وأدرك الإسلام واختلف في إسلامه ولكن لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يتداوى عنده لم يكن مسلماً حينذاك.
وقال الشيخ ابن مفلح الحنبلي أيضاً: [وذكر أبو الخطاب في حديثه صلح الحديبية وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عيناً له من خزاعة وقبوله خبره، إن فيه دليلاً على جواز قبول المتطبب الكافر فيما يخبر به عن صفة العلة ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه وكان غير مظنون به الريبة] الآداب الشرعية 2/442.
وقال الرحيباني الحنبلي: [وسن فطر وكره صوم (لخوف مريض وحادث به في يومه ضرراً بزيادته أو طوله أي المرض ولو بقول طبيب غير مسلم ثقة] مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى.
وقال الشيخ النفراوي المالكي: [الخوف المجوز للفطر هو المستند صاحبه إلى قول طبيب ثقة حاذق أو لتجربة من نفسه] الفواكه الدواني.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [ذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون الإِسلام، وقال: متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً. واستدلُّوا لذلك: بأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بقول الكافر حال ائتمانه؛ لأنه وَثِقَ به فقد استأجرَ في الهجرةِ رَجُلاً مشركاً مِن بني الدِّيلِ، يُقال له: عبدُ الله بن أُريقط ليدلَّه على الطريق مِن مكَّة إلى المدينة، مع أنَّ الحالَ خطرةٌ جداً أن يعتمد فيها على الكافر، لأن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر حتى جعلوا لمن جاء بهما مئتي بعير، ولكن لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل أمين، وإن كان(12/156)
كافراً ائتمنه ليدله على الطريق. فأخذ العلماء القائلون بأن المدار على الثقة أنه يقبل قول الطبيب الكافر إذا كان ثقة، ونحن نعلم أن من الأطباء الكفار من يحافظون على صناعتهم ومهنتهم أكثر مما يحافظ عليها بعض المسلمين لا تقرباً إلى الله أو رجاء لثوابه، ولكن حفاظاً على سمعتهم وشرفهم. فإذا قال طبيب غير مسلم ممن يوثق بقوله لأمانته وحذقه: إنه يضرك أن تصلّي قائماً ولا بد أن تصلّي مستلقياً فله أن يعمل بقوله، ومن ذلك أيضاً لو قال له الطبيب الثقة: إن الصوم يضرك أو يؤخر البرء عنك فله أن يفطر بقوله. وهذا هو القول الراجح لقوة دليله وتعليله] الشرح الممتع.
وخلاصة الأمر أنه يقبل قول الطبيب المسلم الثقة المتخصص في الأعذار التي تبيح الفطر في رمضان وكذلك يقبل قول الطبيب غير المسلم المتخصص فيجوز للمريض أن يأخذ بقولهما فيفطر في رمضان، ولكن يجب الحذر من الأخذ بأقوال الأطباء المستهترين بالدين ممن لا يصلون ولا يصومون فهؤلاء ليسوا من الثقات فلا تقبل أقوالهم في المسائل الدينية.
- - -(12/157)
قضاء رمضان
تقول السائلة: إنها تبلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة ولم تقض ما أفطرته من شهور رمضان السابقة بسبب الحيض، لأنها لم تكن تعلم بوجوب القضاء عليها والآن قد عرفت بوجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان فماذا تصنع؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الحائض لا تصوم لأن من شروط الصيام الطهارة من الحيض وقد كنت أظن أن هذا الحكم معروف بين النساء ولكنني علمت من خلال أسئلة بعض النساء أنهن كن يصمن حال الحيض ولا يعرفن أنه لا يجوز للحائض الصوم، ومما يدل على منع الحائض من الصيام ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ... أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي أن يعلم ثانياً أن العلماء قد اتفقوا على وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان بسبب الحيض، فقد ورد في الحديث عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) رواه البخاري ومسلم. ومعاذة هي بنت عبد الله العدوية، وهي معدودة في فقهاء التابعين قولها: (أحرورية أنت؟) الحروري منسوب إلى حرورا، بلدة على ميلين من(12/158)
الكوفة، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي رضي الله عنه بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنسبة إليها وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دل عليه القرآن ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً. تحفة الأحوذي 1/345.
وينبغي أن يعلم ثالثاً أن العذر بالجهل ليس مقبولاً على إطلاقه عند أهل العلم بل المسألة فيها تفصيل فهنالك أمور من الدين، العلم بها فرض عين ولا يعذر المسلم بجهلها، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ، رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/140. والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف(12/159)
وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42. وقال الإمام النووي: [ ... فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها] المجموع 1/42.
فهذا النوع من العلم هو الذي لا يسع المسلم أن يجهله، وهو علم العامة كما قال الإمام الشافعي: [قال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ. قال: ومِثْل ماذا؟ قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه. وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا] الرسالة ص 357-359.(12/160)
وقال جلال الدين السيوطي: [كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم] الموسوعة الفقهية الكويتية 16/199.
وما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في هذا القسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة فلم يعتد بصلاته فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم.
ويدخل في هذا القسم وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان فهذا الحكم لا تعذر المرأة بالجهل به بشكل عام ما دامت تعيش في ديار الإسلام. وهنالك حالات يعذر فيها المسلم بالجهل كمن يجهل دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد كما ورد في الحديث عن(12/161)
أبي هريرة أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري ومسلم، وكما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أحرم في ملابس مطيبة فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق أو قال أثر صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ... قال أين السائل عن العمرة اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على المرأة السائلة أن تقضي جميع الأيام التي أفطرتها من رمضانات سابقة وتبقى ذمتها مشغولة بذلك حتى تقضيها ولا فدية عليها لأن الراجح من أقوال أهل العلم فيمن أخر قضاء ما عليه من رمضان سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر وجوب القضاء فقط ولا تجب عليه الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 184. وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الحنفية ونقل عن إسحاق بن راهويه والحسن البصري والنخعي واختاره الإمام الشوكاني، وإن كان جمهور الفقهاء على خلافه، قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية(12/162)
قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] نيل الأوطار 4/263.
وخلاصة الأمر أن المرأة الحائض لا يجزئ منها الصيام ولا يجوز لها الإقدام عليه أصلاً ويلزمها قضاء ما أفطرته من رمضان، وأن المسلم لا يعذر بالجهل في الأحكام المعروفة والمشهورة بين المسلمين ويعذر بالجهل بالمسائل الفرعية التفصيلية.
- - -
البرامج التلفزيونية في رمضان
يقول السائل: ما قولكم فيما تقدمه كثير من المحطات الفضائية في رمضان من مسلسلات دينية وبرامج ترفيهية حيث يحرص كثير من الناس على متابعتها بحجة الاستفادة العلمية أو الترويح عن النفس، أفيدونا؟
الجواب: إن معظم وسائل الإعلام المعاصر المسموعة والمرئية والمقروءة تقوم بدور هدام في المجتمع المسلم وخاصة المحطات الفضائية التي ترفع راية محاربة البقية الباقية من القيم والأخلاق المستمدة من ديننا وقيمنا وعادتنا الصحيحة الشريفة. إن ما يقدم للناس من عري فاضح ورقص وقح واختلاط ماجن باسم الفن لهو الفاحشة بعينها فأي فن هذا الذي يقدم فيما يعرف (بالفيديو كليب) !؟ عشرات الفتيات شبه عاريات وعشرات المخنثين يتراقصون ويغنون بأجسادهم لا بأصواتهم، وأما ما يسمونه مسلسلات دينية(12/163)
فإن الدين من معظمها براء وليس لها حظ من الدين إلا في الاسم، فمتى كان الفسقة والفجرة يقدمون الدين للناس!؟ وأما المسلسلات التاريخية فهي تشويه لحقائق التاريخ وتشويه للصور المضيئة لقادتنا وأئمتنا كما هو الحال في مسلسل تعرضه إحدى الفضائيات عن الخليفة العباسي هارون الرشيد وابنيه الأمين والمأمون والذي تقدم فيه خليفة المسلمين الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً على أنه زير نساء سكير يقضي وقته مع الغلمان والجواري وغير ذلك من التشويه المتعمد، إن هذا لشيء عجاب، وأما البرامج الترفيهية فإنها تدعو إلى الخنا والفجور من خلال تقديم الفنانات والممثلات والراقصات وأشباههن من قليلات الأدب والحياء [ففي إحدى القنوات والتي عرضت برنامجاً بعد الإفطار في شهر رمضان المبارك حيث يستضيف الممثلين والممثلات، استضاف في إحدى حلقاته إحدى الراقصات، فسألتها مقدمة البرنامج: كيف وصلت إلى ما وصلت له من مجد؟! فأجابت هذه الراقصة: أنا هربت من أسرتي وعمري 12 سنة ومارست حياتي! حتى وصلت وأصبحت فلانة صاحبة الشهرة والملايين!! ثمَّ سألتها المذيعة: أنت تزوجت 3 مرات رسمياً و4 عرفياً؟ فقالت: لا بل 4 رسمياً و7 عرفياً!!
هكذا تقدم بعض فضائياتنا العربية قليلات الحياء والأدب والدين في شهر رمضان ليتحدثوا عن مجدهن الملطَّخ الذي مارسوا فيه حياتهن بكلِّ حريَّة!
ـ وفي برنامج آخر في شهر رمضان سئلت إحدى الفاسقات عن عدد مرَّات الزواج؟ فقالت أربع رسمياً أمَّا العرفي فلا أعرف له عدداً، فسألوها لم كل هذا العدد؟ يبدو أنَّ العيب في الرجال؟! فقالت: لا العيب في نظام الزواج(12/164)
لأنَّه نظام بالٍ ومتخلِّف عفاه الزمن!!] مجلة البيان عدد 141ص 39. هذا غيض من فيض مما تقدمه المحطات الفضائية في رمضان وأما في غير رمضان فحدث ولا حرج!؟ إن هؤلاء الفسقة ينطبق عليهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. وإن هؤلاء المفسدين يجاهرون بفسادهم وإفسادهم في رمضان بل في أعظم أوقاته وأكثرها بركة كقبيل الإفطار وبعده وفي وقت صلاة التراويح ووقت صلاة القيام ولا يستحون من الله ولا من الناس مع أن فساق الماضي كان عندهم قليل من الحياء [فهذا أبو نواس الشاعر الماجن كان يستحي من إظهار المعصية في شهر رمضان ويقول:
منع الصوم عقاراً وذوي اللهو فغارا
وبقينا في سجون الصوم للهم أسارى
غير أنَّا سنداري فيه ما ليس يدارى]
إن واجب المسلمين أن يحذروا أعوان الشيطان الذين يحاولون بشتى السبل والوسائل سرقة شهر رمضان منا ويحاولون إفساد هذه العبادة العظيمة على الناس ويفرغونها من مضامينها الإيمانية عبر تقديم مسلسلات وتمثيليات وفوازير ومسابقات ونحوها. إن واجبنا أن نحيي هذا الشهر الفضيل كما أراده الله عز وجل وكما أحياه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وكما أحياه سلف هذه الأمة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة(12/165)
البقرة الآية 179. "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى.
وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم يصوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سآبه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سآبك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه الشيخ الألباني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الشيخ الألباني. فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الصوم لا يقصد به مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من صوم الجوارح عن المعاصي، فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ومنها متابعة ما أشرت إليه من تمثيليات ومسلسلات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه(12/166)
وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله، كما أشار إلى ذلك الحديث الأخير، وله رواية أخرى وهي: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة. وقد فهم السلف الصالح هذه المعاني الجليلة فقال بعضهم: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما ... فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
وعلى المسلم أن يشغل وقته في رمضان بأنواع الطاعات فيحافظ على الصلوات الخمس في الجماعات ويحافظ على صلاة التراويح ويقوي صلته بكتاب الله عز وجل فرمضان شهر القرآن قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} سورة البقرة الآية 185، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن في رمضان كما ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في(12/167)
كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي الانتباه إلى تدبر الآيات والتفكر فيها أثناء القراءة وليس المقصود هو كثرة القراءة وسرعتها وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال: [إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة - والمفصل هو السبع السابع من القرآن الكريم ويبدأ بسورة الحجرات إلى سورة الناس - فقال ابن مسعود: أهذّاً كهذِّ الشعر؟! إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع] وكان ابن مسعود يقول: [إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأصغ لها سمعك، فإنه خير تُؤْمَر به أو شر تُصْرَف عنه] . وقال الحسن البصري: [أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً] .
وخلاصة الأمر أن على المسلم أن يصرف جميع وقته في طاعة الله عز وجل وبالذات في رمضان وأن لا يضيع وقته في متابعة ما يقدمه شياطين الإنس في الفضائيات وغيرها من فساد وانحلال ومن فحشاء ومنكر.
- - -(12/168)
الحج والأضحية والنذور(12/169)
أيهما أولى تزويج الابن أم حج الفريضة؟
يقول السائل: إن لديه مبلغاً من المال ويريد الحج به ولكن زوجته تقول إن تزويج ابنهما أوجب، لأن الولد غير مستطيع للزواج بنفسه، فأيهما أولى أن يؤدي فريضة الحج أم يزوج ولده، أفيدونا؟،
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الحج فريضة العمر على المسلم المستطيع، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} سورة آل عمران الآية 97. وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على وجوب الحج على المستطيع. وفي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} إشارة إلى أن الأصل في المسلم أنه لا يترك الحج مع القدرة عليه لأنه سبحانه وتعالى جعل مقابل الفرض الكفر، فترك الحج ليس من شأن المسلم، بل هو من شأن الكافر. انظر الموسوعة الفقهية 17/23. والواجب على المسلم أن يبادر للحج إن كان مستطيعاً لأن الحج واجب على الفور على قول جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا قال أبو حنيفة ومالك] المغني 3/212. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} سورة البقرة 196، قال القرطبي: [وروى قتادة عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية فذلك(12/171)
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قلت - القرطبي - هذا خرج مخرج التلغيط ... وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه] تفسير القرطبي 4/153-154.
ويدل على الفورية قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} سورة البقرة الآية 148.
ويدل على وجوب الحج على الفور ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي، وقال الشيخ الألباني حديث حسن، كما في صحيح سنن أبي داود 1/325. وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس عن الفضل رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/147.
وعن عبد الرحمن بن غُنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً. ذكره ابن كثير وقال: هذا إسناد صحيح إلى عمر. تفسير ابن كثير 2/97.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جِدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) رواه سعيد بن منصور في سننه.(12/172)
إذا تقرر أن الحج واجب على الفور على المستطيع فإن أداء المسلم لحج الفريضة مقدم على تزويج ابنه لأن تزويج الابن ليس واجباً على أبيه كما هو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية، بل هو أمر مندوب إليه، وخاصة إذا كان الأب موسراً فينبغي أن يساعد ابنه في الزواج، قال ابن عرفة المالكي: [نفقة الابن تسقط ببلوغه] مواهب الجليل للحطاب.
وقال الإمام النووي: [لا يلزم الأب إعفاف الابن] روضة الطالبين.
والمطلوب من الابن الفقير الذي لا يستطيع الزواج بنفسه أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله كما قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} سورة النور الآية 33.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم استطاعة الزواج لمن أراد الزواج استطاعة ذاتية ولم يجعلها استطاعة بغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) رواه مسلم. وأما ما يذكره بعض الناس من الحديث الوارد في أن من حق الابن على أبيه أن يزوجه ولفظه (إن من حق الولد على والده أن يعلمه الكتابة وأن يحسن اسمه وأن يزوجه إذا بلغ) وفي رواية أخرى (ويزوجه إن أدرك) ، فهذا الحديث ضعيف جداً عند أهل الحديث قال الشيخ العلامة الألباني: [أخرجه الأصبهاني في "الترغيب" (ق62/ 2) ، والديلمي (2/ 86-87) من طريق أبي نعيم معلقاً(12/173)
عنه عن أبي هارون السندي عن الحسن ابن عمارة عن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة مرفوعاً.
قلت -أي الألباني-: وهذا إسناد ضعيف جداً. الحسن بن عمارة متروك. والحديث عزاه السيوطي لأبي نعيم أيضاً في "الحلية"، لم أره في فهرسه. والله أعلم. ونحوه ما رواه الأصبهاني في "الترغيب" (62/2) من طريق عبد الله بن عبد العزيز قال: أخبرني أبي عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "إن من حق الولد على ولده أن يحسن أدبه، وأن يحسن اسمه، وأن يعظه (وفي رواية: أن يفقهه) إذا بلغ". وعبد الله هو ابن عبد العزيز بن أبي رواد، قال ابن الجنيد: "لا يساوي شيئاً، يحدث بأحاديث كذب". وروى سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أخيه عبد الله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " إن من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، وأن يحسن أدبه". أخرجه البزار (2/411/1984) وقال: "تفرد به عبد الله بن سعيد، ولم يتابع عليه". قلت: وهو متروك؛ كما في "المجمع" (8/47) . وأخوه سعد بن سعيد لين الحديث، كما في "التقريب". ووقع في رواية محمد بن مخلد الدوري في "جزئه": (عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد) كما في "المداوي" (2/ 547) للشيخ الغماري، من طريق علي بن شاذان عنه. وقال الشيخ: "علي بن شاذان ضعفه الدارقطني"، فقوله: (عبد المجيد) مكان (عبد الله) خطأ منه أو من النساخ، أو هو العكس. والله أعلم] . سلسلة الأحاديث الضعيفة 7/491-492.(12/174)
وقد ورد الحديث المذكور من كلام سفيان الثوري كما ذكره أبو عبد الله المروزي في كتاب البر والصلة، قال حدثنا الحسين قال أخبرنا ابن المبارك قال كان سفيان الثوري يقول: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه وأن يزوجه إذا بلغ وأن يحسن أدبه) قال محقق الكتاب د. محمد سعيد بخاري. رجال إسناده ثقات.
وخلاصة الأمر أن الحج واجب على الفور في حق المستطيع، ولا يجب على الوالد أن يزوج ولده، بل ذلك مندوب إليه، وحج الفريضة مقدم على تزويج الولد.
- - -(12/175)
أحكام تتعلق بالتوكيل في الأضحية
يقول السائل: يوكل بعض الناس لجان الزكاة في الأضاحي، فتتولى شراءها وذبحها وتوزيعها ولكن بعض هذه اللجان تتساهل في ذلك، فيقع خلل في الأحكام الشرعية للأضاحي، فماذا تقولون للقائمين على هذه اللجان، أفيدونا؟
الجواب: قال أكثر العلماء الأضحيةُ سنةٌ مؤكدةٌ في حق الموسر، وبه قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقاله جماعة من التابعين وبه قال مالك في القول المشهور عنه والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد من الحنفية وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود وابن حزم الظاهريان وابن المنذر وغيرهم. وهذا أرجح قولي العلماء في حكم الأضحية. والأضحية شعيرة من شعائر الله وهي واجبة التعظيم كما قال جل جلاله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ومن ضمن تعظيمها ذبحها وفق الأحكام الشرعية الواردة فيها ومن ذلك: أن تتحقق فيها الشروط الشرعية المقررة فلا بد أن تكون الأضحية من الأنعام فقد اتفق جمهور أهل العلم بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة على أنه يشترط في الأضحية أن تكون من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يصح في الأضاحي شيء من الحيوان الوحشي، كالغزال، ولا من الطيور كالديك، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا(12/176)
اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سورة الحج الآية 34. قال الإمام القرطبي: [والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم] تفسير القرطبي 11/44.
ويدل على ذلك أيضاً أنه لم تنقل التضحية بغير الأنعام عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا بد أن تكون الأضحية قد بلغت سن التضحية فقد اتفق جمهور أهل العلم على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني فما فوقه، ويجزئ من الضأن الجذع فما فوقه، ويدل على ذلك ما ورد في حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنةً إلا أن يَعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال] شرح النووي على صحيح مسلم 5/101-102. والجذع من الضأن ما مضى عليه أكثر العام، أي مضى عليه ستة أشهر فأكثر، وخاصة إذا كان عظيماً بحيث لو خلط بالثنيات يشتبه على الناظر من بُعد. وأما الثني من الضأن والمعز فما أتم سنة، والثني من البقر ما أتم سنتين، والثني من الإبل ما أتم خمس سنين، ويجب أن يعلم أن الالتزام بالسن المقرر شرعاً في الأضحية أمر مطلوب شرعاً، ولا تجوز مخالفته بالنقص عنه، وتجوز الزيادة عليه فلا تصح التضحية بالعجول المسمنة مهما بلغ وزنها ولا بد من الالتزام بالسن المقرر عند الفقهاء في البقر وهو سنتان، ولا يصح النقص عنه.(12/177)
ولا بد أن تكون الأضحية سليمة من العيوب المانعة من صحتها فقد ثبت في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي) رواه أصحاب السنن الأربعة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 4/361.
قال الحافظ ابن عبد البر: [أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها لا أعلم خلافاً بين العلماء فيها. ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز، وإذا لم تجز العرجاء فالمقطوعة الرجل أو التي لا رِجل لها المقعدة أحرى ألا تجوز، وهذا كله واضح لا خلاف فيه] فتح المالك 7/6.
فالأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن تكون الأضحية، طيبة، سمينة، وخالية من العيوب التي تنقص من لحمها وشحمها.
ولا بد أن تذبح الأضحية بعد دخول الوقت المقرر شرعاً لذبحها وهو بعد طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة، وبعد دخول وقت صلاة الضحى، ومُضي زمان من الوقت يسع صلاة ركعتين وخطبتين خفيفتين، لا فرق في ذلك بين أهل الحضر والبوادي. وهذا قول الشافعية والحنابلة والظاهرية وهو(12/178)
أرجح أقوال أهل العلم في المسألة ويدل على ذلك ما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء) رواه البخاري ومسلم، وجاء في رواية أخرى: (لا يضحين أحدٌ حتى يصلي) رواه مسلم. وينتهي وقت ذبح الأضحية بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، أي أن أيام النسك أربعة، يوم العيد وثلاثة أيام بعده. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أيام التشريق ذبح) رواه أحمد وابن حبان وصححه، وصححه أيضاً العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/834.
وبعد هذا البيان الموجز أقول للقائمين على لجان الزكاة إنكم وكلاء عن الناس الذين وكلوكم بالأضاحي، والأصل في الوكيل الأمانة فأنتم أمناء على هذه الأضاحي، فما كان فيها من نقص أو خلل فأنتم الذين تتحملونه أمام الله عز وجل، فاحذروا من الإخلال بشروط الأضحية وافحصوها واحدة واحدة، فقد ثبت في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذنين) . رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح؛ ثم قال قوله: أن نستشرف، أي أن ننظر صحيحاً والمقصود(12/179)
أن ننظر إليهما ونتأمل في سلامتهما من آفة تكون بهما. سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/68.
واحذروا من ذبح الأضاحي قبل الوقت المقرر شرعاً أو بعده فإن ذلك لا يجزئ. واحذروا كذلك من التلاعب في توزيعها حسب أهوائكم وانتمائكم.
وخلاصة الأمر أن الأضحية عبادة وقربة إلى الله عز وجل، ومعلوم أن الأصل في العبادات هو التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من تحقق الأحكام الشرعية في الأضحية وعلى كل من وكل بأضحية غيره أن يتحقق من توفر الشروط الشرعية فيها.
- - -(12/180)
استبدال المنذور بخير منه
يقول السائل: إنه نذر أن يذبح عجلاً لله تعالى ويوزعه على الفقراء فهل يجوز له أن يستبدله بخروف لأن لحم الخروف أطيب، أفيدونا؟
الجواب: النذر عند العلماء هو أن يلزم المكلف نفسه بقربة لم يلزمه بها الشارع الحكيم، والوفاء بالنذر واجب لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري وغيره. والأصل أن الناذر يفي بنذره كما نذر فمن نذر ذبح شاة فيلزمه أن يذبح شاة، ومن نذر صلاة لزمه أن يصليها، ومن نذر مبلغاً من المال لزمه إخراجه وهكذا، ومن أهل العلم من يرى أنه يجوز استبدال المنذور بأفضل منه أو استبداله لمصلحة راجحة وهو قول وجيه جداً وبه قال فقهاء الحنفية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [مسألة: في الواقف والناذر يوقف شيئاً؛ ثم يرى غيره أحظ للموقوف عليه منه هل يجوز إبداله؛ كما في الأضحية؟ فأجاب: وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه كما في إبدال الهدي: فهذا نوعان: أحدهما: أن الإبدال للحاجة مثل أن يتعطل فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه: كالفرس الحبيس للغزو إذا لم يمكن الانتفاع به للغزو فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا خرب ما حوله فتنقل آلته إلى مكان آخر. أو يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه أو لا يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف فيباع ويشترى(12/181)
بثمنه ما يقوم مقامه. وإذا خرب ولم تمكن عمارته فتباع العرصة، ويشترى بثمنها ما يقوم مقامها: فهذا كله جائز؛ فإن الأصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه.
والثاني: الإبدال لمصلحة راجحة مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه، وبيع الأول: فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر؛ وصار الأول سوقاً للتمارين فهذا إبدال لعرصة المسجد. وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان بنيا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بناءً غير بنائه الأول وزادا فيه؛ وكذلك المسجد الحرام فقد ثبت في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض؛ ولجعلت لها بابين باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرج الناس منه) . فلولا المعارض الراجح لكان النبي صلى الله عليه وسلم يغير بناء الكعبة. فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة؛ لأجل المصلحة الراجحة ... لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة] . مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/252-253. ومما يدل على جواز استبدال المنذور بأفضل منه ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن امرأة اشتكت شكوى فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت(12/182)
ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها فأخبرتها ذلك فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة) رواه مسلم. ويدل عليه ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله: إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه فقال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه فقال: شأنك إذن) رواه أبو داود والحاكم وصححه، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 8/222، وورد في رواية أخرى عند الإمام أحمد في المسند (عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف وعن رجال من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس قريب من المقام فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال يا نبي الله إني نذرت لئن فتح الله للنبي والمؤمنين مكة لأصلين في بيت المقدس وإني وجدت رجلاً من أهل الشام هاهنا في قريش مقبلاً معي ومدبراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هاهنا فصل فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا فصل ثم قال الرابعة مقالته هذه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فصل فيه فوالذي بعث محمداً بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس) ، قال الشوكاني: [قوله: (صل ههنا) فيه دليل على أن من نذر بصلاة أو صدقة أو نحوهما في مكان ليس(12/183)
بأفضل من مكان الناذر فإنه لا يجب عليه الوفاء بإيقاع المنذور به في ذلك المكان بل يكون الوفاء بالفعل في مكان الناذر وقد تقدم أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناذر بأن ينحر ببوانة يفي بنذره بعد أن سأله هل كانت كذا هل كانت كذا فدل ذلك على أنه يتعين مكان النذر ما لم يكن معصية ولكن الجمع بين ما هنا وما هناك أن المكان لا يتعين حتماً بل يجوز فعل المنذور به في غيره فيكون ما هنا بياناً للجواز ويمكن الجمع بأنه يتعين مكان النذر إذا كان مساوياً للمكان الذي فيه الناذر أو أفضل منه لا إذا كان المكان الذي فيه الناذر فوقه في الفضيلة ويشعر بهذا ما في حديث ميمونة من تعليل ما أفتت به ببيان أفضلية المكان الذي فيه الناذرة في الشيء المنذور به وهو الصلاة] نيل الأوطار 8/285-286.
ويدل لذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي بن كعب قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً، فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا - ناقة - ابنة مخاض، فقلت له: أدِّ ابنة مخاض فإنها صدقتك، فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت عليَّ فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن ردَّه عليك رددته، قال: فإني فاعل. فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض عليَّ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا نبي الله، أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة(12/184)
مالي، وأيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما عليَّ فيه ابنة مخاض وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقةً فتيةً عظيمةً ليأخذها، فأبى عليَّ وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك. قال: فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة) رواه أحمد وأبو داود، وقال العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن أبي داود 1/298.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وما في هذا الحديث من إجزاء سن أعلا من الواجب مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم. فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع وبإيجاب العبد. ولا فرق بين الواجب في الذمة وما أوجبه معيناً؛ فإنما وجب في الذمة وإن كان مطلقاً من وجه فإنه مخصوص متميز عن غيره؛ ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب. وعلى هذا، فلو نذر أن يقف شيئاً فوقف خيراً منه كان أفضل، فلو نذر أن يبني لله مسجداً وصفه، أو يقف وقفاً وصفه. فبنى مسجداً خيراً منه، ووقف وقفاً خيراً منه كان أفضل. ولو عينه، فقال: لله علي أن أبني هذه الدار مسجداً أو وقفها على الفقراء والمساكين. فبنى خيراً منها، ووقف خيراً منها، كان أفضل، كالذي نذر(12/185)
الصلاة بالمسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام، أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيراً منها] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/249.
وخلاصة الأمر أنه يجوز استبدال المنذور بخير منه وبأفضل منه إذا كان في استبداله مصلحة راجحة ولا يجوز استبداله بأقل منه فلا يجوز استبدال العجل بخروف كما في ورد السؤال.
- - -(12/186)
المعاملات(12/187)
تسمية الثمن شرط لصحة البيع بخلاف قبضه عند
العقد ليس شرطاً
يقول السائل: ذهبت إلى تاجر مواد بناء فاشتريت منه كمية من حديد البناء واتفقنا على السعر على أن يتم تسليم الحديد بعد شهر من الاتفاق وعندها أدفع له الثمن، وعندما حان موعد التسليم طالبني التاجر بزيادة السعر بحجة أن سعر الحديد قد ارتفع عن سعر يوم الاتفاق وقال إنه غير ملزم بتسليمي الحديد بالسعر المتفق عليه سابقاً لأن عقد البيع لم يتم لأنني لم أدفع له الثمن، فما الحكم أفيدونا؟
الجواب: البيع هو: مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً، كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 3/480.
وركن البيع هو الإيجاب والقبول أي الصيغة كما قرر فقهاء الحنفية وعند جمهور الفقهاء يضاف للصيغة العاقدان - البائع والمشتري - ومحل العقد - المبيع والثمن - فهذه أركان عقد البيع عندهم. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 9/10.
وقد اتفق الفقهاء على أن تسمية الثمن وتعيينه تعتبر من شروط صحة عقد البيع فلا بد أن يكون الثمن معلوماً، قال الإمام النووي: [يشترط في صحة البيع أن يذكر الثمن في حال العقد فيقول: بعتكه بكذا، فإن قال: بعتك هذا(12/189)
واقتصر على هذا فقال المخاطب: اشتريت أو قبلت، لم يكن هذا بيعاً بلا خلاف] المجموع 9/171.
وجاء في المادة رقم 237 من مجلة الأحكام العدلية: (تسمية الثمن حين البيع لازمة فلو باع بدون تسمية ثمن كان البيع فاسدا) . وجاء في المادة 238 (يلزم أن يكون الثمن معلوماً) .
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية عند الكلام عن [شروط الثمن: اتّفق الفقهاء على وجوب تسمية الثمن في عقد البيع، وأن يكون مالاً، ومملوكاً للمشتري، ومقدور التّسليم، ومعلوم القدر والوصف، وإيضاح ذلك فيما يلي:
الشّرط الأوّل - تسمية الثمن:
تسمية الثمن حين البيع لازمة، فلو باع بدون تسمية ثمن كان البيع فاسداً، لأنّ البيع مع نفي الثمن باطل، إذ لا مبادلة حينئذ، ومع السّكوت عنه فاسد، كما ذكر الحنفيّة.
فإذا بيع المال ولم يذكر الثمن حقيقة، كأن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا المال مجّاناً أو بلا بدل فيقول المشتري: قبلت، فهذا البيع باطل.
وإذا لم يذكر الثمن حكماً، كأن يقول إنسان لآخر: بعتك هذا المال بالألف الّتي لك في ذمّتي، فيقبل المشتري، مع كون المتعاقدين يعلمان أن لا دين، فالبيع في مثل هذه الصّورة باطل أيضاً، ويكون الشّيء هبة في الصّورتين.
وإذا كان الثمن مسكوتاً عنه حين البيع فالبيع فاسد وليس بباطل، لأنّ البيع المطلق يقتضي المعاوضة، فإذا سكت البائع عن الثمن كان مقصده أخذ قيمة(12/190)
المبيع، فكأنّه يقول: بعت ما لي بقيمته، وذكر القيمة مجملة يجعل الثمن مجهولاً فيكون البيع فاسداً.
وبيع التّعاطي صحيح عند الجمهور لأنّ الثمن والمثمّن معلومان، فيه والتّراضي قائم بينهما ولو لم توجد فيه صفة. وعند المالكيّة والشّافعيّة لا ينعقد البيع إلاّ بتسمية الثمن ... وفي المجموع قال النّوويّ: يشترط في صحّة البيع أن يذكر الثمن في حال العقد، فيقول: بعتك كذا بكذا، فإن قال: بعتك هذا، واقتصر على هذا، فقال المخاطب: اشتريت أو قبلت لم يكن هذا بيعا بلا خلاف، ولا يحصل به الملك للقابل على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: فيه وجهان أصحّهما هذا، والثاني: يكون هبة. وقال السّيوطيّ: إذا قال: بعتك بلا ثمن، أو لا ثمن لي عليك، فقال: اشتريت وقبضه فليس بيعاً، وفي انعقاده هبة قولاً تعارض اللّفظ والمعنى، وإذا قال البائع: بعتك ولم يذكر ثمناً، فإن راعينا المعنى انعقد هبة، أو اللّفظ فهو بيع فاسد. وأمّا عند الحنابلة فقد جاء في الإنصاف: يشترط معرفة الثمن حال العقد على الصّحيح من المذهب وعليه الأصحاب، واختار الشّيخ ابن تيميّة صحّة البيع وإن لم يسمّ الثمن، وله ثمن المثل كالنّكاح] الموسوعة الفقهية الكويتية 15/26- 27.
وأما قبض الثمن فليس ركناً لعقد البيع ولا شرطاً له ويصح البيع بدون قبض الثمن باتفاق الفقهاء يقول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} سورة البقرة الآية 282. وثبت عن عائشة رضي الله(12/191)
عنها قالت: (اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاماً بنسيئة إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) رواه البخاري ومسلم.
فهذه الأدلة وغيرها تدل على جواز تأجيل الثمن في البيع. وأما بالنسبة لتأخير قبض المبيع وتسليمه فهو جائز على الراجح من أقوال أهل العلم وعلى هذا جرى تعامل الناس قديماً وحديثاً مع بعض الاستثناءات كما في بيع الطعام. ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1. وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} سورة النحل الآية 91. وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} سورة الإسراء الآية 34. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
إذا تقرر هذا فإن الفقهاء قد اتفقوا على أن البيع من العقود اللازمة لا الجائزة، ومعنى لزوم العقود وجوازها: أنه يقصد بلزوم العقد عدم جواز فسخه من قبل أحد العاقدين إلا برضا العاقد الآخر، وما جاز للعاقد فسخه(12/192)
بغير رضا العاقد الآخر يسمّى عقداً جائزاً. فالبيع والسّلم والإجارة عقود لازمة، إذ أنّها متى صحّت لا يجوز فسخها بغير التّقايل، ولو امتنع أحد العاقدين عن الوفاء بها أجبر. الموسوعة الفقهية الكويتية 35/238.
ويترتب على كون العقد من العقود اللازمة أنه بمجرد انعقاد العقد بطريقة صحيحة شرعاً يجب الوفاء بمقتضى العقد ولا يحق لأحد المتعاقدين فسخ العقد أو إبطاله أو تعديله إلا بموافقة الطرف الثاني وتوضيح ذلك في السؤال المذكور أعلاه أنه لا يجوز شرعاً أن يطالب التاجر بزيادة السعر عما تم العقد عليه إلا بموافقة المشتري وهذا محل اتفاق بين الفقهاء.
وخلاصة الأمر أن العقد الذي تم بين السائل وتاجر مواد البناء عقد صحيح وهو عقد لازم للطرفين فيجب الوفاء به ولا يجوز للتاجر أن يطلب رفع السعر لأن البيع قد تم على السعر المتفق عليه ويلزم التاجر إنفاذ العقد كما اتفق عليه مع المشتري، وقول التاجر إنه غير ملزم بتسليم الحديد بالسعر المتفق عليه سابقاً لأن عقد البيع لم يتم لأنه لم يتم دفع الثمن، قول باطل فقبض الثمن ليس شرطاً لصحة العقد، وإنما الشرط هو تسمية الثمن وقد حصلت.
- - -(12/193)
دفع أجرة العقار مقدماً
يقول السائل: إنه قد استأجر محلاً تجارياً وقد شرط عليه المؤجر أن يدفع نصف الأجرة السنوية مقدماً عند توقيع عقد الإجارة فوافق على ذلك ولكن بعض الناس قالوا إن ذلك لا يجوز، فما الحكم في هذه المسألة، أفيدونا؟
الجواب: الإجارة عند الفقهاء عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض وهو عقد مشروع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وانعقد الإجماع على ذلك يقول تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وورد في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1498.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.
وعقد الإجارة يقع على المنافع فمن استأجر بيتاً فإنه يملك منفعته فقط وهي السكنى وعقد الإجارة لا يفيد تملك العين المؤجرة وإن طالت مدة الإجارة. فمهما طالت مدة الإجارة تبقى العين المؤجرة ملكاً لصاحبها فلو أن شخصاً سكن في بيت بالإجارة لمدة خمسين عاماً فيبقى البيت لصاحبه ولا يصير ملكاً للمستأجر أبداً.(12/194)
وقد أجاز كثير من أهل العلم عقد الإجارة مشاهرة بدون تحديد وقت لانتهاء العقد.
إذا تقرر هذا فإنه يجوز الاتفاق بين المستأجر والمؤجر على تعجيل الأجرة وتأجيلها إلى أجل معلوم والمرجع في ذلك هو اتفاقهما اتفاقاً واضحاً يقطع النزاع والخصومة
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند كلامه على أحكام الإجارة: [الحكم السادس، أنه إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله وإن شرطه منجماً - أي مقسطاً - يوماً يوماً، أو شهراً شهراً أو أقل من ذلك أو أكثر فهو على ما اتفقا عليه لأن إجارة العين كبيعها، وبيعها يصح بثمن حال أو مؤجل فكذلك إجارتها] المغني 5/330.
وقال الكاساني الحنفي: [فأما إذا شرط في تعجيلها ملكت بالشرط وجب تعجيلها، فالحاصل أن الأجرة لا تملك عندنا إلا بأحد معان ثلاثة: أحدها: شرط التعجيل في نفس العقد، والثاني: التعجيل من غير شرط، والثالث: استيفاء المعقود عليه أما ملكها بشرط التعجيل فلأن ثبوت الملك في العوضين في زمان واحد لتحقيق معنى المعاوضة المطلقة وتحقيق المساواة التي هي مطلوب العاقدين، ومعنى المعاوضة والمساواة لا يتحقق إلا في ثبوت الملك فيهما في زمان واحد، فإذا شرط التعجيل فلم توجد المعاوضة المطلقة بل المقيدة بشرط التعجيل فيجب اعتبار شرطهما لقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم) . فيثبت الملك في العوض قبل ثبوته في(12/195)
المعوض; ولهذا صح التعجيل في ثمن المبيع وإن كان إطلاق العقد يقتضي الحلول، كذا هذا] بدائع الصنائع 4/61.
وقال الشيخ سيد سابق: [اشتراط تعجيل الأجرة وتأجيلها ... ويصح اشتراط تعجيل الأجرة وتأجيلها كما يصح تعجيل البعض وتأجيل البعض الآخر، حسب ما يتفق عليه المتعاقدان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم) . فإذا لم يكن هناك اتفاق على التعجيل أو التأجيل فإن كانت الأجرة مؤقتة بوقت معين فإنه يلزم إيفاؤها بعد انقضاء ذلك الوقت. فمن أجر داراً شهراً مثلاً ثم مضى الشهر فإنه تجب الأجرة بانقضائه ... وإن كان عقد الإجارة على عمل فإنه يلزم إيفاؤها عند الانتهاء من العمل. وإذا أطلق العقد ولم يشترط قبض الأجرة ولم ينص على تأجيلها: قال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما: إنها تجب جزءاً جزءاً بحسب ما يقبض من المنافع. وقال الشافعي وأحمد: إنها تستحق بنفس العقد، فإذا سلم المؤجر العين المستأجرة إلى المستأجر استحق جميع الأجرة، لأنه قد ملك المنفعة بعقد الإجارة ووجب تسليم الأجرة ليلزم تسليم العين إليه. استحقاق الأجرة: وتستحق الأجرة بما يأتي:
1. الفراغ من العمل، لما رواه ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) .
2. استيفاء المنفعة إذا كانت الإجارة على عين مستأجرة، فإذا تلفت العين قبل الانتفاع ولم يمض شيء من المدة بطلت الإجارة.(12/196)
3. التمكن من استيفاء المنفعة، إذا مضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ولو لم تستوف بالفعل.
4. تعجيلها بالفعل أو اتفاق المتعاقدين على اشتراط التعجيل] . فقه السنة 4/107-108.
وتعجيل الأجرة أمر تعارف الناس عليه منذ عهد بعيد وخاصة في المنافع المضمونة كما هو الحال فيمن يشتري تذكرة لركوب طائرة أو سفينة أو قطار أو سيارة فإن دفع الأجرة يكون مقدماً وكذا عند استئجار محل تجاري فقد جرى العرف عند كثير من الناس على استيفاء بعض الأجرة مقدماً، كما أن العرف قد جرى على تأخير دفع الأجرة إذا كانت الإجارة واردة على عمل الشخص كمن يستأجر عاملاً ليشتغل في أرضه مثلاً، فإن العرف قد جرى على أن تدفع الأجرة بعد أن ينتهي العامل من العمل، ومن المعلوم عند أهل العلم أن العرف معتبر، كما قال العلامة ابن عابدين الحنفي في منظومته:
والعرف له اعتبار ... فلذا الحكم عليه قد يدار
انظر نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف في الجزء الثاني من رسائل العلامة ابن عابدين ص112.
وخلاصة الأمر أن الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على أن يدفع المستأجر نصف الأجرة السنوية مقدماً عند توقيع عقد الإجارة جائز ولا حرج فيه ما دام أن الاتفاق قد تم برضا المتعاقدين.
- - -(12/197)
جعل سعر الفائدة مؤشراً للربح في البنوك الإسلامية
يقول السائل: إنه أراد أن يشتري سيارة من أحد البنوك الإسلامية بطريقة المرابحة على أن يقسط ثمنها لمدة سنتين وتبين له أن البنك الإسلامي يحسب نسبة الربح التي يتقاضاها حسب نسبة الفائدة في البنوك التقليدية فما الحكم في ذلك أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي البعد عن الربا في جميع معاملاتها أخذاً وإعطاءً بخلاف البنوك التجارية الربوية التي تقوم أكثر معاملاتها على الربا أخذاً وإعطاءً.
وصورة بيع المرابحة للآمر بالشراء المستعملة في البنوك الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربح معلوم بعد شراء البنك لها ودخولها في ملك البنك الإسلامي دخولاً فعلياً، هذه الصورة متفرعة عن بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء قديماً وهو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح.
ولا بد أن يعلم أيضاً أن الفرق بين الربح وبين الربا (الفائدة) ، فالربح هو الزيادة على رأس المال نتيجة تقليبه في النشاط التجاري، أو هو الزائد على رأس المال نتيجة تقليبه في الأنشطة الاستثمارية المشروعة كالتجارة والصناعة وغيرها. انظر الربح في الفقه الإسلامي ص 44. والربح عند الفقهاء ينتج من تفاعل عنصري الإنتاج الرئيسيين وهما العمل ورأس المال، فالعمل له دور(12/198)
كبير في تحصيل الربح. المصدر السابق ص44-45. وأما الفائدة فهي زيادة مستحقة للدائن على مبلغ الدين يدفعها المدين مقابل احتباس الدين إلى تمام الوفاء. انظر الفائدة والربا ص 16. فالفائدة الربوية هي زيادة في مبادلة مال بمال لأجل أي أن الفائدة هي مقابل المدة الزمنية.
إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال فنقول إن البنوك الإسلامية تعمل في ظل تنافس شديد مع البنوك التجارية الربوية وتواجه البنوك الإسلامية عقبات كثيرة تحد من تقدمها وازدهارها ومع ذلك فإن كثيراً من البنوك الإسلامية ما زالت تعتمد في معاملاتها على أنواع من المعاملات الشرعية التي ترتب لها ديوناً كبيرة على جمهور المتعاملين معها كالبيوع الآجلة ومنها بيع المرابحة للآمر بالشراء، ولحساب نسبة الربح أو هامش الربح في بيع المرابحة للآمر بالشراء لابد من النظر إلى أمرين أساسين وهما تكلفة شراء السلعة على البنك الإسلامي ثم نسبة الربح التي يتقاضاها البنك الإسلامي ومن المعلوم أن هذه النسبة ليست ثابتة فإذا باع البنك الإسلامي السلعة مرابحة على أن يقسط الثمن على سنة تكون النسبة أقل مما لو باعها بالتقسيط على سنتين، وهذا الأمر جعل كيفية حساب هامش الربح شبيهة بسعر الفائدة في البنوك التجارية الربوية مما جعل الأمرين متشابهين في الصورة ولا شك أن هنالك [اختلافاً جذرياً يتمثل في أن الفائدة هي زيادة مشروطة في قرض، بينما أن هامش المرابحة هو جزء من ثمن بيع آجل صحيح؛ برغم ذلك فهي مرتبطة بأسعار الفائدة العالمية، ولا يعني ذلك أنها مساوية لها بالضرورة، ولكنها(12/199)
تتغير معها نزولاً وصعوداً، الأمر الذي يوحي بأنهما صنوان، ولطالما انتقدت البنوك الإسلامية، وشكك المشككون فيها بناء على ما يرون من ارتباط بين هامش الربح وأسعار الفائدة العالمية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8 ج3/682.
ومن أسباب هذا التشابه في الصورة بين هامش الربح في البنوك الإسلامية وأسعار الفائدة في البنوك التجارية الربوية هو أن [البنوك الإسلامية تمارس نشاطها المصرفي في بيئة تتنافس فيها مع البنوك التقليدية، ويمثل الجميع أعضاءً في سوق واحد، وسواء كانت هذه البنوك تمارس نشاطها بصفة أساسية داخل بلدانها أو على نطاق دولي فإنه يبقى أن البديل لصيغ تمويلها المقبولة شرعاً هو الاقتراض بالفائدة، ولذلك فهي مضطرة في تحديد هوامش الربح (والتي تمثل ببساطة ثمن الخدمة التي تقدمها) أن تأخذ في اعتبارها هذه الحقيقة، فهي لا تستطيع أن تحدد هامش ربح يزيد كثيراً على أسعار الفائدة السائدة؛ لأنها إذا فعلت تركها الناس ومالوا إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، وهي لا تستطيع أن تحدد هامش مرابحة يقل كثيراً عن أسعار الفائدة؛ لأنها عندئذٍ سوف توزع على المودعين لديها وملاك البنوك أرباحاً تقل عن أسعار الفائدة التي يمكن أن يحصلوا عليها في البنوك التقليدية فيتركونها إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، لا شك في أننا نعيش في أوضاع غير مثالية، ولذلك لا نستطيع أن نفترض أن جميع المسلمين سوف يتجاهلون هذين العاملين لأنهم في الواقع لن يفعلوا، لذلك(12/200)
تجد البنوك الإسلامية نفسها مضطرة إلى ربط معدلات أرباحها بأسعار الفوائد الدولية] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8 ج3 /682.
وكذلك فإن من [عوامل وجود التقارب بين هامش ربح التمويل الإسلامي مع التمويل التقليدي هو عدم وجود سوق مالية إسلامية قادرة على خلق أدوات مالية إسلامية مستقلة بذاتها قادرة على استيعاب السيولة الموجودة واستخدامها لطرق إسلامية، ومن ثم خلق مؤشر إسلامي مستقل لقياس هامش أرباح الأدوات الإسلامية بناء على مؤشرات هذا السوق] صحيفة الشرق الأوسط، شبكة الانترنت.
ومما لا شك فيه أن البنوك الإسلامية بحاجة إلى إيجاد مؤشر خاص بها لتحديد نسبة الربح أو هامش الربح وقد أكد على ذلك مجمع الفقه الإسلامي حيث ورد في قرار المجمع ما يلي: [الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8 ج3 /793.
وبناءً على ما سبق فلا يوجد ما يمنع شرعاً من أن يكون سعر الفائدة مؤشراً لتحديد نسبة الربح في البنوك الإسلامية في بيع المرابحة للآمر بالشراء وغيره من معاملاتها [فلا يوجد في الشريعة - بحسب ما نعلم- طريقة لحساب الربح، والمعول في المعاملات هو على صيغة العقد لا على طريقة الحساب، فإذا كان بيعاً وجب أن يكون مكتمل الأركان تام الشروط خالياً من الربا والغرر والغش والغبن ... إلخ، فإذا توفر ذلك فلا أهمية للطريقة التي حسب(12/201)
بها الربح، وهذا يعني أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة مقبول إذا كانت صيغة البيع صحيحة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8، ج3/683-684. وانظر أيضاً الربح في الفقه الإسلامي ضوابطه وتحديده في المؤسسات المالية المعاصرة ص 246.
وخلاصة الأمر أن يجوز شرعاً جعل أسعار الفائدة مؤشراً لتحديد نسبة الربح في البنوك الإسلامية وإن التشابه بين الأمرين إنما هو تشابه في الصورة فقط مع الاختلاف في الجوهر والحقيقة والواقع، حيث إن الربح الذي تتقاضاه البنوك الإسلامية إنما هو جزء من ثمن بيع آجل صحيح لا غبار عليه من الناحية الشرعية، بينما الفائدة الربوية هي زيادة في مبادلة مال بمال لأجل، أي أن الفائدة هي مقابل المدة الزمنية. ولا بد للبنوك الإسلامية أن تسعى لإيجاد مؤشر خاص بها لتحديد هامش أرباحها.
- - -(12/202)
بيع العملات بالهامش (المارجن)
يقول السائل: إنه بدأ التعامل مع إحدى شركات الوساطة المالية لبيع وشراء العملات في البورصات العالمية بما يعرف بالبيع بالهامش (المارجن) وإن الشركة المذكورة تعتمد على فتوى لمجلس الفتوى الفلسطيني تجيز التعامل المذكور حيث وضعت الفتوى على موقع شركة الوساطة على الإنترنت، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا بد أولاً من بيان حقيقة ما يسمى البيع بالهامش أو ما يعرف بالمارجن [لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقصد بالشراء بالهامش: شراء العملات بسداد جزء من قيمتها نقداً بينما يسدد الباقي بقرض مع رهن العملة محل الصفقة. والهامش هو التأمين النقدي الذي يدفعه العميل للسمسار ضماناً لتسديد الخسائر التي قد تنتج عن تعامل العميل مع السمسار. وفي هذه المعاملة يفتح العميل حساباً بالهامش لدى أحد سماسرة سوق العملات، الذي يقوم بدوره بالاقتراض من أحد البنوك التجارية - وقد يكون السمسار هو البنك المقرض نفسه- لتغطية الفرق بين قيمة الصفقة وبين القيمة المدفوعة كهامش. مثال ذلك: لنفرض أن عميلاً فتح حساباً بالهامش لدى أحد السماسرة، وضع فيه العميل تأميناً لدى السمسار بمقدار عشرة آلاف دولار. وفي المقابل يُمَكِّن السمسارُ العميلَ بأن يتاجر في بورصة العملات بما قيمته مليون دولار، أي يقرضه هذا المبلغ برصده في حسابه لديه - أي لدى السمسار- ليضارب العميل به، فيشتري بهذا الرصيد من العملات(12/203)
الأخرى كاليورو مثلاً، ثم إذا ارتفع اليورو مقابل الدولار باع اليورو، وهكذا، فيربح العميل من الارتفاع في قيمة العملة المشتراة] شبكة الإنترنت.
إن ما يتم في البورصات العالمية من بيع وشراء للعملات المختلفة مخالف في أغلبه لقواعد الصرف المعروفة عند الفقهاء وأهمها التقابض في مجلس العقد، فقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من المتعاقدين في مجلس العقد قبل افتراقهما. قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] المغني4/41. ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم. فلذلك يشترط في عملية بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في المجلس ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما وإن حصل التأجيل فالعقد باطل قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (يداً بيد) حجة للعلماء كافة في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس] شرح النووي على صحيح مسلم 4/199.
وإذا تأملنا مسألة البيع بالهامش (المارجن) وجدناها قد أخلت بهذا الشرط المتفق عليه بين العلماء فلا يوجد فيه قبض لا حقيقي ولا حكمي، وقد ظن بعض المفتين أن تسجيل العملية في قيد المتعامل لدى شركة الوساطة هو قبض حكمي، وهذا ظن خاطئ لأنه يوجد ما يسمى بالتسوية المالية (Settlement) أو ما يعرف بنظام (السبوت SPOT) وهذه التسوية لا تكون(12/204)
إلا بعد يومي عمل على أقل تقدير وقد تزيد عن ذلك [مع مراعاة أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق وهي: السبت والأحد في أوروبا وأمريكا والجمعة في الشرق الأوسط. ويترتب على ذلك أنه إذا تم تبادل بين عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة أوروبية يوم الجمعة فسيكون التسليم الفعلي يوم الثلاثاء بإهدار يومي السبت والأحد لأنهما عطلة رسمية في أوروبا وأمريكا. وإذا تم تبادل بين عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة شرق أوسطية يوم السبت فسيكون التسليم الفعلي يوم الأربعاء بإهدار أيام الجمعة والسبت والأحد؛ لأنها أيام عطلة في الشرق الأوسط فكأن العملية تمت يوم الإثنين فيكون التسليم يوم الأربعاء بعد يومي عمل، وما يحدث يوم التعاقد هو تسجيل للعملية فقط] ويقول الشيخ الدكتور سامي بن إبراهيم السويلم (باحث في الاقتصاد الإسلامي من علماء المملكة العربية السعودية) : [هناك فرق بين إجراء البيع والشراء وبين التسوية، فإجراء العقد يتم في ثوان كما أشار الأخ الكريم. أما التسوية (settlement) ، فهي تعني دخول المبلغ في حساب المشتري، ودخول العوض في حساب البائع، بحيث يمكن لكل طرف أن يتصرف في المبلغ لمصلحته الخاصة بالسحب وغيره، وبهذا يتحقق التقابض بين الطرفين. لا يوجد حتى الآن في سوق العملات الدولية تقابض أو تسوية فورية تتم في لحظة إنجاز العقد، بل يتأخر التقابض لمدة يومين (ويشار إليه بـ (T+2) أو أكثر. في بعض الحالات يمكن للمتعامل اشتراط أن تتم التسوية في نفس اليوم (T+0) لكن الأصل هو التأخر] . إذن يوجد فرق بين تسجيل العملية في قيد المتعامل وبين التسوية(12/205)
وعليه فإن من يشتري عملة فإنه لا يستطيع سحبها من حسابه قبل عملية التسوية وإن كانت قد سجلت في قيده لدى شركة الوساطة، وبالتالي لا يجوز له بيعها إلا بعد عملية التسوية. وما ورد في الفتوى المشار إليها [ولا يتم بيع أو شراء العملة إلا إذا ملكها المتعامل عن طريق تسجيلها في حسابه عبر الوسائل الحديثة ويتسلم المتعامل مستندات خاصة بكل عملية بيع وشراء بسرعة فائقة عبر وسائل الاتصالات الحديثة، هذا التسجيل في حساب المتعامل أو تسلم المستندات يعتبر في الفقه الإسلامي قبضاً حكمياً للعملة المشتراة أو المباعة فالبيع والشراء بعد القبض الحكمي لا ربا فيه لأن البائع والمشتري يملكان البدلين عند العقد ويتم تسليمها في مجلس العقد هذا ما يتفق مع شروط الصرف الصحيح] وأقول إن هذا الكلام غير صحيح فقهاً، لأنه لا يتم القبض الحكمي في العملية المذكورة إلا بعد التسوية وليس بمجرد التسجيل في حساب المتعامل كما ورد في الفتوى. وكذلك فإن الفتوى المذكورة قد أغفلت قضية هامة عندما ذكرت أن [التمويلات أو التسهيلات المالية والتي هي عبارة عن حساب جارٍ مدين يمنحه البنك للمتعامل لحساب ما يحتاجه لشراء العملات وبيعها هي عبارة عن إذن من البنك للمتعامل بالتصرف في هذا المبلغ وما يسحبه المتعامل أو وكيله هو قرض ويسجل في حساب المتعامل على أنه مدين والقرض في الشريعة الإسلامية مشروع ما دام البنك لا يتقاضى شيئاً على التمويل أو التسهيلات المالية ... ] .
أقول لو سلمنا بأن هذا القرض بدون فوائد فإنه قرض يجر نفعاً وهو أن البنك يشترط أن يكون التعامل عن طريقه وبهذا يكون قرضاً جرَّ نفعاً وقد اتفق(12/206)
الفقهاء على أن كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم. كما أن الفتوى المذكورة قد خالفت ما اتفقت عليه المجامع الفقهية المعتبرة من تحريم التعامل بالمارجن كما ورد في فتوى المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 10-14 من ربيع الأول 1427هـ، الذي يوافقه 8-12 من إبريل 2006م، قد نظر في موضوع: (المتاجرة بالهامش) ، والتي تعني: (دفع المشتري (العميل) جزءاً يسيراً من قيمة ما يرغب شراءه يسمّى هامشاً، ويقوم الوسيط مصرفاً أو غيره، بدفع الباقي على سبيل القرض، على أن تبقى العقود المشتراة لدى الوسيط، رهناً بمبلغ القرض) . وبعد الاستماع إلى البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع، رأى المجلس أن هذه المعاملة تشتمل على الآتي:
(1) المتاجرة (البيع والشراء بهدف الربح) ، وهذه المتاجرة تتم غالباً في العملات الرئيسة، أو الأوراق المالية (الأسهم والسندات) ، أو بعض أنواع السلع، وقد تشمل عقود الخيارات، وعقود المستقبليات، والتجارة في مؤشرات الأسواق الرئيسة.
(2) القرض، وهو المبلغ الذي يقدمه الوسيط للعميل مباشرة إن كان الوسيط مصرفاً، أو بواسطة طرف آخر إن كان الوسيط ليس مصرفاً.
(3) الربا، ويقع في هذه المعاملة من طريق (رسوم التبييت) ، وهي الفائدة المشروطة على المستثمر إذا لم يتصرف في الصفقة في اليوم نفسه، والتي قد تكون نسبة مئوية من القرض، أو مبلغاً مقطوعاً.(12/207)
(4) السمسرة، وهي المبلغ الذي يحصل عليه الوسيط نتيجة متاجرة المستثمر (العميل) عن طريقه، وهي نسبة متفق عليها من قيمة البيع أو الشراء. (5) الرهن، وهو الالتزام الذي وقعه العميل بإبقاء عقود المتاجرة لدى الوسيط رهناً بمبلغ القرض، وإعطائه الحق في بيع هذه العقود واستيفاء القرض إذا وصلت خسارة العميل إلى نسبة محددة من مبلغ الهامش، ما لم يقم العميل بزيادة الرهن بما يقابل انخفاض سعر السلعة.
ويرى المجلس أن هذه المعاملة لا تجوز شرعاً للأسباب الآتية:
أولاً: ما اشتملت عليه من الربا الصريح، المتمثل في الزيادة على مبلغ القرض، المسماة (رسوم التبييت) ، فهي من الربا المحرم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيتان 278-279.
ثانياً: أن اشتراط الوسيط على العميل أن تكون تجارته عن طريقه، يؤدي إلى الجمع بين سلف ومعاوضة (السمسرة) ، وهو في معنى الجمع بين سلف وبيع المنهي عنه شرعاً في قول الرسول?: " لا يحل سلف وبيع ... " الحديث رواه أبو داود (3/384) والترمذي (3/526) وقال: حديث حسن صحيح. وهو بهذا يكون قد انتفع من قرضه، وقد اتفق الفقهاء على أن كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم.(12/208)
ثالثاً: أن المتاجرة التي تتم في هذه المعاملة في الأسواق العالمية غالباً ما تشتمل على كثير من العقود المحرمة شرعاً، ومن ذلك:
1. المتاجرة في السندات، وهي من الربا المحرم، وقد نص على هذا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (60) في دورته السادسة.
2. المتاجرة في أسهم الشركات دون تمييز، وقد نص القرار الرابع للمجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة سنة 1415هـ على حرمة المتاجرة في أسهم الشركات التي غرضها الأساسي محرم، أو بعض معاملاتها ربا.
3. بيع وشراء العملات يتم غالباً دون قبض شرعي يجُيز التصرف.
4. التجارة في عقود الخيارات وعقود المستقبليات، وقد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (63) في دورته السادسة، أن عقود الخيارات غير جائزة شرعاً، لأن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه.. ومثلها عقود المستقبليات والعقد على المؤشر.
5. أن الوسيط في بعض الحالات يبيع ما لا يملك، وبيع ما لا يملك ممنوع شرعاً. رابعاً: لما تشتمل عليه هذه المعاملة من أضرار اقتصادية على الأطراف المتعاملة، وخصوصاً العميل (المستثمر) وعلى اقتصاد المجتمع بصفة عامة. لأنها تقوم على التوسع في الديون، وعلى المجازفة، وما تشتمل عليه غالباً من خداع وتضليل وشائعات، واحتكار ونجش وتقلبات قوية وسريعة للأسعار، بهدف الثراء السريع والحصول على مدخرات الآخرين بطرق غير مشروعة، مما يجعلها من قبيل أكل المال بالباطل، إضافة إلى تحول الأموال(12/209)
في المجتمع من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية المثمرة إلى هذه المجازفات غير المثمرة اقتصادياً، وقد تؤدي إلى هزات اقتصادية عنيفة تلحق بالمجتمع خسائر وأضراراً فادحة. ويوصي المجمع المؤسسات المالية باتباع طرق التمويل المشروعة التي لا تتضمن الربا أو شبهته، ولا تحدث آثاراً اقتصادية ضارة بعملائها أو بالاقتصاد العام كالمشاركات الشرعية ونحوها، والله ولي التوفيق] شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن بيع وشراء العملات عن طريق ما يسمى بالبيع بالهامش (المارجن) محرم شرعاً، وأدعو مجلس الفتوى الموقر إلى إعادة النظر في فتواه المذكورة والمؤرخة في 12/6/2006، والتي تستغل من الطامعين بالثراء السريع من المضاربين بالعملات، مع العلم أن هذه المضاربات لا تعود بأي نفع على الاقتصاد المحلي، ولولا ضيق المقام لفصلت الكلام في هذه المسألة.
- - -(12/210)
حق الجار في استعمال سور جاره
يقول السائل: هل للجار أن يستخدم سور جاره لتثبيت مواسير عريش دوالي العنب التي له، أفيدونا؟
الجواب: ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره) قال ثم يقول أبو هريرة ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) رواه البخاري ومسلم.
قال القسطلاني في شرح قول أبي هريرة (ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) : [أي لأصرخن بالمقالة فيكم ولأوجعنكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته] عون المعبود 10/46.
وقد ورد هذا الحديث بلفظ خشبه أي جمع خشبة، وورد بالإفراد خشبة، قال الإمام النووي: [ ... قال القاضي: روينا قوله: (خشبة) في صحيح مسلم وغيره من الأصول والمصنفات (خشبة) بالإفراد و (خشبه) بالجمع. قال: وقال الطحاوي عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد والحرث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى عنه فقالوا كلهم: (خشبة) بالتنوين على الإفراد، قال عبد الغني ابن سعيد: كل الناس يقولونه بالجمع إلا الطحاوي] . شرح النووي على صحيح مسلم 4/222-223. والفرق أن وضع الخشبة الواحدة(12/211)
أهون من وضع الخشب فإن الجار قد يتسامح في وضع خشبة واحدة ولا يتسامح في وضع خشب كثير. وجاء في رواية أخرى عند أبي داود (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه فنكسوا فقال ما لي أراكم قد أعرضتم لألقينها بين أكتافكم) .
وورد عند أحمد في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن رجل جاره أن يجعل خشبته أو قال خشبة في جداره) وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن ابن ماجة 2/39.
وروى الإمام أحمد في المسند عن عكرمة بن سلمة بن ربيعة أن أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما - أي حلف بالعتق - أن لا يغرز خشباً في جداره فلقيا مجمع بن يزيد الأنصاري ورجالاً كثيراً فقالوا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشباً في جداره فقال الحالف أي أخي قد علمت أنك مقضي لك عليَّ وقد حلفت فاجعل أسطواناً دون جداري ففعل الآخر فغرز في الأسطوان خشبة) ورواه ابن ماجة أيضاً وقال العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن ابن ماجة 2/38. وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سأل أحدكم جاره أن يدعم جذوعه على حائطه فلا يمنعه) السنن الكبرى 6/69.(12/212)
ويؤخذ من هذه الأحاديث أنه لا يجوز للجار أن يمنع جاره من استعمال الحائط الذي يكون بين أرضيهما ما دام أنه لا يلحق الضرر بجاره وقد أخذ جماعة من أهل العلم بظاهر هذه الأحاديث فقالوا من حق الجار أن يستعمل سور جاره ولو بدون إذنه قال الشوكاني [والأحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره ويجبره الحاكم إذا امتنع وبه قال أحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية والشافعي في القديم وأهل الحديث] نيل الأوطار 5/293.
وقال الإمام الترمذي: [والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وروي عن بعض أهل العلم منهم مالك بن أنس قالوا له أن يمنع جاره أن يضع خشبه في جداره والقول الأول أصح] سنن الترمذي 3/636.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما إن دعت الحاجة إلى وضعه على حائط جاره أو الحائط المشترك، بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له وضعه بغير إذن الشريك] المغني 4/376.
قال الإمام البيهقي: [لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن نخصها، وقد حمله الراوي على ظاهره، وهو أعلم بالمراد بما حدث به، يشير إلى قول أبي هريرة رضي الله عنه (ما لي أراكم عنها معرضين) ] فتح الباري 5/137.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ خَشَباً فِي جِدَارِهِ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ(12/213)
صَاحِبُ الْحَائِطِ هَدْمَ حَائِطِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِجَارِهِ: دَعِّمْ خَشَبَك أَوْ انْزَعْهُ فَإِنِّي أَهْدِمُ حَائِطِي، وَيُجْبَرُ صَاحِبُ الْخَشَبِ عَلَى ذَلِكَ] ثم استدل بحديث أبي هريرة السابق، ثم قال: [فَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا] المحلى 7/86.
وخالف في ذلك جماعة من الفقهاء فقالوا لا يجوز للجار أن يستعمل جدار جاره إلا بإذنه وهذا قول الحنفية والمالكية والشافعي في الجديد وقد حملوا ما ورد في الأحاديث السابقة من النهي على الكراهة ورأوا أنه يندب للجار أن يأذن لجاره أن يستعمل جداره فإن لم يأذن فلا يحل له ذلك لأن الأصل أنه لا يحل للمسلم شيء من مال أخيه المسلم إلا بإذنه واحتجوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة البقرة الآية 188، وبقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29.
واحتجوا بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.(12/214)
واحتجوا أيضاً بما جاء في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279.
والذي يظهر لي أن الراجح من القولين هو قول من أجاز وضع الخشب في جدار الجار بدون إذنه ما دام أنه لا يلحق ضرراً بجاره ومما يؤيد هذا الترجيح ما رواه مالك في الموطأ أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال له الضحاك لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك فأبى محمد فكلَّم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله فقال محمد لا فقال عمر لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك فقال محمد لا والله فقال عمر والله ليمرنَّ به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني وسنده صحيح فتح الباري 5/138.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وروى ابن إسحاق في مسنده والبيهقي من طريقه عن يحيى بن جعدة أحد التابعين قال: أراد رجل بالمدينة أن يضع خشبته على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه، فإذا من شئت من الأنصار يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهاه أن يمنعه، فجبر على ذلك] فتح الباري 5/138، وانظر السنن الكبرى 6/69.(12/215)
وقد قاس الشيخ ابن قدامة المقدسي وضع الخشب على جدار الجار على الاستناد إليه والاستظلال به. المغني 4/376.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للجار أن يستعمل سور جاره لتثبيت مواسير عريشه بدون أن يلحق الضرر بجاره، وهذا حق من حقوق الجار على جاره وقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تحث على أداء حقوق الجيران وحسن معاملتهم.
- - -(12/216)
المرأة والأسرة(12/217)
حق الزوجة بمسكن مستقل
تقول السائلة: إن والد زوجها قد توفي ويريد زوجها أن يسكن أمه وأخاه غير المتزوج معها في نفس الشقة التي تسكنها هي وأولادها مع أن الشقة ليست كبيرة، فهل هي ملزمة بقبول ذلك، أفيدونا؟
الجواب: قرر الشرع أن من حقوق الزوجة على زوجها حق المسكن قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} سورة الطلاق الآية 6.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويجب لها مسكن بدليل قوله سبحانه وتعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وفي التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع، ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة] المغني 8/200.
وقد نص الفقهاء على شروط بيت الزوجية ومن أهمها أن يكون خاصاً بالزوجة لا يشاركها فيه أحد بدون رضاها وقرروا أنه لا يجوز للزوج أن يسكن أحداً من أقاربه مع زوجته بدون رضاها ولو كان أباه أو أمه أو أخاه أو زوجته الأخرى.(12/219)
قال الكاساني الحنفي: [وكل امرأة لها النفقة، لها السكنى لقوله عز وجل {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ... } ولأنهما استويا في سبب الوجوب وشرطه وهو ما ذكرنا فيستويان في الوجوب ويستوي في وجوبهما أصل الوجوب الموسر والمعسر؛ لأن دلائل الوجوب لا توجب الفصل وإنما يختلفان في مقدار الواجب منهما ... ولو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع أحمائها كأم الزوج وأخته وبنته من غيرها وأقاربه فأبت ذلك؛ عليه أن يسكنها في منزل مفرد؛ لأنهن ربما يؤذينها ويضررن بها في المساكنة وإباؤها دليل الأذى والضرر ولأنه يحتاج إلى أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق ولا يمكنه ذلك إذا كان معهما ثالث حتى لو كان في الدار بيوت ففرغ لها بيتا وجعل لبيتها غلقا على حدة قالوا: إنها ليس لها أن تطالبه ببيت آخر] بدائع الصنائع 3/428-429.
وقال ابن نجيم الحنفي: [ (قوله والسكنى في بيت خالٍ عن أهله وأهلها) معطوف على النفقة أي تجب السكنى في بيت أي الإسكان للزوجة على زوجها؛ لأن السكنى من كفايتها فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبها الله تعالى كما أوجب النفقة بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أي من طاقتكم أي مما تطيقونه ملكاً أو إجارةً أو عاريةً إجماعاً، وإذا وجبت حقاً لها ليس له أن يشرك غيرها فيه؛ لأنها تتضرر به فإنها لا تأمن على متاعها ويمنعها ذلك من المعاشرة مع زوجها ومن الاستمتاع إلا أن تختار] البحر الرائق شرح كنز الدقائق، شبكة الانترنت.(12/220)
وقال الشيخ الحطاب المالكي: [قال ابن فرحون إن من حقها أن لا تسكن مع ضرتها ولا مع أهل زوجها ولا مع أولاده في دار واحدة فإن أفرد لها بيتاً في الدار ورضيت فذلك جائز وإلا قضي عليه بمسكن يصلح لها] مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل، شبكة الانترنت.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي: [ويحرم أن يجمع ... بين ضرتين فأكثر في مسكن أي بيت واحد لما بينهما من التباغض إلا برضاهما فيجوز الجمع بينهما؛ لأن الحق لهما، ولو رجعا بعد الرضا كان لهما ذلك] مغني المحتاج، شبكة الانترنت.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وليس للرجل أن يجمع بين امرأتيه في مسكن واحد بغير رضاهما صغيراً كان أو كبيراً لأن عليهما ضرراً لما بينهما من العداوة والغيرة واجتماعهما يثير المخاصمة والمقاتلة، وتسمع كل واحدة منهما حسه إذا أتى إلى الأخرى أو ترى ذلك فإن رضيتا بذلك جاز لأن الحق لهما، فلهما المسامحة بتركه وكذلك إن رضيتا بنومه بينهما في لحاف واحد، وإن رضيتا بأن يجامع واحدة بحيث تراه الأخرى، لم يجز لأن فيه دناءةً وسخفاً وسقوط مروءة فلم يبح برضاهما وإن أسكنهما في دار واحدة كل واحدة في بيت، جاز إذا كان ذلك مسكن مثلها] المغني 7/300.
وقد نص قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا على الأمور المتعلقة بمسكن الزوجية فقد جاء في المادة 36 [يهيئ الزوج المسكن المحتوي على اللوازم الشرعية حسب حاله وفي محل إقامته وعمله] .(12/221)
وجاء في المادة 38 [ليس للزوج أن يسكن أهله وأقاربه أو ولده المميز معه بدون رضاء زوجته في المسكن الذي هيأه لها ويستثنى من ذلك أبواه الفقيران العاجزان إذا لم يمكنه الإنفاق عليهما استقلالاً وتعين وجودهما عنده دون أن يحول ذلك من المعاشرة الزوجية كما انه ليس للزوجة أن تسكن معها أولادها من غيره أو أقاربه بدون رضاء زوجها] .
كما منع القانون إسكان الضرائر في مسكن واحد إلا برضاهن كما نصت عليه المادة 40 [على من له أكثر من زوجة أن يعدل ويساوي بينهن في المعاملة وليس له إسكانهن في دار واحدة إلا برضاهن] .
وينبغي على الآباء والأمهات أن يحرصوا على أن يسكن أبناؤهم المتزوجون في مساكن خاصة بهم لأن في ذلك مصالح مشتركة بينهم وبين أبنائهم وزوجات أبنائهم، حيث إن سكن الابن وزوجته في مسكن منفرد ومستقل فيه منافع كبيرة للجميع وفيه بعد عن أسباب الشحناء والبغضاء والمشكلات التي تنتج عن احتكاك الزوجة مع أهل زوجها. وهذه أمور منهي عنها والشارع الحكيم إذا نهى عن أمر من الأمور فإن ذلك يعتبر نهياً عن الوسائل المؤدية إليه، وقد قرر العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين [وقد قال أهل العلم للوسائل أحكام المقاصد فما كان وسيلةً لمطلوبٍ فهو مطلوب وما كان وسيلةً لمنهيٍ منه فهو منهيٌ عنه] شبكة الانترنت.(12/222)
وكذلك فإن سكن الابن وزوجته في مسكن منفرد يوفر حرية مطلقة للزوجين في بيتهما مما يشكل عاملاً مهماً في استقرار الحياة الزوجية وفي توفير السعادة الزوجية لهما.
وأخيراً لا بد من التنبيه على أن المسكن الخاص بالزوجين فيه بعد عن الحرمات كالاختلاط بين الزوجة وأخي زوجها فهذا أمر محرم وخاصة أن الزوج قد يغيب عن البيت. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجال من الدخول على النساء وخاصة أخو الزوج فقد صح في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) قال الليث بن سعد: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج: ابن العم ونحوه. اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وأخيه وابن أخيه وابن العم ونحوهم، والأختان أقارب زوجة الرجل والأصهار يقع على النوعين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي، والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم. وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت وهو(12/223)
أولى بالمنع من الأجنبي ... وقال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب كما يقال: الأسد الموت. أي لقاؤه مثل الموت، وقال القاضي: معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد غليظ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/329.
وخلاصة الأمر أن للزوجة الحق في مسكن خاص بها لا يشاركها فيه أحد من أقارب الزوج ولا تشاركها أيضاً ضرتها إلا برضاها وهذا الحق ثابت للزوجة ولو لم تشترطه في العقد، ويحرم على الزوج أن يسكن أحداً من أقاربه مع زوجته بدون رضاها، وتشتد الحرمة فيما لو أسكن معها أخاه البالغ كما ورد في السؤال لما يترتب على ذلك من المفاسد.
- - -
حكم الزواج بنية الطلاق
يقول السائل: ما قولكم في مسألة الزواج بنية الطلاق فإن بعض العلماء المعاصرين قد أفتى بجواز ذلك بناءً على أنه عقد توفرت فيه أركان وشروط العقد الصحيح، أفيدونا؟
الجواب: الزواج بنية الطلاق هو أن يتزوج رجل امرأة وينوي بقلبه طلاقها بعد مدة من الزمن قد تطول أو تقصر بناءً على مصلحة الرجل ولا يخبر المرأة أو وليها بنيته طلاقها، وهذه المسألة بحثها الفقهاء المتقدمون وقد أثيرت حديثاً وخاصة بعد أن كثر سفر الشباب المسلم إلى ديار الغرب للدراسة(12/224)
والتجارة ونحو ذلك، وقد أفتى بعض العلماء المعاصرين أولئك الشباب بجواز النكاح بنية الطلاق صيانة لهم من الوقوع في الحرام، وعند التدقيق في كلام العلماء الذين أجازوا الزواج بنية الطلاق نجد أنهم نظروا إلى تحقق أركان وشروط العقد في هذا الزواج وأنه لا أثر لنية الزوج المبيتة بالطلاق، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي قال: هو نكاح متعة. والصحيح: أنه لا بأس به، ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته، وحسبه إن وافقته وإلا طلقها] المغني 7/179-180.
وقال الإمام النووي: [قال القاضي: وأجمعوا على أن من نكح نكاحاً مطلقاً ونيَّتُه أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال، وليس نكاح متعة. وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور. ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس. وشذ الأوزاعي، فقال: هو نكاح متعة ولا خير فيه] شرح النووي على صحيح مسلم 3/529. وهذا ما قاله العلماء المعاصرون الذي أجازوا الزواج بنية الطلاق فهم قد اعتبروه من الناحية الإجرائية عقداً صحيحاً مستكملاً لأركانه وشروطه ولا أثر لنية الطلاق في صحته.
ولكن المانعين لهذا الزواج من أهل العلم قديماً وحديثاً نظروا إلى أمور أخرى هامة جداً بنوا عليه القول بمنع هذا النوع من الزواج منها:
1.إن الأصل في عقد الزواج في شريعة الإسلام الديمومة والاستمرار ويظهر هذا واضحاً من خلال تحريم الإسلام لكل زواج مؤقت كنكاح المتعة، قال الإمام(12/225)
النووي: [النكاح المؤقت باطل، سواء قيد بمدة مجهولة أو معلومة، وهو نكاح المتعة] روضة الطالبين 2/42. وقال الشيخ أبو القاسم الخرقي الحنبلي [ولو تزوجها على أن يطلقها في وقت بعينه، لم ينعقد النكاح] المغني 7/180.
2. إن الزواج بنية الطلاق يتنافى مع حقيقة عقد الزواج الذي سماه الله سبحانه وتعالى ميثاقاً غليظاً {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) رواه مسلم. فأين الزواج بنية الطلاق من المقاصد الشرعية للزواج.
3. إن الزواج بنية الطلاق ينطوي على الغش والخداع للزوجة ووليها وفيه ظلم واضح للزوجة وإيقاع الضرر بها، وكل ذلك منهي عنه شرعاً، ولو أن الزوج أظهر نيته تلك لما قبلت الزوجة ذلك، ومن المعلوم أن الغش حرام بشكل عام، كيف وهو واقع في أمر عظيم ألا وهو الزواج، وينبغي التنبيه إلى أن ما يفعله بعض أغنياء المسلمين من الزواج عندما يسافرون إلى بلدان فقيرة وفي نيتهم الطلاق ويعرف من يزوجهم أنهم سيطلقون بعدة مدة، فهذا النوع أشبه بنكاح المتعة فهو محرم، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
4. إن الزواج بنية الطلاق فيه إساءة بالغة للإسلام والمسلمين وتشويه لصورة الإسلام حيث إنه يورث عند الآخرين انطباعاً بأن المسلم متحلل من القيم والأخلاق الحسنة ولا ينظر إلا لقضاء شهوته ولمصلحته الشخصية، كما أنه(12/226)
يسيء إساءة بالغة لحقيقة نظرة الإسلام للمرأة، حيث يهتم هذا المتزوج وهو ينوي الطلاق بقضاء شهواته
فقط ويكرس مفهوم الجنس للجنس، وهو مفهوم لا يقبله الإسلام إلى غير ذلك من المفاهيم الخاطئة.
إذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على أن الفتاوى التي نقلت عن أئمة الفقه المتقدمين إنما كانت في حالات خاصة على خلاف الأصل، فلا يجوز تعميمها لتصبح هي القاعدة العامة، وعليه فإني أرجح مذهب العلماء المانعين للزواج بنية الطلاق لما يترتب عليه من مفاسد ولمخالفته للمقاصد الشرعية، كما وأن المسلم لا يرضى هذا الزواج لابنته أو أخته فلا ينبغي أن يرضاه للناس كما ورد في الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا مه مه! فقال: ادنه. فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم! اغفر ذنبه، وطهر(12/227)
قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) . رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 370.
وقد اختار القول بمنع الزواج بنية الطلاق مجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي فقد جاء في قراره ما يلي: [الزواج بنية الطلاق وهو زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه، وأضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة كعشرة أيام، أو مجهولة كتعليق الزواج على إتمام دراسته أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله. وهذا النوع من النكاح على رغم أن جماعة من العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه لاشتماله على الغش والتدليس. إذ لو علمت المرأة أو وليها بذلك لم يقبلا هذا العقد. ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة وأضرار جسيمة تسيء إلى سمعة المسلمين] شبكة الانترنت.
وقال بتحريمه الشيخ محمد رشيد رضا فقال: [هذا وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان علماء السلف يقولون بأن النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يعد خداعاً وغشاً، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة، ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذوَّاقين والذوَّاقات، وما يترتب على ذلك غشاً وخداعاً تترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون(12/228)
الزواج حقيقة، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة] شبكة الانترنت.
وممن قال بتحريمه أيضاً الشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين: [من المعروف من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن الزواج بنية الطلاق محرم وأنه داخل في نكاح المتعة وذلك لأن النية معتبرة في التأثير في الحكم لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ولأن الرجل لو تزوج المطلقة ثلاثاً بنية أنه يحللها للأول ثم يطلقها كان هذا النكاح باطلاً ومحرماً ولم تحل للزوج الأول كما لو شرط ذلك في نفس العقد وعلى هذا فتكون نية الطلاق كنية التحليل أي كما أن النية في التحليل مؤثرة فكذلك نية الطلاق مؤثرة أيضاً.
وقال بعض أهل العلم إن نية الطلاق ليست كشرطه لأن شرط الطلاق معناه أنه إذا تمت المدة ألزم به وكذلك المتعة إذا شرط على الإنسان أنه يتزوجها إلى أجل مسمى فإن معناه أو مقتضى هذا العقد أنه إذا تم الأجل المسمى انفسخ النكاح تلقائياً فليست النية كالشرط وهذا الفرق بين ظاهر لأن الشرط إذا تم الأجل انفسخ النكاح تلقائياً وإذا كان قد شرط عليه الطلاق فإنه يلزمه عند تمام المدة وهذا الفرق لاشك أنه مؤثر في الحكم ولكن عندي أن هذا حرام من وجه آخر أي أن الإنسان إذا تزوج بنيته أنه يطلقها إذا غادر البلد حرام من جهة أنه غش وخداع للزوجة وأهلها فإن الزوجة وأهلها لو علموا أن هذا الرجل إنما تزوجها بنية الطلاق إذا أراد السفر ما زوجوه في الغالب فيكون في ذلك خداع وغش لهم وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من(12/229)
غش فليس منا) فالحاصل أن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيما إذا تزوج الغريب بنية أنه متى أراد الرجوع إلى وطنه طلقها بدون شرط فذهب قوم من أهل العلم وهو مشهور من مذهب الإمام أحمد أن هذا النكاح فاسد وأنه نكاح متعة وعللوا ذلك بأن نية الطلاق كشرطه قياساً على التحليل الذي تكون نيته كشرطه وقال آخرون من أهل العلم إن النية لا تؤثر لأن الفرق بين النية والشرط هو أن الشرط إذا تم الأجل ألزم بالطلاق إن كان المشروط هو الطلاق أو انفسخ النكاح إن كان مؤجلاً إلى هذه المدة وهذا الفرق ظاهر يؤثر في الحكم ولكنه عندي أنه غش إذا نواه بدون أن يبينه للزوجة وأهلها لأنهم لو علموا بنيته هذه ما زوجوه في الغالب وحينئذ إما أن يعلمهم أو يكتم عنهم فإن أعلمهم فهو نكاح متعة وإن كتمه كان غشاً وخداعاً فلا ينبغي للمؤمن أن يعمل هذا العمل] شبكة الانترنت. ومن المتقدمين الإمام الأوزاعي وهو القول المعتمد عند الحنابلة.
وخلاصة الأمر أن الزواج بنية الطلاق ممنوع شرعاً ويحرم على المسلم أن يقدم عليه لمخالفته لمقاصد الشارع الحكيم ولما يترتب عليه من مفاسد كثيرة.
- - -(12/230)
إنصاف الابن الذي يعمل في تجارة أبيه دون إخوته
يقول السائل: أنا أكبر إخوتي وأشتغل مع والدي في محله التجاري منذ ثلاث وعشرين سنة حيث إن والدي أخرجني من المدرسة بعد الصف السادس، وخلال هذه المدة تضاعفت أموال والدي عدة مرات ووالدي الآن مريض وأخشى إن توفي والدي أن أعامل كبقية إخوتي في الميراث مع العلم أنهم لم يعملوا مع والدي بل تعلموا في الجامعات ويشتغلون في أعمالهم الخاصة، فما هي الطريقة الشرعية لأخذ حقي من أموال والدي، أفيدونا؟
الجواب: إن ما ورد في السؤال يحدث كثيراً في مجتمعنا المحلي حيث إن أحد الأبناء يعمل مع والده في تجارته أو مصنعه أو مزرعته أو غير ذلك، ويكون لهذا الابن دور واضح في تنمية أموال أبيه دون بقية إخوته فما الواجب على الأب لكي يكون منصفاً مع ابنه الذي ساعده وعمل معه وأسهم في تنمية أمواله، إن الذي أراه في هذه المسألة أن الواجب على الوالد أن يقوم بواحد من ثلاثة أمور:
الأول: أن يعامل الابن في هذه الحالة معاملة الأجنبي بدون محاباة فيقدر لهذا الابن جهد أمثاله في عمل مشابه لعمل أبيه فيقوم اثنان أو أكثر من أهل الخبرة والمعرفة بتقدير جهد المثل للابن عن المدة التي اشتغلها مع أبيه وبالتالي يكون الابن شريكاً لأبيه في المحل التجاري حسب النسبة التي يقدرها أهل الخبرة كالربع أو الثلث أو غير ذلك وبناءً على ذلك إذا توفي(12/231)
الأب فإن حصة الأب من المحل التجاري تكون حقاً للورثة ويكون الابن الأكبر أحد الوارثين.
الثاني: أن يقدر أهل الخبرة والمعرفة للابن الذي عمل مع أبيه أجر المثل فيعامل مثل العامل الأجنبي فيعطى الابن أجراً مماثلاً لأجر عامل يقوم بمثل عمله، فيصرف له ذلك الأجر. وفي حال وفاة الأب كان الابن الذي عمل مع أبيه كغيره من الورثة.
الثالث: أن ينصف الأب ابنه الذي عمل معه بأن يخصه بعطية من المال تقابل عمل الابن معه بشرط أن تنفذ العطية حال حياة الأب ولا تكون مضافة لما بعد الموت، وهذا الأمر جائز شرعاً على قول جماعة من أهل العلم وغير مخالف لمبدأ العدل في العطايا والهبات للأبناء فقد قرر جماعة من الفقهاء جواز تخصيص أحد الأبناء بالهبة لسبب مشروع، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل ... فإن خص بعضهم لمعنىً يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى، أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها، فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معناه ويحتمل ظاهر لفظه المنع من التفضيل أو التخصيص على كل حال لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيراً في عطيته، والأول أولى(12/232)
إن شاء الله لحديث أبي بكر رضي الله عنه، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها وترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال فإن قيل: لو علم بالحال لما قال: (ألك ولد غيره؟) قلنا: يحتمل أن يكون السؤال ها هنا لبيان العلة، كما قال عليه الصلاة والسلام للذي سأله عن بيع الرطب بالتمر: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قال: نعم: قال: فلا إذن) وقد علم أن الرطب ينقص لكن نبه السائل بهذا على علة المنع من البيع كذا ها هنا] المغني 6/51-53. وحديث أبي بكر الذي أشار إليه الشيخ ابن قدامة المقدسي هو ما رواه مسلم وغيره أن أبا بكر نحل عائشة جداد عشرين وسقاً دون سائر ولده.
[وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى بَعْضَ أَوْلادِهِ شَيْئًا وَلَمْ يُعْطِ الْآخَرَ ; لِكَوْنِ الْأَوَّلِ طَائِعًا لَهُ: فَهَلْ لَهُ بِرُّ مَنْ أَطَاعَهُ وَحِرْمَانُ مَنْ عَصَاهُ وَحَلَفَ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لا يُكَلِّمُ أَبَاهُ إنْ لَمْ يُوَاسِهِ: فَهَلْ لَهُ مَخْرَجٌ؟ وَهَلْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ تَجْرِي مَجْرَى الْأيمَانِ أَمْ لا؟
فأجاب: على الرجل أن يعدل بين أولاده كما أمر الله ورسوله فقد ثبت في الصحيحين (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلاً وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على ذلك فقال له: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم وقال: لا تشهدني على هذا فإني لا أشهد على جور وقال له: اردده) فرده بشير. وقال له على سبيل التهديد: (أشهد على هذا غيري) . لكن إذا خص أحدهما بسبب شرعي: مثل أن يكون(12/233)
محتاجاً مطيعاً لله والآخر غني عاص يستعين بالمال على المعصية فإذا أعطى من أمر الله بإعطائه ومنع من أمر الله بمنعه فقد أحسن] . مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/295.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة السعودية: [المشروع في عطية الأولاد هو التسوية بينهم في العطاء على السواء، ولا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي؛ لكون أحدهم مقعداً أو صاحب عائلة كبيرة أو لاشتغاله بالعلم، أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله فيما يأخذه ... ] فتاوى اللجنة الدائمة 16/193.
والقول بجواز تفضيل بعض الأولاد لمسوغ شرعي لا بأس به ولا يخالف الأدلة الواردة في وجوب العدل بين الأولاد في العطية
كالحديث الوارد عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلاماً - عبداً - وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان - زوجته - سألتني أن أنحل ابنها غلامي. فقال عليه الصلاة والسلام: له أخوة؟ قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم.(12/234)
وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم نعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري.
وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه البيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن.
فهذه الأحاديث تحمل على التفضيل بين الأولاد لغير مسوغ شرعي أما إذا وجد مسوغ شرعي فلا حرج.
وخلاصة الأمر أن العدل يقتضي أن ينصف الأب ابنه الذي اشتغل معه دون إخوته بطريقة من الطرق التي ذكرتها سابقاً.
- - -(12/235)
يجوز زواج الزانيين إذا تابا توبةً صادقة
يقول السائل: زنا شاب بفتاة واتفقت عائلتهما على تزويجهما والستر عليهما، فما الحكم في زواج الزانيين، أفيدونا؟
الجواب: الزنا كبيرة من كبائر الذنوب ومن الجرائم الاجتماعية الفظيعة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} سورة الإسراء الآية 32. قال الإمام القرطبي: [قال العلماء، قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنا] تفسير القرطبي 10/253. وقد جعل الله سبحانه وتعالى من صفات عباد الرحمن ترك الزنا فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة التحذير من الزنا وبيان ضرر الزنا فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) رواه البخاري ومسلم.(12/236)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) رواه البخاري، وما بين لحييه أي اللسان وما بين رجليه أي فرجه.
وورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. ومن المعلوم أن الأصل أن يقام الحد الشرعي على الزناة إذا بلغ الأمر للحاكم الشرعي.
إذا تقرر هذا فإنه يجوز للزانيين الزواج ولا بد لهما من التوبة الصادقة، فإن التوبة واجبة على العاصي لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} سورة التحريم الآية 8. وقال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة الزمر الآية 53.
وجاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/418.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي، وهو(12/237)
حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/418. ولا بد من التذكير بأن التوبة الصادقة لا بد لها من شروط:
أولها: الإقلاع عن المعصية فلا توبة مع مباشرة الذنب واستمرار الوقوع في المعصية.
ثانيها: الندم على ما مضى وفات فمن لم يندم على ما صدر عنه من المعاصي والآثام فلا توبة له لأن عدم ندمه يدل على رضاه بما كان منه وإصراره عليه.
ثالثها: أن يعزم على عدم العودة إلى المعصية مستقبلاً وهذا العزم ينبغي أن يكون مؤكداً قوياً وعلى التائب أن يكثر من فعل الخيرات ليكسب الحسنات {فإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} .
ورابعها: إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق الناس فلا بد من إعادة الحقوق لأصحابها.
فإذا تاب الزانيان وتحققت توبتهما ورجعا إلى أمر الله تعالى وندما على ما اقترفا وأصلحا فإن الله تواب رحيم، فلهما الزواج، والقول بجواز نكاح الزانيين التائبين هو قول جمهور أهل العلم وقد وردت آثار كثيرة عن الصحابة وغيرهم من السلف فمن ذلك: ما رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناده عن ابن عباس رضى الله عنهما فى الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها بعد. قال: كان أوله سفاح وآخره نكاح وأوله حرام وآخره حلال. وروى البيهقي أيضاً عن سعيد عن قتادة عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب(12/238)
وسعيد بن جبير فى الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها فقالوا: لا بأس بذلك إذا تابا وأصلحا وكرها ما كان.
وروى عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة قال: سمعت ابن شهاب يحدث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن رجل زنى بامرأة ثم يريد أن يتزوجها، قال: ما من توبة أفضل من أن يتزوجها، خرجا من سفاح إلى نكاح. مصنف عبد الرزاق.
وقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن ابن حباب عن بكير بن الأخنس عن أبيه قال: قرأت من الليل {حم عسق} فمررت بهذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} فغدوت إلى عبد الله أسأله عنها فأتاه رجل فسأله عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها فقرأ عبد الله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} .
وقال ابن أبي شيبة أيضاً حدثنا وكيع عن شريك عن عروة عن عبد الله بن بشير عن أبي الأشعث عن ابن عمر قال: أوله سفاح وآخره نكاح وأوله حرام وآخره حلال.
وحدثنا حفص عن أشعث عن الزهري أن رجلاً فجر بامرأة وهما بكران فجلدهما أبو بكر ونفاهما ثم زوجها إياه بعد الحول.
وحدثنا وكيع عن سفيان عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: لا بأس أن يتزوجها.(12/239)
وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: سأله رجل عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية:: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} .
وحدثنا جرير عن شعبة عن أبي نعامة قال: سئل سعيد بن جبير وأنا أسمع عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: هو أحق بها، أوله سفاح وآخره نكاح أحلها له ماله.
وحدثنا ابن عيينة عن عمرو بن جابر بن زيد قال: سئل عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها، قال: هو أحق بها، هو أفسدها.
وحدثنا وكيع عن سعيد بن حسان قال: سمعت حنظلة عن عكرمة قال: سألت سالماً عنه فقال: لا بأس به.
وحدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن جابر بن عبد الله قال: إذا تابا وأصلحا فلا بأس.
وحدثنا عباد بن عوام عن داؤد عن يزيد بن أبي منصور أو ابن منصور عن صلة بن أشيم قال: لا بأس إن كانا تائبين فالله أولى بتوبتهما وإن كانا زانيين فالخبيث على الخبيث.
وحدثنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سئل ابن عباس عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها، قال: الآن أصاب الحلال. مصنف ابن أبي شيبة(12/240)
وروى عبد الرزاق قال: سمعت أبا حنيفة يحدث عن حماد عن إبراهيم قال: سئل علقمة بن قيس عن رجل زنى بامرأة، هل يصلح له أن يتزوجها؟ قال:: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحكم بن أبان قال: سألت سالم بن عبد الله عن الرجل يزني بالمرأة ثم ينكحها، فقال: سئل عن ذلك ابن مسعود، فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} .
وخلاصة الأمر أنه يجوز للزانيين الزواج بعد أن يرتفع عنهما وصف الزنا ولا يكون ذلك إلا بالتوبة الصادقة بشروطها السابقة.
- - -(12/241)
النساء أولى بالحضانة من الرجال
يقول السائل: ماتت امرأة وتركت أطفالاً صغاراً وعهدت بهم لأمها، وتزوج زوجها بعدها ويطالب بحضانة أولاده وجدتهم لأمهم تصر على حضانتهم فمن الأحق بحضانة الأطفال في هذه الحالة، أفيدونا؟
الجواب: الحضانة عند الفقهاء هي القيام على شؤون الولد وحفظه وتربيته والاعتناء به في جميع مصالحه. والحضانة واجبة شرعاً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك] المغني 8/237.
ومما يدل على مشروعية الحضانة ما ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الشيخ العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن أبي داود 2/430. وانظر أيضاً إرواء الغليل 7/244 وغير ذلك من النصوص.
وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن جنس النساء أحق بالحضانة من جنس الرجال، قال الإمام النووي: [الحضانة هي القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره وتربيته بما يصلحه ووقايته عما يؤذيه وهي نوع من ولاية(12/242)
وسلطنة لكنها بالإناث أليق لأنهن أشفق وأهدى إلى التربية وأصبر على القيام بها وأشد ملازمة للأطفال] روضة الطالبين 6/504.
ومما يدل على أن النساء أولى بالحضانة من الرجال ما ورد في الحديث عن ابن جريج أخبرني زياد عن هلال بن أسامة أن أبا ميمونة سليم مولى من أهل المدينة رجل صدق قال بينما أنا جالس مع أبي هريرة جاءته امرأة فارسية معها ابن لها فادعياه وقد طلقها زوجها فقالت يا أبا هريرة ورطنت له بالفارسية زوجي يريد أن يذهب بابني فقال أبو هريرة استهما عليه ورطن لها بذلك فجاء زوجها فقال من يحاقني في ولدي فقال أبو هريرة: اللهم إني لا أقول هذا إلا أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الترمذي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/431.
وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر الحديث الذي سقته أولاً وفيه قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة: (أنت أحق به ما لم تنكحي) [ودل الحديث على أنه إذا افترق الأبوان وبينهما ولد فالأم أحق به من الأب ما لم يقم بالأم ما يمنع تقديمها أو بالولد وصف يقتضي تخييره وهذا ما لا يعرف فيه نزاع وقد قضى به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر على(12/243)
عمر بن الخطاب ولم ينكر عليه منكر. فلما ولي عمر قضى بمثله فروى مالك في الموطأ: عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول كانت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر ثم إن عمر فارقها فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال عمر: ابني. وقالت المرأة ابني فقال أبو بكر رضي الله عنه خل بينها وبينه فما راجعه عمر الكلام، قال ابن عبد البر: هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل وزوجة عمر أم ابنه عاصم هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري. قال وفيه دليل على أن عمر كان مذهبه في ذلك خلاف أبي بكر ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكم والإمضاء ثم كان بعد في خلافته يقضي به ويفتي ولم يخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبي صغيراً لا يميز ولا مخالف لهما من الصحابة. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أخبره عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية أم ابنه عاصم فلقيها تحمله بمحسر وقد فطم ومشى فأخذ بيده لينتزعه منها ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى وقال أنا أحق بابني منك فاختصما إلى أبي بكر فقضى لها به وقال ريحها وفراشها وحجرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه ومحسر: سوق بين قباء والمدينة. وذكر عن الثوري عن عاصم عن عكرمة قال خاصمت امرأة عمر عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهم وكان طلقها فقال أبو بكر رضي الله عنه(12/244)
الأم أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأرأف هي أحق بولدها ما لم تتزوج. وذكر عن معمر قال سمعت الزهري يقول إن أبا بكر قضى على عمر في ابنه مع أمه وقال أمه أحق به ما لم تتزوج] زاد المعاد 5/435-437.
إذا تقرر هذا فإن أم الأم أحق بالحضانة من الأب باتفاق المذاهب الأربعة وهو ما قرره قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا فقد ورد في الفصل السادس عشر منه ما يلي [الحضانة، صاحب الحق في الحضانة من النساء، المادة 154: الأم النسبية أحق بحضانة ولدها وتربيته حال قيام الزوجية، وبعد الفرقة، ثم بعد الأم يعود الحق لمن تلي الأم من النساء حسب الترتيب المنصوص عليه في مذهب الإمام أبي حنيفة] .
والترتيب المنصوص عليه في مذهب الإمام أبي حنيفة هو تقديم الأم أولاً، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الأخوات، وتقدم الأخت من الأب والأم، ثم الأخت من الأم، ثم الأخت من الأب، ثم الخالات، ثم العمات، فإن لم يكن للصبي امرأة من أهله تستحق الحضانة، واختصم فيه الرجال فأولاهم به أقربهم تعصيباً. فيقدم الأب ثم الجد ثم الأخ، انظر تفصيل ذلك في حاشية ابن عابدين 3/555 فما بعدها.
ومما ينبغي ذكره أن حضانة أم الأم لأولاد ابنتها المتوفاة تستمر إلى أن يبلغ الصغير تسع سنوات وتبلغ الصغيرة الحادية عشرة من عمرها كما ورد في قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا في المادة 161: [تنتهي حضانة غير الأم من النساء للصغير إذا أتم التاسعة وللصغيرة إذا أتمت الحادية عشرة] .(12/245)
وخلاصة الأمر أن أم الأم أحق بحضانة أولاد ابنتها المتوفاة من أبيهم وهذا هو المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا.
- - -
حكم دراسة الفتاة في مدرسة تمنعها
من ارتداء الجلباب
يقول السائل: ما حكم دراسة الفتاة المسلمة في مدرسة تشترط عليها أن لا تلبس الجلباب ويلزم ولي أمرها بتوقيع تعهد بذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن لبس الجلباب بشروطه الشرعية فريضة على المرأة المسلمة المكلفة شرعاً يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الأحزاب الآية 59. فهذه الآية الكريمة أوجبت اللباس الشرعي على جميع النساء المسلمات. وقال تعالى: {قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} سورة النور الآيتان 30-31.(12/246)
وثبت في الحديث عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال صلى الله عليه وسلم: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (أنها كانت عند أختها عائشة رضي الله عنها وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا - أي وجهها وكفيها -) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. والذي يؤخذ من هذه الأدلة أن ستر المرأة لجميع بدنها إلا ما استثني واجب أوجبه الله سبحانه وتعالى على المرأة المسلمة وقد بينت نصوص الكتاب والسنة شروط هذا اللباس وهي:
أولاً: أن يكون ساتراً لجميع بدن المرأة ما عدا الوجه والكفين على قول جمهور أهل العلم لما جاء في رواية أخرى لحديث أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها السابق (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثيابٌ رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن(12/247)
المرأة إن إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) رواه أبو داود والبيهقي وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني. فينبغي للمرأة المسلمة أن تغطي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ويدخل في ذلك القدمان.
ثانياً: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق لأن الضيق يصف جسم المرأة وهذا يتنافى مع المقصود من الحجاب ولا يتحقق ذلك إلا باللباس الفضفاض الواسع.
ثالثاً: أن يكون صفيقاً غير شفاف أي ثخيناً سميكاً فلا يشف عما تحته وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر أمتي نساءٌ كاسياتٌ عاريات على رؤوسهن كأسمنة البخت العنوهن فإنهن ملعونات) رواه الطبراني بسندٍ صحيح كما قال الشيخ الألباني.
رابعاً: أن لا يكون زينةً في نفسه فلا يجوز للمرأة أن تلبس ما يبهر العيون من الملابس التي عليها نقوشٌ وزخارف مذهبة ونحو ذلك لأن هذه الملابس زينة في نفسها وقد نهيت المرأة عن إظهار زينتها قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ... } ونهى الله سبحانه وتعالى عن التبرج في قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} .
خامساً: أن لا يكون معطراً مطيباً فلا يحل للمرأة أن تستعمل الطيب والعطور إذا خرجت من بيتها لقوله صلى الله عليه وسلم (أيما إمرأة(12/248)
استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) رواه النسائي وأبو داود والترمذي وقال حسنٌ صحيح.
سادساً: أن لا يشبه لباس الرجل، إن المرأة بطبيعتها وتكوينها الجسدي تختلف عن الرجل فلها لباسها وللرجل لباسه فلذلك لا يحل للمرأة أن تتشبه بالرجل وكذلك لا يحل للرجل أن يتشبه بالمرأة فقد جاء في الحديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وجاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري.
سابعاً: أن لا يشبه لباس غير المسلمات لأن الإسلام نهى عن التشبه بغيرهم في أمور كثيرة وللمسلمين شخصيتهم وهيئتهم الخاصة بهم فعليهم أن يخالفوا غيرهم في ذلك فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها) رواه مسلم.
ثامناً: أن لا يكون لباس شهرة وهو كل ثوب قصد به الاشتهار بين الناس كأن يكون نفيساً جداً ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من لبس ثوب شهرةٍ في الدنيا ألسبه الله ثوب مذلةٍ يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً)(12/249)
رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديثٌ حسن. فهذه الشروط إذا توفرت في اللباس كان لباساً شرعياً.
إذا تقرر هذا فأعود إلى ما ورد في السؤال فأقول إنه يحرم على الفتاة المسلمة أن تدرس في مدرسة تمنعها من لبس الجلباب لأن لبسه فريضة كما سبق، وخاصة أن الفتاة في ديارنا ليست مضطرة للدراسة في هذه المدرسة بالذات وإن كانت هذه المدرسة متميزة في التعليم أو أنها تدرس اللغات الأجنبية، فلا يجوز شرعاً للمسلم أن يضيع فريضة من فرائض الله عز وجل من أجل مثل هذه الأمور، وكذلك يحرم على ولي أمر الفتاة أن يوقع أي تعهد أو إقرار بالموافقة على أن تنزع ابنته الجلباب أو أن لا تلبسه خلال فترة دراستها في تلك المدرسة أو غيرها من المدارس التي تشترط هذا الشرط الباطل، لأن ذلك يعتبر طاعة في معصية الله عز وجل، والطاعة لها حدود لا يجوز تجاوزها فإذ أُمِرَ المسلم بالقيام بمعصية سواء أكان الآمر مسلماً أو غير مسلم حاكماً أو غير حاكم فلا يجوز للمسلم الطاعة في المعصية. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه البخاري. وقد نص العلماء على أن الطاعة تكون في غير معصية فقد روى الإمام البخاري الحديث السابق في (باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية) صحيح البخاري مع فتح الباري 16/239. وقال ابن خواز منداد من كبار فقهاء المالكية: [وأما(12/250)
طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان فيه معصية] تفسير القرطبي 5/259.
وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لأحد في معصية الخالق) رواه أحمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وسنده قوي. فتح الباري 5/241، وقال العلامة الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. وجاء في رواية أخرى: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي رواية صحيحة. سلسلة الأحاديث الصحيحة للعلامة الألباني 1/137-144.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز للمسلمة أن تخلع حجابها لتدرس في مدرسة معينة ولا يجوز لها أن توافق على عدم لبسه وكذلك يحرم على وليها أن يوقع أي تعهد أو إقرار بذلك بحجة الدراسة لأن ذلك ليس من الضرورة التي تبيح المحرمات. ويجب على المسؤولين عن التعليم في بلادنا أن يلزموا هذه المدارس بإلغاء هذا الشرط وذلك الإقرار الباطل. وعلى الناس عامة أن يقاطعوا هذه المدارس مقاطعة تامة.
- - -(12/251)
رضاع الكبير
يقول السائل: ما قولكم في الفتوى المتعلقة برضاع الكبير والتي صدرت عن أحد مشايخ الأزهر، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن مسألة رضاع الكبير من المسائل التي يدور حولها الخلاف قديماً وحديثاً فمنذ عهد الصحابة وجد الخلاف فيها وكذا اختلف فيها الفقهاء وتعددت الآراء فيها وما زال الخلاف قائماً حتى عصرنا الحاضر وهذا الأمر ليس بمستغرب، ولكن الأمر المستهجن هو طريقة طرح هذه المسألة من بعض المشايخ وطريقة تناول وسائل الإعلام لها، فبعض القنوات الفضائية عرضت المسألة بشكل جنسي مثير واتخذها بعض الكتاب مدخلاً للطعن في السنة النبوية والطعن في السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها توصلاً للقدح في دين الإسلام.
ولا بد أن أقرر أن الحديث الوارد في رضاع الكبير حديث صحيح ثابت، فقد رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أهل الحديث وأسوق روايته كما وردت في سنن أبي داود (عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ(12/252)
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولىً وأخاً في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله: إنا كنا نرى سالماً ولداً وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلى - أي منكشف بعضها - وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس) .
قال الإمام الشوكاني: [هذا الحديث قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وهي من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواه من التابعين القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ورواه عن هؤلاء الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم،(12/253)
وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم، ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد الكثير، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر وقد استدل بذلك من قال إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم] نيل الأوطار 7/119. فالحديث ثابت لا شك فيه، ولكن أهل العلم اختلفوا في توجيهه، وأكثر العلماء على أن الحديث حادثة خاصة ولا يصح حملها على العموم.
فالرضاع المؤثر ما كان في الصغر. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} سورة البقرة الآية 233. يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: [هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة؛ وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك] . تفسير ابن كثير 1/567.
وثبت في الحديث أن عائشة رضي الله عنها قالت دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قال يا عائشة من هذا قلت أخي من الرضاعة قال يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة) رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: قوله (فإنما الرضاعة من المجاعة) فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر، لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرماً. وقوله "من المجاعة" أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً لسد اللبن جوعته، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة(12/254)
فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة] فتح الباري 9 / 148.
وروى الترمذي بإسناده عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي –أي في زمن الرضاع - وكان قبل الفطام) قال أبو عيسى – أي الترمذي - هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا) سنن الترمذي 3/458-459.
وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (لا رضاع إلا ما شدَّ العظم، وأنبت اللحم) .
ونقل الإمام الشافعي في كتابه الأم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: إنما الرضاع رضاع الصغير. وغير ذلك من الأدلة.
وقال العلامة محمد العثيمين: [من الشروط أيضاً عند جمهور أهل العلم أن يكون الرضاع في زمنه أي في الزمن الذي يتغذى فيه الطفل بالرضاع أما إذا تجاوز ذلك الزمن بأن فطم ولم يكن مرتكزاً في رضاعه على اللبن فإن تأثير اللبن في حقه غير واقع، لا يؤثر وقد ذهب بعض العلماء إلى أن رضاع الكبير محرم لعموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة أبي حذيفة بالنسبة لمولي أبي حذيفة سالم قال(12/255)
أرضعيه تحرمي عليه وكان كبيراً يخدمهم واستدل بعض العلماء بهذا على أن رضاع الكبير مؤثر ومحرم لكن الجمهور على خلاف ذلك وأنه لا يؤثر ولا يحرم واختار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله التفصيل وقال إذا دعت الحاجة إلى إرضاع الكبير وأرضع ثبت التحريم وإلا إذا لم يكن ثم حاجة لم يثبت. ولكن الراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الخلوة بالنساء قالوا يا رسول الله أرأيت الحمو قال الحمو الموت محذراً من خلوة قريب الزوج لزوجته ولو كان الرضاع موجباً لتحريم الخلوة لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لدعاء الحاجة لبيانه لقال مثلاً إذا كان للزوج أخ وهو معهم في السكن فهو محتاج إلى أن يخلو بزوجته، ولو كان ثمة علاج لهذه الحالة الواقعية التي يحتاج الناس إليها لقال الرسول عليه الصلاة والسلام ترضعه وتنتهي المشكلة، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع دعاء الحاجة إليه في هذا الأمر العظيم دل هذا على أن لا أثر في رضاع الكبير وهذا هو الراجح وأنه ينبغي تجنب إرضاع الكبير مهما كانت الظروف حتى لا يقع في مشاكل] موقع الشيخ على الإنترنت.
وفي كلام الشيخ العثيمين أبلغ ردٍ على ما ورد في الفتوى المذكورة لحل مشكلة الاختلاط حسب ما زعمه ذلك المفتي الذي زعم أن إرضاع الكبير يضع حلاً لمشكلة الخلوة!!! وفي الحقيقة إن إثارة هذا النوع من الفتاوى بهذه الطريقة إنما هو عبث وتلاعب بالأحكام الشرعية، وقد فتحت هذه الفتوى باب شر على المسلمين ومن أراد أن يتعرف على شيء من ذلك فليقرأ ما كتب عن(12/256)
هذه الفتوى على شبكة الإنترنت. ولا بد من التنبيه أخيراً أن صاحب الفتوى المذكورة قد رجع عن فتواه وأنه رجع إلى قول جمهور الفقهاء أن الرضاع المحرم ما كان في الصغر. والرجوع إلى الحق فضيلة.
وخلاصة الأمر أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الرضاع المؤثر ما كان في الصغر. والفتوى المذكورة لم تأخذ بعين الاعتبار الأسس العلمية التي تبنى عليها الفتاوى كما قررها الفقهاء والأصوليون، وينبغي على المفتين والعلماء والخطباء عدم إثارة مثل هذه المسائل التي تشوش على عامة الناس.
- - -(12/257)
الجنايات
والحدود(12/258)
عاقلة المرأة
يقول السائل: دهست امرأة شخصاً عن طريق الخطأ فمات وألزمت المرأة بالدية فهل زوج المرأة ملزم بتحمل الدية، أفيدونا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن موجب القتل الخطأ أمران: أولهما الدية والثاني الكفارة ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} سورة النساء الآية 92. والدية الشرعية تقدر بألف دينار ذهبي وتساوي في أيامنا هذه أربعة آلاف ومئتان وخمسون غراماً من الذهب عيار 24 قيراطاً، وأما الكفارة فهي صيام شهرين متتابعين نظراً لفقدان الرقاب في أيامنا هذه، حيث إن كفارة القتل على الترتيب وليست على التخيير.
واتفق العلماء على أن الدية في القتل الخطأ تكون على عاقلة القاتل، وأصل ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى أن دية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري، وفي رواية عند مسلم عن أبي(12/260)
هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة الهذلي يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع) . والعاقلة هم العصبة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العاقلة: من يحمل العقل. والعقل: الدية، تسمى عقلاً؛ لأنها تعقل لسان ولي المقتول. وقيل: إنما سميت العاقلة، لأنهم يمنعون عن القاتل ... ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات، وأن غيرهم من الإخوة من الأم، وسائر ذوي الأرحام، والزوج، وكل من عدا العصبات، ليس هم من العاقلة] المغني 8/390.
