ولا شبهة في هذه المعاملة؛ فهي من قبيل المصالح المرسلة، وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز فيها التغيير أو التبديل) .
والرد على ذلك يكون بتناول عدة جزئيات على النحو التالي:
أولاً: الحكم الشرعي إذا ثبت بالدليل، وعُرف مناطه؛ فلا يجوز تغييره ولا تبديله بحال، يستوي في ذلك العقائد والعبادات وغيرها من المعاملات. غير أن تفسير النصوص الشرعية، وتحديد مجال إعمالها، يُرجع فيه إلى المصلحة التي شُرع الحكم لتحقيقها، وذلك في المعاملات بخلاف العبادات التي يقف فيها المجتهد عند النص ولا يتوسع في تفسيره. وهذا أصل أكده الإمام الشاطبي وغيره، غير أنه في جميع الحالات إذا توصل المجتهد بهذا المنهج إلى حكم شرعي فإنه لا يحل تغييره أو تبديله.
وثمة فرق بين العبارتين؛ إذ إن عبارة التغيير والتبديل لأحكام الشريعة تُوهم أنها غير ملزمة للمكلف، وهذا رأي نسب إلى الطوفي الحنبلي، وهو منه بريء (راجع نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص: 533، وما بعدها لكاتب التعليق) ، إذ لم يقل بذلك أحد في تاريخ الاجتهاد الإسلامي. فقد نسب بعض المحدثين إلى الطوفي أنه يقدم المصلحة على النص والإجماع في المعاملات، ورموه بأنه أول من فتح باب الشر، وأن ما قاله "باطل" صادر عن "مضل" "فاجر" "ساقط"، ولا يقول بقوله إلا من هو "أسقط منه"، وأن رأيه في المصلحة "إلحاد مكشوف"، من أعار له سمعاً لم يكن له نصيب من العلم ولا من الدين، وأن مذهبه ليس غلطاً فقط من عالم حسن النية يحتمل التأويل، بل فتنة فتح بابها قاصد شر ومثير فتن. ويقول الإمام أبو زهرة عن الطوفي: [إن مهاجمته للنصوص وفكرة نسخها بالمصالح أسلوب شيعي] .
ثانيًا: هذه المعاملة ليست من باب المصالح المرسلة؛ لأنها وكالة في الاستثمار كما جاء في الفتوى. وقد بينت الشريعة الإسلامية شروط الوكالة وأحكامها. فليست مما سكتت عنه النصوص الشرعية، وهذه الأحكام باتفاق الفقهاء، هي:
1.(9/143)
وجوب النص على أجر الوكيل في عقد الوكالة، سواء كان مبلغاً مقطوعاً أو نسبةً من المال المستثمر.
2. إن أرباح المال المستثمر كلها للموكل، وخسارته عليه بحكم أنه المالك للمال.
3. وجوب إمساك الوكيل حساباً مستقلاً عن عمليات الوكالة تقيد فيه إيرادات العمليات ومصروفاتها؛ حتى تتحدد الأرباح التي يستحقها الموكل بعد خصم أجرة الوكيل.
والوكالة المُدَّعاة في الفتوى، رغم أنها مجرد خيال غير واقع، فهي وكالة باطلة؛ لأنها لم تستوفِ شروطها الشرعية، ولم يترتب عليها الأحكام التي رتبها الشارع عليها.
وخلاصة ردنا على الفتوى أنها لا تطبق على البنوك التي تعمل في مصر، ولا في غيرها من البلاد العربية؛ لأن مناط الفتوى غير متحقق في هذه البنوك؛ فهي ليست وكيلة في الاستثمار، ولا تملك الاستثمار والاتجار في الودائع بطريقة مباشرة بحكم القوانين المنشئة لها، كما أن توظيفها للمال غير مشروع؛ لأنها تقرضها بفائدة محرمة.
وإذا فُرض وجود نظام مصرفي يقوم على أساس الوكالة في الاستثمار؛ فإن هذه الوكالة يجب أن تتوافر شروطها الشرعية، وأن تترتب عليها أحكامها التي لا تُنافي مقتضاها.
إن البنوك الإسلامية تقوم بتلقي الودائع، واستثمارها بطريق مباشر، وبصيغ وعقود شرعية في عقد الوكالة في الاستثمار بجانب صيغ أخرى.) أ. هـ كلام أستاذنا د. حسين حامد نقلاً عن موقع إسلام أون لاين. نت.
ومما يؤكد أن هذه الفتوى غير صحيحة أنها بنيت على تصور خاطىء لما عليه العمل في البنوك الربوية حيث إن حقيقة البنك الربوي أنه تاجر ديون يقترض ويقرض وهذا يغطي أكثر من 75% من أعمال البنوك الربوية وهي لا تقوم بتشغيل الأموال في المشاريع ولا تقوم بالاستثمار الحقيقي.(9/144)
ويضاف لما سبق أن هذه الفتوى مخالفة لجميع ما اتفق عليه أهل العلم في عصرنا من تحريم للربا بجميع أشكاله ومن ذلك:
1. قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فقد جاء فيه ما يلي: فإن مجلس المجمع الفقهي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12 رجب 1406هـ إلى يوم السبت 19 رجب 1406هـ قد نظر في موضوع (تفشي المصارف الربوية وتعامل الناس معها، وعدم توفر البدائل عنها) وهو الذي أحاله إلى المجلس معالي الأمين العام نائب رئيس المجلس. وقد استمع المجلس إلى كلام السادة الأعضاء حول هذه القضية الخطيرة، التي يقترف فيها محرم بيّن، ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع، وأصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، واتفق المسلمون كافة على أنه من كبائر الإثم والموبقات السبع، وقد آذن القرآن الكريم مرتكبيه بحرب من الله ورسوله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كمنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) سورة البقرة الآية 279. وقد صح في الحديث: (لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. كما روى ابن عباس عنه: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل) وروى نحوه ابن مسعود.
وقد أثبتت البحوث الاقتصادية الحديثة أن الربا خطر على اقتصاد العالم وسياسته، وأخلاقياته وسلامته، وأنه وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم، وألا نجاة من ذلك إلاّ باستئصال هذا الداء الخبيث الذي هو الربا من جسم العالم، وهو ما سبق به الإسلام منذ أربعة عشر قرناً.
ومن نعم الله تعالى أن المسلمين بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم ووعيهم لهويتهم، نتيجة وعيهم لدينهم، فتراجعت الأفكار التي كانت تمثل مرحلة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، ونظامها الرأسمالي، والتي وجدت لها يوماً من ضعاف الأنفس من يريد أن يفسر النصوص الثابتة الصريحة قسراً لتحليل ما حرم الله ورسوله.(9/145)
وقد رأينا المؤتمرات والندوات الاقتصادية التي عقدت في أكثر من بلد إسلامي، وخارج العالم الإسلامي أيضاً، تقرر بالاجماع حرمة الفوائد الربوية وتثبت للناس إمكان قيام بدائل شرعية عن البنوك والمؤسسات القائمة على الربا. ثم كانت الخطوة العملية المباركة، هي إقامة مصارف إسلامية خالية من الربا والمعاملات المحظورة شرعاً، بدأت صغيرة ثم سرعان ما كبرت، قليلة ثم سرعان ما تكاثرت حتى بلغ عددها الآن في البلاد الإسلامية وخارجها أكثر من تسعين مصرفاً. وبهذا كذبت دعوى العلمانيين وضحايا الغزو الثقافي الذين زعموا يوماً أن تطبيق الشريعة في المجال الاقتصادي مستحيل، لأنه لا اقتصاد بغير بنوك، ولا بنوك بغير فوائد. وقد وفق الله بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان لتحويل بنوكها الوطنية إلى بنوك إسلامية لا تتعامل بالربا أخذاً ولا عطاءً، كما طلبت من البنوك الأجنبية أن تغير نظامها بما يتفق مع اتجاه الدولة، وإلاّ فلا مكان لها، وهي سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها إن شاء الله. ومن هنا يقرر المجلس ما يلي:
أولاً: يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله تعالى عنه من التعامل بالربا، أخذا وعطاءً، والمعاونة عليه بأية صورة من الصور، حتى لا يحل بهم عذاب الله، وحتى لا يؤذنوا بحرب من الله ورسوله.
ثانياً: ينظر المجلس بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية، التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية، ويعنى بالمصارف الإسلامية كل مصرف ينص نظامه الأساسي على وجوب الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء في جميع معاملاته ويلزم إدارته بوجوب وجود رقابة شرعية ملزمة.
ويدعو المجلس المسلمين في كل مكان إلى مساندة هذه المصارف وشد أزرها، وعدم الاستماع إلى الإشاعات المغرضة التي تحاول أن تشوش عليها، وتشوه صورتها بغير حق.
ويرى المجلس ضرورة التوسع في إنشاء هذه المصارف في كل أقطار الإٍسلام، وحيثما وجد للمسلمين تجمع خارج أقطاره، حتى تتكون من هذه المصارف شبكة قوية تهيئ لاقتصاد إسلامي متكامل.(9/146)
ثالثاً: يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب ويستغني بالحلال عن الحرام.
رابعاً: يدعو المجلس المسئولين في البلاد الإسلامية والقائمين على المصارف الربوية فيها إلى المبادرة الجادة لتطهيرها من رجس الربا، استجابة لنداء الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} سورة البقرة الآية 278. وبذلك يسهمون في تحرير مجتمعاتهم من آثار الاستعمار القانونية والاقتصادية.
خامساً: كل مال جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعاً، لا يجوز أن ينتفع به المسلم - مودع المال - لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شئونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامة للمسلمين، من مدارس ومستشفيات وغيرها، وليس هذا من باب الصدقة وإنما هو من باب التطهر من الحرام.
ولا يجوز بحال ترك هذه الفوائد للبنوك الربوية، للتقوي بها، يزداد الإثم في ذلك بالنسبة للبنوك في الخارج، فإنها في العادة تصرفها إلى المؤسسات التنصيرية واليهودية، وبهذا تغدو أموال المسلمين أسلحة لحرب المسلمين وإضلال أبنائهم عن عقيدتهم، علماً بأنه لا يجوز أن يستمر في التعامل مع هذه البنوك الربوية بفائدة أو بغير فائدة. كما يطالب المجلس القائمين على المصارف الإسلامية أن ينتقوا لها العناصر المسلمة الصالحة، وأن يوالوها بالتوعية والتفقيه بأحكام الإسلام وآدابه حتى تكون معاملاتهم وتصرفاتهم موافقة لها.
2. قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22 - 28ديسمبر 1985م. بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في(9/147)
التعامل المصرفي المعاصر وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث.
وبعد التأمل فيما جرَّه هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله تعالى من تحريم الربا جزئياً وكلياً تحريماً واضحاً بدعوته إلى التوبة منه، وعلى الاقتصار على استعادة رءوس أموال القروض دون زيادة أو نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين.
قرر: أولا: أن كل زيادة (أو فائدة) على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان رباً محرمٌ شرعاً.
ثانياً: إن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام - هي التعامل وفقًا للأحكام الشرعية - ولا سيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل التي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي.
ثالثاً: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف الإسلامية القائمة، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
3. قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، عام: 1385هـ، الموافق 1965م. وقد جاء فيه مايلي:
1. الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
2. كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة) .
3.(9/148)
الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة ... وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته.
4. أعمال البنوك من الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التُّجَّار والبنوك في الداخل: كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
5. الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بفائدة، وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
وخلاصة الأمر أنها فتوى باطلة مصادمة للنصوص ومخالفة لما اتفق عليه علماء الأمة بل إنه قد سبق لشيخ الأزهر الذي ذيل الفتوى بتوقيعه أن أفتى سنة 1989م بتحريم مثل هذه المعاملات الربوية فسبحان مغير القلوب وهذا نص فتواه السابقة: [يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) سورة البقرة 278 - 279.
ويقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبّر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وأجمع المسلمون على تحريم الربا، والربا في اصطلاح فقهاء المسلمين هو: زيادة مال في معاوضة مال بمال دون مقابل. وتحريم الربا بهذا المعنى أمر مجمع عليه في كل الشرائع السماوية، لما كان ذلك، وكان إيداع الأموال في البنوك أو إقراضها أو الاقتراض مناه بأي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدماً زمناً ومقدراً يعتبر قرضاً بفائدة، وكل قرض بفائدة(9/149)
محددة مقدماً حرام، كانت تلك الفوائد التي تعود على السائل داخلة في نطاق ربا الزيادة المحرم شرعاً بمقتضى النصوص الشرعية.
وننصح كل مسلم بأن يتحرى الطريق الحلال لاستثمار ماله، والبعد عن كل ما فيه شبهة حرام لأنه مسؤول يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ مفتي جمهورية مصر العربية.
توقيع: د. محمد طنطاوي سجل 41/124 في 14 رجب 1409هـ الموافق 20/2/1989.
وأخيراً فإن على الناس أن لا ينخدعوا بمثل هذه الفتاوى العرجاء.
ضمان ما يتلفه الحيوان
يقول السائل: إن دابته قد انفلتت من رباطها ليلاً وهربت من مربطها وحطمت في طريقها كمية من البلاط لأحد الجيران فطالبه صاحب البلاط بالتعويض المالي فما الحكم في ذلك؟
الجواب: الأصل عند أهل العلم أن مالك الحيوانات ومن في حكمه هو الضامن إذا كان معها لما تتسبب فيه الحيوانات من جناية على نفس أو مال بضوابط وشروط عند أرباب المذاهب الفقهية.
قال الإمام النووي: [إذا كان مع البهيمة شخص ضمن ما أتلفته من نفس ومال سواء أتلفت ليلاً أو نهاراً وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها لأنها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها وسواء كان الذي مع البهيمة مالكها أو أجيره أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً لشمول اليد وسواء البهيمة الواحدة والعدد] روضة الطالبين 7/400.
