (26) .
(6) "فيض القدير" (2/456) .
(7) "تحفة الأحوذي" (6/539) .
(8) (أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير" (1/76/3) ، وإسناده صحيح، رجاله =(2/11)
ويروَى عن أبي أمامة الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشَني رضي الله عنه قال: قلت: (يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: (عليكم أنفسَكم) ؟ (المائدة 105) ، قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًّا مطاعًا، وهوى متبعا ودُنيا مُؤثَرة، وإعجابَ كل ذى رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيامَ الصبرِ، الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم") (9) ، زاد أبو داود في حديثه: "قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم".
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العبادة في الهَرج كهجرة إليَّ" (10) ، قوله: "العبادة في الهرج" أي الفتنة واختلاط أمور الناس، "كهجرة إليَّ" قال النووي رحمه الله: "وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد" (11) اهـ.
__________
= كلهم ثقات رجال مسلم) اهـ من "السلسلة الصحيحة" رقم (494) .
(9) أخرجه الترمذي رقم (3060) في التفسير: باب: (ومن سورة المائدة) ، وقال: (حسن غريب) ، وأبو داود رقم (4341) في الملاحم: باب الأمر والنهى، وابن ماجه رقم (4014) في "الفتن": باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) ، وابن حبان (1850- موارد) ، (وفيه عتبة بن أبي حكيم الهمداني الشامي، وثقه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد، كذا في " تخريج السنن" (6/189) ، وانظر: "مجمع الزوائد" (7/282) .
(10) أخرجه مسلم رقم (2948) في الفتن: باب فضل العبادة في الهرج، والترمذي رقم (2202) في الفتن: باب ما جاء في الهرج والعبادة فيه.
(11) "شرح النووي لصحيح مسلم" (18/88) ، وانظر (تحفة الأحوذي) (6/443-445) .(2/12)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد أن رجلا قال له: يا أبا سليمان! اتق الله، فإن الفتن ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حيٌّ فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكانا لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة أيام الهرج) (12) اهـ، وقال المناوي رحمه الله: ("كهجرة إليَّ " في كثرة الثواب، أو يقال: المهاجر في الأول كان قليلا لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قال ابن العرفط: وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعيَّن على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة) (13) اهـ.
__________
(12) "فتح الباري" (13/15) .
(13) "فيض القدير" (4/373) .(2/13)
[فصل]
المرأة
سلاح ذو حدين
أخذت الأرض زخرفها وازينت.. وظن أهلها أنهم قادرون عليها، وانصرف الناس عن دينهم إليها، وانقاد السواد الأعظم لغرورها، وافتتنوا بحضارة الغرب وزخارف الشرق، وصادف هذا كله غفلة دعاة الحق، وكتمان البعض- الا من رَحِمَ الله- ما أنزل الله من البينات والهدى، لكن أعداء الإسلام لم يغفلوا عنا، فحملوا بخيلهم ورجلهم، وجردوا الحملات المسلحة بسهام الشهوات وسموم الشبهات لتعيث في قلوب المسلمين فسادًا، وتجوس خلال ديارهم، لتسلخهم من دينهم الحق الذي ارتضى الله لهم ... وقد كان هؤلاء الأعداء خبثا ماكرين، في حربهم، إذ تفرسوا في أسباب قوة المسلمين وحدَّدوها، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء..
علموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وهم يعلمون أيضا أنها سلاح ذو حدين، وأنها قابلة لأن تكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير، ومن هنا كان النصيب أكبر من حجم المؤامرات التي بدأت بإسقاط الخلافة، وانتهت - حتى الآن - بأعلام تحمل "نجمة داود" ترفرف في عواصم إسلامية (14) .
__________
(14) وهل أتاك نبأ ما وقع في عهد السلطان العثماني "عبد المجيد" الذي أمر بتعمير القدس سنة 1865م و (كان الوالي المعين من قبله على المدينة- أي القدس- واسمه =(2/14)
15
قال محمد طلعت حرب في كتابه "تربية المرأة والحجاب": (إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في الشرق - لا في مصر وحدها - إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل. . بل الفساد الذي عم الرجال في الشرق) (15) اهـ.
إن المرأة تملك مجموعة من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبني أمة، وأن تهدم أمة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (16) .
وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء" (17) .
وروى أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن حسان بن عطية قال: "ما أتيت
__________
= "كامل باشا" قد أجاز أن ترفع بعض الدول الأجنبية أعلامها على قنصلياتها فيها، لأنها كانت قد حاربت في جانب تركيا ضد روسيا القيصرية، فثار الأهالي ضده وأجبروه على العدول عن هذا القرار فطويت الأعلام الأجنبية في "القدس" في الحال!) اهـ من "اليهود المغضوب عليهم"، ص (182) .
(15) نقلا من "الحركات النسائية في الشرق" ص (11) .
(16) رواه مسلم رقم (2742) في الذكر باب أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي رقم (2192) في جملة حديث طويل في الفتن: باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، وابن ماجه (4000) في الفتن: باب فتنة النساء، وانظر: "شرح النووي" (17/55) .
(17) رواه البخاري (9/118) في النكاح: باب ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم رقم (2740) في الذكر والدعاء: باب أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي في الأدب رقم (2780) : باب ما جاء في التحذير من فتنة النساء، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وانظر: " فتح الباري ط. السلفية (9/138) .(2/15)
16
أمة قط إلا من قبل نسائهم " (18) .
وقد كان للمرأة المسلمة دور رائع في بناء الصرح الإسلامي نفرده بالبسط في فصول مقبلة إن شاء الله، وقد انتفعت الأمة بهذا الحد النافع من سلاح المرأة في قرونها الخيرية، ثم لم تلبث الحال أن تدهورت شيئا فشيئا وجرحت الأمة بالحد المهلك من "سلاح المرأة" (19) وهل ننسى أن المعز الفاطمي - بعد أن فتح ما يلي إفريقية من البحر المحيط أخذ يرنو إلى غزو مصر واجما متهيبا حتى جاءته الأنباء متواترة عن "استهتار" نساء الإخشيد، فتحرك للعمل وأرسل قائده جوهرا لفتح مصر وقال: "اليوم فتحت مصر، الآن لا يصدنا عنها شيء"، فكان الأمر وفق ما قال (20) .
وكذلك لا ننسى أن انحراف المرأة أو الانحراف بالمرأة كان السبب الأول في أن حضارات عتيقة انهارت وتمزقت كل ممزق ونزل بأهلها العقاب الإلهي، والأوجاع والأمراض الفتاكة كما وقع قديما لليونان والرومان والفرس والهنود وبابل وغيرها من الممالك (21) ، أما في عصرنا الحاضر فقد ذخر التاريخ الحديث بعبر وَمَثُلات تزيد يقين المؤمن بشؤم هاتيك المعاصي والشهوات التي غرق فيها الغربيون، وتبعهم عليها كثير من الأمم، الأمر الذي ينذر بسوء العاقبة، ويحق لنا معه أن نتساءل:
(أليس حسبنا أن نرى - مثلا - حاملة لواء هذه الفوضى اللاأخلاقية "فرنسا" تركع أمام خصومها وتحت أقدام أعدائها مستسلمة في سرعة
__________
(18) "حلية الأولياء" (6/76) .
(19) انظر: "المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها" الجزء الثالث.
(20) "المرأة العربية" (3/63) ، و"تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب (ص 79) .
(21) انظر: الحجاب" للمودودي ص (8-36) .(2/16)
17
عجيبة (22) ، حتى قال لهم قائد حربهم الماريشال "بيتان" يقرعهم، ويوبخهم: " زنوا خطاياكم بني قومي - إن خطاياكم ثقيلة، إنكم لم تريدوا أطفالا، وهجرتم حياة الأسرة، ونبذتم الفضيلة، وكل المثل الروحية، وانطلقتم إلى الشهوات تطلبونها في كل مكان، فانظروا إلى أي مصير قادتكم الشهوات؟ ") (23) .
ويحق لنا أيضا أن نتعجب ونتساءل:
(ألم يكن جديرا بهذا الغرب أن يلحظ العبرة في مصاير تلك الأمم التي سبقته إلى عبادة الجسد؟ . . ألم يسمع بمصير اليونان والرومان وهما أقرب السابقين إليه؟!
وصح عن التابعي الجليل جبير بن نفير - رحمه الله - أنه قال: (لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء رضي الله عنه جالسا وحده يبكي، فقلت: "يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! "، قال: "ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله عز وجل فصاروا إلى ما ترى! ") (24) .
عبرة من "بومبي":
ولعمري إن في "بومبي" (25) وحدها ما يكفي لإيقاظ ضميره لو أن
__________
(22) وكان ذلك عندما هزمت فرنسا أمام الألمان في الحرب العالمية الثانية.
(23) "ماذا عن المرأة" للدكتور نور الدين عتر (ص 41) .
(24) أخرجه الإمام أحمد في الزهد ص (142) ، وأبو نعيم في "الحلية" (1/216 - 217)
(25) ("بومبي" - يطلق هذا الاسم على هضبة صغيرة قريبة من بركان "فيزوف" من =(2/17)
18
في ضميره بقية من حياة.
لقد أخبرنا التاريخ بهلاك هذه البلدة في غمرة مفاجئة من حمم "فيزوف" طمستها في دقائق معدودة، ولكنه لم يعرفنا شيئا عن هذه المدينة سوى أنها بلد الفن الإيطالي حتى إذا شاء الله أن يكشف عبرتها، هدى الإنسان إلى إبرازها من تحت الركام، فإذا هناك عجب.. شعب بأكمله استحال إلى محنطات لم يبل منها شيء، ولم يتغير وضع، حتى الخباز لترى في يديه لوحا مستخرجا به الخبز.. وحتى السكارى ليمسكون بكؤوس الخمر على شفاههم ... وحتى الفاسقون في أشنع حالات الفحشاء.
وكان من بالغ عبر بومبي ما يراه السائحون هناك فوق مداخل بعض القصور: رسوم موازين منحوتة في الصخر في إحدى كفتي الواحد منها أكداس من الجواهر، يقابلها في الأخرى "رمز اتخذوه للفاحشة"، راجحا على تلك الأكداس، إشارة إلى أن الشهوة عندهم هي غاية الحياة. إن مَثُلات القدر لم تنته من الأرض، فلئن هلك بعض الأمم الظالمة بالخسف أو النسف أو الجوع أو المسخ ... إن ذلك لمستمر لم ينقطع بعد ولن ينقطع (26) .. وإلا فما هذه الزلازل تقرع البشر هنا وهناك؟ ... وما هذه السيول تجرف المدن والقرى في الشرق والغرب؟ ... وما هذه الأمراض الفتاكة تجتاح الإنسان في كل مكان؟ وقد عجز العلم عن استئصالها، فما يكاد أن يستريح من غارة حتى يستأنف التعبئة لدفع غارة!
__________
= مقاطعة نابولي، وهي في الأصل مدينة بلغ سكانها مائة ألف، وكانت المحلة التي يقضي فيها أغنياء الرومان أوقات الاستمتاع بملذاتهم وشهواتهم.. وقد غطيت بحمم "فيزوف" منذ سنة 79 بعد الميلاد، واستمرت محجوبة حتى سنة 1748م حيث عثر أحد الفلاحين على بعض آثارها، فبدأت الحفريات حتى أمكن إظهار أكثرها - عن لاروس) اهـ من "تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب هامش (ص 74) ، وانظر: "جنود الرحمن" للأستاذ سعيد أحمد الأصبحي ص (20 - 25) .
(26) انظر "فتح الباري" (2/184) ، (8/ 292 - 293) ، (10/56) .(2/18)
أما المسخ فما أكثره في هذا العصر ... الذي مُسِخَ فيه معظم البشر آلاتٍ تحرك آلات.. فلا وفاء ولا حنان ولا عدالة ولا أمان ... فكأن الأرض كلها على فُوَّهة بركان!
من "أوربة" تأتي الفتن:
وليس الغرب وحده هو المسئول عن شيوع الفاحشة في قديم العالم وحديثه ... فكثير من الأم مشتركة في تبعة هذا الاتجاه الرهيب.. ولكنْ لا مراء أن الغرب مسئول إلى حدّ كبير عن انتصار الرذيلة، وامتداد ظلماتها على أنحاء العالم في عصرنا الراهن، وذلك بما سخر من علومه، ومواهبه للدعاية إلى هذه الفاحشة، وتزيينها في أعين المغفلين.. وبخاصة من هذا الشرق.
ولعل سرور الغرب بنجاحه في إفساد أخلاقنا أعظم بكثير من سروره باستنزاف أموالنا في منتجاته الصناعية الكمالية وغيرها، كما يشهد بذلك المنصر الأمريكي "بيارد دودج" حين يقول في محاضرة له عن الإسلام: ".. ويلوح في أن هوليود قد أثرت في الجيل الحاضر من المسلمين أكثر من تأثير مدارسهم الدينية " (27) .
ونحن العربَ- مع الخجل الكبير- لم نقصر في الترويج لهذه المفاسد قديما وحديثًا، ولكن الرذيلة هي الرذيلة سواء انتسبت إلى الشرق أو إلى الغرب، وعندما تهاجم النار دارا لا يسأل أهلها: " من أين جاءت؟ "، قبل أن يبذلوا وسعهم في إخمادها، ونحن عندما نشير إلى الغرب في كلامنا عن أخطار التحلل الأخلاقي المشهود، فلكي ندل على المنفذ الكبير الذي يجب إغلاقه لنتمكن من حصر الخطر، وقد كان لنا عبرة في ماضينا الوجيع
__________
(27) "تأملات" للمجذوب، نقلًا عن "الإسلام في نظر الغرب" (ص 2) .(2/19)
يوم أهمل الناس أمثال هذه المقاصد، فتركوها تستشري ثم تتجمع، فتتحول إلى سيول ما لبثت أن نسفت سدودنا، فأسلمت مواريثنا الضخمة في الشرق والغرب لقمة سائغة إلى متوحشة التتار، وإلى متعصبة الأسبان والصليبيين. وليس من الإخلاص لديننا وأمتنا أن ندع العابثين يبثون ألغامهم في "تحصيناتنا الأخلاقية" لِيُحَوِّلوا الملايين من أبنائنا وشبابنا إلى "عناصر هزيمة " تخدم أهداف أعدائنا في تقويض صرح الأمة، بتحطيم شبابها، وشحن أعصابهم بالمواد الناسفة.
وقد أدرك أحفاد التتار والصليبيين والرومان أن من اكبر ما لقيه آباؤنا الأولون من العون في فتوحهم لفارس والروم - بعد الإيمان- إنما جاء من انحلال الأخلاق في هاتين الدولتين، فكان الدم الجديد ممثلًا في تلاميذ مدرسة النبوة، ينازل الدم الفاسد المهترئ، ممثلا في جنود الإمبراطوريتين، فلم يكن عجيبًا أن يقهر الإيمان الكفر، وأن تغلب القوة الضعف، وأن تهزم الصلابة الميوعة ...
ثم لقد علم هؤلاء الموتورون أننا لم نخسر أمجادنا العظيمة إلا عندما فتحنا قلوبنا وعقولنا وبيوتنا لسموم هذه الأمم، تكتسح بميوعتها صلابتنا، وتذيب برذائلها رجولتنا، فكانت هزيمتنا يوم ذاك هزيمة الخلائق قبل أن تكون هزيمة المعارك) (28) .
ومن هنا:
كانت المخططات التي رسمها الأعداء ترمي إلى شل المرأة المسلمة عن وظيفتها البناءة سلبًا، ثم الزج بها إلى مواقع الفتنة وتدمير الأخلاق إيجابًا،
__________
(28) "تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب (ص 73-79) بتصرف.(2/20)
تحت ستار خداع من المصطلحات البراقة كالتحرير والتجديد والتقدم. وهذا أحد أقطاب المستعمرين يقول: "كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرِقوها في حب المادة والشهوات) .
وقال أحد كبراء الماسونية: (يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إِلينا يدها فزْنا بالحرام، وتَبدَّد جيش المنتصرين للدين) .
وجاء في " بروتوكولات حكماء صِهْيُون": (يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا، إن "فرويد" منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غريزته الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه) (29) اهـ.
وتقول المنصرة " آن ميليجان":
(لقد استطعنا أن نجمح في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات آباؤهن باشوات وبكوات، ولا يوجد مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي، وبالتالي ليس هنالك من طريق أقربَ إلى تقويض حصن الإسلام من هذه المدرسة) (30) اهـ. لقد عز عليهم أن تجود المرأة المسلمة على أمتها كما جادت من قبل بالعلماء العاملين والمجاهدين الصادقين، فصار همهم أن يعقموها أن تلد مثل عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، وعائشة بنت الصديق، وسمية بنت خُبَّاط، وأسماء ذات النطاقين، والخنساء.
__________
(29) " تربية الأولاد في الإسلام" لعبد الله ناصح علوان (1/ 286-287) .
(30) "قادة الغرب يقولون" للأستاذ جلال العالم ص (83) .(2/21)
لقد ظلت المرأة المسلمة طيلة القرون الخالية مصونة متربعة على عرشها قارةً داخل مصنع رهبان الليل، وفرسان النهار"، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فراح أعداؤها الموتورون يحيكون المؤامرة تلو المؤامرة، وينصبون لها الشباك، ويحتالون بشتى الحيل، إلى أن تم لهم - في زمن قياسي - ما أرادوا، ولم يرفعوا أيديهم عن أمتنا، ويسحبوا جيوشهم من بلادنا إلا وقد اطمأنوا أنهم خلفوا وراءهم جيشًا أمينا على مآربهم، حفيظًا لعهودهم، ممثلًا في قادة الفكر والأدب و "الفن" من المغررين المبددين الذين أطلق عليهم - زورا - المحررين المجددين، فتراهم يستخفون تحت العمائم، وتارة يلبسون مسوح العلماء والناسكين، وتارة يسفرون عن وجوههم الحقيقية ليجهروا بالعداوة والبطش بالذين يأمرون بالقسط من الناس، وهم أنفسهم الذين ادَّعَوْا يوما أنهم حماة الدين، ورافعو لواء العلم، ودعاة الإيمان.
أرى الإيمان دعوى يعجب الناسَ حسنها ... ويخدعُهم عنها الحديث الملفق
أكاذيب يزجيها الفتى وهو عالم ... إذا ما ادعاها أنه ليس يصدق(2/22)
[فصل]
القضية الأم
القرآن والسلطان
اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس،
وما لا أصل له ... فمهدوم،
وما لا حارس له ... فضائع.
الأمام أبو حامد الغزالي
إن الإسلام كل لا يتجزأ، وليست مظاهر الانحراف عن هذا الدين في معظم المجالات إلا نتيجة ضياع "السلطان" الذي جاء فيه عن عثمان بن عفان رضي عنه قوله: "ما يزعُ الناسَ السلطانُ أكثرُ مما يزعهم القرآن " (31) .
ونظًرا لما يمنحه الإسلام للسلطان من صلاحيات يحرس بها الدين،
ويذود عن حماه، ويسوس الدنيا بالدين، فيؤتمن على مصاير البلاد، ومصالح العباد، فطن أعداء الإسلام أيضًا لهذا المصدر العظيم من مصادر قوة الأمة، فحرصوا على نقض هذه العروة الوثقى من عرى الإسلام، وقد تم لهم ما أرادوا حين أفلحوا في الإجهاز على آخر شكل صوري للخلافة العثمانية، فتحقق مصداق قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: " لتنْقَضَن عُرَى الإسلام
__________
(31) رواه عنه يحيى بن سعيد وأخرجه رزين، وإسناده منقطع، وهو مشهور من كلام عثمان رضي الله عنه " جامع الأصول" (4/83-84) ، وَزَعَ يزعُ: إذا كف، وردع.(2/23)
عُرْوَة عروةً، فكلما انتقضت عروة تشبث الناسُ بالتي تليها، فأوَّلهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة" (32) فكان سقوط الخلافة أول دركة انحطت بعدها الأمة إلى ما يليها من دركات سلخهَا من خصائصها المتميزة التي طالما احتفظ بها المسلمون رغم تقلبات القرون والمحن، تلك الخصائص التي أورثتهم عبر الأجيال عزة ومنعة أذلوا بها رؤوس الجبابرة، وكسروا ظهور الأكاسرة، وقصموا رقاب القياصرة.. وهذا شوقي يصرخ عقب انهيار الخلافة متوقعا ما يمكن أن تتمخض عنه تلك الفتنة (33) :
فَلَتَسمَعُن بكلِّ أرض داعيًا ... يدعو إلى "الكذاب" أو لِسَجَاحِ (34)
وَلَيُشْهَدَنَّ بكل أرض فِتْنةٌ ... فيها يبَاعُ الدينُ بيع سَمَاحِ
ورحم الله الإمام عبد الله بن المبارك إذ قال: (35)
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا
__________
(32) أخرجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه الإمام أحمد (5/251) ، وابن حبان (257- موارد) ، والحاكم (4/92) وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (5/15) ، رقم (4951) .
(33) "الشوقيات (1/ 109) .
(34) المراد بالكذاب "مسيلمة" الذي ادعى النبوة، وادعى أنه أشْرِكَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة، ثم جاء بقرآن يضحك الناس، وتزوج "سجاح" التي ادعت هي الأخرى النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لمسيلمة حين تزوجها: لابد لها من مهر، فقال: مهرها أني أسقطت عنكم صلاتي الفجر والعتمة، ثم إنها رجعت عن غيها وأسلمت، وما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل - انظر "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص 501-503) ، "البداية والنهاية" (5/ 51، 52) ، (6/326) .
(35) "غذاء الألباب" للسفاريني (1/198) .(2/24)
لقد غدت عودة الحكم الإسلامي والسلطان المسلم أملًا يراود المسلمين في شتى بقاع الأرض، وتوحدت عليه قلوبهم، ولكنهم اختلفوا أيما اختلاف في كيفية هذه العودة المرتقبة، التي وعد الله عز وجل بها في قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (36) ، ووعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث" (37) .
ومع تباين السبل المقترحة للوصول إلى هذا الهدف واختلاف أصحابها إِلا أنه يكاد يتفق الجميع على أن الخطوة الأولى هي أن نصلح أنفسنا فإن الهداية فرع الاهتداء، والإصلاح فرع الصلاح، "ولا يستقيم الظل والعود أعوج"، فمن هنا كان لزامًا علينا أن نصحح فهمنا للإسلام الذي نجاهد لتمكينه، والذي تأثر كثيرا بحملات الغزو الفكري في كثير من المجالات، ثم نلتزم بما يمليه علينا هذا التصحيح.
ومن هذه المجالات الخطيرة وضع المرأة ... إنها قضية لا تحتمل التأجيل إلى ما بعد تحقيق الأمل المنشود بإذن الله سبحانه وتعالى، لسبب رئيسي ألا وهو أن قيام الدولة الإسلامية وبعث الأمة المسلمة منوطان بوضع المرأة المسلمة في كثير من الجوانب. . .
فالمرأة هي أم المجاهدين، وبنت المجاهدين، وزوج المجاهدين، وأخت المجاهدين، وبدون "المرأة المسلمة" و "البيت المسلم" لا يمكن أن تقوم "الدولة المسلمة"، وعودة الإسلام لن تكون إلا على أيدي وأكتاف أولي عزم يقيمون الإسلام في أنفسهم وبيوتهم، ويحكمون بما أنزل الله في خاصة أنفسهم وأهليهم أولًا، حتى يستحقوا تنزل النصر عليهم، وحتى يأمنوا أن
__________
(36) التوبة (33) .
(37) انظر تفسير "محاسن التأويل" للقاسمي (8/3129-3132) .(2/25)
يخذلهم الله في مواطن اللقاء مع الأعداء (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد: 11) .
ونحن - المسلمين - مكلفون بتطبيق "ما أنزل الله" متعلقا بنظم الحياة الإسلامية الشاملة في مجتمعاتنا، فإذا تنَحلْنا المعاذير لتقصيرنا في هذه الفريضة، فماذا عسى أن يكون عذرنا إذا لم نحكم "بما أنزل الله" في بيوتنا؟ وماذا يكون عذرنا ونحن قادرون بعون الله على أن نستقي فهمنا للإسلام، ولقضية المرأة - على وجه الخصوص - من منابع الإسلام الصافية؟
إنه لا يسوغ لنا، ولا يليق بنا أن نتلفت حيارى بحثًا عن الطريق، وبين أيدينا المعين الذي لا ينضب في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنكون:
كالعِيس (38) في البيداء يقتلها الظَّما ... والماء فوق ظهورها محمولُ
__________
(38) العيس: بكسر العين: الإبل البيض يخالط بياضها شُقْرة - من " القاموس المحيط" (2/242) .(2/26)
[فصل]
بين الترقيع ... والأصالة
إن "الترقيع" و "التقليد" مرفوضان في طريق الإصلاح الإسلامي، فوضع المرأة الحالي الذي يحاول أن يسَوغَهُ بعضُ المنهزمين بنصوص إسلامية، إنما هو "ترقيع" في أحكام الإسلام التي لا تحتاج إلى عملية "تجميل" ليقبل عليها الناس، لأن هذه الأحكام الربانية السامية تحمل في طياتها جاذبية كامنة تهوى إليها أفئدة المؤمنين والمؤمنات الذين رَضوْا بالله ربُّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولًا.
إن تقليد أغلب المسلمين والمسلمات لغيرهم إنما هو أمارة الانهزام الداخلي الذي ينعكس في هذه التبعية العمياء التي أودت بأصالتهم، وأفقدتهم " العزة الإسلامية"، وجعلتهم يهونون على ربهم، ويهونون على أنفسهم. " ويل للمغلوب من الغالب":
ولله دَر العلامة ابن خلدون رحمه الله إذ عقد فصلًا خاصا في "مقدمته" (39) جعله بعنوان:
"المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، وبين فيه أن الذي يقلد غيره إنما هو الضعيف والناقص والمغلوب والجاهل، فقال:
__________
(39) "مقدمة ابن خلدون"، الفصل الثالث والعشرون (ص 147) .(2/27)
" ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمالَ فيهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسرى إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة أي (الأسبان) ، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحْوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يَسْتَشْعِر من ذلك الناظرُ بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله" اهـ.
وصدق ابن خلدون رحمه الله، فلقد توقع استيلاء الإفرنج على الأندلس الإسلامية، وخروج المسلمين منها قبل أن يقع ذلك بنحو مئتي سنة، ولم يكن له دليل على ذلك إِلا مشاهدته تشبه المسلمين بالأعداء في ملابسهم وشاراتهم وعاداتهم وأحوالهم.
إن الاعتزاز بالإسلام، والفخر بأحكامه الإلهية، والاستعلاء بها على كل ما خالفها من نظم ومناهج، هو مفتاح عودتنا إلى الإسلام، وعودة الإسلام إلى حياتنا.
"الإسلام يَعلُو، ولَا يُعلى" (40) :
وتأمل مَعي هذه القصة التي رواها الحاكم من طريق ابن شهاب قال:
__________
(40) أخرجه الدارقطني في " سننه" (395) ، والبيهقي (6/205) ، عن حشرج بن عبد الله بن حشرج حدثني أبي عن جدي عن عائذ بن عمرو المزني أنه جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، فقالوا: "هذا أبو سفيان، وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا عائذ بن عمرو، وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو، ولا يعلَى"، وحسنه الحافظ في "الفتح" (3/220) ط. السلفية، وقال: (وفي هذه القصة أن للمبدأ به في الذكر تأثيرًا في الفضل، لما يفيده من الاهتمام) اهـ، وقد أراد صلى الله عليه وسلم هنا أن يعلمهم البداءة بذكر المسلم، وانظر: "إرواء الغليل" (5/106 - 109) ، "جامع الأصول" (9/ 604) .(2/28)
أخرج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك! فقال عمر: أوَّه لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتهُ نكالًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذلَّ قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله" (41) ، وفي رواية: (يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العز بغيره) .
وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد رضي الله عنه قبل القادسية رسولا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلي الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى
__________
(41) رواه الحاكم (1/61-62) ، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، قال الألباني- حفظه الله -: "وهو كما قالا" اهـ. من "الصحيحة" رقم (51) .(2/29)
عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) (42) .
(وحينما كانت البعثات الطلابية النصرانية تفد إلى ديار الإسلام وحواضره لتلقي العلم رغما عن رجال الكنيسة كان ذوو هؤلاء الطلاب ورجال الكنائس التي يتبعونها يبذلون كل جهدهم لوضع حواجز نفسية في نفوس هؤلاء الطلاب وعقولهم تحول دون تأثرهم بالفكر الإسلامي وبحياة المسلمين، ولقد بلغ من حرص الكنيسة على هذا أنها أصدرت قرارَا كنسيا تقول فيه: " إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين ييدأون كلامهم بلغات بلادهم، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين، هؤلاء إن لم يكفوا عن ذلك فستصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان. ." وأما اليهود فتلمودهم وشروحه وتعاليم أحبارهم حافلة بكل ما من شأنه إيجاد الحواجز المادية والنفسية بينهم وبين سواهم، ولولا هذه الحواجز- بغض النظر عن خطئهم أو إصابتهم فيها- لذاب اليهود منذ قرون في سواهم من الأمم، ولانتهى وجودهم) (43) .
"موشى ديان".. واعظًا:
(لقى وزير الدفاع الإسرائيلي في إحدى جولاته شابا مؤمنًا في مجموعة من الشباب في حي من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال له: "أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آتٍ
__________
(42) "البداية والنهاية " (7/39) .
(43) "النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار" المقدمة (ص 11) .(2/30)
بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: " لتقاتلن اليهود أنتم شَرْقِي النهر، وهم غَرْبِيه"، فابتسم ديان الماكر، وقال: "حقا! سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلا. . . ولكن متى؟ " واستطرد اليهودي الخبيث يقول: "إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه.. عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل ") (44) .
__________
(44) "فصل الدين عن الدولة ضلالة مستوردة، للأستاذ يوسف العظم (ص 70- 71) .(2/31)
[فصل]
وضع المرأة ومسئولية الولاة
"عندما تميد الأرض تحت أقدام الناس لا تجد بينهم من يستطيع تحديد موقفه ولا مصيره، إذ يكون الجميع مأخوذين بدهشة المفاجأة، - فليس لدى أحدهم فرصة لسؤال غيره، بل لا يخطر في بال أحد أن يسأل غيره. والعين التي تستطيع تسجيل هذه الحركة العامة يجب أن تكون خارج المجال، وفِى وضع معزول تماما عن تأثيره.
ويبدو أن العقل الذي صنع قصة جحا وهو يقطع الغصن في وضع معكوس إنما يريد إعطاء هذه الصورة.. صورة فقدان الوعي الذي يصاحب مثل هذه الحركة في مجالها العين، فجحا يقف على طرف غصن يعمل هو في قطعه من ناحية الجذع، دون أن ينتبه إلى حتمية السقوط الذي سيصير إليه، فإذا مر به من ينبهه إلى هذا المصير، الذي انتهى إليه فعلًا بعد قليل، نهض يعدو خلفه ليقول له: لقد عرفت أمر سقوطي قبل حصوله ... فلن أدعك حتى تنبئني بنهايتي متى تحين!
هذه الصورة تمثل واقع المرأة المسلمة اليوم، في اندفاعها المحموم وراء المجهول، الذي لم تجرب قط أن تسأل نفسها عن غايته ومحتواه.. وهو واقع لا يتاح التخلص من ضغطه إلا للإنسان الذي استطاع أن يعزل نفسه عن مؤثراته، ضمن حصانة من الفكر الحر المزود بمقاييس الطوارئ " (45) .
__________
(45) "تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب ص (7-8) .(2/32)
والمؤلم في هذا الواقع المرير أن المرأة قد رضيت أن تُؤلفَ نقطة الضعف، فهى ملقية بزمامها إِلى التيار يقذف بها حيث اتجه وسار، دون أن تفكر بالمقاومة، وأصبحت كل طاقاتها موجهة للاندفاع وراء هذا التيار فأصبحت كحجرة الانفجار في محرك السيارة، لا عمل لها الا الدفع، ولكنه الدفع الذي يسوق إلى الهاوية.
بل بلغ الاستخفاف بها مداه حين صوروا لها أنها بهذا المسلك ترتفع إلى أعلى وأعلى، ولم تفطن إلى أنها في حقيقة الأمر قد صارت كالكرة الطائرة، تتقاذفها أيدي اللاعبين فتتهادى في كل اتجاه.. ولعلها مع ذلك لو نطقت لفاخرت بأنها ترفع على أكف المعجبين إلى عليين!
لقد جاهرت المرأة الجديدة بالإعراض عن دينها، وقد يلتمس المتكلفون لها عذرًا لنقص عقلها ودينها، ولكن ما هو العذر الذي قد يلتمس للرجال الذين استغلوا نقصها، فنقصوا عنها عقلًا ودينًا أيضًا، وراحوا يدفعونها بإصرار إلى هلاكها بما يخالف العقل والنقل والفطرة.
لقد جاء اليوم الذي يدفع فيه الرجال زوجاتهم وبناتهم دفعًا إلى مخالطة الرجال والعمل في محافلهم، فما أجدرهم بقول الشاعر:
جرد السيفَ لرأس ... طارت النَّخوةُ منه
إن الحديث عن المرأة لا ينتهَي، لأنها نصف البشرية، والذي يهمنا أن نؤكده هو أن كل ما نسطره في حق المرأة إنما هو من منطلق غيرتنا بصفتنا مسلمين على أخواتنا في الإسلام، وحرصنا على صيانتهن وحمايتهن، وليس انطلاقًا من "عداوة" للمرأة، فإنه لا يتصور رجل سَوِيٌّ يكون عدوُّا للمرأة، أليست المرأة هي أمه أو زوجه أو ابنته أو أخته أو قريبته، فكيف يكون عدوا لهؤلاء؟!
وكذا ينبغي ألا ننخدع بأكاذيب من يَدَّعون "صداقة المرأة"،(2/33)
ويقومون على دعوة تحريرها، ويقودون تجمعاتها، وهم في الحقيقة ألدُ أعدائها، يتاجرون بقضيتها، وينتفعون بانحلالها، مموِّهين على ضحاياهم ببريق المصطلحات الخداعة، وما هي في الحقيقة إلا كساتر الدخان الذي يطلقه المحاربون لتغطية الزحف، ثم لا تلبث النفوس الضعيفة أن تخر صريعة تحت مطارق أوهام "الحرية والتحرير"، وقد تبلورت على أيدى هؤلاء الأنصار والأصدقاء، في معانٍ طريفة من الفوضى المنظمة.
فتش عن اليهود:
[لقد ترقت المفاهيم السياسية في هذا العالم الفسيح حتى أصبح كل ذى بصيرة يملك من قوة الحَدس ما يكشف له اليد الصهيونية (46) وراء انهيار صرح الأخلاق في كثير من الأمم والشعوب، فما بالنا نغفل عن تدبير هذه اليد المختفية وراء قضايانا الاجتماعية عامة، وقضية المرأة المسلمة خاصة،
__________
(46) ونظرة إلى كتاب (أوقفوا هذا السرطان) للدكتور سيف الدين البستاني الذي حلل فيه بروتوكولات اليهود ومساعيهم في إفساد المرأة (وتحريرها" تبين حقيقة هذه اليد الصهيونية وراء إفساد المرأة المسلمة، وقد اتفق مخطط الدولة الصهيونية العالمية التي تريد اًن تسيطر على العالم وتتسلط على كافة الأمم بعد أن تقيم "ملك داود" على أن من السبل التي يجب اتباعها لإخضاع من يسمونهم (الجوييم) أو (الأمميين) حرب الأخلاق وتقويض نظام الأسرة بشتى الوسائل الممكنة: فالأفلام الماجنة توزعها في العالم "دور صهيونية"، والأزياء الفاحشة تتميز بها دور الأزياء الصهيونية، والمجلات الخليعة والقصص الفاجرة تصدرها دور طبع يهودية، وكثير من " أبطال" "الفن" الذين أسسوا ألوانه المتعددة ونشروها في ديار المسلمين هم من اليهود.
وصدق الله العظيم: (ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) (المائدة 64) - انظر "المرأة المسلمة" لوهبي غاوجي (ص 252) ، "ماذا عن المرأة" للدكتور نور الدين عتر (ص 41) ، و "خطر التبرج والاختلاط" لعبد الباقي رمضون (ص 196) .(2/34)
إن المشكلة في حقيقتها صارت تخضع من جراء التكتيك الصهيوني الصليبي لإيحاءات تسلطها على مشاعرنا المختبرات والأجهزة المختصة، حتى لا نستطيع أن نوجه سلوكنا الفكري طبقًا للمقاييس التي تحددها عقولنا وتعيها ضمائرنا، وهذا أمر من حقه أن يستوقف أولي البقية من الإيمان والحياء ليثير تفكيرهم فيما وراءه من جوائح لا تبقِي ولا تَذَر.
إن ثمة توجيهًا خفيا يستهدف وضع المرأة المسلمة في ظروف مقصودة تسلبها الثقة بنفسها ومقوماتها، ولا جَرَمَ أن الهدف من وراء ذلك خطير رهيب، إنه تحطيم السدود الروحية التي حفظت لهذه الأمة حتى الآن مشاعر العزة والحرية الدافعة إلى الجهاد والبذل في سبيل الله، ثم اجتثاث الجذور التي تربطنا في أعماق التاريخ برسالة المجد الإلهي، التي جعلت من أمتنا خير أمة أخرجت للناس.
لقد بات وضع المرأة المسلمة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يترك زمامه للأمواج تقذف به حيث يشاء أولو الأهواء، ولا ريب أن الواجب يضع على كل عاتق نصيبه من المسئولية، لا يُستَثنى من ذلك صغير ولا كبير، ولا حاكم ولا محكوم.
على أن الخطر بات من " الإحكام" بحيث لا يصلح لدرئه عمليا سوى " الكبار" الذين وضع الله في أيديهم مصاير البلاد، ومصالح العباد، فرب حكمة من مسئول تكون كالسد في طريق السيول.
ولا نريد أن نكذب على الحقيقة فنقول: "إن الأمة تريد"، فالأمة غافلة عما يراد بها من كيدٍ بهذه الانحرافات الاجتماعية المُبَيَّتة، وما دامت في غمرة الرجفة، فعسير عليها- إن لم نقل: مستحيل- أن تدرك واقعها..
وإنما نقول: إن واجب الديانة ثم مصلحة الأمة يهيبان بالمسئولين أن(2/35)
يضغطوا على كابح القاطرة، قبل أن تصير إلى حافة الهاوية، وأين موضع هذا الكابح إن لم يكن في التشريع الذي يفرض على المرأة أن تكف عن السباق المجنون الذي تمارسه في حلبة التقليد الأعمى..
التشريع الذي يقول لمعاول الهدم من أصحاب الفنون الهابطة:
"ارتفعوا عن هذه الأوحال، فليس في حياة الأمم الجادة مجال لرقاعات السفهاء وثرثرات السخفاء"، التشريع الذي يقول للمرأة: "مهلا، لقد ملأتِ بتهتككِ دروبَ الناس ألغاما، فاقني حياءك، والزمي حدود الحشمة التي حتمتها تعاليم السماء على لسان جميع الأنبياء، فإن لم تفعلي ذلك مختارة فعلتِهِ مكرهة".
فليست أمريكا وهي مزرعة الرذائل اليهودية بأغير على الآداب من أمة المسلمين (47) ، وليس " بيتان " ابن باريس أم الفسوق والفجور بأحرص على هذه الآداب من أمة القرآن] (48) .
__________
(47) سُن في بعض الولايات المتحدة قانون يفرض على المرأة ألا يزيد كعب حذائها عن مقياس معين، وقد زُود رجال الشرطة هناك بمنشار يقطع كل زائد عن المباح، وقال جورج بالوشي في كتابه "الثورة الجنسية": (في سنة 1962 صرح كنيدي بأن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، لا يُقَدِّر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين، لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية، وفي سنة 1962 صرح خروشوف بأن مستقبل روسيا في خطر، وأن شباب روسيا لا يؤتمن على مستقبلها لأنه مائع منحل غارق في الشهوات.
وفي شهر أبريل سنة 1964 أثيرت في السويد ضجة كبرى عندما وجه (140) طبيبا من الأطباء المرموقين مذكرة إلى الملك والبرلمان يطلبون فيها اتخاذ إجراءات للحد من الفوضى الجنسية التي تهدد حقا حيوية الأمة وصحتها، وطالب الأطباء بسن قوانين ضد الانحلال الجنسي) اهـ. من " تربية الأولاد في الإسلام" (1/ 278، 280) . (48) في فرنسا أعلن المريشال (بيتان) عقب هزيمة بلاده أمام الألمان في الحرب العالمية =(2/36)
اهـ (49)
[لقد فقدنا شخصيتنا المميزة، فبات كل ما نستطيعه هو تقليد هذا الغرب الذي آمنا بتفوقه، وأقبلنا نعدو وراءه دون وعي، فإذا نحن أسرع منه هبوطًا إلى أسفل، وإذا نحن نتلقى كل أخطائه الاجتماعية بالقبول والتطبيق، لا نشك في أنها خير ما أبدعه التقدم البشري، حتى إذا وجد من كبار رجال الغرب من يكشف فضائح هذه الأخطاء أغلقنا أسماعنا دون صوته! .. ولا عجب في ذلك، فالانحدار أيسر من الصعود، وليس من السهل أن تكلف من يهوي في السفح أن يتماسك فجأة عند نقطة الخطر، فضلًا عن أن تأمره بالصعود، وقديما صور الشاعر هذا المعنى بقوله:
سُبُل الغَي سهلة واسعات ... وطريق الهدى كَسَمِّ الخِياط
مصعد شَق لا تُكَلفه الضُّمَّرُ ... إلا مضروبةً بالسياط
ومن هنا كان إصلاح الأمم المتخلفة موقوفًا بالدرجة الأولى على قادتها السياسيين، الذين بيدهم مقاليد الإصلاح.
وحق ما قاله حكيم العرب (أكثم) قديمًا من أن (إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي) .. ولكن صحة هذا الرأي مقيدة بنسبة الأوضاع؛ فالشعوب الواعية هي التي تملي خطط الحكام، ومن وعيها السياسي يستمد هؤلاء اتجاهاتهم، ولكن الجماعات التي لم تستكمل نضجها السياسي، ولم تستبن لها الأهداف في وضوح، وبخاصة إذا كانت حديثة
__________
= الثانية: أن سر الكارثة يعود إلى الفجور، وأصدر تشريعا يحدد للمرأة قياس ثوبها وأكمامها بشكل يستأصل دابر الفتنة، وها هو ذا القسيس (نيريرى) ديكتاتور تنزانيا يفعل بالأمس القريب قريبا من ذلك، وكانت قوات الشرطة في العراق (سنة 1968) تتتبع النساء اللاتي ترتفع ثيابهن فوق الركبة، وتطاردهن، فإن لاذت المرأة بالفرار، وإلا قام البوليس بطلاء ساقها وقدمها بدهان أزرق عقوبة لها على ذلك.
(49) "تأملات" للمجذوب ص (13-16) بتصرف.(2/37)
النهوض من عثرات قرون وقرون.. هذه الجماعات لا تقبل الإصلاح إلا بقوانين، وكل دعوة فيها إلى الخير ينبغي أن تسبق بالأسوة الصالحة أولًا في شخص الحكام ومَن حولهم (50) ثم بالمؤيدات القانونية التي تحسن التأديب لمن يند عن طريق الجماعة ... ولقد كان من سنة الفاروق رضي الله عنه كلما أراد أن يشيع في الناس أمرًا، أن يجمع أهل بيته ويقول لهم: " إني آمرٌ الناسَ بكَذا، وإنهم لينظرون إليكم؟ تنظر الطير إلى اللحم، فوالله لا أعلم بمخالفة أحدكم لهذا الأمر إِلا أضعفت له العقوبة"] (51) .
__________
(50) انظر تفصيل ذلك في "الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة " للأستاذ عبد الله ابن عمر الدميجي طبعة دار طيبة ص (371-374) .
(51) (تأملات في المرأة والمجتمع) لمحمد المجذوب (ص 96-97) .(2/38)
[فصل]
موقف دعاة الإسلام
من قضية المرأة (52)
(والله يقول الحق وهو يهدى السبيل) :
إن دعاة الإسلام يدعون أولًا إلى الرجوع إلى حقيقة الإسلام ثم إلى صورة الإسلام، ثم إنهم يعتقدون أنهم يخاطبون أحد رجلين:
إما كافر مكذب، فمهمتهم الأولى إزاءه دعوته إلى التصديق والإقرار بحقيقة التوحيد والرسالة، وإما مؤمن مصدق فواجبهم نحوه إقامة الدليل على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب المجيد والسنة المطهرة، وعليه أن يقول حينئذ (سمعنا وأطعنا) ، إنهم لا يحَكمون آراءهم في " قضية المرأة"، ولا في أي قضية قال الله سبحانه فيها قولا، وحكم فيها حكمًا، شعارهم الذي يرفعونه دائمًا قول الله عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقوله سبحانه: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الآية.
ولذلك تراهم لا يُحَكّمون أهواءهم بل كلام الحكيم الخبير العليم،
__________
(52) استفدت كثيرا من فقراته من كتيب " المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التحرر، للأشقر، بتصرف.(2/39)
ولا يَحكُمون لصالح الرجل ضد مصلحة المرأة، ولا لمصلحة المرأة ضد مصلحة الرجل، ذلك بأن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل، إنه ليس في صالح المرأة ولا في صالح المجتمع أن تحيا مع الرجل حياة مواجهة وصراع، كذلك الذي وقع في أوربا وأمريكا إلى حد أن قامت هناك منظمات رجالية تدافع عن حقوق الرجال ضد تسلط المرأة، إن المرأة إذا سارت في الطريق الذي يريده لها أعداء دينها فلن تكسب شيئًا وستخسر كل شيء، إن الله تبارك وتعالى خلق المرأة للمهمة ذاتها التي خلق من أجلها الرجل، قال تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) ، وأناط جل جلاله السعادة بتحقيق كل منهما لهذه المهمة، والشقاء بالإعراض عنها، قال جل وعلا: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) الآيات.
عبودية هي أعلى مراتب الحرية:
لقد ألزم الإسلام الرجل والمرأة بالعبودية لله وحده في صورة الخضوع لمهجه ودينه، وهذه العبودية هي أرقى مراتب الحرية، فالإنسان من خلال توجهه إلى الله وحده يتحرر من كل سلطان فلا يوجه قلبه، ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السموات والأرض (53) .
والمسلم بالإسلام يتحرر من سيطرة الهوى والشهوة، والسلطان الذي يسيطر عليه إنما هو سلطان الشرع الحنيف، قال تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) .
إذن هي حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تتحرر حقُّا إلا بتحقيق هذه العبودية.
__________
(53) انظر " مجموع الفتاوى " لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/593، 598) .(2/40)
إن الحرية في غير الإسلام تصبح حرية جوفاء لا معنى لها، بل هي العبودية المذلة المهينة، وإن بدت في صورة الحرية، إن الخضوع للطواغيت من الزعماء والرؤساء والمناهج والقوانين والنظم وما تهواه الأنفس بعيدًا عن تشريع الخالق إنما هو عبودية لغير الله وأي عبودية:
هَرَبوا من الرق الذي خلِقُوا له ... فَبُلُوا بِرِق الكفرِ والشيطانِ
كلانا مظلوم:
إن التشريعات الإسلامية منزهة عن الظلم والإجحاف: (إن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون) ، ولئن ساء وضع المرأة المسلمة في بعض الظروف، فإن السبب الحقيقي لهذا لم يكن التزامها بأحكام الإسلام- حاشا وكلا- بل هو في المقام الأول انحرافها عن الإسلام. وإن الظلم الواقع على المرأة في ديارنا كالظلم الواقع على الرجل سواءً بسواء، ليس سببه الإسلام الذي ندين به، بل سببه البعد عن الإسلام، وفصل الدين الحنيف عن واقع الحياة ونظمها.
لا نسَوغُ الأخطاء:
نحن أيضا لا نسوغ ما حاق فعلًا بالمرأة من ظلم وأوضاع فاسدة، فهناك من يكلفها فوق طاقتها، ولا يرحم ضعفها، هناك الآباء القساة، والأزواج الجهلة الذين يضربون بناتهم وأزواجهم ضرب غرائب الإبل، هناك من يهملون المرأة إهمالًا تامَا، ويهدرون حقوقها، ونحن لا نتعامى عن ذلك، ولكننا نعلم أيضًا أنه مرض من أمراض كثيرة تحيط بالأمة في رجالها ونسائها وأطفالها، ونحمد كل مسعى لإصلاح الفاسد، وتقويم المعوج، ولكن لا نريد علاج الخطأ بخطأ آخر، ولا نريد أن ننتقل من إفراط إلى تفريط،(2/41)
ومن ضلال إلى ضلال، ورحم الله الإمامَ مالكًا القائل: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
ونحن أيضا حريصون على أن لا نشارك في هذا الظلم فنلقي اللوم كله على المرأة المظلومة أو الجاهلة.. فما أكثر هؤلاء النساء اللائي صُوِّر لهن أن خروجهن للتعليم - بوضعه الجاهلي - والعمل أيا كان نوعه، وأن خروجهن للمحافل والمجتمعات المختلطة واجب شرعي أو مستحب وأنه حق ينبغي لها أن لا تفرط فيه بحال، وأن قرارها في بيتها سجن وقيد وأغلال، وأنه شلل لطاقاتها العظيمة، وأن وظيفتها في هذا العصر صارت خارج البيت لا داخله، وما أكثر دعاوى علماء السوء الذين ضللوا الكثيرات بفتاواهم، وما أكثر النساء الصادقات النية في الالتزام بما يمليه عليهن دينهن لولا تشويش علماء السوء، ولولا قهر الآباء " التقدميين " والأزواج "العصريين"!
ما أكثر المسلمات اللائي أطعن الله ورسوله، وأرضين الله ورسوله فسخط عليهن الآباء أو الأزواج وراحوا يذيقونهن صنوف الأذى والعذاب، فاضطررن اضطرارًا للخضوع لقهرهم وإكراههم، وعسى أن يعذرهن الله عز وجل:
ومن يَأت الأمور على اضطرار ... فليس كمثل آتيها اختيارا (54)
والحق أن الخطاب ينبغي أن يتوجه في المقام الأول إلى الرجال آباء أو أزواجا، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارَا وقودها الناس والحجارة) الآية. (سورة التحريم: 6) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسئول عن
__________
(54) انظر "القسم الثالث" ص (174-178) .(2/42)
رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها" (55) الحديث.
شرع الله فوق الأمر الواقع:
[ونحن لا ننكر أن الهوة فسيحة بين ما نحن عليه، وبين ما ينبغي أن نكون عليه، ويخطئ من يعتذر عن هذا بأن خروج المرأة إلى ميادين العمل ومغادرتها حصنها الحصين مخالطةً للرجال قد أصبح أمرًا واقعا وقاعدة مقررة، فلا نملك إلا الخضوع لها، والجريان وراء التيار.
ولكننا نقولها لكل مسلمة ترجو الله واليوم الآخر، وتعلم أنها مسئولة غدَا بين يدي ربها عز وجل: إن هذا الذي يسمى (بالأمر الواقع، سوف يظل في ميزان إسلامنا الحنيف باطلًا منقوضًا مهما طال العهد عليه لأنها سنن الله الكبرى التي لا تتبدل ولا تتحول، والمعاند لها هالك لا محالة، فالحق واحد لا يتغير، ومهما يتقادم العهد على الباطل فسيظل باطلًا، ومهما يجر العمل على غير الحق فسيظل الحق هو هو وإن حاد عنه كل الناس، ثم إنه لا يبقى على توالي الأزمان إلا الحق، لأن الباطل زهوق لا تدوم له دولة، والحق هو الناموس، هو قانون الله الذي لا يتبدل، هو فطرة الله التي فطر عليها الخلق، هو ما ركبه الله سبحانه في طبائع الأشياء حين أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، (ولن تجد لسنة الله تبديلًا) ، ولكن الذي يحول ويزول هو المعاند لسنة الله وفطرته، والذي يعارض الناموس ويخرج
__________
(55) رواه البخاري (13/100) في الأحكام: في فاتحته، وفي الجمعة: باب في القرى والمدن، وفي الاستقراض، والعتق والوصايا، والنكاح، ومسلم رقم (1829) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والترمذي رقم (1705) في الجهاد: باب ما جاء في الإمام، وأبو داود رقم (2928) في الإمارة: باب ما يلزم الإمام من حق الرعية.(2/43)
على الفطرة كالوعل الأحمق الذي وصفه الأعشى قديمًا حين قال:
كناطِح صخرةً يومًا ليُوهِنَها ... فلم يَضِرْها وَأوهَى قَرْنَه الوَعْلُ] (56)
__________
(56) حصوننا مهددة من داخلها " للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله (ص 132) .(2/44)
الباب الثاني
إهانة الجاهلية للمرأة
(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم
قلوب يعقلون بها أوءَاذان يسمعون بها
فإنها لا تعمَى الأبصارُ ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور) الحج (46)
" بالضد تتبين الأشياء":
يجدر بنا إذا أردنا أن نبحث عن علاج لتقويم الوضع الذي وصلت إليه المرأة المسلمة في هذا الزمان وقد سقطت صريعةَ التبرج الجاهلي المعاصر: أن نعود إلى الماضي البعيد لنتتبع وضع المرأة في " الجاهلية الأولى " عند عرب الجاهلية، بل عند الأمم الأخرى التي انفصلت عن هدي الرسالات الإلهية، لندرك أن هناك " إجماعا عالميا " قد تجاوز حدود الزمان والمكان على ظلم المرأة وتجريدها من كافة حقوقها الإنسانية.
ثم إذا نحن تأملنا كيف حرر الإسلام المرأة ورفع شأنها، وكرمها قرآنا وسنة، وقلبنا صفحات التاريخ لِنَدْرُسَ" سيرة المرأة المسلمة" وكيف تأثرت بالإسلام مؤمنةً عابدة، وانفعلت به مجاهدةً صابرةً، ثم كيف أثرت في الإسلام أمُّا وبنتا وزوجة وعالمة.
عند ذلك نستطيع أن ندرك:
- زيف الدعاوى التي يروجها أعداء المرأة المسلمة حول "وضع المرأة في الإسلام".(2/45)
- وحقيقة المهانة التي تعرضت لها المرأة عند غير المسلمين، وتتعرض لها الآن مما لا يحس به إلا سليم الحس والبصيرة والذوق.
وعند ذلك أيضًا نستطيع أن نستشعر ويستشعر معنا أمهاتنا ونساؤنا وبناتنا نعمة الإسلام العظيمة ورحمته التي لا حد لها، وتكريمه للمرأة المسلمة، فنرفع عقيرتنا نهتف بها قائلين: "أيتها المسلمة لا تبدلي نعمة الله كفرًا".(2/46)
[الفصل الأول]
المرأة عند الآخرين (57)
لا جرم أن الباحث في وضع المرأة قبل الإسلام لن يجد ما يسره، إذ يرى نفسه أمام إجماع عالمي على تجريد هذه المخلوقة من جميع الحقوق الإنسانية:
(1) المرأة عند الإغريق:
كانت محتقرة مهينة، حتى سموها رجسًا من عمل الشيطان، وكانت عندهم كسَقَطِ المتاع، تباع وتشترى في الأسواق، مسلوبة الحقوق، محرومة من حق الميراث وحق التصرف في المال، ومما يذكر عن فيلسوفهم (سقراط) قوله: (إن وجود المرأة هو أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم، إن المرأة تشبه شجرة مسمومة حيث يكون ظاهرها جميلَا، ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالًا) .
ويحدثنا التاريخ عن اليونان في إدبار دولتهم كيف فشت فيم الفواحش والفجور، وعُدَّ من الحرية أن تكون المرأة عاهرًا، وأن يكون لها عشاق، ونصبوا التماثيل للغواني والفاجرات، وقد أفرغوا على الفاحشة ألوان القداسة بإدخالها المعابد حيث اتخذ البغاء صفة التقرب إلى آلهتهم، ومن ذلك أنهم
__________
(57) مستفاد من "المرأة بين الفقه والقانون" للدكتور السباعي رحمه الله (13 -22) ، "ماذا عن المرأة؟ " للدكتور نور الدين عتر (13-16) ، "المرأة المسلمة، لوهبي غاوجي (25-27) ، "المرأة ومكانتها، للحصين (11-17) و"المرأة العربية" لعبد الله عفيفي، و (الحجاب) للمودودي (12-25) وغيرها.(2/47)
اتخذوا إلها أسموه (كيوبيد) أي (ابن الحب) ، واعتقدوا أن هذا الإله المزعوم ثمرة خيانة إحدى آلهتهم (58) (أفروديت) زوجها مع رجل من البشر.
وتحكى بعض المصادر أنه كان للمرأة الإسبرطية الحق في أن تتزوج بأكثر من رجل واحد.
(2) المرأة عند الرومان:
كان شعارهم فيما يتعلق بالمرأة: " إن قيدها لا ينزع، ونيرها لا يخُلع " (59) ، وكان الأب غير ملزم بقبول ضم ولده منه إلى أسرته ذكرًا كان أم أنثى، بل كان يوضع الطفل بعد ولادته عند قدميه، فإذا رفعه وأخذه بين يديه كان ذلك دليلًا على أنه قبل ضمه إلى أسرته، وإلا فإنه يعني رفضه لذلك، وحينئذ يؤخذ الوليد إلى الساحات العامة، أو باحات هياكل العبادة فيطرح هناك، فمن شاء أخذه إذا كان ذكرًا، وإلا فإن الوليد يموت جوعا وعطشًا وتأثرا من حرارة الشمس أو برودة الشتاء، وكان لرب الأسرة أن يدخل في أسرته من الأجانب من يشاء، ويخرج منها من أبنائه من يشاء عن طريق البيع، ثم قيد قانون الاثني عشر لوحًا حق البيع بثلاث مرات، فإذا باع الأب ابنه ثلاث مرات متوالية كان له الحق في التحرر من سلطة رئيس الأسرة، أما البنت فكانت تظل خاضعة له ما دام حيًّا، وكانت قوانين الاثني عشر لوحًا تعد الأنوثة من أسباب حرمان الأهلية، ومن عجيب ما ذكرته بعض المصادر- وهو مما لا يكاد يصدق- أن (مما لاقته المرأة في العصور الرومانية تحت شعارهم المعروف "ليس للمرأة روح " تعذيبها بسكب الزيت الحار على بدنها، وربطها بالأعمدة، بل كانوا يربطون البريئات بذيول الخيول، ويسرعون بها إلى أقصى سرعة حتى تموت) (60) .
__________
(58) كان يبلغ عدد الآلهة التي عبدوها من دون الله "ألف إله"!
(59) "المرأة في القرآن" للعقاد ص (54) .
(60) "المرأة في الإسلام" لسكينة زيتون (ص 11) .(2/48)
(3) المرأة عند الصينيين القدماء:
شبهت المرأة عندهم بالمياه المؤلمة التي تغسل السعادة والمال، وللصيني الحق في أن يبيع زوجته كالجارية، وإذا ترملت المرأة الصينية أصبح لأهل الزوج الحق فيها كثروة، وتورث، وللصيني الحق في أن يدفن زوجته حية!
(4) المرأة في قانون حمورابي:
كانت المرأة تحسب في عداد الماشية المملوكة، ومن قتل بنتًا لرجل كان عليه أن يسلم بنته ليقتلها أو يتملكها.
(5) المرأة عند الهنود:
في شرائع الهندوس أنه: " ليس الصبر المقدر، والريح، والموت، والجحيم، والسم، والأفاعي، والنار، أسوأ من المرأة) .
ويقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: (ولم يكن للمرأة في شريعة "مانو" حق في الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها، وهى قاصرة طيلة حياتها، ولم يكن لها حق في الحياة بعد وفاة زوجها بل يجب أن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد، واستمرت هذه العادة حتى القرن السابع عشر حيث أبطلت على كرهٍ من رجال الدين الهنود، وكانت تقدم قربانا للآلهة لترضى، أو تأمر بالمطر أو الرزق، وفي بعض مناطق الهند القديمة شجرة يجب أن يقدم لها أهل المنطقة فتاة تأكلها كل سنة "؟! ") (61) .
__________
(61) "المرأة بين الفقه والقانون" (ص 18) .(2/49)
ويذكر " جوستاف لوبون " أن المرأة في الهند (تعد بعلها ممثلًا للآلهة في الأرض، وتُعَدُ المرأة العَزَبُ (62) ، والمرأة الأيم (63) على الخصوص من المنبوذين من المجتمع الهندوسي، والمنبوذ عندهم في رتبة الحيوانات، ومن الأيامى الفتاة التي تفقد زوجها في أوائل عمرها، فموت الرجل الهندوسي قاصم لظهر زوجته فلا قيام لها بعده، فالمرأة الهندوسية إذا آمت- أي فقدت زوجها- ظلت في الحداد بقية حياتها، وعادت لا تعاملٍ كإنسان، وعُدَّ نظرها مصدرًا لكل شؤم على ما تنظر إليه، وعدت مُدَنسَة لكل شيء تمسه، وأفضل شيء لها أن تقذف نفسها في النار التي يحرق بها جثمان زوجها، وإلا لقيت الهوان الذي يفوق عذاب النار) (64) .
__________
(6) المرأة عند الفرس:
"أبيح الزواج بالأمهات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وكانت تنفي الأنثى في فترة الطمث إلى مكان بعيد خارح المدينة، ولا يجوز لأحد مخالطتها إلا الخدام الذين يقدمون لها الطعام، وفضلا عن هذا كله فقد كانت المرأة الفارسية تحت سلطة الرجل المطلقة، يحق له أن يحكم عليها بالموت، أو ينعم عليها بالحياة" (65) .
(7) المرأة عند اليهود:
كانت بعض طوائف اليهود تعتبر البنت في مرتبة الخادم، وكان لأبيها
__________
(62) العزب يطلق على الذكر والأنثى.
(63) الأيم من الرجال من فقد زوجته، ومن النساء من فقدت زوجها. (64) "حضارات الهند " لغوستاف لوبون (ص 644-646) وما دفع هذا الحيف عن المرأة الهندية التي يموت زوجها، إلا بحكم الإسلام فيهم الذي كاد يحكم عموم الهند، خاصة في أيام الملك الصالح أورنك زيب رحمه الله، حتى احتل الإنكليز الهند، وفعلوا ما فعلوا خاصة بالمسلمين من أهلها.
(65) "حقوق المرأة في الإسلام" لمحمد رشيد رضا (ص 27-28) .(2/50)
الحق في أن يبيعها قاصرة، وما كانت ترث إلا إذا لم يكن لأبيها ذرية من البنين وإلا ما كان يتبرع لها به أبوها في حياته، وحين تحرم البنت من الميراث لوجود أخ لها ذكر يثبت لها على أخيها النفقة والمهر عند الزواج، وإذا كان الأب قد ترك عقاراً فيعطيها من العقار، أما إذا ترك مالًا منقولًا فلا شيء لها من النفقة والمهر ولو ترك القناطير المقنطرة.
وإذا آل الميراث إلى البنت لعدم وجود أخ لها لم يجز لها أن تتزوج من سبط آخر، ولا يحق لها أن تنقل ميراثها إلى غير سبطها، واليهود يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم، وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها (66) ولا تلمس وعاء حتى لا يتنجس، وكان بعضهم ينصب للحائض خيمة، ويضع أمامها خبزًا وماء، ويجعلها في هذه الخيمة حتى تطهر.
(8) المرأة عند الأمم النصرانية:
هال رجال النصرانية الأوائل ما رأوا في المجتمع الروماني من انتشار الفواحش والمنكرات وما آل إليه المجتمع من انحلال أخلاقي شنيع، فاعتبروا المرأة مسئولة عن هذا كله، لأنها كانت تخرج إلى المجتمعات، وتتمتع بما
__________
(66) وقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " إِن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأنزل الله عز وجل: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذًى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (البقرة: 222) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا كُل شيء إلا النكاحَ "، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: " ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ من أمرنا شيئا إلا خالفَنا فيه") الحديث رواه مسلم رقم (302) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وأبو داود رقم (2165) في النكاح: باب في إتيان الحائض ومباشرتها، والترمذي رقم (2981) في التفسير، والنسائي (1/152) في الطهارة.(2/51)
تشاء من اللهو، وتختلط بمن تشاء من الرجال كما تشاء، فقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه وأن العزب أكرم عند الله من المتزوج، وأعلنوا أنها باب الشيطان، وأن العلاقة بالمرأة رجس في ذاتها، وأن السمو لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج، قال (ترتوليانا الملقب بالقديس (67) : (إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مشوهة للرجل) .
وقال: " سوستام" الملقب بالقديس: (إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة) .
وفي القرن الخامس اجتمع بعض اللاهوتيين ليبحثوا ويتساءلوا في "مجمع ماكون": (هل المرأة جثمان بحت أم هي جسد ذو روح يناط به الخلاص والهلاك؟) وغلب على آرائهم أنها خِلْو من الروح الناجيهّ، وليس هناك استثناء بين جميع بنات حواء من هذه الوصمة إلا مريم (68) عليها السلام أم المسيح " عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ".
وعقد الفرنسيون في عام 586 م- أي في زمان شباب رسول الله صلى الله عليه وسلم - مؤتمرًا للبحث: هل تعد المرأة إنسانا أم غير إنسان؟ وهل لها روح أم ليس لها روح؟ وإذا كانت لها روح فهل هي روح حيوانية أم روح إنسانية؟ وإذا كانت روحًا إنسانية فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منها؟ وأخيرًا: قرروا أنها إنسان، ولكنها خُلقت لخدمة الرجل فحسب.
__________
(67) راجع " القسم الأول " هامش ص (234) طبعة القاهرة أو طبعة " طيبة" ص (274) .
(68) "المرأة في القرآن" ص (54) .(2/52)
فالدين النصراني المحرف الذي ينتمي إليه العالم الغربي اليوم يرى أن المرأة ينبوع المعاصي، وأصل السيئة والفجور، ويرى أن المرأة للرجل باب من أبواب جهنم من حيث هي مصدر تَحَرُّكه وحمله على الآثام، ومنها انبجست عيون المصائب على الإنسانية جمعاء، يقول الدكتور " سفر الحوالي" حفظه الله:
[ولما كانت المرأة- حسب رواية سفر التكوين- هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء، باعتبارها أصل الشر، ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات، وقتل كل الميول الفطرية، والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته " اهـ (69) .
ومن أساسيات النصرانية المحرفة التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الزوجية وإن كانت حلالًا، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول أحد رجاك الكنيسة: " بونا فنتور" الملقب بالقديس: (إذا رأيتم امرأة، فلا تحسبوا أنكم ترون كائنًا بشريا، بل ولا كائنًا وحشيًّا، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون به هو صفير الثعبان) (70) اهـ.
(إن القس يجب أن يكرس حياته لله وبني الإنسان، وإن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب، وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لابد منها لاكتساب ثقة الناس، وإجلالهم إياه (71)) اهـ.
ويقول صاحب كتاب " المشكلة الأخلاقية والفلاسفة" معلقًا على هذه التعاليم الكنسية التي تدعو إلى أن نقتل فينا كل ميل دنيوي:
__________
(69) "العلمانية: نشأتها، وتطورها، وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ص (86) .
(70) "السابق" نقلا من: "أشعة خاصة بنور الإسلام" ص (29) .
(71) "السابق" نقلًا من: "قصة الحضارة" (14/382) .(2/53)
"عظمة وعلاء، ولكنه قضاء قاس على الإنسانية، وإن التطبيق الكامل لمثل تلك المبادئ ليمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهالى للنوع الإنساني] (72) اهـ.
(وأصدر البرلمان الإنكليزى قرارا في عصر هنري الثامن ملك انكلترا، يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب (العهد الجديد) أي الإنجيل، لأنها تعتبر نجسة) .
وتذكر بعض المصادر أنه قد شكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصًا لتعذيب النساء، وذلك سنة 1500 م، وكان من ضمن مواده تعذيب النساء، - وهن أحياء بالنار (!) .
ونص القانون المدني الفرنسي (بعد الثورة الفرنسية) على أن القاصرين هم الصبي والمجنون والمرأة، حتى عدل عام 1938، ولا تزال فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة.
وظلت النساء طبقا للقانون الإنكليزي العام- حتى منتصف القرن الماضي تقريبا- غير معدودات من "الأشخاص" أو " المواطنين" (73) الذين اصطلح القانون على تسميتهم بهذا الاسم، لذلك لم يكن لهن حقوق شخصية، ولا حق في الأموال التي يكتسبنها، ولا حق في ملكية شيء حتى الملابس التي كن يلبسنها.
بل إن القانون الإنكليزى حتى عام 1805م كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقد حدد ثمن الزوجة بستة بنسات (نصف شلن) ، وقد حدث أن باع إنكليزى زوجته عام 1931م بخمسمائة جنيه، وقال محاميه
__________
(72) "السابق، ص (91) .
(73) وفي عام 1567، صدر قرار من البرلمان الاسكوتلاندي بأن المرأة لا يجوز أن تمنح أية سلطة على أي شيء من الأشياء.(2/54)
في الدفاع عنه: " إن القانون الإنكليزي عام 1801م يحدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة"، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغى عام 1855م بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر.
وجاء في مجلة "حضارة الإسلام" السنة الثانية (ص 1078) :
(حدث في العام الماضي أن باع إيطالي زوجته لآخر على أقساط، فلما امتنع المشتري عن سداد الأقساط الأخيرة قتله الزوج البائع) اهـ.
وقال الأستاذ "محمد رشيد رضا" رحمه الله: "من الغرائب التي نقلت عن بعض صحف إنكلترا في هذه الأيام (74) أنه لا يزال يوجد في بلاد الأرياف الإنكليزية رجال يبيعون نساءهم بثمن بخس جدا كثلاثين شلنا، وقد ذكرت- أي الصحف الإنكليزية- أسماء بعضهم" (57) اهـ.
أما وضع المرأة اليوم في ديار الكفار، فَحَدث ولا حرج عن الإذلال، والمهانة، والمجون، والخلاعة، والابتذال، والاستغلال، في أقسى صورها، وأبشع مظاهرها، التي لا يسيغها إلا ممسوخ الفطرة، منتكس السريرة، خبيث الطوية، وحسبك أن تنتقي أمة تتربع على قمة العالم الغربي الكافر كأمريكا، وترصد ما وصلت إليه المرأة من انحطاط أخلاقي، وانهيار اجتماعي، وتفكك أسري، يقول الدكتور "مصطفى السباعي " رحمه الله في وصف شيء من أحوال المرأة في الغرب:
(وأما المرأة فقد دفع بها الوضع الاجتماعي الذي لا يرحم إلى أن
__________
(74) وتاريخ طبع الكتاب 12 ربيع الأول سنة 1351 هـ، أي أن آثار الماضي كانت لا تزال باقية في إنكلترا إلى ما قبل حوالي ستين سنة فقط!
(75) حقوق النساء في الإسلام" الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.(2/55)
أصبحت تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة لكى تبدأ في الكدح لنيل لقمة العيش، وإذا ما رغبت- أو أجبرتها الظروف- في البقاء في المنزل مع أسرتها بعد هذه السن، فإنها تدفع لوالديها إِيجار غرفتها، وثمن طعامها، وغسيل ملابسها، بل تدفع رسمًا معينا مقابل اتصالاتها الهاتفية) (76) اهـ.
وحَدث- ولا حرج- عن ندرة الزواج، وشيوع البغاء، وتفشي الزنا واللواط، وكثرة اللقطاء، وارتفاع نسبة الطلاقَ، وتغلغل الأمراض التناسلية الفتاكة، وانتشار نكاح المحارم بصورة مفزعة، بل لقد وصلت المرأة إلى دركة من المهانة والانحلال لا يتخيلها عاقل:
يقول الدكتور " نور الدين عتر": " حدثني صديق أنهى تخصصه العالي في أمريكا حديثا أن في الأمريكيين أقوامًا يتبادلون زوجاتهم لمدة معلومة، ثم يسترجع كل واحد زوجته المعارة، تماما كما يعير القروي دابته، أو الحضري في بلادنا شيئا من متاع بيته " (77) اهـ.
فهذه لمحة خاطفة عن حال المرأة في عصر الحضارة المسماة حضارة القرن العشرين، وما هي بحضارة، وإنما هي قذارة وفجارة، عصرِ المساواة، وما هي بمساواة المرأة بالرجل، وإنما هي مساواة الإنسان بأخيه الحيوان:
إيهِ عصرَ العشرين ظنوك عصرًا ... نيِّرَ الوجه مُسْعِدَ الإنسان
لست (نورًا) بل أنت (نار) وظلم ... مذ جعلت الإنسان كالحيوانِ
__________
(76) "المرأة بين الفقه والقانون" ص (300) .
(77) " ماذا عن المرأة؟ " ص (15-16) .(2/56)
[الفصل الثاني]
المرأة عند العرب في الجاهلية
والله إن كنا في الجاهلية ما نعد
للنساء أمرا، حتى أنزل الله فيهن
ما أنزل، وقسم لهن ما قسم) (78) .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
لم يكن لها حق الإرث، وكانوا يقولون في ذلك: " لا يرثنا إلا من يحمل السيف، ويحمي البيضة) ، فإذا مات الرجل ورثه ابنه، فإن لم يكن فأقرب من وجد من أوليائه أبا كان أو أخا أو عمُّا، على حين يضم بناته ونساؤه إلى بنات الوارث ونسائه، فيكون لهن ما لهن، وعليهن ما عليهن.
ولم يكن لها على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، ولا لتعدد الزوجات عدد معين، وكانوا إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها، كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثا كبقيهَ أموال أبيه، فإن أراد أن يعلن عن رغبته في الزواج منها طرح عليها ثوبًا، وإلا كان لها أن تتزوج بمن تشاء، وفي هذا يقول ناظم عمود النسب- وهو يعدد مختلقات الجاهلية:
(وأن من ألقى على زوج أبيه ... ونحوه بعد التوى (79) ثوبًا يريه
أولى بها من نفسها إن شاء ... نكح أو أنكح أو أساء
بالعضل كي يرثها أو تفتدي ... ومهرها في النكحتين للردي) (80)
__________
(78) انظر: " فتح الباري، (10/301) ط: السلفية.
(79) تَوِيَ تَوًى - كَرَضِيَ - هَلَكَ. "مختار القاموس" ص (80) .
(80) "أضواء البيان" للشنقيطي (1/279) ، وانظر: " الكشاف، للزمخشري (1/513) .(2/57)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها".
وعن عطاء بن أبي رباح قال: " إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم"، وحكى ابن جرير رحمه الله: " أن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهى أحق بنفسها" (81) .
وقد كان نكاح زوجات الآباء معروفًا في الجاهلية، فعله كثير من العرب (82) ، وهذا الذي نهى الله عنه بقوله جل وعلا: (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتَا وساء سبيلًا) (النساء: 22) .
وكانت المرأة تُمسَك ضرارًا للاعتداء، وتلاقي مِن بعلها نشوزًا أو إعراضا، وتُترك أحيانا كالمعلقة.
وكان أحدهم إذا أراد نجابة الولد حمل امرأته - بعد طهرها من
__________
(81) " تفسير الطبري" (4/307) .
(82) وقد ذكر أسماء بعض منهم العلامة القرطبي في تفسيره (5/104) ، وكان بعض ذوى المروءات منهم يمقتون هذا النكاح، ويسمونه نكاح المقت، وكانوا يسمون الرجل الذي يزاحم أباه في امرأته غير أمه: " الضيزن"، وكانوا يسمون المولود من هذا النكاح: المتقْتِي، وأصل المقت: البغض. [انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (5/104-105) .(2/58)
الحيض- إلى الرجل النجيب كالشاعر والفارس، وتركها عنده حتى يستبين حملها منه، ثم عاد بها إلى بيته، وقد حملت بنجيب!
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كانوا في الجاهلية يُكْرِهون إماءهم على الزنا، ويأخذون أجورهم ".
وقال قتادة: "كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حزينا سليبًا ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضًا" (83) اهـ.
وكان من المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث، كما يأتي بيانه إِن شاء الله.
وكان عند العرب في الجاهلية أنواع من الزواج الفاسد الذي كان يوجد عند كثير من الشعوب، ولا يزال بعضه إلى اليوم في البلاد الهمجية: - فمنها اشتراك الرهط من الرجال في الدخول على امرأة واحدة، وإعطائها الحق في الولد أن تلحقه بمن شاءت منهم.
- ومنها نكاح الاستبضاع، وهو أن يأخذ الرجل لزوجه أن تمكن من نفسها رجلًا معينا من الرؤساء والكبراء المتصفين بالشجاعة أو الكرم ليكون لها منه ولد مثله، وقد مر ذكره آنفا (84) .
- ومنها السفاح بالبغاء العلني، وكان عند العرب خاصا بالإماء دون
__________
(83) ذكره الطبراني عند تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) المائدة آية (91) .
(84) وهذان النوعان لا يزالان موجودان بصفة مطلقة دائمة عند بعض الأمم كالتبت وغيرها، وكان عند العرب مؤقتا ومقيدًا بما ذكرنا.(2/59)
الحرائر، "وكانوا لا يتحرجون من الزنا، وهم يتحرجون من ولاية اليتامى" (58) .
- ومنها اتخاذ الأخدان أي الصواحب والعشيقات، وكانوا يستترون به، ويعدونه لؤما وخِسة (86) .
- ومنها نكاح المتعة وهو المؤقت، وقد استقر أمر الشريعة على تحريمه، وتبيحه فرقة الشيعة الإمامية (87) .
- ومنها نكاح البدل والمبادلة، وهو أن ينزل كل من الرجلين للآخر عن زوجته (88) .
- ومنها نكاح الشغار، وهو أن يُزَوِّج الرجلَ امرأة بنته أو أخته أو من هي تحت ولايته على أن يزوجَه أخرى بغير مهر، صداقُ كُل واحدة بُضْعُ الأخرى.
- وهذان النوعان مبنيان على قاعدة اعتبار المرأة ملكًا للرجل يتصرف فيها كما يتصرف في بهائمه وأمواله (89) .
وأما المرتقون من العرب كقريش فكان نكاحهم هو الذي عليه المسلمون في الإسلام، من الخطبة والمهر والعقد، وهو الذي أقره الإسلام (90) ، مع إبطال بعض العادات الظالمة للنساء فيه، من استبدادٍ فى
__________
(85) "الكشاف" للزمخشري (1/496) .
(86) وهذان النوعان شائعان اليوم في أوربا كلها جهرا، وسرى منها إلى كثير من البلاد الشرقية.