ويدخل في العاقلة أب القاتل وجده لأبيه وأبناؤه، وإخوته وأبناؤهم، وعمومته وأبناؤهم، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، انظر المغني 8/390- 391. وبما أن المرأة المذكورة في السؤال قد قتلت المدهوس خطأً، فالدية على عاقلتها، وقد ورد في إحدى روايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق قال (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على(12/261)
عصبتها) رواه البخاري. ولا يدخل في العصبة زوج المرأة ولا ابنها إلا إذا كانا من عصبتها كالمرأة المتزوجة من ابن عمها فزوجها وأولادها حينئذ من عصبتها، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... قال ابن بطال: يريد أن ولد المرأة إذا لم يكن من عصبتها لا يعقل عنها لأن العقل على العصبة دون ذوي الأرحام ولذلك لا يعقل الإخوة من الأم، قال: ومقتضى الخبر أن من يرثها لا يعقل عنها إذا لم يكن من عصبتها، وهو متفق عليه بين العلماء كما قاله ابن المنذر] فتح الباري 12/315. [وتقسم الدية على الأقرب فالأقرب، فتقسم على الإخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم، ثم أعمام الأب وبنيهم، ثم أعمام الجد وبنيهم] الموسوعة الفقهية الكويتية 29/222.
ويجب أن يعلم أن دية القتل الخطأ تؤدى مقسطة على ثلاث سنوات، قال الإمام الترمذي: [وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين في كل سنة ثلث] ، قال المباركفوري في شرحه: [قوله: (وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلات سنين) روى ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: أول من فرض العطاء عمر وفرض فيه الدية كاملة في ثلاث سنين، ثلثا الدية في سنتين، والنصف في سنتين، والثلث في سنة، وما دون ذلك في عامه. وأخرجه عبد الرزاق من طريق عن عمر كذا في الدراية. ولفظ عبد الرزاق في طريق أن عمر بن الخطاب جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين، وجعل نصف الدية في سنتين، وما دون النصف في سنة. ولفظه في طريق أخرى: إن عمر جعل الدية في الأعطية في ثلات سنين، والنصف(12/262)
والثلثين في سنتين، والثلث في سنة، وما دون الثلث فهو في عامه، ولفظه في رواية أخرى وقضى بالدية في ثلاث سنين وفي كل سنة ثلث على أهل الديوان في أعطياتهم. وقضى بالثلثين في سنتين، وثلاث في سنة وما كان أقل من الثلث فهو في عامه ذلك] تحفة الأحوذي 8/536.
وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي أنه لا خلاف بين العلماء في أن الدية مؤجلة في ثلاث سنين. فإن عمر وعلياً رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا يعرف لهما في الصحابة مخالف. انظر المغني 8/375.
ولا بد من التنبيه إلى أنه إذا أخذت الدية من شركات التأمين فلا يجوز أخذها من العاقلة. وقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي موضوع العاقلة وتطبيقاتها المعاصرة في تحمل الدية وذلك في دورته السادسة عشرة بدولة الإمارات العربية المتحدة في شهر صفر 1426هـ الموافق نيسان2005م، وبعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت، قرر ما يأتي:
أولاً: تعريف العاقلة: هي الجهة التي تتحمل دفع الدية عن الجاني في غير القتل العمد دون أن يكون لها حق الرجوع على الجاني بما أدته. وهي العصبة في أصل تشريعها، وأهل ديوانه الذين بينهم النصرة والتضامن.
ثانياً: ما لا تتحمله العاقلة: العاقلة لا تتحمل ما وجب من الديات عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً.(12/263)
ثالثاً: التطبيقات المعاصرة: عند عدم وجود العشيرة أو العصبة التي تتحمل الدية، فإنه يجوز أن ينوب عنها عند الحاجة، بناءً على أن الأساس للعاقلة هو التناصر والتضامن، ما يلي:
(أ) التأمين الإسلامي (التعاوني أو التكافلي) الذي ينص نظامه على تحمل الديات بين المستأمنين.
(ب) النقابات والاتحادات التي تقام بين أصحاب المهنة الواحدة، وذلك إذا تضمن نظامها الأساسي تحقيق التعاون في تحمل المغارم.
(ج) الصناديق الخاصة التي يكونها العاملون بالجهات الحكومية والعامة والخاصة لتحقيق التكافل والتعاون بينهم.
رابعاً: التوصيات:
• يوصي مجمع الفقه الإسلامي مختلف الحكومات والدول الإسلامية بأن تضع في تشريعاتها نصوصاً تضمن عدم ضياع الديات، لأنه لا يُطَلَّ (لا يُهدر) دم في الإسلام.
• على الجهات ذات العلاقة العمل على إشاعة روح التعاون والتكافل في مختلف أفراد الجماعة والتجمعات التي تربط بيني أعضائها رابطة اجتماعية. ويتحقق ذلك بالآتي:-
(أ) تضمين اللوائح والتنظيمات المختلفة مبدأ تحمل الديات.(12/264)
(ب) قيام شركات التأمين الإسلامية في مختلف دول العالم الإسلامي بعمل وثائق تشمل تغطية الحوادث ودفع الديات بشروط ميسرة وأقساط مناسبة.
(ج) مبادرة الدول الإسلامية إلى تضمين بيت المال (الخزانة العامة) مهمة تغطية الديات عند فقد العاقلة، وذلك لتحقيق الأغراض الاجتماعية التي تناط ببيت المال – ومنها تحمل الديات – بالإضافة إلى دوره الاقتصادي.
(د) دعوة الأقليات الإسلامية في مختلف مناطق العالم إلى إقامة تنظيمات تحقق التعاون والتكافل الاجتماعي فيما بينهم، والنص صراحة على تغطية تعويضات حوادث القتل وفقاً للنظام الشرعي.
(هـ) توجيه رسائل إلى الحكومات والهيئات والجمعيات والمؤسسات الاجتماعية لتفعيل أعمال البر والإحسان، ومنها الزكاة والوقف والوصايا والتبرعات كي تسهم في تحمل الديات الناتجة عن القتل الخطأ] .
وخلاصة الأمر أن على المرأة المذكورة في السؤال صيام شهرين متتابعين وذلك كفارة القتل الخطأ الذي وقع منها، وتلزم الدية عاقلتها وهم عصبتها كما وضحت سابقاً.
- - -(12/265)
حكم اليمين والخمسة المعمول بها
في القضاء العشائري
يقول السائل: ما قولكم فيما يسمى باليمين والخمسة في القضاء العشائري، وهل هو معتبر في شريعتنا الإسلامية، أفيدونا؟
الجواب: ما يعرف بالقضاء العشائري هو في الحقيقة قضاء بالعرف وهو كما يقول المهتمون به: [مجموعةٌ من القوانين والأعراف المتداولة والمتعارف عليها، والتي تحوي خلاصة تجارب السنين، وما مرَّ به المجتمع البدوي من أمور ومشاكل، تكرَّر حدوثها حتى وجد الناس لها حلولاً رضوا عنها، وصاروا يتعاملون بها حتى ثبتت وأصبحت دستوراً يتعامل به الناس ويسيرون وفق نظامه وتعاليمه. وهذا القانون قابل للتعديل والإضافة، ليتماشى مع كلّ عصر وفق بيئته وظروفه] شبكة الانترنت.
ولا شك أن للعرف العشائري جوانب إيجابية في المجتمع، حيث يلجأ الناس لرجال العشائر في الحوادث وخاصة حوادث القتل ولهم دور خاص في تهدئة النفوس عند حصول حوادث القتل بأخذ ما يعرف بالعطوة، ولكن هنالك أموراً كثيرة في الأعراف العشائرية مخالفة لشرع الله عز وجل يحرم الحكم بها.
وأما اليمين بخمسة ويسمى أيضا يمين دين بخمسة وهو عادة وعرف عشائري يلجأ إليه في حال عدم توفير الأدلة التي تدين المتهم، ويطلب من(12/266)
الشخص المتهم وخمسة من حمولته أن يزكوا يمينه بأنه صادق فيما حلف، ويؤخذ يمين دين بخمسة في قضايا العرض وقضايا الدم وقضايا الأرض وفي المعاملات التي تزيد قيمتها عن ألف دينار (ثمن بعير) [ويقول قضاة العشائر: اليمين بخمسة إما في الرقبة أو في المال الذي يعدل الرقبة والعرض والأرض وكل تهمة قد تصل إلى حدود ذلك فيحق للمدعي أن يطالب بهذه اليمين، ويقوم المدعي باختيار خمسة أشخاص ثقات من أهل الدين من عصبة المتهم نفسه فيأتون عند القاضي العشائري فيقرأ القاضي صيغة القسم على مسمعهم وصيغته:"والله العظيم الذي ما أعظم منه عظيم إني بريء فيما اتهمت فيه، وأني لا بآلي ولا بأعلم – أي ليس عندي علم ولا دراية - ولا لي هبّة ولا سبّة" – الهبة والسبة: أني لم أحرض أحداً ولم أتسبب في شيء مما جرى - ثم يقوم الأربعة بالتتالي فيقول كل واحد منهم: وأنا أشهد بالله العظيم أنه صادق فيما قال. فإذا حلف المتهم وزكى له الأربعة فعندها تنتهي القضية بالنسبة للمتهم أما إذا تراجع واحد منهم عن اليمين أو رفض الحلف أصلاً فيكون المتهم قد وقع في الحرج وخسر القضية] القضاء العشائري في بئر السبع ص 127 بتصرف. ويجب أن يعلم أولاً أن العرف له اعتبار في الشرع كما هو مذهب كثير من العلماء، قال العلامة ابن عابدين الحنفي في منظومته:
والعرف له اعتبار ... فلذا الحكم عليه قد يدار(12/267)
انظر نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف في الجزء الثاني من رسائل العلامة ابن عابدين ص112.
ولكن لا يعتبر العُرف في الشرع إلا بشروط هي: الشرط الأول: أن يكون العرف عاماً أو غالباً.
الشرط الثاني: أن يكون العرف مطرداً أو أكثرياً.
الشرط الثالث: أن يكون العرف موجوداً عند إنشاء التصرف.
الشرط الرابع: أن يكون العرف ملزماً؛ أي: يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس.
الشرط الخامس: أن يكون العرف غير مخالف لدليل معتمد.
الشرط السادس: أن يكون العرف غير معارض بعُرف آخر في نفس البلد.
فإذا توفرت هذه الشروط فإن العرف حجة ... ] الجامع في أصول الفقه
إذا تقرر هذا فإن اليمين والخمسة وسيلة محرمة في شرعنا ولا يجوز التعامل معها لمخالفتها أدلة الشرع المعتبرة بشكل عام، وليست من طرق الإثبات المعتبرة في القضاء الشرعي لما يلي:
أولاً: من المعلوم عند العلماء أنه إذا تعذر على المدعي تقديم بينة بدعواه فإن اليمين تتوجه للمدعى عليه لما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) رواه البيهقي وأصله في الصحيحين وهو حديث حسن. والذي يطالب بالحلف هو الشخص المدعى عليه ولا(12/268)
يجوز لأحد أن يحلف نيابة عنه، ولا تزر وازرة وزر أخرى. ويدل على ذلك أيضا ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم الطالب البينة، فلم تكن له بينة فاستحلف المطلوب فحلف بالله الذي لا إله إلا هو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى قد فعلت ولكن قد غفر لك بإخلاص قول لا إله إلا الله) رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/631.
ثانياً: إذا نكل واحد من الخمسة عن اليمين لأي سبب من الأسباب فإن التهمة تثبت على المدعى عليه، وهذا ظلم واضح وإدانة للمتهم بدون حجة ولا برهان.
ثالثاً: إذا حلف الخمسة وهم لم يحضروا الحادثة فشهادتهم شهادة زور وهي من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} سورة الحج الآية 30. وقد ثبت في الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم.(12/269)
وخلاصة الأمر أن اليمين والخمسة المستعملة في الإثبات في الأعراف العشائرية وسيلة باطلة شرعاً، ويحرم استخدامها ويمكن تعديلها فيحلف الخمسة أنهم مثلاً ما علموا على المتهم أنه قام بما اتهم به ونحو ذلك.
- - -(12/270)
الصلح على أكثر من الدية في القتل العمد
يقول السائل: قُتل رجلٌ ظلماً وعدواناً وكما تعلمون أن القصاص معطل في وقتنا الحاضر فتصالح أهل المقتول مع جماعة القاتل على دفع أكثر من الدية المقررة شرعاً فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى وقتل النفس المعصومة عمداً من أكبر الكبائر وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري.(12/271)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233-234.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ... كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن(12/272)
وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630.
إذا تقرر هذا فقد اتفق أهل العلم على وجوب القصاص في حق القاتل عمداً لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} سورة البقرة الآية 178. وجمهور الفقهاء يرون جواز قبول الدية بعد إسقاط حق أولياء القتيل في القصاص وهذا قول الحنابلة وبعض الشافعية وهو رواية عن الإمام مالك وبه قال أهل الظاهر وروي عن جماعة من فقهاء التابعين كسعيد بن(12/273)
المسيب ومحمد بن سيرين وعطاء ومجاهد، وهذا أرجح أقوال الفقهاء في المسألة ويدل عليه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة البقرة، الآية 178. روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال: فالعفو أن يقبل الدية في العمد] صحيح البخاري مع الفتح 8/221. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودي وإما أن يقاد) رواه البخاري ومسلم.
وبناءً على ما سبق فإنه يجوز لأولياء القتيل أن يصلحوا على أكثر من الدية على الراجح من قولي العلماء في المسألة وهو قول جمهور الفقهاء، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها، لا أعلم فيه خلافاً] المغني 8/363.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} سورة البقرة، الآية 178.
وورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً- وهو من يجمع أموال الزكاة - فلاجَّه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه(12/274)
وسلم فقالوا: القود يا رسول الله فقال: لكم كذا وكذا فلم يرضوا فقال: لكم كذا وكذا فرضوا فقال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا: نعم فخطب فقال إن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا أفرضيتم قالوا: لا فهم المهاجرون بهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ثم دعاهم فزادهم فقال: أفرضيتم قالوا: نعم قال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا: نعم فخطب فقال: أرضيتم فقالوا: نعم) . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني كما في صحيح سنن النسائي 3/990.
قال صاحب عون المعبود: [وفي هذا الحديث من الفقه ... وجواز إرضاء المشجوج بأكثر من الدية في الدية إذا طلب المشجوج القصاص] 12/172. ومما يدل على جواز الصلح على أكثر من الدية ما ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل عمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة وأربعين خلفة - أي حامل- وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل) رواه الترمذي وحسنه ورواه ابن ماجة أيضاً وحسنه العلامة الألباني كما في صحيح سنن الترمذي 2/54.
فهذا الحديث يدل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/292.
وقال الشيخ محمد الشنقيطي: [وإن حصل صلح فيجوز أن يصالح على أكثر من الدية وفي هذا قصة هدبة المعروفة أنه قتل رجلاً وكان الرجل المقتول(12/275)
أولياؤه يتامى قاصرون منهم ابن المقتول فانتظر حتى بلغ الإبن حبس هدبة ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله عنه فحبس فشفع سعيد بن العاص، وكذلك الحسن والحسين رضي الله عنهم شفعوا من أجل أن يسامح ولي المقتول وبذلوا لابن القتيل سبع ديات حتى يسامح وامتنع إلا القتل فقتل به، والشاهد في كون الصحابة بذلوا أكثر من الدية فاجتمع طبعاً دليل السُّنة ودليل الأثر عن الصحابة، وعلى هذا جمهور العلماء رحمهم الله على أنه يجوز في الصلح عن الديات بأكثر من الدية] شبكة الإنترنت، وقد ذكر الحادثة الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 8/363.
وخلاصة الأمر أنه يجوز تصالح أولياء المقتول مع جماعة القاتل عمداً على أكثر من الدية، وأرى أنه ينبغي التشديد مالياً على القاتل عمداً في زماننا هذا، نظراً لتعطل القصاص لعل ذلك يكون رادعاً للناس عن القتل عمداً.
- - -(12/276)
متفرقات(12/277)
ترك مجالسة أهل الأهواء وآكلي لحوم العلماء
يقول السائل: ما حكم حضور دروس الذين يتطاولون على العلماء ويشككون عامة الناس بكتب أهل العلم ويأتون بأمور غريبة مخالفة لما عليه علماء الإسلام، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أن يعلم أولاً أن احترام العلماء وتقديرهم أمر مطلوب شرعاً، وقد وردت نصوص كثيرة في تقدير العلماء واحترامهم، قال الإمام النووي: [باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم] . ثم ذكر قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} سورة الزمر الآية 9، ثم ساق الإمام النووي طائفة من الأحاديث في إكرام العلماء والكبار وأحيل القارئ إلى كتاب رياض الصالحين للإمام النووي ص 187-192.
ومما ورد أيضاً ما جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) رواه أحمد والحاكم وقال العلامة الألباني حديث حسن، كما في صحيح الترغيب والترهيب 1/152. وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية المشهورة: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا(12/279)
يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل] شرح العقدية الطحاوية ص 554.
وقد حذر العلماء من سب العلماء ومن الوقيعة بهم فقد ورد عن الإمام أحمد بن الأذرعي قوله: [الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب] حرمة أهل العلم ص 319.
وقال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء: [إنما نحترمك ما احترمت الأئمة] .
وقال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ] . ومع كل هذه النصوص التي تحث على ما سبق وغيرها من النصوص الشرعية التي تحرم السب والشتم واللعن والوقوع في أعراض المسلمين إلا أن بعض الناس من أشباه طلبة العلم ليس لهم شغل إلا شتم العلماء وسبهم على رؤوس الأشهاد في المساجد وفي الصحف والنشرات ويحاول هؤلاء المتسلقين على حياض العلم الشرعي تشويه صورة العلماء وتنفير عامة الناس منهم والتهوين من علمهم والتهوين من قيمة كتبهم ويزعمون أن العلماء قد حرفوا دين الله عز وجل وغير ذلك من سوء الأدب مع العلماء. إن أدعياء العلم هؤلاء، الذين يأتون الناس بالغرائب والعجائب(12/280)
ويزعمون – والزعم مطية الكذب - أنهم يرجعون إلى كتاب الله عز وجل وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وهم في الحقيقة يتلاعبون في كتاب الله ولا يعرفون المبادئ الأولية لعلم الحديث، إن الموقف الشرعي من هؤلاء المبتدعة هو مقاطعتهم وعدم حضور مجالسهم ومقاطعة دروسهم ومحاضراتهم كما هو منهج السلف في عدم مجالسة أهل البدع والأهواء فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب] أخرجه الآجري في الشريعة ص61، وابن بطة في الإبانة الكبرى 2/438. وعن أبي قلابة رحمه الله تعالى أنه كان يقول: [لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم] أخرجه الدارمي في سننه1/120.
وعن الحسن البصري أنه قال: [لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/133. ويقول الحافظ ابن عبد البر: [أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان كذلك فقد رخص له مجانبته ورب صرمٍ جميل خير من مخالطة مؤذية] التمهيد 6/127.
هذه النصوص وغيرها ذكرها الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع.(12/281)
ومن أقوال الإمام الفضيل بن عياض في هؤلاء المبتدعة وأمثالهم:
[لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة] .
[من جالس صاحب بدعة لم يعط الحكمة] .
[من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الاسلام من قلبه] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ومن كان متبدعاً ظاهر البدعة وجب الإنكار عليه، ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه، لينزجر من يتشبه بطريقته ويدعو إليه، وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة] .
وإن الواجب شرعاً هو تأديب من يأتي الناس بالغرائب والمتشابهات كما فعل عمر رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل، فقد روى الدارمي من طريق سليمان بن يسار قال: (قدم المدينة رجل يقال له صبيغ بن عسل، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر فأعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر فضربه حتى أدمى رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي) .
وروى إسماعيل القاضي في الأحكام من طريق هشام عن محمد بن سيرين قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى لا تجالس صبيغ واحرمه عطاءه.(12/282)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن {الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} فقال: ما اسمك؟ قال: عبد الله صبيغ، فقال: وأنا عبد الله عمر، وضربه الضرب الشديد. وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: [ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ] . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه) وكما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد كالذي يعارض بين آيات القرآن وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فان ذلك يوقع الشك في قلوبهم) ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله فكان مقصودهم مذموماً ومطلوبهم متعذراً مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله عنها] شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه يجب هجر المتلاعبين في كتاب الله عز وجل وآكلي لحوم العلماء والطاعنين في كتبهم ولا يجوز لعامة الناس حضور دروسهم وتكثير جمعهم، وما أحوجنا لإمام يصنع بهم كما صنع عمر رضي الله عنه بصبيغ.
- - -(12/283)
كتاب (قول يا طير) وما أثير حوله
يقول السائل: ما قولكم في الضجة التي أثيرت حول كتاب (قول يا طير) من قبل بعض المثقفين، وما قامت به وزارة التربية والتعليم من سحب الكتاب من مكتبات المدارس، أفيدونا؟
الجواب: كتاب (قول يا طير) لمؤلفيه د. شريف كناعنة من جامعة بير زيت، ود. ابراهيم مهوّي أستاذ الأدب العربي المعاصر من جامعة أدنبره إسكوتلندا، هو كتاب [يضم خمساً وأربعين حكاية خرافية من مئتي حكاية روى معظمها نساء في جميع أنحاء فلسطين (الجليل والضفة الغربية وغزة) . وقد اختارها مؤلفا الكتاب باعتبارها الحكايات الأكثر رواجاً بين أبناء الشعب الفلسطيني ولقيمتها الفنية (جمالياتها وحسن أدائها) ، ولما تبرزه من ملامح عن الثقافة الشعبية في فلسطين. وكان الداعي الأساسي إلى وضع هذا الكتاب لا الحفاظ على فن قصصي نسائي كان واسع الانتشار عندما كان الشعب الفلسطيني يمارس ثقافته على كامل أرضه فحسب، بل أيضاً كي نعرض صورة علمية وموضوعية للثقافة العربية النابعة من أرض فلسطين ومن تراثها الإنساني الذي تضرب جذوره في عروق التاريخ. ولإبراز خصوصية هذه الثقافة كان علينا أن نضع الحكايات باللغة العربية الدارجة التي رويت بها، وأن نرفقها بدراسة معمقة على عدة مستويات تبرز الملامح الوطنية لهذه الثقافة، ... كذا قال المؤلفان. وقد تم توزيع عدد من نسخ الكتاب على المدارس الفلسطينية ليستفيد منه المعلمون لا الطلبة، وفي استمارة اعتمدتها(12/284)
وزارة التربية والتعليم لأحد المُقيمين لكتاب (قول يا طير) ... قبيل توزيعه على المدارس، جاء فيها [إن هذا الكتاب لا توجد له علاقة مباشرة بالمنهاج ولكن بعض القصص الخيالية يمكن الاستفادة منها] . ويفصح المُقيم خلال هذه الاستمارة بصورة واضحة عند إجابته عن الاتجاهات والقيم التي يؤديها هذا الكتاب، بالقول: [يمكن للأطفال أن يتعلموا بعض السلوكيات الخاطئة مثل الكذب والغش والخداع والألفاظ البذيئة، وكذلك الكبار أيضاً] . ثم يضيف [ ... ولكن ينصح أن لا يكون بأيدي الطلبة لاحتوائه على ألفاظ بذيئة ... وفي التنسيب النهائي لهذا المقيم الذي أدى مهمة فحص الكتاب، أوصى بحذف بعض العبارات أو الألفاظ البذيئة قبل توزيعه على الأطفال والطلبة. وذيل هذا الفاحص أو المقيم توصيته بأمثلة على العبارات التي طالب بحذفها مطالبا بالعودة إلى الصفحات (90، 97، 98، 105، 106، 115، 128، 129، 132، 146) من الكتاب. ورغم ذلك تم توزيع الكتاب على المدارس دون أخذ هذه التوصية بعين الاعتبار] شبكة الانترنت.
وهذا الكتاب يشتمل على خرافات وقصص من التراث الفلسطيني تشتمل على أمور منكرة مثل ما ورد في الكتاب من زنى الابن بأمه وملاحقة الأب لابنته ليتزوجها ومثل حكاية الشيخ المحتال التي تعطي انطباعاً سيئاً عن قارئ القرآن الكريم ... إلخ، واشتمل الكتاب أيضاً على ألفاظ ساقطة ونابية وعبارات جنسية هابطة كما أن الكتاب قد وضع باللغة العامية الدارجة. والضجة التي أثيرت حول الكتاب ليست بريئة من أهداف غير ثقافية؟؟!! ويظهر ذلك من تعبيرات بعض المحتجين على قرار وزارة التربية بسحب(12/285)
الكتاب - وأتمنى أن لا تكون الوزارة قد تراجعت عنه - ومن هذه التعبيرات (يبدو أن عدوى محاكم التفتيش التي أصابت بعض البلدان العربية قد انتقلت إلى فلسطين) ، (إن هذا الإعدام -سحب الكتاب - يرقى إلى مستوى الجنون الطالباني الذي نسف تمثال بوذا في أفغانستان، رغم قيمته التاريخية والفنية) ، (هذا التفكير الذي ينتمي إلى ممارسات محاكم التفتيش في القرون الوسطى) وأخطر من ذلك أن بعضهم قارن بين كتاب (قول يا طير) وبين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فزعم أن فيهما نصوصاً تخدش الحياء!! ولقد أعظم الفرية على كتاب الله عز وجل وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
إذا تقرر هذا عن حقيقة كتاب (قول يا طير) فإن وصفه بأنه (كتاب أكاديمي علمي يعد من أمهات كتب التراث الشعبي) وصف في غير محله، وما قيل من أن سحب الكتاب إنما هو اعتداء على التراث الفلسطيني، فكلام باطل، وكأن التراث الفلسطيني مقدس لا يجوز مسه بأي حال من الأحوال. إن التراث الفلسطيني فيه الغث والسمين وفيه النافع والضار وفيه ما يتفق مع عقيدتنا وديننا وفيه ما يخالف ذلك، فيجب أن يخضع التراث الفلسطيني للنقد العلمي، لأنه تراث غير معصوم وغير مقدس، وإذا كانت النصوص المنقولة عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم قد خضعت لمعايير النقد عند المحدثين أفلا تخضع الخرافات وقصص الفاحشة والرذيلة للنقد!! أم أن هؤلاء المثقفين يريدون أن يضفوا على التراث قدسية، تجعله فوق النقد وفوق المساءلة وفوق الفحص والاختبار. أم أن هؤلاء المثقفين يرددون علينا ما(12/286)
قاله الجاهليون كما أخبرنا الله عز وجل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} سورة البقرة الآية 170.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} سورة المائدة الآية 104.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} سورة لقمان الآية 21.
وقال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} سورة الزخرف الآية 22. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} سورة الزخرف الآية 23.
ويضاف إلى ما سبق كما أشرت أن كتاب (قول يا طير) كتب باللغة العامية، والأصل أن نعلم أبنائنا اللغة العربية الفصحى
فهي لغتنا، وهي لغة القرآن الكريم ولغة الحديث النبوي الشريف، كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} سورة الشعراء الآية195، فعلينا أن نكتب وننشر بالفصحى لا بالعامية.(12/287)
وخلاصة الأمر أن كتاب (قول يا طير) يجب سحبه من مكتبات المدارس، لأن فيه ما يخالف ديننا وعاداتنا وأعرافنا الطيبة، ولا ينبغي أن يكون بين أيدي الأطفال لأن فيه ما فيه من الأمور التي أشرت لبعضها.
وخلاصة الموقف الصحيح من التراث الفلسطيني وغيره من التراث العالمي أنه يجب أن يخضع لقواعد النقد العلمي فما كان صحيحاً بميزان شرعنا قبلناه وما كان غير ذلك رفضناه والحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها.
- - -
تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى(12/288)
فهرس المحتويات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 5
العقيدة والتفسير ... 13
التألي على الله سبحانه وتعالى ... 15
حكم الدعاء بـ (اللهم إني لا أسألك رد القضاء) ... 20
الكهان الجدد ... 25
الشيعة ليست مذهباً فقهياً خامساً ... 30
مكانة المسجد الأقصى المبارك عند الشيعة ... 35
تبرج الجاهلية الأولى ... 41
الحديث الشريف وعلومه ... 47
حديث (الصلاة خلف كل بر وفاجر) ... 49
حديث (خمس ليس لهن كفارة) ... 55
حديث (أفضل العبادة انتظار الفرج) ... 60
حديث قدسي لا أصل له ... 64
حديث مكذوب ... 68
الصلاة ... 75(12/289)
المسج على الجورب الرقيق من مسائل الخلاف المعتبر ... 77
لبس الكفوف (القفازات) أثناء الصلاة ... 81
اللحاق بالإمام في صلاة الجماعة ... 83
الاستخلاف في الصلاة وكون المستخلف مسبوقاً ... 87
إذا جمع المسافر بين الصلاتين ثم وصل بلده أثناء وقت الصلاة الثانية ... 91
كيفية صلاة الاستسقاء ... 95
اصطفاف أهل الميت عند المقبرة لتقبل التعزية ... 99
انتهاك حرمة المساجد من الفرق الكشفية ... 103
الزكاة ... 109
أنصبة الزكاة توقيفية لا يجوز تعديلها مطلقاً ... 111
تجب الزكاة في مال اليتيم ... 116
كيف يزكي المزارع ثمن المحصول إذا باعه بعد أن وجبت فيه الزكاة؟ ... 120
زكاة مزارع الدجاج اللاحم ... 125
زكاة المال المستفاد ... 129
يجوز قضاء دين الأقارب من مال الزكاة ... 134
وجوب زكاة الفطر في حق من لم يصم رمضان ... 139
الصيام ... 145(12/290)
المفطرات العصرية ... 147
الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض في رمضان ... 153
قضاء رمضان ... 158
البرامج التلفزيونية في رمضان ... 163
الحج والأضحية والنذور ... 169
أيهما أولى تزويج الابن أم حج الفريضة؟ ... 171
أحكام تتعلق بالتوكيل في الأضحية ... 176
استبدال المنذور بخير منه ... 181
المعاملات ... 187
تسمية الثمن شرط لصحة البيع بخلاف قبضه عند العقد ... 189
دفع أجرة العقار مقدماً ... 194
جعل سعر الفائدة مؤشراً للربح في البنوك الإسلامية ... 198
بيع العملات بالهامش (المارجن) ... 203
حق الجار في استعمال سور جاره ... 211
المرأة والأسرة ... 217
حق الزوجة بمسكن مستقل ... 219
حكم الزواج بنية الطلاق ... 224
إنصاف الابن الذي يعمل في تجارة أبيه دون إخوته ... 231
يجوز زواج الزانيين إذا تابا توبة صادقة ... 236(12/291)
النساء أولى بالحضانة من الرجال ... 242
حكم دراسة الفتاة في مدرسة تمنعها من ارتداء الجلباب ... 246
رضاع الكبير ... 252
الجنايات والحدود ... 258
عاقلة المرأة ... 260
حكم اليمين والخمسة المعمول بها في القضاء العشائري ... 266
الصلح على أكثر من الدية في القتل العمد ... 271
متفرقات ... 277
ترك مجالسة أهل الأهواء وآكلي لحوم العلماء ... 279
كتاب (قول يا طير) وما أثير حوله ... 284
فهرس المحتويات ... 289
الأعمال العلمية للمؤلف أ. د. حسام الدين عفانة ... 293(12/292)
الأعمال العلمية للمؤلف الأستاذ الدكتور
حسام الدين عفانة
1. الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية (رسالة الماجستير)
2. بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه)
3. الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية (كتاب)
4. أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية (كتاب)
5. يسألونك الجزء الأول (كتاب)
6. يسألونك الجزء الثاني (كتاب)
7. بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي (كتاب)
8. صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة (كتاب)
9. يسألونك الجزء الثالث (كتاب)
10. يسألونك الجزء الرابع (كتاب)
11. يسألونك الجزء الخامس (كتاب)
12. المفصل في أحكام الأضحية (كتاب)
13. شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق)
14. فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي ج1(12/293)
15. الفتاوى الشرعية (1) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
16. الفتاوى الشرعية (2) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
17. الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب (بحث)
18. الزواج المبكر (بحث)
19. الإجهاض (بحث)
20. مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات (كتاب)
21. مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني (كتاب)
22. إتباع لا ابتداع (كتاب)
23. بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي (دراسة وتعليق وتحقيق)
24. يسألونك الجزء السادس (كتاب)
25. رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي (دراسة وتعليق وتحقيق)
26. الخصال المكفرة للذنوب (يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني) (كتاب)
27. أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (كتاب)
28. التنجيم (بحث بالاشتراك)
29. الحسابات الفلكية (بحث بالاشتراك)(12/294)
30. يسألونك الجزء السابع (كتاب)
31. المفصل في أحكام العقيقة (كتاب)
32. يسألونك الجزء الثامن (كتاب)
33. يسألونك الجزء التاسع (كتاب)
34. فهرس المخطوطات المصورة ج 2 (الفقه الشافعي) (كتاب)
35. فقه التاجر المسلم وآدابه (كتاب)
وقد ترجم الكتاب إلى اللغة التركية الدكتور ثروت بايندر من جامعة إستنبول
36. يسألونك الجزء العاشر (كتاب)
37. يسألونك الجزء الحادي عشر (كتاب)
38. يسألونك عن الزكاة (كتاب)
39. يسألونك الجزء الثاني عشر (هذا الكتاب)
موقع الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة على شبكة الإنترنت:
www.yasaloonak.net
وعنوان البريد الإلكتروني:
husam@is.alquds.edu
أو:
yasaloonak.net@fatawa(12/295)
يسألونك
الجزء الثالث عشر
تأليف
الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس(13/1)
بسم الله الرحمن الرحيم(13/3)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
وبعد
فإن الاجتهاد الجماعي الذي تمارسه مجامع الفقه الإسلامي المعاصرة، يعد مَعْلَماً من معالم مسيرة الفقه الإسلامي في العصر الحاضر، ولا شك أن وجود هذه المجامع وصدور الآراء الفقهية الجماعية عنها يعطي قوة للفقه الإسلامي، وخاصة أن المجامع الفقهية تتصدى لكثير من النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة، وهذا يجعل الفقه الإسلامي قادراً على مواجهة تطور الحياة العصرية.(13/4)
ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية، مقدم على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، فقد روى ميمون بن مهران: (أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر، كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به ... ) سنن الدارمي 1/40.
وروى الإمام النسائي في باب الحكم باتفاق أهل العلم بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثروا على عبد الله - ابن مسعود - ذات يوم فقال عبد الله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ولا يقول إني أخاف وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. قال أبو عبد الرحمن - النسائي- هذا الحديث جيد جيد.(13/5)
ثم روى النسائي بإسناده عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض به الصالحون، فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك والسلام عليكم.] سنن النسائي 8/230.
وروى البيهقي عن ميمون بن مهران أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم فإذا اجتمعوا على الأمر قضى بينهم. السنن الكبرى 10/114.
ويقول الإمام الجويني: [والمعتقد أنه لا يفرضُ وقوعُ واقعةٍ مع بقاءِ الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسكٌ بحكم الله فيها. والدليل القاطع على ذلك أَن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم استقصَوْا النظرَ في الوقائع والفتاوىَ والأَقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيها متعَلَّقاً، راجعوا سُنَنَ المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن لم يجدوا فيها شفاءً، اشتوروا، واجتهدوا، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرِهم، إِلى انقراض عصرهم، ثم استنَّ مَن بعدهم بسنتهم] غياث الأمم
وقد ذكر ابن الجوزي في حوادث سنة سبع وثمانين للهجرة أن عمر بن عبد العزيز ولي المدينة فقدم والياً في ربيع الأول وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقدم على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان بن أبي(13/6)
خثيمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً استعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحَرِّجُ على من بلغه ذلك إلا بلغني، فجزوه خيراً وانصرفوا. المنتظم في تاريخ الأمم والملوك 6/278.
وقال العلامة ابن القيم: [ ... ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحد وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصٌ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم.
قال البخاري حدثنا سنيد حدثنا يزيد عن العوام بن حوشب عن المسيب ابن رافع قال كان إذا جاءه الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمَّى صوافي الأمر فرفع إليهم فجمع له أهل العلم فإذا اجتمع عليه رأيهم الحق.
وقال محمد بن سليمان الباغندي حدثنا عبد الرحمن بن يونس حدثنا عمر بن أيوب أخبرنا عيسى بن المسيب عن عامر عن شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب أن اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين، فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح] إعلام الموقعين 2/156-157.
ومن أهمية الاجتهاد الجماعي في عصرنا الحاضر أنه أقدر على تقديم الحلول للمشكلات المعاصرة، وهذا الأمر جِدُ ظاهرٍ من خلال قرارات المجامع الفقهية التي(13/7)
عالجت كثيراً من القضايا الفقهية المعاصرة، مثل قضايا البنوك الإسلامية والتأمين التعاوني والقضايا الطبية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وتأسيساً على ما سبق فإن القرارات التي تصدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية المعتبرة، ينبغي أن تقدم على الآراء الفردية، وهذا من ضمن أسس المنهج الذي أسير عليه في هذه السلسلة المباركة - سلسلة يسألونك - فإني أعتدُّ كثيراً بما تصدره المجامع الفقهية، وأعتمد عليه في هذه الفتاوى، لأنه أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد كما ذكرت سابقاً.
ولا بد أن أذكر هنا هذه المجامع الفقهية والهيئات العلمية المعتبرة:
أولاً: مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومقره في جدة بالمملكة العربية السعودية، وهو أهم المجامع الفقهية وأنشطها. وأعضاؤه من الفقهاء والعلماء والمفكرين في شتى مجالات المعرفة من فقهية وثقافية وعلمية واقتصادية من أنحاء العالم الإسلامي لدراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاداً أصيلاً فاعلاً، بهدف تقديم الحلول النابعة من التراث الإسلامي والمنفتحة علي تطور الفكر الإسلامي لتلك المشكلات.
ثانياً: المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ومقره في مكة المكرمة. وهو عبارة عن هيئة علمية إسلامية ذات شخصية اعتبارية مستقلة، داخل إطار رابطة العالم الإسلامي، مكونة من مجموعة مختارة من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها.
ثالثاً: هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهي هيئة علمية تتكون من كبار العلماء في المملكة العربية السعودية المتخصصين في الشريعة الإسلامية وهي أكبر هيئة علمية في المملكة.(13/8)
رابعاً: مجمع الفقه الإسلامي في الهند أنشأ سنة 1989م تحت إشراف كبار علماء الهند المسلمين.
خامساً: مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا وهو مؤسسة علمية تتكون من مجموعة مختارة من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها.
سادساً: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ويتكون من مجموعة مختارة من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها.
سابعاً: مجمع البحوث الإسلامية وقد أنشأ في الأزهر سنة 1961م برئاسة شيخ الأزهر.
وختاماً فهذا هو الجزء الثالث عشر من كتابي يسألونك وأصله حلقات تنشر صباح كل يوم جمعة في جريدة القدس المقدسية، وقد سلكت فيه المنهج الذي سلكته في الأجزاء السابقة، من اعتمادٍ على كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى فهم سلف هذه الأمة، وعلى الاجتهادات الجماعية الصادرة عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية المعتبرة، فإن أصبت فذلك الفضل من الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأقول ما قاله القاضي البيساني رحمه الله:
[إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه، إلا قال في غده لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يستحسن، ولو قُدِمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر] .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
أبوديس/ القدس المحتلة
صباح يوم السبت السابع من شعبان 1429هـ ... وفق التاسع من آب 2008 م.(13/9)
العقيدة والتفسير(13/11)
حكم كتابة الآيات القرآنية على هيكل المركبات
يقول السائل: ما حكم كتابة الآيات القرآنية على هيكل المركبات من الخارج، وهل يأثم من يأمر بإزالتها، أفيدونا؟
الجواب: القرآن الكريم كتاب هداية ودستور، ومنهاج للأمة وقد أنزل الله القرآن الكريم ليسيِّر الناس وفق هداه ويطبقوه في حياتهم.
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} سورة الإسراء الآية 9، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} سورة الكهف الآيات 1-3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (سورة يونس الآية 57، وقال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء (سورة الزمر الآية 23، وقال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (سورة ق الآية 37، وغير ذلك من الآيات الكريمات.
ولا شك أن تعظيم كتاب الله أمر واجب في حق كل مسلم، ومن وقَّر القرآن الكريم، فقد وقَّر الله سبحانه وتعالى ومن استخف بالقرآن فقد استخف بالله عز وجل، وقد أجمعت الأمة المسلمة على وجوب تعظيم القرآن الكريم، ووجوب تنزيهه وصيانته عن الامتهان والابتذال، ومن القواعد المقررة شرعاً وجوب تعظيم شعائر الله، يقول الله تعالى: (ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ (سورة الحج الآية30، قال الإمام القرطبي: [ (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ (الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ... فشعائر الله أعلام دينه ... ] تفسير القرطبي12/56. وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (عظموا القرآن) تفسير القرطبي 1/29. وقال الإمام النووي: [أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه] التبيان في آداب حملة القرآن، ص108. وقال القاضي عياض: [من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه فهو كافر بإجماع المسلمين] الآداب الشرعية 2/393. وقد ذكر العلماء جملة من الآداب التي ينبغي للمسلم أن يتحلى(13/12)
بها عند التعامل مع القرآن الكريم. انظر التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي.
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز شرعاً كتابة الآيات القرآنية على الهياكل الخارجية للسيارات، لاشتمال ذلك على مفاسد كثيرة منها:
- إن في ذلك امتهاناً للآيات القرآنية، وامتهانها من المحرمات شرعاً. وقد جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله رأى ابناً له يكتُب آية في حائط فضربه، وكتابة الآيات القرآنية على الهياكل الخارجية للسيارات، يجعلها عرضة للتلوث بالغبار والأتربة والطين وغيرها من القاذورات.
- وكتابة الآيات القرآنية على الهياكل الخارجية للسيارات يعرضها للتلف والتمزق وسقوطها على الأرض، وهذا يتنافى مع وجوب صيانة القرآن الكريم والمحافظة عليه.
- بعض السائقين يلصق الآيات القرآنية على الهياكل الخارجية للسيارات، من باب رد العين ودفع الشرور وجلب الأرزاق، وهذا مما لا يجوز في الشرع.
- بعض السائقين يلصق الآيات القرآنية على الهياكل الخارجية للسيارات ويستعملها في غير ما أنزلت له، مثل من يعلق قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (سورة هود الآية 42، وهذا من التلاعب بكلام رب العالمين وهو من المحرمات.
- بعض الآيات القرآنية التي تلصق على الهياكل الخارجية للسيارات، تكون مكتوبة على صور ذوات الأرواح كما لو جعلت اللوحة القرآنية على شكل إنسان، أو على شكل طائر أو حيوان؛ ونحو ذلك من الأشكال التي لا يليق وضعها قالباً لآيات القرآن الكريم كما سيأتي.
وقد بحث المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي مسألة تعظيم كتاب الله عز وجل وورد في قراره:
[وبعد أن استمع المجلس إلى الأبحاث المقدمة في الموضوع المسئول عنه، والمناقشات المستفيضة في ذلك حوله، يؤكد على وجوب تعظيم كتاب الله واتباع هديه، والالتزام بمقاصده؛ فقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن ليكون موعظة وعبرة، وشفاءً لما في الصدور، وليهتدي به الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، ويطبقونه في جميع أمور حياتهم، ويتلونه حق تلاوته تدبراً وتذكراً، ويسترشدون به في جميع شؤونهم، ويأخذون أنفسهم بالعمل به في كل أحوالهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ(13/13)
مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( [يونس: 57] ، وقال سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ( [الإسراء: 82] ، وقال: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( [فصلت: 44] ، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ( [صّ: 29] ، ويؤكد المجلس أن على المسلمين أن يعرفوا لكتاب ربهم منزلته، ويقدروه قدره، ويجعلوا مقاصده نصب أعينهم، ويتخذوا منه ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مناراً يهتدون بهما. والمجلس إذ يذَّكر بهذا ليهيب بالمسلمين القيام بما يجب عليهم تجاه الآيات القرآنية من احترامها والمحافظة عليها من الامتهان والعبث ويقرر ما يلي:
أولاً: جواز كتابة الآيات القرآنية وزخرفتها، واستخدامها لمقصد مشروع كأن تكون وسائل إيضاح لتعلم القرآن وتعليمه، وللقراءة والتذكير والاتعاظ، وفق الضوابط الآتية:
(1) أن تعامل اللوحات المكتوب فيها القرآن من حيث الصناعة والنقل معاملة طباعة المصحف، وهذا يوجب اتخاذ الإجراءات التي تضمن احترام الآيات المكتوبة، وصيانتها عن الامتهان.
(2) عدم التهاون بألفاظ القرآن ومعانيه فلا تصرف عن مدلولها الشرعي، ولا تبتر عن سياقها.
(3) أن لا تصنع بمواد نجسة أو يحرم استعمالها.
(4) أن لا تدخل في باب العبث كتقطيع الحروف وإدخال بعض الكلمات في بعض، وأن لا يبالغ في زخرفتها بحيث تصعب قراءتها.
(5) أن لا تجعل على صورة ذوات الأرواح كما لو جعلت اللوحة القرآنية على شكل إنسان، أو على شكل طائر أو حيوان؛ ونحو ذلك من الأشكال التي لا يليق وضعها قالباً لآيات القرآن الكريم.
(6) أن لا تصنع للتعاويذ المبتدعة وسائر المعتقدات الباطلة، ولا للصناعات المبتذلة ولا لترويج البضائع وإغراء الناس بالشراء.
ثانياً: لا حرج في بيعها وشرائها بالضوابط السابق ذكرها وفق الراجح من أقوال العلماء في بيع المصحف وشرائه.
ثالثاً: لا يجوز استخدام آيات القرآن الكريم للتنبيه والانتظار في الهواتف الجوالة وما في حكمها؛ وذلك لما في هذا الاستعمال من تعريض القرآن للابتذال والامتهان بقطع التلاوة وإهمالها، ولأنه قد تتلى الآيات في مواطن لا تليق بها.
وأما تسجيل القرآن الكريم في الهاتف للتلاوة منه أو الاستماع إليه فلا حرج فيه بل هو عون على نشر القرآن واستماعه وتدبره، ويحصل الثواب بالاستماع إليه؛ ففيه تذكير وتعليم، وإذاعة له بين المسلمين.
ويوصي المجمع الجهات المسئولة في الدولة الإسلامية بضرورة مراقبة صناعة اللوحات القرآنية بما يكفل عدم حدوث تجاوزات فيها، ومنع استيراد اللوحات القرآنية وما شابهها من الجهات والدول التي لا تحترم ما في اللوحات من آيات كريمة، والله أعلم] .(13/14)
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز كتابة وإلصاق الآيات القرآنية على الهياكل الخارجية للسيارات، لما في ذلك من امتهان لكلام رب العالمين الذي أُمرنا بتعظيمه، والواجب على من يستطيع أن يمنع ذلك أن يمنعه وله الأجر والثواب.
يؤخذ علم القراءات بالتلقي من أفواه القراء
يقول السائل: في مسجدنا شخص يدِّرس القراءات للناس مع العلم أنه لم يقرأ علم القراءات على العلماء ويزعم أنه أخذه من الكتب فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: علم القراءات كما عَّرفه ابن الجزري بقوله: [القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة] منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص2، وأما المقرئ: فهو العالم بالقراءات، التي رواها مشافهة بالتلقي عن أهلها إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن الجزري لو أن شخصاً حفظ كتاب التسهيل - وهو كتاب مشهور في القراءات لأبي عمرو الداني، وهو الذي نظمه الشاطبي في قصيدته المشهورة المسماة الشاطبية - فليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلاً، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص3. وانظر إتقان البرهان 2/138-139.
وقد قرر علماء القراءات أن الأصل في علم القراءات هو التلقي من أفواه المشايخ والقراء ولا يؤخذ هذا العلم من الكتب بل بالسماع، ويدل على هذا الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن الكريم من جبريل عليه السلام كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} سورة النمل الآية 6، وقد تلقى الصحابة رضوان الله عليهم - خاصة القراء منهم - القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن يأخذوا القرآن عن أربعة من أصحابه المتقنين للقراءة فقد روى الإمام البخاري بإسناده عن مسروق: ذكر عبد(13/15)
الله بن عمرو، عبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبيّ بن كعب) . ويدل هذا الحديث على أن قراءة القرآن تؤخذ بالتلقي من أفواه القراء المتقنين، فالقرآن الكريم لا يؤخذ من كل من هب ودب، لأن في علم القراءات وجوهاً لا يحكمها إلا التلقي والمشافهة من القراء المتقنين، وما قرره العلماء في علم القراءات من وجوب التلقي من القراء والمشافهة من أفواه المشايخ هو ذاته ما قرروه في علم التجويد فهو أيضاً يؤخذ بالمشافهة والسماع من أهله المتقنين له. وتأكيداً لهذا المعنى يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والله لقد أخذت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة) رواه البخاري.
وذكر الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني أن عثمان بن عفان رضي الله عنه حينما بعث المصاحف إلى الآفاق، أرسل قارئاً مع كل مصحف يوافق قراءته في الأكثر الأغلب، انظر مناهل العرفان في علوم القرآن 1/372-373.
وقد اشتهر عن علماء السلف أنهم قالوا: [القراءة سنةٌ متبعةٌ يأخذها الآخر عن الأول] . وقال الإمام ابن الجزري: [ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها. والناس في ذلك بين محسن مأجور، ومسيء آثم، أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح، العربي الفصيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح، استغناءً بنفسه، واستبداداً برأيه وحدسه واتكالاً على ما ألف من حفظه. واستكباراً عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه. فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاش بلا مرية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين(13/16)
وعامتهم) أما من كان لا يطاوعه لسانه؛ أو لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها] النشر في القراءات العشر 1/237.
وقال الشيخ جلال الدين السيوطي: [والأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وأحكامه متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من الأئمة القراء المتصل سندهم بالنبي صلى الله عليه وسلم] الإتقان في علوم القرآن 1/324.
وقال الخطيب البغدادي: [الذي لا يأخذ العلم من أفواه العلماء لا يُسمى عالماً، ولا يُسمى الذي يقرأ من المصحف من غير سماع من القارئ قارئاً، إنما يسمى مصحفياً] .
وقال الشيخ الدمياطي في تعريفه المقرئ: [من علم بها أداءً ورواها مشافهةً فلو حفظ كتاباً امتنع عليه إقراؤه بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلاً لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة، بل لم يكتفوا بالسماع من لفظ الشيخ فقط في التحمل وإن اكتفوا به في الحديث، قالوا لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء أي فلا بد من قراءة الطالب على الشيخ بخلاف الحديث، فإن المقصود منه المعنى أو اللفظ، لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، أما الصحابة فكانت طباعهم السليمة وفصاحتهم تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه منه صلي الله عليه وسلم لأنه نزل بلغتهم] إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ص 68.
وقال الشيخ محمود خليل الحصري - شيخ القراء المصريين -: [ومما يجب التنبه له أن التجويد العملي لا يمكن أن يؤخذ من المصحف مهما بلغ من الضبط والإجادة، ولا يمكن أن يُتعلم من الكتب مهما بلغت من البيان والإيضاح، وإنما طريقه التلقي، والمشافهة، والتيقن، والسماع، والأخذ من أفواه الشيوخ المهرة المتقنين لألفاظ القرآن، المحكمين لأدائه، الضابطين لحروفه وكلماته لأن من الأحكام القرآنية ما لا يحكمه(13/17)
إلا المشافهة، والتوقيف، ولا يضبطه إلا السماع والتلقين، ولا يجيده إلا الأخذ من أفواه العارفين] أحكام قراءة القرآن ص 18.
وقال الشيخ محمد علي خلف الحسيني شيخ القراء بالديار المصرية سابقاً: [وإذ قد علمت أن التجويد واجب وعرفت حقيقته علمت أن معرفة الأداء والنطق بالقرآن على الصفة التي نزل بها متوقفة على التلقي والأخذ بالسماع من أفواه المشايخ الآخذين لها كذلك المتصل سندهم بالحضرة النبوية لأن القارئ لا يمكنه معرفة كيفية الإدغام والإخفاء والتفخيم والترقيق والإمالة المحضة أو المتوسطة والتحقيق والتسهيل والروم والإشمام ونحوها إلا بالسماع والإسماع، حتى يمكنه أن يحترز عن اللحن والخطأ وتقع القراءة على الصفة المعتبرة شرعاً، إذا علمت ذلك تبين لك أن التلقي المذكور واجب لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما هو معلوم ولأن صحة السند عن النبي صلى الله عليه وسلم عن روح القدس عن الله عز وجل بالصفة المتواترة أمر ضروري للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ليتحقق بذلك دوام ما وعد به تعالى في قوله جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (سورة الحجر الآية 9، وحينئذ فأخذ القرآن من المصحف بدون موقف لا يكفي بل لا يجوز ولو كان المصحف مضبوطاً ... فالحاصل أنه لابد من التلقي من أفواه المشايخ الضابطين المتقنين على ما تقدم ولا يعتد بالأخذ من المصاحف بدون معلم أصلاً ولا قائل بذلك ومرتكبه لاحظ له في الدين لتركه الواجب وارتكابه المحرم هذا محصل ما كتبه في هذا الموضوع من فطاحل الأئمة من يوثق بقولهم، ومن جهابذة الأمة من يؤخذ برأيهم في المعقول يرجع إليهم وفي المنقول يعتمد عليهم وهم - ثم سماهم وهم أحد عشر عالماً من القراء - ... ولذا قيل:
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة ... يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكن آخذا للعلم من صحف ... فعلمه عند أهل العلم كالعدم]
القول السديد في بيان حكم التجويد ص9- 12.(13/18)
وقد قال بعض السلف: [لا تأخذ القرآن من مُصحفي، ولا تأخذ الحديث من صُحُفي] شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري ص10. فالمصحفي هو الذي يقرأ القرآن من المصحف ولم يتتلمذ على أيدي القراء، والصحفي من أخذ العلم عن الكتب والصحف لا عن العلماء. وقال أبو حيان النحوي المشهور:
يظن الغمر أن الكتب تهدي ... أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... تصير أضل من توما الحكيم
وخلاصة الأمر أن علم القراءات وكذا علم التجويد لا يؤخذ من الكتب والمصاحف بل لا بد من التلقي من العلماء والقراء المتقنين، ولا يظنن أحد أنه لو حفظ متناً من متون القراءات كالشاطبية أنه قادر على تدريس هذا العلم، أنى له ذلك ما لم يتلقاه بالسماع والمشافهة، وعلى من أراد دراسة علم القراءات والتجويد أن يأخذه من أهل هذا الشأن وليس من أدعيائه وهم في زماننا كثر، وأنصح السائل وغيره أن لا يسمع لأدعياء العلم هؤلاء.
- - -
القرآنييون
يقول السائل: قرأت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أفيدونا.(13/19)
الجواب: هذا الحديث رواه الترمذي بإسناده عن أبي رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته -السرير- يأتيه أمرٌ مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وقال العلامة الألباني: صحيح. ورواه الترمذي أيضاً عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله) ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقال العلامة الألباني: صحيح.
ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ... ) وقال العلامة الألباني: صحيح، والحديث رواه أيضاً الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
ويعتبر هذا الحديث من دلائل نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث ظهر بعد عهد الرسالة جماعات طعنوا في السنة النبوية وزعموا الأخذ بالقرآن الكريم فقط وقد بدأت ظاهرة إنكار السنة على أيدي الخوارج والشيعة، وظهرت في العصور المتأخرة طوائف تنكر السنة النبوية وتدعو إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم فقد [بدأت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين الميلادي في بلاد الهند، ثم انتقلت إلى باكستان بعد استقلالها عن الهند، وما تزال. وأعجب أمر هؤلاء أنهم يُنْسَبون إلى القرآن المجيد، فهم يحبون أن يسموا أنفسهم "القرآنيون " نسبة إلى القرآن كتاب(13/20)
الله المجيد ظلماً وزوراً. وقد اختاروا هذه النسبة إيهاماً للناس بأنهم ملتزمون بكتاب الله القرآن] شبهات القرآنيين حول السنة النبوية ص 2-3.
قال الشيخ المباركفوري في شرحه للحديث السابق: [وهذا الحديث دليل من دلائل النبوة وعلامة من علاماتها فقد وقع ما أخبر به فإن رجلاً قد خرج في الفنجاب من إقليم الهند وسمَّى نفسه بأهل القرآن وشتان بينه وبين أهل القرآن بل هو من أهل الإلحاد وكان قبل ذلك من الصالحين فأضله الشيطان وأغواه وأبعده عن الصراط المستقيم فتفوه بما لا يتكلم به أهل الإسلام فأطال لسانه في رد الأحاديث النبوية بأسرها رداً بليغاً، وقال هذه كلها مكذوبة ومفتريات على الله تعالى وإنما يجب العمل على القرآن العظيم فقط دون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت صحيحة متواترة ومن عمل على غير القرآن فهو داخل تحت قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} وغير ذلك من أقواله الكفرية وتبعه على ذلك كثير من الجهال، وجعلوه إماماً وقد أفتى علماء العصر بكفره وإلحاده وخرجوه عن دائرة الإسلام والأمر كما قالوا] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 7/354-355.
وهؤلاء القرآنيين لهم امتداد في الوقت الحاضر في جماعات تسمي نفسها بأهل القرآن ولهم انتشار في عدة بلدان من العالم ولهم مؤلفات ونشرات ومواقع على الشبكة العنكبوتية ينشرون من خلالها باطلهم وإفكهم، واسمع ما يقوله صاحب موقع أهل القرآن د. أحمد صبحي منصور تحت عنوان شروط النشر: [أولا: شروط النشر على موقع أهل القرآن: موقع أهل القرآن تم إنشاؤه خصيصاً من أجل هدف واحد، وهو توحيد كلمة كل من يؤمن بالقرآن الكريم كمصدر ((أوحد)) لتعاليم الإسلام وتوجيهاته وتفسير تشريعاته ومنهاجه، ومن ثم فلن يسمح الموقع لمن يتخذ من ما يطلق عليه (الحديث النبوي أو السنة النبوية) وسيلة أو مرجعاً لإثبات وجهة نظر معينه أو تفسير آيات القرآن الكريم. ثانياً: منهج أهل القرآن، موقع (أهل القرآن)(13/21)
يفتح أبوابه لكل فكر حر بشرط ألاّ يسند الكاتب حديثاً لخاتم النبيين محمد عليه السلام عبر ما يعرف بالسنة، أو أن ينسب قولاً لله تعالى خارج القرآن عبر الأكذوبة المسماة بالحديث القدسي. حين تنسب قولاً للنبي محمد أو لله تعالى فستكون في مشكلة يوم القيامة. وحين ننشر لك هذا القول فقد وقعنا في مشكلة أكبر، ونحن لا نريد أن نكون في صف العداء لله تعالى ورسوله، ولا نريد أن ننشر الكذب على الله تعالى ورسوله] www.ahlalquran.com/arabic/aboutus.php.
وهذه الأفكار تجد لها صدى عند بعض المتسلقين على أسوار العلم فكادوا أن ينسخوا ما كتبه هذا الضال ونشروه مع بعض التعديل والتحوير. ويلتقي القرآنيون ومن تسموا بأهل القرآن في قضية أخرى لا تخلو منها نشراتهم ومواقعهم على الإنترنت ألا وهي سب علماء الإسلام والطعن فيهم ووصفهم بأقذع العبارات، يقول د. أحمد صبحي منصور صاحب موقع أهل القرآن في حق أهل العلم: [أما بالنسبة لمن ماتوا من أئمة التراث فلنا حرية الحكم عليهم بما كتبوا في كتبهم وأسفارهم، خصوصاً إذا كانوا يتمتعون بالتقديس بينما تحوي كتبهم الطعن في رب العزة جل وعلا والإسلام والقرآن وخاتم النبيين عليهم جميعا السلام ... أولئك كذبوا على الله تعالى وعلى رسوله فيما يسمى بالسنة والحديث، وتلاعبوا بالكتاب العزيز فيما يعرف بالتفسير والتأويل وقاموا بحذف أحكامه بزعم النسخ، وكتبوا أقاويل تطعن في معظم سور القرآن وتشكك فيه تحت اسم (علوم القرآن) . وفى كل هذا اقترفوا أفظع ظلم لله تعالى وهو الافتراء الكاذب على الله والتكذيب بآياته] ، مع أن هذا الضال المضل يقول: [لا يسمح بالهجوم على معتقدات الأديان والعقائد الأخرى بالسب أو التسفيه أو التشويه أو ما إلى ذلك] ويتناسى هذا الضال أن القرآن الكريم قد سفه تلك العقائد الباطلة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} سورة المائدة الآية 72. وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} سورة المائدة الآية 73.(13/22)
وقد تصدى عدد كبير من علماء الإسلام لهؤلاء القرآنيين وبينوا عوار أقوالهم وفندوها ودافعوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتسع المقام لإيراد هذه الردود ولكن أشير إلى بعضها:
1. شبهات القرآنيين لعثمان بن معلم محمود بن شيخ علي.
2. شبهات القرآنيين حول السنة النبوية د. محمود محمد مزروعة.
3. دفاع عن السنة، د. محمد بن محمد أبوشهبة.
4. القرآنيون وشبهاتهم حول السنة خادم حسين إلهي بخش.
5. السنة ومكانتها في التشريع د. مصطفى السباعي.
6. منزلة السنة في الإسلام، وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن للعلامة محمد ناصر الدين الألباني.
7. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية د. عبد العظيم المطعني.
هذا وأنوِّه إلى أنه يوجد على شبكة الإنترنت مقالات كثيرة في كشف ضلالات القرآنيين.
وأخيراً أذكر خاتمة بحث أ. د. محمود محمد مزروعة وعنوانه: شبهات القرآنيين حول السنة النبوية حيث قال: [وقد بان لنا من خلال البحث جملة من الحقائق عن هذه الطائفة نوجزها فيما يلي: أولاً: هذه الطائفة نشأت ابتداء على أيدي الإنجليز الذين كانوا يستعمرون الهند، فهي صنيعة من صنائع الكفار أعداء الله ورسوله والمؤمنين. وهي حركة من الحركات الكثيرة التي قام بها الإنجليز في هذه المنطقة لهدم الإسلام وتفريق المسلمين، من مثل (القاديانية) و (البريلوية) وغيرهما. ثانياً: أثبتنا عند حديثنا عن رؤوس هذه الحركة أنهم كانوا على اتصال دائم وقوى بالإنجليز، وكان الإنجليز وراء حركاتهم تلك، وكانوا يمدونهم بالعون المادي والمعنوي، بل كان بعض هؤلاء على اتصال بحركة المنصّرين في الهند. ثالثاً: هذه(13/23)
الحركة بجميع طوائفها خارجة عن الإسلام، فاسقة عن الملّة، وإن زعمت لنفسها الإسلام، وانتسبت إلى القرآن. وإن انتسابها إلى القرآن باطل، لأنها كفرت بالقرآن في نفس اللحظة التي كفرت فيها بالسنة، فإنه لا تفرقة بين القرآن والسنة، فهما يخرجان من مشكاة واحدة، هي مشكاة الوحي الإلهي المعصوم. رابعاً: يتضح من كل ما تقدم أن هدف هؤلاء، والغاية التي يسعون إلى تحقيقها هو القضاء على الإسلام وتفريق الأمة المسلمة. وأن انتسابهم إلى القرآن إنما هو ستار يتخفون وراءه ليزاولوا تحت شعاره أنشطتهم الهدامة، وحركاتهم التخريبية] ص54.
وخلاصة الأمر أن حديث (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) حديث صحيح وهو من علامات صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ظهر القرآنييون ومن يتسمون بأهل القرآن المكذبين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال قائلهم د. أحمد صبحي منصور (القرآن وكفى) وجعل هذه العبارة عنواناً لأحد كتبه، ولقد أعظم الفرية على دين الإسلام.
- - -
الإسرائيليات في كتب التفسير
يقول السائل: ما هو موقف أهل العلم من الأخبار الإسرائيلية المذكورة في بعض كتب التفسير، أفيدونا؟
الجواب: الأخبار الإسرائيلية نسبة إلى بني إسرائيل، وهم منسوبون إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، والمراد بالإسرائيليات: الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل في التوراة وأسفارها وشروحها، وفي التلمود وشروحه، ويدخل في ذلك ما نقل أيضاً من كتب النصارى، وقد نقل كثير منها عن طريق من أسلم من(13/24)
يهود مثل كعب الأحبار ووهب بن مُنبه وعبد الله بن سلام وغيرهم. ومن المفسرين من ذكر الإسرائيليات ونقدها وبين ما فيها كابن كثير، فتفسيره من خير كتب التفسير، ومنهم من نقلها بأسانيدها وأبرأ ذمته بذلك، كابن جرير الطبري، فالعهدة على القارئ، ومنهم من نقلها ولم يبين حالها كالثعلبي فكان كحاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع؛ مع أنه في نفسه كان فيه خيرٌ ودينٌ، كما قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 13/354. وقد اتفق أكثر أهل التفسير على أن الإسرائيليات الواردة في التفاسير على ثلاثة أقسام: وقد فصَّلها العلامة العثيمين فقال: [الإسرائيليات: الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل من اليهود وهو الأكثر، أو من النصارى. وتنقسم هذه الأخبار إلى ثلاثة أنواع: الأولى: ما أقره الإسلام، وشهد بصدقه فهو حق، مثاله: ما رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} سورة الزمر الآية 67، والحديث رواه مسلم أيضاً. الثاني: ما أنكره الإسلام وشهد بكذبه فهو باطل، مثاله ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها- أي الزوجة - من ورائها، جاء الولد أحول؛ فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (سورة البقرة الآية 223. والحديث رواه مسلم أيضاً. الثالث: ما لم يقره الإسلام، ولم ينكره، فيجب التوقف فيه، لما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ () سورة العنكبوت الآية 46، ولكن(13/25)
التحدث بهذا النوع جائز، إذا لم يخش محذور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري] تفسير الشيخ العثيمين عن الإنترنت. وقال الإمام ابن كثير [ ... ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه، وتجوزُ حكايتُه لما تقدّم، وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيّ، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسبب ذلك، كما يَذكرون في مثل أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعِدّتهم، وعصا موسى من أيِّ شجرٍ كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضُرِبَ به القتيلُ من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم] تفسير ابن كثير 1/17.
ولا بد أن نقرر أن العلماء قد بينوا أن ذكر الإسرائيليات في كتب التفسير المعتبرة كتفسير الطبري وابن كثير لا يقدح بحال من الأحوال في كتبهم، ولا يعتبر ذكرها مطعناً فيها ولا في مؤلفيها، لأن هذه الإسرائيليات إنما تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، كما سبق في كلام ابن كثير، وكما قال أيضاً: [ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القسم الذي لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه ... ] البداية والنهاية 1/5.
ويجب أن نحسن الظن بعلمائنا ولا ندعي أن ذكرهم للإسرائيليات هو طعن في كلام رب العالمين أو نحو ذلك، كما يزعم بعض المتعالمين الذين يزعمون أنهم يريدون تنقية كتب التفاسير من الإسرائيليات دفاعاً عن كتاب الله عز وجل!!! وبعض الجهلة يدعو إلى حرق كتب التفسير والتخلص منها، قال الدكتور محمد أبو شهبة: [وآراء الناس وأفكارهم متباينة في معالجة هذا الموضوع الخطير - أي الإسرائيليات - فمنهم(13/26)
من يرى الاستغناء عن كتب التفسير التي اشتملت على الموضوعات والإسرائيليات التي جنت على الإسلام والمسلمين، وجرّت عليهم كل هذه الطعون والهجمات من أعداء الإسلام، وذلك بإبادتها أو حرقها ... وهو رأي فيه إسراف وغلو، إذ ليس من شكٍ في أن هذه الكتب فيها بجانب الإسرائيليات علم كثير، وثقافة إسلامية أصيلة، وأن ما فيها من خير وحق أكثر مما فيها من شر وباطل، فهل لأجل القضاء على الشر نقضي على الخير، ولأجل الإجهاز على الباطل نجهز على الحق أيضاً؟! أعتقد أن هذا لا يجوز عقلاً ولا شرعاً] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص 8.
وقال العلامة القاسمي: [ ... ومع ذلك فلا مغمز على مفسرينا الأقدمين في ذلك -أي نقل الإسرائيليات- طابق أسفارهم أم لا، إذ لم يألوا جهداً في نشر العلم وإيضاح ما بلغهم وسمعوه؛ إما تحسيناً للظن في رواة تلك الأنباء لا يروون إلا الصحيح، وإما تعويلاً على ما رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) ، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) . فترخَّصوا في روايتها كيفما كانت، ذهاباً إلى أن القصد منها الاعتبار بالوقائع التي أحدثها الله تعالى لمن سلف؛ لينهجوا منهج من أطاع، فأثني عليه وفاز، وينكبوا عن مهيع من عصى فحقت عليه كلمة العذاب وهلك. هذا ملحظُهم رضي الله عنهم] تفسير القاسمي 1/45-46.
وينبغي أن يعلم أن موضوع الإسرائيليات في كتب التفسير قد نال حظاً وافراً من البحث، ولا يمكن استيفاؤه في هذه العجالة، ومن أراد التوسع فيه فليرجع إلى المصادر الآتية:
1. الإسرائيليات في التفسير والحديث للدكتور محمد حسين الذهبي.(13/27)
2. الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة. 3. الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير للدكتور رمزي نعناعة.
ومع هذه الإحالة ألخص أهم ما قرره العلماء في هذا الموضوع:
أولاً: لا يلزم اعتقاد صحة الإسرائيليات، بل هي مجرد أخبار تذكر للاستشهاد لا للاعتماد.
ثانياً: لم يثبت عن أحد من السلف أنهم بنوا على الإسرائيليات أي حكم اعتقادي أو عملي، قالت الدكتورة آمال ربيع: [الإسرائيليات في جامع الطبري لم نجدها في مجالات العقيدة أو الأحكام أو الشرائع، ولم نجدها في صلب الدين على الإطلاق، وإنما وجدناها في الجانب القصصي من تفسير القرآن الكريم؛ سواء في قصة الخلق أم في قصص الأنبياء أم الأنساب، وبعض القضايا المتفرقة ذات الطابع القصصي كذلك، وهي مجالات لا خشية منها على جوهر الدين] الإسرائيليات في تفسير الطبري ص 138.
ثالثاً: لم يعتمد المفسرون في تفسير كلام الله عز وجل على الإسرائيليات، وإنما ذكروها مثالاً في التفسير لبيان المعنى وليست حاكمة على النص القرآني ولا قاطعةً بمعنىً من المعاني المحتملة دون غيره.
وأخيراً أنبه على أن بعض المتعالمين في زماننا قد جاؤوا بأسوأ من الإسرائيليات المكذوبة وتلاعبوا في تفسير القرآن الكريم، مثل تفسير القدور الراسيات المذكورة في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} سورة سبأ الآية 13، بأنها المفاعلات النووية التي امتلكها سليمان عليه السلام، ومثل تفسير قوله تعالى على لسان فرعون: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} سورة القصص الآية 38، بأنه الصرح هو المرصد الفلكي هابل، وغير ذلك من السخف والخزعبلات.(13/28)
وخلاصة الأمر أن الإسرائيليات في كتب التفسير ثلاثة أنواع: ما وافق شرعنا فهذا مقبول، وما خالف شرعنا فهو مرفوض، والثالث المسكوت عنه وهو ما لم يوافق شرعنا ولم يخالفه، فهذا نتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه، ومع ذلك فهو يُروى ولا يُطوى ولكن على سبيل الاستئناس لا الاعتماد.
- - -
حكم الاستعانة بالجن في العلاج الطبي
يقول السائل: في مدينتنا شخص يزعم أنه يقوم بعمليات جراحية للمرضى عن طريق الاستعانة بالجن المسلم، وقد توافد عليه أعداد كثيرة من المرضى، وأجرى لهم عمليات جراحية كانت مستعصية على الأطباء، وقد شاهدنا بعض من أجريت لهم العمليات الجراحية ورأينا آثار تلك العمليات كوجود شق طولي في الجلد، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: الجن خلق من خلق الله عز وجل وقد أخبرنا الله جل جلاله أنه قد خلقهم من نار فقال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} سورة الرحمن الآية 15، وقال تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} سورة الحجر الآية 27، وطبيعة الجن وخصائصهم وقدراتهم تخالف الإنس، قال تعالى مخبراً عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} سورة الجن الآيتان 8 -9، وأخبر عز وجل عن تسخير الجن لسليمان عليه السلام فقال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (سورة سبأ الآيتان 12 - 13. والجن مكلفون(13/29)
بعبادة الله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (سورة الذاريات 56 وقال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (سورة الأنعام الآية 130 وقد أسلمت طائفة من الجن، قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (سورة الأحقاف الآية 29. وقال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (سورة الجن الآية 1. فالجن منهم المسلمون ومنهم الكفار كما قال تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (سورة الجن الآية 11. إذا تقرر هذا فإن مسألة استعانة الإنسان بالجان من المسائل التي أثيرت قديماً وحديثاً، بل إن الناس في الجاهلية كانوا يستعينون بالجن كما قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (سورة الجن الآية 6، وقد فصلَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استعانة الإنس بالجن حيث قال: [فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه. ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب غير فاسق وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات، مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكر به] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 11/307 -308.(13/30)
وقد اعتمد كثير من الناس على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق في جواز الاستعانة بالجن في العلاج، ولكن المحققين من العلماء يرون أن كلام ابن تيمية لا يفيد ذلك، قال العلامة العثيمين: [وقد اتخذ بعض الرقاة كلام شيخ الإسلام رحمه الله متكئاً على مشروعية الاستعانة بالجن المسلم في العلاج بأنه من الأمور المباحة، ولا أرى في كلام شيخ الإسلام ما يسوغ لهم هذا فإذا كان من البدهيات المسلّم بها أن الجن من عالم الغيب يرانا ولا نراه الغالب عليه الكذب معتد ظلوم غشوم مجهولة عدالته لذا روايته للحديث ضعيفة فما هو المقياس الذي نحكم به على أن هذا الجني مسلم وهذا منافق وهذا صالح وذاك طالح؟] عن شبكة الإنترنت.
والذي تطمئن إليه نفسي أنه لا يجوز شرعاً الاستعانة بالجن في الطب والعلاج ولا في إجراء العمليات الجراحية لما يلي:
أولاً: سلمنا أن للجن قدرات خارقة، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو قدوتنا وأسوتنا - لم يستعن بالجن في هذه الأمور ولا في غيرها مع أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ في ظروف عصيبة هو أصحابه الكرام فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعان بالجن، فمن ذلك حادثة الهجرة فقد كان صلى الله عليه وسلم بأمس الحاجة للمساعدة لينجو من كفار قريش، وكذلك فلم يستعن بالجن في غزواته صلى الله عليه وسلم، وكذلك عندما مرض صلى الله عليه وسلم أو عندما سحر، أو عندما مرض أو جرح عدد من الصحابة رضوان الله عليهم في الغزوات وغيرها فلم يثبت أنهم استعانوا بالجن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والنوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله، كما يستعمل الإنس في مثل ذلك، فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاهم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم، وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق، فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله، وينهون الإنس(13/31)
والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/88. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [فلم يستخدم الجن أصلاً - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - لكن دعاهم إلى الإيمان بالله، وقرأ عليهم القرآن، وبلَّغهم الرسالة، وبايعهم كما فعل بالإنس] مجموع فتاوى شيخ الإسلام13/89.
ثانياً: إن الإسلام قد شرع التداوي، فإذا مرض الإنسان فعليه أن يذهب إلى الأطباء للمعالجة وهذا من باب الأخذ بالأسباب ولا ينافي التوكل على الله، وقد جاء في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: (نعم عباد الله، تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا داءً واحداً، قالوا يا رسول الله، وما هو؟ قال: الهرم) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال العلامة الألباني: حديث صحيح. وقد قرر العلماء أن الذي يتولى المداواة لا بد أن يكون من أهل الطب والخبرة وقد ورد في الحديث، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من طبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن) رواه أبو داود وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وجاء في رواية أخرى (أيما طبيب تطبب على قوم لا يُعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن) رواه أبو داود، وقال العلامة الألباني: حديث حسن، كما في صحيح سنن أبي داود 3/866 - 867.
ولا يجوز اللجوء إلى المشعوذين أو الدجالين ونحوهم للمعالجة وإن تحقق على أيديهم شفاء بعض الحالات المرضية فلا يجوز أن ننخدع بصدقهم فإنهم دجالون كذبة.
ثالثاً: لو كان الأمر كما يزعم هؤلاء المستعينين بالجن في إجراء العمليات الجراحية، لما كان هنالك حاجة لدراسة الطب، ولا حاجة لإنشاء كليات الطب ولا المستشفيات ولا العيادات ونحوها، ولَكان الناس في غنىً عن كل ذلك، وإذا كان الأمر كما يزعمون فلماذا لا يستعينون بالجن في أمور أعظم من ذلك!!!(13/32)
رابعاً: إن زعم هؤلاء أنهم يستعينون بالجن المسلم، كلام غير مقبول ولا يقوم على دليل صحيح، لأنهم يعتمدون على خبر الجن بأنهم مسلمون، وخبرهم محتمل للصدق وللكذب، فما الذي يدرينا أنهم مسلمون حقاً؟
خامساً: لو سلمنا جدلاً بصحة زعم هؤلاء، فيجب إغلاق هذا الباب من باب سد الذرائع، لما قد يترتب عليه من المفاسد، كإيقاع بعض الناس في الشرك، فمن المعلوم عند أهل العلم أن الجن في الغالب لا يقدمون خدمة للإنسان إلا إذا أشرك بالله عز وجل.
سادساً: [الجن خلق من خلق الله يعتريهم الجهل والقصور، ولا يعلمون ما غاب عنهم إلا بالطريقة الخلقية من خبرٍ أو نظر، فكيف تستطيع الجن أن تعرف خبر علة خفية، أو عينٍ نفسية، وهي التي مكثت سنة كاملة بين يدي سليمان عليه السلام تخدمه بكل تعب وعناء، وما علمت بموته؟! قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (سورة سبأ الآية 14] تحذير أهل الإيمان من إباحة العبيكان الاستعانة بالجان ص 22.
وأخيراً أنبه على أن كثيراً من أهل العلم المعاصرين قد أفتوا بتحريم الذهاب إلى من يدَّعون العلاج عن طريق الاستعانة بالجن فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية ما يلي: [لا يجوز لذلك الرجل أن يستخدم الجن، ولا يجوز للناس أن يذهبوا إليه طلباً لعلاج الأمراض عن طريق ما يستخدمه من الجن ولا لقضاء المصالح عن ذلك الطريق. وفي العلاج عن طريق الأطباء من الإنس بالأدوية المباحة مندوحة وغنية عن ذلك مع السلامة من كهانة الكهَّان. وقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء: لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم. وخرَّج أهل السنن الأربعة والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) . وهذا الرجل وأصحابه من الجن يعتبرون من العرَّافين والكهنة، فلا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم] فتاوى اللجنة الدائمة 1 / 408 - 409.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً الذهاب إلى من يدَّعي أنه يقوم بإجراء العمليات الجراحية وغيرها من وسائل العلاج عن طريق الجن، وأن هذا باب شرٍ يجب سده.
(( ((13/33)
الحديث الشريف وعلومه(13/34)
درجة حديث (بارك الله لأمتي في بكورها)
يقول السائل: ما درجة حديث (بارك الله لأمتي في بكورها) ، أفيدونا؟
الجواب: قال الإمام الترمذي: [باب ما جاء في التبكير بالتجارة] ثم روى بإسناده عن صخر الغامدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم بارك لأمتي في بكورها) ، قال وكان إذا بعث - أي النبي صلى الله عليه وسلم - سريةً - أي طائفة من الجيش - أو جيشاً بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلاً تاجراً وكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله، قال الإمام الترمذي: وفى الباب عن علي وابن مسعود وبريدة وأنس وابن عمر وابن عباس وجابر. قال أبو عيسى -أي الإمام الترمذي- حديث صخر الغامدى حديث حسن. ولا نعرف لصخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث. سنن الترمذي 3/517.
وهذا الحديث رواه أيضاً أبو داود في كتاب الجهاد (بابٌ في الابتكار في السَّفر) ، ورواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والبيهقي وغيرهم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وقد اعتنى بعض الحفاظ بجمع طرقه، فبلغ عدد ما جاء عنه من الصحابة نحو العشرين نفساً] . فتح الباري 6/138. وقد صححه العلامة الألباني في صحيح أبي داود وفي صحيح الترغيب والترهيب وفي صحيح الجامع الصغير. والبكور المقصود في الحديث هو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس.
وقال المباركفوري: [ (فأثرى) أي صار ذا ثروة بسبب مراعاة السنة. وإجابة هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم] تحفة الأحوذي 4/338. وقد ذكر صاحب اللمع في أسباب ورود الحديث أن سبب ورود هذا الحديث ما رواه أنس قال: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من شهور رمضان فمر بنيران في بيوت الأنصار فقال: يا أنس ما هذه النيران؟ قلت: يا رسول الله إن الأنصار يتسحرون فقال: اللهم بارك لأمتي في بكورها) أخرجه الخطيب وابن النجار في تاريخ بغداد.(13/35)
إذا تقرر أن هذا الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الحديث يدل على استحباب البكور، قال الإمام الشوكاني: [وحديث صخر المذكور فيه مشروعية التبكير من غير تقييد بيوم مخصوص سواء كان ذلك في سفر جهاد أو حج أو تجارة أو في الخروج إلى عمل من الأعمال ولو في الحضر] نيل الأوطار 7/274.
ومن أول ما يفعله المسلم في بكوره صلاة الفجر، فقد قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} سورة الإسراء الآية 78. قال الشيخ ابن كثير: [ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود وعن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال: [تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار] . وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر) . ويقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال: (تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار) . ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمد، عن أبيه، به وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي لفظ في الصحيحين، من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة الليل(13/36)
وملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بكم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحَرَسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء. وكذا قال إبراهيم النخعي، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في تفسير هذه الآية] تفسير ابن كثير 4/167-168.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى البَرْدَين دخل الجنة) رواه البخاري ومسلم، والبردان هما الصبح والعصر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) رواه الترمذي، وقال العلامة الألباني حديث صحيح، كما في صحيح سنن الترمذي 1/71.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له أجر حجة وعمرة: تامة، تامة، تامة) رواه الترمذي، وقال العلامة الألباني حديث حسن، كما في صحيح سنن الترمذي 1/182.
لذا فعلى المسلم أن يحافظ على صلاة الفجر في جماعة، فإن لم يفعل فلا أقل من أن يصليها في وقتها قبل طلوع الشمس، ومن المؤسف أن كثيراً من المصلين لا يصلون الفجر إلا بعد طلوع الشمس وارتفاعها، لأن كثيراً من الناس اليوم يسهرون إلى ساعة متأخرة من الليل ثم ينامون فلا يستيقظون إلا عند ذهابهم إلى أعمالهم، وقد كره جماعة من أهل العلم النوم بعد صلاة الفجر، فعن عروة بن الزبير أنه قال: (كان الزبير ينهى بنيه عن التصبح) - وهو النّوم في الصّباح - رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح في المصنف 5/222.
وقال الشيخ السفاريني: [مطلب في كراهة النوم بعد الفجر والعصر: يكره نومك أيها المكلف بعد صلاة الفجر لأنها ساعة تقسم فيها الأرزاق فلا ينبغي النوم فيها، فإن(13/37)
ابن عباس رضي الله عنهما رأى ابناً له نائما نومة الصبحة فقال له: قم أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق. وعن بعض التابعين أن الأرض تعج من نوم العالم بعد صلاة الفجر، وذلك لأنه وقت طلب الرزق والسعي فيه شرعاً وعرفاً عند العقلاء] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب ص 355.
وأولى الناس بالبكور طلبة العلم، لأن من أفضل أوقات المذاكرة ما كان بعد صلاة الفجر، وقد روي في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغدوا في طلب العلم فإني سألت ربي أن يبارك لأمتي في بكورها) رواه الطبراني
وقوله (اغدوا) أي اذهبوا وقت الغداة وهي أول النهار، وكذلك فإن طالب العلم يجب أن يكون أولى الناس محافظة على الوقت
اقتداءً بسلف هذه الأمة الذين كانوا أحرص ما يكونون على أوقاتهم، لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها. يقول الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم! ومن هنا كان حرصهم البالغ على عمارة أوقاتهم بالعمل الدائب والحذر أن يضيع شيء منه في غير جدوى، يقول عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما!
وكانوا يقولون: من علامة المقت إضاعة الوقت. ويقولون: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك. وكانوا يحاولون دائماً الترقي من حال إلى حال أحسن منها، بحيث يكون يوم أحدهم أفضل من أمسه وغده أفضل من يومه ويقول في هذا قائلهم: من كان يومه كأمسه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون! وكانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعض يوم أو برهة من الزمان وإن قصرت دون أن يتزودوا منها بعلم نافع أو عمل صالح أو مجاهدة للنفس أو إسداء نفع إلى الغير حتى لا تتسرب الأعمار سدى وتضيع هباء وتذهب جفاء وهم لا يشعرون. وكانوا(13/38)
يعتبرون من كفران النعمة ومن العقوق للزمن: أن يمضي يوم لا يستفيدون منه لأنفسهم ولا للحياة من حولهم نمواً في المعرفة ونموا في الإيمان ونمواً في عمل الصالحات. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي! وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علماً يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم] الوقت في حياة المسلم ص12-13.
وخلاصة الأمر أن حديث (بارك الله لأمتي في بكورها) ، حديث صحيح ويرشدنا هذا الحديث إلى المحافظة على أوقاتنا وخاصة وقت الفجر.
- - -
درجة أحاديث العقل
يقول السائل: إنه سمع على قناة الجزيرة في برنامج الشريعة والحياة شيخاً ذكر الحديث التالي (لما خلق الله العقل قال له: قم، فقام، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: اقعد، فقعد، فقال: ما خلقت خلقاً هو خير منك، ولا أفضل منك، ولا أحسن منك، ولا أكرم منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف، لك الثواب، وعليك العقاب) وقال إنه حديث صحيح، فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أفيدونا؟
الجواب: هذا الحديث مشهور عند أهل العلم بحديث العقل، وقد تكلم علماء الحديث على هذا الحديث وعلى غيره من الأحاديث الواردة في العقل وفضله، وقرروا أنها أحاديث باطلة موضوعة مكذوبة لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه الموضوعات هذا الحديث وقال: [هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] ثم نقل عن الإمام أحمد قوله في هذا(13/39)
الحديث: [هذا الحديث موضوع ليس له أصل] الموضوعات 1/171. وقال ابن الجوزي أيضاً: [رويت في العقول أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت] الموضوعات 1/171. وذكر السيوطي عدة روايات لهذا الحديث وبين اتفاق العلماء على أنها موضوعة، اللآليء المصنوعة 1/129.
وقال العلامة ابن القيم: [أحاديث العقل كلها كذب كقوله (لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال ما خلقت خلقاً أكرم عليَّ منك، بك آخذ، وبك أعطي) ، وحديث (لكل شيء معدن ومعدن التقوى قلوب العاقلين) ، وحديث (إن الرجل ليكون من أهل الصلاة والجهاد وما يجزى إلا على قدر عقله) ، قال الخطيب حدثنا الصوري: قال سمعت الحافظ عبد الغني بن سعيد يقول: قال الدارقطني: إن كتاب العقل وضعة أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر، وقال أبو الفتح الأزدي لا يصح في العقل حديث قاله أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم بن حبان والله أعلم] المنار المنيف ص 66.
وقال الحافظ شمس الدين السخاوي: [حديث (إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل ثم قال له أدبر، فأدبر، فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أشرف منك، فبك آخذ، وبك أعطي) قال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق ... ثم ذكر رواية أخرى للحديث ثم قال: وأخرجه داود بن المحبر في كتاب العقل له حدثنا صالح المري عن الحسن به بزيادة «ولا أكرم علي منك، لأني بك أعرف، وبك أعبد» والباقي مثله، وفي الكتاب المشار إليه لداود من هذا النمط أشياء منها: أول ما خلق الله العقل، وذكره. وابن المحبر كذاب] المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة ص 118.(13/40)
وقد تكلم العلامة الألباني على أحاديث العقل تحت أول حديث ذكره في سلسلة الأحاديث الضعيفة فقال: [الدين هو العقل، ومن لا دين له لا عقل له) ، باطل. أخرجه النسائي في "الكنى" وعنه الدولابي في "الكنى والأسماء" (2/104) عن أبي مالك بشر بن غالب بن بشر بن غالب عن الزهري عن مجمع بن جارية عن عمه مرفوعاً دون الجملة الأولى " الدين هو العقل " وقال النسائي: هذا حديث باطل منكر. قلت -أي الألباني-: وآفته بشر هذا فإنه مجهول كما قال الأزدي، وأقره الذهبي في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" والعسقلاني في "لسان الميزان". وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود بن المحبر بضعاً وثلاثين حديثاً في فضل العقل، قال الحافظ ابن حجر: كلها موضوعة، ومنها هذا الحديث كما ذكره السيوطي في "ذيل اللآليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (ص 4-10) ونقله عنه العلامة محمد طاهر الفتني الهندي في "تذكرة الموضوعات" (ص 29-30) . وداود بن المحبر قال الذهبي: صاحب "العقل" وليته لم يصنفه، قال أحمد: كان لا يدري ما الحديث، وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث غير ثقة، وقال الدارقطني: متروك، وروى عبد الغنى بن سعيد عنه قال: كتاب "العقل" وضعه ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي. ومما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع، وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "العقل وفضله" فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء، فالعجب من مصححه - أي مصحح كتاب "العقل وفضله" وهو - الشيخ محمد زاهد الكوثري كيف سكت عنها?! بل أشار في ترجمته للمؤلف (ص4) إلى خلاف ما يقتضيه التحقيق العلمي عفا الله عنا وعنه. وقد(13/41)
قال العلامة ابن القيم في "المنار" (ص25) :أحاديث العقل كلها كذب] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/13.
إذا تقرر بطلان الأحاديث الواردة في فضل العقل، فلا بد أن يعلم أن دين الإسلام قد حث على التفكير والنظر وورد في ذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} سورة الروم الآية 24.
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} سورة البقرة الآية 242.
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} سورة العنكبوت الآية 43.
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} سورة الملك الآية 10.
وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} سورة الأنعام الآية 65.
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} سورة الأنعام الآية 50.
وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمّد الآية 24. وغير ذلك من الآيات.
والعقل من نعم الله عز وجل على الإنسان التي ميزه بها على غيره من المخلوقات، وعقل الإنسان له حدود لا يصح أن يتجاوزها، قال أبو القاسم الأصبهاني: [العقل نوعان: عقلٌ أُعين بالتوفيق، وعقلٌ كِيدَ بالخذلان، فالذي أعين بالتوفيق يدعو صاحبه إلى موافقة الأمر المفترض بالطاعة، والانقياد لحكمه، والتسليم به، والعقل الذي كيد يطلب بِتَعَمُّقِه الوصول إلى علم ما استأثر الله بعلمه وحجب أسرار الخلق عن فهمه، حكمةً منه بالغة] وينبغي أن يعلم أن تقديس العقل وإنزاله في غير منزلته الصحيحة أمر مرفوض شرعاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده(13/42)
كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل] موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/21. كما ينبغي التنبيه على أن شريعة الإسلام لا تعارض العقل السليم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، فالعقلاء متفقون على أن العقل الصريح لا يخالف نقلاً صحيحاً] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/338.
وقال العلامة ابن القيم: [كيف ينقدح في ذهن المؤمن أن في نصوص الوحي المنزلة من عند الله عز وجل ما يخالف العقول السليمة؟! بل كيف ينفك العقل الصريح عن ملازمة النص الصحيح؟! بل هما أخوان لا يفترقان، وصل الله بينهما في كتابه، وإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذنا بالنقل الصحيح، ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحُطَّت حيث حطها الله وأصحابها، فكيف يُظن أن شريعة الله الكاملة، ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعد محمد صلى الله عليه وسلم] الصواعق المرسلة 2/ 458-459.
وقال الإمام الشاطبي: [العقل لا يُجعل حاكماً بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب أن يقدم ما حقه التقديم –وهو الشرع- ويؤخر ما حقه التأخير -وهو نظر العقل- لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل؛ لأنه خلاف المعقول والمنقول] الاعتصام 2/326.
وبناءً على ما سبق فإن العقل لا مدخل له في أمور العقيدة والغيبيات وكذا الأحكام التعبدية كصلاة المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً ونحو ذلك، قال العلامة ابن خلدون: [العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن(13/43)
تزن به التوحيد والآخرة وحقائق النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال] مقدمة ابن خلدون ص364.
وقال أبو المظفر السمعاني: [واعلم: أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الإتباع والمأثور تبعاً للمعقول، وأما أهل السنة، قالوا: الأصل في الدين الإتباع، والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئاً حتى يعقلوا] الحجة في بيان المحجة 1/320. وانظر للتوسع: التيار العقلي لدى المعتزلة وأثره في حياة المسلمين المعاصرة للدكتور. سهل بن رفاع العتيبي، والاتجاهات العقلانية الحديثة، للدكتور ناصر العقل، وموقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، للأمين الصادق الأمين.
وخلاصة الأمر أن أحاديث العقل مكذوبة لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- - -
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)
يقول السائل: ما معنى ما ورد في الحديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ، أفيدونا؟
الجواب: هذا جزء من حديث قدسي ونصه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب -الخصام والصياح-، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم،(13/44)
والذي نفس محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم - الرائحة - أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
وقد ذكر شرَّاحُ الحديث وجوهاً عديدة في معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي) فمن ذلك ما أورده الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال: [وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: (الصيام لي وأنا أجزي به) مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال: أحدها أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد، ولفظ أبي عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب. ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في الصيام رياء) حدثنيه شبابة عن عقيل عن الزهري فذكره يعني مرسلاً قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس، وهذا وجه الحديث عندي، انتهى. وقد روى الحديث المذكور البيهقي في " الشعب " من طريق عقيل، وأورده من وجه آخر عن الزهري موصولاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده ضعيف ولفظه (الصيام لا رياء فيه، قال الله عز وجل: هو لي وأنا أجزي به) وهذا لو صح لكان قاطعاً للنزاع. وقال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث (يدع شهوته من أجلي) وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ، بخلاف الصوم. وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم فإن حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً يعني في الصورة الظاهرة ... ثانيها: أن المراد بقوله (وأنا أجزي(13/45)
به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال ... ثالثها: معنى قوله: (الصوم لي) أي أنه أحب العبادات إليَّ والمقدم عندي ... رابعها: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله ... ] فتح الباري 4/140-142.
ثم ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني بقية الأجوبة العشرة، وذكر أن أقرب الأجوبة إلى الصواب الأول والثاني. ولعل أصحها هو القول الأول، ولا بد أن يعلم أن المراد بالصيام هنا هو الصيام الذي سلم من المعاصي قولاً وفعلاً كما نقل الشيخ العيني اتفاق العلماء على ذلك. انظر عمدة القاري 8/14.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وقوله: (الصيام لي وأنا أجزي به) معناه والله أعلم أن الصوم لا يظهر من بن آدم في قول ولا عمل وإنما هو نية ينطوي عليها لا يعلمها إلا الله وليست مما يظهر فيكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر أعمال الظاهر، لأن الصوم في الشريعة ليس هو بالإمساك عن الطعام والشراب دون استشعار النية واعتقاد النية بأن تركه الطعام والشراب والجماع ابتغاء ثواب الله ورغبته فيما ندب إليه تزلفاً وقربةً منه كل ذلك منه إيماناً واحتساباً لا يريد به غير الله - عز وجل - ومن لم ينو بصومه أنه لله عز وجل فليس بصيام، فلهذا قلنا إنه(13/46)
لا تطلع عليه الحفظة لأن التارك للأكل والشرب ليس بصائم في الشرع إلا أن ينوي بفعله ذلك التقرب إلى الله تعالى بما أمره به ورضيه من تركه طعامه وشرابه له وحده لا شريك له لا لأحد سواه فمعنى قوله الصوم لي والله أعلم وكل ما أريد به وجه الله فهو له ولكنه ظاهر والصوم ليس بظاهر] الاستذكار 10/249.
ويؤيد ما تقدم ما ورد في الأحاديث من ترتيب الأجر العظيم على كون الصيام إيماناً واحتساباً وكذلك قيام رمضان عامة وليلة القدر خاصة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [معنى إيماناً: تصديقاً بأنه حق معتقد فضيلته، ومعنى احتساباً، أنه يريد الله تعالى لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص] شرح النووي على صحيح مسلم 2/378.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [المراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى] فتح الباري 4/149.
وقال المباركفوري: [قوله: (من صام رمضان وقامه إيماناً) أي تصديقاً بأنه فرض عليه حق وأنه من أركان الإسلام ومما وعد الله عليه من الثواب والأجر قاله السيوطي. وقال الطيبي: نصب على أنه مفعول له أي للإيمان وهو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والاعتقاد بفرضية الصوم، (واحتساباً) أي طلباً للثواب منه(13/47)
تعالى، أو إخلاصاً، أي باعثه على الصوم ما ذكر لا الخوف من الناس ولا الاستحياء منهم ولا قصد السمعة والرياء عنهم] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 2/293.
إذا تقرر هذا فإن الصيام يجب أن يكون خالصاً لله تعالى لا تشوبه شائبة، وخاصة أن الصيام عبادة خفية لا يطلع عليها الناس، وهذا الحكم ينسحب على بقية أعمال المسلم ولكنه في الصيام أظهر وأوضح، وقد ورد في بعض النصوص النبوية الإشارة إلى الإيمان والاحتساب كما ورد في الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط) رواه البخاري.
وروى البيهقي بإسناده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقالت: (حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين فليس عبد يقع الطاعون فيقيم ببلده إيماناً واحتساباً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد) أخرجه البخاري من حديث داود بن أبي الفرات كما قال البيهقي في السنن الكبرى 3/376.
وخلاصة الأمر أن معنى كون الصوم لله وأنه يجزي به أن الصوم أبعد الأعمال عن الرياء لأنه أمر خفي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل. ولا بد للمسلم من أن يخلص عمله كله لله تعالى لأننا قد أمرنا بإخلاص الأعمال كلها لله تعالى كما قال جل جلاله (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى) رواه البخاري وغيره.
(( (
معنى الاعتداء في الدعاء
يقول السائل: ما معنى الاعتداء في الدعاء، أفيدونا؟(13/48)
الجواب: الدعاء عبادة عظيمة وحقيقته مناداة الله تعالى لما يريد الداعي من جلب منفعة أو دفع مضرة من المضار أو رفع البلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك واستجلاب لرحمة المولى عز وجل وقد جاءت النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبينة فضله وحاثة عليه ومن ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (سورة غافر الآية 60. وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (سورة الأعراف الآيتان 55-56. وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (سورة البقرة الآية 186.
وجاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وقال العلامة الألباني حسن. انظر صحيح سنن الترمذي 3/138.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثمٍ أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ووافقه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/181.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء) رواه ابن حبان وأبو يعلى وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 1519.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي والحاكم وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 6290.
إذا تقرر هذا فإن للدعاء أحكاماً وآداباً قد فصلها العلماء في كتبهم ومنها ما ذكره الإمام النووي في كتابه الأذكار ص 340- 342.
وأما مسألة الاعتداء في الدعاء فد وردت الإشارة إليها في الكتاب والسنة، أما الكتاب ففي قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (قال الإمام القرطبي: [يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عاماً] . تفسير القرطبي 7/226.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وقوله تعالى: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (عقيب قوله: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً (دليل على أنّ من لم يدعه تضرعاً وخفيةً فهو من المعتدين الذين لا يحبهم] مجموع الفتاوى 15/24. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل(13/49)
تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب ويسأله بأن يطلعه على غيبه أو أن يجعله من المعصومين أو يهب له ولدا من غير زوجة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضاً في الدعاء وبعد فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء بالدعاء مراداً] مجموع الفتاوى 15/22. وورد في الحديث (أن سعداً رضي الله عنه سمع ابناً له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شرٍ كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 1313. وورد في الحديث أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال أي بني سل الله الجنة وعُذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء) . رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 3116. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [والاعتداء في الدعاء يقع بزيادة الرفع فوق الحاجة – أي في الصوت - أو بطلب ما يستحيل حصوله شرعاً أو بطلب معصية أو يدعو بما لم يؤثر خصوصاً ما وردت كراهته كالسجع المتكلف وترك المأمور] فتح الباري 8/378.
وقال الإمام القرطبي: [والاعتداء في الدعاء على وجوه؛ منها الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك، ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظاً مقفرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره، ويترك ما دعا به رسوله وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء] تفسير القرطبي 7/226.
وقد نص أهل العلم على أن من الاعتداء في الدعاء أن يبالغ في تشقيق العبارات في الدعاء مثل من يقول (اللهم ارحمنا إذا ثقل منا اللسان، وارتخت منا اليدان، وبردت منا القدمان، ودنا منا الأهل والأصحاب، وشخصت منا الأبصار، وغسلنا المغسلون، وكفننا المكفنون، وصلى علينا المصلون، وحملونا على الأعناق، وارحمنا إذا وضعونا في القبور، وأهالوا علينا التراب، وسمعنا منهم وقع الأقدام، وصرنا في بطون اللحود، ومراتع الدود) ونحو ذلك من العبارات.(13/50)
وكذلك فإن من الاعتداء في الدعاء السجع المتكلف قال الإمام البخاري: باب ما يكره من السجع في الدعاء، ثم ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنه وفيه ( ... وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) انظر فتح الباري 11/166.
ومن الاعتداء في الدعاء أن يدعو على غيره ظلماً وعدواناً فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحم) رواه البخاري ومسلم. وكذا إذا دعا الإنسان على نفسه فإن ذلك من الاعتداء في الدعاء فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم، فتُوَافِقُوا ساعة فيستجيب الله لكم) رواه مسلم، وورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت –أي ضعف- فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه) قال: نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله لا تطيقه -أو لا تستطيعه- أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال فدعا الله له فشفاه) رواه مسلم. ومن الاعتداء في الدعاء المبالغة في رفع الصوت فعن أبى موسى الشعري رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفاً، ولا نعلو شرفاً، ولا نهبط في وادٍ، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَ ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً) رواه البخاري ومسلم. ومعنى قوله (اربعوا) أي ارفقوا. وبالإضافة إلى رفع الصوت فإن تمطيط الكلمات وتقعيرها يعتبر من الاعتداء في الدعاء، قال الفقيه الحنفي الكمال بن الهمام: [ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من(13/51)
التمطيط والمبالغة في الصياح والاشتغال بتحريرات النغم إظهاراً للصناعة النغمية لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس به فكأنه قال اعجبوا من حسن صوتي وتحريري، ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال وما ذاك إلا نوع لعب، فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الخفض والرفع والتطريب والترجيع كالتغني، نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني فاستبان أن ذاك من مقتضيات الخيبة والحرمان] نقله المناوي في فيض القدير 1/296.
وخلاصة الأمر أن صور الاعتداء في الدعاء كثيرة كالسجع والصياح وتشقيق الكلام والدعاء بمحال وغيرها وأن خير الدعاء هو الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام الغزالي: [والأولى ألا يتجاوز الداعي الدعوات المأثورة، فإنه قد يتعدى في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته] إحياء علوم الدين 1/341.(13/52)
الصلاة(13/53)
ضابط التخفيف في الصلاة
يقول السائل: اختلف المصلون في مسجدنا عندما أطال الإمام القراءة في صلاة الفجر، فطالبه بعضهم بالتخفيف، فهل لكم أن توضحوا لنا ضابط التخفيف في الصلاة، أفيدونا؟
الجواب: قرر أهل العلم أن السنة في حق الإمام أن يخفف في الصلاة اعتماداً على حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، قال الإمام الترمذي: [وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح وهو قول أكثر أهل العلم اختاروا أن لا يطيل الإمام الصلاة مخافة المشقة على الضعيف والكبير والمريض] سنن الترمذي 1/462. وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على التخفيف منها: عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأتخلف عن صلاة الصبح مما يطول بنا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن منكم منفرين فأيكم أمَّ الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والسقيم وذا الحاجة) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال: أقبل رجل بناضحين له –الناضح الجمل الذي يسقى عليه- وقد جنح الليل فوافق معاذ بن جبل يصلى المغرب، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ ليصلي معه، فقرأ معاذ البقرة، أو النساء فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذاً نال منه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفاتن أنت، أو قال أفتان أنت ثلاث مرار. فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى فإنه يصلى وراءك الكبير، وذو الحاجة والضعيف) رواه البخاري. وقصة معاذ رواها أحمد في المسند وابن خزيمة في صحيحه(13/54)
والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم، وهي: (كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع فيصلي بأصحابه، فرجع ذات ليلة فصلى بهم وصلى خلفه فتىً من قومه، فلما طال على الفتى صلى وخرج، فأخذ بخطام بعيره وانطلق. فلما صلى معاذ ذكر ذلك له فقال: إن هذا به لنفاق. لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي صنع. وقال الفتى: وأنا لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي صنع، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى. فقال الفتى: يا رسول الله يطيل المكث عندك، ثم يرجع فيطول علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ. وقال للفتى: كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت؟ قال: أقرأ بفاتحة الكتاب، وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، وإني لا أدرى ما دندنتك ودندنة معاذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني ومعاذ حول هاتين أو نحو ذا. قال: قال الفتى: ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم وقد خبروا أن العدو قد دنوا. قال: فقدموا فاستشهد الفتى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لمعاذ: ما فعل خصمي وخصمك. قال: يا رسول الله صدق الله، وكذبت استشهد) وغير ذلك من الأحاديث. وينبغي أن يعلم أن المرجع في ضابط التخفيف في الصلاة هو السنة النبوية، وليس الأمر متروكاً لرغبات المأمومين، ولا لأهوائهم، ولا لأفعال أئمة المساجد، فإن الرغبات والأهواء لا تنتهي، فقد سمعنا أن بعض أئمة المساجد يحافظ على قراءة سورتي القارعة والزلزلة في صلاة الفجر، وبعضهم صلى التروايح في رمضان كله يقرأ سورة البروج كل ليلة يقسمها على ركعاتها. وبعضهم يصلي العشاء والتروايح في ربع ساعة، لذا كثر المصلون خلفه، وبعضهم لا يقرأ في صلاة المغرب إلا بقصار السور، وبعض المأمومين يطلب من إمام التروايح أن يخفف ليدرك حضور المسلسل التلفزيوني!! وحجة هؤلاء جميعاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف) ، وما درى هؤلاء أن(13/55)
التخفيف قضية نسبية كما قرر ذلك العلماء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة، فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالإقتداء بهم، فيجب البحث عما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس. ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حدٌّ في اللغة ولا في العرف، إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية. فعُلِمَ أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة، وبهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا يُنافى أمره بالتطويل أيضاً في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال: (إن طول صلاة الرجل وقِصَرَ خُطبته مَئِنَّةٌ مِنْ فقهه، فأطيلوا الصلاة واقُصُرُوا الخطبة) . وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما، فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة] مجموع الفتاوى 22/596-597.
وقال الشيخ ابن القيم: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أيكم أمّ الناس فليخفف) وقول أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله أخف الناس صلاة في تمام) ، فالتخفيف أمْرٌ نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين، فإنه لم يكن يأمرهم بأمرٍ ثم يخالفه، وقد عَلِمَ أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، فالذي فَعَلَه هو التخفيف الذي أَمَرَ به، فإنه كان يمكن أن(13/56)
تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها، وهَدْيه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بـ (الصافات) فالقرءاة بـ (الصافات) من التخفيف الذي كان يأمر به والله أعلم] زاد المعاد 1/213-214.
وختاماً أذكر ما ذكره العلامة ابن القيم في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات فقال: [وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية وصلاها بسورة (ق) وصلاها بـ (الروم) وصلاها بـ (إذا الشمس كورت) وصلاها بـ (إذا زلزلت) في الركعتين كليهما وصلاها بـ (المعوذتين) وكان في السفر وصلاها فافتتح بـ (سورة المؤمنين) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى أخذته سعلة فركع، وكان يصليها يوم الجمعة بـ (ألم تنزيل السجدة) وسورة (هل أتى على الإنسان) كاملتين، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين وقراءة السجدة وحدها في الركعتين وهو خلاف السنة. وأما الظهر فكان يطيل قراءتها أحيانا حتى قال أبو سعيد: [كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها] رواه مسلم، وكان يقرأ فيها تارة بقدر (ألم تنزيل) وتارة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) وتارة بـ (السماء ذات البروج) و (السماء والطارق) . وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت وبقدرها إذا قصرت. وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم فإنه صلاها مرة بـ (الأعراف) فرقها في الركعتين ومرة بـ (الطور) ومرة بـ (المرسلات) . قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بـ (المص) وأنه قرأ فيها بـ (الصافات) وأنه قرأ فيها بـ (حم الدخان) وأنه(13/57)
قرأ فيها بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وأنه قرأ فيها بـ (التين والزيتون) وأنه قرأ فيها بـ (المعوذتين) وأنه قرأ فيها بـ (المرسلات) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل، قال: وهي كلها آثار صحاح مشهورة انتهى. وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائماً فهو فعل مروان بن الحكم ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين قال: قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: (الأعراف) . وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن. وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة (الأعراف) فرقها في الركعتين فالمحافظة فيها على الآية القصيرة والسورة من قصار المفصل خلاف السنة، وهو فعل مروان بن الحكم. وأما العشاء الآخرة فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم بـ (التين والزيتون) ووقت لمعاذ فيها بـ (الشمس وضحاها) و (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) ونحوها وأنكر عليه قراءته فيها بـ (البقرة) ... وأما الجمعة فكان يقرأ فيها بسورتي (الجمعة) و (المنافقين) كاملتين و (سورة سبح) و (الغاشية) . وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} إلى آخرها فلم يفعله قط وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه. وأما قراءته في الأعياد فتارة كان يقرأ سورتي (ق) و (اقتربت) كاملتين، وتارة سورتي (سبح) و (الغاشية) وهذا هو الهدي الذي استمر صلى الله عليه وسلم عليه إلى أن لقي الله عز وجل لم ينسخه شيء] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/209- 212.
وخلاصة الأمر أن التخفيف في الصلاة أمر نسبي ومرجعه إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في اتباعه صلى الله عليه وسلم.
- - -(13/58)
حكم الدعاء بالأمور الدنيوية في الصلاة المفروضة
يقول السائل: سمعت أحد المشايخ يقول إنه لا يجوز الدعاء بالأمور الدنيوية في الصلاة المفروضة، فهل هذا الحكم صحيح، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن الدعاء عبادة عظيمة بل ورد في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) رواه أصحاب السنن الأربعة، وقال الإمام الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه الإمام النووي في الأذكار ص333. قال الإمام ابن العربي المالكي: [وجه تسمية الدعاء عبادة بيِّن، لأن فيه الإقرار بالعجز من العبد والقدرة لله وذلك غاية الذل والخضوع] عارضة الأحوذي 12/90. وقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحض على الدعاء بشكل عام كما في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة غافر الآية 60. وكما في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} سورة الأعراف الآيتان 55-56. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138. وعنه أيضاً أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (من سرّه أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن الترمذي 3/140.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ(13/59)
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة غافر الآية 60، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في المصدر السابق.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يقول: (ما من أحدٍ يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من سوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) رواه الترمذي وحسنه الشيخ الألباني المصدر السابق 3/140. وغير ذلك من النصوص.
ومن أعظم مواطن الدعاء الصلاة – فرضها ونفلها – فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) رواه مسلم. وقوله (فقمن) قال الإمام النووي: هو بفتح القاف وفتح الميم وكسرها لغتان مشهورتان فمن فتح فهو عنده مصدر لا يثنى ولا يجمع ومن كسر فهو وصف يثنى ويجمع قال: وفيه لغة ثالثة قمين بزيادة الياء وفتح القاف وكسر الميم ومعناه حقيق وجدير. شرح النووي على صحيح مسلم 2/148. وقد ثبت في الحديث أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم.
إذا ثبت هذا فإنه يجوز للمصلي أن يدعو في صلاته –الفرض والنافلة- بخيري الدنيا والآخرة على الراجح من أقوال أهل العلم، قال الإمام النووي: [قال الشافعي والأصحاب: وله أن يدعو بما شاء من أمور الآخرة والدنيا، ولكن أمور الآخرة أفضل وله الدعاء بالدعوات المأثورة في هذا الموطن والمأثورة في غيره وله أن يدعو بغير المأثور ومما يريده من أمور الآخرة والدنيا] ثم نقل عن بعض الشافعية تردده في جواز الدعاء بالأمور الدنيوية ثم قال: [والصواب الذي عليه جمهور الأصحاب أنه يجوز كل ذلك ولا تبطل الصلاة بشيء منه ودليله الأحاديث الصحيحة ... منها أن النبي صلى الله(13/60)
عليه وسلم قال: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) ونحو ذلك من الأحاديث] المجموع 3/470.