وأما إذا لم يكن مع البهيمة أحد من مالك وغيره ففي ذلك تفصيل(9/150)
عند العلماء فقد ورد في الحديث عن حرام بن محيصة عن أبيه أن (ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم فقضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/681. وفي رواية أخرى عن حرام بن محصية الأنصاري عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: (كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه فَكُلِّم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في المصدر السابق.
وقال الشافعي عن الحديث أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله التلخيص الحبير 4/86، والحائط هو البستان إذا كان عليه جدار. عون المعبود 9/350.
وفي رواية أخرى أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه مالك في الموطأ والدارقطني. وحديث البراء يعتبر أصلاً في تضمين أصحاب الحيوانات لما أتلفته حيواناتهم ليلاً لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) . قال الحافظ ابن عبد البر: [ضامن هنا بمعنى مضمون] الاستذكار 22/250.
ومن أهل العلم من يحتج في هذه المسألة بقصة داود وسليمان عليهما السلام في الغنم التي نفشت في الحرث قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّاءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} سورة الأنبياء الآيات 78-79.
قال الشوكاني: [فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية قلت قد ثبت عن(9/151)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عيناً أو قيمةً وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث] تفسير فتح القدير 3/ 418.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [فأما فساد الزروع والحوائط والكروم فقال مالك والشافعي وأهل الحجاز في ذلك ما ذكرناه عنهم في هذا الباب. وحجتهم حديث البراء بن عازب المذكور فيه مع ما دل عليه القرآن في قصة داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ولا خلاف بين أهل اللغة أن النفش لا يكون إلا بالليل. وكذلك قال جماعة العلماء بتأويل القرآن وقال الله عز وجل لمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذكر من ذكر من أنبيائه في سورة الأنعام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فجاز الإقتداء بكل ما ورد به القرآن من شرائع الأنبياء. إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من نسخ في الكتاب أو سنة واردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخلاف ذلك تبين مراد الله فيعلم حينئذ أن شريعتنا مخالفة لشريعتهم فتحمل على ما يجب الاحتمال عليه من ذلك وبالله التوفيق] فتح المالك 8/344-345.
وقد قال جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة بتضمين أصحاب المواشي ما أتلفته مواشيهم ليلاً. قال الإمام البغوي: [ذهب إلى هذا بعض أهل العلم أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها وما أفسدت بالليل يضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار وأصحاب المواشي يسرحونها بالنهار ويردونها بالليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة كان خارجاً عن رسوم الحفظ إلى حد التضييع هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها فإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها أو كانت واقفة وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو فمها وإلى هذا ذهب مالك والشافعي] شرح السنة 8/236.(9/152)
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وإنما وجب - والله أعلم - الضمان على أرباب المواشي فيما أفسدت من الزرع وشبهه بالليل دون النهار لأن الليل وقت رجوع الماشية إلى مواضع مبيتها من دور أصحابها ورحالهم ليحفظوها ويمسكوها عن الخروج إلى حرث الناس وحوائطهم لأنها لا يمكن أربابها من حفظها بالليل لأنه وقت سكون وراحة لهم مع علمهم أن المواشي قد آواها أربابها إلى أماكن قرارها ومبيتها وأما النهار فيمكن فيه حفظ الحوائط وحرزها وتعاهدها ودفع المواشي عنها. ولا غنى لأصحاب المواشي عن مشيتها لترعى فهو عيشها فألزم أهل الحوائط حفظها نهاراً لذلك والله أعلم وألزم أرباب الماشية ضمان ما أفسدت ليلاً لتفريطهم في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل. ولما كان على أرباب الحوائط حفظ حوائطهم في النار فلم يفعلوا كانت المصيبة منهم لتفريطهم أيضاً وتضييعهم ما كان يلزمهم من حراسة أموالهم] الاستذكار 22/254-255.
ويؤخذ من كلام أهل العلم أن تفريق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين إفساد المواشي بالنهار وإفسادها بالليل لأنه بالنهار يمكن التحفظ من الماشية دون الليل فإذا أتلفت بالنهار فالتقصير من أصحاب المزارع في حفظ زروعهم فلا يكون الإتلاف بالنهار موجباً للضمان بخلاف الإتلاف بالليل فإن التقصير يكون من صاحب المواشي فيكون الإتلاف بالليل موجباً للضمان. انظر الضرر في الفقه الإسلامي 1/350.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تخصيص حديث ناقة البراء بإتلاف المزروعات فقط ولم يعتبروا إتلاف الحيوانات لغير المزروعات موجباً للضمان قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن أتلفت البهيمة غير الزرع لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً كان أو نهاراً ما لم تكن يده عليها وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلاً بالضمان على صاحبها وقرأ شريح: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قال والنفش لا يكون إلا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان نهاراً لأنه مفرط بإرسالها. ولنا: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (العجماء جرحها جبار) متفق عليه أي هدر وأما الآية فإن النفش(9/153)
هو الرعي بالليل فكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعاً بالرعي وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره فلا يصح قياس غيره عليه] المغني 9/189.
وأقول إن هذا تفريق غير مسلَّم فإن الشريعة لا تفرق بين متماثلين وما ذهب إليه شريح القاضي هو الراجح إن شاء الله فتضمينه لصاحب الشاة ما أتلفته من غزل الحائك عملاً بالمعنى الذي أرشد إليه حديث ناقة البراء حيث إن حفظ المال من مقاصد الشريعة وما قضى به شريح رواه عبد الرزاق بسنده عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حوَّاك فاختصموا إلى شريح فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم أليلاً وقعت فيه أو نهاراً؟ ففعل ثم قال: إن كان بالليل ضمن وإن كان بالنهار لم يضمن ثم قرأ شريح
: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار. مصنف عبد الرزاق 10/82. فلا معنىً للتفريق بين الزروع وغيرها.
وقد وجدتُ إشارات إلى عدم التفريق بين الزروع وغيرها في كلام بعض أهل العلم. قال الإمام النووي: [وأتلفت زرعاً أو غيره نظر إن أتلفته بالنهار فلا ضمان على صاحبها وإن أتلفته بالليل لزم صاحبها الضمان للحديث الصحيح ... ] روضة الطالبين 7/399. وينبغي أن يعلم أن القول بتضمين أصحاب الحيوانات ما أتلفته حيواناتهم ليلاً إنما يلزمهم الضمان إن قصروا في حفظ حيواناتهم ليلاً أما إن أخذوا بأسباب حفظها فانفلتت بدون تقصير منهم فأتلفت شيئاً فلا ضمان عليهم. قال الإمام النووي: [لو ربط بهيمة وأغلق بابه واحتاط على العادة ففتح الباب لص أو انهدم الجدار فخرجت ليلاً فلا ضمان إذ لا تقصير] روضة الطالبين 7/400.
وخلاصة الأمر أن صاحب الدابة المذكورة في السؤال ضامن لما أتلفته دابته ليلاً إن قصر في حفظها ولم يأخذ بالأسباب الموجبة لذلك فإن لم يقصر فلا ضمان عليه.(9/154)
يحرم بيع اللحوم المثلجة المستوردة على أنها لحوم طازجة
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض اللحامين (الجزارين) من بيعهم اللحوم المثلجة المستوردة على أنها لحوم طازجة حيث إنهم يأتون باللحوم المجمدة ثم يطرونها ويبيعونها للناس على أنها لحوم بلدية طازجة وبأسعار اللحم البلدي مع أن الفرق كبير في السعر والجودة بين اللحم المجمد المستورد وبين اللحم البلدي الطازج، أرجو بيان الحكم الشرعي في ذلك.
الجواب: إن من قواعد البيع والشراء في الشريعة الإسلامية تحريم الغش بكل صوره وأشكاله وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الغش منها ما ثبت في الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله - المطر- قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) . وفي رواية أخرى للحديث السابق عن أنس بن مالك- رضي الله عنه - قال: (خرج رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى السوق فرأى طعاماً مصبراً فأدخل يده فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء فقال لصاحبه: ما حملك على هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد قال: أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد وقال الشيخ الألباني حسن لغيره. صحيح الترغيب والترهيب 2/334-335.
وجاء في حديث آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من حمل السلاح علينا فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم وفي قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث السابق (ليس منا) زجرٌ شديد عن الغش، ورادعٌ من الوقوع في مستنقعه الآسن.
قال شمس الحق العظيم آبادي [قال الخطابي: معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا, يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي(9/155)
والتمسك بسنتي ... وهذا كما يقول الرجل لصاحبه أنا منك وإليك, يريد بذلك المتابعة والموافقة, ويشهد لذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة إبراهيم الآية 36] . عون المعبود شرح سنن أبي داود 9/231.
وجاء في الحديث أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 5/165.
وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيّن ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وهذه الأدلة ظاهرة الدلالة على تحريم الغش باعتباره وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل إذ أن حقيقة الغش هي إخفاء وكتمان ما في السلعة من نقص أو عيب. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29. والغش ينافي عصمة أموال المسلمين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كما جاء في الحديث الشريف من قول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/279. والغش بمقتضى الأحاديث السابقة يعتبر من كبائر الذنوب. قال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي: [تنبيه: عدُّ هذا - الغش - كبيرة هو ظاهر بعض ما في هذه الأحاديث من نفي الإسلام عنه مع كونه لم يزل في مقت الله أو كون الملائكة تلعنه ... وضابط الغش المحرم(9/156)
أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل فيجب عليه أن يعلمه به ليدخل في أخذه على بصيرة، ويؤخذ من حديث واثلة وغيره ما صرح به أصحابنا أنه يجب أيضاً على أجنبي علم بالسلعة عيباً أن يخبر به مريد أخذها وإن لم يسأله عنها كما يجب عليه إذا رأى إنساناً يخطب امرأة ويعلم بها أو به عيباً أو رأى إنساناً يريد أن يخالط آخر لمعاملة أو صداقة أو قراءة ... وعلم بأحدهما عيباً أن يخبر به وإن لم يستشر به كل ذلك أداء للنصيحة المتأكد وجوبها لخاصة المسلمين وعامتهم] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/543.
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً: [ونحن لا نحرم التجارة ولا البيع والشراء فقد كان أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبايعون ويتجرون في البز وغيره من المتاجر، وكذلك العلماء والصلحاء بعدهم ما زالوا يتجرون ولكن على القانون الشرعي والحال المرضي الذي أشار الله تعالى إليه بقوله عز قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 29. فبين الله أن التجارة لا تحمد ولا تحل إلا إن صدرت عن التراضي من الجانبين والتراضي إنما يحصل حيث لم يكن هناك غش ولا تدليس، وأما حيث كان هناك غش وتدليس بحيث أخذ أكثر مال الشخص وهو لا يشعر بفعل تلك الحيلة الباطلة معه المبنية على الغش ومخادعة الله ورسوله فذلك حرام شديد التحريم موجب لمقت الله ومقت رسوله وفاعله داخل تحت الأحاديث السابقة والآتية، فعلى من أراد رضا الله ورسوله وسلامة دينه ودنياه ومروءته وعرضه وأخراه أن يتحرى لدينه وأن لا يبيع شيئاً من تلك البيوع المبنية على الغش والخديعة] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/546.
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي أيضاً: [كله - الغش - حرام شديد التحريم موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش خائن يأكل أموال الناس بالباطل ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه، وكثرة ذلك تدل على فساد الزمان وقرب الساعة، وفساد الأموال والمعاملات ونزع البركات من المتاجر والبياعات والزرعات بل ومن(9/157)
الأراضي المزروعات، وتأمل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس القحط أن لا تمطروا، وإنما القحط أن تمطروا، ولا يبارك لكم فيه) أي بواسطة تلك القبائح والعظيمات التي أنتم عليها في تجاراتكم ومعاملاتكم، ولهذه القبائح التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والصنائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم وهتكوا حريمهم بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً، وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب وأخذ الأموال والحريم، إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة لما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة المتنوعة وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتخيلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها لا يراقبون الله المطلع عليهم، ولا يخشون سطوة عقابه ومقته مع أنه تعالى عليهم بالمرصاد {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} سورة غافر الآية 19. {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} سورة طه الآية 7. {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} سورة الملك الآية 14. ولو تأمل الغشاش الخائن الآكل أموال الناس بالباطل ما جاء في إثم ذلك في القرآن والسنة لربما انزجر عن ذلك أو عن بعضه، ولو لم يكن من عقابه إلا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن العبد ليقذف اللقمة من حرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من حرام فالنار أولى به) . وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنه لا دين لمن لا أمانة له) ] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/547.
وقد ذكر بعض أهل العلم مضار الغش وهي:
1. الغش طريق موصل إلى النار.
2. الغش دليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفسٍ هانت عليه نفسه فأوردها مورد الهلاك والعطب.
3. الغش يبعد عن الله وعن الناس.
4. الغش طريق لحرمان إجابة الدعاء.
5. الغش طريق لحرمان البركة في المال والعمر.