(87) وهو شائع بمعناه اليوم عند الإفرنج ويسمونه: نكاح التجربة.
(88) "نيل الأوطار" (5/2) ط. دار التراث.
(89) ولا يزالان، موجودين في الشعوب الهمجية كالغجر.
(90) انظر: "فتح الباري" (9/150-152) .(2/60)
تزويجهن كرهًا أو عضلهن -أي منعهن من الزواج- أو أكل مهورهن إلى غير ذلك.
من عادات الجاهلية في الطلاق:
(وكانت النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية) (91) .
(ولم يكن النساء يومذاك بحاجة إلى المصارحة بالطلاق، بل كان حسب البدويات منهن أن يحولن أبواب أخبيتهن إن كانت إلى الشرق فإلى الغرب، أو كانت إلى الجنوب فإلى الشمال) (92) .
(وكان لهن- إذا لم يَكُن ذوات أخبية- أساليب يدللن بها الرجال على الطلاق، فليس لهم عليهن من سبيل، فكان بعضهن إذا تزوجت رجلًا، وأصبحت عنده كان أمرها إليها، وتكون علامة ارتضائها للزوج أن تعالج له طعامًا إذا أصبح) (93) .
من عادات الجاهلية في الحداد:
وكانت المرأة في الجاهلية إذا ذهب الموت بعزيز من آلها وعشيرتها فهناك يجتمع نساء الحي للمأتم، حواسر الرؤوس، سوافر الوجوه، يشققن الجيوب، ويلطمن الوجوه، ويهجن الباكيات، بما يثير الحزن الرابض، والشجو المميت، وعادة المَنَاحَةِ على السيد الشريف أن تظل سنة كاملة:
*ومن يبكِ حولا كاملًا فقد اعتذر*
وقد كانت العدة في الجاهلية حولًا كاملًا، وكانت المرأة تحد على
__________
(91) "الأغاني" لأبي الفرج (16/102) .
(92) السابق.
(93) (المرأة العربية) (1/57-58) .(2/61)
زوجها شر حداد وأقبحه، فتلبس شر ملابسها، وتسكن شر الغرف وهو (الحِفْش) (94) ، وتترك الزينة والتطيب والطهارة، فلا تمس ماءً، ولا تقلم ظفرًا، ولا تزيل شعرًا، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر، وأنتن رائحة، فتنتظر مرور كلب لترمي عليه بعرة احتقارًا لهذه المدة التي قفتها، وتعظيمًا لحق زوجها عليها.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله إن ابنتى توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحُلها؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا"، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" فقالت زينب: (كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمارٍ أو طير أو شاةٍ فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات (59) ، ثم تخرج فتُعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طيب أو غيره) (96) .
وكان من عوائد النساء في الجاهلية بدعة " الإسعاد"، ومعناه إِعانة
__________
(94) الحفش: البيت الصغير المظلم داخل البيت.
(95) قال ابن قتيبة: (سألت الحجازيين عن الافتضاض، فذكروا أن المعتدة كانت لاتمس ماء، ولا تقلم ظفزا، ولا تزيل شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض بطائر أي تمسح قُبُلَهَا به، فلا يكاد يعيش ما تفتض به) والمراد أنه يموت من نتنها- وانظر " فتح الباري" (9/484 - 490) ، و "روائع البيان" للصابوني (1/365 -367) .
(96) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/596 -598) في الطلاق: باب ما جاء في الإحداد، والبخاري (427/9) في الطلاق: باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ومسلم رقم (1486: 1489) في الطلاق: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وغيرهم.(2/62)
النساء بعضهن بعضا في النياحة بموت الميت، فكان النساء يسرعن لمساعدة صاحبة الميت في النوح والبكاء، وتصير المساعدة دَيْنًا في ذمة المرأة المصابة ترى وجوب تأديته لكل من ساعدها (97) .
وأد البنات في الجاهلية
(من العرب من كان يرى البنت حملَا فادحًا يضعف دونه احتماله، وتتخاذل قواه لفرط ما يُشفق من وصمة الذل، ووصم العار، إذا وهنت نفسها، أو ذهب السباء بها، فكان بين أن يستبقيها على كره لها، ومضض منها، وترقب لموتها، أو يفزع إلى الحُفَر فيقذفها في جوفها، ويهيل التراب على غَضَارة عودها، ونضارة وجهها، وبدل أن يدعها تستقبل الوجود، وتستنشي نسيم الحياة، يدعها في غمرة الموت بين طباق الأرض!!
ولو أننا افترضنا تلك الجريمة الموبقة بين جمهور العرب لما آمنا بتلك الجيوش الخضارم (98) التي وطئت نواصي الأرض، وطوقت أعناق الأمم، وهم أبناؤهم وحفدتهم، فالحق أن الوأد لم يكن معروفَا إلا في فرائق من ربيعة (99) وكِنْدة وتميم وطيء، وأفذاذ مغمورين لا يُعَدُّون قلةً من مختلف القبائل، وهم بين رجلين: رجل أملق من عقل ومال، فهو يخشى أن
__________
(97) انظر "الإبداع في مضار الابتداع للشيخ على محفوظ رحمه الله (ص 224- 225) .
(98) الخضارم: جمع خِضْرم بكسر الخاء والراء - الكثير الوفير من كل شيء.
(99) قال الألوسي رحمه الله تعالى: (ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، وذلك أنهم أغير عليهم، فنهبت بنت لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، فخيرت برضى منه بين أبيها ومن هي عنده، فاختارت من هي عنده، وآثرته على أبيها، فغضب، وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم، ومخافة أن يقع لهم بَعْدُ مثل ما وقع، وشاع في العرب غيرهم، والله تعالى أعلم بصحة ذلك) اهـ من " روح المعاني " (30/67) .(2/63)
يسيء الفقر إلى أدب ابنته، ويهتك من سترها، ويبذل من عرضها، وآخر من سراة القوم ذهبت بعقله الغيرة، وهوى بنفسه الإشفاق من تبدل الحوادث، وتداول المَثُلات، وما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء) (100) .
وقد كانت بعض القبائل تئد البنات والأولاد أيضاً خشية الفقر (101) .
وكانت بعض القبائل تقول: " الملائكة بنات الله "، فيفتلون بناتهم، ويقولون: " نلحقهن ببنات الله" - تعالى الله عن ذلك علوُّا كبيرًا.
وقال قتادة: " كان مُضَرُ وخُزاعة يدفنون البنات أحياءً، وأشدهم في هذا تميم، زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن" (102) .
وعنه أيضًا قال: (كان أحدهم يغذو كلبه، ويئد ابنته) اهـ (103) .
(وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها) (104) .
(وكان الرجل يشترط على امرأته: أنكِ تئدين جارية، وتستحيين أخرى، فإذا كانت الجارية التي توأد، غَدَا مِن عند أهله أو راح، وقال: أنت علىَّ كأمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فترسل إلى نسوتها، فيحفرن
__________
(100) "المرأة العربية" (1/44) .
(101) وقد رَدَّ عليهم القرآن ذلك في قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئًا كبيرا) وقوله سبحانه: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) فأبطل بالآية الأولى تخوفهم من الإملاق المتوقع، وفي الثانية من الإملاق الحاضر.
(102) "الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (10/117) .
(103) "تفسير الطبري" (76/14) .
(104) "روح المعاني" للألوسي (14/169) .(2/64)
لها حفرة، فيتداولنها بينهن، فإذا بصرن به مقبلا دسسنها في حفرتها، وسوَّين عليها التراب) (105) .
وكانوا في بعض الأحيان يئدون البنات بقسوة نادرة، فقد يتأخر وأد الموءودة (106) لسفر الوالد وشُغله، فلا يئدها إلا وقد كبرت، وصارت تعقل، وقد كان بعضهم يلقى الأنثى من شاهق (107) ، وقد حَكَوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات:
منها: ما رُوِىَ أن عمر رضي الله عنه قال: " أمران في الجاهلية، أحدهما يبكيني، والآخر يضحكني؛ أما الذي يبكيني: فقد ذهبت بابنة لي لوأدها، فكنت أحفر لها الحفرة، وتنفض التراب عن لحيتي، وهى لا تدرى ماذا أريد لها، فإذا تذكرتُ ذلك بكيت، والأخرى: كنت أصنع إلهَا من التمر، وأضعه عند رأسي يحرسني ليلًا، فإذا أصبحت معافى أكلته، فإذا تذكرت ذلك ضحكت من نفسي" (108) .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، وسئل عن هذه الآية: (وإذا الموءُودةُ سُئلت بأي ذنب قتلت) (109) ، فقال: (جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني وأدت ثماني بنات لي في الجاهلية" (110) ، فقال: "أعتق عن كل
__________
(105) "الدر المنثور، للسيوطي (8/48) .
(106) الموءودة: هي البنت التي تدفن حية، من الوأد وهو الثقل، كأنها سُميت بذلك لأنها تئقل بالتراب حتى تموت.
(107) "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ " ص (68-70) والشاهق: المرتفع من الجبال والأبنية وغيرها.
(108) "تتمة أضواء البيان" (9/63) .
(109) التكوير (8، 9) .
(110) في " بلوغ الأرب" (3/42 -43) أنه اعترف بوأد بضعة عشر بنتا من بناته في(2/65)
واحدة منهن رقبة"، قال: "إِني صاحب إبل"، قال: "اهْدِ إن شئت عن كل واحدة منهن بَدَنة" (111) .
(وكان للعرب تفنن في الوأد، فمنهم من إذا صارت بنته سداسية يقول لأمها: "طيبيها، وزيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها"، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها: "انظري فيها"، ثم يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض، ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع حفر حفرةً لتتمخض على رأس البئر، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنًا حبسته) (112) .
وقد شنع القرآن المجيد على أهل الجاهلية بسبب وأدهم البنات، ومهانتها عندهم، وَصَوَّرَ ذلك أدق تصوير، فقال سبحانه وتعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم لِيُرْدُوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون) الأنعام (137) .
(وقالوا هذه أنعام وحَرث حِجر لا يطعمها إلا من نشاء) أي لا يأكلها إلا الرجال دون النساء، وقيل: خدام الأصنام، ثم بين سبحانه أن هذا تحكملم يرد به شرع، ولهذا قال: (بزعمهم) (وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءً عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا ما في بطون هذه الأنعام) قال السيوطي (113) : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما
__________
= الجاهلية، وقال السيوطي: "أخرجه البزار، والحاكم في الكنى، والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنحوه، وفيه أنهن كن ثمان بنات" (الدر المنثور) (6/320) .
(111) "الإصابة في تمييز الصحابة، (5/485) .
(112) "تفسير القاسمي " (17/6072) .
(113) "الدر المنثور" (3/48) .(2/66)
قال: (اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربونه ذكرانهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تُرِكَت فلم تُذْبَحْ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء) (خالصة لذكورنا) أي حلال لهم خاصة، لا يشركهم فيه أحد من الإناث (ومحرم على أزواجنا) أي على جنس أزواجنا وهن الإناث، فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن، (وإن يكن ميتة) أي ذلك حلال للذكور محرم على الإناث إن ولد حيُّا، وإن ولد ميتة (فهم) أي الذكور والإناث (فيه) أي فيما في بطون الأنعام (شركاء) يأكلون منه جميعاً (سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم) (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) أي لخفة عقولهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه (وحَرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) قال القرطبي: (أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحِيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفها خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم، ولم يخشوا الإملاق) (114) اهـ، وقال قتادة: "هذا صنع أهل الجاهلية: كان أحدهم يقتل ابنته، مخافة السباء والفاقة، ويغذو كلبه" (115) ، ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام (قد خسر الذين قتلوا أولادهم) إلى قوله: (وما كانوا مهتدين) (116) .
وقال عز وجل: (ويجعلون لله البناتِ سبحانه ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هُون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) (117) .
__________
(114) "القرطبي" (7/96) .
(115) ، (116) "الدر المنثور" (3/48) .
(117) "النحل" (58-59) .(2/67)
قوله سبحانه: (ويجعلون) أي يعتقدون أن (لله البناتِ) الإناث، وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله؟ بينه تعالى بقوله: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا) الآية، مع أن الإناث التي جعلوها لله يكرهونها لأنفسهم، ويأنفون منها كما قال تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مُسْوَدًّا) أي لأن شدة الحزن والكآبة تُسَوِّدُ لون الوجه (وهو كظيم) أي: ممتلئ حزنا وهو ساكت، وقيل: ممتلئ غيطا على امرأته التي ولدت له الأنثى (118) (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) أي يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة، أو: لئلا يشمتوا به ويعيروه، ويحدث نفسه، وينظر: (أيمسكه) أي ما بشر به وهو الأنثى (على هُون) أي هوان وذل (أم يدسه في التراب) أي يدفن المذكور الذي هو الأنثى حيا في التراب، وهو ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد. قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: (وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم، ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المرى ابنته " الجرباء" قال:
وإني وإن سيق إلى المهرُ ... ألف وعُبدان وذَوْدٌ (119) عَشْرُ
أحب أصهاري إلي القبرُ
ويروى لعبد الله بن طاهر قوله:
لِكُل أبي بِنْتٍ يُراعِى شئونَها ... ثلاثةُ أصهارٍ إذا حُمِدَ الصِّهْرُ
فَبَعْلٌ يُراعِيها، وخِدْر يُكِنها ... وقبر يُوارِيها، وخيرُهم القبرُ
__________
(118) وانظر: " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (16/ 70- 71) .
(119) "في القرطبي": (وخُورٌ عشر) اهـ. (10/118) ، جمع خوارة- على غير قياس، وهو الناقة الغزيرة اللبن.(2/68)
وقال بعض الشعراء في هذا المعنى نفسه:
جُعِلْتُ فِداكَ من النائبات ... ومُتعْتَ ما عِشْتَ في الطيبات
سُرورانِ ما لَهُما ثالث ... حياةُ البنين وموتُ البنات
وأصدقُ منْ ذَينِ قولُ الحكيـ ... ـم دَفْنُ البناتِ مِنَ المَكْرُمات (120)
ومن مأثور قولهم لمن "رُزِئ" بأنثى - على حد تعبيرهم -:
(آمنكم الله عارها، وكفاكم مؤنتهَا، وصاهرتم (121) القبر) ، وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهم لولادتهن: الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم، كما قال الشاعر في ابنة له تسمى " مودة":
"مودة تهوى عمر شيخ يسره ... لها الموت قبل الليل لو أنها تدرى
يخاف عليها جفوة الناس بعده ... ولا ختن يرجى أود من القبر (122) ]
وقال إسحاق بن خلف البهراني في نفس المعنى:
لولا أمَيْمةُ لم أجزع من العدمِ ... ولم أجُب في الليالي جِنْدِس (123) الظلَمِ
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذُلَّ اليتيمةِ يجفوها ذوو الرَّحِم
تهوى بقائي وأهوى موتها شفقا ... والموتُ أكرم نزَّالٍ على الحُرَم
أحاذر الفقر يومَا أن يُلِمَّ بها ... فيكشف الستر عن لَحم على وَضَمِ (124)
إذا تذكرتُ بنتي حين تندبني ... فاضت لرحمةِ بنتي عَبرتي بِدَمِ
__________
(120) "مرآة النساء" ص (60) .
(121) "تراجم سيدات بيت النبوة، ص (434) .
(122) انظر: " أضواء البيان، للشنقيطي (3/261-262) .
(123) شدة الظلام.
(124) الوضم: الخوان يوضع عليه اللحم ليشوى، و "لحم على وضم" مثل يضرب لكل ذليل لا يعتصم من مكروه، وانظر: " القسم الثالث" ص (49) .(2/69)
أخشى إضاعةَ عَم أو جفاءَ أخ ... وكنت أحنو عليها من أذى الكَلِمِ
ما أنسَ لا أنسَ منها إذ تُوَدعُني ... والدَّمعُ يَجْري على الخدين ذا سَجَم
لا تبرحن فإن مت فإن لنا ... ربا تكفلَ بالأرزاقِ والقَسمِ (125)
ومن طرائف ما يُروى في ذلك:
أنه كان لأبي حمزة الأعرابي زوجتان، فولدت إحداهما ابنة، فعز عليه ذلك، واجتنبها، وصار في بيت ضَرتِها، فأحسَّت به يومًا في بيت صاحبتها، فجعلت تُرَقِّصُ ابنتها الصغيرة، وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نَلِدَ البنينا ... تالله ما ذلك في أيدينا
بل نحن كالأرض لزارعينا ... يَلبثُ ما قد زرعوه فينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فعرف أبو حمزة قُبْحَ ما فعل، وراجع امرأته (126) .
موقف بعض سادات العرب من الوأد
ذلك وقد نهض من سادات العرب مَن حال دون الوأد بما بذل من مال جم، وسعي وفير، ومن بين هؤلاء صَعْصَعَةُ بن ناجية التميمي، فقد كان يتلمس مَن مسها المخاض، فيغدو إليها، ويستوهب الرجل حياة مولوده إن كانت بنتا على أن يبذل له في سبيل ذلك بعيرًا وناقتين عُشَرَاوِيَيْن (127) ، فجاء الإسلام وقد افتدى أربعمائة وليدة (128) .
__________
(125) " صون المكرمات برعاية البنات" ص (27-28) .
(126) "صون المكرمات برعاية البنات" ص (25) .
(127) الناقة العشراء: التي أتى عليها من وقت حملها، عشرة أشهر.
(128) "الأغاني" (99/3) .(2/70)
ومنهم زيد بن عمرو بن نُفَيل القرشي، كان يضرب بين مضارب القوم فإذا بَصُرَ بِرَجُل يَهُمُّ بوأد ابنته قال له: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، ويلي أمرها حتى تشب عن الطوق، فيقول لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها (129) .
وصعصعة بن ناجية بن عقال هو جد الفرزدق بن غالب، قال السيوطي: (وأخرج الطبراني عن صعصعة بن ناجية المجاشعي- وهو جد الفرزدق- قال: قلت: يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية، فهل لي فيها مِنْ أجر؟ قال: وما عملت؟ قال: أحييت ثلاثمائة وستين موءودة أشترى كل واحدة منهن بناقتين عشراويين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك أجره إذا مَنَّ الله عليك بالإسلام) (130) .
وروى أبو عبيدة أن صعصعة هذا وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم، قال: وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية، فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك، فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة، وفي أخرى ثلاثمائة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي أوصِني" فقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدانيك "، فقال: " زدني"، فقال صلى الله عليه وسلم: (احفظ ما بين لحييك ورجليك "، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ما من شيء بلغني عنك فعلتَهُ؟ " فقال " يا رسول الله! رَأيتُ الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الصواب، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن ربهم
__________
(129) رواه البخاري تعليقا (7/110) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب حديث زيد ابن عمرو بن نفيل.
(130) " الدر المنثور" للسيوطي (6/320) ، وعزاه الحافظ في "الإصابة" (3/ 430) إلى ابن أبي عاصم، وابن السكن، والطبراني، وقال الهيثمي: (وفيه الطفيل بن عمرو التميمي، قال البخاري: " لا يصح حديثه"، وقال العقيلي: " لا يتابع عليه") اهـ. (1/95) .(2/71)
عز وجل لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم، ففديت ما قدرت عليه) (131) .
وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:
ومنا الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يوأدِ
وفي قوله أيضا (132) :
أنا ابن عِقال وابن ليلى وغالب ... وفكّاكُ أغلال الأسير المُكَفرِ (133)
وكان لنا شيخان ذو القبر (134) منهما ... وشيْخ أجار الناس من كل مَقبرِ
على حِينِ لا تُحْيىَ البناتُ وإذ هُم ... عُكُوف على الأصنام حول المُدَورِ
أنا ابن الذي رد المنيةَ فضلُه ... وما حَسَب دافعتُ عنه بِمُعْوِرِ
أبي أحد الغيثين صعصعةُ الذي ... متى تُخلِفُ الجوزاءُ والنجمُ يُمطِرِ
أجار بناتِ الوائدين ومن يُجرْ ... على القبر، يعلم أنه غيرُ مُخْفِرِ
وفارق (135) ليل من نساءٍ أتت أَبي ... تعالج ريحا ليلُها غيرُ مُقْمِر
فقالت: أجر لى ما ولدتُ فإنني ... أتيتك من هَزْلَي الحمولةِ مُقْتِر
رأي الأرضَ منها راحة فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها وفي شر مَخْفَر
فقال لها: نامى فأنتِ بذمتي ... لبنتكِ جار من أبيها القَنَوَّر (136)
__________
(131) انظر: " الإصابة" (3/430- 431) ، و"كشف الخفا" (1/58) رقم (144) .
(132) من قصيدته التي مطلعها:
بني نهشل أبقوا عليكم ولم تروا ... سوابقه حام للذمار مُشَهر
(الديوان 2/ 474)
(133) المكفر: هو الذي كُفر، وكُبلَ بالحديد.
(134) ذو القبر: غالب، كان يستجار بقبره والعياذ بالله، والذي أجار الناس من القبر، وأحيا الوئيدة: صعصعة.
(135) فارق: يعني امرأة ماخضًا، شبهها بالفارق من الإبل، وهي الناقة التي يضربها المخاض فتفارق الإبل، وتمضى على وجهها حتى تضع.
(136) القنور: السيء الخلق.(2/72)
ويقال: (إنه اجتمع جرير والفرزدق يومًا عند سليمان بن عبد الملك، فافتخرا، فقال الفرزدق: أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى؟ فقال: إن جدي أحيا الموءودة، وقد قال تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) (137) وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة، فتبسم سليمان، وقال: " إنك مع شعرك لَفَقِيه"، نقله المرتضي في " أماليه") (138) اهـ.
وبالجملة فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية مما يدل على نهاية القسوة، وتمام الجفاء والغلظة.
__________
(137) المائدة (32) .
(138) "محاسن التأويل" للقاسمي (17/6074) .(2/73)
الباب الثالث
شمس الإسلام
تشرق على المرأة
[الفصل الأول]
"إنما النساء شقائق الرجال" (139)
حديث شريف
(أسفر نور الإسلام، فافترَّ ثغر الدهر لنساء العرب عن جو مشرق، وأمل بعيد، وأسلوب من الحياة جديد.
رسخت أصول الإسلام، وورفت ظلاله، وخفقت على الخافقين أعلامه، ونعمت المرأة تحت ظله بوثوق الإيمان، ونهلت من معين العلم، وضربت بسهم في الاجتهاد، وشُرع لها من الحقوق ما لم يُشْرَع لأمة من الأمم في عصر من العصور، فقد أمعنت في سبيل الكمال طلقة العِنان، حتى أخملت مَنْ بين يديها، وأعجزت من خلفها، فلم تشبهها امرأة من نساء العالمين في جلال حياتها وسناء منزلتها.
__________
(139) قال الخطابي في " المعالم": (أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شُققن من الرجال) اهـ (1/79) - والحديث رواه عن عائشة رضي الله عنها الإمام أحمد في " المسند" (6/256) ، وأبو داود رقم (236) في الطهارة: باب في الرجل يجد البلة في منامه، والترمذي رقم (113) في الطهارة: باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللًا، ولا يذكر احتلاما، والدارمي في "سننه" (ا/ 195-196) ، وابن ماجه (1/110) وصححه الشيخان: أحمد شاكر في "تحقيق الترمذي" (1/190 -192) ، والألباني في " صحيح الجامع، (2/281) .(2/74)
تلك هي المرأة التي وثب بها الإسلام، ووثبت به، وكان أثرها في تكوين رجاله، وتصريف حوادثه أشبه ما يكون بأثر الغدير الهادئ الفياض في زَهْر الرياض) (14) .
مظاهر تكريم الإسلام للمرأة
لم يعتبر الإسلام المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون، ولكنه قرر حقيقة تزيل هذا الهوان عنها، وهي أن المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها ما لها من الحقوق، وعليها أيضا من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل بما اخْتُص بهِ من شرف الرجولة، وقوة الجَلَدِ، وبسطة اليد، واتساع الحيلة، أن يلي رياستها، فهو بذلك وليُّها؛ يحوطُها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده.
ذلك ما أجمله الله، وضم أطرافه، وجمع حواشيه، بقوله تباركت آياته:
(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة) البقرة (228) .
تلك هي درجة الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس، وجحود الحق.
وكما قرن الله سبحانه بينهما في شئون الحياة، كذلك ساوى بينهما في الإنسانية، والموالاة، وتكاليف الإيمان، وحسن المثوبة، وادخار الأجر، وارتقاء الدرجات العلى في الجنة.
__________
(140) "المرأة العربية، (2/14) بتصرف.(2/75)
المساواة في الإنسانية
فالنساء والرجال في الإنسانية سواء، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات (13) .
وهي قد خلقت من الرجل، قال سبحانه: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً) الآية النساء (1) .
وخلق المرأة نعمة عظيمة ينبغي أن يحمد الرجال ربهم عليها، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمهَ) الروم (21) ، وقال عز وجل: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) الآية، الأعراف (189) .
وقال جَلَّ وعلا: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) النحل (72) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما النساء شقائق الرجال" (141) .
المساواة في أغلب تكاليف الإيمان
إذا كان مناط التكليف هو الأهلية، فلكل من الرجل والمرأة أهلية الوجوب، وأهلية الأداء، ما دام قد تقرر في ذمة كل منهما الواجبات الشرعية، فلا تبرأ ذمة كل منهما حتى يؤدي ما عليه من واجبات،؟ يكون له بمقتضى تلك الأهلية حقوق قِبَلَ غيره.
__________
(141) تقدم تخريجه بهاش رقم (139) .(2/76)
وقد وضع القرآن الكريم الرجل والمرأة على قدم المساواة في الالتزامات الأخلاقية، والتكاليف الدينية إلا في حالات مخصوصة خفَّف اللَه فيها عن المرأة رحمةً بها، ومراعاةً لفطرتها وتكوينها؟ سيأتي إن شاء الله.
وإيمان النساء كإيمان الرجال:
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) الآية، الممتحنة (10) .
وقال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احملوا بهتانا وإثما مبينًا) الأحزاب (58) .
وقال سبحانه: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) البروج (10) .
وأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات جميعا فقال عَز وجل: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات
والله يعلم متقلبكم ومثواكم) القنال (19) .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من استغفر للمؤمنين وللمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" (142) .
ومن المجمع عليه المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن على النساء ما على الرجال من أركان الإسلام، إلا أن الصلاة تسقط عن المرأة في زمن الحيض والنفاس مطلقًا فتتركها، ولا تعيدها لكثرتها، وأما الصيام فيسقط
__________
(142) قال في " مجمع الزوائد": (رواه الطبراني، وإسناده جيد) اهـ (10/ 210) .(2/77)
عنها في زمنهما، وتقضي ما أفطرته من أيام رمضان لقلتها، وأما حجها فيصح في كل حال، ولكنها لا تطوف بالبيت الحرام إلا وهي طاهرة.
المساواة في المسئولية المدنية
في الحقوق المادية الخاصة (143)
أكد الإسلام احترام شخصية المرأة المعنوية، وَسَواها بالرجل في أهلية الوجوب والأداء، وأثبت لها حقها في التصرف، ومباشرة جميع العقود: كحق البيع، وحق الشراء، وحق الدائن، وحق المدين، وحق الراهن، وحق المرتهن، كذلك حق الوكالة، والإجارة، والاتجار في المال الخاص، وما إلى ذلك، وكل هذه الحقوق المدنية واجبة النفاذ.
ولقد أطلق الإسلام للمرأة حرية التصرف في هذه الأمور بالشكل الذي تريده، دون أية قيود تقيد حريتها في التصرف، سوى القيد الذي يقيد الرجل نفسه فيها، ألا وهو قيد المبدأ العام: أن لا تصدم الحرية بالحق أو الخير.
قال تبارك وتعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب
مما اكتسبن) (النساء: 32) ، وجعل لها حق الميراث، فقال تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا) (النساء: 37) ، كما جعل صداقها ملكًا خالصا لها، لا يشاركها فيه أحد، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض
__________
(143) من "الأسرة في ضوء الكتاب والسنة " للدكتور السيد أحمد فرج ص (29-32) بتصرف.(2/78)
ما آتيتموهن) الآيتان (النساء: 19- 20) .
والمرأة في تملك هذه الحقوق شأنها أمام الشرع، شأن الرجل تمامًا إذا أحسنت أو أساءت، قال جل وعلا: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله عزيز حكيم) (المائدة:38) .
وقال عز وجل: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (النور:2) .
كذلك ساوت الشريعة بينهما في الدماء، وقررت أن يقتل الرجل بالمرأة، قال جل وعلا: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) (البقرة: 179) .
وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) الآية (البقرة:178) .
وهذه الآية تبين حكم النوع إذا قتل نوعه، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فهي محكمة، وفيها إجمال، يبينه قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية (المائدة: 45) .
المساواة في جزاء الآخرة
وقال تعالى: (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل (97) .
وقَال عز وجل: (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) غافر (40) .(2/79)
وقال سبحانه: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) النساء (124) .
وقال عز وجل في أولي الألباب الذين يذكرون الله كثيرا، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، وَيَدْعُونه: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (144) آل عمران (195)
وتأمل كيف أكد القرآن هذا المبدأ في قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعَدَّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا) (145) الأحزاب (35)
__________
(144) وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله عز وجل: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض - إلى - والله عنده حسن الثواب) .
رواه الترمذي رقم (3026) في التفسير، والطبري رقم (8368) وفي سنده رجل من بني سلمة، رواه الحاكم (2/300) ، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"، وبينَ الحاكم أن الرجل هو سلمة بن أبي سلمة، لم يخرج له سوى الترمذي، ولم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ: " مقبول" - انظر " التقريب " (1/317) .
وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (أي بجميع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله، أو كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم) اهـ.
(145) وعن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها قالت:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت: (إن المسلمين والمسلمات - إلى قوله: أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيما) .(2/80)
فسوى سبحانه بين الزوج والزوجة والابن والبنت والعبد والأمة في هذه الصفات الجميلة، وما زال السلف رضوان الله عليهم على هذا المنهاج تجد أولادهم ونساءهم وعبيدهم وإماءهم في غالب أمرهم مشتركين في هذه الفضائل كلها.
وقال سبحانه: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله اكبر ذلك هو الفوز العظيم) التوبة (72) .
وقال عز وجل: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وَيُكَفًرَ عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) الفتح (5) .
وقال تبارك وتعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم
__________
= أخرجه الترمذي رقم (3209) في التفسير: باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: "هذا حديث حسن غريب" اهـ.
وعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: " ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يُذْكَرُ الرجال؟ "، قالت: فلم يَرُعْني منه - أي يفزعني ويفاجئني- يومئذ إلا ونداؤه على المنبر: قالت: وأنا أسرح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرة من حجَر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد- معناه أنها رفعت رأسها إلى جهة الجريد الذي هو سقف المسجد إذا ذاك لقرب النبي صلى الله عليه وسلم منه وهو على المنبر، لكونه غير مرتفع عن المنبر كثيرا- فإذا هو يقول عند المنبر: يا أيها الناس إن الله يقول في كتابه: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات- إلى آخر الآية: أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيما)) رواه الإمام أحمد في " المسند، (6 /301) ، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (13/5824) ، والحاكم مختصرا، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي (2/416) .(2/81)
بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) الحديد (12) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت" (146) .
فإذا احتمل الرجل نار الهجير، واصطلى جمرة الحرب، وتناثرت أوصاله تحت ظلال السيوف، فليس ذلك بزائده مثقالَ حبة عن المرأة إذا وفت لبيتها، وأخلصت لزوجها، وأحسنت القيام على بنيها.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد عبد الله بن رواحة، قال: فما تحوز (147) له عن فراشه، فقال: أتدري من شهداء أمتي؟ قالوا: قتل المسلم شهادة، قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدُها جمعاء (148) شهادة، يجرها ولدها بسرره (149) إِلى الجنة، (150) .
__________
(146) رواه من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الإمام أحمد رقم (1661) (3/128) ، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده منقطع"، وعزاه الألباني في (آداب الزفاف" ص (286) إلى الطبراني في " الأوسط"، وابن حبان في" صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي نعيم (6/308) ، والجرجاني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الألباني) (حديث حسن أو صحيح له طرق) اهـ.
(147) تحوز: أي تنحى.
(148) جمعاء: هي التي تموت وفي بطنها ولد.
(149) السرة: ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة، والسرر ما تقطعه.
(150) أخرجه الإمام أحمد، والدارمي، والطيالسي، وصحح الألباني إسناده في "أحكام الجنائز، ص (39) .(2/82)
المساواة في الموالاة والتناصر
قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) التوبة (72) .
المساواة بين المؤمنات إزالة الفوارق ين النساء:
مزق الإسلام حجب الفوارق بينَ النساء كما مزقها بين الرجال، فتطامنت الرؤوس، وتساوت النفوس، فلم يكن بين المرأة والمرأة إلا الخير تتقدم به، أو العمل الصالح تسبق إليه، فأما أن تُدِلَّ بعَرَض طارف، أو تعتز بحسب قديم فذلك ما لا يقدمها أنملة، ولا يغنى عنها من الله شيئا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال: يا معشر قريش" - أو كلمة نحوها - " اشتروا أنفسكم، لا أغنى عنكم من الله شيئَا، يابنى عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئَا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفيةُ عمةَ رسول الله، لا أغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمةُ بنت محمد، سليني ما شئتِ من مالي، لا أغني عنكِ من الله شيئا") (151) .
__________
(151) رواه البخاري (8/386) في تفسير سورة الشعراء: باب (وأنذر عشيرتك =(2/83)
لقد شرع الله للمؤمنين شِرعة الإخاء بقوله جل شأنه: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات (10) فلم يكن يفرق بين المسلمة والمسلم، ولا بين المسلم والمسلمة، إلا شريف الخلق وخسيسه، فذلك حيث يقول الله تباركت حكمته في كتابه الكريم: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) النور (26) ، وكذلك استن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة المساواة بقوله: "المسلم أخو المسلم" (152) ، وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم: (كل نسب وصِهْرٍ ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" (153) ، ولا أدل على ما نقول من: [حديث فاطمة بنت الأسود المخزومية - وهي امرأة من ذوات الشرف والحسب في قريش - وَهَنت نفسها فسرقت، فقامت عليها البينة، فوجب عليها الحد فأَهَمَّ ذلك قريشًا، فقالوا: من يكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ
__________
= الأقربين) ، وفي الوصايا، والأنبياء، ومسلم رقم (206) في الإيمان: باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) ، والترمذي رقم (3184) في التفسير: باب ومن سورة الشعراء، والنسائي (6/248) في الوصايا: إذا أوصى لعشيرته الأقربين.
(152) طرف حديث أخرجه البخاري (5/70) في المظالم: باب لا يظلم المسلم المسلم، ولا يسلمه، وفي الإكراه، ومسلم رقم (2580) في البر والصلة ة باب تحريم الظلم، والترمذي رقم (1426) في الحدود: باب ما جاء في الستر على المسلم، كلهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الترمذي رقم (1928) في البر والصلة: باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد: " لا يخذله، ولا يكذبه، ولا يظلمه، وإن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذى فليُمِطه عنه".
(153) عزاه السيوطي إلى ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورمز له بالصحة، وقال المناوي: (قال الذهبي: فيه ابن وكيع لا يعتمد، لكن ورد فيه مرسل حسن" اهـ) من فيض القدير" (5/36) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (4/ 182) .(2/84)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فتلوَن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أتشفع في حَدّ من حدود الله؟ "، فقال أسامة: " استغفر لي يا رسول الله "، فلما كان بالعشي، قام فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة التي سرقت، فقُطِعَتْ يَدُها"، قالت عائشة رضي الله عنها: فحسنت توبتها بعدُ وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها. إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (154) .
ومن ذلك أن الله تعالى ذم سخرية بعض النساء من بعض، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا) يسخر (نساء من نساء عسى أن يكن) المسخور بهن (خيرا منهن) يعني من الساخرات بهن، قيل: إنها نزلت لما أتت صفية بنت حيي بن أخطب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (155) ، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (وفي جامع أبي عيسى، من طريق هاشم بن سعيد الكوفي: حدثنا كنانة: حدثتنا صفية بنت حُيي، قالت: دخل عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام، فذكرتُ له ذلك، فقال: "ألا قلتِ: وكيف
__________
(154) أخرجه البخاري (12/76) في الحدود: باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، وفي الشهادات، وفي الأنبياء، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المغازي، ومسلم رقم (1688) في الحدود: باب قطع السارق الشريف وغيره، والترمذي رقم (1430) في الحدود: باب ما جاء في كراهية أن يشفع في الحدود، وأبو داود رقم (4373) و (4374) في الحدود: باب في الحد يشفع فيه، والنسائي (8/74- 75) في السارق: باب ما يكون حرزا، وما لا يكون. (155) انظر: " زاد المسير في علم التفسير" (7/466) .(2/85)
تكونان خيرا مني، وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى" (156) ، وكان بلغها أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، نحن أزواجه، وبناتُ عمه) (157) .
من مظاهر رحمة الإسلام بالمرأة
أرأيت لو ذَهَبَتْ صبية جارية بقطيع من الغنم، فعدا الذئب على واحدة فأكلها، فنهض مولى الصبية إليها يضربها، أكان ذلك غريبا على الناس، بعيدَا عن مواقع أسماعهم وأبصارهم؟
لقد حدث ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وغدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما أصاب به جاريته، واشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وشق عليه ما كان من ضرب الجارية، وَلنَدَعْ صاحبَ الواقعة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه يحكيها لنا:
__________
(156) وذلك لأنها رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب بن سَعية، من سبط اللاوي ابن نبي الله إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ثم من ذريته رسول الله هارون عليه السلام.
(157) نقلًا من "سير أعلام النبلاء" (2/233) ، وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: [أخرجه الترمذي (3892) في المناقب، والحاكم (4/29) ، وإسناده ضعيف لضعف هاشم بن سعيد الكوفي، وباقي رجاله ثقات، لكن يشهد له حديث أنس رضي الله عنه عند أحمد (3/135، 136) ، والترمذي (3894) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس قال: (بلغ صفية أن حفصة قالت: "بنت يهودي"، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك"؟ فقالت: "قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ "، ثم قال:
" اتقي الله يا حفصة"، وإسناده صحيح] اهـ من هامش " سير أعلام النبلاء، (2/233) .(2/86)
قال: رضي الله عنه:
(كانت لي جارية ترعى غنمًا لي في قِبَل أُحُد والجوانية، فاطلعتها ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسَفُ كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذلك عَلَيَّ، قلت: " يا رسول الله أفلا أعتقها؟ " قال: "ائتني بها"، فأتيته بها، فقال لها: " أين الله؟ "، فقالت: "في السماء"، قال: " من أنا؟ "، قالت: " أنت رسول الله"، قال: " أعتقها، فإنها مؤمنة") (158) ، وقال مرة: "هي مؤمنة فأعتقها".
وعن هلال بن يساف قال:
(كنا نبيع البُر في دار سويد بن مُقَرن أخي النعمان بن مقرن، فخرجت جارية، فقالت لرجل مِنا كلمةً فلطمها، فغضب سويد- وفي رواية: فما رأيت سويدا أشد غضبًا منه ذلك اليوم، وقال له: عجز عليك إلا حُرُّ وجهها؟ لقد رأيتني سابع سبعة من بني مُقَرِّن، ما لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أصغرنا، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُعتقها) (159) .
وكان من أشد ما يؤلم نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم أن يسمع الرجل يُعَير الرجل
__________
(158) أخرجه مسلم (537) في المساجد وموضع الصلاة فيها: باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، وأبو داود (930) في الصلاة: باب تشميت العاطس في الصلاة، والنسائي (3/ 14-19) في الصلاة: باب الكلام في الصلاة، والإمام أحمد (5/447، 448) ، وابن أبي شيبة (11/19 - 20) ، الطيالسي (1105) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/215) رقم (489) ، والبيهقي في " الأسماء والصفات" ص (422) ، وفي "سننه" (7/387) ، والدارمي في " الرد على الجهمية" ص (21-22) ، والطبراني في " الكبير" (19/937، 938) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
(159) رواه مسلم رقم (1658) في الإيمان: باب صحبة المماليك، وأبو داود رقم (5166) ، (5167) في الأدب: باب في حق المملوك، والترمذي رقم (1542) في النذور: باب ما جاء في الرجل يلطم خادمه.(2/87)
بأمه، وآية ذلك ما حَدَّثَ المعرور بن سويد قال: (لقِيتُ أبا ذَر بالربَذَةِ (160) ، وعليه حُلًةٌ، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلًا، فَعَيرتُه بأمه (161) ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذَر، أعيرتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم (162) ، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليُلْبسهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم") (163) .
ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم ورحمته بالنساء:
ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (استأذن عمرُ على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يُكَلِّمنَهُ - وفي رواية: يسألنه، ويستكثِرنَه- عاليةً أصواتُهنَّ على صوتِهِ، فلما استأذن عُمَرُ قُمْنَ يبتدِرْنَ الحجابَ، فأذِن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عُمَرُ والنبي يضحك، فقال عمر: (أضحَكَ الله سِنَّكَ (164) ، بأبي وأمي، قال: "عجبت من هؤلاء اللاتي كُن عندي، فلما سَمِعْنَ صوتَك ابتدرْنَ الحجابَ، قال عمر:
__________
(160) الربَذَة: موضع بالبادية، بينه وبين المدينة ثلاث مراحل.
(161) زاد البخاري في "الأدب": (وكانت أمه أعجمية فنلت منها"، وفى رواية: "قلت له: يا ابن السوداء".
(162) الخوَلُ: حشمُ الرجل وأتباعه، واحدهم خائل، وهو مأخوذ من التخويل: التمليك، وقيل: من الرعاية.
(163) رواه البخاري (1/ 80، 81) في الإيمان: باب المعاصي من أمر الجاهلية، وفي العتق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون"، وفي الأدب: باب ما ينهى من السباب واللعن، ومسلم رقم (1661) في الإيمان: باب إطعام المملوك مما يأكل، وأبو داود، أرقام (5157) ، (5158) ، (5161) في الأدب: باب حق المملوك.
(164) قال الحافظ في "الفتح": (لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازمه وهو =(2/88)
" فأنت يا رسولَ الله لَأحَقُّ أن يَهَبْنَ"، ثم قال عمر: (أي عَدُوَّاتِ أنفسِهن، أتهَبْنَنِي ولا تَهَبْنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟!، قلن: "نعم، أنت أفَظُّ وأغلَظُ من (165) النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إيهِ (166) يا ابنَ الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لَقِيَكَ الشيطان سالكًا فَجا إلا سَلَكَ فَجُّا غير فجًك " (167) .
ومن مظاهر رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء:
أنه صلى الله عليه وسلم وقف يبايعهن على أن يأتمرن بأوامر الله، ويجتنبن نواهيه، فقال صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن، وأطقتن"، فقلت: " الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، (168) .
__________
= السرور أو نفي ضد لازمه، وهو الحزن) اهـ.
(165) نفى القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الفظاظة والغلظة خلقًا لازما له صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) ، غير أنه صلى الله عليه وسلم قد يغضب لله في بعض الأحوال كإنكار المنكر مثلا، وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بما يكره إلا في حق من حقوق الله تعالى، وكان عمر رضي الله عنه يبالغ في الزجر عن المكروهات مطلقا، وطلب المندوبات، فلهذا قال له النسوة ذلك - انظر "فتح الباري" (6/47) .
(166) بالكسر والتنوين، ومعناها: حدثنا ما شئت، وبغير التنوين: زدنا مما حدثتنا.
(167) رواه البخاري رقم (3683) (7/41) ط. السلفية، في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده، وفي الأدب: باب التبسم والضحك، ومسلم رقم (2396) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(168) وأصل الحديث عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من المسلمين لنبايعه، فقلنا: يا رسول الله، جئنا لنبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف"، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيما =(2/89)
تحريم كل النساء في الحروب:
حَرم الشرع الشريف قتل النساء والأطفال والشيوخ في الجهاد، إلا أن يقاتلوا، فيدْفعوا بالقتل:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا قال: (انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلَا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين" (169) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (وُجدَت امرأة مقتولةً في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان) (170) ، وفي رواية: (فأنكر) .
__________
= استطعتن، وأطقتن قالت: قلنا: " الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، بايعنا يا رسول الله، قال: " اذهبن فقد بايعتكن، إنما قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة، قالت: ولم يصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم منا امرأة" رواه الإمام أحمد (6/353، 365) ، والإمام مالك في " الموطأ، (2/982) في البيعة: باب ما جاء في البيعة، والترمذي رقم (1597) : باب 7 في السير، والنسائي (7/149) في البيعة: باب بيعة النساء، وأخرجه ابن ماجه رقم (2874) في الجهاد: باب البيعة.
(169) رواه أبو داود رقم (2614) في الجهاد: باب دعاء المشركين، وفي سنده خالد بن الفزر الراوي عن أنس، لم يوثقه غير ابن حبان، وبقية رجاله ثقات، وله شواهد تتقوى بها، أفاده الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في " تحقيق جامع الأصول" (2/596)
(170) رواه البخاري (6/104) في الجهاد: باب قتل الصبيان في الحرب، وباب قتل النساء في الحرب، ومسلم رقم (1744) في الجهاد: باب تحريم قتل النساء والصبيان، والموطأ (2/447) في الجهاد، والترمذي رقم (1569) في الجهاد، وأبو داود رقم (1668) في الجهاد، والدارمي في "سننه" (2/223) في السير، وابن ماجه رقم (2841) في الجهاد: باب الغارة والبيات وقتل النساء، والإمام أحمد (2/22، 23) .(2/90)
وعن رباح بن الربيع رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا، فقال: " انظر علام اجتمع هؤلاء؟! "، فجاء، فقال: "على امرأةٍ قتيل، فقال: ما كانت هذه لِتُقاتِلَ" قال: وعلي المقدمة خالد بن الوليد، قال: فبعث رجلًا، فقال: "قل لخالد: لا تَقتُلَن امرأةً ولا عسيفًا (171) ") (172) .
ورُوي عن عبد الرحمن بن كعب أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قتلوا ابن أبي الحُقَيق عن قتل النساء والولدان، قال: فكان رجل منهم يقول: " بَرحَتْ بنا امرأةُ ابنِ أبي الحُقَيقِ بالصياح، فأرفع السيفَ عليها، ثم أذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأكُف، ولولا ذلك لاسترحنا منها ") (173) .
معاملة الحائض في السنة الشريفة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كنت أشرب من الإناء وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فِي " وفي رواية أبي داود والنسائي قالت: " كنت أتعرقُ العَرْقَ (174) وأنا حائض، فأعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع فَمَهُ في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وكنت
__________
(171) العسيف: الأجير.
(172) أخرجه أبو داود رقم (2669) في الجهاد: باب في قتل النساء، والطحاوي 2/127) ، والحاكم (2/ 122) ، والإمام أحمد (3/488) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الإرواء، (5/35) .
(173) رواه الإمام مالك في "الموطأ" ص (277) في الجهاد: باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، وقال الحافظ ابن عبد البر: " اتفق رواة الموطأ على إرساله" اهـ، وانظر " فتح الباري" (7/344) ط. السلفية.
(174) العَرْق: العظم عليه بقية اللحم، وتعرقَه: إذا أكل ذلك اللحم الباقي عليه.(2/91)
أشرب من القَدَح فأناوله إياه، فيضع فَمه في الموضع الذي كنت أشرب ".
وفي رواية للنسائي عن شُريح بن هانئ أنه سألها: " هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟ " (175) ، قالت: " نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني، فآكل معه، وأنا عارِك (176) ، وكان يأخذُ العَرْقَ، فَيُقْسِمُ عَلَي فيه، فآخذُه فأتعَرَّقُ منه، ويضع فمَه حيث وضعت فمي من العَرْق، ويدعو بالشراب، فيقسم عَلَيَّ فيه، قبل أن يشرب منه، فآخذه فأشرب منه، ثم أضعه، فيأخذه فيشرب منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من القَدَح " (177) .
وعن عبد الله بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مؤاكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها " (178) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخْرِجُ إليَّ رأسَه من المسجد، وهو مجاور- أي معتكف- فأغسله وأنا حائض" (179) .
وعنها رضي الله عنها قالت: " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حَجْرِي
__________
(175) طامث: حائض.
(176) عارك: عَرَكَت المرأة تَعْرُك فهي عارِك: إذا حاضت.
(177) رواه مسلم رقم (300) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وأبو داود رقم (259) في الطهارة: باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها، والنسائي (1/148) في الطهارة: باب مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها.
(178) أخرجه الترمذي رقم (133) في الطهارة: باب ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها، وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها، وأنس رضي الله عنه، وقال الترمذي " حديث عبد الله بن سعد حديث حسن غريب، وهو قول عامة أهل العلم، لم يروا بمؤاكلة الحائض بأساً ".
(179) رواه بهذا اللفظ مسلم رقم (297) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله.(2/92)
وأنا حائض، فيقرأ القرآن " (180) .
وعنها رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الخُمرة (181) من المسجد، (182) ، قالت: قلت: (إني حائض"، قال: "إن حِيْضَتَك ليست في يدك") .
كرامة المرأة المسلمة
لئن قرن الإسلام بين الرجل والمرأة في عامة المواطن، لقد عرف لها نصيبها من رقة القلب، ودقة الوجدان، وأنها مناط شرف الرجل، وموطن عرضه، فاختصها بنصيب وافر من الحرمة والكرامة.
إن كرامة المرأة في الإسلام تتناول شخصها وسيرتها، وتشمل مشهدها ومغيبها، فمن حقها أن تكون هي في موطن الرعاية والعناية، وأن
__________
(180) رواه البخاري (1/342، 343) في الحيض: باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، وفي التوحيد، ومسلم (3/211- نووي) في الحيض: باب جواز قراءة القرآن في حَجر الحائض، وأبو داود رقم (260) في الطهارة: باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها، والنسائي (1/191) في الحيض: باب الرجل يقرأ القرآن، ورأسه في حجر امرأته وهي حائض.
(181) الخمرة: حصير صغير مضفور من ليف أو غيره بقدر الكف.
(182) (قال القاضي عياض رضي الله عنه: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك من المسجد، أي وهو في المسجد، لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرجها له من المسجد لأنه صلى الله عليه وسلم كان في المسجد معتكفا، وكانت عائشة رضي الله عنها في حجرتها وهي حائض لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن حيضتك ليست في يدك"، فإنما خافت من إدخال يدها المسجد، ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى والله أعلم) اهـ نقلا من " شرح النووي، (3/210) ، والحديث رواه مسلم رقم (298) ، وأبو داود رقم (261) ، والترمذي رقم (134) ، والنسائي (1/192) .(2/93)
يكون اسمها بمنجاة من لغو القول، ومنال اللسان. لقد كانت المرأة المسلمة تجير الخائف، وتفك العاني، وذلك كله إلى تجلة واحترام، بلغت منهما غايتهما.
فقد أجارت أم هانئ بنت أبي طالب رجلين من أحمائها كتب عليهما القتل، وذلك مجمل حديثها في سبيل ذلك، قالت رضي الله عنها: (ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فسلمت عليه، فقال: " من هذه؟ "، فقلت: "أنا أم هانئ بنت أبي طالب "، فقال: "مرحبا بأم هانئ"، فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: " يا رسول الله، زعم ابنُ أمي عَلي: أنه قاتل رجلًا فد أجَرْتُه (183) - فلان بن هُبيرة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: " وذلك ضحى") .
وفي رواية الترمذي: (أن أم هانئ قالت: أجرتُ رجلين من أحمائي (184) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد آمنا من آمنت") .
وفي رواية أبي داود: (أنها أجارت رجلًا من المشركين يومَ الفتح، فأتتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: (قد أجرنا من أجرت، وآمنا من آمنت") (185) .
__________
(183) أجَرتُ الرجل: منعت من يريده بسوء، وآمنته شره وأذاه.
(184) حمو المرأة، وحموها، وحماها: أبو زوجها، ومن كان من قِبلِه.
(185) رواه البخاري (1/331) في الغسل: باب التستر في الغسل عند الناس، وفي الصلاة، وفي الجهاد: باب أمان النساء وجوارهن، وفي الأدب، ومسلم رقم (336) في الحيض: باب تستر المغتسل بثوب ونحوه، وفي صلاة المسافرين وقصرها، و"الموطأ" (1/152) في قصر الصلاة: باب صلاة الضحى، والترمذي رقم (2735) في الاستئذان، وأبو داود رقم (1290) في الصلاة: باب صلاة =(2/94)
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كانت المرأة لتجِيرُ على المسلمين، فيجوز" (186) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المرأة لتأخذ على القوم، يعنى تُجِير على المسلمين " (187) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم (188) ، وهم يد على مَن سواهم، (189) الحديث.
ولما أسر المسلمون أبا العاص بن الربيع، وغنموا ماله فيما أسروا وغنموا وكان زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الإسلام فرق بينهما، استجار أبو العاص بزينب رضي الله عنها فوعدته خيرًا، وانتظرت حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر بالمسلمين، ثم وقفت على بابها- في المسجد - فنادت بأعلى صوتها: "إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس هل سمعتم ما سمعت"؟ قالوا: "نعم"، قال: "فوالذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت الذي
__________
= الضحى ورقم (2763) في الجهاد: باب في أمان المرأة، والنسائي (1/126) في الطهارة: باب ذكر الاستتار عند الاغتسال، وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/339) في الصلاة: باب الضحى، والإمام أحمد (6/343، 423، 425) .
(186) رواه أبو داود رقم (2764) في الجهاد: باب في أمان المرأة.
(187) أخرجه الترمذي رقم (1579) في السير: باب ما جاء في أمان العبد والمرأة، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في "المشكاة، رقم (3978) .
(188) "يجير عليهم أقصاهم" يعني أن أبعد المسلمين دارًا يجير عليهم، ويمنعهم ممن يريدونه إِذا كان قد أعطاه بذلك عهدا، وقيل: هو إذا وَجه الإمام سرية فأجازوا أحدًا أمضاه.
(189) رواه أبو داود رقم (4531) في الديات: باب إيقاد المسلم بالكافر، وابن ماجه رقم (2683) ، وصححه الألباني في" صحيح ابن ماجه" رقم (2172) .(2/95)
سمعتم، المؤمنون يَد على من سواهم، يجير علَيهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت " (190) ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخِذَ منه ففعل (191) .
أما كرامة سيرتها، وصيانة اسمها، فذلك ما لا نحسب شريعة من الشرائع حاطتهما بمثل حياطة الإسلام لهما، وحسبك أن الله سبحانه وتعالى اشتد في كتابه الكريم على قاذفي النساء في أعراضهن بأشد مما اشتد على القتلة وقطاع الطريق، فقد قال الله سبحانه في سورة النور: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) النور (4) .
فجعل سبحانه للقاذف عقوبة ثمانين جلدة، ثم دعم هذه العقوبة بأخرى أشد وأخزى وهي اتهامه أبد الدهر في ذمته، واطراح شهادته، فلا تقبل له شهادة أبدا، ثم وَسَمه بعد ذلك بسمة هي شر الثلاثة جميعا، وهي سمة الفسق، ووصمة الفجور.
لم يكن كل ذلك عقاب أولئك الأثمة الجناة، فقد عاود الله أمرهم بعد ذلك بما هو أشد وأهول من تمزيق ألسنتهم فقال: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) النور (23) وإن في حديث الإفك، وما أفاض الله في شأنه لموعظة وذكرى لقوم يعقلون.
__________
(190) "السيرة" لابن هشام (1/653 - 659) ، والحاكم (3/236 - 237) .
(191) وقد عاد أبو العاص بحد ذلك إلى مكة، فأدى الحقوق إلى أهلها، ثم آب إلى المدينة مسلما، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه رضي الله عنها، وانظر: " سير أعلام النبلاء" (1/ 332 - 334) ، "الإصابة" (7/248) .(2/96)
الوحي ينتصر للمرأة
كان الوحي ربما ينزل إنصافًا للمرأة، وانتصارًا لحقها، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا في الجاهلية لا نعدُّ النساء شيئًا، فلما جاء الإسلام وذكَرَهُن الله رأينا لهن- بذلك- علينا حَقا) (192) إلخ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نتقي الكلام والانبساط إِلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبةَ أن ينزل فينا شيء، فلما تُوُفّيَ تكلمنا، وانبسطنا) (193) .
وتأمل كيف انتصر الوحي لتلك المرأة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفلت كتب السنة بالروايات التي تفصل قصتها مع زوجها أوس ابن الصامت رضي الله عنه، تقول خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها: (فِيَّ والله، وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة) ، قالت: (كنت عنده، وكان شيخا كبيرًا قد ساء خُلُقه، قالت: فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء، فغضب، فقال: "أنت عَلَي كظهر أمي"، فقالت: "والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليَّ، وقد قلتَ ما قلتَ، حتى يحكم فينا الله ورسولُه بحكمه"، فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل صدر السورة، ثم بين لها النبي صلى الله عليه وسلم حكم الظهار، وهو: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا (194) .
__________
(192) رواه البخاري (10/301- فتح) ط. السلفية.
(193) رواه البخاري (9/253- فتح) ط. السلفية، والذي كانوا يتركونه كان من المباح، لكن الذي دخل تحت البراءة الأصلية، فكانوا يخافون أن ينزل في ذلك منع أو تحريم، وبعد الوفاة النبوية أمنوا ذلك، ففعلوه تمسكا بالبراءة الأصلية.
(194) عزاه في " الدر المنثور، إلى الإمام أحمد (6/ 410) وأبي داود، وابن المنذر، =(2/97)
وفي رواية ابن أبي حاتم عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علىَّ بعضُه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: (يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك "، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (المجادلة: 1) (519) لقد نزل الوحي مؤيداً تلك المرأة الصالحة، وأعلى ذكرها حتى صار قرآنا يتلى في المحاريب.
(عن ابن زيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها " خولة" وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها، وانصرفت، فقال له رجل: "يا أمير المؤمنين حبستَ رجالَ قريش على هذه العجوز؟ "، قال: "ويحك! وتدري من هذه؟ " قال: "لا"، قال:
"هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل، ما انصرفت حتى تقضي حاجتها ") (196) .
__________
= والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام (6/179) .
(195) رواه البخاري (13/316) في التوحيد: باب قول الله تعالى: (وكان الله سميعا بصيرا) تعليقًا، ووصله النسائي (6/168) في النكاح: باب الظهار، وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/46) وصححه الحاكم في "المستدرك" (2/ 481) ، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن ماجه رقم (2063) من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها.
(196) عزاه في " الدر المنثور، إلى ابن أبي حاتم، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (6/179) .(2/98)
(وعن ثمامة بن حزن قال: بينما عمر بن الخطاب يسير على حماره، لقيته امرأة، فقالت: " قف يا عمر"، فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل: " يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم"، فقال: "وما يمنعني أن أستمع إليها، وهي التي استمع الله لها، وأنزل فيها ما أنزل: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) الآية (197) .
وفي بعض الروايات أنه رضي الله عنه مر بها في خلافته، والناس معه، على حمار، فاستوقفته طويلًا، ووعظته، وقالت: " يا عمر: قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب"، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: " يا أمير المؤمنين"، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ ! ، قال: (والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لازلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها، ولا يسمعه عمر؟!) .
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء
وكانت في رجال قريش صرامة على نسائهم، ومنهم من كان يعمد إليهن بالأذى، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ضرب في حياته امرأة ولا خادمَا- وهو الذي يقول: (اتقوا الله في النساء) (198) و (استوصوا بالنساء خيرًا) (199) ويقول: "إني أحَرِّج عليكم حَق الضعيفين: اليتيم، والمرأة " (200) ، وكان
__________
(197) عزاه في " الدر المنثور " إلى البخاري في " تاريخه"، وابن مردويه (6/179) .
(198) انظر تخريجه بهامش رقم (240) .
(199) انظر تخريجه بهامش رقم (243) .
(200) انظر تخريجه بهامش رقم (938) .(2/99)
كأغضب ما يكون إذا سمع بامرأة يضربها زوجها:
فعن عبد الله بن زمعة قال: وعظ النبي صلى الله عليه وسلم في النساء فقال: "يضربُ أحدكم امرأته ضرب العبدِ، ثم يعانقها آخر النهار؟ " (201) .
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنْتَهَكَ شيء من محارم الله، فينتقم " (202) .
وعن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا إماء الله"، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ذَئِرْنَ (203) النساء على أزواجهن"، فرخص في ضربهن،
__________
(201) أخرجه البخاري (8/542) في تفسير سورة الشمس، وفي الأنبياء، وفي النكاح: باب ما يكره من ضرب النساء، وفي الأدب، ومسلم رقم (2855) في الجنة وصفة نعيمها، والترمذي رقم (3340) في التفسير: باب "ومن سورة الشمس، والدارمي (2/147) .
رواه مسلم رقم (2327) في الفضائل: باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، وأبو داود رقم (4786) في الأدب: باب التجاوز في الأمر، والدارمي (2/147) بنحوه مختصرا.
ذئرن النساء: من باب: " أكلوني البراغيث" على لغة بني الحارث، ومن باب قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا) ، اجترأن ونشزن، ويقال الذائر: المغتاظ على خصمه، المستعد للشر، قال محيي السنة البغوي عليه الرحمة: (وفي الحديث دليل على أن ضرب النساء في منع حقوق النكاح مباح، ثم وجه ترتيب السنة على الكتاب في الضرب يحتمل أن يكون نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضربهن قبل نزول الآية، ثم لما ذئر النساء، أذن في ضربهن، ونزل القرآن موافقا له، ثم لما بالغوا في الضرب، أخبر أن الضرب- وإن كان مباحًا على شكاسة أخلاقهن- فالتحمل والصبر على سوء أخلاقهن وترك الضرب أفضل وأجمل، ويُحكى عن الشافعي هذا المعنى) اهـ من " شرح السنة" (9/187) ، وانظر " فضل الله الصمد (1/81 - 83) ، =(2/100)
فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير، يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم) (204) ، وعن بهز بن حكيم حدثني أبي عن جدي قال: (قلت يا رسول الله نساؤنا ما نأتي منهن وما نذر؟ قال: ائت حرثك أنى شئت (205) ، وأطعمها إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تُقَبح الوجه، ولا تضرب) (206) وفي رواية بزيادة: " ولا تهجر إلا في البيت".
ولم يقف الإسلام من كرامة المرأة ورعايتها موقف المكتفي بكف الأذى عنها فحسب، بل كان مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفيهها والحرص على سرورها، واجتلاب ما يفرحها، ويشرح صدرها في حدود ما أباحه الله وفي غير معصية
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتيني صواحبي، قالت: فكن ينقمعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
= وانظر ص (454 -470) من هذا القسم.
(204) رواه الإمام الشافعي (2/ 361، 362) ، وأبو داود رقم (2146) في النكاح: باب في ضرب النساء، وابن ماجه رقم (1985) في النكاح: باب ضرب النساء، والدارمي (2/147) في النكاح: باب في النهي عن ضرب النساء، وابن حبان رقم (1316) في النكاح: باب ضرب النساء (319 - 320) موارد، والحاكم في "المستدرك" (2/188) ، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" وأقره الذهبي، وإياس مختلف في صحبته، انظر: " الإصابة" (1/165) ، وللحديث شاهد عند ابن حبان (1315 - موارد) من حديث ابن عباس، وآخر مرسل عند البيهقي (7/304) من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر، والحديث صححه الألباني في " صحيح الجامع" رقم (7237) .
(205) انظر آداب الزفاف للألباني ص (99 - 106) ، و" أضواء البيان، للشنقيطي (1/124-128) .
(206) انظر تخريجه هامش رقم (737) .(2/101)
قال أنس: ينقمعن (207) يفرِرْنَ، قالت: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسَربُهُنَّ إليَّ، فيلعبن معي) (208) .
(وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سَهْوَتها (209) سِتر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لُعَب، فقال: " ما هذا يا عائشة؟ "، قالت: " بناتي"، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: " ما هذا الذي أرى وسطهن؟ " قالت: " فرس"، قال: (وما هذا الذي عليه؟ " قالت: " جناحان"، قال: " فرس له جناحان؟!) قالت: " أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ " قالت: " فضحك حتى رأيت نواجذه" (210) .
وعنها رضي الله عنها قالت: "والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقُوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم، بين أذنه وعاتقه، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن (211) ، الحريصة
__________
(207) أي يتغيبن، والانقماع: الدخول في بيت أو ستر، والمراد: يستترن حياء منه صلى الله عليه وسلم.
(208) رواه البخاري (10/437) في الأدب: باب الانبساط إلى الناس، ومسلم رقم (2440) في فضائل الصحابة: باب في فضل عائشة رضي الله عنها، وأبو داود رقم (4931) بلفظ: (كنت ألعب بالبنات، فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي الجواري، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن) .
(209) السهوة: صُفة صغيرة قدام البيت كالمخدع، وقيل: بيت صغير منحدر قليلا إلى الأرض.
(210) رواه أبو داود رقم (4932) في الأدب: باب في اللعب بالبنات، وزاد الألباني عزوه إلى (النسائي في " عشرة النساء، (75/1) ، بسند صحيح، وابن عدى (182/1) مختصرا) اهـ. من " آداب الزفاف" ص (276) .
(211) أي قيسوا قياس أمرها، وأنها مع حداثتها، وشهوتها النظر وحرصها عليه، كيف مسها التعب والإعياء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمسه شيء من ذلك حفظا لقلبها.(2/102)
على اللهو" (212) .
وقد دخل صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها يوم عيد فوجد عندها فتاتين تنشدان أشعارًا حربية، ولما لم يكن إلا بيت واحد فقد استلقى على فراشه، وولى ظهره إليهن، ولما دخل أبو بكر رضي الله عنه وسمع الصوت بالشعر عَنف ابنته فقال له صلى الله عليه وسلم: " دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا " (213) .
اللهو المباح في العرس
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها زَفت امرأةً إلى رجل من الأنصار، فقال نبى الله صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو " (214) .
وعن محمد بن حاطب الجمَحي رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فصل ما بين الحلال والحرام: الصوت بالدف " (215)
__________
(212) انظر تخريجه برقم (1024) .
(213) أصل الحديث رواه البخاري (2/366-370) في العيدين، والجهاد، وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النكاح: باب حسن المعاشرة مع الأهل، ومسلم رقم (892) في العيدين: باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، والنسائي (3/ 195-197) في العيدين، وباب الرخصة في الاستماع إلى الغناء وضرب الدف يوم العيد.
(214) رواه البخاري (9/ 225) ط. السلفية في النكاح: باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها، والحاكم (2/184) ، وعنه البيهقي (7/288) .
(215) رواه الترمذي رقم (1088) في النكاح: باب ما جاء في إعلان النكاح، وحسنه، والنسائي (6/128، 127) في النكاح: باب إعلان النكاح بالصوت وضرب
الدف، وابن ماجه (1896) ، والحاكم (2/184) وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (7/289) ، والإمام أحمد (3/418) ، (4/259) ، وقد حسنه الألباني في تحقيق =(2/103)
وفي: رواية: " الدف، والصوت ".
وذلك لأن به يتم إعلان النكاح.
ويروَى عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: " أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف (216) .
وعن عامر بن سعد رضي الله عنهما قال: (دخلت على قَرَظَة بن كعب واًبي مسعود الأنصاري في عُرْس، وإذا جوالي يغنين، فقلت: " أيْ صاحِبَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلَ بدر، يُفعَل هذا عندكم؟ "، فقالا: " اجلس إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رُخصَ لنا في اللهو عند العرس ") (217) .
__________
= المشكاة، (2/943) .
(216) رواه الترمذي رقم (1089) في النكاح: باب ما جاء في إعلان النكاح، والبيهقي (7/290) ، وقال الترمذي: (حديث غريب حسن، وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث) اهـ. وقال الحافظ في " الفتح": " وسنده ضعيف"، ثم قال رحمه الله: (واستدِل بقوله: "اضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء، لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهى عن التشبه بهن) اهـ. من "فتح الباري" ط. السلفية (9/226) ، وتقدمه إليه الحليمي حيث خص حله بالنساء والحديث ضعفه أيضًا: ابن الجوزي، والزيلعي؟ في فيض القدير (2/ 11) .
وقال الألباني: (وأما تحسين الترمذي للحديث فإنما هو باعتبار الفقرة الأولى منه، فإن له شاهدًا من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا، والترمذي إنما أورده في باب " ما جاء في إعلان النكاح" وأما الجملة التي بعدها فإني لم أجد لها شاهدا فهي لذلك منكرة) اهـ من: " سلسلة الأحاديث الضعيفة" (2/410) حديث رقم (978) .
واعلم أنه بفرض صحة الحديث فإنه ينبغي أن يصان المسجد عن أن يضرب فيه بالدف، لكن يكون ذلك خارجه ويكون المأمور بجعله فيه هو مجرد العقد فحسب- أفاده بمعناه المناوي في " الفيض، (2/11) .
(217) رواه النسائي (6/ 135) في النكاح: باب اللهو والغناء عند العرس، وسكت عليه =(2/104)
تنبيه: مما ينبغي أن يعلم أن هذا اللهو المباح إنما هو صوت الدف - وهو ما لا جلاجل له -، أو إِنشاد الجواري الصغار بأشعار مباحة، بخلاف الكلام المحظور، وغناء الفاجرات، والمعازف الإبليسية التي فتن بها أهل زماننا، نسأل الله العافية.
حياته صلى الله عليه وسلم مع نسائه، وإحسانه إليهن
أما حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بين نسائه فقَد كانت المثل الأعلى في الموادة، والموادعة، والمواتاة، وترك الكلفة، وبذل المعونة، واجتناب هُجْر الكلام ومُرِّه، وهو الذي يقول: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " (218) .
عن الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها: "ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في أهله؟ "، فقالت: " كان يكون في مهنة (219) أهله، فإذا
__________
= الحافظ في "الفتح" (9/226) ط. السلفية ورواه الحاكم (2/184) ، وزاد: " وفي البكاء عند المصيبة " قال شريك: أراه قال: " في غير نوح"، وفي رواية عن ثابت بن وديعة، وقرظة بن كعب: " إنه رخص في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نياحة، قال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (184/2) .
(218) رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (3/211) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وروى الشطر الأول منه الحاكم (4/173) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو نعيم في (الحلية، (7/138) ، والترمذي رقم (3892) في المناقب: باب في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح"، وزاد في روايته: " وإذا مات صاحبكم فدعوه" أي: اتركوا ذكر مساوئه، ورواه بهذه الزيادة الدارمي (2/159) بدون قوله: " وأنا خيركم لأهلي"، وانظر: " المسند، للإمام أحمد (2/250، 472) .
(219) المِهنَة: بكسر الميم وفتحها الخدمة، والمراد أنه كان يعاونهن، ويعمل معهن.(2/105)
حضرت الصلاة قام إلى الصلاة" (220) .
وعن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها: " ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ "، قالت: " يخصف (221) نعله، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته " (222) .
وعنه أيضا أنها قالت: " ما يصنع أحدكم في بيته: يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخيط) (223) .
وعن عمرة قالت: (قيل لعائشة: " ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟، قالت: " كان بَشَرا من البَشَر؟ يفْلِي ثوبه، ويَحلُبُ شاتَه، ويَخدِم نفسه") (224) .
وعنها رضي الله عنها أنها سئلت: " ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ "، قالت: " كما يصنع أحدكم؛ يشيل هذا، ويحط هذا،
__________
(220) أخرجه البخاري في " صحيحه، في صلاة الجماعة، والنفقات، والأدب (10/461) ، ط. السلفية، وفي " الأدب المفرد، رقم (538) بلفظ "خرج"، بدل: " قام، والترمذي في " الزهد".
(221) يخصف نعله: يخرزها.
(222) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم (539) ، والإمام أحمد (6/121) بنحوه.
(223) رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم (540) ، وصححه ابن حبان، والإمام أحمد بنحوه (6/ 260) .
(رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم (541) بدون قولها (ويخدم نفسه، وعنه بهذه الزيادة الترمذي في " الشمائل، رقم (293) ، والبغوي في " شرح السنة" (3676) ، ورواه عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها الإمام أحمد (6/256) ، وابن حبان في صحيحه، (2136) ، وأبو نعيم في (الحلية، (1/331) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (671) ، وروى ابن سعد عنها رضي الله عنها: " كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلًا من رجالكم، إلا أنه كان بساما، كذا في (فتح الباري " (10/461) ط. السلفية.(2/106)
ويخدم في مهنة أهله "، وفي رواية: " كان صلى الله عليه وسلم يخدم في مهنة أهله، ويقطع لهم اللحم، ويقمُّ البيت، ويعين الخادم في خدمته، (225) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف قط (226) ، وما قال لي لشيء صنعته: " لم صنعته؟ "، ولا لشيء تركته: " لم تركته؟ "؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقاً (227) الحديث.
وكان صلى الله عليه وسلم من التبسط ورفع الكلفة إلى حَدِّ أن يستبق هو وامرأته كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهي جارية، قالت: " لم أحمل اللحم، ولم أبدِن (228) ، فقال لأصحابه: "تقدموا"، فتقدموا، ثم قال: " تعالي أسابقك"، فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعدُ، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: "تقدموا"، ثم قال " تعالي أسابقك"، ونسيت الذي كان، وقد حَمَلْتُ اللحم، وبدنت، فقلت: " كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه
__________
(225) " السمط الثمين، ص (12) .
(226) أف: اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، وأتوجع، وهي كلمة تبرم وملال، تقال لكل ما يتضجر منه.
(227) رواه البخاري في " الأدب" والوصايا، و"الديات" وسلم رقم (4774) ، والترمذي رقم (2016) ، وفي "الشمائل " رقم (296) ، وأبو داود والدارمي (1/ 31) ، والبغوي رقم (2664) .
واعلم أن هذا التسامح منه صلى الله عليه وسلم إنما فيما يتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها، لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(228) بَدُنَ وبَدَّن: بالتشديد بمعنى كبر وأسن، وبالتخفيف من البدانة، وهي كثرة اللحم والسمنة، وهذا المعنى هو الأليق بالسياق، انظر النهاية (1/107) .(2/107)
الحال؟ "، فقال: " لتفعلن"، فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك، وقال: " هذه بتلك السبقة ") (229) .
وعن عمر رضي الله عنه قال: (تغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل؟، قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: " قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت (230) الحديث.
وقال أنس رضي الله عنه في حديثه- عن صفية رضي الله عنها: (.. فكان صلى الله عليه وسلم يحوى لها وراءها بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب) (231) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخزيرة قد طبختُها له، فقلت لسودة رضي الله عنها والنبي بيني وبينها: " كلي"،
__________
(229) أخرجه أبو داود (403) ، والإمام أحمد (6/ 264) ، وابن ماجه (1/ 610) مختصرا، وغيرهم، وصححه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء، (2/40) ، وعزاه الألباني أيضا إلى النسائي في (عشرة النساء) (74/2) وصححه، كما في آداب الزفاف" ص (276) ط 1409 هـ.
(230) قطعة من حديث طويل رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما البخاري (8/503) ، في تفسير سورة التحريم: وفي كتاب المظالم: باب الغرفة والعلية، وفي النكاح، واللباس ومسلم رقم (1479) في الطلاق: باب الإيلاء واعتزال النساء، والترمذي رقم (3315) في التفسير: باب ومن سورة التحريم، والنسائي (4/ 137-138) في الصوم: باب كم الشهر؟
(231) رواه البخاري (1/404، 405) في الصلاة: باب ما يذكر في الفخذ، وفي الأذان، وَفي صلاة الخوف، وفي الجهاد، والأنبياء، والمغازي: باب غزوة خيبر، ومسلم رقم (1365) في النكاح: باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وفي المغازي.(2/108)
فأبت، فقلت: " لتأكلين أو لألطِّخنَّ وجهَك"، فأبت، فوضعتُ يدي في الخزيرة فطليت وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فوضع بيده لها: وقال لها: الطخي وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي رواية: (فخفض لها ركبته لتستقيد مني، فتناولَت من الصحفَةِ شيئًا، فَمَسَحَتْ به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك) (232) .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع عائشة رضي الله عنها وهي رافعة صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له، فدخل، فقال: (يا ابنة أم رومان أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، وتناولها أبوها رضي الله عنه (233) (أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، قال: فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها يترضاها (234) : " ألا تَرَينَ أني قد حُلْتُ بين الرجل وبينك؟ "، قال: ثم جاء أبو بكر (235) رضي الله عنه فاستأذن عليه، فوجده يضاحكها، قال: فأذن له، فدخل، فقال أبو بكر: " يا رسول الله أشركاني في سِلمِكُما (236) كما أشركتماني
__________
(232) رواه أبو يعلى الموصلي، "ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن" كذا في " مجمع الزوائد، (4/316) ، وقال الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء" (رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، وأبو يعلى، بإسناد جيد) ، والخزير والخزيرة: لحم تقطع، ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق.
(233) وفي رواية أبي داود: " تناولها ليلطمها" وهو ضرب الخد، وهو منهي عنه، ولعله كان قبل النهي، أو وقع ذلك من أبي بكر رضي الله عنه لغلبة الغضب، أو أراد، ولم يلطم.
(234) أي يلاطفها، ويمازحها، وهذا من كرم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحسن معاشرته لأزواجه.
(235) وجاء عند أبي داود: (قال: فمكث أبو بكر أياما) .
(236) أي صلحكما.(2/109)
في (237) حربكما) (238) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم) (239) الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، (240) وفي رواية: (ألا واستوصوا بالنساء خيرَا، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" (241) الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائكم) (242) .
__________
(237) زاد أبو داود: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، قد فعلنا، قد فعلنا) .
أخرجه الإمام أحمد (4/272) ، وأبو داود رقم (4978) (13/344) من " عون المعبود" في الأدب: باب ما جاء في المزاح، والنسائي في "عشرة النساء" كما في "تحفة الأشراف، (9/28) ، وسكت عنه أبو داود، والمنذري، " ورجاله كلهم ثقات، كما في " بلوغ الأماني، (16/234) .
(239) رواه مسلم رقم (2316) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال.
(240) رواه مسلم في الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، انظر: (شرح النووي" (8/183) .
(241) رواه الترمذي رقم (3087) في تفسير سورة التوبة، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح"، وفي الفتن: باب تحريم الدماء رقم (2610) ، وابن ماجه رقم (1873) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وصححه الإمام ابن القيم في " زاد المعاد، (4/46) .