وقال الإمام النووي أيضاً: [مذهبنا أنه يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدين والدنيا كقوله اللهم ارزقني كسباً طيباً وولداً وداراً ... واللهم خلص فلاناً من السجن وأهلك فلاناً وغير ذلك، ولا يبطل صلاته شيء من ذلك عندنا وبه قال مالك والثوري وأبو ثور واسحق ... واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء) وفي الحديث الآخر (فأكثروا الدعاء) وهما صحيحان ... فأطلق الأمر بالدعاء ولم يقيده فتناول كل ما يسمى دعاءً، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا في مواضع بأدعية مختلفة فدل على أنه لا حجر فيه، وفى الصحيحين في حديث ابن مسعود رضي الله تعالي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر التشهد (ثم ليتخير من الدعاء ما أعجبه وأحب إليه وما شاء) وفى رواية مسلم كما سبق في الفرع قبله وفى رواية أبي هريرة (ثم يدعو لنفسه ما بدا له) قال النسائي وإسناده صحيح كما سبق] المجموع 3/471. ومما يدل على جواز الدعاء بالأمور الدنيوية في الصلاة مطلقاً أعني فرضاً كانت أم نافلة ما يلي: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة قلنا السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعوه) رواه البخاري قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) زاد أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه (فيدعو به) ونحوه(13/61)
النسائي من وجه آخر بلفظ (فليدع به) ولإسحاق عن عيسى عن الأعمش (ثم ليتخير من الدعاء ما أحب) وفي رواية منصور عن أبي وائل عند المصنف في الدعوات (ثم ليتخير من الثناء ما شاء) ونحوه لمسلم بلفظ (من المسألة) . واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما اختار المصلي من أمر الدنيا والآخرة، قال ابن بطال: خالف في ذلك النخعي وطاووس وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، كذا أطلق هو ومن تبعه عن أبي حنيفة، والمعروف في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما جاء في القرآن أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم: ما كان مأثوراً، قال قائلهم: والمأثور أعم من أن يكون مرفوعاً أو غير مرفوع، لكن ظاهر حديث الباب يرد عليهم، وكذا يرد على قول ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح في أمر الدنيا، فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقاً لا يجوز] فتح الباري 2/415. وجاء في رواية عند مسلم: (ثم يتخير من المسألة ما شاء) قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يتخير من المسألة ما شاء) فيه استحباب الدعاء في آخر الصلاة قبل السلام، وفيه أنه يجوز الدعاء بما شاء من أمور الآخرة والدنيا ما لم يكن إثماً، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يجوز إلا بالدعوات الواردة في القرآن والسنة] شرح النووي على صحيح مسلم 2/89.
واختار القول بجواز الدعاء بالأمور الدنيوية جماعة من أهل العلم المتقدمين والمتأخرين منهم الشيخ ابن قدامة المقدسي حيث قال: [وحكى عنه ابن المنذر –أي عن الإمام أحمد- أنه قال: لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه؛ من حوائج دنياه وآخرته. وهذا هو الصحيح، إن شاء الله تعالى؛ لظواهر الأحاديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم ليتخير من الدعاء) ، وقوله: (ثم يدعو لنفسه بما بدا له) . وقوله: (ثم ليدع بعد بما شاء) ... ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا(13/62)
يدعون في صلاتهم بما لم يتعلموه، فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ... ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء) لم يعين لهم ما يدعون به، فدل على أنه أباح لهم كل الدعاء ... ] المغني 1/493-494.
واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال بعد أن ذكر أقوال العلماء: [وهذا هو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) ولم يوقت في دعاء الجنازة شيئاً، ولم يوقت لأصحابه دعاءً معيناً، كما وقت لهم الذكر، فكيف يقيد ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعاء] مجموع الفتاوى 22/478.
واختار هذا القول أيضاً الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حيث قال بعد أن ساق الأدلة السابقة: [وهي تدل على شرعية الدعاء في هذه المواضع بما أحبه المسلم من الدعاء سواء كان يتعلق بالآخرة أو يتعلق بمصالحه الدنيوية بشرط ألا يكون في دعائه إثم ولا قطيعة رحم والأفضل أن يكثر من الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم] فتاوى الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، واختاره أيضاً الشيخ العلامة العثيمين حيث قال جواباً على السؤال التالي: هل يصح أن يدعو بشيء يتعلق بالدنيا؟ فيقول مثلاً: اللهم ارزقني زوجة صالحة، أو داراً واسعة أو ما أشبه ذلك؟ فأجاب: نعم يصح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن مسعود: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) والإنسان مفتقر إلى ربه في حوائج دينه ودنياه. ومن قال من أهل العلم إنه لا يدعو بأمر يتعلق بالدنيا، فقوله ضعيف؛ لأنه يخالف عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) ] فتاوى الشيخ العلامة العثيمين.(13/63)
وخلاصة الأمر أن الدعاء في الصلاة مشروع بل مندوب إليه، ولا فرق بين صلاة الفريضة والنافلة، ويجوز الدعاء بأمور الآخرة والدنيا، ولكن أفضل الدعاء هو الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- - -
حكم تسوية الصفوف في صلاة الجماعة
يقول السائل: هنالك تساهل من كثير من المصلين في تسوية الصفوف في صلاة الجماعة وكذلك فإن بعض أئمة المساجد لا يهتمون بذلك، وبعض المصلين يتضايق عندما يحاول أحد المصلين رص الصف، أرجو توضيح مسألة تسوية الصفوف؟
الجواب: قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب إقامة الصف من تمام الصلاة] ثم روى بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده. فقولوا ربنا لك الحمد. وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون، وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة) ثم روى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) ، ثم قال الإمام البخاري: [باب إثم من لم يتم الصفوف] ، ثم روى عن أنس رضي الله عنه أنه قدم المدينة فقيل له ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف. وروى الإمام مسلم من حديث أنس رضي الله عنه (فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) وقال الإمام البخاري أيضاً: [باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، وقال النعمان بن بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [والمراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد(13/64)
خلله. وقد ورد الأمر بسد خلل الصف والترغيب فيه في أحاديث كثيرة أجمعها حديث ابن عمر عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولا تذروا فرجاتٍ للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله] فتح الباري 2/273.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتسونَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف، فقال: عباد الله؛ لتسونَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم.) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يُصَلون على الذين يَصِلون الصفوف، ومن سدَّ فرجةً رفعه الله بها درجة) رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/121.
إذا تقرر هذا فإن تسوية الصفوف في صلاة الجماعة من تمام الصلاة أو من إقامة الصلاة، أو من حُسن الصلاة، كما ورد في الأحاديث، وتسوية الصفوف مطلوبة شرعاً إما على سبيل الندب كما هو مذهب جمهور أهل العلم، وإما على سبيل الوجوب كما هو قول الإمام البخاري وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد العثيمين، وعلى كلٍ فإن تسوية الصفوف أمر لابد منه، وهو مطلوب من المصلين عامةً، ومن الإمام خاصةً، فلا بد للإمام أن يأمر بتسوية الصفوف، كما هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف] ثم ذكر حديث أنس رضي الله عنه قال: أقيمت(13/65)
الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري) .وينبغي أن يعلم أنه يدخل في تسوية الصفوف ما يلي: أولاً: إتمام الصف الأول فالأول، لما ثبت في الحديث عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأُوَل ويتراصون في الصف) رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث حسن كما قال المنذري والحافظ ابن حجر. وبناءً على ذلك قرر أهل العلم أنه لا يجوز ابتداء صفٍ قبل إتمام الصف الذي قبله. ثانياً: التراص في الصف الواحد، بأن يقف المصلون متراصين، ويكون ذلك بإلزاق المنكب بالمنكب والكعب بالكعب، وسبق ما قاله الإمام البخاري في صحيحه: [باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، وقال النعمان بن بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (وقال النعمان بن بشير) هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة ... واستدل بحديث النعمان هذا على أن المراد بالكعب في آية الوضوء العظم الناتئ في جانبي الرِجْل -وهو عند ملتقى الساق والقدم- وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه، خلافاً لمن ذهب أن المراد بالكعب مؤخر القدم وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية ولم يثبته محققوهم ... ] فتح الباري 2/273-274. وروى الإمام أحمد في المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (حاذوا بين المناكب وسدوا الخلل) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 743. ومن المؤسف أن بعض المصلين يتركون فرجة بينهم وبين من يقف بجانبهم بحجة عدم التضييق على(13/66)
الآخرين وغيرها من الحجج الواهية، ويتضايقون جداً إذا حاول أحد المصلين التراص في الصف، وينطبق على هؤلاء ما ورد عن بعض السلف: (ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم نفر منك كأنه بغل شموس) . ولا شك أن ترك الفرجات في الصف مخالف لما ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله) رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن خزيمة. وعن أنس رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (راصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفس محمدٍ بيده إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحَذَف) رواه أبو داود والنسائي. والحَذَف صغار الغنم.
ولابد من التنبيه على أمر هام وهو أن تسوية الصف تكون بمحاذاة الكعبين لا بمساواة الأقدام برؤوس الأصابع، قال الشيخ محمد العثيمين: [الصحيح أنّ المعتمد في تسوية الصف، محاذاة الكعبين بعضهما بعضاً، لا رؤوس الأصابع، وذلك لأنّ البدن مركب على الكعب. والأصابع تختلف الأقدام فيها، فقدم طويل وآخر صغير فلا يمكن ضبط التساوي إلا بالكعبين. وأما إلصاق الكعبين بعضهما ببعض فلا شك أنه وارد عن الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يسوون الصفوف بإلصاق الكعبين بعضهما ببعض، أي: أنّ كل واحد منهم يلصق كعبه بكعب جاره لتحقيق المساواة. وهذا إذا تمت الصفوف وقام الناس، ينبغي لكل واحد أن يلصق كعبه بكعب صاحبه لتحقيق المساواة فقط وليس معنى ذلك أنه يلازم هذا الإلصاق ويبقى ملاصقاً له في جميع الصلاة. ومن الغلو في هذه المسألة ما يفعله بعض الناس: تجده يلصق كعبه بكعب صاحبه ويفتح قدميه فيما بينهما حتى يكون بينه وبين جاره في المناكب فرجة، فيخالف السنة في ذلك. والمقصود أنّ المناكب والأكعب تتساوى] مجموع فتاوى العثيمين 13/51-52.(13/67)
ثالثاً: المطلوب من المصلي أن يكون ليناً في حركته لا جامداً كأنه جلمود صخر، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله) رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث 6/74، قال أبو داود: [ومعنى (ولينوا بأيدي إخوانكم) إذا جاء رجلٌ إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجلٌ منكبيه حتى يدخل في الصف] ، وقال الإمام النووي: [يستحب أن يفسح لمن يريد الدخول إلى الصف ... ] المجموع 4/301. ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها) وصححه العلامة الألباني في المصدر السابق.
رابعاً: المقاربة بين الصفوف، فلا يبعد الصف عن الآخر، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (راصوا صفوفكم، وقاربوا بينها) .
وخلاصة الأمر أن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، ومطلوب من الإمام أن يأمر بتسويتها ولا يدخل في الصلاة حتى تسوى الصفوف، وتكون تسوية الصف بإلصاق القدم بالقدم، والمنكب بالمنكب، وبمقاربة الصفوف، وإتمام الصف الأول فالأول، وينبغب للمصلي أن يكون ليناً هيناً بأيدي إخوانه المصلين، فيسمح بدخول شخص للصف إن كان هنالك فسحة.
- - -(13/68)
الفرق بين المسجد والمصلى
يقول السائل: يوجد في المؤسسة التي أعمل فيها مصلىً نصلي فيه صلاة الظهر غالباً وأحياناً نصلي صلاة العصر، وقد حصل نقاش بين الموظفين في تحية المسجد عند دخولنا لهذا المصلى، فأحد الموظفين يقول نصلي تحية المسجد لأن له حكم المسجد، فما قولكم في المسألة، أفيدونا.
الجواب: الأصل في المسجد أنه كل موضع من الأرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً) رواه البخاري، قال الإمام الزركشي: [ثم العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس حتى يخرج المصلى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه] إعلام الساجد بأحكام المساجد ص14. وأما المصلى فهو المحل المهيأ للصلاة في الفضاء والصحراء حيث تقام فيه صلاة العيد والاستسقاء، ويلحق بذلك ما تعارف عليه الناس من تخصيص غرفة في مؤسسة أو مستشفى أو شركة ونحوها لأداء الصلاة. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 37/195.
قال الإمام النووي رحمه الله: [المصلى المتخذ للعيد وغيره، الذي ليس بمسجد لا يحرم المكث فيه على الجنب والحائض على المذهب. وبه قطع الجمهور. وذكر الدارمي فيه وجهين وأجراهما في منع الكافر من دخوله بغير إذن، ذكره في باب صلاة العيد، وقد يحتج له بحديث أم عطية في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحيض أن يحضرن يوم العيد ويعتزلن المصلى، ويجاب عنه بأنهن أمرن باعتزاله ليتسع على غيرهن وليتميزن] المجموع 2/180. ويجوز اتخاذ المصلى في محل العمل، وإن كان الأصل أن تؤدى الصلوات في المساجد، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: قد أنكرت بصري أنا أصلي بقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي المسجد فأصلي بهم، وددت يا(13/69)
رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأفعل إن شاء الله) . قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: أين تحب أصلي من بيتك؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه سلم فكبر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين ثم سلم ... ) رواه البخاري ومسلم.
وقد ثبت في السنة المشرفة التفريق بين المسجد وبين المصلى فالمسجد له أحكام خاصة به لا يشاركه فيها المصلى ومنها تحية المسجد، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (دخل رجل يوم الجمعة المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: فصل ركعتين) رواه البخاري ومسلم. وثبت في رواية أخرى عن جابر أيضاً قال: (جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم يجلس) رواه مسلم. وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس. قال: فجلست فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ قال: فقلت: يا رسول الله رأيتك جالساً والناس جلوس. قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) رواه مسلم. وقد صح من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي صلاة العيد في المصلى فإذا وصل إلى المصلى بدأ الصلاة من غير أذان ولا إقامة فكان يصلي ركعتين فيهما تكبيرات زوائد، وما كان يصلي تحية المسجد، فقد جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل(13/70)
قبلها ولا بعدها) رواه أحمد وابن ماجة، وقال الحافظ العراقي إسناده صالح، ونقل الترمذي تصحيحه عن البخاري. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم الناس يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم) متفق عليه. فهذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل تحية المسجد. وكذلك فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستسقاء أنه يصليها في المصلى كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سئل عن الصلاة في الاستسقاء فقال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً متضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وصححه. وهذا الحديث أيضاً يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل تحية المسجد.
ومما يدل على التفريق بين المسجد والمصلى أنه يشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد، قال الله تعالى: {ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} سورة البقرة الآية 187. ولم يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المسجد فلا يصح الاعتكاف في المصليات. وكذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذبح أضحيته في المصلى، ومعلوم أن ذلك لا يصح في المسجد، فقد ثبت في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى) . رواه البخاري. وكذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز الأسلمي رضي الله عنه أنه لما زنا (أمر به - النبي صلى الله عليه وسلم - فرجم بالمصلى) رواه البخاري. ومعلوم أن الحدود لا تقام في المسجد. ومن الفروق بين المسجد والمصلى أن المسجد لا يجوز تحويله إلى شيء آخر بشكل عام، لأن المسجد وقف لله تعالى، وأما المصلى فلا حرج في تحويله إلى مكتب أو نحوه ما لم يكن موقوفاً للصلاة فيه.(13/71)
ومن الفروق بين المسجد والمصلى أن الصلاة مع الجماعة في المسجد أفضل بسبع وعشرين درجة أو خمس وعشرين درجة كما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) .
وكذلك فإن من أحكام المسجد الخاصة به أنه لا يجوز البيع والشراء فيه وكذلك نشد الضالة لما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد الضالة فقولوا: لا رد الله عليك) رواه الترمذي والدارمي وهو حديث صحيح.
وروى أبو داود بسنده: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الإمام الترمذي وحسنه العلامة الألباني أيضاً.
ولا بد من التذكير بمكانة بتحية المسجد فالتحية هي ما يُحيّا به الشيء أو يعظم به، ومن هنا جاءت تحية المسجد والأصل أنها تحية لرب المسجد، لأن المقصود بها التقرب إلى الله تعالى لا إلى المسجد. وتحية المسجد سنة مؤكدة عند جماهير أهل العلم، وقال بعض العلماء بوجوبها، والأول أرجح، ومما يدل على عدم الوجوب ما رواه البخاري في (باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها) حيث روى بسنده عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل إثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس(13/72)
خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) ففي هذا الحديث لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على من جلس في الحلقة أو وراءها ولم يصل التحية.
وخلاصة الأمر أن تحية المسجد خاصة بالمساجد فقط، وأما المصليات فلا تحية لها، وينبغي على المسلم أن يحافظ على تحية المسجد كلما دخل المسجد لما ورد فيها من أحاديث.
- - -
أسس بناء المساجد
يقول السائل: ضاق المسجد الذي نصلي فيه بأهله وتداعى أهل الخير لتوسعته، ولكن تبين لهم أن المسجد قد بني بتصميم يجعل من توسعته أمراً صعباً جداً من الناحية الهندسية إلا إذا هدم معظم المسجد القائم، فهل نهدم المسجد ونبنيه من جديد، أفيدونا؟
الجواب: بناء المساجد من الأمور المرغب فيها شرعاً وهو باب من أبواب الخير ومن الصدقة الجارية وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في فضل بناء المساجد والمشاركة في بنائها فمن ذلك: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه ابن حبان والبزار والطبراني في الصغير وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وهذا الحديث يدل على المشاركة في بناء المسجد لأن مفحص القطاة لا يكفي ليكون(13/73)
مسجداً. ومفحص القطاة هو المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه. وعن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره أو ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي وقال الشيخ الألباني: وإسناد ابن ماجة حسن. انظر صحيح الترغيب والترهيب ص 109-111.
إذا تقرر هذا فإن بناء المسجد له خصوصية من الناحية العمرانية، فبناء المسجد ليس كبناء البيت، وإنما هنالك خصوصيات في بناء المسجد أذكر أهمها:
أولاً: تحديد اتجاه القبلة بطريقة صحيحة، فإن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} سورة البقرة الآية 150، ويجب تحديد القبلة بدقة عند بناء المساجد فإذا بني المسجد، وتبين بعد ذلك أن هنالك خطأً كبيراً في قبلة المسجد فيجب تصحيح ذلك الخطأ والتوجه إلى القبلة، [فإذا كانت القبلة إلى الجنوب، وتوجّه المصلي إلى جهة الجنوب بناءً على اجتهاده فصلاته صحيحة. فإذا ابتعد عن عين القبلة يميناً أو يساراً حتّى 45 درجة فإنّه يظل متّجهاً إلى جهة الجنوب، فإذا زاد عن ذلك فقد بدأ يتّجه إلى جهة الشرق أو الغرب، لأنّ كلّ جهة من هاتين الجهتين تبعد عن جهة الجنوب 90 درجة. فإذا وصل إلى 45 درجة فقد وصل إلى نهاية الجنوب من جهة الشرق، وبدأ التوجّه إلى جهة الشرق الجنوبي. أو إلى نهاية(13/74)
الجنوب من جهة الغرب وبدأ التوجّه إلى الغرب الجنوبي ... فالخطأ في هذه الحدود مغتفر إن شاء الله إذا حصل بعد البحث والتحري والاجتهاد] .
ثانياً: التقليل ما أمكن من عدد الأعمدة داخل المسجد، لأن الأعمدة تقطع اتصال الصفوف، وقد قرر العلماء كراهية الصف بين الأعمدة لغير حاجة من ضيق ونحوه، وقد وردت بعض الأحاديث التي تدل على كراهية الصف بين السواري فمن ذلك ما رواه الترمذي بإسناده عن عبد الحميد بن محمود قال: (صلينا خلف أمير من الأمراء فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين فلما صلينا قال أنس بن مالك: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ... قال أبو عيسى –أي الترمذي-: حديث أنس حديث حسن صحيح. وقد كره قوم من أهل العلم أن يصف بين السواري. وبه يقول أحمد وإسحق. وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 2/19. وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: [كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طرداً] رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وكذلك لا بد من الاهتمام بقضية الصفوف في المسجد وخاصة الصف الأول فعند بناء المسجد على شكل دائري مثلاً، فإن هذا يؤدي إلى إرباكٍ في الصفوف وتقليل حجم الصف الأول وغيره، لذا لا بد للمهندسين من أخذ هذه القضية بالاعتبار عند تصميم المسجد.
ثالثاً: الاقتصاد عند بناء المسجد فليس هنالك داعٍ للزخارف الفخمة والثريات الباهظة الثمن والقباب المذهبة والمآذن الطويلة، بل يجب أن يكون المسجد في غاية البساطة مع الاتساع وتوفر المرافق المريحة للمصلين كالحمامات النظيفة ووسائل التبريد والتدفئة والإضاءة الجيدة وغير ذلك، ولا بد من التنبيه إلى أن كثيراً من المساجد التي تبنى في أيامنا هذه يلاحظ فيها المبالغة في البناء وإنفاق الأموال الطائلة في زخرفة المسجد وتزيينه، وقد سمعنا عن بعض المساجد التي كلف الواحد منها(13/75)
مئات الملايين مع أن الناس يعانون من الفقر في تلك البلاد، فكان أولى أن تنفق تلك الأموال لسد حاجات الناس الضرورية. ويجب أن يعلم أنه ليس من منهج الإسلام الصحيح المبالغة في بناء المسجد ولا إنفاق الملايين عليه مباهاةً وتفاخراً. وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث عن ذلك فقد جاء في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وصححه ابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/1237. وقال الشيخ الشوكاني: [أي يتفاخرون في بناء المساجد والمباهاة بها] نيل الأوطار 2/169.وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب بنيان المسجد وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل. وأمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمِّر أو تصَفّر فتفتن الناس. وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً] . وقال الحافظ ابن حجر قوله: [ثم لا يعمرونها: المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله وليس المراد به بنيانها ... ] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/85-86.وورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أمرت بتشييد المساجد) رواه أبو داود وابن حبان وصححه. قال الإمام البغوي: (والمراد من التشييد: رفع البناء وتطويله ومنه قوله سبحانه وتعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وهي التي طول بناؤها ... وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم) شرح السنة 2/349-350. وقال ابن رسلان معلقاً على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق: [وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة إخباره صلى الله عليه وسلم عما يقع بعده فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان بالقاهرة والشام وبيت المقدس بأخذهم أموال الناس ظلماً وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع نسأل الله السلامة والعافية] نيل الأوطار 2/168.(13/76)
رابعاً: العناية التامة بمرافق المسجد الملحقة به، مثل دورة المياه والمتوضأ، فلا بد أن تتحقق الشروط الصحية في هذه المرافق من حيث التهوية والنظافة وتناسب الأدوات المستخدمة فيها مع طريقة استعمالها فمثلاً ينبغي أن تكون صنابير المياه من النوع الذي يسمح بعملية الوضوء بشكل سهل، وأذكر أنني رأيت متوضأً وضعت فيه حنفيات قصيرة العنق لا تسمح للمتوضئ أن يغسل رجليه، وكذلك يقال في كراسي المراحيض. وكذلك الاهتمام بوجود ساحات حول المسجد لوقوف السيارات.
خامساً: الاهتمام بعدة أمور عند بناء المسجد، كعملية العزل لمنع تدفق المياه إلى المسجد خلال فصل الشتاء، وكذا لحفظ المصلين من حرارة الصيف، وكذا موضع الشبابيك فينبغي أن تكون في مكان مناسب من المسجد للتهوية وإدخال الضوء، وألا تكون في قبلة المصلين بشكل مباشر. وكذا العناية بأبواب المسجد بحيث تكون متناسبة مع حجم المسجد، فالمسجد الكبير الواسع لا بد له من عدة أبواب، حتى لا يزدحم المصلون عند الخروج من المسجد، وكذا لا ينبغي أن تكون أبواب المسجد في جهة القبلة لما يترتب عليه من قطع الصفوف الأولى، وكذلك لا بد من الاهتمام بالشبكة الكهربائية للمسجد من حيث الإضاءة والمراوح والمكيفات وأن تكون مفاتيح التحكم فيها في مكان خاص يضبطه موظف المسجد، حتى لا تكون عرضة لأمزجة المصلين، وكذلك لا بد من الاهتمام بأماكن وضع الأحذية، وغير ذلك من الأمور التي يجب أن تراعى عند بناء المساجد، وبمناسبة الحديث عن بناء المساجد فإنني أدعو المهندسين المعماريين لوضع أسس لبناء المسجد تكون متفقة مع ثقافة المسجد في الإسلام ولا بد من التعاون في ذلك مع أهل العلم الشرعي.
سادساً: لا بد من الاهتمام بمصلى النساء عند بناء المسجد ابتداءً، ومراعاة دخولهن وخروجهن بطريقة مشروعة، والأخذ بعين الاعتبار حاجاتهن الخاصة.(13/77)
سابعاً: عند التفكير في بناء مسجد جديد لا بد أن يكون بعيداً عن أي مسجد قائم، فلا يجوز بناء مسجد جديد بقرب المسجد القديم ما دام أن المسجد القديم يتسع لأهل الحي، لأن من المقاصد التي بنيت لها المساجد جمع أكبر عدد من المصلين في المسجد الواحد ليتعاونوا ويتعارفوا. كما أن الله سبحانه وتعالى جعل الثواب العظيم لمن يمشي إلى المسجد للصلاة ولو كان بعيداً كما صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى) رواه البخاري ومسلم. وإنّ بناء المسجد الجديد بجوار المسجد القديم يعتبر من باب الضرار عند العلماء لأنه سيؤدي إلى تفريق جماعة المسلمين. وقد اعتبر الإمام السيوطي أن كثرة المساجد في المحلة الواحدة من المحدثات المخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر كتاب الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص 300.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً هدم المسجد من أجل تحقيق مصلحة شرعية كإعادة بنائه أو توسعته أو نحو ذلك من الأسباب الشرعية، كم ينبغي مراعاة عدة أسس وقواعد عند بناء المساجد ذكرت أهمها.
- - -
حكم استعمال مكبرات الصوت في المساجد لغير الأذان
يقول السائل: هل يجوز إعلان وفاة شخص باستخدام مكبرات الصوت في المساجد، وهل يعتبر هذا من النعي المحرم، أفيدونا؟
الجواب: ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات) . رواه البخاري ومسلم، والنعي المذكور في الحديث هو الإخبار عن وفاة الشخص(13/78)
قال الإمام الترمذي: [والنعي عندهم أن ينادى في الناس أن فلاناً مات ليشهدوا جنازته] سنن الترمذي 3/313.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وفيه -أي حديث نعي النجاشي- إباحة الإشعار بالجنازة والإعلام بها ليجتمع إلى الصلاة عليها، وفي ذلك رد قول من تأول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النعي أنه الإعلام بموت الميت للاجتماع إلى جنازته، روي عن ابن مسعود أنه قال: لا تؤذنوا بي أحداً فإني أخشى أن يكون كنعي الجاهلية، وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أنا مت فلا تقولوا للناس مات سعيد حسبي من يبلغني إلى ربي، وروي ذلك عن ابن مسعود قال: حسبي من يبلغني إلى حفرتي، وعن علقمة أنه قال: لا تؤذنوا بي أحداً فإن ذلك من النعي والنعي من أمر الجاهلية، وروي عن طائفة من السلف مثل ذلك قد ذكرتهم والأخبار عنهم في التمهيد، وروي عن ابن عون قال: قلت لإبراهيم أكان النعي يكره قال: نعم قال: وكان النعي أن الرجل يركب الدابة فيطوف ويقول أنعي فلاناً، قال ابن عون وذكرنا عن ابن سيرين أن شريحاً قال: لا تؤذنوا لجنازتي أحداً فقال إن شريحاً كان يكتفي بذكره ولا أعلم بأساً أن يؤذن الرجل صديقه حميمه، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة كان له من الأجر كذا) ، وقوله عليه السلام: (لا يموت أحد من المسلمين فتصلي عليه أمة من الناس يبلغون أن يكونوا مئة فيشفعون له إلا شفعوا فيه) ، وعنه عليه السلام (ما من مسلم يصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب) ، دليل على إباحة الإنذار والإشعار بالجنازة والاستكثار من ذلك للدعاء وإقامة السنة في الصلاة عليها، وقد أجمعوا أن شهود الجنائز خير وفضل وعمل برٍ، وأجمعوا أن الدعاء إلى الخير من الخير، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يمر بالمجالس فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته، فإن قيل إن ابن عمر كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس ثم خرج بجنازته، قيل قد روي عنه خلاف(13/79)
ذلك في جنازة رافع بن خديج لما نعي له قال كيف تريدون أن تصنعوا له؟ قالوا نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قريات حول المدينة ليشهدوا جنازته قال: نِعمَ ما رأيتم] الاستذكار 8/232-233.
وقال الإمام العيني: [ذكر ما يستنبط منه - أي من حديث نعي النجاشي- من الأحكام وهو على وجوه: الأول فيه إباحة النعي وهو أن ينادى في الناس أن فلاناً مات ليشهدوا جنازته، وقال بعض أهل العلم لا بأس أن يعلم الرجل قرابته وإخوانه، وعن إبراهيم لا بأس أن يعلم قرابته، وقال شيخنا زين الدين: إعلام أهل الميت وقرابته وأصدقائه استحسنه المحققون والأكثرون من أصحابنا وغيرهم وذكر صاحب الحاوي من أصحابنا وجهين في استحباب الإنذار بالميت وإشاعة موته بالنداء والإعلام: فاستحب ذلك بعضهم للغريب والقريب لما فيه من كثرة المصلين عليه والداعين له، وقال بعضهم يستحب ذلك للغريب ولا يستحب لغيره، وقال النووي والمختار استحبابه مطلقاً إذا كان مجرد إعلام] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 6/26.
وينبغي أن يعلم أن استعمال مكبرات الصوت في المساجد للإعلان عن وفاة الميت، إنما هو استخدام لوسيلة حديثة لإخبار الناس عن وفاة الشخص، وهذا أمر جائز لا بأس به ما دام الهدف منه هو مجرد الإخبار فقط، وهذا من النعي الجائز شرعاً، والنعي ليس كله محرم، وإنما المحرم نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المآثر والمفاخر، وعلى هذا يحمل النهي الوارد عن النعي كما في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: (إذا متُّ فلا تؤذنوا بي، إني أخاف أن يكون نعياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وصححه العلامة الألباني.(13/80)
وأما النعي الذي هو مجرد إخبار بالوفاة فقط ليشهد الناس الصلاة على الميت وليشهدوا جنازته ودفنه، فأمر مستحب لأنه وسيلة لأمور مندوبة ومستحبة، والوسائل لها أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام1/46. ومما يدل على جواز هذا النعي ما ورد في الحديث عن يزيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما ورد البقيع فإذا هو بقبر جديد فسأل عنه فقالوا: فلانة مولاة بني فلان، قال: فعرفها وقال: ألا آذنتموني بها؟ قالوا: ماتت ظهراً وكنت قائلاً صائماً فكرهنا أن نؤذيك قال: فلا تفعلوا لا أعرفن ما مات منكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي عليه رحمة، ثم أتى القبر فصففنا خلفه فكبر عليه أربعاً) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وإسناده صحيح على شرط مسلم قاله العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 89. ويدل عليه ما ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد - أو شاباً - ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها -أو عنه- فقالوا مات. قال: أفلا كنتم آذنتموني، قال: فكأنهم صغروا أمرها -أو أمره- فقال: دلوني على قبره، فدلوه فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم) رواه مسلم.
ويدل عليه أيضاً ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب) وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان، (ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرةٍ ففتحَ له) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس، قبل أن(13/81)
يأتيهم خبرهم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم) رواه البخاري. ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن رشيد أحد شرَّاح صحيح البخاري قوله: [وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نهي عمَّا كان أهل الجاهلية يصنعونه فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام ... وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا به أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذنيَّ هاتين ينهى عن النعي، أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن، قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات، الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم] فتح الباري 3/150-151.
وقال الإمام النووي: [والصحيح الذي تقتضتيه الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها وغيرها، أن الإعلام بموته لمن لم يعلم ليس بمكروه بل إن قصد به الإخبار لكثرة المصلين، فهو مستحب، وإنما يكره ذكر المآثر والمفاخر والتطواف بين الناس يذكره بهذه الأشياء، وهذا نعي الجاهلية المنهي عنه فقد صحت الأحاديث بالإعلام فلا يجوز إلغاؤها وبهذا الجواب أجاب بعض أئمة الفقه والحديث المحققين] المجموع 5/216.(13/82)
وقال العلامة الألباني: [ويجوز إعلان الوفاة إذا لم يقترن به ما يشبه نعي الجاهلية وقد يجب ذلك إذا لم يكن عنده من يقوم بحقه من الغسل والتكفين والصلاة عليه ونحو ذلك] أحكام الجنائز ص32.
وخلاصة الأمر أن الإخبار عن وفاة الميت باستعمال مكبرات الصوت في المساجد أمر جائز شرعاً، ومثل ذلك الإعلان عن وفاة الميت باستخدام الوسائل الحديثة كتداول الرسائل عبر الهواتف النقالة والبريد الإلكتروني وشبكة الإنترنت وغيرها بشرط أن يكون الإخبار خالياً من ذكر المآثر والمفاخر.
- - -
خطيب الجمعة غير مؤهل
يقول السائل: هل يجوز لي أن لا أذهب يوم الجمعة إلى المسجد إلا بعد انتهاء الخطيب من خطبة الجمعة، لأن الخطيب في مسجدنا غير مؤهل وموضوعات خطبه مكررة ولا تعالج القضايا الهامة، أفيدونا؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الجمعة الآية 9. قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: [ {ذِكْرِ اللَّهِ} أي الصلاة، وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير. - قال- ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة. وبه قال علماؤنا، إلا عبد الملك بن الماجشون فإنه رآها سنة. والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته، لأن المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكراً لله بفعله كما يكون مسبحاً لله بفعله] تفسير القرطبي 18/107.(13/83)
وقد قال جمهور الفقهاء: إن خطبة الجمعة شرط لصحة صلاة الجمعة، فلابد من خطبة تسبق صلاة الجمعة، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ونقل عن عطاء والنخعي وقتادة والثوري وإسحاق وأبي ثور ونقله القاضي عياض عن كافة العلماء، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال -أي الخرقي-: فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائما ً. وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها كذلك قال عطاء والنخعي، وقتادة والثوري والشافعي، وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا ً، إلا الحسن قال: تجزئهم جميعهم، خطب الإمام أو لم يخطب، لأنها صلاة عيد، فلم تشترط لها الخطبة كصلاة الأضحى، ولنا قول الله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والذكر هو الخطبة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة للجمعة في حال وقد قال: (صلوا كما رأيتمونى أصلي) ، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: قصرت الصلاة لأجل الخطبة، وقول عائشة نحو من هذا] المغني2/224، وانظر المجموع 4/514، بدائع الصنائع 1/589.
إذا تقرر هذا فإن خطبة الجمعة لها شأن عظيم عند الله عز وجل فهي ذكرٌ لله كما سماها الله في كتابه الكريم، وهي شعيرة من شعائر الدين، وقد صح في الحديث أن الملائكة تشهدها فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة - أي ناقة - ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم. وإذا كان لخطبة الجمعة هذه المكانة فإن كثيراً ممن يصعدون المنابر اليوم ما هم بخطباء على الحقيقة، بل هم أشباه خطباء، فليس كل من صعد المنبر يسمى خطيباً، قال محمد كاتب المهدي ـ وكان شاعراً راويةً وعالماً في النحو ـ: سمعت أبا(13/84)
داود بن جرير يقول - وجرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام - فقال: [رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحُليُّها الإعراب، وبهاؤها تخير الألفاظ] البيان والتبيين.
إن كثيراً ممن يصعدون المنابر اليوم لا يقدرون قيمة هذا المنبر ولا يعطونه الأهمية التي يستحقها لأن مواصفات الخطيب الناجح بعيدة عنهم كل البعد، كما أنه لا تبذل جهود حقيقية للرقي بخطيب الجمعة وإعداده إعداداً صحيحاً ليقوم بهذه المهمة العظيمة، بعض من يصعدون المنابر في بلادنا يسيئون لخطبة الجمعة، فمثلاً بعض هؤلاء إذا اعتلى المنبر نظر للمصلين نظرة فوقية، فيبدأ بتوجيه اللوم لهم وكأنهم مسئولون عن كل النكبات التي حلت بالأمة الإسلامية، ولا تسمع منه إلا ذكر المصائب والآلام ويقتل روح الأمل في نفوس المصلين، مع أن واجب الخطيب الناجح أن يبعث الأمل في نفوس المصلين، ويغرس الثقة بالله عز وجل في نفوس الناس، قال علي رضي الله تعالى عنه: [ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟ قالوا: بلى. قال: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه. ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا علم ليس فيه تفهم ولا قراءة ليس فيها تدبر] . جامع بيان العلم 2/55. ولا شك أن الأمة الإسلامية تمر في ظروف عصيبة ولكن هذا الظرف لا يدفعنا إلى القنوط واليأس، فالأمة تحتاج إلى خطيب يبعث الأمل، ويشحذ الهمم، ويمسح مرارة الأحداث، ولا شك أن الأمة المسلمة تسير إلى خيرٍ وتمكين، والوعد الرباني بنصر الإسلام والمسلمين سيتحقق بإذن الله عز وجل: قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (سورة آل عمران 140.وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن عبد الله بن عياض قال دخل عبيد بن عمير على عائشة فسألت: من هذا؟ فقال: أنا عبيد بن عمير. قالت: عمير بن قتادة؟ قال: نعم يا أمتاه. قالت: أما بلغني أنك تجلس ويجلس إليك؟ قال: بلى يا أم المؤمنين، قالت: فإياك وتقنيط الناس وإهلاكهم] مصنف عبد الرزاق 3/ 219-220. وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل فعن عائشة رضي الله تعالى(13/85)
عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن أو الفأل الصالح) كما في روايات الحديث، رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فلا يقبل من خطيب الجمعة أن ينظر نظرة سوداء متشائمة، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم) رواه مسلم، ففي الحديث ذم للتشاؤم وتقنيط الناس، وفيه أيضا ذم من زكى نفسه وتنقص غيره بغير حق. قال الإمام النووي: [واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس، واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم، لأنه لا يعلم سر الله في خلقه. قالوا: فأما من قال ذلك تحزناً لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه كما قال: لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً. هكذا فسره الإمام مالك، وتابعه الناس عليه. وقال: الخطابي: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساؤهم، ويقول: فسد الناس، وهلكوا، ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/134-135.
وبعض من يصعدون المنابر في بلادنا لا يخاطبون الناس على قدر عقولهم، فتراه يتكلم في موضوع يثير العامة عليه، فلا يحسن اختيار موضوع الخطبة، فليس كل حقٍ يصلح أن يذكر على المنابر، فهنالك أمور لا تطرح على العامة، لأنهم قد لا يستوعبونها، أو تخالف ما ألفوه وعرفوه، فيحتاج الأمر إلى تمهيد وإعداد وليس محل ذلك خطب الجمعة، لذا ينبغي أن يكون الخطيب حصيفاً عند اختيار موضوع الخطبة، ولا يقبل أن يتناول الخطيب موضوعاً يثير العامة عليه، وقد يؤدي ذلك إلى إحداث فوضى في المسجد وصياح واعتراض على الخطيب وينتهي الأمر بأن يقوم بعض العامة بسحب الخطيب عن المنبر، فلا شك أن هذا حمق، وقصر نظر من الخطيب، وإساءة بالغة لخطبة الجمعة وتضييع لهيبتها من نفوس الناس، وكذا فيه إساءة لأدب المسجد، إن من مقتضيات نجاح الخطيب أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، وعلى الخطيب أن يعلم أنه يستحيل إصلاح الناس في خطبة واحدة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله واصفاً خطب النبي صلى الله عليه وسلم: [وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم] زاد المعاد1/ 189. وقال ابن(13/86)
عباس رضي الله عنهما عمن وعظ العوام: [ليحذر الخوض في الأصول فإنهم لا يفهمون ذلك، لكنه يوجب الفتن، وربما كفروه مع كونهم جهلة] الآداب الشرعية 2/87. وقال ابن مفلح المقدسي الحنبلي: [ومن التغفيل تكلم القصاص عند العوام الجهلة بما لا ينفعهم، وإنما ينبغي أن يخاطب الإنسان على قدر فهمه ومخاطبة العوام صعبة، فإن أحدهم ليرى رأياً يخالف فيه العلماء ولا ينتهي ... فالحذر الحذر من مخاطبة من لا يفهم بما لا يحتمل ... فاحذر العوام كلهم، والخلق جملة ... ] الآداب الشرعية 2 / 87-88. ومع أن المقام لا يتسع لتفصيل صفات الخطيب الناجح، فقد كتبت فيه مؤلفات، فلا بد أن أذكر أن من عوامل نجاح الخطيب أن لا يتعرض للأمور الخلافية المحتملة، وأن لا يتعصب لرأيه، وأن يبتعد عن التجريح للأشخاص والجماعات مع التصريح بأسمائهم، فلا شك أن هذا على خلاف الهدي النبوي فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة أنه كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) - كما في البخاري ومسلم وكتب السنن - دون أن يذكرهم بأسمائهم.
وخلاصة الأمر أن خطبة الجمعة فريضة، وأنه لا يجوز لأحد أن يترك حضور خطبة الجمعة عمداً، لأن خطيب الجمعة لا يعجبه، أو أن خطيب الجمعة يطرح أموراً بعيدة عن واقع الأمة، فالأمة تذبح من الوريد إلى الوريد وهو يتحدث عن خطأ يقع فيه أحد المصلين، فلكل مقام مقال، ولا بد من الاهتمام بخطبة الجمعة، وأن يعاد تأهيل من يصعدون المنابر تأهيلاً علمياً صحيحاً حتى يستحقوا وصف خطيبٍ حقيقةً لا مجازاً.
- - -(13/87)
نبش القبور لأغراض خبيثة
يقول السائل: قام بعض الأشخاص بنبش بعض القبور في مقبرة بلدتنا لأغراض خبيثة، فما الحكم في هذه القضية، أفيدونا؟
الجواب: حرمة المسلم حرمة عظيمة حياً كان أو ميتاً وقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري ومسلم. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630. ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي.
ولا شك أن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً فلا يجوز الاعتداء عليه وهو ميت في قبره، كما لا يجوز الاعتداء عليه حال حياته، لأن حرمة المسلم ليست مقيدة بحال الحياة، بل تعم حال الحياة وحال الممات، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/214. وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ في الإثم) سنن ابن ماجة 1/516. وروى البخاري بإسناده عن عطاء قال حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف - موضع قريب من التنعيم بضواحي مكة المكرمة - فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا) ، قال الحافظ ابن حجر: [قوله (وارفقوا)(13/88)
إشارة إلى أن مراده السير الوسط المعتدل، ويستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته، وفيه حديث (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً) أخرجه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان] فتح الباري 9/142. وعن عمارة بن حزم قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على قبر فقال يا صاحب القبر انزل عن القبر لا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك) رواه الطبراني في الكبير، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، فتح الباري3/285، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب حديث رقم 3566. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته) رواه ابن أبي شيبة في المصنف. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه سئل عن الوطء على القبر فقال: كما أكره أذى المؤمن في حياته فإني أكره أذاه بعد موته.
إذا تقرر هذا فإن الأصل عند أهل العلم هو حرمة نبش قبور المسلمين، لأن نبشها يعتبر انتهاكاً لحرمةٍ أوجب الشرع حفظها وصيانتها، وقد قرر الفقهاء أنه لا يجوز نبش قبر الميت إلا لعذر شرعي وغرض صحيح، فالأصل هو حرمة نبش القبور إلا في حالاتٍ خاصة بينها الفقهاء، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم نباش القبور، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المختفي والمختفية) رواه البيهقي والحاكم، وهو حديث صحيح كما بينه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 5/181. وفي صحيح الجامع حديث رقم 5102، والمقصود بالمختفي نباش القبور. واللعن هو الإبعاد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وقال العلماء: اللعن على الفعل من أول الدلائل على تحريمه، واللعن لا يكون إلا على كبائر الذنوب، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/308، 2/62. وقال الحافظ ابن عبد البر: [وفي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النباش دليل على تحريم فعله والتغليظ فيه كما لعن شارب الخمر وبائعها وآكل الربا ومؤكله] الاستذكار 8/344.(13/89)
إذا تقررت حرمة الميت فإن جماعة من الفقهاء قد قالوا بقطع يد النباش، وهو من يفتش القبور عن الموتى ليسرق أكفانهم وحليهم وما يتعلق بهم. وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف من الحنفية وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإسحاق بن راهويه والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وهو قول الظاهرية، وقرروا أن النباش يعتبر سارقاً تجري عليه أحكام السارقين، فتقطع يده إذا سرق من أكفان الموتى ما يبلغ نصاب السرقة، لأن الكفن مال متقوم سُرق من حرز مثله وهو القبر، فكما أن البيت المغلق في العمران يعتبر حرزاً لما فيه عادة، وإن لم يكن فيه أحد، فإن القبر يعتبر عادةً حرزاً لكفن الميت. واستدلوا بأدلة منها: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة المائدة الآية 38، حيث إن اسم السرقة يشمل النباش، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سارق أمواتنا كسارق أحيائنا) رواه البيهقي في كتاب المعرفة. وعن يحيى النسائي قال كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في النباش فكتب إليَّ إنه سارق. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه) رواه البيهقي في كتاب المعرفة، قالوا ومعناه أنه سرق مالاً كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه فتقطع يده كما لو سرق لباس الحي، لأن الآدمي محترم حياً وميتاً، ولأن السرقة أخذ المال على وجه الخفية، وذلك يتحقق من النباش وهذا الثوب - الكفن - كان مالاً قبل أن يلبسه الميت فلا تختل صفة المالية فيه بلبس الميت، فأما الحرز فلأن الناس تعارفوا منذ ولدوا إحراز الأكفان بالقبور، ولا يحرزونها بأحصن من ذلك الموضع، فكان حرزاً متعيناً له باتفاق جميع الناس، ولا يبقى في إحرازه شبهة، لما كان لا يحرز بأحصن منه عادةً، ولأنه روي (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع المختفي) ، قال الأصمعي: وأهل الحجاز يسمون النباش المختفي، إما لاختفائه بأخذ الكفن، وإما(13/90)
لإظهاره الميت في أخذ كفنه، وقد يسمى المظهر، وهو من أسماء الأضداد. ومن أدلة الجمهور أيضاً ما روي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قطع نباشاً بعرفات وهو مجمع الحجيج، ولا يخفى ما جرى فيه على علماء العصر فما أنكره منهم منكر، ولأن جسد الميت عورة يجب سترها فجاز أن يجب القطع في سرقة ما سترها، ولأن قطع السرقة موضوع لحفظ ما وجب استبقاؤه على أربابه حتى ينزجر الناس عن أخذه، فكان كفن الميت أحق بالقطع لأمرين: أحدهما أنه لا يقدر على حفظه على نفسه، والثاني أنه لا يقدر على مثله عند أخذه] الموسوعة الفقهية الكويتية 40/19-20. بتصرف. وقال الشيخ ابن حزم الظاهري مؤيداً قول الجمهور بقطع النباش ورادَّاً على المخالفين: [ ... والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: أن كل هذا لا معنى له، لكن الفرض هو ما افترض الله تعالى ورسوله عليه السلام الرجوع إليه عند التنازع، إذ يقول تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} ففعلنا: فوجدنا الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب القطع على من سرق بقوله عليه السلام: (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها) ، ووجدنا السارق في اللغة التي نزل بها القرآن وبها خاطبنا الله تعالى: هو الآخذ شيئاً لم يبح الله تعالى له أخذه، فيأخذه متملكا له، مستخفياً به فوجدنا النباش هذه صفته، فصح أنه سارق، وإذ هو سارق، فقطع اليد على السارق، فقطع يده واجب وبه نقول. وأما من رأى قتله، أو قطع يده ورجله، فما نعلم له حجة، إلا أن يكونوا رأوه محارباً وليس هاهنا دليل على أنه محارب أصلاً؛ لأنه لم يخف طريقاً، فليس له حكم المحارب، ودماؤنا حرام، فدم النباش حرام] المحلى 12/315-316. ومما يدل على قطع يد النباش ما رواه ابن أبي شيبة من آثار عن جماعة من السلف، فقد روى بإسناده عن معمر قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قطع نباشاً. وروى بإسناده عن إبراهيم النخعي والشعبي قالا:(13/91)
يقطع سارق أمواتنا كما يقطع سارق أحيائنا. وروى بإسناده عن عطاء في النباش قال هو بمنزلة السارق، يقطع. وروى بإسناده عن أشعث قال: سألت الحسن عن النباش قال: يقطع، وسألت الشعبي فقال: يقطع. وروى بإسناده عن الحكم وحماد عن إبراهيم النخعي في النباش قال: يقطع. وروى بإسناده عن حماد وأصحابه قالوا: يقطع النباش لأنه قد دخل على الميت بيته. وروى بإسناده عن مكحول قال: لا يقطع إلا أن يكون للقبر باب. وروى بإسناده عن عبد الله بن مرة قال: النباش لص فاقطعه. وروى بإسناده عن حجاج أن مسروقاً وإبراهيم النخعي والشعبي وزاذان وأبا زرعة بن عمرو بن جرير كانوا يقولون في النباش: يقطع. المصنف 10/34-35.
وخلاصة الأمر أن نبش القبور لسرقة ما فيها من المحرمات بل من الكبائر، وتقطع يد النباش على الراجح من أقوال أهل العلم إذا سرق ما يبلغ نصاب القطع.
- - -(13/92)
الصيام(13/93)
مقدار طعام المسكين لمن عجز عن الصيام
يقول السائل: ما هو مقدار طعام المسكين المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، أفيدونا؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآيتان 183-184.
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هل هذه الآية منسوخة أم أنها محكمة؟ وأرجح أقوال العلماء أن الآية الكريمة ليست منسوخة، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/225.
وقد روى الإمام الطبري بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: يتجشمونه يتكلفونه.
وروى الإمام الطبري بإسناده أيضاً عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق فيفطر ويطعم كل يوم مسكيناً.
وروى الإمام الطبري بإسناده أيضاً، عن ابن عباس قال: (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (، يتكلفونه، فدية طعام مسكين واحد، ولم يرخص هذا إلا للشيخ الذي لا يطيق الصوم، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى ثم قال الطبري: [هذا عن مجاهد] تفسير الطبري 3/431.
وبناءً على أن الآية محكمة يكون معناها وعلى الذين يطيقون الصيام بصعوبة بالغة، أي يلاقون جهداً ومشقة وتعباً في الصوم، فلهم أن يفطروا وعليهم إطعام مسكين عن كل يوم يفطرونه.
قال الإمام البخاري: [وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كبر عاماً أو عامين كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر] . صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/225.(13/94)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر، وأطعم لكل يوم مسكينا. وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم، ويشق عليهما مشقةً شديدةً فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكيناً، وهذا قول علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير وطاووس وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي. وقال مالك: لا يجب عليه شيء، لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت، وللشافعي قولان كالمذهبين، ولنا الآية، وقول ابن عباس في تفسيرها: نزلت رخصة للشيخ الكبير، ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء ... ] المغني 3/151.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على الذي لا يطيق الصيام كالرجل الهرم وكذا المرأة الهرمة، إطعام مسكين عن كل يوم من رمضان، ويلحق بهما المريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه كالمصاب بالسرطان وغيره من الأمراض التي لا يرجى شفاؤها.
وقد اختلف أهل العلم في مقدار طعام المسكين المذكور في الآية الكريمة، فقد ورد عن جماعة من الصحابة كعمر وابنه عبد الله وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن ذلك يقدر بمدٍ من الحنطة عن كل يوم من رمضان، فقد روى الدارقطني بإسناده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أطعم عن كل يوم مداً مداً) .
وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مداً من حنطة لكل مسكين) .
وروى عبد الرزاق في المصنف عن سعيد بن المسيب قال: هي في الشيخ الكبير، إذا لم يطق الصيام، افتدى مكان كل يوم، إطعام مسكين مداً من حنطة) .
وروى عبد الرزاق في المصنف عن عكرمة بن عمار قال: سألت طاوساً عن أمي وكان بها عطاش -مرض- فلم تستطع أن تصوم رمضان، فقال: تطعم كل يوم مسكيناً ... ) .(13/95)
ووردت آثار أخرى عن بعض الصحابة والتابعين قدروا الإطعام فيها بمدين، وفي بعضها بصاع أي أربعة أمداد، وأرجحها التقدير الأول، والذي يظهر لي أن المد كان يكفي المسكين طعاماً ليومه، ويؤيد ذلك أن مقدار الإطعام في كفارة اليمين هو مد لكل مسكين من المساكين العشرة كما هو قول جمهور أهل العلم، فقد ذكر مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مداً من حنطة.
وروى مالك عن سليمان بن يسار أنه قال: [أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئاً عنهم] قال الحافظ ابن عبد البر: [والمد الأصغر عندهم مد النبي صلى الله عليه وسلم] الاستذكار 15/87-88. والمقصود بالطعام في الكلام السابق أي يطعم من غالب قوت أهل البلد، وكانوا يطعمون الحنطة والشعير والتمر، وأما في زماننا فلأرز والطحين هما غالب قوت الناس.
وينبغي التنبيه على أنه يجوز إخراج القيمة بدلاً عن الإطعام، أي إعطاء المسكين نقوداً بقيمة الطعام وذلك قياساً على جواز إخراج القيمة في الزكاة وفي صدقة الفطر والكفارات وهو مذهب الحنفية ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو الذي يحقق مصلحة الفقير وخاصة في هذا الزمان وهو قول وجيه تؤيده الأدلة الكثيرة ومنها أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج. وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر أثر معاذ السابق(13/96)
واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/54. ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته وكذلك فإن سد حاجة المسكين تتحقق بالنقود أكثر من تحققها بالأعيان وخاصة في زماننا هذا لأن نفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأسرته.
وأخيراً أنبه على جواز إخراج هذه الفدية في أول رمضان أو في آخره أو بعد رمضان حسب الوسع والطاقة، ويجوز إعطاؤها لمسكين واحد أو أكثر، والأفضل دفعها لأسرة فقيرة محتاجة.
وخلاصة الأمر أن إطعام المسكين المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} يقدر بمدٍ وهو ربع صاع والصاع يساوي 2176 غراماً وربعه المد ويساوي 544 غراماً، ويجوز إخراج القيمة بدلاً من الطعام على الراجح من أقوال العلماء. وينبغي أن لا تقل القيمة عن سبعة شواقل في زماننا هذا.
- - -
حكم استئذان الزوجة زوجها في صوم القضاء
تقول السائلة: هل يلزم الزوجة استئذان زوجها في صوم ما أفطرته من رمضان، وما الحكم إذا أفطرت أثناء أيام قضاء رمضان، وهل تلزم الكفارة إذا كان الفطر بالجماع، أفيدونا؟
الجواب: القضاء على من أفطر في نهار رمضان واجب شرعاً، يقول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (سورة البقرة الآية 184.(13/97)
وينبغي أن يعلم أن قضاء ما أفطره المسلم من رمضان لعذر واجب على التراخي وليس واجباً على الفور، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وجملة ذلك أن من عليه صوماً من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان، فما أقضيه حتى يجيء شعبان) متفق عليه..] المغني 3/153. وما ذكره الشيخ ابن قدامة المقدسي هو مذهب جماهير أهل العلم أن قضاء ما أفطره من رمضان لعذر فهو على التراخي، وإن كانت المبادرة للقضاء أفضل لعموم النصوص المرغبة في المبادرة إلى الطاعات كما في قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (سورة البقرة/148. وقوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (سورة آل عمران/133.
وأما إذا كان الفطر لغير عذر فالقضاء على الفور، قال الإمام النووي: [الصوم الفائت من رمضان كالصلاة فان كان معذوراً في فواته كالفائت بالحيض والنفاس والمرض والإغماء والسفر فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة القابلة ... ، وإن كان متعدياً في فواته ففيه الوجهان كالصلاة أصحهما عند العراقيين قضاؤه على التراخي وأصحهما عند الخراسانيين وبعض العراقيين وهو الصواب أنه على الفور، وأما قضاء الحج الفاسد فهل هو على الفور أم التراخي؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب في موضعهما أصحهما على الفور لأنه متعد بالإفساد، وأما الكفارة فان كانت بغير عدوان ككفارة القتل خطأ وكفارة اليمين في بعض الصور فهي على التراخي بلا خلاف لأنه معذور وإن كان متعدياً فهل هي على الفور أم على التراخي فيه وجهان حكاهما القفال والأصحاب أصحهما على الفور] المجموع 3/69-70.
إذا تقرر هذا فإن المرأة التي عليها قضاء من رمضان ينبغي أن تستأذن زوجها في القضاء ما دام وقت القضاء متسعاً، وهذا خير لها ولزوجها، وأما إذا ضاق وقت القضاء كأن يكون قد بقي من شعبان بعدد الأيام التي أفطرتها من رمضان فلا يلزمها الاستئذان وإذا صامت الزوجة قضاءً لما أفطرت من رمضان فلا يجوز لزوجها أن يلزمها بالفطر، وهذا بخلاف صومها نافلة فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم، وقد حمل أهل العلم هذا الحديث على صوم النافلة قال الإمام النووي في شرح الحديث: [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين، وهذا النهي للتحريم صرح به أصحابنا، وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل: فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها، فالجواب: إن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة؛ لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وزوجها شاهد) أي مقيم في البلد، أما إذا كان مسافراً فلها الصوم؛ لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه.] شرح النووي على صحيح مسلم 3/95.(13/98)
ويؤيد حمل الحديث على غير رمضان ما ورد في رواية الترمذي (عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال (لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوماً من غير شهر رمضان إلا بإذنه) وهو حديث حسن صحيح، كما قال الترمذي، انظر سنن الترمذي 3/151.
وأما إذا أفطرت أثناء أيام قضاء رمضان فلا يلزمها إلا قضاء يوم واحد فقط، ولكن يجب أن يعلم أنه لا ينبغي لمن صام قضاءً أن يقطع صومه لغير عذر ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أم هانئ قالت: (لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، قالت يا رسول الله: لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها: أكنت تقضين شيئاً قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعاً) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/222.
وإذا أفطرت المرأة بالجماع فلا تلزمها الكفارة المذكورة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تتطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: ثم جلس. فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تمر، فقال صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا. قال: أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه البخاري ومسلم. والعَرَق هو القفة والمكتل ويسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مُدَّاً لستين مسكيناً لكل مسكين مُدّ، قاله الإمام النووي. شرح النووي على صحيح مسلم 3/184.(13/99)
وهذه الكفارة تجب فقط فيمن أفسد صوم رمضان بالجماع على الراجح من أقوال أهل العلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء، وقال قتادة: تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها، فوجبت في قضائها كالحج، ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة، كما لو جامع في صيام الكفارة ويفارق القضاء الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له، بخلاف القضاء.] المغني 3/138-139.
وأخيراً أنبه على جواز قضاء ما أفطر من رمضان مفرقاً فلا يشترط التتابع في أيام القضاء، كما وأنه يجوز تأخير القضاء إلى أيام الشتاء، لأن نهارها أقصر فلا حرج في ذلك. كما وأن الأفضل في حق من كان عليه قضاء أيام من رمضان أن يقضيها أولاً ثم يصوم ستاً من شوال فإن القضاء واجب وصيام الستة سنة، والواجب مقدم على السنة.
وخلاصة الأمر أن المرأة تستأذن زوجها في صوم القضاء ما دام وقت القضاء واسعاً، ولا تستأذنه إن ضاق وقت القضاء، وإن أفطرت في يوم القضاء لزمها قضاء يوم واحد فقط، وإن كان الفطر بالجماع فلا كفارة في ذلك.
- - -
تصفيد الشياطين في رمضان
يقول السائل: ورد في بعض الأحاديث أن الشياطين تصفد في رمضان ومع ذلك نرى معاصي كثيرة فما تعليل ذلك، أفيدونا؟
الجواب: تصفيد الشياطين في رمضان ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلِّقت أبواب النار وصفدت(13/100)
الشياطين) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) رواه الترمذي وغيره، وقال العلامة الألباني: حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي 1/209.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما بينه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 55.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا شهر رمضان قد جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما ذكره العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 6995. وفي صحيح الترغيب والترهيب 2/69.
وقال الإمام ابن خزيمة في صحيحه: [باب ذكر البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: وصفدت الشياطين مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين إذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم، وذكر دعاء الملك في رمضان إلى الخيرات والتقصير عن السيئات مع الدليل على أن أبواب الجنان إذا فتحت لم يغلق منها باب ولا يفتح باب من أبواب النيران إذا أغلقت في شهر رمضان. ثم ساق بسنده عن أبي(13/101)
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار) وقال العلامة الألباني: إسناده حسن.
وقد اختلف شرَّاحُ الحديث في معنى تصفيد الشياطين وغلها وسلسلتها كما ورد في الأحاديث، وأجمع كلام في ذلك ما كتبه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، فقد نقل عن الحليمي قوله: [يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر. وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه وأورد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن) وأخرجه النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة بلفظ (وتغل فيه مردة الشياطين) زاد أبو صالح في روايته (وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) لفظ ابن خزيمة، وقوله (صفدت) بالمهملة المضمومة بعدها فاء ثقيلة مكسورة أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت، ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود وقال فيه: (فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب الشهر كله) . قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين،(13/102)
ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين. قال: ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم (فتحت أبواب الرحمة) قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات وذلك أسباب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزين بن المنير: والأول أوجه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره.... وجزم التوربشتي شارح المصابيح بالاحتمال الأخير وعبارته: فتح أبواب السماء كناية عن تنزل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات ... وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟
فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. وقال غيره: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية] فتح الباري 4/147.(13/103)
إذا تقرر هذا فإن وقوع المعاصي في رمضان لا ينافي تصفيد الشياطين لأننا إذا حملنا الحديث على ظاهره فإن بعض الشياطين هي التي تصفد وهم مردتهم أو أنهم يصفدون في ليالي رمضان دون نهاره كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وإذا حملنا الحديث على المجاز فيكون المعنى كما قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البر: [ (صفدت الشياطين) وجهه عندي والله أعلم أنه على المجاز وإن كان قد روي في بعض الأحاديث سلسلت فهو عندي مجاز والمعنى فيه والله أعلم أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي ولا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليهم في سائر السنة وأما الصفد (بتخفيف الفاء) فهو الغل عند العرب] الاستذكار 10/252.
ونحو كلام ابن عبد البر قاله القاضي عياض كما نقله الإمام النووي: [قال: ويحتمل أن يكون المراد المجاز، ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء، ولناس دون ناس، ويؤيد هذه الرواية الثانية (فتحت أبواب الرحمة) وجاء في حديث آخر: (صفدت مردة الشياطين) قال القاضي: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى صفدت: غللت، والصفد بفتح الفاء، الغل بضم الغين، وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى. هذا كلام القاضي] شرح النووي على صحيح مسلم 3/154.
وخلاصة الأمر أن تصفيد الشياطين في رمضان حق وصدق نؤمن به ونصدقه لأنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل(13/104)
أنه قال: سألت أبي عن حديث (إذا جاء رمضان صفدت الشياطين) قال: نعم، قلت: الرجل يوسوس في رمضان ويصرع، قال هكذا جاء الحديث. ووقوع المعاصي من الناس في رمضان لا ينافي الحديث حيث حمل العلماء الحديث على عدة وجوه كما سبق.
- - -
حكم العمرة من التنعيم
يقول السائل: إنه يريد أن يعتمر في رمضان القادم إن شاء الله تعالى، ويرغب أن يعتمر عن أمه المتوفية بعد الفراغ من عمرته وذلك بأن يحرم من التنعيم، وقد سمع أن العمرة من التنعيم لا تصح، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: العمرة شعيرة من شعائر الله وللعمرة فضل عظيم فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم) رواه ابن ماجة وابن حبان وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/149. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة) رواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/244-245. وورد زيادة فضل للعمرة في شهر رمضان فقد روى الإمام البخاري بسنده عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يخبرنا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت(13/105)
اسمها ما منعك أن تحجي معنا، قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه - لزوجها وابنها- وترك ناضحاً ننضح عليه قال: (فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان حجة) . وفي رواية عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة) .
وعن ابن عباس قال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك قالت أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه، فقالت أحجني على جملك فلان، فقلت ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله، قال وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة معي يعني عمرة في رمضان) رواه أبو داود وغيره وقال الألباني حسن صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 1/374. وقال الإمام الترمذي: (وقال أحمد وإسحق قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمرة في رمضان تعدل حجة قال إسحق معنى هذا الحديث مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقد قرأ ثلث القرآن) سنن الترمذي 3/276-277، وقال الإمام النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن عمرة فيه) أي في رمضان (تعدل حجة) ، وفي الرواية الأخرى: (تقضي حجة) أي تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء، فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة. شرح النووي على صحيح مسلم 3/385. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قال ابن خزيمة: في هذا الحديث أن الشيء يشبه الشيء ويجعل عدله(13/106)
إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها، لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر ... فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض، للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض. ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد) فتح الباري 3/762-763.
وتصح النيابة في العمرة عن الميت كما تصح في الحج، فقد جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: (يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال: فحجي عنه) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر) رواه أبو داود والترمذي، وقال الإمام الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح وإنما ذكرت العمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يعتمر الرجل عن غيره] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي لابن العربي المالكي 3/127.
إذا تقرر هذا فإن العمرة من التنعيم -مسجد عائشة رضي الله عنها- جائزة على الراجح من أقوال أهل العلم للمكي وللآفاقي -وهو من أتى مكة من غير أهلها- وبه قال جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم منهم عائشة وعلي وابن عباس وأنس بن مالك وأم الدرداء وجابر بن عبد الله وابن عمر وعبد الله بن الزبير، وقال به من التابعين عكرمة والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاووس وهو قول(13/107)
جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم، كما في نضرة النعيم في حكم العمرة من التنعيم، عن الإنترنت. قال الإمام مالك: [فأما العمرة من التنعيم فإنه من شاء أن يخرج من الحرم ثم يحرم فإن ذلك مجزىء عنه إن شاء الله، ولكن الفضل أن يهل من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما هو أبعد من التنعيم] الموطأ 1/282. وقال الإمام الشافعي: [ميقات العمرة لمن كان بمكة الحل، والأفضل أن يحرم من الجعرانة أو التنعيم] الأم 2/133.
وقال عطاء: [من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتاً - ميقاتاً – من مواقيت الحج] فتح الباري 3/606. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [مسألة: وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل وإذا أرادوا الحج فمن مكة، أهل مكة ومن كان بها سواء كان مقيماً بها أو غير مقيم، لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتاً له، وكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافاً، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمِّر عائشة من التنعيم] المغني 3/246. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل، وأدناه من التنعيم، قال: وقال القاضي: يستحب الإحرام من الجعرانة، فإن فاته ذلك أحرم من التنعيم، فإن فاته فمن الحديبية، وكذلك ذكر ابن عقيل، إلا أنه لم يذكر التنعيم هنا، وعمدة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة واعتمر عمرة الحديبية، وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم فخصت هذه بالفضل وكان أفضل هذه المواقيت، قال: وقال أبو الخطاب: الأفضل أن يحرم من التنعيم] شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية، عن الإنترنت.
ومما يدل على جواز العمرة من التنعيم ما يلي: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع،(13/108)
فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً. فقدمت معه مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقضي رأسك، وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة. ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق إلى التنعيم فاعتمرت فقال: هذه مكان عمرتك) . وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم ... ) رواه مالك في الموطأ. وسئل عطاء عن عمرة التنعيم فقال: هي تامة ومجزئة) مجموع فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 26/266. وغير ذلك من الأدلة تجدها مفصلة في نضرة النعيم في حكم العمرة من التنعيم.
وخلاصة الأمر أن العمرة لها فضل عظيم وخاصة إذا كانت في رمضان، وتصح العمرة عن الميت، والعمرة من التنعيم -مسجد عائشة رضي الله عنها- جائزة على الراجح من أقوال أهل العلم.
- - -(13/109)
المعاملات(13/110)
بيع القمح والملح والتمر بالدين لا يدخل في الربا
يقول السائل: إنه صاحب متجر للمواد الغذائية وقد اعتاد على بيع القمح والملح والتمر بالدين لزبائنه، ولكنه سمع بعض الناس يحرم ذلك ويعتبره من الربا، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم. هذا الحديث أصل في بيان الأصناف التي يجري فيها الربا، وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن الربا يتعدى هذه الأصناف إلى غيرها إن اتحدت معها في العلة، ولكنهم اختلفوا في علة تحريم الربا في الأصناف المذكورة في الحديث، ومع ذلك فهم متفقون على أن الأصناف الستة المذكورة في الحديث تنقسم إلى مجموعتين: المجموعة الأولى: الذهب والفضة، والمجموعة الثانية: البر والشعير والتمر والملح، والفقهاء متفقون على أن علة التحريم في المجموعة الأولى واحدة، وعلة التحريم في المجموعة الثانية واحدة، أي أن علة التحريم في الذهب والفضة هي غير علة التحريم في البر والشعير والتمر والملح، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة ثم اختلفوا في علة كل واحدٍ منهما] المغني 4/5.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: [الأمة أجمعت على أن السنة المذكورة في الحديث جملتان متفاضلتان، النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها] تكملة المجموع 10/91. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 22/64 ما نصه: [اتفق عامة الفقهاء على أن تحريم الربا في الأجناس المنصوص عليها إنما هو لعلة، وأن الحكم بالتحريم يتعدى إلى ما تثبت فيه هذه العلة، وأن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة(13/111)
الأجناس الأربعة الأخرى واحدة] . وينبغي أن يعلم أن مسألة تحديد العلة في الأصناف الربوية محل خلاف كبير بين العلماء، فهي مسألة اجتهادية وقد تباينت فيه أقوال العلماء: [فقال الحنفية: العلة: الجنس والقدر، وقد عرف الجنس بقوله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة) ، وعرف القدر بقوله صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل) ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن لقوله صلى الله عليه وسلم: (وكذلك كل ما يكال ويوزن) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الصاع بالصاعين) ... وقال المالكية: علة الربا في النقود مختلف فيها، فقيل: غلبة الثمنية، وقيل: مطلق الثمنية ... وعلة ربا الفضل في الطعام الاقتيات والادخار ... وعلة ربا النساء مجرد الطعم ... وذهب الشافعية إلى أن العلة في تحريم الربا في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان غالباً ... والعلة في تحريم الربا في الأجناس الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح أنها مطعومة ... وروي عن أحمد بن حنبل في علة تحريم الربا في الأجناس الستة ثلاث روايات: أشهرها أن علة الربا في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، وفي الأجناس الباقية كونها مكيلات جنس ... والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس ... والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/64-67.
إذا تقرر هذا فقد اتفق أهل العلم على أن بيع الأصناف الربوية بعضها ببعض يكون على النحو الآتي:
1. إذا بيع الشيء بجنسه كتمر بتمر، فيشترط لذلك شرطان: التماثل والتقابض، أي تماثل الوزنين أو الكيلين مع التقابض في مجلس العقد. ولا يصح في هذه الحالة اختلافهما في القدر -الوزن أو الكيل- ولا يصح التأجيل، لقول النبي صلى الله عليه(13/112)
وسلم: (مثلًا بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى) رواه البخاري ومسلم.
2. إذا بيع الشيء بغير جنسه مع اتحاد العلة كذهب بفضة، فيشترط لذلك التقابض دون التماثل. فيصح أن يبيع مئة غرام ذهب بخمسمئة غرام فضة بشرط القبض في المجلس.
3. إذا بيع الشيء بغير جنسه مع عدم الاتحاد في العلة، كبيع القمح بالذهب، أو الملح بالفضة، فلا يشترط لذلك لا تقابض ولا تماثل. ويلحق بذلك بيع أحد الأصناف الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح وما يجري مجراها بالنقود الورقية المعروفة اليوم، فيصح أن تبيع القمح إلى أجل، أي كما يسميه الناس اليوم البيع بالدين، قال الإمام النووي: [وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلاً ومؤجلاً، وذلك كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل] شرح النووي على صحيح مسلم 11/9.
وقال الشيخ ابن حزم: [وجائز بيع القمح والشعير والتمر والملح بالذهب أو بالفضة يداً بيد ونسيئةً وجائز تسليم الذهب أو الفضة بالأصناف التي ذكرنا لأن النص جاء بإباحة كل ذلك وبالله تعالى التوفيق] المحلى 7/438.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: [وأما إسلام النقدين في المطعومات فصحيح إذ لم يجتمعا في علة واحدة قال محمد بن يحيى: فإن قيل ينبغي ألا يصح لأن الحديث أخذ علينا شرطين: الحلول والتقابض عند اختلاف الجنس. قلنا: ظاهر هذا الكلام يقتضي هذا تنزيلاً على اختلاف الجنسين في هذه السنة المذكورة غير أن الأمة أجمعت على أن السنة المذكورة في الحديث جملتان متفاضلتان النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها، والمراد بالحديث اختلاف الجنسين من جملة واحدة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير، وحاصله تخصيص عام أو تقييد مطلق(13/113)
بالإجماع وهذا الإجماع الذى قاله محمد بن يحيى والذى قاله المصنف في آخر هذا الفصل وسأذكر من نقله غيرهما إن شاء الله تعالى] تكملة المجموع 10/91. وقال الشيخ تقي الدين السبكي أيضاً: [قاعدة: العقود بالنسبة إلى التقابض على أربعة أقسام: (منها) ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإجماع وهو الصرف، ومنها ما لايجب بالإجماع كبيع المطعومات وغيرها من العروض بالنقدين الذهب والفضة ... ] تكملة المجموع 10/93. وقال الشيخ تقي الدين السبكي أيضاً: [إذا عرف ذلك فإذا باع الربوي بربوي آخر يخالفه في علة الربا حلَّ فيه التفاضل والنساء – أي التأجيل- والتفرق قبل التقابض لما ذكره المصنف رحمه الله وللإجماع المذكور نقله الشافعي رحمه الله تعالى في الإملاء واقتضاه كلامه في الأم والمختصر ولفظه في الإملاء أصرح قال فيه: [لأن المسلمين أجمعوا على أن الذهب والورق يسلمان فيما سواهما] وقال في الأم في باب الآجال في الصرف: [ولا أعلم المسلمين اختلفوا في أن الدنانير والدارهم يسلمان في كل شئ إلا أن أحدهما لا يسلم في الآخر] وقال في مختصر المزني رحمه الله: [ولا أعلم بين المسلمين خلافاً في أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر] تكملة المجموع 10/173. ومما يدل على جواز بيع الحنطة والشعير والتمر والملح بالنقود إلى أجل ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاماً بنسيئة وأعطاه درعا له رهناً) رواه البخاري ومسلم. ومعنى نسيئة أي إلى أجل. ويدل عليه أيضاً ما ورد في الحديث عن ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ العثيمين: [ ... وعلى هذا يجوز بيع صاع من البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد؛ لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت.(13/114)
فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض؛ فما هو الجواب؟ نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهباَ ببر وجب التقابض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) . والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمناً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) . وعلى هذا؛ فحديث: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لا عموم لمفهومه؛ فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة، وإنما يشترط القبض فيما إذا اتفقا في الغرض؛ كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه؛ فلا يشترط القبض] مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين 9/501-502. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية 13/282: [أجمع العلماء على جواز بيع الحنطة والشعير والتمر والملح بنقد ذهبي أو فضي أو ما قام مقامهما من العملات النقدية، حالاً أو مؤجلاً، سواء كان المؤجل بسعر الحال، أو أكثر أو أقل] .
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً بيع القمح والشعير والتمر والملح - وكذا كل ما يتحد معها في العلة - بالنقود إلى أجل، وأن القول بمنع ذلك قول مخالف لما دلت عليه الأدلة ولما تعارف عليه الناس منذ عهد بعيد، وما هو إلا جمود على ظاهر النص.
- - -(13/115)
حكم السحب على المكشوف من البنك الربوي
يقول السائل: أنا موظف وراتبي محول على أحد البنوك التجارية وأقوم بسحب الراتب قبل تحويله من المؤسسة التي أعمل فيها، وأحياناً أسحب ضعف الراتب قبل نزوله فما حكم هذه العملية، أفيدونا؟
الجواب: هذه العملية تسمى السحب على المكشوف، وتكييفها الشرعي أنها قرض ربوي، لأن البنوك التجارية التي تتعامل بها ترتب فوائد ربوية عليها، فحقيقة هذه المعاملة أن البنك يقرض الموظف مبلغاً من المال قبل موعد نزول راتب الموظف لدى البنك، ثم يقوم البنك باستيفاء القرض مع الفائدة الربوية عند نزول الراتب، وهذا هو الربا بعينه، والربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279. وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي(13/116)
حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فَرُدَّ حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا) رواه البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) رواه ابن ماجة، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وفي لفظ له قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل) وقال فيه أيضاً صحيح الإسناد، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 3542 وبرقم 5518.
وعن سلمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع يقول: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل، قال: اللهم هل بلّغت؟ قالوا: نعم، ثلاث مرات. قال: اللهم اشهد ثلاث مرّات) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/641-642.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام) رواه البخاري.(13/117)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (يأتي على الناس زمان يأكلون الربا، فمن لم يأكله، أصابه من غباره) . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في المستدرك وقال: قد اختلف في سماع الحسن عن أبي هريرة، فإن صح سماعه منه، فهذا حديث صحيح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
وعن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه - غسيل الملائكة - أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدُّ من ستٍّ وثلاثين زنية) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 4/117. وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29. وغير ذلك من النصوص الحرمة للربا.
ومن صور السحب على المكشوف في البنوك الربوية التعامل ببطاقات الإئتمان التي تتيح لحاملها أن يسحب من البنك مبالغ مالية مع أن حسابه لا يغطيها ويقوم البنك بترتيب فوائد ربوية على ذلك، وهذا لا شك في تحريمه، وقد صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي وضح فيه القواعد الأساسية للتعامل مع هذه البطاقات ونصه: [ ... بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بطاقات الائتمان غير المغطاة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم 63/1/7 الذي يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنه: مستند يعطيه مصدرُه (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع، أو الخدمات، ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية،(13/118)
وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد.
قرر ما يلي:
أولاً: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة ولا التعامل بها، إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية، حتى ولو كان طالب البطاقة عازماً على السداد ضمن فترة السماح المجاني.
ثانياً: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدَّين. ويتفرع على ذلك:
أ. جواز أخذ مصدرها من العميل رسوماً مقطوعة عند الإصدار أو التجديد، بصفتها أجراً فعلياً على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب. جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه،
شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد.
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراضاً من مصدرها، ولا حرج فيه شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة. وكل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً كما نص على ذلك المجمع في قراره رقم 13 (10/2) و 13 (1/3) .
رابعاً: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة] انتهى قرار المجمع الفقهي.
ومن صور السحب على المكشوف أيضاً إصدار شيك بدون رصيد حيث إن بعض المتعاملين مع البنوك الربوية يتفقون معها عند إصدارهم شيكات بدون رصيد، على(13/119)
أن يقوم البنك بتغطية قيمة هذه الشيكات التي لا رصيد لها واحتساب فوائد ربوية على مبلغ الشيكات، وهذا رباً واضح وهو محرم شرعاً.
وخلاصة الأمر أن السحب على المكشوف الذي تتعامل به البنوك الربوية محرم شرعاً، لأنه في حقيقته عقد ربوي، كما أن التعامل ببطاقات الإئتمان التي تسمح لحاملها أن يسحب أكثر من رصيده يحرم التعامل بها، وكذا إصدار شيكات بدون رصيد على أن يقوم البنك بتغطيتها مع ترتيب فائدة ربوية من المحرمات.
- - -
حكم إصدار شيك بدون رصيد
يقول السائل: أرجو بيان حكم إصدار شيك بدون رصيد، أفيدونا؟
الجواب: الشيك نوع من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة، كما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي [الأوراق التجارية -الشيكات ... - من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة] مجلة المجمع العدد السابع ج 2 ص9. والتعامل بالشيكات الأصل فيه الجواز بشرط أن يكون وفق الضوابط الشرعية التي قررها الفقهاء المعاصرون وكذا المجامع الفقهية، وإصدار شيك بدون رصيد أمر معروف ويتعامل به الناس وخاصة التجار، حيث إنهم يشترون بضاعة ويعطون بائعها شيكاً متأخراً بلا رصيد، ويجوز إصدار شيك بدون رصيد إذا كان المصدر للشيك سيقوم بتغطية المبلغ المرقوم في الشيك قبل تاريخ استحقاقه، فإذا التزم مصدر الشيك بهذا القيد فلا حرج في إصداره شيكاً بدون رصيد.
وأما إذا أصدر شيكاً بدون رصيد وهو عازم على عدم تغطية المبلغ المرقوم في الشيك قبل تاريخ استحقاقه، وحان موعد صرف الشيك وليس له رصيد، فإن هذا العمل محرم لما يلي:(13/120)
أولاً: لأن هذا يعتبر من باب تعمد إخلاف الوعد، والأصل في المسلم أن يفي بوعده، وخاصة أن مصدر الشيك إذا كان تاجراً فإنه يكون قد استلم البضاعة، وصاحب البضاعة ما سلَّمها له إلا ثقة به على أن يستلم ثمن البضاعة حين يأتي تاريخ الشيك المتأخر.
وكثيرٌ من النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرت بالوفاء بالوعد وحثت على ذلك وذمت من لم يف بوعده فمن هذه النصوص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1. فهذه الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود والوعد داخل في ذلك. قال الزجاج: [المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم مع بعضكم مع بعض] نقله عنه القرطبي في تفسيره 6/33.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} سورة الصف الآية 3. وهذه الآية من أشد الآيات في وجوب الوفاء بالوعد لأنها تضمنت الذم الشديد لمن لم يف بما يعد. قال القرافي: [والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذباً وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً] الفروق 4/20. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} سورة النحل الآية 91. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} سورة الإسراء الآية 34.
وورد في السنة النبوية ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى عند مسلم: (من علامات المنافق ثلاث ... ) . وفي رواية ثالثة عند مسلم أيضاً: (آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) . وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن(13/121)
كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم. وجاء في الحديث عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) رواه أبو داود وحسّنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/943، وفي السلسة الصحيحة 2/384. وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم والمغرم -الإثم والدَّين- فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم -أي استدان- حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري. والذي أميل إليه وأختاره وجوب الوفاء بالوعد ديانةً وقضاءً وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم جماعة من فقهاء السلف كالفقيه المعروف ابن شبرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والقاضي سعيد بن الأشوع وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
ثانياً: إن إصدار شيك بدون رصيد مع عدم تغطيته في موعده يُعَدُّ من باب أكل أموال الناس بالباطل ولا شك في تحريم ذلك، يقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة البقرة الآية 188. ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء الآية 29. وعن صهيب رضي الله عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل يدين ديناً وهو مجمع على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) رواه ابن ماجة والبيهقي وقال العلامة الألباني: حسن صحيح كما في صحيح سنن ابن ماجة 2/52.(13/122)
ثالثاً: بعض المتعاملين مع البنوك الربوية يتفقون معها عند إصدارهم شيكات بدون رصيد، حيث يقوم البنك بتغطية قيمة هذه الشيكات التي لا رصيد لها واحتساب فوائد ربوية على مبلغ الشيكات، وهذا رباً واضح وهو محرم شرعاً بالنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (سورة البقرة الآيات 275 - 279. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم.
رابعاً: إن إصدار شيك بدون رصيد مع عدم تغطيته في موعده، فيه إلحاق الضرر بالناس وهو أمر محرم وقد جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
خامساً: إصدار شيك بدون رصيد مع عدم تغطيته في موعده، من المسائل المستجدة التي ينبغي أن يعاقب عليها بعقوبة تعزيرية رادعة، لأنها صارت منتشرة بين الناس بشكل كبير ويترتب عليها أضرار كثيرة، والقوانين الوضعية تعاقب عليها، فقد جاء في ذلك المادة 421 من قانون العقوبات الأردني: [يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن مائة دينار ولا تزيد على مائتي دينار كل من أقدم بسوء نية على ارتكاب أحد الأفعال التالية:
أ. إذا أصدر شيكاً وليس له مقابل وفاء قائم وقابل للصرف.
ب. إذا سحب بعد إصدار الشيك كل المقابل لوفائه أو بعضه بحيث لا يفي الباقي بقيمته.
ج. إذا أصدر أمراً إلى المسحوب عليه بالامتناع عن صرف الشيك في غير الحالات التي يجيزها القانون.
د. إذا ظهَّر لغيره شيكاً أو أعطاه شيكاً مستحق الدفع لحامله وهو يعلم أنه ليس له مقابل يفي بكامل قيمته أو يعلم أنه غير قابل للصرف] .
كما أن بعض البلدان قد وضعت عقوبات أخرى لمن يصدر شيكات بدون رصيد مثل شطب السجل التجاري لمن يصدر بشكل متكرر شيكات بدون رصيد، والتحفظ على محل التاجر أو شركته. وختاماً أنبه على أمرين:(13/123)
أولهما تعامل البنوك الإسلامية مع الشيكات بدون رصيد، حيث إن البنوك الإسلامية لا تتقاضى أية فوائد في حال قبلت كشف حساب الزبون المصدر للشيك بدون رصيد، لأن القاعدة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي عدم التعامل بالربا لا أخذاً ولا إعطاءً، كما أن البنوك الإسلامية لا تقبل كشف حساب الزبون المصدر للشيك بدون رصيد، إلا إذا كان عنده ضمانات مثل وديعة استثمارية، وكذلك أن يكون كشف الحساب لمدة قصيرة لا تتجاوز نهاية الشهر الذي قُدمَ فيه الشيك بدون رصيد.
وثانيهما: إذا صدر شيك بدون رصيد وأرجعه البنك المسحوب عليه، فإن البنك يتقاضى رسوماً على ذلك، وهذه الرسوم يجب أن يتحملها المصدر للشيك بدون رصيد.
وخلاصة الأمر أنه يحرم إصدار شيكات بدون رصيد إذا لم يتم تغطية المبلغ المرقوم فيها، لاشتمال هذه العملية على عدة مفاسد بينتها.
- - -
حكم جوائز حسابات التوفير
يقول السائل: ما حكم جوائز حسابات التوفير التي تقدمها البنوك، أفيدونا؟
الجواب: الجائزة هي العطيّة إذا كانت على سبيل الإكرام كما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 15/76. وقد ورد في الحديث عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته) . قالوا وما جائزته يا رسول الله؟ قال: (يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه) رواه البخاري ومسلم. والأصل في الجائزة الإباحة ما دامت منضبطة بالضوابط الشرعية، ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية ما(13/124)
يلي: [الأصل إباحة الجائزة على عمل مشروع سواء أكان دينيّاً أو دنيويّاً لأنّه من باب الحثّ على فعل الخير والإعانة عليه بالمال وهو من قبيل الهبة] 15/77.
إذا تقرر هذا فأعود إلى جواب السؤال فأقول: إن حسابات التوفير إذا كانت في البنوك الربوية فهي محرمة، وبالتالي فإن الجوائز التي تعطيها البنوك الربوية على حسابات التوفير حرام أيضاً، وتعتبر هذه الجوائز من باب الفوائد الربوية، ويضاف إلى ذلك أنها تحرم أيضاً لأنها من باب القمار، جاء في فتاوى الشبكة الإسلامية ما يلي: [فإذا كان البنك يتعامل بالربا فلا يجوز ذلك، وهذه الجوائز هي عين الفائدة الربوية، لكن اختلفت طريقة التوزيع فقط، بل هذا جمع بين الربا والميسر، فإن العميل سيضع ماله على أمل أن يكون من الفائزين، وقد يقع عليه الاختيار وقد لا يقع.] عن موقع الشبكة الإسلامية على شبكة الإنترنت. ويجب أن يعلم أن الأصل في المسلم أنه لا يتعامل مع البنوك الربوية إلا في حالات خاصة، فقد جاء في قرار مجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة سنة 1406 هـ/ 1986م ما يلي: [يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج؛ إذ لا عذر له في التعامل معها مع وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام] . وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية ما يلي: [لا يجوز إيداع النقود ونحوها في البنوك الربوية ونحوها من المصارف والمؤسسات الربوية، سواء كان إيداعها بفوائد أو بدون فوائد؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، إلا إذا خيف عليها من الضياع، بسرقة أو غصب أو نحوهما، ولم يجد طريقاً لحفظها إلا إيداعها في بنوك ربويةٍ مثلاً، فيرخص له في إيداعها في البنوك ونحوها من(13/125)
المصارف الربوية بدون فوائد، محافظةً عليها؛ لما في ذلك من ارتكاب أخف المحظورين] فتاوى اللجنة الدائمة 13/346.
وأما حسابات التوفير في البنوك الإسلامية فالأصل فيها الجواز، لأن البنوك الإسلامية لا تتعامل بالربا (الفائدة) لا أخذاً ولا إعطاءً،
وهذه حقيقة ما زال بعض الناس يجادل فيها، ويزعمون أنه لا فرق بين البنوك الربوية وبين البنوك الإسلامية، وهذا كلام باطل، فإن خاصية البنوك الإسلامية في عدم التعامل بالربا هي الخاصية الأساسية التي يتميز بها البنك الإسلامي عن البنك الربوي لأن الربا كما هو معلوم محرم بالنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم. يقول الدكتور غريب الجمال: [تشكل خاصية استبعاد الفوائد من معاملات المصارف الإسلامية المعلم الرئيسي لها وتجعل وجودها متسقاً مع البنية السليمة للمجتمع الإسلامي وتصبغ أنشطتها بروح راسية ودوافع عقائدية تجعل القائمين عليها يستشعرون دائماً أن العمل الذي يمارسونه ليس مجرد عمل تجاري يهدف إلى تحقيق الربح فحسب بل(13/126)
إضافة إلى ذلك أسلوب من أساليب الجهاد في حمل عبء الرسالة والإعداد لاستنقاذ الأمة من مباشرة أعمال مجافية للأصول الشرعية وفوق كل ذلك وقبله يستشعر هؤلاء العاملون أن العمل عبادة وتقوى مثاب عليها من الله سبحانه وتعالى إضافة إلى الجزاء المادي الدنيوي] المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص 192-193.
والجوائز التي تعطيها البنوك الإسلامية على حسابات التوفير يختلف حكمها من بنك لآخر، لذا يصعب إصدار فتوى واحدة تعمها بالجواز أو المنع، والأمر يحتاج إلى تفصيل كما يلي:
أولاً: لا يجوز أن يكون إعطاء الجائزة مشروطاً بفتح الحساب، بمعنى أنه يشترط عند فتح حساب التوفير للدخول في السحب على الجائزة شروط معينة على المتعامل كأن يفتح حساب توفير بعملة معينة كالدولار الأمريكي. وأن لا يقل رصيد الحساب عن كذا دولار. وأن يعمل على تغذية الحساب بشكل مستمر، بحيث يمنح صاحب الحساب عن كل مئة دولار فرصة للفوز بالجائزة. فهذه الجوائز تعتبر من باب الفائدة الربوية، لأن التكييف الصحيح لحساب التوفير أنه من باب القرض، ومن المعلوم أن أي زيادة مشروطة على القرض تعد من باب الربا. وقد قرر الفقهاء أن كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا، كما جاء في معنى حديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن معناه صحيح، وقد اتفق الفقهاء على تحريم أي منفعة يستفيدها المقرض من قرضه، ولكن ليس على إطلاقها، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً. قال الحافظ ابن عبد البر: [وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط] . وقال ابن المنذر: [أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا] الموسوعة الفقهية 33/130.(13/127)
ثانياً: إذا أعطت البنوك الإسلامية جوائز على حسابات التوفير بدون شرط مسبق عند فتح الحساب، فإن كثيراً من هيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية قد أجازت ذلك، وأجازه كذلك عدد من الباحثين المعاصرين، انظر كتاب الجوائز أحكامها وصورها المعاصرة ص 110 -114، وجاء في فتاوى الشبكة الإسلامية ما يلي: [فالذي يترجح أن هذه الجوائز إذا كانت مقدمة من طرف بنك إسلامي فهي مباحة يجوز أخذها. فهي تشجيع من البنك لاستقطاب أكثر عدد ممكن من العملاء بطريقة لا تفضي إلى محظور شرعاً. ولا يشبه هذا القمار، لأن العميل لم يدفع شيئاً فيغنم أو يغرم كما هو الشأن في القمار، وإنما يودع ماله ليستثمر له.] عن موقع الشبكة الإسلامية على شبكة الإنترنت.
وجاء في فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني ما يلي: [يجوز أن يمنح البنك جوائز لأصحاب ودائع الادخار دون علم سابق من جانبهم وكيف يحددها البنك بحيث تتعدد وتتباين صور هذه الجوائز في كل مرة، ولا تكون في فترات ثابتة، حتى تصبح هي الدافع للادخار ولا يجوز تقديم جوائز للمدخرين بصورة معلنة ومتكررة، وإن كانت غير مشروطة في عقد وديعة الادخار لأن ذلك سيصير بمرور الزمن عرفا وبالتالي يأخذ حكم المنفعة المشروطة في عقد الوديعة، ويما أن أصحاب الودائع أذنوا للبنك في التصرف في ودائعهم، وضمن البنك ردها إليهم فإنها تأخذ حكم القرض، ولا يجوز اشتراط منفعة للمقرض] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن الجوائز على حسابات التوفير في البنوك الربوية محرمة شرعاً وأما الجوائز على حسابات التوفير في البنوك الإسلامية فإذا كان هنالك شرط سابق لها فلا تجوز وأما إذا كانت بدون شرط مسبق فلا بأس بها.
- - -(13/128)
لا يجوز تثبت سعر العملة في عقد القرض
يقول السائل: اقترضت قبل حوالي السنة مبلغ أربعة آلاف دولار من أحد الأقارب وكتبنا ورقة بيننا على أن سعر الدولار 3. 4 شيكل، واتفقنا على أنه إذا ارتفع سعر الدولار فأسدد المبلغ بالدولار، وإذا انخفض سعر الدولار فأسدد بالشيكل حسب سعر صرف الدولار يوم القرض أي بسعر الدولار 3. 4 شيكل، فما حكم هذه المعاملة، أفيدونا؟
الجواب: الشرط المذكور في الاتفاق بينكما شرط باطل، لأن المقترض يلزمه أن يرد مثل ما اقترض فقط، ولا يلزمه أن يرد قيمته، قال ابن عابدين نقلاً عن كتاب الخلاصة: [القرض بالشرط حرام، والشرط لغو] حاشية ابن عابدين. وحقيقة ما تم بين السائل وبين المقرض أنه قرض وبيع، فالسائل اقترض أربعة آلاف دولار، وفي نفس الوقت اشترها بسبعة عشر ألف ومئتي شيكل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، كما ثبت في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال العلامة الألباني: حسن. إرواء الغليل 5/146. وقال العلامة ابن القيم: [وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى] إغاثة اللهفان 1/363.
إذا تقرر هذا فالواجب عليك أن ترد له مبلغ أربعة آلاف دولار بغض النظر عن ارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه، لأن الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل(13/129)
بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) ، وفي رواية أخرى: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، [فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو الدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعاً آجلاً وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد مع من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلاً إذا باع بمئة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهماً أفيأخذ الألف أم ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء، وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كرَّيٍ لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق. فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء، يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 جزء 3 ص1727-1728. وهذا مذهب أكثر الفقهاء، الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واختار هذا القول كثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين، حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة الشخص بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة: [كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة 4/25.(13/130)
وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي: [ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع 12/185. وقال الكاساني الحنفي: [ولو لم تكسد - النقود - ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع 5/542. وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود: [ ... لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا يجب في القرض إلا رد المثل بلا زيادة] مجموع الفتاوى 29/535. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال. ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله، وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء، والمقترض يستحق مثل قرضه في صفته ... ] مجموع الفتاوى 29/473. وقال العلامة الغزي الحنفي: [أما إذا غلت قيمتها أو ازدادت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير. وفي البزازية معزياً إلى المنتقى: [غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً ليس عليه غيرها) رسالة بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود ص 83 -84. وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3/2261. وبناءً على ما سبق فإن قضاء الديون بأمثالها لا بقيمتها هو الأصل في هذه المسألة، ويعتبر قضاء(13/131)
الديون بقيمتها من الربا المحرم شرعاً [إن الحكم على المدين المماطل بتعويض دائنه بفرق هبوط القوة الشرائية للنقد عقب مطله غير سائغ شرعاً إذ هو وقوع في حمى الربا المحرم تحت ستار تعويض الدائن عن انخفاض القوة الشرائية للنقود، بل إن الدائن ليحصل في كثير من الأحيان باسم ذلك التعويض على ما يزيد قدراً ويفوق جوراً الفوائد التأخيرية في البنوك الربوية] قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص500. ويستثنى من الأصل المذكور حالة واحدة فقط وهي: إذا كان تغير قيمة العملة كبيراً وهنالك خلاف بين الفقهاء في مقدار التغير الكبير فمنهم من يقول الثلث ومنهم من يقول النصف.
وأود أن أنبه على بعض القضايا المرتبطة بمسألة تغير قيمة العملة وهي: أولاً: للمقترض أن يحسن لمن أقرضه فيعوضه عن هبوط قيمة العملة، كما أحسن المقرض له عندما أقرضه، وهذا من باب الإحسان، ولا يجوز أن يكون ذلك مشروطاً، فقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ضحىً فقال: صل ركعتين، وكان لي عليه دين فقضاني وزادني) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عند البخاري قال جابر رضي الله عنه: (فلما قدمنا المدينة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم يا بلال: اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً) . وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: (استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً - الفتي من الإبل - فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: إني لم أجد من الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً - جملاً كبيراً له من العمر ست سنوات - فقال: أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم. وعن مجاهد قال: (استلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضاه دراهم خيراً منها فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة) رواه مالك في الموطأ. وقال الإمام مالك: (لا(13/132)
بأس بأن يقبض من أسلف شيئاً من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفه ذلك أفضل مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما ... ) . وقال الإمام القرطبي: [وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه لأن ذلك من باب المعروف استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر- الفتي من الإبل -: (إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة البخاري ومسلم. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة] تفسير القرطبي 3/241.
ثانياً: يدخل فيما سبق قيام أصحاب العمل بتثبيت سعر الدينار أو الدولار عند مقدار معين، وهذا أيضاً من باب التفضل والإحسان، ولا يجوز أن يكون بشرط سابق.
ثالثاً: لا مانع شرعاً من أن يكون هنالك اتفاقٌ بين صاحب العمل والعامل على تعديل أجر العامل دورياً مثلاً كل شهر أو شهرين بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملة. كأن يتفق العامل مع صاحب العمل على أن يعطيه زيادة على أجره كل آخر شهر بنسبة 2% أو 3% أو نحو ذلك من أجل المحافظة على أجر العامل من انخفاض قوته الشرائية. وسبق لمجمع الفقه الإسلامي أن ناقش هذه القضية وأصدر القرار التالي: [يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور على أن لا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام. والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام(13/133)
لأسعار السلع والخدمات. وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3 / 787.
وخلاصة الأمر أن الأصل في الديون أنها تقضى بأمثالها لا بقيمتها، وأنه لا يجوز ربط سعر عملة بعملة أخرى عند الاقتراض أو البيع أو عند ترتيب أي حق مالي، ويجوز للمقترض أن يعوض المقرض عن هبوط قيمة العملة بدون شرط سابق، وأن هذا من باب المعروف والإحسان.
- - -
عقد الإجارة يورث
يقول السائل: استأجر والدي محلاً تجارياً وجعله بقالة كبيرة وبعد أقل من سنة توفي والدي ويطالبنا مالك المحل بإخلاء المحل لأن المستأجر قد توفي فهل عقد الإجارة ينتهي بوفاة والدي، أفيدونا؟
الجواب: الإجارة عند الفقهاء عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض، انظر الموسوعة الفقهية 1/252. وهي عقد مشروع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وانعقد الإجماع على ذلك يقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وورد في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1498. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.(13/134)
وقد اختلف أهل العلم في فسخ عقد الإجارة بوفاة أحد المتعاقدين، فذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وبه قال إسحاق بن راهويه وعثمان البتي وأبو ثور وابن المنذر، إلى أن عقد الإجارة لا يفسخ بوفاة أحد المتعاقدين، وذهب الحنفية وبعض التابعين إلى أنه يفسخ، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [قال: (وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها) هذا قول مالك والشافعي وإسحاق والبتي وأبي ثور وابن المنذر. وقال الثوري وأصحاب الرأي والليث: تنفسخ الإجارة بموت أحدهما ; لأن استيفاء المنفعة يتعذر بالموت، لأنه استحق بالعقد استيفاءها على ملك المؤجر، فإذا مات زال ملكه عن العين، فانتقلت إلى ورثته، فالمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحق المستأجر استيفاءها، لأنه ما عقد مع الوارث، وإذا مات المستأجر، لم يمكن إيجاب الأجر في تركته] .
ثم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مستدلاً لقول الجمهور: [ولنا أنه عقد لازم، فلا ينفسخ بموت العاقد، مع سلامة المعقود عليه، كما لو زوج أمته ثم مات، وما ذكروه لا يصح; فإنا قد ذكرنا أن المستأجر قد ملك المنافع، وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ... ولو صح ما ذكروه لكان وجوب الأجر ها هنا بسبب من المستأجر، فوجب في تركته بعد موته، كما لو حفر بئراً، فوقع فيها شيء بعد موته، ضمنه في ماله ; لأن سبب ذلك كان منه في حال الحياة، كذا ها هنا] المغني 5/347.
ومذهب جمهور الفقهاء هو الراجح لأن الإجارة عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه، ولذلك تبقى العين عند المستأجر حتى يستوفي منها ما تبقى له من المنفعة، وليس لورثة المؤجر أن يمنعوه من الانتفاع بها، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر لأهلها ليعملوا فيها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها واستمر الحال على ذلك في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخرجهم عمر رضي الله عنه، قال الإمام البخاري في صحيحه [باب إذا استأجر(13/135)
أرضاً فمات أحدهما] وقال ابن سيرين ليس لأهله أن يخرجوه إلى تمام الأجل، وقال الحكم والحسن وإياس بن معاوية تمضى الإجارة إلى أجلها، وقال ابن عمر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر ولم يذكر أن أبا بكر وعمر جددا الإجارة بعد ما قبض النبي صلى الله عليه وسلم] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 4/583.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الباب: [ (قوله باب إذا استأجر أرضا فمات أحدهما) أي هل تفسخ الإجارة أم لا؟ والجمهور على عدم الفسخ وذهب الكوفيون والليث إلى الفسخ، واحتجوا بأن الوارث ملك الرقبة والمنفعة تبع لها فارتفعت يد المستأجر عنها بموت الذي آجره، وتعقب بأن المنفعة قد تنفك عن الرقبة كما يجوز بيع مسلوب المنفعة، فحينئذ ملك المنفعة باق للمستأجر بمقتضى العقد.
وقد اتفقوا على أن الإجارة لا تنفسخ بموت ناظر الوقف فكذلك هنا. قوله (وقال ابن سيرين ليس لأهله) أي أهل الميت (أن يخرجوه) أي يخرجوا المستأجر (إلى تمام الأجل وقال الحسن والحكم وإياس بن معاوية تمضى الإجارة إلى أجلها) وصله بن أبي شيبة من طريق حميد عن الحسن وإياس بن معاوية ومن طريق أيوب عن بن سيرين نحوه.
ثم أورد المصنف حديث ابن عمر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود على أن يعملوها ... وكذلك الطريق المعلقة آخر الباب وهي قوله (وقال عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر حتى أجلاهم عمر) ... والغرض منه هنا الاستدلال على عدم فسخ الإجارة بموت أحد المتآجرين وهو ظاهر في ذلك وقد أشار إليه بقوله ولم يذكر أن أبا بكر جدد الإجارة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه حديث بن(13/136)
عمر في كراء المزارع وحديث رافع بن خديج في النهي عنه] فتح الباري 4/583-584.
قال الماوردي مستدلاً لقول جمهور الفقهاء: [ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع، فان قيل ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح لأن العقد إنما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد، ألا تراه لو كان حياً فزمن بطلت الإجارة، وان كان العاقد حياً، ... ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: (أحدهما) أنه عقد لازم على منافع ملكه فلم يبطل بموته ... والثانى: ... ولأن المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالأعيان فجاز أن تنتقل بالإرث كالأعيان. ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: أحدهما: أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن تنقل به المنافع في الإجارات ولأن بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الإجارة فلم يبطل بعد العقد كالجنون والزمانة، ولأنه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع، ولان منافع الأعيان مع بقاء ملكها قد تستحق بالرهن تارة وبالإجارة أخرى. فلما كان ما تستحق منفعته بارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالإجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان إجارته، وقد استدل الشافعي بهذا في الأم. ولأن الوارث إنما يملك بالإرث ما كان يملكه الموروث، والموروث إنما كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكاً للرقبة والمنفعة، ولان إجارة الوقف لا تبطل بموت مؤجره بوفاق أبى حنيفة. وإن قال بعض أصحابنا: تبطل، فكذلك إجارة الملك لا تبطل بموت مؤجره كالوقف] الحاوي الكبير 7/401.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل استأجر بستاناً مدة عشر سنين وقام بقبض مبلغ الأجرة ثم توفي لانقضاء خمس سنين من المدة وبقي في الإجارة خمس سنين وله ورثة وأقاموا ورثة المتوفى بعد مدة سنة من وفاته. فهل يجوز للمالك فسخ(13/137)
الإجارة على الأيتام؟ أم لا؟ فأجاب: ليس للمؤجر فسخ الإجارة بمجرد موت المستأجر عند جماهير العلماء؛ لكن منهم من قال: إن الأجرة على المستأجر تحل بموته وتستوفى من تركته فإن لم يكن له تركة فله فسخ الإجارة. ومنهم من يقول: لا تحل الأجرة إذا وثق الورثة برهن أو ضمين يحفظ الأجرة؛ بل يوفونه كما كان يوفيها الميت وهذا أظهر القولين] مجموع الفتاوى 30/157.
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن وقف تعطل وبيع نصفه لإصلاح النصف ... واستؤجر ... من يسقي النصف الآخر عشر سنين فمات الذي استؤجر لما مضى سنتان وأراد ورثته أن يتموا باقي المدة وأراد المستأجر الفسخ؟
فأجاب: الإجارة صحيحة ثابتة لا تنفسخ بموت المستأجر، فإذا تمم الورثة ما على ميتهم استحقوا ما استحقه، وليس للمؤجر الفسخ; ودليل هذا: أن القول بانفساخ الإجارة، أو المساقاة قول ضعيف، رده أهل العلم بالنص الثابت، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساقى أهل خيبر، لم يجدد الخلفاء بعده عقداً، فإذا ثبت هذا فقد أمر الله بالوفاء بالعقود بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ (سورة المائدة الآية1، وهذا لفظ عام من جوامع الكلم، فمن ادعى في صورة من العقود أنه لا يجوز، أو لا يجوز الوفاء به لأجل الموت أو غيره، فعليه الدليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وكذلك: أن من ادعى أن مثل هذا العقد وغيره، لا يجب الوفاء به، لأجل شرط أو ترك شيء من العقد أو غيره، فعليه الدليل، وقد كمل الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم] الدرر السنية في الكتب النجدية 7/355.
وخلاصة الأمر أن عقد الإجارة لا يفسخ بموت المستأجر، وقد جرى عرف الناس في بلادنا على هذا القول الراجح، وإذا قلنا بالفسخ فإن ضرراً واضحاً يلحق بورثة المستأجر، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بدفع الضرر فقد: ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 3/408. وانظر السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. وبناءً على ما سبق فلا يجوز لصاحب الملك أن يطالب بإخلاء المحل، لأن المستأجر قد توفي، فعقد الإجارة لا ينتهي بوفاة أحد العاقدين، المؤجر أو المستأجر.
(( ((13/138)
حكم الشفعة في المنقولات
يقول السائل: إنه شريك في سيارة نقل مع صديق له، لكل منهما النصف، ويريد شريكه أن يبيع حصته لشخص آخر نكاية به فهل تثبت له الشفعة، أفيدونا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة في الأراضي والعقارات الثابتة وقد دل على ذلك أحاديث منها عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري. وعن جابر رضي الله عنه أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ورجاله ثقات، بلوغ المرام ص 185، وغير ذلك من النصوص. وقد اختلف العلماء في ثبوت الشفعة في الأشياء المنقولة، فجمهور أهل العلم يرون أن الشفعة لا تثبت في المنقولات، وإنما هي خاصة بالعقارات والأراضي، وقال بعض أهل العلم بثبوت الشفعة في المنقولات، قال الإمام الترمذي: [وقال أكثر أهل العلم إنما تكون الشفعة في الدور والأرضين ولم يروا الشفعة في كل شيء، وقال بعض أهل العلم الشفعة في كل شيء] سنن الترمذي 4/513. والقول بثبوت الشفعة في المنقولات قال به عطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى، وبه قالت الظاهرية، وهو رواية عن الإمام مالك، ونقل عن الإمام مالك القول بثبوت الشفعة في السفينة، وهي تشبه السيارة محل السؤال، وقال الإمام أحمد في رواية أبي الخطاب عنه بثبوت الشفعة في الحيوان، وهو من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر فتح الباري(13/139)
4/551، تحفة الأحوذي 4/513، المغني 5/232. قال الشيخ ابن حزم: [الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعاً غير مقسوم بين اثنين فصاعداً من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم من أرض أو شجرة واحدة فأكثر أو عبد أو ثوب أو أمة أو من سيف أو من طعام أو من حيوان أو من أي شيء بيع لا يحل لمن له ذلك الجزء أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه ... ] المحلى 8/3. واختار هذا القول جماعة من المعاصرين كالشيخ العلامة العثيمين حيث قال: [ ... وعليه فالقول الراجح أن الشفعة تثبت في كل مشترك، سواء كان أرضاً، أم أوانِيَ، أم فرشاً، أم أي شيء] الشرح الممتع عن موقع الشيخ على الإنترنت. وهذا القول هو الذي أختاره وأرجحه، فالشفعة تثبت في المنقولات كالسيارات والسفن والقطارات والآلات ونحوها، ويدل على ثبوت الشفعة في المنقولات عموم الأدلة الدالة على مشروعية الشفعة كحديث جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم ... ) رواه البخاري، فقوله (في كل ما لم يقسم) يدخل في عمومه المنقولات، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وقد تضمن هذا الحديث ثبوت الشفعة في المشاع، وصدره يشعر بثبوتها في المنقولات، وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار وبما فيه العقار. وقد أخذ بعمومها في كل شيء مالك في رواية، وهو قول عطاء. وعن أحمد تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات، وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً (الشفعة في كل شيء) ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهداً من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته] فتح الباري 4/550-551. ويؤيد ما أشار إليه الحافظ من أن الحديث مشعر بثبوت الشفعة في المنقولات ما جاء في رواية أخرى للحديث عند البخاري (الشفعة في كل مال لم يقسم) ، فقوله كل مال يدخل فيه المنقولات. قال الشيخ ابن حزم: [وأما اللفظ الذي في رواية أبي سلمة عن جابر (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فلا حجة لهم فيه لأنه ليس في(13/140)
هذا اللفظ نص ولا دليل على أن ذلك لا يكون إلا في الأرض والعقار والبناء، بل الحدود واقعة في كل ما ينقسم من طعام وحيوان ونبات وعروض وإلى كل ذلك طريق ضرورة كما هو إلى البناء وإلى الحائط ولا فرق، وكان ذكره عليه السلام للحدود والطرق إعلاماً بحكم ما يمكن قسمته وبقي الحكم فيما لا يقسم على حسبه، فكيف وأول الحديث بيانٌ كافٍ في أن الشفعة واجبة في كل مالٍ يقسم، وفى كل ما لم يقسم، وهذا عموم لجميع الأموال ما احتمل منها القسمة وما لم يحتملها، ومن الباطل الممتنع أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد بهذا الحكم الأرض فقط ثم يجمل هذا الإجمال حاش لله من هذا، وهو مأمور بالبيان لا بالإيهام والتلبيس] المحلى 8/9. ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشريك شفيع والشفعة في كل شيء) رواه الترمذي والبيهقي والطحاوي وغيرهم، وهذا الحديث محل خلاف بين المحدثين، فمنهم من احتج به، ومنهم من لم يحتج به، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً (الشفعة في كل شيء) ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهداً من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته.] فتح الباري 4/550-551. وقواه العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين 2/141، وانظر السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني 3/60-65، فقد توسع في بيان حال الحديث وضعَّفه، وانظر الإلمام بأحاديث الأحكام 1/229، وقد بين أن الحديث ورد من عدة طرق وهو لا يقل عن درجة الحسن. وقد احتج الشيخ ابن حزم بأدلة كثيرة لثبوت الشفعة في كل شيء منها ما ذكرته آنفاً، ثم قال: [فهذه آثار متواترة متظاهرة بكل ما قلنا، جابر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشفعة في كل مال وفي كل شيء وفي كل ما لم يقسم، ورواها كذا عن جابر أبو الزبير سماعاً منه وعطاء وأبو سلمة، ورواه عن ابن عباس ابن أبى مليكة، فارتفع الإشكال جملة ولله تعالى الحمد،(13/141)
وممن قال بقولنا في هذا ... عمر بن الخطاب قال: إذا وقعت الحدود وعرف الناس حقوقهم فلا شفعة بينهم ... عثمان قال: لا مكايلة إذا وقعت الحدود فلا شفعة، فهذان عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما يحملان قطع الشفعة بعد وجوبها بوقوع الحدود ومعرفة الناس حقوقهم ولم يخصا أرضاً دون سائر الأموال، بل أجملا ذلك، والحدود تقع في كل جسم مبيع وكذلك معرفة كل أحد حقه] المحلى 8/6. ويؤيد ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم. والشاهد قوله (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) والشريك في المنقول كالسيارة داخل في ذلك. ومما يدل على ثبوت الشفعة في المنقولات المعنى والحكمة التي من أجلها شرعت الشفعة وهي إزالة الضرر عن الشريك كما ذهب إليه طائفة من أهل العلم، ولا شك أن إزالة الضرر من مقاصد الشارع الحكيم. قال الشيخ ابن حزم: [فلا تخلو الشفعة من أن تكون من طريق النص كما نقول نحن أو من طريق النظر كما يقول المخالفون، فان كانت من طريق النص فهذه النصوص التي أوردنا لا يحل الخروج عنها، وإن كانت من طريق النظر كما يزعمون أنها إنما جعلت لدفع ضرر عن الشريك، فالعلة بذلك موجودة في غير العقار كما هي موجودة في العقار بل أكثر وفيما لا ينقسم كوجودها فيما ينقسم بل هي فيما لا ينقسم أشد ضرراً] المحلى 8/6. وقال العلامة ابن القيم [وقالت طائفة أخرى إنما شرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان بإرث أو هبة أو وصية أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر، فإذا باع نصبيه كان شريكه أحق به من الأجنبي، إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر(13/142)
صاحبه، فإنه يصل إلى حقه من الثمن، ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع، فيزول الضرر عنهما جميعاً، وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها، وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر ونص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل، قال قيل لأحمد فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك، قال هذا كله أوكد، لأن خليطه الشريك أحق به بالثمن، وهذا لا يمكن قسمته، فإذا عرضه على شريكه وإلا باعه بعد ذلك] إعلام الموقعين 2/140.