6. الغش دليل على نقص الإيمان.(9/158)
وخلاصة الأمر أن ما يقوم به اللحامون المذكورون في السؤال من بيع اللحوم المجمدة على أنها لحوم طازجة حرام قطعاً وأنه من الغش وهو كبيرة من كبائر الذنوب والمال الذي يأخذونه مال حرام وكسب خبيث والله سبحانه وتعالى لا يبارك فيه والواجب عليهم أن يتوبوا من هذه المعصية الكبيرة وأن يصدقوا في تعاملهم مع الناس فإن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.(9/159)
المرأة والأسرة(9/161)
قراءة الفاتحة عند الخطبة لا تعتبر عقداً
يقول السائل: هل تعتبر قراءة الفاتحة عند الخطبة بمثابة عقد الزواج؟
الجواب: الخطبة هي مقدمة للزواج ووعد بالزواج وليست عقداً فلا يترتب على الخطبة شيء مما يترتب على عقد الزواج وإنما تبيح الخطبة نظر الخاطب إلى وجه المخطوبة وكفيها فقط، على الراجح من أقوال أهل العلم. وأما قراءة الفاتحة عند الخطبة فيجب أن يعلم أولاً أن قراءة الفاتحة في هذا المقام بدعة ليس لها أصل في الشرع. وأجابت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله عن سؤال حول حكم ما جرى العرف به من قراءة الفاتحة قبل الزواج ونحو ذلك مما اعتاد الناس قراءة الفاتحة عنده فما حكم ذلك؟ فأجابت اللجنة: [قراءة الفاتحة بعد الدعاء أو بعد قراءة القرآن أو قبل الزواج بدعة لأن ذلك لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من صحابته - رضي الله عنه - وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) ] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 2/384.
وثانياً: إن قراءة الفاتحة عند الخطبة كما جرى العرف به عند كثير من الناس لا تعتبر عقداً للزواج إذ عقد الزواج لا بد فيه من الإيجاب والقبول والمراد بذلك الألفاظ التي تصدر عن كل واحد من المتعاقدين للدلالة على(9/163)
رضاه بالمعقود عليه وقد نصت المادة 14 من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا على ما يلي: (ينعقد الزواج بإيجاب وقبول الخاطبين أو وكيليهما في مجلس العقد) ويكون الإيجاب والقبول بالألفاظ الصريحة كما ورد في المادة 15 من القانون المذكور.
وثالثاً: يجب كتابة عقد الزواج خطياً وتسجيله في المحاكم الشرعية ولا يُكتفى بالإيجاب والقبول الشفويين لأن في كتابة عقد الزواج خطياً تحقيق لمصالح عظيمة للناس وفيه محافظة على حقوق المتزوجين وقد نص قانون الأحوال الشخصية على ذلك في المادة 17: (أ. يجب على الخاطب مراجعة القاضي أو نائبه لإجراء العقد. ب. يجري عقد الزواج من مأذون القاضي بموجب وثيقة رسمية) .
وخلاصة الأمر أن قراءة الفاتحة ليست عقداً للزواج ولا يجوز شرعاً أن يترتب عليها ما يترتب على عقد الزواج الصحيح.
خروج المرأة من بيتها بغير جلباب من كبائر الذنوب
تقول السائلة: هل خروج المرأة من بيتها بغير جلباب يُعد من كبائر الذنوب أم من صغائرها وما عقوبة من لا تلتزم بالجلباب الشرعي أفيدونا؟
الجواب: إن الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله في حق المرأة البالغة وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم بلا خلاف ونقل بعض العلماء الإجماع عليه وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية من كتاب الله سبحانه وتعالى والأحاديث النبوية فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} سورة الأحزاب الآية 59. وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . سورة النور الآية 31. قال القرطبي: [وقال ابن عطية:(9/164)
ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك فـ {ما ظهر} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه. قلت - القائل القرطبي - هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما] تفسير القرطبي12/229.
وقال ابن كثير: [أي: ولا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، وقال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه] تفسير ابن كثير4/538. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء رضي الله عنها: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها شيء إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) . رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني وذكر له شواهد انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/463. وغير ذلك من الأدلة التي توجب الجلباب الشرعي.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على المرأة المسلمة البالغة أن تلتزم بالجلباب الشرعي ويحرم عليها أن تخرج من بيتها بدون ذلك فإذا خرجت من بيتها بدون الجلباب فهي متبرجة وخاصة إذا أضيف إليه التعطر (والمكياج) عند الخروج من البيت ولبس الملابس الضيقة كالبنطلون والتشبه بالرجال وكذلك تصفيف الشعر والتنمص ونحو ذلك من إظهار الزينة. والتبرج من كبائر الذنوب باتفاق العلماء وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر وأن الأدلة الشرعية تدل عليه. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/96- 97.
وقد توعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتبرجة بأنها لا تدخل الجنة ولا تشم رائحتها كما سيأتي وهذا يدل على أن التبرج من الكبائر. ومن زعم أن(9/165)
التبرج من صغائر الذنوب فقوله باطل مردود عليه لأنه مخالف للنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنها: قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} سورة الأحزاب الآية 33. وقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة النور الآية 60. وورد في الحديث أن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبايعه على الإسلام فقال: (أبايعك على ألا تشركي بالله شيئاً ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى) رواه أحمد وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجلَ يلبسُ لِبْسَةَ المرأةِ والمرأةَ تلبس لِبْسَة الرجل) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني.
وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها؛ فهي زانية) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وحسنه الشيخ الألباني. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/451.
وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لعن الله الواشمات والمُستوشمات والنامصات والمُتنمصات والمُتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) رواه البخاري ومسلم، والنامصة: هي التي ترقق الحاجبين للنساء، والمتنمصة: هي التي يتم ترقيق حواجبها.(9/166)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أنه قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم قال الإمام النووي: [. هذا الحديث من معجزات النبوة, فقد وقع هذان الصنفان, وهما موجودان. وفيه ذم هذين الصنفين قيل: معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها, وقيل: معناه تستر بعض بدنها, وتكشف بعضه إظهاراً بحالها ونحوه, وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. وأما (مائلات) فقيل: معناه عن طاعة الله, وما يلزمهن حفظه. (مميلات) أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم, وقيل: مائلات يمشين متبخترات, مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات يمشطن المشطة المائلة, وهي مشطة البغايا. مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة. ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت) أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوهما] شرح النووي على صحيح مسلم 5/291. ويمكن أن يحمل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) على اللواتي يصففن شعورهن حتى تصبح رءوسهن مثل سنام الجمل.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات) . رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/462.
وعن أبي أذينة الصدفي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن منافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم) رواه البيهقي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 4/464. وغير ذلك من النصوص.(9/167)
وخلاصة الأمر أن التبرج من كبائر الذنوب لأن المتبرجة مستحقة للعن، واللعن إنما يكون على كبائر الذنوب فقط فعلى كل متبرجة أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى وتلتزم بالجلباب وأن تتذكر قول الله عز وجل: {أَلَم يَأْنِ للَّذَينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وِ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنهُمْ فَاسِقُونَ} سورة الحديد الآية 16. وأن تتذكر قول الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) . واعلمي أيتها الأخت المتبرجة أن الحجاب إيمان وطهارة وتقوى وحياء وعفة وأن التبرج معصية لله عز وجل وللرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وموجب للطرد من رحمة الله تعالى لأن المتبرجة ملعونة وكذلك فإن التبرج موجب للنار نسأل الله العفو والعافية.
الحجاب ومسألة التكفير
يقول السائل: ما قولكم فيمن كفر شيخ الأزهر بسبب موقفه من قضية الحجاب في فرنسا؟
الجواب: إن الحجاب أو الجلباب الشرعي فريضة من فرائض الله سبحانه وتعالى وهي قضية مسلَّمة بين علماء الأمة قديماً وحديثاً لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الأحزاب الآية 59. فهذه الآية الكريمة أوجبت اللباس الشرعي على جميع النساء المسلمات. وقال تعالى: {قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}(9/168)
سورة النور الآيتان 30-31. وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (أنها كانت عند أختها عائشة وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا -أي وجهها وكفيها-) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. وغير ذلك من الأدلة.
وما قاله شيخ الأزهر محمد طنطاوي حول الحجاب ونصه: [مسألة الحجاب للمرأة المسلمة فرض إلهي، وإذا قصرت في أدائه حاسبها الله على ذلك؛ ولذلك لا يستطيع أي مسلم سواء كان حاكماً أو محكوماً أن يخالف ذلك، ولا نسمح لغيرنا أن يتدخل في شئوننا كدولة مسلمة هذا إذا كانت المرأة المسلمة تعيش في دولة إسلامية، أما إذا كانت تعيش في دولة غير إسلامية كفرنسا، وأراد المسئولون بها أن يقرروا قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب للمرأة المسلمة، فهذا يعد حقهم، وأكرر أن هذا حقهم الذي لا أستطيع أن أعارض فيه كمسلم لأنهم غير مسلمين. في هذه الحالة عندما تستجيب المرأة المسلمة لقوانين الدولة غير المسلمة، تكون من الناحية الشرعية في حكم المضطر] انتهى كلام شيخ الأزهر.
وأقول إن كلام شيخ الأزهر فيه حق وباطل أما ما قاله عن(9/169)
فرضية الحجاب فهو حق وأما ما زعمه من (حرية فرنسا أن تقرر قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب للمرأة المسلمة، فهذا يعد حقهم، وأكرر أن هذا حقهم الذي لا أستطيع أن أعارض فيه كمسلم لأنهم غير مسلمين) فهذا كلام باطل وموقفه هذا خذلان لمسلمات فرنسا وغيرهن من المسلمات اللواتي يعشن في غير العالم الإسلامي وفي كلام شيخ الأزهر فتح لباب شر واسع على المسلمين في الغرب فغداً ستحذو دول أخرى حذو فرنسا في اتخاذ قرارات بمنع الحجاب وماذا لو اتخذت دول الغرب قرارات بمنع إقامة صلاة الجمعة أو إغلاق المساجد أو منع المسلمين من الأضحية وغير ذلك مما يطمس شخصية المسلمين في الغرب؟!! وكان الواجب الشرعي على شيخ الأزهر أن يطالب الحكومة الفرنسية بإتاحة حرية ممارسة الشعائر الدينية للمسلمين وفق مبادىء الحرية التي تتغنى بها فرنسا أم أن الحرية إذا وصلت للمسلمين فإنها تتوقف!! إنه لأمر مؤسف ومحزن أن يتمكن وزير داخلية فرنسا من انتزاع صك من مشيخة الأزهر يستند إليه في تشريع قانون حظر الحجاب!! إن واجب علماء الأمة أن ينكروا على شيخ الأزهر موقفه السابق وقد حصل هذا الإنكار من عدد كبير من العلماء فقد أنكر عدد من العلماء كلام شيخ الأزهر، واعتبروه باطلاً ولا أصل له في الشرع ولكن ينبغي الحذر الشديد من السقوط في منزلق التكفير حيث إن بعض الناس تسرعوا في تكفير شيخ الأزهر وإخراجه من ملة الإسلام والمسلمين وهذا كلام خطير جداً يجب التحذير منه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) . وعن أبي ذرٍ - رضي الله عنه -أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك) . رواه البخاري،
وفي رواية عند مسلم قال: (ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) أي رجع عليه.(9/170)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب ثم قد يكون فاسقاً وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته] مجموع فتاوى ابن تيمية 12/ 180.
وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين: [للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر. الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} سورة النساء الآية 115. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} سورة التوبة الآية 115. وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} سورة الإسراء الآية15. لكن إن فرَّط بترك التعلم والتبين لم يعذر مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ. وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه كقول صاحب البعير الذي أضلها ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه فقال: [اللهم أنت عبدي وأنا ربك] أخطأ من شدة الفرح] فتاوى العقيدة ص263-264.
وخلاصة الأمر أن الإقدام على التكفير أو التفسيق بغير دليل من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتبر جرأة على دين الله وقولاً على الله بغير علم وهو على خلاف طريقة أهل العلم من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. فالحذر الحذر من إطلاق ألفاظ التكفير أو التفسيق أو التبديع بغير حجة ولا برهان.(9/171)
القواعد من النساء
يقول السائل: ما المقصود بالقواعد من النساء اللواتي ذكرن في سورة النور وما حدود التعامل معهن من حيث النظر والمصافحة أفيدونا؟
الجواب: قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة النور الآية 60. قال الزبيدي: [القاعد من النساء التي قعدت عن الولد وعن الحيض وعن الزوج والجمع قواعد. وفي الأفعال: قعدت المرأة عن الحيض: انقطع عنها وعن الأزواج: صبرت، وفي التنزيل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} قال الزجاج: هن اللواتي قعدن عن الأزواج، وقال ابن السكيت: امرأة قاعد، إذا قعدت عن المحيض، فإذا أردت القعود قلت: قاعدة. وقال أبو الهيثم: القواعد من صفات الإناث، لا يقال رجال قواعد. وفي حديث أسماء الأشهلية: (إنا معاشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم) قال ابن الأثير: القواعد: جمع قاعد، وهي المرأة الكبيرة المسنة، هكذا يقال بغير هاء، أي أنها ذات قعود، فأما قاعدة فهي فاعلة من قولك قد قعدت قعوداً، ويجمع على قواعد أيضاً] تاج العروس من جواهر القاموس 5/ 196
وقد اتفق أهل التفسير على أن القواعد من النساء هن اللواتي لا مطمع للرجال فيهن لكبرهن في العمر وانقطاع الحيض عنهن. أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن الحسن {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} يقول المرأة إذا قعدت عن النكاح. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} يعني المرأة الكبيرة التي لا تحيض من الكبر {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} يعني تزويجاً.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} قال: لا يردنه. تفسير السيوطي 6/223. وقال الإمام القرطبي في تفسير الآية السابقة: [قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} القواعد(9/172)
واحدتها قاعد بلا هاء ليدل حذفها على أنه قعود الكبر كما قالوا امرأة حامل ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل.... وقالوا في غير ذلك قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها بالهاء. القواعد العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن وقعدن عن الولد والمحيض وهذا قول أكثر العلماء، قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها] تفسير القرطبي 12/309. وقال ابن كثير: [والقواعد من النساء، قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد: {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة أي ليس عليهن من الحجر في التستر كما على غيرهن من النساء] تفسير ابن كثير 3/304- 305. فالقواعد من النساء هن الكبيرات في العمر ولا مطمع للرجال فيهن وقد انقطع الحيض عنهن فإذا كانت المرأة كذلك جاز لها التخفف من الجلباب الشرعي كما قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} والمقصود بوضع الثياب الرداء الذي ترتديه المرأة فوق ثيابها وهو الجلباب المعروف الذي ترتديه المرأة فوق
ثيابها عند الخروج من البيت وهذا ما ذهب إليه أهل العلم فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله عنهما في الآية قال: تضع الجلباب. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبرانى والبيهقى في السنن عن ابن مسعود (أن يضعن ثيابهن) قال: الجلباب والرداء. تفسير فتح القدير للشوكاني 4/ 55.