و"عوانٍ، جمع عانية، وهى مؤنثة العاني، وهو الأسير، شبه النساء بالأسرى عند الرجال، لتحكمهم فيهن، واستيلائهم عليهن، وانظر: (آداب الزفاف" ص (270) .
انظر تخريجه بهامش رقم (300) .(2/110)
وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء، (243) .
وصدق الله العظيم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة (128) .
إبطال عادات الجاهلية في الجنائز
لقد تأثرت المرأة بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم بها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم، وكان أول ما لُقنت المرأة من أدب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الاعتصام بالصبر، إذا دجا الخطب، وجل المصاب، فحال الإسلام بينها وبين ما كانت تعتاده في الجاهلية إذا ذهب الموت بعزيز لها أو كريم من آلها من شق الجيوب، ولطم الوجوه، إلى غير ما ذكرناه سابقَا.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء في المدينة: " على ألا يَنُحْنَ، ولا يخمشن وجهًا، ولا يشققن جيبًا، ولا يدعين ويلًا، ولا ينشرن شعرا، ولا يقلن هجرا " (244) .
طوقت تلك البيعة أعناق المؤمنات جميعا، فأصبحت من أركان دينهن، وعمد إيمانهن، ثم أصغين إلى ما كتب الله للصابرين والصابرات من
__________
(243) رواه البخاري (9/218) في النكاح: باب المداراة مع النساء، وفي الأنبياء، والأدب، والرقاق، ومسلم رقم (1468) في الرضاع: باب الوصية بالنساء، والترمذي رقم (1188) في الطلاق: باب ما جاء في مداراة النساء - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر: " زاد المسلم" (2/140) ، (3/263) .
(244) انظر تخريجه هامش رقم (257) .(2/111)
جليل الأجر وجميل المثوبة، ورأينه خَلة (245) الأنبياء وسنة الصديقين، وآية المقربين، وقرأن قول الله تباركت حكمته: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) وقوله جلت آياته في الصابرين: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة (157) ، وسمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يقول الله: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيه (246) من أهل الدنيا ثم احتسبه (247) إلا الجنة (248) .
وقوله صلى الله عليه وسلم للنساء: "ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار " فقالت امرأة: " واثنين؟ " قال صلى الله عليه وسلم: " واثنين " (249) .
كل ذلك وأشباهه - سمعنه ووعينه، فكان مسلاة نفوسهن، وراحة قلوبهن، وبرد أكبادهن (250) ، ثم جاءت السنة الشريفة بزواجر ومواعظ تبطل ما كان من عادات الجاهلية، وتنقضها من أصلها:
__________
(245) الخلًة: بفتح الخاء، الخصلة، وجمعها: خِلالً.
(246) صفي الإنسان: خليله، وخاصته الذي يصطفيه، ويختاره دون الناس.
(247) احتسبه: أي ادخر أجره عند الله تعالى.
(248) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري (11/207) في الرقاق: باب العمل الذي يبتغى به وجه الله.
(249) رواه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه البخاري (1/175) في العلم: باب هل يجعل للنساء يوما على حدة في العلم، وفي الجنائز: باب فضل من مات له ولد فاحتسب، وفي الاعتصام: باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل، ومسلم رقم (2633) في البر والصلة: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه.
(250) وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر نماذج عملية لامتثال المؤمنات هذه التعاليم في الفصل الخامس من الباب الثالث: " المرأة مؤمنة مجاهدة صابرة،.(2/112)
فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع في أمتي من الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعنُ في الأنساب، والاستسقاءُ بالنجوم، والنياحة"، وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سِربال من قَطِرانٍ، ودِرْع من جَرَب (251) .
والنوح: أمر زائد على البكاء، قال ابن العربي " النوح ما كانت الجاهلية تفعل، كان النساء يقفن متقابلات يصحن، ويحثين التراب على رؤوسهن، ويضربن وجوههن" اهـ نقله الأبي (252) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت " (253) .
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: " أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة ألا ننوح (254) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية (255) .
__________
(251) رواه مسلم رقم (934) في الجنائز: باب التشديد في النياحة.
(252) " إكمال إكمال المعلم " (3/73) .
(253) رواه مسلم رقم (67) في الإيمان: باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة.
(254) رواه البخاري (3/141) في الجنائز: باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر من ذلك، وفي تفسير سورة الممتحنة، وفي الأحكام، ومسلم رقم (936) في الجنائز: باب التشديد في النياحة، والنسائي (7/148، 149) في البيعة: بيعة النساء، وأبو داود رقم (3127) في الجنائز: باب في النوح، والبيهقي (4/62) .
(255) انظر تخريجه بهامش رقم (274) .(2/113)
وعن أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنهما قال: " وَجِعَ أبو موسى وجعًا، فَغشِيَ عليه، ورأسه في حَجْر امرأةٍ من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يَرُدَّ عليها شيئًا، فلما أفاق قال: (أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالِقة، والحالِقة، والشاقة ") (256) .
وعن امرأة من المبايعات قالت:
(كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نَعْصِيَه فيه: أن لا نُخَمّش وجهًا، ولا ندعُوَ ويلًا، ولا نشُق جيبًا، وأن لا ننشر شعرًا " (257) .
(وحكى الأوزاعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت بكاء فدخل ومعه غيره، فمال عليهم ضربًا حتى بلغ النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، فقال: " اضرب فإنها نائحة ولا حرمة لها، إنها لا تبكي لشجوكم، إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم، وإنها تؤذى موتاكم في قبورهم، وأحياكم في دورهم، إنها تنهى عن الصبر، وقد أمر الله به، وتأمر
__________
(256) رواه البخاري تعليقًا (3/132) في الجنائز: باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة، وقد وصله مسلم رقم (104) في الإيمان: باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، وأبو داود رقم (3130) في الجنائز: باب في النوح، والنسائي (4/20) في الجنائز: باب السلق، وباب الحلق.
والصالقة: التي ترفع صوتها، وتصرخ عند المصيبة وَتضج.
والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة.
والشاقة: التي تَشُق ثيابها.
(257) رواه أبو داود رقم (3131) في الجنائز: باب في النوح، ومن طريقه البيهقي (4/64) ، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص (30) .(2/114)
بالجزع، وقد نهى الله عنه) (258) اهـ.
وعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء - حين بايعهنَّ- ألا يَنُحْنَ، فقلن: " يا رسول الله، إن نساء أسْعَدْتَنا في الجاهلية: أفَنُسْعِدُهُن؟ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إسعادَ في الإسلام " (259) .
والإسعاد: إعانة النساء بعضهن بعضا في النياحة بموت الميت.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: " لما مات أبو سلمة قلت: غريب وفي أرض غُرْبة، لأبكينه بكاءً يُتَحَدثُ عنه، فكنتُ قد تهيأتُ للبكاء عليه، إذ أقبلت امرأة من الصعيد تريد أن تُسْعِدَني، فاستقبلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتريدين أن تُدْخلي الشيطان بيتًا أخرجه الله منه؟ "مرتين "، فكففتُ عن البكاء، فلم أبكِ) (260) .
قولها: " غريب وفي أرض غربة ": معناه أنه كان من أهل مكة، ومات بالمدينة.
والمراد بالصعيد هنا: عوالي المدينة، وأصل الصعيد في اللغة وجه الأرض سواء كان عليه تراب أوْ لا.
كراهة الاجتماع للتعزية:
وكان من هدي الإسلام في الجنائز أن كره الاجتماع للتعزية في مكان
__________
(258)) الزواجر، للهيثمي (1/160) ، وانظر " الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (18/75) .
(259) رواه النسائي (4/16) في الجنائز: باب النياحة على الميت، والإمام أحمد في "المسند" (3/197) ، وصححه ابن حبان رقم (738 - موارد) .
(260) رواه مسلم رقم (922) في الجنائز: باب البكاء على الميت.(2/115)
خاص كالدار أو المقبرة أو المسجد، وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كنا نعد - وفي رواية: نرى - الاجتماع إلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة" (261) ، قال النووي رحمه الله: " وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف (262) وسائر الأصحاب على كراهته، قالوا: يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية، قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، فمن صادفهم عزاهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها " (263) .
الترخيص في البكاء بغير نوح:
على أن الإسلام قد أباح للناس أن يشتفوا بالدمع، ويستريحوا إلى البكاء، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل ابنًا لابنته زينب قد حُضر، ونفسه تقعقع في صدره، ففاضت عيناه، فقال له سعد بن عبادة رضي الله عنه: " ما هذا يا رسول الله وقد نهيت عن البكاء؟ "، قال: "إنما هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ") (264) .
__________
(261) أخرجه الإمام أحمد رقم (6905) ، وابن ماجه (1/252) ، وصححه النووي في "المجموع" (5/320) ، والبوصيري في "الزوائد" (1/535) ، والشوكاني في " نيل الأوطار، (4/148) ، والشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند " (11/125) .
(262) يعني الإمام أبا إسحاق الشيرازي صاحب " المهذب، رحمه الله.
(263) "المجموع" (5/306) .
(264) رواه البخاري (3/124 -126) في الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه "، وفي المرضى: باب عادة الصبيان، وفي القدر، وفي الإيمان والنذور، وفي التوحيد، ومسلم رقم (923) في الجنائز: باب البكاء على الميت، والنسائي (4/22) في الجنائز: باب الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة.(2/116)
وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أي سيف القَيْن - وكان ظِئرًا (265) لإبراهيم عليه السلام - فأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، فقبَّله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيمُ يجودُ بنفسه، فَجَعَلَتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تَذْرِفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: " وأنتَ يا رسول الله؟ "، فقالَ: (يا ابنَ عوني، إنها رحمة"، ثم أتبعها بأخرى، فقال: " إنَّ العين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول إلا ما يرضِي رَبنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزونون) (266) .
وعن عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله، وبكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه" (267) .
هدي الإسلام في الحداد على الميت:
ولا ينافي الصبر أن تمتنع المرأة من الزينة كلها حدادا على وفاة ولدها أو غيره إذا لم تزد على ثلاثة أيام، إلا على زوجها فتحد أربعة أشهر وعشرا لغير الحامل،: عن حميد بن نافع قال: " أخبرتني زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان ابن حرب، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صُفرَة خَلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مَست بعارضَيها، ثم قالت: (والله ما لى بالطيب من
__________
(265) أي زوج مرضعة إبراهيم عليه السلام.
(266) رواه البخاري (3/139) في الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بك لمحزونون، ومسلم رقم (2315) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه، وأبو داود رقم (3126) في الجنائز: باب في البكاء على الميت.
(267) أخرجه أبو داود رقم (3163) في الجنائز: باب في تقبيل الميت، والترمذي رقم (989) في الجنائز: باب ما جاء في تقبيل الميت، وقال الترمذي: "حديث عائشة حديث حسن صحيح"، وقال: " وفي الباب عن ابن عباس وجابر وعائشة قالوا: =(2/117)
حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على مَيّتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلا على زوجٍ: أربعةَ أشهر وعشرا ") ، قالت زينب: ثم دخلتُ على زينبَ بنتِ جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمسحت منه، ثم قالت: (أما والله، ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، الحديث) (268) .
وإظهارًا لعدم التعرض للزواج، ومراعاة لحق الزوج في الوفاء له أوجب الشرع على الحادة أن تجتنب ما يدعو إلى نكاحها، ويرغب في النظر إليها، ويحسنها، وذلك أربعة أشياء:
أحدها: الطيب (269) ، والثاني: اجتناب الزينة في نفسها كالخضاب والتحمير والحف وما أشبهه مما يُحَسنها كالاكتحال بالإثمد (270) واجتناب زينة الثياب المصبغة للتحسين، وكذا اجتناب الحلي، فيحرم عليها لبس الحلي كله حتى الخاتم في قول عامة أهل العلم.
__________
= إن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت" (3/ 315) ، وأخرجه ابن ماجه رقم (1456) في الجنائز: باب ما جاء في تقبيل الميت.
(268) رواه البخاري (9/427) في الطلاق: باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا، وفي الجنائز، ومسلم رقم (1486) حتى (1489) في الطلاق: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، و" الموطأ" (2/596-598) في الطلاق: باب ما جاء في الإحداد، وأبو داود رقم (2299) في الطلاق: باب إحداد المتوفى عنها زوجها، والترمذي رقم (1195) ، (1196) ، (1197) في الطلاق: باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها، والنسائي (6/201) في الطلاق: باب ترك الزينة للحادة المسلمة دون النصرانية.
(269) إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة أو أظفار.
(270) ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به.(2/118)
والثالث: مما تجتنبه الحادة النقاب (271) ، وما في معناه مثل البرقع ونحوه، وإذا احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه كما تفعل المحرمة.
والرابع: المبيت في غير منزلها- فيجب على الحادة أن تعتد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به، سواء كان مملوكًا لزوجها أو بإجارة أو عارية إِلا لعذر (272) .
تهذيب الإسلام لمشاعر المرأة (273)
عمد الإسلام إلى قلب المرأة، فاستل سخيمته، وأخرج ضغينته، وطهره من غِل الثائر، نزعة الانتقام، وقد كان ذلك من أشد ما يجيش به صدرها، وتهتف به نفسها، ويقذف حممه فمها ولسانها، فاليوم وقد شرع الله القصاص في الدنيا والآخرة، واستنقذ العرب من مفارق الفُرق، ومنازع الفِتن، وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانَا، فقد تبدل الحقد وُدُّا، واستحالت البغضاء ولاء.
وأنى يكون لسخائم النفوس، وتطلب الأوتار، من أثر في صدر المرأة المؤمنة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعين بدعوة الجاهلية، وقال: " ليس منا.. من دعا بدعوى الجاهلية " (274) ، وما دعوة الجاهلية إلا أن يقول
__________
(271) انظر: " الإمداد بأحكام الحداد" للدكتور فيحان بن شالي المطيري ص (96) .
(272) "المغني لابن قدامة (7/518-522) .
(273) مستفاد من "المرأة العربية" (2/82-85) بتصرف يسير.
(274) جزء من حديث أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: " البخاري (3/ 133) في الجنائز باب ليس منا من ضرب الحدود، وفي الأنبياء: باب ما ينهى من دعوى الجاهلية ومسلم رقم (103) في الإيمان: باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، والترمذي رقم (999) في الجنائز باب ما =(2/119)
الرجل أو المرأة، " يا لَفلان"، فتعقد الألوية، وتجاش الجيوش، وتنتضي السيوف، وتخاض الدماء، إن ظالمًا وإن مظلومًا.
وهل طوى قلب على أشد وأهول مما طوى عليه قلب هند ابنة عتبة، من سموم الموجدة، ونيران العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل بيته؟ فهم الذين قتلوا آلها يوم بدر، واستقادوا زوجها يوم زحفهم على مكة، وهي التي أهدر نبي الله صلى الله عليه وسلم دمها يوم فتح مكة جزاء تمثيلها بجثمان عمه حمزة يوم أحد، وكانت بقرت بطنه بعد مصرعه، وأخرجت كبده، فلاكتها، ثم لفظتها، وتلك شر نزعات الجاهلية، رُوي أن هندًا جاءت تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى مقنعة، فقالت: "يا رسول الله الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتنفعني رَحِمُك، يا محمد أني امرأة مؤمنة بالله، مصدقة برسوله " (527) ، ثم كشفت عن نقابها، فقالت: " أنا هند بنت عتبة"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بك"، فقالت: "والله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إليَّ من أن يذلوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحب إليَّ من أن يعزوا من خبائك) (276) .
ففي سبيل الله، وفي سبيل دينه، ما غسل الدم، وزالت الوحشة، وأتلفت نوافر القلوب.
وكما أن الله طهَّر نفس المرأة من الحقد، وأبرأ قلبها من قرحة الغل، كذلك حسر عن عقلها حجاب الجهل، ونزع عن إدراكها غشاء الأباطيل، فلم تخضع لعقيدة فاسدة، ولم ترضخ لوهم مُمَوَّه، وعلمت أن الله قد أسدل
__________
= جاء في النهي عن ضرب الخدود، وشق الجيوب عند المصيبة، والنسائي (4/20) في الجنائز: باب ضرب الخدود.
(275) وروي أنها لما أسلمت، جعلت تضرب صنمًا لها في بيتها بالقدوم حتى فَلَذَتهُ فلذة فلذة، وتقول: " كنا معك في غرور، من "الإصابة" (8/156) .
(276) "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 171-172) .(2/120)
حجب الغيب دون أوليائه وأصفيائه، فلم تطلبه، أو تحاول كشفه، فطويت بذلك صحف الكهان والعرافين، وزواجر الطير، وطوارق الحصى، وأمثال كل أولائك من كل ذي لغو مموه، وظن مُرَجم، وضلالة باطلة (277) ، وتبينت أن الأمر كله بيد الله، وأنه وحده مقلب القلوب، ومُحَول الحالات، فلم تحتل على الحب واللقاء، والبرء والشفاء، ومدِّ حبل العُمُر، ورد سهم القدر بتعليق الخرزات والاستقاء بمائها، ولا بقول الرُّقى الشركية وعقد التمائم فلم يكن مفزعها في الأمر كله إلا رجاء طيب في الله وحده، ودعاءٌ صالح يزلفها لديه سبحانه، وبطل ما كانت تعتقد في المعاني التى ألبسها الخيال لَبوسًا من الأشباح المترائية، والخيالات الخرافية، كل كل أولائك محاه الدين، ومحقه العلم الصحيح، وبدد ظلماتِه نُور التوحيد، وهاك طائفة من الآثار في ذلك:
عن قيس بن السكن الأسدي قال: دخل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه على امرأته، فرأى عليها حرزًا من الحُمرَةِ، فقطعة قطعا عنيفا، ثم قال: " إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء"، وقال: كان مما حفظنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إِن الرقى، والتمائم، والتولة شرك " (278) .
__________
(277) انظر: " معارج القبول" (1/338-343) ، (1/375 - 385) .
(278) أخرجه الحاكم (4/217) ، وقال: " صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، ثم الألباني في "الصحيحة" رقم (331) ، وروى المرفوع منه أبو داود رقم (3883) ، وابن ماجه رقم (3530) ، وابن حبان (1412) ، والإمام أحمد (1/381) ، والرقى: هنا غير الشرعية، وهى ما كان فيه الاستعاذة بالجن، أو كانت مما لا يفهم معناها، والتمائم: جمع تميمة، أصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد لدفع العين، ثم توسعوا فيها، فسموا بها كل عوذة، ومثله: تعليق نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان، أو تعليق بعض السائقين نعلًا في مقدمة السيارة أو مؤخرتها، أو الخزر الأزرق على مرآة السيارة لدفع العين زعموا.
والتولة: بكسر التاء وفتح الواو: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره.(2/121)
وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة، وأمسك عن واحد، فقالوا: " يا رسول الله بايعت تسعة، وتركت هذا؟ "، قال: (إن عليه تميمة "، فأدخل يده، فقطعها، فبايعه، وقال: " من علَّق تميمة فقد أشرك) (279) .
ويروى عنه رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع (528) الله له " (281) .
وعن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: " أن لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت" (282) .
وعن رويفع رضي الله عنه قال: قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا بريء منه) (283) .
__________
(279) أخرجه الإمام أحمد (4/156) ، ومن طريق آخر الحاكم (4/219) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (492) .
(280) أي: لا جعله في دعة وسكون، ولا خفف الله عنه ما يخافه، وهذا دعاء أو خبر.
(281) أخرجه الحاكم (4/417، 216) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وفيه جهالة خالد بن عبيد المَعَافري، وقال المنذري (4/157) : " رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد، والحاكم، وقال: (صحيح الإسناد" اهـ.، وضعفه الألباني في (الضعيفة، رقم (1266) .
(282) رواه البخاري (6/98، 99) الجهاد: باب ما قيل في الجرس، ومسلم رقم (2115) في اللباس: باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير، والموطأ في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: باب ما جاء في نزع المعاليق، وأبو داود رقم (2252) في الجهاد: باب في تقليد الخيل بالأوتار.
(283) رواه أبو داود رقم (36) في الطهارة: باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، والنسائي (8/135) في الزينة: باب عقد اللحية، والإمام أحمد (4/108، 109) ، وصححه(2/122)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:
"من أتى عرافًا أو كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" (384) صلى الله عليه وسلم.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما مرفوعًا:
"ليس منا من تطيَّر أو تطير له، أو تكهن أو تُكُهنَ له، أو سحر أو سُحِر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" (285) صلى الله عليه وسلم.
وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا، فسأله عن شيء، فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " (286) .
__________
= الألباني في " المشكاة" رقم (351) .
(284) رواه الإمام أحمد (2/408، 429) ، والحاكم (1/8) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الحاكم، " على شرطهما".
(وقال الحافظ العراقي في أماليه: " حديث صحيح، ورواه عنه البيهقي في السنن، وقال الذهبي: "إسناده قوي") اهـ. من " فيض القدير، (6/23) .
(285) (رواه الطبراني، وكذا البزار، قال المنذري: " إسناد الطبراني حسن وإسناد البزار جيد، وقال الهيثمي: " فيه إسحاق بن ربيع العطار، وثقه أبو حاتم، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات، ورواه في الأوسط عن ابن عباس، ورمز السيوطي لحسنه) اهـ. " فيض القدير " (5/385) .
(286) رواه مسلم رقم (2230) في السلام: باب تحريم الكهانة، وإتيان الكهان، والإمام أحمد (4/68) ، (5/0 38) .(2/123)
[فصل]
دحض بدعة المساواة المطلقة
بين الرجل والمرأة
(وليس الذكر كالأنثى)
(آل عمران: 36)
بعد أن أعلن الإسلام موقفه الصريح من إنسانية المرأة وأهليتها وكرامتها، نظر إلى طبيعتها وما تصلح له من أعمال الحياة، فأبعدها عن كل ما يناقض تلك الطبيعة، أو يحول دون أداء رسالتها كاملة في المجتمع، ولهذا خصها ببعض الأحكام عن الرجل زيادة أو نقصانا، كما أسقط عنها- لذات الغرض، بعض الواجبات الدينية والاجتماعية كصلاة الجمعة، وهيئة الإحرام في الحج، والجهاد في غير أوقات النفير العام، وغير ذلك مما يأتي إن شاء الله مما ينسجم مع فطرتها وطبيعتها، ولا يرهقها من أمرها عسرا. [قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) الآية الحجرات (13) ] .
وبيَّن ذلك في قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) الزمر (6) .
وبهذا دلت آيات القرآن على أن المرأة الأولى كان وجودها الأول مستندَا إلى وجود الرجل وفرعا منه، وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه، وجاء الشرع الكريم المنزل من عند الله ليعمل به في أرضه، بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي.(2/124)
فجعل الرجل قائما عليها وجعلها مستندة إليه في جميع شئونها كما قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء) الآية- النساء (34) ، فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق لأن الفوارق بين النوعين كونا وقدرًا أولًا، وشرعا مُنَزلا ثانيا، تمنع من ذلك منعًا باتا.
ولقوة الفوارق الكونية القدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، صح صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر، ولا شك أن سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم.
وقد قال تعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزَى) النجم (21) أي غير عادلة لعدم استواء النصيبين لفضل الذكر على الأنثى.
ولذلك وقعت امرأة عمران في مشكلة لما ولدت مريم، قال تعالى عنا: (فلما وَضَعَتها قالت رب إني وضعتُها أنثى والله أعلم بما وَضَعَتْ وليس الذكر كالأنثى) الآية آل عمران (36) .
فامرأة عمران تقول: (وليس الذكر كالأنثى) وهي صادقة في ذلك بلا شك.
والكفرة وأتباعهم يقولون: " إن الذكر والأنثى سواء".
ولا شك عند كل عاقل في صدق هذه السالبة، وكذب هذه الموجبة] (287) .
مقتضى الفطرة في أعمال الزوجين:
الإسلام دين الفطرة، وما قررته الشريعة من اقتسام أعمال الزوجية بين الرجل والمرأة هو مقتضى هذه الفطرة، فقد فضل الله الرجل في خلقته بقوة في الجسم والعقل كان بها أقدر على الكسب والحماية والدفاع الخاص
__________
(287) من "أضواء البيان" للشنقيطي (7/630-633) باختصار.(2/125)
بالأسرة والعام للأمة والدولة ومن ثم فرض عليه النفقة، وبهذا كان الرجال قوامين على النساء يتولون الرياسة العامة والخاصة، التي لا يقوم النظام العام ولا الخاص بدونها، فعليه جميع الأعمال الخارجية في أصل الفطرة، ومن مقتضى الفطرة أيضًا اختصاص المرأة بالحمل والرضاع وحضانة الأطفال وتربيتهم وتدبير المنزل بجميع شئونه، قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهى مسئولة عن رعيتها (288) الحديث، فتأمل كيف حصر صلى الله عليه وسلم وظيفتها في بيت زوجها.
ولا ينازع في تفضيل الله الرجل على المرأة في نظام الفطرة إلا جاهل أو كافر، بل إن من استقرأ طباع النساء السليمات الفطرة من جناية سوء التربية وفساد النظام يرى أن هذه الأفضلية ثابتة عندهن، ولا أدل على ذلك من أن السواد الأعظم منهن يفضلن أن يكون مولودهن ذكرَا، ويتفاخرن بذلك، أما الأدلة (289) على هذه الأفضلية:
فقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم) وهو الر جال (على بعض) النساء (34) ، وهو النساء، وقوله عز وجل: (وللرجال عليهن درجة) (290) البقرة (228) وذلك لأن الذكورة كمال خلقي، وقوة
__________
(288) تقدم تخريجه بهامش رقم (55) .
(289) مستفاد من " أضواء البيان" (3/381-386) باختصار.
(290) (وعلى الجملة فـ "درجة" تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه السلام: "لو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، وقال ابن عباس: " الدرجة إشارة إلى حَض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه" قال ابن عطية: (وهذا قول حسن بارع" اهـ. من "الجامع لأحكام القرآن" (3/125) .(2/126)
طبيعية، وشرف وجمال، فالأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، ولا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس.
وقد أشار إلى ذلك جل وعلا بقوله: (أو من يُنَشَّأُ في الحِلية وهو في الخصام غير مبين) الزخرف (19) لأن الله أنكر عليهم في هذه الآية الكريمة أنهم نسبوا إليه ما لا يليق به من الولد، ومع ذلك نسبوا له أخس الولدين وأنقصهما وأضعفهما، ولذلك " ينشأ في الحلية، أي الزينة من أنواع الحلي والحلل، ليجبر نقصه الخلقي الطبيعي بالتجميل بالحلي والحلل وهو الأنثى بخلاف الرجل، فإن كماله وقوته يكفيه عن الحلي، قال الألوسي رحمه الله: (والآية ظاهرة في أن النشوء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفات ربات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك، ويأنف منه، ويربأ بنفسه عنه، ويعيش كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: (اخشوشنوا في اللباس، واخشوشنوا في الطعام، وتمعددوا"، وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى) (291) اهـ.
وقال تعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذا قسمة ضيزى) النجم (21) ، وإنما كانت هذه القسمة ضيزى- أي غير عادلة-، لأن الأنثى أنقص من الذكر خِلقة وطبيعة، فجعلوا هذا النصيب الناقص لله جل وعلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وجعلوا الكامل لأنفسهم؟ قال: (ويجعلون لله ما يكرهون) النحل (62) أي: وهو البنات.
وقال: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلًا) أي وهو الأنثى (ظل وجهه مسودُّا وهو كظيم) الزخرف (17) .
وكل هذه الآيات القرآنية تدل على أن الأنثى ناقصة بمقتضى الخلقة
__________
(291) "روح المعاني" (25/ 71) ، وتمعْدَدَ: تزيا بزي مَعَد، وكانوا أهل قشَب وغِلَظ في المعاش.(2/127)
والطبيعة، وأن الذكر أفضل منها وأكمل (أصطفى البنات على البنين، ما لكم كيف تحكمون) الصافات (153 - 154) ، (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثًا) الآية، الإسراء (40) .
ومن الأدلة على أن الأنوثة ضعف طبيعي ونقص خلقي أن المرأة الأولى خُلِقَتْ من ضِلَع الرجل الأول، فأصلها جزء منه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى (292) : (أوَ مَنْ ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) الزخرف (19) : (أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عَيِية، أوَ من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله عز وجل؟! فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن، في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحَلْي وما في معناه، ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض شعراء العرب:
وما الحَلْيُ إلا زِينَة منْ نَقيصةٍ ... يُتَممُ مِنْ حُسْن إذا الحُسْنُ قَصَّرا
وأما إذا كان الجمال مُوَفرًا ... كحُسْنِكِ، لم يحتجْ إلى أن يُزَوَّرَا
وأما نقص معناها، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همة) انتهى (293) محل الغرض منه، ولا عبرة بنوادر النساء لأن النادر لا حكم له.
وقال الشنقيطي (294) رحمه الله: (ألا ترى أن الضعف الخِلقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال، مع أنه يعد من جملة
__________
(292) " تفسير القرآن العظيم" (المجلد السابع ص 210) .
(293) انظر " الإنصاف في مسائل الخلاف، لابن الأنباري (1/99) .
(294) "أضواء البيان" (3/383 - 384) .(2/128)
محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب، قال جرير:
إن العيونَ التي في طَرفِها حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلانا
يَصرعْنَ ذا الُّلب حتى لا حِراكَ بِهِ ... وَهُنَّ أضعفُ خَلْقِ الله أركانا
وقال ابن الدمينة:
بنفسي وأهلي مَنْ إذا عَرَضُوا له ... ببعض الأذى لم يَدْرِ كيف يجيب
فلم يعتذِرْ عُذْرَ البَرِيء ولم تزل ... به سَكْتَة حتى يُقالَ مُرِيب
فالأول: تشبيب بهن بضعف أركانهن، والثاني: بعجزهن عن الإبانة في الخصام، كما قال تعالى: (وهو في الخصام غير مبين) ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من تشبه منهما بالآخر) اهـ.
وقد روى البخاري بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن" الحديث (295) ، قال الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله: " فهذا نص صريح في نقصان المرأة في عقلها ودينها عن الرجل، لضرورة أنه لا يتساوى من يصلي بعض حياته بمن يصلي كل حياته، ولا من يصوم شهر رمضان من أوله إلى آخره بمن لا يصوم إلا البعض، كما لا تتساوى شهادة الرجل لِكمال عقله وقوة ضبطه بمن شهادتها نصف شهادته لضعف عقلها وعدم كمال حفظها، فمن ساوى بين الرجل والمرأة
__________
(295) رواه البخاري (3/257-258) في الزكاة: باب الزكاة على الأقارب، وفي الحيض، والعيدين، والصوم، والشهادات وتتمته: (قلن: " وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟، قال: " أليس شهادةُ المرأة منكن مثلَ نصف شهادة الرجل؟ "، قلن: " بلى"، قال: " أليس إذا حاضت لم تصَل، ولم تصم؟ "، قلن: " بلى"، قال: " وذلك من نقصان دينها ") .(2/129)
فقد جنى على الإسلام، وسلك سبيل الاعوجاج" (296) اهـ.
قوامة الرجل تنظيمية لا استبدادية:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها" (297) .
إن قوامة الرجل على المرأة قاعدة تنظيمية تستلزمها هندسة المجتمع واستقرار الأوضاع في الحياة الدنيا، ولا تسلم الحياة في مجموعها إلا بالتزامها، فهي تشبه قوامة الرؤساء وأولي الأمر، فإنها ضرورة يستلزمها المجتمع الإسلامي والبشري، ويأثم المسلم بالخروج عليها مهما يكن من فضله على الخليفة المسلم في العلم أو في الدين، إلا أن طبيعة الرجل تؤهله لأن يكون هو القيم، فالرجل أقوى من المرأة وأجلد منها في خوض معركة الحياة وتحمل مسئولياتها، فالمشاريع الكبيرة يديرها الرجال، والمعارك الحربية يقودها الرجال، ورئاسة الدولة العليا يضطلع بها الرجال، وهكذا ترى الأمور الكبرى والمصالح العامة يوفق فيها الرجال غالبا، ويندر أن تفلح فيها امرأة إلا أن يكون من ورائها رجل.
هذا وإن النطاق الذي تشمله قوامة الرجل، لا يمس حرمة كيان المرأة ولا كرامتها، وهذا هو السر العظيم في أن القرآن الكريم لم يقل: (الرجال سادة على النساء) (298) ، وإنما اختار هذا اللفظ الدقيق "قوامون" ليفيد
__________
(296) "نقد مساواة المرأة بالرجل في الأعمال" ملحق " بهداية الناسك" ص (158) .
(297) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة" رقم (390) ص (117) باب إباحة المخاطبة بالسؤدد على الإضافة، وصححه الألباني - انظر " صحيح الجامع الصغير" (4/183) ، و "فتح الباري" (5/80) ، " معجم المناهي اللفظية" ص (190 -191) .
(298) وقد يطلق لفظ " السيد" على الزوج مضافًا، كما في قصة يوسف عليه السلام: (وألفيا سيدها لدى الباب) ، وكما في الحديث المتقدم آنفا، وقد قالت =(2/130)
معنى ساميًا بناءً، يفيد أنهم يقومون بالنفقة عليهن، والذبِّ عنهن، و "قَوَّام" فعَّال للمبالغة، من القيام على الشيء، والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وهو أن يقوم بتدبيرها، وتأديبها، وإمساكها في بيتها، ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته، وقبولَ أمره، ما لم تكن معصية، وتعليل ذلك بالفضيلة، والنفقة، والعقل، والقوة في أمر الجهاد، والميراث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر (299) ، وشأن القوامين أنهم يصلحون ويعدلون، لا أنهم يستبدون ويتسلطون، فنطاق القوامة محصور إذن في مصلحة البيت، والاستقامة على أمر الله، وحقوق الزوج، أما ما وراء ذلك فليس للرجل حق التدخل فيه كمصلحة الزوجة المالية، فلا يتدخل الزوج فيها بغير رضاها، وليس عليها طاعته إلا في حدود ما أحله الله، فإن أمرها بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وما لم تُخِل المرأة بحق الله تعالى، أو بحق الزوج فليس له عليها سبيل إلا سبيل التكريم والاحترام.
بل إن حُسن معاشرةِ الرجلِ زوجتَه وحسنَ خُلُقِهِ معها من أعظم مقاييس كمال الإيمان وسلامة الدين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خُلُقًا" (300) .
__________
أم الدرداء رضي الله عنها وهى تحدث عن زوجها أبي الدرداء رضي الله عنه: (حدثنى سيدي" - انظر: " شرح النووي لصحيح مسلم" (17/50) .
(299) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (5/169) .
(300) أخرجه الترمذي رقم (1162) في الرضاع: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، وأبو داود رقم (4682) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وابن حبان بنحوه (1926 - موارد) ، وأبو نعيم في " الحلية" (9/248) ، والحاكم في "المستدرك" (1/3) ، وصححه على شرط =(2/131)
شاهد من الغرب:
قال الدكتور " أوجست فوريل" تحت عنوان: " سيادة المرأة " (301) :
(يؤثر شعور المرأة بأنها في حاجة إلى حماية زوجها على العواطف المشعة من الحب فيها تأثيرَا كبيرًا، ولا يمكن للمرأة أن تعرف السعادة إلا إذا شعرت باحترام زوجها، وإلا إذا عاملته بشيء من التمجيد والإكرام، ويجب أيضًا أن ترى فيه مثلها الأعلى في ناحية من النواحي، إما في القوة البدنية، أو في الشجاعة، أو في التضحية وإنكار الذات، أو في التفوق الذهني، أو في أي صفة طيبة أخرى، وإلا فإنه سرعان ما يسقط تحت حكمها وسيطرتها، أو يفصل بينهما شعور من النفور والبرود وعدم الاكتراث، ما لم يُصَب الزوجُ بسوء أو مرض يثير عطفها، ويجعل منها ممرضة تقوم على تمريضه والعناية به، ولا يمكن أن تؤدي سيادة المرأة إلى السعادة المنزلية لأن في ذلك مخالفة للحالة الطبيعية التي تقضي بأن يسود الرجل المرأة بعقله وذكائه وإرادته، لتسوده هي بقلبها وعاطفتها) اهـ.
__________
= مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/250، 472) ، وحسنه الألباني في (الصحيحة، حديث رقم (284) .
(301) "ماذا عن المرأة؟ " للدكتور نور الدين عتر، ص (136) ، نقلا عن " الزواج عاطفة وغريزة" (2/32 - 33) .(2/132)
[فصل]
الفروق بين الرجل والمرأة
منها: تخصيص النبوة والرسالة بالرجل:
الرسالة دعوة إلى الله تعالى قولًا وفعلا، وهي تلقى عادة أعداء ومخالفين يدفعهم إلى معاداتها مصالح دنيوية، أو تقليد للأسلاف على غير عقل ولا بصيرة، وقد تلقى من المخالفين ملاحقة وأذى وضربا وقتلَا، وقد تلقى منهم طردًا وتشريدًا، وسجنًا وتعذيبا.
ثم إن الرسالة تقوم على قوة العارضة، وصدق الحجة، وعلى الحِلم والجَلَد في المجادلة، وقطع الطريق على الباطل بالدليل الحاضر، ودفع الشبهة بالحقيقة، وإضاءة الظلمة بالنور القاهر، ولعمر الله إن الرجل هو الذي يقدر على ذلك لأنه خُلِقَ لذلك، وما تقدر المرأة على ذلك، لأنها لم تخلق له، ولعله لهذه الحكم وغيرها اصطفى الله تبارك وتعالى من الرجال خيرهم وأفضلهم وهم الأنبياء (302) عليهم السلام (وربك يخلق ما يشاء ويختار) القصص (68) ، وقال عز وجل: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم) يوسف (109) .
ومنها: تخصيص فرضية الجهاد الشرعي بالرجل:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله ألا نغزو، ونجاهد معكم؟ "، فقال: " لَكنَّ أحسن الجهاد وأجمله: الحج، حج مبرور"، فقالت عائشة رضي الله عنها: " فلا أدعُ الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (303) .
__________
(302) انظر: " الفِصَل" (5/12 - 14) ، و " الرسل والرسالات، للدكتور عمر الأشقر ص (14-15) .
(303) رواه البخاري (1/465) ، والبيهقي (4/326) ، والإمام أحمد (6/79) .(2/133)
ومنها: تخصيص القوامة الأدبية والتعليمية والتربوية بالرجل في المقام الأول: لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة) الآية التحريم (6) .
ومنها: جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل أمام القضاء:
فقد جعل الإسلام نصاب الشهادة التي تثبت الحقوق لأصحابها شهادة رجلين عدلين، أو رجلًا وامرأتين، قال عز وجل: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَونَ من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة (282) .
وهذا مظهر تشريعي لتطبيق قاعدة صلاحية الرجل للعمل خارج البيت دون المرأة، فإن الآية الكريمة تشير بذلك الحكم إلى أن وظيفة المرأة الأولى القرار في البيت، والقيام على تربية الأولاد، ومراعاة شئون بيتها، وهى إن اضطرت تحت بعض الظروف إلى مخالطة الرجال في شئون العمل والحياة، فإنها تتحفظ في هذا الاختلاط أشد التحفظ إِن دعتها إليه حاجة، أو ساقتها إليه المقادير، مما يقتضيها عدم مخالطة الرجال غالبًا، وعدم حضور العقود المالية، وحالات البيع والشراء إلا نادرًا، فالمرأة وإِن حضرت شيئا من ذلك فإن قلة ممارستها له قد يفقدها الاستيعاب الكامل لجوانب الموضوع، وبالتالي قد تنقص شيئًا من الحق فيما تشهد به، فكان لابد من إضافة امرأة مثلها إليها، لاستدراك ذلك النقص أو توهمه، قال تعالى: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) (304) والحقوق لابد فيها من التثبت والتحقيق.
ولهذا المعنى نفسِه ذهب كثير من الفقهاء إلى أن شهادة النساء لا تقبل في الجنايات، وليس ذلك إلا لأنها غالبًا ما تكون قائمة بشئون بيتها، ولا يتيسر لها أن تحضر مجالس الخصومات التي تنتهي بجرائم القتل وما أشبهها،
__________
(304) البقرة (282) ، وانظر ص (208) .(2/134)
وإذا حضرتها فقلَّ أن تستطيع البقاء إلى أن تشهد جريمة القتل بعينيها، وتظل رابطة الجأش، بل الغالب أنها إذا لم تستطع الفرار تلك الساعة فما يكون منها إلا أن تُغمض عينيها، وتولول، وتصرخ، وقد يغمي عليها، فكيف يمكن بعد ذلك أن تتمكن من أداء الشهادة، فتصف الجريمة والمجرمين وأداة الجريمة وكيفية وقوعها، قال الحافظ العراقي رحمه الله: (إن الرجال هم الذين يُبتلون بالشدائد والمحن، ويظهر فيهم ثمرة الفتن، بخلاف النساء فإنهن محجوبات في الأغلب، لا يصلين نار الفتن، قال الشاعر:
كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ) (305)
ومن المسلَّم به أن الحدود تُدْرَأ بالشبهات، وشهادتها في القتل وأشباهه تحيط بها الشبهة: شبهة عدم إمكان تثبتها من وصف الجريمة لحالتها النفسية عند وقوعها.
ويؤكد مراعاة هذا المعنى في الاحتياط لشهادتها فيما ليس من شأنها أن تحضره غالبًا: أن الشريعة قبلت شهادتها وحدها فيما لا يقَع عليه غيرها، أو ما تطلع عليه دون الرجال غالبًا، فقد قرروا أن شهادتها وحدها تقبل في إِثبات الولادة، وفي الثيوبة والبكارة، وفي العيوب الجسدية لدى المرأة (306) ، وكذا في الإرضاع، قال عقبة بن الحارث: (تزوجت امرأة، فجاءتني امرأة سوداء، فقالت: "أرضعتكما"، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: "تزوجتُ فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت لي: "أرضعتُكما"، وهي كاذبة، فأعرض، فأتيت من قِبَلِ وجهه، فقلت: " إنها كاذبة"، قال: " كيف وقد زَعَمَتْ أنها أرضعتكما؟ "، ففارقها
__________
(305) "طرح التثريب" (3/260) .
(306) وهذا الحكم أيضا يعكس ما كان عليه الأوائل من تولي النساء توليد النساء وعلاجهن وتطبيبهن.(2/135)
عقبة، ونكحت زوجًا غيره) (307) .
ومنها: أن ميراث المرأة أقل من ميراث الرجل في الغالب:
فقد جاء الإسلام يقرر للمرأة نصيبا مفروضًا من الميراث لا يصح الانحراف عنه بحال، قال تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر، نصيبًا مفروضًا) النساء (7) ، والرجل هو أصل عمود النسب، وهذا النصيب يختلف في أحكام الإرث بين حالات:
(أ) بين أن يكون نصيبها مثل الذكر؟ في الأخوات لأم، فإن الواحدة منهن إذا انفردت تأخذ سدس الميراث، كما يأخذ الأخ لأم كذلك إذا انفرد، وإذا كانوا ذكورا وإناثًا اثنين فأكثر فإنهم يشتركون جميعًا في الثلث، للذكر مثل حظ الأنثى، قال الله تعالى: (وإن كان رجل يُورَثُ كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحدٍ منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، النساء (12) .
(ب) وبين أن يكون نصيبها مثله أو أقل منه، كما في الأم مع الأب إذا مات ولدهما، فإن ترك الولدَ أولادًا ذكورا وإناثا، أو ذكورًا ولو واحدَا فللأب السدس وللأم كذلك، وإذا ترك بنتًا أو بنتين فأكثر فللأم السدس، وللأب السدس فرضًا وما يبقى تعصيبًا، وإن ترك الولد أبوين، ولم يترك أولادًا فللأم الثلث، وللأب الثلثان، قال الله تعالى: (ولأبويه لكل واحد
__________
(307) رواه البخاري (5/184) في الشهادات: باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، وباب شهادة الإماء والعبيد، وباب شهادة المرضعة، وفى العلم، والبيوع، والنكاح، والترمذي رقم (1151) في الرضاع: باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، وأبو داود رقم (3603) و (3604) في الأقضية: باب الشهادة في الرضاع، والنسائي (6/109) في النكاح: باب الشهادة في الرضاع، وانظر: (رد المحتار على الدر المختار" (4/514) .(2/136)
منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) .
(ج) وبين أن تأخذ نصف ما يأخذه الذكر، وهذا هو الأعم الأغلب (308) ، كما إذا مات رجل، وترك ابنًا وبنتًا مثلًا، فللذكر مثل حَظَّيْ أخته الأنثى، قال الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) النساء (11) ، وقال عز وجل: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) النساء (176) .
والله سبحانه وتعالى صرح في هذه الآية الكريمة أنه يبين لخلقه هذا البيان الذي من جملته تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث لئلا يضلوا، فمن سوى بينهما فيه فهو ضال قطعًا، ثم بين أنه سبحانه أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه بقوله تعالى: (والله بكل شيء عليم) والحكمة في هذا التفضيل ظاهرة إذ إن الأمر يتعلق بالعدالة في توزيع الأعباء والواجبات على قاعدة " الغُرم بالغُنْم".
والحكمة البالغة تقتضي أن يكون الضعيف الناقص مقومًا عليه من قِبَلِ القوى الكامل، واقتضى ذلك أيضًا أن يكون الرجل مُلْزَمًا بالإنفاق على نسائه، والقيام بجميع لوازمهن في الحياة، كما قال تعالى: (وبما أنفقوا من أموالهم) ، ومال الميراث لم يتسبب فيه أحدهما ألبتة، وما سعيا في تحصيله عرفًا، وإنما هو تمليك من الله مَلَكَهُما إياه تمليكًا جبريا، فاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يؤثر الرجل على المرأة في الميراث، وإن أدليا بسبب واحد،
__________
(308) تأمل رحمك الله الربط بين الشرائع وبين الواقع في هذا الحكم، فإنه لما كان الرجل قواما على المرأة مكلفا بالإنفاق على أسرته، جاء هذا التشريع مظهرًا من المظاهر التشريعية لتطبيق هذا الأصل، وهو تكليف الرجل بالإنفاق على أسرته.(2/137)
لأن الرجل مترقب للنقَص دائمًا بالإنفاق على نسائه وأولاده، وبذل المهور لهن، والبذل في نوائب الدهر، والنفقة على أقاربه الفقراء الذين يرثونه، وهو أصل عمود النسب، ومنزله مقصد للزائرين، أما المرأة فإنها مترقبة للزيادة، إذ يأتي يوم يضمها إليه رجل يتزوجها، يبذل لها مهرها نحلة، ويقوم هو بالإنفاق عليها، والقيام بشئونها، ولا يجب عليها أن تسهم بشيء من نفقات البيت على نفسها وعلى أولادها ولو كانت غنية، كما أن مالها يزيد ربحه إذا نَمَّته بالتجارة، أو بأية وسيلة من وسائل الاستثمار المشروعة. والحاصل أن إيثار مترقب النقص دائمًا على مترقب الزيادة دائمًا لجبر بعض نقصه المترقب حكمة ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي عصمنا الله منهما، فلا عبرة بما يردده الملاحدة الذين فسقوا عن أمر ربهم من شبهات حول هذا الحكم الرباني وأمثاله (309) .
قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم بعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أفحكم
__________
(309) وأول من أحدث ضلالة التسوية بين الذكور والإناث في الميراث تركيا في ظل مصطفى كمال أتاتورك، حيث استبدلت الأحكام الشرعية بالقانون السويسري، ثم انتقلت عدوى هذه الضلالة إلى تونس على يد "البغيض " بورقيبة ثم إلى الصومال حيث استحل طاغوتاهما تبديل شرع الله، وقد حصل في إثر ذلك في الصومال ما حصل من قتل وإحراق العلماء المسلمين الذين فضلوا المنية على الدنية، وآثروا الفضيلة والنعش على الرذيلة والعيش، رحمهم الله تعالى، وأخزى أعداءهم.
وقد صرح المدعو زياد برى طاغوت الصومال في 21 أكتوبر 1970م بواسطة الإذاعة باعتناق حكومته المبدأ الماركسي اللينيني، وجاء - بعد ذلك- على لسانه في الجريدة الرسمية قوله: " كنا نسمع عن أقوال تقول الربع والثلث والخمس والسدس، فإنا نقول: إن ذلك لا وجود له بعد اليوم، وإن الولد والبنت متساويان في الميراث " اهـ من جريدة " نجمة أكتوبر " الصومالية بتاريخ (31/1/1974) .(2/138)
الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون) المائدة (49 - 50) ، وقال عز وجل: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بض للرجال نصيب مما كسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وَسئَلُوا الله من فضله) النساء (32) .
وقد أجمع العلماء على كفر من استباح المساواة في الميراث بين الذكور والإناث فيما ورد فيه التفاضل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كفر بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله، وخروج عن شريعة الله إلى حكم الطاغوت، قال تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور (51) ، وقال جل وعلا: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويسلموا تسليمًا) النساء (65) .(2/139)
مسألة: هل يجب تسوية الوالدين
بين أولادهم الذكور والإناث في الهبة؟
" سووا بين أولادكم في العطية، فلو
كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء " (310)
حديث شريف
اتفق الفقهاء على جواز هبة الوالدين لأولادهم، لكنهم اختلفوا في تفضيل بعضهم على بعض في أصل الإعطاء، ثم اختلفوا في صفة الإعطاء، وفيما يلى نجمل إن شاء الله ما يناسب ذكره في هذا المقام متعلقًا بالأمرين. أولًا: حكم العدل بين الأولاد في الهبة
روى البخاري بسنده إلى النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إني نحلت ابنى هذا غلامًا "، فقال: " أكُل ولدِك نحلتَ مِثْلَه؟ "، قال: " لا "، قال: " فأرجعه ") .
وروى أيضًا بسنده عن حُصين بن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر، يقول: " أعطاني أبي عطيةً، فقالت عَمرة بنتُ رَواحة: " لا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: " إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً، فأمرتني أن أشْهِدَكَ يا رسول الله "، قال: " أعطيتَ سائر ولدِك مِثْلَ
__________
(310) يأتي تخريجه بهامش رقم (322) .(2/140)
هذا؟ "، قال: " لا "، قال: " فاتقوا الله، وَاعْدِلوا بين أولادكم "، قال: " فرجع، فَرَد عَطِيتهُ " (311) .
(ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب، قال: "فاردده"، وفي رواية الشعبي: قال: " فرجع، فرد عطيته"، ولمسلم: "فرد تلك الصدقة"، وزاد في رواية أبي حيان في "الشهادات": " قال: لا تشهدني على جَوْر"، ولمسلم في رواية أبي حيان أيضا: " فقال: فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جَوْر) ، وله في رواية داود بن أبي هند
(فأشهد على هذا غيري"، وفي حديث جابر: (فليس يصلح هذا،
وإني لا أشهد إلا على حق "، وفي رواية عروة عند النسائي: " فكره أن يشهد له "، وفي رواية المغيرة عن الشعبي عند مسلم: " اعدلوا بين أولادكم في النُّحْل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر "، وفي رواية مجالد عن الشعبي عند أحمد: (إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ " قال: " بلى "، قال: " فلا إذاً "، ولأبي داود من هذا الوجه: " ان لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك "، وللنسائي من طريق (312)
__________
(311) رواه البخاري (5/210 - 211) ط. السلفية، في الهبة: باب الهبة للولد، وباب الإشهاد في الهبة، وهذا لفظه، وفي الشهادات: باب لا يشهد عل شهادة جَوْر إذا شهد، ومسلم رقم (1623) في الهبات: باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، و " الموطأ " (2/751، 752) في الأقضية: باب ما لا يجوز من النٌّحْل، وأبو داود أرقام (3542) إلى (3545) في البيوع: باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، والترمذي رقم (1367) في الأحكام: باب ما جاء في النحل والتسوية بين الولد، والنسائي (6/258-261) في النحل: في فاتحته.
(312) جمع هذه الروايات الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح" (5/213-214) =(2/141)
أبي الضحى: " ألا سَوَّيتَ بينهم؟ "، وله ولابن حبان من هذا الوجه: "سَو بينهم ") .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
(واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد، وقد تمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد (313) ، وبه صرح البخاري (314) ، وهو قول طاوس (315) ، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وقال به بعض المالكية، ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة (316) ، وعن أحمد: تصح، ويجب أن يرجع، وعنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب (317) ،
__________
= وقد نقلناها بتصرف يسير.
(313) (ومن حجة من أوجبه أنه مقدمة الواجب، لان قطع الرحم، والعقوق محرمان، فما يؤدى إليهما يكون محرمًا، والتفضيل مما يؤدي إليهما) اهـ من "الفتح" (5/214) .
حيث قال في " صحيحه،: (باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئا، لم يجُز حتى يعدل بينهم، ويعطي الآخر مثله، ولا يشهد عليه) اهـ من (فتح الباري، (5/210) .
قال القرطبي رحمه الله: (روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: " كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية: (أفحكم الجاهلية يبغون) ، فكان طاوس يقول: " ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ، وفُسِخ، وبه قال أهل الظاهر) اهـ (6/214) ، وعن طاوس أيضا قال: " لا يجوز ذلك، ولو برغيف محترق"، وبه قال ابن المبارك، وروى معناه عن مجاهد، وعروة.
(316) قال القرطبي رحمه الله: (قوله: " فارجعه " محمول على معنى: فاردده، والرد ظاهر في الفسخ، كما قال عليه السلام: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد، أي مردود مفسوخ، وهذا كله ظاهر قوى، وترجيح جلي في المنع) اهـ (6/215) .
(317) قال في " المغني ": (فإن خص بعضهم لمعنى يقضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة، أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين =(2/142)
كأن يحتاج الولد لزمانته ودينه، أو نحو ذلك دون الباقين، قال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار) (318) اهـ.
وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة، فإن فَضل بعضًا صَح، وكُرِه، واستُحِبت المبادرةُ إلى التسوية أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه (319) .
ثانيًا: صفة التسوية بين الذكور والإناث
تقدم الكلام في حكم أصل التسوية، بقي أن نبين أن العلماء اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن، وأحمد، وإسحق، وبعض الشافعية والمالكية: العدل: أن يعطي الذكر حظين كالميراث، وذهبوا إلى أن التسوية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل على القسمة موافقة لقول الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء: 11) ، والله عز وجل لم يترك توزيع المال لأحد سواه، بل ذكر تفصيل ذلك، ثم قال: (فريضة من الله) (النساء: 11) ، فيجب اتباع ما أمر الله به.
__________
= بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها، فقد روى عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: " لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة "، والعطية في معناه " اهـ. من (المغني، (5/665) .
(318) "فتح الباري" (5/214) .
(319) وقد استدلوا بأدلة كثيرة، لكنها لا تنهض أمام أدلة الوجوب، كما بين ذلك الحافظ ابن حجر من خلال تتبعه ألفاظ الروايات المختلفة لحديث النعمان رضي الله عنه، فانظر: " فتح الباري" (5/214 - 215) ، وانظر أيضًا البحث الملحق بآخر كتاب " تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية " للنابلسي - للشيخ محمد عمر بيوند ص (220: 217) .(2/143)
ولا يلزم من إطلاق التسوية أن تكون من كافة الوجوه، بل يحتمل أن يكون المقصود التسوية في أصل العطاء، لا في صفته (320) .
واستدلوا بأن العطية حال الحياة تكون استعجالًا لما يكون بعد الموت، فيجب أن يكون بحسبه، فلو أبقى الواهب ذلك المال في يده حتى مات، لكان حظها منه نصف حظ الذكر.
واستدلوا بأن الذكر تقع عليه أعباء أكثر من الأنثى، فمثلًا يكلف الرجل في الزواج بالمهر، والنفقة، ونفقة الأولاد، بخلاف الأنثى، لذا دعت الحاجة إلى تفضيله، وقد رُوعي هذا كله عندما قسم الله الميراث، فينبغي مراعاته كذلك عند الهبة للأولاد.
(وقال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: " ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه "، وقال عطاء: " ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى ") (321) اهـ.
وذهب الجمهور إلى أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، قال الحافظ ابن حجر:
(وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم، واستأنسوا بحديث ابن عباس رفعه:
(سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مُفَضِّلاً أحدا لفضَّلْتُ النساء" أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي من طريقه، وإسناده حسن) (322) اهـ.
__________
(320) انظر: (عقد الهبة) للدكتور جمال الدين العاقل ص (209) .
(321) "المغني، (5/666) .
(322) "فتح الباري" (5/214) .(2/144)
وعن مالك بن أبي معشر عن إبراهيم قال: " كانوا يحبون أن يُساووا بين أولادهم حتى في القُبَل (323) ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: (إن المقْسطين عند الله على منابِرَ من نور على يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا) (324) .
تنبيهان:
الأول: اعلم - رحمك الله - أن الأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم "، ولأنها أحد الوالدين فمنعت من التفضيل كالأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحقد، وزرع العداوة بين الأولاد، وقطع الصلات التي أمر الله بها أن توصل، يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها، فثبت لها نفس الحكم في ذلك.
الثاني: أن الواجب على من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعدل بين أولاده في العطية أن يبادر بالتوبة من هذا الجور والباطل، بطاعة الله عز وجل، وطاعة رسول الله بفعل واحدٍ من أمرين:
(أ) إما رد ما فَضل به البعض.
(ب) وإما إتمام نصيب الآخر.
عود على بدء
ومن الفروق بين الرجل والمرأة:
جعل الطلاق بيد الرجل ونسبته إليه، كما قال تعالى: (يا أيها النبي
__________
(323) "أحكام النساء" لابن الجوزي ص (96) .
(324) أخرجه مسلم رقم (1827) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والنسائي (8/221) في آداب القضاة: باب فضل الحاكم العادل، والإمام أحمد في " المسند" (2/ 160) .(2/145)
إذا طلقتم النساء) الآية الطلاق (1) .
وقيل المراد بقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يعني الزوج، وقال تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) البقرة (237) ، وقال عز وجل: (والمطلَّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) البقرة (288) - إلى قوله سبحانه: (فإن طلقها فلا تحل " من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) البقرة (230) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (532) .
والمسلمون مجمعون على أن الطلاق بيد الرجل، وهو الذي يوقعه إذا شاء.
والحكمة في تخصيص الرجل بنقض الزوجية واضحة:
- فالنساء مزارع وحقول، تبذر فيها النطف كما يبذر الحب في الأرض، كما قال تعالى: (نساؤكم حرث لكم) ، ولا شك أن الطريق القويم أن الزارع لا يرغم على الازدراع في حقل لا يرغب الزراعة فيه، لأنه يراه غير صالح له، والرجل هو الذي يملك أمر الازدراع، ولهذا أجمع العقلاء على نسبة الولد له لا للمرأة، قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة (223) .
- والرجل هو الذي يطلب الزواج عادة، ويبذل المهر، ويعد سكن الزوجية.
- والرجل هو الذي يملك القوامة والمسئولية الكبرى في الأسرة، فمن
حقه أن يملك تنظيم شئون الأسرة.
- والزوج هو الذي ينفق على الزوجة المطلقة أثناء عدتها حتى تنقضي،
__________
(325) أخرجه ابن ماجه (2081) ، وقال في " الزوائد": " هذا إسناد ضعيف، لضعف ابن لهيعة، اهـ من " حاشية السندي" (1/641) ، وحسًنه الألباني بطرقه في " إرواء الغليل" (7/108 -110) رقم (2041) .(2/146)
وقد تطول العدة إلى تسعة أشهر، وذلك فيما إذا طلقها وهي حامل، فتنتهي عدتها بوضع الحمل.
- والزوج هو الذي ينفق على أولاده في فترة حضانة الزوجة لهم، فهو ينفق على إرضاع الصغير رضاعًا وخدمة، وينفق على سائر أولاده فترة حضانة أمهم لهم، وهى فترة تطول إلى سبع سنوات أو أكثر.
- والرجل أقوى إرادة وأكثر تعقلًا وأبصر بالعواقب من المرأة عادة، ولا يعتوره ما يعتور المرأة من الحالات التي تؤثر في مزاجها وتفكيرها. تنبيه: جعل الطلاق بيد القاضي ذريعة إلى الفاحشة:
أما الخروج على نظام الإسلام في أمر الطلاق، وجعله بيد القاضي فهو مخالفة صريحة لحكم الإسلام (326) ، وذريعة إلى مفاسد عظيمة، بجانب أنه لا يحد من الطلاق.
أما مخالفة ذلك للإسلام فلما سبق من الأدلة على أن الطلاق بيد الرجل، ونبذ هذه النصوص نبذ لحكم الإسلام وتعطيل له.
وأما كونه يؤدي إلى مفاسد اجتماعية عظيمة، فإن الزوج قد يطلق زوجته طلاقًا بائنا، ولا يوقعه القاضي، ويمضي زمن يتصالحان فيه، فيعاشرها معاشرة الأزواج، بحجة أن القاضي لم يقض بالطلاق، وذلك الزنى بعينه معاذ الله.
ولربما طلق الزوج زوجته، وعرض الأمر على القاضي، فلابد من ذكر أمور لا تذكر للناس مما يكون بين الزوجين، وربما وقع في ذلك الكذب والغش والإفك من أجل أن يقتنع القاضي فيقضي بالطلاق، والقاضي ليس
__________
(326) انظر الفتوى الملحقة بكتاب (حقوق الزوجين) للشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله (ص 114 - 122) .(2/147)
معصومًا عن الميل مع الهوى، ولا عن الغرض.
وإذا لم يقتنع القاضي أخيرا بالأسباب الداعية إلى الطلاق فماذا يصبح حال الزوجين، هل يبقيان زوجين؟ يبقيان معلقين؟ ولك أن تقدر أضرار كلا الاحتمالين، وأما كونه لا يحد من الطلاق، فهذه أمريكا وألمانيا تجعلان الطلاق بيد القاضي، ومع ذلك فقد كانت نسبة الطلاق في أمريكا منذ سنوات 48% من الزيجات، وكان نسبة الطلاق في ألمانيا منذ سنوات 35% من الزيجات.
تنبيه: لا يعترض ما تقدم آنفا بأن من الرجال من يتعسف، ويتعنت، ويظلم امرأته مستغلا هذا الحق أسوأ استغلال، وذلك لأن كل نظام في الدنيا قابل لأن يساء استعماله، وكل صاحب سلطة عرضة لأن يتجاوزها إذا كان سيء الأخلاق، ضعيف الإيمان، ومع ذلك فلا يخطر في البال أن تلغي الأنظمة الصالحة لأن بعض الناس يسيئون استعمالها، أو أن لا تعطي لأحد من الأمة أية صلاحية لأن بعض أصحاب الصلاحيات تجاوزوا حدودها.
إن الإسلام أقام دعامته الأولى في أنظمته على يقظة الضمير المسلم، واستقامته، ومراقبته لربه، وسلك في سبيل تحقيق ذلك أقوم السبل، وإذا رجعنا إلى قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد، لرأينا أننا لو قارنا بين حسنات إعطاء الرجل حق إيقاع الطلاق بسيئات نزع هذا الحق منه، أو إشراك غيره معه فيه، رجحت كفة الحسنات على السيئات كثيرَا، وهذا كافٍ في الترجيح. (327)
ومنها: أن دية المرأة التي قتلت خطأ أو التي لم يستوجب قتلها عقوبة
__________
(327) راجع تفصيل القضية في (المرأة بين الفقه والقانون) للدكتور "مصطفى السباعي" رحمه الله ص (122 -147) .(2/148)
القصاص لعدم استيفاء شروطه، بما يعادل نصف دية الرجل، والقتل العمد يوجب القصاص من القاتل سواء كان المقتول رجلا أو امرأة، وسواء كان القاتل رجلا أو امرأة، وهذا لأننا في القصاص نريد أن نقتص من إنسان لإنسان، والرجل والمرأة متساويان في الإنسانية، قال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) المائدة (45) .
أما في القتل الخطأ وما أشبهه، فليس هناك إلا التعويض المالي الذي يجب أن تراعى فيه الخسارة المالية الناجمة عن القتل قلة وكثرة، فهل خسارة الأسرة بالرجل كخسارتها بالمرأة؟ إن الأولاد الذين قتل أبوهم خطأ، والزوجة التي قتل زوجها خطأ، قد فقدوا معيلهم الذي كان يقوم بالإنفاق عليهم، والسعي في سبيل إعاشتهم.
أما الأولاد الذين قتلت أمهم خطأ، والزوج الذي قتلت زوجته خطأ، فهم لم يفقدوا إلا ناحية معنوية لا يمكن أن يكون المال تعويضًا عنها. إن الدية ليست تقديرا لقيمة الإنسانية في القتيل، وإنما هي تقدير لقيمة الخسارة المادية التي لحقت أسرته بفقده، وهذا هو الأساس القويم الذي، لا يماري فيه أحد.
إن هذا التشريع الحكيم مرتبط مثل سابقَيْه بنظام الإسلام في عدم تكليف المرأة بالكسب للإنفاق على نفسها وعلى أولادها رعاية لمصلحة الأسرة والمجتمع.
ومنها: اشتراط أن يكون الخليفة رجلَا:
فقد ثبت في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسا ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (328) ،
__________
(328) رواه البخاري (3 / 45، 46) في الفتن: باب الفتنة التي تموج كموج البحر، =(2/149)
فهذا نص على أنه لا يجوز عليهم أن تكون المرأة في منصب الخلافة، وأن الفلاح منفي عمن تولت رئاستَهم امرأة، ومتى تخلف الفلاح عنهم، قارنهم الخذلان والخيبة.
وهذا الحكم مخصوص بالولاية العامة (رئاسة الدولة) ، ويلتحق بها ما كان في خطورتها، واتفق العلماء قاطبة على جواز أن تكون المرأة وصية على الصغار وناقصي الأهلية، وأن تكون وكيلة لأية جماعة من الناس في تصريف أموالهم وإدارة مزارعهم، وأن تكون شاهدة في غير الدماء على أن يكون معها رجل، والشهادة نوع ولاية، وهذا أيضًا مما لا علاقة له بموقف الإسلام من إنسانية المرأة وكرامتها وأهليتها، وإنما هو وثيق الصلة بمصلحة الأمة، وبطبيعة المرأة النفسية، ورسالتها الاجتماعية.
إن رئيس الدولة في الإسلام ليس صورة رمزية للزينة والتوقيع، وإنما هر قائد المجتمع المسلم، ورأسه المفكر، ووجهه البارز، ولسانه الناطق، وله صلاحيات واسعة خطيرة الآثار والنتائج:
- فهو الذي يعلن الحرب على الأعداء، ويقود جيش الأمة في ميادين الكفاح، ويقرر السلم والمهادنة إن كانت مصلحة الإسلام فيهما، أو الحرب، والاستمرار فيها إن كانت المصلحة تقتضيها، بعد مشورة أهل الحل والعقد لقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) آل عمران (159) .
- وهو الذي يتولى خطابة الجمعة في المسجد الجامع، وإمامة الناس في الصلوات، والقضاء بين الناس في الخصومات، إذا اتسع وقته لذلك.
__________
= وفي المغازي: باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، والترمذي رقم (2263) في الفتن: باب لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، والنسائي (8/227) في القضاة: باب النهي عن استعمال النساء في الحكم، وأخرجه أيضا الإمام أحمد في "المسند" (5/38، 43، 47، 51) .(2/150)
ومما لا ينكر أن هذه الوظائف الخطيرة لا تتفق مع تكوين المرأة النفسي والعاطفي، ولأن وظيفة المرأة الأصلية القرار في البيت، والتفرغ الكامل من أجل تربية رجال المستقبل، وخدمة الزوج، ولأنها لا تخالط الرجال، ولا تخلو بأجنبي أيا كانت الأسباب.
ولأنها قوية العاطفة سريعة التأثر، وذلك يعوقها عن تغليب العقل والحزم والقوة على مظاهر الحنو والرحمة.
وكيف تخطب في الناس، وتصلي بهم، وهي ليست ملزمة بصلاة الجمعة، ولا تتولى إمامة الرجال في الصلاة، وكيف تقوم العبادة على الخشوع وخلو الذهن مما يشغله إذا قامت المرأة واعظة أو إمامة؟
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى أباح للرجل أن يجمع بين أربع نسوة إذا عرف من نفسه العدل بينهن في الحقوق، قال تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) الآية النساء (3) .
في حين أنه لا يجوز للمرأة أن يتزوجها أكثر من واحد لما في ذلك من منافاة الفطرة السوية واختلاط الأنساب والفساد العريض، إلى غير ذلك مما لا تستقيم معه الحياة.
وقد فصَّل الردَّ على من يقول: " لماذا لا يباح للمرأة تعدد الأزواج؟ " الدكتور عبد الله ناصح علوان، فقال:
" إن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعةً وخِلْقَةً وواقعًا، ذلك لأن المرأة في طبيعتها لا تحمل إلا في وقت واحد، ومرة واحدة في السنة كلها، وأما الرجل فغير ذلك، فمن الممكن أن يكون للرجل أولاد متعددون من نساء متعددات، ولكن المرأة لا يمكن أن يكون لها مولود واحد من أكثر من رجل واحد، وأيضا تعدد الأزواج بالنسبة إلى المرأة يُضَيع نسبة ولدها إلى شخص معين، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الرجل في تعدد زوجاته.(2/151)
وشيء آخر: وهو أن للرجل حق رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم، فإذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة؟ أتخضع لهم جميعًا؟ وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم، أم تخص واحدًا دون الآخرين؟ وهذا ما يسخط الآخرين.
وهناك أمور تتعلق بنسبة الولد إلى أحد الأزواج، وأمور تتعلق بالعلاقة الزوجية، لا تخفى على من كان عنده أدنى إدراك وبصيرة: من إرهاق للمرأة، وإضرار بها، ومن وقوع في المشاكل العائلية، والأمراض الجسمية والنفسية ... إلى غير ذلك من الأضرار البالغة، والعواقب الوخيمة.
إذن فتعدد الأزواج بالنسبة للمرأة مستقبح عقلًا، وحرام شرعًا، ومستحيل طبيعة وواقعًا، فلا يقول به إلا مَنْ كان إباحي النزعة، مدنَّس السُّمْعَة، فاسد الخلق، عديم الغيرة، ملوث الشرف) (329) اهـ.
جملة أخرى من الأحكام تخالف المرأة فيها الرجل
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (330) ، وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهَما الشيطان) (331) .
__________
(329) " تعدد الزوجات في الإسلام" ص (29-30) .
(330) رواه البخاري (4/64 - 65) في الحج: باب حج النساء، وفي الجهاد: باب كتابة الإمام الناس، وفي النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (1341) في الحج: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.
(331) رواه عنه الإمام أحمد (3/446) ، ورواه عن عمر رضي الله عنه الترمذي رقم (2165) في الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحاكم (1/114 -115) ، =(2/152)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تَصُم المرأة وبَعْلُها شاهد الا بإذنه " (332) يعني تطوعا.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء" (333) يعني في الصلاة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس على النساء الحلقُ، وإنما على النساء التقصير " (334) ، أي عند التحلل من الإحرام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها " (335) .
__________
= وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "تحقيق المشكاة" رقم (3118) .
(332) رواه البخاري وهذا لفظه، (9/257) في النكاح: باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا، وباب ألا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، ومسلم رقم (1026) في الزكاة: باب ما أنفق العبد من مال مولاه، وأبو داود رقم (2485) في الصوم: باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها، والترمذي رقم (782) في الصوم: باب ما جاء في كراهية صوم المرأة إلا بإذن زوجها.
(333) رواه البخاري (3/62) في العمل في الصلاة: باب التصفيق للنساء، وفي السهو وفي الصلح، وفي الأحكام، ومسلم رقم (421) في الصلاة: باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام.
(334) رواه أبو داود رقم (1985) في المناسك: باب الحلق والتقصير، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": (وأخرجه أيضاً الطبراني، وقد قوى إسناده البخاري في " التاريخ"، وأبو حاتم في " العلل"، وحسنه الحافظ، وأعله ابن القطان، ورد عليه ابن المواق، فأصاب) اهـ (5/80) .
(335) رواه الترمذي رقم (1159) في الرضاع: باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، =(2/153)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخِرها، وشَرها أولها" (336) .
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير مساجد النساء بيوتُهن" (337) .
وعن طارق بن شهاب مرفوعًا:
" الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: عبدٍ مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" (338) .
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
= وقال: (حسن غريب) ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) (5/68) .
(336) رواه مسلم رقم (440) في الصلاة: باب تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود رقم (678) في الصلاة: باب صف النساء، وكراهية التأخر عن الصف الأول، والترمذي رقم (224) في الصلاة: باب ما جاء في فضل الصف الأول، والنسائي (2/93) في الإمامة: باب ذكر خير صفوف النساء، وشر صفوف الرجال. (337) رواه الإمام أحمد (6/ 301) ، وابن خزيمة رقم (1684) ، والحاكم (1/209) ، وصححه الألباني بشاهده في " السلسلة الصحيحة، حديث رقم (1396) .
(338) رواه من حديث طارق بن شهاب أبو داود رقم (1067) في الصلاة: باب الجمعة للمملوك والمرأة، وقال: (طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا) اهـ، وقال النووي رحمه الله: (هذا الذي قاله أبو داود لا يقدح في صحة الحديث، لأنه إن ثبت عدم سماعه يكون مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حجة عند أصحابنا، وجميع العلماء، إلا أبا إسحاق الإسفراييني) اهـ من " شرح المهذب" (4/483) ، وقال في "بغية الألمعي": (هذا خلاف ما قاله الحافظ في "الفتح" (7/2) : إن الخلاف بين الجمهور، وبين أي إسحق في قبول مرسل الصحابي الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، وأما الصاحب الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فمرسله كمراسيل سائر التابعين: يقبله من يقبل مراسيلهم، ويرده من يرد مراسيلهم، والله أعلم) اهـ (2/199) ، وقال الحافظ في " تلخيص الحبير": (وصححه غير واحد) اهـ (2/69) ، وقد وصله الحاكم في " المستدرك " =(2/154)
"العقيقة حق عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة" (339) ، إلى غير ذلك من النصوص.
وأخيرًا:
فلا ريب أن هذه الجملة من الفروق بين الرجل والمرأة تبين لنا مدى ترابط النظام الإسلامي مع الواقع، وأن من يرفض هذه الأصول الاجتماعية الحكيمة، لابد وأن يخلع رِبقَةَ الإسلام من عنقه، ليعبد الهوى والطاغوت، وإن هذه الشرائع الإلهية، ما وضعت لتكون طريحة المكاتب والأوراق، ولا هي قابلة لأن تُعرض على العباد المربوبين ليبحثوا إمكانية تطبيقها، أو ليدرسوا مدى صلاحيتها، ولكنها شرعت لتعمل عملها في واقع ينفعل بها، وأي خلل في الانقياد لها، أو الإيمان ببعضها مع الكفر بالبعض الآخر، يحَوّل الحياة إلي شقاء وضنك دائمين (340) : (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رَبّ لم حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنَسِيتَها وكذلك اليومَ تُنْسَى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآياتِ ربه ولعذابُ الآخرةِ أشد وأبقى) طه (123-127) .
__________
= (1/288) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، والحديث أخرجه الدارقطني (164) ، والبيهقي (3/183) ، وقال: (هذا الحديث- وإن كان فيه إرسال - فهو مرسل جيد، وطارق من كبار التابعين، وممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يسمع منه، ولحديثه شواهد) اهـ، وقد ذكر هذه الشواهد العلامة
الألباني، وصححه بها في (إرواء الغليل" (3/55-58) .
(339) رواه الإمام أحمد (6/456) ، وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد"، وقال: (رواه أحمد والطبراني في " الكبير"، ورجاله محتج بهم) اهـ. (4/57) ، وصححه الألباني في "الإرواء) (4/392) .
(340) ومن أجمع ما كتب في توضيح قضية إفراد الله عز وجل بالحاكمية والتشريع كتاب "الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية" لفضيلة الدكتور عمر سلمان الأشقر حفظه الله تعالى.(2/155)
[الفصل الثاني]
المرأة أُمًّا
أوصى الله تعالى في مواضع من كتابه بالإحسان إلى الوالدين، وقرنه بالأمر بعبادته والنهي عن الشرك به، وأمر بالشكر لهما متصلًا بالشكر له، وَخَص الأم بالذكر في بعض هذه الوصايا للتذكير بزيادة حقها على حق الأب.
قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدَينِ إحسانا) النساء (36) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: " يريد البر بهما مع اللطف، ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما " (*) .
وقال تعالى: (وقضى (341) ربك ألَّا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولًا كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) الإسراء (23-24) .
قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) قال البغوي رحمه الله:
[يريد: لا تقل لهما ما فيه أدنى تبرم، والأُفُّ والتُّفُّ: وَسَخُ
__________
(*) الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/66) .
(341) قضى هنا بمعنى: أمر، وألزم، وأوجب، قال ابن عباس والحسن وقتادة: " ليس هذا قضاء حكم، بل هو قضاء أمر" اهـ. من "الجامع لأحكام القرآن " (10/237) .(2/156)
الأظفار، ويقال لكل ما يُستثقل ويُضْجَرُ منه: أفّ له، قال مجاهد: " لا تَقْذَرْهُما كما كانا لا يَقْذَرانِكَ " (342) .
وقال الهيثمي رحمه الله:
[ (وقل لهما قولا كريمَا) ثم أمر بأن يقال لهما القول الكريم: أي اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن سيما عند الكبر، فإن الكبر يصير كحال الطفل وأرذل، لما يغلب عليه من الخرف وفساد التصور، فيرى القبيح حسنًا، والحسن قبيحا، فإذا طُلِبَتْ رعايته وغايةُ التلطف به في هذه الحالة، وأن يُتَقَربَ إليه بما يناسب عقله إلى أن يرضى؛ ففي غير هذه الحالة أولى] (343) .
قال أبو البداح التجِيبيُّ: (قلت لسعيد بن المسيب: " كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته، إلا قوله: (وقل لهما قولًا كريمًا) ما هذا القول الكريم؟ "، قال ابن المسيب: " قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ ") (344) .
وقال معاوية بن إسحاق عن عروة، قال: (ما بَرَّ والدَه، مَن شَدَّ الطَّرفَ إليه " (*) .
[وقوله عز وجل: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال عطاء: " لا ينبغي لك أن ترفع يديك على والديك، ولا إليهما تعظيما لهما "، وقال عروة: " لا تمتنع من شيء أحَبَّاه "] (345) .
__________
(342) ، (345) "شرح السنة " (13/15) ، وانظر: " فضل الله الصمد، (1/60- 61) .