وخلاصة الأمر أن الشفعة تثبت في المنقولات كالسيارة على الراجح من أقوال أهل العلم، وهذا القول تؤيده الأدلة النقلية كالعمومات التي ذكرتها، وكذا ما ورد من الحديث في ثبوت الشفعة في كل شيء، وإن كان محل خلاف بين المحدثين فهو صالح للاحتجاج، كما أن مقاصد الشريعة الغراء قد جاءت برفع الضرر وإزالته عن الشريك، فلذلك رجحت هذا القول وإن كان جمهور أهل العلم على خلافه، وأقول ما قاله الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق] نيل الأوطار 4/263.
- - -(13/143)
متى يثبت حق الشفعة
يقول السائل: اختلفت مع جاري عندما بعت قطعة من أرضي لابن أختي فادعى جاري أن له حق الشفعة، مع العلم أن واجهة أرضي تقع على شارع غير الشارع الذي تقع عليه واجهة أرض جاري وإنما أرضه تحد أرضي من الجهة الخلفية، فهل تثبت الشفعة لجاري، أفيدونا؟
الجواب: الشفعة حق تملك قهري ثابت على خلاف الأصل، لأن الأصل المقرر شرعاً أن المالك حر التصرف فيما يملك، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29. وورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/279. لذا قرر جمهور الفقهاء أن الشفعة استحقاق وليست بيعاً، انظر أحكام الشفعة في الفقه الإسلامي ص 60. وقد ثبتت النصوص في مشروعية الشفعة منها عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري. وفي لفظ: (إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة ... ) رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن جابر رضي الله عنه أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ورجاله ثقات، بلوغ المرام ص(13/144)
185، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قسمت الدار وحدت فلا شفعة فيها) رواه أبو داود وابن ماجة. وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدار أحق بالدار من غيره) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وعن الشريد بن سويد قال: (قلت: يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار؟ فقال: الجار أحق بسقبه ما كان) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وعن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة ثم جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتاعها، فقال المسور: والله لتبتاعنَّها، فقال سعد: والله ما أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بسقبه) –السقب القرب والملاصقة- ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطي بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياها) رواه البخاري. وهذه الأحاديث أثبتت حق الشفعة، ولكن الفقهاء اختلفوا فيمن يثبت له هذا الحق، ومذهب جمهور الفقهاء أن الشفعة تثبت للشريك فيما لم يقسم، فإذا قسمت الأرض مثلاً فلا شفعة، وقالوا لا يثبت حق الشفعة للجار، وعند الحنفية تثبت الشفعة للشريك وللجار الملاصق، وقد اختار بعض أهل العلم قولاً وسطاً بين هذين القولين السابقين فقرروا أن الشفعة تثبت للشريك وللجار إذا كان شريكاً مع جاره في حقٍ من حقوق الارتفاق الخاصة كأن يكون طريقهما واحداً، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والإمام الشوكاني ونقل عن الإمام أحمد، وعزاه ابن القيم إلى عمر بن عبد العزيز والبصريين من فقهاء الحديث. انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/383، الإنصاف للمرداوي 6/255، نيل الأوطار 5/376.(13/145)
قال الشيخ ابن القيم: [والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه إن كان بين الجارين حقٌ مشترك من حقوق الأملاك من طريقٍ أو ماء أو نحو ذلك تثبت الشفعة وإن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان كل واحدٍ منهما متميزاً ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة] إعلام الموقعين 2/149. وقال الشيخ ابن القيم أيضاً: [والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك الموجود في الخلطة في حقوقه فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل..] إعلام الموقعين 2/150-151.
وهذا القول هو أرجح أقوال أهل العلم في المسألة، ويمكن أن يجاب عن الأحاديث التي أثبتت الشفعة للجار مطلقاً بما يلي: هذه الأحاديث قسمان: صحيح صريح، فهذه مؤولة ومصروفة عن ظاهرها، فقوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بسقبه) يراد بالجار الشريك، [قال ابن بطال: استدل به أبو حنيفة وأصحابه على إثبات الشفعة للجار وأوَّله غيرهم على أن المراد به الشريك بناء على أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين ولذلك دعاه إلى الشراء منه] فتح الباري 4/552. وإطلاق الجار على الشريك معروف في لغة العرب، قال الإمام الشافعي: [ ... وذلك يدل على أن رسول الله أراد أن الشفعة لبعض الجيران دون بعض وأنها لا تكون إلا لجار لم يقاسم، قال: أفيقع اسم الجوار على الشريك؟ قلت: نعم وعلى الملاصق وعلى غير الملاصق، قال: فالشريك ينفرد باسم الشريك، قلت: أجل والملاصق ينفرد باسم الملاصقة دون غيره من الجيران ولا يمنع ذلك واحداً منهما أن يقع عليه اسم جوار، قال أفتوجدني ما يدل على أن اسم الجوار يقع على الشريك، قلت: زوجتك التي هي(13/146)
قرينتك يقع عليها اسم الجوار، قال حمل بن النابغة: كنت بين جارتين لي، يعني ضرتين، وقال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقه ... وموموقة ما كنت فينا ووامقة ... ] الأم 4/5-6. وهذا التأويل الذي ذهب إليه الجمهور تأويل صحيح قريب يحتمله اللفظ، ودلت عليه القرينة وهي ما جاء في حديث آخر (فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري. وفي رواية أخرى (إذا كان طريقهما واحداً) .
وقال الإمام الشوكاني: [والحاصل أن الجار المذكور في الأحاديث الآتية إن كان يطلق على الشريك في الشيء والمجاور له بغير شركة كانت مقتضية بعمومها لثبوت الشفعة لهما جميعاً، وحديث جابر وأبي هريرة المذكوران يدلان على عدم ثبوت الشفعة للجار الذي لا شركة له، فيخصصان عموم أحاديث الجار، ولكنه يشكل على هذا حديث الشريد بن سويد، فإن قوله: (ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار) مشعرٌ بثبوت الشفعة لمجرد الجوار، وكذلك حديث سمرة لقوله فيه (جار الدار أحق بالدار) فإن ظاهره أن الجوار المذكور جوار لا شركة فيه، ويجاب بأن هذين الحديثين لا يصلحان لمعارضة ما في الصحيح، على أنه يمكن الجمع بما في حديث جابر الآتي بلفظ (إذا كان طريقهما واحداً) فإنه يدل على أن الجوار لا يكون مقتضياً للشفعة إلا مع اتحاد الطريق لا بمجرده، ولا عذر لمن قال بحمل المطلق على المقيد من هذا إن قال بصحة هذا الحديث وقد قال بهذا، أعني: ثبوت الشفعة للجار مع اتحاد الطريق، بعض الشافعية، ويؤيده أن شرعية الشفعة إنما هي لدفع الضرر، وهو إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك أو في طريقه، ولا ضرر على جار لم يشارك في أصل ولا طريق إلا نادراً، واعتبار هذا النادر يستلزم ثبوت الشفعة للجار مع عدم الملاصقة؛ لأن حصول الضرر له قد يقع في نادر الحالات كحجب الشمس والإطلاع على العورات ونحوهما من الروائح الكريهة التي يتأذى بها ورفع الأصوات وسماع بعض المنكرات ولا قائل بثبوت الشفعة لمن كان كذلك، والضرر(13/147)
النادر غير معتبر؛ لأن الشارع علق الأحكام بالأمور الغالبة، فعلى فرض أن الجار لغة لا يطلق إلا على من كان ملاصقاً غير مشارك ينبغي تقييد الجوار باتحاد الطريق، ومقتضاه: أن لا تثبت الشفعة بمجرد الجوار وهو الحق] نيل الأوطار 5/376.
وأما القسم الثاني من الأحاديث المثبتة للشفعة للجار مطلقاً، فالجواب عنها أن في سندها كلاماً للمحدثين. قال الإمام الشوكاني: [فأحاديث إثبات الشفعة بالجوار مخصصة بما سلف، ولو فرض عدم صحة التخصيص للتصريح بنفي الشركة فهي مع ما فيها من المقال لا تنتهض لمعارضة الأحاديث القاضية بنفي شفعة الجار الذي ليس بمشارك] نيل الأوطار 5/376. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 4/298 ما نصه [ومقتضى الأصل أن لا يثبت حقّ الأخذ بالشّفعة أصلاً، لكنّها ثبتت فيما لا يقسم بالنص الصّريح غير معقول المعنى، فبقي الأمر في المقسوم على الأصل، أو ثبت معلولاً بدفع ضررٍ خاصٍّ وهو ضرر القسمة. وما استدلّ به الحنفيّة ومن معهم من أحاديث، فإنّ في أسانيدها مقالاً. قال ابن المنذر: الثّابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابرٍ - السّابق ذكره - وما عداه من الأحاديث الّتي استدلّ بها الحنفيّة ومن معهم، كالحديث الّذي رواه أبو رافعٍ (الجار أحقّ بسقبه) ، والحديث الّذي رواه سمرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدّار أحقّ بالدّار) . فإنّ فيها مقالاً. على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشّريك، فإنّه جارٌ أيضاً. فكلّ هذا أورث شبهةً عند الجمهور، لأنّ ما استدلّ به الحنفيّة غير قويٍّ، وجاء على خلاف الأصل، ولذا لم يثبتوا الشّفعة بسبب الجوار والشّركة في مرافق العقار، وقصروها على الشّركة في العقار نفسه] . وختاماً أود أن أنبه لمفهوم خاطئ يتعلق بالشفعة شائع بين الناس، وهو أن الشفعة تثبت للقريب كالأخ وابن العم ونحوهما، وهذا كلام باطل فالشفعة لا علاقة لها بالقرابة لا من قريب ولا بعيد.(13/148)
وخلاصة الأمر أن الشفعة لا تثبت بمطلق الجوار، وإنما تثبت للشريك قبل القسمة وتثبت للجار إذا كان بينه وبين جاره شيء مشترك، وعليه فلا حق للجار المذكور في السؤال في الشفعة، لأن الحدود مبينة ولا شيء مشترك بينهما.
- - -
صندوق التكافل الاجتماعي
يقول السائل: إنه يعمل في إحدى الهيئات الدولية وعندهم صندوق تقاعد ويقوم نظامه على أن يحسم من راتب الموظف 7% شهرياً وتدفع الهيئة 14%، ويتم تشغيل المال بالفائدة، ثم ذكر السائل طريقتين لاستفادة الموظف من هذا الصندوق، كما وسألني شخص آخر عن صندوقين يتبعان إحدى النقابات، أحدهما يسمى صندوق إنهاء خدمة ويقوم نظامه على أن يدفع المشترك رسم اشتراك لمرة واحدة بالإضافة لقسط سنوي وعندما يبلغ المشترك سن الخامسة والستين يعطى حسب معادلة ذكرها السائل في رسالته، وأما الصندوق الآخر فيسمى صندوق التكافل الاجتماعي وهو خاص لحالة وفاة المشترك حيث يدفع كل عضو مبلغاً محدداً عند وفاة أحد المشتركين. وقد طلب السائلان بيان حكم هذه الصناديق؟
الجواب: إن الإسلام قد حث على التعاون والتكافل وإن فكرة إنشاء صناديق للتكافل الاجتماعي فكرة طيبة وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. ولكن يجب أن تكون صناديق التكافل الاجتماعي وما شابهها منضبطة بالضوابط الشرعية لكي يصح الاشتراك فيها وسأذكر مجموعة من هذه الضوابط:(13/149)
أولاً: يجب أن تقوم هذه الصناديق على فكرة التكافل والتعاون وينبغي النص على ذلك في اللوائح المنظمة لعمل الصندوق.
ثانياً: يحرم الاشتراك في أي صندوق إذا كانت أمواله تشغل بطرق محرمة شرعاً مثل تشغيل الأموال في البنوك الربوية بالفائدة، ومثل المتاجرة بأسهم الشركات التي يحرم التعامل بأسهمها، ومثل تشغيل الأموال في البورصات العالمية لأن أكثر تعاملاتها محرمة شرعاً،
وهذا في حالة كون الاشتراك في هذه الصناديق اختيارياً، وأما إذا كان الاشتراك إجبارياً، فيجوز الاشتراك في الصندوق بشرط أن يتخلص المشترك من الفوائد الربوية كما سيأتي. وحسب ما أعلم فإن معظم صناديق التكافل وصناديق التوفير والتقاعد التابعة لكثير من المؤسسات تشغل أموالها في البنوك الربوية بالفائدة، ومن المعلوم أن تحريم الربا قطعي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ولا يقولن قائلٌ إن الموظف ليس مسئولاً عما قام به الصندوق من تشغيل أمواله بالربا أو أن الإثم يقع على المسؤول عن الصندوق أو نحو ذلك من الاعتذارات التي تردها قواعد الشريعة الإسلامية فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للمسلم أن يكون طرفاً في أي عملية ربوية بطريق مباشر أو غير مباشر، لأن الربا محرم بنصوص صريحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(13/150)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275-279.ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات – المهلكات – قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه مسلم. وجاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم، وفي رواية النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (آكل الربا ومؤكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة) وهو حديث صحيح، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه، وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وغير ذلك من النصوص.
ثالثاً: إن الاتفاق على أن يدفع الصندوق مبلغاً معيناً عند بلوغ المشترك سن الستين أو الخامسة والستين أو عند وفاته قبل بلوغه تلك السن المتفق عليها، مع كون هذا المبلغ لا علاقة له بالاشتراكات التي دفعها المشترك، يعتبر من باب الربا، لأنه دفع مبلغاً محدداً وأخذ أكثر منه، وفي المعادلة التي ذكرها السائل الثاني أنه إذا ساهم مشترك في الصندوق مدة عشرين سنة وتوفي وعمره 65 سنة فيحسب له كما يلي: عدد سنوات الاشتراك - 4 × عدد المشتركين×10 ويقسم الناتج على 30، ثم ذكر السائل نتيجة المعادلة بأن ورثته يحصلون على مبلغ قدره 26666 ديناراً مع العلم أن مجموع اشتراكاته كان 2050 دينار، وأما إذا توفي المشترك قبل بلوغه 65 سنة فإن الصندوق يعيد له ما دفعه من أقساط فقط، والذي يتضح مما ذكر أن هذه المعاملة(13/151)
ربوية لأن المشترك سيحصل على مبلغ أكبر بكثير من الأقساط التي دفعها، وهذه المعاملة ليست مبنية على فكرة التكافل أو التعاون.
رابعاً: من القواعد المقررة شرعاً لصحة أي معاملة أن لا يكون فيها غرر وهو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم، ومعاملة الصندوق حسب ما أفاد السائل الثاني فيها غرر واضح حيث إنه قد يشترك شخص في هذا الصندوق وعمره ثلاثون سنة مثلاً ولا يدري هل يصل إلى سن 65 سنة أم لا؟
خامساً: إذا كانت فكرة الصندوق قائمة على التعاون والتكافل ودفعت الأموال على سبيل التبرع فلا حرج في ذلك، بل هذا أمر حضت عليه الشريعة كما قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (، وصحَّ في الحديث عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... ) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري.
إذا تقرر هذا فإن ما ذكره السائل الثاني عن صندوق التكافل الخاص بحالة وفاة المشترك حيث يدفع كل عضو مبلغاً محدداً عند وفاة أحد المشتركين، فهذا أمر جائز ومرغب فيه شرعاً.(13/152)
وأخيراً أنبه على ما ورد في رسالة السائل الأول من صرف الفوائد في تسديد الضرائب المترتبة على المشترك أو في استخراج رخصة بناء ونحو ذلك فأقول: لا يجوز الانتفاع بتلك الأموال انتفاعاً شخصياً كأن ينفقها الشخص على نفسه أو على أهله فهذه الأموال لا تحل للشخص أبداً، ولا يحل له إنفاقها في مصالحه الشخصية كتسديد الضرائب المترتبة على المشترك أو في استخراج رخصة بناء. وعليه إنفاق تلك الأموال على الفقراء والمحتاجين والغارمين والمؤسسات الخيرية ومصالح المسلمين العامة كبناء مدرسة أو مستشفى أو تجهيز شارع ونحو ذلك. وقد أفتى بذلك طائفة من علماء العصر منهم فضيلة الشيخ العلامة مصطفى الزرقا رحمة الله عليه حيث قال: [إن التدبير الصحيح الشرعي في هذه الفوائد أن يأخذها المودع من المصرف دون أن ينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع فعليه أن يأخذ تلك الفوائد التي يحتسبها له المصرف الربوي عن ودائعه ويوزعها على الفقراء حصراً أو قصراً لأنهم مصرفها الوحيد] . وهذا رأي سديد إن شاء الله ولكن لا أوافقه على قصر تلك الأموال على الفقراء فقط بل يجوز صرفها في مصالح المسلمين العامة كما ذكرت.
وخلاصة الأمر أن الإسلام قد أقر مبدأ التكافل والتعاون على الخير وأن إنشاء صندوق للتكافل والتعاون داخل في ذلك ما دام نظام الصندوق مضبوطاً بالضوابط الشرعية.
- - -
التأمين الإسلامي
يقول السائل: هلا بينتم لنا الأسس التي يقوم عليها التأمين الإسلامي، أفيدونا؟
الجواب: الفقه الإسلامي فقه حيوي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وفقهاء الأمة في كل عصر وأوان يقدمون الحلول للمشكلات التي يواجهها المجتمع المسلم، لذا فالفقه الإسلامي فقه غني، وهو فقه عملي تطبيقيي أيضاً، وفي عصرنا الحاضر قدَّم فقهاء(13/153)
الأمة حلولاً للقضايا المعاصرة في مختلف جوانب الحياة، كالقضايا الطبية المعاصرة وكذا القضايا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكان من أهم هذه القضايا المعاصرة ما يتعلق بالمعاملات المالية المعاصرة مثل الحقوق المعنوية كحق التأليف والاختراع والاسم التجاري ونحوها ومثل قضايا النقود، ومثل البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي وغيرها كثير، وهذه الحلول تقوم على الأصول الفقهية المقررة عند أئمتنا وفقهائنا، وكثير من هذه المسائل بحثت على مستوى المجامع الفقهية والندوات الخاصة والبحوث والرسائل الجامعية وغير ذلك.
إذا تقرر هذا فإن تعريف التأمين الإسلامي باعتباره نظاماً: هو [اتفاق بين شركة التأمين الإسلامي باعتبارها ممثلة لهيئة المشتركين (حساب التأمين أو صندوق التأمين) وبين الراغبين في التأمين (شخص طبيعي أو قانوني) على قبوله عضواً في هيئة المشتركين والتزامه بدفع مبلغ معلوم (القسط) على سبيل التبرع به وبعوائده لصالح حساب التأمين على أن يدفع له عند وقوع الخطر تعويض طبقاً لوثيقة التأمين والأسس الفنية والنظام الأساسي للشركة] التأمين الإسلامي د. علي القرة داغي ص 203. وانظر أيضاً التأمين على حوادث السيارات د. حسين حامد حسان.
وقد بدأ التأمين الإسلامي بشكل عملي وتطبيقي منذ حوالي الأربعين عاماً، وقد نشأ التأمين الإسلامي ليكون بديلاً عن التأمين التجاري ذي القسط الثابت، وقد سبقت نشأة التأمين الإسلامي وصاحبته، دراسات فقهية معمقة، لبيان حكمه وتأصيله شرعاً، ولوضع حلول للمشكلات التي تواجه التأمين الإسلامي، وكان من القرارات الصادرة بجواز التأمين الإسلامي وتأصيله شرعاً القرار الصادر عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية سنة 1397هـ وفق 1977م، وجاء فيه ما يلي: [
الأول: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق(13/154)
إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحاً من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النساء فليست عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مغامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضات مالية تجارية.
الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معين] .
وقرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي سنة 1398هـ وفق 1978م وقد جاء فيه ما يلي: [قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 51 بتاريخ 4/4/1397هـ من جواز التأمين التعاوني بدلاً عن التأمين التجاري المحرّم] . وقرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1406هـ وفق 1985م وجاء فيه ما يلي:
أولاً: إن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعاً.
ثانياً: إن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون، وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.(13/155)
ثالثاً: دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال، ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة] مجلة المجمع عدد 2، ج2/731.
وهذا ما أفتت به ووافقت عليه هيئات الرقابة الشرعية لعدد من البنوك الإسلامية وهيئات الرقابة الشرعية لشركات التأمين الإسلامية.
وفي وقتنا الحاضر صار التأمين الإسلامي له حصة كبيرة من سوق التأمين، وشركات التأمين الإسلامي في ازدياد، وقد جاء في دراسة حديثة لواقع شركات التأمين الإسلامي ما يلي: [تبلغ نسبة نمو قطاع التأمين المتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية "التأمين الإسلامي" مابين 20-25% سنويا بينما يبلغ نمو قطاع التأمين التجاري نسبة تتراوح ما بين 6-7% سنويا ويعزى ذلك إلى نمو القطاع المالي الإسلامي بوجه عام. ويعمل في سوق قطاع التأمين الإسلامي 60 شركة منتشرة في 23 دولة ومن المتوقع أن يصل حجم إجمالي أقساط هذا القطاع إلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2010 حسب تقديرات سوق التأمين العالمية] عن شبكة الإنترنت.
وأما عن أهم الأسس التي يقوم عليها التأمين الإسلامي فهي:
أولاً: التأمين الإسلامي يقوم على مبدأ التعاون والتكافل، وهو مبدأ شرعي أصيل قامت عليه عشرات الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، فالأقساط المقدمة من حملة الوثائق في التأمين التعاوني تأخذ صفة التبرع وهو تبرع يلزم بالقول على رأي الإمام مالك رحمه الله. وعلى هذا يكون العضو ملتزماً بدفع القسط بمجرد توقيعه على العقد، وبالتالي يكون الأعضاء متبرعين بالأقساط التي يدفعونها، وبعوائد استثمار هذه الأقساط، في حدود المبالغ اللازمة لدفع التعويضات عن الأضرار التي تصيب أحدهم. كما يتضمن التوقيعُ على وثيقة التأمين(13/156)
قبولَ العضو للتبرع من مجموع أموال التأمين أي الأقساط وعوائدها الاستثمارية وفقاً لأحكام وثيقة التأمين والنظام الأساسي للشركة حسب أحكام الشريعة الإسلامية، والعضو لا يتبرع بالأقساط وعوائدها جملة، بل يتبرع منها بما يكفي لدفع التعويضات ... ولا مانع أن يحقق التأمين التعاوني أرباحاً من خلال استثمار الأرصدة المجتمعة لديه استثماراً مشروعاً، والممنوع هو أن تكون الغاية المعاوضة والاسترباح لا مجرد تحقيق الأرباح] التأمين التعاوني الإسلامي د. صالح بن حميد عن الإنترنت.
ثالثاً: تخلو عقود التأمين الإسلامي من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة، فعقود المساهمين ليست ربوية ولا يستغل ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية. التأمين الإسلامي د. علي القرة داغي ص 210.
رابعاً: التأمين الإسلامي يعتمد على أقساط التأمين المحصلة، وعلى استثمارها في أمور مشروعة تخلو من الربا أو المعاملات المحرمة ويتم دفع التعويضات من ذلك. كما أن شركة التأمين الإسلامي لا تتملك أقساط التأمين وإنما تكون ملكاً لحساب التأمين وهو حق للمشتركين، وتقوم شركة التأمين الإسلامي بإدارة الحساب نيابة عنهم.
خامساً: الفائض في التأمين الإسلامي يعود إلى مجموع المؤمنين ولا يعود إلى شركة التأمين، ولكن شركة التأمين الإسلامي تأخذ حصة من الفائض إما باعتبارها وكيلة بأجر أو باعبتارها مضارباً.
سادساً: تحتفظ شركة التأمين الإسلامي بحسابين منفصلين، أحدهما لاستثمار رأس المال، والآخر لحسابات أموال التأمين.
سابعاً: شركات التأمين الإسلامي هي شركات خدمات، أي أنها تدير عمليات التأمين وتستثمر أمواله نيابة عن هيئة المشتركين، وعلاقة الشركة بهيئة المشتركين علاقة معاوضة، فهي الأمينة على أموال التأمين، وتقوم بالإدارة نيابة عن هيئة(13/157)
المشتركين، والعوض الذي تأخذه الشركة مبلغ مقطوع، أو نسبة من الأقساط التي تجمعها، أو التعويضات التي تدفعها باعتبارها وكيلاً، أو نسبة معلومة من عائد الاستثمار باعتبارها مضارباً، أو هما معاً] التأمين التعاوني الإسلامي د. صالح بن حميد. عن الإنترنت.
ثامناً: تخضع جميع أعمال شركة التأمين الإسلامي للتدقيق من هيئة رقابة شرعية للنظر في مدى توافقها مع الأحكام الشرعية.
وخلاصة الأمر أن التأمين الإسلامي عقد مشروع إذا تمَّ وفق القواعد والضوابط الشرعية.
- - -(13/158)
حكم تهريب الأدوية والتلاعب بها
السؤال: وصلتني رسالة من نقيب الصيادلة تتضمن مجموعة من الأسئلة أختصرها فيما يلي:
أولاً: ما حكم تهريب الأدوية بحجة أنها أرخص أو غير متوفرة في السوق المحلي، علماً بأن طريقة نقل هذه الأدوية لا تكون سليمة.
ثانياً: ما حكم بيع وشراء الأدوية المسروقة.
ثالثاً: هل يجوز شرعاً بيع الدواء إذا كان تالفاً وغير مخزن بالطرق المناسبة.
رابعاً: الأدوية التي توزعها وزارة الصحة الفلسطينية مجاناً، بعض المرضى يحرمون أنفسهم منها ويبيعونها إلى بعض الصيادلة، فما حكم ذلك.
خامساً: ما حكم قيام الجمعيات الخيرية ببيع الأدوية التي يتبرع بها لصالح تلك الجمعيات.
سادساً: قيام الصيدلي بصرف أقل من الكمية المكتوبة في الوصفة الطبية وبدون إعلام المريض لكي يظن المريض أن أسعار الصيدلي مخفضة.
سابعاً: قوانين مزاولة مهنة الصيدلة تحتم أن الصيدلي هو مالك الصيدلية الوحيد وهنالك يمين يحلفها الصيدلي فما حكم الحلف كاذباً.
ثامناً: حدد قانون النقابة سعر بيع الدواء فهل يحق للصيدلي أن يبيع بأقل من السعر المحدد بقصد الإضرار بغيره من الصيادلة. تاسعاً: ما هي ضوابط الإعلان في وسائل الإعلام عن المستحضرات التي لها صفة علاجية كالأدوية الجنسية والأدوية النباتية. عاشراً: ما حكم تعامل الصيدلي مع الأدوية المزيفة، مع العلم أنها تباع بسعر أقل بكثير من الأدوية الأصلية. أفيدونا.(13/159)
الجواب: إن مضمون أسئلة نقيب الصيادلة يشير إلى فقدان الصدق في التعامل عند بعض الناس، وتغليب الجشع والطمع، ومن المعلوم أن الصدق مطلوب من المسلم عموماً في كل أموره وأحواله ومطلوب من التاجر خصوصاً قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} سورة التوبة الآية 119. وثبت في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما) رواه البخاري ومسلم، فالصدق في البيع والشراء سبب لحصول البركة، والكذب سبب لمحق البركة. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وجاء في الحديث عن رفاعة رضي الله عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فالبر والصدق والتقى منجاة للتاجر من النار يوم القيامة. إذا تقرر هذا فأعود إلى الأجوبة:
أولا: تهريب الأدوية محرم شرعاً إذا ترتب عليه ضرر كما هو الحال في تهريب الأدوية التي تحتاج إلى ظروف خاصة عند نقلها وتخزينها مما يؤدي إلى فسادها، وهذا يلحق الضرر بمستعمليها.(13/160)
ثانياً: يحرم على المسلم أن يشتري مالاً مغصوباً أو مسروقاً أو أخذ من صاحبه بغير حق وهو يعلم، ولا شك أن في شراء المال المسروق أو المغصوب تشجيعاً للصوص الذين يأخذون أموال الناس بالباطل، ويدخل شراء المسروق في باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهانا الله عن ذلك بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. وكذلك فإننا نعلم أنه لا يحل أخذ مال المسلم إلا إذا طابت نفسه بذلك وهذه الأموال المسروقة أو المغصوبة تؤخذ بالقوة أو بالخفية ولا تطيب نفس صاحبها بها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وهو حديث صحيح. وقد روي في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (من اشترى سرقة - شيئاً مسروقاً - وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها) رواه الحاكم والبيهقي وسنده مختلف فيه. ويجب أن يعلم أنه لا فرق بين أن تكون الأموال مسروقة من فرد أو جهة عامة أو خاصة أو غير ذلك، فكله حرام بل إن حرمة المال العام أشد من حرمة المال الخاص.
ثالثاً: لا يجوز شرعاً بيع الأدوية بعد انتهاء صلاحيتها وكذا الأدوية التالفة، لأن في ذلك إضراراً بالناس وإلحاقاً للأذى بهم ويحرم على المسلم أن يلحق الضرر بغيره لما ورد في الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/408. وإذا ثبت أنه قد لحق ضرر بمن استهلك الأدوية المنتهية الصلاحية أو الأدوية التالفة فإن من باعها يكون مسئولاً عن ذلك وينبغي أن يعاقب على فعلته. ومن جهة أخرى فإن بيع الأدوية المنتهية الصلاحية مع علم البائع بذلك يعتبر غشاً وكتماناً لعيب السلعة عن المشتري والغش محرم في الشريعة الإسلامية، فقد ثبت في(13/161)
الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم.
رابعاً: الأدوية التي توزعها وزارة الصحة الفلسطينية مجاناً لبعض المرضى فيحرمون أنفسهم منها ويبيعونها إلى بعض الصيادلة، هذا العمل غير جائز شرعاً لأن المقصد من صرفها مجاناً مساعدة المرضى الفقراء والغالب أن وزارة الصحة الفلسطينية تمنع بيع هذه الأدوية.
خامساً: لا يجوز شرعاً بيع الأدوية التي يتبرع بها للجمعيات الخيرية، طالما أن المتبرعين قدموها كذلك، والجمعية الخيرية التي تسلمتها هي بمثابة وكيل عن المتبرع، فلا يجوز لها أن تبيعها للصيادلة أو غيرهم.
سادساً: قيام الصيدلي بصرف أقل من الكمية المكتوبة في الوصفة الطبية وبدون إعلام المريض لكي يظن المريض أن أسعار الصيدلي مخفضة، هذا نوع من الغش والغش من المحرمات كما سبق، كما أن تنقيص كمية الدواء قد يؤثر على صحة المريض فيؤخر شفاءه وقد يقلل من فاعلية الدواء، وهذا فيه إلحاق الضرر بالمريض وهو محرم شرعاً.
سابعاً: الحلف الكاذب من المحرمات، قال الله تعالى: {إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة آل عمران الآية 77. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقتطع الرجل حق امرئ مسلم بيمينه إلا حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي(13/162)
صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس) رواه البخاري.
ثامناً: لا يجوز للصيدلي أن يبيع الدواء بأقل من السعر المحدد بقصد الإضرار بغيره من الصيادلة وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
تاسعاً: ضوابط الإعلان في وسائل الإعلام عن المستحضرات الطبية والأدوية وغيرها من المنتجات كما يلي:
1. أن يكون الإعلان سالماً وخالياً من المحظورات الشرعية فلا يجوز الإعلان عن السلع والأمور المحرمة كالخمور والمخدرات ونحوها.
2. لا يجوز أن تستعمل في الإعلان وسائل محرمة كظهور النساء العاريات أو يظهر في الإعلان أناس يشربون الخمر ونحو ذلك.
3. أن يكون الإعلان صادقاً في التعبير عن حقيقة السلعة لأننا نلاحظ أن كثيراً من الإعلانات التجارية فيها مبالغة واضحة في وصف السلع وغالباً ما تكون هذه الأوصاف كاذبة وغير حقيقية ويعرف صدق هذا الكلام بالتجربة. إن الإعلان الكاذب عن السلع والذي يظهرها على غير حقيقتها يعتبر تغريراً وغشاً وخداعاً وكل ذلك محرم في شريعتنا الإسلامية ويؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. ويدخل ضمن الغش والخداع أن يُذكر في الإعلان أوصاف للسلعة ولا تكون فيها(13/163)
حقيقة كما ورد في رسالة نقيب الصيادلة أن بعض الصيادلة يعلن عن أدوية نباتية تعالج أكثر من مئة مرض ولا شك أن في ذلك دجلاً وتضليلاً للمستهلك.
4. أن لا يترتب على الإعلان عن السلعة إلحاق الضرر بسلع الناس الآخرين كأن يذم الأصناف المشابهة، لأن هذا من الضرر الممنوع شرعاً.
عاشراً: يحرم على الصيدلي أن يتعامل مع الأدوية المزيفة، لما في ذلك من إلحاق الأذى والضرر بالناس.
وخلاصة الأمر أن الصيادلة وغيرهم من المتعاملين بالأدوية يطلب منهم أن يتقوا الله عز وجل في المرضى ويطلب منهم أن يتذكروا أن مهنتهم فيها أبعاد إنسانية، ولا يصح أن ينظروا فقط إلى الربح المادي، وأن يجعلوا الصدق في المعاملة شعاراً لهم.
- - -
حكم مشروبات الطاقة
يقول السائل: هل مشروبات الطاقة المنتشرة في الأسواق من المشروبات المباحة أم لا؟ أفيدونا.
الجواب: بدأ انتشار مشروبات الطاقة منذ بضع سنوات في الأسواق المحلية وأقبل عليها الناس وخاصة فئة الشباب لما صاحب انتشارها من دعايات جذابة حول تأثيرها الفعال [وقد نجحت أساليب الدعاية الخاصة بمشروبات الطاقة في السيطرة على ذهن المستهلك بشكل ربما لم يسبق له مثيل، خاصة في أوساط المراهقين، الذين يبحثون عن وسائل مختلفة، لإثبات أنفسهم في المجالات المختلفة، مثل القوة الجسدية والنجاح في الامتحانات، وقوة التحمل واليقظة وغير ذلك، مما له علاقة بأحلام المراهقين] عن شبكة الإنترنت.(13/164)
وعن محتويات مشروبات الطاقة تقول د. مريم الجلاهمة: [هذه المنتجات تحتوي على 4 مواد رئيسة، هي الكافيين، السكر، التورين وفيتامينات (ب) . ومعظم هذه المشروبات تحتوي على كميات عالية من الكافيين بما يعادل كوباً كبيراً من القهوة المركزة، ويكفي شرب علبةٍ واحدةٍ من هذه المشروبات لتسبب القلق ومشكلات النوم والتبول الليلي للطفل، كما يمكن أن يؤدي الكافيين إلى الإجهاض خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، حيث إن كوبين كبيرين يومياً من القهوة كافيان لحدوث الضرر. كما أن الكافيين يسبب الأرق، وصعوبة النوم لدى البالغين. إضافة إلى ذلك، فإن محتويات هذه المشروبات من السكر في العلبة الواحدة تعادل 12 ملعقة شاي، وهذه كمية كبيرة جداً تؤدي إلى السمنة. أما المادة الثالثة التي تحتويها هذه المشروبات فهي مادة التورين المستخلصة من عصارة الصفراء من الثيران وهي مادة تستخدم في عمليات حيوية بالجسم لإنتاج الطاقة، إلا أنه ليست هناك معلومات علمية متوافرة بشأن سلامتها، كما تحتوي هذه المشروبات على مجموعات من فيتامينات (ب) وهي فيتامينات يحتاجها الجسم لإنتاج الطاقة، لكن لا توجد مبررات علمية لإضافتها إلى هذه المشروبات، على اعتبار أن تناول غذاء متوازن يفي بحاجة الجسم منها. وفي ذات الإطار، فإن هذه المشروبات لها تأثيرات سلبية على الرياضيين، حيث إن محتوياتها العالية من السكر تؤدي إلى حدوث الجفاف لدى الرياضيين بسبب منع دخول الماء إلى داخل الجسم] عن شبكة الإنترنت.
وقال الدكتور إبراهيم بن محمد الرقيعي -أستاذ الغذاء والتغذية في معهد بحوث الموارد الطبيعية والبيئة بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية-: [إن هذه المشروبات تحتوي على كمية من الطاقة تبلغ 45 سعراً حرارياً، لكل 100مل (120 كيلو سعر لكل علبة 250 مل) ، وعلى نسبة عالية من الكافيين تبلغ 32 ملجم لكل 100 مل مشروب (80 ملجم في علبة سعتها 250 مل) ، واحتمال أن تصيب الإنسان(13/165)
بالجفاف، وأمراض الكلى، وارتفاع ضغط الدم، واضطراب ضربات القلب، والنوبات المرضية، والسكتة الدماغية] عن شبكة الإنترنت.
وقد قامت عدة جهات صحية وعلمية بدراسات حول مشروبات الطاقة وقد أكدت هذه الدراسات على أضرار تناولها وأن لمشروبات الطاقة تأثيرات سلبية ضارة لصحة الإنسان فقد جاء في دراسة للدكتور فهد بن صالح العريفي استشاري الأطفال ورئيس قسم الطوارئ والإسعاف في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض: [مشروبات طاقة المتداولة خاصة بين فئة المراهقين والتي يعتقدون أنها تمدهم بالطاقة لها أضرار لا تحمد عقباها خاصة عند تناولها بشكل متكرر خلال 24 ساعة ومن خلال عملنا في أقسام الطوارئ تأتي حالات كثيرة من الأطفال والمراهقين بأعراض تتعلق بارتفاع مادة الكافيين والتي تزيد عن معدل ما هو موجود في المرطبات والتي تصل إلى 20 ضعفاً في بعض تلك المشروبات، ومن الأعراض الناتجة عن ارتفاع معدل مادة الكافيين في الدم عند هؤلاء الأطفال والمراهقين التي تتمثل في ازدياد دقات القلب تصل إلى 150 في الدقيقة وارتفاع في ضغط الدم وزيادة تدفق الدم للعضلات وتقليل كمية الدم إلى الجلد وهذا ما نلاحظه من شحوب في الوجه في حالات التسمم] عن شبكة الإنترنت.
وتقول الجمعية السعودية لعلوم الغذاء والتغذية: إن التناول المفرط لمادة الكافيين، المتوفرة بنسبة عالية في مشروبات الطاقة، من شأنه أن يثير القلق الحقيقي، لأن للكافيين تأثيرات سلبية، مثل زيادة معدل نبضات القلب، وارتفاع ضغط الدم، والجفاف، وعلى الرغم من عدم وجود معلومات كافية عن تأثير استهلاك هذه المشروبات، على المرأة الحامل، إلا أن العبوات تحمل تنبيهاً ينصح الحامل بعدم تناولها، أو عدم الإكثار منها، تماماً مثلما ينصح الأطباء الحامل بعدم الإكثار من(13/166)
شرب القهوة والشاي، والمشروبات الغازية التي تحتوي على المنبهات.] عن شبكة الإنترنت.
وقال الدكتور عبد العزيز بن محمد العثمان الأستاذ المساعد للتغذية الإكلينيكية في كلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة الملك سعود بالرياض: [والذي لا يعرفه الكثيرون أن تلك المشروبات تسبب القلق بعد فترة من تناولها بسبب الكمية الكبيرة من الكافيين، فبعد فترة من الزمن يستهلك الجسم الكافيين فتقل نسبته في الدم بعد تخلص الجسم منه فيؤدي ذلك إلى حالة من القلق، وتلك حالات مشابهة لتأثير المخدرات، لو تزداد الكمية لأدت بالتأكيد إلى عدم انتظام ضربات القلب، ومشاكل النوم، وبعض الأعراض النفسية "الانسحابية" والصداع، وأكدت الدراسات الطبية بأن هذه المشروبات تساهم في ارتفاع ضغط القلب وزيادة نسبة السكر في الدم والأرق وآلام الصداع والقلق ونزيف الأنف والنوبات المرضية، ومشاكل تسوس الأسنان، وتقليل الاعتماد على النفس كأحد التأثيرات النفسية للمواد المخدرة] عن شبكة الإنترنت.
وأفادت حصيلة دراسة طبية أميركية جديدة بوجود ارتباط بين استهلاك مشروبات الطاقة وارتفاع ضغط الدم أو مخاطر الإصابة بأمراض القلب، حسب ما أورده تقرير لشبكة "إي فلوكس ميديا" العلمية. وأجرى هذه الدراسة فريق بحث طبي بقيادة الدكتور جيمس كالوس، المدير الأول لخدمات رعاية المرضى في مستشفى هنري فورد بمدينة ديترويت، وقدمت نتائجها في فعاليات المؤتمر العلمي السنوي لرابطة طب القلب الأمريكية لهذا العام (2007) ، الذي انعقد مؤخراً بمدينة أورلاندو بولاية فلوريدا ... واكتشف الباحثون أن مستويات ضغط الدم ومعدلات دقات القلب قد ارتفعت في كل القياسات التي أجريت بعد اليوم الأول. وارتفع معدل دقات القلب بزيادة تصل إلى 11% في اليوم السابع. وتشير هذه النتائج تحديداً إلى أنه قد تكون(13/167)
هناك خطورة، عندما يتجاوز تناول هذه المشروبات مقدار علبتين في اليوم الواحد، خاصة في حالة الأشخاص المرضى بأمراض القلب. وينصح الدكتور جيمس كالوس الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع في ضغط الدم ودقات القلب بأن يتجنبوا هذه المشروبات. وأضاف أنه لا ينبغي أن تؤخذ هذه المشروبات مع النشاط البدني أو مع غيرها من المشروبات التي تسبب ارتفاعاً في ضغط الدم.] عن شبكة الإنترنت.
إذا تقرر أن مشروبات الطاقة ضارة بصحة الإنسان كما هو ثابت في كثير من التقارير الطبية والعلمية المنشورة على شبكة الإنترنت، فإنه يجب إخراج مشروبات الطاقة من دائرة المباح، لأننا إذا طبقنا قواعد إباحة الأطعمة والأشربة المقررة شرعاً عليها نحكم بخروجها من دائرة المباح، يقول الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (سورة النساء الآية 29، ويقول تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (سورة البقرة الآية 195، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. وإذا أخرجنا مشروبات الطاقة من دائرة المباح فإنها تكون في دائرة الحرام أو المكروه، ولا أستطيع أن أجزم بالتحريم، لأن التحريم يحتاج إلى نص صحيح صريح أو إلى قياس صحيح، فتبقى مشروبات الطاقة ضمن دائرة الكراهة الشديدة القريبة من الحرام، والمسلم يجتنب ما كان كذلك. وقد صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلا ما لا يريبك) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
وأخيراً فإن على التجار أن يراعوا الحلال والحرام فيما يبيعون للناس وأن يتقوا الله في ذلك وأن يعلموا أنهم مسئولون أمام الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية وأن يجنبوا الناس تناول المحرمات ويبعدوهم عن الشبهات.(13/168)
وخلاصة الأمر أن مشروبات الطاقة ضارة بالصحة ويترتب على شربها أخطار كثيرة على صحة الإنسان وحكمها الشرعي الكراهة الشديدة وينبغي للمسلم أن لا يشربها، وفي المشروبات الحلال ما يغني عنها.
- - -
حكم الامتناع عن تسديد رسوم الخدمات التي تقدمها المجالس البلدية
يقول السائل: في بلدتنا لا يدفع كثير من السكان رسوم الخدمات التي يقدمها المجلس المحلي كجمع النفايات ونحوها، مما أدى إلى تراكم النفايات في الشوارع وصارت تشكل مكرهة صحية، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: إن ما تقوم به البلديات والمجالس المحلية من أعمال خدمية يصب في الصالح العام للسكان، ولا شك أن من واجب جميع سكان البلد أن يتعاونوا فيما يحقق لهم المصالح ويدرأ عنهم المفاسد، وهذا التعاون واجب شرعي لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. ولا شك أن جمع النفايات من الأمور النافعة التي تعود بالمصلحة على جميع الساكنين من حيث النظافة والمحافظة على الصحة العامة، والمحافظة على البيئة، وكل ذلك من المقاصد الشرعية، والإسلام دين النظافة، ويظهر ذلك واضحاً جلياً في كثير من النصوص الشرعية التي تحث على النظافة والطهارة والتطيب وإزالة ما يجب إزالته من الروائح الكريهة، كقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} سورة المدثر الآية 4، وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} سورة البقرة الآية 222. وكقوله تعالى: (لا تقم فيه أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (سورة التوبة الآية108.(13/169)
وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا وبات معه ملك في شعاره) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد، وقال الهيثمي: أرجو أنه حسن الإسناد. وقال العلامة الألباني: إسناده حسن، انظر السلسلة الصحيحة حديث رقم 2539، وحسنه العلامة الألباني أيضاً في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 599. وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (طهروا أفنيتكم فإن اليهود لا تطهر أفنيتها) . صححه العلامة الألباني ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط وقال المناوي: قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني. وأخرجه الترمذي 2/131من طريق خالد بن إلياس ... قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود. قاله العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/418.
وكذلك فإن إزالة النفايات فيه محافظة على البيئة وفيه أيضاً رفع للأذى من طريق المسلمين، وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم، وعن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أماط أذىً من طريق المسلمين، كتبت له حسنة، ومن تُقبلت منه حسنة دخل الجنة) رواه الطبراني والبخاري في الأدب المفرد، وقال العلامة الألباني حديث حسن، انظر صحيح الأدب المفرد ص 221. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي في الطريق إذ وجد غصن شوك، فأخره فشكر الله له فغفر له) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم) رواه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإن من الواجب الشرعي على المسلم أن يدفع ثمناً للخدمات التي تقدمها البلديات والمجالس المحلية، ما دام أن تلك الخدمات تقدم بأجر، ويحرم الامتناع عن دفع تلك الرسوم أو التهرب من دفعها، ويعتبر ذلك من أكل أموال(13/170)
الناس بالباطل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. وكذلك فإن الامتناع من دفع رسوم الخدمات للبلديات والمجالس المحلية يعد من خيانة الأمانة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} سورة النساء الآية 58. ويعتبر ذلك من الإخلال بالعقود والعهود والمواثيق فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية: هل يجوز التحايل للامتناع عن دفع فاتورة الكهرباء أو الماء أو التليفون أو الغاز أو أمثالها؟.فأجابت: [لا يجوز؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، وعدم أداء الأمانة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ] فتاوى اللجنة الدائمة 23/441.
وجاء في فتاوى الإسلام سؤال وجواب 1/5749 حول سؤال يتعلق بتهرب بعض الناس من دفع الالتزامات [لا يجوز لهم ذلك، فالعقد شريعة المتعاقدين، والله جل وعلا أمر بالوفاء بالعقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فهؤلاء الذين يتهربون من دفع(13/171)
شيء تعاقدوا عليه، ويأخذون أشياء لهم، ويمتنعون من دفع أشياء عليهم أخطئوا من وجهين: الأول: عدم الوفاء بالعقود، والثاني: أنهم يأخذون حقوقاً ليست لهم ويتهربون من دفع حقوق عليهم. فالواجب عليهم أن يدفعوا ما يطلب منهم، وإذا كانوا يتحرجون من ذلك، فلا يستفيدوا من الخدمات التي تقدم لغيرهم مقابل دفع هذه الأموال المطلوبة منهم] .
وأخيراً أنبه على بعض الأمور القريبة من السؤال مثل سرقة المياه وسرقة الكهرباء ورمي النفايات في الشوارع وكذلك التعدي على الشوارع بالبناء وغير ذلك، فهذه الأمور كلها محرمة وتضر بمصالح الناس، وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني، السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. وقد اعتبر الفقهاء هذا الحديث من القواعد الفقهية العامة فلا يجوز لأحد أن يتعدى على حقوق الآخرين، ومن ضمن ذلك ما يتعلق بالطرق والشوارع، فمن المعلوم أن الطريق من الحقوق العامة التي ينتفع بها الناس كافة فلا يجوز لأحد أن يؤذي غيره فيها. فاستعمال الطرق والشوارع له أحكام شرعية متعلقة به وليس للإنسان مطلق الحرية أن يتصرف في الشوارع حسبما يريد وكيفما يريد، جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى وردّ السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر) رواه البخاري. وفي رواية أخرى، قال صلى الله عليه وسلم (إذ أبيتم إلا الجلوس في الطريق فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غض البصر، ورد السلام، وإماطة الأذى عن الطريق)(13/172)
وخلاصة الأمر أنه يحرم الامتناع عن دفع رسوم جمع النفايات للبلديات والمجالس المحلية وفي ذلك مفاسد من جهات عديدة بينتها، والأعمال الخدمية التي تقوم بها البلديات والمجالس المحلية تعتبر من المصالح العامة للسكان والتعاون في ذلك من الواجبات الشرعية.
- - -
توزيع الأموال على الأولاد قبل الوفاة
يقول السائل: إنه يريد أن يوزع تركته على أولاده قبل وفاته خشية أن يختلفوا بعد مماته، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن التركة لا تكون تركة إلا بعد وفاة المورث، فقد عرَّف جمهور الفقهاء التّركة بأنها كلّ ما يخلّفه الميّت من الأموال والحقوق الثّابتة مطلقاً. الموسوعة الفقهية الكويتية 11/206. وتنتقل ملكيّة التّركة جبراً إلى الورثة ولا يكون ذلك إلا بعد تحقق موت المورّث، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ انتقال التّركة من المورّث إلى الوارث يكون بعد وفاة المورّث حقيقةً أو حكماً أو تقديراً. الموسوعة الفقهية الكويتية 11/210. إذا تقرر هذا فإن توزيع الشخص لأمواله على أولاده لا يكون من باب الميراث وإنما يكون من باب الهبة، وحتى يصح هذا التصرف شرعاً لا بد أن تتحقق الشروط الآتية:
أولاً: لا بد أن يكون صاحب المال في كامل قواه العقلية والصحية، فإذا حصل هذا التصرف في مرض موته، فلا يصح، لأنه حينئذ يُعد بمثابة الوصية، ومن المقرر شرعاً أنه لا وصية لوارث إلا إذا أجازها بقية الورثة، لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. ومرض الموت هو: المرض المخوف الّذي(13/173)
يتّصل بالموت، ولو لم يكن الموت بسببه، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. وذهب الحنفيّة إلى أنّ مرض الموت: هو الّذي يغلب فيه خوف الموت، ويعجز معه المريض عن رؤية مصالحه خارجاً عن داره إن كان من الذكور، وعن رؤية مصالحه داخل داره إن كان من الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة. الموسوعة الفقهية الكويتية 37/5. قال ابن المنذر: [أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن حكم الهبات في المرض الذي يموت فيه الواهب: حكم الوصايا] المغني 6/61. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم الوصية في خمسة أشياء: أحدها أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث وإجازة الورثة، الثاني: أنها لا تصح لوارث إلا بإجازة بقية الورثة، الثالث: أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة في الصحة ... الرابع: أنه يزاحم بها الوصية في الثلث، الخامس: أن خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده.] المغني 6/193. ثانياً: أن يقبض الموهوب له الهبة حال حياة الواهب، أي أن يحوزها الحيازة الشرعية بحيث يصير مالكاً لها وحر التصرف فيها، لأن من شروط صحة الهبة عند جمهور الفقهاء القبض، ويدل على ذلك ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالعالية، فلما مرض قال: يا بنية: كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ولو كنت جذذته أو قبضته كان ذلك، فإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله تعالى) . رواه مالك في الموطأ ورواه البيهقي كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 3/72-73.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مستدلاً لهذا الشرط: [ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف ... -ثم ذكر خبر عائشة رضي الله عنها السابق– ثم قال: وروى ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أن عمر بن الخطاب(13/174)
قال: ما بال أقوام ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدي وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدي؟ لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، فإن مات ورثه وروى عثمان أن الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغاراً قال المروذي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة] المغني 6/41-42. وبهذا يتبين لنا أن ما يفعله بعض الناس من توزيع أموالهم وقسمتها على أولادهم، ثم لا يمكنونهم من التصرف فيها حال حياتهم، أي لا يقبضونها، فهذه القسمة غير ملزمة لأنها غير صحيحة ولا تعتبر هبة بل وصية للوارث وهي لا تصح لما ذكرته سابقاً. ثالثاً: لا بد من العدل بين الأولاد في الهبة والعطية، فالعدل بين الأولاد مطلوبٌ سواء أكان في الأمور المادية أو المعنوية، وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد على إعطاء أحد الصحابة لأحد أولاده عطية دون الآخرين كما جاء في الحديث عن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي أعطيةً فقالت عمرة بنت رواحة – أم النعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال فرجع فردَّ عطيته) رواه البخاري، وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. ويدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً(13/175)
لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِر) رواه مسلم.
ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء يرون أن الذكر والأنثى سواءٌ في الهبات والأعطيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (فسووا بينهم) وفي روايةٍ أخرى (أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء) والبنت كالابن في وجوب برها لأبيها. ويرى الحنابلة ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة واسحاق وبعض الشافعية وبعض المالكية أن على الأب أن يقسم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الله سبحانه وتعالى قسم بينهم ذلك. وورد أن شريحاً القاضي قال لرجل قسَّم ماله بين أولاده (ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه) . ويرون أن الأب إذا لم يعدل في الهبة لأولاده فهو آثم وتصرفه باطل شرعاً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ ... يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية، وإذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها أثم ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر، قال طاوس: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد وعروة وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء ... ] ثم استدل الشيخ ابن قدامة المقدسي لهذا القول [ولنا ما روى النعمان بن بشير قال: (تصدق عليَّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقته فقال: أكلَّ ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة) وفي لفظ قال: (فاردده) وفي لفظ قال: (فأرجعه) وفي لفظ: (لا تشهدني على جور) وفي(13/176)
لفظ: (فأشهد على هذا غيري) وفي لفظ: (سوِ بينهم) وهو حديث صحيح متفق عليه، وهو دليل على التحريم لأنه سماه جورا ً، وأمر برده وامتنع من الشهادة عليه والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها ... ] المغني 6/51-52. وقال الإمام القرطبي مرجحاً القول بالرد: [فإن قيل: الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقاً، قيل له: الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص. وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محرم، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . قال النعمان: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله: (فأرجعه) محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ، كما قال عليه السلام (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود مفسوخ. وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في المنع] تفسير القرطبي 6/214.
ولا بد من تذكير الآباء أنه ينبغي عند توزيع أموالهم على أولادهم أن يكون ذلك التوزيع في بعض الأموال، وليس في كلها حتى لا يحرم الأب نفسه من ماله، وخاصة إذا امتد به العمر، فيصبح عالة يتكفف الناس، وكذلك إذا وجد ورثة آخرون كما يحصل أن يتزوج زوجة أخرى وقد يرزقه الله عز وجل أولاداً آخرين، فيحرمون من أمواله، وهذا ليس عدلاً ولا إنصافاً. وهنا يأتي قول بعض أهل العلم إن الأفضل أن لا يوزع الوالد أمواله على أولاده حال حياته، بل يتركها لتوزع بعد موته توزيع الميراث الشرعي، وهذا الأمر له حسنات كثيرة. [قال – الإمام - أحمد: أحب أن لا يقسم ماله، ويدعه على فرائض الله تعالى لعله أن يولد له فإن أعطى ولده ماله، ثم ولد له ولد فأعجب إليَّ أن يرجع فيسوي بينهم، يعني يرجع في الجميع أو يرجع في بعض(13/177)
ما أعطى كل واحد منهم ليدفعوه إلى هذا الولد الحادث،، ليساوي إخوته] المغني 6/61.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للوالد أن يوزع أمواله على أولاده حال حياته وأن ذلك لا يعتبر ميراثاً، لأن من شرط الميراث موت المورث، ويعد ذلك من الهبة، ولكن لا بد من تحقق الشروط التي ذكرتها.
- - -
حكم رجوع الوالد فيما وهبه لولده
يقول السائل: أعطاني والدي قطعة أرض فبنيت عليها بيتاً، وبنيت حوله سوراً، ووصلته بشبكة الكهرباء والماء والهاتف، وكلفني ذلك مبلغاً كبيراً من المال، وسكنته مع عائلتي، والآن وبعد مضي سنوات وبضغوط من إخوتي يطالبني والدي باسترجاع قطعة الأرض، حيث إن والدي لم يعطهم مثلما أعطاني، فهل يجوز لوالدي أن يسترجع قطعة الأرض مني، أفيدونا؟
الجواب: صح في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) رواه البخاري. وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاء بعض الأولاد شيئاً دون الآخرين من الجور، فقد ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: إنحل - أي أعط - ابني غلاماً وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (له إخوة؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته. قال: لا. فقال له عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم. وفي روايةٍ أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشهدني على جور إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم) رواه أبو(13/178)
داود. وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان: (لا تشهدني على جورٍ، أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. ومما يدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي، وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النِِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) رواه مسلم. وبناءً على هذه النصوص قرر العلماء أن الأصل في هبة الوالد لأولاده العدل ولا ينبغي له أن يفاضل بينهم إلا لموجب شرعي. والوالدة كالوالد في المنع من المفاضلة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، ولأنها أحد الوالدين، فمنعت التفضيل كالأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والعداوة يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها،، فثبت لها مثل حكمه في ذلك.] المغني 6/54-55.
وقرر جمهور أهل العلم أنه لا يجوز للواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهبه لولده، لورود الأدلة المخصصة للوالد من هذا الحكم، وهو حرمة الرجوع في الهبة كما سأذكر لاحقاً، ويدل على حرمة رجوع الواهب في هبته أحاديث منها: عن قتادة قال: سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه) رواه البخاري. وعن ابن عباس(13/179)
رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب، يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله) رواه مسلم. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على تحريم الرجوع في الهبة، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته] ثم ذكر حديثي ابن عباس، الأول والثاني، انظر فتح الباري 6/162 - 163. وقال الإمام النووي: [باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده، وإن سفل] شرح صحيح مسلم 4/236. وينبغي للواهب أن يعلم أن العائد في هبته قد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلب الذي يقيء، ثم يعود فيأكل منه، وهذا مثل سوءٍ، فلا ينبغي للمسلم أن يتمثل بالكلب، وقد جاء في الحديث أنه ينبغي تعريف الواهب الذي يريد الرجوع في هبته بهذا المثل حتى يرتدع فلا يعود في هبته، فقد روى أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب، يقيء فيأكل قيئه، فإذا استرد الواهب فليتوقف فليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب) رواه ابن ماجة، وقال العلامة الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 2/676. وأما استثناء الوالد من الحكم السابق، فيجوز للوالد الرجوع فيما وهبه لولده، كما هو مذهب جمهور الفقهاء، فلما صح في الحديث عن طاووس، عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للرجل أن يعطي عطية أو يهب هبةً فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب، يأكل فإذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه) رواه أصحاب السنن وأحمد، وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه ابن حبان والحاكم وصححاه، وصححه العلامة الألباني أيضاً. ويؤيد ذلك أيضاً ما ورد في إحدى روايات حديث النعمان بن بشير أنه قال: إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني نحلت ابني هذا(13/180)
غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا، فقال: لا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير: (فاردده) . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وحجة الجمهور في استثناء الأب أن الولد وماله لأبيه فليس في الحقيقة رجوعاً وعلى تقدير كونه رجوعاً فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك] فتح الباري 6/143. وقد ألحق أكثر الفقهاء الأم بالأب في جواز الرجوع في الهبة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فصل: وظاهر كلام الخرقي أن الأم كالأب في الرجوع في الهبة لأن قوله وإذا فاضل بين أولاده يتناول كل والد ثم قال في سياقه: أمر برده فيدخل فيه الأم وهذا مذهب الشافعي لأنها داخلة في قوله (إلا الوالد فيما يعطي ولده) ، ولأنها لما دخلت في قول النبي صلى الله عليه وسلم (سووا بين أولادكم) ينبغي أن يتمكن من التسوية والرجوع في الهبة، طريق في التسوية وربما تعين طريقاً فيها إذا لم يمكن إعطاء الآخر مثل عطية الأول، ولأنها لما دخلت في المعنى في حديث بشير بن سعد، فينبغي أن تدخل في جميع مدلوله لقوله (فاردده) ، وقوله (فأرجعه) ، ولأنها لما ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها ينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضله به تخليصاً لها من الإثم وإزالة للتفضيل المحرم كالأب، والمنصوص عن أحمد أنه ليس لها الرجوع، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله الرجوع للمرأة فيما أعطته ولدها كالرجل؟ قال ليس هي عندي في هذا كالرجل لأن للأب أن يأخذ من مال ولده والأم لا تأخذ وذكر حديث عائشة: (أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) أي كأنه الرجل، قال أصحابنا: والحديث حجة لنا، فإنه خص الوالد وهو بإطلاقه إنما يتناول الأب دون الأم، والفرق بينهما أن للأب ولاية على ولده ويحوز جميع المال في الميراث والأم بخلافه، وقال مالك للأم الرجوع في هبة ولدها ما كان أبوه حياً فإن كان ميتاً فلا رجوع لها،(13/181)
لأنها هبة ليتيم، وهبة اليتيم لازمة كصدقة التطوع، ومن مذهبه أنه لا يرجع في صدقة التطوع] المغني 6/55-56. إذا تقرر هذا فإن جمهور الفقهاء الذين أجازوا للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده اشترطوا شروطاً حتى يصح رجوعه فيما وهبه لولده، الأول: أن تكون الهبة باقية في ملك الابن فإن خرجت عن ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو إرث ونحوه من كل ما يخرج الشيء الموهوب عن ملك الموهوب له، فمثل هذا الخروج يمنع الوالد من الرجوع في الهبة.
الثاني: عدم تعلق حق الغير بالموهوب كأن يداين الناس الموهوب له نظراً لملاءة ذمته لما وهب له، وذلك إعمالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وغيرهم وهو حديث صحيح.
الثالث: عدم هلاك الموهوب أو استهلاكه لأنه لا سبيل إلى الرجوع في الهالك ولا سبيل إلى الرجوع في قيمته، لأنها ليست بموهوبة لعدم ورود العقد عليها، وقبض الهبة غير مضمون. الرابع: أن لا تزيد زيادة متصلة كأن يكون الموهوب أرضاً فيبني عليها. انظر المغني 6/56-58.
وخلاصة الأمر أن المطلوب من الوالد والوالدة أن يعدلا في الهبة لأولادهما، وأنه يجوز للوالد وكذا للوالدة الرجوع فيما وهبا لولدهما، ولكن بشروط ومنها أن لا يحدث الولد في الموهوب زيادة متصلة كما في السؤال، فلا يجوز للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده ما دام أن الولد قد أحدث تغييراً في الأرض بالبناء عليها حيث بنى الولد عليها بيتاً، وبنى حوله سوراً، ووصله بشبكة الكهرباء والماء والهاتف، وكلفه ذلك مبلغاً كبيراً من المال.
- - -(13/182)
نقض حكم المحكمين
يقول السائل: كنت شريكاً مع أحد الأشخاص في شركة تجارية ثم حصل نزاع بيننا على مبلغ كبير من المال، فاتفقنا على اللجوء إلى التحكيم، فاختار كل واحدٍ منا محكماً، وقدمنا حججنا مكتوبة للمحكمين، ولكن المحكمين لم يستمعا لنا، ولم يقبل المحكان أن أطلع على حجة خصمي، ولم يقبلا أن أطلع على كشف الحساب الذي قدمه خصمي، ثم أصدرا الحكم وألزماني بتنفيذه، مع أن الحكم جائر في حقي، فهل يجوز نقض حكم المحكمين، أفيدونا؟
الجواب: التحكيم بين الناس في الخصومات مشروع بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وثابت عن الصحابة والتابعين. فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} سورة النساء الآية 35، وهذه الآية نص صريح في إثبات التحكيم كما قال الإمام القرطبي في تفسيرها، تفسير القرطبي 5/179. ومن السنة النبوية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة تحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة، وقد رضي الرسول صلى الله عليه وسلم بسعدٍ رضي الله عنه حكماً. وقد وقعت حوادث كثيرة في زمن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكّمون فيها بين المتخاصمين. إذا تقرر هذا فإن جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم والحنابلة وهو قول الظاهرية، ونقل عن جماعة من السلف يرون أن حكم المحكّم أو المحكّمين لازم للمتخاصمين، ولا يصح شرعاً رفض حكم المحكّم أو المحكّمين من قبل أحد المتخاصمي، ويدل على هذا أن المتخاصمين ما داما قد قبلا بالتحكيم ورضيا بالمحكّم أو المحكّمين فلا بد لهما من قبول الحكم الذي يصدر عن المحكّم أو المحكمين. ولولا أن حكم المحكّم لازم للمتخاصمين لما كان للترافع إليه أي معنىً، قياساً على الحاكم المولّى من ولي الأمر. انظر عقد التحكيم في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي(13/183)
ص 147- 149، الموسوعة الفقهية الكويتية 10/244. وهذا ما قررته مجلة الأحكام العدلية فقد جاء في المادة 1448 ما يلي: [كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم كذلك حكم المحكّمين لازم الإجراء، على الوجه المذكور في حق من حكّمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحدٍ من الطرفين الامتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة] . وكلام العلماء هذا وارد في المحكم صاحب الأهلية والكفاءة للحكم والنظر، وهو من كان أهلاً لتولي القضاء، وعلى ذلك اتفاق المذاهب الأربعة، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 10/237. وكذلك فإن حكم المحكم يكون لازماً ومقبولاً إذا كان موافقاً للأصول الشرعية، كما ورد في مجلة الأحكام العدلية: [ ... فلذلك ليس لأي واحدٍ من الطرفين الامتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة] ، ومما يؤسف له أنه قد دخل في التحكيم الشرعي من ليس أهلاً له من بعض المتسلقين الجهلة الذين لا يعرفون ألف باء التحكيم الشرعي، وخاصة في القضايا المالية، وكذلك فإن هؤلاء اتخذوا التحكيم الشرعي مصدراً للتكسب فتراهم يفرضون على المتحاكمين مبالغ مالية كبيرة، وبعضهم يتقاضى نسبة مئوية من المبلغ محل الخصومة والنزاع، فكانت أجورهم بالآلاف. وقد صدرت عن هؤلاء أحكام كأحكام قراقوش، فيها من الجور والظلم ما الله به عليم.
وبناءً على ما سبق فإن الفقهاء قد نصوا على أنه يمكن نقض حكم المحكم أو حكم المحكمين إذا كان مخالفاً للشرع كأن يصدر الحكم عن محكم جاهل، بل قال جماعة من الفقهاء تنقض كل أحكامه حتى لو أصاب في بعضها وإلى هذا ذهب الشافعية وهو المذهب عند الحنابلة وقول للمالكية إلى أن أحكامه -أي المحكم الجاهل- كلها تنقض وإن أصاب فيها، لأنها صدرت ممن لا ينفذ حكمه، وذهب بعض المالكية(13/184)
وبعض الحنابلة إلى أنه تنقض أحكامه المخالفة للصواب كلها، سواء أكانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أم لا يسوغ، لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كعدمه، لأن شرط القضاء غير متوفر فيه، ولكن القول المعتبر هو ما اختاره صاحب الإنصاف الشيخ المرداوي الحنبلي ومعه جماعة من فقهاء الحنابلة بأنه لا ينقض من أحكامه إلا ما خالف كتاباً أو سنةً أو إجماعاً، وأن هذا عليه عمل الناس من زمن ولا يسع الناس غيره. انظر الإنصاف للمرداوي 11/225- 226، الموسوعة الفقهية الكويتية 41/162- 163.
وقرر جمهور الفقهاء أن الحكم إذا كان جائراً فإنه ينقض، بل إن فقهاء الحنفية قد نصوا على أنه إن كان القاضي تعمد الجور فيما قضى وأقر به فالضمان في ماله، سواء كان ذلك في حق الله أو في حق العبد، ويعزر القاضي على ذلك لارتكابه الجريمة العظيمة، ويعزل عن القضاء ونص أبو يوسف على أنه إذا غلب جوره ورشوته ردت قضاياه وشهادته. حاشية ابن عابدين 5/418.
وكذلك فإن عدم إتباع الإجراءات القضائية بشكل صحيح يعتبر سبباً في نقض حكم المحكم أو حكم المحكمين، فإذا لم يستمع المحكم أو المحكمون لأحد الخصوم أو لم يمكنوه من الاضطلاع على حجة خصمه أو لم يمكنوه من الرد عليها والدفاع عن نفسه، أو قصر المحكم في الكشف عن الشهود وبيان حالهم حتى لا يكونوا شهود زورٍ، فإن هذه تعتبر أسباباً كافية لنقض الحكم الصادر عن المحكم أو المحكمين، قال صاحب درر الحكام شرح مجلة الأحكام عند شرحه المادة (1849) : (إذا عرض حكم المحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان فإذا كان موافقاً للأصول صدَّقه وإلا نقضه) إذا عرض حكم المحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان أو على محكمٍ ثانٍ ليدقق الحكم مرةً ثانيةً فإذا كان موافقاً للأصول صدَّقه لأنه لا فائدة من نقض الحكم الموافق للأصول والحكم ثانية بذلك. وفائدة تصديق حكم المحكم من قبل(13/185)
القاضي هو: أنه لو عرض هذا الحكم على قاضٍ آخر يخالف رأيه واجتهاده رأي المحكم فليس له نقضه، لأن إمضاء وقبول القاضي لحكم المحكم هو بمنزلة الحكم ابتداءً من القاضي؛ أما إذا لم يصدق القاضي على حكم المحكم فيكون من الممكن للقاضي الآخر أن ينقض حكم المحكم – نقلاً عن الزيلعي في تبيين الحقائق - فإذا حكم المحكم حكماً غير موافق للأصول ينقضه القاضي والمحكم الثاني. وعدم موافقة حكم المحكم للأصول يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكون حكم المحكم خطأً لا يوافق أي مذهب من المذاهب؛ وبتعبير آخر أن يكون حكم المحكم غير موافق لمذهب المجتهد الذي يقلده القاضي ولا يوافق رأي أي مجتهد من المجتهدين والعلماء. وبما أن الحكم الذي يكون على هذه الصورة ظلمٌ واجبٌ رفعه فيرفع هذا الحكم وينقض، ويحكم القاضي في القضية على وجه الحق ... ] درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4/702. وكذلك فإن من أسباب نقض حكم المحكم أو المحكمين التهمة، فإنها تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض، فإذا كان المحكم قريباً لأحد الخصوم فهذه تهمة تعرض حكمه للنقض، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [اختلف الفقهاء فيما إذا حكم القاضي لنفسه أو لأحد أبويه أو ولده أو زوجته أو من لا تقبل شهادته له، ولهم في ذلك رأيان: الرأي الأول يرى الحنفية والحنابلة والمختار عند المالكية والشافعية على الصحيح نقض الحكم لكونه باطلاً لمكان التهمة، بخلاف ما إذا حكم عليهم فينفذ حكمه لانتفاء التهمة. وزاد الحنفية والشافعية أنه لا ينفذ حكمه لنفسه أو شريكه في المشترك.
الرأي الثاني يرى المالكية في مقابل المختار والشافعية في مقابل الصحيح أنه ينفذ حكمه لهم بالبينة، لأن القاضي أسير البينة، فلا تظهر منه تهمة. وأضاف المالكية أنه إن كان مبنى الحكم هو اعتراف المدعى عليه يجوز الحكم عليه لابنه أو غيره ممن ذكر، أما إذا كان الحكم يحتاج إلى بينة فلا يجوز الحكم لهم لأنه يتهم(13/186)
بالتساهل فيها. وينقض الحكم إذا أثبت المحكوم عليه ما ادَّعاه من وجود عداوة بينه وبين القاضي، أو بينه وبين ابنه أو أحد والديه، وهو ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والحنابلة والمشهور في المذهب عند الشافعية. وجوز الماوردي الحكم في هذه المسألة بقوله: إن أسباب الحكم ظاهرة بخلاف شهادته على عدوه.] الموسوعة الفقهية الكويتية 41/164-167. وأخيراً أنبه من يلجأ للتحكيم أن يختار محكمين من أهل الخبرة والمعرفة، فليس كل شيخٍ أو إمام مسجد أو حامل شهادة في الشريعة أو القانون، يكون أهلاً للتحكيم، وكذلك فإني أنصح بالبعد عن المتكسبين من التحكيم لأن الغالب على هؤلاء الجشع والطمع وقد تشترى أحكامهم بالمال.
وخلاصة الأمر أن التحكيم مشروع في الخصومات وأن الأصل الذي قرره فقهاؤنا هو أن الحكم الذي يصدره المحكم لازم للخصوم وواجب التنفيذ، مادام المحكم أهلاً للتحكيم، وما دام الحكم غير مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وصدر الحكم بعد استكمال جميع الإجراءات اللازمة لإصداره من استماع حجج الخصوم وطعونهم فيها ونحو ذلك.
- - -(13/187)
المرأة والأسرة والمجتمع(13/188)
الزواج قسمة ونصيب
يقول السائل: تقدمت لخطبة فتاة وتمنَّعَ أهلُها في الموافقة على الزواج، وبعد مدة وافقوا على زواجي منها، ولكنني تراجعت عن فكرة الزواج منها ثم تزوجت الفتاة من شخص آخر، ولما علمت بزواجها ندمت ندماً شديداً، فهل ما حصل معي أمر مقدر حتمي وأنه ليس لي نصيب في تلك الفتاة، أفيدونا؟
الجواب: لاشك ولا ريب أنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما قدَّره الله وسبق في علمه سبحانه وتعالى، ومن ضمن ذلك زواج فلان بفلانة، فهذا من القدر، وما يقوله العامة: الزواج قسمة ونصيب، صحيح شرعاً، ويستند إلى الإيمان بالقدر، وهو ركن من أركان الإيمان، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المرضية عند أهل السنة والجماعة: [ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم ... فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً، لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ... وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه ... وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ... وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} سورة الفرقان الآية 2، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} سورة الأحزاب الآية 28] شرح العقيدة الطحاوية ص 292-304. وصح في حديث جبريل المشهور لما سأل النبيَ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.(13/189)
وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: يا عمر أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرائيل، أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم. وقال الإمام الترمذي: [باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلمَ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/227.
ومما يدل على أن كل شيء يحصل للإنسان مقدرٌ وسابقٌ في علم الله عز وجل بما في ذلك الزواج، قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} سورة الحديد الآية 22. وقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (سورة يونس 61. وقوله تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (سورة الأنعام الآية 59. وقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (سورة يس الآية 12. وقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (سورة الحج الآية70. وقوله تعالى: (قُل لَن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا (سورة التوبة الآية 51. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) ، قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له، وقوله: (وعرشه على الماء) أي قبل خلق السماوات والأرض] شرح النووي على صحيح مسلم 6/155. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) . رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قال القاضي ... ويحتمل أن العجز هنا على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتسويف به وتأخيره عن وقته، قال: ويحتمل العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور. ومعناه أن العاجز قد قدِّر عجزُه، والكَيِّس قد قدِّر كَيسُه.] شرح النووي على صحيح مسلم 6/156. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله(13/190)
القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) رواه أبو داود والترمذي وصححه العلامة الألباني في تخريجه لأحاديث العقيدة الطحاوية ص294. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيد) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من النصوص.
إذا تقرر هذا فإن زواج فلان وفلانة مقدر ومكتوب وسابق في علم الله عز وجل، وهنا لا بد من توضيح عدة أمور: أولها: إن المسلم لا يعلم ما قدره الله عز وجل إلا بعد وقوعه، فالقدر من الأمور الغيبية، والمسلم مأمور أن يأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا ينافي القدر، بل هو من قدر الله عز وجل، فإذا أراد شخص الزواج من فتاة فالمطلوب أن يسعى في ذلك، فسعيه للزواج من تلك الفتاة قدر من الله عز وجل، فإذا تم زواجه منها فهو قدر من الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ، لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادعوا لي الأنصار فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر، في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر(13/191)
الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا سمعتم به – أي الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف) رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: قرر العلماء أن القدر قدران: أحدهما: القدر المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما في أم الكتاب - اللوح المحفوظ - فهذا ثابت لا يتغير، ولا يتبدل. وثانيهما: القدر المعلق، أو المقيد: وهو ما في كتب الملائكة، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات، فالآجال والأرزاق والأعمار، وغيرها مثبتة في أم الكتاب لا تتغير، ولا تتبدل، أما ما في صحف الملائكة فيقع فيه المحو والإثبات، والزيادة والنقص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد) وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) . فإن الله أمر الملَك أن يكتب له أجلاً وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا. والملَك لا يعلم أيزداد أم لا؟ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/517. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موطن آخر عندما سئل عن الرزق: هل يزيد وينقص؟ [الرزق نوعان: أحدهما ما علمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يتغير. والثاني: ما كتبه، وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب] مجموع فتاوى 8/517. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: [كأن يقال للملَك - مثلاً - إنَّ عُمُرَ فلان مائة عامٍ -مثلاً- إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع. فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر. والذي في علم الملَك هو الذي يمكن(13/192)
فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} سورة الرعد الآية 39. فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملَك. وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه ألبتة، ويُقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلَّق. فتح الباري 10/430] عن موقع الإسلام اليوم.
وخلاصة الأمر أن زواج شخص ما من امرأة ما، أمر مقدر ولا مفر منه، وقد سبق في علم الله عز وجل، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ولكن الإنسان لا يعلم ما كتب له، وهو مطالب بالأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب من قدر الله عز وجل، وإذا تقدم شخص لخطبة فتاة ثم لم يتزوجها وتزوجت غيره، فهذا يدلنا على أن الله لم يقدر زواجهما، ونحن ما علمنا بقدر الله عز وجل إلا بعد وقوعه.
- - -
وجوب تغطية المرأة المسلمة
يقول السائل: ما قولكم فيمن يزعم أن تغطية المرأة المسلمة لرأسها ليس عليه دليل صحيح، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن الإسلام يتعرض لهجمة شرسة من أعدائه ومن بعض أبنائه المنفلتين من الأحكام الشرعية، والمضبوعين بالثقافة الغربية، وما ذكره السائل مثال واضح على ذلك، حتى قال قائلهم: [غطاء رأس المرأة أو شعرها حكم ذكوري وليس قرآنياً] www.ahlalquran.com.
ولا شك أن هذا الكلام من المفتريات على دين الإسلام عامة، وعلى القرآن الكريم خاصة، حيث اتفق أهل العلم قديماً وحديثاً على وجوب تغطية المرأة لرأسها، وهذه المسألة لا خلاف فيها بين علماء المسلمين، وإنما جاءت هذه الدعوات المنكرة من بعض المنحرفين عن دين الإسلام كالقرآنيين منكري السنة النبوية الذين زعموا أن هذا الحكم لا نص عليه في كتاب الله عز وجل فقال أحدهم: [إن المدقق في النص(13/193)
القرآني كله لا يجد ذكر كلمة الرأس أو الشعر مستخدمة في النصوص المتعلقة بلباس المرأة، مما يؤكد ابتداءً انتفاء الدلالة القطعية على وجوب تغطية الرأس أو الشعر، وإن عملية الاجتهاد في مسألة إخراج حكم وجوب تغطية الرأس أو الشعر من القرآن إنما هي نتيجة ظنية أو وهمية!! ... أما السنة فهي طريقة عملية مرتبطة بالشعائر التعبدية ليس وظيفتها التشريع أبداً ... أما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ (الأحزاب 59، فهو ليس نصاً تشريعياً، وإنما هو خطاب على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم بتوجيه وتعليم المرأة أن تقوم باختيار لباس يحقق لها الحماية من الأذى الاجتماعي، لأن شكل اللباس يدل على الثقافة ويكون رسالة للتخاطب بين المرأة والرجال، إما خطاب ثقافي أو جنسي، وعلى المرأة أن تختار طريقة تواصلها مع الرجال، وفي حال مخالفة المرأة لهذا التوجيه فعقوبتها ما يصيبها من الأذى أثناء نشاطها الاجتماعي. والنص لا يوجد فيه دلالة على غطاء الرأس أبداً] المصدر السابق عن الإنترنت. وهذا الهراء يدل على جهل واضح بدلالات آيات الكتاب الكريم، ويشير إلى إنكار حجية السنة النبوية، وهو كلام متهافت ساقط ويدل على تهافته وسقوطه قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (سورة الأحزاب الآية 59، فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الجلباب يغطي الرأس كما نقله الطبري في تفسيره عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، ونقله ابن كثير عن ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد. قال ابن كثير: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو عبد الله الظهراني فيما كتب إلي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها] تفسير ابن كثير 5/231، والحديث رواه البخاري أيضاً
ويدل على إبطال دعواهم الزائفة قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وليضربن بخمرهن على جيوبهن (سورة النور الآية31. وقد ورد في المعاجم اللغوية أن الخمار: كل ما ستر، ومنه خمار المرأة، وهو ثوب تغطي به رأسها، وقال القرطبي: [الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطى به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت] تفسير القرطبي 12/230.
وقال ابن كثير في تفسير الخمر: [والخمر: جمع خمار، وهو ما يخمر به، أي: يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع.(13/194)
قال سعيد بن جبير: (وَلْيضْربْنَ (: وليشددن، (بخمرهن على جيوبهن (يعني: على النحر والصدر، فلا يرى منه شيء.
وقال البخاري: وقال أحمد بن شبيب: حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْربْنَ بِخُمُرَهنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ} شققن مروطهن فاختمرن به، وقال أيضاً: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة؛ أن عائشة، رضي الله عنها، كانت تقول: لما نزلت هذه الآية: {وَلْيَضْربْنَ بِخُمُرَهنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ} : أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثني الزنجي بن خالد، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة، قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً وإني - والله - وما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْربْنَ بِخُمُرَهنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ} ، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به، تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان.] تفسير ابن كثير 5/539.
ومن الأدلة التي تبطل الرأي السابق ما أخرجه أبو داود والبيهقي وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب شامية رقاق فأعرض عنها ثم قال: ما هذا يا أسماء؟ إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى(13/195)
وجهه وكفيه. قال أبو داود هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة. وقال البيهقي: مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة رضي الله عنهم في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة فصار القول بذلك قوياً وبالله التوفيق. وصححه العلامة الألباني في صحيح أبي داود حديث رقم 3458.
ويدل على وجوب تغطية المرأة لرأسها ما ذكره العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة الحديث رقم 2930 قال: [ما أخرجه الطحاوي في شرح المعاني والطبراني في المعجم الكبير والزيادة له، عن عقبة بن عامر الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة، فأتى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال هذه؟ قالوا: نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة! فقال: فذكره. وإسناده صحيح. وتابعه الحسن عن عقبة أنه قال: يا رسول الله! إن أختي نذرت أن تحج ماشية وتنشر شعرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لغني عن نذر أختك، مروها فلتركب ولتهد هدياً، وأحسبه قال: وتغطي شعرها. أخرجه الروياني في مسنده ورجاله ثقات. وتابعه ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر به نحوه، وقال: ولتهد هدياً. مكان الزيادة. أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح. وتابعه أبو عبد الرحمن الحبلى عن عقبة بن عامر به، إلا أنه قال: ولتصم ثلاثة أيام. مكان الزيادة. أخرجه الطحاوي أيضا وإسناده جيد. ورواه الشيخان وغيرهما من طريق أخرى: عن أبي الخير عن عقبة به مختصراً جداً بلفظ: لتمش ولتركب. وفي الحديث فوائد هامة منها: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. وفيه أحاديث كثيرة صحيحة معروفة. ومنها أن إحرام المرأة في وجهها، فلا يجوز لها أن تضرب بخمارها عليه، وإنما على الرأس والصدر، فهو كحديث: لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين. أخرجه الشيخان. ومنها: أن الخمار إذا أطلق، فهو غطاء الرأس وأنه لا يدخل في مسماه تغطية الوجه، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة(13/196)
وآثار السلف. خلافا لبعض العلماء النجديين الذين ادعوا أن الخمار غطاء الوجه أيضاً. انظر جلباب المرأة المسلمة.] وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى (وتغطي شعرها) ، دليل على وجوب تغطية المرأة لشعرها لأن كشف المرأة لشعر رأسها حرام باتفاق جماهير أهل العلم، فشعر المرأة عورة كسائر جسدها على الصحيح من أقوال العلماء.
ومما يدل على وجوب تغطية المرأة لرأسها ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، وإنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها) . رواه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2688: حديث صحيح. وغير ذلك من الأدلة الكثير التي تدل على وجوب تغطية المرأة لرأسها.
وخلاصة الأمر أن المرأة المسلمة مأمورة بتغطية رأسها وشعرها وأن ذلك ثابت بالنصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الالتفات لكل ناعق ممن يزعمون خلاف ذلك، فإن قولهم متهافت ساقط لا يعول عليه ولا يلتفت إليه.
- - -
الاحتياط في الرضاع مطلوب شرعاً
يقول السائل: عقد شاب نكاحه على فتاة وبعد مدة قالت أم الشاب إنها أرضعت تلك الفتاة، حيث إن الأم تقول إنها أرضعت الفتاة بعد أن طلقت من أبيه وتزوجت برجل آخر، فهل يجوز المضي في هذا الزواج، أفيدونا؟
الجواب: يقول الله تعالى عند ذكر المحرمات في النكاح {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} سورة النساء الآية 23، وقال النبي صلى الله(13/197)
عليه وسلم: (إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ عند النسائي: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . وجاء في صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي إني قد أرضعتكما وهي كاذبة، فأعرض عني فأتيته من قبل وجهه، قلت إنها كاذبة، قال: كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ دعها عنك) .
وفي رواية أخرى للبخاري عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إيهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني. فأرسل إلى آل أبي إيهاب يسألهم فقالوا ما علمنا أرضعت صاحبتنا. فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل) . ففارقها، ونكحت زوجاً غيره، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ (قوله كيف وقد قيل) فإنه يشعر بأن أمره بفراق امرأته إنما كان لأجل قول المرأة أنها أرضعتهما فاحتمل أن يكون صحيحاً فيرتكب الحرام فأمره بفراقها احتياطاً على قول الأكثر، وقيل بل قبل شهادة المرأة وحدها على ذلك] فتح الباري 4/374. وجاء في رواية أخرى عن عبد الله بن أبي مليكة قال: سمعت عقبة بن الحارث، وحدثني صاحب لي، وأنا لحديث صاحبي حافظ، قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إيهاب، فدخلت علينا امرأة سوداء، فزعمت أنها أرضعتهما جميعاً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني، فذكرت ذلك له فأعرض عني، فقلت: إنها كاذبة، فقال: (وما يدريك أنها كاذبة؟ وقد قالت ما قالت، دعها عنك) رواه الطبراني في المعجم الكبير. والحديث صحيح كما في إرواء الغليل للعلامة الألباني 7/225.(13/198)
إذا تقرر هذا فإن الشاب المذكور في السؤال يكون أخاً من الرضاعة للفتاة المذكورة من جهة الأم، فيحرم عليه أن يتزوجها لعموم قوله تعالى: (وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ (ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وقد ورد في شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية للأبياني، في شرح المادة رقم (376) ما نصه: [وكذا لا يجوز للرجل أن يتزوج أخته من الرضاعة سواءً كانت شقيقةً بأن رضعا من امرأة كان سبب اللبن الذي رضعا منه واحداً أو كانت أختاً له لأب بأن رضع الصبي من امرأة ورضعت الصبية من امرأة أخرى كان السبب نزول اللبن لهما رجلاً واحداً بأن كان زوجاً لهما. أو كانت أختاً له من الأم بأن أرضعت امرأة غلاماً ثم طلقت من زوجها وتزوجت بآخر فولدت منه وأرضعت بنتاً من اللبن الذي تسبب في وجوده عندها الزوج الثاني] 2/56.
ولا بد هنا من التنبيه على أمرين هامين: أولهما: ينبغي الأخذ بالاحتياط في مسائل التحريم، ومنها مسألة الرضاع، وخاصة أن الدخول لم يتم، وقد قرر الفقهاء القاعدة الفقهية التي تقول: الاحتياط في باب الحرمة واجب، كما في المبسوط للسرخسي30/296،فالحل والحرمة حكمان شرعيان فالحلال ما أحله الشرع بدليله، والحرام ما حرمه الشرع بدليله، فإذا لم يقم الدليل على الراجح على الحل أو الحرمة، واشتبه الأمر على المكلف، فالأصل التوقف والبناء على الأحوط للدين والبعد عن الشكوك والتهمة والريبة، وتغليب جانب الحرمة لأنه المتيقن. ويؤيد هذه القاعدة ما ورد في الحديث عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 3/239. فمن شك في شيءٍ من الأقوال والأعمال هل هو حلال أم حرام؟ فليتركه تورعاً ويبني أمره على اليقين البحت والتحقيق الصرف، ويكون على بصيرة في دينه، لأن ترك ما يشك فيه أصل عظيم في الورع. انظر فتح الباري 4/293. ويدل للقاعدة السابقة ما جاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأحكام ثلاثة أقسام: الحلال وهو بيِّن، والحرام وهو بينِّ والثالث: وهو المشتبه به لخفائه فلا يدري المكلف هل هو حلال أو حرام؟ وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لأنه إن كان في نفس الأمر حراماً فقد بريء من تبعته وإن كان حلالاً فقد أجر على تركه بهذا القصد0انظر شرح النووي على صحيح مسلم 11/27.(13/199)
وقال الإمام ابن دقيق العيد عند شرحه للحديث السابق: [هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين وأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلاً في هذا الباب وهو أصل كبير في الورع وترك المتشابهات في الدين والشبهات لها مثارات منها الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل وتعارض الإمارات والحجج0] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 4/182.
ثانيهما: إن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في مسائل الرضاع على الراجح من أقوال أهل العلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إذا كانت مرضية ... وجملة ذلك أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية وبهذا قال طاوس، والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب، وسعيد بن عبد العزيز ... ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال: (تزوجتُ أم يحيى بنت أبي إيهاب فجاءت أمة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: وكيف، وقد زعمت ذلك) متفق عليه، وفي لفظ رواه النسائي قال: (فأتيته من قبل وجهه، فقلت: إنها كاذبة قال: كيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما خل سبيلها) ، وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة، وقال الزهري: فرِّق بين أهل أبياتٍ في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع، وقال الأوزاعي: فرَّق عثمانُ بين أربعةٍ وبين نسائهم، بشهادة امرأة في الرضاع، وقال الشعبي: كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع، ولأن هذا شهادة على عورة فيقبل فيه شهادة النساء المنفردات، كالولادة، وعلَّلَ الشافعي بأنه معنىً يقبل فيه قول النساء المنفردات فيقبل فيه شهادة المرأة المنفردة، كالخبر] المغني 8/190-191.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: (باب شهادة المرضعة) ثم ذكر حديث عقبة بن الحارث السابق، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واحتج به من قَبلَ شهادة(13/200)
المرضعة وحدها، قال علي بن سعد: سمعت أحمد -يعني الإمام ابن حنبل- يُسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث، وهو قول الأوزاعي. ونقل عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: (فرَّق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم) قال ابن شهاب: الناس يأخذون بذلك من قول عثمان- إلى - اليوم ... ] فتح الباري 5/331.
وقال الإمام الشوكاني: [ ... فالحق وجوب العمل بقول المرأة المرضعة حرة كانت أو أمة حصل الظن بقولها أو لم يحصل لما ثبت في رواية (أن السائل قال: وأظنها كاذبة) فيكون هذا الحديث الصحيح هادماً لتلك القاعدة المبنية على غير أساس أعني قولهم: إنها لا تقبل شهادة فيها تقرير لفعل الشاهد ومخصصاً لعمومات الأدلة كما خصصها دليل كفاية العدالة في عورات النساء عند أكثر المخالفين] نيل الأوطار 6/359.
وخلاصة الأمر أنه يجب الاحتياط في مسائل التحريم، ومنها مسائل الرضاع، فلا يجوز لمن قيل إنهما رضعا من امرأة واحدة أن يتزوجا وخاصة إذا جاء الإخبار بالرضاع قبل الدخول.
- - -(13/201)
الطلاق قبل الدخول
يقول السائل: عقد رجل على امرأة ثم طلقها قبل الدخول وبعد ذلك دخل بها بدون عقد جديد ولا مهر لأنه جاهل بالحكم، وأنجب منها أولاداً وبعد عدة سنوات طلقها طلقة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: طلاق الرجل المذكور واقع، وبما أنه لم يدخل بزوجته حيث أوقع الطلاق قبل الدخول فهذا الطلاق يكون بائناً، لأن كل طلاق يقع قبل الدخول يكون بائناً، وعليه فيلزمه عقد جديد بمهر جديد وولي وشاهدين، ويبقى له طلقتان. وهذا الطلاق بائن بينونة صغرى، حيث إن هذا الرجل قد طلق زوجته قبل الدخول بها يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} سورة الأحزاب الآية 49، وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا انتفت العدة انتفت الرجعة. وهذا ما قرره قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا
حيث جاء في المادة 94 (كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث والطلاق قبل الدخول والطلاق على مال والطلاق الذي نص على أنه بائن في هذا القانون) ، وبما أن الرجل المذكور قد دخل بالمرأة بدون عقد ولا مهر جديدين، فإن نكاحه باطل لفقده شروط صحة النكاح، حيث تم بدون عقد ومهر جديدين بعد طلاقه لزوجته قبل الدخول بها، ثم إنه طلق مرة أخرى بعد عدة سنوات، وهذا الطلاق الأخير يعتبر لغواً لأنه لم يصادف محلاً، حيث إن زوجته قد بانت منه بينونة صغرى عندما طلقها قبل الدخول، وبما أنه لم يعقد عليها عقداً جديداً فلم تعد محلاً للطلاق فلذا اعتبرنا طلاقه لغواً لا أثر له، كما أن دخوله بتلك المرأة حرام شرعاً، ويجب التفريق بينهما فوراً، وأما الأولاد الذين كانوا نتيجة لهذه العلاقة المحرمة فيلحقون بأبيهم، لوجود الشبهة.(13/202)
إذا تقرر هذا فإن هذا الرجل والمرأة يستطيعان تصحيح الوضع الخاطئ بينهما بإنشاء عقد جديد بمهر جديد وولي وشاهدين فعلى هذا الرجل أن يراجع المحكمة الشرعية في بلده لإتمام ذلك.
ويجب أن نقرر هنا أن الأولاد الذين كانوا ثمرة هذه العلاقة المحرمة لا ذنب لهم، وإنما الذنب على الرجل والمرأة، فلذا فإن الواجب على المسلم أن يتفقه في أحكام دينه، وخاصة أمثال هذه القضايا الخطيرة، والتي لا يعذر الإنسان فيها بالجهل، فالعذر بالجهل ليس مقبولاً على إطلاقه عند أهل العلم بل المسألة فيها تفصيل فهنالك أمور من الدين، العلم بها فرض عين ولا يعذر المسلم بجهلها، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/140. والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42. وقال الإمام النووي: [ ... فرض العين وهو تعلم(13/203)
المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها] المجموع 1/42.
فهذا النوع من العلم هو الذي لا يسع المسلم أن يجهله، وهو علم العامة كما قال الإمام الشافعي: [قال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ. قال: ومِثْل ماذا؟ قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه. وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا] الرسالة ص 357-359.
وقال جلال الدين السيوطي: [كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم.] الموسوعة الفقهية الكويتية 16/199.
وما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في هذا القسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة فلم يعتد بصلاته فعن أبي هريرة(13/204)
رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم. ويدخل في هذا القسم حكم الطلاق قبل الدخول فهذا الحكم لا يعذر المسلم بالجهل به بشكل عام ما دام يعيش في ديار الإسلام. وهنالك حالات يعذر فيها المسلم بالجهل كمن يجهل دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد كما ورد في الحديث عن أبي هريرة أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري ومسلم، وكما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أحرم في ملابس مطيبة فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق أو قال أثر صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ... قال أين السائل عن العمرة اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) رواه البخاري ومسلم.
وقد فصل العلامة محمد العثيمين مسألة العذر بالجهل فقال: [الجهل نوعان: جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئاً عن(13/205)
خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام، لم يضره، وإن كان منتسباً إلى الكفر، فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار. فعلى هذا من نشأ ببادية بعيدة ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب، فهذا يعذر، وله أمثلة: منها: رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئاً، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشر سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابة، فهذا لا نأمره بالقضاء لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة، فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي. وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة، فهذا لا يعذر، لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة، فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل] القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ العثيمين.
وقال الإمام القرافي: [القاعدة الشرعية دلّت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كآفّة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلاً فقد عصى معصيتين لتركه واجبين] الفروق 4/264.
وخلاصة الأمر أن طلاق الرجل المذكور في السؤال قد وقع قبل الدخول وهو طلاق بائن وبما أنه دخل بالمرأة بدون عقد ومهر جديدين فقد وقع في الحرام، وطلاقه(13/206)
الثاني لغو لأنه لم يصادف محلاً، وعليه إنشاء عقد زواج جديد، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل توبة صادقة، وأما الأولاد فلا ذنب لهم ويلحقون بأبيهم وجهل الرجل في هذه المسألة غير مقبول.
- - -
التسرع في الطلاق
يقول السائل: حصل نزاع وخصام بينه وبين زوجته فقال لها أنت طالق، فغضبت وذهبت إلى بيت أبيها، ثم ندم على تطليقها وخاصة أنها أول مرة يطلق في حياته الزوجية، فطلب من بعض الأقارب التدخل فأعادوها إلى البيت، وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي وانتهت المشكلة، فماذا يترتب على ما حصل بينه وبين زوجته، أفيدونا؟
الجواب: لا ينبغي للزوج أن يلجأ للطلاق في كل مشكلة تحدث بينه وبين زوجته، وإنما الواجب هو حل المشكلات الزوجية بالتفاهم وبالتي هي أحسن، وإذا كان الواقع كما ذكر السائل فإنه يكون قد طلق زوجته طلقة واحدة رجعية، والمطلقة الرجعية تعتبر زوجة فلا ينبغي أن يخرجها زوجها من البيت، ولا يجوز لها أن تخرج إلى بيت أبيها أو غيره، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} سورة الطلاق الآية 1. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المرأة المطلقة تقضي عدتها في بيت الزوجية {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فأضاف الله عز وجل البيوت لهن. قال القرطبي: [أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق(13/207)
الزوج إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة، والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن كقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك] تفسير القرطبي 18/154. وينبغي للزوج أن يراجع زوجته حفاظاً على الأسرة ورعاية للأطفال حتى لا يتعرضوا للتشريد والضياع، [ ... فارْتِجَاعَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْإِصْلَاحِ، لِذَلِكَ نَجِدُ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ قَدْ نَظَّمَتْ أَحْكَامَهَا. وَقَدْ أَشَارَ الْكَاسَانِيُّ إلَى حِكْمَةِ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ: [إنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى الرَّجْعَةِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ بِقَوْلِهِ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ، فَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ، لِمَا عَسَى أَنْ لَا تُوَافِقَهُ الْمَرْأَةُ فِي تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا] لِذَا شُرِعَتْ الرَّجْعَةُ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/104-105. وبما أن بعض الأقارب كما ذكر السائل قد تدخلوا وأرجعوا الزوجة إلى زوجها فإن الرجعة عند جمهور الفقهاء يستحب فيها الإشهاد، أي يُشهدُ الزوجُ اثنين عدلين على أنه أرجعها إلى عصمته، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} سورة الطلاق الآية2، قال ابن كثير: [وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي على الرجعة إذا عزمت عليها، كما رواه أبو داود وابن ماجة عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد. وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: لا(13/208)
يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر] تفسير ابن كثير 6/239. وقد حمل أكثر أهل العلم الأمر في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على الندب مع أن الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب. ومما يدل على أن الأمر مصروف عن الوجوب، ما ورد في الحديث في قصة تطليق ابن عمر رضي الله عنه لزوجته كما رواها الإمام البخاري بإسناده عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) . قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما الشهادة ففيها روايتان – أي في مذهب الحنابلة -: إحداهما: تجب، وهذا أحد قولي الشافعي، لأن الله تعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وظاهر الأمر الوجوب ولأنه استباحة بضعٍ مقصود فوجبت الشهادة فيه كالنكاح وعكسه البيع. والرواية الثانية: لا تجب الشهادة، وهي اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي حنيفة. لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولأن ما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد كالبيع، وعند ذلك يحمل الأمر على الاستحباب ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الإشهاد] المغني 7/522-523. وقال القرطبي: [الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب] تفسير القرطبي 18/158. وقال الإمام النووي: [إن الإشهاد على الرجعة ليس شرطاً ولا واجباً في الأظهر] روضة الطالبين 2/216.
ومع أن الإشهاد على الرجعة ليس واجباً ولا شرطاً كما قرره جمهور الفقهاء إلا أن الإشهاد على الرجعة أولى لما فيه من حفظ للحقوق وخاصة في حال حدوث شقاق(13/209)
وخصام بين الزوجين، وقد وردت بعض الآثار التي تؤكد على الإشهاد، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه (سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد) رواه أبو داود وابن ماجة ولم يقل (ولا تعد) والأثر أخرجه أيضاً البيهقي والطبراني وزاد (واستغفر الله) ، قال الحافظ في بلوغ المرام وسنده صحيح] نيل الأوطار7/25. وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناده عن الشعبي أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثم راجعها فيجهل أن يشهد قال: يشهد إذا علم. وتصح الرجعة بالقول بأن يقول الزوج لفظاً يدل على إرجاع زوجته، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما القول فتحصل به الرجعة بغير خلاف وألفاظه: راجعتك، وارتجعتك ورددتك وأمسكتك، لأن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب والسنة، فالرد والإمساك ورد بهما الكتاب بقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ، وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، يعني: الرجعة، والرجعة وردت بها السنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها) ، وقد اشتهر هذا الاسم فيها بين أهل العرف، كاشتهار اسم الطلاق فيه، فإنهم يسمونها رجعة، والمرأة رجعية، ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح وحده لاشتهاره دون غيره كقولنا في صريح الطلاق، والاحتياط أن يقول: راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجتي أو راجعتها لما وقع عليها من طلاقي ... ] المغني 7/524.
وتصح الرجعة عند جمهور العلماء بالفعل أيضاً، وذلك بأن يجامع الرجل مطلقته الرجعية، وكذلك تصح الرجعة بمقدمات الجماع كاللمس بشهوة والقبلة بشهوة ونحو ذلك مع نية الزوج إرجاعها وهذا أرجح أقوال أهل العلم في المسألة. فقد وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناده عن الحسن البصري في الرجل يطلق امرأته ثم يغشاها ولم يشهد قال: غشيانه لها مراجعة فليشهد. وروى أيضاً عن سفيان عن مغيرة عن(13/210)
إبراهيم وعن جابر عن الشعبي وعن سلمان التيمي عن طاوس قالوا: الجماع رجعة فليشهد.
وينبغي التنبيه أنه لا يجوز التلاعب بالرجعة أو الهزل فيها لما في ذلك من أضرار قد تلحق بالحياة الزوجية، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وهو حديث حسن احتج به الأئمة والعلماء كالإمام الترمذي والحافظ ابن عبد البر والحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والإمام النووي والإمام البغوي والشوكاني والألباني وغيرهم كثير. قال الترمذي بعد أن روى هذا الحديث: [هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/304. وقد ذكر الحافظ ابن حجر شواهد للحديث يتقوى بها في التلخيص الحبير 3/209-210. وكذلك فعل الشيخ الألباني حيث ذكر أربعة شواهد للحديث وآثاراً عن الصحابة ثم قال: [والذي يتلخص عندي مما سبق أن الحديث حسن بمجموع طريق أبي هريرة الأولى التي حسنها الترمذي وطريق الحسن البصري المرسلة وقد يزداد قوة بحديث عبادة بن الصامت والآثار المذكورة عن الصحابة فإنها ولو لم يتبين لنا ثبوتها عنهم عن كل واحد منهم تدل على أن معنى الحديث كان معروفاً عندهم والله أعلم] إرواء الغليل 6/228.
وخلاصة الأمر أن الطلاق للمرة الأولى يكون رجعياً وينبغي للزوج أن يراجع زوجته لما في ذلك من محافظة على الأسرة، والإشهاد على الرجعة مندوب إليه. وتصح الرجعة بالقول وبالفعل.
- - -(13/211)
حكم تصوير الفتيات خلسة بكاميرا الجوال
يقول السائل: برزت ظاهرة تصوير الفتيات خلسة بواسطة الجولات ذات الكاميرا، وصار بعض الشباب يتداولون تلك الصور عبر ما يعرف بالبلوتوث وعبر البريد الإلكتروني وبعضهم يستخدمها في أغراض خبيثة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: أبين أولاً أن الراجح من أقوال أهل العلم هو جواز التصوير الفوتوغرافي، كالتصوير بالكاميرا ومثله التصوير بالفيديو والتصوير التلفزيوني ونحوها من الوسائل الحديثة، بشرط أن لا يعرض للتصوير ما يحرمه، كتصوير امرأة سافرة ونحو ذلك، والتصوير الفوتوغرافي بالشرط المذكور جائز، لأنه لا ينطبق عليه ما ورد من النصوص في تحريم الصور كقول النبي صلى الله عليه وسلم (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) رواه البخاري ومسلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه البخاري ومسلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) رواه البخاري. ومن احتج بهذه الأحاديث ونحوها على تحريم الصور الفوتوغرافية فاستدلاله غير صحيح، لأن التصوير الفوتوغرافي لم يكن معروفاً في العهد النبوي، كما أن هذه النصوص لا تتناول التصوير الفوتوغرافي في دلالتها اللغوية، قال الدكتور محمد الحسن الدّدو: [إن الصور الفوتوغرافية لم تكن موجودة في العهد النبوي ولا في عهد أئمة الاجتهاد، وإنما عرفت في العصور المتأخرة، ولذلك فالنصوص الشرعية الواردة في التصوير لا تتناولها بدلالة الألفاظ قطعاً، لأن اللفظ النبوي في التصوير إنما يتناول ما كان موجوداً إذ ذاك، فالتصوير الذي حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منه هو ما كان موجوداً في زمانه، وهو النحت من الحجر أو من الطين أو من الخشب أو الرسم باليد فهذا هو التصوير، وهي كذلك لا يمكن أن تقاس على الصور(13/212)
المحرمة، فهي لا تدخل في دلالة اللفظ قطعاً، ومن فسر الألفاظ الواردة في التصوير بها فهو بمثابة من فسر نصوص القرآن بغير معانيها، كالذي يقول في قول الله تعالى: (وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ (أن السيارة مثلا (كابرس) أو (لاندروفر) أو نحو هذا، فهذا فسر القرآن بغير معناه ... فلذلك تفسير هذه النصوص بغير دلالاتها اللغوية منافٍ للمقصد الشرعي، وهو من القول على الله بغير علم ... وكذلك لا يمكن أن تقاس هذه الصور الفوتوغرافية على الصور الحقيقية التي وردت فيها النصوص، لأن العلة مختلفة، فالعلة التي حرم النبي صلى الله عليه وسلم التصوير من أجلها، بينها بأنها مضاهاة خلق الله ومحاكاته، ولذلك يعذب المصور يوم القيامة (من صوِّر ذا روح عذب حتى ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ) ، ولذلك قال: المضاهون خلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة، فلهذا بين علة التحريم، وهذه العلة لا تتحقق في الصور الفوتوغرافية ... ] عن شبكة الإنترنت.
إذا تقرر هذا فإن ما ذكره السائل من تصوير الفتيات بالجولات ذات الكاميرا وتداول تلك الصور بالتقنيات الحديثة المعروفة اليوم، محرم شرعاً، لأنه مشتمل على مفاسد عديدة منها:
أولاً: الاضطلاع على العورات وكشفها، وهو أمر محرم شرعاً، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو اطلع في بيتك أحدٌ ولم تأذن له، حذفته –أي رميته- بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح) رواه البخاري، وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: إن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى - مشط له أسنان يسيرة - يحك به رأسه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإذن من أجل البصر) رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: إيذاء الناس وإلحاق الضرر بهم، وقد قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (سورة الأحزاب الآية58. ولا شك أن تصوير الفتيات وتداول صورهن فيه أذىً وضررٌ كبير وتتبع لعوراتهم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله - وفي رواية أخرى (في بيته) - ونظر ابن عمر إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وما أعظم حرمتك(13/213)
والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال فيه (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تطلبوا عثراتهم) والحديث حسن صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/588. وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/408.
ثالثاً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة - وخاصة المتبرجات منهن – فيه إشاعة للفاحشة بين المؤمنين، ولا شك في تحريم ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سورة النور الآية 19. كما إن فيه فساداً وإفساداً حيث يقوم بعض الناس بعمل دبلجة للصور ونشرها في أوضاع مخلة بالآداب الشرعية، وهذا الأمر صار ميسوراً مع التقدم العلمي واستخدامه استخداماً سيئاً.
رابعاً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يحرم أيضاً لأنه يدخل في باب التجسس على الناس، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} سورة الحجرات الآية 12.قال الإمام القرطبي: [ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله] تفسير القرطبي 16/333. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى(13/214)
هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله. إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه البخاري ومسلم، وهذه النصوص تدل دلالة واضحة على تحريم التجسس بكافة أشكاله وأنواعه، ولا شك أنه يدخل فيه التقاط الصور للفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة.
خامساً: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يتسبب في وقوع كثير من المشكلات العائلية، وخاصة إذا كانت الفتاة التي نشرت صورتها متزوجة، فقد يتسبب ذلك في وقوع الطلاق وتشريد الأطفال، لأن بعض الأزواج لديهم غيرة شديدة على زوجاتهم، فيتسرعون في تطليقهن لأدنى سبب، ولا شك أن الغيرة محمودة بشكل عام، ومنها ما هو مذموم وهو ما كان في غير ريبة، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل، ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحب الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله عز وجل الخيلاء في الباطل) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 7/58. والغيرة من غير ريبة نوع من الإفراط، وأما التفريط في الغيرة فهو من لا يغار على زوجته ومحارمه مع وجود الريبة، فهذا ينطبق عليه وصف الديوث، والدياثة من كبائر الذنوب كما قال ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/109-111. وقد وردت الأحاديث التي تحذر من الدياثة فمنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما(13/215)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله) . وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه أحمد وذكر الشيخ الألباني أن حديث ابن عمر رواه النسائي والحاكم والبيهقي في سننه من طريقين صحيحين وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما العلامة الألباني على ذلك في جلباب المرأة المسلمة ص 145.
وخلاصة الأمر أن تصوير الفتيات ونشر صورهن وتداولها عبر التقنيات الحديثة أمر محرم شرعاً لاشتماله على مفاسد عظيمة كما بينت بعضها، وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل في أعراضهم، وعلى المسلم أن يحسن التعامل مع الأجهزة الحديثة وألا يسيء استخدامها بل ينتفع بها الانتفاع الحسن.
- - -
لفظ (الاختلاط) ليست دخيلة على التراث الإسلامي
يقول السائل: إنه سمع الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يتحدث عن الاختلاط وأن الشيخ قد قال: إن لفظ (الاختلاط) دخيل على التراث الإسلامي ولم يرد فيه مطلقاً، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة حول لفظة الاختلاط، ما هو إلا تكرار لما قرره في بعض مؤلفاته، فقد سبق أن قال في أحد كتبه: [دخلت مجتمعنا الحديث كلمات أصبح لها دلالات لم تكن لها من قبل، من ذلك كلمة (الاختلاط) بين الرجل والمرأة] ملامح المجتمع المسلم ص368. وقال الشيخ(13/216)
يوسف القرضاوي في كتاب آخر: [وأود أن أبادر هنا فأقول: إن كلمة (الاختلاط) في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، كلمة دخيلة على (المعجم الإسلامي) لم يعرفها تراثنا الطويل العريض طوال القرون الماضية، ولم تعرف إلا في هذا العصر، ولعلها ترجمة لكلمة (أجنبية) في هذا المعنى، ومدلولها له إيحاء غير مريح بالنظر لحس الإنسان المسلم. وربما كان أولى منها كلمة (لقاء) أو (مقابلة) أو (مشاركة) الرجال للنساء، ونحو ذلك] فتاوى معاصرة 2/279.
هذا ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي وقرره من أن كلمة الاختلاط في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، كلمة دخيلة على (المعجم الإسلامي) لم يعرفها تراثنا الطويل العريض طوال القرون الماضية، ولم تعرف إلا في هذا العصر، وأقول إن هذه دعوى عريضة بلا دليل ولا برهان، بل إن تراثنا الإسلامي قد عرف كلمة الاختلاط في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، واستعملت في تراثنا الإسلامي بنفس المعنى الذي تستعمل فيه في عصرنا الحاضر، ولا أريد هنا أن أناقش رأي الشيخ يوسف القرضاوي في مسألة الاختلاط الآن، ولعلي أعود إليه لاحقاً، ولكن سأقتصر في الرد على إثبات وجود واستعمال لفظة الاختلاط في تراثنا الإسلامي، الشيء الذي نفاه الشيخ يوسف القرضاوي، ولكن قبل ذلك أقول: إن استعمال لفظة الاختلاط في لغة العرب ليس مقصوراً على الامتزاج والذوبان كما قال الشيخ يوسف القرضاوي في البرنامج المذكور: [فكلمة الاختلاط ... لا يوجد عندنا شيء اسمه الاختلاط، كلمة الاختلاط نفسها اختلط الشيء بالشيء كأنه امتزج به وكأنه ذابت الحدود ولم يعد هناك ... ] ، وأقول: لكنها استعملت في اختلاط الشيئين مع عدم ذوبان أحدهما في الآخر قال ابن منظور: [والخلاط اختلاط الإبل والناس والمواشي ... وفي حديث أبي سعيد كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخلط من التمر أي المختلط من أنواع شتى ... ويكون الخلطاء أيضاً أن يخلطوا العين المتميز بالعين المتميز كما(13/217)
فسر الشافعي ويكونون مجتمعين كالحلة يكون فيها عشرة أبيات لصاحب كل بيت ماشية على حدة فيجمعون مواشيهم على راع واحد يرعاها معا ويسقيها معا وكل واحد منهم يعرف ماله بسمته ونجاره] لسان العرب مادة خلط.