وقال ابن كثير: [. قال ابن مسعود في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال: الجلباب أو الرداء. وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم، وقال
أبو صالح تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار، وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود أن يضعن من ثيابهن وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق] تفسير ابن كثير 3/304- 305.(9/173)
وقال ابن الجوزي [قوله تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي عند الرجال ويعني بالثياب الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار هذا المراد بالثياب لا جميع الثياب] تفسير ابن الجوزي6/62-63.
وقد علل الإمام القرطبي جواز التخفف من الجلباب للقواعد من النساء بقوله: [إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن إذ لا مذهب للرجال فيهن فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب لهن] تفسير القرطبي12/309. وقد بين الله سبحانه وتعالى أنه يجوز للقواعد من النساء وضع الثياب بشرط أن لا يبدين زينتهن للرجال ولا يتبرجن والتبرج عند العلماء هو أن تظهر المرأة زينتها ومحاسنها مما يجب عليها ستره وذلك قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق والتبرج التكشف والظهور للعيون] تفسير القرطبي 12/309.
ومع جواز تخففهن من الثياب إلا أن الاستعفاف خير لهن بنص الآية الكريمة {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في السنن عن عاصم الأحول قال: دخلت على حفصة بنت سيرين وقد ألقت عليها ثيابها، فقلت أليس يقول الله {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قالت: اقرأ ما بعده {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} وهو ثياب الجلباب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} قال: يلبسن جلابيبهن. ذكرهما السيوطي في تفسيره 6/223.
وعليه فلا ينبغي للقواعد من النساء أن يتوسعن في هذا الأمر فيتساهلن في لباسهن تساهلاً كبيراً ويتبرجن فإن ذلك حرام عليهن. [وفي ختم الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إشارة إلى تحذير النساء المتقدمات بالسن - المرخص لهن بترك شيء من الحجاب - من ادعاء كونهن قواعد ولسن(9/174)
كذلك، أو خروجهن - بدعوى الرخصة - متبرجات بزينة وذلك مما لم يأذن به الله تعالى، السميع لما يقلن العليم بما يتصرفن الخبير بما يكتمن في قلوبهن] حجاب المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ص111.
وأما بالنسبة للنظر إلى النساء الكبيرات فلا بأس بالنظر إليهن قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والعجوز التي لا يشتهى مثلها لا بأس بالنظر منها إلى ما يظهر غالباً لقول الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} قال ابن عباس في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} قال: فنسخ واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً الآية وفي معنى ذلك الشوهاء التي لا تشتهى] المغني 7/102 - 103. وأما مصافحة النساء الكبيرات فلا تجوز على الراجح من أقوال أهل العلم لأن الأدلة التي حرمت مصافحة المرأة الأجنبية عامة شاملة لعموم النساء الشابات والعجائز بلا فرق بينهن، قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز والشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين جواباً على السؤال التالي: هل تجوز مصافحة المرأة الأجنبية؟ وإذا كانت تضع على يدها حاجزاً من ثوب وغيره فما الحكم؟ وهل يختلف الأمر إذا كان المصافح شاباً أو شيخاً أو كانت امرأة عجوزاً؟ قال الشيخان المذكوران: [لا تجوز مصافحة النساء غير المحارم مطلقاً سواء كن شابات أو عجائز وسواء أكان المصافح شاباً أم شيخاً كبيراً لما في ذلك من خطر الفتنة لكل منهما، وقد صح أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إني لا أصافح النساء) وقالت عائشة رضي الله عنها (ما مست يد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يد امرأة قط، ما كان يبايعهن إلا بالكلام] ولا فرق بين كونها تصافحه بحائل أو بغير حائل، لعموم الأدلة ولسد الذرائع المفضية إلى الفتنة] فتاوى العلماء للنساء ص 50. وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: [ومن عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم وذكر ما جاء في السنة النبوية الشريفة بشأن المس والمصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية يترجح عندي عدم جواز المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية سواء بدأ بالمصافحة الرجل أو بدأت بها المرأة سواء شابين أو عجوزين أو كان أحدهما شاباً والآخر عجوزاً، لأن الأحاديث التي ذكرنا(9/175)
وأفادت حظر المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية جاءت مطلقة دون أن يرد فيها ما يقيد عدم الجواز بالشاب والشابة وجوازها بالنسبة للعجوز] المفصل في أحكام المرأة 3/239.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للنساء الكبيرات في العمر أن يتخففن من الجلباب بشرط أن لا يتبرجن ولا بأس بالنظر إلى ما يظهر من المرأة الكبيرة التي لا تشتهى وأما مصافحتها فحرام شرعاً.
الإحسان إلى الزوجة من واجبات الزوج
اشتكت مجموعة من النساء من سوء معاملة أزواجهن وقلن إن من أزواجهن من يضربهن ويشتمهن ويسب أهلهن ويسيء معاملتهن وبعضهم يقاطع زوجته الشهر والشهرين وأكثر من ذلك لأسباب تافهة وقالت إحداهن إنكم يا معشر المشايخ تتحدثون دائماً عن حق الزوج على زوجته ولا تتكلمون عن حقوق الزوجة على زوجها فلماذا؟ هلا بينتم لهؤلاء الأزواج حقوق زوجاتهم عليهم.
الجواب: إن الحياة الزوجية في الإسلام تقوم على المودة والمحبة والتفاهم بين الزوجين قال تعالى: (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم الآية 21.
إن الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة وتعني عطف قلوبهم بعضهم على بعض وقال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17.
ويجب على كل من الزوجين أن يعرف ما له وما عليه وقد بين الإسلام واجبات الزوجين وحقوقهما بياناً شاملاً فقد وردت نصوص كثيرة(9/176)
في كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبين حقوق الزوجة على زوجها. يقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة الآية227. ويقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً) رواه الترمذي وصححه.
فمن حقوق الزوجة على زوجها أن يعاملها معاملة كريمة فيها اللطف والرحمة وحسن المعاملة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} سورة النساء الآية 19. قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة والخطاب للجميع إذ لكل أحد عشرة زوجاً كان أو ولياً ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج وهو مثل قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وذلك توفية حقها من المهر والنفقة وألا يعبس في وجهها بغير ذنب وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة ... فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش وهذا واجب على الزوج ... ] تفسير القرطبي 5/97.
وقد حثّ سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حسن معاملة الزوجة في أحاديث كثيرة وقد بوَّب على بعضها الإمام البخاري بتراجم مناسبة فقال: (باب الوصاة بالنساء) ، وقال الإمام البخاري أيضاً: (باب المداراة مع النساء) ، وقال الإمام البخاري أيضاً: (باب حسن المعاشرة مع الأهل) . ومن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) .
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: [وفي الحديث الندب(9/177)
إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وفي سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه] فتح الباري 11/163.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وورد في الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبة حجة الوداع: (واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجة وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/341.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
قال العلامة ابن علان المكي: [ (وخياركم خياركم لنسائهم) وفي رواية (خيركم خيركم لأهله) قال في النهاية هو إشارة إلى صلة الرحم والحث عليها، قيل ولعل المراد من حديث الباب أن يعامل زوجته بطلاقة الوجه وكف الأذى والإحسان إليها والصبر على أذاها قلت ويحتمل أن الإضافة فيه للعهد والمعهود هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمراد (أنا خيركم لأهلي) وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس لأهله وأصبرهم على اختلاف أحوالهم] دليل الفالحين 3/106.
ومن حقوق الزوجة على زوجها وجوب الإنفاق عليها بالمعروف من(9/178)
طعام وشراب وكسوة وغير ذلك من لوازم الحياة وأن لا يحرمها مما تشتهيه وأن لا يكون بخيلاً في النفقة عليها ولا على أولاده وكل ذلك يكون حسب حالة الزوج المالية لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة الآية 233، ولقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} سورة البقرة الآية 286.
وعلى الزوج أن يعلم أن المال الذي ينفقه على زوجته وأولاده له فيه أجر عظيم كما ورد في الحديث من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا أنفق الرجل فهي له صدقة) رواه البخاري ومسلم.
وقد ورد أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود وذكر معنى لا تقبح أي لا تقل قبحك الله. وهو حديث حسن صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/402.
ومن حقوق الزوجة على زوجها أن لا يفشي أسرارها وأن لا يذكر عيوبها لما ورد في الحديث أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم.
ومن حقوق الزوجة على زوجها أن يأذن لها بزيارة أهلها وأقاربها وجيرانها وكذلك إذا استأذنته بالخروج إلى صلاة الجماعة والجمعة بشرط أن يكون خروجها شرعياً فلا تمس طيباً ولا تخرج متزينة مع أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ولا ينبغي لزوج منع زوجته من الذهاب إلى المسجد إلا إذا خشي الفتنة عليها أو إذا خرجت متعطرة فيجوز له حينئذ منعها لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن) رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح.
وعلى المرأة إذا خرجت من بيتها قاصدة حضور الجماعة أو الجمعة أن تخرج وهي ملتزمة بأحكام الشرع من حيث اللباس والمشي وترك الزينة والطيب فقد ورد في الحديث عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (لا تمنعوا إماء الله(9/179)
مساجد الله وليخرجن تفلات) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني ومعنى تفلات: غير متطيبات. وفي حديث آخر قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا شهدت إحداكن المساجد فلا تمس الطيب) رواه مسلم.
ومن حقوق الزوجة على زوجها أن يفقهها في دينها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} سورة التحريم الآية 6. ويجب على الزوج أن يأمرها وأولاده بالمحافظة على الصلاة لقوله الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} سورة طه الآية 132.
هذه أهم حقوق الزوجة على زوجها باختصار وينبغي أن يعلم أنه يحرم على الزوج أن يسب زوجته وأهلها أو يلعنها فعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه.
كما ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للزوج أن يهجر زوجته في الكلام فوق ثلاثة أيام لقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم. وأما الهجر في المضجع المذكور في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع} سورة النساء الآية 34. فهذا الهجر سببه النشوز وأجازه جماعة من العلماء إلى شهر كما هجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسائه شهراً.
لا ينبغي البحث عن الماضي السيئ للزوجين
يقول السائل: إنه تزوج فتاة وهي زوجة صالحة محافظة على صلاتها وأخلاقها وهو يحبها وتحبه وقد اعترفت له بأنها كانت على علاقة مع رجل قبل الزواج وقد زنت وهو في حيرة من أمره هل يطلقها أم يستر عليها أفيدونا؟
الجواب: الواجب على الإنسان ذكراً كان أو أنثى أن لا يتحدث عن(9/180)
ماضيه السيئ وأن يستتر بستر الله تبارك وتعالى ما دام أنه قد تاب ورجع إلى جادة الصواب وهذا الأمر أشد تأكيداً في حق الزوجين فلا ينبغي أن يتحدثا بما ارتكبا من المعاصي قبل الزواج لما في ذلك من ضرر بليغ على حياتهما الزوجية ولا ينبغي لأحد من الزوجين البحث في ماضي الآخر لأن العبرة بما عليه صاحبه الآن فما دام مستقيماً وملتزماً بدين الله فهذا هو المطلوب بغض النظر عما ارتكب من المعاصي في حياته السابقة فقد يكون الإنسان كافراً ثم يسلم فإن الإسلام يجب ما قبله والتوبة الصادقة تجب ما قبلها والواجب عليهما أن يبقيا المعاصي السالفة طي الكتمان ولا يفضحا نفسيهما فالمسلم إذا عصى الله تبارك وتعالى سراً فلا يصح له أن يخبر عن ذلك وقد ورد في الحديث عن سالم بن عبد الله قال سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول سمعت رسول الله - رضي الله عنه - يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إلا المجاهرين) هم الذين جاهروا بمعاصيهم, وأظهروها, وكشفوا ما ستر الله تعالى عليهم, فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة] شرح النووي على صحيح مسلم 6/412.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين, وفيه ضرب من العناد لهم, وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف, لأن المعاصي تذل أهلها, ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حداً, وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه, فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة, والذي يجاهر يفوته جميع ذلك] فتح الباري 10/598-599.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن(9/181)
أمسها فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك قال فلم يرد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً دعاه وتلا عليه هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة، قال بل للناس كافة) رواه مسلم.
وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - (أنه شهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلته واقفاً إذ جاءوا بامرأة حبلى فقالت إنها زنت أو بغت فارجمها فقال لها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استتري بستر الله عز وجل، فرجعت ثم جاءت الثانية والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلته فقالت ارجمها يا نبي الله فقال استتري بستر الله تبارك وتعالى فرجعت ثم جاءت الثالثة وهو واقف حتى أخذت بلجام بغلته فقالت أنشدك الله إلا رجمتها ... إلخ الحديث) رواه أحمد.
وروى مالك في الموطأ بإسناده عن زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط فأتي بسوط مكسور فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال دون هذا فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجلد ثم قال: أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) .