(343) " الزواجر عن اقتراف الكبائر " (2/66) .
(344) " الجامع لأحكام القرآن " (10/243) .
(*) " سير أعلام النبلاء " (4/433) .(2/157)
وينبغي للإنسان- بحكم هذه الآية- أن يتذلل لوالديه تذلل الرعية للأمير، والعبيد للسادة، وقد ضرب خفض الجناح ونصبه مثلًا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده.
[ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول بأن لا يُكَلَّما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، واحتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما، وأنه من أجل ذلك ذليل حقير، ولا يزال على نحو ذلك إلى أن ينثلج خاطرهما، ويرد قلبهما عليه، فينعطفا عليه بالرضا والدعاء، ومنْ ثم طلب منه بعد ذلك أن يدعو لهما، لأن ما سبق يقتضي دعاءهما له كما تقرر، فليكافئهما إن فُرِضَتْ مساواة، وإلا فشتان ما بين المرتبتين (346) ، وكيف تُتَوَهَّمُ المساواة، وقد كانا يحملان أذَاكَ وَكَلَّكَ، وعظيم المشقة في تربيتك، وغاية الإحسان إليك، راجين حياتك، مؤملين سعادتك، وأنت إن حملت شيئًا من أذاهما رجوت موتهما، وسئمت من مصاحبتهما، ولكون الأم أحمل لذلك وأصبر عليه مع أن عناءها أكثر وشفقتها أعظم بما قاسته من حمل وطلق وولادة ورضاع وسهر ليل، وتلطخ بالقذر والنجس، وتجنُّبٍ للنظافة والترفه، حَض النبي صلى الله عليه وسلم على برها ثلاث مرات، وعلى بر الأب مرة واحدة كما في الحديث الصحيح] (347) .
تنبيه:
لا يختص بر الوالدين بكونهما مسلِمَيْن، بل يبرهما وإن كانا كافرين، ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال تعالى: (لا ينهكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دِياركُم أن تبروهم)
__________
(346) انظر: " فضل الله الصمد " (1/41) .
(347) "الزواجر" (2/66) .(2/158)
الآية (الممتحنة: 8) .
وعن أسماء رضي الله عنها قالت: (قَدِمت عَلي أمي وهي مشركة - في عهد قريش إذ عاهدهم -، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: " يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ، - وهي راغبة - (348) أفأصلها؟ قال: " نعم، صلي أمك ") (349) .
وقال سبحانه: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وَهنًا على وهن (350) وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) لقمان (14) ، وقال عز وجل: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) لقمان (15) .
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به، وهو الإشراك بالله تعالى، فما الظن بالوالدين المسلمَين سيما إن كانا صالِحَينِ، تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها، فالموفَّق من هُدِي إليها،
__________
(348) أي في برى وصلتي، وقيل: راغبة عن الإسلام كارهة له، قال ابن عطية: (والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها) اهـ. من (الجامع لأحكام القرآن) (14/65) ، وأم أسماء هي قُتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسد، وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
(349) رواه البخاري (13/ 17-18) في الأدب: باب صلة الوالد المشرك، وفي الهبة، والجهاد، ومسلم رقم (1003) واللفظ له، في الزكاة: باب فضل الصدقة على الأقربين، ولو كانوا مشركين، وأبو داود رقم (1668) في الزكاة: باب الصدقة على أهل الذمة، والإمام أحمد (6/ 344، 347، 355) .
(350) أي حملته في بطنها، وهي تزداد كل يوم ضعفًا على ضعف، وقيل: المرأة ضعيفة الخِلقة، ثم يضعفها الحمل، ثم تعاني الوضع، ثم الرضاعة والتربية.(2/159)
والمحروم كل المحروم من صرف عنها وقد جاء في السنة من التأكيد في ذلك ما لا تحصى كثرته ولا تحد غايته، فمن ذلك:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ "، قال: " أمك "، قال: " ثم من؟ "، قال: " أمك "، قال: " ثم من؟ "، قال: " أمك "، قال: " ثم من؟ "، قال: " ثم أبوك ") (351) .
وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب " (352)
وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: " بر أمك وأباك، وأختك وأخاك ن ثم أدناك أدناك ") (353) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: " أي الأعمال أحب إلى الله؟ "، قال: الصلاة على وقتها، قلت: " ثم أي؟ "، قال: " ثم بر الوالدين "، قلت: " ثم أي؟ "، قال: " ثم الجهاد في سبيل الله " قال: " حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته،
__________
(351) أخرجه البخاري (13/4-6) في الأدب: باب من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم رقم (2548) في البر: باب بر الوالدين.
(352) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (60) واللفظ له، وابن ماجه (3661) ، والحاكم (4/151) ، والإمام أحمد (4/131، 132) ، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (1666)
(353) أخرجه الحاكم (4/151) واللفظ له، والإمام أحمد (2/226) ، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (3/322) ، وتأمل كيف قدم الأم على الأب، وكذا قدم الأخت على الأخ.(2/160)
لزادني ") (354)
فاخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام ورتب ذلك بـ "ثم" التي تقتضي الترتيب والمهلة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل استأذنه في الجهاد: " أَحَيًّ والداك؟ "، قال: " نعم " قال: " ففيهما فجاهد " (355) ، وفي رواية لمسلم قال: " (أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال فهل من والديك أحد حيُّ؟ " قال: " نعم بل كلاهما حي " قال فتبتغي الأجر من الله؟ قال نعم! قال فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما "، وفي رواية أخرى لأبي داود والنسائي عنه رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " جئت أبايعك على الهجرة ن وتركت أبويَّ يبكيان "، قال: " فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما ") ، وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد " (356) .
__________
(354) رواه البخاري في مواقيت الصلاة وفضلها: باب فضل الصلاة لوقتها، وفي الجهاد والسير وفي الأدب، وخرجه مسلم واللفظ له في الإيمان رقم (139)
(355) رواه البخاري (6/97 - 98) في الجهاد: باب الجهاد بإذن الأبوين، وفي الأدب، ومسلم رقم (2549) في البر والصلة: باب بر الوالدين، وأبو داود رقم (253) في الجهاد باب في الرجل يغزو، وأبواه كارهان، والترمذي رقم (1671) في الجهاد: باب فيمن خرج في الغزو وترك أبويه، والنسائي (6/10) في الجهاد: باب الرخصة في التخلف لمن له والدان، (7/143) في البيعة: باب البيعة على الهجرة وهذا محمول على ما لم يتعين الجهاد كأن يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع.
(356) رواه الترمذي رقم (1900) في البر والصلة: باب ما جاء في بر الوالدين، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/42) ، وصححه ابن حبان (2026 - موارد) ، =(2/161)
تنبيه: قال الغزالي (من يخدم أبويه ينبغي ألا يطلب بخدمته منزلة عندهما إلا من حيث أن رضا الله في رضا الوالدين، فإن ذلك معصية في الحال، وسيكشف الله عن ريائه، فتسقط منزلته من قبلهما أيضا) (357) اهـ.
وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ " فقال هل لك أم؟ قال نعم قال فالزمها فإن الجنة تحت رجليها (358)
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحابه من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان خرج يسعى على أولاده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان ") (359) .
__________
= الحاكم (4/152) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي وفيه نظر لأن عطاء العامري مجهول العين كما ذكره الذهبي رحمه الله
(357) نقلا عن فضل الله الصمد (1/111)
(358) رواه النسائي (6/11) في الجهاد باب الرخصة في التخلف لمن له والدة وابن ماجه رقم (2781) والحاكم (4/151) وصححه ووافقه الذهبي والإمام أحمد (3/429) وعبد الرزاق في المصنف (5/176) وذكره الهيثمي في المجمع (8/138) وقال (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات اهـ، وانظر الترغيب والترهيب (3/316)
(359) أخرجه الطبراني في معاجمه الثلاثة ورجال الكبير رجال الصحيح اهـ، كذا قال الهيثمي في المجمع والمنذري في الترغيب والترهيب (3/63) ورمز له =(2/162)
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا رسول الله، إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ " فقال: "هل لك من أم؟ " قال: " لا"، قال: (فهل لك من خالة؟ " قال: " نعم "، قال؟ " فَبِرَّها ") (360) .
قال البغوي: " وقد صح عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخالة بمنزلة الأم) (361) .
وقال مكحول: "بر الوالدين كفارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادرًا على البر ما دام في فصيلته مَنْ هو أكبر منه "] (362) .
وعن عطاء بن يسار عن ابن عباس (أنه أتاه رجل فقال: " إني خطبت امرأة، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فَأحَبَّتْ أن تنكحه، فَغِرْتُ عليها، فقتلتها، فهل لي من توبة؟ "، قال: "أمُك حية؟ "، قال: " لا "، قال: " تُب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت "، فذهبت، فسألت ابن عباس: " لم سألتَه عن حياة أمه؟ "، فقال:
__________
= السيوطي في " الجامع الصغير" بالصحة " فيض القدير" (3/31) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع" (2/8) .
(360) رواه الترمذي رقم (1905) في البر والصلة. باب بر الخالة، مرسلا ومسندا، وقال: " إن المرسل أصح"، وأما المتصل فصححه ابن حبان (2022- موارد) ، والحاكم (4/ 155) بلفظ: " والدان "، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ورواه الإمام احمد (2/14) ، واللالكائي رقم (1968) .
(361) رواه الترمذي رقم (1905) في البر والصلة: باب بر الخالة، وقال: " هذا حديث صحيح ".
والحديث رواه في قصة طويلة البخاري (7/ 385 - 391) في المغازي: باب عمرة القضاء، وفي الحج، والصلح، والجهاد، ومسلم رقم (1783) في الجهاد: باب صلح الحديبية في الحديبية.
(362) "شرح السنة" (13/13) .(2/163)
" إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة ") (363) .
وعن طيسلة بن مَياس قال: (كنت مع النجدات (364) فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر، فذكرت ذلك لابن عمر، قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا، قال: ليست هذه من الكبائر) إلى أن قال: (قال لي ابن عمر: أتفْرَق من النار، وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: إي والله!، قال: أحَي والداك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة، ما اجتنبت الكبائر) (365) .
وعن أبي هريرة مرفوعًا: " رَغِمَ أنفُهُ (366) ، رغم أنفه، رغم أنفه "، قيل: (من يا رسول الله؟، قال؟ (من أدرك أبويه عنده الكبرُ: أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة " (367)
وعد النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وخص الأمهات بالذكر، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا
__________
(363) رواه البخاري في " الأدب المفرد" رقم (4) ، والبيهقي، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (1957) .
(364) فرقة من الخوارج، تنسب إلى نجدة بن عامر الحنفي، انظر: " الملل والنحل للشهرستاني (1/122- 125) .
(365) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم (8) ، والطبري في " التفسير" وعبد الرزاق الخرائطي في مساوئ الأخلاق، كما في حاشية (فضل الله الصمد" (1/59) .
(366) رغم أنفه: الرغام: التراب، ورغم أنفه: أي لصق بالتراب، والمعنى: ذل وخزي من قصر في برهما عند ذلك، وفاته دخول الجنة.
(367) رواه مسلم رقم (2551) في الأدب: باب رغم أنف من أدرك أبويه، فلم يدخل الجنة، والبخاري في " الأدب المفرد" (1/86) ، والترمذي رقم (3539) في " الدعوات": باب رقم (110) ، وحسنه والإمام أحمد (2/346) .(2/164)
وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " (368) .
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " - ثلثا -، قلنا: " بلى يا رسول الله "، قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين "، وكان متكئًا فجلس، فقال: " ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور "، فما زال يقولها حتى قلنا: " لا يسكت " (369) ، وفي رواية: " حتى قلنا: ليته سكت "، يعني: قلناها إشفاقًا عليه، لما رأوا من انزعاجه صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن من الكبائر شتم الرجل والديه "، قالوا: (يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ "، قال: " نعم يسُب أبا الرجل فيسب أباه، ويسُب أمَّه، فيسب أمه " (370) .
__________
(368) رواه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه البخاري (3/270) في الزكاة ة باب قول الله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) ، وفي الأدب: باب عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم واللفظ له، رقم (953) في الأقضية: باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة.
(369) رواه البخاري (5/193) في الشهادات: باب ما قيل في شهادة الزور، وفي الأدب: باب عقوق الوالدين من الكبائر، وفي الاستئذان، وفي استتابة المرتدين، ومسلم رقم (87) في الإيمان: باب بيان الكبائر وأكبرها، والترمذي رقم (2302) في الشهادات: باب ما جاء في شهادة الزور.
(370) رواه البخاري (10/338) في الأدب: باب لا يسب الرجل والديه، ومسلم رقم (90) في الإيمان: باب بيان الكبائر وأكبرها، والترمذي رقم (1903) في البر: باب ما جاء في عقوق الوالدين، وأبو داود رقم (5141) في الأدب: في بر الوالدين.(2/165)
وقد تقدم أنه كان من أشد ما يؤلم نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم: أن يسمع الرجل يعير الرجل بأمه، وآية ذلك ما حدَث المعرور بن سويد، قال: (رأيت أبا ذر الغفاري، وعليه حُلة، وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعيرَته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية "، ثم قال: " إن خدمكم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يَغْلِبُهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم " (371) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: " من الكبائر عند الله تعالى أن يستسب الرجل لوالده " (372) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " لا تمشين أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تَدعُه باسمه، ولا تستسب له) (373) .
__________
(371) تقدم تخريجه برقم (163) .
(372) رواه البخاري في " الأدب المفرد، رقم (28) ، والمعنى: أن يكون سببا لسب الأبوين سواء سب أحدًا أو آذى أحدًا.
(373) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (44) ، وعبد الرزاق في " مصنفه "، والبيهقي، وابن السني مرفوعا رقم (397) .(2/166)
[فصل]
بر الوالدين بعد موتهما
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات الإنسان (374) انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جاريهَ، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (375) .
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجرى يبلغه أجرها، وعلم يُعْمَلُ به من بعده) (376) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ترْفَع للميت بعد موته درجة، فيقول: أي رب! أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك " (377) .
__________
(374) أي المؤمن، فقد بينت السنة اشتراط كون الأب مؤمنًا موحدا كما يأتي إن شاء الله.
(375) رواه مسلم رقم (1631) في الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، وأبو داود رقم (2880) في الوصايا: باب ما جاء في الصدقة عن الميت، والترمذي رقم (1376) في الأحكام: باب في الوقف، والنسائي (6/251) في الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت، والطحاوي في مشكل الآثار (1/85) والبيهقي (6/278) ، والإمام أحمد (2/372) .
(376) أخرجه ابن ماجه (1/106) ، وابن حبان في صحيحه رقما (84، 85) والطبراني في المعجم الصغير ص (79) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/15) ، وصحح إسناده الحافظ المنذري في "الترغيب" (1/58) .
(377) أخرجه ابن ماجه (3660) ، والإمام أحمد (2/509) والبخاري في " الأدب المفرد" (1/36) ، وقال البوصيري في "الزوائد": " إسناده صحيح، رجاله =(2/167)
ومن البر بهما بعد موتهما: قضاء صوم النذر أو الكفارة عنهما: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام، صام عنه وَلِيُّه " (378) .
ومن البر بهما بعد موتهما: التصدق عنهما:
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمى تُوُفيَتْ، أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟ "، قال: " نعم "، قال: " فإن لي مَخْرَفا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها " (379) .
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلًا قال: "إن أمي افْتُلِتت (380) نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ " قال: " نعم، فتصدق عنها ") (381) .
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن
__________
= ثقات" (3/159) وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1598) (4/129) .
(378) أخرجه البخاري (4/168) في الصوم: باب من مات وعليه صوم، ومسلم رقم (1147) في الصوم: باب قضاء الصيام عن الميت، وأبو داود رقم (2400) في الصوم: باب فيمن مات وعليه صيام.
(379) أخرجه البخاري (5/289) في الوصايا: باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة عن أمي فهر جائز، وباب الإشهاد في الوقف والصدقة: وباب إذا وقف أرضا، ولم يبين الحدود فهو جائز، وأبو داود رقم (2882) في الوصايا، والترمذي رقم (669) في الزكاة، والنسائي (6/252، 253) ، والمَخْرَفُ: النخل، لأنها تخترف ثمارها، أي: تجتني.
(380) افْتُلِتَتْ: افتلتت نفس فلان، أي: مات فجأة، كأن نفسه أخذَتْ فَلْتَةً.
(381) رواه البخاري (5/291) في الوصايا: باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه، وفي الجنائز، ومسلم رقم (1004) في الزكاة، وأبو داود رقم (2881) في الوصايا، والنسائي (6/250) في الوصايا، وابن ماجه (2/ 160) ، والإمام أحمد (6/51) .(2/168)
أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ "، قال: " نعم ") (382) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن عَمْرًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: " أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد، فصمتَ، وتصدقتَ عنه، نفعه ذلك ") (383) .
__________
(382) أخرجه مسلم (5/73) ، والنسائي (2/129) ، وابن ماجه (2/160) ، والبيهقي (6/278) ، والإمام أحمد (2/371) .
(383) أخرجه الإمام أحمد (2/182) ، وقال الألباني في الصحيحة، رقم (484) : (وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، على الخلاف المعروف في عمرر بن شعيب عن أبيه عن جده) إلى أن قال حفظه الله:
(والحديث دليل واضح على أن الصدقة والصوم تلحق الوالد، ومثله الوالدة بعد موتهما إذا كانا مسلمين، ويصل إليهما ثوابهما، بدون وصية منهما، ولما كان الولد من سعى الوالدين، فهو داخل في عموم قوله تعالى: (وَأن ليس للإنسان إلا ما سعى فلا داعي لتخصيص هذا العموم بالحديث وما ورد في معناه في الباب، مما أورده المجد ابن تيمية في " المنتقى" كما فعل البعض.
واعلم أن كل الأحاديث التي ساقها في الباب هي خاصة بالأب أو الأم من الولد، فالاستدلال بها على وصول ثواب القرَب إلى جميع الموتى كما ترجم لها المجد ابن تيمية بقوله: " باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى) غير صحيح، لأن الدعوى أعم من الدليل، ولم يأت دليل يدل دلالة عامة على انتفاع عموم الموتى من عموم أعمال الخير التي تهدى إليهم من الأحياء، اللهم إلا في أمور خاصة ذكرها الشوكاني في " نيل الأوطار" (4/78-80) ، ثم الكاتب في كتابه (أحكام الجنائز وبدعها) ، من ذلك: الدعاء للموتى، فإنه ينفعهم إذا استجابه الله تبارك وتعالى، فاحفظ هذا تنج من الإفراط والتفريط في هذه المسألة، وخلاصة ذلك أن للولد أن يتصدق، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ويقرأ القرآن عن والديه لأنه من سعيهما، وليس له ذلك عن غيرهما، إلا ما خصه الدليل مما سبقت الإشارة إليه، والله أعلم) اهـ =(2/169)
ويُروى عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سَلِمة، فقال: " يا رسول الله: هل بقي مِنْ بِر أبَوَي شيء أبَرهما بعد موتهما؟ "، فقال: (نعم، الصلاةُ عليهما (384) ، والاستغفارُ لهما، وإنفاذ عهدهما مِن بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصَلُ إلا بهما، وإكرام صديقهما ") (538) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا خرج إلى مكة، كان له حمار يتروَّحُ عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يومًا على ذلك الحمار، إذ مَرَّ به أعرابي، فقال: " ألست ابنَ فلان؟! "، قال: " بلى"، فأعطاه الحمار، فقال: " اركب هذا "، والعمامةَ، وقال: " اشدُد بها رأسك"، فقال له بعض أصحابه: " غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ حمارًا كنت تَرَوحُ عليه، وعمامة كنت تَشُدُّ بها رأسك؟ ! "، فقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبَر البر صلة الرجل أهلَ وُد أبيه بعد أن يُوَلّي، وإن أباه كان وُدُّا لعمر ") ] (386) .
__________
= من سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (484) .
(384) أي الدعاء لهما بالرحمة، وإن لم يكن بلفظ الصلاة، فإن الله تعالى لم يجعل الدنيا عوضًا عن بر الوالدين، بل قال: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) أي: سل الله لهما الفوز في الآخرة.
(385) رواه أبو داود رقم (5142) في الأدب: باب بر الوالدين، وابن ماجه رقم (3664) في الأدب: باب صل من كان أبوك يصل، وابن حبان رقم (2030) ، وفي سنده على بن عبيد الساعدي، الراوي عن أبي أسيد لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجال السند ثقات، والحديث ضَعفَ الألباني إسناده في " تحقيق المشكاة، رقم (4936) ، و "ضعيف ابن ماجه " ص (296) رقم (800) .
(386) رواه مسلم رقم (2552) في البر والصلة: باب فضل صلة أصدقاء الوالد، =(2/170)
وفي رواية البخاري في "الأدب المفرد"، وكذلك الترمذي مختصرا: "إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ".
ويروى عن عبد الله بن دينار بلفظ: (مر أعرابي في سفر، فكان أبو الأعرابِي صديقًا لعمر رضي الله عنه، فقال للأعرابي: " ألستَ ابن فلان؟ "، قال: " بلى، فأمر له ابن عمر بحِمار كان يستعقب (387) ، ونزع عمامته عن رأسه فأعطاه، فقال بعض من معه: (أما يكفيه درهمان؟ " (388) ، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " احفظ وُدً أبيك، لا تقطعه فيطفئ الله نورَك ") (389) .
وعن ثابت البُناني عن أبي بردة قال: (قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر، فقال:، أتدرى لم أتيتُك؟ " قال: قلت: لا، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ أحَب أن يَصِلَ أباه في قبره، فَلْيَصِل إخوانَ أبيه مِن بعده "، وإنه كان بين أبي: عمرَ، وبين أبيك إخاء وود، فأحببت اًن أصِلَ ذلك) (390) .
__________
= وأبو داود رقم (5143) في الأدب: باب بر الوالدين، والترمذي رقم (1904) في البر والصلة: باب ما جاء في إكرام صديق الوالد، ومعنى (أبر البر، أفضله بالنسبة إلى والده، وكذا والدته، وذلك باْن يحفظ الابن أهل ود أبيه وأمه إذا ماتا أو غابا، فيحسن إلى قرابتهما وأحبائهما، فإن هذا من تمام الإحسان إلى الأب، وإنما عُد هذا من أبر البر، لأنه إذا حفظ غيبه فهو بحفظ حضوره أولى وأحرى.
(387) أي يستريح عليه إذا ضجر من ركوب البعير كما في الرواية السابقة.
(388) ولفظ مسلم: (قال ابن دينار: " قلنا له: إنهم الأعراب، وهم يرضَوْن باليسير ") .
ورواه بهذا اللفظ البخاري في " الأدب المفرد" رقم (40) ، وعزاه في الجامع الصغير) إلى الطبراني في " الأوسط" والبيهقي في " شعب الإيمان"، وقال الحافظ العراقي: " إسناده جيد"، وحسنه الهيثمي، والسيوطي كما في: "فيض القدير" (1/196) ، وضعفه الألباني في (ضعيف الجامع" (1/106) رقم (210) .
(390) أخرجه ابن حبان (2031) ، وصححه الألباني على شرط البخاري، وعزاه =(2/171)
عاقبة البر، ومواقف سلفية في بر الوالدين
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (" دخلت الجنة، فسمعت قراءة، فقلت: "من هذا؟ " فقيل:
" حارثة بن النعمان "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذلكم البر، كذلكم البر ") وزاد عبد الرزاق في روايته: (وكان أبر الناس بأمه " (391) .
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن لي أمُّا بلغ منها الكِبَرُ أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية - يعني: أحملها إلى مكان قضاء الحاجة - فهل أدَّيت حقها؟) ، فقال عمر: " لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه، وتتمنى فراقها) (*) .
وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا يطوف بالكعبة حاملًا أمه على رقبتَه، فقال: يا ابن عمر أترى أني جزيتها؟ قال: " لا، ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا ".
وفي رواية البخاري في " الأدب المفرد": (أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري حدث أنه شهد ابنُ عمر رجلًا يمانيا يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول:
إنى لها بعيرُها المذلَّلْ ... إن أذعِرت ركابُهَا لم أذعَرْ
الله ربي ذو الجلال الأكبر
__________
= إلى أبي يعلى، و " السلسلة الصحيحة، رقم (1432) (3/417 - 418) .
(391) رواه الإمام أحمد (6/36، 151 - 152، 166 -167) ، والبغوي في " شرح السنة، (13/71) ، وعبد الرزاق في المصنف" (20119) ، والحاكم (3/208) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة، (1/618) : "إسناده صحيح " اهـ.
(*) نقلًا من " المرأة وحقوقها في الإسلام" للشيخ مبشر الطرازي ص (62-63) .(2/172)
حملتُها أكثر مما حملت ... فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
ثم قال: يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة) (392) .
وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما ثلاثةُ نَفَرٍ يتماشَون، أخذهم المطر، فمالوا إلى غارٍ في الجبل، فانحطَّت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالًا عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يُفَرِّجُها، فقال أحدهم: " اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت عليهم، فحلبت، بدأتُ بوالديَّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجَرُ (393) ، فما أتيتُ حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحْلُب، فجئت بالحِلَاب، فقمتُ عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَوْنَ (394) عند قدمي، فلم يزل ذلك دَأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فُرْجة نرى منها السماء، ففرَّج الله لهم حتى يرون السماء" الحديث (539) .
(وكان الفضل بن يحيى أبر الناس بأبيه، بلغ من بِره إياه أنهما كانا في السجن، وكان يحيى لا يتوضأ إلا بماء سخن، فمنعهما السجان من
__________
(392) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (11) ، وابن المبارك في البر والصلة، والبيهقي في شعب الإيمان في الخامس والخمسين، والزفرة: المرة من الزفير، وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
(393) نأى بي الشجر: بَعُدَ المرعى والرجوع عنه.
(394) يتضاغون: يُصَوِّتون باكين.
(395) رواه البخاري (8/3) ط. الشعب، ومسلم (8/89) في الرقاق، وابن حبان (497- موارد) ، وانظر: " مجمع الزوائد " (8/140) .(2/173)
إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام يحيى، قام الفضل إلى قُمْقُمَةٍ، وملأها ماءً، ثم أدناه من المصباح، ولم يزل قائمًا - وهو في يده - حتى أصبح) (396) .
قال ابن المنكدر: " بِتُّ أكبس رِجْلَ أبى، وبات آخر يصلي - يعنى التهجد- ولا يسرني ليلته بليلتي " (*) .
وعن أبي عبد الرحمن قال: " كان رجل منا بَرُّا بوالديه، فأمراه أو أمره أحدهما أن يتزوج، فتزوج، فوقع بين أمه وبين امرأته شر، ووافقه أهله، فقالت له أمه: طلقْها، قال: فاشتد عليه أن يطلق امرأته، واشتد عليه أن يعق أمه، قال: فرحل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقص عليه قصته، فقال: ما كنت آمرك أن تطلق امرأتك، ولا أن تَعُق أمك، ولكن إن شئت حَدَثتُك حديثًا سمعتهُ من النبي صلى الله عليه وسلم: " الوالد (397) أوسط (398) أبواب الجنة، فإن شئت فحافظ على الباب، أو ضَيعْ "، قال فأنا أشهدكم أنها طالق، فرجع وقد طلق امرأته " (399) .
وعن أبي كثير السُّحَيمي قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه، قال: " والله، ما خلق الله مؤمنًا يسمع إلا أحبني "، قلت: " وما علمك بذلك؟ ! "، قال: (إن أمي كانت مشركة، وكنت أدعوها إلى
__________
(396) " بر الوالدين، للطرشوشي ص (78) .
(*) من " المرأة وحقوقها، للشيخ مبشر الطرازي ص (62) .
(397) الوالد: أي الشخص الوالد، فيشمل الأم والأب.
(398) أوسط أبواب الجنة: أي خير أبواب الجنة، والمقصود أن طاعته تؤدي إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها.
(399) الترمذي (1901) في البر والصلة، وقال: " هذا حديث صحيح، وصححه ابن حبان (2023) ، وانظر " شرح السنة) للبغوي (13/10-11) ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته: " لا يحل له أن يطلقها، بل =(2/174)
الإسلام، وكانت تأبى عَلَي، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكى، فأخبرتُهُ، وسألتهُ أن يدعو لها، فقال: " اللهم اهْدِ أمً أبي هريرة "، فخرجْت أعدو أبشرها، فأتيت، فإذا الباب مُجَاف، وسمعتُ خضخضةَ الماء، وسَمِعَتْ حِسِّي، فقالت: "كما أنت"، ثم فتحتْ، وقد لبِست درعها، وعَجِلت عن خمارها، فقالت: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله "، قال: فرجعت إلى رسول الله، أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن؛ فأخبرته، وقلت: " ادعُ الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين "، فقال: " اللهم، حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما " (400) .
وها هو رضي الله عنه يحكى أنه كان يشتد به الألم من الجوع، فيخرج من بيته إلى المسجد، لا يخرجه إلا الجوع، فيجد نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: " يا أبا هريرة ما أخرجك هذه الساعة؟ "، فيقول: " ما أخرجني إلا الجوع) ، يقول أبو هريرة: (فقمنا، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: " ما جاء بكم هذه الساعة؟ "، فقلنا: " يا رسول الله جاء بنا الجوع"، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال: " كلوا هاتين التمرتين، واشربوا عليهما الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا "، قال أبو هريرة: فأكلت تمرة، وخبأت الأخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة لم رفعت هذه التمرة؟ "، فقلت: " رفعتها لأمي "، فقال: " كُلْها، فإنا سنعطيك لها تمرتين، فأكلتها، فأعطاني لها تمرتين ") (401) .
__________
عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها) اهـ. نقله عنه السفاريني في " غذاء الألباب " (2/331) ، وانظر أيضا: " الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/503) .
(400) أخرجه الإمام أحمد (2/219، 220) ، مسلم (2491) في فضائل الصحابة، وحسنه الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (2/593) .
(401) " سير أعلام النبلاء" (2/592 - 593) ، "طبقات ابن سعد " (4/328 - 329) .(2/175)
وعن أبي مُرَّة: (أن أبا هريرة كان يستخلفه مروان، وكان يكون بذي الحُلَيْفَة، فكانت أمه في بيت، وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها، فقال: " السلام عليكِ - يا أمتاه - ورحمة الله وبركاته "، فتقول: " وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته "، فيقول: " رحمكِ الله كما ربَّيْتِني صغيرا "، فتقول: " رحمك الله كما بررتني كبيرًا "، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله) (402) ، (ولازم أبو هريرة أمه، ولم يحج حتى ماتت لصحبتها) (403) .
وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟ ذاك رجل أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره، وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله، وأخذ البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم عنه: (كان عمر رضى الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: " أفيكم أويس بن عامر؟ "، حتى أتى عَلَى أويس بن عامر، فقال: " أنت أويس بن عامر؟ " قال: " نعم "، قال: (مِن مراد؟ " قال: " نعم "، قال: " كان بك بَرَصٌ فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟ " قال: " نعم "، قال: " لك والدة؟ " قال: " نعم "، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قَرَن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها، لو أقسمِ على الله لأبَرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل "، فاستغفِرْ لي، فاستغَفر له،
__________
(402) رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم (12) ، وروى بعضه الإمام أحمد في (المسند" (4/409، 429، 430، 527) .
(403) رواه ابن عساكر في " تاريخه " (47/516 - 517) ، كذا عزاه د. محمد عجاج الخطيب في " أبو هريرة راوية الإسلام " ص (120) .(2/176)
فقال له عمر: " أين تريد؟ قال: " الكوفة"، قال: " ألا اكتب لك إلى عاملها؟ "، قال: " أكون في غبراء الناس أحب إلي ") (404) .
وعن أصبغ بن زيد، قال: " إنما منع أويسًا أن يَقْدَم على النبي صلى الله عليه وسلم بِره بأمه " (*) .
(وعن أبي عبد الرحمن الحنفي قال: رأى كَهْمَس بن الحسن عقربا في البيت، فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته إلى جُحْرها، فأدخل يده في الجحر يأخذها، وجعلت تضربه، فقيل له: " ما أردت إلى هذا؟، لِمَ أدخلتَ يدك في جحرها تخرجها؟ " قال: " إني أحمد؟ خفت أن تخرج من الجحر فتجيء إلى أمي فتلدغها "، وكان يمينه الذي يحلف به: إني أحمد، وأحمد) (405) اهـ.
وعن الحسن بن نوح قال: (كان كَهمَس يعمل في الجص كل يوم بدانقين، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه) (406) اهـ.
(وكان كهمس الدَّعَّاءُ يكسح البيت، ويخدم أمه، فأرسل إليه سليمان بن علي الهاشمي بصُرة، وقال: (اشتر بها خادمًا لأمك "، لأنه كان مشغولًا بخدمتها، وكان أبر شيء بأمه، وأراده على أن يقبلها فأبى، فألقاها في البيت، ومضى، فأخذها كَهمَس، وخرج يتبعه حتى دفعها إليه) (407) اهـ.
وكان عمرو بن عبيد يأتي كهمسًا يسلم عليه، ويجلس عنده هو
__________
(404) رواه مسلم في " صحيحه " - انظر: شرح النووي" (5/223) .
(*) " سير أعلام النبلاء" (6/211) .
(405) " حلية الأولياء " (6/211) .
(406) ، (407) " السابق " (6/212) .(2/177)
وأصحابه، فقالت له أمه: " إني أرى هذا وأصحابه، وأكرههم، وما يعجبوني، فلا تجالسهم "، قال: " فجاء إليه عمرو وأصحابه، فأشرف عليهم، فقال: "إن أمي قد كرهتك وأصحابك، فلا تأتوني " (408) اهـ.
وقيل: " إن محمد بن سيرين كان يكلم أمه كما يُكَلَّمُ الأمير الذي لا يُنْتَصَف منه " (*) .
وعن بعض آل سيرين قال: " ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع "، وعن ابن عون قال: (دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: " ما شأن محمد أيشتكي شيئا؟ " قالوا: " لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه ") (409) .
وهذا أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهما وهو المسمى زين العابدين كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه، حتى قيل له: " إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة "، فقال: " أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عَيْنها، فأكون قد عققتها " (410) اهـ.
وهذا عبد الله بن عون (نادته أمه فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين) (411) .
(وكان طلق بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يُقَبلُ رأسَ أمه،
__________
(408) "السابق" (6/212) .
(*) "المرأة وحقوقها" للشيخ مبشر الطرازي ص (62) .
(409) " السابق " (2/273) .
(410) " عيون االأخبار " (3/97) .
(411) " حلية الأولياء " (3/39) .(2/178)
وكان لا يمشى فوق ظهر بيت هي تحته - إجلالا لها -) (412) .
(وحُكي عن ابن القاسم: أنه كان يًقرأ عليه " الموطأ "- إذ قام قياما طويلًا ثم جلس، فقيل له في ذلك، فقال: " نَزَلَت أمي فسألتني حاجة فقامت، فقمتُ لقيامها، فلما صَعِدَتْ جَلَسْتُ ") (413) . (وكان حَيْوَةُ بنُ شُرَيح - وهو أحد أئمة المسلمين - يقعد في حلقته
يعلم الناس، فتقول له أمه: " قم يا حيوةُ، فألقِ الشعير للدَجاج "، فيقوم ويترك التعليم) (414) .
وعن هشام بن حسان قال: (كان الهُذَيلُ بن حفصة يجمع الحطب في الصيف، فَيَقْشرُه، يأخذ القصب، فيفلِقه، قالت حفصة: وكنت أجد قِرةً (*) ، فكان إذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفي، وأنا في مُصَلَّاي، ثم يقعد فيوقَد بذلك الحطب المقشر، وذاك القصب المفلق وَقودًا لا يؤذي دخانه ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك.
قالت: وربما أردت أنصرف إليه، فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك، ثم أذكر ما يريد فأدعه (415) .
قال هشام: وكانت له لِقْحة - أي ناقة حلوب غزيرة اللبن - قالت حفصة: كان يبعث إلى بحَلْبَةٍ بالغداة، فأقول: " يا بنى إنك لتعلم أني لا أشربه، أنا صائمة "، فيقول: " يا أم الهذيل إن أطيب اللبن ما بات
__________
(412) ، (413) " بر الوالدين" للطرطوشي ص (78) .
(414) "السابق" (79) .
(*) القِرةُ: بكسر القاف، ما أصابك من القُر - بالضم - أي البرد.
(415) "صفة الصفوة" (4/25) ، وفيه إعانة الوالد ولده على بره.(2/179)
في ضروع الإبل، اسقِيه من شئتِ ") (416) .
(قال محمد بن سعد: كانت لمسعر بن كدام أم عابدة، فكان يحمل لها لِبدا، ويمشى معها حتى يدخلها المسجد، فيبسط لها اللبد، فتقوم، فتصلي، ويتقدم هو إلى مقدم المسجد، فيصلى، ثم يقعد، ويجتمع إليه من يريد، فيحدثهم، ثم ينصرف إليها، فيحمل لبدها، وينصرف معها) (417) .
(ولى ممات ذَر - وكان من الأولياء - قال أبوه عمر بن ذَر: " اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك "، فقيل له: " كيف كانت عشرته معك؟ "، قال: " ما مشى معى قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى قط سقفا كنت تحته ") (418) .
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: " مات أبي، فما سألت الله - حَوْلا - إلا العفوَ عنه " (499) .
وكان عروة بن الزبير يقول في صلاته - وهو ساجد -: " اللهم اغفر للزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر " يعنى والديه رضي الله عنهما (420) .
وكان أبو يوسف الفقيه يقول عقيب صلاته: " اللهم اغفر لأبَوَيَّ، ولأبي حنيفة " (421) .
__________
(416) " السابق" (4/25 - 26) .
(417) " السابق " (3/188-189) .
(418) " بر الوالدين " للطرطوشى ص (76) ، وانظر سير أعلام النبلاء" (6/388) .
(419) " عيون الأخبار" (3/98) .
(420) " بر الوالدين للطرطوشي ص (77) .
(421) السابق.(2/180)
(وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله بَرا بوالديه، وكان يدعو لهما، ويستغفر لهما مع شيخه حماد، وكان يتصدق كل شهر بعشرين دينارًا عن والديه (أ) .
و (قال أبو يوسف: كان أبو حنيفة يحمل والدته على حماره إلى مجلس عمر بن ذرّ كراهيةَ أن يرد قولها، وقال أبو حنيفة: ربما ذهبتُ بها إلى مجلسه، وربما أمرتني أن أذهب إليه، وأسأله عن مسألة، فآتيه، وأذكرها له، وأقول له: (إن أمي أمرتني أن أسألك عنها "، فيقول: " وأنت تسألني عن هذا؟ "، فأقول: " هي أمرتني"، فيقول: " قل لي: كيف هو - يعني الجواب - حتى أخبرك؟ "، فأخبره بالجواب، ثم يخبرني به، فآتيها، وأخبرها عنه بما قال، ونظير ذلك أنها استفتت عن شيء، فأفتيتها، فلم تقبله، وقالت: " لا أقبل إلا بقول زُرعة القاص "، - أي الواعظ - فجاء بها إليه، وقال له: " إن أمي تستفتيك في كذا "، فقال: " أنت أعلم وأفقه، فَأفتِها " قال: " أفتيتها بكذا "، فقال زرعة: " القول ما قال أبو حنيفة " فرضيت، وانصرفت (ب) .
وعن يحيى بن عبد الحميد قال: (كان الإمام يُخْرَجُ كل يوم من السجن، فيضْرَب ليدخل القضاء فيأبى فلما ضُرِب رأسُه، وأثًرَ ذلك في وجهه بكى، فقيل له في ذلك، فقال: " إذا رأته أمي بكت، واغتمت، وما علىٌ شيء أشد من غَم أمي) (ج) اهـ.
وقال محمد بن شجاع الثلجي حدثني حبان - رجل من أصحاب أبي حنيفة- قال:
__________
(أ) " أبو حنيفة النعمان " للشيخ: وهبى غاوجي الألباني ص (102) .
(ب) " أخلاق العلماء " للشيخ محمد سليمان ص (79) .
(ج) " أبو حنيفة النعمان ص (102) .(2/181)
(قال أبو حنيفة حين ضُرِب لِيَليَ القضاء: " ما أصابني في ضربي شيء أشدُّ عَلَيَّ من غَم والدتي "، وكان بها بارُّا) .
وعن يحيى الحماني عن أبيه قال: (كان أبو حنيفة يُضْرَبُ على أن يلى القضاء، فيأبى، ولقد سمعته يبكي، وقال: " أبكي غَما على والدتي "!) (د) .
__________
(د) مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه " للحافظ الذهبي ص (15 - 16) .(2/182)
[فصل]
التحذير من عقوق الوالدين والأم
وما أحسن قول بعضهم، إغراءً على البر، وتحذيرًا عن العقوق ووباله، وإعلامَا بما يدحض العاق إلى حضيض سفاله، ويحطه عن كماله: (أيها المضيع لأوكد الحقوق، المعتاض عن البر بالعقوق، الناسي لما يجب عليه، الغافل عما بين يديه، بر الوالدين عليك دَين، وأنت تتعاطاه باتباع الشين، تطلب الجنة بزعمك، وهى تحت أقدام أمك، حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج، وكابدت عند وضعك ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثديها لبنًا، وأطارت لأجلك وَسَنًا، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك على نفسها بالغِذا، وصيَّرت حِجرها لك مهدا، وأنالتك إحسانا ورفدا، فإن أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والنحيب، وبذلت مالها للطبيب، ولو خُيِّرت بين حياتك وموتها، لآثرت حياتك بأعلى صوتها، هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك، فشبعتَ وهى جائعة، ورويت وهي ضائعة، وقدمت عليها أهلك وأولادك في الإحسان، وقابلت أياديها بالنسيان، وصعب لديك أمرها وهو يسير، وطال عليك عمرها وهو قصير، وهجرتها وما لها سواك نصير، هذا، ومولاك قد نهاك عن التأفيف، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف، ستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أخراك بالبعد من رب العالمين، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد (ذلك بما(2/183)
قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) الحج (10) .
لأمك حَقٌّ لو علمتَ كبير ... كثيرُك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي ... لها من جواها أنَّةٌ وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة ... فمن غُصَص منها الفؤاد يطير
وكم غَسَلَتْ عنك الأذى بيمينها ... وما حَجْرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسِها ... ومن ثديها شُرب لديك نمير (422)
وكم مرة جاعت وأعطتك قُوتَها ... حُنُوًّا وإشفاقًا وأنت صغير
فآهًا لذي عقل ويتبع الهوى ... وآها لأعمى القلب وهو بصير
فدونَكَ فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير (423)
__________
(422) النمير لغة: الزاكي من الماء.
(423) "الزواجر عن اقتراف الكبائر " (2/71-72) .(2/184)
[فصل]
وفاؤها لأولادها
رغم أن الإسلام لم يحمد من المرأة كرهَها للزواج بعد زوجها (*) ، لقد شكر ذلك لها، وأجزل عليه مثوبتها، إن اعتزمته، وأقدمت عليه، وفاءً لأبنائها، ورعيا لهم، وضَنَا بهم أن يضيعوا عند غير أبيهم: من سهل بن سعد مرفوعًا: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا: وأشار بالسبابة والوسطى، وفَرَّج بينهما شيئًا " (424) .
ويُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يفتح باب الجنة، إلا أني أرى امرأة تبادرني، فأقول لها: " مالك؟ ومن أنت؟ "، فتقول: " أنا أمرأة قعدتُ على أيتام لي) (425) .
ويروى عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال
__________
(*) انظر: " سير أعلام النبلاء " (2/203) ، " سلسلة الأحاديث الصحيحة " رقم (1281) ، رقم (608) .
(424) رواه مسلم رقم (2983) في الزهد والرقائق: باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، و " الموطأ " (2/948) في الشعر: باب السنة في الشعر.
(425) ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8/162) وقال: (رواه أبو يعلى، وفيه عبد السلام بن عجلان، وثقه أبو حاتم، وابن حبان، وقال: " يخطئ، ويخالف " وبقية رجاله ثقات) اهـ، وقال أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري: (رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد حسن، ومعنى " قعدت على أيتام أي مات زوجها، وترك لها أيتاما، فلم تتزوج، وقعدت على أيتامها تربيهم) اهـ من " تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة " ص (178) - الحديث العشرون والمائة.(2/185)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة - وأومأ يزيد بن زريع الراوي بالوسطى والسبابة -، امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا (426) .
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة فأعطيتها أياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ") (427)
وفي رواية لمسلم: (جائتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة وأعتقها بها من النار) .
وهذه أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها أخت أمير المؤمنين
__________
(426) أخرجه الإمام أحمد (6/29) وأبو داود رقم (5149) في الأدب: باب فضل من عال يتيما وفي سنده النهاس بن قهم بن الخطاب البصري القاضي قال الحافظ في التقريب: ضعيف والسفعة نوع من السواد ليس بكثير وأراد أنها بذلت نفسها ليتاماها وتركت الزينة والترفه حتى شحب لونها واسود وآمت - بالمد - أقامت بلا زوج ومعنى بانوا انفصلوا واستغنوا وانظر: عون المعبود (14/58) .
(427) رواه البخاري (4/26) في الزكاة: باب اتقوا النار ولو بشق تمرة وفي الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومسلم رقم (2629) في البر والصلة باب فضل الإحسان إلى البنات والترمذي رقم (1916) في البر والصلة: باب ما جاء في النفقة على البنات.(2/186)
علي رضي الله عنه، وبنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وراوية حديث الإسراء، فَرق الإسلام بينها وبين زوجها (هبيرة) (428) ، وكانت قد انكشفت منه عن أربعة بنين، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم هانئ: " يا رسول الله، لأن أحب إليَّ من سمعي ومن بصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن أضيعَ بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضَيِّعَ حق زوجي "، وهنا امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم، وشكر لها ذلك، فقال: " إن خير نساءٍ ركبن الإبل نساءُ قريش، أحْناه على ولدٍ في صِغَرِه، وأرْعاهُ على بَعلٍ - أي زوج - في ذات يده " (429) .
وانصرفت أم هانئ إلى الاهتمام بأمور أبنائها وتربيتهم تربية صالحة، فنشأوا عالمين عاملين، وروى بعضهم عنها ما حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث أمثال ابن ابنها جَعْدة المخزومي، وابن ابنها يحيى بن جعفر، وابن ابنها هارون، وعاشت حتى خلافة أخيها علي رضي الله عنه.
وكان ذلك بعض عذر أم سلمة حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت تقول له: " إني مُصبْية " (430) ، فأرسل إليها: " أما ما ذكرتِ من أيتامك
__________
(428) انظر: " سير أعلام النبلاء " (2/312 - 313) .
(429) رواه البخاري (9/107) في النكاح: باب إلى من ينكح؟ وأي النساء خير؟ وفي النفقات: باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، والنفقة، ومسلم (2527) في فضائل الصحابة: باب خيار الناس، والإمام أحمد (2/269) ، 275، 393، 449، 502) ، وفي رواية " المستدرك " (4/53) : (لكني امرأة مُصبِية، فأكره أن يؤذوك) .
(وقوله: " أحناه على ولد ": أشفقه، والحانية التي تقوم بولدها بعد موت الأب، وحنت المرأة على ولدها: لم تتزوج بعد موت الأب، قال ابن التين: فإن تزوجت فليست بحانية، قال الحسن في الحانية: التي لها ولد، ولا تتزوج) اهـ.
من " فتح الباري " (6/473) .
(430) أي ذات صبية، والصبي من لم يفطم بعد، وقد كان لها ثلاثة أولاد: سلمة أكبرهم، وعمر وزينب أصغرهم، وربوا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.(2/187)
فعلى الله وعلى رسوله "، فقالت عند ذلك: مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم " (431)
وتلك أم سُليم الغُمَيْصاء رضي الله عنها إحدى السابقات إلى الإسلام، أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلًا رضيعًا، فكانت تقول له: قل: " لا إله إلا الله "، قل: " أشهد أن محمدَا رسول الله " فجعل ينطق بذلك أولَ ما ينطق، فكان مما يثير الغضب في نفس مالك، فيقول لها: " لا تفسدي علي ولدى " فتقول: " إني لا أفسده "! ، ثم أيأسه أمرها فخرج عنها إلى الشام، وهنالك لقي عدوا له، فقتله، فلما بلغها قتله - وكانت شابة حَدَثَة، وكثر خُطَابُها - قالت: " لا جَرَمَ، لا أفطم أنسًا حتى يدع الثدي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني " فوفت بعهدها وَبَرَّتْ، وكان أنس رضي الله عنه يعرف لها تلك المنة، ويقول: " جزى الله أمي عني خيرًا، لقد أحسنت ولايتي ".
حتى إذا شب أنس تقدم لخِطتها أبو طلحة زيد - وكان مشركًا - فأبت، ثم قالت له يومًا فيما تقول: " أرأيت حجرًا تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار، فينجرها لك: هل يضرك؟ هل ينفعك؟ "، وأكثرت من أشباه ذلك الكلام، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال: " لقد وقع في قلبي الذي قلتِ "، وآمن بين يديها، قالت: " فإني أتزوجك، ولا أريد منكَ صَداقًا غير الإسلام " (432) ، قال ثابت:
__________
(431) انظر روايات الحديث في " الطبقات " لابن سعد (8/90) ، و " المسند " للإمام أحمد (6/313، 314، 317) ، وسنن النسائي (6/81، 82) في النكاح: باب إنكاح الابن لأمه، وقال الحافظ في " الإصابة " (13/223) : (إسناده صحيح) اهـ.
وصححه ابن حبان (1282) ، والحاكم (4/17) ، ووافقه الذهبي.
(432) أخرجه ابن سعد في " الطبقات " (8/426) ، والنسائي (6/114) في النكاح: =(2/188)
(فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم الإسلام) (433) اهـ.
وقالت امرأة من نساء اليمامة تدعى (أم أثال) - وكانت كأحسن النساء وجها-، فلما مات زوجها، تدافع الخُطَابُ على بابها، فردَّت كل خاطب، وفاءً لابنها أثال:
لعمر أثال لا أفدي بعيشه ... وإن كان في بعض المعاش جفاءُ
إذا استجمعت أم الفتى غَص طَرفَه ... وشاعَرَهُ دون الدِّثار بلاءُ (434)
ذلك بعض حديث المرأة المسلمة في الوفاء لخير ما وُكلَتْ به، وخُلِقَتْ له، بعد العبودية لرب العالمين.
الأمومة والتضحية:
تنتقل المرأة بعد ذلك إلى طور آخر تبلغه، فتبلغ به غاية ما أعدَّت له من كمال النفس، وشرف العاطفة، ذلك طور التضحية، فهناك تنزل المرأة عن حقها من الوجود لمن فُصِل عن لحمها ودمها، تسهر لينام، وتظمأ لِيروى، وتحتمل الألم المُمِضَّ- راضية مغتبطة - لتذيقه طعم الدعة، وتُنْشِيَهُ نسيم النعيم.
تلك هي التضحية بالنفس بلغت بها الأمومة غايتها:
* والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجودِ "
وهاك هذه القصة الشعرية الرمزية، والتي يُظهر فيها الشاعر حقيقة قلب الأم، وما يكنه من مشاعر وعواطف، ورأفة وحنان:
__________
= باب التزوج على الإسلام، ورجاله ثقات خلا خالد بن مخلد، وهو القَطَواني، قال الحافظ في " التقريب " (1/218) : (صدوق يتشيع، وله أفراد) اهـ.
(433) رواه النسائي (6/114) ، وانظر: " المحلى" (9/499 - 500) .
(434) " بلاغات النساء " ص (132 - 133) .(2/189)
أغرى امرؤ يوما غلاما جاهلا ... بنقوده كيما ينال به الوطر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ... ولك الجواهر والدراهم والدرر
فمضى وَأغرزَ خِنجرًا في صدرها ... والقلبَ أخرجهُ وعاد على الأثر
لكنه من فرطِ سرعتهِ هوى ... فتدحرجَ القلبُ المقطعُ إذ عَثَر
ناداه قلبُ الأم وَهْوَ مُعَفرٌ ... ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
***
فكأنَّ هذا الصوتَ رغم حُنُوهِ ... غضبُ السماءِ على الغلامِ قد انهمر
فدرى فظيع جناية لم يَجْنِها ... ولد سِواه منذ تاريخِ البشر
فارْتَد نحو القلب يغسِلُه بما ... فاضت به عيناهُ من سيلِ العِبَر
ويقولُ يا قلبُ انتقم مني ولا ... تغفرْ فإنَّ جريمتي لا تُغتَفَر
واسْتَل خِنجرَهُ ليطعنَ قلبَهُ ... طعنًا فيبقى عِبْرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كُفَّ يدًا، ولا ... تطعنْ فؤادي مرتين على الأثر (435)
__________
(435) نقلًا من " خطر التبرج والاختلاط " لعبد الباقي رمضون " ص (134 - 135) .(2/190)
[فصل]
من مواقف الأم المسلمة
[في قرن وبعض قرن وثب المسلمون وثبة ملأوا بها الأرض قوة وبأسا وحكمة وعلما فراضوا الأمم وهاضوا الممالك وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات إفريقية وأطراف أوروبة وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتنقلب بها الألسنة بعد أن كانوا فرائق بددا لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة.
ففي أي المدارس درجوا ومن أي المعاهد خرجوا؟
لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي سهم لها الدهر ووجم لروعتها التاريخ ولم يقيموا معهدا أو ينشئوا جامعة ... استغفر الله! بل لقد كانت خصاصهم وخيامهم ودورهم وقصورهم معاهد ومدارس وما شئت من مغارس حكمة ومغاوص آداب ولي أمرها أمهات صدق أقامهن الله على نشئه واستخلفهن على صنائعه وَائْتَمَنَهُنَّ على دعاة حقه ورعاة خلقه فكن أقوم خلفائه بواجبه وأثبتهن على عهده وأنهضهن بالفادح الشديد من أمره لقد كان الله سبحانه وتعالى أبر بهؤلاء القوم من أن يخرجهم مخرجا سيئا أو ينبتهم منبتا فاسدا أو يضمهم إلى صدور واهية وقلوب سقيمة ثم يسومهم أشرف مطالب الحياة ويوردهم أسمى مقاصدها.. لأن الأم من الأمة بمثابة القلب من الجسد فهي غذاء أرواحهم ومران أعوادهم ومفيض مداركهم ومبعث عواطفهم فإن وهنت كان كل أولائك ضعيفا لقد كانت نهضة المسلمين غريبة فريدة لأن المرأة كذلك كانت غريبة(2/191)
فريدة.. وإذا كانت المرأة الحديثة قد أنصتت لـ " لنكولن " زعيم الجمهورية الأمريكية، وهو يقول لمهنئيه بمنصب من مناصب الدنيا: " لا تهنئوني، وهنئوا أمي فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا "، فإن المرأة المسلمة كانت تستمع لأشباه هذا الكلام من أشباه " لنكولن "، فلا ينثني جيدها، ولا يهتز عِطفها لطول ما سمعته وألفته] (436) .
ودونك هذه المواقف للأم المسلمة لترى مصداق هذا الحديث: بطل قريش يرتجف أمام أمه:
(لما كانت موقعة أحد أغرت هند بنت عتبة بحمزة بن عبد المطلب من خالسه فصرعه - وكان قد قتل آلها يوم بدر - ثم نفذت إليه فبقرت بطنه، ونزعت كبده، وجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وجاء بعدها أبو سفيان، فأخذ يطعنه بالرمح في فمه حتى مزقه ... انقضت الموقعة، وجثمان حمزة تكاد تَحيل معالمه لفرط ما مُثلَ به، فلما وقف به رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد حزنه لما أصاب عمه البطل الكريم، ووقف بنجوة منه، ثم أبصر فوجد عمته صفية بنت عبد المطلب مقبلة لتنظر ما فعل القوم بأخيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: " دونَك أمَّك فامنعْها "، وأكبر همه ألا يَجِدَّ بها الجزع لما ترى، فلما وقف ابنها يعترضها قالت: " دونك، لا أرض لك، لا أمَ لك! "
وهنالك رجفت أحناء بطل قريش، وزلزلت قدماه، واعتقل لسانه، وكَر راجعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه حديث أمه، فقال: " خَل سبيلها ".
كذلك انفرجت صفوف الناس لعمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسارت حَتى أتت أخاها فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، وقالت لابنها: " قل لرسول الله: ما أرضانا بما كان في سبيل الله!
__________
(436) انظر: " المرأة المسلمة " لعبد الله عفيفي (2/125 - 126) .(2/192)
لأحتسبنَ، ولأصبرن إن شاء الله ") (437) .
فانظر إلى موقف البطل المسلم حيال أمه، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف دونها فيعترضها! ولو سامه النبي صلى الله عليه وسلم لا أن يعترض الجيش اللهام لوقف في سبيله غير هائب ولا مدفوع.. وماله لا يعنو وجهه، ولا ترتجف أضالعه لعظمة الأمومة وعظمة الخُلُق؟!
(لبث عبد الله بن الزبير (438) على إمرة المؤمنين، ودانت له العراق والحجاز واليمن ثماني سنين، ثم أخذ عبد الملك بن مروان يقارعه، فانتقص منه العراق، ورماه بعد ذلك بالحجاج بن يوسف، فأخذ يطوي بلاده عنه حتى أتى إلى مكة فطوقها، ونصب المجانيق على الكعبة، وأهوى بالحجارة عليها، وفي الكعبة يومئذ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
وكان عبد الله يقَاتل جند الحجاج مسندا ظهره إلى الكعبة، فيعيث فيهم، ويروعُ أبطالهم، وليس حوله إلا القوم الأقلون عددًا، والحجاج بين ذلك كله يرسل إليه يمنيه الخير، ويعده بالإمارة في ظل بني أميَّة لو أغمد سيفه، وبسط للبيعة يده.
دخل عبد الله على أثر ذلك على أمه، فقال: " يا أُمَّه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ "، فقالت: " الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه، فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردت
__________
(437) السابق (2/129 - 130) ، وانظر " الروض الأنف " للسهيلي (3/172) .
(438) ابن الزبير رضي الله عنهما أبوه حواري رسول الله، وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله، وجدته صفية عمة رسول الله، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد رضي الله عنهن، انظر " البداية والنهاية " (8/334) .(2/193)
الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي، فليس هذا فعل الأحرار ولا مَن فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عِز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل "، فقال: " يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني "، قالت: " يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله "، فقبل رأسها، وقال لها: " هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى الله، والله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تُهتَك محارمه، ولكني أحببت أن أطلع على رأيك فيزيدني قوة وبصيرة مع قوتي وبصيرتي، والله ما تعمدت إتيان منكر، ولا عملًا بفاحشة، ولم أجُر في حكم، ولم أغدِر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي حيف فرضيت به، بل أنكرت ذلك، ولم يكن شيء عندي آثر من رضاء ربي، اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلوَ عَني "، فقالت: " والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، اخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك "، ثم قالت: " اللهم ارحم طول ذلك القيام بالليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأمه، اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين "، قال: " يا أُمَّه لا تدَعي الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده "، فقالت: " لن أدعه، فمن قتِلَ على باطل، فقد قُتِلْتَ على حق "، فتناول يدها ليقبلها، فقالت: " هذا وداع فلا تبعد "، فقال لها: " جئت مودعًا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا "، قالت: " امض على بصيرتك، وادن مني حتى أودعك "، فدنا منها فعانقته، وقبلته، فوقعت يدها على الدرع، فقالت: " ما هذا صنيع من يريد ما تريد "! فقال: " ما لبستها إلا لأشد متنكِ "، قالت: " إنها لا(2/194)
تشد متني "، فنزعها، ثم درج لِمته، وشد قميصه وجبته، وخرج وهو يقول:
أبي لابن سلمى أن يُعير خالدا ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما
فلست بمبتاع الحياة بسُبَّةٍ ... ولا مرتقٍ من خشية الموت سُلَّما
وقال لأصحابه: " احملوا على بركة الله، وليشغل كل منكم رجلًا، ولا يلهينَّكم السؤال عني، فإني على الرعيل الأول "، ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، وهنالك رماه رجل من أهل الشام بحجر فأصاب وجهه، فأخذته منه رعدة، فدخل شعبًا من شعاب مكة يستدمي، فبصُرت به مولاة له، فقالت:
" وا أمير المؤمنينا! "، فتكاثر عليه أعداؤه عند ذلك فقتلوه، وصلبه الحجاج، فأقام جثمانه على الجذع، حتى إذا أمر عبد الملك بإنزاله، أخذته أمه فغسلته بعد أن ذهبوا برأسه، وذهب البلى بأوصاله، ثم كفنته، وصلت عليه، ودفنته) (439) .
وروى ابن حزم بسنده عن صفية بنت شيبة قالت: (دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب، فقيل له: " هذه أسماء "، فمال إليها وعزاها، وقال: " إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند الله عز وجل "، فقالت له أسماء: " وما يمنعني، وقد أهدى رأس يحيى إِلى بغي من بغايا بني إسرائيل ") (440) .
قال عروة: (دخلت أنا وأخي قبل أن يُقتل، على أمنا بعشر ليال، وهى وَجِعَة، فقال عبد الله: " كيف تجدينك؟ "، قالت: " وَجِعة "،
__________
(439) السابق (2/130- 132) بتصرف، وانظر " البداية والنهاية، (8/329 - 345) .
(440) المحلى (2/22) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء " (2/294 - 295) .(2/195)
قال: " إن في الموت لعافية!، قالت: " لعلك تشتهي موتي؛ فلا تفعل "، وضَحِكَتْ، وقالت: " والله، ما أشتهي أن أموت، حتى تأتي على أحد طرفَيْك: إما أن تُقْتَلَ فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني، إياك أن تُعرض على خُطة فلا توافق، فتقبلها كراهية الموت ") ، قال: " وإنما عَنى أخي أن يُقتل، فيَحزنها ذلك " (أ) .
وعن ابن عيينة: حدثنا أبو المُحيَّاة، عن أمه، قال: لما قَتل الحجاج ابن الزبير، دخل على أسماء، وقال لها: " يا أمه، إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لكِ من حاجة؟ "، قالت: " لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثَّنية، وما لي من حاجة؛ ولكن أحدثك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج في ثقيف كذاب، ومُبير "، فأما الكذاب، فقد رأيناه - تعنى المختار - وأما المُبِيرُ، فأنت "، فقال لها: " مبير المنافقين " (ب) .
وعن يَعْلي التيمي قال: (دخلتُ مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث - وهو مصلوب- فجاءت أمُّهُ عجوز طويلة عمياء، فقالت للحجاج: " أما آن للراكب اًن ينزل؟ "، فقال: " المنافق؟ "، قالت: " والله ما كان منافقَا، كان صَواما قَوامًا بَرُّا "، قال: " انصرفي يا عجوز، فقد خَرِفْتِ "، قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في ثقيف كذاب، ومبير ... " الحديث (ج) .
هكذا كان أول ما لُقنَت المرأة من أدب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، الاعتصام بالصبر، إذا دجا الخطب، وجل المصاب.
__________
(أ) " سير أعلام النبلاء " (2/293) .
(ب) " السابق " (2/294) .
(ج) " السابق ".(2/196)
أوَ لَم تر إلى الخنساء، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها، واضطرام حشاها على أخيها، لقد استحال كل ذلك إلى صبر أساغه الإيمان، وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا. أولئك أبناؤها، وهم أشطار كبدها، ونياط قلبها، خرجوا إلى القادسية وكانوا أربعة، فكان مما أوصتهم به قولها: " يا بَني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتمَ مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنْتُ حَسبَكم، وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية.
اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتمَ الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارًا على أرواقها، فَيَمِّمُوا وَطِيسها (د) ، وجالدوا رَسيسها (هـ) ، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة ".
فلما كَشَّرَت الحرب عن نابها، تدافعوا إليها، وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قُتِلوا واحدا في أثر واحد.
ولما وافتها النُّعاةُ بخبرهم، لم تزد على أن قالت: " الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة " (و) .
ذلك أبعد مدى تبلغه المرأة من جلال الصبر وقوة الإيمان!
[وعن جويرية بن أسماء عن عمه أن إخوة ثلاثةً شهدوا يوم تُسْتَر،
__________
(د) الوطيس: المعركة أو الضرب.
(هـ) الرسيس: الأصل.
(و) "الإصابة" (8/66-67) ، وانظر رقم (1316) .(2/197)
فاستشهدوا، فخرجت أمهم يومًا إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجل حضر " تُستر" فعرفته، فسألته عن أمور بنيها، فقال: " استشهدوا "، فقالت: " مقبلين أو مدبرين؟ " قال: " مقبلين "، قالت: " الحمد لله نالوا الفوز، وحاطوا الذمار، بنفسي هم وأبي وأمي ") اهـ من جمهرة الخطباء] (441) اهـ.
كل ذلك وأشباهه مما جعل للأم المقام الأوفى، والمنزلة الأسمى، وهذا هو سر عظمة القوم، وسبيل نهضتهم، ومُنبعَثُ قوتهم، وإليه مرجع استبسالهم واستماتتهم:
خَلفْتِ جيلًا من الأبطال سيرتهم ... تضوع بين الورى رَوْحًا وريحانا
كانت فتوحهموا بِرًّا ومرحمة ... كانت سياستهم عدلًا وإحسانا
لم يعرفوا الدين أورادًا ومِسْبحة ... بل أشْبِعوا الدينَ محرابًا وَميْدانا (442)
__________
(441) "المنحة المحمدية في بيان العقائد السلفية، للشيخ محمد بن أحمد بن عبد السلام خضر ص (211) .
(442) انظر " تربية الأولاد في الإسلام " (1/298) .(2/198)
[فصل]
الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء
إذا قلبت صفحات تاريخنا الإسلامي، فلا تكاد تقف على عظيم ممن ذَلتْ لهم نواصي الأمم، ودانت لهم الممالك، وطبق ذكرهم الخافقين، إلا وهو ينزع بِعِرْقِهِ وخُلُقِهِ إلى أم عظيمة، وكيف لا يكون ذلك والأم المسلمة قد اجتمع لها من وسائل التربية ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها؟ مما جعلها أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم، وفي مسارب دمائهم:
فالزبير بن العوام: فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلغ من بسالته وبطولته، أن عدل به الفاروق رضي الله عنه، ألفًا من الرجال، حين أمد به جيش المسلمين في مصر، وكتب إلى قائدهم عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول:
" أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألفٍ: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن خالد ".
وقد صدقت فِراسة الفاروق رضي الله عنه، وسجل التاريخ في صفحاته أن الزبير لا يعدل ألفًا فحسب، بل يعدل أمة بأسرها، فقد تسلل إلى الحصن الذي كان يعترض طريق المسلمين، وصعد فوق أسواره، وألقى بنفسه بين جنود العدو، وهو يصيح صيحة الإيمان: " الله اكبر ".. ثم اندفع إلى باب الحصن، ففتحه على مصراعيه، واندفع المسلمون، فاقتحموا(2/199)
الحصن، وقضوا على العدو قبل أن يفيق من ذهوله.
(هذا البطل العظيم إنما قامت بأمره أمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت حمزة أسد الله، فقد شب في كنفها، ونشأ على طبعها، وتخلق بسجاياها.
والكَمَلَة العظماء: عبد الله، والمنذر، وعروة أبناء الزبير: كانوا ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وما منهم إلا له الأثر الخالد، والمقام المحمود.
وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة وأحفلها بجلال الخلال، فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعبد الله بن جعفر: سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم، تركه أبوه صغيرًا، فتعاهدته أمه أسماء بنتُ عُمَيس، ولها من الفضل والنبل ما لها. وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: أريب العرب وألمعيُّها، ورث عن هند بنت عتبة همة تجاوز الثريا، وهي القائلة - وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: " إن عاش معاوية ساد قومه " - " ثكِلْتُهُ إن لم يَسُد إلا قومه "، ولما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: (إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه "، فقالت: " أوَ مِثْلُ معاوية يكون خَلَفا من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها، ثم رُمِيَ به فيها، لخرج مِن أيها شاء ".
وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع الفخر بالمقدرة، وجوذب بالمباهاة بالرأي، انتسب إلى أمه فصدع أسماع خصمه بقوله: " أنا ابن(2/200)
هند ") (443) .
وعبد الله بن زيد المازني: الذي حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قتَل مسيلمة الكذاب بسيفه (444) ، وقتل هو يوم الحرة.
وأخوه حبيب بن زيد بن عاصم المازني: الذي أخذه مسيلمة فقطَّعَه، قطعة قطعة.
كلاهما كان ثمرة أم فاضلة مجاهدة هي أم عُمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكَّائين، شهدت ليلة العقبة، وشهدت أحدًا، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة، وجاهدت، وفعلت الأفاعيل) (445) .
وعبد الملك بن مروان: أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكان لها من مضاء العزم، وذكاء القلب، ونفاذ الرأي - ما لم يكن بعض الرجال في شيء منه، وهي التي يعنيها ابن قيس الرقيات في قوله لعبد الملك:
أنتَ ابن عائشة التي ... فضلت أُرُومَ (446) نسائها
__________
(443) "المرأة العربية" (133/133-134) بتصرف، وانظر: " معاوية بن أبي سفيان " لمنير الغضبان ص (31) .
(444) هكذا ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله في (سير أعلام النبلاء) (2/281 - 282) ، وهو يخالف ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله في قصة مقتل مسيلمة الكذاب في " البداية والنهاية " (6/341) ، (6/268) من أن الكذاب قتله وحشي بن حرب، وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري.
(445) انظر: " سير أعلام النبلاء " (2/278 - 282) ، وسيأتي مزيد من فضائلها ومناقبها في الفصل الخامس " ص (552) إن شاء الله.
(446) الأروم: جمع الأرومة: الأصل.(2/201)
لم تلتفت لِلِداتِها (447) ... ومَشت على غُلَوائها (448)
وَلَدَت أغَرَّ مباركًا ... كالشمس وَسطَ سمائها (449)
وأبو حفص عمر بن عبد العزيز: أورع الملوك وأعدلهم وأجلهم، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، أكمل أهل دهرها كمالا، وأكرمهن خلالًا، وأمها تلك التي اتخذها عمر لابنه عاصم، وليس لها ما تعتز به من نشب ونسب، إلا ما جرى على لسانها قول الصدق في نصيحتها لأمها (450) ، وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق رضي الله عنه.
وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر: الذي ولي الأندلس وهو ولاية تميد بالفتن، وتَشْرَقُ بالدماء، فما لبثت أن قرت له، وسكنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح سبعين حصنا في غزوة واحدة، ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له، ورجف لبأسه، فكان أعظم أمراء بني أمية في الأندلس، حكم مدة خمسين سنة وستة أشهر، وبعد ما كانت قرطبة إمارة، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوربة وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها.
أتدري ما سر هذه الهمة، وما مهبط وحيها؟ إنها المرأة وحدها! فقد نشأ عبد الرحمن يتيمًا قتل عمُّه أباه وعمره واحد وعشرون يوما،
__________
(447) لدات: جمع لِدة، واللًدَةُ: التربُ، من وُلِد معك.
(448) الغُلَواء: الغُلو، وأول الشباب وسرعته.
(449) " العقد الفريد " (2/216) ط. بولاق، وانظر " السير" للذهبي (4/249) .
(450) حكى الميداني أن عمر رضي الله عنه مر بسوق الليل - وهي من أسواق المدينة - فرأى امرأة معها لبن تبيعه، ومعها بنت لها شابة، وقد همت العجوز أن تَمْذِقَ لبنها - أي تخلطه بالماء - فجعلت الشابة تقول: يا أمه لا تمذقيه، ولا تغُشيه، فوقف علبها عمر فقال: مَنْ هذه منك؟ قالت: ابنتي، فأمر عاصمًا فتزوجها، وهى جدة عمر بن عبد العزيز لأمه.(2/202)
فتفردت أمه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السمو في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت) (451) .
وسفيان الثوري: وما أدراك ما سفيان الثوري (452) ؟!.
إنه فقيه العرب ومحدثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث الذي قال فيه زائدة: (الثوري سيد المسلمين) ، وقال الأوزاعي: (ولم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان) ، وما كان ذلك الإمام الجليل، والعَلَم الشامخ، إلا ثمرة أم صالحة، حفظ التاريخ لنا مآثرها، وفضائلها، ومكانتها، وإن كان ضَن علينا باسمها.
روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله بسنده عن وكيع قال:
(قالت أم سفيان لسفيان: " يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي (453) ، فكانت - رحمها الله - تعمل، وتقدم له، ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة، قالت له ذات مرة- فيما يرويه الإمام أحمد أيضا -: " يا بني إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك " (454) .
فهل من غرابة بعد هذا أن نرى سفيان يتبوأ منصب الإمامة في الدين، كيف وهو قد ترعرع في كنف مثل هذه الأم الرحيمة، وتغذي بلبان تلك الأم الناصحة التقية؟!
__________
(451) " المرأة العربية " (2/136) بتصرف، وانظر: " الأعلام " للزركلي (3/324) .
(452) انظر: " الإمام سفيان الثوري " للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني ص (36-37) .
(453) ، (454) " صفة الصفوة " (3/189) .(2/203)
والإمام الثقة الثبت إمام أهل الشام وفقيههم، أبو عمرو الأوزاعي: يقول فيه أبو إسحاق الفزاري: (ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خُيرتُ لهذه الأمة، لاخترت لها الأوزاعي، لأنه كان أكثر توسعًا، وكان والله إمامًا، إذ لا نصيبُ اليوم إمامًا، ولو أن الأمة أصابتها شدة، والأوزاعي فيهم لرأيت لهم أن يفزعوا إليه) (455) ، وقال الخريبي: (كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه) .
وقال بقية بن الوليد: (إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي، فمن ذكره بخير، عرفنا أنه صاحب سنة) وقال العجلي: (شامي ثقة من خيار المسلمين) .
وقال الشافعي: (ما رأيت أحداً أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي (456) .
قال النووي رحمه الله: (وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي، وجلالته، وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف رحمهم الله كثيرة مشهورة مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له، واعترافهم بمرتبته) (457) .
وعن سفيان الثوري: (أنه لما بلغه مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذِي طوى، فحل سفيان رأس البعير عن القطار، ووضعه على رقبته، وكان
__________
(455) يعنى كي يفيدوا من علمه وقضائه وورعه.
(456) انظر: " تهذيب التهذيب " (6/238-242) .
(457) " تهذيب الأسماء واللغات " (1/229) .(2/204)
إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ) (458) .
(وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الطبقات أن الأوزاعي سئل عن الفقه- يعني استُفْتي - وله ثلاثَ عشرةَ سنة) (459) .
ذلك الحَبر البحر كان أيضًا ثمرة أم عظيمة:
قال الذهبي رحمه الله: (قال العباس بن الوليد: فما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا تعجبه من الأوزاعي، فكان يقول: " سبحانك تفعل ما تشاء " كان الأوزاعي يتيمًا فقيرًا في حَجْر أمه، تنقلُهُ من بلدٍ إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه أن بلغتَه حيث رأيتُه، يا بني " عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه، ما سمعتُ منه كلمةً قطُّ فاضلةً إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكًا قط حتى يُقهقِه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد، أقول في نفسي: أتُرى في المجلس قلبٌ لم يبك؟) (460) .
قال أبو مسهر:
وكان الأوزاعي رحمه الله يحيي الليل صلاةً وقرآنًا وبكاءً، وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت، أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي، وتتفقد موضع مُصَلَاه، فتجده رطْبًا من دموعه في الليل) (461) اهـ.
[وهذه أم " ربيعة الرأي " شيخ الإمام مالك: أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خَلًفها زوجها عندها، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة، وكانت أمه قد اشترتهما
__________
(458) ، (459) " السابق " (1/300) .
(460) " سير أعلام النبلاء " (7/110) .
(461) " سير أعلام النبلاء " (7/120) .(2/205)
له بمال الرجل، فأحمد الرجل صنيعها، وأربح تجارتها في قصة طلية ساقها ابن خلكان، قال:
(وكان فرُّوخ أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وَخَلَّفَ عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسا، وفي يده رمح، فنزل، ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال: " يا عدو الله أتهجم على منزلي؟ "، فقال فروخ: (يا عدو الله أنت دخلت على حرمي؟ "، فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالكَ بن أنس، فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: " لا فارقتك"، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: (أيها الشيخ لك سَعَة في غير هذه الدار "، فقال الشيخ: " هي داري، وأنا فروخ "، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، وقالت: " هذا زوجي، وهذا ابنى الذي خَلَّفه، وأنا حامل به "، فاعتنقا جميعا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال: " هذا ابني؟ "، فقالت: " نعم "، قال: " أخرجي المال الذي عندك "، قالت- تُعَرضُ -: " قد دفنته، وأنا أخرجه "، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حِلْقته، فأتاه مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به، فقالت أمُه لزوجها فروخ: (اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها، فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: " من هذا الرجل؟ "، فقيل: " هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن "، فقال: " لقد رفع الله ابني "، ورجع إلى منزله، قال لوالدته: " لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها "، فقالت أمه: " فأيما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه؟ "، فقال: " لا والله، بل هذا "، فقالت: " أنفقت المال كله عليه "، قال: " فوالله(2/206)
ما ضَيَّعْتِهِ ") ] اهـ (462) .
إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله:
قال مطرف: قال مالك: (قلت لأمي: " أذهب، فأكتب العلم؟ "، فقالت: " تعال، فالبس ثياب العلم "، فألبستني مسمرة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: " اذهب، فاكتب الآن "، وكانت تقول: " اذهب إلى ربيعة، فتعلًّمْ من أدبه قبل علمه ") (*) اهـ.
ثم إذا نشرنا صفحة العهد العباسي، بل صفحة العهد الإسلامي لا نجد في تضاعيفها امْرَءَا دنت له قطوف العلم والحكمة، ودانت له نواصي البلاغة والفصاحة كمحمد بن إدريس الشافعي فهو الشهاب الثاقب الذي انتظم حواشي الأرض، فملأ أقطارها علما وفقهًا، ذلك أيضًا ثمرة الأم العظيمة.
فقد مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرقت عليه بحكمتها، وكانت امرأة من فضليات عقائل الأزد (463) ، وهي التي تنقلت به من " غزة " مهبطه إلى " مكة " مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك.