هذا من حيث اللغة وأما في الشرع فقد وردت كلمة الاختلاط بالمعنى المستعمل اليوم في السنة النبوية، فمن ذلك:
1. ما رواه أبو داود بإسناده عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن (أي تركبن حقها وهو وسطها) الطريق ... ) ورواه أيضاً البيهقي في شعب الإيمان 6/173 حديث رقم 7822، ورواه الطبراني في المعجم الكبير 19/261، وقال العلامة الألباني: حديث حسن، السلسلة الصحيحة 2 / 537.
2. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب طواف النساء مع الرجال. وقال لي عمرو بن على حدثنا أبو عاصم قال ابن جريج أخبرنا قال أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن، وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال قلت أبعد الحجاب أو قبل؟ قال إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت كيف يخالطن الرجال؟ قال لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرةً من الرجال لا تخالطهم - أي تعتزلهم -، ... ] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (باب طواف النساء مع الرجال) أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن] فتح الباري 3/606.
هذا من السنة النبوية، وسأذكر نصوصاً كثيرة من أقوال أهل العلم ورد فيها استعمال لفظ الاختلاط بالمعنى الذي نستعمله اليوم، منها:(13/218)
1. قال الإمام شمس الأئمة السرخسي المتوفى في حدود سنة 490 هـ: [وينبغي للقاضي أن يقدم النساء على حدة والرجال على حدة ; لأن الناس يزدحمون في مجلسه، وفي اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة والقبح ما لا يخفى] المبسوط 16/80.
2. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620 هـ: عند كلامه على استحباب مكث الإمام والرجال بعد صلاة الجماعة قليلاً لتنصرف النساء: [ ... ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء ... ] المغني 1/402.
3. وقال الشيخ أبو شامة المقدسي المتوفى سنة 665 هـ: [أما الألفية فصلاة ليلة النصف من شعبان سميت بذلك لأنها يقرأ فيها {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ألف مرة لأنها مائة ركعة في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأت فيها خبر ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع، وللعوام بها افتتان عظيم والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد التي تصلي فيها، ويستمر ذلك كله ويجري فيه الفسوق والعصيان، واختلاط الرجال بالنساء، ومن الفتن المختلفة ما شهرته تغني عن وصفه ... وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان من اختلاط الرجال والنساء ومضامة أجسامهم ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريب ومعانقة بعضهم لبعض ... فيختلط الرجال والنساء والصبيان والغوغاء ... ] الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 50- 58.
4. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ: [ولا تجب الجمعة على صبى ولا مجنون ... ولا تجب على المرأة ... ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز) المهذب 4/484.
5. وقال الإمام النووي المتوفى سنة 676 هـ: [ ... وقوله ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز ليس كما قال فإنها لا يلزم من حضورها الجمعة الاختلاط بل تكون(13/219)
وراءهم ... ولأن اختلاط النساء بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام] المجموع 4/484.
6. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى 728 هـ: [وأما ما يفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع فهذا لا يحتاج إلى ذكر، لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب، مثل رفع الأصوات في المسجد أو اختلاط الرجال والنساء ... ] اقتضاء الصراط المستقيم 2/145.
7. وقال العلامة ابن القيم المتوفى سنة 751 هـ: [ (فصل) ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق ... ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر ... واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا] الطرق الحكمية ص 274 -275.
8. وقال الإمام الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ: [ ... ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ... ] الاعتصام 2/130.
9. وقال الشيخ ابن الحاج المالكي المتوفى 737 هـ: [ ... وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان من اختلاط الرجال والنساء ومصادمة أجسادهم ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريب ... لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء ... ] المدخل 2/446. وغير ذلك من النقول الكثيرة.
وخلاصة الأمر أن ما ادعاه الشيخ القرضاوي من أن كلمة الاختلاط دخيلة على تراثنا الإسلامي ولم ترد فيه مطلقاً، ادعاءٌ باطلٌ لم يقم عليه أي دليل، بل إن لفظة الاختلاط عرفت قديماً، فهي مستعملة في السنة النبوية، واستعملها العلماء قديماً في مؤلفاتهم، وادعاء الشيخ القرضاوي بأنها لم تعرف إلا في هذا العصر، ادعاء غير صحيح كما ظهر ذلك جلياً من خلال كلام أهل العلم الذين ذكرتهم مع ذكر سنة وفاة كلٍ منهم.(13/220)
ظاهرة التسول في المساجد
يقول السائل: كثرت في بلدنا ظاهرة التسول داخل المساجد فما أن ينتهي الإمام من الصلاة بالسلام إلا وتفاجأ بتشويش المتسول على الذاكرين والمسبوقين المصلين وهو يطالب الناس بالمساعدة وإظهار المسكنة فسؤالي ما حكم التسول داخل المسجد؟ وهل يجوز للإمام أو أحد المكلفين بالمسجد أن يطالب المتسول مدعي الفقر الخروج من المسجد؟ وهل يعتبر حينئذ مخالفاً لقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (؟ وما صحة ما يقال: أن أحد السلف قال: لو كنت قاضياً لرددت شهادة كل من يعطي متسولاً داخل المسجد؟، أفيدونا.
الجواب: التسول هو طلب الصدقات من الناس في الأماكن العامة والبيوت والمساجد، والمتسول هو من يحترف مهنة التسول فأصبحت مهنته وصنعته، ومن المتسولين من يمضي حياته متسولاً، ومنهم من تبين بعد موته أنه يملك أموالاً طائلة، والحوادث في ذلك كثيرة، ... وقد انتشرت ظاهرة التسول وكثرت بشكل كبير ويعود ذلك لعدة عوامل منها الأحوال الصعبة التي يعشها شعبنا الفلسطيني من الحصار والإغلاق وقلة الأعمال وغير ذلك، والأصل في الشرع أن التسول حرام شرعاً إلا لضرورة أو حاجة ماسة وفق ضوابط معينة، قال أبو حامد الغزالي: [السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة فإن كان عنها بدٌ فهو حرام، وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة.
الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسؤول.
الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياءً من السائل أو رياءً فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة] إحياء علوم الدين 4/205.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن السؤال في المسجد فقال: [أصل السؤال محرَّم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كانت ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدًا كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهراً يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز] نقلاً عن غذاء الألباب للسفاريني 2/ 267.(13/222)
وقد وردت أدلة كثيرة تنهى عن التسول، وسؤال الناس من غير ضرورة أو حاجة ملحة منها:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر) . رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كدٌ يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بد منه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل، أو غنى عاجل) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: تحملت حمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة، يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس: خيرٌ له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس، فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا فأما الأقرع: فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق وأما عيينة: فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه فقال: يا محمد أراني حاملاً إلى قومي كتاباً لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وعنده ما يغنيه: فإنما يستكثر من النار) وفي لفظ: (من جمر جهنم قالوا: يا رسول الله وما يغنيه) وفي لفظ: (وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال: قدر ما يغديه وما يعشيه) وفي لفظ: (أن يكون له شِبع يومٍ وليلة) رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/306-307. - وصحيفة الملتمس: مثل يضرب للذي يحمل أسباب هلاكه، من غير أن يدري، وله قصة مشهورة في كتب الأدب - وغير ذلك من الأحاديث.(13/223)
إذا تقرر هذا فإنه يجب منع المتسولين داخل المساجد لما يحدثونه من التشويش على المصلين والذاكرين، وأرى أن لا يعطوا شيئاً إذا سألوا داخل المسجد، وإنما يقفون على أبواب المسجد أو في ساحاته من غير تشويش على أهل المسجد، وخاصة أن كثيراً من المتسولين ليسوا أصحاب حاجةٍ حقيقيةٍ وإنما هم محترفون لمهنة التسول والشحاذة، والمساجد يجب أن تنزه عن مثل هذه الأمور، فالمساجد بنيت لعبادة الله عز وجل بإقامة الصلاة وتلاوة القرآن الكريم وتعليم العلم النافع وغير ذلك مما ينفع المسلمين، ولا يجوز أن تكون المساجد لنشد الضالة أو للبيع والشراء أو للتسول والشحاذة، فقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الترمذي وحسنه العلامة الألباني أيضاً في صحيح سنن أبي داود 1/201.
وأما قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (سورة الضحى الآية 10، فقد قال أهل التفسير إن الآية المذكورة تحمل على السائل عن العلم وعلى السائل للصدقة، قال ابن كثير: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد] تفسير ابن كثير 6/483. وقال الطبري: [وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته] تفسير الطبري.
وقال القرطبي: [وأما السائل فلا تنهر، أي لا تزجره فهو نهي عن إغلاظ القول، ولكن رُدَّه ببذلٍ يسير، أو ردٍّ جميل] تفسير القرطبي 20/101. وعدم السماح للمتسولين بالسؤال داخل المساجد لا يتنافى مع الآية الكريمة.
وأما القول المنسوب لأحد السلف وهو: [لو كنت قاضياً لرددت شهادة كل من يعطي متسولاً داخل المسجد] فقد وجدته بعد البحث والتقصي منسوباً لخلف بن أيوب العامري البلخي المتوفى سنة 215 هـ، وهو فقيه أهل بلخ وزاهدهم أخذ الفقه عن أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وابن أبي ليلى والزهد عن إبراهيم بن أدهم، ونسبه إليه ابن مفلح المقدسي الحنبلي: [قال خلف بن أيوب لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من تصدق عليه] الآداب الشرعية 3/394. ونقل ابن مفلح أيضاً قول أبي مطيع البلخي الحنفي: لا يحل للرجل أن يعطي سؤَّال المسجد.
وخلاصة الأمر أن الأصل في الشحاذة والتسول التحريم إلا لضرورة أو حاجة ملحة وينبغي للمسئولين عن المساجد منع المتسولين داخل(13/224)
المساجد، ويجوز إعطاء المتسولين خارج المساجد إن كانوا صادقين، ومشكلة التسول تحتاج إلى حل تسهم فيه الجهات الرسمية والخيرية.
(( ((13/225)
الحلف على ترك التدخين
يقول السائل: إنه مدخن شره وقد حلف يميناً بالله العظيم ليلزم نفسه على ترك التدخين ولكنه لم يستطع ترك الدخان ورجع إلى التدخين فماذا يلزمه في هذه الحالة، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن الدخان خبيث من الخبائث، وإن أبى بعض المدخنين ذلك، كما أن التدخين حرام على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإن أبى بعض المشايخ المدخنين ذلك، وخاصة الذين يزعمون أن التدخين مباح من المباحات، فقولهم هذا قول ساقط متهافت، ولا قيمة له بعد أن اتفقت المصادر الطبية والعلمية والصحية على ضرر التدخين المتحقق على صحة المدخن وعلى نفسيته وعلى ماله وعلى صحة من حوله، وأضرار التدخين على المجتمع بشكل عام، بل إن التدخين أشد فتكاً بالإنسان من مرض الإيدز، وقد اتفقت الهيئات العلمية والمجامع الطبية والصحية على أضرار التدخين، وقررت أنه سبب رئيس للسرطان وتليف الكبد وأمراض الشريان التاجي والذبحة الصدرية وسرطان الفم وغيرها من الأمراض الخبيثة، وهذا ما أكده أهل الخبرة والاختصاص من الأطباء والكيميائيين وغيرهم، فالدخان يتكون من مجموعة كثيرة من المواد، منها أكثر من خمسة عشر نوعاً من السموم الفتاكة كالنيكوتين الذي يعد من السموم القوية والفعالة وله أثر سيء على الكلية والجهاز العصبي والدم، ومنها أول أكسيد الكربون وهو معروف بتأثيره السام وله تأثير سيء على الدم. ومنها القطران وهو المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار أسنان المدخن ونخرها، وإلى التهابات اللثة، وهو أخطر محتويات الدخان على الصحة ويسبب السرطان والتهابات الشعب الهوائية وغير ذلك من المواد الضارة التي تلحق الضرر والأذى بصحة المدخن، فالتدخين يضر بالفم وبالشفاه واللثة والأسنان واللسان واللوزتين والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأعصاب والدورة الدموية والجهاز(13/226)
البولي، كما أن للتدخين ضرراً على النسل لذلك تُنصح الحوامل بعدم التدخين وما كان ضرره كذلك فلا شك في حرمته، لأن الإسلام يحرم كل خبيث وضار، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} سورة الأعراف الآية 127. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح، كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. والأدلة على تحريم التدخين كثيرة وليس هذا محل ذكرها. إذا تقرر تحريم التدخين فإن الواجب على المدخن أن يقلع عن هذه المعصية، وأن يترك التدخين، وترك التدخين يحتاج إلى عزيمة صادقة وإرادة قوية، وليس الأمر كما يزعم كثير من المدخنين أنهم لا يستطيعون تركه، فهذا هراء، فالإرادة القوية تلعب دوراً مهماً في السيطرة والتخلص من العادات السلبية التي تضرُّ بصحة الإنسان، ومنها عادة التدخين. وتشكل عزيمة الإنسان الصادقة نقطة البداية في ترك التدخين، ولا بد أن يقتنع المدخن أولاً بضرر الدخان الحقيقي على صحته وماله، حتى يسهل عليه تركه، ثم يعزم على ذلك مع الصبر ومخالفة الهوى، مع العلم أنه يوجد اليوم أساليب علمية تساعد في الإقلاع عن التدخين.
وبعد هذا البيان الموجز لحكم التدخين وضرره أعود إلى السؤال فأقول: يجب على من حلف بالله تعالى ليلزم نفسه بترك الدخان أن يبر بيمينه، فيمتنع عن التدخين، وقد قرر الفقهاء أن من حلف على ترك معصية من المعاصي كالحلف على ترك التدخين فيلزمه البر بيمينه شرعاً، يقول الله تعالى: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} سورة النحل الآية91. فإن لم يفعل أي لم يترك التدخين فقد حنث بيمينه وتلزمه كفارة اليمين، يقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ(13/227)
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89. وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخيير، أي أن الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث، فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... الذي يحلف على فعل ما يجب عليه، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وطاعة السلطان، ومناصحته وترك الخروج، ومحاربته، وقضاء الدَّين الذي عليه، وأداء الحقوق إلى مستحقيها والامتناع من الظلم والفواحش، وغير ذلك، فهذه الأمور كانت قبل اليمين واجبة، وهي بعد اليمين أوجب، وما كان محرماً قبل اليمين فهو بعد اليمين أشد تحريماً، ولهذا كان الصحابة، رضي الله عنهم يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على طاعته والجهاد معه، وذلك واجب عليهم ولو لم يبايعوه، فالبيعة أكدته، وليس لأحد أن ينقض مثل هذا العقد) . مجموع الفتاوى 33/145. ومن الجديد بالذكر أن من نذر نذراً ليلزم نفسه فعل شيء أو تركه، كأن قال المدخن لئن رجعت إلى التدخين لأتصدقن بمائة دينار مثلاً، فهذا له حكم اليمين، لأن النذر يمين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري، فالواجب الوفاء بهذا النذر فإن لم يف بنذره لزمته كفارة يمين. ومما يدل على لزوم الكفارة عند عدم الوفاء بالنذر، عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد(13/228)
مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً فلله عليَّ حجة أو غيرها، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق، كقوله: عليَّ نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/269.
ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين) أخرجه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2860. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين) رواه النسائي والبيهقي وغيرهما وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 479.
وأخيراً أنبه على أن الحلف لا يكون إلا بالله أو بأسمائه وصفاته فقط ولا يجوز الحلف بغير الله عز وجل، فالحلف أو القسم المشروع لا يكون إلا بالله سبحانه وتعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته وما عدا ذلك لا يجوز الحلف به. وقد علَّل أهل العلم عدم جواز الحلف إلا بالله لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به والعظمة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وأسمائه وصفاته. فالحلف بغير الله حرام، سواء حلف بما هو معظم شرعاً كالحلف بالكعبة أو بالصلاة أو الصيام أو المسجد أو غيرها أو حلف بحياة فلان أو حلف بأبيه أو أمه أو حلف بحياة الملك أو حياة الرئيس أو غير ذلك، فكله حلف محرم، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) رواه مسلم، فهذا الحديث(13/229)
يدل دلالة صريحة على قصر الحلف بالله فقط، وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم، وعن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: (لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وفي رواية (فقد كفر) ، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 2561. وكذلك النذر فلا بد أن يكون لله عز وجل، فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله) رواه أبو داود والحاكم وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 13479. وعن ثابت بن الضحاك (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال: أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1732، وبوانة مكان قريب من مكة المكرمة.
وخلاصة الأمر أن الدخان من الخبائث وأن التدخين حرام شرعاً على الصحيح من أقوال أهل العلم، وأن من حلف على ترك التدخين فيلزمه البر بيمينه، فإن لم يفعل لزمته كفارة اليمين.
- - -(13/230)
متفرقات(13/231)
الفتوى اصطلاح شرعي
يقول السائل: ما قولكم فيما يقوله بعض الكاتبين من أن اصطلاح الفتوى محدث، ولم يكن معروفاً زمن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام أو زمن الصحابة أو تابعيهم أو تابعي تابعيهم، وأن الفتوى لا يمكن اعتبارها مصطلحاً شرعياً وأن الصحيح استعمال مصطلح الحكم الشرعي بدلاً من الفتوى، أفيدونا؟
الجواب: لا ينقضي عجبي من هؤلاء المتسلقين على حياض العلم الشرعي، ويظن هؤلاء أن كل من أمسك قلماً صار عالماً، وكل من استعمل الشبكة العنكبوتية صار باحثاً، هيهات هيهات.
إن كلمة الفتيا - وهي أكثر استعمالاً في كلام العرب من لفظ الفتوى وكلاهما فصيح، -انظر الفتيا ومناهج الإفتاء ص7- وما اشتق منها قد استعملت في كتاب الله عز وجل ووردت في السنة النبوية ووردت في كلام الصحابة والتابعين وأتباعهم بمعنى السؤال عن الحكم الشرعي فمن ذلك: قول تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ... (سورة النساء الآية 127. وقوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ (سورة النساء الآية 176. ففي هاتين الآيتين يظهر لنا أن الله عز وجل تولى شأن الإفتاء بنفسه جل جلاله، وهذا يدلنا على أهمية هذا المنصب وخطورته كما قال العلامة ابن القيم [وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات ... ] إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/10.
وقد تولى النبي صلى الله عليه وسلم منصب الإفتاء بنفسه، قال العلامة ابن القيم [وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيبن عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب إتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحدٍ من(13/232)
المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلاً وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ] إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/11.
وقد ورد في ذلك أحاديث عديدة منها: ما رواه البخاري بإسناده عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} قالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن، قالت واستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} . وفي صحيح البخاري أيضاً (استفتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ) . وعن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي ... ) رواه البخاري ومسلم.
وروى النسائي بإسناده عن سليمان بن يسار أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنهم تذاكروا عدة المتوفى عنها زوجها تضع عند وفاة زوجها فقال ابن عباس تعتد آخر الأجلين وقال أبو سلمة بل تحل حين تضع فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت وضعت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بيسير فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه أن يقضيه عنها) رواه البخاري ومسلم. وروى النسائي عن عقبة بن عامر رضي(13/233)
الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن استفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لتمشي ولتركب) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه) رواه أبو داود وابن ماجة.
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (إنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك - يعني الغسل من الجنابة - فقال: أما الرجل، فلينشر رأسه فليغسله، حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة، فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها) رواه أبو داود.
وفي رواية عند الإمام أحمد في المسند عن الزهري قال: قال سهل الأنصاري - وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة في زمانه - حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها.
وروى مسلم عن قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حلَّ؟ فقال سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم) . وروى الدارمي بإسناده عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبى ليلى يقول: (لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا) . وروى الطبراني في الكبير بإسناده عن أبي صالح ذكوان، أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما، عن بيع الذهب بالفضة، فقال: هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يداً بيد، قال أبو صالح: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: هو حرام إلا مثلا بمثل فأخبرت أبا سعيد بما قال ابن عباس، وأخبرت ابن عباس بما قال أبو سعيد(13/234)
الخدري، فالتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري، فقال: ابن عباس، ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب بالفضة، تأمرهم أن يشتروه بزيادة بنقصان أو زيادة يداً بيد، فقال ابن عباس: ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، يقولان: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم) .
وورد في مسند الشافعي أن نفيعاً مكاتباً لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم استفتى زيد بن ثابت فقال إني طلقت امرأة لي حرة تطليقتين فقال زيد حرمت عليك) . والنصوص التي ورد فيها استعمال الفتيا أو الفتوى بمعنى السؤال عن الحكم الشرعي كثيرة جداً.
إذا تقرر هذا فليس من المستغرب هذا الهجوم على الفتوى من قبل بعض الكاتبين كما جاء في كلام بعضهم أن [كلمة الفتوى في وقتنا هذا تعنى الجهل وعدم البحث وحب الخلود إلى الكسل وباقي موروث (علقها في رقبة عالم واطلع سالم) .
وكما جاء في دوسية أحد الأحزاب: [ ... وإنه بغض النظر عن كون الفتوى أحط أنواع الفقه، وبغض النظر عن كون مجرد وجود كلمة مفتي بما لها من واقع، هي انحطاط في المجتمع ... ] أقول: يتناسى هؤلاء أن منصب الإفتاء قد تولاه رب العزة والجلال كما سبق، وتولاه خير البشر صلى الله عليه وسلم، وتولاه كبار الصحابة الكرام، ومن بعدهم كبار علماء الأمة، ويغض هؤلاء الطرف عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} سورة النحل الآية 43.
وخلاصة الأمر أن منزلة الإفتاء في دين الإسلام منزلة عظيمة ولخصها الإمام الشاطبي بقوله [المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم] الموافقات 4/244. وأن كلمة الفتيا أو الفتوى مصطلح شرعي واستعمل في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استفتي النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل كثيرة،(13/235)
واستفتي كبار الصحابة رضوان الله عليهم وكذا التابعون وأتباعهم وكبار علماء الأمة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند.
- - -
تعجيل العقوبة للمذنب في الدنيا
يقول السائل: هلاّ وضحتم لنا مسألة تعجيل العقوبة للمذنب في الدنيا، أفيدونا؟
الجواب: اقتضت حكمة الله عز وجل أن يعجل عقوبة بعض الذنوب في الدنيا، وقد يكون ذلك من باب الاعتبار والاتعاظ بما يصيب العصاة كما هو الحال في الظالمين وقاطعي الأرحام وحالفي الأيمان الكاذبة، وقد يكون تعجيل العقوبة من باب إرادة الخير بالمؤمن لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وتفصيل ذلك كما يلي: إن تعجيل العقوبة في الدنيا ثابت في مجموعة من الأحاديث، فمن ذلك ما ورد في تعجيل عقوبة المستهزئ بالسنة النبوية فقد ورد في الحديث عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) قال: لا أستطيع. قال صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت) ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه-فمه-، أي شلت يده. رواه مسلم. فهذا الرجل لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل بيمنه لم يعجبه ذلك تكبراً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليه فشلت يده.
ومن ذلك أيضاً ما ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتبختر يمشى في برديه قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) رواه مسلم.
ومن الذنوب التي قد يعجل الله عقوبتها في الدنيا الظلم والبغي وقطيعة الرحم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء(13/236)
أُطيعَ الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) رواه البيهقي وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/706، وبلاقع، جمع بلقع وبلقعة، وهي الأرض القفر التي لا شجر فيها، ذكره الزبيدي ونقل عن بعض العلماء، أن معنى الحديث [أي يفتقر الحالف ويذهب ما في بيته من المال، أو يفرق الله شمله ويغيّر ما أولاه من نعمة] تاج العروس 11/30. وفي رواية أخرى: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا وصلوا أرحامهم، وإن أعجل المعصية، عقوبة البغي والخيانة، واليمين الغموس يذهب المال ويثقل في الرحم، ويذر الديار بلاقع) رواه الطبراني في الأوسط وقال العلامة الألباني: إنه صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذهب المال) رواه البزار بسند صحيح، كما قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/404. وجاء في الحديث أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
ومن الذنوب التي قد يعجل الله عقوبتها في الدنيا حلف اليمين الكاذب ليستحل دماء الناس وأموالهم، كما ثبت في صحيح البخاري في الحادثتين التاليتين:
الأولى: روى الإمام البخاري بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن أول قسامة كانت في الجاهلية، لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش، من فخِذٍ أخرى، فانطلق معه في إبله فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالاً، فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيراً واحداً، فقال(13/237)
الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ قال: فحذفه بعصاً كان فيها أجله، فمر رجل به من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فكتب، إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل عن أبي طالب، فأخبره أن فلاناً قتلني في عقال، ومات المستأجَر، فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حيناً، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا هذه قريش، قال يا بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: من أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلاناً قتله في عقال، فأتاه أبو طالب فقال له: إختر منا إحدى ثلاث، إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت، حلف خمسون من قومك، أنك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به، فأتى قومه، فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز أبني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مئة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران، هذان بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون، فحلفوا، قال ابن عباس: فالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف) .
الثانية: روى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: (وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر(13/238)
بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء -أي المطر- فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات) .
ومن الذنوب التي يخشى أن يعجل الله عز وجل عقوبتها في الدنيا سب العلماء وأكل لحومهم كما قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ] .
وأما كون تعجيل العقوبة في الدنيا من باب الخير للمؤمن فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة) رواه الترمذي وقال العلامة الألباني حسن صحيح. وهذا التعجيل رحمة بالمؤمن لأن عذاب الآخرة أشد وأبقى كما قال تعالى: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (سورة طه الآية 127. وصح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) رواه البخاري ومسلم.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أنه لا يجوز للمسلم أن يتمنى تعجيل العقوبة في الدنيا ولا يجوز له أن يدعو الله أن يعجل له عقوبة الذنوب في الدنيا قبل الآخرة بل ذلك من فعل الكفرة كما قال تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (سورة ص الآية 16.وقال تعالى: (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (سورة الأنفال الآية 32. وصح في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت – أي ضعف - فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه(13/239)
وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه) قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال فدعا الله له فشفاه) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أن الله قد يعجل عقوبة بعض الذنوب كما في عقوبة الظالم فإن الله يمهل ولا يهمل وكما هو الحال في قاطع الرحم والعاق لوالديه وآكل حقوق الناس والمعتدي عليهم بيمينه الكاذب، وقد يكون تعجيل العقوبة في الدنيا رحمة بالمؤمنين لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، أجارنا الله وإياكم منه.
- - -(13/240)
لا تثبت نسبة كتاب الجفر إلى علي رضي الله عنه
يقول السائل: قرأت في كتابٍ يتحدث عن المهدي المنتظر أن كتاب الجفر المنسوب إلى علي رضي الله عنه كتاب صحيح النسبة إليه، فما قولكم في ذلك، أفيدونا.
الجواب: كتاب الجفر المنسوب إلى علي رضي الله عنه أو إلى جعفر الصادق رحمه الله من أكاذيب الرافضة ومن ضلالاتهم، وأود بداية أن أعرِّف بكتاب الجفر كما ورد في مصادر الشيعة حيث قالوا: [كتاب الجَفْر هو كتابٌ أملاه رسول الله محمد صلَّى الله عليه وآله في أواخر حياته المباركة على وصيِّه وخليفته علي بن أبي طالب عليه السَّلام وفيه علم الأولين والآخرين ويشتمل على علم المنايا والبلايا وعلم ما كان ويكون إلى يوم القيامة وقد جُمعت هذه العلوم في جلد شاة] ثم ذكر أنه [بعد الإطلاع على الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السَّلام ودراستها أن الأئمة تحدثوا عن جِفارٍ أربعة لا عن جَفْرٍ واحد، أما الجفر الأول فهو كتابٌ، والثلاثة الأخرى أوعيةٌ ومخازن لمحتويات ذات قيمة علمية ومعلوماتية ومعنوية كبيرة، وهذه الجِفار هي: كتاب الجَفْر والجَفْر الأبيض والجَفْر الأحمر والجَفْر الكبير الجامع] عن موقع الكرباسي الشيعي على الإنترنت. وكلمة الجفر تعني جلد الماعز حيث زعموا أن ذلك الكتاب كتب في جلد ماعز أو جلد ثور، إذا تقرر هذا فإن النفس البشرية تطمح إلى معرفة أحوالها المستقبلية وما قد يحدث لها وهذا أمر مقرر من القدم يقول ابن خلدون [اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر، سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا، ومعرفة مُدد الدول أو تفاوتها. والتطلع إلى هذا طبيعة للبشر مجبولون عليها. ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام. والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك] مقدمة ابن خلدون ص330.(13/241)
هذا أولاً، وأما ثانياً فإن كتاب الجفر ذكرت فيه أمور غيبية مستقبلية من تغير دول ووقوع حروب وكوارث ... إلخ ومن المقرر عند أهل العلم أن علم الغيب مختص بالله عز وجل قال الله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} سورة النمل الآية 65، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} سورة الجن الآية 26، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} سورة يونس الآية 20، وقال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} سورة الأنعام الآية 59، وقال تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف الآية 188، وقال أيضاً: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} سورة هود الآية 31. وقد قرر علماء الإسلام أن كتاب الجفر لا تصح نسبته بحال من الأحوال لعلي رضي الله عنه أو إلى جعفر الصادق، قال ابن خلدون [واعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي، وهو رأس الزيدية، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص. وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء. وكان مكتوبا عند جعفر في جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه، وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب عليه، لأن الجفر في اللغة هو الصغير وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم،(13/242)
وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق. وهذا الكتاب لم تتصل روايته ولا عرف عينه، وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل] مقدمة ابن خلدون ص334. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأهل العلم بجعفر – الصادق - وأحواله يعلمون قطعاً أن ذلك مكذوب على جعفر كما كذب عليه الناقلون عنه الجدول في الهلال وكتاب الجفر والبطاقة والهفت واختلاج الأعضاء والرعود والبروق ونحو ذلك مما هو من كلام أهل النجوم والفلسفة ينقلونه عن جعفر وأهل العلم بحاله يعلمون أن هذا كله كذب عليه] بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية ص 328.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وأما الكتب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق، فمن أكبر الأشياء كذبًا حتى يقال: ما كُذب على أحد ما كُذب على جعفر ـ رضي الله عنه. ومن هذه الأمور المضافة: كتاب الجَفْر، الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث. والجفر: ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده، وكذلك كتاب البطاقة الذي يدعيه ابن الحِلِّيّ ونحوه من المغاربة، ومثل كتاب: الجدول في الهلال، والهفت عن جعفر وكثير من تفسير القرآن وغيره] مجموع الفتاوى 4/26.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [والإسماعيلية والقرامطة والباطنية الثنوية والحاكمية وغيرهم من الضلالات المخالفة لدين الإسلام، وما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب، أو جعفر الصادق، أو غيرهما من أهل البيت، كالبطاقة والهفت والجدول والجفر، وملحمة بن عنضب وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل ... ] مجموع الفتاوى 11/55. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [والكتب المنسوبة إلى علي رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت في الأخبار بالمستقبلات كلها كذب مثل كتاب الجفر والبطاقة وغير ذلك، وكذلك ما يضاف إليه من أنه كان عنده علم من النبي صلى الله عليه وسلم خصه به دون غيره(13/243)
من الصحابة] منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 8/68. وقال الإمام الذهبي: [مناقب جعفر كثيرة، وكان يصلح للخلافة لسؤدده وفضله وعلمه وشرفه رضي الله عنه، وقد كذبت عليه الرافضة ونسبت إليه أشياء لم يسمع بها، كمثل كتاب الجفر، وكتاب اختلاج الأعضاء، ونسخ موضوعة] تاريخ الإسلام 3/55.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب الجفر: [لا يعرف له سند إلى أمير المؤمنين، وليس على النافي دليل، وإنما يطلب الدليل من مدعي الشيء، ولا دليل لمدعي هذا الجفر] فتاوى محمد رشيد رضا 4/1307. وقال الشيخ شعيب الأرناؤط: [إن كتاب الجفر لا تصح نسبته إلى جعفر الصادق رحمه الله، والذين نسبوه إليه من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار، والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وعمدتهم في المنقولات التواريخ المنقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع من عًرف بالكذب والاختلاف، كأبي مخنف لوط، وهشام بن محمد السائب، وأمثالهما، وغير خافٍ على طلبة العلم أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا بالرواية الصحيحة السند، فإذا لم توجد، فلا يسوغ لنا شرعاً وعقلاً أن نقول بثبوته] سير أعلام النبلاء 19/543 الهامش. ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتاب (كتب حذر منها العلماء) للشيخ مشهور حسن 1/108-124.
ولا بد من التنبيه إلى أن الروافض قد غالوا في علي رضي الله عنه ونسبوا إليه أموراً كثيرة هو منها براء ومن ذلك ما نسبوه إليه من علم الغيب والحوادث المستقبلية وقد أبطل علي رضي الله عنه ذلك بما صح عنه في الحديث أن أبا جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري. وروى مسلم عن إبراهيم بن يزيد(13/244)
التيمي عن أبيه قال: (خطبنا علي بن أبي طالب فقال من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة - قال وصحيفة معلقة في قراب سيفه- فقد كذب، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات ... ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة استدل العلماء على أن كل ما يذكر عن علي رضي الله عنه وأهل البيت من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر منه الجفر والبطاقة والجدول وغير ذلك وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم فإنه قد كُذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره وكذلك كُذب على علي رضي الله عنه وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم] مجموع الفتاوى 2/217.
وقال الإمام النووي في شرح الحديث السابق: [هذا تصريح من علي رضي الله تعالى عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن علياً رضي الله تعالى عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة وأنه صلى الله عليه وسلم خصَّ أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفى في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا] شرح النووي على صحيح مسلم 9/143.
وخلاصة الأمر أن كتاب الجفر المنسوب إلى علي رضي الله عنه أو إلى جعفر الصادق من أكاذيب الرافضة ومن ضلالاتهم ولا يجوز شرعاً تصديق ما فيه من أباطيل، والغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل.(13/245)
وفاة العلماء ... لكن العلماء لا بواكي لهم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) رواه البخاري ومسلم. وورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وهو حديث حسن. وقال علي رضي الله عنه: (يموت العلم بموت حملته) رواه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعُهُ هلاك العلماء) رواه الدارمي.
ولا شك أن موت العلماء يعتبر خسارة عظيمة للأمة كما قال الشاعر:
تعلَّم ما الرزيَّة فَقْدُ مالٍ ... ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزيَّةُ فَقْدُ حُرٍّ ... يموت بموته بشرٌ كثيرُ
وكما قال الآخر: الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
فقدت الأمة الإسلامية هذا الأسبوع عالمين جليلين من كبار العلماء المتخصصين في الفقه وأصوله، أما أولهما فهو العلامة شيخ الأصول في بلاد الشام الشيخ الدكتور مصطفى سعيد الخن الذي توفي يوم الجمعة 1 شباط 2008 حيث مات ميتةً كريمة في المسجد أثناء استماعه لخطبة الجمعة، وهذه نبذة موجزة عنه: هو مصطفى بن سعيد بن محمود الخن، الشَّافعي، الدِّمشقي، من أسرةٍ دمشقيةٍ عريقةٍ، وقد تتلمذ على الشَّيخ حسن حبنكة وعلى الشَّيخ علي بن عبد الغني الدقر وعلى الشَّيخ محمد أمين سويد وعلى الشَّيخ إبراهيم بن محمَّد الغلاييني وغيرهم، التحق بالجامع الأزهر عام 1369هـ -1949م وحصل على شهادته ثم اشتغل بعد تخرجه بالتَّدريس في(13/246)
كلِّية الشَّريعة بجامعة دمشق، ثم أعير لكلِّية الشَّريعة واللُّغة العربية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، ثم رجع إلى الأزهر فسجل رسالة الدكتوراه بعنوان (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء) بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى عبد الخالق، وحصل على الدكتوراه عام (1391هـ-1971م) مع مرتبة الشَّرف الأولى. عُيِّن بعدها في كلِّيي الشَّريعة والتَّربية بجامعة دمشق، ثم رجع إلى كلِّية الشَّريعة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، وأشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه.
ومن أهم مؤلفاته ما يلي:
1.أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء. وكتابه هذا يدرس في عدة جامعات لطلبة الدراسات العليا.
2. عبد الله بن عباس: حبر الأمة وترجمان القرآن.
3. دراسة تاريخية للفقه وأصوله والاتِّجاهات التي ظهرت فيهما.
4. الحسن بن يسار البصري الحكيم الواعظ والزَّاهد العالم.
5. الأدلَّة الشَّرعية وموقف الفقهاء من الاحتجاج بها.
6. أبحاثٌ حول أصول الفقه الإسلامي (تاريخه وتطوره) .
7. الكافي الوافي في أصول الفقه الإسلامي.
8. (المنهل الراوي، في تقريب النواوي) ، للإمام الفقيه المحدث أبي زكريا النووي. 9. (تسهيل الحصول على قواعد الأصول) ، للعلامة محمد أمين سويد.
10. (نزهة المتَّقين شرح رياض الصَّالحين من كلام سيِّد المرسلين) ، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور مصطفى البغا والدكتور محيي الدين مستو والأستاذ علي الشربجي، والأستاذ محمد أمين لطفي.(13/247)
11. (الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي) ، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور مصطفى البغا والأستاذ علي الشربجي.
12. (العقيدة الإسلامية) : أركانها- حقائقها- مفسداتها، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور محيي الدين مستو.
13. (الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح) ، وقد شارك بالتَّأليف الدكتور بديع اللحام.
14. (حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة) ، محمد صديق القَنُّوجي البخاري. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو.
15. (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) ، للإمام الشوكاني. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو.
16. (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) ، للبيضاوي. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو، والدكتور بديع اللحام.
17. (المنهاج القويم في مسائل التَّعليم) ، لابن حجر الهيتمي. بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين مستو، والأستاذ علي الشربجي. وقد كتب عنه د. محيي الدين مستو كتابه: (مصطفى سعيد الخن، العالم المربِّي، وشيخ علم أصول الفقه في بلاد الشام) وقد أسلم روحه لبارئها بعد تسع وثمانين سنة أمضاها في طلب العلم والتعليم والتأليف والنصح للمسلمين.
وأما العالم الثاني الذي فقدناه يوم الثلاثاء 28/1/1429 هـ وفق 5/2/2008م فهو فضيلة الشيخ العلامة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء سابقاً(13/248)
وهذه نبذة موجزة عنه: ولد عام 1365 هـ. درس في كلية الشريعة بالرياض، عمل أميناً للمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ومن مشايخه الشيخ القاضي صالح بن مطلق والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم، نال شهادة الماجستير والدكتوراه من المعهد العالي للقضاء واشتغل قاضياً في المدينة المنورة وكان مدرساً وإماماً وخطيباً في المسجد النبوي الشريف وكان عضواً في مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي ثم رئيساً للمجمع. وكان عضواً في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي.
أما أهم مؤلفاته: فقد ألف في الحديث والفقه واللغة والمعارف العامة وكتبه تزيد على الستين كتاباً، أولاً في الفقه:1-15 فقه القضايا المعاصرة: (فقه النوازل) ثلاثة مجلدات فيها خمس عشرة قضية فقهية مستجدة وهي: التقنين والإلزام والمواضعة في الاصطلاح وأجهزة الإنعاش وعلامة الوفاة وطفل الأنابيب وخطاب الضمان البنكي والحساب الفلكي والبوصلة والتأمين والتشريح وزراعة الأعضاء وتغريب الألقاب العلمية وبطاقه الائتمان وبطاقة التخفيض واليوبيل والمثامنة في العقار والتمثيل. 16. (التقريب لعلوم ابن القيم) مجلد. 17. (الحدود والتعزيرات) مجلد.18- (الجناية على النفس وما دونها) مجلد. 19. (اختيارات ابن تيمية) للبرهان ابن القيم، تحقيق.20. (حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية) مجلد.
21. (معجم المناهي اللفظية) مجلد. 22. (لا جديد في أحكام الصلاة) . 23. (تصنيف الناس بين الظن واليقين) . 24. (التعالم) . 25. (حلية طالب العلم) . 26. (آداب طالب الحديث من الجامع للخطيب) . 27. (الرقابة على التراث) . 28. (تسمية المولود) .
29. (أدب الهاتف) .30. (الفرق بين حد الثوب والأزرة) . 31. (أذكار طرفي النهار) . 32. (المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل) مجلدان. 33. (البلغة في فقه(13/249)
الإمام أحمد بن حنبل) للفخر ابن تيمية، مجلد، تحقيق. 34. (فتوى السائل عن مهمات المسائل) .
ثانياً: في الحديث وعلومه:35. (التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل) . ثلاث مجلدات، طبع منها الأول. 36. (معرفة النسخ والصحف الحديثية) .
37. (التحديث بما لا يصح فيه حديث) . 38. (الجد الحثيث في معرفة ما ليس بحديث) للغزي، تحقيق.
39-43. (الأجزاء الحديثية) مجلد، فيه خمس رسائل هي:39. (مرويات دعاء ختم القرآن الكريم) جزء. 40. (نصوص الحوالة) جزء. 41. (زيارة النساء للقبور) جزء. 42. (مسح الوجه باليدين بعد رفعهما بالدعاء) جزء. 43. (ضعف حديث العجن) جزء.
ثالثاً: في المعارف العامة:44-47. (النظائر) مجلد، ويحتوي على أربع رسائل: 44. (العزاب من العلماء وغيرهم) . 45. (التحول المذهبي) . 46. (التراجم الذاتية) .
47. (لطائف الكلم في العلم) . 48. (طبقات النسابين) مجلد. 49. (ابن القيم: حياته، آثاره، موارده) مجلد.50-54. (الردود) مجلد، ويحتوي على خمس رسائل
50. (الرد على المخالف) . 51. (تحريف النصوص) . 52. (براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة) . 53. (عقيدة ابن أبي زيد القيرواني وعبث بعض المعاصرين بها) . 54. (التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير) . 55. (بدع القراء) رسالة.
56. (خصائص جزيرة العرب) . 57. (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) ،3 مجلدات، للشيخ محمد بن عبد الله بن حميد مفتي الحنابلة بمكة ت سنة 1296 هـ تحقيق بالاشتراك. 58. (تسهيل السابلة إلى معرفة علماء الحنابلة) للشيخ صالح بن عبد العزيز بن عثيمين المكي- رحمه الله تعالى- تحقيق في مجلدين.(13/250)
59. (علماء الحنابلة من الإمام أحمد إلى وفيات القرن الخامس عشر الهجري) ، مجلد. 60. (دعاء القنوت) . 61. (فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد) للشيخ حامد بن محمد الشارقي مجلد، تحقيق. 62. (نظرية الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان) . 63. (تقريب آداب البحث والمناظرة) . 64. (جبل إلال بعرفات) ، تحقيقات تاريخية وشرعية. 65. (مدينة النبي صلى الله عليه وسلم رأي العين) .
66. (قبة الصخرة، تحقيقات في تاريخ عمارتها وترميمها) . رحم الله مشايخنا رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وإنَّ لله ما أخذَ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمَّى، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها. اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وارفع درجتهم في عليين اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
- - -(13/251)
فهرس المحتويات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 5
العقيدة والتفسير ... 13
التألي على الله سبحانه وتعالى ... 15
حكم الدعاء بـ (اللهم إني لا أسألك رد القضاء) ... 20
الكهان الجدد ... 25
الشيعة ليست مذهباً فقهياً خامساً ... 30
مكانة المسجد الأقصى المبارك عند الشيعة ... 35
تبرج الجاهلية الأولى ... 41
الحديث الشريف وعلومه ... 47
حديث (الصلاة خلف كل بر وفاجر) ... 49
حديث (خمس ليس لهن كفارة) ... 55
حديث (أفضل العبادة انتظار الفرج) ... 60
حديث قدسي لا أصل له ... 64
حديث مكذوب ... 68
الصلاة ... 75
المسج على الجورب الرقيق من مسائل الخلاف المعتبر ... 77
لبس الكفوف (القفازات) أثناء الصلاة ... 81
اللحاق بالإمام في صلاة الجماعة ... 83(13/252)
الاستخلاف في الصلاة وكون المستخلف مسبوقاً ... 87
إذا جمع المسافر بين الصلاتين ثم وصل بلده أثناء وقت الصلاة الثانية ... 91
كيفية صلاة الاستسقاء ... 95
اصطفاف أهل الميت عند المقبرة لتقبل التعزية ... 99
انتهاك حرمة المساجد من الفرق الكشفية ... 103
الزكاة ... 109
أنصبة الزكاة توقيفية لا يجوز تعديلها مطلقاً ... 111
تجب الزكاة في مال اليتيم ... 116
كيف يزكي المزارع ثمن المحصول إذا باعه بعد أن وجبت فيه الزكاة؟ ... 120
زكاة مزارع الدجاج اللاحم ... 125
زكاة المال المستفاد ... 129
يجوز قضاء دين الأقارب من مال الزكاة ... 134
وجوب زكاة الفطر في حق من لم يصم رمضان ... 139
الصيام ... 145
المفطرات العصرية ... 147
الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض في رمضان ... 153
قضاء رمضان ... 158
البرامج التلفزيونية في رمضان ... 163
الحج والأضحية والنذور ... 169(13/253)
أيهما أولى تزويج الابن أم حج الفريضة؟ ... 171
أحكام تتعلق بالتوكيل في الأضحية ... 176
استبدال المنذور بخير منه ... 181
المعاملات ... 187
تسمية الثمن شرط لصحة البيع بخلاف قبضه عند العقد ... 189
دفع أجرة العقار مقدماً ... 194
جعل سعر الفائدة مؤشراً للربح في البنوك الإسلامية ... 198
بيع العملات بالهامش (المارجن) ... 203
حق الجار في استعمال سور جاره ... 211
المرأة والأسرة ... 217
حق الزوجة بمسكن مستقل ... 219
حكم الزواج بنية الطلاق ... 224
إنصاف الابن الذي يعمل في تجارة أبيه دون إخوته ... 231
يجوز زواج الزانيين إذا تابا توبة صادقة ... 236
النساء أولى بالحضانة من الرجال ... 242
حكم دراسة الفتاة في مدرسة تمنعها من ارتداء الجلباب ... 246
رضاع الكبير ... 252
الجنايات والحدود ... 258
عاقلة المرأة ... 260
حكم اليمين والخمسة المعمول بها في القضاء العشائري ... 266
الصلح على أكثر من الدية في القتل العمد ... 271(13/254)
متفرقات ... 277
ترك مجالسة أهل الأهواء وآكلي لحوم العلماء ... 279
كتاب (قول يا طير) وما أثير حوله ... 284
فهرس المحتويات ... 289
الأعمال العلمية للمؤلف أ. د. حسام الدين عفانة ... 293
الأعمال العلمية للمؤلف الأستاذ الدكتور
حسام الدين عفانة
1. الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية (رسالة الماجستير)
2. بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه)
3. الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية (كتاب)
4. أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية (كتاب)
5. يسألونك الجزء الأول (كتاب)
6. يسألونك الجزء الثاني (كتاب)
7. بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي (كتاب)
8. صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة (كتاب)
9. يسألونك الجزء الثالث (كتاب)
10. يسألونك الجزء الرابع (كتاب)
11. يسألونك الجزء الخامس (كتاب)(13/255)
12. المفصل في أحكام الأضحية (كتاب)
13. شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق)
14. فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي ج1
15. الفتاوى الشرعية (1) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
16. الفتاوى الشرعية (2) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
17. الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب (بحث)
18. الزواج المبكر (بحث)
19. الإجهاض (بحث)
20. مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات (كتاب)
21. مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني (كتاب)
22. إتباع لا ابتداع (كتاب)
23. بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي (دراسة وتعليق وتحقيق)
24. يسألونك الجزء السادس (كتاب)
25. رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي (دراسة وتعليق وتحقيق)
26. الخصال المكفرة للذنوب (يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني) (كتاب)
27. أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (كتاب)
28. التنجيم (بحث بالاشتراك)
29. الحسابات الفلكية (بحث بالاشتراك)(13/256)
30. يسألونك الجزء السابع (كتاب)
31. المفصل في أحكام العقيقة (كتاب)
32. يسألونك الجزء الثامن (كتاب)
33. يسألونك الجزء التاسع (كتاب)
34. فهرس المخطوطات المصورة ج 2 (الفقه الشافعي) (كتاب)
35. فقه التاجر المسلم وآدابه (كتاب)
وقد ترجم الكتاب إلى اللغة التركية الدكتور ثروت بايندر من جامعة إستنبول
36. يسألونك الجزء العاشر (كتاب)
37. يسألونك الجزء الحادي عشر (كتاب)
38. يسألونك عن الزكاة (كتاب)
39. يسألونك الجزء الثاني عشر (كتاب)
40.فهرس المخطوطات المصورة ج 3 (الفقه الحنفي) (كتاب)
41. يسألونك عن رمضان (كتاب)
42. يسألونك الجزء الثالث عشر (هذا الكتاب)
موقع الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة على شبكة الإنترنت:
www.yasaloonak.net
وعنوان البريد الإلكتروني:
husam@is.alquds.edu
أو:
yasaloonak.net fatawa@(13/257)
يسألونك
الجزء الرابع عشر
تأليف
الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
أستاذ الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس(14/1)
بسم الله الرحمن الرحيم(14/3)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
وبعد ...
فيقول الإمام أبو حامد الغزالي: [وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد] المستصفى 1/4.
ومن أهم القضايا الفقهية التي تحتاج إلى اصطحاب الرأي والشرع، النوازل الفقهية المستجدة، فهذه تشكل في أيامنا هذه ميداناً فسيحاً للدراسة والبحث، فالنوازل الفقهية المعاصرة تحتاج إلى دراسات معمقة قبل إصدار الفتوى فيها، ولا بد من تأصيلها وفق القواعد والضوابط الشرعية المقررة لدراسة القضايا المعاصرة، ومن أمثلة النوازل الفقهية المعاصرة التي تحتاج إلى دراسات طبية فقهية معمقة، قضية انتشار مرض إنفلونزا الخنازير ومدى تأثيره على الحج والعمرة - سيأتي بحثها في هذا الكتاب-، فقد صدرت بعض الفتاوى المتسرعة الداعية إلى إلغاء موسم الحج لهذا(14/5)
العام وتأجيل العمرة، وهذه الفتاوى لم تدرس النازلة وفق الأسس العلمية لدراسة وبحث النوازل المعاصرة والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. بعد التأكد من وقوع النازلة لا بد من فهمها فهماً صحيحاً مطابقاً للواقع، يقول العلامة ابن القيم: [ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك، لم يعدم أجرين أو أجرٍ، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم] إعلام الموقعين 1/187.
2. استشارة أهل الاختصاص إذا كانت النازلة من المسائل الطبية والاقتصادية والمالية والفلكية والطبيعية ونحوها، فالرجوع إلى أهل العلم في هذه الفنون مطلوب شرعاً امتثالاً لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} سورة النحل الآية 43. يقول الخطيب البغدادي: [ثم يذكر المسألة - المفتي - لمن بحضرته ممن يصلح لذلك من أهل العلم ويشاورهم في الجواب، ويسأل كل واحدٍ منهم عما عنده، فإن في ذلك بركة واقتداء بالسلف الصالح، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} ، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأشياء وأمر بالمشاورة، وكانت الصحابة تشاور في الفتاوى والأحكام] الفقيه والمتفقه 2/71.
3. عرض النازلة على كتاب الله عز وجل وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمر الله تبارك وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} سورة النساء الآية 59. ثم دراسة النازلة بالنظر(14/6)
فيما قرره الفقهاء من قياسٍ واجتهادٍ ومصلحةٍ وعرفٍ وقواعد فقهية، ومقاصد شرعية يمكن أن تندرج النازلة تحتها.
4. ذكر دليل الحكم في الفتوى النازلة، يقول العلامة ابن القيم: [ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه ذلك، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجاً مجرداً عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عَطَنِه وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حِكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته] إعلام الموقعين4/161.
وقال العلامة ابن القيم أيضاً: [عاب بعضُ الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالعيب بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيباً، وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز الفتاوى، وقول المفتي ليس بموجبٍ للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن المسألة، فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة، ولا يجب الأخذ به وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها فيقول قال الله كذا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا فيشفى السائل ويبلغ القائل، وهذا كثيرٌ جداً في فتاويهم لمن تأملها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم، فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه، وعلمُه يأبى أن يتكلم بلا حجة والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبَعُد العهدُ بالعلم وتقاصرت الهمم، إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره، وفضل من يفتى بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى، إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتى بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى والله المستعان] 4/259-260.
5. ما يصدر عن المجامع الفقهية من قرارات في النوازل المعاصرة، وإن كان لا يعتبر في حكم الإجماع الأصولي، ولكن قرارات هذه المجامع مقدمة على اجتهادات أفراد العلماء. فالاجتهاد الجماعي الذي تمارسه مجامع الفقه الإسلامي المعاصرة، يعد مَعْلَماً من معالم مسيرة الفقه(14/7)
الإسلامي في العصر الحاضر، ولا شك أن وجود هذه المجامع وصدور الآراء الفقهية الجماعية عنها يعطي قوة للفقه الإسلامي، وخاصة أن المجامع الفقهية تتصدى لكثير من النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة، وهذا يجعل الفقه الإسلامي قادراً على مواجهة تطور الحياة العصرية. ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية، مقدم على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأٌ أصيلٌ في تاريخ الفقه الإسلامي، فقد روى ميمون بن مهران: (أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر، كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به ... ) سنن الدارمي 1/40.
وقال العلامة ابن القيم: [ ... ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحد وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصٌ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم] إعلام الموقعين 2/156-157.
وختاماً فهذا هو الجزء الرابع عشر من كتابي يسألونك وأصله حلقات تنشر صباح كل يوم جمعة في جريدة القدس المقدسية، وقد سلكت فيه المنهج الذي سلكته في الأجزاء السابقة، من اعتمادٍ على كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى فهم سلف هذه الأمة، وعلى الاجتهادات الجماعية الصادرة عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية المعتبرة، فإن أصبت فذلك الفضل من الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأقول ما قاله القاضي البيساني رحمه الله:
[إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه، إلا قال في غده لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يستحسن، ولو قُدِمَ هذا لكان أفضل، ولو(14/8)
تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر] .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
أبوديس/ القدس المحتلة
صباح يوم الأربعاء السابع من شعبان 1430هـ وفق التاسع والعشرين من تموز 2009 م.(14/9)
العقيدة والتفسير(14/10)
قصة مكذوبة منسوبة إلى إبراهيم عليه السلام
يقول السائل: سمعت أحد المشايخ يذكر قصة إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار، وأن جبريل عليه السلام جاءه فقال: يا إبراهيم، لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: علمه بحالي يغني عن سؤالي، فهل هذه الكلام صحيح، أفيدونا؟
الجواب: هذه القصة ذكرها بعض المفسرين، ومنهم البغوي في معالم التنزيل، والثعلبي في الكشف والبيان، والسمرقندي في بحر العلوم، والألوسي في روح المعاني، وذكرها غيرهم من المفسرين كالبيضاوي والنسفي والنيسابوري، ومن المعاصرين الدكتور راتب النابلسي، وهذه القصة باطلة، ولا تصح بل هي من القَصَص المكذوب الموضوع، كما أنها معارضة للعقيدة الإسلامية، ومعارضة لما هو مقرر في كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء واللجوء إلى الله في السراء والضراء، وكذلك فإنها مخالفة لمنهج الأنبياء جمعياً في دعاء الله سبحانه وتعالى كما سأذكر لاحقاً.
أما بطلان هذه القصة من حيث الرواية فبينهُ العلامة الألباني فقال: [لا أصل له. أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات ولا أصل له في المرفوع، وقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيراً لضعفه فقال: روي عن كعب الأحبار ... وبالجملة فهذا الكلام المعزو لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لا يصدر من مسلم يعرف منزلة الدعاء في الإسلام، فكيف يصدر ممن سمَّانا المسلمين؟! ثم وجدت الحديث قد أورده ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة 1/250، وقال: قال ابن تيمية: موضوع] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/28-29.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وما يُروى أن الخليل لما ألقي في المنجنيق قال له جبريل: سل، قال: (حسبي من سؤالي علمه بحالي) ليس له إسناد معروف وهو باطل، بل الذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) ] مجموع الفتاوى 1/183. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: [وأما قوله: (حسبي من سؤالي علمه بحالي فكلام باطل) ، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من(14/12)
الأنبياء، من دعائهم لله، ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة] مجموع الفتاوى 8/539.
وأما بطلان ذلك درايةً فإن هذه الحكاية مخالفة لما هو مقرر في القرآن الكريم وفي السنة النبوية من مشروعية الدعاء، فالدعاء من العبادة وهو نوع من الأخذ بالأسباب وهو جزء من عقيدة المؤمن، وقد جاءت النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبينةً فضله وحاثةً عليه، فمن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة غافر الآية 60. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} سورة الأعراف الآيتان 55-56. وقوله: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} سورة النمل62.وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} سورة البقرة الآية 186. وقال جل جلاله في وصف عباده المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} سورة السجدة الآية 16.
ودعاء الله عز وجل من منهج الأنبياء؛ فقد قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} سورة إبراهيم 39. وقال أيضاً: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} سورة إبراهيم 40. وقال على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} سورة الأعراف 151.(14/13)
وقال أيضاً: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} سورة المائدة25. وقال أيضاً: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة القصص 16. وقال على لسان زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} سورة مريم 4. وقال أيضاً: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} سورة آل عمران38. وقال على لسان سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} سورة ص35. وغير ذلك من الآيات.
وأما من السنة النبوية فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيءٌ أكرمُ على الله تعالى من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138. وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرَّه أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي وقال العلامة الألباني حديث حسن، انظر صحيح سنن الترمذي 3/140.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة غافر الآية 60. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه العلامة الألباني في المصدر السابق.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أحدٍ يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كفَّ عنه من سوء(14/14)
مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) رواه الترمذي وحسنه العلامة الألباني، المصدر السابق 3/140.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم: (ما على الأرض من مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو بقطيعة رحم. فقال رجل من القوم: إذاً نكثر؟ قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وكذا قال العلامة الألباني في المصدر السابق 1/181.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء) رواه ابن حبان وأبو يعلى وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع 1519، وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر مصادمة هذه القصة المكذوبة لنصوص الكتاب والسنة، فإن الواجب على الخطباء والوعاظ والمدرسين أن يتثبتوا من الأحاديث قبل روايتها وذكرها للناس، لأن معظم الناس من العوام الذين لا يميزون بين الصحيح والضعيف من الأحاديث، بل إن عامة الناس يتلقون هذه الأحاديث وينشرونها فيما بينهم فيُسهم الوعاظ والخطباء والمدرسون وأمثالهم في نشر هذه الأحاديث المكذوبة بين الناس، ويتحملون وزر ذلك.
وبناءً على ذلك فإني أنصح كل من يذكر حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتثبت من ذلك الحديث، وأن يرجع إلى كتب أهل الحديث ليعرف حال ذلك الحديث قبل أن يذكره للناس. فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) . وقال الحافظ ابن حبان: [فصل ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالم بصحته] ، ثم روى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وإسناده حسن كما قال الشيخ شعيب الأرناؤوط، الإحسان 1/210، ثم ذكر ابن حبان بسنده عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حدث حديثاً وهو يُرى -بضم الياء ومعناه يُظن- أنه كذب فهو أحد الكاذبين) وأخرجه مسلم أيضاً.(14/15)
وقال الإمام الشوكاني: [فلما كان تمييز الموضوع من الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجَلِّ الفنون، وأعظم العلوم، وأنبل الفوائد من جهات يكثر تعدادها، ولو لم يكن منها إلا تنبيه المقصرين من علم السنة على ما هو مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحذروا من العمل به واعتقاد ما فيه وإرشاد الناس إليه. كما وقع لكثير من المصنفين في الفقه والمتصدرين للوعظ والمشتغلين بالعبادة والمتعرضين للتصنيف في الزهد فيكون لمن بين لهؤلاء ما هو كذب من السنة أجر من قام بالبيان الذي أوجبه الله، مع ما في ذلك من تخليص عباد الله من معرة العمل بالكذب، وأخذه على أيدي المتعرضين لما ليس من شأنه من التأليف والاستدلال والقيل والقال، وقد أكثر العلماء رحمهم الله من البيان للأحاديث الموضوعة وهتكوا أستار الكذابين، ونفوا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتحال المبطلين وتحريف الغالين وافتراء المفترين وزور المزورين] الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 3.
وكما ينبغي أن يعلم أن في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يغني ويكفي عن الأحاديث المكذوبة.
وخلاصة الأمر أن هذه القصة المنسوبة إلى إبراهيم عليه السلام مكذوبة ومخالفة للكتاب والسنة والواجب على خطباء المساجد والوعاظ أن يتأكدوا من درجة الأحاديث التي يذكرونها في خطبهم ومواعظهم ودروسهم؛ حتى لا يسهموا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن في الأحاديث الصحيحة والحسنة ما يغني ويكفي عن الأحاديث الباطلة والمكذوبة.
- - -(14/16)
قصة باطلة تطعن في الصحابة رضوان الله عليهم
يقول السائل: قرأت في أحد كتب أسباب النزول أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِين} نزل كما نقل عن ابن عباس في امرأة كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن النساء، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فنزلت الآية، فهل هذا الكلام صحيح، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يُعلم أولاً أن سورة الحجر والآية المذكورة منها هي سورة مكية باتفاق، كما قال الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب، وابن حزم في الناسخ والمنسوخ، وقال ابن أبى زمنين: [سورة الحجر وهي مكية كلها] عن الإنترنت. ومن المعلوم أنه لم يكن للمسلمين مسجدٌ يصلي فيه الرجال والنساء إلا بعد الهجرة في المدينة.
ثانياً: إن ما ذكره السائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قد رواه عنه الترمذي بإسناده قال: حدثنا قتيبة حدثنا نوح بن قيس الحداني عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن النساء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِين} قال أبو عيسى-الترمذي- وروى جعفر بن سليمان هذا الحديث عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء نحوه ولم يذكر فيه عن ابن عباس وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح] ورواه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 2472.
ثالثاً: إن القول بأن هذه الآية نزلت في هذه الحادثة المذكورة يعني أن الآية نزلت بالمدينة، وهذا الكلام غير سليم، لأن سورة الحجر كلها مكية كما سبق، وما قاله بعض العلماء إن هذه الآية نزلت بالمدينة اعتماداً على الرواية السابقة عن ابن عباس غير صحيح. لأن هذه الرواية لا تصح عن(14/17)
ابن عباس، وإن صححها الحاكم قديماً والعلامة الألباني حديثاً، فهذه الرواية منكرة، قال الشيخ ابن كثير: [وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ} في الصفوف في الصلاة {الْمُسْتَأْخِرِين} فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط، ليس فيه لابن عباس ذكر وقد قال الترمذي: هذا أشبه من رواية نوح بن قيس والله أعلم] تفسير ابن كثير 4/12. وكلام الترمذي الذي أشار إليه ابن كثير هو: [قال أبو عيسى وروى جعفر بن سليمان هذا الحديث عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء نحوه ولم يذكر فيه عن ابن عباس وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح] سنن الترمذي 5/277، وكلام الترمذي يشير إلى أن الحديث مرسل، والمرسل حديث ضعيف عند المحدثين. ويضاف إلى ذلك أن نوح بن قيس فيه كلام وقد خالفه جعفر بن سليمان فرواه عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء من قوله - يعني ليس من كلام ابن عباس- وليس فيه القصة وإنما فسر معنى الآية وهذا في تفسير عبد الرزاق وتفسير الطبري. انظر تفسير ابن كثير بتحقيق المهدي 4/11.
رابعاً: قال الثعالبي في تفسيره: [والحديث المتقدم إن صح فلا بد من تأويل فإن الصحابة ينزهون عن فعل ما ذكر، فيؤول بأن ذلك صدر من بعض المنافقين أو بعض الأعراب الذين قرب عهدهم بالإسلام ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وأما ابن عباس فإنه كان يومئذ صغيراً بلا شك، هذا إذا كانت الآية مدنية، فإن كانت مكية فهو يومئذ في سن الطفولية وبالجملة فالظاهر ضعف هذا الحديث من وجوه] الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي عن الإنترنت.
خامساً: إن القصة السابقة من رواية أبي الجوزاء وهو تابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام البخاري في التاريخ الكبير: في إسناده نظر. وقال عنه الحافظ ابن حجر: يرسل كثيراً، وقال ابن كثير: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، وقال الجوزجاني: أبو الجوزاء مجهول لا يُعرف.
سادساً: إن تصحيح العلامة الألباني للقصة ودفاعه عنها حيث قال: [ثالثاً: وأما النكارة الشديدة التي زعمها ابن كثير رحمه الله، فالظاهر أنه يعني(14/18)
أنه من غير المعقول أن يتأخر أحد من المصلين إلى الصف الآخر لينظر إلى امرأة! وجوابنا عليه، أنهم قد قالوا: إذا ورد الأثر بطل النظر، فبعد ثبوت الحديث لا مجال لاستنكار ما تضمنه من الواقع، ولو أننا فتحنا باب الاستنكار لمجرد الاستبعاد العقلي للزم إنكار كثير من الأحاديث الصحيحة، وهذا ليس من شأن أهل السنة والحديث، بل هو من دأب المعتزلة وأهل الأهواء. ثم ما المانع أن يكون أولئك الناس المستأخرون من المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؟ بل وما المانع أن يكونوا من الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، ولما يتهذبوا بتهذيب الإسلام، ولا تأدبوا بأدبه؟] السلسلة الصحيحة 5/612.
أقول مع احترامي وتقديري للعلامة الألباني إلا أنه جَانَبَ الصواب في تصحيحه لهذه القصة، فكلامه صحيح لو ثبتت القصة ولكن هذه القصة غير ثابتة سنداً كما سبق وغير ثابتة متناً، فالحادثة مردودة دراية، لأن السورة مكية باتفاق، ولأن مضمون القصة يردها، فلو نظرنا إلى قول الراوي (ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه) فكيف سينظر إلى المرأة والحال أن المرأة تكون راكعة فكيف ينظر إليها وماذا يرى منها؟ ويضاف إلى ذلك أن هذه الحادثة المزعومة تطعن في عدالة الصحابة، وقد قرأت طعوناً كثيرة في حق الصحابة رضوان الله عليهم في مواقع كثيرة على الإنترنت اعتماداً على تصحيح العلامة الألباني لهذه القصة المزعومة!!! ولا بد من التذكير بأمر مهم وهو إن المحدثين قد اعتنوا بنقد المتن ولم يكتفوا بنقد السند فقط، ولا يصح الحكم على الحديث بفصل الكلام في السند عن الكلام في المتن، وهذا ما قرره المحدثون، قال ابن الصلاح: [قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح، لكونه شاذاً أو معللاً] مقدمة ابن الصلاح ص 23. وقال النووي: [قد يصح أو يحسن إسناده أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أو علة] التقريب مع شرحه تدريب الراوي1/161.
وقال ابن كثير: [والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن، إذ قد يكون شاذا أو معللاً] اختصار علوم الحديث ص43.
فهذه القصة المنكرة تطعن في عدالة الصحابة كما ذكرت وعدالتهم ثابتة باتفاق أهل السنة والجماعة، قال الحافظ ابن حجر: [اتفق أهل السنة على أن الجميع -أي جميع الصحابة- عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك، فقال عدالة(14/19)
الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم فمن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} إلى قوله: {إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} في آيات كثيرة يطول ذكرها وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحدٍ من الخلق ... ] الإصابة في تمييز الصحابة 1/6-7.
سابعاً: إن القول بأن الآية الكريمة: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِين} محمولة على المتقدمين في الصفوف الأولى من الصلاة والمتأخرين في صفوف الصلاة، قول ضعيف جداً، لأنه لم يكن للمسلمين مسجدٌ يصلي فيه الرجال والنساء إلا بعد الهجرة في المدينة. وكذلك فإن شيخ المفسرين الإمام الطبري ذكر أقوالاً كثيرة في تفسير الآية ثم قال: [وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد، لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} وما بعده وهو قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} على أن ذلك كذلك، إذ كان بين هذين الخبرين، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدل على خلافه، ولا جاء بعد ... ] تفسير الطبري عن الإنترنت.(14/20)
وخلاصة الأمر أن القصة المذكورة في السؤال قصة باطلة، وقد احتفت بها قرائن تؤكد بطلانها، حتى لو ثبتت من حيث السند فهي منكرة ومردودة، وفيها طعن في عدالة الصحابة رضوان الله عليهم، ويكفينا قول ابن كثير: [وهذا الحديث فيه نكارة شديدة] .
- - -
واجب الأمة لنصرة المسلمين المستضعفين
يقول السائل: حصل نقاش حول واجب المسلمين تجاه إخوانهم في قطاع غزة وذكر أحدهم حديث (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أفيدونا؟
الجواب: ورد هذا الحديث بعدة روايات كلها غير ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فصَّل العلامة الألباني الكلام عليها في السلسلة الضعيفة فذكر ما يلي: [ (من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء، ومن لم يتق الله فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم للمسلمين عامة فليس منهم) موضوع - أي مكذوب - أخرجه الحاكم وسكت عليه وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: ... وأحسب الخبر موضوعاً. قلت - أي الألباني- وأورده ابن الجوزي في (الموضوعات) ثم ذكر الألباني رواية ثانيةً للحديث (من أصبح وهمه الدنيا، فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس منا) .
ضعيف جداً أخرجه الطبراني في الأوسط وأما الهيثمي فقال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وفيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك، وأشار المنذري إلى تضعيفه، قلت: وقد أنكر أبو حاتم أحاديثه عن أبي الأشعث كما في الجرح والتعديل وهذا منها كما ترى، وقال الجوزجاني: أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة. ثم ذكر الألباني روايةً ثالثةً للحديث (من أصبح وهمه غير الله عز وجل فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم) موضوع، ابن بشران في الأمالي والحاكم، ثم ذكر الألباني رواية رابعةً للحديث (من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لا يصبح ويمسي ناصحاً لله ورسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس(14/21)
منهم) ضعيف. أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط ... ] السلسلة الضعيفة 1/320-324 بتصرف واختصار.
وهذا الحديث وإن كان غير ثابتٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن معناه صحيح وورد في معناه أدلة كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث معتبر في المعنى وإن لم يثبت من حيث الإسناد، وقد سئل العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث فقال: [الحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث ضعيف ليس بصحيح، ومعناه أن الذي لا يهتم بأمور المسلمين بالنظر إلى مصلحتهم، والدفاع عنهم إذا حصل عليهم خطر، ونصر المظلوم، وردع الظالم، ومساعدتهم على عدوهم، ومواساة فقيرهم، إلى غير هذا من شئونهم، معناه أنه ليس منهم، وهذا لو صح من باب الوعيد، وليس معناه أنه يكون كافراً، لكنه من باب الوعيد والتحذير، والحث على التراحم بين المسلمين، والتعاون فيما بينهم، ويغني عن هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبَّك بين أصابعه) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . وهو معناه أنه لا يتم إيمانه ولا يكمل إيمانه الواجب إلا بهذا، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) . فجعل المسلمين شيئاً واحداً، وجسداً واحداً، وبناءً واحداً، فوجب عليهم أن يتراحموا، وأن يتعاطفوا، وأن يتناصحوا، وأن يتواصوا بالحق، وأن يعطف بعضهم على بعض، وهذه كلها تكفي عن الحديث الضعيف الذي ذكره السائل ... ] موقع الشيخ على الإنترنت.
ولا شك أن سكوت المسلمين عما يحصل لأهلنا في غزة هاشم يعد من باب الكبائر، ويعتبر خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} سورة الحجرات الآية 10، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم، قال القاضي عياض: [فتشبيه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيلٌ صحيحٌ، وفيه تقريبٌ للفهم وإظهار للمعاني في الصور المرئية، وفيه تعظيم حقوق المسلمين، والحض على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضاً. وقال ابن أبي(14/22)
جمرة: شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء لأن الإيمان أصل وفروعه التكاليف، فإذا أخلَّ المرءُ بشيءٍ من التكاليف شأن ذلك الإخلال بالأصل، وكذلك الجسد أصل الشجرة وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها، كالشجرة إذا ضرب غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها بالتحرك والاضطراب] فتح الباري 10/540.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 6666.
وغير ذلك من النصوص، فكل مسلم يفهم حقيقة هذا الدين فهماً صحيحاً، لا بد أن يقدم ما يستطيع لنصرة المسلمين المستضعفين الذين يتعرضون لأشرس الحروب وأقذرها، ومن لم يفعل فعليه أن يراجع نفسه، لأن منهج أهل السنة والجماعة يقضي أن يقف المسلم مع أخيه المسلم، وأن يكون عوناً له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند حديثه عن أصول أهل السنة والجماعة: [ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشدُ بعضُه بعضاً وشبَّك بين أصابعه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء] العقيدة الواسطية.
وأما من يخذل المسلمين ويسهم في حصارهم ويمنع العون عنهم فإن الله عز وجل سيخذله، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ يخذل امرأ مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته) رواه أحمد وأبو داود وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 5690.
إذا تقرر هذا فإن واجب المسلمين هو نصرة إخوانهم المسلمين ومدُّ يد العون والمساعدة لهم كلٌ حسب وسعه وطاقته، وأقل ذلك الدعاء لهم، ومن(14/23)
ذلك القنوت في الصلوات المفروضات، وهذا هو قنوت النوازل، فمن الثابت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت أحياناً في النوازل التي كانت على عهده صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في القنوت اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى عند البخاري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحدٍ أو يدعو لأحدٍ قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: اللهم ربنا لك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً لأحياء من العرب حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} سورة آل عمران الآية 128. وفي رواية عند مسلم عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثهم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركعة في صلاة شهراً إذا قال سمع الله لمن حمده يقول في قنوته: اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) قال أبو هريرة ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعد ... ) .
والذي يؤخذ من هذه الأحاديث وغيرها مشروعية القنوت عند النوازل والمصائب والبلايا العامة في الصلوات الخمس ويقنت الإمام جهراً في جميع الصلوات بعد الركوع ويجوز قبله فإذا ارتفعت النازلة ترك القنوت.
وختاماً يجب التذكير ببعض القضايا الهامة في ظل الظروف العصيبة التي تعيشها الأمة الإسلامية في هذه الأيام، فمن ذلك أنه لا بد من التوكل على الله سبحانه وتعالى وتفويض الأمر لله عز وجل فالأمور كلها بيده يعز من يشاء ويذل من يشاء.
ولا بد للمسلم الصادق أن يطهر إيمانه من الولاء للكافرين، وليحذر المسلم من أن يحب ظهور الكافرين على المسلمين أو يتمنى ذلك أو يشمت بما(14/24)
حصل للمسلمين، فإن هذا يطعن في إيمانه. وعلى المسلم الصادق أن يوقن أن الله قد وعد هذه الأمة بالتمكين لدينه ونصر أوليائه قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة المجادلة الآية 21.
وخلاصة الأمر أن حديث (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن معناه صحيح، وواجب الأمة المسلمة جمعاء، نصرة المسلمين المستضعفين، ومدهم بكل عونٍ ومساعدة، وأقلُ ذلك الدعاء لهم بنصرهم وتأييدهم، والدعاء على عدوهم وأعوانه ومناصريه بالهزيمة والخذلان.
- - -
حكم المظاهرات التي تقام لنصرة المسلمين المستضعفين
يقول السائل: ما قولكم في فتوى بعض العلماء بأن المظاهرات التي تقام لنصرة المسلمين المستضعفين من البدع، وبأنها أعمال غوغائية وضوضاء لا خير منها، وأنها تصد الناسَ عن ذكر الله عز وجل، وأنها من الفساد في الأرض، أفيدونا؟
الجواب: المظاهرات من الوسائل المعاصرة للتعبير عن الرأي وإظهار المشاعر والأحاسيس، وإذا أردنا أن نعطي حكماً شرعياً للمظاهرات، فلا بد أولاً من تحرير محل النزاع كما يقول الفقهاء، حتى يكون كلامنا دقيقاً، فالمظاهرات التي أتكلم عليها هي المظاهرات التي تخلو من المحرمات والمخالفات مثل: اختلاط الرجال بالنساء أثناء المظاهرة، وخروج النساء متبرجات، ومثل الاعتداء على ممتلكات الناس كتحطيم السيارات والمحلات أو حرق المباني، واستخدام السباب والشتائم والهتاف بشعارات لا يقرها الشرع، ونحو ذلك من المخالفات التي تحدث في المظاهرات. إذا تقرر هذا فإن المظاهرات تضبطها القواعد الشرعية التالية:
أولاً: قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، وهذه القاعدة كما قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: [كلمةٌ جامعةٌ ومقالةٌ عامة وقضية فاضلة عظيمة المنفعة واسعة البركة يفزع إليها حملة الشريعة فيما لا يحصى من الأعمال وحوادث الناس] مجموع الفتاوى 2/535.(14/25)
ومن المعلوم عند الفقهاء والأصوليين أن الأفعال داخلة في عموم القاعدة، قال العلامة العثيمين: [الأصل في الأشياء عموماً الأفعال والأعيان وكل شيء الأصل فيه الحل] القواعد الفقهية ص31، ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيءٌ يُنهى عن لنهى عنه القرآن) رواه البخاري ومسلم، قال العلامة ابن القيم: [وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله ... ] إعلام الموقعين 2/387.
وقال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: [وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة وهي التي نسميها (العادات والمعاملات) فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقييد إلا ما حرمه الشارع وألزم به، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} سورة الأنعام الآية 119، عامٌ في الأشياء والأفعال.
وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي وفيها جاء الحديث الصحيح: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ) ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى ... ] القواعد النورانية 112-113] الحلال والحرام ص21-23.
وبناءً على ما سبق فإن المظاهرات داخلة تحت القاعدة السابقة والقول بتحريمها باطلٌ لأنه لا تحريم إلا بنص.
ثانياً: قرر العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد، فالمظاهرات وسيلة للتضامن مع المسلمين، وفيها إظهارٌ للحق، ورفضٌ للظلم، وشحذٌ للهمم، وتعبيرٌ عن كون المسلمين كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) رواه البخاري ومسلم.(14/26)
فلا شك أن المظاهرة وسيلة لمقاصد عظيمة، وهذه المقاصد مطلوبة شرعاً، فالوسيلة المؤدية إليها مطلوبة شرعاً، قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد، هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46.
وقال الإمام شهاب الدين القرافي: [وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنَّها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق 2/33. وقال العلامة العثيمين: [وقد قال أهل العلم للوسائل أحكام المقاصد فما كان وسيلةٌ لمطلوبٍ فهو مطلوب وما كان وسيلةً لمنهيٍ منه فهو منهيٌ عنه] عن شبكة الإنترنت.
ثالثاً: إذا سلَّمنا بأنه لم يرد دليل شرعي خاص في المظاهرات - مع أن القائلين بالجواز أوردوا أدلة كثيرة - فيمكن تخريج جواز المظاهرات بناءً على قاعدة المصلحة المرسلة، وهي التي لم يرد دليل من الشرع باعتبارها ولا بإلغائها. فيقال [هذه الممارسات التي لم ترد في العهد النبوي، ولم تعرف في العهد الراشدي، ولم يعرفها المسلمون في عصورهم الأولى، وإنما هي من مستحدثات هذا العصر: إنما تدخل في دائرة المصلحة المرسلة ... وشرطها: أن لا تكون من أمور العبادات حتى لا تدخل في البدعة، وأن تكون من جنس المصالح التي أقرها الشرع، والتي إذا عرضت على العقول، تلقتها بالقبول، وألا تعارض نصاً شرعياً، ولا قاعدة شرعية. وجمهور فقهاء المسلمين يعتبرون المصلحة دليلاً شرعياً يُبنى عليها التشريع أو الفتوى أو القضاء، ومن قرأ كتب الفقه وجد(14/27)
مئات الأمثلة من الأحكام التي لا تعلل إلا بمطلق مصلحةٍ تُجلب، أو ضررٍ يُدفع، وكان الصحابة - وهم أفقه الناس لهذه الشريعة- أكثر الناس استعمالاً للمصلحة واستناداً إليها] عن موقع إسلام أون لاين.
رابعاً: إن ما زعمه المانعون من المظاهرات بأنها بدعة لم ترد في الشرع، وأن كل بدعة ضلالة، أقول هذا الكلام مردود، لأن الراجح من أقوال أهل العلم أن البدعة التي هي ضلالة، محصورة في العبادات ولا تدخل في الأمور العادية.
قال الإمام الشاطبي: [فالبدعة إذا عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات] الاعتصام 1/37.
إذا تقرر هذا فإن البدعة هي التعبد لله بما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى ولا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت عن الخلفاء الراشدين، وهذا لا يكون إلا في العقائد والعبادات، فالبدعة التي تُعدُّ بدعةً في الدين، هي البدعة في العقيدة أو العبادة قولية أو فعلية، كبدعة نفي القدر وبناء المساجد على القبور وإقامة القباب على القبور وقراءة القرآن عندها للأموات والاحتفال بالموالد إحياءً لذكرى الصالحين والوجهاء والاستغاثة بغير الله والطواف حول المزارات، فهذه وأمثالها كلها ضلال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ... وأما الأمور العادية والدنيوية فالمحْدَث منها لا يسمى بدعةً شرعاً وإن سمي بدعة لغة، فلا تُعدُّ المحدثات الجديدة بدعاً في الدين مثل الطائرات ووسائل الاتصالات ومكبرات الصوت ... الخ. وكذلك ما يٌعدُّ من الوسائل كتعلم العلوم المختلفة كعلم النحو وكذا طبع المصحف وحفظه بوسائل الحفظ الحديثة كالأشرطة المسجلة والحاسوب ونحوها فهذه الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد فإذا كانت الغايات مشروعة كانت وسائلها المؤدية إليها مشروعة وليست من البدع في شيء] إتباع لا ابتداع ص 43-44. وبناءً على ما سبق فالمظاهرات لا تدخل في مفهوم البدعة.
خامساً: قول المانعين للمظاهرات بسبب ما يرافقها من أمور منكرة، لا يعني منعها مطلقاً، بل المنع يكون مُنصبَّاً على تلك الأمور المرافقة المحرمة فقط، ولا ينسحب هذا التحريم على أصل المسألة، ما دام هذا الأصل ضمن دائرة الإباحة.(14/28)
ويضاف إلى ما سبق أن المظاهرات لنصرة المسلمين والوقوف مع المستضعفين، فيها نوعٌ من تحقيق الشعور بالأخوة الإسلامية وتعبيرٌ واضحٌ عن كون المؤمنين كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ولا شك أن هذا الأمر داخل في عقيدة أهل السنة والجماعة، هذه العقيدة التي يجب أن تطبق بشكل عملي، وليس مجرد كلام يطير مع الهواء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند حديثه عن أصول أهل السنة والجماعة: [ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشدُ بعضُه بعضاً وشبَّك بين أصابعه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء] العقيدة الواسطية.
وأخيراً فإن وسيلة التظاهر لا تمنع التعبير عن الإخوة الإيمانية بوسائل أخرى كالدعم المالي والمادي والدعاء للمسلمين وخاصة في قنوت النوازل وفي قيام الليل، وغير ذلك.
وخلاصة الأمر أن المظاهرات وسيلة مشروعة للتعبير عن الرأي وللتضامن مع المسلمين الذين يتعرضون للمحن والويلات والمآسي من تقتيلٍ وتشريدٍ وهدمٍ للمنازل وهدمٍ للمساجد والمؤسسات العامة والخاصة، والقول بأن المظاهرات بدعةٌ أو إفسادٌ في الأرض قول غير صحيح، تأباه قواعد الشريعة الإسلامية.
- - -(14/29)
مظاهرة الكافرين على المسلمين تعتبر من نواقض الإسلام
يقول السائل: قرأت في بعض كتب العقائد أن مظاهرة الكافرين على المسلمين تعتبر من نواقض الإسلام، فما مدى صحة ذلك، أفيدونا؟
الجواب: قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: [اعلم أن نواقض الإسلام عشرة: الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وقال: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم، كفر إجماعاً. الثالث: من لم يكفِّر المشركين أو شكَّ في كفرهم أو صحح مذهبهم. الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه - كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه - فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، كفر. السادس: من استهزأ بشيءٍ من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه، والدليل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف- الصرف هو التفريق بين المرء وزوجه وأما العطف فهو التوفيق بين المرء وزوجه وكلاهما يتم بواسطة السحر - فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} . الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله تعالى، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله(14/30)
تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} . ولا فرق في جميع هذه بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه] الواجبات المتحتمات المعرفة على كل مسلم ومسلمة.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله تعالى أن مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين من نواقض الإسلام، وهذا حق وصدق، فقد اتفق العلماء على أن مظاهرة الكفار على المسلمين كفر ورِدَّة عن الإسلام، قال العلامة عبد العزيز بن باز: [وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم] مجموع فتاوي ابن باز 1/274. وقال العلامة عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى بالسعودية سابقاً: [وأما التولي: فهو إكرامهم، والثناء عليهم، والنصرة لهم والمعاونة على المسلمين، والمعاشرة، وعدم البراءة منهم ظاهراً، فهذا رِدَّةٌ من فاعله، يجب أن تجرى عليه أحكام المرتدين، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأئمة المقتدى بهم] الدرر السنية 15/479.
وقال العلامة الشيخ أحمد شاكر في فتوى له في بيان حكم التعاون مع الإنجليز والفرنسيين أثناء عدوانهم على مصر: [أما التعاون مع الإنجليز، بأي نوع من أنواع التعاون، قلّ أو كثر، فهو الردّة الجامحة، والكفر الصّراح، لا يقبل فيه اعتذار، ولا ينفع معه تأول، ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء، ولا سياسة خرقاء، ولا مجاملة هي النفاق، سواء أكان ذلك من أفرادٍ أو حكوماتٍ أو زعماء، كلهم في الكفر والردة سواء، إلا من جهل وأخطأ، ثم استدرك أمره فتاب وأخذ سبيل المؤمنين، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم، إن أخلصوا لله، لا للسياسة ولا للناس] كلمة حق 126-137.
وقالت لجنة الفتوى بالأزهر في فتوى لها: [ ... لا شك أن بذل المعونة لهؤلاء؛ وتيسير الوسائل التي تساعدهم على تحقيق غاياتهم التي فيها إذلال المسلمين، وتبديد شملهم، ومحو دولتهم؛ أعظم إثماً؛ وأكبر ضرراً من مجرد موالاتهم ... وأشد عداوة من المتظاهرين بالعداوة للإسلام والمسلمين ... والذي يستبيح شيئاً من هذا بعد أن استبان له حكم الله فيه يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيفرق بينه وبين زوجه، ويحرم عليها(14/31)
الاتصال به، ولا يُصلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين ... ] مجلة الفتح العدد 846.
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي: [إذا أعان المشركين على المسلمين فمعناه أنه تولى المشركين وأحبهم وتوليهم ردة، لأن هذا يدل على محبتهم، فإذا أعانهم على المسلمين بالمال أو بالسلاح أو بالرأي، دلَّ على محبتهم ومحبتهم ردة، فأصل التولي هو المحبة، وينشأ عنها الإعانة والمساعدة بالرأي أو بالمال أو بالسلاح فإذا أعان المشركين على المسلمين فمعناه أنه فضل المشركين على المسلمين] شرح نواقض الإسلام عن موقع صيد الفوائد.
وقال الشيخ سليمان العلوان: [ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين فتنةٌ عظيمة قد عمت فأعمت، ورزيةٌ رمت فأصمت، وفتنةٌ دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون بحب المشركين، ولا سيما في هذا الزمن، الذي كثر فيه الجهل، وقلَّ فيه العلم، وتوفرت فيه أسباب الفتن، وغلب الهوى واستحكم، وانطمست أعلام السنن والآثار ... لأن مظاهرتهم رِدَّة عن الإسلام] التبيان شرح نواقض الإسلام ص 49.
وقال الشيخ سليمان العلوان أيضاً: [وقد حكى غيرُ واحدٍ من العلماء الإجماع على أن مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال والذب عنهم بالسنان والبيان كفر وردة عن الإسلام قال تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . وأي تولٍ أعظم من مناصرة أعداء الله ومعاونتهم وتهيئة الوسائل والإمكانيات لضرب الديار الإسلامية وقتل القادة المخلصين] .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز [أما الكفار الحربيون فلا تجوز مساعدتهم بشيء، بل مساعدتهم على المسلمين من نواقض الإسلام لقول الله عز وجل {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ] فتاوى إسلامية الفتوى رقم 6901.
وقال الشيخ صالح الفوزان في شرح الناقض الثامن السابق: [الشيخ رحمه الله تعالى أخذ نوعاً واحداً من أنواع موالاة الكفار وهو المظاهرة، وإلا فالمولاة تشمل المحبة بالقلب والمظاهرة على المسلمين والثناء والمدح لهم إلى غير ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين معاداة الكفار وبغضهم والبراءة منهم، وهذا ما يسمى في الإسلام بباب الولاء والبراء] .(14/32)
وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: [أما مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين، هذا من نواقض الإسلام، كما هو مقرر في كتب فقه الحنابلة وذكره العلماء ومنهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النواقض العشر في الناقض الثامن. وهذا الناقض مبني على أمرين: الأول: هو المظاهرة، والثاني: هو الإعانة، قال: مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين. والمظاهرة: أن يجعل طائفة من المسلمين - يجعلون- أنفسهم ظهراً للمشركين، يحمونهم فيما لو أراد طائفة من المؤمنين أن يقعوا فيهم، يحمونهم وينصرونهم ويحمون ظهورهم ويحمون بيضتهم، وهذا مظاهرة بمعنى أنه صار ظهراً لهم، فقول الشيخ رحمه الله مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين مركبة من الأمرين - الناقض مركب من الأمرين - المظاهرة بأن يكون ظهراً لهم - بأي عملٍ يكون ظهراً يدفع عنهم ويقف معهم ويضرب المسلمين لأجل حماية هؤلاء. أما الثاني فالإعانة: إعانة المشرك] .
وكلام أهل العلم في بيان ذلك كثير جداً لا يتسع المقام لذكره. وأما مستند إجماع العلماء على أن مظاهرة الكفار على المسلمين كفر وردة عن الإسلام، فأدلته كثيرة منها: قول الله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} سورة آل عمران الآية 28. وقوله الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} سورةالنساء الآيتان 138-139.
وقوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} سورة المائدة الآية51. قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية: [والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان] تفسير الطبري عن الإنترنت.(14/33)
وقال الشيخ ابن حزم: [صح أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم} إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين] المحلى 11/ 138.
ويدل على ذلك أيضاً قوله الله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَااتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} سورة المائدة الآيتان 80-81.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف لو التي تقتضي مع انتفاء الشرط انتفاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} فدلَّ على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه. ومثله قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً] مجموع الفتاوى 7/17-18، وغير ذلك من الأدلة.
وخلاصة الأمر أن مظاهرة الكافرين على المسلمين تعتبر من نواقض الإسلام، ويدخل في ذلك مظاهرتهم مادياً كتقديم العون والمساعدة لهم بغض النظر عن شكلها وحجمها، وكذا تقديم الدعم المعنوي لهم كمساندتهم وممالئتهم في وسائل الإعلام المختلفة.
- - -
موقف الشيعة من الصحابة رضوان الله عليهم
يقول السائل: ما قولكم فيما بثته القناة الإيرانية الثالثة في مقابلة مع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من تعدٍ على ثلاثة من الصحابة الكرام وهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله(14/34)
عنهم، ووصف طلحة والزبير بالرِّدة عن دين الإسلام بسبب ما حصل في موقعة الجمل وتنقص من معاوية، فما حكم الشرع في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ما قاله الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ليس مستغرباً فهذا جزء من اعتقاد الشيعة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشيعة الاثنا عشرية - شيعة إيران- يكفرون معظم الصحابة رضوان الله عليهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والرافضة كفَّرت أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعامة المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين. فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين، والأنصار العدالة، أو ترضَّى عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم، ولهذا يكفرون أعلام الملة: مثل سعيد بن المسيب، وأبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، وعطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، ومثل مالك والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وفضيل بن عياض، وأبي سليمان الدارني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وغير هؤلاء، ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/477.
وما قاله الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في حق طلحة والزبير من أنهما ارتدا عن الإسلام بسبب موقفهما في معركة الجمل، فيه تكذيب صريح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة والزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة، فقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، منها عن عبد الرحمن بن الأخنس (أنه كان في المسجد فذكر رجلٌ علياً رضي الله عنه، فقام سعيد بن زيد فقال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته وهو يقول: عشرة في الجنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت، قال: فقالوا: من هو؟ فقال هو سعيد بن زيد) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 110.(14/35)
فهؤلاء العشرة المذكورين، مقطوع بدخولهم الجنة لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في العقيدة الطحاوية: [وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة، نشهد لهم بالجنة، على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، علي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة ابن الجراح، وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين] ص 728، ثم ذكر شارح الطحاوية بعض فضائلهم فقال: [ ... وفي صحيح مسلم، عن قيس بن أبي حازم، قال: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قد شلت. وفيه أيضاً عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد. وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم، فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواري الزبير، وفيهما أيضاً عن الزبير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي ... وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم، لما اشتهر من فضائلهم ومناقبهم ... والرافضة يتبرؤون من جمهور هؤلاء، بل يتبرؤون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من نفرٍ قليل، نحو بضعة عشر نفراً!!] شرح العقيدة الطحاوية ص 729-734.
وأما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه والذي تنقصه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد فهو صحابي ابن صحابي ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو متجاهل، وهو صحابي جليل، بل أطلق عليه العلماء أنه خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين. فهو خال المؤمنين لأن أخته حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمهات المؤمنين وهو من كتبة الوحي فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وقد عدد الحافظ ابن كثير كتاب الوحي وذكر منهم معاوية. وكذلك فإن معاوية رضي الله عنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 163 حديثاً وخصص له الإمام أحمد في كتابه مسنداً خاصاً وروى له أكثر من(14/36)
مائة حديث. وكذا أبو يعلى الموصلي في مسنده والحميدي في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير وغيرهم.
قال الإمام النووي: [وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنهم] شرح النووي على صحيح مسلم 4/530. وقد وردت أحاديث نبوية في فضل معاوية رضي الله عنه منها عن عبد الرحمن بن أبي عميرة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: (اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به) رواه الترمذي وقال العلامة الألباني: صحيح كما في السلسلة الصحيحة حديث رقم 1969، وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإن حب الصحابة الكرام جزء من عقيدة المسلم، عقيدة أهل السنة والجماعة، قال الإمام الطحاوي: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان] العقيدة الطحاوية ص 689.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] شرح العقيدة الواسطية ص142.
وقد قامت على صحة هذه العقيدة ألا وهي حب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وحرمة سبهم وحرمة بغضهم، عشرات الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانعقد إجماع الصحابة على ذلك. فمن الآيات الكريمات الدالة على ذلك وفيها ثناء الله على الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة التوبة الآية 100. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} سورة آل عمران الآية 110. وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} سورة الفتح الآية 29.(14/37)
وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سورة الحديد الآية 10.
وأما الأحاديث النبوية فكثيرة منها عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه) رواه البخاري ومسلم.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) رواه البخاري ومسلم.
ونص أهل العلم على وجوب احترام الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وأنه يحرم الطعن فيهم أو سبهم أو الانتقاص منهم. قال أبو زرعة الرازي: [إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق] ولتكن ممن يقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} سورة الحشر الآية10] صب العذاب على من سب الأصحاب للألوسي ص391-392.
وقال الإمام النووي: [واعلم أن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ... ] ثم نقل عن القاضي عياض قوله: [وسب أحدهم -أي الصحابة- من المعاصي الكبائر] شرح النووي على صحيح مسلم5/72-73.
وقال الإمام الآجري: [ومن سبهم فقد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، استحق اللعنة من الله عز وجل ومن الملائكة ومن الناس أجمعين] . وقال أيضاً: [لقد خاب وخسر من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خالف الله ورسوله ولحقته اللعنة من الله عز وجل ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً لا فريضة ولا تطوعاً وهو ذليل في الدنيا وضيع القدر كثر الله بهم القبور وأخلى منهم الدور] من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية ص15.(14/38)
وخلاصة الأمر أن ما قاله الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في حق طلحة والزبير ومعاوية، يعتبر تعدياً على دين الإسلام، وتكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الموقف منه إنما هو تجسيد لموقف الشيعة من الصحابة، ولعل في موقف الرئيس الإيراني أحمدي نجاد هذا تنبيهاً لبعض مشايخ المسلمين السنة الذين يقولون إنه لا فرق بين الشيعة والسنة ما دام الجميع يدينون بدين الإسلام وأنه لا يوجد خلاف كبير بين الشيعة وبين أهل السنة والجماعة إلا في الفروع الفقهية، ويظنون أن الشيعة ما هي إلا مذهب كأحد المذاهب الأربعة ولا يعرفون عن معتقدات الشيعة إلا شيئاً يسيراً. وهذه الظنون من الأخطاء الفاحشة، وعلى أهل السنة أن يحذروا من خطورة هذه الأفكار، والواجب عليهم أن ينتبهوا للمد الشيعي في بلادهم، وينبغي أن يعلم أن من سب الصحابة ومنهم طلحة والزبير ومعاوية، فأمه هاوية.
- - -
أكذوبة التقارب السني الشيعي
يقول السائل: ما قولكم في التحذير الذي صدر عن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي من الغزو المذهبي الشيعي لمسلمي أهل السنة، وهل يمكن إنهاء الخلاف بين السنة والشيعة أو التقارب بينهما، أفيدونا؟
الجواب: كثير من المسلمين في العالم الإسلامي وخاصة في بلادنا، لا يعرفون عن معتقدات الشيعة إلا شيئاً يسيراً، بل إنهم يظنون أن الشيعة ما هي إلا مذهب كأحد المذاهب الأربعة، وأنه لا يوجد خلاف كبير بين الشيعة وبين أهل السنة والجماعة، إلا في الفروع الفقهية، ولا شك أن هذا ظن خاطئ، سببه عدم الاطلاع على عقائد الشيعة بشكل صحيح، ومن مصادرهم المعتمدة أو حسن ظن بهم وهو في غير محله. وكثيرون يزعمون أنه لا فرق بين الشيعة والسنة ما دام الجميع يدينون بدين الإسلام، وقد تعالت أصوات كثيرة - بعدما قاله الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي مؤخراً عن المد الشيعي والتمدد على حساب أهل السنة- ونادت تلك الأصوات بعدم فتح النقاش فيما عليه الشيعة من أفكار بحجة المحافظة على وحدة المسلمين وأن الواجب الشرعي يحتم الوقوف صفاً واحداً، سنةً وشيعةً أمام أعداء الإسلام، ولا بد من التقريب بين مذهب أهل السنة وبين الشيعة إلى غير ذلك من الدعوات.(14/39)
وتحذير الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي من الغزو الشيعي هو عين الحق والصواب وإن جاء متأخراً، فمن المعلوم أن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي كان من أنصار التقريب بين السنة والشيعة، وطالما دعا إلى ذلك قولاً وعملاً، ولكنه انتبه أخيراً إلى أن دعوات التقريب إنما هي دعوات فارغة، وأن التقريب الذي يريده الشيعة هو تقريب أهل السنة للمذهب الشيعي وتخليهم عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد سبق أن وصل لمثل هذه النتيجة الدكتور مصطفى السباعي رحمة الله عليه حيث قال: [فتحت داراً للتقريب بين السنة والشيعة في القاهرة منذ أربعة عقود، لكنهم رفضوا أن تفتح دور مماثلة في مراكزهم العلمية كالنجف وقم وغيرها لأنهم يريدون تقريبنا إلى دينهم] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي.
ومما لاشك فيه أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف في العقائد والأصول وليس خلافاً في الفروع، فعند الشيعة الكثير من العقائد الباطلة، ويعرف ذلك من يقرأ في مصادرهم المعتمدة، وإن حاول بعض مراجعهم الدينية المعاصرون إخفاء ذلك أو عدم الحديث عنه، وهم يفعلون ذلك انطلاقاً من مبدأ التُقْيَة وهي عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر بغير ما يبطنون ويقولون: (من لا تُقيَة له لا دين له) .
يقول الشيخ محب الدين الخطيب: [وأول موانع التجاوب الصادق بإخلاص بيننا وبينهم ما يسمونه التُقْيَة فإنها عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون، فينخدع سليم القلب منا بما يتظاهرون له به من رغبتهم في التفاهم والتقارب وهم لا يريدون ذلك ولا يرضون به، ولا يعلمون له، إلا على أن يبقى من الطرف الواحد مع بقاء الطرف الآخر في عزلته لا يتزحزح عنها قيد شعرة] الخطوط العريضة ص11.
ولا شك لديَّ أن أغلب شيعة اليوم ما هم إلا صورة طبق الأصل عن كتبهم السوداء وما فيها من عقائد باطلة، وهذا ظاهر وواضح وضوح الشمس في مقالاتهم ودروسهم على قنواتهم الفضائية وعلى مواقعهم على شبكة الإنترنت.
وإني لآسفٌ على بعض المسلمين من أهل السنة من المشايخ والكتاب والدعاة الذين يضعون رؤؤسهم في الرمال ويتباكون على وحدة المسلمين ويتعامون عن الحقائق الناصعة التي تبين أباطيل الشيعة وأكاذيبهم(14/40)
وافتراءاتهم على دين الله، وكأني بهؤلاء ما اطلعوا على المصادر المعتمدة عند الشيعة التي تذكر بما لا يدع مجالاً للشك هذه العقائد الباطلة التي يعتقد بها الشيعة قديماً وحديثاً، كطعنهم في القرآن الكريم وزعمهم بأنه ناقص حيث ألف أحد كبار علماء النجف، وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي كتاباً سماه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور زعموا فيها بأن القرآن قد زيد فيه ونقص منه، وقد طبع كتاب الطبرسي هذا في إيران. ويقول المفسر الشيعي محسن الكاشاني: [إنّ القرآن الذي بين أيدينا ليس بتمامه كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغيرٌ محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة] تفسير الصافي، المقدمة- محسن الكاشاني. انظر الخطوط العريضة ص 14، الوشيعة في كشف شنائع وضلالات الشيعة ص 34. وأين هؤلاء من قول الله عز وجل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر الآية 90.
[كما أن الشيعة يردون كتب السنة جملةً وتفصيلاً فلا يعتبرونها ولا يُقِرّونها، وترتب على ردِّهم للسنة أن يوجدوا بدائل وهذه البدائل هي أقوال الأئمة، لذلك لا تجد لهم في كتبهم من الأحاديث ما هو مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم إلا نادراً بالذات كتب الفقه الشيعي، لا تجد فيها عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله وسلم، فكل الروايات تسند عن أئمتهم. فالسنة عندهم ليست سنة النبي عليه السلام فحسب؛ بل سنة الأئمة الاثني عشر، وأقوال هؤلاء الأئمة كأقوال الله ورسوله، ولهذا اعترفوا بأن هذا مما ألحقته الشيعة بالسنة المطهرة، قالوا: (وألحق الشيعة الإمامية كلّ ما يصدر عن أئمتهم الاثني عشر من قول أو فعل أو تقرير بالسنة الشريفة) محمد تقي الحكيم، سنة أهل البيت ص9] الوشيعة في كشف شنائع وضلالات الشيعة ص 87-88.
كما أنهم لا يقبلون روايات السنة النبوية التي اعتمدها أهل السنة فعندهم كتاب الكافي للكليني وهو بمثابة صحيح البخاري عندنا، وهو كتاب مملوءٌ بالأكاذيب. كما أنهم يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويلعنون عدداً كبيراً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلقون(14/41)
على أبي بكر وعمر (الجبت والطاغوت) كما جاء في أكبر وأكمل كتبهم في الجرح والتعديل، وهو كتاب (تنقيح المقال في أحوال الرجال 1/207 لشيخ الطائفة الجعفرية العلامة الثاني آية الله المامقاني. وجاء في تفسير القمي عند قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} سورة النحل الآية 90، قالوا: الفحشاء أبو بكر، والمنكر عمر، والبغي عثمان. وزعم الشيعة أن مهديهم عندما يرجع فإنه يخرج أبا بكر وعمر رضي الله عنهما من قبريهما، ويصلبهما ويحرقهما. الأنوار النعمانية 2/85.
وعند الشيعة دعاء يسمونه (دعاء صنمي قريش) ويعنون بهم أبا بكر وعمر، ونص دعائهم: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما ... الخ) ويريدون بابنتيهما أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين حفصة رضي الله عنهما، وهذا الدعاء في كتابهم (مفتاح الجنان) ص114. كما أنهم يعظمون قاتل عمر بن الخطاب ويسمونه (بابا شجاع الدين) وهو أبو لؤلؤة المجوسي، ويحتفلون بيوم مقتل عمر رضي الله عنه، وقد قال القمي الأحوص من مشايخ الشيعة المعروفين: إن يوم قتل عمر بن الخطاب هو يوم العيد الأكبر ويوم المفاخرة ويوم التبجيل ويوم الزكاة العظمى ويوم البركة ويوم التسلية. ولذا فإنهم أقاموا له نصباً تذكارياً في إيران يعظمونه ويقدسونه. كما أن الشيعة يكفرون كل من لا يؤمن بولاية الأئمة الاثني عشر، يقول رئيس محدثيهم محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق في رسالة الاعتقادات ص103 ط مركز نشر الكتاب إيران ص1370ما نصه: [واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله] . وعقائد الشيعة الباطلة كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها.
وأخيراً أذكرُ للمتباكين على الوحدة مع الشيعة والذين يعتبرون أنه لا فرق بين سني وشيعي، (عقيدة الطينة) التي يعتقد بها الشيعة، وملخص هذه العقيدة: [أن الشيعي خلق من طينة خاصة والسني خلق من طينة أخرى،(14/42)
وجرى المزج بين الطينتين بوجه معين، فما في الشيعي من معاصي وجرائم هو من تأثره بطينة السني، وما في السني من صلاح وأمانة هو بسبب تأثره بطينة الشيعي، فإذا كان يوم القيامة فإنّ سيئات وموبقات الشيعة توضع على أهل السنة، وحسنات أهل السنة تعطى للشيعة] . أصول مذهب الشيعة الإمامية 2/956.
واسمعوا يا دعاة التقريب ما قاله الدكتور عبد المنعم النمر في كتابه المؤامرة على الكعبة من القرامطة إلى الخميني ص 118: [ولكننا نحن العرب السنيين لا نفطن إلى هذا، بل ظننا أن السنين الطويلة قد تكفلت مع الإسلام بمحوه وإزالته، فلم يخطر لنا على بال، فشاركنا الإيرانيين فرحهم واعتقدنا أن الخميني سيتجاوز أو ينسى مثلنا، كل هذه المسائل التاريخية، ويؤدي دوره كزعيم إسلامي لأمة إسلامية يقود الصحوة الإسلامية منها، وذلك لصالح الإسلام والمسلمين جميعاً، لا فرق بين فارسي وعربي، ولا بين شيعي وسني، ولكن أظهرت الأحداث بعد ذلك أننا كنا غارقين في أحلام وردية، أو في بحر آمالنا، مما لا يزال بعض شبابنا ورجالنا غارقين فيها حتى الآن برغم الأحداث المزعجة] .
ولا بد من التأكيد على أن كثيراً من دعاة التقريب بين السنة والشيعة قد أُتوا من عدم اطلاعهم على أمهات كتب الشيعة المعتمدة، وكذا عدم معرفتهم بخيانات الشيعة على مر العصور والأيام وأشهرها الدور الخياني للوزير ابن العلقمي في سقوط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، انظر كتاب خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية ص 81.
وخلاصة الأمر أن تحذير الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي من الغزو المذهبي الشيعي لمسلمي أهل السنة تحذير صحيح، ولكن وقته متأخر جداً، ودعوات التقريب بين السنة والشيعة دعوات فارغة من المضمون، لأن التقريب الذي يريده الشيعة هو إدخال أهل السنة في المذهب الشيعي، ويجب على أهل العلم والدعاة أن يكونوا على بينة من عقائد الشيعة، وعليهم أن يوقنوا بأن شيعة اليوم ما هم إلا نسخة طبق الأصل عن شيعة الأمس، كما أن عليهم أن لا يخلطوا بين مواقف بعض الشيعة السياسية وبين عقائدهم الباطلة. ومن زعم أنه لا فرق بين سني وشيعي فهو واهمٌ غافل.
- - -(14/43)
الحديث النبوي وعلومه(14/46)
تداول الأحاديث المكذوبة والقصص الغريبة على الإنترنت
يقول السائل: يردني كثير من الرسائل على بريدي الإلكتروني - الإيميل - وفيها أحاديث منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص غريبة، ويُطلب مني إرسالها إلى أكبر عددٍ من الناس، لأنها من باب الدعوة إلى الخير كما يقولون، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ما ذكره السائل من نشر أحاديث منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص غريبة وخرافات وخزعبلات، أصبح آفة خطيرة، ومنتشرة بشكل كبير على الشبكة العنكبوتية - الإنترنت - وكذلك على شبكات الهاتف المحمول بالإضافة للبريد الإلكتروني - الإيميل -، وقد زعم هؤلاء أن مَنْ ينشر مثل هذه الأخبار فله كذا وكذا من الحسنات، وأنه ينال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنه يصيبه خير كثير أو يسمع أخباراً تسره، وأن من لم ينشرها سيصيبه كذا وكذا إلى غير ذلك من الترهات، ولا شك أن كل هذا من أعظم الكذب والدجل بلا خجل، لأن الأجر والثواب لا يعلمه إلا الله عز وجل، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنال بمجرد نشر هذه الأخبار المكذوبة، وكذلك ما ورد من الوعيد الشديد لمن لم ينشرها وأنه يحرم من رحمة الله، فهو كذبٌ على الله وافتراءٌ عظيم. قال العلامة اللكنوي مبيناً أصناف الكذابين على الرسول صلى الله عليه وسلم: [ ... الثالث قومٌ كانوا يضعون الأحاديث في الترغيب والترهيب، ليحثوا الناس على الخير، ويزجروهم عن الشر، وأكثر أحاديث صلوات الأيام والليالي من وضع هؤلاء، ومن هؤلاء من كان يظن أن هذا جائز في الشرع لأنه كذب للنبي صلى الله عليه وسلم لا عليه ... ] الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص 15.
ويجب أن يُعلم أن نشر الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون التأكد من ثبوتها، يعتبر من باب الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرٌ جد خطير، لأن هؤلاء قد يدخلون في دائرة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر وعاقبته وخيمة، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهو حديث صحيح متواتر رواه البخاري ومسلم، وفي رواية عند مسلم (إن كذباً علي َّ ليس ككذبٍ على أحدٍ، فمن كذب عليَّ(14/47)
متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) . قال الحافظ ابن حبان: (فصل ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالم بصحته) ، ثم روى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) ، وقال محققه الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، الإحسان 1/210، وقال العلامة الألباني: وسنده حسن وأصله في الصحيحين بنحوه، السلسلة الضعيفة 1/12. ثم ذكر ابن حبان بسنده عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حدث حديثاً وهو يُرى - بضم الياء ومعناه يظن - أنه كذب فهو أحد الكاذبين) وأخرجه مسلم في مقدمة صحيحه. وفي رواية عند ابن ماجة وغيره (من حدث عني حديثاً.... الخ) . وقال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم.
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على وجوب التثبت من الأحاديث قبل روايتها ونشرها بين الناس، لأن معظم الناس من العوام الذين لا يميزون بين الصحيح والضعيف من الأحاديث، بل إن عامة الناس يتلقون هذه الأحاديث وينشرونها فيما بينهم، فيسهم هؤلاء في نشر هذه الأحاديث المكذوبة بين الناس، ويتحملون وزر ذلك. وقد نص أهل العلم على تحريم رواية الأحاديث المكذوبة، قال الحافظ العراقي في ألفيته:
شرُ الحديث الخبر الموضوعُ ... الكذبُ المختَلقُ المصنوعُ
وكيف كأن لم يجيزوا ... ذكره لعالم ما لم يبين أمره
وقال الإمام النووي: [باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وغيره من الأحاديث، ثم ذكر بعد ذلك: [باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها] واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان ناسٌ من أمتي يُحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) رواه مسلم. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/62-70. وينبغي أن يُعلمَ أن في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يغني ويكفي عن الأحاديث المكذوبة. ولا يقولن قائل إنه ينشر هذه الأخبار من باب نشر الخير والدعوة إليه، فإن هذا الكلام من الباطل، فالنية الحسنة لا تكفي(14/48)
لصلاح العمل، وكم من مريدٍ للخير لن يصيبه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه عنه الدارمي/234.
وهنا لا بد من توضيح قاعدة هامة في العمل الذي يجوز للمسلم أن يعمله وهي ما قرره العلماء من أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46. فوسيلة المحرم محرمة، أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك في تحريمه، فكذلك نشر الأحاديث المكذوبة محرم.