والواجب عليك أيها الزوج أن تستر على زوجتك ما دام أنها قد تابت وتقول بأنها زوجة صالحة محافظة على صلاتها وأخلاقها فاستر عليها حتى يستر الله عليك في اليوم الآخر فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. وثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرَّجَ عن مسلم كربة فرَّجَ الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.(9/182)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قال: (لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم.
وورد في حديث آخر أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة) . رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم6287.
وفي رواية أخرى قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من علم من أخيه سيئةً فسترها ستره الله عز وجلًّ يوم القيامة) رواه أحمد وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/449-450.
وقال الفضيل بن عياض رحمة الله عليه: [المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير] .
ولا بد لزوجتك أن تعلم أنها قد وقعت في ذنب عظيم وجرم فظيع فيلزمها التوبة والاستغفار والندم على ما فعلت فإن الله يقبل التوبة من عبده إذا عصاه ثم آب ورجع بل إن الله سبحانه وتعالى يبدل سيئاته حسنات فكيف لا نقبل نحن من قبله الله قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الفرقان الآيتان 68-70
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} سورة التحريم الآية 8.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} سورة البقرة الآية 222.
وخلاصة الأمر فإن الواجب على المسلم إذا وقع في معصية الله أن يستر على نفسه ولا يفضحها فلا يتحدث بمعصيته مع أحد من الناس وأن يتوب إلى الله توبة نصوحاً ومن علم بمعصية أخيه فالواجب أن يستر عليه(9/183)
ولا يفضحه والواجب على السائل أن يستر على زوجته ولا يطلقها ما دام أنها قد تابت وصلح حالها.
لا تصح الرجعة بالنية المجردة عن القول أو الفعل
يقول السائل: حصل خلاف بين زوج وزوجته فطلقها فذهبت الزوجة إلى بيت أبيها وقبل انقضاء عدتها نوى الزوج في نفسه إرجاعها وبقيت الزوجة ثمانية أشهر في بيت أبيها ثم أرجعها بعد أن سأل أحد المشايخ فأفتاه بأنه لا شيء عليه ورجعته لزوجته صحيحة وهي الآن تعيش مع زوجها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: الرجعة هي أن يرد الزوج زوجته بعد طلاق غير بائن ويكون ذلك قبل انقضاء العدة والرجعة مشروعة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} سورة البقرة الآية 229.
قال ابن كثير: [وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أنت تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تضار بها] تفسير ابن كثير 1/546-547.
وقال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سورة البقرة الآية 228.
قال القرطبي: [ثم قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها(9/184)
وإن كرهت المرأة فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد ليس على سنة المراجعة وهذا إجماع من العلماء] تفسير القرطبي 3/120.
وورد في الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الشيخ الألباني صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 2/432.
وروى الإمام البخاري بإسناده عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وغير ذلك من الأحاديث.
وينبغي للزوج أن يراجع زوجته حفاظاً على الأسرة ورعاية للأطفال حتى لا يتعرضوا للتشريد والضياع، والرجعة تصح بالقول باتفاق العلماء كأن يقول الزوج لزوجته راجعتك أو أرجعتك أو يقول أرجعت زوجتي ونحو ذلك من العبارات الصريحة الدالة على الرجعة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما القول فتحصل به الرجعة بغير خلاف وألفاظ راجعتك وارتجعتك ورددتك وأمسكتك لأن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب والسنة فالرد والإمساك ورد بهما الكتاب بقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني الرجعة. والرجعة وردت بها السنة بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مره فليراجعها) وقد اشتهر هذا الاسم فيها بين أهل العرف كاشتهار اسم الطلاق فإنهم يسمونها رجعة والمرأة رجعية ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح وحده لاشتهاره دون غيره كقولنا في صريح الطلاق، والاحتياط أن يقول: راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجتي أو راجعتها لما وقع عليها من طلاقي] المغني 7/524.
وقال جمهور أهل العلم بأن الزوج إذا أرجع زوجته فمن السنة أن(9/185)
يشهد على ذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} سورة الطلاق الآية 2. قال ابن كثير: [وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي على الرجعة إذا عزمت عليها كما رواه أبو داود وابن ماجة عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - (أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة ورجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد) .
وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر] تفسير ابن كثير 6/239.
وقد حمل أكثر أهل العلم الأمر في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على الندب مع أن الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما الشهادة ففيها روايتان: إحداهما: تجب، وهذا أحد قولي الشافعي، لأن الله تعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وظاهر الأمر الوجوب ولأنه استباحة بضعٍ مقصود فوجبت الشهادة فيه كالنكاح وعكسه البيع. والرواية الثانية: لا تجب الشهادة، وهي اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي حنيفة. لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولأن ما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد كالبيع، وعند ذلك يحمل الأمر على الاستحباب ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الإشهاد] المغني 7/522-523. وقال القرطبي: [الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب] تفسير القرطبي 18/158.
وتصح الرجعة عند جمهور العلماء بالفعل كما تصح بالقول وذلك بأن يجامع الرجل مطلقته الرجعية وكذلك تصح الرجعة بمقدمات الجماع كاللمس بشهوة والقبلة بشهوة ونحو ذلك مع نية الزوج إرجاعها وهذا أرجح أقوال أهل العلم في المسألة.
إذا تقرر هذا فأعود إلى السؤال فأقول:(9/186)
أولاً: الواجب أن لا تخرج المطلقة الرجعية من بيت الزوجية لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} سورة الطلاق الآية 1. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المرأة المطلقة تقضي عدتها في بيت الزوجية {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فأضاف الله عز وجل البيوت لهن. قال القرطبي: [أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن كقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك] تفسير القرطبي 18/154. وقد نص قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا في المادة 146 على ذلك فقد جاء فيها (تعتد معتدة الطلاق الرجعي والوفاة في البيت المضاف للزوجين بالسكن قبل الفرقة) .
ثانياً: إن الرجعة لا تصح بالنية المجردة عن القول أو الفعل. فهذا الزوج المذكور في السؤال لم يرجع زوجته الرجعة المعتبرة شرعاً.
ثالثاً: بناءً على ما تقدم فإن عودة الزوجين إلى المعاشرة الزوجية حرام شرعاً لأن الرجعة الشرعية الصحيحة لم تقع وما حصل بينهما إنما هو وطء بشبهة وعليهما تجديد عقد الزواج بمهر جديد لأن العدة قد انقضت ولم يرجع الزوج زوجته بطريق شرعي صحيح فالواجب أن يجددا عقد الزواج وأن يتوبا إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة.
رابعاً: إن الشيخ الذي أفتى بأن الرجعة صحيحة قد أخطأ في فتواه وقوله غير صحيح ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال بفتواه الخاطئة وهذا من الإفتاء بغير علم ومن الجرأة على دين الله عز وجل وإن التسرع في الفتيا خطأ وخطر يفضي إلى عدم إصابة الحق والجرأة على الله تعالى والوقوع فيما نهى(9/187)
عنه يقول تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} ، ومن أفتى بغير علم فعمل بفتواه عامل كان إثم العامل على من أفتاه، وقال عمر بن الخطاب: [أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار] . فلا ينبغي لأحد أن يقتحم حمى الفتوى ولمَّا يتأهل لذلك، وقد قرر أهل العلم أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على أدعياء العلم الذين يتصدرون للفتيا فقال له بعضهم يوماً: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب.
فعلى هذا الشيخ أن يتق الله في نفسه وفي الناس الذين يفتيهم بغير علم.
وطء الزوجة في الدبر من المحرمات ولكنه لا يعد طلاقاً
تقول السائلة: إن زوجها أجبرها على الوطء في الدبر وهي تعلم أن ذلك محرم شرعاً ولكنها سمعت أن المرأة تصير طالقاً إذا أتاها زوجها في دبرها فما الحكم في هذه المسألة أفيدونا؟
الجواب: إن شريعة الإسلام المباركة قد بينت للناس كل الأحكام التي يحتاجون إليها في جميع نواحي حياتهم ومن ذلك طريقة المعاشرة الزوجية الصحيحة والموافقة للفطرة الإنسانية يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} سورة البقرة الآية 222. وقال الله تعالى في الآية بعدها {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} سورة البقرة الآية 223. قال أهل التفسير إن المراد هو إتيان الزوجة في محل الولد وهو المحل الذي أمر الله عز وجل أن(9/188)
تؤتى الزوجة فيه ومن المعلوم عند الناس كافة أن محل الولد هو القبل لا الدبر. انظر تفسير القرطبي 3/90.
وقد وردت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث كثيرة في تحريم إتيان الزوجة في دبرها فمن ذلك:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ملعون من أتى امرأة في دبرها) . رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أتى حائضاً أو امرأةً في دبرها أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود. وقال: (فقد بريء مما أنزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/68.
وعن خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها) رواه أحمد وابن ماجة. وعن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تأتوا النساء في أعجازهن أو قال في أدبارهن) رواه أحمد.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى) رواه أحمد.
وعن علي بن طلق قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (لا تأتوا النساء في أستاههن فإن الله لا يستحي من الحق) . رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن وصححه ابن حبان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا ينظر الله إلى رجل يأتي امرأته في دبرها) رواه الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان وصححه ابن راهويه انظر آداب الزفاف ص105، زاد المعاد 3/257.
وعن خزيمة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/65.
وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها كلام لأهل الحديث فهي صالحة(9/189)
للاحتجاج ومثبتة لتحريم إتيان الزوجة في دبرها قال الحافظ ابن حجر العسقلاني عن هذه الأحاديث: [طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به] فتح الباري 8/241.
وقال الشوكاني: [ولا شك أن الأحاديث المذكورة في الباب القاضية بتحريم إتيان النساء في أدبارهن يقوي بعضها بعضاً] نيل الأوطار6/228. وقد أخذ أهل العلم من هذه النصوص تحريم إتيان المرأة في دبرها قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وطء المرأة في دبرها حرام في قول جماهير العلماء] مختصر الفتاوى المصرية ص 37.
ولم يصح عن أحد من العلماء إباحة ذلك وما روي من أقوال منسوبة لبعض أهل العلم بإباحة ذلك فهي أقوال ضعيفة شاذة وغير ثابتة عنهم. قال الحافظ ابن كثير: [وقال أبو بكر بن زياد النيسابورى. حدثني إسرائيل بن روح سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم إلا قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ لا تعدوا الفرج، قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك- أي إباحة الوطء في الدبر- قال: يكذبون عليَّ يكذبون عليَّ، فهذا هو الثابت عنه، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة، وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء] تفسير ابن كثير 1/265.
وقال القرطبي: [والصحيح في هذه المسألة ما بيناه - تحريم الوطء في الدبر - وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ... } وهذا هو الحق وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم ... وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: ... وقد(9/190)
حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناساً بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا عليَّ، كذبوا عليَّ، كذبوا علي! ثم قال: ألستم قوما عرباً؟ ألم يقل الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم} وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: {أَنَّى شِئْتُمْ} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنا عشر صحابياً بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه (تحريم المحل المكروه) . ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه (إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار) . قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر تكفير من فعله، وهذا هو اللائق به - رضي الله عنه -. وكذلك كذَّب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي] تفسير القرطبي 3/94-95.
وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي إتيان المرأة في دبرها من كبائر الذنوب وهذا هو الحق الذي تؤيده الأدلة فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد لعن من فعل ذلك واللعن لا يكون إلا على كبائر الذنوب. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/62.
وذكر الشيخ ابن القيم حِكماً كثيرة في حرمة وطء المرأة في دبرها فقال: [وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض فما الظن بالحش - الدبر - الذي هو محل الأذى اللازم ... للمرأة حق على الزوج في الوطء ووطؤها في دبرها يفوّت حقها ولا يقضي وطرها ولا يُحصّل مقصودها ... فإنه يذهب بالحياء جملة والحياء هو حياة القلوب فإذا فقدها(9/191)
القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن وحينئذ فقد استحكم فساده] زاد المعاد 3/ 262-263.
وقد أثبت العلم الحديث انتقال عدد كبير من الأمراض الجنسية الخطيرة عن طريق الوطء في الدبر أو اللواط ومنها داء نقصان المناعة المكتسب (الإيدز) وهو مرض قاتل غالباً ما ينتشر بين الشاذين جنسياً الذين يمارسون اللواط (أكثر من 70% من حالات الإيدز) ] الموسوعة الطبية الفقهية ص456. ومع شدة حرمة إتيان المرأة في دبرها فلا يعد طلاقاً، لأن الطلاق لا يكون إلا باللفظ أو الكتابة أو الإشارة المفهمة من أخرس ونحوه ولا تكون الأفعال المحرمة كالزنا واللواط طلاقاً جاء في المادة 86 من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا [يقع الطلاق باللفظ أو الكتابة، ويقع من العاجز عنهما بإشارته المفهومة]
وخلاصة الأمر أنه يحرم إتيان المرأة في دبرها وأنه من كبائر الذنوب. ولا يجوز للمرأة أن تطاوع زوجها في ذلك فإن فعلاه فيجب عليهما أن يتوبا إلى الله توبة صادقة ولا يعودا لذلك مستقبلاً ولا علاقة لإتيان المرأة في دبرها بالطلاق أو تحريم الزوجة.