(وكانت أم الشافعي رحمها الله - باتفاق النقلة- من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة (464) ، ومن طريف ما يحكى عنها من
__________
(462) "من أخلاق العلماء " للشيخ محمد بن سليمان ص (153-154) .
(*) نقله عن (مقدمة كتاب " الديباج المذهب " لابن فرحون) الأستاذ محمد نور سويد في كتابه " منهج التربية النبوية للطفل " ص (235) .
(463) " طبقات الأدباء " (6/368) ، " المجموع " للنووي (1/14) .
(464) " طبقات الشافعية الكبرى " لابن السبكي (2/179) .(2/207)
الحذق والذكاء: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وأخرى (465) مع رجل، فأراد أن يفرق بين المرأتين، فقالت له أم الشافعي: " ليس لك ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) (466) ، فرجع القاضي لها في ذلك) (467) .
قال الحافظ ابن حجر: " وهذا فرع غريب، واستنباط قوي " (468) .
وعن وكيع قال: " كان الحسن بن صالح وأخوه وأمهما قد جَزَءوا الليل ثلاثة أجزاء، فكل واحد يقوم ثلثًا، فماتت أمهما، فاقتسما الليل، ثم مات علي، فقام الحسن الليل كله " (*) .
وكان جعفر بن يحيى وزير الرشد أرفق الناس برياضة القول، وأعرفهم بفنون الكلام، وكان إذا عقب رسالة، أو وقَع تحت كتاب فإليه مباءة البلاغة، ونهاية الإيجاز، حتى لقد يتدافع الكُتَّابُ على بابه فيشترون من حُجابه كل توقيع بدينار.
" كل ذلك ورثه جعفر عن أمه لا عن أبيه " (469) .
وعن سفيان بن عيينة قال: (قالت أم طَلْقٍ لطَلْقٍ: " ما أحسنَ صوتَك بالقرآن" فليته لا يكون عليك وَبالا يوم القيامة "، فبكى حتى غشي عليه) (470) .
__________
(465) هي أم بشر المريسي كما في " السابق " (2/179) .
(466) من الآية (282) من سورة البقرة.
(467) ، (468) " توالي التأسيس" لابن حجر ص (46) .
(*) " حلية الأولياء " (7/328) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء " (7/361) وما بعدها.
(469) " البيان والتبيين" (1/59) .
(470) " صفة الصفوة " (3/37) .(2/208)
أم إبراهيم البصرية العابدة:
حُكي أنه كان بالبصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثَغْر من ثغور الإسلام، فانْتُدِبَ الناسُ للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد البصري في الناس خطيبًا، فَحَضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم هذه حاضرةً مجلسَه، وتمادي عبد الواحد على كلامه، ثم وصف الحور العين، وذَكَر ما قيل فيهن، وأنشد في وصف حَوْراء:
غادة ذاتُ دَلال وَمَرَحْ ... يَجدُ النًاعِتُ فيها ما اقترحْ
خُلِقَتْ مِن كل شيء حَسَن ... طيب فاللَّيْثُ فيها مُطَّرَحْ
زَانَها الله بوجهٍ جُمِعَت ... فيه أوصافُ غَريباتِ المُلَح (أ)
وبعين كُحلُها من غُنْجِها (ب) ... وبِخَدٍّ مِسكُهُ فيه رَشح
ناعم يجري على صفحتِهِ ... نَضرةُ المُلْكِ ولألاءُ الفرح
أتَرى خاطبَها يسمعُها ... إذ تُدِيرُ الكأسَ طَوْرًا والقَدَح
في رياض مونق نَرْجَسُها ... كلما هبَّتْ له الريحُ نَفَح
وهي تدعوه بِوُد صادق ... مُلئ القلبُ به حتى طَفَح
يا حبيبًا لستُ أهوى غيرَه ... بالخواتيمِ يتِم المُفْتَتَح
لا تكونن كمن جَدَّ إلي ... مُنْتَهى حاجَتِهِ ثم جَمَح
لا، فما يَخْطُبُ مثلي مَنْ سَها ... إنما يخطب مِثلي مَنْ ألح
قال: فماج الناسُ بعضُهم في بعض، واضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس، وقالت لعبد الواحد: " يا أبا عبيد، ألستَ تعرف ولدي إبراهيم، ورؤساءُ أهل البصرة يخطبونه على بناتهم، وأنا أضربه عليهم، فمَد والله أعجبتني هذه الجاريةُ، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فَكَررْ ما
__________
(أ) المُلحَة: واحدة المُلَح من الأحاديث.
(ب) الغُنْج: بالضم، وبضمتين، والغُنَاج: الشكْل: الدلال، يقال: غنَجت الجارية، وهي غنِجة.(2/209)
ذكرتَ من حُسْنِها وجمالها، فأخذ عبد الواحد في وصف حوراء، ثم أنشد:
تَوَلًدَ نورُ النورِ مِن نورِ وجهِها ... فمازج طيبَ الطيبِ من خالص العِطْرِ
فلو وَطئَتْ بالنعِل منها على الحصى ... لأعْشَبَتِ الأقطارُ من غير ما قَطْر
ولو شِئتَ عَقدَ الخَصْرُ منها عُقْدَتَه ... كغصن من الريحان ذي ورق خُضْرِ
ولو تَفَلَتْ في البحر شَهْدَ رُضابها (ج) ... لطابَ لأهل البَر شرب مِنَ البحر
يكادُ اختلاسُ اللحظِ يجرح خَدَّها ... بجارحِ وَهْمِ القلبِ من خارجِ السترِ
فاضطرب الناسُ أكثر، فوثبت أم إبراهيم، وقالت لعبد الواحد: " يا أبا عبيد، قد والله أعجبتْني هذه الجاريةُ، وأنا أرضاها عروسا لولدي، فهل لك أن تزوِّجَهُ منها هذه الساعة، وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعل الله يرزقه الشهادة، فيكون شفيعا لي ولأبيه في القيامة؟ "، فقال لها عبد الواحد: " لئن فعلتِ لتفوزَن أنتِ وولدك وأبو ولدِكِ فوزا عظيمًا "، ثم نادت ولدها: " يا إبراهيم "، فوثب من وسط الناس، وقال لها: " لبيك يا أماه "، قالت: " أي بُنَي، أرَضِيت بهذه الجارية زوجةً ببذل مهجتك في سبيله، وتركِ العَوْدِ فِي الذنوب؟ "، فقال الفتى: " إي والله يا أماه، رَضِيتُ أي رضًا "، فقالت: " اللهم إني أشهِدك أني زَوَّجت ولدي هذا من هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك، وترك العود في الذنوب، فتقبلْه مني يا أرحم الراحمين"، قال: ثم انصرَفَتْ، فجاءت بعشرة آلاف دينار، وقالت: " يا أبا عبيد، هذا مهر الجارية تَجَهَزْ به، وجَهِّز الغزاةَ في سبيل الله تعالى "، وانصرفت، فابتاعت لولدها فرسا جيدًا، واستجادت له سلاحا، فلما خرج عبد الواحد خرج إبراهيمُ يعدو، والقراءُ حولَه يقرءون: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، قال: فلما أرادت فِراق ولدها، دفعت إليه
__________
(ج) الرضاب: الريق المرشوف، وفُتات المسك، وقطع السكر، والبرد، ولعاب العسل.(2/210)
كفنًا وحَنُوطًا، وقالت له: " يا بُنَيَّ، إذا أردتَ لقاء العدو فتكفنْ بهذا الكفن، وتحنط بهذا الحَنُوطِ، وإياك أن يراك الله مُقَصرا في سبيله "، ثم ضَمَّتهُ إلى صدرِها، وَقَبلَتْهُ بين عينيه، وقالت له: " يا بني لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عَرَصات القيامة ".
قال عبد الواحد: فلما بَلَغْنَا بلادَ العدو، ونُودِي في النفير، وبرز الناس للقتال، برز إبراهيمُ في المقدمة، فقتل من العدو خَلْقًا كثيرَا، ثم اجتمعوا عليه فقُتِل.
قال عبد الواحد: فلما أردنا الرجوعَ إلى البصرة قلت لأصحابي: " لا تُخبروا أمَّ إبراهيم بخبر ولدها، حتى ألقاها بحسن العزاء، لئلا تجزعَ فيذهبَ أجرُها "، قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناسُ يَتَلَقوْنَنَا، وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج، قال عبد الواحد: فلما نَظَرَتْ إليَّ قالت: " يا أبا عبيد، هل قُبِلتْ منى هَدِيتي فَأهنأ، أم رُدتْ عَلى فَأعزى؟ "، فقلت لها: (قد قُبِلَتْ هديتُكِ، إن إبراهيمَ حَي مع الأحياء يرزَق " (د) ، قال: فخرت ساجدةَ لله شكَرا، وقالت: " الحمد لله الذي لم يخيب ظني، وتقبل نسكي مني "، وانصرفت، فلما كان من الغد أتت إلى مسجد عبد الواحد، فنادت: (السلام عليك يا أبا عبيدٍ بُشْراك "، فقال: " لا زلتِ مُبَشرةً بالخير "، فقالت له: (رأيت البارحةَ ولدي إبراهيم، في روضة حسناء، وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاجٌ وإكليل، وهو يقول: (يا أماه أبشري، فقد قُبِلَ المهرُ، وزُفت العروس ") (هـ) .
__________
(د) الصحيح أن يدعو له بالشهادة، أو يستثني فيقول: " إن شاء الله "، انظر: " فتح الباري، (6/ 89) .
(هـ) ذكر هذه القصة الشيخ محمود العالم رحمه الله في مختصره: (فكاهة الأذواق من =(2/211)
كذلك كانت النساء في ذلك العهد الكريم مبعث كل شيء في نفوس أبنائهن، والأمر في ذلك ما قال رافع بن هُريم:
فلو كنتم لِمُكْيِسَة لكاست ... وكَيس الأم يُعْرَفُ في البنينا
أما بعد:
فأولئك هن الأمهات اللواتي انبلج عنهن فجر الإسلام، وسمت بهن عظمته، وصدعت بقوتهن قوته، وعنهن ذاعت مكارمه، ورسخت قوائمه، وهكذا كانت الأم في عصور الإسلام الزاهية، وأيامه الخالية: مهبط الشرف الحر، والعز المؤثل، والمجد المكين، وصدق الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراقِ
الأم روض إن تعهده الحيا ... بالري أورق أيما إيراقِ
الأم أستاذ الأساتذة الألى ... شَغلَتْ مآثرهم مدى الآفاق
__________
= مشارع الأشواق، إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام) ص (26-29) ، للعلامة المجاهد أحمد بن إبراهيم النحاس رحمه الله.(2/212)
[الفصل الثالث]
المرأة بنتًا
إن الإسلام لم يفرق في المعاملة الرحيمة والعطف الأبوي بين رجل وامرأة، وذكر وأنثى، وإنما دعا إلى المساواة والعدل الشامل بينهما في هذا الباب، قال الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية (النحل: 90) ، وقال عز وجل من قائل: (اعدوا هو أقرب التقوى) (المائدة: 8)
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعدِلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائًكم" (471) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن أراد أن يفضل بعضَ ولده على بعض في الهبة: " أعْطَيتَ سائرَ ولدِك مثل هذا؟ " قال: " لا "، قال: " فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم " (472) ، وفي رواية أخرى أنه لما جاء يشهده صلى الله عليه وسلم قال له: " فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور "، وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: " سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضَّلتُ النساء " (473) .
قال الألوسي رحمه الله: " المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب النساء لضعفهن، ولذا يندب للرجل إذا أعطى شيئًا لولده أن يبدأ
__________
(471) تقدم تخريجه رقم (311) .
(472) تقدم تخريجه رقم (311) .
(473) تقدم تخريجه رقم (322) .(2/213)
بأنثاهم " (474) اهـ.
وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) الآية الأنعام (139) .
(واسْتُدِلَّ بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الإناث، وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف، لأن ذلك من فعل الجاهلية، واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة، وأخرج البخاري في " التاريخ " عن عائشة رضي الله عنها قالت: " يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده؟! إن هذا إلا كما قال الله تعالى: (خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) (475) ") اهـ.
حرم الإسلام الوأد، وشنع على فاعليه بالخسران والسفه، قال تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) الآية الأنعام (140) ، وقال عز وجل: (وإذا المَوءُودَة سُئِلَت بأي ذنب قُتلَت) التكوير (9، 8) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعا وهات،
ووأد البنات " (476) .
وَبَيَّنَ الإسلام أن كراهية البنات، والتشاؤم بهن، والحزن لولادتهن جاهلية بغيضة إلى الله تعالى، قال سبحانه ناعيا على أهلها: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مُسْوَدًّا وهو كظيم (477) ، يتوارى من القوم من
__________
(474) " روح المعاني " (8/36) . (475) "السابق " (8/37) .
(476) تقدم تخريجه رقم (368) .
(477) (وهو كظيم) أي مشتد الغيظ على امرأته، لأنه- بزعمه- حصل له منها ما يوجب أشد الحياء. (القاسمي 10/3819) ، (والكظيم: المغموم الذي يُطبق فاه فلا يتكلم من الغم، مأخوذ من الكظامة، وهو شَدُّ فم القِربة) اهـ. من " الجامع لأحكام القرآن " (10/116) ، وقال أبو حيان: (أخبر عمَّا يظهر في وجهه، وعن ما يُجِنه في قلبه) اهـ. من" البحر المحيط " (5/504) .(2/214)
سوء ما بشر به (278) أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون) (479) (النحل: 58 - 59) بل إن هذا من ضعف الإيمان وزعزعة اليقين لكونهم لم يرضوا بما قسم الله لهم من إناث فهذا أمره الغالب ومشيئته المطلقة وإرادته النافذة لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه قال عز وجل: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير) (الشورى: 49 - 50) [وما سماه الله تعالى (هبة) فهو بالشكر أولى وبحسن التقبل أحرى] .
قال واثلة بن الأسقع: [إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر وذلك أن الله تعالى قال (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) فبدأ
__________
(478) (ويروى أن بعض الجاهلية كان يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر ما يصنع: أيمسكه أيتركه ويربيه على هون أي ذل وهوان لا يورثه ولا يعتني به ويفضل ولده الذكور عليه؟ فهي مهانة عنده وعبر عنها بـ "ما" عرفا لإسقاطها في زعمهم عن درجة العقلاء) اهـ من روح المعاني (14/168) .
(479) قال الألوسي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الكفرة وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه: (وإذا بشر ... ) الآية هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه ولعمري ما ندري أي خير؟ لرب جارية خير لأهلها من غلام وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته " اهـ من "روح المعاني" (14/169)
وما كل مئناث سيشقى ببنته ... وما كل مذكار بنوه سرور
والمئناث: الذي لم ينجب إلا بنات.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا كان عنده وله بنات فتمنى =(2/215)
بالإناث] (480) .
قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله:
(فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، وأخبر أن ما قدَّره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى بالعبد تَعرُّضًا لمقته أن يتسخط ما وهبه.
وبدأ سبحانه بذكر الإناث، فقيل: جبرَا لهنَّ لأجل استثقال الوالدين لمكانهن، وقيل - وهو أحسن -: إنما قدَّمهن لأن سياق الكلام أنه فاعلَ ما يشاء، لا ما يشاء الأبوان، فإن الأبوين لا يُريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر النصف الذي يشاء، ولا يريده الأبوان.
وعندي وجه آخر: وهو أنه سبحانه قدَّم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدونهن، أي: هذا النوع المؤخر عندكم مقدُّم عندي على الذكَر، وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث، وعَرف الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص التأخير بالتعريف) (481) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: (وقد قال الله تعالى في حق النساء: (فإن
__________
= موتهن، فغضب ابن عمر، فقال: (أنت ترزقهن؟ " رواه البخاري في "الأدب المفرد" (83) .
والله سبحانه وتعالى قد تكفل برزق خلقه كافة، فقال عز وجل: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (هود: 6) ، وقال جل وعلا: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (الأنعام: 151) ، فالضجر من البنات من جهة الرزق لا مسوغ له، ولا داعي، وهو لا يصدر في الحقيقة إلا عمن ساء ظنه بربه، وضعُف يقينه به، فالمؤمن يثق بما في يد الله أكثر من ثقته بما في يده.
(480) " الجامع لأحكام القرآن " (16/48) .
(481) " تحفة المودود بأحكام المولود " ص (20- 21) .(2/216)
كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعلَ الله فيه خيرًا كثيرا) (النساء: 19) ، وهكذا البنات أيضًا قد يكون للعبد فيهن خير في الدنيا والآخرة، ويكفي في قبح كراهتهن أن يكره ما رضيه الله، وأعطاه عبده (482) .
وقال صالح بن أحمد: كان أبي إذا وُلد له ابنة يقول: " الأنبياء كانوا آباء بنات "، ويقول: (قد جاء في البنات ما قد علمت "، وقال يعقوب ابن بختان: وُلِد لي سبع بنات، فكنت كلما وُلِد لي ابنة دخلت على أحمد ابن حنبل، فيقول لي: " يا أبا يوسف! الأنبياء آباء بنات "، فكان يُذْهِبُ قولُه هَمِّي) (483) اهـ.
وقد اقتلع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض النفوس الضعيفة جذور الجاهلية فخص البنات بالذكر، أمر الآباء المربين يحسن صحبتهن، والعناية بهن، والقيام على أمورهن، وحض على رحمتهن، والشفقة عليهن.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسنَ
__________
(482) ولعله لأجل هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تهنئة المتزوج بعبارة: " بالرفاء والبنين " لأن فيها الدعاء له بالبنين دون البنات، فعن الحسن أن عقيل بن أبي طالب تزوج امرأة من جشم، عليه القوم، فقالوا: " بالرفاء والبنين"، فقال: " لا تفعلوا ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك"، قالوا: " فما نقول يا أبا زيد؟ "، قال: قولوا: " بارك الله لكم، وبارك عليكم، إنا كذلك كنا نؤمر" رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في "مصنفه" والنسائي (2/91) ، وابن ماجه (1/589) ، والدارمي (2/ 134) ، والإمام أحمد (3/451) ، وقال الألباني: (.. هذا في حكم المنقطع لكن رواه أحمد من طريق أخرى عن عقيل، فهو قوي بمجموع الطريقين، والله أعلم) اهـ من " آداب الزفاف " ص (176) ، وانظر: " أركان النكاح وشروطه، للشيخ عبد العزيز بن محمد بن داود ص (90) الفصل الثالث من الباب الثاني.
(483) " تحفة المودود " ص (26) .(2/217)
ابنَ علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: " إن لي عَشرةَ من الولد ما قبَّلْتُ منهم أحدًا "، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من لَا يَرحَم لا يرحَم " (484) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أتقَبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أوَ أمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة (485) ؟ ") .
ويروَى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له أنثى فلم يئدْها، ولم يُهِنْهَا، ولم يؤثر وَلَده - يعني الذكور - عليها، أدخله الله تعالى الجنة " (486) أي: مع السابقين.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله: " أي الذنب عند الله أعظم؟ "، قال: " أن تجعلَ لله ندا وهو خَلَقَكَ "، قال: قلت: " إن ذلك لعظيم؛ ثم أي؟ " قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ") (487) الحديث.
__________
(484) رواه البخاري (10/ 359، 360) في " الأدب ": باب رحمة الولد وتقبيله، ومسلم رقم (2318) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال، والترمذي رقم (1912) في البر: باب في رحمة الولد، وأبو داود رقم (5218) في الأدب: باب في قبلة الرجل ولده، وقال السيوطي رحمه الله: " هذا حديث متواتر" اهـ. من " فيض القدير " (6/239) .
(485) رواه البخاري (10/360) في الأدب: باب رحمة الولد وتقبيله، ومسلم رقم (2317) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال.
(486) رواه أبو داود (5146) في الأدب: باب فضل من عال يتيما، والحاكم (4/177) ، وصححه، ووافقه الذهبي،: في سنده زياد بن حدير، وهو لا يعرف، وباقي رجال السند ثقات، ولذا ضعفه الألباني في " تحقيق المشكاة " (3/1389) رقم (4979) .
(487) أخرجه البخاري (8/378) في تفسير سورة الفرقان: باب قوله: (والذين =(2/218)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عال جاريتين حتى تبلغا (488) جاء يوم القيامة أنا وهو - وضم أصابعه - " (489) ، أى: معا.
وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدَته - يعني ماله -، كنَّ له حجابا من النار " (490) .
ويروَى عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن، فله الجنة ط (491) وفي رواية أبي داود: (من
__________
= لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس) الآية، وفي تفسير سورة البقرة: باب قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادَا) ، وفي الأدب، والمحاربين، والتوحيد، ومسلم رقم (86) في الإيمان: باب كون الشرك أقبح الذنوب، وأبو داود رقم (2310) في الطلاق: باب تعظيم الزنا، والترمذي رقم (3183) من طريقين قال في أحدهما: " حسن غريب "، وفي الآخر: " حسن صحيح " (5/336 - 337) .
حنى تبلغا: " أي حتى تتزوجا، قال القرطبي: (أي: إلى أن تستقلا بأنفسهما، وذلك أن يُدخَل بهن، ولا يعني بلوغ المحيض، (إذ قد تتزوج قبل ذلك، وقد تبلغ غير مستقلة بحال نفسها، ولو تركت لضاعت، ولذا لا تسقط نفقتها عن الأب بالبلوغ بل بالدخول بها) اهـ - انظر: " شرح الأبي " (7/66) ، و " فتح القدير " لابن الهمام (3/322) .
(489) أخرجه مسلم رقم (2631) في البر والصلة: باب فضل الإحسان إلى البنات، واللفظ له، والترمذي رقم (1917) في البر والصلة: باب في النفقة على البنات، ولفظه: " من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين، وأشار بأصبعه ".
(490) رواه الإمام أحمد في " مسنده " (4/154) ، والبخاري في الأدب المفرد " (76) ، وابن ماجه (3669) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5/34) .
(491) رواه أبو داود رقم (5147) في الأدب: باب في فضل من عال يتيما، والترمذي =(2/219)
عال ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو أختين، أو ابنتين، فَأدبَهُنَ، وأحسن إليهن، وزوَجهن، فله الجنة) .
ويروَى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم تدرك له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما، إلا أدخلتاه الجنة " (492) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاثُ بنات يُؤويهُن، ويرحمهُنَّ، ويكفلُهُنَّ وجبت له الجنة البتة) ، قيل: يا رسول الله! فإن كانتا اثنتين؟ قال: (وإن كانتا اثنتين) ، قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة؟ ، لقال: (واحدةً) (493) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان تسأل، فلم تجد عندي شيئا، غير تمرة واحدة، فأعطيتُها إياها، فَقَسَمَتْها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فَخَرَجَت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرتُه، فقال: " من ابتلي (494) من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن،
__________
رقم (1913) في البر والصلة: باب ما جاء في النفقة على البنات، وأخرجه بنحوه البخاري في "الأدب المفرد" (1/162) ، وفي سنده سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل الأعشى، لم يوثقه غير ابن حبان، وأخرج حديثه في " صحيحه رقم (2044) ، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (5/243) .
(492) رواه الإمام أحمد (1/362) ، والبخاري في " الأدب المفرد" (1/77) ، وابن حبان (2043) ، والحاكم (4/178) ، وصححه، وصحح المنذري إسناده، وقال الحافظ الذهبي: " شرحبيل بن سعد واهٍ " وقال الحافظ الناجي تلميذ الحافظ ابن حجر: " وفيه شرحبيل اختلط بأخَرة " اهـ.
(493) أخرجه الإمام أحمد (3/303) ، والبخاري في " الأدب " (78) ، وغيرهما، وهو حديث حسن بشواهده، انظر: " الترغيب والترهيب" (3/67 - 68) ، و" تحفة المودود " ص (23 - 25) .
(494) وفي لفظ: " من ابتلي بشيء من البنات، فصبر عليهن، كُنَّ له حجابًا من النار " =(2/220)
كن له سترًا من النار " (495) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " بشيء" يصدق على البنت الواحدة.
قال محمد بن سليمان: (البنون نِعَم، والبناتُ حسنات، والله - عز وجل - يحاسب على النِّعم، ويجازي على الحسنات" (496) .
وعنها أيضا رضي الله عنها قالت: (جاءت مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطَت كُل واحدة تمرة، وَرَفَعَت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار " (497)) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء " (498) الحديث.
لقد كان العرب في الجاهلية يأنفون أن يداعب الرجل وليدته، أو يسمح لها أن تمرح بين يديه، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نقض تلك السنة
__________
= والابتلاء: الاختبار بما يظهر به التزام الحق والشرع أو عدمه، قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: (إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهونهن في العادة) اهـ. من " شرح النووي لصحيح مسلم " (16/179) .
(495) تقدم تخريجه برقم (427) .
(496) " صون المكرمات برعاية البنات " ص (28) .
(497) تقدم تخريجه برقم (427) .
(498) رواه أبو داود رقم (4941) في الأدب: باب في الرحمة، والترمذي رقم (1925) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر: " مجمع الزوائد" (8/187) ، وقال الترمذي: " حسن صحيح "، وصححه الحافظ العراقي، وغيره، وانظر: " السلسلة الصحيحة " رقم (925) .(2/221)
السيئة، ولم يكن يضن بوقته الأعز أن يداعب فيه الولائد من بناته أو بنات صحابته:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص (499) على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها " (500) .
وحدثت أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعَلي قميص أصفر، قال رسول الله: " سَنَهْ سَنَهْ - وهي بالحبشية حسنة -، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فانتهرني أبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وَأخْلِقي " فعُمّرَتْ بعد ذلك ما شاء الله أن تُعَمَّرَ) (501) .
أما حبه صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة، وشغفه بها، وحنانه عليها، وإكرامه إياها، فمما لا يحيط به وصف، ولا يناله بيان، وهي التي يقول فيها: " فاطمة بَضعة مني، يريبني ما رَابها، ويؤذيني ما آذاها " (502) ، وقالت
__________
(499) وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أمامة من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد زُوجَتْ من علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موت خالتها فاطمة رضى الله عنها.
(500) أخرجه البخاري (1/487، 488) في سترة المصلي: باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، ومسلم (543) في المساجد: باب جواز حمل الصبيان، و"الموطأ" (1/170) في قصر الصلاة في السفر: باب جامع الصلاة.
(501) رواه البخاري في اللباس: باب ما يُدعَى لمن لبس ثوبا جديدا، وفي الجهاد، والأدب، ومناقب الأنصار.
(502) أخرجه البخاري (7/67 - 68) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وباب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي النكاح، ومسلم (2449) في فضائل الصحابة: باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داود (2069) في النكاح: باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، والترمذي (3866) في المناقب:(2/222)
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (جاءت فاطمة تمشي، ما تُخطِئ مِشيَتُها. مِشيئةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليها، وقال: " مرحبًا بابنتي " (503) .
أبصر المسلمون كل ذلك، ورأوا أن الله تعالى لم يختص فاطمة رضي الله عنها بذريته صلى الله عليه وسلم ليُشيد بالمرأة، وينهض بأمرها، ويرفع من شأنها، ويأخذ العرب بحبها، والابتهاج بها، فغدا مَنْ بعده يحبون بناتهم، ويكرمونهن، ويرون الخير كله معقودا بنواصيهن.
وعن البراء قال: (أتى أبو بكر رضي الله عنه ابنته عائشة رضي الله عنها وقد أصابتها الحمى، فقال: " كيف أنتِ يابنية؟ "، وقبل خدَّها) (504) .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم بالبنت من أبيها، وَإن فيما روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص لبلاغًا لقوم يعقلون: قال سعد رضي الله عنه: (مرضت بمكة مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: " يا رسول الله إن لي مالًا كثيرًا، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ " قال: " لا"، قلت: " فالشطر؟ " قال: " لا"،
__________
= باب مناقب فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم من حديث المسور بن مخرمة. (503) قطعة من حديث رواه البخاري (6/462) في الأنبياء: باب علامات النبوة في الإسلام، وفي فضائل الصحابة، والمغازي، والاستئذان، ومسلم (2450) في فضائل الصحابة: باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم بدون قولها: " فقام إليها " فقد رواه أبو داود (5217) ، والترمذي (3872) ، والحاكم (3/154) ، وصححه، ووافقه الذهبي، ولفظ الشيخين: " فلما رآها رحب بها، وقال: مرحبا بابنتي، وأجلسها عن يمينه".
(504) رواه أبو داود رقم (5222) في الأدب: باب في قبلة الخد، والحديث سكت عنه المنذري.(2/223)
قلت: " الثلث؟ " قال: " الثلث كبير، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقهّ إلا أجرْتَ عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك ") (505) الحديث.
وقد تأثر المسلمون بهذا التكريم والتشريف للمرأة، فصار أدباء الصدر الأول يصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجمان:
فمن ذلك ما قاله منصور الفقيه:
أحِبُّ البناتِ فَحُبُّ البنا ... تِ فرضٌ على كُل نفس كرِيمَهْ
لأن شعيبًا لأجل البنا ... تِ أخدمه الله موسى كليمَه (505)
وقال حِطان بن المعلي:
لولا بُنَيات كزُغُبِ القَطا (507) ... رُدِدن من بعض إلى بعض
إن هَبت الريحُ على بعضهم ... لم تطعَمِ العينُ من الغَمْض
لكان لي مضطَرَبٌ واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض
__________
(505) رواه البخاري (3/132) في الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، وفي الإيمان، والوصايا، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المغازي، والنفقات، والمرضى، والدعوات، والفرائض، ومسلم رقم (1628) في الوصية: باب الوصية بالثلث، و "الموطأ" (2/763) في الوصية: باب الوصية في الثلث لا تتعدى، والترمذي رقم (975) في الجنائز: باب ما جاء في الوصية بالثلث والربع، وفي الوصايا، وأبو داود رقم (2864) في الوصايا: باب ما جاء فيما لا يجوز للوصي في ماله، والنسائي (6/241-243) في الوصايا: باب الوصية بالثلث، والإمام أحمد (1/172) .
(506) " صون المكرمات برعاية البنات" ص (26) ، وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن شيخ مدين لم يكن شعيبًا، تحقيقا جيدًا، فانظره في (جامع الرسائل " المجموعة الأولى تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ص (59-66) .
(507) هي فراخ القطا التي ليس عليهن إلا شَعر لين.(2/224)
وإنما أولادُنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض (508)
وكان لمعن بن أوس ثمان بنات، وكان يقول: (ما أحب أن يكون لي بهن رجال "، وفيهن قال:
رأيتُ رجالَا يكرهون بناتهم ... وفيهن - لا نُكْذَبُ - نساء صوالحُ
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائحُ (509)
وقال العلوي الجمانيُّ في صديق له وُلِدَتْ له بنت فسخطها:
قالوا له: ماذا رُزِقتا ... فأصاخ ثُمَّتَ قال: بنتا
وأجل من ولد النساء ... أبو البناتِ، فَلِم جزعتا
إن الذين تَوَدُّ مِنْ ... بين الخلائق ما استطعتا
نالوا بفضل البنت ما ... كَبَتُوا به الأعداءَ كبتا (510)
وقال أبو محمد الحسن بن عبيدة الريحاني:
حبذا من نعمة الله ... البناتُ الصالحات
هن للنسل وللأنس ... وهن الشجرات
وبإحسانٍ إليهن ... تكونُ البركات
إنما الأهلون أرضو ... ن لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها ... وعلى الله النبات (511)
ومما يُحكى عن معاوية رضي الله عنه قوله في شأن البنت: " والله
__________
(508) " شرح الحماسة " (1/287) .
(509) " المرأة العربية " لعبد الله عفيفي (8/18 - 19) .
(510) " محاسن التأويل " للقاسمي (17/6074 - 6075) .
(511) " صون المكرمات برعاية البنات " لجاسم الدوسري ص (27) .(2/225)
ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الزمان، ولا أذهب جيشَ الأحزان مِثْلُهُنَّ، وإنك لواجِدٌ خالًا قد نفعه بنو أخته، وأبا قد رفعه نسلُ بنته) (512) .
وفي رواية عنه: (والله ما مَرَّضَ المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مِثْلُهن، وَرُب ابن أخت قد نفع خاله) (513) .
وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت:
(أهلًا وسهلا بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمن ذكرنا ... لفُضِّلت النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسم الشمس عَيْب ... وما التذكيرُ فَخْر للهلال
والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادَّرع اغتباطَا، واستأنف نشاطَا، فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها (*) والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة، وقد زينت بالكواكب، وَحُليَتْ بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة، ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئًا لك هنيئاً بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت) (514) .
والأخبار والنوادر في هذا لا تُحصى، وكلها من بركة الإسلام وفضله.
__________
(512) "محاسن التأويل" (17/6075) .
(513) " صون المكرمات " ص (26-27) .
(*) هذا التعبير في هذا السياق لا يجوز، فتنبه!
(514) " محاسن التأويل " (17/6075) .(2/226)
[الفصل الرابع]
المرأة زوجة
من فضل الله تعالى وتكريمه لبني آدم أن شرع لهم الزواج، وجعل طريقة تناسلهم بهذه الطريقة الشريفة المنظمة المحفوظة المصونة لئلا تختلط المياه، وتشتبه الأنساب بخلاف ما عليه طريقة تناسل الحيوانات والبهائم.
ولم تعد المرأة في ظل الإسلام كما كانت عند الآخرين دنسًا يجب التنَزه عنه، ولكن تسامى الإسلام بالمرأة إلى علياء السمو، وجعل الزواج من نعمه سبحانه على عباده.
قال سبحانه في وصف الرسل ومدحهم: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا وجعلنا لهم أزواجًا وذرية) الرعد (38) ، فذكر ذلك في معرض الامتنان، وإظهار فضله سبحانه عليهم، والمعنى:
وجعلناهم بشرا يقضون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي، فهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها.
ومدح عز وجل أولياءه بأنهم يسألونه ذلك في دعائهم، فقال عز من قائل: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتِنا قرة أعين) الفرقان (74) ، وقال سبحانه وتعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم (21) .
ولا تستعمل لفظة "آية" في القرآن المجيد إلا في الأمور الجليلة العظيمة، ليدل على قوة وقدرة الخالق تبارك وتعالى، وقد قرن الله تبارك(2/227)
وتعالى آية تكوين الأسرة، بآية تكوين العالم أجمع، فعقب هذه الآية بقوله جل وعلا: (ومن آياته خلْقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالِمين) (الروم: 22) بل إن الزوجة نعمة من نعم الله على عبده حقيق به أن يشكرها ولا يكفرها، وهو مسئول عن هذه النعمة بين يدي ربه يوم الحساب، كما يسْأل عن سائر النعم: ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:
(.. فيلقى العبدُ رَبه، فيقول الله: " ألم أكْرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وَأزَوِّجْكَ، وَأُسَخرْ لك الخيلَ والإبلَ، وَأذَرْكَ ترْأسُ وَترْبَعْ؟ "، فيقول: " بلى أي رَبِّ "، فيقول: " أفظننتَ أنك مُلاقِيَّ؟ "، فيقول: " لا "، فيقال: " إني أنساك كما نسيتني ") (515) الحديث.
وعلم بالضرورة من دين الإسلام الترغيب في الزواج والحث عليه (516) .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا تزوج العبدُ، فقد استكمل نِصْفَ الدين، فليتق الله فيما بَقِي " (517) .
قال القرطبي: (ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزنى، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضَمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة، فقال: " من وقاه الله شر اثنتين وَلَجَ الجنة: ما بين لَحْيَيهِ، وما بين رجليه " (518) خرجه
__________
(515) رواه مسلم في " صحيحه " (4/2280) رقم (2969) في الزهد، واللفظ له، والترمذي في " صفة القيامة " رقم (2428) ، والإمام أحمد (2/492) ، (4/378، 379) .
(516) انظر: " القسم الثالث" ص (61-65) ، و " بدائع الفوائد" (3/191 -192) ، وحسبك أن عامة كتب السنة تستفتح كتاب النكاح بالترغيب فيه، والحث عليه.
(517) أخرجه الطبراني في " الأوسط "، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (625) ، وانظر الحاشية رقم (534) .
(518) أخرجه الترمذي (2/66) رقم (2411) في الزهد: باب ما جاء في حفظ =(2/228)
الموطأ وغيره) (519) اهـ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على الزواج، وكان يقرأ لمن يطلب إباحة التبتل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (520) المائدة (87) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: " تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" (521) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه لما أراد أن يتبتل: (يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا،
__________
اللسان، وقال: " هذا حديث حسن غريب"، والحاكم (4/357) بنحوه، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وله شاهد أخرجه الإمام أحمد (5/362) وابن حبان في " الثقات، (1/5) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (510) ، والحديث أخرجه في "الموطأ" (2/987، 988) عن عطاء بن يسار مرسلا، في الكلام: باب ما جاء فيما يخاف من اللسان.
(519) " الجامع لأحكام القرآن" (9/327) .
(520) انظر: صحيح البخاري (7/5) ط. الشعب، ومما يجدر ذكره أن القرآن أمر بالتبتل في قوله تعالى: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا) المزمل (8) ، ومعنى الآية الأمر بالانقطاع إلى الله عز وجل بإخلاص العبادة، كما قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) البينة (5) ، وقد ورد النهي عن التبتل في السنة، والمقصود به الانقطاع عن الناس والجماعات وسلوك سبيل الرهبانية في ترك النكاح، والترهب في الصوامع، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي، فلا يتناقضان، وإنما بعث صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نُزل إليهم، انظر: " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (19/ 44-45) ، (6/261) ، " الفتح الرباني" (16/142) .
(521) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى، (7/78) ، وساقه الحافظ في " الفتح" (9/111) ، وسكت عليه، وقواه الألباني لشواهده في " الصحيحة" رقم (1782) .(2/229)
أفما لك فِي أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده " (522) .
هكذا أبطل صلى الله عليه وسلم تنطع المتنطعين المعاندين لسنة الله في التعبد بترك النكاح، ولم تعد الرابطة الزوجية دناءة بهيمية، فإن إشعاع الإسلام بَددَ تلك الظلماتِ في العالمين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسامى الإسلام بتلك الرابطة حتى جعل منها ذريعة لواجبات كثيرة رفع الإسلام قدرها:
وتأمل هذه العبارة الجامعة للفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام - رحمه الله- حيث يقول: (ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب للأخلاق، وتوسعة للباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع، وتربية الولد (523) ، والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها، والنفقة على
__________
(522) أخرجه ابن حبان (1288) ، والإمام أحمد (6/226) ، والطبراني في " الكبير "، وقال الألباني: " سنده صحيح على شرطهما" - انظر: " إرواء الغليل" (7/79) ، " السلسلة الصحيحة" رقم (394) ، والأحاديث الواردة في مدح العزوبة كلها باطلة، كما في (الأسرار المرفوعة، للقاري ص (483) .
(523) ومن مقاصد النكاح في الإسلام تكثير عدد المسلمين، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إني أصبت امرأة ذات حُسن وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: " تزوجوا الودود الولود، فإني مُكاِثر بكم الأمم، رواه أبو داود (1/320) ، والنسائي (2/71) ، وقال القرطبي في " تفسيره": (صححه أبو محمد عبد الحق، وحسبك اهـ (9/328) ، ورواه من حديث أنس رضي الله عنه الحاكم وصححه (2/162) ، ووافقه الذهبي، ورواه من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ فإني مكاثر بكم الأنبياء": الحاكم (2/162) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان (1228 - موارد) ، وكذا الإمام أحمد (3/158) ، وقال الهيثمي: " إسناده حسن " مجمع الزوائد " (4/258) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلا على بعض السقاية، فتزوج امرأة، وكان عقيما، فقال له عمر: (أعلمنَها أنك =(2/230)
الأقارب، والمستضعفين، وإعفاف الحرم (524) ، ونفسه، ودفع الفتن عنه وعنهن، ودفع التقتير عنهن بحبسهن، لكفايتهن مؤنة سبب الخروج - يعني الخروج لطلب الرزق - ثم الاشتغال بتأديب نفسه، وتأهله للعبودية، ولتكون أيضًا سببا لتأهيل غيره، وأمرها بالصلاة، فإن هذه الفرائض كثيرة، لم يكد يقف عن الجزم بأنه - أي الزواج - أفضل من التخلي) (525) أي للعبادات النافلة، وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مِنْ أماثِلِ أعمالِكم إتيانُ الحلال " يعني النساء (526) .
__________
= عقيم؟ "، قال: " لا "، قال: " فانطلق، فأعلِمها، ثم خَيرها، انظر: " المحلى" للإمام ابن حزم (10/61) ، و " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/72 -73) .
قال فضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله:
(إن غريزة الامتداد في الذراري والأحفاد لا يستطيع المرء السَّوِيُّ أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج.
فكما أحسن إليك والدك فكان سببَ وجودِك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي بالنسبة إليك أن تقابل هذا الإحسانَ بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتة كريمة تتعهدها بالتربية والتهذيب، تحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلك. ويكفى الممتنع عن الإنجاب عقوقَا أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم، وتنتهي به) اهـ. من "نظرات في الأسرة المسلمة" ص (27) .
(524) الحُرَم: الزوجات.
(525) "فتح القدير" (3/189) .
(526) أخرجه الإمام أحمد (4/231) ، وأبو نعيم في " الحلية" (2/20) من طريق الطبراني عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحرازي قال: سمعت أبا كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه، فدخل، ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا يا رسول الله، قد كان شيء؟ "، قال: " أجل، مرت بي فلانة، =(2/231)
وقد يتعجب القارئ كما تعجب الصحابة رضي الله عنهم من قبل عندما قال ناس منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: " أو ليس قد جعل الله لكم ما تَصَدقُون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرةٍ صدقةً، وبكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة! قالوا: " يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوتَه، ويكونُ له فيها أجر؟ ! "، قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان فيها ورز؟ "، قالوا: " بلى "، قال: " فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له فيها أجر " (527) الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه ضمن وصية جامعة له: (.. " ولك في جِماعِكَ زوجتَك أجر "، قال أبو ذر: " كيف يكون لي أجْر في شهوتي؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم: " أرأيت لو كان لك ولد، فأدرك، ورجوتَ خيره، فمات، أكنت تحتسبه؟ "، قلت: " نعم"، قال: " فأنت خلقتَه؟ "، قال: " بل الله خلقه "، قال: " فأنت هديتَه؟ "، قال: " بل الله هداه، قال: " فأنت ترزقه؟ "، قال: " بل الله كان يرزقه "، قال: " كذلك فَضَعهُ في حلاله، وجَنبهُ حرامَهُ،
__________
= فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي، فأصبتُها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال ") ، قال الألباني في " الصحيحة" رقم (442) : " إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات " اهـ.
(527) رواه مسلم (2/697) ، والسياق له، والنسائي في " عشرة النساء"، والإمام أحمد (5/167) ، 168، 178) ، قال السيوطي رحمه الله: (وظاهر الحديث أن الوطء صدقة، وإن لم ينو شيئًا) اهـ، كما نقله الألباني عن " إذكار الأذكار، له، وانظر: " آداب الزفاف" ص (138) ط 1409 هـ.(2/232)
فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر" (528)) .
ولتحقيق التسامي بتلك الرابطة فوق طابع الشهوة إلى ممارسة سامية عالية أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الزوج إلى استصحاب نية طلب الأولاد (529) ، والتسمية،
__________
(528) أخرجه الإمام أحمد (5/168) ، وابن حبان (1298- موارد) ، وقال الألباني: " سنده صحيح، رجاله كلهم ثقات، رجال مسلم " اهـ من الصحيحة، رقم (575) .
(529) يستحب أن ينوي عند الجماع طلب الولد الصالح، قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) (البقرة: 187) ، أي: " لا تباشروهن لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله في النكاح من التناسل) "الكشاف" للزمخشري (1/257) ، وبه قال جمع من السلف منهم أبو هريرة، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم: " أي من أجل طلب الولد"، وانظر: " تحفة المودود، لابن القيم ص (9) ، وقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه: (إذا قدمت فالكيسَ الكيسَ) رواه البخاري، ومسلم، والدارمي، يعنى بالكيس: الولد، وهو لا يأتي إلا بالنكاح، فجعل طلبَ الولد عقلا، انظر " النهاية" لابن الأثير (4/217) ، وروى البخاري في صحيحه، باب من طلب الولد للجهاد من حديث أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: " لأطوفن الليلةَ على مائة امرأة، أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله "، فقال له صاحبه: (قل: إن شاء الله "، فلم يقل: " إن شاء الله "، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل؛ والذي نفس محمد بيده، لو قال: " إن شاء الله" لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون"، قال الحافظ ابن حجر: (قوله: باب من طلب الولد للجهاد - أي ينوي عند المجامعة حصولَ الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر، وإن لم يقع له ذلك) اهـ. من " الفتح" (7/272) ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إني لأكرِهُ نفسي على الجماع رجاء أن يُخْرِجَ الله مني نسمةً تسبح الله تعالى) " موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص (660) ، وحكى عنه الشيخ كمال الدين بن العديم الحلبي قوله رضي الله عنه: (تكثروا من العيال، فإنكم لا تدرون ممن ترزقون) اهـ. من " الدراري في ذكر الذراري " ص (15) .(2/233)
وحَضَّ على ذلك لما فيها من الخير الكثير.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: "بسم الله، اللهم جَنبّنا الشيطان، وَجَنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك اليوم لم يَضُرَّه الشيطان أبدَا) (530) .
وعنه رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (نساؤكم حَرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وَقَدِّمُوا لأنفسكم) البقرة (223) قال: (وقدموا لأنفسكم) يقول: " بسم الله "، التسمية عند الجماع (531) .
الزواج ميثاق غليظ:
[الزواج أغلظ المواثيق وأكرمها على الله، لأنه عقد متعلق بذات
__________
وقال العلامة أبو الحسن الماوردي: (وأن ينوي في ذلك كله نية الولد، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وينوي في الولد أن الله لعله يرزقه مَنْ يعبد الله، ويوحدُه، ويجري على يديه صلاح الخلق، وإقامة الحق، وتأييد الصدق، ومنفعة العباد، وعمارة البلاد) اهـ. من " نصيحة الملوك" ص (166) .
(530) رواه الإمام أحمد في" المسند " (1/217، 220، 243، 283، 286) ، والبخاري (6/240) في بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده، وفي الوضوء، والنكاح، والتوحيد، ومسلم رقم (1434) في النكاح: باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، وأبو داود رقم (2161) في النكاح: باب في جامع النكاح، والترمذي رقم (1692) في النكاح: باب ما يقول إذا دخل على أهله، وهذا الذكر مستحب عند إرادة الجماع، أما عند الفعل نفسه فيستحب الذكر بالقلب فقط، انظر:
" الوابل الصيب" ص (147) تحقيق الشيخ الأنصاري.
(531) " تفسير الطبري" بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله (4/417) ، وقال ابن نصر الله من الحنابلة: (الأظهر عدم اختصاص الرجل، بل تقوله المرأة) اهـ. من " السلسبيل" (2/745) ، والظاهر من لفظ الحديث السابق أنه ينصرف إلى الرجل وحده، والله أعلم.(2/234)
الإنسان، ونَسَبه، وشرط هذا العقد رضا المتعاقدين كسائر العقود الصحيحة، ولكنه يسمو عليها جميعًا بما أفرغه الله عليه من صبغة" الميثاق الغليظ"، ويكفي في الدلالة على ذلك التكريم أن كلمة " الميثاق، لم ترد في القرآن الكريم إلا تعبيرا عن المعاهدة بين الله وعباده، قال تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) الآية (المائدة: 7) في موجبات التوحيد.
ولم يرد وصف الميثاق، بالغليظ إلا في عقد الزواج (وأخذن منكم ميثاقا غليظًا) (النساء: 29) ، وفيما أخذه الله على أنبيائه من مواثيق، قال تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) ] (532) اهـ.
فضل الزوجة الصالحة
بناء الأسرة هو أخطر بناء في كيان المجتمع، بل في كيان الأمة بأسرها، فإذا كان الناس يعنون عند إقامة أبنيتهم من الأحجار، باختيار الموقع المناسب، وتحري الخامات الجيدة، التي تكفل سلامة البناء، وتضمن بقاءه إلى حين، إذا كان هذا هو شأن الناس في إقامة الأبنية المكونة من الأحجار والطين، فإن بناء الأسر المكونة من الرجال والنساء والبنين أولى بالدقة عند الاختيار، وأجدر بالتقصي والاستفسار، لأن بناء الأحجار يتعلق بشئون الدنيا وهي فانية، وبناء الأسرة يتعلق بسعادة الدنيا، ويمتد أثره إلى الآخرة، وهي دار القرار.
(إن البيت قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولابد أن تكون القلعة
__________
(532) من "تفسير القرآن الكريم" للشيخ محمود شلتوت، ص (173 -174) .(2/235)
متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، وكل فرد من أفراده يقف على ثغرة كيلا ينفذ منها العدو، أو يقتحمها العسكر، وواجب المسلم أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدا.
والأب المسلم لا يكفي وحده لتأمين القلعة، فلابد أيضًا من الأم المسلمة، ليقوما معًا على تربية الأبناء والبنات) اهـ (533) .
(هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام، وأن يعوه جيدًا: إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت، إلى الزوجة، إلى الأم، ثم إلى الأولاد، وإلى الأهل بعامة؛ يجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولا عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلا كثير الثغرات) (534) اهـ.
والإسلام في هذه الناحية - شأنه في كل شيء - لا يقيم وزنًا للمظاهر، وإنما يعني دائما بالجوهر الأصيل، لأن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فالعبرة في الخصال لا الأشكال، وفي الخلال لا الأموال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرَينِ، تنبو عنه أعينُ الناس، لو أقسم على الله لأبرهُ " (535) .
__________
(533) من" منهج التربية النبوية للطفل" لمحمد نور سويد ص (29) .
(534) السابق، نقلا من " دستور الأسرة في ظلال القرآن" ص (112) .
(535) رواه مسلم رقم (2622) في البر والصلة: باب فضل الضعفاء والخاملين، وفي صفة الجنة، ونعيم أهلها، ورواه الحاكم في " المستدرك" واللفظ له (4/328) : وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، والطمرُ: الثوب الخلَق.(2/236)
من أجل ذلك رغب الإسلام الرجل في تحري أن تكون زوجته صالحة ذات دين، وجعل ذلك هو الأصل الذي ينبغي الاعتناء به ضمن الخصال المرغوبة فيها، فإنها إن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها، أزرت بزوجها، وسودت بين الناس وجهه، وشوهت بالغيرة قلبه، وتنغص بذلك عيشه.
لقد بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على ذات الدين لأن مثل هذه المرأة تكون عونًا على أعظم أمر يهم المسلم، ألا وهو الدين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شَطْر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني " (536) .
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: " لما نزلت (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة (34) ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: " أنزِلَت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تُعِينُهُ على إيمانه " (537)) .
وقال بعضهم في نظم هذا المعنى:
__________
(536) رواه الحاكم في "المستدرك" (2/161) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وعزاه الهيثمي في " المجمع " إلى الطبراني في " الأوسط" (4/272) ، وانظر: " كشف الخفاء" للعجلوني (2/239) ، وراجع حاشية رقم (517) .
(537) أخرجه الإمام أحمد (5/278) ، والترمذي (3093) في التفسير: سورة التوبة، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" رقم (5231) ، وزاد عزوه إلى ابن حبان عن علي رضي الله عنه، وأبي نعيم في الحلية"، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما.(2/237)
من خير ما يتخذ الإنسان في ... دنياه كيما يستقيمَ دينُهْ
قلب شكور ولسان ذاكر ... وزوجة صالحة تُعِينُه
وعن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ثلاثة من السعادة، وثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة؛ تراها فَتُعجِبُكَ، وتغيب عنها فتأمنُها على نفسِها ومالك) (538) الحديث.
وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق" (539) .
وعن محمد بن واسع قال مسلم بن يسار: (ما غبطت رجلًا بشيء ما غبطته بثلاث: زوجة صالحة، وبجار صالح، وبمسكن واسع " (540) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي النساء خير؟ "، قال: " التي تسُره إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في
__________
(538) وتتمته: (والدابة تكون وطيئة؛ فتُلحِقك بأصحابِك، والدار تكون واسعة كثيرةَ المرافق، ومن الشقاء: المرأة، تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غِبْتَ عنا لم تأمنْها على نفسِها ومالِك، والدابة تكون قطوفٍا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تُلْحِقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلةَ المرافق) رواه الحاكم في " المستدرك" (2/162) ، وصححه، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (3/70) رقم (3051) ، والقطوف: الضيقة المشي.
(539) رواه ابن حبان (1232) ، وصححه الألباني على شرط الشيخين كما في " الصحيحة" رقم (282) ، وبنحوه الإمام أحمد (1/168) ، وفيه محمد بن أبي حميد، قال الحافظ في " التقريب": (ضعيف) .
(540) ذكره ابن الجوزي في "أحكام النساء" ص (116) .(2/238)
نفسِها ولا مالِها بما يكره " (541) .
وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك " (542) .
قال في " عون المعبود":
(يؤخذ من الأحاديث استحبابُ تزوج الجميلة، إلا إذا كانت الجميلة غيرَ دَيّنة، والتي أدنى منها جمالًا متدَينة، فتُقدم ذاتُ الدين، أمَّا إذا تساوتا في الدين، فالجميلة أولى) (543) اهـ.
__________
(541) رواه النسائي (2/72) ، والحاكم (2/161) ، والإمام أحمد (2/251، 432، 438) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ العراقي: " سنده صحيح" اهـ من" المغني عن حمل الأسفار" (4/715) ، وقال: " ولأبي داود نحوه من حديث ابن عباس بسند صحيح " اهـ.، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (1838) .
(542) رواه البخاري (9/115) في النكاح: باب الأكفاء في الدين، ومسلم رقم (1466) في الرضاع: باب استحباب نكاح ذات الدين، وأبو داود رقم (2047) في النكاح: باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين، والنسائي (6/68) في النكاح: باب كراهية تزويج الزناة، وقوله صلى الله عليه وسلم: " تربت يداك " يعني: (التصقت بالتراب، من الدعاء، وهذا الدعاء وأمثاله كان يرد من العرب، ولا يريدون به الدعاء على الإنسان، إنما يقولونه في معرض المبالغة في التحريض على الشيء، والتعجب منه، ونحو ذلك) كذا قال ابن الأثير في " جامع الأصول" (11/430) ، وانظر: " عون المعبود" (6/40) .
(543) " عون المعبود" (6/42) ، وانظر: " فتح الباري" (9/135) ، ومما ينبغي التنبيه إليه أن: (هناك فكرة مغلوطة يُلبس إبليس بها على بعض الشباب، فقد يرى الواحد منهم فتاة يروقه جمالُها، ولكنها ليست ذات دين، فيدعي أنه يريد من وراء الزواج منها أن يصلحها، وهذه الفكرة خطرة، وغير مأمونة ولا مضمونة، فقد رأينا في الحياة الواقعية أن بعض الشباب كانوا يريدون الإصلاح، فأفسدتهم تلك =(2/239)
وعلق القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم: " فاظفر بذات الدين" قائلًا: " إن اللائق بذوي المروءات، وأرباب الديانات، أن يكون الدين مطمح نظرهم في كل شيء، لا سيما فيما يدوم أمره، ويعظم خطره، فلذا اختاره النبي صلى الله عليه وسلم، وأبلغه، فأمر بالظفر به، الذي هو في غاية البغية، ومنتهى الاختيار والطلب، الدال على تضمن المطلوب لنعمة عظيمة، وفائدة جليلة " (544) اهـ.
ويؤكد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله فيما رواه عنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: " الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" (545) ، أي أن الدنيا متاع زائل، وخير ما فيها من هذا المتاع: المرأة الصالحة، لأنها تُسْعِد صاحبها في الدنيا، وتعينه على أمر الآخرة، وهي خير وأبقى.
وقد روي أن أبا الأسود الدؤلي قال لبنيه:
" يا بنيَّ: قد أحسنت إليكم صغارًا، وكبارًا، وقبل أن تُولدوا! "، قالوا: " كيف أحسنتَ إلينا قبل أن نولد؟ "، قال: (اخترت لكم من الأمهاتِ من لا تُسَبُّونَ بها " (546)) .
وشكا رجل لصديقه عقوق ولده له، وسوء معاملته، ودناءة طبعه، فقال: " لا تَلم أحدًا، ولكن توجه باللوم إلى نفسك، لأنك لم تتخير أمه "، وقديمًا قال الناس: " كادت المرأة أن تلد أخاها " (*) .
__________
= الزوجة) اهـ. من (نظرات في الأسرة المسلمة) لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (36) .
(544) " إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" (8/22) .
(545) أخرجه الإمام أحمد (2/268) ، ومسلم رقم (1467) في الرضاع، والنسائي
(6/69) في النكاح، وابن ماجه رقم (1855) ، والبيهقي (7/80) في النكاح.
(546) " أدب الدنيا والدين" ص (82) .
(*) نظرات في الأسرة المسلمة" ص (143) .(2/240)
(وقال الأصمعي: " ما رفع أحد نفسه - بعد الإيمان بالله تعالى - بمثل مَنكح صِدْقٍ، ولا وضع نفسه بعد الكفر بالله تعالى - بمثل منكح سوء ") (547) .
وقال الشاعر:
وليس النبتُ يَنْبُتُ في جِنانٍ ... كمثل النبت ينبت في الفلاة
وهل يرجَى لأطفالٍ كمال ... إذا ارتضعوا ثُدِي الناقصات (548)
وقال الإمام ابن عبد القوى في " منظومة الآداب":
وخير النسا من سَرَّتِ الزوجَ منظرا ... ومن حفِظته في مغيب وَمشهَدِ
قصيرةُ ألفاظ قصيرةُ بيتها ... قصيرةُ طرفِ العين عن كُلِّ أبعَدِ
عليك بذاتِ الدين تظفر بالمنى الـ ... وَدُودِ الوَلودِ الأصلِ ذاتِ التعبد (549)
ولله دَر من قال:
سعادةُ المرءِ في خمس إذا اجتمعت ... صلاح جيرانه والبر في ولده
وزوجة حسنت أخلاقها، وكذا ... خل وفي، ورزق المرء في بلده (550)
__________
(547) " مرآة النساء فيما حسن منهن وساء " ص (160) .
(548) "أستاذ المرأة " ص (132) بتصرف.
(549) انظر: " غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب" (2/342-350) .
(550) " مرآة النساء" ص (21) .(2/241)
[فصل]
الكفاءة في الزواج
الكفاءة: هي المساواة، والمماثلة، والكفء والكفاء: المثيل والنظير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم " (551) ، أي تتساوى، فيكون دم الوضيع منهم كدم الرفيع.
والمقصود بالكفاءة في الزواج: " المماثلة بين الزوجين، دفعا للعار في أمور مخصوصة، هي عند المالكية: الدين، والحال (552) ، وعند الجمهور: " الدين، والنسب، والحرية، والحرفة (أو الصناعة) ، وزاد الحنفية والحنابلة: اليسار (أو المال) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه، فلا تحل المسلمة لكافر أصلًا) (553) اهـ. وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض، لأن اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة، ولا نقيصة أعظم من الكفر. وقد اختلف العلماء فيما تعتبر الكفاءة فيه:
فقد ذهب الجمهور إلى أن الكفاءة معتبرة في الاستقامة والصلاح (554) ،
__________
(551) صدر حديث رواه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أبو داود رقم (4531) في الديات: باب إيقاد المسلم بالكافر؟ ، وغيره، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (7/265) .
(552) ومقصودهم بالحال: السلامة من العيوب التي توجب لها الخيار.
(553) " فتح الباري" (9/132) .
(554) فالفاسق ليس بكفء للعفيفة، لأن التعيير بالفسق أشد وجوه التعيير، ولأن =(2/242)
والنسب، والحرية، والحرفة، والمال، وإنما كان مقصودهم بهذا توفير دواعي الاستقرار والانسجام في الأسرة، وتجنب دواعي الشقاق والضرر والتنغيص، (ولأن النكاح يعقد للعمر، ويشتمل على أغراض ومقاصد: كالازدواج، والصحبة، والألفة، وتأسيس القرابات، ولا ينتظم ذلك عادة إلا بين الأكفاء) (555) .
وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين مالك، ونقل عن ابن عمر وابن مسعود، ومن التابعين عن محمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز.
فقد ذهب هؤلاء العلماء، ومن وافقهم إلى أن الكفاءة معتبرة بالاستقامة والخلق فقط، ولا اعتبار لنسب (556) ، ولا لصناعة، ولا لغنى، ولا لشيء آخر ... فيجوز للرجل الصالح الذي لا نسب له، أن يتزوج المرأة النسيبة، ولصاحب الحرفة الدنيئة أن يتزوج المرأة الرفيعة القدر، ولمن لا جاه له أن يتزوج صاحبة الجاه والشهرة، وللفقير أن يتزوج المثرية الغنية- ما دام مسلمًا عفيفًا -، وأنه ليس لأحد من الأولياء الاعتراضُ، ولا طلب
__________
= الفاسق مردود الشهادة والرواية، وغير مأمون الجانب على النفس والمال، ناقص عند الله وعند خلقه، فلا يجوز أن يكون كفئا ولا مساويًا للصالحة، خلافا لما ذهب اليه ابن حزم رحمه الله حيث قال: " والفاسق الذي بلغ الغاية من الفسق المسلم- ما لم يكن زانيا- كفء للمسلمة الفاضلة، وكذلك الفاضل المسلم كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية" اهـ. من " المحلى" (10/24) ، وخلافًا أيضًا لمحمد بن الحسن رحمه الله حيث قال: " إن الفسق لا يمنع الكفاءة، إلا إذا كان صاحبه متهتكا يصْفَع، ويُسْخَر منه، أو يخرج إلى الأسواق سكران؛ لأن الفسق من أحكام الآخرة، فلا تبتني عليه أحكام الدنيا" اهـ. نقلًا من: " الفقه الإسلامي وأدلته، (7/241) .
(555) انظر: " إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري " للقسطلاني (8/19) .
وقد مَال الحافظ في "الفتح": (ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث) اهـ. (9/133) .(2/243)
التفريق، وإن كان غير مستوٍ في الدرجة مع الولي الذي تولى العقد، ما دام الزواج كان عن رضي منها، فإذا لم يتوفر شرط الاستقامة عند الرجل، فلا يكون كفؤا للمرأة الصالحة..، ولها الحق في طلب فسخ العقد، إذا كانت بكرا، وأجبرها أبوها على الزواج من الفاسق.
قال في " بداية المجتهد ": (ولم يختلف المذهب- أي المالكي- أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر، وبالجملة من فاسق، أن لها أن تمنع نفسها من النكاح، وينظر الحاكم في ذلك، فيفرق بينهما، وكذلك إذا زوَّجها مِمَّن ماله حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق) (557) اهـ.
واستدل أصحاب هذا المذهب بأدلة:
منها: قوله عز وجل: (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) النور (26) .
ومنها قوله جل وعلا: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة (71) .
ومنها: قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات:
(13) قالوا: فالمسلمون جميعا أكفاء للمسلمات.
ومنها: قول الله عز وجل: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات (10) ، فأهل الإسلام إخوة.
ومنها: قوله سبحانه بعد ما ذكر ما حرم علينا من النساء: (وأحل لكم ما وراء ذلك) النساء (241) .
وقوله تعالى: مخاطباً جميع المسلمين: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) النساء (3) .
__________
(557) " بداية المجتهد" (2/16) ، وانظر: " الفتاوى الخانية " (1/443) ، "فتح القدير (2/442) ، " الشرح الكبير" (2/345) ، "الروضة" (7/370) ، " المجموع" (15/326) ، " كشاف القناع، (5/148) .(2/244)
ومنها: قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخِيَرةُ من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينًا) الأحزاب (36) .
قال القرطبي رحمه الله: (في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب، وإنما تعتبر في الأديان، خلافًا لمالك والشافعي والمغيرة وسحْنون، وذلك أن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوج أبو حذيفة سالمًا من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف) (558) اهـ. فهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعرج أحد منهم على الكفاءة في النسب، بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استشارته فاطمة بنت قيس في معاوية وأبي الجهم أمرها أن تنكح أسامة (559) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم مَنْ ترضَوْنَ دينه وخلقه، فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) (560) .
وقال القرطبي رحمه الله: (الكفاءة في النكاح معتبرة؟ واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك؟ والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات؛ لقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) .
__________
(558) " الجامع لأحكام القرآن " (14/187) ، وانظر الحاشية رقم (858) .
(559) كما رواه مسلم (4/195) في الطلاق.
(560) أخرجه الترمذي" (1/201) ، وابن ماجه (1967) ، والحاكم (2/164-165) ، وحسنه الألباني لشواهده كما في" الإرواء" (6/266) رقم (1868) .(2/245)
وقد جاء موسى إلى صالحِ مدين غريبًا طريدا خائفًا وحيدًا جائعًا عريانًا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه، ورأى من حاله، أعرض عما سوى ذلك) (561) اهـ.
قال ابن القيم رحمه الله: (والذي يقتضيه الحكم اعتبار الدين في الكفاءة أصلًا وكمالا، فلا تزوج عفيفة لفاجر، ولم يعتد القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك) (562) اهـ.
فليتق الله أناس هان عليهم دينهم، فلا يبالون بتزوج بناتهم الصالحات ممن هم عن الدين معرضون، وللصلاة مضيعون، وبالمنكر آمرون، وعن المعروف ناهون، إيثارًا لأعراض الدنيا ومتاعها الزائل، وليعلموا أنهم بين يدى ربهم موقوفون، وعن فتنتهم بناتهم مسئولون (وسيعلمُ الذين ظلموا أي منقلب يقلبون) .
عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، أحفِظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسألَ الرجل عن أهل بيته " (563) .
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة " (564) .
__________
(561) " الجامع لأحكام القرآن " (13/278) .
(562) " زاد المعاد" (5/159) .
(563) انظر الحاشية رقم (741) .
(564) رواه البخاري (13/112) في الأحكام: باب من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم رقم (142) في الإيمان، وفي الإمارة، والإمام أحمد في " المسند " (5/25، 27) .(2/246)
وعن الشعبي قال: "من زَوَّج كريمته من فاجر، فقد قطع رحمها " (565) .
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة بمنى في أوسط أيام التشريق: " يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى " (566) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم عُبيةَ الجاهلية، وتعاظمها بآبائها؛ فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدمَ من تراب " الحديث (567) .
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه رجل، فقال: " ما تقولون في هذا؟ "، قالوا: (حَري إن خطب أن يُنْكَح، وإن شفع أن يُشَفع، وإن قال أن يُسْتَمَعَ "، ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما تقولون في هذا؟ "، قالوا: " حَرِيُّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا خير من ملء الأرض مثلَ هذا " (568) .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(565) ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، (32/120) .
(566) رواه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد في " مسنده" (5/411) ، وصححه محققا " زاد المعاد" (5/158) .
(567) رواه الترمذي رقم (3270) ، كتاب تفسير القرآن: باب " ومن سورة الحجرات "، وقال: " هذا حديث غريب"، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (6/271) ، وعُبية الجاهلية: هي الكبر، وتضم عينها وتكسر.
(568) رواه البخاري رقم (5091) في النكاح: باب الأكفاء في الدين.(2/247)
جهارا غير سِر يقول: " إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين " (569) ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (إن أوليائي يوم القيامة المتقون، وإن كان نسب أقرب من نسب " (570) الحديث.
والإسلام إذ يقيم الوزن الأرجح للكفاءة في الدين، لا يحول - إذا أمكن - دون ابتغاء ما دونها من كفاءات أخرى، معنوية كانت أم مادية، أما إذا فقدت الكفاءة في الدين، فلن تعوضها أي كفاءة أخرى، في حين أن الدين عِوَض عن كل ما عداه.
عليك بتقوى الله في كل حالة ... ولا تترك التقوى اتكالًا على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
ومن ثم: فإنه يجوز للفقير اًن يتزوج الغنية، وللمولى أن يتزوج الشريفة القرشية، وللرجل الكبير أن يتزوج الصغيرة الصبية، لكن لا يجوز للفاسق ومفقود العدالة أن يتزوج الصالحة التقية، مهما توفرت له مقومات الكفاءة في الحسب والنسب والجاه والمال، لأنه يُؤثر عليها في دينها وخلقها (571) .
* * *
فصل
نص القرآن الكريم على تحريم نكاح الزانية، فقال تبارك وتعالى:
__________
(569) أخرجه البخاري (10/351، 352) في الأدب: باب تبل الرحم ببلالها، ومسلم رقم (215) في الإيمان: باب موالاة المؤمنين، وأحمد (4/203) .
(570) أخرجه البخاري في (الأدب المفرد" رقم (897) ، وحسنه محققا "زاد المعاد" (5/158) .
(571) وانظر: " الفقه الإسلامي وأدلته" (7/247 - 248) ، و " سلسلة الأحاديث الصحيحة ط حديث رقم (1067) .(2/248)
(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحُرم ذلك على المؤمنين) النور (3) .
ومما يدل على تحريم مناكحة الزانيات أن الله تعالى أحل نكاح النساء بشرط الإحصان، فقال عز وجل: (اليومَ أحِلَّ لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِل لكم وطعامكم حِل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) المائدة: (5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (" والمحصنات " قد قال أهل التفسير: هن العفائف، هكذا قال الشعبي، والحسن، والنخعي، والضحاك، والسدي) (572) اهـ، وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: (إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة، فقال: (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع، وما عداه، فعلى أصل التحريم) (573) اهـ.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن مَرْثَد ابن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بَغيٌّ يقال لها: " عَنَاق " وكانت صديقته، قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: " يا رسول الله، أنكح عناق؟ "، قال: فسكت عني، فنزلت: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) (النور: 3) فدعاني، فقرأها عَلَيَّ، وقال: " لا تنكحها " (574) .
__________
(572) "مجموع الفتاوى " (32/121) .
(573) " زاد المعاد " (4/7) .
(574) رواه أبو داود رقم (2051) في النكاح: باب قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية) ، واللفظ له، والترمذي رقم (3176) في التفسير: باب ومن سورة =(2/249)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح الزاني المجلودُ إلا مثلَه " (575) .
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله:
(أما نكاح الزانية فقد صرح الله بتحريمه في سورة النور، وأخبر أن من ينكحها فهو زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه، ويعتقد وجوبه، أوْ: لا، فإن لم يلتزمه، ولم يعتقده، فهو مشرك، وان التزمه، واعتقد وجوبه، وخالفه، فهو زان، وأيضا فإنه سبحانه قال: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) النور (26) ، والخبيثات: الزواني، وهذا يقتضي أن من تزوجهن خبيث مثلُهن) (576) اهـ.
* * *
__________
= النور، وقال: " حسن غريب "، والنسائي (6/66) في النكاح: باب تزويج الزانية، والحاكم (2/ 396) ، وصححه، والبيهقي (7/153) ، وصححه الألباني في " الإرواء " رقم (1886) .
(575) رواه أبو داود رقم (2052) في النكاح، والإمام أحمد (2/324) ، وقال الحافظ في " بلوغ المرام " رقم (1029) : " إسناده حسن"، وانظر: " نيل الأوطار" (6/145) ، وقال الشنقيطي رحمه الله: (إن أظهر قولي العلماء عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا، وندما على ما كان منهما، ونويا ألا يعودا إلى الذنب، فإن نكاحهما جائز، فيجوز له أن ينكحها بعد التوبة، ويجوز نكاح غيرهما لهما، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، لقوله تعالى: (إلا من تاب وءامن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) (الفرقان: 70) ، فالتوبة من الذنب تُذْهِبُ أثره، أما من قال: إن مَن زنى بامرأة لا تحل له مطلقا ولو تاب، فقولهم خلافُ التحقيق) اهـ من (أضواء البيان" (6/83) ، وانظر: "المغني" (6/601 - 603) ، " مجموع الفتاوى" (32/110) ، (32/145) .
(576) " زاد المعاد" (5/114) ، وانظر: " التدابير الواقية من الزنا) للدكتور فضل إلهي ص (196: 192) .(2/250)
فصل
وأما الأدلة على عدم اعتبار المال في الكفاءة:
فمنها: قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) النور (32) فهذه الآية دليل على تزويج الفقير الصالح التقي دون مبالاة بفقره، على وعد من الله عز وجل بأنه سيغنيهم من فضله، قال صلى الله عليه وسلم: " حق على الله عون من نكح التماس العفاف عما حَرم الله ط (577) .
قال القسطلاني رحمه الله: (فالمعسر كفء للموسرة، لأن المال غادٍ ورائح، ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر) (578) .
فالمال ظل زائل، وحال حائل، ومال مائل، وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة التي جاءت لتهب نفسها له، من رجل ليس له سوى إزار واحد (579) ، وزوَّج صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة عليها السلام إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أشد ما يكون فقرا، وآثره بها على غيره من أشراف قريش (580) .
و (حجم أبو هند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا بني بَياضة أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه) (581) .
ألا إنما التقوى هي العز والكرمْ ... وحبك الدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
__________
(577) انظر تخريجه في: " القسم الثالث" ص (64) .
(578) "إرشاد الساري" (8/24) .
(579) انظر " فتح الباري" (9/131) .
(580) " البداية والنهاية" (3/346) ، و" ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، للمحب الطبري ص (27) .
(581) أخرجه أبو داود رقم (2102) ، وصححه الحاكم (2/164) ، ووافقه الذهبي، =(2/251)
أما أهل الدنيا فإنهم يجعلون المال حسبهم الذي يسعون إليه، فصاحب المال فيهم عزيز كيفما كان، والمقل عندهم وضيع، ولو كان ذا نسب رفيع، فعن أبي بريدة عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المالُ " (582) .
وقال الشاعر:
غنينا (835) زمانا بالتصعلك والفقر ... وكُلا سقاناه بكأسَيْهِما الدَّهْرُ
فما زادنا بَغْيًا على ذِي قَرابَةٍ ... غِنانا، ولا أزْرَى بأحسابِنا الفقرُ
آخَر:
ما يصنع العبدُ بعِز الغني ... والعِزُّ كُلُّ العِز للمُتقي
من عرف الله فلم تُغْنِهِ ... معرفةُ الله فذاك الشقي
__________
= وحسنه الحافظ في " تلخيص الحبير" (3/188) .
(582) رواه النسائي (6/64) في النكاح، وابن حبان رقم (1233) - موارد، والدارقطني (3/304) ، والحاكم (2/163) ، والبيهقي (7/135) ، والإمام أحمد (5/361) ، وصححه الألباني في " الإرواء" رقم (1870) ، وقال الحافظ في "الفتح": (والحسب هو الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا، عددوا مناقبهم، ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيُحكم لمن زاد عدده على غيره.
ويؤخذ من الأحاديث في ذلك أن الشريف النسيب يشحب له أن يتزوج بذات حسب ونسب مثله، إلا إن تعارض نسيبة غير دينة، وغير نسيبة دينة، فتُقَدم ذات الدين، وهكذا في سائر الصفات) اهـ. (9/ 135) ، وانظر: " الفقه الإسلامي وأدلته، ص (243) .
(583) غنينا: أقمنا.(2/252)
فوائد
الأولى:
اعلم أن الفقهاء الذين تشددوا في اشتراط الكفاءة، وتوسعوا فيه، قالوا: " الرجل العالم هو كفء لكل امرأة، مهما كان نسبها، وإن لم يكن له نسب معروف، وذلك لأن شرف العلم دونه كل نسب، وكل شرف: قال الله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر (10) ، وقال جل وعلا: (يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة (11) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: " من أكرم الناس؟ "، فقال: " يوسف بنُ يعقوب بن إسحاق بنِ إبراهيم "، قالوا: " ليس عن هذا نسألك "، قال: " فأكرمهم عند الله أتقاهم "، فقالوا: " ليس عن هذا نسألك "، فقال: " عن معادن العرب؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " (584) .
وبعد ما ذكر بعض الفقهاء جملة من المهن الدنيئة المعتبرة عندهم في الكفاءة، قال- لله دَره -: (وأما أتباع الظلمة: فَأخسُّ من الكل) اهـ (585) .
الثانية:
اعلم أن الكفاءة في الزواج - عند من اشترطها - معتبرة في الزوج دون الزوجة، أي أن الرجل هو الذي يشترط فيه أن يكون كفؤًا للمرأة، ولا يشترط أن تكون المرأة كفؤا للرجل (586) ، ودليل ذلك:
__________
(584) رواه البخاري (6/298) في الأنبياء، وفي تفسير سورة يوسف، ومسلم رقم (2526) في فضائل الصحابة: باب خيار الناس.
(585) " الفقه الإسلامي وأدلته" (7/247) .
(586) انظر: " حقوق المرأة في الزواج " للشيخ محمد بن عمر الغروي ص (329) وما =(2/253)
أولا: ما رواه أبو بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدَّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها، فله أجران " (587) .
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا مكافئ له في منزلته، وقد تزوج من أحياء العرب، وتزوج من صفية بنت حُيي، وكانت يهودية، وأسلمت رضي الله عنها.
ثالثاً: أن الزوجة الرفيعة المنزلة، هي التي تُعَير هي وأولياؤها عادة، إذا تزوجت من غير الكفء، بخلاف الزوج الشريف، فلا يعيَّر إذا كانت زوجته دونه في المنزلة.
الثالثة:
اعلم أن مذهب الجمهور أن وجود الكفاءة إنما يعتبر عند إنشاء العقد ولا يضر زوالُها بعدَه، فإذا تخلف وصف من أوصافها بعد العقد، فإن ذلك لا يضر، ولا يغير من الواقع شيئًا، ولا يؤثر في عقد الزواج، لأن شروط عقد الزواج إنما تعتبر عند العقد، فإن كان عند الزواج صاحبَ حرفة شريفة، أو كان قادرًا على الإنفاق، أو كان صالحا، ثم تغيرت الأحوال،
__________
= بعدها، و " الفقه الإسلامي وأدلته" (7/233، 239) .
(587) رواه البخاري (5/126، 127) في العتق: باب العبد إذا أحسن عبادة ربه، ونصح سيده، وفي العلم، والجهاد، والأنبياء، والنكاح، ومسلم رقم (154) في الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، والترمذي رقم (1116) في النكاح: باب ما جاء في فضل من يعتق أمَته ثم يتزوجها، والنسائي (6/115) واللفظ له.(2/254)
فاحترف مهنة دنيئة، أو عجز عن الإنفاق، أو فسق عن أمر ربه بعد الزواج، فإن العقد باقٍ على ما هو عليه، فإن الإنسان قد لا يدوم على حال واحدة، وعلى المرأة أن تصبر، وتتقي، فإن ذلك من عزم الأمور.(2/255)
[فصل]
الزوجية
بين الحقوق والواجبات والآداب
الزواج كغيره من العقود، ينشئ بين العاقدين الزوجين حقوقا وواجبات متبادلة، عملًا بمبدأ التوازن، والتكافؤ، وتساوي أطراف العقد الذي يقوم عليه كل عقد.