إذا تقرر هذا فإن كثيراً من الأحاديث الواهية والمكذوبة والقصص والخرافات أخذت طريقها للنشر على الشبكة العنكبوتية - الإنترنت - وعلى شبكات الهاتف المحمول بالإضافة للبريد الإلكتروني - الإيميل - ومطبوعات مختلفة، وأذكر هنا أمثلة منها ليحذرها القراء، فمن هذه المكذوبات: الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى الشيخ أحمد، حديث عشرةٌ تمنع عشرة، السور المنجيات، حديث أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث محاورة إبليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث الأعرابي الذي أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل جبريل من السماء مرتين، حديث يا علي لا تنم إلا أن تأتي بخمسة أشياء وهي قراءة القرآن كله، التصدق بأربعة آلاف درهم، زيارة الكعبة، حفظ مكانك بالجنة، إرضاء الخصوم، قصة يا ابن آدم أتدري ماذا يقول ملك الموت وأنت نائم على خشبة الغسل؟، قصة المرأة المتكلمة بالقرآن، حديث دعاء جبريل عليه السلام، حديث من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة، حديث يا ابن ادم لا تخف من ذي سلطان، حديث: يا ابن آدم جعلتك في بطن أمك، قصة أن أسماء الله الحسنى لها طاقة شفائية، حديث موت الملائكة، حديث دعاء الجوشن، حديث دعاء كنز العرش، حديث استئذان ملك الموت من النبي صلى الله عليه وسلم ليقبض روحه، حديث مجيء جبريل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم في ساعة ما كان يأتيه فيها متغير اللون فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: (مالي أراك متغير اللون؟، فقال: يا محمد جئتك في الساعة التي أمر اللَّه بمنافخ النار أن تنفخ فيها، حديث نزول جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة لم ينزل في مثلها قط؛ ضاحكا مستبشراً، حديث الأعرابي في الطواف، بينما النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف، إذ(14/49)
سمع أعرابياً يقول: يا كريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلفه: يا كريم، فمضى الأعرابي إلى جهة الميزاب، وقال: يا كريم، وحديث من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة، وغير ذلك من الأخبار المكذوبة، ويمكن لمن أراد الاستزادة من ذلك أن يرجع إلى الصفحة الإلكترونية التالية: www.islam2all.com
ومن فضل الله عز وجل أن صار في زماننا هذا من السهولة بمكان التأكد من صحة أي حديث منسوب للنبي صلى الله عليه ومسلم، وذلك بمراجعة كتب أهل العلم المتخصصة في ذلك، وهي كثيرة ومنشورة طباعة، وموجودة على شبكة الإنترنت، كما أنه يوجد عدد كبير من المواقع الإلكترونية بإشراف أهل العلم، والتي تقوم بتخريج الأحاديث النبوية وتبين الحكم عليها، وهذه بعض عناوينها:
جامع الحديث النبوي: www.sonnaonline.com
الحديث الشريف: www.hadith.al-islam.com
كتب الحديث للألباني:
www.arabic.islamicweb.com/Books/albani.asp
الموسوعة الشاملة: www.islamport.com
الحديث الشريف - الشبكةالإسلامية www.islamweb.net
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.www.dorar.net
ملتقى أهل الحديث: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/index.php
شبكة السنة: www.alssunnah.com
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً نشر الأحاديث بأي وسيلة من وسائل النشر قبل التأكد من ثبوتها، ويحرم ترويج الأحاديث المكذوبة والموضوعة، وكذا القصص والخرافات ونحوها.
- - -
هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم
يقول السائل: سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، فهل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أفيدونا؟(14/50)
الجواب: هذا النص المذكور ليس بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو أثر منقول عن بعض السلف، وقد بين العلامة الألباني أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو ضعيفٌ جداً، ثم ذكر أنه رواه تمام وابن عدي والسهمي والهروي والديلمي، ثم ذكر أن الصحيح وقفه على محمد بن سيرين، وورد عن زيد بن أسلم والحسن البصري والضحاك بن مزاحم وإبراهيم النخعي موقوفاً عليهم، وروي عن ابن عباس وأبي هريرة موقوفاً عليهما بأسانيد ضعيفة. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 5/503. وقد رواه الإمام مسلم عن محمد بن سيرين من أئمة التابعين في مقدمة صحيحه 1/76. وهذا الأثر يبين أن العلم الشرعي من الدين، فلا بد للناس أن ينظروا في أحوال من يأخذون العلم عنهم، وفي زماننا هذا كثر المتسورون على العلم الشرعي ممن ليسوا أهلاً ليؤخذ العلم عنهم، وخاصة أن وسائل الظهور على الناس ومخاطبتهم قد كثرت وتنوعت كما في الفضائيات والإذاعات وشبكة الإنترنت والصحف والمجلات وغيرها. ويضاف إلى ذلك أن بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي يقفون مواقف الشبه والشك والريبة، وتصدر عنهم أمور مخالفة لشرع الله عز وجل وهم يزعمون أنهم يتكلمون باسم الدين، وقد عجبت من أحدهم يحتفل بعيد ميلاده!؟ ونُشرت صورتُه وهو يقطع الكعكة، في أحد النوادي المشبوهة (الليونز) ، وحوله مجموعة من النساء الكاسيات العاريات، وغنوا له هابي بيرث داي تو يو ... ، ثم يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتفل بعيد ميلاده!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} سورة الكهف الآية 5.
ولا شك أن هذا من الأمراض التي تصيب المشايخ في مقتل، وهذا يُعد من الأهواء التي تصيب هؤلاء المشايخ المتصدرين، كحب المال والجاه والشهرة وحب الظهور الذي يقصم الظهور، وكمرض العلم وعدم العمل، ومرض اتباع أهل البدع والأهواء، وكمداهنة الكفرة والفسقة، فهؤلاء الذين يحملون العلم الشرعي ما صانوه حق صيانته وينطبق عليهم قول القاضي الجرجاني:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوسِ لعُظِّما!
ولكنْ أهانوه فهان ودنّسوا ... مُحيَّاهُ بالأطماعِ حتى تجهَّما!(14/51)
فكل هؤلاء وأشباههم لا يؤخذ عنهم العلم الشرعي، وأسوق هنا طائفة من الأحاديث ومن أقوال السلف فيمن يؤخذ عنهم العلم الشرعي ومن لا يؤخذ عنهم حتى يكون المسلم على بينة من أمره:
فعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر أمتي أناسٌ يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم) رواه مسلم.
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلون) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي، وقال الترمذي: حديث صحيح. وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 4/156.
وقال الإمام القدوة يزيد بن هارون: [إن العالِم حُجَتُك بينك وبين الله تعالى، فانظر مَنْ تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل] الفقيه والمتفقه 2/178.
وروى الخطيب البغدادي عن إبراهيم النخعي- أحد أئمة التابعين- قال: (كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل، نظر في صلاته، وفي حاله، وفي سمته، ثم يأخذ عنه) .
ونقل الحافظ ابن عبد البر عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله قوله: [لا يُؤخذ العلم عن أربعة: سفيهٌ معلنٌ السفه، وصاحب هوى يدعو الناس إليه، ورجلٌ معروف بالكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجلٌ له فضلٌ وصلاحٌ لا يعرف ما يحدث به] جامع بيان العلم وفضله.
وذكر الإمام ابن أبي حاتم هذا الأثر [دينك، دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا] .(14/52)
وسئل عبد الله بن المبارك: [من الملوك؟ قال الزهاد. قالوا من السفلة؟ قال: الذين يأكلون بدينهم. قالوا: من سفلة السفلة؟ قال الذين يصلحون دنيا غيرهم بإفساد دينهم) . وجعل الشيخ ابن مفلح الحنبلي المقدسي في كتابه (الآداب الشرعية) فصلاً بعنوان (صفات من يؤخذ عنهم الحديث والدين ومن لا يؤخذ عنهم) ، وذكر فيه قول الإمام مالك لرجلٍ: [اطلب هذا الأمر أي -العلم- من عند أهله] ، وقول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: [لا يؤخذ العلم إلا عمن شُهدَ له بطلب العلم] .
وقول الإمام أحمد: [يُكتب الحديثُ عن الناس كلهم إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو إليه، أو كذاب، أو رجل يغلط في الحديث فيرد عليه فلا يقبل] .
وقول الإمام أبي حنيفة: [تكتب الآثار ممن كان عدلاً في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعاً حتى انقادت العامة له، فذاك لا ينبغي أن يكون من أئمة المسلمين] .
وقول حرملة: [سمعت الشافعي يقول: ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة - أي الشيعة -] .
وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن علمائهم وأمنائهم، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا) .
[وقد نقل الخطيب البغدادي عن ابن قتيبة أنه سئل عن معنى هذا الأثر، فأجاب: يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ولم يكن علماؤهم الأحداث، ثم يعلل هذا التفسير فيقول: لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب وحِدَّتُه وعجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحَدَث، مع السّن والوقار والجلال والهيبة، والحَدَث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أُمنت على الشيخ فإذا دخلت عليه وأفتى هلك وأهلك] شبكة الإنترنت.
ثم ذكر الشيخ ابن مفلح الحنبلي المقدسي فصلاً آخر في سمت العلماء الذين يؤخذ عنهم الحديث والعلم وهديهم. وساق فيه طائفة من أقوال أهل العلم في ذلك. وقال الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) [باب اختيار الفقهاء الذين يتعلم منهم، ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة، وعرف بالستر والصيانة] ثم ذكر عن سليمان موسى أنه قال: (لا تقرءوا القرآن على المصحفيين، ولا تأخذوا العلم من الصحفيين) ،(14/53)
وقال ثور بن يزيد: (لا يفتي الناس الصحفيون) ، وقال أبو زرعة: (لا يفتي الناس صُحفي، ولا يقرئهم مصحفي) . ويقصد بالصُحفي من يأخذ علمه من الكتب بدون شيخ يُعلمه، والمصحفي من يُعلم الناس القرآن والتجويد والقراءات دون أن يتلقاها من أفواه القراء. قال الخطيب البغدادي: [الذي لا يأخذ العلم من أفواه العلماء لا يُسمى عالماً، ولا يُسمى الذي يقرأ من المصحف من غير سماعٍ من القارئ قارئاً، إنما يسمى مُصحفياً] .
إذا تقرر هذا فإن العلم الشرعي لا يؤخذ عن كل من هب ودب، وإنما يؤخذ عن أهل العلم الصادقين، العاملين به، ويؤخذ من العلماء الربانيين، كما قال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [فلا بد من معرفة من هم العلماء حقاً، هم الربانيون الذين يربون الناس على شريعة ربهم، حتى يتميز هؤلاء الربانيون عمن تشبه بهم وليس منهم، يتشبه بهم في المظهر والمنظر والمقال والفعال، لكنه ليس منهم في النصيحة للخلق وإرادة الحق، فخيار ما عنده أن يلبس الحق بالباطل ويصوغه بعبارات مزخرفة، يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، بل هو البدع والضلالات الذي يظنه بعض الناس هو العلم والفقه وأن ما سواه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون] شرح كشف الشبهات عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن الأثر المذكور في السؤال وهو: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، لم يثبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول محمد بن سيرين من التابعين، وقد نصح أهل العلم قديماً وحديثاً بالعمل بهذا الأثر، فيجب على المسلم عامة وطالب العلم خاصة أن ينظر عمن يأخذ دينه، فلا يأخذه إلا من العلماء العاملين الصادقين، الذين ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) ، وهو حديث مشهور صححه الإمام أحمد وابن عبد البر وغيرهما. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا منهم.
- - -(14/54)
الدين المعاملة
يقول السائل: هل القول المشهور بين الناس (الدين المعاملة) حديث نبوي، أفيدونا؟
الجواب: جملة (الدين المعاملة) ليست حديثاً نبوياً، وإنما هي عبارة متداولة على ألسنة الناس، وذكر العلامة الألباني هذه العبارة في مقدمة المجلد الخامس من سلسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأفاد بأنه لا أصل لها في السنة النبوية، سلسلة الأحاديث الضعيفة 5/11. ومع أن عبارة (الدين المعاملة) ليست حديثاً نبوياً فهي صحيحة المعنى، حيث إن الدين الإسلامي لا يقتصر على الأعمال الظاهرة كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، بل لا بد أن يكون لهذه الأعمال آثار طيبة تظهر في سلوك المسلم في جوانب حياته كلها، يقول الله تعالى في شأن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، فالصلاة ليست مجرد حركات تؤدى، وإنما لا بد أن تنهى المصلي عن الفواحش والمنكرات. ويقول الله تعالى في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . فالزكاة ليست مجرد مبلغ من المال يدفعه الإنسان كما يدفع الضرائب، بل هي وسيلة لتطهير النفس وتزكيتها، ويقول الله عز وجل في شأن الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (ولعل) في لغة العرب تفيد الترجي، فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى، أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى. وبناء على ذلك فليس الصوم هو مجرد الامتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة فحسب، بل لا بد من صوم الجوارح أيضاً، فاليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات، والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات، واللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من(14/55)
الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّك أحدٌ أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححه العلامة الألباني. وقال تعالى في شأن الحج: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فالحج تربية للمسلم على التطهر والتخلص من سوء الأخلاق والبعد عن شهوات النفس، وهذا الكلام ينطبق على أحكام الإسلام الأخرى التي يجب أن تنعكس إيجاباً في سلوكنا وتصرفاتنا، ولكن إذا نظرنا في واقع كثيرٍ من المسلمين اليوم لوجدنا هذه المعاني مفقودة أو تكاد، وأذكر في هذا المقام أربعة أمثلة فقط على الانفصال ما بين العمل وأثره المرتجى شرعاً: المثال الأول: تعامل كثير من الناس في الطريق والشارع العام، فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى وردُّ السلام وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر) رواه البخاري.
وقد دلت النصوص على أن إزالة الأذى من طرقات الناس تعتبر صدقةً، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري. وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخذه فشكر الله له فغفر له) رواه البخاري ومسلم.
وإزالة الأذى من طرقات الناس إحدى مراتب الإيمان كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم.
وعن أبي برزة رضي الله عنه قال: (قلت يا نبي الله علمني شيئاً أنتفع به قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [هذه الأحاديث المذكورة في الباب ظاهرة في فضل إزالة الأذى عن الطريق سواء كان الأذى شجرة تؤذي أو غصن شوكة(14/56)
أو حجراً يعثر به أو قذراً أو جيفة أو غير ذلك] شرح النووي على صحيح مسلم 6/131.
وما ذكره الإمام النووي من أنواع الأذى المادية التي كانت معروفة في زمانه قد يكون يسيراً مع أنواع الأذى الموجودة في زماننا مثل التعدي على الطرق، وإساءة استخدامها وخاصة من السائقين، فمن المعروف أن القيادة فنٌ وذوقٌ وأخلاقٌ كما يقولون، وكثير من سائقي زماننا ليس عندهم فنٌ ولا ذوقٌ ولا أخلاق.
المثال الثاني التعامل مع الجيران: وردت نصوص كثيرة في الإحسان إلى الجار وأذكر حديثاً واحداً فقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) رواه البخاري. فهذا النهي الوارد في الحديث يعم كل أذىً فلا يجوز إلحاق الأذى بالجار سواء أكان الأذى مادياً أو معنوياً. ولكن انظر إلى واقع تعامل كثيرٍ من الناس مع جيرانهم، فماذا ترى؟ الجواب لديك أيها القارئ!!
المثال الثالث التعامل داخل الأسرة، فمن المعلوم أن الحياة الزوجية في الإسلام تقوم على المودة والمحبة والتفاهم بين الزوجين قال تعالى: {وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم الآية 21.
إن الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة وتعني عطف قلوبهم بعضهم على بعض وقال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17. ويجب على كل من الزوجين أن يعرف ما له وما عليه وقد بين الإسلام واجبات الزوجين وحقوقهما بياناً شاملاً فقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تبين حقوق الزوجة على زوجها يقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة:227.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً) فمن حقوق الزوجة على زوجها أن يعاملها معاملة كريمة فيها اللطف(14/57)
والرحمة وحسن المعاملة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} وقد حثّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسن معاملة الزوجة في أحاديث كثيرة وقد بوب على بعضها الإمام البخاري بتراجم مناسبة فقال: (باب الوصاة بالنساء) ، وقال الإمام البخاري أيضاً: (باب المداراة مع النساء) ، وقال الإمام البخاري أيضاً: (باب حسن المعاشرة مع الأهل) . ومن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقد ورد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود، ومعنى لا تقبح أي لا تقل قبحك الله. وهو حديث حسن صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أب داود 2/402، وينبغي أن يعلم أنه يحرم على الزوج أن يسب زوجته وأهلها أو يلعنها فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه.
هذه النصوص غيض من فيض، ولكن كيف هو تعامل الزوج مع زوجته في الأسرة اليوم؟ تجد سوء المعاملة، وتجد السب والشتم، وتجد الضرب والأذى المادي والمعنوي!! وليس الأمر مقصوراً على الزوج، بل تجد سوء المعاملة أيضاً من الزوجة فتسيء إلى زوجها وأولادها، فتلعن المرأة زوجها وأولادها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه. المثال الرابع في التعامل في الأسواق، تجد بعض التجار يبيعون(14/58)
المواد الفاسدة والمنتهية الصلاحية. ويتلاعبون في الأوزان ويسوقون البضاعة الرديئة، ويبيعون المواد الضارة بالصحة ويغشون الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم. والأمثلة أكثر من أن تعد.
وخلاصة الأمر أن عبارة (الدين المعاملة) ليست حديثاً نبوياً، ولكنها عبارة صحيحة المعنى، ولا بد للمسلم أن يقف مع نفسه وقفة مراجعة صادقة، ولينظر في سلوكه وتصرفاته وتعاملاته مع الناس، هل هي منضبطة بضوابط الشرع الحنيف؟ وهل يجد فيها الآثار الطيبة لعباداته؟ فإن كان الأمر كذلك فليحمد الله عز وجل، وإن لم تكن، فلا بد أن يعيد حساباته ويراجع نفسه، حتى لا تذهب أعماله أدراج الرياح، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائمٍ - مصلٍ- ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم، وصححه العلامة الألباني.
- - -(14/59)
حديث (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها)
يقول السائل: سمعت على إحدى الفضائيات شخصاً يذكر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) ويحتج به على تقديم علي رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فهل هذا الحديث ثابت، أفيدونا؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن الشيعة هم أكثر الفرق الإسلامية كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قرر ذلك جماهير أهل العلم من المحدثين والنقاد والفقهاء، فقد كذب الشيعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم آلاف الأحاديث التي تؤيد مواقفهم في مختلف المجالات، ومن ضمن ذلك الأحاديث المكذوبة التي وضعوها في فضائل علي رضي الله عنه خاصة وآل البيت عامة، وكذبهم معروف ومشهور عند أهل العلم، فقد سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرافضة فقال: [لا تكلمهم ولا تروِ عنهم فإنهم يكذبون] منهاج السنة 1/37. وقال الإمام الشافعي: [ما رأيت في أهل الأهواء قوماً أشهد بالزور من الرافضة] منهاج السنة 1/39، وقال شريك بن عبد الله القاضي: [احمل عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث، ويتخذونه ديناً] منهاج السنة 1/38.
وقال حماد بن سلمة: [حدثني شيخ لهم - يعني الرافضة - قال: كنَّا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً جعلناه حديثاً] السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي ص 79. وقال يزيد بن هارون: [يكتب عن كل مبتدع إلا الرافضة، فإنهم يكذبون] المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص 22.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وقد رأينا في كتبهم - كتب الشيعة الرافضة - من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته، أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/481-482.
وسبب ما قرره أهل العلم واتفقوا عليه من أن الشيعة أكذب الفرق هو أن أصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد، وتعمد الكذب فيهم كثير، وهم يقرون بذلك، حيث يقولون ديننا التقية، وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه، ويقولون: (من لا تقية له لا دين له) ، وهذا هو الكذب والنفاق، ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة. انظر(14/60)
مجموع مؤلفات عقائد الرافضة والرد عليها على موقع الشاملة على شبكة الإنترنت.
إذا تقرر هذا فإن الحديث المذكور (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) ، حديثٌ باطلٌ مردودٌ سنداً ومتناً، وقد تكلم عليه العلماء قديماً وحديثاً، فقد حكم عددٌ كبيرٌ من أهل العلم على هذا الحديث بأنه مكذوب موضوع ومنهم: يحيى بن معين، والإمام البخاري والترمذي والدارقطني وابن طاهر المقدسي وابن الجوزي والنووي وابن دقيق العيد وابن تيمية والذهبي وعبد الرحمن بن علي الأثري الشافعي ومحمد بن السيد درويش الحوت والمعلمي اليماني والعلامة الألباني وغيرهم كثير. وقد فصَّل العلامة الألباني الكلام على هذا الحديث - بعد أن حكم عليه بأنه موضوع أي مكذوب - فقال: [أخرجه ابن جرير الطبري في (تهذيب الآثار) كما يأتي، والطبراني في (المعجم الكبير) (3/108/1) ، والحاكم (3/126) ، والخطيب في (تاريخ بغداد) (11/48) ، وابن عساكر في (تاريخ دمشق) (12/159/2) من طريق أبي الصلت عبد السلام بن صالح العروي: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً. وقال ابن جرير والحاكم: (صحيح الإسناد) . وردَّه الذهبي بقوله: (بل موضوع) . ثم قال الحاكم: (وأبو الصلت ثقة مأمون) . فتعقبه الذهبي بقوله: (قلت: لا والله، لا ثقة ولا مأمون) . وقال في كتابه (الضعفاء والمتروكين) : [اتهمه بالكذب غيرُ واحدٍ، قال أبو زرعة: لم يكن بثقة. وقال ابن عدي: متهم. وقال غيره: رافضي] .
وقال الحافظ في (التقريب) : [صدوق، له مناكير، وكان يتشيع، وأفرط العقيلي فقال: كذاب] ... وقد روي الحديث عن علي أيضاً، وجابر، وأنس بن مالك.
1. أما حديث علي؛ فأخرجه الترمذي واستغربه، وقد بينت علته في (تخريج المشكاة) (6087) .
2. وأما حديث جابر، فيرويه أحمد بن عبد الله بن يزيد الحراني: حدثنا عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذٌ بيد علي يقول: (هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، - يمد بها صوته - أنا مدينة العلم ... ) أخرجه الحاكم (3/127 و 129) مفرقاً، والخطيب (2/377) . وقال الحاكم: إسناده صحيح! وردَّه الذهبي بقوله: قلت: العجب من الحاكم وجرأته في تصحيح هذا وأمثاله من البواطيل، وأحمد هذا دجال كذاب ...(14/61)
وجملة القول؛ أن حديث الترجمة ليس في أسانيده ما تقوم به الحجة، بل كلها ضعيفة، وبعضها أشد ضعفاً من بعض ... ] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 6/519-530.
وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية الحديث من حيث المتن، لأن متنه باطل شرعاً، ومخالف لما هو مقرر شرعاً فقال: [وأما حديث مدينة العلم فأضعف وأوهى ولهذا إنما يُعَدُ في الموضوعات المكذوبات، وإن كان الترمذي قد رواه، ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبين أنه موضوع من سائر طرقه، والكذب يُعرف من نفس متنه لا يحتاج إلى النظر في إسناده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحداً، بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن، وتلك القرائن إما أن تكون منتفية، وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس أو أكثرهم، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة، بخلاف النقل المتواتر الذي يحصل به العلم للخاص والعام.
وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل، ظنه مدحاً وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة، ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير طريق علي رضي الله عنه، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهم ظاهر، وكذلك أهل الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي رضي الله عنه إلا شيئاً قليلاً، وإنما كان غالب علمه في أهل الكوفة، ومع هذا فقد كانوا تعلموا القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلاً عن خلافة علي، وكان أفقه أهل المدينة وأعلمهم تعلموا الدين في خلافة عمر، وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي شيئاً إلا من تعلم منه لما كان باليمن، كما تعلموا حينئذ من معاذ بن جبل، وكان مقام معاذ بن جبل أكثر مما رووه عن علي وشريح وغيره من أكابر التابعين، إنما تفقهوا على معاذ، ولما قدم عليٌّ الكوفة كان شريح قاضياً فيها قبل ذلك، وعليٌ وجد على القضاء في خلافته شريحاً وعبيدة السلماني، وكلاهما تفقه على غيره، فإذا كان علم الإسلام انتشر في مدائن الإسلام بالحجاز والشام واليمن والعراق وخراسان ومصر والمغرب قبل أن يقدم إلى الكوفة، لما صار إلى الكوفة عامة ما بلغه من العلم بلغه غيره من الصحابة، ولم يختص عليٌ بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره(14/62)
بما هو أكثر منه، فالتبليغ العام الحاصل بالولاية حصل لأبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعليٍ، وأما الخاص فابن عباس كان أكثر فتيا منه، وأبو هريرة أكثر رواية منه، وعليٌ أعلم منهما، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان أعلم منهما أيضاً، فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص] الفتاوى الكبرى 4/437.
وأما الاحتجاج بهذا الحديث الباطل على تقديم علي رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن أبطل الباطل عند علماء أهل السنة والجماعة، لأن الحديث مكذوب كما سبق، ولأن أهل السنة متفقون على تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على علي رضي الله عنه في الفضل وفي العلم والفقه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين إن علياً أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر، بل ولا من أبي بكر وحده ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس وأكذبهم، بل ذكر غيرُ واحدٍ من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي، منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد الأئمة الستة من أصحاب الشافعي ذكر في كتابه تقويم الأدلة على الإمام، إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي وما علمت أحداً من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك، وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يفتي ويأمر وينهى ويقضي ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا جميعاً ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يقره على ذلك ويرضى بما يقول ولم تكن هذه المرتبة لغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأهل العلم والفقه والرأي من أصحابه يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول عليه السلام على سائر أصحابه مثل قصة مشاورته في أسرى بدر ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 4/429.
وخلاصة الأمر أن حديث: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) حديث باطل مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هو إلا من كذب الشيعة وافتراءاتهم على دين الإسلام، ولا يصح شرعاً تقديم علي رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
- - -(14/63)
حديث يوم الجائزة
يقول السائل: هنالك حديث نبوي يردده بعض خطباء المساجد في خطبة عيد الفطر، وفيه أن يوم العيد يسمى يوم الجائزة، فهل هذا الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفيدونا؟
الجواب: روي في الحديث عن سعد بن أوس الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فنادوا اغدوا يا معشر المسلمين إلى ربٍ كريمٍ يمنُ بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلَّوا نادى منادٍ ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمَّى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة) رواه الطبراني في المعجم الكبير، ورواه الأصبهاني في الترغيب، وأبو نعيم في (معرفة الصحابة) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2/201، وقد حكم المحدثون الذين وقفت على كلامهم على هذا الحديث بأنه حديث ضعيف وشبه موضوع كما سيأتي.
قال العلامة الألباني: ضعيف، أخرجه الطبراني في (الكبير) 618، والمعافى بن زكريا في (الجليس) 4/83، والأصبهاني في (الترغيب) 188/1 من طريقين عن سعيد بن عبد الجبار [عن توبة] عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه مرفوعاً به. والزيادة للطبراني. وكذلك رواه الحسن بن سفيان في (مسنده) ؛ إلا أنه قال: عن توبة أو أبي توبة. وكذلك أخرجه المعافى في (الجليس) ؛ لكنه قال: عن أبي توبة.. بغير شك، وكذا نقله في (الإصابة) . قلت: وأبو توبة -أو توبة- لم أعرفه. ومن المحتمل أن يكون هو الذي في (الجرح) 1/1/446: توبة بن نمر الحضرمي المصري، وكان قاضي مصر، فلما مات استقضي عبد الله بن لهيعة، وابنته تحت ابن لهيعة. روى عن أبي عفير عن ابن عمر. روى عنه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وابن لهيعة. ولعله مما يرجح الاحتمال المذكور: أن الراوي عنه -سعيد بن عبد الجبار- هو حضرمي أيضاً، وهو سعيد بن عبد الجبار بن وائل الحضرمي، وهو ضعيف. وعلى كل حال؛ فقد روي الحديث من طريق أخرى عند الطبراني 617 من رواية عمرو(14/64)
بن شمر عن جابر عن أبي الزبير عن سعيد بن أوس الأنصاري به. وهذا إسناد واهٍ بمرة؛ أبو الزبير مدلس؛ وقد عنعنه، لكن الآفة ممن دونه؛ فإن جابراً هذا - وهو الجعفي - متروك. وعمرو بن شمر شرٌ منه. قال الحاكم: كان كثير الموضوعات عن جابر الجعفي، وليس يروي تلك الموضوعات الفاحشة عن جابر غيره. وأعله الهيثمي 2/201 بالجعفي وحده، فقصَّر. ومدار الطريقين على سعيد بن أوس الأنصاري، ولم أجد من ترجمه. ووقع في (ترغيب الأصبهاني) : سعد بن أوس ولم أجده أيضاً؛ فهو علة الحديث. والله أعلم] السلسلة الضعيفة والموضوعة 11/829. وضعّفه العلامة الألباني أيضاً في ضعيف الترغيب والترهيب 1/335.
وقد تكلم الشيخ أبو إسحاق الحويني على هذا الحديث كلاماً مفصلاً فقال: [حديث منكر جداً شبه موضوع. أخرجه الطبراني في الكبير ج 1/رقم 617، وعند أبو نعيم في (معرفة الصحابة) 996 ... وأعلَّه الهيثمي 2/201 بجابر الجعفي، وترك التنبيه علي حال عمرو بن شمر وهو أحد التلفى. فقد تركه النسائي والدارقطني وغيرهما وقال البخاري (منكر الحديث) . وكذَّبه الجوزجاني. وقال ابن معين: ليس بشيء. ورماه السليماني بوضع الحديث للروافض. وقال ابن حبان في المجروحين 2/76: كان رافضياً يشتم أصحاب رسول الله، وكان ممن يروي الموضوعات عن الثقات في فضائل أهل البيت وغيرهم، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. انتهى. أضف إلى ذلك عنعنة أبي الزبير، ولكن له طريق آخر إلى سعيد ابن أوس. أخرجه الطبراني في الكبير 618، والحسن بن سفيان في مسنده، كما في الإصابة 1/161، ومن طريقه أبو نعيم في المعرفة994، والشجري في الأمالي2/47 من طرق عن سلم بن سالم ثنا سعيد بن الجبار عن توبة – أو أبي شك سلم – عن سعيد بن أوس الأنصاري، عن أبيه مرفوعاً مثله. وهذا سندٌ ضعيفٌ جداً. وسلم بن سالم كان ابن المبارك شديد الحمل عليه، وكان يقول: (اتق حيات سلم لا تلسعك) ! وقد سئل ابن المبارك عن الحديث في أكل العدس، وأنه قدِّس على لسان سبعين نبياً!! فقال: لا، ولا على لسان نبي واحد؛ إنه لمؤذٍ منفخٍ، من يحدثكم؟ قالوا: سلم بن سالم. قال: عمن؟ قالوا: عنك! قال: وعني أيضاً!!. وقال أحمد: ليس بذاك. وضعفه ابن معين، وقال أبو زرعة: لا يُكتبُ حديثه ... وقال أبو حاتم: ليس بقوي، مضطرب الحديث وتوبة أو أبو توبة لا أعرفه. وسعيد بن أوس مجهول ... ووقفت له على شاهدٍ عن ابن عباس مرفوعاً، فساق حديثاً طويلاً، جاء في آخره: فإذا كانت ليلة الفطر(14/65)
وسميت ليلة الجائزة، فإذا كانت غداة بعث الله تبارك وتعالى الملائكة في كل ملاء فيهبطون إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك فينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن والإنس، فيقولون: يا أمة محمد اخرجوا إلى ربٍ كريمٍ يغفر العظيم، وإذا برزوا في مصلاهم يقول الله تعالى: يا ملائكتي ما أجر الأجير إذا عمل عمله؟ فتقول الملائكة إلهنا وسيدنا جزاؤه أن يوفى أجره، فيقول الله عز وجل: أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامهم رضائي ومغفرتي، فيقول الله عز وجل: سلوني وعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئاً في جمعكم هذا لآخرتكم إلا أعطيتكموه، ولا لدنيا إلا نظرت لكم، وعزتي لأسترنَّ عليكم عثراتكم ما راقبتموني، وعزتي وجلالي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين يدي أصحاب الحدود، وانصرفوا مغفوراً لكم قد أرضيتموني ورضيت عنكم، قال: فتفرح الملائكة ويستبشرون بما يعطي الله هذه الأمة إذا أفطروا. أخرجه الأصبهاني في الترغيب 11741، وابن الجوزي في الواهيات 2/43- 45/ 880، وقال: لا يصح. سنده واهٍ جداً. وعزاه المنذري في الترغيب 2/99 – 101 لأبي الشيخ كتاب الثواب، والبيهقي وقال: ليس في إسناده من أجمع على ضعفه، وليس من شرط الحديث الباطل أن يكون الإجماع انعقد على ضعف أحد رواته. وهذا حديثٌ منكرٌ جداً شبه الموضوع. وان كان ابن الجوزي أخطأ في زعمه أن القاسم بن الحكم العرني– أحد رواته – مجهول. فليس بمجهول بل هو معروف، فقد وثقه غير واحدٍ منهم أحمد وابن معين والنسائي. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال ابن حبان: مستقيم الحديث. وضعفه العقيلي وأبو نعيم الفضل بن دكين لغفلة كانت فيه، وعلى كل حال، فليس يصح في هذا الباب شيء أعلمه. والله أعلم] الفتاوى الحديثية للحويني 1/403- 405. وحديث ابن عباس الأخير حكم عليه العلامة الألباني بأنه موضوع، وعلَّق على قول المنذري- ليس في إسناده من أجمع على ضعفه- بقوله: [قلت نعم لكنه منقطع، بين الضحاك بن مزاحم وابن عباس، والراوي عنه لين، وآثار الوضع والصنع عليه لائحة، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2/191 ... ] ضعيف الترغيب والترهيب 1/302. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: وقد روي أن الصائمين يرجعون يوم الفطر مغفوراً لهم وأن يوم الفطر يسمى يوم الجوائز وفيه أحاديث ضعيفة، وقال الزهري [إذا كان يوم الفطر خرج الناس إلى الجبار اطلع عليهم قال: عبادي لي صمتم ولي قمتم ارجعوا مغفوراً لكم] ، قال مورق العجلي لبعض إخوانه في المصلى(14/66)
يوم الفطر: يرجع هذا اليوم قوم كما ولدتهم أمهاتهم، وفي حديث أبي جعفر الباقر المرسل: [من أتى عليه رمضان فصام نهاره وصلى ورداً من ليله وغض بصره وحفظ فرجه ولسانه ويده وحافظ على صلاته في الجماعة وبكَّر إلى الجمعة فقد صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب] قال أبو جعفر: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء إذا أكمل الصائمون صيام رمضان وقيامه فقد وفوا ما عليهم من العمل وبقي ما لهم من الأجر وهو المغفرة فإذا خرجوا يوم عيد الفطر إلى الصلاة قسمت عليهم أجورهم فرجعوا إلى منازلهم وقد استوفوا الأجر واستكملوه كما في [حديث ابن عباس رضي الله عنهما المرفوع: إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك ... خرَّجه سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان وغيره وفي إسناده مقال، وقد روي من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً بعضه وقد روي معناه مرفوعاً من وجوهٍ أخر فيها ضعف] لطائف المعارف ص 373-374.
وخلاصة الأمر أن أحاديث تسمية عيد الفطر بيوم الجائزة ليست ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولن قائلٌ إن الحديث الضعيف يعمل به في باب فضائل الأعمال، وهذا منها، لأن القاعدة عند المحدثين كما قال الإمام النووي: [يجوز العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً] الأذكار ص5. وهذه الأحاديث المذكورة قد حكم عليها جماعة من المحدثين بأنها موضوعة أو فيها من هو كذاب أو متهم بالوضع فلا تنطبق عليها القاعدة السابقة، ويغني عنها ما صح من الأحاديث كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
- - -
أول من تُسَعَّرُ بهم نارُ جهنم
يقول السائل: سمعت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أوصاف أول من تُسَعَّرُ بهم نارُ جهنم، فهل هذا الحديث ثابت، أفيدونا؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يُقضى يوم(14/67)
القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه ثم ألقي في النار) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم في الغازي والعالم والجواد وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله وإدخالهم النار دليلٌ على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال كما قال الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} ، وفيه أن العمومات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصاً، وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كله محمولٌ على من فعلَ ذلك لله تعالى مخلصاً] شرح النووي على صحيح مسلم 5/46.
وفي الحديث السابق ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف من الناس هم أول من تسعر بهم نار جهنم والعياذ بالله، وأولهم هو من قاتل ليقال عنه جريء، أو قاتل عصبية أو قاتل غير مريدٍ وجهَ الله عز وجل، فلما لم يكن عمله لله تعالى كان مصيره إلى نار جهنم، كما ورد في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانُه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) رواه البخاري ومسلم.
وأما الصنف الثاني فهم حملة العلم والقرآن الذين لا يعملون بعلمهم، وهؤلاء قد كثروا في زماننا مع الأسف الشديد، فكم ممن ينتسبون إلى العلم الشرعي، ويتبوؤن المناصب الدينية العليا، كالمفتين والقضاة الشرعيين وقراء القرآن الكريم وغيرهم من حملة الشهادات العليا في العلوم الشرعية، كم من هؤلاء لا يصونون العلم الذي يحملونه، ويقفون(14/68)
مواقف الريب والشبهات، بل يقفون مواقف مخزية مع أعداء الإسلام وأعوانهم، وقد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( ... والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدُ فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم، ومعناه أن قارئ القرآن ينتفع به إن تلاه وعمل به وإلا فهو حجة عليه. وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يُؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمُه سورةُ البقرة وآلُ عمران، تحاجَّان عن صاحبهما) رواه مسلم.
قال العلامة ملا علي القاري: [ ... دلَّ على أن من قرأ ولم يعمل به لم يكن من أهل القرآن ولا يكون شفيعاً لهم بل يكون القرآن حجة عليهم] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/627.
وهذا الحديث يدل على أن أهل القرآن هم العاملون به وليس الأمر مقتصراً على حفظه وتلاوته وتجويده والتشدق به، فلابد من التزام أخلاق القرآن، والتأدب بآدابه، وتحريم حرامه والعمل بما فيه. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [ليس حفظ القرآن بحفظ الحروف، ولكن إقامة حدوده] التذكار في أفضل الأذكار ص 68.
وقال الحسن البصري: [أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله. ما يُرى له القرآن في خلقٍ ولا عملٍ، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَسْ، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة. متى كانت القراءة مثل هذا؟ لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء] الزهد لابن المبارك ص 274.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وحملة القرآن هم العاملون بأحكامه وحلاله وحرامه] التمهيد 17/430. وقال الإمام القرطبي: [القرآنُ حجةٌ لمن عمل به واتبع ما فيه، وحجةٌ على من لم يعمل به ولم يتبع ما فيه، فمن أُوتيَ علم القرآن فلم ينتفع به، وزجرته نواهيه فلم يرتدع، وارتكب من المآثم قبيحاً، ومن الجرائم فضوحاً كان القرآنُ حجةً عليه وخصماً لديه] التذكار في أفضل الأذكار ص 87.
وهذا الأمر الخطير وهو الانفصال ما بين الأقوال والأفعال صار ديدناً لكثير من حملة القرآن، الذين يزعمون أنهم أهل القرآن، وهم أبعد الناس عنه بأفعالهم، التي تتعارض مع تعاليم القرآن الكريم وأخلاقه وآدابه، فتراهم يقولون ما لا يفعلون ويتلاعبون بالأحكام الشرعية ويتطاولون على(14/69)
العلم وأهله، بل ديدنهم سب العلماء وشتمهم والوقيعة فيهم، فهؤلاء هم أهل القرآن الجافين عنه كما ورد في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط) رواه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان، وقال العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح الجامع الصغير 1/438.
قال العلامة ملا علي القاري: [ (وحامل القرآن) أي وإكرام قارئه وحافظه ومفسره غير الغالي فيه ... أي غير المجاوز عن الحد لفظاً ومعنىً كالموسوسين والشكاكين أو المرائين أو الخائن في لفظه بتحريفه كأكثر العوام، بل وكثير من العلماء أو في معناه بتأويله الباطل كسائر المبتدعة، (ولا الجافي عنه) أي وغير المتباعد عنه المعرض عن تلاوته وإحكام قراءته وإتقان معانيه والعمل بما فيه، وقيل: الغلو المبالغة في التجويد أو الإسراع في القراءة بحيث يمنعه عن تدبر المعنى، والجفاء أن يتركه بعدما علمه لا سيما إذا كان نسيه فإنه عُدَّ من الكبائر، ... ولذا قيل اشتغلْ بالعلم بحيث لا يمنعك عن العمل، واشتغلْ بالعمل بحيث لا يمنعك عن العلم، وحاصله أن كلاً من طرفي الإفراط والتفريط مذموم، والمحمود هو الوسط العدل المطابق لحاله في جميع الأقوال والأفعال] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8/706-707.
وقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عام تبوك خطب الناس وهو مُضيفٌ ظهرَه إلى نخلة فقال: ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس؟ إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلاً فاجراً جريئاً يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه) رواه النسائي وأحمد والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
قال العلامة المناوي في شرح الحديث: [ (وإن من شر الناس رجلاً فاجراً) أي منبعثاً في المعاصي (جريئاً) بالهمز على فعيل اسم فاعل من جرؤ جراءةً مثل ضخم ضخامة، والاسم الجرأة كالغرفة وجرأته عليه بالتشديد فتجرأ واجترأ على القول أسرع بالهجوم عليه من غير توقف والمراد هنا هجَّام قويُ الإقدام (يقرأ كتاب الله) القرآن (لا يرعوي) أي لا ينكف ولا ينزجر (إلى شيء منه) أي من مواعظه وزواجره وتقريعه وتوبيخه ووعيده] فيض القدير 3/133.(14/70)
وأخرج الدرامي عن علي رضي الله عنه أنه قال: [يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من عملَ بما علم، ووافق علمُه عمَله، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عمُلهم علمَهم، وتخالف سريرتُهم علانيَتهم ... ] سنن الدارمي 1/73.
وورد في الحديث الإخبار عن أؤلئك الذين (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) رواه البخاري ومسلم. وقال أبو عبد الرحمن السُّلمي: [حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعاً] .
ويقول الخطيب البغدادي: [والعلم يراد للعمل، كما يراد العمل للنجاة، فإذا كان العلم قاصراً عن العمل، كان العلمُ كلاَّ على العالم، ونعوذ بالله من علم عاد كلاً، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غلاًّ] اقتضاء العلم العمل ص158. لذا فإن الواجب على المنتسبين للعلم الشرعي أن يصونوا العلم الذي يحملونه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم فهانوا عليهم] رواه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان. انظر ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين ص 54-55.
وقال الشاعر:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
وأما الصنف الثالث فهم المراءون في الإنفاق، الذين لا يريدون وجه الله عز وجل في النفقة، ولذا استحب أهل العلم إخفاء الإنفاق في سبيل الله كما ورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه] رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن إخلاص العمل مطلوب، وهو علامة قبول العمل، فكل عملٍ إن لم يكن خالصاً لوجه الله عز وجل فهو مردود، والواجب على أهل العلم أن يكونوا على قدر المسؤولية والأمانة التي يحملونها، وكذا حملة القرآن لا بد لهم أن يعملوا به وإلا فالقرآن حجة عليهم.
- - -(14/71)
الصلاة(14/73)
دعاء الإمام في الصلاة لنفسه
يقول السائل: ما الحكم في أن يدعو الإمام في الصلاة لنفسه، وهل صحيح أن ذلك يعتبر خيانة للمأمومين، أفيدونا؟
الجواب: قرر العلماء أنه يستحب تعميم الدعاء إذا دعا مع جماعة كما في خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء ودعاء القنوت في الصلاة ونحوها، قال الحافظ العراقي: [من أدب الدعاء أنَّ مَن دعا بمجلس جماعةٍ لا يخص نفسه بالدعاء مِن بينهم، أو لا يخص نفسه وبعضَهم دون جميعهم ... ويتأكد استيعاب الحاضرين على إمام الجماعة، فلا يخص نفسه دون المأمومين، لما روى أبو داود والترمذي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤم رجلٌ قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم) قال الترمذي: حديث حسن. والظاهر أن هذا محمولٌ على ما لا يشاركه فيه المأمومون، كدعاء القنوت ونحوه، فأما ما يدعو كل أحدٍ به كقوله بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، فإن كلاً من المأمومين يدعو بذلك، فلا حرج حينئذ في الإفراد، إلا أنه يحتمل أن بعض المأمومين يترك ذلك نسياناً أو لعدم العلم باستحبابه، فينبغي حينئذ أن يجمع الضمير لذلك] طرح التثريب في شرح التقريب 2/136-137.
والحديث الذي ذكره الحافظ العراقي تكلم فيه المحدثون وكثير منهم لم يوافق الترمذي في تحسينه، حتى قال ابن خزيمة إنه موضوع، وضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والعلامة الألباني وغيرهم. انظر: ضعيف الترغيب والترهيب 2/201. وقد فصَّل العلامة الألباني الكلام على هذا الحديث من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم) وبيَّن أنه حديث ضعيف مضطرب وقد حكم ابن خزيمة بالوضع على الشطر الثاني من الحديث - ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم - وأقره ابن تيمية وابن القيم، وذلك لأن عامة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وهو الإمام بصيغة الإفراد، فكيف يصح أن يكون ذلك خيانة لمن أمهم؟ فهذا هو الصواب أن هذه الزيادة - ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم - لا تصح بل هي منكرة لمخالفتها لأدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يدعو(14/74)
بها في الصلاة وهو إمامهم. انظر تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 278-280.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لرجل يؤم قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم) . فهل يستحب للإمام أنه كلما دعا الله عز وجل أن يُشرك المأمومين؟ وهل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخص نفسه بدعائه في صلاته دونهم؟ فكيف الجمع بين هذين؟ فأجاب: [الحمد للَّه رب العالمين. قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة. ما تقول؟ قال: (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) ، فهذا حديث صحيح صريح في أنه دعا لنفسه خاصة، وكان إماماً. وكذلك حديث عليٍ في الاستفتاح الذي أوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) ، فيه: (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت) . وكذلك ثبت في الصحيح أنه كان يقول بعد رفع رأسه من الركوع بعد قوله: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) ، (اللهم، طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم، نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس) .
وجميع هذه الأحاديث المأثورة في دعائه بعد التشهد من فعله، ومن أمره، لم ينقل فيها إلا لفظ الإفراد. كقوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . وكذا دعاؤه بين السجدتين، وهو في السنن من حديث حذيفة، ومن حديث ابن عباس، وكلاهما كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه إماماً، أحدهما بحذيفة، والآخر بابن عباس. وحديث حذيفة: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) ، وحديث ابن عباس فيه: (اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني) ، ونحو هذا.
فهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن تدل على أن الإمام يدعو في هذه الأمكنة بصيغة الإفراد. وكذلك اتفق العلماء على مثل ذلك. حيث يرون أنه يشرع مثل هذه الأدعية. وإذا عرف ذلك تبين أن الحديث المذكور إن صح فالمراد به الدعاء الذي يُؤمِّن عليه المأموم -كدعاء القنوت- فإن(14/75)
المأموم إذا أَمَّن كان داعياً، قال الله تعالى لموسى وهرون: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} سورة يونس الآية 89، وكان أحدهما يدعو، والآخر يؤمن. وإذا كان المأموم مؤمناً على دعاء الإمام، فيدعو بصيغة الجمع، كما في دعاء الفاتحة في قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} ، فإن المأموم إنما أمَّن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما جميعاً، فإن لم يفعل، فقد خان الإمام المأموم. فأما المواضع التي يدعو فيها كل إنسان لنفسه -كالاستفتاح، وما بعد التشهد، ونحو ذلك- فكما أن المأموم يدعو لنفسه، فالإمام يدعو لنفسه. كما يسبح المأموم في الركوع والسجود، إذا سبح الإمام في الركوع والسجود، وكما يتشهد إذا تشهد، ويكبر إذا كبر، فإن لم يفعل المأموم ذلك فهو المفرط. وهذا الحديث لو كان صحيحاً صريحاً معارضاً للأحاديث المستفيضة المتواترة، ولعمل الأمة، والأئمة، لم يلتفت إليه، فكيف وليس من الصحيح، ولكن قد قيل: إنه حسن، ولو كان فيه دلالة لكان عاماً، وتلك خاصة، والخاص يقضي على العام. ثم لفظه (فيخص نفسه بدعوة دونهم) ، يراد بمثل هذا إذا لم يحصل لهم دعاء، وهذا لا يكون مع تأمينهم. وأما مع كونهم مؤمِّنين على الدعاء كلما دعا، فيحصل لهم كما حصل له بفعلهم، ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع: (اللهم إنا نستعينك، ونستهديك) إلى آخره. ففي مثل هذا يأتي بصيغة الجمع، ويتبع السنة على وجهها] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/116-118.
وبيَّن العلامة ابن القيم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء فقال: [وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، وكان يقول في صلاته أيضاً: اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني، وكان يقول اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، وكان يقول في سجوده: رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وقد تقدم ذكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع] . ثم قال العلامة ابن(14/76)
القيم: [والمحفوظ في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الصلاة كلها بلفظ الإفراد كقوله رب اغفر لي وارحمني واهدني وسائر الأدعية المحفوظة عنه، ومنها قوله في دعاء الاستفتاح اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث. وروى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم) قال ابن خزيمة في صحيحه: وقد ذكر حديث اللهم باعد بيني وبين خطاياي الحديث، قال في هذا دليل على رد الحديث الموضوع لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه والله أعلم] زاد المعاد 1/261-264. وقد فسر العلامة علي القاري خيانة الإمام المذكورة في الحديث بقوله: [قال الطيبي: نسب الخيانة إلى الإمام لأن شرعية الجماعة ليفيض كل من الإمام والمأموم الخير على صاحبه ببركة قربه من الله تعالى، فمن خص نفسه فقد خان صاحبه، قلت: وإنما خص الإمام بالخيانة فإنه صاحب الدعاء، وإلا فقد تكون الخيانة من جانب المأموم] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3/157.
وخلاصة الأمر أن الإمام يدعو بصيغة الجمع له وللمصلين في المواطن التي يجهر فيها بالدعاء، ويؤمن المصلون على دعائه، كدعاء القنوت في الصلاة، والدعاء في خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء ونحوها، وأما المواطن التي يُسِر فيها بالدعاء، كالدعاء عند استفتاح الصلاة، والدعاء في السجود، والدعاء بين السجدتين، والدعاء في آخر التشهد وقبل السلام، فهذه المواطن يجوز للإمام أن يدعو لنفسه خاصة، والمأمومون كلٌ يدعو لنفسه. وعليه فإذا خص الإمام نفسه بالدعاء في هذه المواطن فلا يعتبر خائناً للمأمومين، هذا إن صح الحديث، وهو لم يصح.
- - -
حكم إمامة الإمام المدخن(14/77)
يقول السائل: يصلي بنا إمامان متطوعان، أحدهما حافظ لكتاب الله ولكنه مدخن، والآخر لا يحفظ كتاب الله كاملاً ولا يدخن، فمن أولى بإمامة الصلاة منهما، أفيدونا؟
الجواب: لابد من بيان أمرين قبل الجواب على السؤال، أولهما: إن الدخان خبيث من الخبائث، وإن أبى بعض المدخنين ذلك، كما أن التدخين حرام على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإن أبى بعض المشايخ المدخنين ذلك، وخاصة الذين يزعمون أن التدخين مباح من المباحات، فقولهم هذا قول ساقط متهافت، ولا قيمة له بعد أن اتفقت المصادر الطبية والعلمية والصحية على ضرر التدخين المتحقق على صحة المدخن وعلى نفسيته وعلى ماله وعلى صحة من حوله، وأضرار التدخين على المجتمع بشكل عام، بل إن التدخين أشد فتكاً بالإنسان من مرض الإيدز، وقد اتفقت الهيئات العلمية والمجامع الطبية والصحية على أضرار التدخين، وقررت أنه سبب رئيس للسرطان وتليف الكبد وأمراض الشريان التاجي والذبحة الصدرية وسرطان الفم وغيرها من الأمراض الخبيثة، وهذا ما أكده أهل الخبرة والاختصاص من الأطباء والكيميائيين وغيرهم، فالدخان يتكون من مجموعة كثيرة من المواد، منها أكثر من خمسة عشر نوعاً من السموم الفتاكة كالنيكوتين الذي يعد من السموم القوية والفعالة وله أثر سيء على الكلية والجهاز العصبي والدم، ومنها أول أكسيد الكربون وهو معروف بتأثيره السام وله تأثير سيء على الدم. ومنها القطران وهو المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار أسنان المدخن ونخرها، وإلى التهابات اللثة، وهو أخطر محتويات الدخان على الصحة ويسبب السرطان والتهابات الشعب الهوائية وغير ذلك من المواد الضارة التي تلحق الضرر والأذى بصحة المدخن، فالتدخين يضر بالفم والشفاه واللثة والأسنان واللسان واللوزتين والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأعصاب والدورة الدموية والجهاز البولي، كما أن للتدخين ضرراً على النسل لذلك تُنصح الحوامل بعدم التدخين وما كان ضرره كذلك فلا شك في حرمته، لأن الإسلام يحرم كل خبيث وضار، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} سورة الأعراف الآية 127.
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. والأدلة على تحريم التدخين كثيرة وليس هذا(14/78)
محل ذكرها. إذا تقرر تحريم التدخين فإن الإصرار على التدخين مع العلم بحرمته يُعد فسقاً عند أهل العلم، والفسقُ هو ارتكابُ الكبائر عمداً، أو الإصرارُ على الصغائر بغير تأويل. كما أن تدخين الإمام يعتبر من المجاهرة بالمعصية. ويضاف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من أكل بصلاً أو ثوماً عن الحضور إلى المسجد لما في ذلك من إيذاءٍ للمصلين بالروائح الكريهة فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربنَّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) متفق عليه. وعن عمر رضي الله عنه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما - البصل والثوم - من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع متفق عليه. وينبغي أن يعلم أن كلَّ رائحةٍ كريهةٍ تُلحق برائحة البصل والثوم، فرائحة المدخن نتنةٌ عند ذوي الفطرة السليمة، فينبغي له أن لا يدخل المسجد لأن المساجد تصان عن جميع الروائح الكريهة.
الأمر الثاني: إن إمامة الصلاة تعتبر من خيرة الأعمال التي ينبغي أن يتولاها خيرة الناس، ذوو الصفات الفاضلة من العلم والقراءة والعدالة، قال الإمام أحمد: [ومن الحقِّ الواجب على المسلمين: أن يُقدِّموا خيارهم وأهل الدين والأفضل منهم، أهل العلم بالله الذين يخافون الله ويراقبونه] . رسالة الإمام أحمد في الصلاة ص14. وقال الإمام السرخسي: [والأصل فيه: أنَّ مكانة الإمامة ميراث من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أول من تقدَّم للإمامة، فَيُختار لها مَن يكون أشبه به خَلْقاً وخُلُقاً، ثم هو مكان استُنبط منه الخلافة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أمر أبا بكر رضي الله عنه أنْ يُصلي بالناس، قالت الصحابة رضي الله عنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم: إنه اختار أبا بكر لأمر دينكم، فهو المُختار لأمر دنياكم، فإنما يختار لهذا المكان من هو أعظم في الناس] المبسوط 1/40.
وقال الإمام الماوردي: [ينبغي أن يَتقدَّم إلى الإمامة مَنْ جَمَعَ أوصافها، وهي خمسة: القراءة، والفقه، والنسب، والسنّ، والهجرة، بعد صحَّة الدين وحسن الاعتقاد، فمَنْ جمعها وكملت فيه، فهو أحقُّ بالإمامة ممَّن أخلَّ ببعضها، لأنَّ الإمامة منزلة اتباع واقتداء، فاقتضى أن يكون متحمِّلها كامل الأوصاف المعتبرة فيها، فإن لم تجتمع في واحدٍ، فأحقُّهم بالإمامة من اختصَّ بأفضلها] الحاوي الكبير 2/352، وانظر رسالة حكم إمامة وأذان المُجاهر بالمعصية لعبد الرحمن بن سعد الشثري ص7.(14/79)
وقد ذكر الفقهاء في كتبهم تفصيل شروط إمام الصلاة، ومنها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، فاشترطوا أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً ذكراً، فلا تصح إمامة المرأة للرجال، وأن يكون سالماً من البدع المكفرة وأن يكون قادراً على القراءة، وسالماً من الأعذار، وقادراً على توفية أركان الصلاة، وغير ذلك، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 6/201-207.
والأصل في الأحق بالإمامة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلماً، ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) رواه مسلم.
وقد اختلف أهل العلم في حكم إمامة الفاسق، فمنهم من منعها، ومنهم من أجازها، وهو الراجح، لأن من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته بغيره، وقد ثبت أن عدداً من الصحابة قد صلوا خلف بعض الفسقة كالوليد بن عقبة والحجاج، وثبت في صحيح البخاري أن عثمان رضي الله عنه لما حُصر صلى بالناس شخص، فسأل سائلٌ عثمان فقال: إنك إمام عامة وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة، فقال: [يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولهذا قالوا في العقائد: إنه يُصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام، برَّاً كان أو فاجراً، وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمامٌ واحد، فإنها تُصلَّى خلفه الجماعات، فإن الصلاة في جماعة خيرٌ من صلاة الرجل وحده، وإن كان الإمام فاسقاً، هذا مذهب جماهير العلماء أحمد بن حنبل والشافعي وغيرهما] مجموع فتاوى ابن تيمية 23/353.
وقال الإمام الشوكاني: [والحق جواز الائتمام بالفاسق لأن الأحاديث الدالة على المنع كحديث (لا يؤمنكم ذو جراءة في دينه) ، وحديث (لا يؤمنَّ فاجرٌ مؤمناً) ، ونحوهما ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك الأحاديث الدالة على جواز الائتمام بالفاسق، كحديث (صلوا مع من قال لا إله إلا اللَّه) ، وحديث (صلوا خلف كل بر وفاجر) ونحوهما، ضعيفة أيضًا ولكنها متأيدة(14/80)
بما هو الأصل الأصيل وهو أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، فلا ننتقل عن هذا الأصل إلى غيره إلا لدليل ناهض] نيل الأوطار 2/28.
وبناءً على ما سبق فإن الأصل أن المدخن لا يكون إماماً في الصلاة، فإن صلى الإمام المدخن بالناس فإمامته صحيحة، قال الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم مفتي السعودية سابقاً: [لا ريب في تحريم شرب الدخان الخبيث، وكذا حلق اللحية، ومثل هذا لا يجوز أن يُوَلَّى الإمامة، لأنه فاسق، والفاسق ليس أهلاً للإمامة، لكنَّ الصلاة خلفه صحيحة مجزئة، من صلاها إذا ابتُليَ به الناس على ما فيها من النقص] مجموع فتاوى الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم 2/294.
ويضاف إلى ما سبق أن كثيراً من المصلين يكرهون أن يكون إمامهم في الصلاة مدخناً، وبالتالي فإن صلاة الإمام المدخن لا ترفع كما ورد في الحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قومٍ وهم له كارهون) رواه الترمذي، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/328.
وخلاصة الأمر أن إمامة الصلاة من خير الأعمال، فيتولاها خير الناس قراءةً وأخلاقاً وعدالةً، والإمام المدخن مرتكب للحرام ومجاهر به، فهو وإن صحت إمامته، ولكن لا ينبغي أن يولى الإمامة، ويجب نصحه وبيان حرمة التدخين وأضراره، حتى يتركه، ولا شك أن غير المدخن أولى بالإمامة من المدخن، وإن كان المدخن أقرأ وأحفظ لكتاب الله عز وجل.
- - -
معنى دعاء (اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً)
يقول السائل: ما معنى هذا الدعاء (اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً) وهل يجوز الدعاء به، أفيدونا؟
الجواب: روى الإمام البخاري في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عيناً وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جدُ عاصم بن عمر بن الخطاب حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة ذُكِروا لحيٍ من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجلٍ رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر(14/81)
في منزل نزلوه، فقالوا تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم، فلما حس بهم عاصمٌ وأصحابه لجئوا إلى موضعٍ فأحاط بهم القوم فقالوا لهم انزلوا، فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحداً، فقال عاصم بن ثابت أيها القوم أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ثم قال اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم فرموهم بالنبل فقتلوا عاصماً ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، قال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة يريد القتلى فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم - فقتلوه- فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيباً، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيبٌ عندهم أسيراً حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث، موسىً يستحدُ بها - يحلق عانته - فأعارته فدرج بُنَيٌ لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مُجلسَه على فخذه والموسى بيده، قالت ففزعت فزعةً عرفها خبيب، فقال أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، قالت والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول إنه لرزقٌ رزقه الله خبيباً، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بَدداً، ولا تبق منهم أحداً، ثم أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنبٍ كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
- أي أعضاء جسدٍ يقطع - ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سنَّ لكل مسلم قُتل صبراً الصلاة، وأخبر - النبي صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم. وبعث ناسٌ من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حُدثوا أنه قتل أن يؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قتل رجلاً عظيماً من عظمائهم، فبعث الله لعاصمٍ مثل الظُلَّة من الدبر - أي مثل السحابة من الزنابير -فحمته من رسلهم فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئاً ... ) .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (ثم قال: اللهم أحصهم عدداً) زاد في رواية إبراهيم بن سعد (واقتلهم بدداً) أي متفرقين (ولا تبق منهم أحداً)(14/82)
وفي رواية بريدة بن سفيان (فقال خبيب: اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلِّغه) وفيه فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء قال: فلبد رجل بالأرض خوفاً من دعائه فقال: (اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً) قال فلم يحلْ الحولُ ومنهم أحدٌ حيٌ غير ذلك الرجل الذي لبد بالأرض. وحكى ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان قال كنت مع أبي فجعل يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب) وفي رواية أبي الأسود عن عروة (ممن حضر ذلك أبو إهاب بن عزيز والأخنس بن شريق وعبيدة بن حكيم السلمي وأمية بن عتبة بن همام (وعنده أيضاً) فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأخبر أصحابه بذلك (وعند موسى بن عقبة) فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السلام يا خبيب، قتلته قريش) ] فتح الباري 7/479.
قال ابن الأثير: [وفيه (اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً) يروى بكسر الباء جمع بُدّة وهي الحصة والنصيب، أي اقتلهم حصصاً مقسمة لكل واحدٍ منهم حصته ونصيبه. ويروى بالفتح أي متفرقين في القتل واحداً بعد واحد، من التبديد] النهاية في غريب الحديث 1/105.
وقد أخذ أهل العلم من هذه الحادثة جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا الدعاء (اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً) ، لأن هذه الحادثة حصلت في العهد النبوي فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر على خبيب دعائه، وورد كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر فلم يحل الحول ومنهم أحدٌ حيٌ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين.
ومما يؤيد الدعاء على الكفرة المحاربين بمثل دعاء خبيب ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في القنوت اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم سنين كسني يوسف) رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو عليهم، يدعو على حيٍ من بني سُليم، على رعل وذكوان وعصية، ويُؤَمِن من خلفه) رواه أحمد وأبو داود وإسناده حسن أو صحيح كما قال النووي في الخلاصة 1/ 461.(14/83)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لَأُقَرِّبَنَّ بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة في صلاة الظهر والعشاء الأخيرة وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) رواه البخاري ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم. ويدل على ذلك قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} سورة نوح الآيتان 26- 27. وجاء في دعاء نبي الله موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} سورة يونس الآية 88.
قال ابن كثير: [وهذه دعوة غضبٍ لله تعالى ولدينه ولبراهينه، فاستجاب الله لها وحقّقها وتقبَّّلها، كما استجاب لنوحٍ في قومه] البداية والنهاية 2/106. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين، والدعاء على الكافرين] مجموع الفتاوى 8/335.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلةٍ بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمَّى من يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسناً] مجموع الفتاوى 22/271.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وكذلك المأثور عن الصحابة مثل: عمر، وعلي، وغيرهما رضي الله عنهم هو: القنوت العارض قنوت النوازل، ودعاء عمر فيه، وهو قوله: (اللهم عذب كفرة أهل الكتاب ... إلخ) ، يقتضي أنه دعا به عند قتاله للنصارى] مجموع الفتاوى 22/373. قال الإمام النووي: [قال أصحابنا: وإن قنت بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حسناً وهو أنه قنت في الصبح بعد الركوع فقال: [اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع من يفجرك اللهم إياك(14/84)
نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق اللهم عذب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أوليائك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبتهم على ملة رسولك صلى الله عليه وسلم وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم] . واعلم أن المنقول عن عمر رضي الله عنه [عذب كفرة أهل الكتاب] لأن قتالهم ذلك الزمان كان مع كفرة أهل الكتاب، وأما اليوم فالاختيار أن يقول [عذب الكفرة] فإنه أعم] الأذكار 48-50.
وخلاصة الأمر أن الدعاء بمثل دعاء خبيب رضي الله عنه (اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً) ، جائزٌ ومشروعٌ على الكفرة المتسلطين على رقاب المسلمين، الذين يذيقون المسلمين سوء العذاب قتلاً وذبحاً وتهجيراً وهدماً للمساجد وللمنازل وغيرها من مصالح المسلمين، وهذا الدعاء هو المناسب لأحوال الأمة اليوم في ظل ما تعانيه من هذه الهجمة الشرسة التي تستهدف الإنسان والحيوان والشجر والحجر. ولا يلتفت لقول من منع ذلك بحجة أنه من الاعتداء في الدعاء فقوله باطل مردود عليه، وفيه خذلان للمسلمين.
- - -
حكم الخروج في رحلات للنزهة صباح يوم الجمعة
يقول السائل: ما حكم الخروج في رحلات للنزهة صباح يوم الجمعة، أفيدونا؟
الجواب: صلاة الجمعة فريضة من الفرائض المعلوم فرضيتها بالضرورة، وبدلالة الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الجمعة الآية 9. وقد ورد في فضل صلاة الجمعة أحاديث كثيرة منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من(14/85)
توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصا فقد لغا) رواه مسلم.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم، إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم. وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيبٍ إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى) رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات كما قال الهيثمي، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/432.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها) رواه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث. وقد وردت أحاديث أخرى في الترهيب من ترك صلاة الجمعة لغير عذر منها: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقومٍ يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم) رواه مسلم. وعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهين أقوامٌ عن ودْعهم - أي تركهم - الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكوننَّ من الغافلين) رواه مسلم.
وعن أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك ثلاث جمعٍ تهاوناً بها طبع الله على قلبه) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/451.(14/86)
وجاء في رواية لابن خزيمة وابن حبان (من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق) قال العلامة الألباني: حسن صحيح، المصدر السابق. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه) رواه أحمد بإسناد حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد، وقال العلامة الألباني: صحيح لغيره، المصدر السابق. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع، ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، فيطبع على قلبه) رواه ابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/452.
والصبة: المجموعة من الغنم ما بين العشرين إلى الثلاثين وقيل غير ذلك من العدد. وغير ذلك من الأحاديث. إذا تقرر هذا فقد اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز السفر يوم الجمعة بعد دخول وقتها في حق المخاطب بها، [فيحرم عند الجمهور إنشاء سفرٍ بعد الزوال - وهو أول وقت الجمعة - من المصر الذي هو فيه، إذا كان ممن تجب عليه الجمعة، وعلم أنه لن يدرك أداءها في مصر آخر، فإن فعل ذلك فهو آثمٌ على الراجح ما لم يتضرر بتخلفه عن رفقته. وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة حيث صرحوا بحرمة السفر بعد الزوال] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/211.
وأما السفر قبل دخول وقت الجمعة أي قبل الزوال، فقد أجازه جماعة من الفقهاء، قال الشوكاني: [وقد اختلف العلماء في جواز السفر يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى الزوال على خمسة أقوال: الأول: الجواز، قال العراقي: وهو قول أكثر العلماء. فمن الصحابة عمر بن الخطاب والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وابن عمر. ومن التابعين الحسن وابن سيرين والزهري. ومن الأئمة أبو حنيفة ومالك في الرواية المشهورة عنه والأوزاعي وأحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه وهو القول القديم للشافعي، وحكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم] نيل الأوطار 3/261.
ويدل للقول بالجواز ما رواه عبد الرزاق في المصنف بإسناده (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً عليه ثياب سفر بعد ما قضى الجمعة، فقال: ما شأنك؟ قال أردت سفراً فكرهت أن أخرج حتى أصلي، فقال عمر: إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها) وسنده صحيح(14/87)
كما قال العلامة الألباني، وقال الطحاوي: لا يُعرف عن الصحابة خلافه. وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن صالح بن كيسان أن أبا عبيدة رضي الله عنه خرج يوم الجمعة في بعض أسفاره ولم ينتظر الجمعة. وإسناده جيد كما قال العلامة الألباني. واحتجوا بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في سريةٍ فوافق ذلك يوم جمعة، قال: فتقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ألحقهم، قال: فلما صلى رسول الله رآه، فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت غدوتهم) رواه أحمد والترمذي، ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه العلامة الألباني في ضعيف سنن الترمذي حديث رقم 81. وقد استدل من منع السفر قبل الزوال يوم الجمعة بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصحب في سفره ولا تُقضى له حاجة) وهذا الحديث مكذوب، كما قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/254. وقال ابن المنذر: [لا أعلم خبراً ثابتاً يمنع من السفر أول نهار الجمعة إلى أن تزول الشمس وينادي المنادي، فإذا نادى المنادي وجب السعي إلى الجمعة على من سمع النداء] الأوسط لابن المنذر 5/330.
وبناءً على ما سبق فإن السفر قبل الزوال يوم الجمعة يجوز إذا كان السفر للمباحات كالسفر للتنزه أو للتجارة أو لغرض مشروع، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مرجحاً القول بجواز السفر قبل الزوال: [ولأن الجمعة لم تجب عليه فلم يحرم السفر كالليل ... والأولى الجواز مطلقاً لأن ذمته بريئة من الجمعة فلم يمنعه إمكان وجوبها عليه كما قبل يومها] المغني2/269.
ولكن الأفضل والأولى أن يكون السفر بعد انقضاء صلاة الجمعة، كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة الجمعة الآية 10. وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة أنه قال: (كانوا يستحبون إذا حضرت الجمعة أن لا يخرجوا حتى يجمعوا) . وروى أيضاً عن سعيد بن المسيب قال: (السفر يوم الجمعة بعد الصلاة) . وإنما قالوا ذلك لما فيه من فوات صلاة الجمعة وهي من الشعائر(14/88)
المعظمة شرعاً، ومن القواعد المقررة شرعاً وجوب تعظيم شعائر الله يقول الله تعالى: {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} سورة الحج الآية 30.
قال الإمام القرطبي: [ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ... فشعائر الله أعلام دينه ... ] تفسير القرطبي 12/56.
وخلاصة الأمر أن الواجب على المسلم أن يحافظ على صلاة الجمعة، فهي من شعائر الله عز وجل، وأن لا يضيعها من أجل النزهات والرحلات، فإن خرج في رحلة في صباح الجمعة فليحرص على أداء صلاة الجمعة في أي مسجد قريب من موقع الرحلة.
- - -(14/89)
ارتباك المصلين بسبب سجود التلاوة
يقول السائل: إن الإمام في صلاة الجمعة قرأ في آخر الركعة الثانية آية فيها سجدة تلاوة، ثم كبر وركع ولم يسجد سجود التلاوة، وقد حصلت بلبلةٌ بين المصلين، حيث إن المسجد مكون من ثلاثة طوابق، فبعض المصلين سجدوا سجود التلاوة وبعضهم لما سمع الإمام قال: سمع الله لمن حمده، قام وأتى بالركوع وتابع الإمام، وبعضهم ترك الركوع وجاء بالسجود، وبعض هؤلاء جاء بركعة بعد تسليم الإمام، وبعد انتهاء الصلاة حصل اختلاف بين المصلين، فقال بعض المشايخ الصلاة صحيحة لأن الإمام ضامن، وبعضهم قال أعيدوها ظهراً، فما الحكم في صلاة المأمومين، أفيدونا؟
الجواب: المشروع في حق الإمام إذا قرأ آية فيها سجدة تلاوة أن يسجد إذا كان ذلك في صلاة جهرية كصلاة الجمعة، فقد صح في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه ... ) رواه البخاري ومسلم. ويجوز له ترك سجود التلاوة، لأنه سنة عند جماهير أهل العلم وليس بواجب، فقد ثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم - سورة - النجم، فلم يسجد فيها) رواه البخاري ومسلم.
وقد كره الإمام مالك أن يقرأ الإمام سورة فيها سجدة التلاوة لما في ذلك من بلبلة للمأمومين، قال الإمام مالك: [لا أحب للإمام أن يقرأ في الفريضة بسورة فيها سجدة لأنه يخلط على الناس صلاتهم] المدونة 1/200.
وتَرْكُ قراءة آيات فيها سجود التلاوة أولى وخاصة في المساجد المتعددة الطوابق كما هو الحال في السؤال، حيث لا يرى المأمومون الإمام ومَنْ وراءَه، فلا يعرفون حال الإمام أراكع هو أم ساجد؟
إذا تقرر هذا فإن أحوال المأمومين المذكورين في السؤال كما يلي:
من سجد ظاناً أن الإمام سجد للتلاوة ثم لما سمع تسميع الإمام قام فجاء بالركوع ولحق بالإمام في باقي الصلاة فصلاته صحيحة ولا سجود سهو عليه، لأن الإمام يتحمل ذلك عنه. من سجد ظاناً أن الإمام سجد للتلاوة ولم يأت بالركوع ثم لما سلَّم الإمام من الصلاة قام فجاء بركعة فصلاته صحيحة أيضاً، لأنه اعتبر الركعة التي ترك الركوع فيها - وهو ركن من أركان الصلاة - لاغيةً فجاء بركعة بدلها وعليه سجود السهو. وأما من لم(14/90)
يأت بالركوع وتابع الإمام وسَّلم معه من الصلاة ولم يأت بركعة أخرى فصلاته باطلة، لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة باتفاق أهل العلم وهو الركوع ولا يسقط سهواً ولا جهلاً، ولا يحمله الإمام عن المأموم. وهؤلاء يلزمهم أن يصلوا الظهر أربعاً، لأن جمعتهم قد بطلت، وصلاة الجمعة لا تقضى، فمن بطلت جمعته أو فاتته صلاة الجمعة فإنه يصلي الظهر أربعاً.
وأما قول من قال إن صلاة الجميع صحيحة لأن الإمام ضامن، فقول باطل لا دليل عليه، فالإمام لا يحمل الأركان عن المأمومين باتفاق الفقهاء وإنما يحمل عنهم السنن، فقد روى ابن ماجة بسنده عن أبي حازم قال: كان سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقدم فتيان قومه يصلون بهم، فقيل له تفعل ذلك ولك من القِدم ما لك؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الإمام ضامن فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء يعني فعليه ولهم) قال العلامة الألباني: حديث صحيح، السلسلة الصحيحة 4/366.
وجاء في رواية أخرى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والبيهقي وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 1/231.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن) أي الحفظ والرعاية لا ضمان الغرامة لأنه يحفظ على القوم صلاتهم كما قال ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/102. وقال الإمام الماوردي: يريد بالضمان والله أعلم أنه يتحمل سهو المأموم كما يتحمل الجهر، والسورة، والفاتحة، والقنوت، والتشهد الأول وغير ذلك] أسنى المطالب 3/148.
وقال الشوكاني: [قوله: (الإمام ضامن) الضمان في اللغة الكفالة والحفظ والرعاية، والمراد أنهم ضمناء على الإسرار بالقراءة والأذكار حكي ذلك عن الشافعي في الأم. وقيل: المراد ضمان الدعاء أن يعمَّ القوم به ولا يخص نفسه. وقيل: لأنه يتحمل القيام والقراءة عن المسبوق. وقال الخطابي: معناه أنه يحفظ على القوم صلاتهم وليس من الضمان الموجب للغرامة] نيل الأوطار 2/39.
وقال صاحب عون المعبود: [ (الإمام ضامن) أي متكفل لصلاة المؤتمين بالإتمام، فالضمان هنا ليس بمعنى الغرامة، بل يرجع إلى الحفظ والرعاية، قال الخطابي: قال أهل اللغة الضامن في كلام العرب معناه الراعي، والضمان الرعاية، فالإمام ضامن بمعنى أنه يحفظ الصلاة وعدد(14/91)
الركعات على القوم، وقيل معناه ضمان الدعاء يعمهم به ولا يختص بذلك دونهم، وليس الضمان الذي يوجب الغرامة من هذا بشيء، وقد تأوله قوم على معنى أنه يتحمل القراءة عنهم في بعض الأحوال وكذلك يتحمل القيام أيضا إذا أدركه المأموم راكعاً] عون المعبود شرح سنن أبي داود2/152.
وبناءً على ما سبق فقد اتفق أهل العلم على أنه لا يدخل في ضمان الإمام أركان الصلاة كالركوع والسجود، فإذا ترك المأموم ركناً من أركان الصلاة كالركوع والسجود ولم يتداركها حتى سلَّم إمامه وطال الفصل بعد التسليم، فإن صلاة المأموم تبطل لأن أركان الصلاة لا تسقط سهواً ولا جهلاً، ولا يحملها الإمام عن المأموم، وقرر الفقهاء أن الإمام يتحمل عن المأموم السنن والمستحبات في حال تركها من المأموم. وقد عدَّ بعض الفقهاء ما يحمله الإمام عن المأموم فقال: [ذكروا أنه يتحمل ثمانية أشياء ... الأول: القراءة، قراءة الفاتحة، وقراءة السورة ... الثاني: سجود التلاوة. الثالث: سجود السهو، سجود التلاوة وسجود السهو إذا سجدهما الإمام يعني سقط عن مأمومه، ولكن يتأكد عليه أن يتابع إمامه، وذلك ولو لم يسه المأموم.... الرابع: السترة: يعني التي تكون أمامه، يقولون: سترة المأمومين إمامهم، وسترة الإمام سترة لمن خلفه، سترة الصفوف بعضهم سترة لبعض، فالصف الأول سترة للثاني، والصف الثاني سترة للثالث وهكذا....الخامس: دعاء القنوت، المأمومون يؤمِّنون إذا دعا للقنوت، فلا يقنتون ولا يدعون بمثل دعائه، ويكفيهم التأمين. السادس: مما يحمله الإمام: التسميع (سمع الله لمن حمده) لا يقوله إلا الإمام. الثامن: قوله: ملء السماوات وملء الأرض إذا قال المأموم: ربنا ولك الحمد فقوله: ملء السماوات يحمله الإمام عنه ... ] أخصر المختصرات في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل شرح الشيخ عبد الله الجبرين، شبكة الإنترنت بتصرف.
وأخيراً فيجب التنبيه على أنه تحرم الفتوى بغير علم، فقد أخطأ ذلك الشيخ في فتواه بأن صلاة الجميع صحيحة، لأن الإمام ضامن، وقوله هذا غير صحيح ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال بفتواه الخاطئة وهذا من الإفتاء بغير علم ومن الجرأة على دين الله عز وجل وإن التسرع في الفتيا خطأ وخطر يفضي إلى عدم إصابة الحق والجرأة على الله تعالى والوقوع(14/92)
فيما نهى عنه يقول تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} ، ومن أفتى بغير علم فعمل بفتواه عاملٌ كان إثم العامل على من أفتاه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار) . فلا ينبغي لأحدٍ أن يقتحم حمى الفتوى ولمَّا يتأهل لذلك، وقد قرر أهل العلم أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثمٌ عاصٍ. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على أدعياء العلم الذين يتصدرون للفتيا، فقال له بعضهم يوماً: أَجُعلتَ محتسباً على الفتوى؟ فقال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ ولا يكون على الفتوى محتسب] فعلى هذا الشيخ أن يتق الله في نفسه وفي الناس الذين أفتاهم بغير علم.
وخلاصة الأمر أنه ينبغي على أئمة المساجد أن يراعوا أحوال المصلين وأن لا يوقعوهم في الحرج، ولو أدى ذلك لترك قراءة آيات سجود التلاوة، وخاصة في المساجد المتعددة الطوابق كما هو الحال في السؤال، حيث لا يرى المأمومون الإمام ومَنْ وراءه، فلا يعرفون حال الإمام أراكع هو أم ساجد؟ فوقعوا في إرباك شديد، وقد بينت أحوالهم في تلك الصلاة، والواجب على المسلم أن لا يفتي بغير علم لخطورة ذلك عليه وعلى من أفتاه.
- - -(14/93)
جمع صلاة الجمعة مع العصر للمسافرين في المسجد الأقصى
يقول السائل: ما قولكم في جمع صلاة الجمعة مع العصر للمسافرين في المسجد الأقصى المبارك، حيث إن مؤذن المسجد وبعد انتهاء صلاة الجمعة يقيم الصلاة للعصر عبر مكبرات الصوت، ويصلي معظم المصلين مع هذه الجماعة، علماً أن أكثرهم غير مسافرين، وبعض هؤلاء يقول إنه يصلي مع هذه الجماعة سنة الجمعة البعدية، أفيدونا؟
الجواب: إن الأصل في باب العبادات هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بدون زيادة ولا نقصان، فليس لأحد مهما كان أن يزيد في العبادة شيئاً ولا أن ينقص منها شيئاً وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثين صحيحين مشهورين بالالتزام بالعبادة كما فعلها هو عليه الصلاة والسلام، أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، فهذا الحديث الصحيح الصريح يقرر هذا الأصل وهو لزوم الاتباع في الصلاة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فنؤدي الصلاة كما وردت عن رسول صلى الله عليه وسلم بلا زيادة ولا نقصان. ثانيهما: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) رواه مسلم، فهذان الحديثان يدلان على أن الأصل في العبادات هو التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يثبت شيء من العبادات إلا بدليل من الشرع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وجماع الدين أصلان أن لا يعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} سورة الكهف الآية 110. وذلك تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه. وفي الثانية: أن محمداً هو رسوله المبلغ فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} سورة البقرة الآية112] رسالة العبودية ص 170-171.(14/94)
وذكر الإمام ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: [سمعت مالك بن أنس وأتاه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول صلى الله عليه وسلم. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تفعل. قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ] الاعتصام للشاطبي 1/132.
إذا تقرر أن الأصل في العبادات التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما يعبر بعض أهل العلم أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، فإنه لا يجوز شرعاً جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة لا في حق المقيم ولا في حق المسافر، لعدم ورود ذلك في السنة النبوية، وما نقل ذلك الجمع عن أحدٍ من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يصح إثبات ذلك بالقياس على جواز جمع الظهر مع العصر للفروق الكثيرة بين صلاتي الجمعة والظهر، فصلاة الجمعة لها كيفية خاصة بها، ولها أيضاً شروط خاصة بها، فلا يصح قياسها على الظهر لأنه لا قياس في الصلاة، قال العلامة محمد صالح العثيمين: [فإن قال قائل: أفلا يصح قياس جمع العصر إلى الجمعة على جمعها إلى الظهر؟ فالجواب: لا يصح ذلك لوجوه: الأول: أنه لا قياس في العبادات. الثاني: أن الجمعة صلاة مستقلة منفردة بأحكامها تفترق مع الظهر بأكثر من عشرين حكماً، ومثل هذه الفروق تمنع أن تلحق إحدى الصلاتين بالأخرى. الثالث: أن هذا القياس مخالف لظاهر السنة، فإن في صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر، فسئل عن ذلك فقال: (أراد أن لا يحرج أمته) ، وقد وقع المطر الذي فيه المشقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع فيه بين العصر والجمعة، كما في صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى يوم الجمعة وهو على المنبر، فما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته، ومثل هذا لا يقع إلا من مطر كثير يبيح(14/95)
الجمع لو كان جائزاً بين العصر والجمعة، قال: وفي الجمعة الأخرى دخل رجل فقال: يا رسول الله غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله يمسكها عنا، ومثل هذا يوجب أن يكون في الطرقات وحلٌ يبيح الجمعَ لو كان جائزاً بين العصر والجمعة.
فإن قال قائل: ما الدليل على منع جمع العصر إلى الجمعة؟ فالجواب: أن هذا سؤال غير وارد لأن الأصل في العبادات المنع إلا بدليل، فلا يطالب من منع التعبد لله تعالى بشيء من الأعمال الظاهرة، أو الباطنة، وإنما يطالب بذلك من تعبد به لقوله تعالى منكراً على من تعبدوا لله بلا شرع: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة الشورى الآية21، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة المائدة الآية 3، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . وعلى هذا: فإذا قال القائل: ما الدليل على منع جمع العصر مع الجمعة؟ قلنا: ما الدليل على جوازه؟ فإن الأصل وجوب فعل صلاة العصر في وقتها، خولف هذا الأصل في جمعها إلى الظهر عند وجود سبب الجمع، فبقي ما عداه على الأصل، وهو منع تقديمها على وقتها] مجموع فتاوى ورسائل العلامة العثيمين 16/181-183.
وبعد هذا التأصيل، لا بد من التنبيه على الأمور التالية:
أولاً: لا جمعة على المسافر باتفاق أهل العلم، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الجمعة في السفر، ولكن إن حضر المسافر الجمعة لزمته، لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الجمعة الآية 9، وإذا صلى المسافر الظهر في يوم الجمعة فيجوز له أن يجمع إليها العصر، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين الظهر والعصر.(14/96)
ثانياً: لا شك أن الكيفية التي تتم بها الصلاة المذكورة في السؤال في المسجد الأقصى المبارك، كيفية بدعية، لم ترد في الشرع، حيث إن مؤذن المسجد يقيم لصلاة العصر عبر مكبرات الصوت، ثم أكثر من في المسجد يصلي معهم، مع العلم أنهم من أهل بيت المقدس وأكنافه، ومن هؤلاء عوام قد صلوا العصر جمعاً مع أنهم غير مسافرين!؟
ثالثاً: دعوى بعض الناس أنهم يصلون سنة الجمعة البعدية مع هذه الجماعة، دعوى باطلة، لأن الأصل في السنن أن تصلى بشكل فردي لا مع الجماعة، إلا ما ورد فيه دليل خاص، وقد قرر المحققون من أهل العلم أنه لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام، بل لا بد من دليل خاص، فمثلاً لو قال شخص عندما رأى المصلين في المسجد يصلون سنة الفجر أشتاتاً في أنحاء المسجد فقال: يا جماعة هلا اجتمعتم وصلينا سنة الفجر في جماعة، لأنه صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله على الجماعة) ، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس أو سبع وعشرين درجة) . فاستدلال هذا الرجل بالأدلة العامة لا يقبل ولا يصح ولا يجوز أن تدخل سنة الفجر في هذه العمومات، ولو لم يثبت لدينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا سنة الفجر في جماعة. حيث لا يوجد لدينا حديث بهذا المعنى، فصلاة سنة الفجر في جماعة بدعة وإن كان الشرع قد حث على الجماعة وعلى صلاة الجماعة وأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، انظر فتاوى العلامة الألباني ص 49-50.
رابعاً: ينفرد المسجد الأقصى المبارك بهذه البدعة المقدسية دون المساجد الأخرى، ويخشى إن استمر الحال كذلك، وتطاول الزمن، أن يعتقد عامة الناس مشروعيتها، وقد صح في الحديث قول النبي صلي الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
خامساً: لو سلمنا جدلاً بجواز الجمع بين الجمعة والعصر- وهو قول ضعيف لا يسنده دليل صحيح- فإن الواجب على المسافرين أن يتنحوا في ناحية من المسجد ويصلوا لوحدهم، لا أن تقام لهم الصلاة من مؤذن المسجد عبر مكبرات الصوت، ويهب معظم المصلين ليصلوا معهم، وفي ذلك من تضليل العامة ما فيه، وخاصة مع تكراره أيضاً في غير يوم الجمعة، حيث تقام الصلاة بعد انتهاء صلاة الظهر فيصلى معظم أهل المسجد معهم، وأصبح الأمر كأنه سنة متبعة!(14/97)
وخلاصة الأمر أن جمع صلاة الجمعة مع العصر للمسافرين في المسجد الأقصى المبارك بالكيفية التي يتم بها أمر مبتدع، وهو على خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب على القائمين على المسجد منع ذلك. وواجب أهل العلم أن ينبهوا الناس إلى بدعية تلك الصلاة، وأن يحثوهم على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- - -
صلاة الاستسقاء على هيئة صلاة العيد محل صلاة الجمعة
يقول السائل: ما قولكم فيما فعله خطيب الجمعة في مسجدنا حيث إنه خطب الجمعة، وفي الخطبة الثانية حوَّل ردائه وهو على المنبر، وطلب من المصلين أن يقفوا، ثم استقبل القبلة وهو على المنبر ثم دعا والمصلون يؤمنون على دعائه، ثم طلب من المؤذن أن يقيم الصلاة للاستسقاء، فصلوا ركعتين كهيئة صلاة العيد، وبعد انتهاء هذه الصلاة خرج عدد كبير من المصلين من المسجد ولم يصلوا الجمعة، ثم طلب بعض المصلين من الإمام أن يصلي الجمعة فصلى بهم ركعتين، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: إن الأصل الذي قرره العلماء في العبادات عامة، والصلاة بشكل خاص، هو التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأصل فيها التوقيف أو الحظر كما يعبر بعض العلماء، أي أن الأصل أن لا نفعل شيئاً في باب العبادات ما لم يكن وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب علينا أن نلتزم بذلك بلا زيادة ولا نقصان، يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} سورة المائدة الآية 3، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ) رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبه: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم، فالأصل في المسلم أن يقف عند موارد النصوص فلا يتجاوزها لأننا أمرنا بالإتباع ونهينا عن الابتداع، فنحن مأمورون بإتباعه صلى الله عليه وسلم والإقتداء به، كما(14/98)
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} سورة الأحزاب الآية21. وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها وكل ما يتعلق بها، وعلَّم الصحابة كيف يصلون وصلى أمامهم، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
هذا هو الأصل الأصيل فقوام هذا الدين في أمرين: الأول ألا يُعبدَ إلا الله. والثاني أن لا يُعبدَ اللهُ إلا بما شرع. وبناءً على ذلك فما فعله خطيب الجمعة المذكور في السؤال مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة لوقوعه في عدة أخطاء، ومن هنا تأتي ضرورة أن يكون أئمة المساجد وخطباء الجمعة على درجة من الفقه في الدين وبالذات فيما يتعلق بأحكام الصلاة، لا أن تترك المساجد عامة وخطب الجمعة خاصة لكل من هب ودب ممن لا يحسنون ألف باء العلم الشرعي. إذا تقرر هذا فإن صلاة الاستسقاء مشروعة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قلة الأمطار وانحباسها فلا بد للناس أن يبادروا إلى التوبة والاستغفار مصداقاً لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} سورة نوح الآيات 10- 12.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه رضي الله عنهم] المغني3/334.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وأجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء، والبروز، والاجتماع إلى الله عز وجل خارج المصر بالدعاء، والضراعة إلى الله تبارك اسمه في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء وتمادي القحط سنة مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك] التمهيد17/172.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استسقى على عدة أوجه كما قال العلامة ابن القيم: [ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استسقى على وجوه: أحدها: يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته وقال اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون فيه إلى المصلى فخرج لما طلعت الشمس متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فلما وافى المصلى صعد المنبر - إن صح وإلا ففي القلب منه شيء - فحمد الله(14/99)
وأثنى عليه وكبره وكان مما حفظ من خطبته ودعائه: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت تفعل ما تريد اللهم لا إلا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا وبلاغاً إلى حين ثم رفع يديه وأخذ في التضرع والابتهال والدعاء وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حوَّل إلى الناس ظهره واستقبل القبلة وحوَّل إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن وظهر الرداء لبطنه وبطنه لظهره وكان الرداء خميصة سوداء وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة والناس كذلك ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداء ألبتة جهر فيهما بالقراءة وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية. الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى على منبر المدينة استسقاءً مجرداً في غير يوم جمعة ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة. الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل فحفظ من دعائه حينئذ اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً طبقاً عاجلاً غير رائث – غير بطيء ولا متأخر - نافعاً غير ضار. الوجه الخامس: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر ينعطف عن يمين الخارج من المسجد. الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء فأصاب المسلمين العطش فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض المنافقين لو كان نبياً لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال أوقد قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم ثم بسط يديه ودعا فما ردَّ يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب وأمطروا فأفعم السيل الوادي فشرب الناس فارتووا] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/457-458.
وأكمل وجوه صلاة الاستسقاء هو الثاني كما قال الإمام النووي: [أفضلها وهو الاستسقاء بصلاة ركعتين] المجموع 5/64.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [قال القاضي: الاستسقاء ثلاثة أضرب، أكملها الخروج والصلاة على ما وصفنا ويليه استسقاء الإمام يوم الجمعة على المنبر ... والثالث أن يدعو الله تعالى عقيب صلواتهم وفي خلواتهم] المغني 2/327.(14/100)
وأما الاستسقاء يوم الجمعة بالدعاء أثناء خطبة الجمعة فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا اللهم اسقنا، قال أنس: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً وما بيننا وبين سلع - اسم جبل بالمدينة المنورة - من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس سبتاً - أي أسبوعاً - ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فاستقبله قائماً. فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله يديه ثم قال: اللهم حوالينا لا علينا اللهم على الآكام والجبال والظراب والأودية ومنابت الشجر. قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس) .
وبعد توضيح هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، أعود لبيان ما فعله الخطيب المذكور فأقول:
أولاً: إن طلب الخطيب من الناس أن يقفوا ليؤمنوا على دعاء الخطيب، أمر غير مشروع وبدعة ابتدعها على خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن المعلوم الثابت أن المصلين يؤمنون على دعاء الخطيب وهم جلوس.
ثانياً: قلب الخطيب لردائه واستقباله القبلة وهو على منبر الجمعة، على خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الحديث الذي ذكرته سابقاً أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لما استسقى وهو على منبر الجمعة، رفع يديه فقال: اللهم اسقنا اللهم اسقنا ... إلخ.
ثالثاً: طلب الخطيب من المؤذن أن يقيم الصلاة للاستسقاء، هذا فيه عدة أخطاء، حيث صلى الاستسقاء محل صلاة الجمعة، وهذا أمر باطل، لأن خطبة الجمعة جزء من صلاة الجمعة، وقد فصل الخطيب بين صلاة الجمعة وخطبة الجمعة، ولا يشرع أن يصلي الاستسقاء محل صلاة الجمعة، كما أنه لا يشرع الأذان ولا الإقامة لصلاة للاستسقاء، لما ثبت في صحيح البخاري عن أبى إسحاق خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم فاستسقى، فقام(14/101)
بهم على رجليه على غير منبر فاستغفر، ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم. قال أبو إسحاق ورأى عبد الله بن يزيد النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا يسن لها أذان ولا إقامة، ولا نعلم فيه خلافاً] المغني 3/337.
رابعاً: المصلون الذين خرجوا من المسجد بعد انتهاء صلاة الاستسقاء المبتدعة ولم يصلوا الجمعة، يلزمهم أن يقضوا صلاة الظهر، لأنهم لم يصلوا الجمعة.
وخلاصة الأمر أن صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة وأن أكمل صفاتها أن يخرج الناس إلى مصلى العيد فيصلوا ركعتين كصلاة العيد مع خطبة، فإن استسقى إمام الجمعة أثناء خطبة الجمعة فحسن، ولا يشرع بحال من الأحوال أن يصلي الاستسقاء محل صلاة الجمعة، وكذلك لا أرى أن يصلي ركعتين بعد الجمعة ويقنت في الثانية بعد الركوع كما يفعله بعض أئمة المساجد، لأن هذه الصفة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بها أحد من العلماء فيما أعلم، وإنما يُكتفى بالدعاء في خطبة الجمعة، وأن ما فعله الخطيب المذكور، فيه جملة من الأخطاء حيث إنه صلى الاستسقاء على هيئة صلاة العيد محل صلاة الجمعة، ولا شك في بطلان ذلك وأنه غير مشروع ولا بحال من الأحوال.
- - -(14/102)
الزكاة والصيام والحج والأيمان(14/104)
احتساب العيدية من زكاة المال
يقول السائل: هل يجوز أن أجعل عيدية أخواتي من مال الزكاة، وإذا أعطيت عيدية لأولادي وبناتي فهل يشترط أن أعطي الجميع نفس المبلغ، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: العيدية كما هو معروف بين الناس هي مبلغ من المال، يعطيه الشخص لقريبه بمناسبة حلول العيد - عيد الفطر أو عيد الأضحى - وهذه العيدية صارت لازمة أو شبه لازمة بحكم العرف، حيث إن الناس قد تعارفوا على ذلك، وهذا عرف صحيح يتفق مع الشرع، فالعيدية من باب البر والصلة والإحسان والمرؤة، ومن باب بذل المعروف للأقارب، وهذه المعاني مقررة شرعاً بنصوص الكتاب والسنة، والعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبر عند أهل العلم، قال الإمام القرافي: [وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها] شرح تنقيح الفصول ص 488. وقال الشيخ العلامة ابن عابدين الحنفي:
والعرف في الشرع له اعتبارُ ... لذا عليه الحكم قد يدارُ
رسالة (نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112.
وقد قامت الأدلة الكثيرة على اعتبار العرف ووضع الفقهاء القواعد الفقهية في ذلك كما في قولهم: العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، واستعمال الناس حجة يجب العمل بها، وغير ذلك. [وسلطان العرف العملي كبير في أحكام الأفعال المعتادة والمعاملات المختلفة المتعلقة بحقوق الناس أو أحوالهم الشخصية أو القضاء أو الشهادات والعقوبات وغيرها ويعمل بالعرف ما لم يصادم نصاً شرعياً من القرآن أو السنة واضح الدلالة قطعياً أو نصاً تشريعياً كالقياس ويعتبر ما ثبت بالعرف حينئذ ثابتاً بالنص اتباعاً للقاعدة الشرعية الثابت بالعرف كالثابت بالنص أو الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي] نظرية العرف ص 48.
ومن أوسع مجالات إتباع العرف ما يتعلق بالأسرة مثل عشرة النساء والنفقة عليهن ومن ضمن ذلك ما تعارف عليه الناس من تقديم العيدية للأقارب، وهذا عرف صحيح ينبغي اعتباره والعمل به فهو لا يصادم النصوص الشرعية بل يؤكد مقاصد الشارع الحكيم.(14/105)
إذا تقرر هذا فإنه لا يصح شرعاً اعتبار العيدية للأخوات من الزكاة إن لم يكن من أهلها، وذلك لأن الزكاة لها مصارفها المقررة شرعاً، ولا يجوز صرف الزكاة إلا في تلك المصارف، يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِي0لِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة الآية 60.
وقد أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا تصرف إلا في المصارف الثمانية المذكورة في الآية الكريمة ولا حق لأحدٍ من الناس فيها سواهم، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [هذه لهؤلاء] . وقد روي في الحديث عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته - وذكر حديثاً طويلاً - فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يرض بحكم نبيٍ ولا غيره في الصدقة حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت في تلك الأجزاء أعطيتك حقك) رواه أبو داود والبيهقي والدارقطني وفي سنده ضعف. وإعطاء الأخوات من الزكاة يجوز شرعاً في حالة كون المزكي غير ملزمٍ شرعاً بالإنفاق عليهن، وهناك خلاف بين أهل العلم في النفقة على الأقارب غير الأصول والفروع، مثل الأخ أو الأخت والعم والعمة والخال والخالة وغيرهم. والقول الراجح في ذلك هو: إن النفقة تجب على ذي الرحم الوارث، سواء ورث بفرض أو تعصيب أو برحم، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وبناءً على ذلك لا يجوز أن يعطي الرجل زكاة ماله لمن وجبت عليه نفقته، فمثلاً أخرج المزكي زكاة ماله وله أخت وليس لها من ينفق عليها إلا المزكي المذكور، فلا يجوز أن يعطيها من زكاة ماله. وهذا الأساس الذي بني عليه الحكم في المنع من إعطاء الزكاة للأقارب إذا كانت النفقة واجبة على المزكي، قال به جماعة من أهل العلم من السلف والخلف فمن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي حفصة قال: [سألت سعيد بن جبير عن الخالة تعطى من الزكاة فقال: ما لم يغلق عليكم باباً] المصنف 3/192، - أي ما لم يضمها إلى عياله -. وما رواه أيضاً بإسناده عن عبد الملك قال: قلت لعطاء: [أيجزي الرجل أن يضع زكاته في أقاربه، قال: نعم إذا لم يكونوا في عياله] المصنف 3/192.(14/106)
وما رواه أيضاً عن سفيان الثوري أنه قال: [لا يعطيها من تجب عليه نفقته] المصنف 3/192وروى أبو عبيد القاسم بن سلام بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا لم تعط منها أحداً تعوله فلا بأس) ، ورواه الأثرم في سننه بلفظ آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إذا كان ذوو قرابة فأعطهم من زكاة مالك وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول] نيل الأوطار 4/200. وقال أبو عبيد: قال لي عبد الرحمن: [إنما كرهوا ذلك لأن الرجل إذا ألزم نفسه نفقتهم وضمهم إليه ثم جعل ذلك بعده إلى الزكاة كان كأنه قد وقى ماله بزكاته] الأموال ص695.
وأما إذا لم تكن نفقة الأخوات واجبة على المزكي، فيجوز إعطاؤهن من الزكاة، بل الأخوات أولى بالزكاة من غيرهن في هذه الحالة، وللمزكي أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، لما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وحسنه العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/387.
قال المباركفوري: [قوله: (الصدقة على المسكين) أي صدقة واحدة (وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) يعني أن الصدقة على الأقارب أفضل لأنه خيران ولا شك أنهما أفضل من واحد] تحفة الأحوذي 3/261. وجاء في الفتاوى الهندية: [والأفضل في الزكاة والفطر والنذور الصرف أولاً إلى الأخوة والأخوات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى الأعمام والعمات، ثم إلى أولادهم ثم إلى الأخوال والخالات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى ذوي الأرحام ثم إلى الجيران ثم إلى أهل حرفته ثم إلى أهل مصره أو قريته] الفتاوى الهندية 1/190.وأما إعطاء الزكاة للأخوات – إن كن من أهلها - تحت غطاء العيدية فهذا فيه نوع إيهام غير مقبول، لأن الناس يعرفون أن العيدية من مقتضيات الأعراف الحميدة، وأما الزكاة فإنها مما أوجبه الله تعالى، وكذلك فإن إعطاء الزكاة للأخوات – إن كن من أهلها - تحت غطاء العيدية، فيه دفاع عن مال المعطي ووقاية له مما لزمه عرفاً، ولا يصح شرعاً جعل الزكاة وقايةً لمال المزكي مما لزمه شرعاً كالنفقات الواجبة أو عرفاً كالعيدية، كما أنه لا يصح جعل الزكاة وقاية من مال لا تستطيع الوصول إليه، كما يفعله بعض المزكين من احتساب ديونهم على الفقراء العاجزين عن السداد من مال الزكاة، قال أبو عبيد القاسم بن سلام، في تعليل منع احتساب الدين من الزكاة: [ ... إني لا آمن أن يكون إنما أراد(14/107)
أن يقي ماله بهذا الدين قد يئس منه فيجعله ردءاً لماله يقيه به إذا كان منه يائساً ... ] الأموال ص533-534.
وأما العدل عند إعطاء الأولاد والبنات العيدية، فمطلوب شرعاً لعموم الأدلة الواردة في العدل بين الأولاد، وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد على إعطاء أحد الصحابة لأحد أولاده عطية دون الآخرين كما جاء في الحديث عن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي أعطيةً فقالت عمرة بنت رواحة – أم النعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال فرجع فردَّ عطيته) رواه البخاري، وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. ويدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح كم قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/677. وقوله صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِر) رواه مسلم. ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء يرون أن الذكر والأنثى سواءٌ في الهبات والأعطيات وكذا في العيديات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (فسووا بينهم) ، وفي روايةٍ أخرى (أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء) ، والبنت كالابن في وجوب برها لأبيها. ولكن يجوز التفضيل بينهم لسبب معتبر شرعاً، والقول بجواز تفضيل بعض الأولاد لمسوغ شرعي لا بأس به ولا يخالف الأدلة الواردة في وجوب العدل بين الأولاد في العطية، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة السعودية: [المشروع في عطية الأولاد هو التسوية بينهم في العطاء على السواء، ولا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي؛ لكون أحدهم مقعداً أو صاحب عائلة كبيرة أو لاشتغاله بالعلم، أو صرف عطية عن بعض ولده(14/108)
لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله فيما يأخذه ... ] فتاوى اللجنة الدائمة 16/193.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز للشخص أن يحتسب العيدية من زكاة ماله، بل ينبغي أن تكون العيدية من ماله الخاص، وينبغي العدل بين الأولاد في العيدية فلا يعطي بعضهم ويحرم الآخرين، وتجوز المفاضلة في مبلغ العيدية بين الأولاد، فالكبير يعطى أكثر من الصغير، ولا تشترط المساواة بينهم فيها.
- - -(14/109)
السيئات لا تضاعف في شهر رمضان المبارك
يقول السائل: ما صحة القول بأن السيئات تضاعف في شهر رمضان المبارك كما تضاعف الحسنات، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن حرمة شهر رمضان المبارك حرمة عظيمة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عن عقوبة من ينتهك حرمة رمضان فقد ورد في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضَبعيَّ - أي بعضُديَّ - فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد فقلت: إني لا أطيقه فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ... ) رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 7/1669، وفي صحيح الترغيب والترهيب 1/588.
وقد قرر المحققون من أهل العلم أنه مع هذه الحرمة العظيمة لرمضان، فإن السيئات لا تضاعف أعدادها في رمضان بل المضاعفة خاصة بالحسنات في رمضان وفي غيره، وما ورد في بعض الأحاديث من مضاعفة السيئات في رمضان فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سأبين لاحقاً. وقد نصت آيات الكتاب الكريم على أن جزاء السيئة سيئة مثلها فقط، قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} سورة الأنعام الآية 160. وقال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة القصص الآية 84. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ(14/110)
مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة يونس الآية 27. وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة غافر الآية 40. وقال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} سورة الشورى الآية 40.
وثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي عند شرحه للحديث [النوع الثاني عمل السيئات: فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة كما قال الله تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وقوله (كتبت له سيئة واحدة) إشارة إلى أنها غير مضاعفة كما خرج في حديث آخر، لكن السيئة تعظم أحياناً بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} ، في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرماً وعظَّم حرمتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا. وقد روي في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان ولكن إسنادهما لا يصح] جامع العلوم والحكم ص 438- 439.(14/111)
وما أشار إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي من مضاعفة السيئات في رمضان هو ما رواه الطبراني وابن عدي عن أم هانئ رضي الله عنها، وابن عدي وابن صصري في أماليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أمتي لن تخزى ما أقاموا صيام شهر رمضان، قيل: يا رسول الله؟ وما خزيهم في إضاعة شهر رمضان؟ قال: انتهاك المحارم فيه، من زنى فيه، أو شرب خمراً فيه لعنه الله ومن في السموات إلى مثله من الحول، فإن مات قبل أن يدرك رمضان فليست له عند الله حسنة يتقي بها النار. فاتقوا الله في شهر رمضان، فإن الحسنات تضاعف فيه ما لا تضاعف فيما سواه، وكذلك السيئات) وهذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي، وممن ضعَّف الحديث السابق أيضاً ابن الجوزي حيث قال: هذا حديث لا يصح كما في العلل المتناهية 3/537.
إذا تقرر هذا فإن العلماء متفقون على أن الحسنات تضاعف كما قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} سورة الأنعام الآية 160. وقال تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} سورة البقرة الآية 245 وغير ذلك من الآيات. وتزداد مضاعفة الحسنات في مواسم الخير كرمضان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه مسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: [ ... المراد بقوله (وأنا أجزي به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ(14/112)
أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال ... ] فتح الباري 4/139. وكذلك تضاعف الحسنات في الأمكنة الفاضلة كالحرمين والمسجد الأقصى المبارك، فقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن كما قال الهيثمي مجمع الزوائد 4/7، ورواه البزار وقال إسناده حسن، الترغيب والترهيب 2/175.
وقال المحققون من أهل العلم بأن مضاعفة السيئات لا تكون في كمياتها وأعدادها ولكن تكون في كيفيتها فتكون السيئة مغلظة في الأزمنة الفاضلة وفي الأمكنة الفاضلة، فمن يعص الله عز وجل في رمضان وفي الأشهر الحرم فذنبه مغلظ، وكذا من يعص الله في المسجد الحرام، فذنبه مغلظ، قال العلامة ابن القيم: [ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه – أي المسجد الحرام - لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها سيئة لكن سيئة كبيرة، وجزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات والله أعلم] زاد المعاد 1/51.
وقال الشيخ ابن حجر المكي [ينبغي حمل مضاعفة السيئات على مقابلها دون الزيادة على كميتها، لقوله تعالى: {فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} وكذا يقال بمثل ذلك السيئات في حرم مكة. وقول مجاهد وغيره رحمهم الله تعالى بمضاعفتها فيه، إن أرادوا به ما ذكر كان قريباً، أو زيادة كميتها على مائة ألف في مقابلة السيئة الواحدة كالحسنة، كان بعيداً من ظواهر نصوص الكتاب والسنة] إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام ص52.
وخلاصة الأمر أن شهر رمضان المبارك موسم للطاعات ولفعل الخيرات، وعلى المسلم أن يحرص على طاعة ربه عز وجل وأن يبتعد عن المعاصي والآثام، لأن حرمة رمضان عظيمة، ومن يعص الله عز وجل في رمضان فذنبه مغلظ، وأن الحسنات تضاعف في رمضان وغير(14/113)
رمضان، وأما السيئات فلا تضاعف لا في رمضان ولا في غير رمضان ولكنها في رمضان تغلظ، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
- - -(14/114)
الإحرام من بيت المقدس بحج أو عمرة
يقول السائل: نويت الحج هذا العام وأرغب أن أحرم من المسجد الأقصى المبارك حيث إنني سمعت حديثاً في فضل الإحرام من بيت المقدس، فما حكم ذلك، أفيدونا؟
الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على جواز الإحرام بالنسك، حجاً أو عمرة، قبل المواقيت المكانية التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون منها) رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرماً، وتثبت في حقه أحكام الإحرام] المغني 3/250. إلا أن أهل الظاهر منعوا الإحرام قبل المواقيت مطلقاً، وقولهم مرجوح، قال الإمام النووي: [أجمع من يُعْتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه، وحكى العبدري وغيره عن داود - الظاهري - أنه قال: لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات، وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه، ويلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات، وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله] المجموع 7/200.
ومع اتفاق جمهور الفقهاء على جواز الإحرام قبل المواقيت المكانية إلا أنهم اختلفوا في الأفضل، هل هو الإحرام من المواقيت؟ أم الإحرام من بلد مريد الحج؟ والمسألة محلُ خلافٍ بين أهل العلم، والراجح أن الإحرام من الميقات أفضل، وبه قال المالكية والشافعية في أصح القولين عندهم والحنابلة، وقد كره عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يحرم أحدٌ قبل الميقات، فقد ورد (أن عمران بن الحصين رضي الله عنه أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره) رواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في الكبير، وروى البخاري تعليقاً أن عثمان رضي الله عنه كره أن يُحرم من خراسان أو كرمان) ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وصله سعيد بن منصور ... أن عبد الله بن عامر(14/115)
أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من خراسان، فقدم على عثمان فلامه وقال: غزوتَ وهانَ عليك نُسُكك، وروى أحمد بن سيار في (تاريخ مرو) من طريق داود بن أبي هند قال: لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرماً، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع. وهذه أسانيد يقوي بعضها بعضاً] فتح الباري 3/530.
ولا شك أن الاقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأهدى، فقد أحرم الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من ذي الحليفة – آبار علي- كما هو ثابت في السنة النبوية، وهكذا فعل صحابته رضوان الله عليهم، فقد كانوا يحرمون من المواقيت، قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب فرض مواقيت الحج والعمرة) ثم روى عن زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في منزله وله فسطاط وسرادق، فسألته من أين يجوز أن أعتمر؟ قال فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجدٍ قرناً، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة) ثم قال الإمام البخاري: (باب ميقات أهل المدينة، ولا يُهلون قبل ذي الحليفة) ثم روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يُهل أهلُ المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجدٍ من قَرْن. قال عبد الله وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم) صحيح البخاري 3/482، 488. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وهذا التوقيت يقتضي نفي الزيادة والنقص، فإن لم تكن الزيادة محرمةً، فلا أقلَّ من أن يكون تركها أفضل] شرح العمدة 5/129. وقد سئل الإمام مالك رحمه الله حيث أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل. فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها! قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ذكر هذا الأثر عن الإمام مالك الشيخ ابن العربي في أحكام القرآن 3/432، والإمام الشاطبي في الاعتصام 1/132.(14/116)
وقال الإمام النووي: [والأصح على الجملة أن الإحرام من الميقات أفضل للأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته من الميقات، وهذا مجمعٌ عليه، وأجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد وجوب الحج ولا بعد الهجرة غيرها، وأحرم صلى الله عليه وسلم عام الحديبية بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة، رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي، وكذلك أحرم معه صلى الله عليه وسلم بالحجة المذكورة والعمرة المذكورة أصحابه من الميقات، وهكذا فعل بعده صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعون وجماهير العلماء وأهل الفضل، فترك النبي صلى الله عليه سلم الإحرام من مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وأحرم من الميقات فلا يبقى بعد هذا شكٌ في أن الإحرام من الميقات أفضل] المجموع 7/201.
إذا تقرر هذا فأعود للحديث الذي أشار إليه السائل في فضيلة الإحرام من بيت المقدس، وهو عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهلَّ بحجٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وأحمد، وهذا الحديث ضعيف، ضعفه البخاري والمنذري وابن حزم والنووي وابن كثير وابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهم، قال الشيخ ابن حزم: [واحتج من رأى هذا – أي جواز الإحرام قبل الميقات - بما روينا من طريق أبي داود ... عن أم سلمة أم المؤمنين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهلَّ بحجةٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة) شك عبد الله أيهما قال، ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ... عن أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أهلَّ بعمرةٍ من بيت المقدس غُفر له) . قال عليٌ – أي ابن حزم -: أما هذان الأثران، فلا يشتغل بهما من له أدنى علم بالحديث، لأن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي، وجدته حكيمة، وأم حكيم بنت أمية لا يُدرى من هم من الناس، ولا يجوز مخالفة ما صح بيقينٍ، بمثل هذه المجهولات التي لم تصح قط] المحلى 5/59-60.