عدم الالتزام بالأحكام الشرعية يجلب المصائب
يقول السائل: أنا شاب أدرس في غير بلدي، وكان لي صديق يدرس في نفس البلد، هو وزوجته، ثم ضاقت به الظروف فلم يستطع أن يدفع إيجار الشقة فنزل علي ضيفًا هو وزوجته حتى يفرغا من دراستهما وقد كان صديقي كثير الخروج لدروسه، مما سمح بوجود علاقة بيني وبين زوجته بالجماع الكامل لمدة شهرين، ثم عدت إلى دولتي وفوجئت أن هذا الجماع أثمر طفلاً يشبهني وقد أخبرتني زوجة صديقي بأنه ولدي، ولما رأى أبوه الولد أنكره لعدم شبهه به، وهو الآن يفكر جديًّا في طلاقها؛ لأنه يكاد يجزم(9/192)
بأن الولد ليس ولده، وقد مرَّ على الطفل عام ونصف ولم يسجله باسمه، ولا يريد أن يفعل والسؤال: أنا أعرف أنني أخطأت، ومستعد لما تملونه عليّ. ولكن ما ذنب هذا الطفل، وباسم من يسجل، ومن ينفق عليه، ومع من يعيش؟ وهل أعترف لصديقي بالأمر؟ ماذا أفعل أرجوكم.
الجواب: إن الزنا كبيرة من كبائر الذنوب وقد ازداد إثم هذا الزاني لأنه زنى بزوجة جاره بل بزوجة ضيفه، وعلى هذا الزاني أن يتوب إلى الله عز وجل توبة صادقة نصوحا، حيث إنه قد وقع في ذنب عظيم، وهناك قضية مهمة أود الإشارة إليها وهي أن السبب في وقوع هذه المعاصي هو التساهل في الأحكام الشرعية، حيث إن الخلوة التي حصلت بين السائل وزوجة صديقه هي التي أوقعته في جريمة الزنا، ولو أنه التزم بالحكم الشرعي لما وقع في هذه الجريمة قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) رواه مسلم. وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/432.
وأما ما يتعلق بالولد الذي هو ثمرة الزنا فقد قرر أهل العلم أن الولد للفراش أي أن الولد ينسب لزوج المرأة الزانية ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت (كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال ابن أخي قد عهد إليَّ فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا - أي اختصما - إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي كان قد عهد إلي فيه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة: زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قال(9/193)
العلماء: العاهر الزاني وعهر زنى وعهرت زنت والعهر الزنا, ومعنى الحجر أي له الخيبة ولا حق له في الولد. وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الولد للفراش) , فمعناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة صارت فراشاً له فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة, سواء كان موافقاً له في الشبه أم مخالفاً) شرح النووي على صحيح مسلم 4/31.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [فكانت دعوى سعد سبب البيان من الله عز وجل على لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنا وأن الولد للفراش على كل حال والفراش النكاح أو ملك اليمين لا غير. أجمع العلماء - لا خلاف بينهم فيما علمته - أنه لا يلحق بأحد ولد يستلحقه إلا من نكاح أو ملك يمين فإذا كان نكاح أو ملك فالولد للفراش على كل حال] الاستذكار 2/167-168.
ولا يجوز أن ينسب الولد للزاني حتى ولو اعترف الزاني بأن الولد منه ما دامت الزانية ذات زوج وأما إذا كانت الزانية لا زوج لها فيصح إلحاق الولد بالزاني إن أقر به على قول جماعة من أهل العلم.
وأما قول السائل إن زوج المرأة قد أنكر الولد لما رأى أنه لا يشبهه فإن الشريعة قد شرعت اللعان في هذه الحالة وهي أن ينكر الزوج ولداً أنجبته زوجته قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} سورة النور الآيات 6-9. وقد ذكر أهل العلم أن سبب نزول هذه الآيات هو ما ورد في الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه - (أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشريك بن سحماء فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البينة أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول البينة وإلا حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك(9/194)
بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ إِن {كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فانصرف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) رواه البخاري.
ويشترط في اللعان بين الزوجين أن يكون اللعان فورياً بأن ينفي الزوج الولد بمجرد الولادة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا ولدت امرأته ولداً فسكت عن نفيه مع إمكانه لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك وبهذا قال الشافعي] المغني 8/61. وإذا تم اللعان بين الزوجين تفرقا فرقة أبدية لما ورد في الحديث عن سهل بن سعد (. فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً) رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/424.
حكم إسقاط الحمل الناتج عن اغتصاب
يقول السائل: ما قولكم فيمن يقول بجواز إسقاط الحمل الناتج عن اغتصاب مهما كان عمر الجنين لأن ذلك من باب الستر على الفتاة البريئة؟
الجواب: لاشك أن الزنا من أفظع الجرائم وتزداد فظاعته في حق الرجل عندما يكون مغتَصِباً، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} سورة الإسراء الآية 32.
والفتاة المغتصبة لا إثم عليها حيث إنها مكرهة لما ورد في الحديث(9/195)
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
كما أن المكرهة لا حد عليها قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً وذلك لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عفي لأمتي عن الخطأ , والنسيان وما استكرهوا عليه) وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه (أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فدرأ عنها الحد) رواه الأثرم قال: وأتي عمر بإماءٍ من إماء الإمارة , استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب: قال: أُتيَ عمر بامرأة قد زنت , فقالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم عليَّ فخلى سبيلها ولم يضربها، ولأن هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه ونص عليه أحمد , في راعٍ جاءته امرأة قد عطشت فسألته أن يسقيها , فقال لها: أمكنيني من نفسك قال: هذه مضطرة وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن امرأة استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت , فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً وتركها] المغني 9/59-60.
إذا تقرر هذا فإن الأصل هو تحريم الإجهاض قبل مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل إلا لعذر مشروع على الراجح من أقوال العلماء، وأما بعد مضي مئة وعشرين يوماً على الحمل فقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض في هذه الحالة؛ لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال حدثنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد(9/196)
ثم ينفخ فيه الروح.) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط، وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123.
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية: [من الضروريات الخمس التي دلّت عليها نصوص الكتاب والسنة دلالة قاطعة على وجوب المحافظة عليها وأجمعت الأمة على لزوم مراعاتها حفظ نفس الإنسان وهو في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين سواء كانت النفس حملاً قد نفخ فيه الروح أم كانت مولودة ... فلا يجوز الاعتداء عليها بإجهاض إن كانت حملاً قد نفخ فيه الروح أو بإعطائها أدوية تقضي على حياتها وتجهز عليها، طلباً لراحتها أو راحة من يعولها أو تخليصاً للمجتمع من أرباب الآفات والعاهات والمشوهين والعاطلين، أو غير ذلك مما يدفع بالناس إلى التخلص لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقّ} وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفساً، يجب صيانتها والمحافظة عليها] .
وأما إسقاط الجنين الناتج عن اغتصاب قبل المئة والعشرين يوماً فله وجه شرعي، وقال به بعض أهل العلم وخاصة إن خشي قتل الأم بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة.
وبناءً على ما تقدم يحرم الإجهاض بعد مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل بغض النظر عن سبب الحمل هل الحمل حمل شرعي أم حمل ناتج(9/197)
عن زنا؟ برضاً من المرأة والرجل أو كان نتيجة اغتصاب وإكراه؟ ودعوى جواز الإجهاض لستر الفتاة المغتصبة دعوى غير مقبولة شرعاً لما في ذلك من الاعتداء على نفس معصومة وهي الجنين بعد نفخ الروح فيه فما ذنب هذه النفس لتقتل من أجل دفع العار عن أمه ولا شك أن حفظ النفس مقدم على مسألة الستر المدعاة ومن المعلوم أن الإسلام قد شرع كثيراً من الأحكام الشرعية للمحافظة على الجنين فأجاز للحامل أن تفطر في رمضان إذا خافت على نفسها أو جنينها، فقد ورد في الحديث عن أنس بن مالك - رجل من بني عبد الله بن كعب - رضي الله عنه -: [قال أغارت علينا خيل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته يتغدى فقال: ادن فكل. فقلت: إني صائم. فقال: ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام. واللهِ لقد قالهما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي أن أكون طعمت من طعام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن ... والعمل على هذا عند أهل العلم] عارضة الأحوذي 3/188. وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي 1/218.
وأجاز الشرع لها أن تؤجل الحج بسبب الحمل وإن حجت فأجاز لها أن تنيب عنها في بعض المناسك كما أن المرأة الحامل من زنا لا يقام عليها الحد حال حملها لما ورد في الحديث عن بريدة - رضي الله عنه - قال: ( ... جاءت امرأة من غامد من الأزد فقالت يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال وما ذاك قالت إنها حبلى من الزنى فقال آنت قالت نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال قد وضعت الغامدية فقال إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إليَّ رضاعه يا نبي الله قال فرجمها) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قوله: (فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك) فيه: أنه لا(9/198)
ترجم الحبلى حتى تضع, سواء كان حملها من زنا أو غيره, وهذا مجمع عليه لئلا يقتل جنينها, وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل لم تجلد بالإجماع حتى تضع] شرح النووي على صحيح مسلم 11/201.
وخلاصة الأمر أن ما ذكر في السؤال من جواز إجهاض الحمل الناتج عن اغتصاب بغض النظر عن عمر الجنين هو رأي غير صحيح ومخالف لما قرره أهل العلم قديماً وحديثاً.
حدود طاعة الوالدين
يقول السائل: إن الإسلام أوجب طاعة الوالدين ولكن ما هي حدود طاعة الوالدين؟
الجواب: طاعة الوالدين من أوجب الواجبات التي أمر بها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحق الوالدين عظيم ولهذا جاء حقهما في الترتيب بعد حق الله تعالى مباشرة. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} سورة الإسراء الآيتان23-24. وقال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} سورة النساء الآية 36. وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} سورة العنكبوت الآية8.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أفضل الأعمال أو العمل الصلاة لوقتها وبر الوالدين) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (رضا الرب في رضا(9/199)
الوالد وسخط الرب في سخط الوالد) رواه الترمذي وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 516.
ويجب أن يعلم أن طاعة الوالدين من أسباب تفريج الكرب والمصائب كما صح في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالديَّ فسقيتهما قبل بنيَّ وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء وقال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم وقال الآخر اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي) رواه مسلم.
وكذلك فإن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر ومن أسباب دخول جهنم(9/200)
والعياذ بالله فقد ورد في الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً، فقال: ألا وقول الزور. قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) رواه أحمد والنسائي وابن حبان. وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح انظر صحيح سنن النسائي 2/541. وغير ذلك من النصوص الكثيرة.
إذا تقرر هذا فإن طاعة الوالدين ليست مطلقة وإنما لها حدود لا يجوز تعديها وأهم هذه الحدود أن طاعة الوالدين إنما تكون في المعروف فإذا أمر الوالدان ولدهما بمعصية فلا طاعة لهما قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} سورة لقمان الآية 15. ويدل على ذلك أيضا قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا طاعة لأحد في معصية الخالق) رواه أحمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي. فتح الباري 5/241، وقال الشيخ الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم. وجاء في رواية أخرى: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي رواية صحيحة. راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني 1/137-144. وقال الحسن البصري [إن منعته أمه عن صلاة العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها] رواه البخاري تعليقاً. فإذا أمر الوالدان أو أحدهما ولدهما بمعصية أو منكر فلا تجب طاعتهما لما تقدم من الأدلة وعلى الولد أن يرفض طاعة والديه إذا أمراه بمعصية ولكن برفق وحكمة دون أن يسيء لهما بالقول ولا بد من معاملتهما معاملة كريمة طيبة حتى لو كانا كافرين كما قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} سورة لقمان الآية 15. وقد ورد في الحديث عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صِلي أمك)(9/201)
رواه البخاري ومسلم. وكذلك فإن الولد غير ملزم بطاعة والديه فيما يتعلق بشؤونه الخاصة ما دام أنه ملتزم فيها بشرع الله مثل أن يلزماه بأن يتزوج امرأة معينة كما تفعل بعض الأمهات من إلزام ولدها من الزواج من إحدى قريباتها أو أن يطلق زوجته بسبب خلاف وقع بين الأم وزوجة الابن وكذلك الأمر بالنسبة للبنت إذا أجبرها أبوها على الزواج من شخص لا ترضاه كأن يكون فاسقاً أو سيء الأخلاق ولو كان ابن عمها وفي هذه الحالات وأمثالها إذا امتنع الولد من طاعة والديه لم يكن عاقاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية [ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه
مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك ولا يمكن فراقه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 32/30. وإن احتج أحد بما ورد في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال (كانت لي امرأة أحبها وكان أبي - أي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يكرهها فأمرني أبي أن أطلقها فأبيت فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وهذا الاحتجاج فيه نظر لأن عمر - رضي الله عنه - عندما أمر ابنه بطلاق زوجته كان له سبب شرعي لذلك وأين آباء اليوم من عمر - رضي الله عنه -!!! وقد جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي؟ فقال له الإمام أحمد: لا تطلقها، فقال الرجل: أليس الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمر عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته حين أمره عمر بذلك؟ فقال الإمام أحمد: وهل أبوك مثل عمر؟.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل متزوج، وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها؟ فأجاب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه؛ بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من بِرِّها. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً عن امرأة وزوجها مُتَّفِقَين وأمُّها تريد الفرقة فلم تطاوعها البنت فهل عليها إثمٌ في دعاء أمها عليها؟ فأجاب رحمه الله: [إذا تزوجت المرأة لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق(9/202)
زوجها ولا في زيارتهم بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها (وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راضٍ دخلت الجنة) وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها في ذلك ولو دعت عليها اللهم إلا أن يكونا مجتمعَين على معصية أو يكون أمره للبنت بمعصية الله والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 33/112.