والحقوق الزوجية التي نتكلم عنها ليست مجرد وصايا ينفذها الزوجان بدافع الوجدان المحض كالصدق، والاحترام وغيرهما، أو السلوك الذي يعتمد على المميزات الشخصية، وإنما نريد بالحقوق الزوجية ما يلزم به كل من الزوجين تجاه الآخر من حقوق يحميها القانون الإسلامي، وتتدخل السلطة لإجبار من أخل بشيء منها على أدائه كاملًا لشريكه في الحياة الزوجية، ذلك لأن النفوس جبلت على الشح في المسائل المادية، وما يتصل بها، فنصت الشريعة على هذه الحقوق، وجعلتها لازمة بحكم القضاء دعمًا للاستقرار العائلي، فإن الدافع الأول لأداء الحقوق هو تلك المزايا الشخصية التي يتحلى بها الزوجان من سعة الصدر والأناة والمداراة والتلطف تحركها عوامل المودة والرحمة (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون) الروم (21) .
وفي الحقيقة أنا "المَوَدَّة" بما تدل عليه من تقرب كلٍّ إلى الآخر، والتلطف معه، و " الرحمة" بما تشعر من حرص كل من الزوجين على(2/256)
مصلحة صاحبه، والرفق به، والإشفاق عليه من كل سوء ومكروه، هما عماد البيت الذي يبقي على سكينة النفس، ويجعلها حقيقة مُدْرَكة في الحياة، وهما دستور المعاشرة بين الزوجين التي تجعل كلا منهما يشعر أنه متمم للآخر، وأنه هو مُتَمَّم به أيضا، فإذا بالرجل والمرأة الغريبين عن بعضهما المتباعدين من قبل، يتقاربان هذا التقارب، ويتحابان محبة تجعل كلا منهما أقرب إلى الآخر من أبيه وأمه!
فإذا وجد مع ذلك كله القضاء الشرعي الملزم، كان أدعى لسكون النفس، ومنعها أن تنزع إلى التمرد، أو التخفف من بعض المسئوليات، فإن نزعت، لجأ الطرف الآخر لقوة القضاء يلزمه بالتنفيذ وأداء الحق كاملا.. ولقد قرر القرآن الكريم هذه الحقوق في قاعدة تشريعية دقيقة هي قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة) .
حقوق الزوجين متبادلة:
فالآية نصت على أن الحقوق بين الزوجين متبادلة، طبقا لمبدأ: " كل حق يقابله واجب"، فكل حق لأحد الزوجين على زوجه يقابله واجب يؤديه إليه، وبهذا التوزيع تكفلت هذه القاعدة أن تحقق التوازن بين الزوجين من كافة النواحي، مما يدعم استقرار حياة الأسرة، واستقامة أمورها.
(قال ابن عباس رضي الله عنهما:
" أني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف (588) كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عَلي؛ لأن الله تعالى قال:
__________
(588) استنظفت الشيء: إذا أخذته كله.(2/257)
(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) أي زينة من غير مأثم "، وعنه أيضًا: " أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن "، وقال ابن زيد: " تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم".
قال القرطبي: " الآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية ") (589)) .
__________
(589) انظر: " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (3/123 - 124) .(2/258)
أولا: الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين
الحق الأول: غض الطرف عن الهفوات والأخطاء، وخاصة غير المقصود منها السوء في الأقوال والأفعال، وقد روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كُل بَني آدَمَ خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون " (590) .
فعلى كل من الزوج والزوجة أن يحتمل صاحبه، فلكل جواد كبوة، ولكل امرئ هفوة، ولكل إنسان زلة، وأحق الناس بالاحتمال من كان كثير الاحتكاك بمن يعاشر.
قال الشاعر:
إذا كنتَ في كُل الأمور مُعاتِبًا ... صديقَكَ، لم تَلْقَ الذي لا تُعَاتِبُه
فَعِشْ واحدًا أوْ صِلْ أخاكَ فإنه ... مُقارفُ ذَنب مرةً ومجَانِبُهْ
إذا أنتَ لم تشربْ مِرارًا على القَذَى ... ظمِئتَ، وَأي الناس تَصْفُو مَشَارِبُهْ؟
مَنْ ذَا الذي ترضَى سجاياه كُلها؟ ... كفى المرءَ نُبْلا أن تُعَد مَعَايِبُهْ
وقال آخر:
مَنْ ذا الذي ما ساءَ قط ... ومَن لَه الحسنى فقط؟!
وقال آخر:
__________
(590) أخرجه الترمذي رقم (2501) في صفة القيامة: باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وابن ماجه رقم (4251) في الزهد: باب ذكر التوبة، والدارمي (2/303) في الرقاق: باب في التوبة، وأحمد (3/198) ، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (4/171) .(2/259)
أرى كُل إنسان يرى عيبَ غيرِه ... ويعمَى عن العيب الذي هو فيه
إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، فهو لا يرضى لها الضعف في مجال القوة، أو الغضب في مقام الحلم، والسكوت في معرض بيان الحق.. ولكنه يتحمل نفسه، ويتعلل بما يحضره من المعاذير، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين يلتمس كلاهما لقرينه المعاذير، "فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات "، وحين تحسن النوايا، وتتواد القلوب، ويكون التعقل هو مدار المعيشة، يتوفر هذا الجانب الكريم في حياة الأسرة.
وعلى كل طرف ألا يقابل انفعال الآخر بمثله، فإذا رأى أحد الزوجين صاحبه منفعلًا بحدة، فعليه أن يكظم غيظه، ولا يرد على الانفعال مباشرة، وهذه النصيحة يجب أن تعمل بها المرأة أكثر من الرجل رعايةً لحق الزوج، وما أجمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه لزوجته: " إذا رأيتني غَضِبت، فَرَضِّني، وإذا رأيتُكِ غَضبتي رَضيتكِ، وإلا لم نصطحب ".
وعن محمد بن إبراهيم الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: (أراد شعيب بن حرب أن يتزوج امرأة، فقال لها: " إني سيء الخلق"، فقالت: " أسوأ منك خُلُقًا من أحوجك أن تكون سيء الخلق "، فقال: " إذا أنت امرأتي ") (591) .
وتزوج الإمام أحمد رحمه الله عباسة بنت المفضل، أم ولده صالح، وكان الإمام أحمد يثني عليها، ويقول في حقها:
" أقامت أم صالح معي عشرين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة " (592) .
__________
(591) "أحكام النساء" ص (82) .
(592) "طبقات الحنابلة" (1/429) .(2/260)
الحق الثاني: المشاركة الوجدانية في الأفراح والأحزان:
في الهموم والمطالب، وما أصدق كلام عمر رضي الله عنه وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يبكي هو وأبو بكر رضي الله عنه، بعد قبوله الفداء في أسرى بدر ونزول العتاب:
قال: (قلت: يا نبى الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإلا تباكيت لبكائكما) (593) الحديث.
إن المودة لا تهبط علينا هبوطَا، ولا تنبع من تحت أرجلنا نبعَا، إننا إن لم نسع إليها ونأخذ بأسبابها الموصلة إليها لم نبلغها، ومن أعظم هذه الأسباب المشاركة العاطفية والوجدانية، التي إن لم يتشبع بها الجو الأسري، فقد المحبة والتعاون، وحل محلهما الكراهية والتواكل، وهذا هو الخراب الحقيقي للبيت، فإن بيتًا يقوم على الكراهية، والنزاع، والخصام بيت خرب، أشبه ما يكون بأتون يحرق كل من يقترب منه بَلْهَ من يسكنه.
إن المشاركة في الأفراح تجعلها مضاعفة، والمواساة في المصائب تكسر حدتها، والمصيبة إذا عمت خفت.
فليتعاون الزوجان في السراء والضراء، على جلب السرور ودفع الحزن، في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، " والله في عون العبد، ما دام العبد في عون أخيه ".
الحق الثالث: أن ينصح كل منهما قرينه في طاعة الله تعالى، ويتطاوعا في ذلك: وقد تقدم في الحديث الصحيح بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن من أفضل
__________
(593) قطعة من حديث رواه مسلم رقم (1763) في الجهاد: باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم.(2/261)
ما يتخذه الإنسان: " زوجةً مؤمنة تعينه على إيمانه " (594) .
قال المباركفوري رحمه الله: (أي على دينه بأن تذكِّرَه الصلاة والصوم، وغيرهما من العبادات، وتمنعه من الزنا، وسائر المحرمات) (595) اهـ.
إِن التعاون على طاعة الله تعالى يتوج التفاهم بين الزوجين، ويبلغ به القمة، والتعاون شعار المجتمع الإسلامي: (وتعاونوا على البر والتقوى) فكيف بالزوجين؟ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيب بالزوجين أن يجتهد كل منهما في إعانة الآخر على بلوغ الكمال الديني، فيحثه على أخلص العبادة لله، وهى " قيام الليل " فيروي عنه أبو هريرة رضي الله عنه قوله: " رحم الله رجلًا قام من الليل، فصلى، وأيقظ امرأته، فَصَلَّتْ، فإن أبت نضح في وجهها الماء (596) ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبي نضحت في وجهه الماء " (597) .
__________
(594) تقدم تخريجه برقم (537) .
(595) (تحفة الأحوذي (4/165) .
(596) نضح: رش، (في وجهها الماء) قال المناوي: (نبه به على ما في معناه نحو ماء ورد أو زهر) اهـ من " فيض القدير " (4/25) ، وقال الدكتور نور الدين عتر: (ومعنى النضح الرش الذي لا يؤذي ولا يؤدي إلى استفزاز، ويمكن استعمال شيء آخر كماء الزهر، أو مسح الوجه بشيء من الطيب) اهـ. من " ماذا عن المرأة؟ ".
(597) رواه أبو داود رقم (1308) في الصلاة: باب قيام الليل، والنسائي (3/205) في قيام الليل: باب الترغيب في قيام الليل، وابن ماجه (1336) ، وابن حبان (646- موارد) ، والحاكم (1/309) ، وصححه على شرط مسلم، والإمام أحمد (2/ 250، 436) ، ونقل في " فيض القدير" قول النووي رحمه الله: " إسناده صحيح، اهـ (4/26) .(2/262)
ويمتثل أبو هريرة رضي الله عنه- راوي هذا الحديث- ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم:، فيطبقه على نفسه وأهله، فكان هذا ديدنه يصوم النهار، ويقوم الليل: يقوم ثلث الليل، ثم يوقظ امرأته، فتقوم ثلثه، ثم توقظ هذه ابنته، لتقوم ثلثه (598) ، وقال أبو عثمان النهدي: (تضيفت أبا هريرة سبع ليال، فكان هو وخادمه وامرأته يعتقبون الليل أثلاًثا " (599) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فصليا - أو صلى- ركعتين جميعًا، كُتِبا في الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (600) .
__________
(598) " البداية والنهاية" (8/ 110) .
(599) "حلية الأولياء" (1/383) .
(600) رواه أبو داود رقم (1309) في الصلاة: باب قيام الليل، ورقم (1451) باب الحث على قيام الليل، والطبراني في " الصغير" (1/81) ، والحاكم (2/416) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: (وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، والذهبي، والنووي، والعراقي) اهـ من " المشكاة" (1/390) .(2/263)
تعاون الزوجين على البر والتقوى
وأثره عليهما وعلى ذريتهما
ولا شك أن لتعاون الزوجين على البر والتقوى آثارًا عظيمة عليهما وعلى ذريتهما في الحاضر والمستقبل.
أما في الحاضر: فإن شيوع هذه الروح في البيت وتشبع الطفل بها، يؤدى إلى حبه لطاعة الله، وتعظيمه لشعائر الإسلام، وسهولة انقياده لأمر الله، اقتداءً بأبويه كما قال تعالى: (ذرية بعضها من بعض) آل عمران (34) ، وأما في المستقبل القريب في الدنيا:
فقد بين القرآن الكريم أن صلاح الآباء ينفع الأبناء، وهذا الخضِر عليه السلام وقد بنى الجدار متبرعَا، فيقول له موسى عليه السلام: (لو شئت لتخذت عليه أجرا) الكهف (77) ، فيبين له سبب عدم أخذه على ذلك أجرًا، فيقول: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحَا) الآية الكهف (82) ، وإذا ما نشأث الذرية على طاعة الله عز وجل، وتعظيم دينه، سهل عليهم أمر التكاليف الشرعية حين يبلغون، فيستحقون بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في قوله: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: " شابا نشأ في عبادة الله عز وجل " (601) ، ثم إذا فارق الأبوان الدنيا نفعهما دعاء الولد
__________
(601) جزء من حديث رواه البخاري (2/119) ، في الجماعة، ومسلم رقم (2031) في الزكاة، والترمذي رقم (2392) في الزهد، والنسائي (8/222) في القضاة، وغيرهم.(2/264)
الصالح كما في الحديث.
وإذا استقامت الذرية بعد فراق الأبوين على هذا العهد، كان اللقاء بينهم من جديد في جنة الخلد، ودار الكرامة: قال سبحانه: (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين) الطور (21) .
لهذا قال أحد الصالحين: " يا بني إني لأستكثر من الصلاة لأجلك"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أنزل الله تعالى بعد هذا: (ألحقنا بهم ذريتهم) يعني بإيمان، فأدخل الله عز وجل الأبناء بصلاح الآباء الجنة (602) .
وفي رواية: (ألحقنا بهم ذريتهم) قال ابن عباس: (إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ: (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) الطور (21) ، يقول: وما نقصناهم " (603) .
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: " إني لأصلي، فأذكر ولدي، فأزيد في صلاتي " (604) .
إن تقوى الله تبارك وتعالى، والعمل الصالح الذي يتعاون عليه الزوجان أعظم ذخيرة يدخرها الأبوان لحماية أولادهما، وأوثق تأمين على مستقبل ذريتهما، وأقوى ضمان لسلامتهم، ورعاية الله لهم في حياتهما، وبعد رحيلهما، خاصة إذا تركاهم ضعافًا يتامى، لا راحم لهم ولا عاصم
__________
(602) " الاعتقاد، للبيهقي ص (74- 75) .
(603) "الدر المنثور" للسيوطي (6/119) .
(604) عزاه إلى " حسن الأسوة " صاحب " منهج التربية النبوية للطفل " ص (45) .(2/265)
من البشر، قال جل وعلا: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) النساء (9) .(2/266)
من مواقف الزوجة المسلمة
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [لما نزلت هذه الآية: (من ذا الذي يُقْرِضُ الله قرضًا حَسَنا فيضاعفَه له) قال أبو الدحداح الأنصاري: " يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ "، قال: " نعم يا أبا الدحداح "، قال: (أرني يدك يا رسولَ الله "، قال: فناوله يده، قال: (فإني قد أقرضت ربي حائطي "، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها: " يا أم الدحداح "، قالت: " لبيك "، قال: " اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل "، وفي رواية أنها قالت له: (رَبِح بيعُك يا أبا الدحداح "، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح "، وفي لفظ: " رُبَّ نخلة مُدَلَّاة عروقها دُر وياقوت لأبي الدحداح في الجنة " (605) ] والعذق: بفتح العين النخلة، وبكسرها: عرجونها، والرداح: الثقيل.
وعن محمد بن الحسين السلمي قال: (قال أبو محمد الحريري: كنت عند بدر المغازلي، وكانت امرأته باعت دُرًّا بثلاثين دينارًا، فقال لها بدر: " نفرق هذه الدنانير في إخواننا، ونأكل رزق يوم بيوم "، فأجابته إلى ذلك، وقالت: " تزهد أنت، ونرغب نحن؟ هذا ما لا يكون " (606)) .
__________
(605) قال في " مجمع الزوائد ": (رواه البزار، ورجاله ثقات) اهـ (6/320) ، وقال في موضع آخر: (رواه أبو يعلى: والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح) اهـ (9/324) ، وللقصة أصل صحيح كما حققه الشيخ أحمد شاكر في " تفسير الطبري" (5/283 -286) ، وانظر: " الإصابة" (7/120) .
(606) " أحكام النساء " ص (147) .(2/267)
وقال أبو يوسف البزار:
(تزوج رياح القيسي امرأة، فبنى بها، فلما أصبح قامت إلى عجينها، فقال: " لو نظرتِ إلى امرأةٍ تكفيكِ هذا "، فقالت: " إنما تزوجت رياحا القيسي، ولم أرني تزوجت جبارًا عنيدا "، فلما كان الليل نام ليختبرها، فقامت ربع الليل، ثم نادته: "قم يا رياح "، فقال: "أقوم"، فقامت الربع الآخر، ثم نادته، فقالت: " قم يا رياحا، فقال: " أقوم "، فلم يقم، فقامت الربع الآخر، ثم نادته، فقالت: " قم يا رياح"، فقال: " أقوم "، فقالت: " مضى الليل، وعَسكَرَ المحسنون، وأنت نائم، ليت شِعري من غَرَّني بك يا رياح؟ ، قال: " وقامت الربع الباقي ") (607) اهـ.
وقال رياح: (اغتممتُ مرة في شيء من أمر الدنيا، فقالت: " أراك تغتم لأمر الدنيا، غرَّني منكم شُميط (608) ، ثم أخذت هُدْبَةً من مِقْنَعَتِها (609) ، فقالت: " الدنيا أهون عَلى من هذه ") (610) اهـ.
وقال الحسين بن عبد الرحمن:
حدثني بعض أصحابنا قال: (قالت امرأة حبيب أي محمد، وانتبهت ليلة، وهو نائم، فأنبهته في السحر، وقالت: " قم يا رجل فقد ذهب الليل، وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قُدامنا، ونحن قد بقينا ") (611) .
__________
(607) "صفة الصفوة " (4/43 - 44) .
(608) وهو " شُمَيط بن العجلان " الذي زَوَّجَها من " رياح القيسي".
(609) المقنَعَة: ما تغطي به المرأة رأسها، وهو أصغر من القناع، والهدبة: الخيط الصغير، وما يشبهه.
(610) "صفة الصفوة " (4/44) .
(611) "السابق" (4/33) .(2/268)
و (أجمع المؤرخون على أن جميع الأعمال الطيبة، والأفعال الحسنة التي قام بها المهدي (612) ، فأكسبته الشهرة الفائقة، إنما كانت بتأثير زوجته " الخيزران ") (613) .
وفي العصر المتأخر كان للزوجة العاقلة أكبر الأثر في نصرة أعظم حركة تجديدية شهدتها الأمة منذ أوائل القرن الثاني عشر الهجري حتى يومنا هذا:
إذ لما قدم شيخ الإسلام " محمد بن عبد الوهاب " رحمه الله إلى " الدرعية " ليعرض دعوته على أميرها " محمد بن سعود " لعله ينصره بسيفه، ويحمى الدعوة التجديدية الوليدة، أوعز تلميذ شيخ الإسلام الشيخ " أحمد بن سويلم العريني " إلى " ثنيان " و " مشاري " أخوي الأمير " محمد بن سعود"، وكانا من أنصار الشيخ وأتباعه، أوعز إليهما أن يستكشفا رأي أخيهما الأمير محمد في شأن الشيخ، ويقفا على مدى استعداده لمناصرة دعوته، فلم يترددا في قبول طلبه، وخَفا مسرِعَيْن إلى دار أخيهما الأمير محمد، وشرعا أولا بمفاوضة زوجته المسماة " موضى بنت أبي وهطان " من آل كثير، وكانت امرأة مشهورة بوفرة الذكاء والنباهة وسعة الإدراك، وقد تحدث الأخَوان إلى زوجة أخيهما طويلًا في المهمة التي جاءا من أجلها، وعن الدعوة التي يدعو إليها الشيخ، ومدى فائدتها في محاربة البدع والخرافات، ومكانة الشيخ، وما هو عليه من علم ومعرفة، وصفة ما يأمر به وينهى عنه، وأخيرًا طلبا إليها أن تفاوض زوجها لمناصرة
__________
(612) هو الخليفة محمد بن عبد الله المنصور.
(613) " مرآة النساء " ص (86) ، وهي أم الهادي، وهارون الرشيد، ملكة حازمة، عاقلة، لبيبة، دينة، خيرة، متفقهة، أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي، كما في " الأعلام " (2/375) .(2/269)
الشيخ، وشَد أُزرِه، وإشهار السيف من غِمده في سبيل نصرة الدعوة التي يدعو إليها، فَوَعَدَتهما خيرًا، وتم الاتفاق على ذلك، ونقلت السيدة " موضى" إلى زوجها ما دار بينها وبين أخويه من الحديث، وَدَعَتْهُ إلى تأييد الشيخ، ونصرة دعوته، وقالت له: إن هذا الرجل قدم إلى بلدك، وهو غنيمة ساقها الله تعالى إليك، فأكرِمْه، وعظمْه، واغتنم نُصرتَه "، ثم رَغبَتْهُ، وحسنت إليه القيام بزيارة خاصة إلى دار الشيخ " أحمد بن سويلم" لمقابلة الشيخ، لتكون إعلانا جهارًا للملأ بأنه على نصرته، وتحت حمايته، لكي يعظمه الناس، ويكرموه، فوافق الأمير محمد على نصيحة زوجته) ، وتم اللقاء بينهما حيث أفاض الشيخ في شرح دعوته إلى التوحيد، ومحاربة الشرك والبدع، وتمت البيعة بينهما، وعقد التحالف على قيام الأمير " محمد بن سعود " بشد أزر الشيخ ونصرة دعوته، ودخل الشيخ البلد تلبية لدعوة الأمير، واتخذ له منزلا بالقرب من دار الأمير " محمد بن سعود " (614) اهـ.
وقد كان لهذه المرأة الصالحة الصادقة أكبر الأثر في مؤازرة زوجها وتشجيعه، وحثه على الصبر والسلوان حينما اندحر الجيش الذي قاده ولده عبد العزيز وهزم هزيمة نكراء في " حائر " (615) .
__________
(614) انظر: " تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب " لحسين خلف الشيخ خزعل ص (159 - 161) ، وكذا " السعوديون والحل الإسلامي" ص (112) ، " مجلة البحوث الإسلامية " العدد السابع عشر ص (360) عام 1406 - 1407 هـ.
(615) " السابق " ص (252) ، ومن فضائل هذه المرأة العاقلة أن في كتفها وتحت عينها نشأ ابنها الإمام المجاهد، والبطل المجالد، أمير المسلمين في زمانه، العلامة الزاهد العابد، بقية السلف الصالح، تلميذُ إمام الدعوة السلفية: عبد العزيز بن محمد ابن سعود، الملقب بـ " مهدي زمانه "، المقتول غدرًا بيد رافِضي خبيث في صلاة العصر وهو ساجد سنة 1218 هـ، رحمه الله، وعفا عنه، وتقبله في الشهداء.(2/270)
الحق الرابع: حفظ السر:
فلا يذكر أحدهما قرينه بسوء بين الناس، ولا يفشي سره، ولا يخبر بما يعرفه عنه من العيوب الخفية، قال تعالى: (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله.
قال البغوي رحمه الله: " أي: قيمات بحقوق أزواجهن، والقنوت: القيام، والقنوت: الدعاء، وقيل: قانتات: أي: مُصَلِّيات، ومنه قوله عز وجل: (أمن هو قانت آناء الليل) (616) الآية الزمر (9) .
__________
(616) " شرح السنة " (9/157) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: (قال الثوري وقتادة: " حافظات للغيب ": يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتهما أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها " وقرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية) وقال: (أقول: ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة، ولا سيما حديث الرفث، فما بالك بحفظ العرض؟ ! وعندي أن هذه العبارة أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرؤها خرائد العذارى جهرا، ويفهمن ما تومئ إليه مما يكون سرا، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات، التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب (بما حفظ الله) فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكير فيما يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبة الله عز وجل.
وفسروا قوله تعالى: (بما حفظ الله) بما حفظه لهن في مهورهن، وإيجاب النفقة لهن - يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبهم جزاء على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى، وما أراك الا ذاهبا معى إلى وهَن هذا القول وهزاله، وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس، أو عين تبصر، أو أذن تسترق السمع، معللا بدراهم قبضن، =(2/271)
فالصالحة عابدة لله تعالى تعين زوجها على تطبيق الإسلام على نفسه وعلى أسرته، وأما حفظ الغيب فهو واجب على كلا الزوجين، لكنه في حق المرأة آكد وأقوى، لأن الخطر في تساهلها عظيم جدا، يهدد بأفظع النتائج الدينية والدنيوية، ويدمر الأسرة، فالمرأة الصالحة حافظة لزوجها في غيابه: من عِرض فلا تزني، ومن سر فلا تفشي، ومن سمعة فلا تجعلها مضغة في الأفواه.
ومن حفظ السر: عدم نشر ما يكون بين الزوجين متعلقًا بالوقاع ونحوه، وقد ثبتت أحاديث في تحريم ذلك:
منها: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي (617) إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر (618) ...................................
__________
= ولقيمات يرتقبن، ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي، وهو أن الباء في قوله: (بما حفظ الله) هي صِنْوُ باء: " لا حول ولا قوة إلا بالله" وأن المعنى: حافظات للغيب بحفظ الله، أى: بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياهن بصلاحهن، فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة، أو حافظات له يسبب أمر الله بحفظه، فهن يطعنه، ويعصين الهوى) اهـ من " حقوق النساء في الإسلام" ص (48- 50) ..
(617) أي: يصل إليها بالمباشرة والمجامعة ومنه قوله تعالى: (وقد أفضى بعضكم إلى بعض ".
(618) وقد أضاف الحديث الشر إلى الرجل وحده، لأنه أجرأ في الكشف عن مثله، وليس معنى ذلك أن ذكر الإفضاء حرام على الرجل مباح للمرأة، فالتحريم يشملهما معا، قال النووي رحمه الله: (ومجرد ذكر الجماع - إن لم تكن فيه فائدة، ولا حاجة إليه - فمكروه، لأنه خلاف المروءة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت" اهـ من " شرح النووي لصحيح مسلم" (10/9) ، ولهذا فإن التشريع الحكيم لا يبيح ذكره تعريضا إلا إذا كان لتعليم درس، أو طلب إعلام فقهي، أو مقاضاة بين زوجين، ويترتب على ذكره فائدة، وهكذا كان أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال لأبي طلحة رضي الله عنه: " أأعرستم الليلة؟ "، وقال لجابر رضي الله عنه: " الكيسَ، الكيسَ، يعني الولد، وهو لا يأتي إلا بالنكاح، وعن مجاهد في تفسير قوله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما قال: (إذا أتوا عل ذكر النكاح كنوا عنه) رواه ابن أبي شيبة (4/391) .(2/272)
سرها " (619) ، ومنها ما روته أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها- أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجال والنساء قعود، فقال: " لعل رجلا يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟ ! "، فأرَمَّ (620) القوم، فقلت: " أي والله يا رسول الله! إنهن ليفعلن، وإنهم ليفعلون "، قال: " فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغشيها والناس ينظرون " (621) .
الحق الخامس: المبيت في الفراش، والإعفاف:
فلا يجوز لأحد الزوجين أن يغمطه صاحبه مع القدرة عليه: فالمرأة يجب عليها أن تلبي زوجها كلما أرادها على ذلك، وإن لم يكن لديها ميل إليه، إلا لعذر مانع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فِراشه (622) ، فأبت أن تجيء، فبات غضبانَ، لعنتها الملائكة حتى تصبح "، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى
__________
(619) رواه ابن أبي شيبة (4/391) ، ومن طريقه مسلم رقم (1437) (10/8) - نووي، والإمام أحمد (3/69) بلفظ: (إن من أعظم الأمانة عند الله) ، وأبو نعيم (10/236 - 237) ، وابن السني رقم (608) ، والبيهقي (7/193 - 194) ، وفيه عمر بن حمزة العمري، قال ابن القطان: (وعمر ضعفه ابن معين، وقال أحمد: أحاديثه مناكير، فالحديث به حسن لا صحيح) اهـ. كذا نقله عنه المناوي في " فيض القدير" (2/539) .
(620) أي: سكتوا، ولم يجيبوا.
(621) أخرجه الإمام أحمد (6/456) ، وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة أو الحسن، ذكرها الألباني في " آداب الزفاف" ص (144) .
(622) (الظاهر أن الفراش كناية عن الجماع، ويقويه قوله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش"، أي لمن يطأ في الفراش، والكناية عن الأشياء التي يُستحيى منها كثيرة في القرآن والسنة) اهـ نقله الحافظ عن " ابن أبي جمرة" فانظر "فتح الباري" (9/294) .(2/273)
عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها " (623) ، وفي رواية أخرى قال: " إذا باتت المرأة مُهاجِرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح"، وفي أخرى: " حتى ترجع" (624) .
وعن طلق بن على رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور " (625) . وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتَب (626) ، لم تمنعه........................
__________
(623) وفي هذا الحديث أًن سخط الزوج يوجب سخط الرب، وهذا في قضاء الشهوة، فكيف إذا كان في أمر الدين؟!
(624) رواه البخاري (9/258) في النكاح: باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، وفي بدء الخلق: باب ذكر الملائكة، ومسلم رقم (1436) في النكاح: باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، وأبو داود - ولفظ الأولى له - رقم (2141) في النكاح: باب حق الزوج على المرأة، والدارمي (2/149 - 150) ، والإمام أحمد (2/ 255، 348، 386، 439، 468، 480، 519، 538) .
(625) أخرجه الترمذي رقم (1160) في الرضاع: باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، وقال: " حسن غريب "، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (1202) ، وابن حبان (1295- موارد) ص (315) ، والإمام أحمد (4/ 22 -23) ، والبيهقي (7/292) ، وقوله: " وان كانت على التنور، (معناه: فلتجب دعوته وإن كانت تخبز على التنور، مع أنه شغل شاغل لا يتفرغ منه إلى غيره إلا بعد انقضائه، قال ابن الملك: " وهذا بشرط أن يكون الخبز للزوج، لأنه دعاها في هذه الحالة، فقد رضى بإتلاف مال نفسه، وتلف المال أسهل من وقوع الزوج في الزنا) اهـ. من " مرقاة المفاتيح" (3/467) .
(626) أي: رَحْل - وفي " النهاية ": (القَتَب للجمل كالإعلاف لغيره، ومعناه الحث لهن على مطاوعة أزواجهن، وأنه لايسعهن الامتناع في هذه الحال، فكيف في غيرها؟) اهـ. (4/11) (وقيل: إن نساء العرب كن إذا أردن الولادة جلسن على قتب، ويقال إنه أسهل لخروج الولد، فأراد تلك الحالة، قال أبو عبيد: كنا =(2/274)
نفسها (627) .
وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تُؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجتهُ من الحور العين: " لا تؤذيه قاتلكِ الله، فإنما هو عندكِ دخيل (628) ، يوشك أن يفارقكِ إلينا " (629)) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون " (630) .
__________
= نرى أن المعنى: وهي تسير على ظهر البعير فجاء التفسير بغير ذلك) اهـ من " حاشية السندي على ابن ماجه " (1/570) .
(627) قطعة من حديث رواه ابن ماجه (1/570) ، والإمام أحمد (4/381) ، وابن حبان ص (314) ، رقم (1290- موارد) ؛ والبيهقي (7/292) ، وله شاهد من حديث زيد بن أرقم ذكره المنذري في " الترغيب" وقال: (رواه الطبراني بإسناد جيد) اهـ (3/58) ، وانظر " السلسلة الصحيحة " رقم (1203) .
(628) الدخيل: الضيف والنزيل، يعني: هو كالضيف عليك، وأنت لست بأهل له حقيقة، وإنما نحن أهله، فيفارقك قريبا، ويلحق بنا.
(629) رواه الترمذي رقم (1174) في الرضاع: باب رقم (19) ، وابن ماجه رقم (2014) ، والإمام أحمد (5/242) ، وصححه الألباني في الصحيحة، رقم (173) .
(630) رواه الترمذي رقم (360) ، وقال: " حسن غريب "، وحسنه الألباني في " المشكاة " رقم (1122) .(2/275)
تنبيهات
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: " فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح " قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: (ظاهره اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلًا لقوله: " حتى تصبح "، وكأن السر تأكد ذلك الشأن في الليل، وقوة الباعث عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر لأنه المظنة لذلك) (631) اهـ، وإطلاقات حديث ابن أبي أوفى وأبي هريرة رضي الله عنهما تتناول الليل والنهار، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى ترضى " (632) .
الثاني: قوله: " فبات غضبان عليها " به يتجه وقوع اللعن، لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك فإنه يكون: إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك، واعلم أنه لا يتجه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالهجر، فغضب هو لذلك، أو هجرها وهى ظالمة، فلم تستنصل من ذنبها، وهجرته، أما لو بدأ هو بهجرها ظالما لها فلا (633) .
الثالث: في هذه الأحاديث (الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب
__________
(631) " فتح الباري" (9/294) .
(632) عزاه الحافظ في " الفتح " (9/294) إلى ابن خزيمة، وابن حبان، وانظر " موارد الظمآن" ص (315 - 316) .
(633) " فتح الباري" (9/294) .(2/276)
مرضاته، وأن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وأن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح، ولذلك حَض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك، أو السبب فيه الحض على التناسل، وفيه إشارة إلى ملازمة طاعة الله والصبر على عبادته، جزاء على مراعاته لعبده، حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلا جعل له من يقوم به، حتى جعل ملائكته تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه، وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان) (634) اهـ.
الرابع: لا يجوز للمرأة أن تطيع زوجها فيما لا يحل له، بل يجب عليها مخالفته حينئذ، وذلك مثل أن يطلب منها الوطء في زمان الحيض (635) والنفاس (636) ، أو في غير محل الحرث (637) ، أو وهي صائمة صيام فريضة
__________
(634) " السابق " (9/295) .
(635) لكن ليس الحيض عذرا لها في أن لا تجيبه مطلقًا، قال النووي رحمه الله: (يحرم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي، ولى الحيض بعذر في الامتناع، لأن له حقا في الاستمتاع بها فوق الإزار) اهـ. بنحوه من " شرحه لصحيح مسلم " (10/7-8) .
(636) ثبت تحريم إتيان المرأة في النفاس بالإجماع، وقد قاس الفقهاء النفاس على الحيض لاشتراكهما في العلة والسبب.
(637) وذلك لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الله إلى رجل يأتي امرأته في دبرها " أخرجه الترمذي وحسنه (1/218) ، وابن حبان (1302) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنًا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " أخرجه أبو داود رقم (3904) ، والترمذي رقم (135) ، وابن ماجه رقم (639) ، والدارمي (1/259) ، والإمام أحمد (2/408، 476) واللفظ له، وصححه الألباني في " آداب الزفاف" ص (106) ، وعن طاوس قال: (سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال: " هذا يسألني عن الكفر؟ ") =(2/277)
كرمضان، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) (638) .
كذلك يحرم على الرجل أن يتعمد هجر زوجته، فهو مأمور بأداء حقها بقدر حاجتها وقدرته:
فإن الشريعة السمحة لم تقتصر على مطالبة المرأة بأن تستجيب لزوجها، بل طالبت الرجل أيضا أن يؤدي إليها حقها، ويعفها، ويغنيها، وذلك لقوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) (النساء: 129) ، قال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله: (ويدل عليه أن عليه وطأها لقوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) يعني: لا فارغة فتتزوج، ولا ذات زوج إذا لم يوفها حقها من الوطء) (639) اهـ. ويدل عليه أيضًا مفهوم قوله عز وجل: (واهجروهن في المضاجع) (النساء: 34) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يهْجَر إلا في المضجع " (640) .
وكما قرر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس للمرأة أن تشتغل بالعبادات غير الفريضة إذا كانت تفوت حق زوجها، كذلك قرر صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للرجل أن يشتغل بالعبادات النوافل حتى يغفل أو يعجز عن أداء حق زوجته:
فعن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
= وصححه أيضا الألباني في المرجع السابق.
(638) أخرجه البخاري (13/203) ، ومسلم (6/15) ، وأبو داود (2625) ، والنسائي (2/187) ، وأحمد (1/94) عن علي رضي الله عنه.
(639) " أحكام القرآن " (1/274) .
(640) رواه من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه الإمام أحمد (4/447) ، (5/5، 3) ، وأبو داود رقم (2142) ، وابن ماجه (1850) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (7/98) .(2/278)
" يا عبدَ الله ألم أخْبَرْ أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ "، قلت: " بلى يا رسول الله "، قال: " فلا تفعل، صُمْ وأفطِر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لِزَوْرِك (641) عليك حقًا، وإن بحَسْبِك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عَشر أمثالِها، فإذا (642) ذلك صيامُ الدهر " (643) الحديث، وفي رواية للبخاري قال: " أنكحني أو امرأة ذاتَ حسب، وكان يتعاهد كَنتهُ (644) ، فيسألها عن بعلها (645) ، فتقول له: " نعم الرجل من رجل لم يَطَأ لنا فراشًا، ولم يفتش لنا كَنَفا (646) مُذ أتيناه "، فلما طال ذلك عليه، ذكَر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألقِني به"، فلقِيتُه بَعْدُ، فقال: " كيف تصوم؟ "، قلت: " كل يوم "، قال: " وكيف تختم؟ "، قلت: " كل ليلة ") الحديث بنحوه.
وفي رواية النسائي، قال: (زوَّجني أبي امرأة، فجاء يزورنا، فقال: " كيف ترين بعلك؟ "، قالت: " نعم الرجل، لا ينام الليلَ، ولا يفطر النهار "، فوقع بي (647) ، وقال: " زَوجتُك امرأة من المسلمين،
__________
(641) الزور: الزائرون، يقال: رجل زائر، وقوم زور، وزوار.
(642) " فإذًا ذلك " روى " إذا " بالتنوين، وبلفظ، " إذا " التي للمفاجأة.
(643) رواه البخاري (5/123) في الصوم: باب صوم الدهر، وأبواب حق الضيف، والجسم، والأهل في الصوم، وفي التهجد، والأنبياء، وفضائل القرآن، والنكاح: باب لزوجك عليك حق، والأدب، وأخرجه مسلم رقم (1159) في الصيام: باب إلى عن صوم الدهر.
(644) الكَنة: امرأة الابن أو الأخ.
(645) بعل المرأة: زوجها.
(646) الكَنَف: الجانب، أرادت: أنه لم يقربها، ولم يستعلم لها حالا خَفِيَتْ عنه. (647) وقع بي فلان: إذا لامك، وَعَنَفَكَ، وأما وقعتَ فيه، فهو من الوقيعة، وهي الغِيبة.(2/279)
فَعَضَلْتَها؟! " (648) ، قال: فجعلت لا ألتفت إلى قوله مما عندي من القوة والاجتهاد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لكني أنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فقم ونم، وصم وأفطر " (649) الحديث.
وفي حديث الرهط الثلاثة أن أحدهم قال: " أما أنا فأصلي الليل أبدا "، وقال الآخر: " وأنا أصوم الدهر أبدًا، ولا أفطِر "، وقال الآخر: " وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا "، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّجُ النساء، فمن رغب عن سنتي (650) ، فليس مني " (651) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت على خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية، وكانت عند عثمان بن مظعون، قالت: فرأى رسول الله أي بذاذة هيئتها، فقال لي: " يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة! "، قالت: فقلت: " يا رسول الله امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها، وأضاعتها "، قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى عثمان بن مظعون، فجاءه، فقال: " يا عثمان أرغبة عن سنتي؟ ! " قال: فقال: " لا والله يا رسول الله، ولكن سُنَتكَ أطلبُ "، قال: " فإني أنام، وأصلي، وأصوم،
__________
(648) العَضل: المنع، والمراد: أنك لم تعاملها معاملة الأزواج لنسائهم، ولا تركتها بنفسها لتتزوج، وتتصرف في نفسها كما تريد.
(649) هذه رواية النسائي للحديث، في كتاب الصيام: باب صوم يوم وإفطار يوم (4/209 - 215) .
(650) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (61) .
(651) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (المراد بالسنة الطريقة، التي لا تقابل الفرض) اهـ من " الفتح " (9/105) ، وانظر: " نيل الأوطار" (6/117) .(2/280)
وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم " (652) .
وروى الشَّعبِيُّ أن كعب بن سُوْر كان جالسًا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاءت امرأة فقالت: " يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلًا قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائمًا، ويظل نهاره صائمًا"، فاستغفر لها، وأثنى عليها، واستحيت المرأة، وقامت راجعة، فقال كعب: " يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها فلقد أبلغت إليك في الشكوى "، فقال لكعب: " اقض بينهما، فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهم "، قال: (فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة (653) هي
__________
(652) أخرجه الإمام أحمد، والسياق له (6/268) ، وأبو داود رقم (1369) في أبواب قيام الليل: باب ما يؤمر به من القصد بالصلاة، وفيه عنعنة ابن إسحق، لكن يشهد له أحاديث صحاح، فها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وزاد في آخره: (قال: فأتتهم المرأة بعد ذلك كأنها عروس، فقيل لها: " مه؟ "، قالت: " أصابنا ما أصاب الناس" أخرجه ابن حبان (1287- موارد) ، وقد روى البخاري (4/170- 171) ، والترمذي (3/290) ، والبيهقي (4/276) ، وغيرهما نحو هذا من قصة أو الدرداء وسلمان عن أبي جحيفة رضي الله عنه، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء: " يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، صم، وأفطر، وصل، وأتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه) الحديث.
(653) فتأمل كيف رأى ذلك القاضي المسلم أنه لا فرق بين التشدد في العبادة الذي يضر بالزوجة، وبين الضرائر، فأوجب لها حقا، ولو لم يكن لها فيه حق لم يقض فقهاء المسلمين بفسخ النكاح لتعذره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن للمرأة على الرجل حقا في ماله، وهو الصداق، والنفقة بالمعروف، وحقا في بدنه، وهو العشرة والمتعة، بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان مجبوبا أو عِنينًا لا يمكنه جماعُها فلها الفرقة، ووطؤها واجب، عليه أكثر =(2/281)
رابعتهن، فأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة "، فقال عمر: (والله ما رأيك الأول بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة، نعم القاضي أنت " (654) .
(وسئل أحمد: " يؤجر الرجل أن يأتي أهله، وليس له شهوة؟ " فقال: أي والله، يحتسب الولد، وإن لم يرد الولد يقول: " هذه امرأة شابة "، لم لا يؤجر؟!) (655) اهـ.
وهذه الشريعة الحنيفية تقرر أن الزوج لو آلى (أي حلف) ألا يقرب زوجته، يلزمه أن يحنث في يمينه، قال تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) البقرة (226) ، فقد نص على أن الذين يؤلون - أي يحلفون - على ألا يقربوا زوجاتهم يُمهلون أربعة أشهر، فإن عاد أحدهم إلى الإنصاف وأداء الحق فيها، وعليه كفارة يمين، وإلا كان إصراره إضرارًا موجبا للفراق، قال صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر، ولا ضرار " (656) .
__________
= العلماء، وقد قيل: " إنه لا يجب اكتفاء بالباعث الطبيعي"، والصواب: أنه واجب كما دل عليه الكتاب، والسنة، والأصول) اهـ. من " السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص (162 - 163) .
(654) أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (7/12587) ، وأورده الحافظ في " الإصابة " (5/646) في ترجمة كعب بن سور، وصححه الألباني في" الإرواء " (7/80) ، وانظرا تفسير القرطبي (5/19) ، (3/124) ، (المغني، (7/30) ، " مجموع الفتاوى، (34/85) .
(655) المغني، (7/31) .
(656) رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الإمام أحمد (1/313) ، وابن ماجه (2/57) ، وفيه جابر الجعفي قال ابن رجب: (ضعفه الأكثرون " اهـ. من " جامع العلوم والحكم " ص (286) ، وللحديث - على ضعفه- طرق كثيرة أشار إليها النووي رحمه الله في " أربعينه"، ثم قال: " يقوى بعضها بعضًا "، وقال =(2/282)
وقال صلى الله عليه وسلم: " من ضارَّ ضاره الله، ومن شاقَّ شق الله عليه " (657) .
ويروى أن (عمر رضي الله عنه كان يطوف في المدينة، فسمع امرأة وهي مغلقة عليها بابها، تقول:
تطاول هذا الليلُ تسرِى كواكبه ... وأرَّقني أن لا ضجيعَ ألاعبُهْ
ألاعبه طورًا وطورًا كأنما ... بدا قمرًا في ظلمةِ الليل حاجبُه
يسر به من كان يلهو بقربه ... لطيف الحشى لا يحتويه أقاربه
فو الله لولا الله لا شيء غيره ... لَنُقِّضَ من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلًا ... بأنفسنا لا يَفْتُرُ الدهرَ كاتبُه
ثم تنفست الصعداء، وقالت: " لهان على عمر بن الخطاب وحشتي، وغيبة زوجي عني"، وعمر واقف يسمع قولها، فقال لها عمر: " يرحمك الله"، ثم وجه إليها بكسوة ونفقة، وكتب لها أن يقدم عليها زوجها) (658) .
وقيل: إن عمر رضي الله عنه أوَّه، ثم خرج، حتى دخل على
__________
= ابن الصلاح رحمه الله: (مجموعها يقوي الحديث، ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم، واحتجوا به، وقول أبي داود: " إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها"، يشعر بكونه غير ضعيف) اهـ. نقلا من " جامع العلوم والحكم " ص (287) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (250) ، و " جامع الأصول " (6/64) .
(657) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الحاكم (2/57-58) ، والبيهقي (6/69- 70) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وكذا أخرجه من حديث أبي صرمة بن قيس الأنصاري المازني الإمام أحمد (3/453) ، وأبو داود رقم (3635) في الأقضية: باب أبواب من القضاء، والترمذي رقم (1941) في البر والصلة: باب ما جاء في الخيانة والغش، وابن ماجه (2342) في الأحكام: باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، وقال الترمذي: " حسن غريب"، ويشهد له معنى الحديث السابق، وانظر: " فيض القدير" (6/173) .
(658) " مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب " لابن الجوزي ص (83-84) ، " تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (1/394) .(2/283)
على حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقالت: " يا أمير المؤمنين، ما جاء بك في هذا الوقت؟ "، قال: " أي بنية كم تحتاج المرأة إلى زوجها؟ "، فقالت: "في ستة أشهر "، فكان لا يغزي جيشًا له أكثر من ستة أشهر) (659) ، وفي بعض الروايات تحديد المدة بأربعة أشهر، وقيل: (إن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم من أهل المدينة، فأمرهم إما أن يرجعوا إلى نسائهم، وإما أن يفارقوا، فمن فارق منهم فليبعث بنفقة ما ترك، وأن تكون النفقة على قدر السعة) (660) .
ولهذا كان عمر رضي الله عنه يرى فسخ النكاح إذا فات حق الوطء، ورآه الفقهاء أيضًا، فرأوا أن من حق أحد الزوجين أن يفسخ النكاح لترك الوطء، وهو ما يسمى بالفسخ للعيب، أي لعيب خِلقي كالمرض الذي يستحيل معه الوطء، أو خُلقي للإضرار أو إهمالاً، لأن ذلك ترك لحق من الحقوق، قال الإمام ابن حزم - رحمه الله -: " ويجبر على ذلك من أبى بالأدب، لأنه أتى منكرًا من العمل " (661) اهـ.
و (قيل للإمام أحمد: " كم يغيب الرجل عن زوجته "؟ قال: " ستة أشهر، يكتب إليه، فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما " (662) اهـ. يعني بذلك: إذا تضررت الزوجة، وطلبت التفريق، والله أعلم.
الحق السادس: تزين الزوجين:
امتن الله سبحانه على عباده بما أنزل إليهم من الزينة التي تحسِّن هيآتهم،
__________
(659) " السابق"، وانظر: " المصنف " للإمام عبد الرزاق (7/12594) ، و " المغني " (7/29) ، " موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص (659) ، " روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم ص (226-227) .
(660) "المغني" (7/573) ، " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " ص (489) .
(661) " المحلى " (10/40) .
(662) "المغني " (7/31) .(2/284)
ومنازلهم، فقال عز وجل: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير) الأعراف (26) . وقال سبحانه يندد بالذين يحرمون ما أحل الله لعباده من هذه الزينة والطيبات المباحة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 32] .
وجاءت السنة النبوية تحض المسلمين رجالا ونساءً على حسن الهيئة والنظافة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له شعر فليكرمه) (663) .
وعن أبي قتادة قال: (قلت: " يا رسول الله إن لي جُمَّةً، أفأرَجلُها؟ " (664) قال: " نعم، وأكرمها " (665)) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حَبة من كِبرٍ "، فقال رجل: " إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعلُه حسنةً؟، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال " (666) الحديث، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوب دُون، فقال له:
__________
(663) أخرجه أبو داود رقم (4163) في الترجل: باب في إصلاح الشعر، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/321) ، وحسنه الحافظ في " الفتح" (10/310) .
(664) الجُمة: الشعر المسترسل حتى يبلغ تحت الأذن، وقوله: " أرجلها ": يعني أسرحها بالمشط.
(665) رواه النسائي (8/183) في الزينة: باب اتخاذ الجمة، وقال في " تحقيق جامع الأصول ": (وإسناده عنده - أي النسائي - صحيح، ووصله أيضًا البزار بإسناد صحيح " اهـ (4/750) .
(666) رواه مسلم رقم (91) في الإيمان: باب تحريم الكبر وبيانه، وأبو داود رقم (4091) في الأدب: ما جاء في الكبر، والترمذي (1999) في البر والصلة: باب ما جاء في الكبر.(2/285)
" ألك مال؟ "، قال: " نعم "، قال: " من أي المال؟ "، قال: " من كل المال قد أعطاني الله تعالى! "، قال: " فإذا آتاك الله مالًا فَلْيُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامته " (667) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان له مال، فَلْيُرَ عليه أثرُه " (668) .
وتزين المرأة لزوجها، وكذا الرجل لزوجته ينبغي أن يتخذ منه الزوجان الحظ المناسب، لأنه من أسباب الألفة والمودة، ولهذا جعل الشارع الزينة حقا مشروعًا لكل منهما على صاحبه.
ومراعاةً لهذه الفطرة التي فطر الله عليها النساء من حب الزينة، والتي يشر إليها قوله تعالى: (أوَمن يُنَشَّأ في الحِلْيَةِ وَهُوَ في الخِصامِ غيرُ مُبِين) الزخرف (18) ، (أباح الله تعالى من التحلي واللباس للنساء ما حَرمه على الرجال، لحاجتهن إلى التزين للأزواج، وأسقط الزكاة عن حليهن (669) معونةً لهن على اقتنائه) (670) اهـ.
__________
(667) أخرجه النسائي (2/ 291، 296) ، وأبو داود رقم (4063) ، والحاكم (4/ 181) ، وأحمد (3/473) من حديث أبي الأحوص عن أبيه رضي الله عنه، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: (رواه الطبراني في الصغير، ورجاله رجال الصحيح) اهـ (5/133) ، والحديث صححه الألباني في (غاية المرام، رقم (75) .
(668) رواه الطبراني في " الكبير" (8/31) ، وقال الهيثمي: (وفيه يحيى بن يزيد بن أبي بردة، وهو ضعيف) اهـ. من " المجمع" (5/133) ، والحديث صححه الألباني في" صحيح الجامع" (5/345) رقم (6370) .
(669) وهذا مذهب الجمهور، إذا كان يتخذ زينة ومتاعا،. أما ما اتخذ مادة للكنز والادخار، أو اتخذ حُلِيا فرارا من الزكاة، فتجب فيه الزكاة، واستدل من يقول بوجوب الزكاة في الحلي المتخذ للزينة بعموم الأدلة في الذهب والفضة، وكذا أحاديث وردت في زكاة الحلي خاصة، صححها بعض الأئمة، والله أعلم. (670) " المغني " (5/546) .(2/286)
فعلى المرأة أن تتزين لزوجها، ومن حقه عليها أن تفعل (671) ، وإن تجاوزت الشطر الأعظم من عمرها، فذلك من أسباب الألفة والتودد، لكن لا تبالغ في ذلك حتى يضيع وقتها الثمين أمام المرآة، فهذا من ضعف العقل، وخلل التصور.
ومن الإشارات النبوية إلى أهمية التزين للأزواج وأثره في التواد والتحاب بين الزوجين: ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا يعنى عشاء - لكي تمتشط الشعِثة، وتستحِد المُغِيبةُ " (672)) ، وفي رواية للبخاري: " إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلا ".
وفي هذا دليل على أنه يستحب التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع لما ذُكر من تحسين هيئات من غاب عنهن أزواجهن، وذلك لئلا يهجم على أهله وهم في هيئة غير مناسبة، فيقع النفور عنهن، وفي هذا الحديث بيان أن المرأة مادام زوجها حاضرا مقيمًا فهي دائمة التزين، ولا تهجر هذه الخصلة إلا في غياب زوجها.
__________
(671) وشرط تزين المرأة أن لا تظهر. لأجنبي، وأن لا تكون الزينة محرمة كوصل الشعر، والنمص، والوشم، وتفليج الأسنان، وغيره مما نهى عنه الشارع، فلا يحل التزين به، ولو أمر به الزوج، قال صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
(672) رواه البخاري (9/296-297) في النكاح: باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة، وفي الحج، ومسلم رقم (715) في الإمارة: باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلا، وأبو داود رقم (2776: 2778) في الجهاد: باب في الطروق، والترمذي رقم (1172) في الرضاع: باب رقم (17) ، وفي الاستئذان رقم (2713) ، والشعِثة: البعيدة العهد بالغسل وتسريح الشعر والنظافة، والمغيبة: التي غاب عنها زوجها، وعن زينب امرأة عبد الله قالت: (كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح، وبزق كراهية أن يهجم منا على شيء يكرهه) الحديث رواه الإمام أحمد (1/381) .(2/287)
ومما يعكس رسوخ هذا المفهوم عند الرعيل الأول، ذلك السؤال الذي وجهته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما رأتها هجرت الزينة، فقد قالت رضي الله عنها: (كانت امرأة عثمان بن مظعون تخضب- أي بالحناء- وتتطيب، فتركته، فدخلت عَلَي، فقلت: " أمَشْهَدٌ أم مَغِيب؟ " (673) ، فقالت: " مشهد " (674) ، قالت: " عثمان لا يريد الدنيا، ولا يريد النساء "، قالت عائشة: " فدخل عَلىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فلقي عثمانَ، فقال: (يا عثمان تُؤمنُ بما نؤمنُ به؟ " قال: " نعم يا رسول الله "، قال: " فَأسْوَة ما لَكَ بنا ") (567) .
(وكانت علية بنت المهدي كثيرِة الصلاة، ملازمة للمحراب، وقراءة القرآن، وكانت تتزين، وتقول: " ما حَرم الله شيئًا إلا وقد جعل فيما أحل عِوَضًا منه، فبماذا يحتج العاصي؟) (676) اهـ.
(وقال الأصمعي: رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر، وهي مختضبة، وبيدها سبحة، فقلت: " ما أبعد هذا من هذا"، فقالت:
ولله مني جانب لا أضيِّعُه ... وللهو مني والبطالة جانب
__________
(673) فتأمل كيف ربطت عائشة رضي الله عنها فورا بين هجرانها الزينة وبين غياب زوجها، تدرك أن الأصل الذي كان متقررا عند نساء السلف أن المرأة تداوم على الزينة ما دام زوجها مقيما.
وفي رواية أنها قالت: "مشهد كمغيب" تعني أن زوجها لا حاجة له بالنساء، فهى في حكم من لا زوج لها.
(675) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " (6/106) من طرق مختلفة، انظر: (6/268) ، (6/226) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد،: (وأسانيد أحمد رجالها ثقات) اهـ. (4/30) ، وانظر " السلسلة الصحيحة" رقما (394) ، (1782) .
" أحكام النساء، ص (138) .(2/288)
فعلمت أنها امرأة صالحة لها زوج تتزين له) (677) اهـ.
وقد راج بين العرب قديما مثل يقول: (أطيب الطيب الماء) ، لأن زينة المرأة عندهم هي النظافة في الدرجة الأولى، ومن هنا فإن من واجب الزوجة أن تسعى إلى إرضاء زوجها، وإدخال السرور على قلبه إذا جاء بيته، فتستقبله متزينة متنظفة، لا تبدي تعبَا من عمل، ولا نفورَا من أمر، متحرية إدخال السرور على قلبه؛ فتحمل متاعه، وتعينه على نزع ثيابه، وتقدم إليه ما يلبس في بيته، وذلك مدعاة لسروره وسعادته بامرأته.
وقد سئل إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله " عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها، فتتلقاه، وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟، ففال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس، فلا، فإن هذا فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز " (678) اهـ.
ولكن أكثر الزوجات الآن تلقى زوجها مشغولة بطبخها الذي تأخرت فيه، بذلة الثياب، تعبة، ضيقة الصدر، كثيرة الشكوى والضجر، ولا تلبث إحداهن بعد الأشهر الأولى من الزواج أن تنهمك في مراعاة المطبخ والأثاث، وتبذل في ذلك غاية وسعها، حتى تنصرف من حيث لا تشعر عن الاحتفاء بزوجها في الملبس أو الزينة، وإن كانت لا تغفل عن هذا الاحتفاء وتلك الزينة، لاستقبال أترابها وزيارة جاراتها، مما يكون عاملا أساسيا في نفرة الزوج وسخطه، فيدخل البيت مستعيذًا من شرها، ويفر منه مستجيرَا من ضرها، إذ يجد زوجه قد تحولت عنه، وتقمصت شخصية الخادم التي تحس أن واجبها منحصر في خدمة البيت، دون العناية
__________
(677) " إحياء علوم الدين " (4/750 -751) .
(678) "فتح الباري" (11/50 - 51) .(2/289)
بصاحب ذلك البيت أعني الزوج (679) .
أوصت أم ابنتها عند زواجها، فقالت لها: (أي بنية! لا تغفلي عن نظافة بدنك، فإن نظافته تضيء وجهك، وتحبب فيك زوجك، وتبعد عنك الأمراض والعلل، وتقوى جسمك على العمل، فالمرأة التفلة تمجها الطباع، وتنبو عنها العيون والأسماع، وإذا قابلت زوجك فقابليه فَرِحة مستبشرة، فإن المودة جسم رُوحه بشاشة الوجه) (568) .
كذلك ينبغي للرجل أن يتزين لزوجه بما يناسب رجولته (681) ، كما يحب أن يرى امرأته تزدان له أيضَا، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها، وقد فهم السلف ذلك من قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) البقرة (228) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها عَلي؛ لأن الله تعالى قال: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) أى
__________
(679) انظر " نظرات في الأسرة المسلمة، للدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (70- 71) .
(680) " رحمة الإسلام للنساء " للشيخ محمد الحامد رحمه الله ص (75) ، وقد قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (ومن آداب المرأة ملازمة الصلاح والانقباض في غيبة زوجها، والرجوع إلى اللعب والانبساط وأسباب اللذة في حضور زوجها) اهـ (الإحياء 4/751) .
(681) ومن الزينة المباحة للرجل: خاتم الفضة، وأن يعفي شعره حتى يبلغ منكبيه، وفرقه وهو قسمته في مفرق وسط الرأس، وترجيله وإكرامه، على ألا يكون له مشغلة، وتغيير الشيب بالصفرة والحمرة، والطيب، والسواك، والكحل إذا كان يليق به، ومما يحرم عليه التزين به: حلق لحيته، أو لبس خاتم الذهب، والحرير، وجر الثياب أسفل الكعبين، انظر: " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (3/124) .(2/290)
زينة من غير مأثم) (682) .
وقد سرى هذا الفهم إلى التابعين، فهذا يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي يقول: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إليَّ في مِلْحَفَةٍ حمراء، ولحيته تقطر من الغالية (683) ، فقلت: " ما هذا؟ "، قال: " إن هذه المِلْحَفَةَ ألقتها علي امرأتي، ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين مِنا ما نشتهي منهن " (684) .
(قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم؛ فإنهم يعملون ذلك على اللبَق (685) والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت، ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ، ولا تليق بالشباب،.. والمقصود أنه يكون عند امرأته في زينة تسرها، وتُعِفها عن غيره من الرجال) (686) اهـ.
وقد وسعت شريعة الله الإباحة فيما يتزين به الإنسان، ولم تقيده إلا تقييدًا يسيرَا، لكي لا تخرج الزينة إلى المفسدة المضرة، قال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف (31) .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: " كلوا، وتصدقوا، والتبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " (687) .
__________
(682) تقدم برقم (589) .
(683) الغالية: طيب معروف.
(684) " التبيان فيما يحتاج إليه الزوجان " ص (34) ، ولم يعزه.
(685) اللبق: بالفتح، اللباقة والحذق.
(686) "الجامع لأحكام القرآن" (3/124) .
(687) أخرجه النسائي (5/79) في الزكاة: باب الاختيال في الصدقة، وكذا البخاري تعليقا (10/215) في اللباس: في فاتحته، وابن ماجه (3605) ، والإمام أحمد (2/181) ، والحاكم (4/135) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة في(2/291)
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: " كُلْ ما شئتَ، والبَسْ ما شئتَ، ما أخطأتك اثنتان: سَرَف، ومَخِيلة " (688) .
فالإسلام يأمرنا بالاعتدال في اللباس والزينة، ويكره للرجل كما يكره للمرأة أن يباهي بثيابه أو يتعاظم بها، لأنه اشتغال بالقشور، وإعراض عن اللباب.
__________
= " المصنف" (8/217) رقم (4929) ، وحسنه الألباني في (المشكاة) رقم (4381) .
(688) أخرجه البخاري تعليقا (10/216) في اللباس: في فاتحته، ووصله ابن أبي شيبة في " المصنف" (8/217) رقم (4930) .(2/292)
ثانيا: حقوق الزوجة على زوجها
(أ) الحقوق المادية
(1) هدية التكريم للمرأة
"المهر"
" خير النكاح أيسره " (689)
حديث شريف
المهر: هو ما تُعطاه الزوجة من مالٍ (690) ومنفعة بسبب النكاح. حكمه: الوجوب، فقد أوجب الشرع الإسلامي على الرجل أن يبذل الصداق للمرأة إذا أراد أن يتزوجها.
أما أدلة الوجوب:
- فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (وءَاتوا النساء صَدُقاتهن نِحْلَة) (النساء: 4) ، أي: عطية من الله مبتدَأة، والمخاطب بذلك الأزواج عند الأكثرين، وقيل: الأولياء.
__________
(689) انظر رقم (696) .
(690) بشرط أن يكون المال متقومًا، معلوما، مقدورا على تسليمه، وأن تكون المنفعة منفعة شخص أو عين يستحق في مقابلها المال، وانظر: " البدائع" (2/277-287) ، و" الشرح الكبير" (2/294) ، " كشاف القناع" (5/147) ، (مغني المحتاج " (3/220) ، ولم يدل نص صريح ولا قياس صحيح عل تحديد المهر قلة أو كثرة، فالصداق جائز بما قل أو كثر من المال، إذا حصل عليه التراضي، لعموم الأدلة في ذلك، وهذا مذهب الجمهور، انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (5/128) ، " المغني، (6/680) ، " المحلى" (9/603) ، " مغني" المحتاج" (3/220) ، " فتح القدير " (2/436) ، " زاد المعاد" (4/29) .(2/293)
وقوله جل وعلا: (فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن بالمعروف) (النساء: 25) .
وقوله سبحانه: (فآتوهن أجورهن فريضة) (النساء: 24) .
وقال عز وجل: (وأحِل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) (النساء: 24) .
وقال جل وعلا: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) (الممتحنة: 10) .
- ومن السنة:
ما رواه أنس رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " تزوجتُ امرأة "، فقال: " ما أصدقتَها؟ " قال: " وزنَ ئواة من ذهب" (691) ، فقال: " بارك الله لك، أولم، ولو بشاة " (692) .
وعنه رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عِتقها صَداقها " (693) .
__________
النواة: اسم لما وزنه خمسة دراهم.
(692) رواه البخاري (9/ 101) في النكاح، وغيره، ومسلم رقم (1427) في النكاح: باب الصداق، وأبو داود رقم (2109) في النكاح: باب قلة المهر، والترمذي رقم (1094) في النكاح: باب ما جاء في الوليمة، والنسائي (6/119، 120) في النكاح: باب التزويج على نواة من ذهب، والبيهقي (7/227) .
(693) طرف من حديث طويل أخرجه البخاري (9/111) في النكاح: باب من جعل عتق الأمة صداقها، وفي البيوع، والجهاد، ومسلم رقم (1365) في النكاح: باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها، ورواه بلفظه المذكور أبو داود رقم (2054) في النكاح، والترمذي رقم (115) فيه، وكذا النسائي (6/114) : باب التزويج على العتق.(2/294)
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة الواهبة نفسها أن رجلًا من أصحابه صلى الله عليه وسلم قام، فقال: " يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة، فزوجنيها "، فقال: " فهل عندك من شيء؟ "، فقال: " لا، والله يا رسول الله، فقال: " اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئاً؟ " فذهب، ثم رجع، فقال: " لا، والله ما وجدت شيئًا "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظر، ولو خاتمًا من حديد "، فذهب، ثم رجع، فقال: " لا، والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " ما تصنع بإزارك؟ إن لبِسَتْهُ لم يكن عليك منه شيء، وإن لَبِسْتَهُ لم يكن عليها منه شيء "، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسُه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَليا، فأمر به فَدُعِي، فلما جاء قال: " ماذا معك من القرآن؟ "، قال: " معي سورة كذا، وسورة كذا: عَدَّدَها "، فقال: (تقرؤهن عن ظهر قلب؟ "، قال: " نعم "، قال: " اذهب فقد مَلكْتُكَها بما معك من القرآن " (694) .
__________
(694) رواه البخاري (9/113) في النكاح: باب تزويج المعسر، وثمانية أبواب أخرى، وفي الوكالة، وفضائل القرآن، واللباس، والتوحيد، ومسلم رقم (1425) في النكاح: باب الصداق، وأبو داود رقم (2111) في النكاح، والترمذي رقم (1114) فيه: باب رقم (23) ، والنسائي (6/113) في النكاح: باب التزويج على سور من القرآن، وابن ماجه رقم (1889) ، والبيهقي (7/85) ، والدارقطني (3/248) ، وأحمد (5/330) ، والدارمي (2/142) .
وفي هذا الحديث الرخصة في تعليم القرآن صداقا للزوجة، إذا عدم الرجل المال، ولم يجد شيئا يقدمه، وهذا الحديث يخصص عموم قوله تعالى: (أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) (النساء: 24) ، وكذا قوله عز وجل: (فنصف ما فرضتم) (البقرة: 237) ، والذي يحتمل التنصيف هو المال، فالنص القرآني عام في التزويج بالمال لمن وجد المال، وأما من لم يجد المال، فقد دلت السنة الصحيحة على الرخصة له في أن يتزوج بتعليم القرآن الكريم، وهذه رخصة مشروطة، فلتؤخذ بقدرها، ولا يتوسع فيها، والله أعلم، وانظر: " فتح الباري" (9/205) ، " شرح النووي، (9/214) ، " أحكام القرآن " لابن العربي (3/1459) ، " المغني" (7/214) ، "المحلى" (9/305) .(2/295)
وفي رواية للبخاري: " ولو خاتمًا من حديد".
فلو كان لأحد أن يتزوج بدون صداق، لكان التسامح مع الفقير الذي لم يجد ولا خاتمًا من حديد، ليتزوج المرأة، مما اضطره الحال إلى أن يدفع صداقًا إزارَهُ، ولم يكن له رداء كما قال سهل رضي الله عنه.
وأما الإجماع: فقد ثبتث مشروعية الصداق في النكاح بالإجماع، ولم يخالف فيها أحد من المسلمين، كما ذكره ابن قدامة في "المغني" (695) .
ويستحب أن لا يعري النكاح عن تسمية الصداق، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أحدًا من نسائه رضي الله عنهن، ولا زوج أحدَا من بناته رضي الله عنهن إلا بِصَداقٍ سماه في العقد، ولأن تسمية المهر في العقد أدفع للخصومة، وأبعد عن النزاع.
عر أن ذكر المهر ليس شرطا ولا ركنا في العقد، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، ولذا اغتفر فيه الجهل اليسير، والغرر الذي يرجَى زَوالُه، فإن لم يُسَمَّ المهر في العقد صح بالإجماع - مع الكراهة - على أن يسمي لها مهر بعد العقد، أو يكون لها مهر المثل في ذمة الزوج، ودليل صحة العقد قوله تعالى: (لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) (البقرة: 236) ، فرفَعَ الله الجناح عمن طَلق في نكاح لا تسمية فيه، والطلاق لا يكون إلا بعد النكاح الصحيح، فدل على جواز النكاح بلا تسمية مهر.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " أترضى أن أزوجك من فلانة؟ "، قال: " نعم "، وقال للمرأة: " أترضَيْنَ أن أزوجك فلانا؟ " قالت: " نعم"، فزوج أحدَهما صاحبَه،
__________
(695) "المغني" (6/679) .(2/296)
فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئًا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقًا، ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها صداقًا سهمي بخيبر "، فأخذته، فباعته بعد موته بمائة ألف، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير النكاح أيسره "، وفي رواية: " خير الصداق أيسره " (696) .
وعن علقمة قال: (أتي عبد الله - أي ابن مسعود - رضي الله عنه في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقَا، ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: " أرى لها مِثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العِدة "، فشهد مَعقلُ بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بَرْوَع ابنة واشق بمثل ما قضى) (697) .
ومع أن الإسلام قد جعل المهر - نقدًا أو عينا - حقا للمرأة، وألزم الزوج الوفاء به، إلا أنه حرره من عنصر " الثمنية" المادية، فلم يحدده بقدر محدد أصلا، ولم ينظر إليه بذاته، ولقد كان عرب الجاهلية يرونه ثمنًا للمرأة عند زواجها، ويطلقون عليه " النافجة"، أي الزيادة والكثرة، وكان من حق الأب، لا الابنة المخطوبة، ولذا كانت العرب في الجاهلية
__________
(696) رواه أبو داود رقم (2117) في النكاح: باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات، وابن حبان (1257) ، (1262) ، (1281) ورواه الحاكم (2/182) ، والبيهقي (7/232) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قال الألباني: (إنما هو على شرط مسلم وحده) اهـ. من " إرواء الغليل" (6/345) ، وانظر: " سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (1842) .
(697) رواه أبو داود رقم (2114: 2116) ، والترمذي رقم (1145) وقال: " حسن صحيح "، والنسائي (6/121 - 123) كلهم في النكاح، ورواه الحاكم (2/180) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والبيهقي (7/245) ، وقال: " إسناده صحيح"، وغيرهم.(2/297)
تقول للرجل إذا وُلدت له بنت: " هنيئا لك النافجة"، أي المعظِّمة لمالك، وذلك أنه يزوجها، فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمها إلى إبله، فينفجها، أي يرفعها، ويكثِّرها (698) .
والمهر عطية فرضها الله للمرأة: ليست مقابل شيء يجب عليها بذله إلا الوفاء بحقوق الزوجية، كما أنها لا تقبل الإسقاط - ولو رضيت المرأة - إلا بعد العقد، وهذه الآية تعلن على الملأ: (وآتوا النساء صدقاتهن (699) نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) .
وقيل في قوله تعالى: (نِحلة) : فريضة، أي أعطوهن مهورهن حال كونها فريضةً من الله تعالى لهن، وقيل: هبة وعطية، قال ابن
__________
(698) " لسان العرب" لابن منظور (6/4492) مادة " نفج".
(699) قوله تعالى: (صَدُقاتهن) أضاف " صدقات " إليهن إضافة تمليك، وهذا يدل على أن المهر ملك للمرأة، ولا يجوز لأحد سواها، سواء كان أباها أو غيره أن يتصرف فيه أو يأخذه، قال علامة القصيم عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير الآية: (وفيه أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة، وأنها تملكه بالعقد لأنه أضافه إليها، والإضافة تقتضي التمليك، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء غير ما طابت به) اهـ. من " تيسير الكريم الرحمن" (2/9) ، وانظر: " نيل الأوطار" (6/258) ، أما قول الرجل الصالح لموسى عليه السلام: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) (القصص: 27) ففيه مواعدة، ومواصفة أمر قد عُزِم عليه، وهو إنكاحه إحدى ابنتيه مقابل مهر معلوم، هو أجر عمل ثماني حجج، على أن يكون المهر حقا خالصا للزوجة لا لأبيها، ومن ثم قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (ويجوز أن يستأجره لرعيه ثماني سنين بمبلغ معلوم، ويوفيه إياه، ثم ينكحه ابنته) ، وربما كان هذا من باب اختلاف الشرائع في مواجب النكاح، كما في " روح المعاني " (20/69) ، ولهذا قال الصنعاني في " سبل السلام": (وكان الصداق في شرع من قبلنا للأولياء) اهـ. (3/193) .(2/298)
الأنباري: " كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئًا من مهورهن، فلما فرض الله لهن المهر كان نحلة من الله، أي هبة للنساء، فرضًا على الرجال " (700) .
وقال القاضي أبو يعلى: (وقيل: إنما سمى المهر نحلة لأن الزوج لا يملك بدله شيئًا، لأن البضع بعد النكاح في مِلك المرأة، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج، وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك) (701) .
قال الألوسي: (فإن قلت: " إن النحلة أخذت في مفهومها أيضا عدم العوض، فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ "، أجيب: " بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد، وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بأكثر منه " (702) اهـ.
وقيل: النحلة: العطية بطيب نفس، أي: " لا تعطونهن مهورهن وأنتم كارهون "، وقيل: النحلة: الديانة، أي: آتوهن صدقاتهن ديانةً. والحاصل أن المهر حق مفروض للمرأة، فرضته لها الشريعة ليكون تعبيرًا عن رغبة الرجل فيها، ورمزَا لتكريمها وإعزازها، وقد صرح الفقهاء بقولهم:
(المهر فُرضَ شرعَا لإظهار خطَرِ المحل)
ولقد حرست الشريعة هذا الحق للمرأة، فَحَرمَت على أي إنسان أكلَه أو التصرفَ فيه بغير إذنها الكامل ورضاها الحقيقي، قال تعالى: (فإن
__________
(700) ، (701) " زاد المسير" (2/11) .
(702) " روح المعاني" (4/198) .(2/299)
طِبنَ لكم عن شيء منه نفسًا) أي من غير إكراه ولا إلجاء بسبب سوء العشرة ولا إخجال بالخلابة والخديعة (فكلوه هنيئًا مريئا) أي سائغا لا غصص فيه ولا تنغيص، فإذا طلب منها شيئًا فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له، وعلامات الرضا وطيب النفس لا تخفى، وقد روى جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه " (703) .
قال الألوسي: (والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيًا عن نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم، وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون " فإن وهبن لكم شيئا منه عن طيب نفس" إيذانًا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة، حيث جعل ذلك مبتدأ، وركنا من الكلام لا فضلة، كما في التركيب المفروض) (704) .
(وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن ناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته فنزلت هذه الآية، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس، وقلما يتحقق) (705) اهـ.
إن المهر - قلَّ أو كثر - حق للمرأة، في مقابل الميثاق الغليظ،
__________
(703) رواه من حديث عم أبي حرة الرقاشي الدارقطني (3/26) ، وأحمد (5/72) ، والبيهقي (6/100) ، ومن حديث أبي حميد الساعدي الإمام أحمد (5/425) ، وابن حبان (1166) ، ومن حديث عمرو بن يثربي الدارقطني (3/26) ، والبيهقي (6/97) والإمام أحمد (3/423، 5/113) ، ومن حديث ابن عباس: البيهقي، والحديث صححه الألباني في " إرواء الغليل" (5/279) .
(704) "روح المعاني" (4/199) .
(705) " السابق" (4/200) ، وانظر: " الكشاف " للزمخشري (1/377) .(2/300)
قال تعالى: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظًا) (النساء: 21) ، والميثاق الغليظ: هو حق الصحبة والمعاشرة، والإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان.
ولقد حرص التشريع الحكيم على حماية حق المرأة في تملكها للمهر، وتوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيع هذا الحق بأشد الوعيد: فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم الذنوب عند الله رجل تزوجَ امرأة؛ فلما قضى حاجتَهُ منها طلقَها، وذهب بمهرها، ورجل استعمل رجلًا فذهبَ بأجرته، وآخَرُ يقتل دابَّة عَبَثَا " (706) .
والمرأة لا تفقد مهرها الا في حالة واحدة فقط، هي حالة الخُلْع، وهو طلبها مفارقة الزوج مقابل مال تبذله له، وذلك جائز إذا تم مخافة أن تقيم حدود الله في زوجها بسبب كراهية تؤدي إلى تضييع حقوق الزوج، وحُسْن معاشرته (707) ، وإذا كان عارض الكراهية من قبل الرجل، بغير ذنب منها، وخشي ألا يعاملها بما يجب بالمعروف، فله أن يُسَرحَها بإحسان، لأن عقدة الزوجية بيده، وليس له في هذه الحالة أن يأخذ مما أعطاها شيئا، بل يعطيها حقوقها كاملة لقول الله عز وجل: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارَا فلا تأخذوا منه شيئا)
__________
(706) رواه الحاكم (2/182) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري"، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (999) .
(707) وأول خلع وقع في الإسلام حين جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: " يا رسول الله إني لا أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق، ولكني لا أطبقه "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: " نعم "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة "، رواه البخاري، وانظر: " فتح الباري" (9/325) ط. السلفية، باب الخلع.(2/301)
الآية (النساء: 21) .
ومن يُسْرِ الإسلام وسماحته، وتشجيعه على الزواج، ورفعه الحرجَ عن الأمة أنه شرع لمن لم يجد مالًا حالا أن يتزوج بمهر مؤجل، قال الفقهاء رحمهم الله: " يصح كونُ المهر مُعَجَّلا أو مُؤجَّلاً، كله أو بعضه، إلى أجل قرِيب أو بعيد، أو أقرب الأجلين (708) : الطلاق، أو الوفاة " (709) .
والأوْلى الموافق لفعل السلف الصالح رضي الله عنهم تعجيل المهر كله بعد تيسيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " التمس ولو خاتمًا من حديد "، ولم يُزَوجْه بمؤخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(ويكره للرجل أن يصدق المرأة صداقا يَضُرُّ به إن نقَدَه، ويعجز عن وَفائه إن كان دَينًا ... ، وإذا أصدقها دينًا كثيرًا في ذمته، وهو ينوي أن لا يعطيها إياه كان ذلك حرامًا عليه..