وقد ضعف الحديث السابق العلامة الألباني حيث فصلَّ الكلام عليه فقال: [ضعيف، أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وأحمد(14/117)
من طريق حكيمة عن أم سلمة مرفوعاً. قال ابن القيم في تهذيب السنن: قال غير واحد من الحفاظ: إسناده غير قوي. قلت: وعلته عندي حكيمة هذه فإنها ليست بالمشهورة، ولم يوثقها غير ابن حبان وقد نبهنا مراراً على ما في توثيقه من التساهل، ولهذا لم يعتمده الحافظ فلم يوثقها، وإنما قال في التقريب: مقبولة، يعني عند المتابعة، وليس لها متابع هاهنا فحديثها ضعيف غير مقبول، هذا وجه الضعف عندي، وأما المنذري فأعله بالاضطراب فقال في مختصر السنن وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافاً كثيراً، وكذا أعله بالاضطراب الحافظ ابن كثير كما في نيل الأوطار. ثم إن المنذري كأنه نسي هذا فقال في الترغيب والترهيب: رواه ابن ماجة بإسناد صحيح! وأنى له الصحة وفيه ما ذكره هو وغيره من الاضطراب، وجهالة حكيمة عندنا؟! ثم إن الحديث قال السندي وتبعه الشوكاني: يدل على جواز تقديم الإحرام على الميقات. قلت: كلا، بل دلالته أخص من ذلك، أعني أنه إنما يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، وأما غيره من البلاد فالأصل الإحرام من المواقيت المعروفة وهو الأفضل كما قرره الصنعاني في سبل السلام، وهذا على فرض صحة الحديث، أما وهو لم يصح كما رأيت، فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم ... ] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/248-249.
ويضاف إلى ما سبق، أن الإحرام قبل الميقات، كالإحرام من بيت المقدس، فيه نوع حرج وتضييق على المحرم، حيث تطول مدة الإحرام، وقد يلحق الأذى والضرر بالمحرم، كما لو كان الفصل شتاءً، وكما أن الإنسان لا يخلو من الوقوع في الذنوب، فإذا وقع في الذنب وهو محرم كان الذنب عظيماً، قال عطاء من كبار التابعين: [انظروا هذه المواقيت التي وُقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدُكم ذنباً في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك] المغني 5/251.
وخلاصة الأمر أن الإحرام من المواقيت المكانية المعروفة هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرم منها الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون وغيرهم من التابعين، فالخير كل الخير في إتباعهم، والحديث الوارد في فضل الإحرام من المسجد الأقصى أو من بيت المقدس حديث ضعيف عند المحدثين، لذا أنصح الحجاج والمعتمرين أن يحرموا من المواقيت التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(14/118)
- - -
إلغاء موسم حج هذا العام بسبب مرض إنفلونزا الخنازير
يقول السائل: ما قولكم في بعض الفتاوى التي نادت بتأجيل موسم الحج لهذا العام بسبب انتشار مرض إنفلونزا الخنازير، أفيدونا؟
الجواب: انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة، من النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى دراسة طبية فقهية معمقة، وما صدر من فتاوى طالبت بإلغاء موسم الحج لهذا العام وتأجيل العمرة، ما هي إلا فتاوى متسرعة ومتعجلة لم تدرس النازلة وفق القواعد والضوابط الشرعية المقررة لدراسة القضايا المعاصرة، والفتاوى المطالبة بإلغاء موسم الحج لهذا العام مشت على منهج المبالغة في التيسير والتساهل بحجة أن الدين يسر، وأن المصلحة تقضي بالمحافظة على صحة الناس، وأن حفظ الصحة أهم من الشعائر، كما قالت إحدى المفتيات!! [إن المحافظة على الحياة أحد المقاصد الرئيسية للشريعة، لافتة إلى أن الإسلام دين يسرٍ لا عسر، والمشقة فيه تجلب التيسير؛ حيث يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، ويقول جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ودعت إلى تطبيق قاعدة (درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة) مستنكرة أن يخاف المسلمون من تأجيل العمرة أو حتى الحج، وكذلك الصلاة في الخلاء؛ لأنه يجب أن يكون خوفهم على حياتهم أكبر من خوفهم على فوات العبادة في هذه الظروف الاستثنائية التي تهدد الحياة!!!] وهذه المخاوف التي بنيت عليها هذه الفتاوى المتسرعة ما هي إلا ظنون متوهمة ولا يجوز شرعاً أن نلغي فريضة الحج بسبب هذه الأوهام.
ويمكن تلخيص الرد على هذه الفتاوى العرجاء بما يلي:
أولاً: إن المبالغة في العمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص الشرعية أمر مرفوض شرعاً، لأن المصلحة دليل متأخر الرتبة عند من يستدل به. ولا يجوز بحال من الأحوال تقديم المصلحة على نصوص الكتاب والسنة،(14/119)
حيث إن الحج فريضة محكمة، يقول الله عز وجل: {َلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} سورة آل عمران الآية97.
ثانياً: هنالك تسرع واضح في إصدار هذه الفتاوى قبل استشارة أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم، فإن رأي الجهات الطبية ورأي الأطباء الثقات أهل الاختصاص يجب أن يؤخذ أولاً وبعد دراسته يمكن إصدار الفتاوى المناسبة، ومن المعلوم حتى الآن أن الأطباء لا يقولون بأنه يوجد داعٍ لإلغاء موسم الحج بسبب إنفلونزا الخنازير، فقد قال الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء المصريين: [إنه لا مانع من إنجاز موسم الحج والعمرة، مع ضرورة تقديم السلطات السعودية ضماناتٍ صحيةً بالحفاظ على الحجَّاج والمعتمرين، وأعرب عن استغرابه للدعوات المطالبة بوقف موسمَي الحج والعمرة، مؤكدًا أن العشرات يموتون في الأراضي المقدسة كلَّ عام بالإنفلونزا وغيرها؛ نتيجة تقدُّم الأعمار، وإصابة عدد كبير منهم بأمراض مزمنة وضعف مناعة] وأعلنت نقابة أطباء مصر في بيان لها أنه لا ضرورة علمية أو صحية لإلغاء رحلات الحج والعمرة هذا العام بسبب فيروس إنفلونزا الخنازير، معتبرة أن الفيروس المسبب للمرض (إتش 1 إن 1) هو من نوع الأنفلونزا الموسمية نفسها، بل أخف منها ضرراً وقالت النقابة: إن الأطباء المتخصصين في علم الميكروبيولوجيا الإكلينيكية الذين استطلعت آراؤهم أجمعوا على أن الاتجاه إلى إلغاء الحج والعمرة للمصريين هذا العام يعتبر إجراءً علمياً غير صحيح، واستشهدت النقابة بأن معظم المصابين المصريين الوافدين لمصر تماثلوا للشفاء] .
ثالثاً: إن فهم الواقعة المعاصرة فهماً صحيحاً، مطلوب قبل إصدار الفتوى، يقول العلامة ابن القيم: [ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرٍ، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن(14/120)
سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم] إعلام الموقعين 1/187.
رابعاً: إن هذه النازلة المعاصرة العظيمة – انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة – تحتاج إلى فتوى جماعية تصدر عن المجامع الفقهية المعتبرة، ولا يقبل فيها فتاوى فردية متسرعة لا تقوم على قواعد الفتوى الصحيحة. ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية اليوم، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، قال العلامة ابن القيم: [ ... ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحدٌ، وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصٌ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم] إعلام الموقعين 2/156.
وما يصدر عن المجامع الفقهية من قرارات لا يعتبر في حكم الإجماع الأصولي، ولكن قرارات هذه المجامع مقدمة على اجتهادات أفراد العلماء.
خامساً: وقد بحث المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وهو يضم مجموعة من علماء العصر هذه النازلة - تأجيل العمرة وإلغاء الحج بسبب إنفلونزا الخنازير – في أواخر حزيران الماضي وجاء في قراره ما يلي: [تلقى المجلس استفتاءً بخصوص السفر لأداء مناسك الحج أو العمرة في هذا العام في ضوء ما حدث أخيراً من انتشار أنفلونزا الخنازير في الكثير من بلدان العالم، ورفع درجة التحذير من الوباء إلى الدرجة السادسة، وقد قام المجلس بالاتصال بالمسئولين في منظمة الصحة العالمية، فأفادوا أن هذه الدرجات المشار إليها هي درجات للانتشار الجغرافي، ولا علاقة لها على الإطلاق بدرجة الخطورة، وقد أعلنت الدرجة السادسة لأن عدة حالات من المرض قد ظهرت في جميع قارات العالم، وقد أوضحت المديرة العامة للمنظمة - وهي المفوضة الوحيدة من قبل دول العالم بتطبيق وتفسير اللوائح الصحية الدولية – أن شدة المرض معتدلة، ولا تزيد عن شدة الأنفلونزا الموسمية المعهودة. ولم يحدث أبداً من قبل أن أوبئة الأنفلونزا الموسمية قد دفعت إلى منع أو تحديد الحج أو العمرة، علماً بأن حكومة المملكة العربية السعودية قد تعهدت ... بتنفيذ(14/121)
الخطة المتكاملة لمكافحة الوباء، وباتخاذ الاستعدادات لمنع وقوع المزيد من الحالات. وقد أصدرت وزارة الصحة في المملكة الاشتراطات الصحية لأداء الحج والعمرة لهذا العام، واحتفظت بحقها باتخاذ أي إجراءات احترازية إضافية.
وبناء على ما تقدم، لا يرى المجلس مسوغاً لأية فتوى يكون مفادها تثبيط همم من يعقد العزم على أداء الحج أو العمرة هذا العام. على أنه من الضروري على كل حال اتخاذ التدابير الواقية من هذا المرض ومن غيره من الأوبئة، وتتلخص هذه التدابير بالدرجة الأولى في الامتناع عن العناق والقبلات والتقليل من المصافحة ما أمكن، وغسل اليدين بعد كل ملامسة لمريض، أو عقب تلوثهما، وستر الأنف والفم في حال العطاس والسعال بمنديل ورقي، والأفضل في أثناء التجمعات استعمال الأقنعة والكمامات، مع الانتباه إلى تبديل هذه الأقنعة أو الكمامات مراراً، والتخلص منها بطريقة صحية. ومن وسائل الوقاية أيضاً الالتزام بالتوصيات الصادرة عن السلطات الصحية في السعودية أو في البلدان التي ينتمي إليها الحجاج والمعتمرون، حول أخذ اللقاحات أو اصطحاب الأدوية اللازمة، علماً بأن هذه التوصيات قد يتم تخفيفها أو تشديدها بما يلائم الوضع الصحي السائد. كما يوصي المجلس بتأجيل القيام بأداء هذه المناسك للمسنين والمصابين بأمراض موهنة، أو المتعاطين لأدوية تخفف من المناعة، كما يوصي بذلك أولئك الذين حجوا أو اعتمروا من قبل تخفيفاً للزحام] .
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً المناداة بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة بسبب ظنون وأوهام وتخوفات لا محل لها بسبب إنفلونزا الخنازير، ولا يجوز شرعاً تثبيط همم الحجاج والمعتمرين بمثل هذه الظنون، ومثل هذه القضايا المعاصرة الكبيرة تحتاج إلى اجتهادات جماعية وأخذ رأي أهل الاختصاص، ومن الغريب أن هذه الفتاوى العرجاء طالبت بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة فقط دون النظر إلى تجمعات الناس الأخرى كالتي تحصل في مباريات كرة القدم ودور السينما والملاهي وغيرها، ولا نستبعد غداً أن تخرج فتاوى أخرى تنادي بإلغاء صلاة الجمعة وصلاة الجماعة بمثل هذه الظنون والأوهام!!!
- - -(14/122)
حكم إفتداء اليمين بالمال
يقول السائل: حصل نزاع بيني وبين شخص في قضية ما وتوجهت اليمين عليَّ، ولكني هبت من حلف اليمين فعرضت عليه مبلغاً من المال ليعفيني من اليمين، مع العلم أنني إذا حلفت فأنا صادق في يميني، فهل هذا الأمر جائز شرعاً، أفيدونا؟
الجواب: إذا طُلبت اليمينُ من شخصٍ فحلف وهو صادق في يمينه فلا حرج عليه، واليمين مشروعة كما هو معلوم، ولكن مطلوب من المسلم أن يحفظ يمينه، كما قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} سورة المائدة الآية 89. قال القرطبي: [أي بترك الحلف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات] تفسير القرطبي 6/285. ونقل القرطبي أيضاً عن بعض المفسرين في قوله تعالى: {ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآية 224، [بأن المعنى لا تكثروا من اليمين بالله تعالى فإنه أهيب للقلوب ولهذا قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وذمَّ من كثَّر اليمين فقال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} والعرب تمتدح بقلة الأيمان ... ] تفسير القرطبي3/97. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن توجهت عليه يمين هو فيها صادق، أو توجهت له، أبيح له الحلف، ولا شيء عليه من إثم ولا غيره; لأن الله تعالى شرع اليمين، ولا يشرع محرماً. وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام، أن يقسم على الحق، في ثلاثة مواضع من كتابه. وحلف عمر لأبيٍّ رضي الله عنهما على نخيل، ثم وهبه له، وقال: خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم، فتصير سنة. قال حنبل: بُلي أبو عبد الله- أي الإمام أحمد - بنحو هذا، جاء إليه ابن عمه، فقال: لي قِبَلكَ حقٌ من ميراث أبي، وأطالبك بالقاضي، وأحلفك. فقيل لأبي عبد الله: ما ترى؟ قال: أحلف له، إذا لم يكن له قِبَلي حق، وأنا غيرُ شاكٍ في ذلك حلفت له، وكيف لا أحلف، وعمر قد حلف، وأنا من أنا؟ وعزم أبو عبد الله على اليمين، فكفاه الله ذلك، ورجع الغلام عن تلك المطالبة] المغني10/208.(14/123)
وقال صاحب الهداية الحنفي: [ومن ادَّعى على آخر مالاً فافتدى يمينه أو صالحه منها على عشرة – مثلاً - فهو جائز] شرح فتح القدير. ومع ذلك فإن شأن اليمين عظيم، والتورع عن اليمين أمر معروف عند الصحابة والتابعين، قال الحافظ الهيثمي: باب الورع والخوف من الحلف، وساق فيه مجموعة من الآثار عن الصحابة والتابعين في ذلك، وأين حالهم من حالنا الذي يعبر عنه المثل العامي الدارج بين الناس: (قالوا للحرامي احلف فقال جاء فرج الله) !! فأي استخفاف هذا باليمين! قال العلامة ابن القيم: [قد ثبت وتقرر أن الإقدام على اليمين يصعب، ويثقل على كثير من الناس، سيما على أهل الدين وذوي المروءات والأقدار، وهذا أمر معتاد بين الناس على ممر الأعصار، لا يمكن جحده. وكذلك روي عن جماعة من الصحابة: أنهم افتدوا أيمانهم، منهم: عثمان، وابن مسعود وغيرهما، وإنما فعلوا ذلك لمروءتهم، ولئلا تسبق الظلمة إليهم إذا حلفوا، فمن يعادي الحالف، ويحب الطعن عليه، يجد طريقاً إلى ذلك، لعظم شأن اليمين وعظم خطرها] الطرق الحكمية1/125.
إذا تقرر هذا فإنه يجوز لمن طلبت منه اليمين أن يفتدي يمينه بالمال على الراجح من أقوال أهل العلم، فقد ثبت افتداء اليمين بالمال عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد روى الطبراني بإسناد جيد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه افتدى يمينه بعشرة آلاف درهم ثم قال: ورب الكعبة لو حلفت، حلفتُ صادقاً وإنما هو شيء افتديت به يميني. ورواه أيضاً الدارقطني في السنن. وروى عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال: سئل الزهري عن الرجل يقع عليه اليمين، فيريد أن يفتدي يمينه، قال: قد كان يُفعل، قد افتدى عبيد السهام - صحابي اسمه عبيد بن سليم الأنصاري الأوسي ويقال له عبيد السهام لأنه كان اشترى من سهام خيبر ثمانية عشر سهماً فقيل له ذلك كما في الإصابة- في إمارة مروان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كثير، افتدى يمينه بعشرة آلاف. وروى عبد الرزاق في المصنف أيضاً عن الأسود بن قيس عن رجل من قومه، قال: عرف حذيفة بعيراً له مع رجل، فخاصمه، فقضي لحذيفة بالبعير، وقضى عليه باليمين، فقال حذيفة: افتدي يمينك بعشرة دراهم، فأبى الرجل، فقال له حذيفة: بعشرين، فأبى، قال: فبثلاثين، قال: فأبى، قال: فبأربعين، فأبى الرجل، فقال حذيفة: أتظن أني لا أحلف على مالي، فحلف عليه حذيفة. وروى البيهقي في كتاب المعرفة في كتاب أدب القاضي عن الإمام الشافعي قال: بلغني أن عثمان بن عفان(14/124)
رُدت عليه اليمين فافتداها بمال، وقال: أخاف أن يوافق قدر بلاء، فيقال: هذا بيمينه. وقال البيهقي في آخر الباب وفي كتاب المستخرج لأبي الوليد بإسناد صحيح عن الشعبي: وفيه إرسال، أن رجلاً استقرض من عثمان بن عفان سبعة آلاف درهم، فلما تقاضاه، قال له: إنما هي أربعة آلاف، فخاصمه إلى عمر، فقال: تحلف أنها سبعة آلاف؟ فقال عمر: أنصفك، فأبى عثمان أن يحلف، فقال له عمر: خذ ما أعطاك. وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: (وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء - أي المطر- فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات) .
وقد اختلف أهل العلم في أيهما أولى الحلف أم افتداء اليمين؟ والذي أرجحه هو افتداء اليمين، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [واختلف في الأولى، فقال قوم: الحلف أولى من افتداء يمينه; لأن عمر حلف; ولأن في الحلف فائدتين; إحداهما، حفظ ماله عن الضياع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته. والثانية، تخليص أخيه الظالم من ظلمه، وأكل المال بغير حقه، وهذا من نصيحته ونصرته بكفه عن ظلمه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم على رجلٍ أن يحلف ويأخذ حقه. وقال أصحابنا: الأفضل افتداء يمينه; فإن عثمان افتدى يمينه، وقال: خفت أن تصادف قدراً، فيقال حلف فعوقب، أو هذا شؤم يمينه. وروى الخلال بإسناده، أن حذيفة عرف جملاً سرق له، فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين، فصارت اليمين على حذيفة فقال: لك عشرة دراهم. فأبى، فقال لك عشرون، فأبى، فقال: لك ثلاثون، فأبى، فقال: لك أربعون، فأبى، فقال حذيفة: أتراني أترك جملي؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب. ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلاً، ولا يأمن أن يصادف قدراً، فينسب إلى الكذب، وأنه عوقب بحلفه كاذباً، وفي ذهاب ماله له أجر، وليس هذا تضييعاً(14/125)
للمال، فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة. وأما عمر، فإنه خاف الاستنان به، وترك الناس الحلف على حقوقهم، فيدل على أنه لولا ذلك، لما حلف، وهذا أولى، والله تعالى أعلم] المغني 10 208-209.
ويؤيد ترجيح افتداء اليمين أن في ذلك [صون عرضه وهو مستحسن عقلاً وشرعاً، ولأنه لو حلف يقع في القيل والقال، فإن الناس بين مصدقٍ ومكذب، فإذا افتدى بيمينه فقد صان عرضه وهو حسن] البحر الرائق. ويؤيده أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذبوا عن أعراضكم بأموالكم) صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3 /445، وفي صحيح الجامع 1/644.
وخلاصة الأمر أن شأن اليمين عظيم وينبغي التورع منها والخوف منها، وإذا طلبت اليمين من شخص فحلف وهو صادق في يمينه فلا حرج عليه، ويجوز لمن طُلبت منه اليمين أن يفتدي يمينه بالمال على الراجح من أقوال أهل العلم، لثبوت افتداء اليمين بالمال عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. وإذا قبل المدعي افتداء اليمين من المدَّعى عليه فإن حقه في اليمين يسقط ولا تقبل مطالبته باليمين بعد ذلك، لأن القاعدة الفقهية تقول الساقط لا يعود، يعني إذا أسقط شخصٌ حقاً من الحقوق التي يجوز إسقاطها، يسقط ذلك الحق وبعد إسقاطه لا يعود.
- - -
حكم النذر فيما لا يملكه الناذر
يقول السائل: نذرت أمي إن توظفت لتوزعن أول راتب لي على الفقراء، فما حكم هذا النذر، وهل نذرها يلزمني، أفيدونا؟
الجواب: النذر عند أهل العلم هو أن يلزم المكلف نفسه بقربة لم يلزمه بها الشارع الحكيم، والوفاء بالنذر واجب لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} سورة الحج الآية 29، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري ومسلم. وقد اشترط الفقهاء لصحة النذر أن يكون المنذور به ملكاً للناذر، وفي السؤال المذكور فإن الأم نذرت أن توزع راتب ابنها وهي لا تملكه، قال ابن عابدين(14/126)
[وشرط صحة النذر أن يكون المنذور ملكاً للناذر] حاشية ابن عابدين 4/46. وقال الإمام البخاري في صحيحه [باب النذر فيما لا يملك وفي معصية] ثم ساق مجموعة من الأحاديث يفهم منها هذا الشرط كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 11/714.
ومما يدل على أنه يشترط في المنذور به أن يكون ملكاً للناذر ما رواه الإمام مسلم بإسناده عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء – اسم ناقة الرجل المأسور - فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال يا محمد فأتاه، فقال ما شأنك؟ فقال بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ – أي ناقته - فقال إعظاماً لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف، ثم انصرف عنه فناداه، فقال يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً، فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم انصرف فناداه، فقال يا محمد يا محمد فأتاه فقال ما شأنك؟ قال إني جائع فأطعمني وظمآن فأسقني، قال هذه حاجتك ففدي بالرجلين. قال وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ، قال وناقة منوقة - أي مذللة - فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم، قال ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد) . قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فيما لا يملك العبد) ، فهو محمول على ما إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه، بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه أو بداره أو نحو ذلك. فأما إذا التزم في الذمة شيئاً لا يملكه فيصح نذره، مثاله: قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ عتق رقبة، وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا(14/127)
قيمتها، فيصح نذره، وإن شفي المريض ثبت العتق في ذمته] شرح النووي على صحيح مسلم 4/267.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عُذِب به يوم القيامة، وليس على رجلٍ نذرٌ في شيءٍ لا يملكه) رواه مسلم. وورد في الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه النسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 2/ 807. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا وفاء لنذرٍ فيما لا تملك) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/412.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة - اسم مكان قريبٌ من ينبع - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/637. وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر أنه يشترط في المنذور به أن يكون ملكاً للناذر، فقد اختلف أهل العلم فيما يترتب على من نذر ما لا يملكه، فمنهم من قال لا شيء عليه، لا كفارة ولا غيرها.
قال الحافظ ابن حجر: [واختلف فيمن وقع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين] فتح الباري 11/715، وقال الإمام النووي: [ ... لا يصح النذر فيما لا يملك، ولا يلزم بهذا النذر شيء] شرح النووي على صحيح مسلم 1/294.
ومن الفقهاء كالحنفية والحنابلة وبعض الشافعية وبعض أهل الحديث من ألزمه كفارة يمين، وهذا القول أرجح لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [قوله(14/128)
صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً فلله عليَّ حجة أو غيرها، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق، كقوله: عليَّ نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/269. ويؤيده ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين) أخرجه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2860.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 479. وبناءً على ما تقدم يلزم المرأة المذكورة في السؤال كفارة يمين، وهي المذكورة في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89.
ولا بد من التنبيه هنا أن مال الابن مملوك له، وليس ملكاً للأم ولا للأب، كما يفهمه بعض الناس من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) والأم كذلك، رواه ابن ماجة والطحاوي والطبراني وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/323-330. فإن هذا الحديث ليس على ظاهره كما قال أكثر العلماء، قال ابن حبان في صحيحه: تحت عنوان [ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أن مال الابن يكون للأب ... ] ثم ذكر الحديث وعقب عليه بقوله: [ومعناه أنه صلى(14/129)
الله عليه وسلم زجر عن معاملته أباه بما يعامل به الأجنبي وأمره ببره والرفق به في القول والفعل معاً إلى أن يصل إليه ماله فقال له: (أنت ومالك لأبيك) ، لا أن مال الابن يملكه الأب في حياته عن غير طيب نفس من الابن له] صحيح ابن حبان 2/142-143.
ويرى بعض أهل العلم أن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم: (لأبيك) تفيد الإباحة لا التمليك فيباح للوالد أن يأخذ من مال الابن حاجته ولا تفيد أن الأب يملك مال الابن، قال الشوكاني: [قوله: (أنت ومالك لأبيك) قال ابن رسلان: اللام للإباحة لا للتمليك، فإن مال الولد له وزكاته عليه وهو موروث عنه] نيل الأوطار 9/232.
وقال الشيخ علي الطنطاوي: [إن الحديث قوي الإسناد لكن لا يؤخذ عند جمهور الفقهاء على ظاهره بل يؤول ليوافق الأدلة الشرعية الأخرى الثابتة والقاعدة الشرعية المستنبطة منها وهي أن المالك العاقل البالغ يتصرف بماله وليس لأحد التصرف به بغير إذنه ... ] فتاوى الطنطاوي ص 137.
وخلاصة الأمر أن هذه الأم قد نذرت أن توزع مالاً لا تملكه ويلزمها أن تكفر كفارة يمين، ولا يلزم ولدها شيء.
- - -(14/130)
المعاملات(14/131)
العقد شريعة المتعاقدين
يقول السائل: هل قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين) قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي؟ وما مدى صحتها، أفيدونا؟
الجواب: قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين) ليست من قواعد الفقه الإسلامي، وإنما هي قاعدة قانونية وأصلها مستمد من القوانين الغربية ونقلت إلى القوانين المدنية الوضعية، فقد نصت عليها بعض القوانين المدنية العربية، كالقانون المدني المصري حيث ورد في المادة رقم 147 منه: [العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون؛ ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة؛ جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول. ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك] وكذلك ورد النص عليها في القانون المدني السوري مادة رقم 148.
والحكم الشرعي في هذه القاعدة أنها غير مُسلَّمةٍ على إطلاقها، وإن جرى استعمالها على ألسنة كثيرٍ من علماء العصر، قال الدكتور بكر أبو زيد: [العقد شريعة المتعاقدين: هذا من مصطلحات القانون الوضعي، الذي لا يراعي صحة العقود في شريعة الإسلام، فسواء كان العقد ربوياً أو فاسداُ، حلالاً، أو حراماً، فهو في قوة القانون ملزم كلزوم أحكام الشرع المطهر، وهذا من أبطل الباطل ويغني عنه في فقه الإسلام مصطلح: (العقود الملزمة) . ولو قيل في هذا التقعيد: (العقد الشرعي شريعة المتعاقدين) لصح معناه ويبقى جلْبُ قالب إلى فقه المسلمين، من مصطلحات القانونيين فليجتنب، تحاشياً عن قلب لغة العلم] معجم المناهي اللفظية ص 394.
فالقاعدة المذكورة لا يعمل بها على إطلاقها كما قلت وتوضيح ذلك كما يلي: إن الراجح من أقوال الفقهاء أن الأصل في العقود وما فيها من شروط هو الإطلاق، وقد دلت على هذا الأصل دلائل النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب الالتزام والوفاء بكل ما يلتزم به المتعاقدان ويشترطانه، ما لم يكن في النصوص الشرعية أو القواعد الشرعية ما يمنع تنفيذ عقد أو شرط معين،(14/133)
فحينئذ يمتنع بخصوصه على خلاف القاعدة، ويعتبر الاتفاق باطلاً، كالتعاقد على الربا أو الشروط التي تحل حراماً أو تحرم حلالاً، وهذا الاجتهاد هو ما عليه كثير من الفقهاء كالحنابلة وبعض المالكية وهو مذهب شريح القاضي وابن شبرمة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، المدخل الفقهي لمصطفى الزرقا 1/479-480.
وبناءً على ذلك يجب أن تكون العقود موافقة للأحكام الشرعية، وليس العبرة بمطلق تراضي المتعاقدين فقط، وإنما تراضيهما ضمن دائرة الحكم الشرعي، فإذا اتفق المتعاقدان على عقدٍ لا يخالف الحكم الشرعي، فحينئذ يقال إن الأصل في العقود تراضي المتعاقدين، وأما إذا تراضيا على ما يخالف الحكم الشرعي فلا قيمة لتراضيهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... وإذا ظهر أن العقود لا يحرم فيها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع، والوفاء بها مطلقاً إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل والعقلاء جميعهم، وأدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداءً لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها واجب لإيجاب الشرع، وكذا الإيجاب العقلي أيضاً. وأيضاً فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، لأن الله تعالى قال في كتابه: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وقال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} فعلَّقَ جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سببٌ له، وهو حكمٌ معلَّقٌ على وصفٍ مشتقٍ مناسبٍ، فدلَّ على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات قياساً بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن، وكذلك قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضا المتعاقدان أو طابت نفس المتبرع بتبرعٍ ثبت حله بدلالة القرآن إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك] الفتاوى الكبرى 4/90.
إذا تقرر هذا فإن العقد يكون شريعة المتعاقدين إذا لم يكن فيه مخالفة لأحكام الشريعة وقواعدها، فمن المعلوم عند أهل العلم أن الإنسان ليس(14/134)
حراً فيما يشترطه من شروط في عقوده ومعاملاته، بل لا بد أن تكون هذه الشروط لا تتعارض مع قواعد الشريعة وأصولها، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله ... وقال ابن عمر أو عمر: كل شرطٍ خالف كتاب الله فهو باطلٌ، وإن اشترط مئة شرط] ثم روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتتها بريرة تسألها في كتابها فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابتاعيها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله! فمن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مئة شرط) . وفي رواية في صحيح مسلم (ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق ... ) ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وأن المراد ما خالف كتاب الله ثم استظهر على ذلك بما نقله عن عمر أو ابن عمر، وتوجيه ذلك أن يقال المراد بكتاب الله في الحديث المرفوع حكمه وهو أعم من أن يكون نصاً أو مستنبطاً فكل ما كان ليس من ذلك فهو مخالف لما في كتاب الله] فتح الباري 6/282.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول اتفقوا على أنه عامٌ في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصاً عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر، أو غير ذلك شروطاً، تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره، وقد روى أهل السنن أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً) . وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب، وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون: إنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ، ولا يقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها، كالآيات النازلة بسبب معين، مثل آيات المواريث والجهاد والظهار واللعان والقذف والمحاربة والقضاء والفيء والربا والصدقات(14/135)
وغير ذلك، فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والفقه والمغازي، مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام في حق غير أولئك المعينين، وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه، وكذلك الأحاديث، وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه وأنه من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم وبعث بها حيث قال: (من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطلٌ، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق) ... ] الفتاوى الكبرى 4/247.
وقال العلامة ابن القيم: [والمقصود أن للشروط عند الشارع شأناً ليس عند كثير من الفقهاء، فإنهم يلغون شروطاً لم يلغها الشارع، ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضى فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود، وما لا يقبله، فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل، فالصواب الضابط الشرعي الذي دلَّ عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالفه حكمه فهو لازم، يوضحه أن الالتزام بالشروط كالالتزام بالنذر، والنذر لا يبطل منه إلا ما خالف حكم الله وكتابه، بل الشروط في حقوق العباد أوسع من النذر في حق الله، والالتزام به أوفى من الالتزام بالنذر. وإنما بسطت القول في هذا لأن باب الشرط يدفع حيل أكثر المتحيلين ويجعل للرجل مخرجاً مما يخاف منه ومما يضيق عليه، فالشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} وقال {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} . وها هنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله به رسوله: إحداهما أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطلٌ كائناً ما كان. والثانية أن كلَّ شرطٍ لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط فهو لازم بالشرط، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيءٌ، وقد دلَّ عليهما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الصحابة] إعلام الموقعين 3/390.
وخلاصة الأمر أن عبارة (العقد شريعة المتعاقدين) ليست قاعدة فقهية، ولم يستعملها الفقهاء المتقدمون، واستعملها بعض فقهاء العصر، وهي في الأصل قاعدة قانونية، وهذه القاعدة تكون صحيحة شرعاً إذا لم يكن في العقد وشروطه وقيوده ما يخالف الأحكام الشرعية، فليس للمتعاقدين حرية مطلقة فيما يتعاقدان عليه أو يشترطانه، بل لا بد من الانضباط بأحكام الشرع وقواعده.(14/136)
- - -
رؤية شرعية لأزمة الرهن العقاري
يقول السائل: هل من رؤية شرعية لأزمة الرهن العقاري التي عصفت بالاقتصاد الغربي، أفيدونا؟
الجواب: وصلتني رسالة على بريدي الإلكتروني من أحد خبراء الاقتصاد وفيها شرح مفصل لأسباب نشوء أزمة الرهن العقاري وخلاصتها: [إقدام كثير من الأمريكيين على شراء بيوت للسكن بالتقسيط عن طريق الحصول على قروض من البنوك مقابل رهن البيت ولكن بمعدلات فائدة عالية مع العلم أن أسعار الفائدة متغيرة وليست ثابتة. وهذه الأسعار تكون منخفضة في البداية ثم ترتفع مع الزمن. وترتفع أسعار الفائدة كلما رفع البنك المركزي أسعار الفائدة، وإذا تأخر المشتري عن دفع أي دفعة فإن أسعار الفائدة تتضاعف بنحو ثلاث مرات، كما أن المدفوعات الشهرية خلال السنوات الثلاث الأولى تذهب كلها لسداد الفوائد، وهذا يعني أن المدفوعات لا تذهب إلى ملكية جزء من البيت إلا بعد مرور ثلاث سنوات. وبعد أشهر رفع البنك المركزي أسعار الفائدة فارتفعت الدفعات الشهرية ثم ارتفعت مرة أخرى بعد مرور عام كما نصت عليه عقود الشراء. وإذا تأخر المشتري في السداد فهنالك فوائد على التأخير، وقد توقف كثيرون عن الدفع، وقامت البنوك ببيع القروض على شكل سندات لمستثمرين وأخذ عمولة ورسوم خدمات منهم. وهؤلاء المستثمرين رهنوا هذه السندات، على اعتبار أنها أصول، مقابل ديون جديدة للاستثمار في شراء مزيد من السندات. وبما أن قيمة السندات السوقية وعوائدها تعتمد على تقييم شركات التقييم لهذه السندات بناء على قدرة المدين على الوفاء، وبما أنه ليس كل من اشترى البيوت له القدرة نفسها على الوفاء، فإنه ليست كل السندات سواسية. فالسندات التي تم التأكد من أن قدرة الوفاء فيها ستكون فيها أكيدة ستكسب تقدير (أ) وهناك سندات أخرى ستحصل على (ب) وبعضها سيصنف على أنه لا قيمة له بسبب العجز عن الوفاء. ولتلافي هذه المشكلة قامت البنوك بتعزيز مراكز السندات عن طريق اختراع طرق جديدة للتأمين بحيث يقوم حامل السند بدفع رسوم تأمين شهرية كي تضمن له شركة التأمين سداد قيمة السند إذا أفلس البنك أو(14/137)
صاحب البيت، الأمر الذي شجع المستثمرين في أنحاء العالم كافة على اقتناء مزيد من هذه السندات. ولما توقف أصحاب البيوت عن سداد الأقساط فقدت السندات قيمتها، وأفلست البنوك الاستثمارية وصناديق الاستثمار المختلفة. أما الذين اشتروا تأميناً على سنداتهم فإنهم حصلوا على قيمتها كاملة، فنتج عن ذلك إفلاس شركات التأمين] ولا شك أن أزمة الرهن العقاري قد سببت ضرراً بليغاً للاقتصاد الرأسمالي، ونتج عنها إفلاس عدد من البنوك وشركات الرهن العقاري وشركات التأمين وكل ذلك ينعكس سلباً على مختلف النشاطات الاقتصادية - وقد نشرت الجزيرة نت لائحةً بأسماء المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين المتضررة من الأزمة المالية العالمية-. ولا شك أن أهم أسباب أزمة الرهن العقاري التعامل بالربا – الفائدة – وكذلك بيع الديون [وكشفت هذه الأزمة عن فقاعتين تحكمان الاقتصاد العالمي الأولى: فقاعة الربا، والثانية: فقاعة بيع الديون، وكل منهما ترتبط بالأخرى. وارتبطت بوادر تلك الأزمة بصورة أساسية بالارتفاع المتوالي لسعر الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ العام 2004م وهو ما شكل زيادة في أعباء القروض العقارية من حيث خدمتها وسداد أقساطها، خصوصا في ظل التغاضي عن السجل الائتماني للعملاء وقدرتهم على السداد حتى بلغت تلك القروض نحو1.3 تريليون دولار في آذار من العام 2007م وتفاقمت تلك الأزمة مع حلول النصف الثاني من العام نفسه، وإلى الآن لا يعرف يقيناً المدى الذي يمكن أن تصل إليه تلك الأزمة. وسعى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى خفض الفائدة على الدولار أكثر من مرة لدعم الاقتصاد الأمريكي، والخروج من أزمة الرهن العقاري على الرغم من مواصلة الضغوط التضخمية التي تحد من اتجاه خفض الفائدة، من دون أثر ملموس يبشر بقرب انفراج تلك الأزمة. أما فقاعة بيع الديون فجاءت من خلال (توريق) أو (تسنيد) تلك الديون العقارية وذلك بتجميع الديون العقارية الأمريكية وتحويلها إلى سندات وتسويقها من خلال الأسواق المالية العالمية. ونتج عن عمليات التوريق زيادة في معدلات عدم الوفاء بالديون لرداءة العديد منها، مما أدى إلى انخفاض قيمة هذه السندات المدعمة بالأصول العقارية في السوق الأمريكية بأكثر من 70%] عن صحيفة الخليج الإماراتية على شبكة الإنترنت.(14/138)
ومن الأمور اللافتة للنظر في هذه الأزمة ظهور أصوات في الغرب تطالب بإعادة النظر في نظام الفائدة (الربا) ، بل إن بعض تلك الأصوات طالبت باعتماد النظام الإسلامي في المعاملات، ففي افتتاحية مجلة (تشالينجز) ، كتب (بوفيس فانسون) رئيس تحريرها موضوعاً بعنوان (البابا أو القرآن) ، وقد تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور المسيحية كديانة والكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيراً إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية. وتساءل الكاتب قائلاً: (أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود) . وطالب رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال دفينانس) بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حدٍ لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة. وكتب مقالاً بعنوان: هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟ المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدَّم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية. وذكر جوهان فيليب بتمان مدير البنك الألماني في فرانكفورت في كتابه (كارثة الفائدة) [أن الفوائد سبب رئيسي في تدهور النقد وظهور التضخم، ولو استمرت الفوائد في الازدياد فإن هناك كارثة لا مفر من حدوثها، ومن السهل التنبؤ بها، فهي ليست مصادفة، أو أنها ستأتي فجأة كنتيجة عفوية أو كسوء حظ، وإنما ستأتي نتيجة السياسة الاقتصادية الخاطئة التي تعتمد على نظام الفوائد، فهذه السياسة هي المسؤولة عن الكارثة] ونادى بعض الاقتصاديين الغربيين وعلى رأسهم الاقتصادي الكبير (كينز) بإلغاء نظام الفائدة الربوية ويرون أن الفائدة تعوق النمو الاقتصادي، وتعطل حركة الأموال، وأن التنمية لا تتحقق إلا إذا كان سعر الفائدة صفراً أو ما يقرب منه.
وفي كتاب صدر مؤخراً للباحثة الإيطالية لووريتا نابليوني بعنوان (اقتصاد ابن آوى) أشارت فيه إلى أهمية التمويل الإسلامي ودوره في(14/139)
إنقاذ الاقتصاد الغربي. واعتبرت (التوازن في الأسواق المالية يمكن التوصل إليه بفضل التمويل الإسلامي بعد تحطيم التصنيف الغربي ... ورأت نابليوني أن التمويل الإسلامي هو القطاع الأكثر ديناميكية في عالم المال الكوني) عن شبكة الإنترنت.
إذا تقرر أن السببين الأساسين في نشوء أزمة الرهن العقاري هما نظام الفائدة (الربا) وبيع الديون، فإن الشريعة الإسلامية قد حرمتهما، فالربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275 - 279.
وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وقد اتفق الفقهاء على أن بيع الدين بالدين ممن هو ليس عليه محرم، انظر كشاف القناع 3/265، وهذا ما حصل في أزمة الرهن العقاري حيث بيعت الديون مع ربطها بأسعار الفائدة.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن المصارف الإسلامية لم تلحقها خسائر من أزمة الرهن العقاري التي تشهدها الأسواق المالية العالمية، وهو ما(14/140)
فشلت فيه عدد من أكبر البنوك العالمية، بحسب مسئولين وخبراء اقتصاد. وتوقع الخبراء أن تصب أزمة الرهن العقاري في مصلحة البنوك والمصارف الإسلامية من خلال جذب عدد أكبر من العملاء الذين سيبحثون عن البديل في ضوء تلك الأزمة، مشيرين إلى أن ذلك سيزيد من حجم التمويل الإسلامي على مستوى العالم. عن إسلام أون لاين.
وخلاصة الأمر أن من أهم عوامل نشوء أزمة الرهن العقاري هو التعامل بالربا وبيع الديون، وإن هذه الأزمة لتؤكد لنا أنه لا خلاص للبشرية إلا بإتباع دين الله عز وجل، وأنه المنهج الوحيد القادر على تقديم الحلول الناجعة لمشكلات البشرية جمعاء.
- - -
حكم نشر صور الممثلين والممثلات على المنتجات
يقول السائل: انتشرت ظاهرة نشر وترويج صور ممثلي بعض المسلسلات التركية التي تبثها القنوات الفضائية على بعض المنتجات الخاصة بالأطفال (كالشيبس) والدفاتر المدرسية وبعض الملابس وغيرها، فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن كثيراً من القنوات الفضائية أصبحت معولاً من معاول محاربة الدين والأخلاق والفضيلة، بل هي منابر لنشر الفساد والرذيلة، ومع الأسف الشديد فإن القنوات الفضائية قد دخلت بيوتنا، وأصبحت مربيةً لأبنائنا وبناتنا، ومرشدةً لزوجاتنا، وموجهةً لشبابنا ورجالنا، إلا من رحم ربي وحماه من هذه الطوفان الهادر، والفيضان الرهيب. ومن ضمن سموم القنوات الفضائية، هذه المسلسلات الفاسدة المفسدة، الطافحة بالانحرافات الفكرية والمسلكية، التي تتعارض مع ديننا ومع أخلاقنا ومع عادتنا وتقاليدنا الأصيلة، هذه المسلسلات التي تنشر الفواحش والمنكرات، وتجعل الزنا أمراً عادياً، وتجعل العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج وما يترتب عليها من حملٍ، أموراً طبيعية، يجب على الأسرة أن تتقبلها وتقر بها، هذه المسلسلات التافهة التي تروج [للممارسات غير الأخلاقية التي اجتاحت بعض المجتمعات كهروب الفتيات والزواج السري وغيرها ... إن الدراما العربية ووسائل الإعلام ساهمت في تلك الانحرافات(14/141)
وأن نموذج الراقصة أو الفنانة التي تهرب من بيت الأسرة تحت دعاوى الضغوط الأسرية وإظهارها بعد ذلك بمظهر القدوة والبطولة قد أثر في وجدان العديد من الفتيات وصرن يمارسنه في الواقع كما أن الترويج لمفهوم معين للحب يقوم على التلاقي بين الفتى والفتاة بعيداً عن الأسرة والأطر الشرعية عبر الإلحاح الإعلامي بكل وسائله أثر بشكلٍ كبيرٍ على المجتمع وعلى طبيعة العلاقات التي تحكم الرجل بالمرأة فالعديد من الأفلام تصور الراقصة بطلة ولديها أخلاقيات ومثل عليا!!! ... وفي بعض الأفلام تعيش المرأة المتزوجة مع حبيبها وتقدم هذه المرأة على أنها تستحق التعاطف معها!!] من دراسة ميدانية للدكتور أحمد المجذوب الخبير الاجتماعي، عن الإنترنت. كما أن هذه المسلسلات التافهة تبرز المرأة كرمز للجنس المكشوف أو الموارب. ويضاف إلى ذلك أن هذه المسلسلات قد أسهمت في تفكيك الحياة الأسرية بزيادة المشكلات في البيوت، وزيادة عدد حالات الطلاق، يقول أحد قضاة المحاكم الشرعية في السعودية: [الفضائيات تتسبب في ارتفاع حالات الطلاق، فالفضائيات تدعو إلى تمرد المرأة على زوجها، فهي تظهر لها أن الزوج متسلط وظالم، سلب منها حقوقها وحياتها. كما أن من أسباب الطلاق مقارنة الزوج لزوجته بنساء الفضائيات، اللائي جملّتهن كاميرات التصوير حتى القبيحات منهن أصبحن جميلات بفعل أنواع الماكياج] مجلة الأسرة العدد 105، إن هذه القنوات الفضائية ينطبق عليها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19.
فما تعرضه هذه القنوات من هذه المسلسلات، تحرم مشاهدته ومتابعته، ويجب شرعاً مقاطعة كل ذلك لما فيه من المنكرات والمفاسد ولما يترتب عليه من انحرافات، ولما فيه من نشرٍ للمشاهد الفاضحة التي تؤدي إلى إثارة الغرائز وإسهامٍ في تسميم أفكار الجيل الناشئ، وتسويقٍ للقيم والسلوكيات الغربية المنافية للقيم الإسلامية، مثل مشاهد تعاطي المخدرات والمسكرات والجريمة والجنس، ويضاف إلى ذلك ما تقدمه القنوات الفضائية من برامج تؤدي إلى إشغال المرأة بعالم الموضة والأزياء وعالم الطبخ المبالغ فيه، وغير ذلك من المفاسد والمنكرات، والأمور التافهة، التي تعتبر من باب، العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر. وهذا غيض(14/142)
من فيض مفاسد القنوات الفضائية بشكل عام، وأما المسلسلات التركية المدبلجة باللغة العامية الشامية، التي أشار لها السائل، فقد سلبت عقول كثيرٍ من الناس- نساءً ورجالاً - في عالمنا العربي التائه الضائع، وفتنت كثيراً من الناس مما جعل بعض ضعاف النفوس من التجار يستغلون هذه الحالة للترويج لسلعهم وذلك بنشر صور ممثلي هذه المسلسلات على بضائعهم، فأصبحت الأسواق ممتلئة بالبضائع التي تحمل صور هؤلاء الذين يسمونهم أبطالاً ونجوماً!! هؤلاء الذين يمارسون بطولاتهم المزعومة في الخنا وفي الفحشاء والمنكر، فتجد في الأسواق صوراً لهؤلاء الممثلين على كثيرٍ من المنتجات التي يستهلكها الأطفال (كالشيبس) واللعب وأنواع مختلفة من القرطاسية، خاصة أننا على أبواب العام الدراسي الجديد، وكذلك تجد صورهم على الملابس، وجعلت صورهم خلفيات للجوالات والكمبيوترات وغير ذلك. إذا تقرر هذا فإن من الضوابط الشرعية التي تحكم العمل في التجارة تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} سورة المنافقون الآية 9.
ومن الأمور المحرمة في التجارة الترويج للمحرمات والمنكرات كالمسلسلات المذكورة وغيرها، فنشر صور الممثلين على البضائع محرم شرعاً، لأن من المعلوم عند أهل العلم أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل) قواعد الأحكام 1/46. فوسيلة المحرم محرمة أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام. فالصور التي تشتمل على نشر الفحشاء والمنكر محرمة والترويج للرذائل والفساد والإفساد، لا يجوز استعمالها في ترويج البضائع بمختلف أشكالها، ومما يدل على تحريم هذا العمل قوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي رحمه الله: [وهذا النهي يقتضي التحريم] المغني 4/167. فلا شك أن نشر صور هؤلاء الساقطين والساقطات، فيه(14/143)
نشر للفساد والرذيلة وفيه إثارة للشهوات وكل ذلك داخل في باب التعاون على الإثم والعدوان. كما إنه يدخل في إشاعة الفاحشة بين الناس وهذا من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. كما أن نشر صور هؤلاء يغرس معاني الفساد والرذيلة في نفوس أبنائنا، وخاصة أن بعض المنتجات التي عليها صور الممثلين كالدفاتر المدرسية، تستمر بأيدي طلابنا فترات طويلة، مما يؤثر سلبياً على ثقافة أبنائنا وسلوكهم. ولا بد للتجار الذين ينشرون هذا الفساد من خلال نشر صور الممثلين على منتجاتهم أن يعلموا أنهم يدخلون بعملهم هذا ضمن دائرة الكسب الحرام، والكسب الحرام نوع من أكل السحت، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} سورة المائدة الآية 42. وقال الله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة المائدة الآية 62.وقوله تعالى: {لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} سورة المائدة الآية 63. قال أهل التفسير في قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام، وسمي المال الحرام سحتاً، لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183. وقال جماعة من أهل التفسير: ويدخل في السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223. ومن السحت الربا والغصب والقمار والسرقة ومهر البغي وثمن الخمر والخنزير والميتة والأصنام والتماثيل والصور الإباحية والأفلام الجنسية ونشر صور الممثلين والممثلات وغير ذلك، وقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي(14/144)
رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189. وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وغير ذلك من النصوص.
فيا أخي التاجر ابتعد عن الكسب الحرام واحرص على الكسب الحلال واعلم أن من الواجبات على المسلم أن لا يأكل إلا الحلال بل إن الله قدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلونَ عَلِيمٌ} . وفي هذا الزمان تحقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق حيث أخبر أن من الناس من لا يفرق في كسبه بين حلال وحرام فلا يهمه من أين اكتسب المال وكل ما يهمه أن يكون المال بين يديه ينفقه كيفما شاء. فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام) رواه البخاري. وقد ينسى بعض الناس أنه سيحاسب على ماله وأنه سيسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. وقد وردت نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على الأكل من الطيبات منها: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} سورة البقرة آية 172.(14/145)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلونَ عَلِيمٌ} . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال الفم والفرج) رواه الترمذي وقال حديث صحيح غريب وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/318.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا من الله حق الحياء. قلنا: يا نبي الله إنا لنستحي والحمد الله. قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء هو أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا - يعني من الله - حق الحياء) رواه الترمذي وحسّنه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 2/299.
وخلاصة الأمر أنه يحرم مشاهدة المسلسلات الفاسدة والمفسدة، كما يحرم نشر صور الممثلين والممثلات على المنتجات، وأن ذلك يدخل في إشاعة المنكرات والفواحش بين الناس، وأن التاجر الذي يستعمل هذه الوسائل المحرمة لترويج تجارته فإنه يُدخل في كسبه الحرام، كما يحرم بيع المنتجات التي تشتمل على صور الممثلين والممثلات.
- - -(14/146)
متى تعتبر رسوم القروض من الربا؟
يقول السائل: هنالك بعض الجمعيات والمؤسسات تقدم قروضاً بهدف إقامة مشاريع صغيرة، زراعية، وتجارية، وصناعية، وللإسكان، وتقول هذه المؤسسات إن قروضها بدون فوائد، ولكنها تأخذ رسوماً عند استلام القرض وعند تسديد كل قسط من الأقساط، فهل هذه الرسوم تعتبر من الربا، أفيدونا؟
الجواب: تغيير الأسماء لا يغير شيئاً من حقائق المسميات، فتغيير اسم الخمور إلى مشروبات روحية لا يؤثر في حقيقتها وكونها محرمة، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال: (ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/136. وكذلك تغيير اسم الربا إلى فائدة أو ربح أو دخل أو غير ذلك من الأسماء، لا يغير شيئاً من حقيقة الربا المحرم، وتلاعب الناس بالألفاظ في المعاملات لا يؤثر على حقيقتها شيئاً، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا، وأذكر أنني حسبتُ مرة ما زعمت إحدى المؤسسات المقرضة أنه رسوم خدمات إدارية ورسوم تسديد قسط، فوجدته قد بلغ 14% زيادة على القرض، ثم يقولون هذا ليس من الربا؟! فما هو الربا إذن! لا شك أن التحايل لاستحلال ما حرم الله من أشد المحرمات، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً ً، مخادعةً وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب، أو دفع حق ونحو ذلك، قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا ًً، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل عليَّ] المغني 4/43.
وقد نعى الله سبحانه وتعالى تحيل اليهود لانتهاك المحرمات فقال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} سورة الأعراف الآية 163. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى(14/147)
الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت يهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة ويحسنه تارة] إبطال الحيل ص112، مجموع الفتاوى 29/29.
وقال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد جيد، وقال العلامة الألباني: [وحسن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير] صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 33.
وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود لما حرم شحومها جملوه – أي أذابوه – ثم باعوه فأكلوا ثمنه) رواه البخاري ومسلم. وقد قرر الفقهاء أن أي زيادة مشروطة على مبلغ القرض تعتبر من الربا، فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه البخاري ومسلم. ومما يدل أيضاً على منع الزيادة المشروطة على القرض، ما روي في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وفي إسناده متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/34. ورواه البيهقي في السنن 5/350، بلفظ: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) وقال البيهقي: موقوف. ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار 8/169 والحديث ضعيف، ضعفه الحافظ ابن حجر وضعفه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/235. ولكن معنى الحديث صحيح وقد اتفق الفقهاء على تحريم أي منفعة يستفيدها المقرض من قرضه ولكن ليس على إطلاقها، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط] . وقال ابن المنذر: [أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة ربا] الموسوعة الفقهية 33/130. وقال الإمام القرطبي: [أجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة(14/148)
جائز. وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف رباً ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة] تفسير القرطبي3/241. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [كل قرضٍ شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف] المغني 4/240.
إذا تقرر هذا فإن الزيادة على القرض التي تسمى رسوم خدمات القرض أو أجور القرض أو مصاريف إدارية أو أتعاب إدارية للقرض بين فيها أهل العلم ما يلي:
أولاً: إن هذه الرسوم لا بد أن تكون مقابل خدمات فعلية لا وهمية.
ثانياً: أي زيادة على الخدمات الفعلية تعتبر من الربا المحرم شرعاً، فقد جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث سنة 1407هـ وفق 1986م ما يلي: [ ... بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية:
1. جواز أخذ أجور عن خدمات القروض.
2. أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.
3. كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعًا] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 3 الجزء 1/305.
ووجه جواز هذه الزيادة واعتبارها مصاريفاً إدرايةً أنها تعتبر من باب الأجرة مقابل خدمات حقيقية فعلية كمتابعة القرض والإشراف الهندسي على التنفيذ ونحو ذلك. ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه يشترط في الأجرة تحديدها والاتفاق عليها قبل البدء في العمل، لا بعده.
ثالثاً: إن هذه الرسوم لا يجوز أن تكون مقابل استيفاء القرض بل تكون عند إنشاء عقد القرض بمعنى أنها مصاريف إدارية تغطي التكاليف الإدارية مثل أجور الموظفين والشؤون المكتبية ونحو ذلك، وإذا كانت الجهة المقرضة تتولى الإشراف على التنفيذ فيدخل في ذلك أجور المهندسين أو المراقبين كما هو الحال في بعض المؤسسات التي تقرض للبناء والإسكان. وأما إذا كانت مقابل استيفاء القرض فهي ربا، كما هو الحال في بعض المؤسسات المقرضة فإنها تحصل رسوماً تحت اسم رسوم تحصيل القرض وهو أن يدفع المقترض مبلغاً من المال مع كل(14/149)
قسط يسدده كرسوم تحصيل للقرض فهذا ربا محرم وإن سموه رسوماً. رابعاً: يجب أن تقدر هذه الرسوم بمبلغ مقطوع ولا تقدر بنسبة مئوية وخاصة إذا أخذت هذه الرسوم مقابل الأمور المكتبية فقط، لأنها إذا قدرت بنسبة مئوية فستختلف باختلاف مبلغ القرض لأنها لو كانت رسوماً للخدمات فعلاً لما اختلف مقدارها باختلاف حجم القرض وشروطه إذ أن الخدمات المكتبية التي تؤدى لمن يقترض ألفاً، هي ذاتها الخدمات التي تؤدى لمن يقترض عشرة آلاف، ولكنه التلاعب ومحاولة تغيير الأسماء ليخدع الناس، ويظنوا أن ذلك لا شيء، فيه ويجب أن يعلم أن هذه الرسوم بهذه الصورة هي ربا وإن غيرت أسماؤها لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما سبق. وينبغي التنبيه إلى ما ورد في تحريم الربا من نصوص الكتاب والسنة، وبيان أنه من كبائر الذنوب، وأن الله قد لعن كل من يتعامل بالربا بأي شكل من الأشكال، أو يعين عليه، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيتان 278-279.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر السلسلة الصحيحة 3/488.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد(14/150)
والطبراني وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636.
وقال الإمام السرخسي: [وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمساً من العقوبات: أحدها: التخبط قال الله تعالى: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ... والثاني: المحق قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا} والمراد: الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع، حتى لا ينتفع هو به ولا ولده بعده. والثالث: الحرب. قال الله تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} ... والرابع: الكفر قال الله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي: كفار باستحلال الربا أثيم فاجر بأكل الربا والخامس: الخلود في النار. قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} المبسوط 12/109-110.
وخلاصة الأمر أن رسوم خدمات القرض يجب أن تقابل بخدمات فعلية حقيقية، حتى تخرج عن نطاق الربا، وأن تكون معلومة ومقدرة تقديراً حقيقياً. وأن أي زيادة على القرض سوى ذلك تعتبر من الربا، وختاماً أوصي من يتعرض للسؤال عن هذه القضايا وغيرها أن ينظر إلى حرمة الربا القطعية في الكتاب والسنة وإلى خطورة الربا وما يجلبه على الناس من مصائب، وما الأزمة المالية العالمية الحالية عنا ببعيد.
ربط نسبة الربح في بيع المرابحة بمؤشر الليبور
يقول السائل: هل يجوز شرعاً حساب الأرباح في البيوع الآجلة بربطها بمؤشر (الليبور) ، فتكون الأرباح غير ثابتة، بل متغيرة مع تغير عدد الأشهر والأيام، وتتم تسويتها مع النسبة العالمية للأرباح مثلاً: (Libour2%) فما الحكم في ذلك أفيدونا؟
الجواب: مؤشر الليبور كما عرفه الدكتور سامر قنطقجي: [نظام الليبور هو المؤشر الرئيسي الذي تستخدمه البنوك الربوية ومؤسسات الائتمان(14/151)
والمستثمرون لتثبيت تكلفة الاقتراض في أسواق المال في جميع أنحاء العالم، وكلمة Libor هي اختصار لمعدل الفائدة المعروض من قبل مصرف لندن، ويستخدم الليبور لحساب معدلات الفائدة الربوية المطبقة في قطاع كبير من العقود والقروض والتبادل التجاري على المدى القصير. ويتم وضع الليبور من قبل جمعية المصارف البريطانية BBA عند تثبيت معدل الليبور وتتبادل الـ BBA الرأي مع Libor Steering Group التي تقود نشاط ممارسي سوق المال في لندن] كتاب معيار قياس أداء المعاملات المالية الإسلامية بديلاً عن مؤشر الفائدة ص 16 بتصرف.
ونظام الليبور نظام معتمد لدى البنوك الربوية في العالم العربي، ومع الأسف الشديد أن بعض البنوك الإسلامية قد انزلقت في هذا المنزلق الربوي الخطير، فصارت تربط أرباح بيع المرابحة للآمر بالشراء بنظام الليبور، فتكون الأرباح التي يحصل عليها البنك الإسلامي غير ثابتة، بل متغيرة مع تغير عدد الأشهر والأيام، ولا يتم البت بمقدار الربح عند توقيع عقد المرابحة، بل تُسجل مع نهاية كل شهر عند دفع القسط المستحق، بعد تسويتها مع نظام الليبور (Libour 3%) أو أكثر أو أقل.
ولا بد أن نقرر أن من شروط صحة بيع المرابحة أن يكون الثمن معلوماً وأن يكون الربح معلوماً، وهذا ما قررته المجامع الفقهية والمؤسسات التي تعنى بشؤون المصارف الإسلامية، فقد جاء في المعيار الشرعي رقم 8 من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بالبحرين المتعلق بالمرابحة ما يلي: [يجب أن يكون كل من ثمن السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء وربحها محدداً ومعلوماً للطرفين عند التوقيع على عقد البيع. ولا يجوز بأي حال أن يترك تحديد الثمن أو الربح لمتغيرات مجهولة أو قابلة للتحديد في المستقبل؛ وذلك مثل أن يعقد البيع ويجعل الربح معتمداً على مستوى الليبور الذي سيقع في المستقبل. ولا مانع من ذكر مؤشر من المؤشرات المعروفة في مرحلة الوعد للاستئناس به في تحديد نسبة الربح، على أن يتم تحديد الربح في عقد المرابحة للآمر بالشراء على أساس نسبة معلومة من التكلفة ولا يبقى الربح مرتبطاً بالليبور أو بالزمن. يجب أن يكون الربح في عقد المرابحة للآمر بالشراء معلوماً ولا يكفي الاقتصار على بيان الثمن الإجمالي، ويجوز أن يكون الربح محدداً بمبلغ مقطوع أو بنسبة مئوية من ثمن الشراء فقط أو من ثمن(14/152)
الشراء مضافاً إليه مبلغ المصروفات. ويتم هذا التحديد بالاتفاق والتراضي بين الطرفين] .
وجاء في الضوابط الشرعية لهيئة الرقابة الشرعية لبنك البلاد السعودي – مصرف إسلامي – ما يلي: [للبنك أن يُفصح عن ثمن السلعة، وربحها في بيع المرابحة للآمر بالشراء على أن يكون الثمن الإجمالي للسلعة محدداً ومعلوماً للطرفين عند التوقيع على عقد البيع. ولا يجوز بأي حال أن يربط تحديد الثمن أو الربح بأمر مستقبلي مثل مؤشر الليبور (libor) أو السيبور (sibor) . ولا مانع من ذكر مؤشر من المؤشرات المعروفة في مرحلة الوعد للاستئناس به في تحديد نسبة الربح، على أن يكون الربح محدداً، ولا يبقى الربح مرتبطاً بالمؤشر أو بالزمن] .
ولا بد من توضيح ما ورد في الضوابط السابقة بخصوص الاسترشاد بمؤشر الليبور في مرحلة المواعدة في عقد المرابحة، وليس في مرحلة العقد، فمن المعلوم أن المواعدة في المرابحة تكون قبل عقد بيع المرابحة، ولا تعتبر عقد بيع، وبالتالي لا مانع شرعاً من الاسترشاد بمؤشر الليبور في هذه المرحلة، كمؤشرٍ لتحديد نسبة الربح في البنوك الإسلامية في بيع المرابحة للآمر بالشراء وغيره من معاملاتها [فلا يوجد في الشريعة - بحسب ما نعلم- طريقة لحساب الربح، والمعول في المعاملات هو على صيغة العقد لا على طريقة الحساب، فإذا كان بيعاً وجب أن يكون مكتمل الأركان تام الشروط خالياً من الربا والغرر والغش والغبن ... إلخ، فإذا توفر ذلك فلا أهمية للطريقة التي حسب بها الربح، وهذا يعني أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة مقبول إذا كانت صيغة البيع صحيحة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد8، ج3/683-684. وانظر أيضاً الربح في الفقه الإسلامي ضوابطه وتحديده في المؤسسات المالية المعاصرة ص 246.
وهنالك فرق واضح بين الحالتين السابقتين وهما:
الحالة الأولى: الاسترشاد بمؤشر الليبور لتحديد نسبة الربح في مرحلة المواعدة في بيع المرابحة للآمر بالشراء.
الحالة الثانية: ربط الأرباح بمؤشر الليبور فتكون الأرباح غير ثابتة، بل متغيرة مع تغير عدد الأشهر والأيام، وتتم تسويتها مع النسبة العالمية للمؤشر مثل: (Libour 2%) . ففي الحالة الأولى لا تعدو العملية عن استرشاد، فلا تؤثر في صحة العقد، بينما في الحالة الثانية يربط الربح(14/153)
بمؤشر الليبور، فيؤدي ذلك إلى جهالة الربح وعدم معلوميته، وهذا يؤدي إلى بطلان عقد المرابحة. لأن من شروط صحة عقد المرابحة أن يكون الربح معلوماً ومحدداً، وربطه بمؤشر الليبور ينافي ذلك حيث يجعله متذبذباً، فإذا ارتفع مؤشر الليبور ارتفع الربح وإذا انخفض مؤشر الليبور انخفض الربح. وهذا الربط بمؤشر الليبور يحول بيع المرابحة إلى معاملة باطلة، لاشتمالها على غرر فاحش مفسد للعقد.
إذا تقرر هذا فإن البنوك الإسلامية بحاجة ماسة لاعتماد مؤشرات لقياس الربح بخلاف ما هو معتمد في البنوك الربوية حتى تتميز البنوك الإسلامية في أعمالها عن البنوك الربوية وحتى تبتعد ابتعاداً تاماً عن الشبهات. وقد أوصى مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثامن، بالإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات] وقد بُحثت مسألة إيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية، في عدد من الندوات وكتبت بعض الأبحاث في ذلك، وخرجت بمقترحات جيدة لإيجاد مؤشر شرعي في المعاملات الإسلامية، منها ما قدمه الدكتور سامر قنطقجي [من طرق بديلة مقترحة عن مؤشر الليبور:
1. يمكن اللجوء إلى آخر أرباح موزعة (من الممكن اللجوء إلى التوزيعات الربع سنوية) لثمانية مصارف أو مؤسسات مالية إسلامية بأخذ وسطي أقرب رقمين، أو بأخذ وسطها الحسابي.
2. يمكن اللجوء إلى تقديرات ثمانية مصارف أو مؤسسات مالية إسلامية وأخذ وسطي أقرب رقمين.
3. البحث عن سعر التضحية المناسب لكل قطاع من قطاعات العمل واعتبار أقلها هو تكلفة الفرصة البديلة. ولما كان المؤشر هو شكل من أشكال التسعير فإن مؤشر سعر الفائدة هو عبارة عن دليل يسترشد به العاملون في السوق لتسعير أعمالهم من إقراض واقتراض أو في تقييم الاستثمارات ومقارنة ريعها وجدواها. لذلك فإن تحديد مؤشر الفائدة هو شكل من أشكال التسعير بغض النظر عن مضمونه الشرعي. ويرى ابن تيمية ضرورة التسعير عندما يخشى من الاحتكار بقوله: [إذا امتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامها بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموها بما ألزمهم الله به] الحسبة في الإسلام ص23.(14/154)
أما عن آلية تحقيق ذلك، فيقول ابن تيمية: [ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون، فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا ولا يجبرون على التسعير] الحسبة في الإسلام ص 40.
والرضا عامل مهم في زرع الثقة والطمأنينة بين أفراد السوق مما يعني ازدهار ونمو التبادل واستقرار في الأسعار مما يؤدي لحركة تجارية تنعش الدخول، أما العكس أي إكراه البائعين على البيع بسعر معين دون النظر لتكاليفهم فإنه يؤدي إلى [فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس] . الحسبة في الإسلام ص 41. وتلجأ أسواق البورصة حاليا لأمور مشابهة لتحديد أسعار الصرف، [أما أسعار الصرف الخاصة بالعملات الأجنبية فيتم تحديدها يومياً من قبل الوسطاء المقبولين أو المعتمدين من قبل البورصة المعنية، أي المصارف بما فيها المصرف المركزي] البورصة وأسس الاستثمار والتوظيف ص 31.
فابن تيمية جمع وجوه أهل السوق وفي البورصة الوسطاء المقبولين، والإمام عند ابن تيمية قابلها المصارف وزاد ابن تيمية عند تحديده للسعر بالمنازلة أي المساومة دون الإكراه. لذلك يمكن اللجوء إلى إحدى الطرق الثلاث السابقة بعد تكوين هيئة من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية مهمتها إعداد المعيار، إضافة إلى لجنة إشراف مؤلفة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية وأساتذة جامعيين وممارسين وخبراء من ذوي السمعة والشهرة في عالم الاستثمار، وهي التي ستكافئ الإمام عند ابن تيمية، حيث تستأنس اللجنة بالمعيار المحسوب بإحدى الطرق المذكورة سابقًا لمقابلة هيئة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية في المنازلة والمساومة وصولاً للرضا الذي يحقق مصلحة الطرفين دون إكراه] كتاب معيار قياس أداء المعاملات المالية الإسلامية بديلاً عن مؤشر الفائدة ص21-22.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً ربط نسبة الربح في بيع المرابحة بمؤشر الليبور في مرحلة العقد، لأنه يؤدي إلى جهالة مفسدة للعقد، ولا بأس بالاستئناس بمؤشر الليبور في مرحلة المواعدة، حتى يوجد بديل لمؤشر إسلامي.
- - -(14/155)
جريان الربا في النقود الورقية
يقول السائل: قرأت مقالاً نشرته صحيفة القدس بتاريخ 23/2/2009م بعنوان (فتوى الشيخ جمعة بتحليل الفوائد البنكية تثير لغطاً بين المتعاملين مع المصارف السعودية) وجاء في المقال أن الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية يجيز أخذ الفائدة البنكية لأن غطاء العملات قد تغير فلم تعد كالسابق بالذهب والفضة، فما قولكم في هذه الفتوى، أفيدونا؟
الجواب: الخلاف في جريان الربا في النقود الورقية خلاف قديم وجد منذ أن عرفت العملات الورقية، وهو مبني على مسألة مهمة وهي علة الربا في الأصناف الربوية، وقد اختلف العلماء في ثمنية النقود الورقية، فمنهم من قال إنها ليست نقوداً شرعية، وإنما هي سندات بديون على الدولة التي أصدرتها، ومنهم من قال النقود الورقية عروض ولا تأخذ صفة الثمنية وتسري عليها أحكام العروض من عدم جريان الربا فيها. وقد ذهب جماهير علماء العصر وكذا المجامع الفقهية المعتبرة إلى أن النقود الورقية تقوم مقام الذهب والفضة وتأخذ أحكامهما فتثبت لها صفة الثمنية، وبالتالي يجري فيها الربا بنوعيه النسيئة والفضل، انظر المعاملات المالية المعاصرة ص 151-153، وهذا القول هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة، والأقوال الأخرى ضعيفة لا يلتفت إليها ولا يعول عليها، وقول المفتي المذكور ومن قبله قول شيخ الأزهر ومن قال بمثل قولهما، يعتبر هدماً لتحريم الربا الذي جاءت به النصوص من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث إن القول الصحيح عند جماهير علماء العصر أن ربا البنوك هو الربا المحرم في القرآن والسنة. ومن المعلوم أن أرجح أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين الذهب والفضة هي الثمنية أو مطلق الثمنية، قال العلامة ابن القيم: [وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة، وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب] إعلام الموقعين 2/156. وقد آلت هذه العلة إلى النقود الورقية، فقد أصبحت العملة الورقية ثمناً للأشياء، وتدفع بها الالتزامات كما هو متعارف عليه بين الناس، قال الشيخ صالح السدلان: [الأوراق النقدية قائمة في الثمنية(14/156)
مقام ما تفرعت عنه، وبدل عما حلت محله من عملات الذهب والفضة، وما كان منها متفرعاً عن الذهب فله حكم الذهب، وما كان منها متفرعاً عن الفضة فله حكم الفضة، والأمور الشرعية بمقاصدها ومعانيها لا بألفاظها ومبانيها: وأنها إذا زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي بعد إبطالها شيئاً مما كانت تساويه قبل إبطالها إذن: فلها حكم النقدين الذهب والفضة مطلقاً، لأن ما يثبت للمبدل عنه يثبت للبدل] عن شبكة الإنترنت.
وهذا ما أقرته المجامع الفقهية المعتبرة كما ذكرت، فقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء ما يلي: [بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولاً عاماً كوسيط للتبادل] . كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حدٌ طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها؛ ولهذا كانت أثماناً ... إلى أن قال: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت] مجموع الفتاوى 29/251، وذكر نحو ذلك الإمام مالك في المدونة من كتاب الصرف حيث قال: [ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة] المدونة الكبرى 3/5، وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولاً عاماً في التداول، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياساً للقيم ومستودعاً للثروة، وبه الإبراء العام، وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ: أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملاً لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزءاً من عملتها بدون غطاء، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهباً، بل يجوز أن يكون من أمور عدة: كالذهب والعملات الورقية القوية، وأن الفضة ليست غطاءً كلياً أو جزئياً لأي عملة في العالم، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفاً مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية، فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية؛ كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار غطاء للعملات الورقية. وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلاً،(14/157)
والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة، كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى: أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية: أولاً: جريان الربا بنوعيه فيها، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين: الذهب، والفضة، وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي: (أ) لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقاً، فلا يجوز مثلاً بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالاً سعودياً ورقاً. (ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً، إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي، ورقاً كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يداً بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة] أبحاث هيئة كبار العلماء 1/90-93.
وكذلك ورد في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [أولا: إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة وإن كان معدنهما هو الأصل وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمناً وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقَوم الأشياء في هذا العصر لاختفاء التعامل بالذهب والفضة وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما(14/158)
في أمر خارج عنها وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل وذلك هو سر مناطها بالثمنية، وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر أن العملة الورقية نقدٌ قائمٌ بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها ويجري الربا عليها بنوعيه فضلاً ونسياً كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماماً باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياساً عليهما وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانياً: يعتبر الورق النقدي نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان كما يعتبر الورق النقدي أجناساً مختلفةً تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلاً ونسياً كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان، وهذا كله يقتضي ما يلي: (أ) لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا. فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئةً أو يداً بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة ريالات سعودية ورقاً، بأحد عشر ريالاً سعودية ورقاً، نسيئةً أو يداً بيد. (ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقاً كان أو فضة، أو أقل من ذلك، أو أكثر. وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية، أو أقل من ذلك، أو أكثر، إذا كان ذلك يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر يداً بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، لا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة ... ] .
ومثل ذلك ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: [بخصوص أحكام العملات الورقية: أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة، والسلم وسائر أحكامهما] وسُقتُ قرارات المجامع الفقهية لأنني أعتبر أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع(14/159)
الفقهية، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، كما بينت ذلك سابقاً في إحدى حلقات يسألونك.
وخلاصة الأمر أن الربا بنوعيه يجري في النقود الورقية، وأن الفتوى المذكورة في السؤال باطلة حيث إنها تهدم الربا المحرم في كتاب الله عز وجل وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. بل إن هذه الفتوى وأمثالها تهدم كل أساس في نظرية الربا المقررة في الكتاب والسنة.
- - -(14/160)
حكم شراء شقة على المخططات قبل البناء
يقول السائل: ما حكم شراء شقة لم يتم بناؤها بعد، ويقع الشراء على المخططات المعدة للشقة، أفيدونا؟
الجواب: يجوز شراء شقة أو عمارة على المخططات والخرائط، وهذا يعتبر عقد استصناع، بشرط أن تكون المخططات والخرائط تفصيلية ومبيناً فيها كافة المواصفات، منعاً للنزاع والخلاف مستقبلاً، وعقد الاستصناع هو عقد على بيع عين موصوفة في الذمة مطلوب صنعها، وهو عقدٌ مشروع عند عامة الفقهاء، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اصطنع خاتماً) رواه البخاري. وثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استصنع منبراً كما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى امرأة من الأنصار: مُري غلامَك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن) وفي رواية عند مسلم (انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها. فعمل هذه الثلاث درجات ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة) . وقد تعامل المسلمون بالاستصناع في مختلف العصور وما زالوا يتعاملون به من غير نكير. وقد أقرت المجامع الفقهية والهيئات العلمية الشرعية عقد الاستصناع ووضعت له ضوابط معينة، فمن ذلك ما ورد في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: [بعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله - عقد الاستصناع - ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظراً لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي، قرر ما يلي:
أولاً: إن عقد الاستصناع - وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة - ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط. ثانياً: يشترط في عقد الاستصناع ما يلي: أ. بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة. ب. أن يحدد فيه الأجل. ثالثاً: يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة. رابعاً: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة] مجلة المجمع عدد 7 ج2 ص 223. وهذا(14/161)
القرار في عقد الاستصناع بشكل عام، وقد قرر المجمع جواز شراء المساكن قبل بنائها وفق المخططات الهندسية المفصلة فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بالتمويل العقاري لبناء المساكن ما يلي: [تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع – على أساس اعتباره لازماً – وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع دون وجوب تعجيل جميع الثمن بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 6 ج 1 ص188.
ولا بد هنا من التأكيد أن لعقد الاستصناع معايير وضوابط خاصة لا بد من مراعاتها حتى يكون العقد صحيحاً فمن ذلك:
1. عقد الاستصناع ملزم للطرفين إذا توافرت فيه شروطه، وهي: بيان جنس الشيء المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة ومعلومية الثمن وتحديد الأجل إن وجد. ويثبت للمستصنِع الخيارُ إذا جاء المصنوع مخالفاً للمواصفات المشروطة.
2. لا يجوز عقد الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة وتخرجه عن حالته الطبيعية. فما دام الصانع التزم بالعين المصنوعة صح الاستصناع.
3. يجب على الصانع إنجاز العمل وفقاً للمواصفات المشروطة في العقد، وفي المدة المتفق عليها، أو في المدة المناسبة التي تقتضيها طبيعة العمل وفقاً للأصول المتعارف عليها لدى أهل الخبرة.
4. يشترط أن يكون ثمن الاستصناع معلوماً عند إبرام العقد، ويجوز أن يكون نقوداً، أو عيناً، أو منفعة لمدة معينة، سواء كانت منفعة عين أخرى أم منفعة المصنوع نفسه.
5. يجوز تأجيل ثمن الاستصناع، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة، أو تعجيل دفعة مقدمة وتسديد باقي الثمن على دفعات متوافقة مع مواعيد التسليم لأجزاء من المصنوع. ويجوز ربط الأقساط بمراحل الإنجاز إذا كانت تلك المراحل منضبطة في العرف ولا ينشأ عنها نزاع.
6. إذا كان العمل مكوناً من عدة أجزاء، أو كان الثمن محدداً على أساس الوحدة، فيجوز أن يشترط الصانع على المستصنِع أن يؤدي من الثمن المؤجل بقدر ما أنجزه من العمل مطابقاً للمواصفات.
7. يجوز اتفاق الصانع والمستصنِع بعد عقد الاستصناع على تعديل المواصفات المشروطة في المصنوع، أو الزيادة فيه، مع تحديد ما يترتب(14/162)
على ذلك بالنسبة للثمن وإعطاء مهلة في مدة تنفيذه، ويجوز النص في العقد على أن مقابل التعديلات أو الزيادات هو بنسبتها إلى الثمن حسبما تقتضيه الخبرة أو العرف، أو أي مؤشر معروف تنتفي به الجهالة المفضية إلى النزاع.
8. لا يجوز زيادة الثمن لتمديد أجل السداد. أما تخفيض الثمن عند تعجيل السداد فيجوز إذا كان غير مشترط في العقد.
9. تبرأ ذمة الصانع بتسليم المصنوع إلى المستصنع أو تمكينه منه، أو تسليمه إلى من يحدده المستصنع.
10. إذا كان المصنوع وقت التسليم غير مطابق للمواصفات فإنه يحق للمستصنع أن يرفضه، أو أن يقبله بحاله، فيكون من قبيل حسن الاقتضاء. ويجوز للطرفين أن يتصالحا على القبول ولو مع الحط من الثمن.
11. يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً غير مجحف لتعويض المستصنع عن تأخير التسليم بمبلغ يتفق عليه الطرفان إذا لم يكن التأخير نتيجة لظروف قاهرة أو طارئة، ولا يجوز الشرط الجزائي بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء الثمن، لأن ذلك يعتبر من باب الربا، لأن كل غرامة تفرض على المدين تعتبر من باب الربا، وإن سُميت غرامة تأخير أو سُميت شرطاً جزائياً، فإن الشرط الجزائي لا يكون في الديون، وإنما يكون في العقود المالية التي تخلو من الديون كعقود المقاولات والتوريد والاستصناع وغيرها، جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية ما يلي: [إن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حلَّ أجلُه وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد. هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً] مجلة المجمع عدد 2 ج 2 ص 873. وبما أن عقد الاستصناع هو عقد على العمل، فيصح أن يدخله الشرط الجزائي، فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 65 (3/7) .: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة] .
12. لا يجوز بيع المصنوع قبل تسلمه من الصانع حقيقةً أو حكماً، وبناء على ذلك لا يجوز أن تُباع الشقة التي اشتريت على المخططات قبل أن يتسلمها المشتري.
13. يجوز أن تجري المؤسسة بصفتها صانعاً عقد استصناع مع عميل بثمن مؤجل، وتتعاقد مع صانع أو مقاول للشراء منه بالاستصناع(14/163)
الموازي لمصنوعات أو مبانٍ بنفس المواصفات بثمن حال، بشرط عدم الربط بين العقدين.
14. لا يجوز الربط بين عقد الاستصناع وعقد الاستصناع الموازي، ولا يجوز التحلل من التسليم في أحدهما إذا لم يقع التسليم في الآخر، وكذلك التأخير أو الزيادة في التكاليف، ولا مانع من اشتراط المؤسسة على الصانع في الاستصناع الموازي شروطاً (بما فيها الشرط الجزائي) مماثلة للشروط التي التزمت بها مع العميل في الاستصناع الأول أو مختلفة عنها] انظر المعيار الشرعي رقم (11) من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ص 173 فما بعدها.
وأخيرا لا بد من التأكيد على أن بعض البائعين والمقاولين – الصانعين – لا يفون بشروط العقود التي يوقعونها مع المشترين، وبالتالي تقع المنازعات والخصومات التي تمتد لمدة طويلة، ولا شك في تحريم ذلك، لأن الوفاء بالعقود فريضة شرعية. فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية1. وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} سورة الإسراء الآية 34. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} سورة المعارج الآية 32. وقال تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} سورة البقرة الآية 177. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} سورة الصف الآيات 2-3. وقال: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} سورة آل عمران الآية 76، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} الأنفال الآية 58.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.(14/164)
وخلاصة الأمر أنه يجوز شراء الشقق والعمارات على المخططات الهندسية التفصيلية المبينة لكافة المواصفات، منعاً للنزاع والخلاف مستقبلاً، ويجب على البائع أن يسلم الشقة محل الاستصناع وفقاً للشروط التي تم الاتفاق عليها.
- - -
ضمان المضارب لرأسمال المضاربة في حالتي التعدي والتقصير
يقول السائل: دفعت مبلغاً من المال لشخص يشتغل في تجارة المواد الغذائية كشريك مضارب، وقام هذا الشخص وبدون علمي بتشغيل مالي مع شخص آخر يشتغل في مجالات أخرى فخسر المال، فمن يتحمل الخسارة في هذه الحال، أفيدونا؟
الجواب: عقد المضاربة عند الفقهاء هو أن يدفع شخص مبلغاً من المال لآخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان. والمضاربة جائزة عند عامة الفقهاء اتباعاً لما ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم الذين أجازوها وعملوا بها ولم يثبت فيها بعينها دليل لا من الكتاب ولا من السنة كما قال جماعة من أهل العلم. ويشترط في المضاربة أن يكون نصيب كل من المتعاقدين من الربح معلوماً على أن يكون جزءاً مشاعاً كنسبة مئوية 10% أو 15% أو 40% على حسب ما يتفقان. ولا يجوز أن يكون الربح مبلغاً محدداً، فإن حصل ذلك أدى ذلك إلى فساد عقد المضاربة. ومن الأمور المهمة في عقد المضاربة أن الخسارة إن حصلت يتحملها صاحب المال دون العامل لأن العامل يخسر جهده وعمله، إلا إذا كانت المضاربة مقيدة ومشروطة بشروط محددة، فخالف العامل تلك الشروط فإنه حينئذٍ يضمن، والأصل المتفق عليه بين الفقهاء أن يد المضارب يد أمانة، ويد الأمانة في الفقه الإسلامي لا تضمن إلا بالتفريط أو التعدي أو التقصير. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والوضيعة (الخسارة) في المضاربة على المال خاصة، ليس على العامل منها شيء، لأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بملك ربه، لا شيء للعامل فيه، فيكون نقصه من ماله دون غيره، وإنما يشتركان فيما يحصل من النماء] المغني5/22.(14/165)
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما يلي: [المضارب أمين ولا يضمن ما يقع من خسارة أو تلف إلا بالتعدي أو التقصير، بما يشمل مخالفة الشروط الشرعية أو قيود الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة] قرار رقم 122.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة 1408هـ، بشأن سندات المقارضة: [لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضِمناً بطل شرط الضمان] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 4/3/2159.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [الخسارة في مال المضاربة على رب المال في ماله، ولا يُسأل عنها المضارب إلا إذا تعدى على المال أو قصر في حفظه] . وورد في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة الجزء 2 الفتوى رقم (107) ما يلي: [رأس المال في شركة المضاربة أمانة في يد المضارب فلا يضمن ما يحصل فيه من خسارة إلا في حالات التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط] وورد في مجلة الأحكام العدلية: المادة 1413- المضارب أمين ورأس المال في يده في حكم الوديعة، ومن جهة تصرفه في رأس المال وكيل لرب المال، وإذا ربح يكون شريكاً فيه] والمادة التي ذكرت حكم الوديعة في المجلة هي: المادة 777- الوديعة أمانة بيد المستودع بناء عليه إذا هلكت أو فقدت بدون صنع المستودع وتعديه وتقصيره في الحفظ لا يلزم الضمان. وقد قرر العلماء أن المضارب يضمن في حالات التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا تعدَّى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب] المغني 5/39.
ومن المعلوم أن الأصل المقرر عند الفقهاء أن على المضارب أن يتولى العمل بنفسه، لأن صاحب المال ما أعطى ماله للمضارب إلا لحصول الثقة به وبخبرته في العمل، فلا يجوز له أن يعطي مال المضاربة لغيره(14/166)
إلا أن يأذن له صاحب المال، فإن أذن له في ذلك جاز وهذا مذهب جمهور الفقهاء. قال الشيخ المرداوي: [ليس للمضارب دفع مال المضاربة لآخر من غير إذن رب المال على الصحيح] الإنصاف 2/438.
وجاء في الموسوعة الفقهية: [ولو ضارب العامل شخصاً آخر بغير إذن المالك فسدت المضاربة مطلقاً، سواء أقصد المشاركة في عملٍ وربحٍ أم ربحٍ فقط أم قصد الانسلاخ، لانتفاء إذن المالك فيها وائتمانه على المال غيره، فإن تصرف العامل الثاني بغير إذن المالك فتصرف غاصب فيضمن ما تصرف فيه، لأن الإذن صدر ممن ليس بمالك ولا وكيل ... وإذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله فهو ضامن للمال لأنه متصرف في مال غيره بغير إذنه، فلزمه الضمان كالغاصب، ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه فربح فيه فالربح لرب المال] الموسوعة الفقهية الكويتية 38/60-61.
وكذلك فإن على المضارب أن يلتزم بالشروط التي يفرضها صاحب المال بناءً على العقد المبرم بين الفريقين، ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية1. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516.
ومن المعلوم حرص صاحب المال على ماله فهو أدرى بما يحفظ ماله، وقد كان الصحابة يشترطون في المضاربة ما يرونه مناسباً لحفظ أموالهم، فعن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبدٍ رطبةٍ ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/295 ... وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالاً مضاربةً اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً ولا ينزل به وادياً ولا يشتري به ذات كبدٍ رطبةٍ، فإن فعل فهو ضامن فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله(14/167)
عليه وسلم فأجازه) رواه البيهقي والدارقطني والطبراني وفي سنده ضعف. قال الإمام الماوردي: [ ... فأما تعدي العامل في مال القراض من غير الوجه الذي ذكرنا فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون تعديه فيه لم يؤمر به مثل إذنه بالتجارة في الأقوات فيتجر في الحيوان، فهذا تعدٍ يضمن به المال، ويبطل معه القراض، فيكون على ما مضى في مقارضة غيره بالمال. والضرب الثاني: أن يكون تعديه لتغريره بالمال، مثل أن يسافر به ولم يؤمر بالسفر أو يركب به بحراً ولم يؤمر بركوب البحر، فإن كان قد فعل ذلك مع بقاء عين المال بيده ضمنه، وبطل القراض بتعديه، لأنه صار مع تعديه في عين المال غاصباً] الحاوي الكبير 7/340-341.
وقد نصت مجلة الأحكام العدلية على التزام المضارب بشروط رب المال وأن المضارب إذا خالفها فهو ضامن، فقد جاء في المادة (1420) يلزم المضارب في المضاربة المقيدة مراعاة قيد وشرط رب المال مهما كان. وجاء في المادة (1421) إذا خرج المضارب عن مأذونيته وخالف الشرط يكون غاصباً وفي هذا الحال يعود الربح والخسارة في بيع وشراء المضارب عليه، وإذا تلف مال المضاربة يكون ضامناً. وورد في المادة (1422) إذا خالف المضارب حال نهي رب المال إياه بقوله: لا تذهب بمال المضاربة إلى المحل الفلاني أو لا تبع بالنسيئة، فذهب بمال المضاربة إلى ذلك المحل فتلف المال أو باع بالنسيئة فهلك الثمن يكون المضارب ضامناً] . وهذا الكلام الذي ذكرته في ضمان المضارب لرأس المال في حالات التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، ينطبق على المصارف الإسلامية، فالأصل أن المصرف الإسلامي لا يضمن إلا في الحالات المذكورة، فإذا حصل شيء من التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، [المسئول عما يحدث في البنوك والمؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية هو مجلس الإدارة؛ لأنه الوكيل عن المساهمين في إدارة الشركة، والحالات التي يُسأل عنها مجلس الإدارة هي الحالات التي يُسأل عنها مضارب الشخص الطبيعي، فيكون مجلس الإدارة أيضاً مسئولاً أمام أرباب المال عن كل ما يحدث في مال المضاربة من خسارة بتعدٍ أو تفريط، أما إذا لم يكن هناك تعدٍ ولا تفريط، فإن الشركة أو البنك لا يتحمل شيئاً من الخسارة، وعلى المساهمين محاسبة مجلس الإدارة على التعدي أو التقصير] مسائل متعلقة بشركات المساهمة عن شبكة الإنترنت.(14/168)
وخلاصة الأمر أنه يجب على المضارب أن يعمل في المال بنفسه ولا يصح أن يعطيه لغيره بدون إذن رب المال، فإن فعل فهو ضامن ويتحمل الخسارة وحده ولا شيء على رب المال، لأنه قد تعدى بإخراج المال من يده إلى يد أخرى لم يأذن لها رب المال بالتصرف، وإن حصل ربح من ذلك فهو لرب المال.
- - -
شراء الأرض المصادرة بالباطل
يقول السائل: صادرت البلدية أرضاً لجارنا بالباطل ثم عرضتها بعد مدة للبيع فتقدمتُ لشرائها، فقيل لي لا يجوز لك شراؤها، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: اتفق العلماء على تحريم شراء المال المغصوب والمأخوذ من صاحبه عنوةً، سواء كان من المنقولات أو غيرها كالأراضي والعقارات، لأن الغاصب فرداً كان أو جهةً أو مؤسسةً أو دولةً، لا يملك المال المغصوب، فالغصب محرمٌ شرعاً وليس من طرق التملك المعتبرة شرعاً، وقد نص الفقهاء على أن العدو إذا استولى على أموال المسلمين فإنه لا يملكها، ورد في كتاب للإمام الشافعي: [العبد المسلم يأبق إلى أهل دار الحرب، سألت الشافعي عن العدو يأبق إليهم العبد أو يشرد البعير أو يغيرون فينالونهما أو يملكونهما أسهما؟ قال: لا، فقلت للشافعي: فما تقول فيهما إذا ظهر عليهم المسلمون فجاء أصحابهما قبل أن يقتسما؟ فقال: هما لصاحبهما ... ثم استدل الشافعي بما ورد في الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي استولى عليها الكفار - وسأذكره بنصه لاحقاً - ثم قال الشافعي: وهذا الحديث يدل على أن العدو قد أحرز ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الأنصارية انفلتت من إسارهم عليها بعد إحرازهموها ورأت أنها لها، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد نذرت فيما لا تملك ولا نذر لها وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته، ولو كان المشركون يملكون على المسلمين لم يعد أخذ الأنصارية الناقة أن تكون ملكها بأنها أخذتها ولا خمس فيها، لأنها لم توجف عليها وقد قال بهذا غيرنا ولسنا نقول به، أو تكون ملكت أربعة أخماسها وخمسها لأهل الخمس أو تكون من الفيء(14/169)
الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فيكون أربعة أخماسها للنبي صلى الله عليه وسلم وخمسها لأهل الخمس ولا أحفظ قولاً لأحدٍ أن يتوهمه في هذا غير أحد هذه الثلاثة الأقاويل. قال: فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته دل هذا على أن المشركين لا يملكون شيئاً على المسلمين ... ] الأم 4/268.
وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في صحيحه وهو: (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيفٌ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء – اسم ناقة الرجل المأسور - فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال يا محمد فأتاه، فقال ما شأنك؟ فقال بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ – أي ناقته - فقال إعظاماً لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف، ثم انصرف عنه فناداه، فقال يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً، فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم انصرف فناداه، فقال يا محمد يا محمد فأتاه فقال ما شأنك؟ قال إني جائع فأطعمني وظمآن فأسقني، قال هذه حاجتك ففدي بالرجلين. قال وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ، قال وناقة منوقة -أي مذللة- فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم، قال ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد) .
قال الإمام النووي: [وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه: أن الكفار إذا غنموا مالاً للمسلم لا يملكونه ... وحجة الشافعي وموافقيه هذا الحديث، وموضع الدلالة منه ظاهر. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/32.(14/170)
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [ولا يملك أهل الكفر الحربيون مال مسلم، ولا مال ذمي أبداً إلا بالابتياع الصحيح، أو الهبة الصحيحة، أو بميراث من ذمي كافر، أو بمعاملة صحيحة في دين الإسلام، فكل ما غنموه من مال ذمي أو مسلم، أو آبق إليهم، فهو باق على ملك صاحبه ... وحكمه حكم الشيء الذي يغصبه المسلم من المسلم، ولا فرق. وهو قول الشافعي وأبي سليمان- أي داود الظاهري – ثم ذكر الشيخ ابن حزم كلاماً طويلاً في بيان هذه المسألة ثم قال: أخبرونا عما أخذه منا أهل الحرب أبحق أخذوه أم بباطل؟ وهل أموالنا مما أحله الله تعالى لهم أو مما حرمه عليهم؟ وهل هم ظالمون في ذلك أو غير ظالمين؟ وهل عملوا من ذلك عملاً موافقا لأمر الله تعالى وأمر نبيه عليه السلام، أو عملاً مخالفا لأمره تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ... فالقول بأنهم أخذوه بحق أنه مما أحله الله تعالى لهم وأنهم غير ظالمين في ذلك، وأنهم لم يعملوا بذلك عملا مخالفا لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام ... فسقط هذا القول، وإذ قد سقط فلم يبق إلا الآخر، وهو الحق اليقين من أنهم إنما أخذوه بالباطل وأخذوا حراماً عليهم، وهم في ذلك أظلم الظالمين، وأنهم عملوا بذلك عملاً ليس عليه أمر الله تعالى: وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن التزام دين الإسلام فرض عليهم. فإذ لا شك في هذا فأخذهم لما أخذوا باطلٌ مردودٌ، وظلمٌ مفسوخٌ، ولا حق لهم ولا لأحدٍ يشبههم فيه; فهو على ملك مالكه أبداً] المحلى 5/352-359. وقال الإمام الماوردي: [وما غلب عليه المشركون من أموال المسلمين وأحرزوه لم يملكوه وكان باقياً على ملك أربابه من المسلمين] الأحكام السلطانية] 1/264.
ومما يدل على بطلان شراء المال المغصوب أن الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما لا يملك فإذا باع شخص مال غيره فالعقد باطل، فقد ورد في الحديث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: لا تبع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر إرواء الغليل 5/132. وفي رواية أخرى عند الترمذي عن حكيم بن حزام قال: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال هذا(14/171)
حديث حسن صحيح. سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/361. وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يبيع المسلم ما ليس عنده أي ما ليس في ملكه عند العقد، قال المباركفوري: [وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) دليل على تحريم بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت قدرته] تحفة الأحوذي 4/360. وقال الشوكاني: [وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت مقدرته وقد استثني من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم] نيل الأوطار 5/175.
ومما يدل على بطلان شراء المال المغصوب أيضاً القاعدة المقررة عند الفقهاء وهي أن ما بُني على الباطل فهو باطل، فالاستيلاء على مال الغير باطل من أساسه وما بني على الباطل فهو باطل. قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [وكل عقد انعقد على باطل فهو باطل، لأنه لم تعقد له صحة إلا بصحة ما لا صحة له، فلا صحة له] المحلى 6/382.
وكذلك فإن شراء المال المغصوب يعتبر من باب التعاون على الإثم والعدوان، وهو محرم بنص كتاب الله عز، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية2. وكذلك فإنه يعتبر من باب أكل أموال الناس بالباطل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. وجاء في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحلبنَّ أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه ... ) رواه البخاري ومسلم، قال الإمام النووي: [ ... وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه ... ] شرح صحيح مسلم 4/391.(14/172)
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً شراء المال المغصوب، لأن استيلاء الغاصب على المال لا يزيل ملكية صاحبه الأصلي. وكل ما بُني على باطلٍ فهو باطلٌ.
- - -
للزوجة ذمةً ماليةً مستقلةً عن زوجها
تقول السائلة: ورثت قطعة أرض من والدي، وحاول زوجي أن يستولي عليها ليبني عليها محلات تجارية ورفضت ذلك، إلا أنني فوجئت بأن زوجي قد باع الأرض بدون موافقتي وتصرف في ثمنها، فما حكم هذا البيع، أفيدونا؟
الجواب: من المقرر شرعاً أن للمرأة ذمة مالية مستقلة عن زوجها فلها أن تتملك وأن تتصرف في ملكها، ولا يتوقف ذلك على إذن زوجها، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر ... ثم قال ابن قدامة مستدلاً لذلك: [ولنا قوله تعالى: {فَإِنْءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وهو ظاهر في فك الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرف. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن) وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل. وأتته زينب امرأة عبد الله، وامرأة أخرى اسمها زينب، فسألته عن الصدقة: هل يجزيهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن؟ فقال: نعم ولم يذكر لهن هذا الشرط، ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام، ولأن المرأة من أهل التصرف، ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه ... ] المغني 4/348-349.
وقد قرر العلماء أنه لا يجوز للزوج أن يتصرف في مال زوجته دون رضاها وموافقتها، يقول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ(14/173)
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} سورة النساء الآية 4.ومن القواعد المقررة شرعاً أنه لا يجوز أخذ مال المسلم –ويدخل في ذلك المسلمة- إلا بإذنه، ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29.
ويدل على ذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني والحاكم وابن حبان وصححاه، وقال العلامة الألباني صحيح، إرواء الغليل 5/279. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس) رواه البيهقي بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشرُبته فينتقل طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم، والمشرُبة بضم الراء، الغرفة. قال الإمام النووي: [ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه اللبن في الضرع بالطعام المخزن المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير إذنه، وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه، وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر ... فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدل عندنا وعند الجمهور ... ] شرح صحيح مسلم 4/391.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئاً إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه] فتح الباري 6/14.
إذا تقرر هذا فإن ما قام به الزوج من بيع أرض زوجته بغير إذنها، يسمى بيع الفضولي عند الفقهاء، ويطلق الفضولي على من يتصرف في حق الغير بلا إذنٍ شرعي، وذلك لكون تصرفه صادراً من غير ملكٍ ولا وكالةٍ ولا ولاية، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 32/171. وقد ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية، والشافعي في قوله القديم، وهو أحد قوليه في(14/174)
الجديد، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، إلى أن البيع صحيح إلا أنه موقوف على إجازة المالك. وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد، وأحمد في الرواية الأخرى عنه، إلى أن البيع باطل.
قال الإمام النووي [سبق أن شروط المبيع خمسة: منها أن يكون مملوكاً لمن يقع العقد له، فإن باشر العقد لنفسه فشرطه كونه مالكاً للعين، وإن باشره لغيره بولاية أو وكالة، فشرطه أن يكون لذلك الغير، فلو باع مال غيره بغير إذن ولا ولاية، فقولان، الصحيح أن العقد باطل، وهذا نصه في الجديد، وبه قطع المصنف- أبو إسحاق الشيرازي - وجماهير العراقيين وكثيرون أو الأكثرون من الخراسانيين لما ذكره المصنف ... والقول الثاني وهو القديم أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك، إن أجازه صح البيع وإلا لغا ... ثم قال الإمام النووي: فرع في مذاهب العلماء في تصرف الفضولي بالبيع وغيره في مال غيره بغير إذنه، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور بطلانه، ولا يقف على الإجازة، وكذا الوقف والنكاح وسائر العقود، وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر وأحمد في أصح الروايتين عنه. وقال مالك يقف البيع والشراء والنكاح على الإجازة، فان أجازه من عقد له صح وإلا بطل، وقال أبو حنيفة إيجاب النكاح وقبوله يقفان على الإجازة، ويقف البيع على الإجازة، ولا يقف الشراء، وأوقفه اسحق بن راهويه في البيع ... ] المجموع 9/259.
والراجح من أقوال أهل العلم في بيع الفضولي أنه صحيحٌ، ولكنه موقوفٌ على إجازة المالك، ويدل لذلك ما ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال: (سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب أربح فيه) . [فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز هذا البيع، ولو كان باطلاً لرده، وأنكر على من صدر منه، وأيضاً فإن هذا تصرف تمليك، وقد صدر من أهله فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه، حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن (أي المطالبة) وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري لأنه أقدم عليه طائعاً، فثبتت القدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/136.
ويدل على جواز بيع الفضولي أيضاً حديث ابن عمر في قصة الثلاثة أصحاب الغار، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الثالث اللهم(14/175)
استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِ إليَّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت لا أستهزئ، فأخذه كله فاستاقة فلم يترك منه شيئاً) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأدلة. وبناءً على ما سبق فإن بيع الأرض الذي عقده الزوج، يعتبر عقداً موقوفاً على إجازة الزوجة، فإن أجازته جاز، وإن فسخته فُسخ، قال الزيلعي الحنفي: [ومن باع ملك غيره فللمالك أن يفسخه ويجيزه إن بقي العاقدان والمعقود عليه وله وبه لو عرضاً] أي للمالك أن يجيز العقد بشرط أن يبقى المتعاقدان والمعقود عليه والمعقود له وهو المالك بحالهم والأصل فيه أن كل تصرف صدر من الفضولي وله مجيز حال وقوعه انعقد موقوفاً على الإجازة عندنا وإن لم يكن له مجيز حالة العقد لا يتوقف ويقع باطلاً] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/102-103. وجاء في المادة 378 من مجلة الأحكام العدلية: [بيع الفضولي إذا أجازه صاحب المال، أو وكيله، أو وصيه، أو وليه نفذ وإلا انفسخ إلا أنه يشترط لصحة الإجازة أن يكون كل من البائع والمشتري والمجيز والمبيع قائماً وإلا فلا تصح الإجازة] . وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [اتفق الفقهاء على أن من شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو له عليه ولاية أو وكالة تجيز تصرفه فيه واتفقوا أيضا على صحة بيع الفضولي، إذا كان المالك حاضراً وأجاز البيع، لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل. واتفقوا أيضا على عدم صحة بيع الفضولي إذا كان المالك غير أهل للإجازة، كما إذا كان صبياً وقت البيع] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/117.
ويدل لما قرره الفقهاء أن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 6/173. وبناءً على ما سبق فإن أجازت الزوجة تصرف زوجها في أرضها فإن ثمن الأرض من حقها وحدها، تتصرف فيه كما شاءت، وما قام به الزوج من التصرف في ثمن أرض زوجته بدون إذنها، فهو تصرفٌ باطلٌ شرعاً، ويلزمه أن يرد المال إليها، وإن لم يفعل فهو من باب أكل أموال الناس بالباطل، وقد سبقت النصوص الشرعية في(14/176)
تحريمه. وأما إن فسخت الزوجة تصرف زوجها في بيع الأرض، فهو ملزم شرعاً أن يرد المال إلى المشتري وتبقى الأرض للزوجة.
وخلاصة الأمر أن الإسلام قد قرر ذمةً ماليةً مستقلةً للزوجة، ولها أن تتملك وأن تتصرف في ملكها كما تشاء، ولا يجوز لزوجها أن يمنعها من ذلك، وأن ما قام به زوج السائلة من بيع أرضها بدون إذنها، يعتبر تصرفاً موقوفاً على إجازتها على الراجح من أقوال أهل العلم، فإن أجازته جاز، وكان ثمن الأرض من حقها وحدها، وإن فسخته فسخ ويلزم الزوج بإرجاع المال للمشتري.
- - -(14/177)
العمل في الكنائس والكنس
يقول السائل: أنا أعمل مقاولاً في أعمال البناء وقد عُرض عليَّ بناء كنيس فما الحكم الشرعي في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن من أهم ضوابط العمل المباح في دين الإسلام أن لا يكون للعمل علاقة بعقائد غير المسلمين، كالعمل في بناء الكنس والكنائس، مهما كان هذا العمل، وكذا العمل في المدارس الدينية التي تدرس مللهم، وكذا العمل في طباعة كتبهم الدينية أو التجارة فيها، ويحرم العمل بكل ما له ارتباط بدينهم، ويدل لهذا الضابط قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. وهذا مذهب جماهير الفقهاء المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية وهو قول صاحبي أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد فقد نصوا على تحريم بناء معابد غير المسلمين والعمل على تشييدها وإقامتها وترميمها، فمن ذلك: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووسٍ ونحوه، فقال الآمدي لا يجوز رواية واحدة، لأن المنفعة المعقود عليها محرمة، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة كالإجارة لكَتْبِ كُتُبهم المحرفة] اقتضاء الصراط المستقيم 1/244.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ ... ولا على معصية كبيت النار والبيع والكنائس، وكتب التوراة والإنجيل لأن ذلك معصية، فإن هذه المواضع بنيت للكفر، وهذه الكتب مبدلة منسوخة، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: (أفيَّ شكٌ أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان موسى أخي حياً ما وسعه إلا إتباعي) ولولا أن ذلك معصية ما غضب منه] المغني 6/38. والحديث المذكور في كلام ابن قدامة المقدسي حديث حسن رواه أحمد والدارمي وابن أبي عاصم وابن عبد البر كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1589. وقال الإمام الشافعي: [وأكره للمسلم أن يعمل بنَّاءً، أو نجاراً، أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم] الأم 4/203، والكراهة في كلام الشافعي يقصد بها التحريم كما هو معروف في كلام السلف. وورد في المدونة المعروفة في مذهب المالكية: [أرأيت الرجل أيجوز له أن يؤاجر نفسه في عمل كنيسة في قول مالك؟ قال: لا(14/178)
يحل له؛ لأن مالكاً قال: لا يؤاجر الرجل نفسه في شيء مما حرم الله. قال مالك: ولا يكري داره ولا يبيعها ممن يتخذها كنيسة] المدونة 10/361. وقال صاحب منح الجليل شرح مختصر خليل: [ولا تجوز الإجارة على دخول حائضٍ لمسجدٍ لتكنسه لحرمة دخولها فيه، ومثلها إجارة مسلمٍ لكنس كنيسة أو رعي خنزير أو لعمل خمر فيفسخ – العقد - ويؤدب إن لم يعذر بجهل، وإن نزل وفات فاستحب ابن القاسم التصدق بالأجرة] 16/169. وقال الحطاب المالكي: [ ... أن يؤاجر المسلم نفسه لكنس كنيسة أو نحو ذلك، أو ليرعى الخنازير أو ليعصر له خمراً فإنه لا يجوز، ويؤدب المسلم إلا أن يتعذر بجهالة] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ... 16/187.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: [فقد سئلت عن ترميم الكنائس أو إعادة الكنيسة المضمحلة فأردت أن أنظر ما فيها من الأدلة ... وقفوت أثر عمر بن الخطاب وعدله وشروطه التي أخذها لما فتح البلاد وشيد الإسلام وأهله، وهذا الترميم يقع السؤال عنه كثيراً ولا سيما في الديار المصرية، ويفتي كثير من الفقهاء بجوازه وتخرج به مراسيم من الملوك والقضاة بلا إذن فيه، وذلك خطأ بإجماع المسلمين، فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمها وكذلك قال الفقهاء: لو وصى ببناء كنيسة فالوصية باطلة، لأن بناء الكنيسة معصية، وكذا ترميمها ولا فرق بين أن يكون الموصي مسلماً أو كافراً، وكذا لو وقف على كنيسة كان الوقف باطلاً مسلماً كان الواقف أو كافراً، فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية مسلماً كان الفاعل لذلك أو كافراً، هذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لازم لكل مكلف من المسلمين والكفار ... وجميع الشرائع نسخت بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشرع اليوم إلا شرعه، بل أقول: إنه لم يكن قط شرعٌ يسوغ فيه لأحدٍ أن يبني مكاناً يُكْفرُ فيه بالله، فالشرائع كلها متفقة على تحريم الكفر، ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له، والكنيسة اليوم لا تتخذ إلا لذلك وكانت محرمة معدودة من المحرمات في كل ملة، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك؛ لأنها إنشاء بناءٍ لها وترميمها أيضاً كذلك؛ لأنه جزء من الحرام، ولأنه إعانة على الحرام، فمن أذن في حرام ومن أحله فقد أحل حراماً، من توهم أن ذلك من الشرع رُدَّ عليه بقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} ] فتاوى السبكي 4/175.
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي تحريم بناء المسلم للكنائس والإعانة على ذلك في دورة مؤتمره الثالث في(14/179)
عمان بالأردن سنة 1407هـ/1986م ضمن الإجابة على استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، فقد جاء في قراره: السؤال الخامس والعشرون والسؤال السادس والعشرون: ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علماً بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ وما حكم تبرّع المسلم فرداً كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنيسة؟ الجواب: لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك مالياً أو فعلياً] .
وجاء في قرارات وتوصيات المؤتمر الخامس لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد بالمنامة –مملكة البحرين- سنة 1428هـ/2007م: [القرار التاسع: العمل في المجال الهندسي وضوابطه عند اختلاط الحلال بالحرام خارج ديار الإسلام. لا يجوز لأصحاب شركات التصميم والإنشاء من المسلمين أن يصمموا أو يبنوا أبنية تُمَارسُ فيها المعاصي مثل الحانات وصالات القمار ومحلات بيع الخمور والمعابد التي تمارس فيها عبادات شركية، كما لا يجوز لهم تقبل مشروعات تتضمن شيئاً من ذلك] .
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية: [كل دين غير دين الإسلام فهو كفر وضلال، وكل مكان يُعدّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال، إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها، وهذا مُجمع عليه بحمد الله تعالى. ومن زعم أن اليهود على حق، أو النصارى على حق سواء كان منهم أو من غيرهم فهو مكّذب لكتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد وإجماع الأمة، وهو مرتد عن الإسلام إن كان يدّعي الإسلام بعد إقامة الحُجة عليه إن كان مثله ممن يخفى عليه ذلك، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} سورة سبأ الآية 28، وقال عز شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} سورة الأعراف الآية 158، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} سورة آل عمران الآية 19، وقال جل وعلا: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} سورة(14/180)
آل عمران الآية 85، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} سورة البينة الآية 6، وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي يُبْعَث إلى قومه خاصة، وبُعثْتُ إلى الناس عامة) .
ولهذا صار من ضروريات الدين: تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ لأن العبادات التي تُؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} سورة الفرقان الآية 23. ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفرية مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيءٌ من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها] الفتوى رقم 21413 من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية. وجاء في فتوى أخرى للجنة الدائمة جواباً عن سؤالٍ عن المسلم الذي وظيفته البناء، هل يجوز له أن يبني كنيسة، فأجابت اللجنة: [لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبني كنيسةً أو محلاً للعبادة ليس مؤسساً على الإسلام الذي بعث اللهُ به محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ] فتاوى اللجنة الدائمة 14/482
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يعمل في بناء معابد غير المسلمين أو ترميمها أو أن يشتغل في أي عمل له ارتباط بعقيدة غير المسلمين.
- - -(14/181)
حكم الوصية بجميع المال
يقول السائل: أنا رجل موسر وليس لي أولاد ولا بنات ولي إخوة وأخوات وقد كفلت ابن أخي منذ الصغر وعمل معي في تجارتي وأريد أن أوصي له بجميع ما أملك فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: الوصية مشروعة بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} سورة النساء 12. وقال الإمام البخاري في صحيحه [باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وصية الرجل مكتوبة عنده) ، وقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة البقرة الآيات 180-182.
وورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال: يرحم الله ابن عفراء. قلت يا رسول الله، أوصي بمالي كله قال: لا. قلت فالشطر قال: لا. قلت الثلث. قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك- أي فمها - وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناسٌ ويضر بك آخرون. ولم يكن له يومئذ إلا ابنة) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حقُ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما مرت عليًّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي) وغير ذلك من النصوص.(14/182)
وقد اتفق أهل العلم على أنه لا وصية لوارث، لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. واتفق العلماء على أنه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، لما ورد في حديث سعد السابق من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (الثلث والثلث كثير) ، وقال الإمام الترمذي بعد أن رواه: [حديث سعد حديث حسن صحيح وقد روي عنه من غير وجه وقد روي عنه (والثلث كبير) والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون أن يوصي الرجل بأكثر من الثلث ويستحبون أن ينقص من الثلث. قال سفيان الثوري كانوا يستحبون في الوصية الخمس دون الربع، والربع دون الثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئاً لا يجوز له إلا الثلث] سنن الترمذي 3/306. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لو غض الناس إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير أو كبير) رواه البخاري.
إذا تقرر هذا فإن السائل له ورثة وابن أخيه ليس من الورثة، فيجوز أن يوصي له، ولكن لا يزيد في الوصية عن الثلث، فإن زادت الوصية عن الثلث فتكون الزيادة عن الثلث موقوفة على إجازة الورثة عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب والمالكية في قول، فإن أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، نفذت الوصية، وإن ردوا الزيادة بطلت. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز وإن لم يجيزوا، رد إلى الثلث، وجملة ذلك أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث من غير إجازة وما زاد على الثلث يقف على إجازتهم، فإن أجازوه جاز،، وإن ردوه بطل في قول جميع العلماء، والأصل في ذلك (قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال: أوصى بمالي كله؟ قال: لا قال: فبالثلثين؟ قال: لا قال: فبالنصف؟ قال: لا قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند مماتكم) ، يدل على أنه لا شيء له في الزائد عليه، وحديث عمران بن حصين في المملوكين الذين أعتقهم المريض ولم يكن له مال سواهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين، وأرق أربعة وقال له قولاً شديداً يدل أيضا على أنه لا(14/183)
يصح تصرفه فيما عدا الثلث، إذا لم يجز الورثة ويجوز بإجازتهم لأن الحق لهم] المغني 6/146.