وخلاصة الأمر أن طاعة الوالدين فريضة من فرائض الله عز وجل كما أن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب ولكن طاعتهما لا تكون إلا في المعروف ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
توريث القاتل خطأً من مال مورثه المقتول
يقول السائل: ما قولكم في مسألة توريث القاتل خطأً من مال مورثه المقتول؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن القتل هو أحد موانع الميراث بشكل عام واختلفوا في مسألة القاتل خطأً هل يرث من مال مورثه المقتول خطأً والذي عليه جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء على أن القاتل خطأً لا يرث من مال المقتول ولا من ديته وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئاً ... فأما القاتل خطأً فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يرث أيضاً، نص عليه أحمد، ويروى ذلك عن عمر، وعلي وزيد وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وروي نحوه عن أبي بكر رضي الله عنهم. وبه قال شريح وعروة وطاووس وجابر بن زيد والنخعي والشعبي والثوري وشريك والحسن بن صالح ووكيع والشافعي ويحيى بن آدم وأصحاب الرأي(9/203)
وورثه قوم من المال دون الدية، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب وعطاء والحسن ومجاهد والزهري ومكحول والأوزاعي وابن أبي ذئب وأبي ثور، وابن المنذر وداود، وروي نحوه عن علي لأن ميراثه ثابت بالكتاب، والسنة تخصص قاتل العمد بالإجماع، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه. ولنا: الأحاديث المذكورة ولأن من لا يرث من الدية لا يرث من غيرها، كقاتل العمد، والمخالف في الدين، والعمومات مخصصة بما ذكرناه] المغني 6/364-365.
وقد خالف في ذلك المالكية وبعض أهل العلم كما سبق في كلام ابن قدامة فقالوا بتوريث القاتل خطأً من مال مورثه المقتول لا من ديته وهذا القول مرجوح لما يلي: ما ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليس للقاتل شيء وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئاً) رواه أبو داود وغيره وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود 3/864. وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (ليس لقاتل ميراث) قال صاحب الزوائد: إسناده حسن. سنن ابن ماجة 2/884. وقال الشيخ الألباني عنه حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/98.
وقد ورد الحديث السابق بطرق كثيرة وهو حديث حسن أو صحيح والقاتل خطأً يدخل في عموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يرث القاتل شيئاً) حيث إن لفظ القاتل لفظ عام فيشمل من قتل عمداً ومن قتل خطأً.
وكذلك فإن الرواية الأخرى للحديث: (ليس لقاتل ميراث) تشمل القاتل خطأً لأن لفظة قاتل نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم فتشمل القاتل خطأً والقاتل عمداً.
ومما يدل على حرمان القاتل خطأً من الميراث ما ورد عن عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي أنه قتل امرأته خطأً فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اعقلها ولا ترثها) رواه الطبراني.
قال الشوكاني: [وحديث عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي نص في(9/204)
محل النزاع فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: (ولا ترثها) وكذلك حديث عدي الجذامي الذي أشرنا إليه ولفظه في سنن البيهقي: (إن عدياً كانت له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه فذكر له ذلك، فقال له: (اعقلها ولا ترثها) ] نيل الأوطار 6/85-86. وحديث عدي الجذامي قال عنه الهيثمي: [رواه أبو يعلى بطوله والطبراني باختصار ورجاله رجال الصحيح إلا أن فيه راوٍ لم يسم] مجمع الزوائد4/230.
وحديث عدي الجذامي رواه البيهقي أيضاً وروى غيره بمعناه ثم قال: [هذه مراسيل جيدة يقوي بعضها بعضاً] السنن الكبرى 6/219. وروى البيهقي بإسناده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: [لا يرث القاتل خطأً ولا عمداً] .
وروى أيضاً بإسناده عن علي وزيد وعبد الله قالوا: [لا يرث القاتل عمداً ولا خطأً شيئاً] .
وروى أيضاً بإسناده عن جابر بن زيد قال: [أيما رجل قتل رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأً ممن يرث فلا ميراث له منهما، وأيما امرأة قتلت رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأً فلا ميراث لها منهما، وإن كان القتل عمداً فالقود إلا أن يعفو أولياء المقتول فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله، قضى بذلك عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين] السنن الكبرى 6/220.
وروى عبد الرزاق بسنده عن أبي قلابة قال: قتل رجل أخاه في زمن عمر بن الخطاب، فلم يورثه، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما قتلته خطأً، قال: لو قتلته عمداً أقدناك به] مصنف عبد الرزاق 9/403.
وروى عبد الرزاق بسنده عن إبراهيم النخعي قال: [لا يرث القاتل من الدية ولا من المال عمداً كان أم خطأً] وروى عبد الرزاق أيضاً عن الثوري: [ونحن على ذلك لا يرث على حال] مصنف عبد الرزاق 9/404.
ومما يرد به على قول المالكية ومن وافقهم في توريث القاتل خطأً أن قولهم فيه تشجيع على القتل فقد يتعمد الوارث قتل مورثه ويدعي أنه قتله(9/205)
خطأً ويصعب إثبات صفة العمد في القتل وقد يحتال في ذلك ويظهر أنه قتله خطأً فمن باب سد الذرائع يجب حرمان القاتل خطأً من الميراث وقاعدة سد الذرائع قاعدة معتبرة عند الأصوليين وتشهد لها قواعد الشرع وأصوله.
واستدل الإمام السرخسي على حرمان القاتل خطأً من الميراث بأن تهمة استعجال الشيء قبل أوانه قائمة في القتل الخطأ فمن الجائز أنه كان قاصداً إلى ذلك وأظهر الخطأ من نفسه فيجعل هذا التوهم كالمتحقق في حرمان الميراث. ويرى السرخسي أيضاً أن القاتل خطأً كما عوقب بالكفارة على قتله فكذلك يعاقب بالحرمان من الميراث. انظر المبسوط 30/47.
ويضاف إلى ما سبق أن دعوى المالكية تخصيص عموم الأدلة الواردة بحرمان القاتل من الميراث وإخراج القاتل خطأً منها دعوى ضعيفة وما اعتمدوا عليه لا يقوى على التخصيص. قال الشوكاني: [ولا يخفى أن التخصيص لا يقبل إلا بالدليل] نيل الأوطار 6/85.
وما ذكره المالكية من تخصيص القاتل خطأً من العموم استدلالاً بما روي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يوم فتح مكة، فقال: (المرأة ترث من دية زوجها وماله.، وهو يرث من ديتها ومالها، ما لم يقتل أحدهما صاحبه فإذا قتل أحدهما صاحبه عمداً، لم يرث من ديته وماله شيئاً، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأً، ورث من ماله، ولم يرث من ديته) .
قال في الزوائد: في إسناده محمد بن سعيد، وهو المصلوب. قال أحمد: حديثه موضوع، وقال مرة: عمداً كان يضع. وقال أبو أحمد الحاكم: كان يضع الحديث، صلب على الزندقة. وقال الحاكم أبو عبد الله: ساقط بلا خلاف] سنن ابن ماجة 2/914.
وقال الشيخ الألباني عن الحديث السابق إنه موضوع أي مكذوب على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 10/1/205، ضعيف الجامع الصغير حديث رقم 5926 ص854. فهذا الحديث لا يصلح للاحتجاج به كما ترى من كلام أهل العلم فيه ولا يكون مخصصاً لإخراج القاتل خطأً من عموم حرمان القاتل من الميراث.(9/206)
وخلاصة الأمر أن القاتل خطأً لا يرث وهذا هو القول الراجح الذي تؤيده الأدلة ومقاصد الشريعة في المحافظة على الأنفس.(9/207)
متفرقات(9/209)
العمل عند تضارب الفتوى
يقول السائل: ما العمل عند اختلاف فتاوى المفتين في مسألة واحدة؟
الجواب: إن الفتوى من أخطر الأمور وأشدها لأنها في الحقيقة توقيع عن رب العالمين كما قال العالمون، وكثير من الذين يتصدرون للفتوى اليوم لا يدركون خطورة شأن الفتوى وما يجب أن يكون عليه المفتي من علم وصدق والتزام بشرع الله. قال الله تعالى: {فاسْألُوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} سورة النحل الآية 43، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [أهل الذكر هم أهل العلم] تفسير القرطبي 10/108.
وقال العلامة ابن القيم: [ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلمَ بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان مَنصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَرُ فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيقٌ بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعدَ له عُدَّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول(9/211)
الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} سورة النساء الآية 127، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالةً، إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} سورة النساء الآية 176، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله] إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/ 16-17.
إذا تقرر هذا فأعود إلى السؤال فأقول: إن الأصل في المستفتي أن يسأل من يثق في علمه ودينه فيعرض مسألته عليه فإن أفتاه لزم المستفتي أن يأخذ بفتواه.
قال محمد بن سيرين من أئمة التابعين: [إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه] رواه مسلم في مقدمة صحيحه 1/76.
وقال الإمام القدوة يزيد بن هارون: [إن العالم حجتك بينك وبين الله تعالى فانظر مَن تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل] ذكره الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2/178.
وقال الخطيب البغدادي: [أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره فقد رحل غير واحد من السلف في مسألةٍ ... إلى أن قال: وإذا قصد أهل محلة للاستفتاء عما نزل به فعليه أن يسأل من يثق بدينه ويسكن إلى أمانته عن أعلمهم وأمثلهم؛ ليقصده ويؤم نحوه، فليس كل من ادعى العلم أحرزه، ولا كل من انتسب إليه كان من أهله] الفقيه والمتفقه 2/177.
وقال الإمام الآمدي: [القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة بأن يراه منتصباً للفتوى والناس متفقون على سؤاله والاعتقاد فيه، وعلى امتناعه فيمن بالضد(9/212)
من ذلك] الإحكام في أصول الأحكام 4/453. وقال الإمام القرافي المالكي: [ولا يجوز لأحد الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن الذي يستفتيه من أهل العلم والدين والورع] الذخيرة 1/147.
وقال الإمام الشوكاني: [إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما، المطلع على ما يحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلباً منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحانه أو ما في سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلونهم عليه وقد ذكر أهل الأصول أنه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكى في المحصول الاتفاق على المنع] إرشاد الفحول ص 271. وغير ذلك من أقوال أهل العلم.
ولا ينبغي التنقل بالسؤال من مفت إلى آخر حتى يحصل المستفتي على الجواب الذي يوافق هواه من المفتي المتساهل فإن التساهل في الفتوى من المحرمات قال الإمام النووي رحمة الله عليه: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حَرُمَ استفتاؤه، فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يُحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة،(9/213)
ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة، على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلباً للترخيص، لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصدُه فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها للتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسنٌ جميلٌ، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان -الثوري- إنما العلمُ عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد] المجموع 1/46.
وبهذه المناسبة فقد سئلت منذ عهد قريب عن فوائد صندوق التوفير في إحدى الشركات فأفتيت بتحريمها لأنها الربا المحرم في كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد طرح السؤال على بعض المفتين وغير المفتين فأجابوا بأن ذلك عين الحلال بحجج هي أوهى من بيت العنكبوت، فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون. كيف أصبح الربا المحرم قطعاً في كتاب ربنا وسنة نبينا حلالاً خالصاً عند بعض المتسورين على الفتوى وعند بعض المجاهيل الذين يصدرون الفتاوى باسم حزب أو جماعة دون أن يُعرفوا بأعيانهم حتى ينظر الناس هل هؤلاء أهل للفتوى أم ليسوا لها أهلاً؟ ويجب أن يعلم أن الفتوى خاصة وأمور الدين عامة لا تقبل من المجاهيل فالمجهول مردود الرواية ولا يعتد بقوله لا في وفاق ولا في خلاف. وقد قرر العلماء أن المستفتي إن تعارضت لديه الفتاوى أنه يأخذ بقول الأعلم والأتقى والأكثر اعتماداً على الكتاب والسنة وقواعد الشرع تدل أيضاً أنه إذا تعارض الحل والتحريم فيقدم التحريم كما في مسألة صندوق التوفير لأن ذلك أحوط مع أن القول بالتحريم هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انظر المجموع 1/92، شرح الكوكب المنير 4/580-581، الفتوى في الإسلام ص105-106.
وقد حق لنا أن نبكي على أحوال المفتين كما بكى ربيعة الرأي -شيخ الإمام مالك-فقيل: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! وقال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق! وقال بعض العلماء: [فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها وتسلقه بالجهل والجرأة عليها(9/214)
مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ... ] إعلام الموقعين عن رب العالمين 6/118.
لا يترتب حكم شرعي على رؤية سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام
يقول السائل: ما الحكم الشرعي فيمن يزعم أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام وطلب منه أن يفعل فعلاً كأن يطلق زوجته فهل يلزمه طلاقها أفيدونا.
الجواب: رؤية سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام ممكنة وهذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة وقد وردت عدة أحاديث في ذلك منها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي) قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته. رواه البخاري.
وعن أنس - رضي الله عنه -قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. ويؤخذ من الأحاديث الصحيحة الواردة في رؤية سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قد يرى في النوم وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة فقد رآه فإن الشيطان لا يتمثل في صورته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن الأمر الهام الذي يجب أن يعلم أن العلماء قد قرروا أنه لا يؤخذ أي حكم شرعي من رؤية النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنامات لأن الشريعة الإسلامية قد تمت وكملت قبل وفاة سيدنا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} سورة المائدة الآية 3. كما أن مصادر التشريع معلومة ومعروفة وقد بينها الأصوليون وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصادر التبعية على خلاف بينهم فيها وليس منها الرؤى ولا المنامات ولا يحتج بالرؤى في باب الأحكام الشرعية إلا من(9/215)
ضعف عقله وزاغ عن طريق الحق والصواب. فليست الرؤى والمنامات من مصادر التشريع وهذا هو الحق والصواب وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وأكثر ما يؤخذ من الرؤى أن تكون بشارة أو نذارة لا أن تكون مصدراً للتشريع.