وما يفعله أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء
__________
(708) وعلى ذلك جرى العرف في بلاد المسلمين، وكل ما سبق الاستدلال به على صحة العقد بدون تسمية مهر يصح الاستدلال به على تأجيله، بل أوْلى، لأن زواج المرأة بمهر معلوم مؤجل خير لها من أن تتزوج بدون تسمية صداق، وكلا الأمرين جائز، وربما كان لها في التأجيل مصلحة، فإنه في حالة الفراق قد تكون في حاجة إلى المبلغ المؤجل، لتستعين به على نوائب الدهر.
(709) فإذا طلقها وجب عليه أن يدفع مَا لَها بذمته من المهر المؤجل، ونفقة عدة الطلاق، وإذا مات عنها كان مهرها المؤجل دينًا في التركة، يبدأ بأدائه بعد تجهيزه ودفنه، وقبل تنفيذ وصيته، لأنه حق ثابت في ذمة المتوفي كالديون الأخرى، فإذا ماتت قبله فهو ميراث متروك عنها لمن يرثها، وزَوْجُها من جملتهم، وله النصف إذا لم يكن لها ولد مطلقًا منه أو من زوج آخر قبله، والربع إذا كان لها ولد منه أو من زوج آخر قبله، والباقي لبقية الورثة الأقرب فالأقرب.(2/302)
والفخر (710) ، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه: فهذا منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة (711) .
وإذا قصد الزوج أن يؤديه، وهو في الغالب لا يطيقه، فقد حمل نفسه، وشغل ذمته، وتعرض لنقص حسناته، وارتهانه بالدين، وأهل المرأة قد آذَوْا صِهرَهم، وضَرُّوه) (712) اهـ.
قال الشيخ محمد كمال الدين الأدهمي:
(وللزوج أن يخلص من التبعة، فيعطيها - وهو في حياته، وهي تحت
__________
(710) ويظهرون مهرا في العلانية يقل عن مهر السر لأجل السمعة والتباري والمباهاة. (711) "مجموع الفتاوى" (32/193-194) بتصرف، والناظر إلى العقود التي يكون فيها مهور مؤجلة يدرك أن القصد منها ليس المهر بقدر ما هو التضييق على الزوج، وتقييده إذا فكر في الطلاق، ولذا يكون المؤجل أضعاف المعجل، ويتساهلون في المعجل ظنا منهم أنه إذا أقدم على طلاقها، تذكر إغرامه بالمؤخر عند حلوله، فيمتنع عن التسرع في طلاقها، وفي ذلك قول شاعرهم:
مَهْر الفتاةِ إذا غلا صَوْن لها ... عن أن يبت عَشِيرُها تطليقَها
يهْوى الفِراقَ، وخَافَ مِنْ إغرامِهِ ... فأدامَ في أسبابه تعْلِيقَها
ولربما ؤرِثَتْهُ أو سبقَتْ بها ... أقدارُ مَيتتها فكان طَليقَها
ان المغالاة في المهر تثير الحقد والغضب والعداوة في نفس الخاطب، كما بين ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وإن من أراد أن يكون نكاح ابنته ميمونا عظيم البركة، فعليه أن يسعى إلى ذلك بتيسير المهر وتقليله، تصديقا لقول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: " إن أعظم النكاح بركة: أيسره مؤنة "، وليعلم الآباء "التجار" الذين ينظرون إلى بناتهم نظرتهم إلى السلع المبيعة، والذين يتوهمون أن في رفع مهور بناتهم ضمانا لمستقبلهن، ليعلم هؤلاء أن الذي يكره زوجنه، ويريد طلاقها لا يمكن أن تقف في وجهه مشكلة المال، إذا كان ميسور الحال، وإلا فربما زين الشيطان له عَضلها والإضرار بها حتى تفتدي نفسها منه، أو خداعها بالمكر والخلابة، فيعود الحال إلى نقيض ما قصده أبوها، بشؤم المغالاة في المهور!
(712) " مجموع الفتاوى" (32/192-194) بتصرف.(2/303)
عصمته - مؤجل صداقها الذي تستحقه بطلاقها أو بموته تخلصا من تبعة الدينِ الثقيلة الوطأة على المَدِين - المديون- ولها أن تسقط عنه مهرها المؤجل كله أو بعضه، في حياته وبعد موته، وعليه أن يوصي به- أي بلزوم دفع مؤجل مهرها - وليست هذه وصية صدقة، بل وصية تأدية حق كالديون الأخرى، يسْأل عنها في قبره، ويعذب على سكوته عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاةِ الجَلْحَاء من الشاة القرناء تنطحها، رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة، وقال في حديث آخر: (نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يُقضَى عنه، رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أبي هريرة) (713) اهـ.
__________
(713) "مرآة النساء" ص (167) .(2/304)
كراهة المغالاة في المهور
لقد فرض الشرع الشريف المهر للزوجة منحة تقدير تحفظ عليها حياءها وخَفرَها، وتعبر عن تكريم الزوج لها ورغبته فيها، إلا أنه مِن جانب آخر- حَث على يُسْرِه وخِفتِهِ.
- فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير النكاح أيسره " (714) .
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من يُمْنِ المرأة: تيسيرَ خِطبتها، وتيسير صداقها، وتيسيرَ رحِمها " (715) ، قال عروة: " يعني تيسير رحمها للولادة.
وأتبع النبي صلى الله عليه وسلم السنة القولية بالسنة العملية موضحا معنى هذا التيسير، فلم يزد في مهور بناته ولا نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقِيَّةً ونَشًّا: - فعن أبي العجفاء السلمي قال: خطبنا عمر يومًا، فقال: " ألا لا تُغَالوا في صدُقاتِ النساء، فإن ذلك لو كان مَكْرُمَة (716) في الدنيا، وتقوى
__________
(714) تقدم برقم (696) .
(715) رواه الإمام أحمد (6/77، 91) ، والبيهقي (7/235) ، وابن حبان (1256) ، والحاكم (2/181) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2/251) ، إن كان أسامة ابن زيد- أحد الرواة- هو الليثي، وإن كان العدوى فضعيف، وقال عروة الراوي عن عائشة رضي الله عنها: (وأنا أقول من عندي: " من أول شؤمها أن يكثر صداقها ") .
(716) وفي هذا النص من أمير المؤمنين رضي الله عنه إبطال صريح لما يتوهمه الذين =(2/305)
عند الله، كان أوْلاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أصْدِقَتْ امرأة من بناته، أكثر من ثنتي عَشرةَ أوقية " (717) .
__________
= لا يفقهون من أن غلاء مهر المرأة مكرمة لها في الدنيا، إذ لو كان كذلك لكان أحق الناس بهذه المكرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تزوج، وزوج بمهر لا يتجاوز اثنتي عشرة أوقية، ومن الأمور المسلمة أن الشرف والمكرمة إنما يكون في البذل والعطاء والمسامحة والتيسير على الآخرين، وليس في الأخذ والطلب منهم، والتشديد عليهم، وهذا هو شأن الفضلاء والكرماء لا يرون كثرة الصداق في نفوسهم شيئًا، وإنما جل هم الكريم اختيار الكفؤ لموليته، الذي يتقي الله فيها، وهذا هو النكاح الجدير باليمن والبركة.
(717) رواه أبو داود رقم (2106) في النكاح: باب الصداق، والترمذي رقم (1114) في النكاح: باب رقم (23) وصححه، والنسائي (6/117-118) في النكاح: باب القسط في الأصدقة، وابن ماجه (1887) ، والبيهقي (7/234) ، والحاكم (2/175) وصححه، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1259) ، والدارمي (2/141) ، وأحمد (1/40، 48) ، وصححه الألباني في "الإرواء" (6/347) .
فائدتان:
الأولى: في قيمة الأوقِية، والنش، والنواة، وهى من مضاعفات الدرهم.
وزن الدرهم الشرعي = 2. 97 جراما من الفضة.
الأوقية =40 درهمًا =40 * 2. 97 = 118. 8 جراما.
النش = 20 درهمًا =20 * 2. 97 = 59. 4 جراما.
النواة = 5 دراهم = 5 * 2. 97 = 14. 95 جراما، وانظر " المقادير الشرعية" للكردي ص (147) .
الثانية: شاع على الألسنة قصة اعتراض المرأة على عمر، قائلة له: " نهيتَ الناسَ آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه: (وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) ؟! ، فقال عمر رضي الله عنه: " كل أحد أفقه من عمر " مرتين أو ثلاًثا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: " إني كنت نهيتكم أن تُغالُوا في صَداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له"، أخرجه البيهقي (7/233) ، وقال: " هذا منقطع"، وقال الألباني في الإرواء،: (ضعيف منكر) اهـ. (6/348) ، وحتى لو كان في الآية دليل على إباحة المغالاة في المهور =(2/306)
- وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان صَداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقُه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: " أتدري ما النشُّ؟ "، قلت: " لا"، قالت: " نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم ") (718) .
- وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: " لما تزوج عليّ بفاطمة رضي الله عنهما، وأراد أن يدخل بها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطها شيئا "، قال: " ما عندي شيء "، قال " أين دِرْعكَ الحطَمِية "؟ ، فأعطاها درعه) (719) .
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن ابن عوف أثر صُفرة، فقال: " ما هذا؟ " قال: " يا رسول الله إني تزوجت امرأة من الأنصار "، قال: " كم سُقْتَ إليها؟ "، قال: " زِنةَ
__________
= كما قال القرطبي رحمه الله، لأن الله لا يمثل إلا بمباح، لكن ليس كل جائز مستحسنا، ولا كل مباح مُرَغبا فيه، بل لقد نهى عمر عنه لما تحول إلى وضع ضار، كما في رواية أبي العجفاء السلمي، وفي رواية النسائي زيادة تجَسدُ خطر المغالاة في المهور ولفظه: " وإن الرجلَ ليعلِى بصَدُقة المرأة، حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: " كَلِفتُ لكم عَلَقَ القِربَة"، وعَلَق القربة: يقال:
جَشِمتُ إليك علق القربة وعرَقَ القِربة، أي تكلفت إليك، وتعبت، حتى عرَقتُ كعَرَقِ القِربة، يعنى بذلك: الشدة، وأصله: أن القِرَب إنما كان يحملها الإماء ومَن لا مُعين له، وربما افتقر الرجل الكريم، واحتاج إلى حملها، فيعرق، لما يلحقه من المشقة والحياء من الناس، وهذا إنما يقال في الأمر يجد فه الإنسان كُلْفَة وشدة. (718) رواه مسلم رقم (1426) في النكاح: باب الصداق، وأبو داود رقم (2105) في النكاح: باب الصداق، والنسائي (6/116، 117) في النكاح: باب القسط في الأصدقة، وابن ماجه رقم (1886) .
(719) رواه أبو داود أرقام (2125، 2126، 2127) في النكاح: باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا، والنسائي (6/129، 130) في النكاح: باب تحلة الخلوة، والبيهقي (7/252) ، (10/269) ، والطبراني في " الكبير" (11/355) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " (4/199) ، وقال في تحقيق " جامع الأصول": " إسناده صحيح، اهـ. (7/21) ، والحطمِية: درع تكسر السيوف، وقيل: العريضة الثقيلة، وقيل: إنها منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال له: حُطَمة بن محارب، كانوا يعملون الدروع.(2/307)
نواة من ذهب "، قال: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة "، وفي رواية البيهقي: " على وزن نواة من ذهب، قُومَت خمسة دراهم) (720) .
وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة المهر، فقد جاءه رجل من الصحابة يستعينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على كم تزوجتها؟ "، قال: " على أربع أواقٍ "، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " على أربع أواقٍ؟ كأنما تنحتون الفضة من عُرْض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثَك في بَعْثٍ تُصِيبُ منه " (721) الحديث.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (والقصد في المهر أحب إلينا، وأستحب أن لا يزيد في المهر على ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وبناته، وذلك خَمسمائة درهم) (722) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [ (والمستحب في الصداق - مع القدرة واليسار- أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، نحوا من تسعة عشر دينارا، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصداق، قال أبو هريرة رضي الله عنه: " كان صداقنا إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر أواق، وطبق بيديه، وذلك أربعمائة درهم " (723) إلى أن قال رحمه الله:
__________
(720) تقدم برقم (692) .
(721) أخرجه مسلم رقم (1424) في النكاح: باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها، و " غُرْض" الشيء جانبه، وانظر: " المصنف" لابن أبي شيبة (4/190) .
(722) "الأم" (5/143) .
(723) رواه بنحوه النسائي (6/117) في النكاح: باب القسط في الأصدقة، والدارقطني (3/222) في النكاح، والإمام أحمد (2/367) ، واللفظ له، ورجال إسناده ثقات =(2/308)
(.. فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة) اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى: (.. وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصداق، فتزوج عبد الرحمن بن عوف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وزن نواة من ذهب، قالوا: وزنها ثلاثة دراهم وثلث، وزوج سعيد بن المسيب بنته على درهمين، وهي من أفضل أيم من قريش، بعد أن خطبها الخليفة لابنه، فأبى أن يزوجها به) (724) ] اهـ.
هكذا كانت سيرة السلف الصالح رضي الله عنهم في شأن المهر، ثم خَلَفَ من بعدهم خَلف سيطر على أفكارهم النظرة التجارية، فتراهم يُغالون في المهور، حتى إنه لا يكاد يخرج بعضهم من عقد زواج إلا وهم يتحدثون عن المهر، وكم بلغ من الأرقام القياسية..! ؟ كأنما خرجوا من حلبة سباق، أو مزايدة!
وترى بعضهم إذا خطب إليه الرجل ابنته أو موليته أخذ يُحِدُّ شفرته ليفصل ما بين لحمه وعظمه، فإذا قطع منه اللحم، وهشم العظم، وأخذ منه كل ما يملك، سلمَها له، وهو في حالة بؤس وفقر شديدين، مُثْقَلا بأوزار الديون، والتي من لوازمها الهموم والغموم التي تكدر عليه صفوه، فتذله بالنهار، وتقض مضجعه بالليل، ويغلي بنارها قلبه، ولا تزال به حتى تجعل القوي ضعيفًا، والسمين نحيفًا، كما قيل:
__________
= كما في " نيل الأوطار" (6/190) ، و "الفتح الرباني" (16/168) .
(724) " مجموع الفتاوى" (32/194 - 195) بتصرف.(2/309)
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
إن المغالاة في المهور، وعدم تيسيرها أنتجت أسوأ العواقب، فتركت البنات العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن، وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة (725) ، وتعذَّر النكاح على جمهور الشباب بل تعسر، فعزفوا عنه، رغم رغبتهم فيه، بل حاجتهم إليه، وفي هذا مضادة لمقاصد الشريعة التي رغبت في النكاح والتناسل، وبهذا يعلم مدى شؤم مخالفةَ مَنْ هَدْيُه خير الهدي صلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى.
__________
(725) ولا شك أن الولي الذي يمتنع من تزويج موليته بالكفء الصالح لظنه أنه لا يدفع له صداقَا كثيرا، لا شك أنه غاش لرعيته، لا ينظر في مصلحتها، بل في هوى نفسه، وهو مع ذلك مرتكب للعضل الذي يعتبر من تكرر منه فاسقًا، ناقص الدين، ساقط العدالة حتى يتوب، انظر: مجموعة ثلاث رسائل للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، ص (100) .(2/310)
ليس من الإسلام
ليس من الإسلام: ما نراه اليوم من استبداد بعض الآباء بمهور بناتهم والإجحاف بها، أو استيلاء بعض الأشقاء على مهور أخواتهن.
وليس من الإسلام: ما يرتكب في بعض البيئات الجاهلية حيث يعمد بعض الناس إلى المقايضة بين النساء في سبيل توفير المهر، وهو المسمى " نكاح الشغار " يزوج الرجل ابنته أو أخته مقابل أن يزوجه ذلك الشخص ابنته أو أخته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا شِغار في الإسلام " (726) .
وذلك لأن كل واحد منهما جعل بُضْعَ كل واحدة منهما مهرًا للأخرى، والبُضع ليس بمال، فلا يصلح مهرا.
وليس من الإسلام: " ما يحاوله بعض الذين استعبدتهم أوربة أن يغضوا من شأن المهر، والإفاضة في ذكر مساوئ المغالاة فيه بهدف التوصل إلى غاية خطيرة ألا وهي: إلغاء المهر، كلا.. فليس من المنطق الصحيح في شيء أن نعالج تعسف الناس في استعمال القانون بأن نلغي القانون، لأنا بهذا لن نبقي في الدنيا قانونا، إنما نكون كالذي آلمته عينه فعمد إليها وقلعها، كي لا تؤلمه من بعد. . .
وقد أدى هذا المسلك الوخيم بالأوربيين إلى أن تُقَدمَ المرأة هناك بعض المال للرجل، وتكلف هي بإعداد المنزل من مالها.. نعم من مال المرأة..! ! .
وهذا معناه أنه لا تزوج المرأة إلا إذا كانت ذات مال، أو تضطر لمعاناة مشقات الحياة ونكد الدنيا لتحصيل نفقات الزواج، ومعناه أيضًا
__________
(726) رواه مسلم في النكاح، الباب رقم (7) ص (035 1) ، والترمذي رقم (1123) ، وابن ماجه رقم (1885) ، وأحمد (3/162) ، وابن حبان رقم (738، 1269، 1270) .(2/311)
أن نغض من كرامة المرأة، ونضطرها أن تسعى إلى الرجل تطلب يده، فنفرض عليها أن تمزق حجب الحياء والخفر الذي هو زينة أخلاق المرأة، وميزان أصالتها ...
إننا نرفض الدعوة إلى إلغاء المهر، لأننا لا نقبل التفريط فيما شرع الله من تكريم المرأة وإعزازها، كما أننا في نفس الوقت نرفض الاعتبارات التجارية التي تسيطر على أفكار طائفة من الناس وطائفة من السيدات، إذ يؤدي إلى التغالي في المهور الذي يئن منه المجتمع، ويرزح تحت أعبائه شبابنا وفتياتنا على حد سواء.
إن المهر هدية تعطى للمرأة، فهل يقتنع العقل قط أن المُهدَى إليه يشارط فيها، ويكلف صاحبه من أمره شططا؟!) (727) اهـ.
(2) النفقة
ومن حقوق الزوجة المادية وجوب نفقتها على زوجها، وهي تشمل الطعام، والشراب، والملبس، والمسكن (728) ، وسائر ما تحتاج إليه الزوجة (729) لإقامة مهجتها، وقوام بدنها.
__________
(727) " ماذا عن المرأة؟ " للدكتور نور الدين عتر ص (68) .
(728) وهي التي أشار إليها قوله تعالى: (إن لك أن لا تجوع فيها ولاتعرَى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحَى) طه (118-119) ، وقد خصَّ الله آدم بذكر الشقاء فقال: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) (طه: 117) ، و"لم يقل: " فتشقيان" يعلمنا أن نففة الزوجة على الزوج، انظر: " الجامع لأحكام القرآن" (11/253) .
(729) وقال الفقهاء: " إنه يلزم للزوجة نفقة الخادم إذا كان الزوج موسرا، وكانت المرأة ممن تُخدم في بيت أبيها مثلا، ولا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار، أو مريضة؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف، والخادم هو من يحل له النظر إلى المرأة، بأن يكون امرأة أو ذا رحم محرم؛ لأن الخادم يلزم المخدوم في أغلب أحواله، فلا يسلم من =(2/312)
وقد أخبر عز وجل أن الرجال هم المنفقون على النساء، ولذلك كانت لهم القوامة والفضل عليهن بسبب الإنفاق عليهن بالمهر والنفقة، فقال تبارك وتعالى: (الرجال قوامُون على النساء بما فضلَ الله بعضهم على بعض وبما أنففوا من أموالِهم) (النساء: 34) .
وقد دل على وجوب هذه النفقة؟ الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.
أما أدلة الكتاب الكريم:
- فمنها قوله تعالى: (لينفق ذو سعَةِ من سعته. ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها. سيجعل الله بعد عُسْر يُسْرًا) (الطلاق: 7) .
- ومنها قوله جل وعلا: (وعلى المولود له رزقُهن وكِسوَتهن بالمعروف لا تكَلَّفُ نفس إلا وُسعَها) (البقرة: 233) .
- ومنها قوله سبحانه: (وإن كُن أولاتِ حَمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حَملَهن) (الطلاق: 6) . فدلت الآية على وجوب النفقة على المطلقة الحامل، فكانت النفقة للزوجة من باب أولى.
وأما أدلة السنة الشريفة:
فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: " اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف " (730) .
__________
= النظر " انظر: " بدائع الصنائع" (5/2215) ، " فتح القدير"، (3/327 - 329) ، " بداية المجتهد " (2/54) ، " شرح منح الجليل" (2/434) ، " تكملة المجموع" (17/140) ، " كشاف القناع" (5/378) ، "المحلى" (10/111) .
(730) تقدم تخريجه رقم (240) .(2/313)
وعن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قي حجة الوداع: ".. ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حَقُّكم على نسائكم: فلا يوطئن فُرُشَكم مَنْ تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحَقُّهُنَّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كِسوَتهن وطعامهن " (731) .
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: " يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ "، قال: " أن تُطعمها إذا طعِمتَ (732) ، وتكسوَها إذا اكتسيت، ولا تُقَبح الوجه (733) ، ولا تضرب " (734) ، وفي رواية للإمام أحمد بزيادة: " ولا تهجر إلا في البيت (735) ، كيف وقد
__________
(731) انظر تخريجه برقم (1135) .
(732) وما أقبح أن يتعاطى الرجل أطايب الطعام، ويلتذ بأشهى الشراب في المطاعم والنوادي والرحلات، ثم يبخل بشيء منه على زوجته وأولاده، كما يصدر ممن لا مروءة له، (حدَّث القالي قال: كان رجل من أهل الشام مع الحجاج يحضر طعامه، فكتب إلى امرأته يعلمها بذلك، فكتبت إليه:
أيهْدى إلي القِرطاس والخبز حاجتي ... وأنت على باب الأميرِ بطين
إذا غبت لم تذكر صديقا ولم تُقِمْ ... فأنت على ما في يديك ضنين
فأنت ككلب السوء ضيع أهله ... فيُهزل أهل البيت وهو سمين)
انتهى من " المرأة العربية " لعبد اللَه عفيفي (2/192) .
(733) أي: لا يُسمعها المكروه، ولا يشتمها بأن يقول: " قبح الله وجهك، وما أشبهه من الكلام.
(734) أي: لا تضرب الوجه، أو لا تضرب إلا بما حل عليهن من الضرب والهجر بسبب نشوزهن، كما في قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا. إن الله كان عليا كبيرا) (النساء: 34) ، وانظر ص (454 - 470) من هذا الكتاب.
(735) أي لا يهجرها إلا في المضجع، ولا يتحول عنها، أو يحولِها إلى دار أخرى، وقد ورد ما يدل على جواز هجرة النساء في غير بيوتهن في البخاري في كتاب النكاح =(2/314)
أفضى بعضكم إلى بعض (736) ، إلا بما حل عليهن " (737) .
قال البغوي: (قال أبو سليمان الخطابي: في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها، وهو على قدر وُسع الزوج (738) ، وإذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم حقا لها، فهو لازم حضر، أو غاب، فإن لم يجد في وقته، كان دينًا عليه كسائر الحقوق الواجبة، سواء فرض لها القاضي عليه أيام غيبته، أو لم
يفرض) (739) اهـ.
__________
= باب (هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن) ، والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، انظر " فتح الباري " (9/300 - 302) .
(736) يعنى الجماع.
(737) رواه أبو داود (2/244) رقم (2142) ، في النكاح: باب في حق المرأة على زوجها، وابن ماجه (1850) ، والحاكم (2/187 - 188) ، وصححه، وأقره الذهبي، وابن حبان (1286) ، والبغوي في " شرح السنة " (9/160) ، والإمام أحمد (4/446، 447) ، (5/5، 3) ، والبيهقي (7/295) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (7/98) .
(738) وهذا هو التحقيق؛ أن النفقة تقدر بحسب حال الزوج - لا الزوجة - يسارًا وإعسارا، لقول الله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدِر عليه رزقه فينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (الطلاق: 7) ، وقال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ، والمعروف أن النفقة تكون على قدر حال الزوج من اليسار والإعسار، ويؤيده قوله سبحانه: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدِكم) (الطلاق: 6) قال ابن عباس: " أسكنوهن من سعتكم"، فدل على أن الإنفاق مخصوص بحال الزوج جِدَة وفقرا، انظر: " بدائع الصنائع" (5/2216) .
ويدل لهذا أيضًا قوله عز وجل: (وبما أنفقوا من أموالهم) (النساء: 34) ، فالرجل صاحب القوامة عليها بالفضل والإنفاق فكان الاعتبار بحاله.
ويدل لهذا أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: " أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تكتسون" الحديث رواه أبو داود (2/245) رقم (2144) من حديث معاوية القشَيري، وانظر رقم: (737) .
(739) "شرح السنة" (9/160) .(2/315)
وقد رُوي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت " (740) .
وعن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفِظَ ذلك أم ضَيع، حتى يَسألَ الرجلَ عن أهل بيته) (741) .
وعن قيس بن حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والله لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره، فيبيعه، ويستغني به، ويتصدق منه، خير له من أن يأتي رجلا فيسأله، يؤتيه أو يمنعه، وذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول) (742) ، وفي رواية: (فقيل: " مَنْ أعول يا رسول الله؟ " قال: " امرأتك ممن تعول " (743) ،
__________
(740) رواه أبو داود رقم (1692) في الزكاة: باب في صلة الرحم، وأحمد (2/160، 194، 195) ، والبيهقي (7/467) ، (9/25) ، والطبراني في " الكبير" (12/382) ، قال الألباني حفظه الله: (ضعيف بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم بلفظ: " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتَه ") اهـ. من " غاية المرام" رقم (245) ، وقال في " إرواء الغليل " رقم (894) : (وفي رواية لأحمد عن وهب قال: إن مولى لعبد الله بن عمرو قال له: (إني أريد أن أقيم هذا الشهر ههنا ببيت المقدس، فقال له: (تركت لأهلك ما يقوتهم هذا الشهر؟ "، قال: "لا"، قال: فارجع إلى أهلك، فاترك لهم ما يقوتهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ") ، ثم حسنه الألباني بعد أن ذكر له شاهدًا، فانظر: " الإرواء" (3/407) .
(741) رواه ابن حبان رقم (1562) ، وابن عدي في " الكامل، (1/307) ، وأبو نعيم في " الحلية" (6/281) ، وصححه الحافظ في " الفتح" (13/113) ط.
السلفية، وانظر: " سلسلة الأحاديث الصحيحة" حديث رقم (1636) .
(742) أخرجه مسلم في الزكاة (106) (3/96) ، وأحمد (2/475) ، والترمذي (1/132) ، وقال: " حديث حسن صحيح".
(743) رواه الدارقطني: (3/296) ، والإمام أحمد (2/524، 527) ، وقال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق آبادي في " التعليق المغني": (رواه أحمد أيضا بإسناد صحيح مثله) اهـ (3/296) ، وجوَّد الألباني إسنادها في " الإرواء" (3/317) .(2/316)
تقول (744) : " أطعمني، وإلا فارقني، وجاريتك تقول: (أطعمني، واستعملني "، وولدك يقول: " إلى مَن تتركني؟ ".
وجاء في تفسير قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) أن العفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح (745) التفسيرات، وهو مذهب الجمهور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " وابدأ بمن تعول" (746) ، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلِذي قرابتك، فإن فضل عن ذى قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: " فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك، (747) ، وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أعطى الله أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته " (748) .
__________
(744) وفي البخاري: (فقالوا: " يا أبا هريرة، سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، قال: " لا، هذا من كيس أبي هريرة ") اهـ. وقوله: " من كِيسي، بكسر الكاف، أي من حاصله، إشارة إلى أنه من استنباطه مما فهمه من الحديث المرفوع مع الواقع، وفي رواية الأصيلي: بفتح الكاف، أي من فطنته رضي الله عنه - وانظر: " فتح الباري" (9/ 500 - 501) ط. السلفية.
(745) انظر: (أضواء البيان" (1/38 -40) .
تقدم تخريجه برقم (742) ، ومعنى " مَن تعول" من تجب عليك نفقته.
(747) أخرجه مسلم (2/692) رقم (997) في الزكاة: باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، والنسائي (5/69 -70) ، (7/304) ، البيهقي (4/178) ، وسبب ورود الحديث أن رجلا من بني عُذرَة أعتق عبدًا له عن دُبُر (أي علق عتقه بموته، فقال: أنت حر يوم أموت) ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " ألك مال غيره؟ "، فقال: " لا"، فقال: " من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوى بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: " فذكره.
(748) رواه مسلم (1454) ، وأحمد (5/86، 89) ، والطبراني (2/217) .(2/317)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن هند بنت عُتْبة قالت: " يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يُعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم"، فقال: (خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف" (749)) .
قال ابن قدامة رحمه الله: (وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها (750) ، وأن ذلك مقدر بكفايتها، وأن نفقة ولده عليه دونها بقدر كفايتهم، وأن ذلك بالمعروف، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها، من غير
__________
(749) رواه البخاري (5/107) ط. السلفية، في المظالم: باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، وفي النفقات، والإيمان، والأحكام، ومسلم رقم (1714) في الأقضية: باب قضية هند، والنسائي (8/246 - 247) ، وابن ماجه (2293) ، والإمام أحمد (6/39، 50، 206) ، والدارمي (2/159) ، والبيهقي (7/466) ، والبغوي (8/206 -207) .
طريفة: من طرائف ما يروى في بخل الرجل وشدة محاسبة أهله ما حكاه ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (الأذكياء) من (أن المغيرة بن شعبة وفتى من العرب خطبا امرأة، وكان الفتى جميلا، فأرسلت إليهما المرأة، فقالت: " إنكما قد خطبتماني، ولست أجيب أحدا منكما، دون أن أراه، وأسمع كلامه، فاحضرا إن شئتما "، فحضرا، فأجلستهما بحيث تراهما، وتسمع كلامهما، فلما رأى المغيرة الفتى وحسن هيئته يئس منها وعلم أنها لن تؤثره عليه، فأقبل على الفتى - وقد فكر في مخرج - فقال له: " لقد أوتيت جمالًا وحسنا وبيانا، فهل عندك سوى ذلك "؟ قال: " نعم"، فعدد محاسنه، ثم سكت، فقال له المغيرة؟ " كيف حسابك؟ " فال: " ما يسقط علي منه شي، وإني لأستدرك منه أدق من الخردلة! "، فقال له المغيرة: " لكنني أضع البدرة- والبدرة كيس يكون فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار- في زاوية البيت، فينفقها أهلي على ما يريدون، فما أعلم بنفادها، حتى يسألوني غيرها "، فقالت المرأة في نفسها: " والله لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إلي من هذا الذي يحصي علي مثل صغير الخردلة "، فتزوجت المغيرة) اهـ.
(750) ووجهه أنه لو لم تكن النفقة واجبة، لم يحتمل أن يأذن لها بالأخذ من غير إذنه.(2/318)
علمه إذا لم يعطها إياه " (751) .
وأما دليل الإجماع على وجوب النفقة:
فقد نقله كثير من العلماء منهم ابن المنذر، والمهلب، وابن قدامة، والنووي، وابن حجر رحمهم الله أجمعين.
قال ابن قدامة رحمه الله: (وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن، ذكره ابن المنذر وغيره) (752) اهـ
وأما دليل العقل (753) :
فهو أن المرأة محبوسة على الزوج بمقتضى عقد الزواج، ممنوعة من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقه، فكان نفع حبسها عائذا عليه، فكان عليه أن ينفق عليها، وعليه كفايتها وإلا هلكت، لأن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالنفقة جزاء الاحتباس، فمن احتبس لمنفعة غيره وجبت نفقته في مال الغير كالقاضي والولي والموظف والجندي جعل رزقهم في بيت المال لأن كلا منهم محبوس لحق المسلمين، ممنوع من التكسب لتفرغه لمصالحهم. من أجل هذا تجب نفقة الزوجة على الزوج حتى ولو كانت الزوجة موسرة (754) ، لأن نفقتها لم تجب للحاجة، وإنما بسبب احتباسها لحق الزوج.
__________
(751) "المغني" (7/563) .
(752) " المغني" (7/564) ، وانظر: " المبسوط" (5/181) ، " فتح القدير" (3/231) ، " بدائع الصنائع" (5/2197) ، " فتح الباري" (7/498، 500، 509) ط. السلفية.
(753) انظر: " المغني" (7/564) ، " المبسوط" (5/181) ، " شرح النووي" (8/184) .
(754) بل لا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق عموما: أما كانت أو أختا، بنتًا كانت =(2/319)
......................
__________
= أو زوجة، قادرة على العمل أو عاجزة عنه، غنية كانت الزوجة أو ففيرة، كان زوجها قادرا على العمل أو عاجزًا عنه، غنيا كان أو فقيرا، فالرجل هو المسئول عن النفقة البيتية، وليس من حقه أن يلزمها بها إلا إذا تبرعت مساهمة في تحمل بعض العبء.
والمرأة قبل البلوغ تحت وصاية أوليائها، وهي ولاية رعاية وتأديب وعناية بشأنها، وتنمية لأموالها، وليست ولاية تملك واستبداد، ثم هي بعد البلوغ كاملة الأهلية للالتزامات المالية سواء بسواء.(2/320)
[فصل]
استحباب تصدق المرأة على زوجها وولدها
عن زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَصَدقْنَ يا معشر النساء، ولو من حُلِيكُن "، قالت: " فرجعتُ إلى عبد الله، فقلت: إنك رجل خفيف اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فَائْتِهِ "، فاسْألهُ، فإن كان ذلك يجزى عني، وإلا صرفتُها إلى غيركم؟ "، فقال في عبد الله: " بل ائتيه أنت "، قالت: فانطلقتُ، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاجتي حاجتُها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقِيَتْ عليه المهابةُ، قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: " ائتِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبِرْهُ: أن امرأتين بالباب، يسألانك: أتجْزئُ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن "، قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هما؟ " قال: " امرأة من الأنصار وزينب "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي الزيانب؟ "، قال: " امرأةُ عبدِ الله "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة " (755) ، وفي رواية للبخاري: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(755) رواه البخاري (3/328) ط. السلفية في الزكاة: باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ومسلم- واللفظ له- رقم (1000) في الزكاة: باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج، والنسائي (5/92، 93) في الزكاة: باب الصدقة على الأقارب، وأما رواية البخاري فقد أخرجها من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (3/325) في الزكاة: باب الزكاة عل الأقارب، وفي الحيض، والعيدين، =(2/321)
" يا نبي الله، انك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِيّ لي، فأردتُ أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود: أنه وولدَ أحقُّ من تُصُدقَ به عليهم "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق ابنُ مسعود، زوجُكِ وولدُك أحقُّ من تصدقتِ به عليهم "، وفي رواية ابن خزيمة: " تصدقي به عليه وعلى بنيه، فإنهم له موضع ".
فضل الإنفاق على الأهل والأولاد
ثبت في فضل النفقة على الأهل أحاديث كثيرة:
منها: ما رواه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها، كانت له صدقة " (756) .
ومنها: ما رواه سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " إنك مهما أنفقت على أهلك من نفقة فإنك تؤجر، حتى اللقمة ترفعها
__________
= والصوم، والشهادات، وابن خزيمة (4/ 106-107) رقم: (2461) .
(756) قوله: " وهو يحتسبها " يفيد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقيد قصد القربة، سواء كانت واجبة أو مباحة، أفاده القرطبي، كما نقله عنه في " فتح الباري " (1/136) ، والحديث أخرجه البخاري (1/136) ، (9/497) فتح - ط. السلفية، رقم (55) في الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، والنسائي (5/69) ، والطيالسي رقم (615) ص (86) ، والطبراني في "الكبير" (17/196) .
فائدة: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم، ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع) اهـ. من " الفتح" (9/498) .(2/322)
إلى في امرأتك " (757) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة (758) ، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرَا الذي أنفقته على أهلك " (759) .
وعن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أطعمتَ نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة) (760) .
وعن كعب بن عُجرَة رضي الله عنه قال: (مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحابه من جَلَده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا:
" يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كان خرج يسعى على أولاده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعِفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو
__________
(757) قطعة من حديث رواه البخاري (3/164) ط. السلفية في الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، ومسلم رقم (1628) في الوصية، والترمذي رقم (2116) في الوصايا: باب ما جاء في الوصية بالثلث، وأبو داود رقم (2864) (3/112) في الوصايا، وأحمد (1/172) ، وفي أفراد مسلم: " وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة ".
(758) أى: في إعتاقها.
(759) رواه مسلم رقم (995) (2/692) في الزكاة: باب فضل النفقة على العيال والمملوك، والإمام أحمد (2/473) ، والبيهقي (7/467) .
(760) رواه الإمام أحمد (4/ 131، 132) ، والبيهقي (4/179) ، وقال المنذري: " بإسناد جيد " (3/62) ، وانظر: " صحيح ابن ماجه " (2/5) رقم (1739) .(2/323)
في سبيل الشيطان ") (761) .
وعن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: " لا يقع موقع الكسب على العيال شيء، ولا الجهاد في سبيل الله " (762) .
وقال رحمه الله وهو مع إخوانه في الغزو: " تعلمون عملًا أفضل مما نحن فيه؟ "، قالوا: " ما نعلم ذلك"، قال: " أنا أعلم "، قالوا: " فما هو؟ "، قال: " رجل متعفف ذو عائلة، قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نيامًا متكشفين، فسترهم، وغطاهم بثوبه، فعمله أفضل مما نحن فيه " (763) .
وينبغي على الرجل أن يطعمها وأولادها حلالا لا إثم فيه، ولا شبهة، فإن طلب الحلال فرض عين عند أهل الكمال.
عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا كعبُ ابن عجرة" إنه لا يدخل الجنة لحمٌ ودم نَبَتا على سحْت؛ النار أولى به " (764) الحديث.
ولهذا كانت الزوجة من السلف الصالح تقول لزوجها إذا خرج إلى عمله: " اتق الله، وإياك والكسبَ الحرام، فإنا نصبر على الجوع والضر، ولا نصبر على النار " (765) .
__________
(761) تقدم برقم (359) .
(762) " سير أعلام النبلاء، (8/399) .
(763) " الإحياء" (4/701) .
(764) رواه ابن حبان (261) ، (1569) ، والإمام أحمد (3/399) ، والدارمي (2/ 318) ، والطبراني (19/ 106، 141، 145) ، والحاكم (4/422) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن عبد البر في " التمهيد" (2/303) ، والحديث صححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب" رقم (861) .
(765) " الإحياء " (1/748) .(2/324)
ومن النفقة الواجبة:
(3) المسكن
قال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالي:
(ويجب لها مسكن (766) بدليل قوله سبحانه وتعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدكم) فإذا وجبت السكنى للمطلقة، فَلِلتي في صلب النكاح أوْلى، قال الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) ، ومن المعروف أن يسكنها في مسكن (767) ، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون، وفي التصرف والاستمتاع، وحفظ المتاع، ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى: (من وُجْدِكم) (768) ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة) (769) اهـ.
__________
(766) إما بملك، أو إجارة، أو إعارة، أو وقف.
(767) أي: مستقل لدفع الحرج، وللأمن على الأمتعة والحوائج، ولأنه أكثر سلامة، وأحسن للعشرة حيث يضيق نطاق النزاع، ويسهل التسامح في حال وقوع خلاف بينهما، بعكس ما لو اطلع عليه أحماؤها كأمه وأخواته، فقد تأخذه العزة أن يتنازل ويصفع، والاستقلال بالمسكن يقلل حوافز الغيرة التي تحصل بالاجتماع معهن، وفوق كل ذلك قول الله تعالى في آية الطلاق: (واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) الآية (الطلاق: 1) ، فدل القرآن على أن لهن الحق في البيوت، حق تمتع لا حق تمليك، قبل أن يطلقن، فمن كانت في صلب النكاح وعصمته أولى بهذا الحق، ولا تسلم من تنغيص الحياة، وشدة الخصومات والشكاوى إلا بسكن مستقل في الغالب، والله تعالى أعلم.
(768) الوُجد: السعة والمقدرة.
(769) " المغني (7/569) ، وقد سبق بيان أن التحقيق تقدير النفقة بحسب حال =(2/325)
والسُّكْنَى من كفايتها، فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبه الله عز وجل مقرونا بالنفقة، وإذا وجب حقا لها، فليس له أن يشرك غيرها فيه، إلا أن ترضى بذلك، فإن تضررت من السكنى مع ضرتها أو أحمائها، أو كانوا يؤذونها، فعليه أن يُسكِنَها في منزل منفرد ملائم لحاله يسارا وإعسارا، والله تعالى أعلم.
__________
= الزوج - لا الزوجة - يسارا وإعسارًا، راجع هامش رقم (738) ، وعلى هذا فإن المسكن يكون على حسب حاله هو، وإن تضررت، لأنها تزوجته وهي تعرف حاله، فلم يكن لها إلا أن تسكن معه على قدر حاله، لأنه هو الذي آتاه الله، قال عز وجل: (لينفق ذو سعَةٍ منْ سعته ومن قدِرَ عليه رزقُه فلينفق مما آتاه الله لا يكلفُ الله نفسا إلا ما آتاها) الآية (الطلاق: 7) .(2/326)
(ب) الحقوق الأدبية
(4) حرية المرأة في اختيار الزوج
لقد حفظ لها الإسلام حقها في اختيار الزوج، واحترم إرادتها فيه، إذ إن هذا الموقف هو أدق المواقف في حياتها، وأمسها بمستقبلها، وهل هناك ما هو أدل على احترام الإسلام رَأي المرأة في هذا الموطن من حديث أم هانئ بنت أبي طالب وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: " يا رسول الله لأنت أحب إلي من سمعي ومن بصرى، وإني امرأة مُؤتمة، وبني صغار، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلتُ على زوجي أن أضيعَ بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولَدٍ في صِغره، وأرعاه على بَعْل في ذات يده " (770) .
تلك امرأة أبدت صفحة العذر عن بلوغ أقدس منزلة تبلغها المرأة المسلمة، وهى منزلة أمومة المؤمنين، فأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيها إكبارًا قلَّد قريشا بأسرها تلك الشهادة العالية الكريمة.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية يُنْكحُها أهلُها، أتستأمَرُ أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم تُستأمر "، فقالت: فقلت له: إنها تستحيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فذلك إذنُها إذا هي سكتت " (771) ، وفي لفظ النسائي وأحمد: " استأمروا
__________
(770) تقدم برقم (429) .
(771) أخرجه البخاري رقم (5137) في النكاح، ومسلم- واللفظ له- رقم (1420) (2/1037) ، والنسائي (6/ 85 - 86) ، والبيهقي (7/123) ، وأحمد (6/ 45، 165، 203) .(2/327)
النساء في أبضاعهن "، قيل: " فإن البكر تستحيي أن تكلم؟ " قال: " سكوتها إذنها ") .
غير أن في المسألة تفصيلا نذكره فيما يلي:
أولًا: البكر الصغيرة:
يجوز للأب تزويج البكر الصغيرة قبل البلوغ بدون إذنها، لأنها لا إذن لها، قال الحافظ ابن حجر: (إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها) (772) ، وقد دل على ذلك القرآن، والسنة، والإجماع:
- أما القرآن الكريم:
فقول الله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يَحضنَ) (الطلاق: 4) ، (فجعل لِلَّائي لم يحضن عدة ثلاثة أشهر، ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من الطلاق في نكاح أو فسخ، فدل ذلك على أنها تُزَوج، وتطلق، ولا إذن لها فيعتبر) (773) .
وقال عز وجل: (وأنكحوا الأيامى منكم) (النور: 32) ، والأيم: الأنثى التي لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة.
- وأما السنة:
فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه زوج ابنته عائشة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهى بنتُ سِتِّ سنين، وبنى بها وهي بنت تسع
__________
(772) " فتح الباري" (9/193) ط. السلفية.
(773) " المغني" (6/487) ، وانظر: " الجوهر النقي" (7/114-115) .(2/328)
سنين (774)
وعنها رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وَزُفَّت إِليه وهي بنت تسع سنين، ولُعَبُها معها " (775) الحديث.
وعنها رضي الله عنها قالت: " تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسِتّ سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين، قالت: فقدمنا المدينة، فَوُعِكتُ شهرًا، فَوَفَى شعري جُمَيْمَةً، فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي، فصرخَتْ بي، فأتيتها، وما أدرى ما تريد بي، فأخذَتْ بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هَهْ هَهْ حتى ذهب نفَسِي، فأدخلتني بيتًا، فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: " على الخير والبركة، وعلى خير طائر"، فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي، وأصلحْنَنِي، فلم يَرُعْنِي إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضُخى، فأسلمنني إليه " (776) ، ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها.
وقد زَوجَ عَلِىُّ رضي الله عنه ابنته أم كلثوم وهي صغيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (777) .
- وأما الإجماع:
فقال ابن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوَّجها من كفء) (778) اهـ.
__________
(774) كما رواه عنها البخاري (9/190) ط. السلفية، ومسلم (2/1039) وغيرهما.
(775) رواه مسلم (2/1039) .
(776) رواه مسلم رقم (1422) ، (2/1038) ، وانظر: " شرح الأبي" (4/35 - 37) .
(777) انظر: " سنن البيهقي" (7/114) ، " المستدرك" (3/142) ، " المعجم الكبير" للطبراني (3/36، 37) ، (11/243) .
(778) " المغني" (6/487) ، وانظر: " نيل الأوطار" (6/136) .(2/329)
تنبيهان:
الأول: اعلم- رحمك الله- أن الحكمة من جواز تزوج الصغيرة قد تكمن في ظهور مصلحة لها في ذلك، ويكون الأب قد وجد الكفء، فلا يُفَوته إلى وقت البلوغ، ومع هذا الجواز فالأفضل أن يتريث حتى تكبر، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في القديم: " أستحب للأب أن لا يزوجها حتى تبلغ، لتكون من أهل الإذن، لأنه يلزمها بالنكاح حقوق " (779) اهـ.
الثاني: أنه - وإن جاز العقد عليها وهي صغيرة - إلا أنه لا يمكن منها حتى تصلحَ للوطء (780) .
ثانيَا: البالغ الثيب: (781)
وهذه لا يجوز تزويجها بغير إذنها، وإذنها الكلام بخلاف البكر فإذنها الصمات، ولا يجوز لأحد من الأولياء إجبارها على النكاح، سواء كان الولي أبا أو جدُّا أو غيرهما، وهذا قول عامة أهل العلم.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وَرَدُّ النكاح إذا كانت ثيبا فَزُوجَتْ بغير رضاها: إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت) (782) اهـ.
(وقال إسماعيل بن إسحاق: " لا أعلم أحدًا قال في البنت بقول الحسن "، وهو قول شاذ خالف فيه أهل العلم والسنة) (783) اهـ.
__________
(779) " المجموع شرح المهذب " (15/58) .
(780) انظر: " نيل الأوطار" (6/137) .
(781) الثيب: المرأة فارقت زوجها، أو دُخِل بها، وأصل الثوب: رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها، سميت به لأنها تثوب عن الزوج، وقد يطلق على المرأة البالغة وإن كانت بكرًا مجازا واتساعا.
(782) " فتح الباري " ط. السلفية (9/194) .
(783) " المغني" (6/492) .(2/330)
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الأيم أحق (784) بنفسها من وليها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتُها " (785) .
وروى البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر"، ووقع عند ابن المنذر والدارمي والدارقطني بلفظ: " لا تُنكح الثيب"، وعند ابن المنذر أيضًا: " الثيب تُشاوَر" (786) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وظاهر هذا الحديث أن الأيم هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في "الأيم"، ومنه قولهم: " الغزو مأيمة" أي: يقتل الرجال فتصير النساء أيامى) (787) اهـ.
وقال أيضًا: (قوله " حتى تستأمر" أصل الاستثمار طلب الأمر، فالمعنى: لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله "تستأمر" أنه لا يعقد عليها إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الولي، بل فيه إشعار باشتراطه) (788) اهـ.
فأمر الثيب إلى نفسها، ويحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد،
__________
(784) قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: (واعلم أن لفظة " أحق" هنا للمشاركة، معناه: أن لها في نفسها في النكاح حقا، ولوليا حقا، وحقها أوكد من حقه، فإنه لو أراد تزويجها كفؤًا، وامتنعت: لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوج كفؤا فامتنع الولي: أجبر، فإن أصَر زَوجَها القاضي، فدل على تأكيد حقها ورجحانه) اهـ.
من "شرح النووي" (9/204) ، ونقل في " عون المعبود" عن ابن الجوزي قوله: (إنه أثبت لها حقا، وجعلها أحق، لأنه لا يجوز للولي أن يزوجها إلا بإذنها) اهـ.
(6/101) ، وقال الصنعاني في "سبل السلام": (أحقيته الوِلاية، وأحقيتها رضاها، فَحقها آكد من حقه، لتوقف حقه على إذنها) اهـ (3/119) .
(785) رواه مسلم رقم: (1412) (2/1037) .
(786) " فتح الباري" (9/192) ، وانظر رقم (792) .
(787) ، (788) "فتح الباري" (9/192) .(2/331)
لأن " الأمر " صريح في القول والنطق باللسان، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا، قال البغوي: (فإن زوجها وليها بغير إذنها، فالنكاح مردود) (789) .
وعن خنساء بنت خِدام الأنصارية رضي الله عنها: (أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نكاحَها) (790) . ثالثًا: البكر البالغة:
وهذه فيها قولان مشهوران:
أحدهما: أن البكر تُستأذنَ تطييبًا لنفسها، لا أن إذنها شرط في صحة العقد كما في الثيب.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، والليث، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، واختاره الخرقي، والقاضي، وأصحابه.
والثاني: أنه يُشترَطُ إذنُها كما يُشترط إذن الثيب، فلا يجوز إجبارها على النكاح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر، وهو الرواية الثانية عن أحمد واختاره أبو بكر عبد العزيز، وصوَّبه شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال رحمه الله: (وهذا القول هو الصواب، والناس متنازعون في " مناط الإجبار" هل هو البكارة؟ أو الصغر؟ أو مجموعها؟ (791) ؟ أو كل منهما؟ على أربعة أقوال
__________
(789) " شرح السنة " (9/31) .
(790) أخرجه البخاري رقم (5138) في " النكاح": باب إذا زَوج الرجل ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود، وأبو داود (2101) ، والنسائي (6/86) ، والدارمي (2/139) ، وابن ماجه (1873) ، والبيهقي (7/119) ، وأحمد (6/328) ، وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: " وهو حديث مجمع على صحته" اهـ.
(791) كذا بالأصل، ولعلها: " مجموعهما"، وانظر: "زاد المعاد" (5/99) .(2/332)
في مذهب أحمد وغيره، والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر (792) فقيل له: "إن البكر تستحيي" فقال: " إذنها صماتها"، وفي لفظ في الصحيح: " البكر يستأذنها أبوها".
فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنكح البكر حتى تُستأذن "، وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها.
وأيضًا: فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وبضعُها أعظم من مالها (793) ، فكيف يجوز أن يتصرف في بُضْعِها مع كراهتها ورشدها؟!
__________
(792) رواه البخاري رقم (5136) ، ومسلم رقم (1419) ، والترمذي (1107) و (1109) ، وأبو داود (2092) ، (2093) ، والنسائي (6/85) ، واعلم أن الاستئمار لا يكون جوابه إلا بالنطق، لأنه طلب الأمر، والأمر لا يكون إلا بالنطق، أما الاستئذان فهو طلب الإذن، وهو يصح بالسكوت، انظر: " فتح الباري" (9/191 - 193) ط. السلفية، و"موسوعة الفقه الإسلامي" (5/132) .
فائدة: (قال ابن المنذر: يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن) اهـ (فتح الباري 9/193) ، وقال الأبي: (استحباب إعلامها بذلك هو المشهور، ونقل ابن رشد عن ابن مسلمة أن إعلامها بذلك واجب، وعلى القولين يكفي إعلامها مرة واحدة، وقال ابن شعبان: يقال ذلك لها ثلاًثا: " إن رضيت فاسكتي، وإن كرهت فانطقي، واستحب ابن الماجشون الوقوف عندها قليلًا) اهـ من " إكمال إكمال المعلم" للأبي (4/30) .
قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: (ومعلوم أن إخراج مالها كُله بغير رضاها، أسهلُ عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها) اهـ. من " زاد المعاد" (5/97) .(2/333)
وأيضا: فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع، وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.
وأيضًا فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفوًا، وعين الأب كفوًا آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد، فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل العبرة بتعيين الأب، كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى؛ فإنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " الأيم أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن، وإذنها صماتها " وفي رواية: " الثيب أحق بنفسها من وليها "، فلما (794) جعل الثيب أحق بنفسها، دل على أن البكر ليست أحق بنفسها؛ بل الولي أحق (795) ، وليس ذلك إلا للأب والجد، هذه عمدة المجبرين، وهم تركَوا العمل بنص الحديث، وظاهره؛ وتمسكوا بدليل خطابه؛ ولم يعلموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قوله: " الأيم أحق بنفسها من وليها " يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد (796) ، و"الثاني"
__________
(794) كذا كالأصل (32/24) ، ومقتضى السياق: (قالوا: فلما جعل) .. إلخ وتنتهي حكاية كلامهم عند قوله: (إلا للأب والجد) فتأمل.
(795) راجع الحاشية رقم (784) ، والجواب عما ذكروه أن المفهوم الذي يستدلون به هنا لا ينتهض للتمسك به في مقابلة المنطوق كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام، وفي حديث ابن عباس عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي: " والبكر يستأمرها أبوها"، وهذه زيادة زادها ابن عيينة في حديثه، وزيادة الثقة الحافظ مقبولة. (796) قال ابن قدامة رحمه الله:
(أما البكر فإذنها صماتها في قول أهل العلم منهم شريح والشعبي وإسحاق والنخعي والثوري والأوزاعي وابن شبرمة وأبو حنيفة، ولا فرق بين كون الولي أبا أو غيره، وقال أصحاب الشافعي: "في صمتها في حق غير الأب وجهان: =(2/334)
قوله: " والبكر تستأذن"، وهم لا يوجبون استئذانها؛ بل قالوا: هو مستحب (797) ، حتى طرد بعضهم قياسه؛ وقالوا: " لما كان مستحبا اكتفي فيه بالسكوت"، وادعي أنه حيث يجب استئذان البكر، فلابد من النطق، وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم؟ ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها.
__________
= أحدهما: لا يكون إذنا لأن الصمات عدم الإذن، فلا يكون إذنا، ولأنه محتمل للرضى والحياء وغيرهما، فلا يكون إذنا كما في حق الثيب، وإنما اكتفي به في حق الأب لأن رضاءها غير معتبر "، وهذا شذوذ عن أهل العلم وترك للسنة الصحيحة الصريحة، يصان الشافعي عن إضافته إليه، وجعله مذهبا له مع كونه من أتبع الناس لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرج منصف على هذا القول) اهـ من " المغني" (6/493) ، وقال الحافظ ابن حجر: (وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما، لأنها تستحيي منهما أكثر من غيرهما، والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار لجميع الأولياء) اهـ من " الفتح" (9/193) ، وانظر: " المجموع شرح المهذب" (15/55، 58) ، " بداية المجتهد" (2/5) .
(797) قال ابن قدامة رحمه الله: " لا نعلم خلافا في استحباب استئذانها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر به، ونهى عن النكاح بدونه، وأقل أحوال ذلك: الاستحباب، ولأن فيه تطييب قلبها، وخروجا من الخلاف، وقالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم تستأمر"، وقال: " استأمروا النساء في أبضاعهن، فإن البكر تستحيي فتسكت، فهو إذنها" متفق عليهما، ورُوي عن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأمر بناته إذا أنكحهن، قال: كان يجلس عند خدر المخطوبة، فيقول: " إن فلانا يذكر فلانة" فإن حركت الخدر لم يزوجها، وإن سكتت زوجها) اهـ من " المغني" (6/ 491) .(2/335)
وأما المفهوم: فالنبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: " لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر "، فذكر في هذه لفظ " الإذن" وفي هذه لفظ " الأمر"، وجعل إذن هذه الصمات، كما أن إذن تلك النطق، فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن "البكر" لما كانت تستحيي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها؛ بل تخطب إلى وليّها، ووليُّها يستأذنها، فتأذن له؛ لا تأمره ابتداءً، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها، وأما الثيب لقد زال عنها حياء البكر، فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها، فهي آمرة له، وعليه أن يعطيها (798) فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك، فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذَن للبكر، فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح: فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة من تكره مباضعته ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟) إلى أن قال رحمه الله: (والشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج، وحصل بينهما شقاق، فإنه يُجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلصها من الزوج بدون أمره؛ فكيْفَ تؤسر معه أبدًا بدون أمرها؟ والمرأة أسيرة مع الزوج؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (799) :
__________
(798) كذا بالأصل، ولعل الصواب: " يطيعها".
(799) " مجموع الفتاوى" (32/22-28) مع اختصار يسير.(2/336)
" اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " (800)) اهـ.
ومما يدل لهذا المذهب إضافة إلى ما تقدم:
- ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: (أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم) (801) .
ويروَى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (قال لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " اخطب عَلي ابنة صالح "، فقال: " إن له يتامى، ولم يكن ليؤثرنا عليهم "، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب، فانطلق زيد إلى صالح، فقال: " إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك"، فقال: " لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي - أي أهين قرابتي -، وأرفع لحمكم، أشهدكم أني أنكحتها فلانا " - وكان هوى أمها إلى عبد الله ابن عمر -، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: " يا نبي الله، خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيما في حَجْرِه، ولم يؤامرها"، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح فقال: " أنكحت ابنتك، ولم تؤامرها؟ "،
__________
(800) تقدم تخريجه برقم (240) .
(801) أخرجه أبو داود رقم (2096) في النكاح: باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها، وابن ماجه رقم (1875) في النكاح: باب من زوج ابنته وهي كارهة، والإمام أحمد في " المسند" (1/273) ، من حديث جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الحديث (صححه ابن القطان، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": " ولا معنى للطعن في الحديث، فإن طرقه تقوى بعضها بعضا ") اهـ نقلاً من " تحفة الأحوذي" (2/180) ط. الهند، وانتصر لتصحيحه الإمام المحقق ابن القيم في " زاد المعاد" (5/96 -97) ، وفي " تهذيب السنن " (6/120-122) ، وذكره الألباني في " صحيح ابن ماجه" برقم (1520) (1/315) .(2/337)
فقال: " نعم"، فقال: " أشيروا على النساء في أنفسهن " (802) ، وهي بِكر، فقال صالح: " فإنما فَعَلْتُ هذا لما يُصْدِقُها ابن عمر، فإن له في مالي مثلَ ما أعطاها " (803) .
وقد وقعت لابن عمر قصة أخرى خلاف هذه:
قال رضي الله عنهما: (توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون - قال عبد الله: وهما خالاي - قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوَّجَنيها، ودخل المغيرة بن شعبة - يعني إلى أمها - فأرْغَبَها في المال، فحطَّت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا، حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: " يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتُها ابنَ عمتها عبد الله بن عمر فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها "، قال: فانتُزِعَتْ والله مني بعد أن ملكتُها، فزوجوها المغيرة بن شعبة (804) .
__________
(802) أخرجه الإمام أحمد (2/97) ، (4/192) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار، (4/369) ، وأورده الهيثمي وقال: " رواه أحمد، وهو مرسل، ورجاله ثقات "، قال في " الفتح الرباني": " وفي سنده اضطراب وانقطاع" اهـ (17/161) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" (3/442 - 443) .
(803) (معناه: أني ما زوجتها لليتيم إلا لأن ابن عمر سمَّى لها من الصداق شيئا لا يزيد عما يستحقه اليتيم في مال، فاليتيم أولى، والله أعلم) اهـ. من " الفتح الرباني" (17/161) .
(804) أخرجه الإمام أحمد (2/130) ، والدارقطني (3/230) ، وقال الألباني في إسناده: (وهذا إسناد جيد، رجاله رجال الشيخين غير ابن إسحق، وقد صرح بالتحدث، وقد توبع، فرواه الدارقطني، والحاكم (2/167) عن ابن أبي ذئب =(2/338)
والحاصل (805) : أنه لا يجوز أن تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تُزوج إلا برضاها، فإن وقع لم يصح العقد، وهذا مذهب الأوزاعي، والثوري، والحنفية، وغيرهم، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم.
وهذا هو المذهب الحق الذي يجب أن ندين الله به، ولا نعتقد سواه، للأسباب الآتية:
أولاً: أنه موافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ثانيا: أنه موافق لأمره صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: " والبكر تستأذن"، وهذا أمر مؤكد، لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوتهِ ولزومه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب، ما لم يقم إجماع على خلافه. ثالثا: أنه موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم، وهو الوارد في قوله: " لا تنكح البكر حتى تُستأذن " فَأمَرَ، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إِثبات للحكم بأبلغ الطرق.
رابعا: أنه موافق لقواعد شرعه صلى الله عليه وسلم، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، فكيف يجوز أن يُرِقها، ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس فيه، وهو مِن أبغض شيء إليها؟
__________
= عن عمر بن حسين به نحوه مختصرا، وفيه عند الحاكم: " لا تنكحوا النساء حتى تستأمروهن، فإذا سكتن فهو إذنهن"، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا) اهـ. "السلسلة الصحيحة" (3/444) .
(805) ملخصًا من " زاد المعاد" (5/95 -99) .(2/339)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإنه إذا امتنع لا يكون عاقا، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك، ولا يمكن فراقه) (806) اهـ.
خامسا: أنه موافق لمصالح الأمة، ولا يخفى مصلحةُ البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصولُ مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك ممن تُبغِضه وتنفر عنه، قال الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله: " لا يجوز أن يحكم الأولياء فقط لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها، ولأن حار العقد وقاره (807) راجعان إليها " (807) اهـ.
وقد ثبتت أحاديث تدل على أن المرأة إذا أبغضت الزوج لم يكن لوليها إكراهها على عشرته، وإذا أحبته لم يكن لوليها التفريق بينهما (809) : فمن ذلك: ما ثبت من أن بَرِيرة - وهى جارية حبشية - ملكها عتبة بن أبي لهب وزوجها عبدا من عبيد المغيرة ما كانت لترضاه لو كان لها أمرها، فأشفقت عليها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فاشترتها، وأعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ملكتِ نفسك، فاختاري "، وكان زوجها مغيث يطوف خلفها في سكك المدينة، يبكي عليها، وهي تأباه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " ألا تعجبون من شدة حبه لها، وبغضها له؟ "، ثم قال صلى الله عليه وسلم لها: " لو راجعتِهِ، فإنه أبو ولدكِ "، قالت: " يا رسول الله،
__________
(806) " مجموع الفتاوى" (32/30) .
(807) أي: ضرر العقد ونفعه.
(808) " حجة الله البالغة" (2/127) .
(809) انظر: " فتح الباري" (9/415) .(2/340)
أتأمرني؟ " وفي رواية: " أشيء واجب علي؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا، إنما أنا شافع "، قالت: " فلا حاجة لي فيه، لو أعطاني كذا وكذا ما كنت عنده " (810) .
ومما يقوى اعتبارَ الإسلام لوجود الألفة والمحبة والمودة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوَّج (811) امرأة: " أنظرتَ إليها؟ " قال: "لا"، قال: " اذهب فانظر إليها" (812) .
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " (813) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندنا يتيمة، وقد خطبها رجل مُعْدِم، ورجل موسر، وهي تهوى المعدم، ونحن نهوى الموسر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَم ير للمتحابين مِثْلُ النكاح " (814) .
فلينظر الآباءُ كيـ ... ـف يكونُ تزويج البنات
__________
(810) رواه البخاري (9/358) في الطلاق، باب خيار الأمة تحت العبد، وباب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة، وأبو داود رقم (2231) ، (2232) في الطلاق، والترمذي رقم (1156) في الرضاع، والنسائي (8/245) في القضاة.
(811) أي: أراد ذلك.
(812) رواه مسلم رقم (1424) في النكاح: باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها.
(813) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (321) .
(814) أخرجه ابن ماجه (1847) ، والحاكم (2/160) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي والبيهقي (7/78) ، والطبراني في " الكبير" (11/17) ، وانظر: " البيان والتعريف" لابن حمزة الحسيني (3/126) ، والحديث صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (624) .(2/341)
يستأذنونَ البكر في التز ... ويجِ مثلَ الثيبات
حتى يَعِشْنَ مَعَ الرجا ... لِ مُنَعماتٍ راضِيات
طَعمُ الحياةِ مَعَ السُّجو ... نِ أمَرُّ مِنْ طَعمِ الممات (815)
وقد حكى العرب عن آباء تعسفوا مع بناتِهم، وتأذى بناتُهم بذلك العَسف حتى صدر منهن ما لا يحمد من البنت في حق أبيها، فمن ذلك: - أن إحداهن زوجها أبوها، وهي حَدَثة بغير إذنها، فقالت:
أيا أبتا عَنَّيتني وابتليتني ... وصيَّرتَ نفسي في يَدَيْ من يُهِينُها
أيا أبتا لولا التحرجُ قد دعا ... عليك مجابًا دعوة يستدينها (816)
(ومما يروَى: أن عبد الله بن جعفر (817) قد زوَّج ابنته من الحجاج
__________
(815) " أستاذ المرأة" ص (214) .
(816) " المرأة العربية" (2/53) .
(817) عبد الله بن جعفر " قطب السخاء" أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه أسماء بنت عميس أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث لأمها، هاجر أبواه إلى الحبشة، وهنالك كان مولده قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، ووافي أبواه المدينة وله سبع سنين، وفي هذه السن بايع عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبوه في غزوة مؤتة، وكان أمير القوم فيها، فكفله صلى الله عليه وسلم ودعا له بقوله: (اللهم اخلف جعفرًا في ولده) ، ثم انتقل إلى كفالة أبي بكر، ثم إلى كفالة عمه علي رضى الله عنه، وكان أحد أمراء جنده في يوم صفين، وزوجه علي رضي الله عنه بابنته رضي الله عنها فولدت له عليا وعونا وعباسا ومحمدَا وأم كلثوم، وكان عبد الله علماً من أعلام الجود حتى لقب بقطب السخاء، ومما قالوه أن امرأة سألته فأعطاها مالا عظيمًا، فقيل له: " إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير"، فقال: " إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي"، وسأله سائل بينا يهم بركوب ناقته، فنزل له عنها، وعما فوقها، وكان عليها أربعة آلاف درهم، وسيف من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه يقول القائل:
وما كنت إلا كالأغر بن حاتم ... رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا =(2/342)
ابن يوسف على كره منها، لأنه ليس في شيء من سَنَاء نسبها، ولا كرم سجاياها، وما حمله على ذلك إلا ضيق ذات يده، وألف ألف درهم حُمِلَتْ مهرا إليه، فلما زُفت نظر الحجاج إلى عَبْرتها تجول في عينيها، فقال: " بأبي أنتِ وأمي مِم تبكين؟ " فقالت: " أبكي من شرف اتضع، ومن ضَعة شُرفت "، حتى إذا علم عبد الملك ين مروان بأمرها، كتب إلى الحجاج بطلاقها، فقال لها: " إن أمير المؤمنين كتب إلي بطلاقك" فقالت: " هو أبرُّ بي ممن زوجَنيك " (818) .
__________
= وفي سبيل جوده احتمل الدين والمتربة، حتى رضي أن يزوج ابنته من الحجاج بن يوسف لأنه وَفي عنه دينه، وأعطاه ألف ألف درهم، أما ابنته هذه فاسمها " أم أبيها "، وكانت كأوضأ النساء وجها وأبينهن بيانا، وأسمحهن يدا، وهي صغرى بناته، ولم تنكشف عن عقب رحمها الله) اهـ. من "المرأة العربية" (2/ هـ 53-54) بتصرف.
(818) "المرأة العربية" (2/53) .(2/343)
[فصل]
لا نكاح إلا بولي
ربما يتوهم البعض أن للمرأة أن تزوج نفسها، وأن ذلك حق من حقوقها مادام أن الشارع اعتبر رضاها كما بيناه آنفا، لكن مما ينبغي أن يعلم: أنه مع ثبوت حق المرأة في قبول من ترضاه من الأزواج - فإن هذا الحق مقيد بإذن وليها، فإن النكاح لا يصح الا بولي (819) ، ولا تملك المرأة تزويج نفسها، ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها (820) ، فإن فعلت لم يصح النكاح، وهاك أدلة هذا الحكم:
(819) والمراد بالولي هو الأقرب من العَصبَة من النسب ثم من السبب ثم من عَصبته، وليس لذوي السهام ولا لذوي الأرحام ولاية، وهذا مذهب الجمهور، فأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها ثم أبوه وإن علا، ثم ابنها وابنه وإن سفل، ثم أخوها لأبيها وأمها ثم أخوها لأبيها.
واعلم أن الولاية بعد من ذكرنا تترتب على ترتيب الإرث بالتعصيب، فأحقهم بالميراث أحقهم بالولاية فأولاهم بعد الآباء ينو المرأة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم بنو أبيها وهم الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم بنو جدها، وهم الأعمام ثمْ بنوهم وإن سفلوا، ثم بنو جد الأب، وهم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن سفلوا ثم بنو الجد ثم بنوهم.
ولا ولاية لغير العصبات من الأقارب كالأخ من الأم والخال وعم الأم والجد أب الأم ونحوهم، وانظر " المغني" لابن قدامة (6/456 - 467) .
(820) واشتراط الولي هو مذهب جمهور أهل العلم، منهم: عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحق، والشافعي، ونقِلَ عن ابن المنذر أنه لا يعرفُ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، وانظر: " فتح الباري" (9/187) .(2/344)
الأول: قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة (232) .
(ومعنى العَضل: منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحدٍ منهما في صاحبه) (821) .
وعن مَعقِل بن يَسار رضي الله عنه قال: (كانت لى أخت تخطَبُ إلي، وأمْنَعُها من الناس، فأتاني ابن عَم لي، فأنكحتُها إياه، فاصطحبا ما شاء الله، ثم طَلقَها طلاقًا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عِدَّتُها، فلما خُطِبت إلي أتاني يخطبها مع الخُطاب، فقلتُ له: خُطِبَتْ إلي فمنعتُها الناسَ، وآثرتُك بها، فَزَوجتُكَها، ثم طَلقْتَها طلاقًا لك رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خُطِبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب؟! والله لا أنكحتكها أبدا، قال: فَفِي نزلت هذه الآية: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهُن أن ينكحن أزواجهن) الآية، فكفرتُ (822) عن يميني، وأنكَحتُها إياه) (823) .
__________
(821) "المغني" (6/477) .
(822) تكفير اليمين: إخراج الكفارة التي تلزم الحالف إذا حنث، كأنها تغطي الذنب الذي يوجبه الحنْثُ، والتكفير: التغطية.
(823) رواه بنحوه البخاري (8/143) فتح - ط. السلفية، في التفسير: باب (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) ، وفي النكاح: باب من قال: لا نكاح إلا بولي، وفي الطلاق: باب (وبعولتهن أحق بردهن) ، وأبو داود رقم (2087) في النكاح: باب في العضل، والترمذي رقم (2985) في التفسير: باب: ومن سورة البقرة، ولفظه: عن الحسن عن معقل بن يسار (أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلَّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع، =(2/345)
وفي رواية أخرى للبخاري: (فحَمِيَ (824) معقل من ذلك أنفا (825) ، وقال: خلا عنها، وهو يقدر عليها، ثم يخطبها؟ فحال بينه وبينها، فأنزل الله هذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه، فترك الحَمِيةَ، واستقاد لأمر الله عز وجل) (826) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًّا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رَضِيَتْ أن
__________
أكرمتُك بها وزوجتكها، فطلقتها! والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك، قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن - إلى قوله - وأنتم لا تعلمون) ، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة، ثم دعاه، فقال: " أزوجُك وَأكرمُك") قال الترمذي: (هذا حديث صحيح، وقد روي من غير وجه عن الحسن، ثم قال: وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي، لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيبا، فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل ابن يسار، وإنما خاطب الله في هذه الآية الأولياء، فقال: (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن) اهـ.
(824) حَمِيَ: أي أخذته الحمية، وهي الأنفَة والغيرة.
(825) بفتح الهمزة والنون منون، أي ترك الفعل غيظا وترفعا.
(826) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وفي حديث معقل أن الولي إذا عضل لا يزوج السلطان إلا بعد أن يأمره بالرجوع عن العضل، فإن أجاب فذاك، وإن أصر زوج عليه الحاكم، والله أعلم) اهـ. من " الفتح" (9/188) ، وقد ذكر سماحة العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله صورة من صور العضل المبنية على الحمية، حيث قال رحمه الله: (ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية وبعض الحاضرة من حجر ابنة العم ومنعها من التزويج من غيره، وهذا منكر عظيم، وسنة جاهلية، وظلم للنساء، وقد وقع بسببه فتن كثيرة، وشرور عظيمة من شحناء، وقطيعة رحم، وسفك دماء، وغير ذلك) اهـ. من رسالة بعنوان: " نصيحة وتنبيه على مسائل في النكاح مخالفة للشرع".(2/346)
تُنكَحَ بالمعروف) (827) اهـ.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (.. وهذا دليل قاطع على أن المرأة لا حق لها في مباشرة النكاح، إِنما هو حق الولي، ولولا ذلك لما نهاه الله سبحانه وتعالى عن منعها) ، ثم ذكر سبب نزول الآية، وقال: " لو لم يكن لمعقل حق لقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: لا كلام لمعقل) (828) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقد اختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح، فذهب الجمهور إلى ذلك، وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلًا، واحتجوا بالأحاديث المذكورة، ومن أقواها هذا السبب المذكور في نزول الآية المذكورة، وهي أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه، وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك) (829) اهـ.
الثاني: قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) الآية البقرة (221) .
قال القرطبي رحمه الله: (في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي، قال محمد بن على بن الحسين: النكاح بولي في كتاب الله؛ ثم قرأ (ولا تنكحوا المشركين) (830) اهـ.
__________
(827) " تكملة المجموع شرح المهذب" (15/41) .
(828) " أحكام القرآن" (1/201) ، وانظر " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/158) .
(829) "فتح الباري" (9/187) .
(830) "تفسير القرطبي" (3/72) .(2/347)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وجه الاحتجاج بالآية والتي بعدها أنه خاطب بإنكاح الرجال، ولم يخاطب به النساء، فكأنه قال: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم للمشركين) (831) اهـ.
قال القرطبي رحمه الله: (ومما يدل على هذا أيضًا من الكتاب: الثالث: قوله تعالى: (فانكحوهن بإذن أهلهن) النساء (25) .
الرابع: وقوله: (وأنكحوا الأيامى منكم) النور (32) .
فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن) (832) اهـ.
الخامس: قوله تعالى حكاية عن صالح مدين: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيْ هاتين) الآية القصص (27) ، فقد تولى هو النكاح، فدل على أن لا حظ للمرأة فيه، وهذا مقتضى قوله عز وجل: (الرجال قوامون على النساء) الآية النساء (34) .
السادس: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي" (833) وفي لفظ: " لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له" (834) وفي
__________
(831) "فتح الباري" (9/184) .
(832) "تفسير القرطبي " (3/73) .
(833) رواه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أبو داود رقم (2085) في النكاح: باب في الولي، والترمذي رقم (1101) في النكاح: باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، والدارمي (2/137) ، وابن حبان (1243) ، وصححه، والحاكم (1/170) ، وصححه، وأحمد (4/394) ، والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (6/ 235) .
(834) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما الإمام أحمد (6/260) ، (1/250) ، وابن ماجه رقم (1880) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع " (6/203) .(2/348)
لفظ: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل " (835) .
قال الصنعاني رحمه الله: " والحديث دَل على أنه لا يصح النكاح إلا بولي، لأن الأصل في النفي، نفي الصحة لا الكمال" (836) اهـ.
السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها" (837) .
ففي هذا الحديث نص صريح لا يحتمل التأويل على أن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي" محمول على نفي الصحة والحقيقة الشرعية، ولا يصح بحال حمله على نفي الكمال.
الثامن: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " (838) .
__________
(835) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ابن حبان (1247 - موارد) ، والدارقطني (383- 384) ، والبيهقي (7/125) ، وصححه الألباني في "الإرواء" رقم (1858) .
(836) "سبل السلام" (3/117) .
(837) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أبو داود رقم (2083) ، والترمذي رقم (1102) ، وابن ماجه (1879) ، وصححه ابن حبان (1248) ، والحاكم (2/168) ، ووافقه الذهبي، وأبو عوانة، وابن خزيمة وغيرهم، انظر: " تلخيص الحبير" (3/179) ، و " إرواء الغليل" (1840) .
(838) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابن ماجه رقم (1882) ، والدارقطني (384) ، والبيهقي (7/110) ، وقال الحافظ في " بلوغ المرام" ص (225) : " رجاله ثقات"، وصححه الألباني في " الإرواء" (1841) دون الجملة الأخيرة، وصحح وقفها على أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا الحديث يدل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها، فلا عبارة لها في النكاح إيجابا ولا قبولا، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا =(2/349)
التاسع: عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر من ابن حُذافة السهمي - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهْل بدر - توفي بالمدينة، فقال عمر: لقيت عثمان بن عفان فعرضتُ عليه، فقلت: إن شئتَ أنكحتُك حفصةَ، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني، فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيتُ أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة فصمت أبو بكر، فلم يرجع إلي شيئَا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه " (839) الحديث.
ووجه الدلالة منه اعتبار الولي في الجملة، لقول عمر:
"أنكحتُك".
[قال الطبري: (في حديث حفصة حين تأيمت، وعقد عمر عليها النكاح، ولم تعقده هي، إبطال قول من قال: " إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها، وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله صلى الله عليه وسلم: " الأيم أحق بنفسها من وَليها" أن معنى ذلك أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد النكاح على نفسها دون وليها) ] (840) اهـ.
العاشر: عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته:
__________
= غيرها، ولا تزوج غيرها بولاية ولا وكالة، ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة، والله أعلم.