ولا بد من التنبيه على أمرين هامين يتعلقان بالوصية: أحدهما عدم المضارة في الوصية حيث قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} سورة النساء الآية 12. قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} ... فالإضرار راجع إلى الوصية والدين، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد، إلا أن يجيزه الورثة، لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثاً] تفسير القرطبي 5/80. فإذا كان قصد الوارث من الوصية لغير الوارث المُضَارَّة بالوارث وتقليل نصيبه من الميراث، فإن ذلك حرام عليه وهو آثم بهذا القصد، لقوله تعالى:: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) ثم قرأ أبو هريرة {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. قال الشوكاني: [الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ولفظ أحمد وابن ماجة الذي أشار إليه المصنف (أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته(14/184)
فيدخل الجنة) وفيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد، لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة فلا شك أنها من الذنوب التي لا يقع في مضيقها إلا من سبقت له الشقاوة، وقراءة أبي هريرة للآية لتأييد معنى الحديث وتقويته، لأن الله سبحانه قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضرار فتكون الوصية المشتملة على الضرار مخالفة لما شرعه الله تعالى وما كان كذلك فهو معصية] نيل الأوطار 6/42-43.
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الإضرار في الوصية من الكبائر) رواه سعيد بن منصور موقوفاً بإسناد صحيح، ورواه النسائي ورجاله ثقات كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5/441.
وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي الإضرار بالوصية من كبائر الذنوب، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/614.
ثانيهما: كتابة الوصية والإشهاد عليها، اتفق الفقهاء على أنه يستحب للمسلم إذا أوصى أن يكتب وصيته لقوله صلى الله عليه وسلم (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة) ، ويستحب للموصي أن يبدأ الوصية بالبسملة، والثناء على الله تعالى بالحمد ونحوه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الشهادتين كتابةً أو نطقاً، ثم الإشهاد على الوصية، لأجل صحتها ونفاذها، ومنعاً من احتمال جحودها وإنكارها. روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، أوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب (إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) . الموسوعة الفقهية الكويتية ومما يدل على الإشهاد على الوصية قوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ(14/185)
تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ} سورة المائدة الآية 106.
وخلاصة الأمر أنه يجب أن لا تزيد الوصية عن الثلث، فإن زادت عن الثلث فلا بد من إجازة الورثة، وعليه فلا يجوز للسائل أن يوصي بجميع ماله لابن أخيه إلا إذا أجاز ذلك ورثته، ولا يجوز لأحد أن يضار بالوصية، ويستحب كتابة الوصية والإشهاد عليها.
- - -(14/186)
المرأة والأسرة(14/189)
مخالفات وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية
يقول السائل: أثير نقاش مؤخراً حول وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية وأنها تتضمن بنوداً مخالفة للإسلام، فما قولكم في ذلك أفيدونا؟
الجواب: إن وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية لا تعتبر الإسلام من مرجعيتها أو من مصادرها، بل فيها ردٌ واضح للأحكام الشرعية المنصوصة في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الوثيقة تجعل مرجعيتها مجموعة من الأنظمة والقوانين الوضعية مثل المواثيق الدولية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية ومنظمة العمل العربية والقانون الأساسي الفلسطيني، فقد ورد في الوثيقة ما يلي: [لم يكن للمرأة الفلسطينية أن تسمو بوضعها القانوني الخاص دون أن تستند في مطالبها إلى منظومة قانونية متكاملة، ترتكز في مجملها على مجموعة من الثوابت والحقوق القانونية التي تحقق في مجموعها نتائج ايجابية، لتحقيق المساواة المطلقة بينها وبين الرجل، حسب ما نصت عليه المواثيق والأعراف الدولية والقانون الأساسي الفلسطيني] . والمدقق في بنود هذه الوثيقة يقرأ بشكل واضح الدعوة إلى إقصاء الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة وغيرها إقصاءً تاماً، وتدعو الوثيقة باسم حقوق المرأة إلى هدم المعقل الأخير للمرأة المسلمة ألا وهو الأسرة، قال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} سورة البقرة الآية 61. وهذا عرض سريع لأهم بنود الوثيقة التي تسير في هذا السياق وبيان ما تخالفه من النصوص والأحكام الشرعية:
1. ورد في الوثيقة [يحق للمرأة الفلسطينية تقلد جميع المناصب العامة في الدولة، وممارسة جميع الصلاحيات القانونية المرتبطة بعمل هذه المناصب، وذلك وفقاً للحاجات والشروط القانونية والمهنية دونما تمييز بينها وبين الرجل] ومعلوم شرعاً أن المرأة لا تتولى الولايات العامة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري ولغير ذلك من الأدلة.
2. ورد في الوثيقة: [تحقيق وحدة الأسرة الفلسطينية في وطنها وفق إعلان حقوق الإنسان] ومن المعلوم شرعاً أن الإسلام قد بين كل الأحكام المتعلقة بالأسرة بياناً واضحاً جلياً. ودين الإسلام هو خير من رعى الأسرة.(14/190)
3. ورد في الوثيقة: [يؤخذ بشهادة المرأة في جرائم الزنا على نحو مساوٍ لشهادة الرجل، على اعتبار تساويهما في شروط الأهلية القانونية] وهذا فيه مصادمة واضحة للنصوص الشرعية، قال الله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} سورة النساء الآية 15. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة النور الآية 4. وقال الله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} سورة النور الآية 13. وروى مالك عن الزهري: (مضت السنة بأن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص) الموطأ.
4. ورد في الوثيقة: [تلتزم السلطة الفلسطينية بمقاومة كافة الأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية التي تبيح العنف ضد المرأة] ولا شك أن هذا افتراء عظيم على الدين، فالدين الإسلامي لا يبيح العنف ضد المرأة ولكن الإسلام نظم مسألة تأديب الزوج لزوجته، يقول الله تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} سورة النساء الآية 34.
5. ورد في الوثيقة: [للمرأة متى أدركت سن الثمانية عشر، حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وهي متساوية مع الرجل في كافة الحقوق عند الزواج وخلال قيامه ولدى انحلاله] وهذا فيه دعوة إلى تأخير سن الزواج وإلى إلغاء الولاية في النكاح وإلى زواج المسلمة من غير المسلم وإلغاء مبدأ القوامة وإلى قيام المرأة بتطليق زوجها وغير ذلك من المفاسد والمخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية.
6. ورد في الوثيقة: [يلتزم المشرع الفلسطيني باعتبار الحد الأدنى لسن زواج الفتيات الثمانية عشرة سنة شمسية كون هذا السن متوافقاً مع ما أخذت به أحكام القانون المدني من سن الأهلية القانونية اللازم لمباشرة التصرفات القانونية] وهذا البند كسابقه فيه دعوة إلى تأخير سن الزواج،(14/191)
وهذا بناءً على الفكرة الغربية التي ترى أن سن الطفولة يمتد إلى ثمانية عشر عاماً!! وهو مخالف لما هو مقرر شرعاً ومخالف لما قرره قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا، حيث حدد أقل سن للزواج كما جاء في المادة الخامسة منه ما يلي: [يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يتم الخاطب السنة السادسة عشرة وأن تتم المخطوبة الخامسة عشرة من العمر] .
7. ورد في الوثيقة: [الأصل في عقد الزواج الوحدانية والديمومة، ويجوز للقاضي استثناء السماح للرجل بالزواج من ثانية شريطة إبداء أسباب ضرورية وملحة، على أن يثبت القدرة على الإنفاق والعدل، بالإضافة إلى اشتراط علم الزوجة الأولى بهذا الحق، وعلم الزوجة الثانية بوجود زوجة سابقة] وهذا فيه تعدٍ على الأحكام الشرعية، فالإسلام أباح تعدد الزوجات بشروطه المعروفة، ولم يشترط إبداء أسباب ضرورية وملحة، وليس من شروط التعدد علم الزوجة الأولى ولا الزوجة الثانية، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} سورة النساء الآية 3.
8. ورد في الوثيقة: [للمرأة الحق في الحصول على تعويض عن الطلاق التعسفي، ومنحها الحق في طلب التفريق القضائي عند وجود المبرر لذلك، مثل إصابة الرجل بالعقم أو بمرض مزمن أو عدم قدرته على مباشرة حياته الزوجية أو تعدد زوجاته] فهذه الوثيقة جعلت تعدد الزوجات من أسباب طلب الطلاق وهذا مخالف للشرع مخالفة واضحة.
9. ورد في الوثيقة: [للمرأة حق المساواة المطلق مع الرجل في جميع مجالات القانون المدني، كالمساواة في حق الملكية والتوريث] ، ونحن نؤمن [الإيمان المطلق بأن دين الإسلام هو دين العدل، ومقتضى العدل التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين ويخطىء على الإسلام من يطلق أنه دين المساواة دون قيد؛ لأن المساواة المطلقة تقتضي أحياناً التسوية بين المختلفين، وهذه حقيقة الظلم، ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ، ولم يأت حرفٌ واحدٌ في القرآن يأمر بالمساواة بإطلاق، إنما جاء الأمر بالعدل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ(14/192)
وَالإِحْسَانِ} سورة النحل الآية90، فأحكام الشريعة قائمة على أساس العدل، فتسوي حين تكون المساواة هي العدل، وتفرق حين يكون التفريق هو العدل، قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة الأنعام الآية115، أي صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأحكام] وثيقة حقوق المرأة المسلمة وواجباتها.
وكذلك فإن الدعوة إلى المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث فيها مصادمة صريحة للنصوص الشرعية، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} سورة النساء الآية 11.
10. ورد في الوثيقة: [للمرأة حرية التنقل والسفر والعمل دون اشتراط الحصول على إذن من أحد، متى بلغت الأهلية القانونية المطلوبة لذلك دونما تمييز عن الرجل] وهذا مخالف للنصوص الشرعية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) . رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها) رواه مسلم.
هذه طائفة من البنود الواردة في الوثيقة التغريبية للمرأة الفلسطينية. ومناقشة بنودها تحتاج إلى مجال أوسع من هذا المقام، ولكن لا بد من التأكيد على أن هذه الوثيقة ما هي إلا امتداد لحركة تغريب المرأة المسلمة وسلخها من دينها، وغلفت هذه الوثيقة بأغلفة براقة خداعة كالحقوق والمساواة، ونحن نعتقد [الاعتقاد الجازم بأن مصدر الخير والحق - فيما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة - هو الوحي الإلهي بمصدريه الكتاب والسنة المطهرين، ومن ذلك الإجماع الثابت المعتبر، واعتبار الرجوع إليها وعدم مخالفتها، من أصل الإيمان وشرطه، قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} سورة النساء الآية 65، ومن المعلوم بالضرورة أن من توحيد الله في ربوبيته(14/193)
الإيمان بأن الحكم والتشريع حق لله، في شؤون المجتمع، وشؤون أفراده، وفي الحياة كلها، ومن توحيده في ألوهيته الإيمان بوجوب التحاكم إليه في كل شيء. واليقين بصلاحية هذه الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وبشمولها لكل مناحي الحياة، والثقة التامة بهذا الدين، وأحكامه الكلية والجزئية، والإيمان بأنه هو الخير كله، والعدل كله، والرحمة كلها، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} سورة الإسراء الآية 9، وسبب هذه الثقة صدور هذه الأحكام عن الله العزيز الحكيم، اللطيف الخبير، الموصوف بالعلم الشامل والحكمة التامة، قال الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} سورة المائدة الآية 50.
لذا فإن التصحيح والإصلاح لأي خلل في أي وضع أو ممارسة، يجب أن يكون وفق معيار الشريعة في الصواب والخطأ، والحق والضلال، وليس وفق موازين الآخرين من غير المسلمين أومن تأثر بهم من أبناء المسلمين، قال الله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} سورة المائدة الآية 49. ونحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية تحرم التمييز الظالم ضد المرأة، الذي يخل بحقوقها، أو يخدش كرامتها. ولا يوجد تمييز مجافٍ للعدل ومحابٍ للرجل في منهج الإسلام أو أحكامه ضد المرأة، إلا ما كان في أذهان المرضى بالهزيمة النفسية، أو عند الجاهلين بالشرع المطهر، الذين لم يدركوا الحِكَم من وجود بعض الفروق الخَلقية والجبلية، وما لزم على ذلك من وجود بعض الاختلاف في الأحكام الشرعية والوظائف والحقوق الحياتية، وكل دعوى تنافي ذلك - سواء صدرت عن عدو مغرض أو عن صديق جاهل - فهي مبنية على وهم وغفلة، أو حجة داحضة] وثيقة حقوق المرأة المسلمة وواجباتها.
ويجب شرعاً على أهل العلم وغيرهم التصدي لأهل الأهواء ومتبعي الشهوات في كل المجالات التعليمية والثقافية والإعلامية والنسوية وغيرها، وعدم تمكينهم من انتهاك الحقوق الشرعية للنساء المسلمات، أو تبني المناهج والبرامج التي تقود إلى انتهاك عفتهن، أو إشاعة الفاحشة(14/194)
بين المؤمنين؛ إرضاءً للمناهج الغربية، وترويجاً للمبادئ الوضعية واعتبار ذلك معياراً للتقدم والحضارة، وما ذلك إلا سراب زائف.
وخلاصة الأمر أن وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية مشتملة على جملة مخالفات صريحة وواضحة للنصوص الشرعية، وبالتالي فهذه الوثيقة ما هي إلا انسلاخ من الدين واعتداء على ثوابته، وتغريب للمرأة المسلمة، ويحرم شرعاً العمل بها أو الرضا بمضامينها.
- - -
تولي المرأة للقضاء الشرعي
يقول السائل: ما قولكم في تولي المرأة للقضاء الشرعي، أفيدونا؟
الجواب: منصب القضاء الشرعي من الولايات العامة التي لا يجوز شرعاً للمرأة أن تتولاها، كما هو مقرر عند العلماء، وإن أبى ذلك الذين يدَّعون مناصرة قضايا المرأة، فمن المعلوم أن الإسلام قد أكرم المرأة أيما إكرام، وأعطاها كل حقوقها، بخلاف ما عليه الشرائع الأخرى والأنظمة الوضعية، وقضية تكريم الإسلام للمرأة قضية واضحة جلية من خلال نصوص الكتاب والسنة، وإن كان كثير ممن أعمى الله بصائرهم وأبصارهم لا يرونها كما قال الشاعر:
قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ ... ويُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماء منْ سَقَم
ولاشك أن الله جل جلاله قد خلق الذكر والأنثى وبينهما تفاوت في مجالات عدة، ومنها تفاوت وعدم تساوٍ في بعض الأحكام الشرعية كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} سورة آل عمران الآية 36، فليست الأنثى كالذكر في كل الأمور، فهنالك فوارق واضحة في الخلقة الطبيعية، وكذلك في الأحكام الشرعية بين الذكر والأنثى، فالمرأة تختلف عن الرجل في أحكام تتعلق بالصلاة والصيام والحج والنفقات والديات وولاية الحكم وغيرها، والتفريق بين الذكر والأنثى مقرر في شريعتنا وفي الشرائع السابقة، وحتى في الأنظمة الوضعية، فالدعوة إلى مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء، كذب وافتراء على دين الإسلام، قال الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة القلم الآية 14. إذا تقرر هذا فإن جماهير أهل العلم(14/195)
لا يجيزون للمرأة أن تتولى القضاء، وقد قامت على ذلك أدلة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها كلها، ولكن أذكر أهمها: قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} سورة النساء الآية 34.
وهذه الآية عامة حيث إن (أل) تفيد الاستغراق فتشمل كل النساء والرجال في جميع الأحوال، ومن المقرر عند الأصوليين أن العام يبقى على عمومه حتى يأتي ما يخصصه، ولم يوجد مخصص لهذا العموم، انظر إرشاد الفحول ص 14.وقال الشيخ ابن كثير في تفسير الآية: [أي: الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت {ِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خيرٌ من المرأة؛ ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري ... وكذا منصب القضاء وغير ذلك {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي: من المهور والنفقات والكُلَف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيماً عليها، كما قال الله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة الآية 228] تفسير ابن كثير 2/293.
ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده عن أبى بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) ، فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أسباب عدم الفلاح تولي المرأة للولايات العامة، والقضاء داخل فيها، فإن قال قائل إن هذا الحديث ورد في حادثة خاصة، فنقول إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين. قال الأمير الصنعاني عند شرحه للحديث السابق: [فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومها توليتها لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب] سبل السلام 4/96.(14/196)
وقال الشيخ ابن العربي المالكي: [وهذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه. ونقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية؛ ولم يصح ذلك عنه؛ ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير] أحكام القرآن 3/1457.
ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء ما ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثةٌ، واحدٌ في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجلٌ عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 2315.
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على اشتراط كون القاضي رجلاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر القضاة بينهم بقوله: رجلٌ في الحالات الثلاث، قال ابن تيمية الجد: [وهو – أي الحديث - دليل على اشتراط كون القاضي رجلاً] وقال الشوكاني: [واستدل المصنف أيضاً على ذلك بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه رجل ورجل، فدلَّ بمفهومه على خروج المرأة] نيل الأوطار 4/112.
ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء أنه لم يثبت في تاريخ الإسلام وعلى مدى هذه القرون المتطاولة أن تولت امرأة القضاء، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من خلفاء المسلمين لا في عهد الراشدين ولا الأمويين ولا العباسيين ولا غيرهم أنهم ولوا امرأة القضاء، ولو حصل لنقل، قال الإمام القرافي: [ولذلك لم يسمع في عصر من الأعصار أن امرأة وليت القضاء، فكان ذلك إجماعاً، لأنه غير سبيل المؤمنين] الذخيرة 10/22. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من خلفائه، ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً] المغني 5/34.
ولا شك أن فتح هذا الباب إنما هو فتح لباب شرٍ، والمسلمون في غنىً عنه، وهو من باب من سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر(14/197)
من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم. ومما يؤكد أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء أن في ذلك مدخلاً للخلطة المنهي عنها شرعاً، قال الإمام البغوي: [اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إماماً ولا قاضياً، لأن الإمام يحتاج إلى البروز لإقامة أمر الجهاد، والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عند القيام بأكثر الأمور، ولأن المرأة ناقصة، والإمامة والقضاء من كمال الولايات، فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال] شرح السنة 10/77.
ويضاف إلى ذلك ما يعتري المرأة من عوارض طبيعية كالحمل والرضاع والحيض والنفاس، وهذه أمور تتعارض مع توليها لمنصب القضاء الذي يحتاج إلى الصحة البدنية والنفسية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وغير ذلك من الأدلة.
ولا بد أن أذكر هنا أمرين أولهما: مستند من قال بجواز تولي المرأة للقضاء هو تعيين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها على ولاية الحسبة وهي أخطر من منصب قاضي الأحوال الشخصية كذا زعموا، أقول إن هذا الاستدلال باطل، لأن قصة تولية الشفاء للسوق في عهد عمر رضي الله عنه قصة ليست ثابتة، قال الشيخ ابن العربي المالكي: [وقد روي أن عمر قدَّم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح؛ فلا تلتفتوا إليه؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث] .أحكام القرآن 3/1457.
وهذه الحادثة روتها كتب التراجم بدون إسناد، ومع ذلك رويت بصيغة التضعيف فلا يعول عليها ولا يعتمد عليها، قال ابن سعد: [وكانت الشفاء بنت عبد الله أم سليمان بن أبي حثمة من المبايعات ... ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق، وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه] طبقات ابن سعد 1/250، ولاشك أن أولادها أعلم بحال أمهم من غيرهم. وقال الحافظ ابن عساكر: [وكانت الشفاء بنت عبد الله أم سليمان بن أبي حثمة من المبايعات ... ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق، وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه) تاريخ دمشق عن المكتبة الشاملة، وقال الحافظ المزي في ترجمة الشفاء بنت عبد الله: [وكان عمر بن الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر(14/198)
السوق] تهذيب الكمال عن المكتبة الشاملة، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئا من أمر السوق] الإصابة 4/14.
ثانيهما: لو سلمنا بجواز تولي المرأة للقضاء فإن من أجاز للمرأة تولي القضاء أجازه بشروط منها: أن تتوافر في المرأة المراد تقليدها القضاء الشروط المطلوبة في القضاة، من أهلية القضاء من رجحان العقل، والاتزان، وسلامة الحواس، ومن العدالة والاستقامة على طريق الحق، والقدرة على الوقوف أمام الباطل من خلال شخصية قوية متزنة، إضافة إلى العلم بالأحكام الشرعية؛ لأن القاضي الجاهل في النار، كما ورد ذلك في الحديث. وأن تهيأ للقاضيات الأجواء التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة. وألا يكون هذا المنصب على حساب تربية أولادها والحقوق المتبادلة بينها وبين زوجها. عن موقع إسلام أون لاين، وإذا نظرنا في هذه الشروط نجد أنه من الصعب جداً تحققها.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً أن تتولى المرأة منصب القضاء، وهذا هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة في هذه المسألة، وليس عند من أجاز ذلك دليل صحيح يعتمد عليه.
- - -
الجندر فكرة تغريبية مشبوهة
تقول السائلة: إنها دعيت للمشاركة في دورة عن (الجندر) تنظمها إحدى الجمعيات النسوية، فما هو الحكم الشرعي في المشاركة في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أن نتعرف أولاً على مصطلح (الجندر) ، وهو من المصطلحات الوافدة على أيدي التغربيين وفلول الماركسيين والجمعيات النسوية المدعومة غربياً [فقد بدأ استخدام لفظ (جندر) Gender في مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة عام 1994، وهو لفظ غامض لم يحدد المؤتمرون معنىً دقيقاً له على طريقة دعاة العولمة الذين يمررون أفكارهم في مجتمعات المسلمين على صورة مصطلحات غير واضحة، فتنطلي على السذج. والراصدون لما يدخله أعداء الأمة المسلمة على دينها وثقافتها لهدم كيانها وخصوصيتها، يرون أن (الجندر) ليست(14/199)
مجرد كلمة، وإنما هي منظومة فلسفية متكاملة من القيم الغريبة على مجتمعنا الإسلامي، تهدف إلى إلغاء كافة الفروق بين الرجل والمرأة، والتعامل مع البشر على أنهم نوع من المخلوقات المتساوية في كل شيء من الخصائص والمقومات، وهذا النوع الإنساني في مقابل الحيوان والنبات. فالداعون إلى (الجندر) يعتبرون أن الفوارق التشريحية والفوارق بين وظائف الأعضاء والهرمونات بين الرجل والمرأة لم تعد ذات قيمة، وأنه يمكن تخطيها واعتبارها غير مؤثرة!! فهؤلاء لا يدعون إلى مجرد المساواة بين الرجل والمرأة، بل يدعون إلى إلغاء الفروق بينهما وعدم اعتبارها، بل واستغناء كل منهما عن الآخر، فلا تكامل بين الرجل والمرأة، ولا افتقار لأحدهما إلى الآخر لا في الجانب الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا الجنسي، فالمرأة وفق هذا المفهوم تستطيع أن تقضي وطرها مع امرأة مثلها، والرجل يستطيع أن يقضي وطره مع رجل مثله. والحقيقة أن هذه الدعوة تهدف أول ما تهدف إلى هدم الكيان الأسري وتدمير المجتمع، وإحياء الفكر الماركسي، فهي تلتقي مع الفلسفة الماركسية في أمرين: الأول: فيما يتعلق بمفهوم الصراع، فأصحاب نظرية (الجندر) يؤكدون على وجود صراع بين الرجل والمرأة، ويكرسون ذلك الصراع ويؤججون ناره، ويفترضون وجود معركة بينهما!! الأمر الثاني الذي تلتقي فيه هذه النظرية مع الماركسية هو الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها في نظر ماركس إلى جانب الدين هي أهم المعوقات التي تقف أمام تطور المجتمعات] الشبكة الإسلامية. ويضاف إلى ما سبق أن من أهم الأفكار التي ينادي بها (الجندر) التشكيك بصحة الدين الإسلامي عن طريق بث الشبهات مثل: إن الدين الإسلامي سبب في عدم المساواة بين الرجل والمرأة في أمور عدة؛ كالقوامة والميراث ونقصان شهادة المرأة، وتعدد الزوجات، وعدم تعدد الأزواج، والحجاب حتى قضايا مثل ذكورة لفظ الجلالة، وإشارة القرآن إلى ضمير المذكر أكثر من ضمير المؤنث، لم تسلم من سموم (الجندر) . وقد بدأ مصطلح (الجندر) وتطبيقاته بالتغلغل في الدول العربية بداية التسعينيات مع تزايد نفوذ مؤسسات التمويل الأجنبي ولجان المرأة ومؤسسات الأمم المتحدة. وعبر الاتفاقيات الصادرة عن المؤتمرات الدولية، وهذه الآلية الدولية فيها طابع من الإلزام للحكومات العربية والإسلامية، بما وقعت عليه من اتفاقيات قد يتبع عدم تنفيذها ضغوط سياسية واقتصادية، أو إغراءات اقتصادية وسياسية. وقد شكلت مقررات مؤتمر بكين أساساً عملياً للسير(14/200)
في هذا الاتجاه، وكان بمثابة إشارة واضحة لكل الدول بحكوماتها ومنظماتها المدنية للعمل على تعزيز المساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة. عن الإنترنت. ويسعى (الجندريون والجندريات) إن صح التعبير فيما يسعون إليه، إلى إلغاء دور الأسرة من المجتمع المسلم وإلغاء دور الأب وإلغاء دور الأم ورفض الزواج ويدعون إلى ملكية المرأة لجسدها، وهي دعوة صريحة للإباحية، ورفض الإنجاب وإباحة الإجهاض والشذوذ الجنسي، وصدق من قال إن (الجندر) ما هو إلا مطية الشذوذ الجنسي. ومما ينادي به ويروج له (الجندريون والجندريات) [الأفكار الخطيرة التالية: أولاً: رفض أن اختلاف الذكر والأنثى راجع لصنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} سورة النجم الآيتان 45-46. ثانياً: فرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية وأدواره المترتبة عليها. ثالثاً: الاعتراف بالشذوذ الجنسي وفتح الباب لإدراج حقوق الشواذ من زواج المثليين وتكوين أسر غير نمطية، والحصول على أبناء بالتبني ضمن حقوق الإنسان. رابعاً: العمل على إضعاف الأسرة الشرعية التي هي لبنة بناء المجتمع السليم المترابط، ومحضن التربية الصالحة، ومركز القوة الروحية، ومفخرة الشعوب المسلمة في عصر الانحطاط المادي. خامساً: إذكاء روح العداء بين الجنسين، وكأنهما متناقضان متنافران، ويكفي لتأييد هذا الاتجاه مراجعة أوراق المؤتمر الدولي لتحديات الدراسات النسوية في القرن الحادي والعشرين الذي نظمه مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية في جامعة صنعاء - اليمن، فقد كان مما جاء فيه الاعتراض على كثرة وجود اسم الإشارة للمذكر في اللغة العربية أكثر من المؤنث، وكذلك ضمائر المخاطبة للمذكر أكثر منها للمؤنث. سادساً: التقليد الأعمى للاتجاهات الجنسية الغربية المتطرفة ... سابعاً: رفع المسؤولية عن الشواذ جنسياً وإظهارهم بثوب الضحية التي جنى عليها المجتمع، وهذه محاولة قديمة تتشح بثوب العلمية أحياناً وتأتزر بلباس بعض الأبحاث المغرضة- التي ترى أنّ هناك سبباً فسيولوجياً في تركيب الدماغ يسبب الشذوذ- أحياناً أخرى، وكِلا القولين مردود، ذلك أنه لا أحد ينكر أن هناك عوامل مختلفة تؤثر وربما تدعو إلى الشذوذ، لكن كما يقول د. ستيفن أر. كوفي: (بين المؤثر والاستجابة توجد مساحة رحبة مِن حرية الاختيار) ، وهذه هي المسؤولية التي يحاسب العبد بموجبها، وينتفي الحساب بانتفائها كما في(14/201)
حالة المجنون والصبي ونحوه] المرأة المسلمة والتحديات الغربية للدكتور صالح الرقب. ويجب الانتباه إلى أن فكرة الجندر وما ترتب عليها آخذة بالانتشار في بلادنا عبر الجمعيات النسوية والمراكز البحثية – زعموا - المدعومة غربياً، التي تنشط في نشر هذه الأفكار الخبيثة من خلال المؤتمرات والندوات والمحاضرات، بل إن بعض جامعتنا مع الأسف الشديد أصبحت تعتبر ذلك من ضمن الدراسات والبرامج التي تفرض على الطلبة، فهذه المراكز البحثية المزعومة تهدف إلى تثبيت دراسات الجندر كحقل أكاديمي، وإجراء الدراسات والأبحاث المتعلقة بالجندر والمساندة في صياغة السياسات والاستراتيجيات في المجتمع الفلسطيني. والمشاركة في تطوير الوعي بالنوع الاجتماعي، والتأثير على صياغة سياسات فعالة تسهم في بناء مجتمع ديمقراطي يتمتع جميع أفراده بالعدل والمساواة. وهذه العبارات المعسولة تخفي تحتها السم الزعاف. وكذلك فإن بعض جامعتنا تسعى إلى إيجاد تخصص فرعي في دراسات الجندر لطلبة البكالوريوس وطرح مساقات تخدم ذلك التوجه الخبيث. وتطوير مشاريع مشتركة مع بعض الجامعات الأمريكية، وتبادل الكتب والمنشورات والأفلام الوثائقية، وتبادل باحثات وأساتذة على مدار عام أو فصل أكاديمي، وتبادل الزيارات القصيرة بين أعضاء الهيئات التدريسية وعمل أبحاث مشتركة حول قضايا المرأة، وتطوير مناهج الدراسات النسائية والجندر وتنظيم مؤتمرات دولية حول المرأة، ولا يتسع المقام إلى تفصيل أكثر مما سبق.
وخلاصة الأمر أن الجندر فكرة خبيثة هدامة يراد تسويقها بين المسلمين، لهدم البقية الباقية من الدين والأخلاق والقيم الطيبة، وهي فكرة مرفوضة إسلامياً قلباً وقالباً، ويجب على علماء الأمة والدعاة وخطباء المساجد أن يتصدوا لهذه الفكرة المشبوهة وأمثالها، وأن يقوموا بدورهم المنشود في توعية الناس، وخاصة النساء المسلمات بخطورة هذه الأفكار الخبيثة وبأضرارها المدمرة التي تعود بالخراب والفساد على المجتمع المسلم.
ولا بد من التحذير من بعض المشايخ الذين يُستخدَمون لتسويق هذه الفكرة المشبوهة وأمثالها وهم يشعرون أو لا يشعرون. ويجب أن يعلم أنه يحرم شرعاً المشاركة في أي عمل له علاقة بفكرة الجندر من قريب أو بعيد، لأنها فكرة تصادم الدين الإسلامي مصادمة ظاهرة، بل تهدف إلى هدم المبادئ والأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة المسلمة خصوصاً والمجتمع المسلم عموماً، والواجب على المسلمين التمسك بدينهم فهو منهج رباني،(14/202)
فهو هدايتنا وطريق سعادتنا، ولسنا بحاجة إلى زبالة أفكار البشر المستوردة.
- - -
الحملة الفرنسية على الحجاب وموقف شيخ الأزهر المتخاذل
يقول السائل: ما قولكم في هذه الهجمة الشرسة التي تشن في فرنسا ضد الحجاب والنقاب، وما قولكم في موقف شيخ الأزهر بأن منع النقاب شأنٌ فرنسيٌ داخليٌ لا ينبغي للمرء أن يتدخل فيه، لأن لكل بلد قوانينها الخاصة بها كما زعم، أفيدونا؟
الجواب: الحجاب أو الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله سبحانه وتعالى، وهي قضية مسلَّمة عند المسلمين، لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الأحزاب الآية 59. وقال تعالى: {قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} سورة النور الآيتان 30-31. وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم. وجاء في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (أنها كانت عند أختها عائشة وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم(14/203)
تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا - أي وجهها وكفيها -) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. وغير ذلك من الأدلة.
وهذه الهجمة الغربية على الجلباب ما هي إلا حلقة من حلقات الهجوم على الإسلام، وعلى ثوابته، فمن السب والشتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الرسوم المسيئة في الدنمارك، إلى الطعن في كتاب الله عز وجل، إلى الهجوم المتجدد والمحاربة للجلباب الشرعي، فقد سبق لساركوزي عندما كان وزيراً لداخلية فرنسا أن أصدر تشريعاً قانونياً حظر فيه الحجاب في المدارس، وكان ذلك بمباركة شيخ الأزهر محمد طنطاوي الذي قال وقتها: [مسألة الحجاب للمرأة المسلمة فرضٌ إلهي، وإذا قصرت في أدائه حاسبها الله على ذلك؛ ولذلك لا يستطيع أي مسلم سواء كان حاكماً أو محكوماً أن يخالف ذلك، ولا نسمح لغيرنا أن يتدخل في شئوننا كدولة مسلمة، هذا إذا كانت المرأة المسلمة تعيش في دولة إسلامية، أما إذا كانت تعيش في دولة غير إسلامية كفرنسا، وأراد المسئولون بها أن يقرروا قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب للمرأة المسلمة، فهذا يُعد حقهم، وأكرر أن هذا حقهم الذي لا أستطيع أن أعارض فيه كمسلم لأنهم غير مسلمين ... في هذه الحالة عندما تستجيب المرأة المسلمة لقوانين الدولة غير المسلمة، تكون من الناحية الشرعية في حكم المضطر] انتهى كلام شيخ الأزهر.
واليوم يكرر شيخ الأزهر محمد طنطاوي موقفه المتخاذل فيقول: [أنا ليس لي شأن بقرار الرئيس الفرنسي بمنع ارتداء (النقاب) في بلاده لأن لكل دولة قوانينها التي تحكمها وهذا أمر داخلي تنظمه كل دولة كيفما تشاء] .
ويبدو أن شيخ الأزهر لم يقرأ تصريحات ساركوزي أو أنه تغافل عنها ليبرر موقفه المتخاذل، فكلام ساركوزي عن النقاب والحجاب وقد جعلهما شيئاً واحداً فقال: [إن البرقع أو النقاب الذي يغطي المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها يشكل علامة استعباد للمرأة وان ارتداءه غير مرحب به في فرنسا. وأكد ساركوزي أن البرقع ليس رمزاً دينياً، وإنما رمز استعباد للمرأة، وأريد أن أؤكد علناً أن البرقع غير مرحب به في أراضي الجمهورية الفرنسية. وأضاف الرئيس الفرنسي: لا يمكن أن نقبل في بلادنا نساء سجينات خلف سياج ومعزولات عن أي حياة اجتماعية ومحرومات من الكرامة. هذه ليست الرؤية التي تتبناها الجمهورية الفرنسية بالنسبة لكرامة المرأة] .(14/204)
إن كلام شيخ الأزهر كلام باطل وموقفه هذا خذلان لمسلمات فرنسا وغيرهن من المسلمات اللواتي يعشن في غير العالم الإسلامي، وفي كلام شيخ الأزهر فتحٌ لباب شر واسع على المسلمين في الغرب، فغداً ستحذو دول أخرى حذو فرنسا في اتخاذ قرارات بمنع الحجاب، وماذا لو اتخذت دول الغرب قرارات بمنع إقامة صلاة الجمعة أو إغلاق المساجد أو منع المسلمين من الأضحية وغير ذلك مما يطمس شخصية المسلمين في الغرب؟!! وكان الواجب الشرعي على شيخ الأزهر أن يطالب الحكومة الفرنسية بإتاحة حرية ممارسة الشعائر الدينية للمسلمين وفق مبادئ الحرية التي تتغنى بها فرنسا، أم أن الحرية إذا وصلت للمسلمين فإنها تتوقف!! وإنه لمن المؤسف حقاً أن يكون هذا هو موقف من يجلس على رأس الهرم في هيئة من أهم الهيئات الشرعية في العالم الإسلامي- الأزهر -، وليته سكت لكان السكوت أولى من هذا الموقف المخزي. إن الواجب على علماء الأمة وعلى الهيئات الشرعية في العالم الإسلامي أن يتصدوا لما قاله ساركوزي عن الجلباب، وأن يساندوا المسلمات في فرنسا وغيرها، وأن يبطلوا كلام شيخ الأزهر، ويبينوا له وجه الحق في هذه المسألة وغيرها من المسائل، التي كانت فيها مواقفه مدعاة للسخرية!! ومتى يدرك شيخ الأزهر أن مسألة الحجاب والجلباب ليست شأناً فرنسياً داخلياً، بل هي شأنٌ إسلاميٌ عام، وأين أنت يا شيخ الأزهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبَّك بين أصابعه) رواه البخاري ومسلم، وأين أنت يا شيخ الأزهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم. وأين أنت يا شيخ الأزهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 6666. وأما من يخذل المسلمين ولا يقف معهم ولا يدافع عن أخواته المسلمات، فإن الله عز وجل سيخذله، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته) رواه أحمد وأبو داود وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 5690.(14/205)
إذا تقرر هذان فإن الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله عز وجل، لا يملك أحدٌ من البشر مهما كان أن يشطبها أو يلغيها، والجلباب ليس علامة استعباد للمرأة كما زعم ساركوزي، بل هو طاعة لله عز وجل، واستعباد واستسلام لشرع رب العباد، وهو رمز للعفة والطهارة، وهو تاج الوقار والكرامة للمرأة المسلمة، التي اختارت طريق العفاف والطهر، لا طريق الرذيلة والعهر. ونحن لا نأخذ ديننا من غير كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا نطيع كافراً في شأن ديننا كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} سورة آل عمران الآية 100. ويجب أن يعلم أن كلام ساركوزي عن الحجاب ما هو إلا اعتداءٌ صريحٌ وواضحٌ على دين الإسلام، وعلى كتاب الله عز وجل وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى فريضة من فرائض الله، ولا يقل جرماً عن الرسوم المسيئة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والواجب على كل مسلم الوقوف في وجه هذه الحملة الفرنسية الجديدة على الإسلام والمسلمين. وهذه الحملة الفرنسية على النقاب والحجاب تتناقض مع شعارات الحرية والمساواة التي ترفعها فرنسا!!! وتصريحات ساركوزي تتناقض مع القرار الذي أصدره مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 28 أيار 2008 وانتقد خلاله القانون الفرنسي الذي يقضي بحظر ارتداء الزي الديني في المدارس بما فيه الحجاب الإسلامي، ثم لماذا هذه الهجمة على الجلباب الشرعي مع أنه يوجد في فرنسا بل في كل العالم الغربي راهبات يغطين رؤوسهن، ويلبسن ما يشبه الجلباب، ولماذا لا يعتبر ساركوزي ذلك استعباداً، أم أنها الحرب لكل ما يمت للإسلام بصلة، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} سورة البقرة الآية 120.
وخلاصة الأمر أن الجلباب الشرعي فريضة ربانية، وأن الهجوم عليه تعدٍ على دين الإسلام، وأن الواجب على الأمة الإسلامية عامة، والعلماء خاصة أن يتصدوا لهذه الحملة الفرنسية الجديدة، ويجب أن يُعلم أن(14/206)
الحجاب إيمان وطهارة وتقوى وحياء وعفة، واستعباد وطاعة لرب العباد.
- - -
تحريم الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح
يقول السائل: إنه طالب يدرس الشريعة الإسلامية وإن أحد مدرسيه يقول بجواز الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح، ويزعم أن الحديث الوارد في تحريم ذلك ليس حجة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يحرم شيئاً لم ينص على تحريمه في القرآن الكريم، فما قولكم في زعمه، أفيدونا؟
الجواب: مما يؤسف له أن بعض المؤتمنين على تدريس العلم الشرعي قد خانوا الأمانة، وصاروا يكررون شبهات المستشرقين وغيرهم من أعداء الإسلام، ويسيرون خلف كل ناعق، ويضربون بالحقائق الثابتة عرض الحائط، ومن ضمن تلك الشبهات الساقطة إنكار حجية السنة النبوية، وأنها لا تستقل بالتشريع، ويزعم هؤلاء أن الإسلام هو القرآن فقط، فلا سنة ولا إجماع ولا قياس، ويردّون أقوال الصحابة جملة وتفصيلاً، وغير ذلك من الترهات التي يرددها أفراخ المستشرقين، ولا شك لديَّ أن من يقول بذلك فإنه سائر في طريق الزندقة، فإن علماء الأمة قديماً وحديثاً متفقون على حجية السنة النبوية، وأنها أصل عظيم من أصول الإسلام، وقد قامت على ذلك عشرات الأدلة الصحيحة على إثبات ذلك، قال الإمام الشوكاني: [إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام] إرشاد الفحول ص 33.
وقال أيوب السختياني: [إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل] الكفاية في علم الرواية1/28.
وقد بين علماء الأصول حجية السنة أوضح بيان وذكروا النصوص من كتاب الله عز وجل التي تدل على ذلك فمنها: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} سورة الحشر الآية 7. وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} سورة آل عمران الآية(14/207)
32.وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النور الآية 63. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} سورة الأحزاب الآية 36. وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} سورة النساء الآية 65. وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} . وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة النحل الآية 44.
وقد ذكر أهل العلم أن من دلائل نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما أخبر به في بعض الأحاديث أنه سيأتي أقوام ينكرون حجية السنة النبوية، وأنهم لا يقبلون إلا ما ورد في القرآن الكريم، فقد ورد في الحديث عن أبي رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال لا أُلفينَ أحدَكم متكئاً على أريكته – السرير - يأتيه أمرٌ مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) رواه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وقال العلامة الألباني: صحيح. ورواه الترمذي أيضاً عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله) ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقال العلامة الألباني: صحيح. ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجلٌ شبعانٌ على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ... ) وقال العلامة الألباني: صحيح، والحديث رواه أيضاً الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على(14/208)
شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال الإمام الخطابي في شرح الحديث [ ... يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له ذكر في القرآن على ما ذهب إليه الخوارج والروافض من الفرق الضالة فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا ... وفي الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ كان حجة بنفسه] معالم السنن 4/276. وهذه الفرية عرفت قديماً فقد روى الخطيب البغدادي بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه كان جالساً ومعه أصحابه يحدثهم، فقال رجل من القوم لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له عمران بن حصين: ادنه- اقترب -، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين، أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة ثم قال: أي قوم، خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن. وفي رواية أخرى: أن رجلاً قال لعمران بن حصين: ما هذه الأحاديث التي تحدثونها وتركتم القرآن؟ قال: أرأيت لو أبيت أنت وأصحابك إلا القرآن، من أين كنت تعلم أن صلاة الظهر عدتها كذا وكذا، وصلاة العصر عدتها كذا، وحين وقتها كذا، وصلاة المغرب كذا، والموقف بعرفة، ورمي الجمار كذا، واليد من أين تقطع، أمن هنا أم هاهنا أم من هاهنا، ووضع يده على مفصل الكف، ووضع يده عند المرفق، ووضع يده عند المنكب، اتبعوا حديثنا ما حدثناكم وإلا والله ضللتم] الكفاية في علم الرواية1/28. إذا تقرر أن السنة حجة لا شك فيها، فقد ثبت في الحديث الصحيح المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث، وهذا الحديث متواتر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الصحابة فقد رواه أبو هريرة رضي الله عنه وقد ورد عنه من أكثر من سبع طرق صحيحة، وللحديث شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وابن عمرو وأبو سعيد وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وقد فصلَّ الكلام على هذه الطرق والشواهد العلامة الألباني في إرواء الغليل 6/288-291.
وقد اتفق أهل العلم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها، قال الإمام أبو زرعة العراقي بعد أن ذكر الحديث محل(14/209)
السؤال: [فيه تحريم الجمع في النكاح بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها وهو مجمع على تحريمه، كما حكاه ابن المنذر وابن عبد البر والنووي وغيرهم، وقال الشافعي رضي الله عنه: هو قول من لقيت من المفتين لا اختلاف بينهم فيما علمته. حكاه عنه البيهقي في المعرفة، وقال النووي بعد حكايته إجماع العلماء في ذلك، وقالت طائفة من الخوارج والشيعة: يجوز، وقال أبو العباس القرطبي: أجاز الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها ولا يعتد بخلافهم، لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة في ذلك. انتهى. وذكره الأختين هنا سبق قلم، فلم يخالف في هذا أحدٌ وهو منصوص القرآن] طرح التثريب 7/31-32.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على القول به - حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها- وليس فيه بحمد الله اختلاف إلا أن بعض أهل البدع ممن لا تعد مخالفته خلافاً وهو الرافضة والخوارج لم يحرموا ذلك، ولم يقولوا بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ما روى أبو هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) متفق عليه، وفي رواية أبي داود: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها لا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى) ولأن العلة في تحريم الجمع بين الأختين إيقاع العداوة بين الأقارب وإفضاؤه إلى قطيعة الرحم المحرم وهذا موجود فيما ذكرنا، فإن احتجوا بعموم قوله سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} خصصناه بما رويناه، وبلغنا أن رجلين من الخوارج أتيا عمر بن عبد العزيز فكان مما أنكرا عليه رجم الزاني وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، وقالا ليس هذا في كتاب الله تعالى، فقال لهما: كم فرض الله عليكم من الصلاة؟ قالا خمس صلوات في اليوم والليلة وسألهما عن عدد ركعاتها فأخبراه بذلك وسألهما عن مقدار الزكاة ونصبها فأخبراه، فقال فهل تجدان ذلك في كتاب الله؟ قالا: لا نجده في كتاب الله، قال فمن أين صرتما إلى ذلك؟ قالا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، قال فكذلك هذا ... ] المغني7/115.(14/210)
ومع اتفاق أهل العلم قديماً وحديثاً على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وعلى صحة الأحاديث في ذلك إلا أنه قد وجد من شذاذ الآفاق من قال بإباحة الجمع بينهما كما ذكر السائل، وكما قال أحد القرآنيين وهو المدعو أحمد صبحي منصور، تحت عنوان (الدين السني والتشريع بما لم يأذن به الله جل وعلا) قال: [ ... ولكن الفقهاء أعملوا القياس فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها قياساً على حرمة الجمع بين المرأة وأختها، وحرموا الخالة والعمة من الرضاع قياساً على تحريم الأم من الرضاع والأخت من الرضاع، ثم صاغوا في ذلك أحاديث هي أشبه بمتون الفقه وأحكام الفقهاء فقالوا (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (وقالوا) لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها) . وهنا يقع التناقص مع كتاب الله. فإذا أراد رجل أن يتزوج عمة زوجته أجاز له القرآن ذلك لأن عمة الزوجة ليست من المحرمات في نص القرآن ولأنها تدخل في الحلال من النساء للزواج ضمن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} ولكن الفقه السني يجعل ذلك الحلال القرآني حراماً. وإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرضاع أحلها له القرآن وحرمها عليه الفقه..!! وذلك يعني بوضوح أنهم يحرمون ما أحل الله وينسبون ذلك للرسول، والرسول عليه السلام بريء من ذلك] عن الإنترنت. إلى غير ذلك من الأباطيل والترهات.
وخلاصة الأمر أن السنة النبوية أصل من أصول الشرع، بل هي الأصل الثاني، وأن السنة النبوية تستقل بالتشريع، وهنالك عشرات بل مئات الأحكام التي شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرد لها ذكر في القرآن الكريم، وأن منكر حجية السنة النبوية لا حظ له في الإسلام، وأن من أنكر حجيتها في بعض الجوانب كمن أنكر حجية خبر الواحد في العقيدة أو في الأحكام، فقوله شاذ مردود، لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وأن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها مما اتفق عليه من يعتد بقوله من علماء الإسلام.
- - -(14/211)
القرينة من الجن
تقول السائلة: إنها امرأة متزوجة من عدة سنوات وكلما حملت أسقطت جنينها، وقالت لها إحدى النساء إن تابعتها قرينة من الجن تتسلط على الحمل فتسقطه فهل هذا الأمر صحيح، أفيدونا؟
الجواب: الاعتقاد بوجود التابعة من الجن، فكرة قديمة وهي من موروثات عرب الجاهلية، قال الهروي في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن حلوان الكاهن: [والكاهن هو الذي يتعاطى الأخبار عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار، وكانت في العرب كهنةٌ يدَّعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور الكائنة، ويزعمون أن لهم تابعة من الجن تلقى إليهم الأخبار] تحفة الأحوذي 4/413. وهذه الفكرة من الخرافات التي لا وجود لها، ولا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن تؤثر هذه التابعة المزعومة في الحمل فتسقطه، فالأمور كلها بيد الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن لإجهاض الحمل أسباباً كثيرةً يعرفها الأطباء، فينبغي مراجعة الأطباء فهم أهل الاختصاص في ذلك.
ويجب التفريق بين التابعة المزعومة وبين القرين وهو من الجن الموكل بكل إنسان، فالقرين ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} سورة ق الآية27. قال الإمام البخاري في باب تفسير سورة ق: [وقال قرينه: الشيطان الذي قيض له] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/754. وقال الإمام الطبري في تفسير الآية السابقة: [يقول تعالى ذكره: قال قرين هذا الإنسان الكفَّار المنَّاع للخير، وهو شيطانه الذي كان موكلاً به في الدنيا كما حدثني ... عن ابن عباس قوله (قال قرينه ربنا ما أطغيته) قال: قرينه شيطانه] تفسير الطبري(14/212)
22/357. وقال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} سورة الزخرف الآية 36.
وثبت في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلا وقد وكِّل به قرينُه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلمُ، فلا يأمرني إلا بالخير) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (فأسلم) برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان فمن رفع قال: معناه: أسلمُ أنا من شره وفتنته، ومن فتحَ قال: إن القرين أسلمَ، من الإسلام وصار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير، واختلفوا في الأرجح منهما فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض، الفتح وهو المختار، لقوله: (فلا يأمرني إلا بخير) ، واختلفوا على رواية الفتح، قيل: أسلمَ بمعنى استسلم وانقاد، وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم (فاستسلم) ، وقيل: معناه صار مسلماً مؤمناً، وهذا هو الظاهر، قال القاضي: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه. وفي هذا الحديث: إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان] شرح النووي على مسلم 6/293.
وروى مسلم بإسناده عن عروة أن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال: (ما لك يا عائشة أغرت) فقلت وما لي لا يغار مثلي على مثلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقد جاءك شيطانك) . قالت يا رسول الله أو معي شيطان، قال: نعم. قلت ومع كل إنسان قال: نعم. قلت ومعك يا رسول الله قال: نعم ولكن ربى أعانني عليه حتى أسلمَ) . فهذه النصوص وغيرها تثبت أن كل إنسانٍ قد وكِّل به قرينٌ من كفرة الجن، وعمل هذا القرين أنه يغوي الإنسان ويوسوس له. ونحن نؤمن أن الجن خلق من خلق الله عز وجل وأن لهم قدرات خاصة بهم كقدرتهم على سرعة الحركة مثلاً كما قال تعالى: {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} سورة النمل الآية 39. ولكن لا يصح أن نبالغ في قدراتهم، فهم لا يقدرون على إلحاق الضرر بالإنسان(14/213)
إلا بإذن الله عز وجل، كما أنه لا سلطان لهم على عباد الله الصالحين كما قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} سورة الإسراء الآيتان 64-65.
ولهم تسلط على الناس الضالين الغاوين كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} سورة النحل الآيتان 99-100. ويمكن للمسلم أن يحارب الشيطان وأن ينتصر عليه إذا تمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، [ومن الأسباب المعينة على السلامة من شر الشيطان وجنوده
1. الإيمان بالله وعبادته بإخلاص والتوكل عليه والاستعاذة به، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة الأعراف الآية200، وقال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} سورة النحل الآيات 98-100. وقد أخبر الله تعالى عن الشيطان أنه قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} سورة الحجر الآيتان 39-40. فأجابه الله {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} سورة الحجر الآيتان 41-42.
2. الالتزام بالكتاب والسنة والإكثار من تلاوة القرآن ولاسيما سورة البقرة وبالأخص آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من السورة.
ففي حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل(14/214)
ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة: (أن الشيطان قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقول الشيطان، قال: صدقك وهو كذوب) رواه البخاري. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان) رواه الترمذي والحاكم والطبراني، وقال الهيثمي رجاله ثقات وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب.
3. المحافظة على الصلاة في الجماعة والأذان لها وقيام الليل، فقد روى أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) رواه النسائي وقال: قال السائب -أحد رواة الحديث- يعني بالجماعة جماعة الصلاة، ورواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وعن ابن مسعود قال: (ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) رواه البخاري ومسلم. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) رواه البخاري ومسلم.
4.المحافظة على ذكر الله تعالى دائماً، ولا سيما الأذكار المقيدة: صباحاً ومساء عند النوم وعند الدخول والخروج والأكل والجماع وعند الخلاء ونزع الثياب، ففي حديث الحارث الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وآمركم بذكر الله كثيراً، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، كذلك العبد(14/215)
لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) رواه أحمد والترمذي والحاكم وأبو يعلى وصححه العلامة الألباني. ويمكن مراجعة كتب الأذكار للتعرف على أدعية الدخول والخروج والأكل والشرب والجماع وعند الخلاء ونزع الثياب وأذكار الصباح والمساء.
5. الالتزام بالجماعة، ففي حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) رواه الترمذي والحاكم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي.
6. البعد عن اتباع خطوات الشيطان ومظان وجوده، كالسوق ومجالس النساء ولا سيما الخلوة والانفراد بهن، ومجالس الغناء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} سورة النور الآية21. وفي الحديث: (لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، ففيها باض الشيطان وفرخ) رواه مسلم، وفي الحديث: (ألا لا يخلونّ رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويمكن مراجعة كتاب إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان لابن القيم، وتلبيس إبليس لابن الجوزي، ووقاية الإنسان من الجن والشيطان لوحيد عبد السلام بالي، والصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة لمصطفى العدوي والأذكار النووية وغيرها فإنها كتب نافعة في هذا الباب.
وخلاصة الأمر أنه لا وجود للتابعة وإنما ذلك من الخرافات، وأما القرين فهو من الجن وهو ثابت بالكتاب والسنة، وليس من قدرة الجن إسقاط الحمل، وينبغي مراجعة الأطباء فهم أهل الاختصاص لمعرفة أسباب سقوط الحمل.
- - -
ضوابط في تسمية المواليد
يقول السائل: رزقت بمولودة سميتها سالي ولا أدري ما معناه، ثم قررت أن أغير اسمها إلى اسم آخر من الأسماء العربية المتداولة فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟(14/216)
الجواب: تسمية المواليد صارت من ميادين التقليد والتغريب الفسيحة التي قلد فيها المسلمون غيرهم، وخاصة تقليد أسماء الغربيين ذكوراً وإناثاً فصرنا نسمع أسماء مثل: جاكلين، جولي، ديانا، سوزان، فالي، فكتوريا، كلوريا، لارا، لندا، ليسندا، مايا، منوليا، هايدي، يارا. وتلك الأسماء الأعجمية: مرفت، شيريهان، شيرين، نيفين، شادي، وتلك الأسماء التافهة مثل: زوزو، فيفي، ميمي، وتلك الأسماء الغرامية الرخوة المتخاذلة: أحلام، أريج، تغريد، غادة، فاتن، ناهد، هيام، وهو بضم الهاء: ما يشبه الجنون من العشق أو داء يصيب الإبل، وبفتحها: الرمل المنهار الذي لا يتماسك. وتلك الأسماء ذوات المعاني القبيحة كعفلق وغير ذلك من الأسماء الكثيرة. انظر تسمية المولود ص2. ولا بد للمسلمين أن يتميزوا عن غيرهم من الأمم في كل شؤونهم وحتى بأسمائهم، وأن يلتزموا أدب الإسلام في تسمية المواليد، قال الشيخ بكر أبو زيد رحمة الله عليه: [أنادي بلسان الشريعة الإسلامية على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يلتزموا بأدب الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا يؤذوا السمع والبصر في تلكم الأسماء المرذولة، وأن لا يؤذوا أولادهم بها، فيحجبوا بذلك عنهم زينتهم: الأسماء الشرعية. وما هذه إلا ظاهرة مرضية مؤذية، يجب على من بسط الله يده أن يصدها عن مواليد المسلمين، فليزمهم عن طريق الأحوال المدنية بالأسماء المشروعة فحسب، فلا يسجل إلا ما كان شرعياً. وإذا كانت القوانين تصدر في فرنسا وغيرها لضبط اختيار أسماء المواليد حتى لا تخرج عن تاريخهم، ولا تتعارض مع قيمهم الوطنية، وإذا ألزم المسلمون في بلغاريا بتغيير أسمائهم الإسلامية، فنحن في الالتزام بدين الله - الإسلام - أحق من أمم الكفر] تسمية المولود ص 3.
ومن المعلوم أنه ينبغي على المسلم أن يحسن تسمية أولاده، لأن الاسم يبقى مع الإنسان طوال حياته وبعد مماته، وقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسمائكم) رواه أبو داود بإسناد حسن كما قال العلامة ابن القيم في تحفة المودود ص89. وقد اعتنى أهل العلم بهذا الموضوع ومنهم من خصَّه بالتأليف كالعلامة ابن القيم حيث ألف كتابه (تحفة المودود بأحكام المولود) وجعل فيه باباً (في ذكر التسمية وأحكامها) ويقع في سبع وثلاثين صفحة، وألف الدكتور بكر أبو زيد كتاباً بعنوان (تسمية المولود) فصَّل الكلام فيه على الموضوع تفصيلاً حسناً، ويضاف إلى ذلك كلام متفرق لأهل العلم في كتبهم(14/217)
وفتاويهم، وقد حاولت أن أجمع أهم ضوابط تسمية المولود من كلام العلماء فكانت كما يلي:
دلت الشريعة على تحريم تسمية المولود في واحد من الوجوه الآتية:
1. اتفق المسلمون على أنه يحرم كل اسم معبد لغير الله تعالى، من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك، مثل: عبد الرسول، عبد النبي، عبد علي، عبد الحسين، عبد الأمير (يعني: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه) ، عبد الصاحب (يعني: صاحب الزمان المهدي المنتظر) ، وهي تسميات الروافض. وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم كل اسم معبد لغير الله تعالى، مثل: عبد العزى، عبد الكعبة، عبد شمس، عبد الحارث. ومن هذا الباب: غلام الرسول، غلام محمد، أي: عبد الرسول ... وهكذا. والصحيح في عبد المطلب المنع. ومن هذا الغلط في التعبيد لأسماء يظن أنها من أسماء الله تعالى وليست كذلك مثل: عبد المقصود، عبد الستار، عبد الموجود، عبد المعبود، عبد الهوه، عبد المرسل، عبد الوحيد، عبد الطالب ... فهذه يكون الخطأ فيها من جهتين: من جهة التسمية الله بما لم يرد به السمع، وأسماؤه سبحانه توفيقية على النص من كتاب أو سنة. والجهة الثانية التعبيد بما لم يسم الله به نفسه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
2. التسمية باسم من أسماء الله تبارك وتعالى فلا تجوز التسمية باسم يختص به الرب سبحانه، مثل: الرحمن، الرحيم، الخالق، البارئ، وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من التسمية بذلك. وفي القرآن العظيم: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} سورة مريم الآية 65، أي لا مثيل له يستحق مثل اسم الذي هو الرحمن.
3. التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم. والمسلم المطمئن بدينه يبتعد عنها وينفر منها ولا يحوم حولها. وقد عظمت الفتنة بها في زماننا، فيلتقط اسم الكافر من أوروبا وأمريكا وغيرهما، وهذا من أشد مواطن الإثم وأسباب الخذلان، ومنها: بطرس، جرجس، جورج، ديانا، روز، سوزان ... وغيرها ... وهذا التقليد للكافرين في التسمي بأسمائهم، إن كان عن مجرد هوى وبلادة ذهن، فهو معصية كبيرة وإثم، وإن كان عن اعتقاد أفضليتها على أسماء المسلمين، فهذا على خطر عظيم يزلزل أصل الإيمان، وفي كلتا الحالتين تجب المبادرة إلى التوبة منها، وتغييرها شرط في التوبة منها.(14/218)
4. التسمي بأسماء الأصنام المعبودة من دون الله ومنها: اللات، العزى، إساف، نائلة، هبل.
5. التسمي بالأسماء الأعجمية، تركية، أو فارسية أو بربرية أو غيرها مما لا تتسع لغة العرب ولسانها، ومنها: ناريمان، شيريهان، نيفين، شادي - بمعنى القرد عندهم - جيهان. وأما ما ختم بالتاء، مثل: حكمت، عصمت، نجدت، هبت، مرفت، رأفت ... فهي عربية في أصلها، لكن ختمها بالتاء الطويلة المفتوحة - وقد تكون بالتاء المربوطة - تتريك لها أخرجها عن عربيتها، لهذا لا يكون الوقف عليها بالهاء. والمختومة بالياء مثل: رمزي، حسني، رشدي، حقي، مجدي، رجائي هي عربية في أصلها، لكن تتريكها بالياء في آخرها منع من عربيتها بهذا المبنى، إذ الياء هنا ليست ياء النسبة العربية مثل: ربعي، ووحشي، وسبتي (لمن ولدت يوم السبت) ، ولا ياء المتكلم، مثل: كتابي، بل ياء الإمالة الفارسية والتركية.
6. كل اسم فيه دعوى ما ليس للمسمى، فيحمل من الدعوى والتزكية والكذب ما لا يقبل بحال. ومنه ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك) متفق عليه. ومثله قياساً على ما حرمه الله ورسوله: سلطان السلاطين، حاكم الحكام، شاهنشاه، قاضي القضاة. قال ابن القيم: [وقال بعض العلماء وفي معنى ذلك كراهية التسمية بقاضي القضاء وحاكم الحكام فان حاكم الحكام في الحقيقة هو الله، وقد كان جماعة من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة وحاكم الحكام قياساً على ما يبغضه الله ورسوله من التسمية بملك الأملاك وهذا محض القياس] تحفة المولود ص 91. وكذلك تحريم التسمية بمثل: سيد الناس، سيد الكل، سيد السادات، ست النساء. ويحرم إطلاق (سيد ولد آدم) على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم) رواه مسلم.
7. قال ابن القيم: التسمية بأسماء الشياطين، كخنزب، والولهان، والأعور، والأجدع، وقد وردت السنة بتغيير اسم من كان كذلك. ومن ضوابط الأسماء المكروهة ما يلي: يكره التسمي بما تنفر النفوس من معناه من الأسماء، إما لما يحمله من معنى قبيح أو مثير للسخرية، كما أن فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بتحسين الأسماء، ومثال ذلك اسم حرب، وهيام وهو اسم مرض يصيب الإبل ونحوها من الأسماء التي تحمل معان قبيحة وغير حسنة. ويكره التسمي بأسماء فيها معان(14/219)
رخوة أو شهوانية، ويكثر هذا في تسمية الإناث، مثل بعض الأسماء التي تحمل أوصافا جنسية أو شهوانية. ويكره تعمد التسمي بأسماء الفساق من المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات ونحوهم، فإن كانوا يحملون أسماء حسنة فيجوز التسمي بها لكن لأجل معانيها الحسنة وليس لأجل التشبه بهم أو تقليدهم. ويكره التسمي بأسماء فيها معان تدل على الإثم والمعصية، مثل سارق وظالم، أو التسمي بأسماء الفراعنة والعصاة مثل فرعون وهامان وقارون. ويكره التسمي بأسماء الحيوانات المشهورة بالصفات المستهجنة، مثل الحمار والكلب والقرد ونحوها. وتكره التسمية بكل اسم مضاف إلى الدين والإسلام، مثل نور الدين وشمس الدين وكذلك نور الإسلام وشمس الإسلام، لما فيها من إعطاء المسمى فوق حقه، وقد كان علماء السلف يكرهون تلقيبهم بهذه الألقاب، ولكن البلوى عمت بمثل هذه الأسماء كاسمي، وقد كان الإمام النووي يكره تلقيبه بمحيي الدين، وشيخ الإسلام ابن تيمية يكره تلقيبه بتقي الدين، ويقول: لكن أهلي لقبوني بذلك فاشتهر. تسمية المولود ص26. ويكره التسمي بأسماء الملائكة، وكذلك بأسماء سور القرآن مثل طه ويس ونحوها، وهذه الأسماء هي من الحروف المقطعة وليست من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن أذكر أن بعض أهل العلم ذكر مراتب الأسماء المستحسنة شرعاً أربعة:
المرتبة الأولى: اسميْ عبد الله وعبد الرحمن، وذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) رواه مسلم. المرتبة الثانية: سائر الأسماء المعبدة لله عز وجل: مثل عبد العزيز وعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الإله وعبد السلام وغيرها من الأسماء المعبدة لله عز وجل. المرتبة الثالثة: أسماء الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولاشك أن خيرهم وأفضلهم وسيدهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن أسمائه كذلك أحمد، ثم أولوا العزم من الرسل وهم إبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، ثم سائر الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. المرتبة الرابعة: أسماء عباد الله الصالحين، وعلى رأسهم صحابة نبينا الكريم، فيستحب التسمي بأسمائهم الحسنة اقتداء بهم وطلبا لرفعة الدرجة. المرتبة الخامسة: كل اسم حسن ذو معنى صحيح جميل.
وخلاصة الأمر أنه ينبغي على الوالد أن يحسن اسم ولده، وأن ينتقي له الأسماء المشروعة، وأن لا يسميه بالأسماء المحرمة والمكروهة، ومنها اسم سالي فهو يطلق على إعصار يضرب سواحل أمريكا، وينبغي تغيير(14/220)
الأسماء القبيحة اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو ثابت في تغييره صلى الله عليه وسلم لعدد من الأسماء القبيحة واستبدالها بأسماء حسنة.
- - -
خرافات متعلقة بعدة الوفاة
تقول السائلة: توفي والدي ودخلت والدتي في العدة فقالت لها بعض النساء إنه يحرم عليها أن ترى أو تتكلم مع غير محارمها، فهل هذا الكلام صحيح، أفيدونا؟
الجواب: يشيع في مجتمعنا وخاصة بين النساء كلام كثير يتعلق بعدة الوفاة، لا أصل له في الدين، فمثلاً يقال بأن المرأة المتوفى عنها زوجها تدخل عدة الوفاة متى شاءت! ويقال بأن المرأة الكبيرة في السن لا تعتد عدة الوفاة! ويقال بأن المعتدة عدة وفاة لا يجوز أن يراها الرجال الأجانب مطلقاً! وإذا رأوها بطلت عدتها! ويقال بأن المعتدة عدة وفاة لا تتكلم مع غير محارمها! ولا ترد على الهاتف! ولا تنشر الغسيل! إلى غير ذلك من الأقاويل التي ليس لها مستند شرعي، والأصل أن نتلقى الأحكام من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن عدة الوفاة أمر تعبدي أوجبه الله على المرأة. ويجب أن يعلم أولاً أن عدة الوفاة فريضة على كل امرأة مات عنها زوجها، سواء كانت عجوزاً أو غير عجوز، وسواء كانت تحيض أو لا تحيض، والمدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم عدة الوفاة، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} سورة البقرة الآية 234. فالآية الكريمة عامة في كل زوجة مات عنها زوجها لقوله تعالى {أَزْوَاجاً} فيجب على كل زوجة مات عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، إلا إذا كانت حاملاً فتعتد بوضع الحمل على الراجح من أقوال أهل العلم. ويدل على وجوب العدة قوله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ} فهذا خبر بمعنى الأمر والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب.(14/221)
قال العلامة ابن القيم: [وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما دل عليه عموم القرآن والسنة] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/664. ويجب أن يعلم ثانياً أن عدة الوفاة تبدأ عقيب وفاة الزوج، فتحسب المتوفى عنها زوجها عدتها من يوم موت زوجها، وهذا باتفاق الفقهاء وليس صحيحاً أن المرأة المتوفى عنها زوجها تختار وقت دخولها في عدة الوفاة. ثالثاُ: تنتهي عدة الوفاة بانقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ وفاة الزوج، إذا لم تكن الزوجة حاملاً، وأما الحامل فتنقضي عدتها بوضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سورة الطلاق الآية 4.
رابعاً: تستقر المعتدة عدة وفاة في بيت الزوجية، فقد ورد في الحديث عن فُرَيعة بنت مالك - وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما - قالت: (خرج زوجي في طلب عبيدٍ له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال: تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله) ، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح. قال الإمام الشوكاني: [وقد استدل بحديثها - أي الفريعة - هذا على أن المتوفى زوجها عنها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه، ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم] وذكر الشوكاني أن هذا قول جماهير أهل العلم. نيل الأوطار 6/336. ولا تخرج المعتدة من بيتها إلا للأمور الحاجية والضرورية، كالذهاب إلى المستشفى للعلاج، ولشراء حوائجها من السوق كالطعام واللباس ونحو ذلك، هذا إذا لم يكن عندها من يقضي لها حوائجها. وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمعتدة أن تخرج من بيتها للعذر فعن جابر رضي الله عنه قال: (طُلقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تجدُ نخلاً لها فلقيها رجلٌ فنهاها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: اخرجي فجُدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيراً) . رواه مسلم. [وروي جواز خروج المتوفى عنها للعذر عن جماعة منهم(14/222)
عمر رضي الله عنه، أخرج عنه ابن أبي شيبة أنه رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها. وأن زيد بن ثابت رضي الله عنه رخص لها في بياض يومها. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له ابنة تعتد من وفاة زوجها فكانت تأتيهم بالنهار فتحدث إليهم فإذا كان بالليل أمرها أن ترجع إلى بيتها. وأخرج أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه في نساء نُعي إليهن أزواجُهن وتَشَكَّين الوحشة، فقال ابن مسعود: يجتمعن بالنهار ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل ... وروى الحجاج بن منهال أن امرأة سألت أم سلمة بأن أباها مريض وأنها في عدة وفاة فأذنت لها في وسط النهار. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلاً أن رجالاً استشهدوا بأحد فقال نساؤهم: يا رسول الله إنّا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها] نيل الأوطار 6/336- 337. وإذا خرجت المعتدة لغير حاجة فعدتها لا تبطل وتستغفر الله عز وجل وتتوب.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [عن امرأة معتدة عدة وفاة، ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية: فهل يجب عليها إعادة العدة؟ وهل تأثم بذلك؟ فأجاب: العدة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشراً من حين الموت، ولا تقضي العدة. فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه ولم تبت إلا في منزلها فلا شيء عليها. وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة أو تركت الإحداد، فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك، ولا إعادة عليها] مجموع الفتاوى 34/28. والمعتدة لا تخرج لصلاة الجمعة ولا لصلاة الجماعة فالنساء ليس عيلهن جمعة ولا جماعة.
خامساً: على المعتدة عدة وفاة أن تحدَّ على زوجها ويلزمها أن تتجنب الملابس الجميلة المزينة ويجوز لها أن تلبس ما عداها، ولا يعني أن تكون هذه الملابس سوداء كما جرت عادة النساء في بلادنا. وعليها أن تتجنب جميع أنواع العطور والمكياج والكحل. وأن تتجنب التزين بالذهب والفضة ونحوهما، فقد ورد في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (كنا نُنهى أن نحدَّ على ميتٍ فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار - نوع من البخور -) . رواه البخاري ومسلم، وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتوفى عنها زوجها لا تلبس(14/223)
المعصفر من الثياب ولا الممشقة - المصبوغة - ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/438.
سادساً: لا تسافر المعتدة عدة وفاة مطلقاً، ولا لحج أو عمرة استدلالاً بحديث الفريعة السابق، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه (أنه كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج) رواه مالك في الموطأ والبيهقي وعبد الرزاق. وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال: (كان عمر وعثمان يرجعانهن حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة) المصنف 7/33] ، وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولو كانت حجة الإسلام، فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام] المغني 8/168.
سابعاً: يجوز للمعتدة أن ترى الرجال الأجانب وأن ينظروا إليها، وتتكلم معهم ما دام أن كل ذلك ضمن الضوابط الشرعية المقررة كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} سورة الأحزاب الآية 32، ولو رآها شخص أجنبي أو كلمها أثناء عدتها فلا تبطل عدتها، وكذلك لا يحرم عليها أمر من الأمور إلا ما ورد الشرع بتحريمه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشراً، وتتجنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين ولا تتطيب ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها ولها أن تأكل كل ما أباحه الله ... ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز والخياطة والغزل وغير ذلك مما تفعله النساء، ويجوز لها ما يباح لها في غير العدة، مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة وغير ذلك، وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن، مجموع الفتاوى 34/27-28. وقال الرحيباني الحنبلي: [لها- للمعتدة - التجمل بالفرش والستور، وأثاث البيت لأن الإحداد في البدن لا في الفرش ونحوه، ولها التنظيف بالحمام إن لم يكن فيه خروج محرم وغسل الرأس، ومشطه وتقليم الأظفار والاستحداد، وإزالة الأوساخ؛ لأنها ليست من الزينة] أسنى المطالب 17/450.(14/224)
ثامناً: لا يجوز لأحد أن يتقدم لخطبة المعتدة صراحة خلال مدة العدة، ويجوز التعريض بذلك أي التلميح لقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} سورة البقرة الآية 235
وخلاصة الأمر أن عدة الوفاة فريضة شرعية وهي مسألة تعبدية لا تؤخذ أحكامها إلا من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يعتمد في ذلك على ما هو شائع ومنتشر بين الناس، وقد بينت أهم أحكام المعتدة عدة وفاة باختصار.
- - -(14/225)
انتفاع بعض الورثة بالتركة والمنع من تقسيمها
يقول السائل: مضى على وفاة والدي أكثر من عشر سنوات، وقد ترك أموالاً وعقارات وقطعة أرض، وما زالت تركته غير مقسَّمة، وبعض الورثة ينتفع بالعقارات، ويرفض تقسيم التركة مع إلحاحي على القسمة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن الواجب بعد وفاة الميت مباشرة هو تجهيزه للدفن بالسرعة الممكنة، وتكون تكلفة ذلك من مال الميت، ولا يصح تأخير دفنه، فالإسراع في دفن الميت أمرٌ مطلوبٌ شرعاً، وقد نصت السنة النبوية على ذلك، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحةً فخير تقدمونها إليه وإن يكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) رواه البخاري ومسلم. والإسراع بالجنازة يشمل السرعة حال حملها والإسراع بها إلى الدفن، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال القرطبي: مقصود الحديث: أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن] فتح الباري 3/235. ويؤيد المسارعة في الدفن ما رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن، المصدر السابق. ويؤيده أيضاً ما رواه أبو داود بإسناده أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: (إني لا أُرَى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) . ويؤيده أيضاً ما رواه الترمذي وأحمد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث يا علي لا يؤخرن: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم - هي المرأة التي لا زوج لها - إذا وجدت لها كفؤاً) ، وذكر ابن الجوزي عن بعض السلف أنه قال: (كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس، إطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب) أحكام النساء ص304. فإذا تم َّ دفن الميت فهنالك عدة حقوق تتعلق بتركته وهي كما يلي: قضاء الديون التي في ذمة الميت، ويدخل فيها مهر زوجته ونحو ذلك من حقوق الآدميين، والديون المتعلقة بحقوق الله عز وجل كالزكاة وحج الفريضة والكفارات. وبعد ذلك تنفذ وصايا الميت فيما لا يزيد عن ثلث التركة،(14/226)
وينبغي أن يعلم أن قضاء الدين مقدم على تنفيذ وصايا الميت وإن كانت الوصية مقدمة على الدين في آية المواريث، يقول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . وبعد ذلك يوزع الباقي على الورثة حسب التقسيم الشرعي لذلك، ومن المعلوم عند أهل العلم أنه بمجرد وفاة الميت فإن ملكية أمواله تنتقل لورثته وتصير حقاً شرعياً لهم، والأصل أن تقسم التركة على الورثة بعد استيفاء الحقوق المتعلقة بالتركة كما ذكرت سابقاً، ويكون توزيع التركة على الورثة بعد وفاة الميت مباشرة وبعد حصر أمواله وحصر ورثته، وهذا أولى من تأخير التوزيع، حتى وإن تراضى الورثة على التأخير، لأنه قد يترتب على تأخير توزيع التركة مشكلات تقع بين الورثة، وأما أن يمنع بعض الورثة توزيع التركة مع انتفاعهم ببعضها، فهذا أمر محرم شرعاً، لأن هذا من التعدي على حقوق بقية الورثة، وحينئذ يكون انتفاع الوارث ببعض التركة كالعقار المذكور في السؤال من باب الغصب، وهو من الظلم المحرم قال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} سورة غافر الآية 18، وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} سورة الحج الآية 71. وجاء في الحديث القدسي فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم. وجاء في خطبة الوداع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله حرم عليكم دمائكم وأموالكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري. وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حق فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه طوقه من سبع أرضين) رواه أحمد بإسنادين أحدهما صحيح،(14/227)
ورواه مسلم إلا أنه قال: (لا يأخذ أحدٌ شبراً من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة) ، وقوله: (طوقه من سبع أرضين) قيل: أراد طوق التكليف لا طوق التقليد وهو أن يطوق حملها يوم القيامة، وقيل: إنه أراد أنه يخسف به الأرض فتصير البقعة المغصوبة في عنقه كالطوق. وجاء في الحديث عن سالم عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين) رواه البخاري. وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) رواه أحمد والطبراني وابن حبان، وفي رواية لأحمد والطبراني عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أرضاً بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر) . وقال العلامة الألباني: صحيح. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين) رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني في الكبير. وقال العلامة الألباني: حسن صحيح. وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غصب أرضاً ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان) رواه الطبراني من رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني، وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/ 379-381.
وإذا أخذ هذا الوارث- الذي يمنع قسمة التركة- مالاً من الميراث دون موافقة بقية الورثة، فإنه يكون داخلاً ضمن دائرة الكسب الحرام، والكسب الحرام نوع من أكل السحت، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} سورة المائدة الآية 42.(14/228)
وقال الله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة المائدة الآية 62.وقوله تعالى: {لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} سورة المائدة الآية 63. قال أهل التفسير في قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات، أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183. وقال جماعة من أهل التفسير: ويدخل في السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223. وعقوبة هذا الغاصب النار، فقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان، وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189.وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وغير ذلك من النصوص.
وإذا أصر بعض الورثة على المنع من توزيع التركة فإن للورثة الآخرين رفع الأمر إلى القضاء لإجبار الممتنع عل القسمة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أما إذا طلب أحدهما - الشريكان - القسمة، فامتنع الآخر، لم يخل من حالين؛ أحدهما، يجبر الممتنع على القسمة، وذلك إذا اجتمع ثلاثة شروط: أحدها: أن يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة؛ لأن في الإجبار على القسمة حكماً على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه،(14/229)
بخلاف حالة الرضا؛ فإنه لا يحكم على أحدهما، إنما يقسم بقولهما ورضاهما.
الشرط الثاني: أن لا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر، لم يجبر الممتنع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر، ولا ضرار) . رواه ابن ماجه، ورواه مالك في (موطئه) مرسلاً، وفي لفظ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار) .
الشرط الثالث: أن يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يمكن ذلك، لم يجبر الممتنع؛ لأنها تصير بيعاً، والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين ... فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة، أجبر الممتنع منهما على القسمة؛ لأنها تتضمن إزالة ضرر الشركة عنهما، وحصول النفع لهما؛ لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز، كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره، ويتمكن من إحداث الغراس والبناء والزرع والسقاية والإجارة والعارية، ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك، فوجب أن يجبر الآخر عليه؛ لقوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) ] المغني 10/102.
وخلاصة الأمر أنه إذا مات الميت فإنه يجهز ويدفن ثم تقضى ديونه وتنفذ وصاياه في حدود الثلث، وبعد ذلك توزع تركته، وينبغي التعجيل في توزيع التركة، ولا يحل لأحد من الورثة أن يمنع توزيعها، نظراً لتعلق حقوق الآخرين بها.
- - -(14/230)
الجنايات(14/232)
لا يجوز لأحدٍ من الناس أن يتولى تنفيذ العقوبات بنفسه
يقول السائل: إن شخصاً قد قتل أخاه، وقد اعتقل القاتل، ثم أفرج عنه بعد مدة قصيرة لعدم كفاية الأدلة، فهل يجوز لنا شرعاً أن نقتل القاتل مع العلم أننا متأكدون من قتله لأخي، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن قتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر، وقد وردت الأدلة الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قال قول الزور أو قال شهادة الزور، قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت(14/233)
لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233.
وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله (سفك الدم) أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله (بغير حله) في رواية أبي نعيم (بغير حقه) وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها] فتح الباري 12/233-234. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ... كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وغير ذلك من النصوص التي تدل على عظمة النفس المعصومة.
إذا ثبت هذا فإن تنفيذ العقوبات كالقصاص والحدود من اختصاص الحاكم المسلم، وليس من اختصاص الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو غيرها من الجهات. قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي: [لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام، لأنه لم يُقمْ حدٌ على حرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام] المهذب 20/34. وروى الإمام البيهقي بإسناده: [عن(14/234)
أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين يُنْتَهى إلى قولهم من أهل المدينة كانوا يقولون لا ينبغي لأحدٍ أن يقيم شيئاً من الحدود دون السلطان] سنن البيهقي 8/245. وقال الإمام النووي: [أما الأحكام فإنه متى وجب حد الزنا أو السرقة أو الشرب لم يجز استيفاؤه إلا بأمر الإمام، أو بأمر من فوض إليه الإمام النظر في الأمر بإقامة الحد، لأن الحدود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها للإمام] المجموع.
ومما يدل على أن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة مُمَثلةً بالإمام أو من يقوم مقامه، قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} سورة النور الآية 2. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه] تفسير القرطبي 12/161.
وقال الإمام القرطبي أيضاً: [لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر الذين فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود] تفسير القرطبي 2/ 245 - 246.
وقال الإمام القرطبي أيضاً: [اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض] تفسير القرطبي 2/256. وقال ابن رشد القرطبي: [وأما من يقيم هذا الحد – جلد السكران - فاتفقوا على أن الإمام يقيمه وكذلك الأمر في سائر الحدود] بداية المجتهد 2/233. وقال البهوتي الحنبلي: [ (وإقامته) أي: الحد (للإمام ونائبه مطلقاً) أي: سواء كان الحد لله تعالى كحد زنا أو لآدمي كحد قذف، لأنه يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه. ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود في حياته وكذا خلفاؤه من بعده ويقوم نائب الإمام فيه مقامه لقوله صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها) .وأمر برجم ماعز ولم يحضره، وقال في سارق أتي به اذهبوا به فاقطعوه] منتهى(14/235)
الإرادات. وقال الشيخ عبد القادر عوده تحت عنوان (من الذي يقيم الحدّ) : [من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه لأن الحدّ حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام ولأن الحدّ يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير حضوره لازماً فقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. وأمر عليه الصلاة والسلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم وأتي بسارق فقال: اذهبوا به فاقطعوه. لكن إذن الإمام بإقامة الحدّ واجب، فما أقيم حدّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وما أقيم حدّ في عهد الخلفاء إلا بإذنهم] التشريع الجنائي الإسلامي 2/444. وجاء في الموسوعة الفقهية: [اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه وذلك لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني منتفية عن الإقامة في حقه فيقيهما على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود وكذا خلفاءه من بعده] 17/144-145.
وخلاصة الأمر أن القتل العمد جريمة من كبائر الذنوب، وأنه موجبٌ للقصاص كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة البقرة الآية 178، وقد اتفق أهل العلم على أن من يتولى تنفيذ العقوبة هو الحاكم المسلم أو من ينيبه، ولا يجوز لأحد من الناس أن يتولى تنفيذ العقوبات بنفسه، لأن في ذلك فتحاً لأبواب الشرور والمفاسد الكثيرة، التي لا يعلم نتائجها إلا الله عز وجل.
- - -(14/236)
حكم من قُتل في عَماةٍ
يقول السائل: وقعت مشاجرة كبيرة بين عدد كثير من الناس وبعد انتهاء الشجار عثر على جثة شخص مقتول، ولم يعرف قاتله، فماذا يترتب على ذلك، أفيدونا؟
الجواب: إن كثرة القتل والتساهل في دماء الناس من علامات الساعة الصغرى كما ورد في الحديث عن أبي وائل قال كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما فقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً يُرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل) رواه البخاري ومسلم. والهرج: القتل والفتن واضطراب الأمور. وجاء في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال: القتل) رواه مسلم. ومع الأسف فإن الناس قد تساهلوا في أمر عظيم فصار الإنسان يُقتل لأتفه الأسباب، وصارت حرمة دم المسلم لا قيمة لها، مع أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى، وقتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر، وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري.(14/237)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) رواه البخاري، ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233.
وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) ، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء، والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله (سفك الدم) أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله (بغير حله) في رواية أبي نعيم (بغير حقه) وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها] فتح الباري 12/233-234.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ... كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40.(14/238)
وقد ورد في النصوص أن حرمة دم المسلم مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة، بل حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630. ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي.
إذا تقرر هذا فإنه إذا وجد قتيلٌ بعد مشاجرة ولم يُعرف قاتلُه، أو كان هنالك شكٌ كبيرٌ في معرفة القاتل، فلا يجوز شرعاً اتهام شخص معين بالقتل، والحكم في هذه الحال هو ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل في عِمِّيَّة، أو رِمِّيَّة بحجر، أو سوطٍ، أو عصا فعقله عقل الخطأ. ومن قتل عمداً فهو قود. ومن حال بينه وبينه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني وغيرهم بإسناد قوي كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وقال العلامة الألباني حديث صحيح كما في صحيح سنن النسائي حديث رقم 4456. وقوله (في عِمِّيَّة) بكسر العين وتشديد الميم والياء، وهي الأمر الذي لا يستبين وجهه. وقيل كناية عن جماعة مجتمعين على أمر مجهول لا يعرف أنه حق أو باطل. ونقل الدارقطني عن الإمام أحمد بن حنبل: العِمِّيَّا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه. وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضاً. فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس. وقال ابن الأثير في تفسير اللفظين: المعنى أن يوجد بينهم قتيل يُعمَّى أمرُه، ولا يُتبين قاتلُه فحكمه حكم قتيل الخطأ تجب فيه الدية.(14/239)
النهاية في غريب الحديث 3/305. وروى الدارقطني عن طاووس قال في الرجل يصاب في الرِمِّيا - بكسر وتشديد وقصر، بوزن الهجيرى من الرمي، مصدر يراد به المبالغة - في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة، يودى ولا يُقتل به من أجل أنه لا يُدرى منْ قاتلُه. قال الإمام الصنعاني في شرح الحديث السابق: [ ... إنه دليل على أن من لم يُعرف قاتلُه، فإنها تجب فيه الدية وتكون على العاقلة وظاهره من غير أيمان قسامة، وقد اختلف في ذلك: فقالت الهادوية إن كان الحاضرون الذين وقع بينهم القتل منحصرين لزمت القسامة وجرى فيها حكمها من الأيمان والدية، وإن كانوا غير منحصرين لزمت الدية في بيت المال، وقال الخطابي: اختلف هل تجب الدية في بيت المال، أو لا؟ قال إسحاق بالوجوب، وتوجيهه من حيث المعنى أنه مسلمٌ مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال المسلمين، وذهب الحسن إلى أن ديته تجب على جميع من يحضر، وذلك لأنه مات بفعلهم، فلا تتعداهم إلى غيرهم، وقال مالك إنه يهدر؛ لأنه إذا لم يوجد قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وللشافعي قول إنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف، فإن حلف استحق الدية، وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة، وذلك لأن الدم لا يجب إلا بالطلب، وإذا عرفت هذا الاختلاف وعدم المستند القوي في أي هذه الأقوال، وقد عرفت أن سند الحديث قوي كما قاله المصنف علمت أن القول به أولى الأقوال] سبل السلام 5/388.
وما رجحه الإمام الصنعاني هو الراجح لقوة دليله، فمن وجد مقتولاً بعد مشاجرة ولا يعرف قاتله، ففيه دية قتل الخطأ وتقسم الدية على من حضر الشجار وعلى عواقلهم، ولا يجوز شرعاً تحميل شخص بعينه القتل ما دام أنه لم يثبت أنه قاتل، وأمر القاتل إلى الله كما ورد عن عمر بن عبد العزيز أنه كُتب إليه في رجلٍ وجد قتيلاً لم يُعرف قاتله فكتب إليهم أن من القضايا قضايا لا يُحكم فيها إلا في الدار الآخرة وهذا منها. المغني 10/7.
وخلاصة الأمر أن حرمة المسلم حرمة عظيمة، و {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} سورة المائدة الآية 32، وأن حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من حرمة الكعبة، وأن تساهل الناس في أيامنا هذه في القتل بغير حق من علامات الساعة الصغرى، وأن من وجد مقتولاً بعد مشاجرة ولا يُعرف قاتلُه، ففيه(14/240)
دية قتل الخطأ وتقسَّم الدية على من حضر الشجار وعلى عواقلهم، ولا يجوز شرعاً تحميل شخص بعينه القتل ما دام أنه لم يثبت أنه قاتل.
- - -(14/241)
متفرقات(14/244)
قرارات المجامع الفقهية مقدمة على الفتاوى الفردية
يقول السائل: ظهر في هذا العصر عدد من المجامع الفقهية والتي تبحث قضايا فقهية وتصدر عنها قرارات بعد اجتهاد جماعي فما قولكم في هذه المجامع الفقهية، وما قوة قراراتها من الناحية الشرعية، أفيدونا؟
الجواب: الاجتهاد الجماعي الذي تمارسه مجامع الفقه الإسلامي المعاصرة، يُعدُّ مَعْلَماً من معالم مسيرة الفقه الإسلامي في العصر الحاضر، ولا شك أن وجود هذه المجامع وصدور الآراء الفقهية الجماعية عنها يعطي قوةً للفقه الإسلامي، وخاصة أن المجامع الفقهية تتصدى لكثير من النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة، وهذا يجعل الفقه الإسلامي قادراً على مواجهة تطور الحياة العصرية.
ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، فقد روى ميمون بن مهران: (أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر، كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاءً، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمرٍ قضى به ... ) سنن الدارمي 1/40.
وروى الإمام النسائي في باب الحكم باتفاق أهل العلم بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثروا على عبد الله - ابن مسعود - ذات يوم فقال عبد الله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون فمن عرض له منكم قضاءٌ بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاء أمرٌ(14/245)
ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ولا يقول إني أخاف وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمورٌ مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. قال أبو عبد الرحمن – النسائي- هذا الحديث جيد جيد.
ثم روى النسائي بإسناده عن شريح أنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض به الصالحون، فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك والسلام عليكم] سنن النسائي 8/230.
وروى البيهقي عن ميمون بن مهران أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم فإذا اجتمعوا على الأمر قضى بينهم. السنن الكبرى 10/114.
وقال الإمام الجويني: [والمعتقد أنه لا يفرضُ وقوعُ واقعةٍ مع بقاءِ الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسكٌ بحكم الله فيها. والدليل القاطع على ذلك أَن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم استقصَوْا النظرَ في الوقائع والفتاوىَ والأَقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيها متعَلَّقاً، راجعوا سُنَنَ المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن لم يجدوا فيها شفاءً، اشتوروا، واجتهدوا، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرِهم، إِلى انقراض عصرهم، ثم استنَّ مَن بعدهم بسنتهم] غياث الأمم.
وقد ذكر ابن الجوزي في حوادث سنة سبع وثمانين للهجرة أن عمر بن عبد العزيز ولي المدينة فقدم والياً في ربيع الأول وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقدم على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خثيمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون(14/246)
فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً استعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحَرِّجُ على من بلغه ذلك إلا بلغني، فجزوه خيراً وانصرفوا. المنتظم في تاريخ الأمم والملوك 6/278.
وقال العلامة ابن القيم: [ ... ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحد وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصٌ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم. قال البخاري حدثنا سنيد حدثنا يزيد عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع قال كان إذا جاءه الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمَّى صوافي الأمر فرفع إليهم فجمع له أهل العلم فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحق. وقال محمد بن سليمان الباغندي حدثنا عبد الرحمن بن يونس حدثنا عمر بن أيوب أخبرنا عيسى بن المسيب عن عامر عن شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب أن اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين، فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح] إعلام الموقعين 2/156-157.
ومن أهمية الاجتهاد الجماعي في عصرنا الحاضر أنه أقدر على تقديم الحلول للمشكلات المعاصرة، وهذا الأمر جِدُ ظاهرٍ من خلال قرارات المجامع الفقهية التي عالجت كثيراً من القضايا الفقهية المعاصرة، مثل قضايا البنوك الإسلامية والتأمين التعاوني والقضايا الطبية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وتأسيساً على ما سبق فإن القرارات التي تصدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية المعتبرة، ينبغي أن تقدم على الآراء الفردية، وهذا من ضمن أسس منهجي الذي أسير عليه في هذه السلسلة المباركة – سلسلة يسألونك – فإني أعتدُّ كثيراً بما تصدره المجامع الفقهية، وأعتمد عليه في هذه الفتاوى، لأنها أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيها تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد كما ذكرت سابقاً. ولا بد أن أذكر هنا هذه المجامع الفقهية والهيئات العلمية المعتبرة:(14/247)
أولاً: مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومقره في جدة بالمملكة العربية السعودية، وهو أهم المجامع الفقهية وأنشطها. وأعضاؤه من الفقهاء والعلماء والمفكرين في شتى مجالات المعرفة من فقهية وثقافية وعلمية واقتصادية من أنحاء العالم الإسلامي.
ثانياً: المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ومقره في مكة المكرمة. وهو عبارة عن هيئة علمية إسلامية ذات شخصية اعتبارية مستقلة، داخل إطار رابطة العالم الإسلامي، مكونة من مجموعة مختارة من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها.
ثالثاً: هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهي هيئة علمية تتكون من كبار العلماء في المملكة العربية السعودية المتخصصين في الشريعة الإسلامية وهي أكبر هيئة علمية في المملكة.
رابعاً: مجمع الفقه الإسلامي في الهند أنشأ سنة 1989م تحت إشراف كبار علماء الهند المسلمين.
خامساً: مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا وهو مؤسسة علمية تتكون من مجموعة مختارة من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها.
سادساً: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ويتكون من مجموعة مختارة من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها.
سابعاً: مجمع البحوث الإسلامية وقد أنشأ في الأزهر سنة 1961م برئاسة شيخ الأزهر.
وخلاصة الأمر أن عمل المجامع الفقهية عمل مبارك ويقدم خدمة جليلة للفقه الإسلامي، وما يصدر عن المجامع الفقهية من قرارات لا يعتبر في حكم الإجماع الأصولي، ولكن قرارات هذه المجامع مقدمة على اجتهادات أفراد العلماء.
- - -
تركيب برج اتصالات على مئذنة المسجد
يقول السائل: ما حكم تركيب برجٍ للاتصالات فوق مئذنة المسجد، لأن مئذنة المسجد هي أعلى مبنى في بلدتنا، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أولاً من التأكيد أن المساجد لها وضعية خاصة في دين الإسلام، ولا يجوز أن نتعامل مع المساجد كتعاملنا مع أي مبنى آخر، لأن(14/248)
المساجد بيوت الله عز وجل، قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} سورة النور الآيتان36-37. والبيوت المذكورة في الآية الكريمة هي المساجد، كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري ورجحه القرطبي في تفسيره 12/265، وقد قرر أهل العلم أن الأصل في المساجد أنها تبنى لذكر الله تعالى وإقامة الصلاة، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدا} سورة الجن الآية 18، والمساجد لها أحكام خاصة بها وآداب لا بد من المحافظة عليها كي تبقى للمسجد هيبته وحرمته في نفوس المسلمين، لذا يمنع المسلم من فعل أمور كثيرة في المساجد مع أنه يجوز فعلها خارج المساجد، وقد ثبت في الحديث عن بريدة رضي الله عنه (أن رجلاً نشد في المسجد – أي طلب ضالةً له - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بُنيت له) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [في هذين الحديثين فوائد منها: النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويُلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد ... وقوله صلى الله عليه وسلم (إنما بنيت المساجد لما بُنيت له) معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها] شرح النووي على مسلم 2/215. وقال الإمام القرطبي بعد أن ذكر حديث بريدة السابق: [وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن. وكذا جاء مفسراً من حديث أنس قال: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه دعوه. فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن) ... وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجلٍ في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت!] تفسير القرطبي(14/249)
12/269. ونقل العينى عن المحب الطبري قوله: [إن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب فيقتصر على ما ورد فيه النص] عمدة القاري 6/270. وهذه النصوص والآثار وغيرها تدل على أن المسجد له أحكامه الخاصة التي تميزه عن المباني الأخرى، ومئذنة المسجد رمز للمسجد ومن معالم المسجد الهامة، فلا ينظر إليها كمبنى مرتفع فقط، وإنما هي منارة وشعار ينطلق منها الأذان المعلن بعقيدة التوحيد، ومن القواعد المقررة شرعاً وجوب تعظيم شعائر الله، يقول الله تعالى: {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} سورة الحج الآية 30. قال الإمام القرطبي: [ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ... فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك ... ] تفسير القرطبي 12/56. ولا شك أن المساجد داخلة في عموم شعائر الله.
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز تركيب برجٍ للاتصالات فوق مئذنة المسجد، لأن ذلك يتنافى مع تعظيم المسجد كما قررت سابقاً، وفيه إخلالٌ بوقار المساجد وإهدارٌ لهيبة بيوت الله وإضعافها في نفوس الناس فوق ما هي ضعيفة مع الأسف. ويضاف إلى ذلك أن أبراج الاتصالات لا تخلو من ضررٍ صحيٍ على جمهور الناس المجاورين للمسجد ومن حولهم، صحيحٌ أن هنالك عدمَ وضوحٍ في مسألة أضرار أبراج الاتصالات إلى الآن، فهنالك من العلماء المختصين من أثبت ضررها على صحة الإنسان وهنالك من نفاه، ولكن هنالك [بعض الدراسات العلمية التي تناولت تأثير أبراج الاتصالات الخلوية على صحة الإنسان، لما تصدره من إشارات كهرومغناطيسية ذبذباتها عالية جداً وتحتاج إلى طاقة عالية، وبعد فترات طويلة، فإن قربها من الناس قد يكون له أضرار صحية، وقد تساهم في تطوير أمراض سرطانية على المدى البعيد، وحيث إن منظمة الصحة العالمية قد حددت شروطاً لاختيار أماكن إنشاء أبراج الاتصالات منها: ألا يكون البرج داخل منطقة سكنية أو بالقرب من مدارس الطلاب.
وهذا مؤشر على وجود الضرر من أبراج الاتصالات، وبمناقشة الادعاءات القائلة بعدم وجود دليل مادي على أن هنالك مخاطر لهذه الأبراج، نقول إنه لا يوجد في الدول النامية من العلم والخبرة أكثر مما هو(14/250)
متوفر لدى منظمة الصحة العالمية التي اشترطت إنشاء الأبراج خارج المناطق السكنية، لأن خطورتها تتمثل في الذبذبات والترددات التي تنبعث منها مما يؤكد وجود علاقة بين تلك الأبراج وبعض الأمراض الخطيرة، فهذه الموجات لها تأثير كبير على الجهاز العصبي وخلايا المخ وأمراض الأذن والقلب وألم الرأس وغيرها، ولقد أشارت بعض الأبحاث الحديثة إلى أن كثرة استخدام الهاتف النقال يؤدى إلى اضطرابات في السمع وخلل في الجهاز العصبي، فما بالكم بمحطات التقوية والأبراج التي تعتبر المصدر الرئيس المغذي لهذه الموجات والذبذبات. وبهذا الخصوص أعدت منظمة الصحة العالمية دراسات حول تأثيرات الإشعاعات المنبعثة عن أبراج الاتصالات على سلامة الإنسان والتي تؤكد أن الأبراج والهواتف النقالة تصدر أشعة (غاما) التي تعد إحدى المسببات الخطرة لأمراض السرطان خصوصاً إذا لم تلتزم بشروط السلامة الصحية] وورد في بعض الدراسات أن بعض المتخصصين بينوا مخاطر أبراج الاتصالات على المدى البعيد وليس المباشر مما ينذر بخطر يشمل كل أهالي الذين هم على مقربة أو تماس مباشر بالبرج الذي يسبب تلوثاً كهرومغناطيسيا يؤدي للإصابة بالعديد من الأمراض الخطيرة. بل وقد يتسبب البرج بعدد من المشاكل لمرضى القلب حيث يؤثر على عمل أجهزة تنظيم دقات القلب، كما يؤثر بشكل سلبي على القدرة العامة للأفراد حيث يتسبب بالخمول والشعور المستمر بالتعب والإرهاق كما أن له تأثيرات مستقبلية على المدى البعيد وبالخصوص على الأطفال فقد أثبتت إحدى الدراسات الحديثة أوردها أحد المعاهد البريطانية المختصة ببحوث السرطان أن الإشعاعات الناتجة عن أبراج نقل الكهرباء أو الهاتف تسبب تلوثاً كهرومغناطيسيا غير مرئي يسبب سرطان الدم والعديد من الأمراض الخطيرة الجسدية والنفسية والتي قد تتدرج في الظهور على مراحل، كما أنها تسبب حالات من الإرهاق والقلق والتوتر والأرق وتأثيرها على المدى البعيد بالنسبة للأطفال كما ويعتقد أنها تسبب سرطان الدم (اللوكيميا) وسرطان الثدي لدى النساء وأمراض الجهاز العصبي المركزي ومنها الزهايمر، ومن الآثار السلبية للترددات الصادرة عن محطات الهاتف المحمول الحرارة المستحثة الناتجة من جراء التعرض لمجال راديوي قد تسبب نقصاً في القدرة البدنية والذهنية وتؤثر في تطور ونمو الجنين وقد تحدث عيوباً خلقية وتؤثر في خصوبة النساء، كما أن لها تأثيراً على الخلية وتفاعلاتها الكيميائية في جسم الإنسان ونسبة السوائل(14/251)
في الجسم ويعد وجود برج للجوال أو أعمدة للأسلاك الكهربائية بالقرب من المنازل أمراً خطيراً ويسبب الضرر وقد أثبتت العديد من الدراسات والمنظمات الطبية والبيئية ذلك، وهناك قائمة طويلة من الأعراض والأمراض المتهمة بها هذه الأشعة] عن شبكة الإنترنت بتصرف. ومن المعلوم أن شريعتنا الإسلامية قد منعت إلحاق الضرر بالناس، فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250، وفي إرواء الغليل 3/408. وقد أخذ الفقهاء من الحديث السابق القاعدة الفقهية الكلية (لا ضر ولا ضرار) : ومعناها أن الفعل الضار محرم، وقد تفرع على القاعدة السابقة أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ورد في شرح المادة رقم 30 من مجلة الأحكام العدلية [درء المفاسد أولى من جلب المنافع، أي إذا تعارضت مفسدة ومصلحة، يقدم دفع المفسدة على جلب المصلحة، فإذا أراد شخص مباشرة عمل ينتج منفعةً له ولكنه من الجهة الأخرى يستلزم ضرراً مساوياً لتلك المنفعة أو أكبر منها يلحق بالآخرين، فيجب أن يقلع عن إجراء ذلك العمل درءً للمفسدة المقدم دفعها على جلب المنفعة، لأن الشرع اعتنى بالمنهيات أكثر من اعتنائه بالمأمور بها] درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/41، فالمفاسد المترتبة على تركيب أبراج الاتصالات على مئذنة المسجد بعضها متحقق وبعضها متوقع وما كان كذلك فدفعه مقدم على جلب المصالح.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً تركب برج اتصالات على مئذنة المسجد، لأن ذلك يتنافى مع تعظيم بيوت الله عز وجل، ويجب أن تصان المساجد عن مثل هذه الأمور. ولأنه لم يثبت إلى الآن انتفاء الأضرار الصحية لأبراج الاتصالات.
- - -(14/252)
حكم عملية ربط المعدة
يقول السائل: إنه يعاني من زيادة الوزن المفرطة مما سبب له مشكلات صحية كثيرة، وقد استعمل عدة وسائل لتخفيف الوزن بدون فائدة وقد نصحه بعض الأطباء بعملية ربط للمعدة، فهل هذا الأمر جائز شرعاً، أفيدونا؟
الجواب: شرع الإسلام التداوي، فإذا مرض الإنسان أو طرأ عليه ما يخل بصحته كالسمنة المفرطة فعليه أن يعالج ما يعرض لصحته من عوارض، وقد دلت نصوصٌ كثيرةٌ على جواز التداوي، منها ما جاء في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: (نعم عباد الله، تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا داءً واحداً، قالوا يا رسول الله، وما هو؟ قال: الهرم) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وغيرهم، وقال العلامة الألباني: حديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 3264. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له شفاء) رواه البخاري ومسلم. وجاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله) رواه مسلم. وغير ذلك من النصوص.
ولا شك أنه يترتب على السمنة المفرطة أضرار صحية كثيرة، لذا فإن علاج السمنة المفرطة داخل تحت عموم النصوص التي تدل على جواز التداوي، وهنالك وسائل ينبغي لمن كانت عنده سمنة مفرطة أن يستعملها قبل اللجوء إلى عملية ربط المعدة، ومن أهمها تقليل الطعام والشراب، فكثرة الطعام والشراب من الأسباب الرئيسة للسمنة المفرطة، وقد وجهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقليل منهما، بل ذكر أن كثرة الطعام من الشرور، كما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدميٌ وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقْمنَ صُلْبَهُ، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسِه) رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم، وقال العلامة الألباني: صحيح. سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم 2265.(14/253)
وورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عظيم البطن فقال بإصبعه لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك) رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح. وقال الشيخ الساعاتي: [لو كان العظم في غير البطن من أعضائه ... كان خيراً لأن عظم البطن يثقل الرجل ويضره ولا يفيده لأنه ينشأ عن كثرة الأكل وكثرة الأكل مذمومة فكأنه صلى الله عليه وسلم يحثه على التقليل من الأكل والشرب لأنه أصح للبدن) الفتح الرباني 17/218.
ومن الوسائل التي تعين على تخفيف السمنة، المداومة على الصوم، كصيام الاثنين والخميس وغيرهما من الأيام كما ورد في الحديث
عن ربيعة بن الغاز أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان يتحرى صيام الاثنين والخميس) رواه ابن ماجة وابن خزيمة وغيرهما وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 1414.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء، والخميس) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ومن الوسائل المعينة على التخلص من السمنة المفرطة ممارسة الرياضة، وخاصة رياضة المشي.
فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) رواه مسلم.
إذا تقرر هذا، فإن عملية ربط المعدة وهي عملية تجرى لتصغير المعدة، تجوز إذا استنفذت الوسائل الأخرى لعلاج السمنة المفرطة التي أشرت إليها، فحينئذ تكون هنالك حاجةٌ ماسةٌ لإجراء هذه العملية، ولا بد من تحقق الضوابط والشروط الشرعية المقررة لجواز العمليات الجراحية بشكل عام وهي: [
الشرط الأول: أن تكون الجراحة مشروعة: فلا يجوز للمريض أن يطلب فعل الجراحة ولا للطبيب أن يجيبه إلا بعد أن تكون تلك الجراحة مأذوناً بفعلها شرعاً، لأن الجسد ملك لله رب السماوات والأرض وما فيهن (فلا يجوز للإنسان أن يتصرف فيه إلا بإذن المالك الحقيقي.
الشرط الثاني: أن يكون المريض محتاجاً إلى الجراحة: أي بأن يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو من أعضاء جسده أو دون ذلك كتخفيف الألم.(14/254)
الشرط الثالث: أن يأذن المريض أو وليه بفعل الجراحة: فإذا رفض المريض ولو كان يتألم فلا يجوز للطبيب أن يجري الجراحة حتى يأذن له.
الشرط الرابع: أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح: ويتحقق هذا الشرط بوجود أمرين: أن يكون ذا علم وبصيرة بالعملية المطلوبة، وأن يكون قادراً على تطبيقها وأدائها على الوجه المطلوب، فلو كان جاهلاً بالكلية كأن تكون خارجة عن اختصاصه أو جاهلاً ببعضها فإنه يحرم عليه فعلها، ويعتبر إقدامه عليها في حال جهله بمثابة الجاني المعتدي على الجسم المحرم بالقطع والجرح. وهنا لا بد من استشارة الأطباء الأخصائيين الثقات قبل القيام بعملية ربط المعدة.
الشرط الخامس: أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة: بمعنى أن تكون نسبة نجاح العملية ونجاة المريض من أخطارها أكبر من نسبة عدم نجاحها وهلاكه، فإذا غلب على ظنه هلاك المريض بسببها فإنه لا يجوز له فعلها.
الشرط السادس: ألا يوجد البديل الذي هو أخف ضرراً من الجراحة: كالعقاقير والأدوية، فإن وجد البديل لزم المصير إليه صيانة لأرواح الناس وأجسادهم حتى لا تتعرض لأخطار الجراحة وأضرارها ومتاعبها كالقرحة الهضمية في بدايته يتم علاجه بالعقاقير والتي ثبت مؤخراً تأثيرها على القرحة وأنها أنجح العلاجات وأفيدها. وقد أشرت لبدائل عملية ربط المعدة. أما إذا كان الدواء أشد خطراً وضرراً ولا ينفع في علاج الداء أو زواله فإنه لا يعتبر موجباً للصرف عن فعل الجراحة كبعض الأمراض العصبية حيث يمكن علاج المريض بالعقاقير المهدئة لكنها لا تنفع في زوال الداء وقد تسبب الإدمان فوجود البديل على هذا الوجه وعدمه سواء. وهنا لا بد من التأكيد أنه إذا ترتب ضرر أكبر على عملية ربط المعدة فتحرم حينئذٍ لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} سورة البقرة الآية 195، ولقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيما} سورة النساء الآية 29.
الشرط السابع: أن تترتب المصلحة على فعل الجراحة: إنما شرعت الجراحة لمصلحة الأجساد ودفع ضرر الأسقام عنها فإذا انتفت تلك المصالح وكانت ضرراً محضاً، فإنه حينئذ ينتفي السبب الموجب(14/255)
للترخيص بفعلها شرعاً وتبقى على أصل الحرمة، ومثال على هذا جراحة إزالة الثآليل بالقطع أو الكت الجراحي فقد ثبت طبياً أن الثآليل لا تزول بالعمل الجراحي، بل فعل القطع والكحت ينتهي بالمصاب إلى عواقب وخيمة وأضرار منها العدوى الجرثومية وتندب موضع الجراحة. وينبغي في هذه المصلحة أن تكون من جنس المصالح التي شهد الشرع باعتبارها وأنها مصلحة مقصودة، أما المبنية على الهوى كجراحة تغيير الجنس فلا يجوز فعلها لعدم اعتبار الشرع لها.
الشرط الثامن: أن لا يترتب على فعلها ضرر أكبر من ضرر المرض: كجراحة التحدب الظهري الحاد فالغالب فيها أنها تنتهي بالشلل النصفي، فعلى الطبيب أن يقارن بين نتائج ومفاسد الجراحة ومفاسد المرض، فإن كانت المفاسد التي تترتب على الجراحة أكبر من المفاسد الموجودة في المرض حرمت الجراحة، لأن الشريعة لا تجيز الضرر بمثله أو بما هو أشد، وأما إذا كان العكس فتجوز] الوجيز في أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها بتصرف يسير، وانظر للتوسع أحكام الجراحة الطبية للدكتور محمد الشنقيطي ص 104-125.
وخلاصة الأمر أن عملية ربط المعدة جائزةٌ شرعاً، إذا استنفذت الوسائل الأخرى لعلاج السمنة المفرطة، ضمن الشروط الشرعية المقررة لأحكام الجراحة الطبية.
- - -
تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى(14/256)
الأعمال العلمية للمؤلف الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة
1. الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية (رسالة الماجستير)
2. بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه)
3. الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية (كتاب)
4. أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية (كتاب)
5. يسألونك الجزء الأول (كتاب)
6. يسألونك الجزء الثاني (كتاب)
7. بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي (كتاب)
8. صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة (كتاب)
9. يسألونك الجزء الثالث (كتاب)
10. يسألونك الجزء الرابع (كتاب)
11. يسألونك الجزء الخامس (كتاب)
12. المفصل في أحكام الأضحية (كتاب)
13. شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق)
14. فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي ج1
15. الفتاوى الشرعية (1) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
16. الفتاوى الشرعية (2) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
17. الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب (بحث)
18. الزواج المبكر (بحث)
19. الإجهاض (بحث)
20. مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات (كتاب)
21. مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني (كتاب)
22. إتباع لا ابتداع (كتاب)(14/260)
23. بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي (دراسة وتعليق وتحقيق)
24. يسألونك الجزء السادس (كتاب)
25. رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي (دراسة وتعليق وتحقيق)
26. الخصال المكفرة للذنوب (يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني) (كتاب)
27. أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (كتاب)
28. التنجيم (بحث بالاشتراك)
29. الحسابات الفلكية (بحث بالاشتراك)
30. يسألونك الجزء السابع (كتاب)
31. المفصل في أحكام العقيقة (كتاب)
32. يسألونك الجزء الثامن (كتاب)
33. يسألونك الجزء التاسع (كتاب)
34. فهرس المخطوطات المصورة ج 2 (الفقه الشافعي) (كتاب)
35. فقه التاجر المسلم وآدابه (كتاب)
وقد ترجم الكتاب إلى اللغة التركية الدكتور ثروت بايندر من جامعة إستنبول
36. يسألونك الجزء العاشر (كتاب)
37. يسألونك الجزء الحادي عشر (كتاب)
38. يسألونك عن الزكاة (كتاب)
39. يسألونك الجزء الثاني عشر (كتاب)
40.فهرس المخطوطات المصورة ج 3 (الفقه الحنفي) (كتاب)
41. يسألونك عن رمضان (كتاب)
42. يسألونك الجزء الثالث عشر (كتاب)
43. فهرس المخطوطات المصورة ج 4 (الحديث النبوي) (كتاب)
44. بيع المرابحة المركبة كما تجريه المصارف الإسلامية في فلسطين (بحث)
45. يسألونك عن المعاملات المالية المعاصرة الجزء الأول (كتاب)
46. يسألونك الجزء الرابع عشر (هذا الكتاب)
موقع الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة على شبكة الإنترنت:
www.yasaloonak.net(14/261)
وعنوان البريد الإلكتروني:
husam@is.alquds.edu
أو:
yasaloonak.net fatawa@(14/262)