(839) رواه البخاري (9/183) في النكاح: باب من قال: لا نكاح إلا بولي.
(840) نقله عنه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن " (3/73) ، وانظر: "الفتح" (9/186، 175-176) .(2/350)
" أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاحُ الناس اليوم، يخطُبُ الرجل إلى الرجلِ وَليته أو ابنته فيُصْدِقُها، ثم يَنْكِحُها " الحديث، إلى أن قالت رضي الله عنها: " ... فلما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هَدَمَ نكاحَ الجاهلية كله، إلا نكاحَ الناس اليوم " (841) ، وفيه حجة على اشتراط الولي.
__________
(841) رواه البخاري (9/182-183) في النكاح: باب من قال: لا نكاح إلا بولي.(2/351)
[فصل]
ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يُشترط الولي أصلًا، ويجوز للمرأة أن تزوِّج نفسها ولو بغير إذن وَلِيها إذا تزوجت كفؤَا، واحتج بما يأتي:
أولًا: قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) فذهب إلى اًن الخطاب للأزواج لا للأولياء كما قال الجمهور، وقد أسند إليها النكاح فدل على أنه يصدر عنها، قالوا:
" والمقصود نهى الأزواج عن أن يكون الارتجاع مضارةً وعضلا عن نكاح الغير بتطويل، لعدة عليها".
وجوابه:
- أن سبب نزول الآية يدل على أن الخطاب للأولياء لا للأزواج، كما قدمنا بيانه، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: في باب (لا نكاح إلا بولي) من " الأم " [ (إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) يعني فانقضى أجلهن يعني عدتهن (فلا تعضلوهن) يعني أولياءهن (أن ينكحن أزواجهن) إن طلقوهن ولم يبتوا طلاقهن.. قال: ولا أعلم الآية تحتمل غيره لأنه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة مَن له سبب إلى العضل بأن يكون يتم به نكاحها من الأولياء، والزوج إذا طلقها، فانقضت عدتها فليس منها بسبيل فيعضلها (842) ، وإن لم تنقض عدتها، فقد يحرم عليها أن تنكح غيره، وهو لا يعضلها عن نفسه، وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي
__________
(842) انظر: " الجامع لأحكام القرآن" (3/159) .(2/352)
مع المرأة في نفسها حقًا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف] (843) .
ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم: " الثيب أحق بنفسها من وليها "، والجواب: أن سبب النزول كان في ثيب، وقد تقدم بيان معنى الحديث بما يغني عن إعادته (844) .
ثالثا: احتج بالقياس على البيع، فإنها تستقل به، وجواب: أن هذا من أفسد أنواع الأقيسة، لأنه قياس مع وجود النص الصحيح الصريح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (حديث معقل المذكور رفع هذا القياس، ويدل على اشتراط الولي في النكاح دون غيره، ليندفع عن موليته العار باختيار الكفء) (845) اهـ.
رابعا: وقد يُحتج لهذا المذهب بما رواه عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها:
(أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخْبرَته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن أعْلِمَ الناس: أن ليس للآباء من الأمر شيء) (846) .
والجواب عنه من وجوه:
__________
(843) نقلا من " تكملة المجموع شرح المهذب" (15/41) .
(844) راجع الحاشيتين رقمي (784) ، (823) .
(845) "فتح الباري" (9/187) .
(846) رواه النسائي (6/87) ، والإمام أحمد (6/136) ، والدارقطني (3/232) ، وابن ماجه (1874) إلا أنه جعله من حديث بريدة رضي الله عنه.(2/353)
أحدها: أن هذا الحديث ضعيف، لأنه من رواية كهس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها، قال الدارقطني عقبه: (وهذا مرسل، لأن ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا) اهـ.
وكل الرواة عن كهمس قالوا: عن عبد الله بن بريدة عن عائشة سوى وكيع، فقال: عن ابن بريدة عن أبيه، قال: فذكر الحديث، وهذه رواية ابن ماجه، قال الألباني حفظه الله:
(وهذا خطأ من هناد، فقد قال أحمد: ثنا وكيع ثنا كهمس عن عبد الله بن بريدة عن عائشة، وهذا هو الصواب أن الحديث عن عائشة لموافقة هذه الرواية عن وكيع لرواية الجماعة عن كهس) اهـ. من: " نقد الكتاني ص 46 "، ولهذا قال الألباني في رواية ابن ماجه: (ضعيف شاذ) .
ثانيا: أنه لو صح فإنما جعل الأمر إليها لوضعها في غير كفء، قاله شمس الحق في " التعليق المغني " (847) وكأنه أخذه من قولها: " ليرفع بي خسيسته " وفيه نظر، (لأن أباها زوجها، من ابن أخيه، وهو كفؤ لها، وإنما جعله إليها لعدم الرضا منها، ولهذا نفذ العقد بإجازتها) ، قاله الشوكاني رحمه الله في " السيل الجرار" (848) ، وقال فيه أيضا: (إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها لكون رضاها معتبرًا، فإذا لم ترض، لم يصح النكاح، سواء كان المعقود له كفؤَا أو غير كفء) (849) اهـ.
وقد تواردت عبارات العلماء على إنكار مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله:
__________
(847) "التعليق المغني على الدارقطني" (3/232) .
(848) "السيل الجرار" (2/274) .
(849) "السابق" (2/292) .(2/354)
فقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: (وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قولِ أكثر أهل العلم) (850) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يُعَزرون من يفعل ذلك اقتداءً بعمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مذهب الشافعي، بل طائفة منهم يُقيمون الحدَّ في ذلك بالرجم وغيره) (851) .
وقال- رحمه الله- في موضع آخر:
(دَلَّ القرآن في غير موضع، والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، إنما كان يُزَوِّجُ النساءَ الرجالُ، لا يُعرفُ عن امرأة تزوج نفسها، وهذا مما يُفَرَّقُ فيه بين النكاح ومتخذات أخدان، ولهذا قالت عائشة: " لا تزوج المرأة نفسها، فإن البغي هي التي تزوج نفسها ") (852) اهـ.
تنبيهات متفرقة
الأول: الحكمة من اشتراط الولي في النكاح:
- إن من مقاصد هذا التشريع الحكيم صيانة المرأة عن أن تباشر بنفسها ما يشعر بوقاحتها، ورعونتها، وميلها إلى الرجال، مما ينافي حال أرباب الصيانة والمروءة، قال الشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله:
(وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم، واستبدادُ النساء بالنكاح وقاحة منهن، منشؤها قلة الحياء، واقتضاب على الأولياء، وعدم اكتراث
__________
(850) "الجامع لأحكام القرآن" (3/74) ، وانظر: " المحلى" (9/456)
(851) "مجموع الفتاوى" (32/21)
(852) " السابق" (32/131) .(2/355)
لهم، وأيضًا يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير، وأحق التشهير أن يحضره أولياؤها) (853) اهـ.
- كما أن المرأة - لقلة تجربتها في المجتمع، وعدم معرفتها شئون الرجال وخفايا أمورهم - غير مأمونة حين تستبد بالأمر لسرعة انخداعها، وسهولة اغترارها بالمظاهر البراقة دون ترو وتفكير في العواقب، وقد اشترط إذن الولي مراعاة لمصالحها لأنه أبعد نظرا، وأوسع خبرة، وأسلم تقديرًا، وحكمه موضوعي لا دخل فيه للعاطفة أو الهوى، بل يبنيه على اختيار مَنْ يكون أدومَ نكاحا، وأحسن عشرة.
- وكيف لا يكون لوليها سلطان في زواجها وهو الذي سيكون - شاءت أم أبت، بل شاء هو أو أبى - المرجع في حالة الاختلاف، وفي حالة فشل الزواج يبوء هو بآثار هذا الفشل، ويجني ثمرات خطأ فتاته التي تمردت عليه، وانفردت بتزويج نفسها؟ !
إن الهدف من رقابة الولي على اختيار الزوج ليس فقط تسهيل الزواج، وإنما أيضا تأمينه وتوفير عوامل الاستقرار له، ورعاية مصالح الفتاة التى ائتمنه الله عليها، وإن قصر نظرها عن إدراكها، ومن هنا كان مبنى الولاية على حسن النظر، والشفقة، وذلك معتبر بمظنته، وهي القرابة، فأقربهم منها أشفقهم عليها، وهذا أغلب ما يكون في العَصَبَة (854) .
__________
(853) "حجة الله البالغة " (2/127) .
(854) وعَصبَة الرجل لغة: بنوه وقرابته لأبيه، أو أولياؤه الذكور من ورثته، وسموا عصبة لأنهم عصبوا بنسبه - أى: استكفوا به، وأحاطوا به لحمايته، ودفع العدوان عنه، مِنْ " عَصبَ القوم بفلان" إذا استكفوا حوله، ومفردها عاصب، وجمع العصبة عصبات، فهي جمع الجمع، وهي في اصطلاح الفرضيين: القرابة الذكور من جهة الأب.(2/356)
الثاني: واجب الولي:
يجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وأن يراعي خصال الزوج، فلا يزوجها ممن ساء خَلْقُه أو خُلُقُه، أو ضعف دينه، أو قصر عن القيام بحقها، فإن النكاح يشبه الرق، والاحتياط في حقها أهم، لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال، [ (وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عندكم عوان، فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله الا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة.
قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: (الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: (وألفيا سيدها لدى الباب)) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته (855) ، وقال يعض السلف: (من زوج كريمته من فاجر فقد قطع (856) رحمها) ] (857) .
وقال رجل للحسن: (" قد خطب ابنتي جماعة، فمِمن أزوجها؟ "
__________
(855) قال الحافظ العراقي رحمه الله: (حديث " النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته، رواه أبو عمر التوقاني في " معاشرة الأهلين" موقوفا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، قال البيهقي: وروى ذلك مرفوعاً والموقوف أصح) اهـ من " تحقيق أحاديث الإحياء " (4/719) ، وانظر الحاشية رقم (241) .
(856) قال الحافظ العراقي رحمه الله: (رواه ابن حبان في " الضعفاء" من حديث أنس، ورواه في " الثقات" من قول الشعبي بإسناد صحيح) اهـ، وزاد الزبيدي رحمه الله: (وروى الديلمي من حديث ابن عباس: " من زوج ابنته أو واحدة ممن يشرب الخمر فكأنما قادها إلى النار) اهـ.
(857) "مجموع الفتاوى" (32/263) بتصرف.(2/357)
قال: (مِمَّن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها ") (858) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(وإذا رضيت رجلًا، وكان كفؤًا لها، وجب على وليها - كالأخ ثم العم - أن يزوجها به، فإن عَضَلَها أو امتنع عن تزويجها زَوَّجَها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه؛ ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤًا باتفاق الأئمة؟ وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم
__________
(858) "عيون الأخبار، لابن قتيبة (4/17) ، ومما يجمل ذكره هنا قصة زواج مبارك أبي الإمام العظيم عبد الله بن المبارك رحمه الله، وكان رجلا تركيا، وكان عبدا لرجل خوارزمي من التجار من همذان من بني حنظلة، وكان رجلا تقيا صالحا، كثير الانقطاع للعبادة، محبا للخلوة، شديد التورع، ومن حديثه: " أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زمانا، ثم إن مولاه صاحبَ البستان جاءه يوما، وقال له: "أريد رمانا حلوا"، فمضى إلى بعض الشجر، وأحضر منها رمانا، فكسره فوجده حامضا، فَحَرَد - أي غضب - عليه، وقال: " أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟ هاتِ حُلْوا "، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضا حامضا، فاشتد حرده عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه، فوجده أيضًا حامضًا، فقال له بعد ذلك: " أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ "، ففال: " لا "، فقال: " وكيف ذلك؟ "، فقال: " لأني ما أكلت منه شيئا حتى أعرفه "، فقال: " ولِمَ لم تأكُلْ؟ "، قال: " لأنك ما أذنت لي بالأكل منه "، فعجب من ذلك صاحب البستان، وكشف عن ذلك فوجده حقا، فعظم في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطِبَتْ كثيرًا؛ فقال له: " يا مبارك، مَنْ ترى تزوجُ هذه البنت؟ "، فقال: " أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدين "، فأعجبه عقله، وذهب فأخبر به أمها، وقال لها: " ما أرى لهذه البنت زوجا غير مبارك"، فتزوجها، فجاءت بعبد الله بن المبارك"، فتمت عليه بركة أبيه، وأنبته الله نباتا صالحًا، وربَّاه على عينه، انظر: " وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/237) ، و" شذرات الذهب" لابن العماد (1/296) ، و" مرآة الجنان" لليافعي (1/379) .(2/358)
لمن يختارونه لغرض؛ لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك، أو يُخْجِلونها حتى تفعل، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤًا لها لعداوة أو غرض، وهذا كله من عمل الجاهلية، والظلم والعدوان، وهو مما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة؛ لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره، فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه، فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدى إلى أهلها فقال: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء (58) وهذا من النصيحة الواجبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة " قالوا: " لمن يا رسول الله؟ " قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " والله أعلم) (859) .
الثالث: حكم عدم وجود الأولياء حقيقة:
في حالة عدم وجود الولي أصلا، بَيَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي، والسلطان وَلِي مَنْ لا ولي له " (860) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما من لا ولي لها، فإن كان في القرية أو المحلة نائب حاكم زوجها هو، وأمير الأعراب، ورئيس القرية، وإذا كان فيهم إمام مطاع زَوَّجها أيضًا بإذنها، والله أعلم) (861) .
__________
(859) "مجموع الفتاوى" (32/52-53) ، وانظره: (32/39 - 40) ، و " المغني " (6/460) ، و"المنهاج مع شرح مغني المحتاج" (3/153) .
(860) رواه الإمام أحمد (1/250) ، والطبراني في " الكبير" (11/142) ، وابن عدي في " الكامل" (6/2448) ، وانظر: " مجمع الزوائد" (4/286) .
(861) " مجموع الفتاوى" (32/35) .(2/359)
الرابع: عدم وجود الأولياء حكما:
وذلك بأن يكونوا أحياء في الوقت الذي يحتاج إليهم لتدبير أمور عقد النكاح، ولكن لا يمكن الرجوع إليهم، وذلك في حالات:
(1) إما لأجل سفر الولي الأقرب، وغيبته غيبة بعيدة، بحيث يكون في موضع لا يصل إليه الكتاب، أو يصل فلا يجيب عنه، وفي هذه الحالة يتولى تزويجها الولي الأبعد من عَصَبَتها، فإن لم يكن فالسلطان، وهذا مذهب الإمام أبي القاسم الخرقي رحمه الله (862) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (.. فأما إن غاب - أي الولي - غيبة بعيدة، انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم) (863) اهـ.
الخامس: عدم اتفاق الأولياء عل اختيار الخاطب:
وضع رسول الله حَلا لهذه المشكلة في قوله صلى الله عليه وسلم:
" فإن اشتجروا - أي الأولياء - فالسلطان ولي من لا ولي له " (864) .
قال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله:
(فإن كان الأولياء في التعدد سواء، كان أولاهم بذلك أفضلهم، فإن استووا في الدرجة والفضل وتشاحوا، نظر الحاكم في ذلك، فما رآه
__________
(862) "المغني" (6/478) ، وانظر: " مغني المحتاج" للشربيني (3/157) .
(863) "مجموع الفتاوى" (32/31) ، وأما تحديد مقدار الغيبة أو المسافة التي تعطي الحق للولي الأبعد أو السلطان فهذا بابه التوقيف، ولا توقيف في هذه المسألة، فترد إلى ما يتعارفه الناس بينهم مما لم تجر العادة بالانتظار فيه، ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله، كما أفاده ابن قدامة في المغني (6/479) .
(864) رواه أبو داود (2083) ، والترمذي (1/204) ، وحسنه، وابن ماجه (1879) ، وأحمد (6/47، 66، 166) ، والدارمي (2/137) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (6/243) .(2/360)
سدادًا ونظرًا أنفذه، وعقده، أو رَدَّه إلى من يعقده منهم) (865) .
السادس: وجوب التحري الدقيق عن صفات الزوج:
عن معقل بن يسار رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يُحِطْها بنصحه، إلا حَرَّم الله عليه الجنة " (866) .
ومن هذه النصيحة الواجبة أن يجتهد ولي المرأة في تحري الصفات الطيبة فيمن يزوجه موليته، وذلك بأن يستشير أولي العلم، وذوي الصلاح والتقوى ممن يوثق بأمانتهم ومعرفتهم حَقَّ الشهادة لله عز وجل، ممن لا تحمله البغضاء على الحسد وكتمان الجميل، ولا يحمله الود على المجاملة وستر العيوب، ويجب ألا يكتفي بالمعرفة السطحية، والشهادة العابرة (867) ، لأن في ذلك خضرًا على النساء، وتقصيرًا من الأولياء الذين هم رعاة مسئولون أمام الله عز وجل عن رعيتهم.
وما أدق ذلك الميزان الذي وضعه الفاروق - رضي الله عنه - لمعرفة قيم الرجال، فقد [جاء رجل يطلب منه أن يوليه عملًا، فقال: " ائتني بمن يعرفك "، وعاد الرجل وبصحبته آخر، فسأله عمر: " أتعرف هذا الرجل؟ "، قال: " نعم "، قال: " هل أنت جاره الذي يعرف مداخله ومخارجه؟ "، قال: " لا "، فقال عمر: " هل صاحبته في السفر، الذي
__________
(865) "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/525) .
(866) رواه البخاري (13/112) في الأحكام: باب من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم رقم (142) في الإيمان: باب استحقاق الولي الغاش لرعيته النار، وفي الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والإمام أحمد في " المسند" (5/25، 27) .
(867) وكذا لا يعتمد على المحترفات الخاطبات، اللائي لا هَم لهن غالبا إلا ترويج السلعة، حرصًا على الأجر المنشود، والثمن الموعود.(2/361)
تعرف به مكارم الأخلاق؟ "، فأجاب الرجل: " لا "، فاستطرد أمير المؤمنين رضي الله عنه قائلًا: " هل عاملته بالدرهم والدينار الذي يُعرف به ورع الرجل؟ "، قال الرجل: " لا "، فقال الفاروق متعجبًا: " لعلك رأيته قائمًا قاعدا يصلي بالمسجد؟ "، فرد الرجل بالإيجاب، فقال له أمير المؤمنين: " اذهب فإنك لا تعرفه! "، والتفت إلى الرجل الأول، فقال له: " ائتني بمن يعرفك ".
وفي رواية أخرى: أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: " إن فلانا رجل صِدْق"، قال: " هل سافرت معه؟ "، قال: " لا"، قال: "فكانت بينك وبينه خصومة؟ "، قال: " لا"، قال: " فهل ائتمنته على شيء؟ "، قال: " لا "، قال له عمر: " فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد"] (868) .
من أجل ذلك فإنه لا يكفي للتحري عن الزوج أقوال الناس عنه، فإن موازينهم تختلف باختلاف أمزجتهم، وصلابة دينهم، وقوة ورعهم، فما قد يراه البعض فضيلة، قد يراه البعض الآخر من أقبح المنكرات، لا سيما في هذا الزمان، الذي أعرض فيه الكثيرون عن موازين الإسلام المحكمة، ومعاييره الصادقة.
السابع: جواز عرض الرجل موليته على أهل الخير والصلاح: جرت عادة الناس بأن يبحث الرجل عن المرأة التي يرغب الزواج بها، ويخطبها من وليها، فإذا اتفقا، وكتب لهما الوفاق والوئام تزوجها على عادة الناس، وفقًا للشريعة الغراء.
وقد يقع من بعض العقلاء والحكماء خلاف هذه العادة، فيبحث
__________
(868) " عيون الأخبار" (3/158) .(2/362)
الرجل عن الزوج الصالح لابنته من أهل الكفاءة والديانة والأمانة، فيعرضها عليه، ويحصل هذا غالبًا ممن لديهم بُعْد نظر، وحسن تفكير، وليس أدل على ذلك من فعل أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته الثاني، ومن نزل القرآن موافقا رأيه، فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال:
(إن عمر بن الخطاب حين تأيمت (869) حفصة بنت عمر من خنيس ابن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: " سأنظر في أمري"، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: " قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا"، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: " إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر "، فصمت أبو بكر فلم يرجع في شيئًا، وكنت أوجدَ عليه مني على عثمان (870) ، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: " لعلك وجدت عَلَي حين عرضت عَلي حفصة فلم أرجع عليك؟ "، قال: قلت: " نعم "، قال أبو بكر: " فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتُها ") (871) .
وعرضت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها أختها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
__________
(869) أي صارت أيمًا، وهي التي يموت زوجها، أو تبين منه، وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها، وانظر " القسم الثالث " ص (64) .
(870) أي كان أشد غضبا عليه منه على عثمان رضي الله عنهم أجمعين، لقوة المودة بينه وبين أبي بكر، ولأن عثمان أجابه أولًا ثم اعتذر، أما أبو بكر فإنه لم يجبه بشيء.
(871) تقدم تخريجه برقم (839) .(2/363)
" إن هذا لا يحل لي " (872) ، وعرض أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ابنة عمه عمارة بنت حمزة رضي الله عنهما، فاعتذر صلى الله عليه وسلم بأنها ابنة أخيه من الرضاعة (873) ، وقال صالح مدين لموسى عليه السلام: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) الآية (القصص: 27) قال القرطبي: (فيه عرض الولي بنته على الرجل؛ وهذه سنة قائمة؛ عرض صالح مدين ابنته كل صالح بني إسرائيل) (874) إلخ.
(هكذا كان شأن الرعيل الأول من أصحاب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في فهمهم للإسلام، وأخذهم بآدابه، واجتهادهم في تحري الصالحين لبناتهم أو أخواتهم، وصراحتهم في العرض، وعدم تحرجهم في القبول أو الرفض، إذ كان هدف الجميع دائمًا القيام بحق الله تعالى، سواء بالنسبة لبناتهم وأخواتهم، باعتبارهن أولى الناس ببرهم واجتهادهم، أو بالنسبة لإخوانهم في الله: باعتبارهم أحق الناس بمصاهرتهم وإكرامهم، ولكن غفلة كثير من الناس في هذا الزمان عن هذه الآداب السامية، قلب الأوضاع في نظرهم، وأصبح التأسي بمثل هؤلاء الكرام البررة محل غرابة واستنكار، وظنه البعض محاولة لترويج بضاعة كاسدة، فأحجم ذوو النفوس العالية عن عرض بناتهم وأخواتهم
__________
(872) رواه البخاري (9/121) في النكاح: باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ، وباب (وأن تجمعوا بين الأختين) وغيرهما، ومسلم رقم (1449) في الرضاع، وأبو داود رقم (2056) ، والنسائي (6/96) كلاهما في النكاح.
(873) رواه مسلم رقم (1446) في الرضاع: باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، والنسائي (6/99) في النكاح: باب تحريم بت الأخ من الرضاعة.
(874) " الجامع لأحكام القرآن " (13/271) .(2/364)
على أقرب الناس إليهم، ضَنُّا بكرامتهم أن تمتهن) (875) .
ونقول لهؤلاء: إنكم لستم بأفضل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد عرض ابنته حفصة على عثمان وأبي بكر رضي الله عنهما، ولا من سعيد بن المسيب، وقد زوَّج ابنته على أحد طلبته دون طلب من التلميذ (876) ، وكان يخطبها ولد أمير المؤمنين، وأمهرها زوجها درهمين فقط، لأنه ربما كان لا يجد سواهما.
بل لقد بلغ من سماحة الإسلام وواقعيته، أنه - من ناحية أخرى - أباح للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح، وأن تقترح زواجها منه رغبة في صلاحه، واطمئنانًا إلى تقواه (877) ، لا سيما إذا لم يكن لها ولي ينوب عنها في التعبير عن ذلك، فعن أنس رضي الله عنه قال:
(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرض عليه نفسها- أي: ليتزوجها- قالت: " يا رسول الله: ألك بي حاجة؟، فقالت بنت أنس - وكانت حاضرة: " ما أقل حياءها! واسوأتاه ... واسوأتاه! "، فقال أنس رضي الله عنه- أي لابنته: " هي خير منكِ، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضت نفسها عليه ") (878) ، فلا حرج على الفتاة إذا بلغت مبلغ الزواج، وتقدم لها خاطب كفؤ دَين على خلق، أن تطالب وليها بالزواج الحلال تعف نفسها بالطريقة المشروعة، وعلى الأب أن يلبي رغبتها، وييادر بتزويجه،
__________
(875) "اختيار الزوجين في الإسلام" ص (92) .
(876) انظر الحاشية رقم (1405) .
(877) وقد خطبت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لنفسها، فكانت خير زوجة له صلى الله عليه وسلم، ناصرته وآوته وأعانته بمالها ونفسها، ولم يعب أحد ذلك، وكان يخطبها كبار قريش وأشرافهم، وكانت تسمى في الجاهلية:
"الطاهرة" رضي الله عنها.
(878) انظر: " فتح الباري" (9/178) .(2/365)
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما النساء شقائق الرجال " (879) .
الثامن: استحباب مشاورة المرأة في تزويج بنتها:
عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جلَيْبِيب (880) امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: " حتى أستأمر أمها "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فنعم إذا "، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: " لاها الله (881) ، إذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا وقد منعناها من فلان وفلان"، قال: والجارية في سترها تستمع، فال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: " أتريدون أن تردُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه "، فكأنها جلت (882) عن أبويها، وقالا: " صدقت "، فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن كنت قد رضيته فقد رضينا"، قال: " فإني قد رضيته "، فزوَّجَها، ثم فزع (883) أهل المدينة، فركب جليبيب فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم (884) ، قال أنس: فلقد رأيتها وإنها لمن
__________
(879) تقدم برقم (139) .
(880) قال الحافظ في " الإصابة": (غير منسوب، وهو تصغير جلباب) اهـ (1/495) .
(881) أي: هذا يمين، و " لا " لنفي كلام الرجل، و " ها " بالمد والقصر، ولفظ الجلالة مجرور بها لأنها بمعنى واو القسم، وجملة " إذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلخ "، جواب القسم، وإنما قالت ذلك المرأة لأن جليبيبا كان في وجهه دمامة كما في رواية أبي يعلى، وفي حديث أبي برزة رضي الله عنه أن المرأة قالت: " لا لعمر الله لا تزوجه"، وهي مؤيدة لرواية أنس مفسرة لها.
(882) بفتح اللام: أي كشفت، وأوضحت أمرا خفي عليهما.
(882) الفزع: الخوف، أي أخافهم العدو، وفي حديث أبي برزة: " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة " يعني: ومعه جليبيب رضي الله عنه.
(884) وفي رواية أبي برزة عند مسلم والإمام أحمد: (فوجده إلى جنب سبعة قد قتلهم،(2/366)
أنفق (885) بيت في المدينة ") (886) .
والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: " فنعم إذا ".
ورُويَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آمروا النساء في بناتهن " (887) قال ابن الأثير: (" آمروا النساء" أي استأذنوهن وشاوروهن، قال الخطابي: " وهو أمر استحباب من جهة استطابة أنفسهن، وحسن العشرة معهن، لأن في ذلك بقاء الصحبة بين البنت وزوجها، إذا كان برضى الأم، خوفًا من وقوع الوحشة بينهما إذا لم يكن برضاها، إذ البنات إلى الأمهات أمْيَلُ، وفي سماع قولهن أرغبُ، ولأن المرأة ربما علمت من حال بنتها - الخافي عن أبيها - أمرًا لا يصلح معه النكاح، من علة تكون بها؛ أو آفة تمنع من وفاء حقوق النكاح، وعلى نحو هذا يُتأول قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزوج البكر إلا بإذنها، وإذنها سكوتها " وذلك أنها قد تستحيي أن تُفْصح بالإذن، وأن تظهر الرغبة في النكاح، فيستدل
__________
= ثم قتلوه، فقالوا: " يا رسولَ الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عليه، فقال: " قتل سبعة وقتلوه؟ هذا مني، وأنا منه، مرتين أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه، وحُفِر له، ما له سرير إلا ساعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله) .
(885) بفتح الفاء من النفاق بفتح النون مشددة، وهو ضد الكساد، والمعنى أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، يتسابق إليها الخطاب بعد موت جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها إذ رُوي أنه دعا لها فقال: " اللهم صبَّ عليها الخير صبا، ولا تجعل عيشها كَدا كدا ".
(886) (رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيحين، وأخرجه أبو يعلى مختصرًا، ويشهد له حديث أبي برزة عند مسلم والإمام أحمد) ، كما في " الفتح الرباني " (6/148) .
(887) أخرجه الإمام أحمد (2/34) ، وأبو داود رقم (2095) في النكاح: باب فى الاستئمار، والبيهقي (7/115) ، والبغوي في " شرح السنة" (9/32) ، وقال محققه: (وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته) ، وانظر الحاشية رقم (802) .(2/367)
بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع، أو سبب لا يصلح معه النكاح) (888) اهـ.
التاسع: الكفاءة في السن:
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها صغيرة"، فخطبها علي فزوَّجها منه) (889) .
قال السندي في حاشيته على النسائي: (قوله: (فخطبها عليّ، أي عقب ذلك بلا مهلة، كما تدل عليه الفاء، فعلم أنه لاحظ الصغر بالنظر إليهما، وما بقي ذاك بالنظر إلى علي، فزوجها منه، ففيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية لكونها أقرب إلى المؤالفة، نعم قد يُترَكُ ذاك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة رضي الله تعالى عنها، والله أعلم) (890) اهـ.
والتكافؤ بين الزوجين في السن هو القاعدة، وإن أجاز الشرع غيره ما دام الرجل قادرَا على أعباء الزوجية، وتحققت فيه كفاءة الدين والخُلُق، وارتضته الفتاة زوجا لها، وقد تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وكان يكبرها بخمس وأربعين سنة، ومن قبل تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها، وكانت تكبره بخمس عشرة سنة، وتزوج عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت تصغره بسنين كثيرة.
وإنما العمدة في تحقيق السعادة الزوجية التوافق الروحي بين الزوجين،
__________
(888) "جامع الأصول" (11/465) .
(889) رواه النسائي (6/62) باب: تزويج المرأة مثلها في السن، والحاكم (2/168) ، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان (2224) ، وقال الألباني في " تحقيق المشكاة" رقم (6095) : (وإسناده جيد) اهـ. (3/1723) .
(890) " حاشية السندي على النسائي " (6/62) .(2/368)
فعن أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " (891)
__________
(891) رواه البخاري (4/162) ، ومسلم (159، 160) ، وأبو داود (4834) ، والإمام أحمد (2/ 295، 527، 539) ، وغيرهم.(2/369)
عود على بدء
من حقوق المرأة على زوجها
(5) وقايتها من النار بتعليمها وتأديبها
وذلك بأن يعلمها أصول دينها: كيف تؤمن بالله تعالى الإيمان الحق، وتوحده التوحيد الخالص، وتؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى.
وتعرف ما يجب لله تعالى، وما يجوز له سبحانه، وما يستحيل عليه تبارك وتعالى، ونؤمن بما جاء من عند الله تعالى من أركان الإيمان، وسائر أحكام الإسلام الواجبة عليها، وأصول معرفة الحلال والحرام.
وأن يعلمها أحكام العبادات، ويحضها على القيام بها، خاصة الصلاة في أول الوقت وشروطها وأركانها ومفسداتها ومكروهاتها، وسائر العبادات، وحقوق الله تعالى عليها، وحقوق الزوجية.
وأن يعلمها مكارم الأخلاق من وقاية القلب من أمراض الحسد والبغضاء، ووقاية اللسان من الغيبة والنميمة والسب والكذب.
ويراقبها في ذلك كله ما استطاع إلى المراقبة سبيلًا.
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم (6) .
قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم(2/370)
نارا) : " علموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدبوهم " (892) .
وقال قتادة: " أن يأمرهم بطاعة الله تعالى، وينهاهم عن معصيته، واًن يقوم عليهم بأمر الله تعالى، يأمرهم به، ويُساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها، وزجرتهم عنها " (893) .
قال الألوسي رحمه الله: (واستُدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض، وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس، لأن الولد بعض من أبيه) (894) اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية، ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام الذي على الناس راعٍ، وهو مسئول عنهم، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسئول عنهم " (895) ، وعن هذا عبَّر الحسن في هذه الآية بقوله: " يأمرهم وينهاهم "، وقال بعض العلماء: لما قال: (قوا أنفسكم) دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه، كما دخل في قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) (896) ، فلم يُفْرَدُوا بالذكر إفراد سائر القرابات، فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام.
__________
(892) عزاه في " الدر المنثور" (6/244) إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في " المدخل".
(893) " تفسير الطبري" (28/166) .
(894) " روح المعاني" (28/156) .
(895) تقدم تخريجه برقم (55) .
(896) انظر: " الجامع لأحكام القرآن" (12/314) .(2/371)
.. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: " مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (897) خرجه جماعة من أهل الحديث، وهذا لفظ أبي داود، وخرج أيضًا عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين، فاضربوه عليها " (898) .
وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة، ووجوب الصيام، ووجوب الفطر إذا وجب؛ مستندًا في ذلك إلى رؤية الهلال، وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتَرَ يقول: " قومي فأوتِري يا عائشة"، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رحم الله امرأ قام من الليل، فصلَّى، فأيقظ أهله، فإن لم تقم رَشَّ وجهها بالماء، رحم الله امرأة قامت من الليل تصلي، وأيقظت زوجها، فإذا لم يقم رشَّت على وجهه من الماء " (899) ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أيقظوا صواحب الحُجَر " (900) ، ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) الآية.
... قال إلكيا: " فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يُستغنى عنه من الأدب " (901) اهـ.
__________
(897) رواه الإمام أحمد (2/187) ، وابن أبي شيبة (1/347) ، وأبو داود (495، 496) ، والدارقطني (1/230) ، والحاكم (1/197) ، والبيهقي (7/94) وغيرهم، وصححه الألباني في "الإرواء" (1/266) .
(898) رواه أبو داود رقم (494) في الصلاة: باب (26) ، والبيهقي (2/11) عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه.
(899) تقدم تخريجه برقم (597) .
(900) رواه بنحوه في حديث أطول منه البخاري (3/8) في التهجد، والعلم، واللباس، والأدب، والفتن، والترمذي رقم (2197) في الفتن.
(901) " الجامع لأحكام القرآن" (18/195-196) بتصرف.(2/372)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما رَجل كانت عنده وليدة، فعلمها، فأحسن تعليمها، وأدَّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها، وتزوجها، فله أجران " (902) أي أجر العتق، وأجر التعليم.
وترجم البخاري لهذا الحديث: باب تعليم الرجل أمته وأهله، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه: (مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم آكد من الاعتناء بالإماء) (903) اهـ.
وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتهينا أهلينا، فسألنا عمن تركنا في أهلينا، فأخبرناه، وكان رفيقًا رحيما، فقال: " ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي " (904) الحديث، وقد بلغ من اعتناء السلف بهذه التربية أنهم كانوا حريصين على متانة الروابط بينهم وبين من يؤدبون أولادهم، فكانوا يحزنون إذا غابوا عن الأولاد فترة لسبب من الأسباب، لخوفهم على أولادهم أن لا يؤدبوا على ما يريدون ويشتهون، وذكر الراغب الأصفهاني أن المنصور بعث إلى مَنْ في الحبس من بني أمية يقول لهم: " ما أشد ما مَرَّ بكم في هذا الحبس؟ " فقالوا: " ما فقدنا من تربية أولادنا " (905) .
__________
(902) رواه البخاري (1/190) في العلم، والعتق، والجهاد، والأنبياء، والنكاح، ومسلم رقم (154) في الإيمان، وأحمد (4/395، 414) ، والبغوي في" شرح السنة " (1/53، 55) .
(903) " فتح الباري" (1/190) .
(904) رواه البخاري (1/183) ، (9/107) ، ومسلم في المساجد (292) ، والنسائي (2/9) ، والدارمي (1/286) ، وأحمد (3/436) ، وغيرهم.
(905) " تربية الأولاد في الإسلام" (1/152) .(2/373)
وقد أثنى الله على نبيه إسماعيل عليه السلام فيما أثنى بقوله: (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) مريم (55) .
وقال تعالى: (وَأمُرْ أهلك بالصلاة واصطبر عليها) الآية طه (132) .
أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهله بالصلاة، ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها، والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة، ويدخل في عموم هذا الأمر جميع أمته صلى الله عليه وسلم وأهل بيته على التخصيص (906) .
ويُروى عن ثابت قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: " يا أهلاه! صَلوا، صلوا "، قال ثابت: " وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر، فزعوا إلى الصلاة ") (907) ، وكان عروة بن الزبير رضي الله عنه
__________
(906) سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(عمن له زوجة لا تصلي: هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؟ وإذا لم تفعل: هل يجب عليه أن يفارقها، أم لا؟ فأجاب: نعم، عليه أن يأمرها بالصلاة، ويجب عليه ذلك؛ بل يجب عليه أن يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) الآية، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) الآية، وقال عليه الصلاة والسلام: " علموهم، وأدبوهم ".
وينبغي مع ذلك الأمر أن يحضها على ذلك بالرغبة، كما يحضها على ما يحتاج إليها، فإن أصرت على ترك الصلاة فعليه أن يطلقها، وذلك واجب في الصحيح، وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلي باتفاق المسلمين؛ بل إذا لم يُصَل قتِل، وهل يقتل كافرا مرتدا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم) اهـ. من " مجموع الفتاوى" (32/276 - 277) ، والحديث المذكور موقوف، راجع الحاشية رقم (892) .
(907) رواه الإمام أحمد في " الزهد " ص (10) ، وابن أبي حاتم، والبيهقي في " شعب الإيمان " كما في " الدر المنثور " (4/313) .(2/374)
إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفًا، فإذا رجع إلى أهله، فدخل الدار، قرأ: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) ثم يقول: " الصلاةَ الصلاة، رحمكم الله " (908) ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم: " الصلاةَ، الصلاةَ " ويتلو هذه الآية: (وأمر أهلك) الآية (909) .
[ (وعن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة نازلًا عندنا بالمحصب، وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلًا طويلًا، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: (أيها الركب المعرسون، أكُلَّ هذا الليل ترقدون! أفلا تقومون فترحلون؟ " فيتواثبون، فَيُسمع من ههنا باك، ومن ههنا داع، ومن ههنا قارئ، ومن ههنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: " عند الصباح يحمد القوم السرى " (910) ] .
فائدة جليلة: (قوله تعالى في هذه الآية: (لا نسألك رزقًا نحن نرزقك) فيه دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش، فكأنه قيل: داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها، إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم، إذ نحن نرزقكم، وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى، وقد قال تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله
__________
(908) أخرجه الطبري (16/170) ، وعزاه السيوطي في " الدر المنثور" (4/313) لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(909) أخرجه الإمام مالك في " الموطأ " (1/119) في صلاة الليل: باب ما جاء في صلاة الليل، وقال في " تحقيق جامع الأصول " (6/69) : " إسناده صحيح ".
(910) "الإحياء" (15/2772) .(2/375)
هو الرزاق) الآيات الذاريات (56-58) ، ومعلوم أن ترك الاكتساب للصلاة المفروضة فرض، وليس المراد بالمداومة عليها إلا أداؤها دائمًا في أوقاتها المعينة لا استغراق الليل والنهار بها، ويستشعر من الآية أن الصلاة مطلقًا تكون سببًا لإدرار الرزق، وكشف الهم، وعن عبد الله بن سلام قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وتلا: (وأمر أهلك بالصلاة) (911) ، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهلَه خصاصة نادى أهله بالصلاة: صلوا صلوا، قال ثابت: وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ") أفاده الألوسي (912) .
إذا فسد القوام عَم الفساد جمع الأقوام:
والرجل قدوة أهل بيته، والقدوة من أخطر وسائل التربية:
عن فضيل بن عياض قال: (رأى مالك بن دينار رجلا يسيء صلاته، فقال: " ما أرحمني بعياله! "، فقيل له: " يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته، وترحم عياله! " قال: " إنه كبيرهم، ومنه يتعلمون " (913)) .
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله ضمن آداب الزوج:
(أن يتعلم المتزوج من علم الحيض وأحكامه ما يحترز به الاحتراز الواجب، ويُعَلم زوجته أحكام الصلاة، وما يقضى منها في الحيض، وما
__________
(911) عزاه في " الدر المنثور " إلى: (أبي عبيد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، والطبراني في " الأوسط"، وأبو نعيم في " الحلية "، والبيهقي في " شعب الإيمان" بسند صحيح) اهـ (4/313) .
(912) " روح المعاني" (16/ 285) .
(913) "حلية الأولياء" (2/384) .(2/376)
لا يقضى، فإنه أمر بأن يقيها النار بقوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) فعليه أن يلقنها اعتقاد أهل السنة، ويزيل عن قلبها كل بدعة إن استمعت إليها، ويخوفها في الله إن تساهلت في أمر الدين، ويعلمها من أحكام الحيض والاستحاضة ما تحتاج إليه.
وعلم الاستحاضة يطول، فأما الذي لابد من إرشاد النساء إليه في أمر الحيض بيان الصلوات التي تقضيها، فإنها مهما انقطع دمها قبيل المغرب بمقدار ركعة، فعليها قضاء الظهر والعصر، وإذا انقطع قبل الصبح بمقدار ركعة، فعليها قضاء المغرب والعشاء، وهذا أقل ما يراعيه النساء.
فإن كان الرجل قائما بتعليمها، فليس لها الخروج لسؤال العلماء، وإن قصر علم الرجل، ولكن ناب عنها في السؤال، فأخبرها بجواب المفتي فليس لها الخروج، فإن لم يكن ذلك، فلها الخروج للسؤال، بل عليها ذلك، ويعصي الرجل بمنعها، ومهما تعلمت ما هو من الفرائض عليها، فليس لها أن تخرج إلى مجلس الذكر، ولا إلى تعلم فضل إلا برضاه، ومهما أهملت المرأة حكمًا من أحكام الحيض والاستحاضة، ولم يعلمها الرجل، خرج الرجل معها، وشاركها في الإثم) (914) اهـ.
__________
(914) "الإحياء " (4/730) .(2/377)
[فصل]
مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915)
[قرر الإسلام مكانة عظيمة للأسرة، تتجلى من الاهتمام بشؤونها في كتاب الله زواجًا ورضاعًا وطلاقًا وإرثًا، واستطاعت الأجيال المتعاقبة أن ترسخ معاني إسلامية عميقة في الأسرة في مجتمعاتنا، وقد أحسَّ أعداؤنا - وهم يحاولون هدم هذه الأمة - صلابة هذه اللبنة، وقوة هذا الحصن.. ومن أجل ذلك كان في الحقبة الأخيرة هجوم مركز على الأسرة، استخدموا له كل القوى التي يمكن أن تصل إلى أيديهم، وما أكثرها! ! (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) لقد استخدموا سن القوانين التي تفتت الأسرة في كثير من بلاد المسلمين، وشنوا حملات عليها من طريق الفنّ بواسطة وسائل النشر والإعلام من قصص وصحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما، ومازالوا في طريقهم ماضين.
ويساعد هذه الحملاتِ المسعورة - في أحيان كثيرة - سيطرةُ النزعة المادية على سواد الناس.
ومما يؤسف له أنّ هذه الأسرة المستهدفة من قبل الأعداء مهددة أيضًا من قبل أصحابها المسؤولين عنها ... وإن المسؤولية في الأسرة يتحملها الرجل في قطاع كبير قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع ومسؤول عن رعيته.. والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته " كما أن المرأة أيضا تتحمل مسؤولية قررها
__________
(915) اختصرت هذا الفصل من كتاب " نظرات في الأسرة المسلمة " لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله، بتصرف من ص (28- 31) ، (90-93) ، (142-147) ، (160) .(2/378)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها "، إن على كل أب وكل أم أن يستشعر هذه المسؤولية نحو الأسرة.. فهناك خطر داهم ماحق خطير، والأسرة هي القلعة الأخيرة التي إن خسرناها نكون قد أضعنا كرامتنا وديننا ومجتمعاتنا، ذلك لأن أكثر شعوب العالم الإسلامي غزيت بما يهدد عقيدتها في عدة مجالات: في المدرسة.. ومناهج التعليم.. في السوق والمتجر والمصنع.. في وسائل الإعلام وأدوات تكوين الرأي العام.
وقد حيل - في كثير من بلاد المسلمين - بين الدعاة العاملين والناس، ولم يبق لهذه العناصر المسلمة الخيرة من مجال إلا الأسرة، نعم بقيت المنطلق الوحيد لهؤلاء الدعاة.. ونحن لا نودُّ أن نلقي اللوم على الأعداء ونبرئ أنفسنا.. إن كثيرا منا يتحمل في هذا الأمر أكبر نصيب في المسؤولية، ويحسن بنا أن نذكر أهم الأمور التي تعرض الأسرة للخطر الماحق، والتي تعود إلينا نحن، إن الأمور الخمسة الآتية أهم ما يرد في هذا المجال وهي:
1- عدم تقدير المستقبل:
كثيرًا ما يتصرف المرء بعض التصرفات، ولا يقدر أثرها في المستقبل، فقد يتصور أن سكوته على أمر ما هين يسير، ولكن ذلك يهدم الأسرة هدمًا تاما، وقد يتصور أن أولاده صغار لا يستحقون أن يخصهم بجزء من ورقته الثمين فهو يضحك منهم، ويسخر منهم، ولا يأمر واحدا منهم بخير، ولا ينهاه أو يحذره من منكر.. ولا يقدر المستقبل؛ ولا يدري أن هذا الطفل الصغير سيكون بعد مدة وجيزة رجلًا كبيرًا، قد يكون له شأنه في البيت، بل في المجتمع كله.
2- روح اللامبالاة:
وقد سرت هذه الروح في عدد من أبناء أمتنا المجيدة، مع أن الإسلام(2/379)
يربي في أبنائه الشعور بالمسئولية، وينمي فيهم الاهتمام بشؤون المسلمين، فليس هناك أمر يحدث في المجتمع ولا تأثير فيه، وما أروع حديث السفينة الذي يجعل أي عمل من أي فرد له تأثير على المجتمع كله؛ إن هذا الحديث يبين لنا أن روح اللامبالاة تقضي على الأمة؛ إذ لو أن ذاك الرجل الذي أراد أن يخرق في موضعه من السفينة خرقًا وترك وشأنه انطلاقًا من روح اللامبالاة لهلك وهلك ركاب السفينة جميعا.
3- سيطرة التقاليد الاجتماعية المتعفنة وقلة العلم بالدين:
وهذا أمر في غاية الأهمية؛ إذ نرى أن كثيرا من هذه التقاليد التي لم يشرعها الله تحل محلّ الدين في كثير من بلاد المسلمين، ومكن لها من السيطرة الجهل بدين الله وتخلف الوعي الإسلامي، وهي تختلف من بلد إلى بلد، ولكنها في هذه البلاد جميعا تسيء في عملية بناء الأسرة بناء متينًا أو في محاولة الإبقاء عليها أمام هذه الأعاصير.
4- تسلط المرأة على التوجيه وإدارة البيت:
إن من النقص أن يُنزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فإن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ومن هو قائم على شيء فهو أفضل منه، ومن شأنه أن يكون مُطاعًا لا مطيعًا، ومتبوعا لا تابعا:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... فإن شاء أعلاها وإن شاء سَفَّلا
وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التقليد، وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاءً، فقد تقترح المرأة أن تلبس البنات لباسًا لا يقره الإسلام بحجة أنهنّ صغيرات، وأن الناس هكذا يعملون وأن المصلحة في مسايرة الزمان، ويضعف الرجل ويوافق.
وقد ترى المرأة أن تقوم بألوان من الاستقبالات التي لا يقرها(2/380)
الإسلام، يضعف الرجل ويوافق، وفي هذا ما فيه من الهدم للأسرة.
وإنه انتكاس للأمور يمكن أن يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أمارات الساعة فقال: " أن تلد الأمة ربتها "، وليس معنى هذا أن نلغي شخصية المرأة ... لا.. ولكنها القوامة.. التي جعلها الله للرجل في حدود شرعه، ومهما يكن من أمر فإن إلغاء شخصية الرجل أكبر خطرًا وأعظم أثرًا) .
وقد تطغي مشاعر الأمومة الحانية، والأبوة المشفقة، وتتعدى حدودها، و (إزاء هذا الفيض من العاطفة، والسيل المتدفق من الحنان، والميل الشديد لاسترضاء الأولاد، وإدخال السرور عليهم، وقف الإسلام وقفة المذكر المنبه الكابح.. إذ إن هذا الحنان وهاتيك العاطفة قد تنسيان الأب مهمته في التوجيه والتربية، فينقلب عندئذ إلى منفذ لأوامر أطفال صغار، ومسارع في تحقيق رغبات هؤلاء الذين لا يعرفون من الحياة شيئًا، ولا يدرون ما ينفعهم ولا ما يضرهم.
وإن كثيرا من أجيال المسلمين اليوم في عدد من بلاد الإسلام لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي.. ومن أجل ذلك تجد في صفات كثير من مسلمي اليوم الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة (917) .
__________
(917) يقول الدكتور الصباغ حفظه الله:
(سمعتُ من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلًا جاء يسترشده لتربية ابن له أو بنت ولدت حديثا، فسأله كم عمرها؟ قال: شهر. قال: فاتك القطار، وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى ما يريد، ويكبر على هذا.. فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن.. يظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه) اهـ هامش ص (146-147) .(2/381)
وعندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطرًا على البيت، كانت شدته وصلابته تخففان من لين الوالدة، وتكفكفان من تدليلها الأولاد.. أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوساط، وأصبح الرجل في بيوت هذه الأوساط لا مهمة له إلا القيام بالخدمات، وجلب الأغراض والحاجيات، ودفع الفلوس والنفقات، ولم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير التافه، كان هذا الجيل المائع المنهار.
5- الشغل المتواصل:
أصبح ربُّ الأسرة - في معظم الأحيان - عاجزًا عن أن يجد الوقت الذي يجتمع فيه بنفسه أو بأفراد أسرته يوجههم ويحدثهم ويستمع إليهم، حتى إن زوجته لا يتاح لها أن تجلس معه وتتفاهم معه على الخطة الرشيدة التي يجب أن يسير بموجبها أفراد الأسرة، ففي الصباح يسارع إلى عمله الدنيوي، ولا يعود إلا لتناول طعام الغداء وأخذ قسط من الراحة تمنع خلاله الحركات والهمسات ولا يعود في المساء إلا في ساعة متأخرة من الليل ليجد أهل البيت نيامًا، وإذا كان هذا الوضع مستنكرًا صدوره من عامة الناس فإنه من المتدينين أشد، واللوم لهم أكثر؛ ذلك لأن هذا الأخ المتدين سيجد نفسه - بعد مدة - في واد، وزوجته وأولاده في وادٍ آخر، وسيندم ولات ساعة مَنْدم، ومن المؤسف أن هذا الشغل لم يقتصر على الرجل بل شمل في بعض الأسر المرأة التي تترك بيتها سحابة النهار وتكل تربية أبنائها وإعداد بيتها للخادمة.. فيكون من ذلك الضياع التام.
والشغل متنوع، وأكثره في الدنيا والكسب، غير أن هناك نوعًا غريبًا جدا من أنواع الشغل، وهو ما يكون للدعوة وإصلاح الناس ... وذلك خطأ في تصور الدعوة والعمل فيها، والمرء مطالب بأن يصلح أهله أشد المطالبة؛ يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا(2/382)
وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6) ، (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (طه:132) ، وهذا الإهمال لأهله سيوقعهم في الانحراف والمخالفة، وعندئذ لا يقوى على الاستمرار في الدعوة إلى الله.. إذ سرعان ما تلوكه الألسنة، ويقال له:" إن كنت صادقا فأصلح بيتك "، ويكون هذا الوضع الخاص مضعفًا لتأثيره في الناس لأن معنى القدوة يفوت بوجود مثل هذا الوضع، ويكون ذلك سببا في أن يتعكر صفوه، وتتنغص عليه لذاته، وفي أن تتولد فيه عقد، وتواجهه مشكلات، قد تحول بينه وبين الاستمرار في الدعوة.
أيها الزوج العروس:
- لا تنشغل طويلًا عن أهلك، واعلم يا أخي أن الجلوس إلى عروسك ومحادثتها ليس وقتا ضائعًا، لا سيما إن كانت المحادثة تسير في طريق هادف وتسعى نحو قصد محدود، إنّك بذلك تفهم زوجك، وتتيح لها أيضًا أن تفهمك، وهذا الفهم هو الخطوة الأولى للمعاشرة الحسنة، وكم رأينا في واقع الناس أزواجًا يقضون العشر والعشرين من السنين ولا يفهم أحدهما الآخر.... وكان ذلك سببًا من أسباب النكد والشقاق، إنك يا أخي بجلوسك إلى أهلك ومحادثتك إياها تفسح المجال لك لتقنعها بكثير من آرائك التي تبدو غريبة عليها بادئ الأمر، والكلام أول مرة لا يترك الأثر المطلوب، ولا يلمس الإنسان نتيجته، ولكن التكرار وحسن اختيار الوقت المناسب، والأسلوب المناسب في عرض الفكرة وضرب الأمثلة الكثيرة لابدَّ من أن يترك أثرا كبيرا في الإنسان.
واعلم يا أخي أن الحديث الطويل الهادف غير الممل، والمؤانسة المهذبة الممتعة يُمدان الحياة الزوجية بالقوة والنماء وأفضل الغذاء، وَلتَضَعْ نُصب(2/383)
عينيك ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله " (918) ، وفي رواية: " كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، ومداعبته أهله ".
وعن عطاء بن أبي رباح قال: " رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرتميان، فمل أحدهما فجلس، فقال له الآخر: كسلت؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو ولهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة " (919) .
واذكر يا أخي قصة أبي الدرداء مع سلمان رضي الله عنهما، روى البخاري رحمه الله عن وهب بن عبد الله رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة (أي لابسة ثياب المهنة تاركة ثياب الزينة) فقال: ما شأنُك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، [أي في النساء، وجاء في رواية الدارقطني: (في نساء الدنيا) وزاد في رواية ابن خزيمة: (يصوم النهار ويقوم الليل) ] .
فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما.
__________
(918) أخرجه الإمام أحمد (4/148) ، وأبو داود رقم (2513) في الجهاد: باب في الرمي، والترمذي رقم (1637) في فضائل الجهاد، وقال: " حسن صحيح"، وابن ماجه رقم (2811) ، والدارمي (2/205) ، والطحاوي في " المشكل" (1/119) ، وانظر: " الصحيحة" رقم (315) .
(919) أخرجه النسائي في "عشرة النساء" رقم (52) ، والطبراني في الكبير"، والبزار، وقال المنذري في " الترغيب" (2/170) : " بإسناد جيد"، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (315) .(2/384)
فقال له: كُلْ؛ فإني صائم.
قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم.
فقال له سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له: " نم"، فلما كان آخرُ الليل قال سلمان: (قم الآن) ، فصليا جميعًا، فقال له سلمان: " إن لربِّك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه ".
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق سلمان" (920) .
نعم إن لأهلك عليك حقا، فللأهل حق، ولله حق، وللنفس حق، والمسلم مطالب أن يعطي كل ذي حق حقه، إنّ الموازنة بين هذه الحقوق أمر مطلوب، ولا يقوى عليه إلا الواعون، والتفريط في هذه الموازنة تفريط في الحياة المتكاملة.
أيها السادة:
هناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بكسب المال، فترى الواحد منهم يكدح طوال النهار وطرفًا من الليل، ولا يعود إلى داره إلا مكدود الجسم، مهدود القوى، قد استنفد طاقته حتى لم يعد لديه استعداد لحديث ولا مؤانسة.. فيخلد إلى الفراش منهارًا مضعضعًا.. وقد يأتي فيجد أهله في نوم عميق بعد أن طال عليها الانتظار.
قد يكسب من وراء هذا السلوك المال.. ولكنه يعرض نفسه لخسران الحياة الزوجية.
__________
(920) تقدم تخريجه برقم (652) .(2/385)
وهناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بمعاشرة الأصدقاء، وحضور الحفلات والسهرات، والاشتراك في الرحلات، فترى الواحد منهم بعيدًا عن بيته وأهله في معظم الأوقات.. وإن لم يذهب من الدار جاء هؤلاء الأصدقاء إليه وكان مكلفًا بقِراهم وخدمتهم، وهو بطبيعة الحال سيدعو زوجته إلى إعداد ما سيقدم إلى ضيوفه من أنواع الطعام والشراب.
إن هذا الإنسان قد يكسب ودّ عدد من الأصدقاء، وقد يكسب سمعة اجتماعية جيدة ولكنه يعرض نفسه إلى خسران السعادة البيتية.
وهناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بأمور محمودة كما شغل أبو الدرداء عن زوجته، فتراهم في ذكر وعبادة، ونصح للناس ودعوة، وقراءة وكتابة.
إن هؤلاء فقدوا القدرة على الموازنة بين الحقوق المتعددة، وفقدان القدرة على هذه الموازنة يورث خللا واضطرابا في الحياة الداخلية للفرد منهم.
في حياته مع زوجه وأولاده، إن الأهل والذرية من أحق الناس بالعناية وبأن توجه الدعوة إليهم، إن الواحد من هؤلاء الذين فقدوا القدرة على تلك الموازنة لا يلبث أن يستيقظ من غفلته، فإذا هو في واد، وزوجته وأولاده في واد آخر، أفكاره غير أفكارهم، ومواقفه تختلف عن مواقفهم، وسلوكه في الحياة بعيد عن سلوكهم وذلك لأنه ترك أهله خاضعين لمؤثرات أخرى من وسائل الإعلام والصحافة ومن البيئة التي قد يسود فيها الانحراف، والعلاقات والقرابات، وربما كان كثير منها لا يتفق مع اتجاهه في الحياة، ومن أصعب الأمور على النفس أن يرى المرء زوجه وأولاده يسيرون في طريق الزيغ والانحراف والضلال.
إن هؤلاء الذين يشغلون عن أهليهم يجنون بعد حين الصاب والعلقم، ويتجرعون غصص العناء والشقاء، والحياة اليوم معقدة الجوانب، مترعة(2/386)
بأسباب التأثير، أعرف رجلًا متدينًا انصرف في أول حياته الزوجية إلى عمله فجد واجتهد، وكان لا يأتي إلى داره إلا للطعام والنوم، ثم يخرج ولا يعود إلا بعد منتصف الليل، فإذا جاءت الإجازة ترك زوجته مع أهلها وسافر إلى البلاد الأجنبية في تحقيق أمور تتصل بعمله ... فكان من جراء ذلك تدمير الأسرة وتشرد الأولاد وعانى هو من وراء ذلك أعظم الصعوبات.
إنَ الانشغال عن الأهل تفريط في حق الرجل والأسرة، وظلم بين، إذ كيف يسوغ للإنسان أن يحبس زوجه وينطلق هو في عمله وزياراته وقراءته وكتابته وعبادته، ويترك شريكة حياته نهبا للوساوس والخطرات، والوحشة والأزمات، أو يتركها للانغماس في المجتمع الذي يسير في طريق آخر.
فاتق الله يا أخي ووازن بين الحقوق، ومنها حق الأهل، وليكن لك مع أهلك وقت تملؤه بالمؤانسِة العذبة الهادفة والحديث المؤثر الجذاب، وفقك الله ورعاك] اهـ.
وقال فضيلته في موضع آخر:
[إن كثيرًا من الصالحين يشغلون عن أولادهم بأمور عامة تتصل بالدعوة، ويحسبون أنهم بذلك يقومون بخدمة جليلة، وذلك لعمر الله تقصير كبير، إن أحق الناس بتوجيهك أولادك وزوجك الذين معهم تعيش، وبهم تعرف، وشرهم وخيرهم مقرون بك، وقد تضطرك الأيام إلى أن تكون بحاجة برهم: ورعايتهم، وقد يفيدك أن تحظى بدعوة من أحدهم تخفف عنك ما أنت فيه من الضيق والكرب بعد موتك، أو تزيدك من الخير في آخرتك، من أجل ذلك أود أن أقترح ما يلي:
1- لابد من أن تخصهم بجلسة أسبوعية على أقل تقدير، وإن استطعت أن تكون في مدة أقل كان أحسن.
2- إقامة حلقات للأولاد يتولاها ناس ظلهم خفيف ودينهم جيد وبيانهم(2/387)
مشرق وإن كانت مستوياتها مختلفة للابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي فهو أفضل (فالمرء على دين خليله) .
هذه أمور بأيدينا نحن فلنتق الله فيها.. ولنصلح الفاسد.. ولنحذر غرق سفينة المجتمع.
إن الأسرة هي القلعة الأخيرة التي ينبغي أن نقف حياتنا وإمكانياتنا لحمايتها وحفظها وإنا لمسؤولون] اهـ.
(6) ومن حقها عليه: أن يغار عليها ويصونها
إن من حب الرجل لزوجته أن يغار عليها، ويحفظها من كل ما يلم بها من أذى في نظرة أو كلمة، والزوجة أعظم ما يكنزه المرء، فلا يليق به أن يجعلها مضغة في الأفواه، تلوكها الألسنة، وتتقحمها الأعين، وتجرحها الأفكار والخواطر.
كلا! إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة الشريفة، ومن هنا كان كرام الرجال وأفذاذ الشجعان يمتدَحون بالغيرة على نسائهم، والمحافظة عليهن، وإن من شر صفات السوء ضعف الغيرة وموت النخوة، ولا يركن إلى ذلك إلا الأرذلون.
وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة، والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة، ومتى ما تحين الرجل الفرص ليأخذ امرأته على غرة، التماسا لعثرة منها بدون أي ريبة كانت هذه غيرة مذمومة، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من الغيرة غيرة يبغضها الله، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة " (921) .
__________
(921) رواه من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه مرفوعا: الإمام أحمد (5/ 445، 446) ، =(2/388)
إن الرجل هو صاحب القوامة، والمسؤول الأول في الأسرة، والمحافظ على أفرادها، وهو أبعد أهله نظرًا وتبصرًا في العواقب، فمن حقها عليه أن يغار عليها.
وقد نظم الإسلام هذا الأمر فيما نجمله بما يلي:
أولًا: أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية الا بإذنه، فهو أدرى بمصلحة الأسرة لأنه القيم عليها، فقد يكون في دخول أبيها أو أخيها أو أمها مفسدة عليه في أسرته.
أما الأجنبي فلا تأذن له بدخوله عليها، ولو أذن بذلك الزوج، لأنه إثم ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولا يُدخِل هو عليها من لا يخاف الله تعالى، فقد يخون بنظرة أو كلمة، ويشعل في البيت شرارة فتنة:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خَبَّب (922) خادمًا على أهلها، فليس منا (923) ، ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا " (924) .
__________
= وأبو داود (2659) ، والدارمي (2/149) ، وابن حبان (1313) ، والبيهقي (7/308) (وحسنه الألباني في " الإرواء " رقم (1999) (7/58) .
(922) خَببَ: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة الأولى، معناه: خدع وأفسد، لأن يحبب إليها كراهية الزوج.
(923) أي ليس على طريقتنا، ولا من العاملين بقوانين أحكام شريعتنا، وانظر: " فيض القدير " (6/123) .
(924) أخرجه الإمام أحمد (2/397) ، والبيهقي (8/13) ، وبنحوه أبو داود (5170) ، (2175) ، والحاكم (2/196) ، وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1319) ، وقال الألباني في إسناده: " هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم " اهـ. من " الصحيحة" رقم (324) .(2/389)
وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من حلف بالأمانة، ومن خَبَّبَ على امرئ زوجته أو مملوكته، فليس منا " (925) .
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والدخول على النساء"، قالوا: " يا رسول الله أرأيت الحمو؟ "، قال: " الحمو الموت " (926) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا " تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي " (927)) .
__________
(925) أخرجه الإمام أحمد (5/ 352) ، والحاكم (4/298) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبزار (1500- زوائد) ، وابن حبان (1318) ، وصححه المنذري في " الترغيب" (3/82) .
فائدة: تتعلق بحكم إفساد المرأة على زوجها:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا من أكبر الكبائر فإنه إذا كان الشارع نهى أن يخطب على خطبة أخيه، فكيف بمن يفسد امرأته أو أمته أو عبده، ويسعى في التفريق بينه وبينها حتى يتصل بها، وفي ذلك من الإثم ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يزد عليها، ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة، فإن التوبة - وإن أسقطت حق الله - فحق العبد باق، فإن ظلم الزوج بإفساد حليلته، والجناية على فراشه أعظم من ظلم أخذ ماله، بل لا يعدل عنده إلا سفك دمه) اهـ. كما نقله عنه المناوي في " الفيض" (5/385) .
ويكفى في التنفير عن هذا الجرم العظيم أن صاحبه يتلبس بفعل هو من أحب الأشياء إلى إبليس، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم، فيقول: " فعلت كذا وكذا "، فيقول: " ما صنعتَ شيئًا "، ثم يجيء أحدهم، فيقول: " ما تركتُه حتى فرقت بينه وبين امرأته "، فيُدنيه منه، ويقول: " نِعْمَ أنت، فيلتزمه " رواه مسلم وغيره.
(926) انظر تخريجه في " القسم الثالث " ص (47) .
(927) رواه الإمام أحمد (3/38) ، وأبو داود (4832) ، والترمذي (2397) ، والدارمي =(2/390)
ثانيًا: أن لا تخرج من بيته إلى مجتمعات الرجال، فتخالطهم في الحفلات أو السهرات العائلية، وغير العائلية، وفي الأسواق، ووسائل المواصلات، والمحلات التجارية، عن علي رضي الله عنه قال: " بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق، ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال! " (928) .
ثالثا: أن لا يعرضها للعنت فيطيل غيابه عنها، ولا يدفعها إلى الفسوق بمطالعة القصص الفاجرة والمجلات الخليعة، ولا يصطحبها إلى دور الملاهي والخيالة، ولا يسمعها أغاني الفحش والخنا، ولا يودع بيته جهاز " التلفاز " أو ما يسمى بـ " الفيديو " لترى مشاهدهما الآثمة، فإنهما من أعظم أسباب الفساد وتحطيم الأخلاق في هذا العصر، والناس عنهما في غفلة، بل هم فيهما على رغبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس، وهو يخرج بها إلى الفرج، وإلى أماكن الفساد، ويعاشر المفسدين، فإذا قيل له: " انتقل من هذا المسكن السوء "، فيقول: " أنا زوجها، ولي الحكم في امرأتي، ولى السكن، فهل له ذلك؟ ".
فأجاب: الحمد الله رب العالمين، ليس له أن يسكنها حيث شاء، ولا يخرجها إلى حيث شاء؛ بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها، ولا يخرج بها عند أهل الفجور، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين:
عقوبة على فجوره، بحسب ما فعل، وعقوبة على ترك صيانة زوجته
__________
= (2/103) والبغوي (13/ 69) ، والحاكم (4/128) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان (2049) ، وحسنه الألباني في " تحقيق المشكاة " (3/1397) .
(928) "المغني " (7/27) ، " الزواجر عن اقتراف الكبائر " (2/46) .(2/391)
وإخراجها إلى أماكن الفجور، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، والله أعلم) (929) .
(7) ومن حقها عليه أن لا يَتَخوّنها، ولا يتلمس عثراتها وذلك بأن يترك التعرض لما يوجب سوء الظن بها، وقد دل على ذلك أحاديث: منها: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجلُ أهلَه طُروقًا (930) ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرقَنَّ أهله ليلًا، (931) وعن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلًا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية " (932) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم، أو يطلب عثراتهم " (933) ، وعنه أيضًا بلفظ: " لا
__________
(929) "مجموع الفتاوى" (32/264 - 265) .
(930) رواه البخاري رقم (5243) في النكاح: باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة، ومسلم رقم (715) في الإمارة، وأبو داود رقم (2776) ، والطروق: المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة، ويقال لكل آت بالليل: طارق، وأصل الطروق: الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق لأن المارة تدقها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقا لأنه يحتاج غالبا إلى دْق الباب، وقيل: بل هو من السكون، فلما كان الليل يسكَن فيه سمى الآتي فيه طارقًا.
(931) رواه البخاري (9/296، 297) في النكاح، والحج، والإمام أحمد (3/396) ، وأبو نعيم في " الحلية " (8/262) .
(932) رواه البخاري (3/493) في العمرة: باب الدخول بالعشي، ومسلم في الإمارة باب (56) رقم (180) - واللفظ له -، وأحمد (3/125، 204، 240) .
(933) رواه الإمام أحمد (1/175) ، (3/302) ، وابن أبي شيبة (12/523) ، وأبو نعيم في " الحلية " (8/315) ، (9/26) .(2/392)
تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم " (934) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قوله في طريق عاصم عن الشعبي عن جابر: " إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلًا، التقييد فيه بطول الغيبة يشير إلى أن علة النهي إنما توجه حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلا نهارا، ويرجع ليلًا، لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة، كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالبا ما يكره: إما أن يجد أهله على غير أهبَة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لجابر حين قدم معه من سفر: " إذا دخلت ليلًا (935) ، فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغِيبة، وتمتشطَ الشعِثة "، ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة، لئلا يطلع منها على ما يكون سببا لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرِّض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: " أن يتخونهم، ويتطلب عثراتهم " (936) .
__________
(934) أخرجه الإمام أحمد (9/309) ، والترمذي رقم (1172) في الرضاع، (2713) في الاستئذان.
(935) وفي رواية أنه قال: " أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا - أي عشاء - حتى تستحد المغيبة، الحديث رواه البخاري رقما (5245) ، (5246) في النكاح، ففي هذا: الأمر بالدخول ليلا، وقد ورد النهي عن الدخول ليلا، ويُجْمَعُ بينهما - كما قال الحافظ ابن حجر: (بأن المراد بالأمر بالدخول: في أول الليل، وبالنهي: الدخول في أثنائه، أو الأمر بالدخول ليلا لمن علم أهله بقدومه، فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك) اهـ. انظر " فتح الباري" (9/342) ، وفي سنن أبي داود رقم (2777) بلفظ: " إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أولَ الليل ".
(936) وفي معناه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين =(2/393)
فعلى هذا من علم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا مثلًا، لا يتناوله هذا النهى، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه، ثم ساق من حديث ابن عمر قال:
(قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة، فقال: " لا تطرقوا النساء "، وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون) ، قال ابن أبي جمرة - نفع الله به -: " فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث، قال: وقد خالف بعضهم فرأى عند أهله رجلًا، فعوقب بذلك على مخالفته " اهـ، وأشار بذلك إلى حديث أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرق النساء ليلًا، فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره "، وأخرجه من حديث ابن عباس نحوه، وقال فيه: " فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا "، ووقع في حديث محارب عن جابر: " أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا، وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلًا، فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا " أخرجه أبو عوانة في صحيحه.
وفي الحديث الحث على التواد والتحاب خصوصًا بين الزوجين، لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفي عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك نهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى) (937) اهـ.
__________
= أفسدتهم أو كدتَ أن تفسدهم) رواه أبو داود، وصححه النووي، والمناوي كما في " فيض القدير" (1/559) .
(937) "فتح الباري" (9/340 - 341) .(2/394)
(8) ومن أعظم حقوقها المعاشرة بالمعروف
" إني أحَرجُ عليكم حَق الضعيفين:
اليتيم والمرأة " (938)
(حديث شريف)
توارد القول الكريم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في محاسنة الزوجات وموادعتهن، ولبُسهن على بعض ما فيهن، مما يفيض رفقًا ورحمة، ورعاية وعناية، وحسبك أن الله عز وجل جعل المرأة من آيات الله ومنته على الرجل، وجعل المودة والرحمة والألفة عقدة الصلة بينهما، فذلك حيث يقول جل وعلا: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجَا لتسكنوا إليها وجل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ولقد كفى وشفى في الأمر بحسن المعاشرة آية جليلة جامعة، بها تنزل الوحي الإلهي يتلى في المحاريب، ويتقرب به المتعبدون إلى الله سبحانه، فمن ذا الذي يستمع قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا) (النساء: 19) ثم يجفو امرأته، أو يتسخطها بعد ذلك؟
قلب بين أعطاف هذه الآية بصرك، واملأ منها يدك، ورَو من معينها قلبك، ثم انظر هل تقيم على وجدانك، أو تقر على عاطفتك، فيما تكره من امرأتك؟ وما ظنك بأمر تكرهه ثم تظل على لجاجك فيه بعد أن مناك الله بالخير الكثير من ورائه؟ وأين ذلك من حسن الثقة وتمام الإيمان بالله؟
__________
(938) أخرجه ابن ماجه (3678) ، وابن حبان (1266) ، والحاكم (1/63) ، (4/128) ، وأحمد (2/439) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (1015) .(2/395)
ولقد شَبه الله تعالى حسن القيام على الزوجة بحسن القيام على الوالدين، فقال تعالى في حق الوالدين: (وصاحبهما في الدنيا معروفًا) ، وقال تعالى في حق الزوجات: (وعاشروهن بالمعروف) .
وقوله تعالى: (وعاشروهن) قال السدي: " وخالطوهن "، وقال ابن جرير: (كذا قال محمد بن الحسين، وإنما هو " خالقوهن ") (939) ، (بالمعروف) وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل.
قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) :
قال القرطبي: (أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة، والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عِشْرة، زوجًا كان أو وليًّا، ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: (فإمساك بمعروف) ، وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبِس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون مُنطَلِقًا في القول لا فَظا ولا غليظًا ولا مُظهرًا ميلًا إلى غيرها) (940) اهـ.
وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كُنَّ ممن لا يخدمن أنفسهن، قال ابن كثير: ((وعاشروهن بالمعروف) أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيآتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) الآية) - البقرة (228) .
قوله تعالى: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعلَ الله فيه خيرًا كثيرًا) (النساء: 19) قال القرطبي رحمه الله: ((فإن كرهتموهن) أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز؛
__________
(939) " تفسير الطبري" (4/313) .
(940) " الجامع لأحكام القرآن " (5/97) .(2/396)
فهذا يُنْدَبُ فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين ... قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَفْرَك مؤمن مؤمنةً إن كرِه منها خُلقًا رضي منها آخر " أو قال: " غيره"، المعنى: أي لا يُيْغِضها بغضًا كُليا يحمله على فراقها، أي لا ينبغي ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها، ويتغاضى عما يكره لما يحب.
وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: " إن الرجل ليستخير الله تعالى فَيُخار له، فيسخط على ربه عز وجل، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خِيرَ له.
وذكر ابن العربي بسنده عن أبي بكر بن عبد الرحمن: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة، وكانت له زوجة سيئة العشرة، وكانت تُقَصر في حقوقه، وتؤذيه بلسانها؛ فيقال له في أمرها ويُعذَلُ بالصبر عليها، فكان يقول: " أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بُعثت عقوبة على ذنبي، فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها " قال علماؤنا: في هذا - أي ما تقدم من الآية والحديث - دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة) (941) اهـ.
(قوله تعالى: (فإن كرهتموهن) أي إن كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قِبَلهن ما يوجب ذلك (فعسى أن تكرهوا شيئا) كالصحبة والإمساك (ويجعل الله فيه خيرًا كثيراً) كالولد والألفة التي تكون بعد الكراهة، والمعنى: فإن كرهتموهن
__________
(941) "الجامع لأحكام القرآن" (5/98) بتصرف.(2/397)
فاصبروا عليهن، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فلعل (لكم) فيما تكرهونه (خيرًا كثيرًا) فإن النفس ربما تكره ما يحمد، وتحب ما هو بخلافه، فليكن مطمع النظر ما فيه خير وصلاح، دون ما تهوى الأنفس، ونكر" شيئًا " و " خيرًا " ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة، وتعميمًا للإرشاد، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه) (942) اهـ.
[ (وعن ابن عباس في قوله تعالى: (ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا) قال: " الخير الكثير أن يعطف عليها فيُرزق الرجلُ ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا "] .
(وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: فإذا وقع بين الرجل وبين امرأته كلام، فلا يعجل بطلاقها وليتأن بها، وليصبر، فلعل الله سيريه منها ما يحب، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: عسى أن يمسكها وهو لها كاره، فيجعل الله فيها خيرا كثيرًا) ] (943) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: [وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها، ونبهت على معنيين: أحدهما: أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح، فرب مكروه عاد محمودًا، ومحمودٍ عاد مذموما، والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبًا ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما يُحب، وأنشدوا في هذا المعنى:
ومن لم يُغْمِضْ عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتِبُ
ومن يتتبع جاهدًا كل عَثرَة ... يَجِدْها، ولا يسلمُ له الدَّهرَ صاحبُ] (944)
__________
(942) "روح المعاني" (4/243) .
(943) "الدر المنثور" (2/133) .
(944) "زاد المسير" (2/42) .(2/398)
ومما يرمي إلى ذلك الغرض الجليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَفْرَكُ مؤمن مؤمنةً، إن كره منها خلقًا، رضي منها آخر - أو قال: غيره " (945) .
والفِرك: هو بغض أحد الزوجين الآخر، (والفارك هو المبغض لزوجته، ومن هذا المعنى قول الرضى:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبدًا، يمانع عاشقًا معشوق
فصبرت حتى نلتهن ولم أقل ... ضجرًا دواء الفارك التطليق) (946)
فلا ينبغي للرجل أن يبغضها إذا رأى منها ما يكره، لأنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر، فيقابل هذا بذاك (947) ، وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه قال لرجل طلق امرأته: " لم طلقتها؟ "، قال: " لا أحبها "، فقال: " أوَ كل البيوت بني على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟ ".
وعن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة خُلِقت من ضلع، وإنك إن تُرِد إقامة الضلع تكسرها، فدارِها، تَعِشْ بها " (948) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة
__________
(945) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسلم رقم (63) في الرضاع: باب الوصية بالنساء.
(946) "فتح المنعم" (3/264) .
(947) "شرح الأبي لصحيح مسلم" (4/100) ، وقيل: (الحديث خبر لا نهي، أي: لا يبغض الرجل بغضًا تاما، ويعني أن بغض الرجال للنساء بخلاف بغض النساء للرجال اللاتي يكفرن العشير، فإنها إذا رأت منه ما تكره قالت: " ما رأيت منك خيرًا قط"، ألا تراه كيف قال: " إن كره منها خلقًا رضي منها آخر؟ ".
(948) رواه الإمام أحمد (5/8) ، وابن حبان (1308) ، والحاكم (4/174) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (2/163) .(2/399)