قال الإمام النووي عند كلامه على رؤى الرواة: [قال القاضي عياض رحمه الله: هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من ضعف أبان لا أنه يقطع بأمر المنام ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت ولا تثبت به سنة لم تثبت وهذا بإجماع العلماء, هذا كلام القاضي. وكذا قاله غيره من أصحابنا وغيرهم فنقلوا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع. وليس هذا الذي ذكرناه مخالفاً لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (من رآني في المنام فقد رآني) فإن معنى الحديث أن رؤيته صحيحة وليست من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي به لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي, وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظاً لا مغفلاً ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط, والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة, أما إذا رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمره بفعل ما هو مندوب إليه أو ينهاه عن منهي عنه أو يرشده إلى فعل مصلحة فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه لأن ذلك ليس حكماً بمجرد المنام بل تقرر من أصل ذلك الشيء] شرح النووي على صحيح مسلم 1/115.
وقال الإمام النووي أيضاً: [لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان, ولم ير الناس الهلال, فرأى إنسان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام، فقال له: الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره] المجموع 6/292.
وقال الإمام النووي أيضاً عند كلامه على خصائص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ومنه أن من رآه في المنام فقد رآه حقاً فإن الشيطان لا يتمثل في صورته ولكن لا يعمل بما يسمعه الرائي منه في المنام مما يتعلق بالأحكام إن خالف ما استقر في الشرع لعدم ضبط الرائي لا للشك في الرؤيا لأن الخبر لا يقبل(9/216)
إلا من ضابط مكلف والنائم بخلافه] تهذيب الأسماء واللغات1/43.
وقال الشاطبي: [وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضاً لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف فمحال لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية لأن ذلك باطل بالإجماع فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول عن رؤياه غير صحيحة إذ لو رآه حقاً لم يخبر بما يخالف الشرع] الاعتصام 1/321. وانظر أيضاً الموافقات للشاطبي1/114-115.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [الرؤيا المحضة التي لا دليل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق] مجموع الفتاوى 27/457.
وقال ابن حزم الظاهري: [الشرائع لا تُؤْخَذ بالمنامات] المحلى 6 / 507.
وقال الشوكاني: [المسألة السابعة: في رؤيا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق أنه يكون حجة ويلزم العمل به وقيل حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -رؤية حق والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه وقيل إنه يعمل به ما لم يخالف شرعاً ثابتاً، ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كمله الله عز وجل وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إذ قال فيها بقول أو فعل فيها فعلاً يكون دليلاً وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمَّل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبينها بالموت وإن كان رسولاً حياً وميتاً وبهذا تعلم أن لو قدَّرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص249.(9/217)
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز: [ولا يجوز أن يعتمد عليها في شيء يخالف ما علم من الشرع، بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أوامر أو نواهي أو خبر أو غير ذلك من الأمور التي يسمعها أو يراها الرائي للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الكتاب والسنة الصحيحة، فما وافقهما أو أحدهما قبل، وما خالفهما أو أحدهما ترك؛ لأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة قبل وفاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يجوز أن يقبل من أحد من الناس ما يخالف ما علم من شرع الله ودينه سواء كان ذلك من طريق الرؤيا أو غيرها وهذا محل إجماع بين أهل العلم المعتد بهم، أما من رآه عليه الصلاة والسلام على غير صورته فإن رؤياه تكون كاذبة كأن يراه أمرد لا لحية له، أو يراه أسود اللون أو ما أشبه ذلك من الصفات المخالفة لصفته عليه الصلاة والسلام، لأنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) فدل ذلك على أن الشيطان قد يتمثل في غير صورته عليه الصلاة والسلام ويدعي أنه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -من أجل إضلال الناس والتلبيس عليهم. ثم ليس كل من ادعى رؤيته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون صادقاً وإنما تقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه، وقد رآه في حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقوام كثيرون فلم يسلموا ولم ينتفعوا برؤيته كأبي جهل وأبي لهب وعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وغيرهم، فرؤيته في النوم عليه الصلاة والسلام من باب أولى] ونقل صاحب تهذيب الفروق والقواعد السنية عن العلامة العطار قوله: ولا يلزم من صحة الرؤيا التعويل عليها في حكم شرعي لاحتمال الخطأ في التحمل وعدم ضبط الرائي] تهذيب الفروق والقواعد السنية 4/270. وقد وجدت كلاماً للإمام القرافي في مسألة قريبة من مسألة طلاق الزوجة بناءً على الرؤية حيث قال: [فلو رآه عليه الصلاة
والسلام فقال له: إن امرأتك طالق ثلاثاً, وهو يجزم بأنه لم يطلقها فهل تحرم عليه؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقول إلا حقاً وقع فيه البحث مع الفقهاء واضطربت آراؤهم في ذلك بالتحريم وعدمه لتعارض خبره عليه الصلاة والسلام عن تحريمها في النوم وإخباره في اليقظة في شريعته المعظمة أنها مباحة له, والذي يظهر لي أن إخباره عليه الصلاة والسلام في اليقظة مقدم(9/218)
على الخبر في النوم لتطرق الاحتمال للرائي بالغلط في ضبط المثال, فإذا عرضنا على أنفسنا احتمال طروء الطلاق مع الجهل به واحتمال طروء الغلط في المثال في النوم وجدنا الغلط في المثال أيسر وأرجح, ومن هو من الناس يضبط المثال على النحو المتقدم إلا أفراد قليلة من الحفاظ لصفته عليه الصلاة والسلام وأما ضبط عدم الطلاق فلا يختل إلا على النادر من الناس والعمل بالراجح متعين, وكذلك لو قال له عن حلال: إنه حرام, أو عن حرام إنه حلال, أو عن حكم من أحكام الشريعة قدمنا ما ثبت في اليقظة على ما رأى في النوم لما ذكرناه كما لو تعارض خبران من أخبار اليقظة صحيحان فإنا نقدم الأرجح بالسند أو باللفظ أو بفصاحته أو قلة الاحتمال في المجاز أو غيره فكذلك خبر اليقظة وخبر النوم يخرجان على هذه القاعدة] الفروق 4/245-246.
وأخيراً أذكر ما قاله الشاطبي: [وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنّة نعم يأتي المرئي تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ولا يبنون عليها أصلاً وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها] الاعتصام 1/322. وبعد هذه النقول عن فحول أهل العلم أقول لا شك أنه لا يصح في دين الإسلام الاعتماد على الرؤى والأحلام في إثبات الأحكام ولا يجوز للسائل أن يطلق زوجته بناءً على تلك المنامات.
الرقية الشرعية
يقول السائل: إني أمارس العلاج بالقرآن الكريم منذ سنة 1993 حتى كتابة هذه السطور لأرضي ربي أولاً وعوناً للناس وكفايتهم عن التردد على السحرة والمشعوذين. وألخص طريقة العلاج وبحضور محارم المريضة فقط كالآتي:(9/219)
أضع يدي على رأس المريض أو المريضة، مع وضع حاجز بيننا عند القراءة عليها، وأقرأ ما تيسر من القرآن وآيات الرقية في أذنها (المرأة) من خلال ماسورة بلاستيك.
لا أعالج أي مريضة إطلاقاً إلا إذا لبست طويلاً أو غطت الرأس بإشارب إن كانت متبرجة وبحضور صاحبات أو من الأهل أو محارمها.
أستغل العلاج بالقرآن الكريم وأوظفه في الدعوة إلى الله حيث تلبس المرأة الجلباب بعد تماثلها للشفاء وتصلي وكذلك الرجال.
في الجلسة الأولى وبعد قراءة آيات الكشف على المصروع (وحسب الحاجة) أسأل أسئلة كثيرة هي علامات الصرع أو تأثير سحر أعرفها من خلال معرفة أحوال وأعمال الممسوس وكذلك من خلال التجربة.
من هذه الأسئلة ما يتعلق بالجنس خلال المنام أو اليقظة وعن رفض المرأة لزوجها في الفراش دون إرادتها، أو ربط الرجل عن زوجته بسحر أو أمور متعلقة بعقم المرأة والزوج من خلال الجماع وغيره. أو العادة السرية عند رفض المرأة لزوجها - بعد فترة طويلة - أو عند المراهقين.
إذا صرعت المرأة ممكن أن تتكشف ونغطيها مباشرة.
إذا صرعت المريضة فإنها تحاول إنزال يدي عن رأسها فتلمسني.
إذا صرع الجان المرأة أو الرجل يمنعها عن متابعة العلاج من غير إرادتها ويمنع إدخال أي سائل مقروء عليه قرآن - آيات الرقية وغيرها - إلى جوف المريض فاضطر إلى لمس الوجه لتثبيته بهدف إدخال الماء أو الزيت إلى فم المريض. وكذلك بعض نقاط في الأنف إذا خاف محارمها هذا العمل بأنفسهم.
لتعميم الجسد جميعه بالماء المقروء عليه قرآناً نرش على ملابس المريض ثم أطلب من أهلها رش البنطلون، فحينما يخشون ذلك أرش البنطلون بنفسي من خلال مضخة دون أن نكشف جسدها وبحضور أهلها.(9/220)
ويمسح جسد المصروعة بزيت حبة البركة المقروء عليه قرآن حتى إذا اقتضت الضرورة لكل الجسد حينها يخرج كل الرجال من الجلسة وأنا كذلك.
مرات قليلة أو نادرة جداً أمسح الوجه أو الرقبة بدون حائل أنا بدل أهلها وذلك لخوف الاقتراب منها غالباً حين الصرع.
لكشف أماكن تأثير الجن أو الشيطان الصارع في الجسد اضطر إلى تحسس بعض أماكن مع حائل طبعاً كالظهر أو الصدر أو البطن أو الكتف أو الأطراف.
يحتاج المريض إلى أشرطة قرآن للسماع خاصة آيات الرقية وسورة البقرة وآية الكرسي والمعوذتين والإخلاص، وكذلك إلى زيت حبة البركة بثمنه كما في السوق.
بعضهم برفض أخذ الباقي من النقود فيتبرعوا بها لدعم العلاج.
يتبرع أهل المريض بشيء من المال في سبيل الله دون أن أطلب منهم غير ثمن المواد المساعدة في العلاج.
وهل في ذلك شيء حتى لو طلبت أجراً بسيطاً أردّ به بعض الناس لأخفف عني كثيراً من الحالات في الوقت نفسه.
لم يختلف شيء في طريقة العلاج منذ أن بدأت حتى الآن فحسب إحصاء خاص تبين أن 80% من الناس يتماثلون للشفاء حين يلتزمون بالعلاج من خلال هذه الطريقة. أفتوني في ذلك يرحمكم الله وجزاكم الله خيراً.
(ملحوظة: صياغة السؤال من السائل)
الجواب: بعد الاطلاع على رسالة السائل أفيده بما يلي:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المسلمين وعلى آله وصحبه الطيبين. وبعد فهذه أهم ضوابط المعالجة بالرقية الشرعية:
إن العلاج بالقرآن والرقية بآياته من الأمور المشروعة، يقول الله(9/221)
سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} سورة الإسراء الآية 82.
وثبت في الحديث الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذتين) رواه مسلم.
ولا بد أن تكون الرقية شرعية فلا تصح الرقى الشركية، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) رواه مسلم.
ويشترط في الرقية الشرعية ما يلي:
أولاً: أن تكون بكلام الله، أو بأسمائه، أو صفاته، أو بالأدعية النبوية المأثورة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك.
ثانياً: أن تكون باللسان العربي فكل كلام مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ثالثاً: أن تكون مفهومة المعنى.
رابعاً: ألا تشتمل على شيء غير مباح، كالاستغاثة بغير الله أو دعاء غيره، أو اسم للجن، أو ملوكهم ونحو ذلك.
خامساً: ألا يعتمد عليها.
سادساً: أن يعتقد أنها لا تؤثر بذاتها، بل بإذن الله تعالى.
سابعاً: لا يجوز اللجوء لأي إنسان يدعي المعالجة بالقرآن أو أنه يستطيع إخراج الجن من المصروع إلا بعد التأكد من أن هذا الشخص من الصالحين الملتزمين بكتاب الله وسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يتبع الطرق المشروعة في الرقية والعلاج ولا يستخدم شياطين الجن الذين لا يخدمونه إلا إذا وقع في المحرمات.(9/222)
وكذلك فإن بعض هؤلاء المعالجين يستخدمون الطلاسم في المعالجة، أو يذكرون كلاماً غير مفهوم المعنى، فهذا لا يجوز استعماله.
ثامناً: لا ينبغي لأحد من الناس أن يتفرغ لعلاج الناس بالرقى القرآنية أو بالأذكار الواردة، والإعلان عن نفسه بأنه المعالج بالقرآن والبديل الشرعي لفك السحر ومس الجان والعين والعقم والأمراض المستعصية، أو يعلن عن نفسه العيادة القرآنية، ويوزع الكروت، ويحدد المواعيد كالأطباء المختصين، لأن ذلك ليس من منهج الصحابة والتابعين والصالحين، ولم يكن معروفاً مثل هذا التفرغ عندهم مع أن الناس لا زالوا يمرضون على مر العصور والأزمان، ولأن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة، ويلج منه الدجالون والمشعوذون وأمثالهم.
تاسعاً: لا يجوز للراقي مس شيء من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك من الفتنة، وإنما يقرأ عليها بدون مس، وهناك فرق بين عمل الراقي وعمل الطبيب، لأن الطبيب قد لا يمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد أن يعالجه، بخلاف الراقي فإن عمله - وهو القراءة والنفث - لا يتوقف على اللمس كما أفتت بذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية، ولا يصح مس جسد المرأة إلا عند الحاجة.
عاشراً: لا يجوز للراقي أن يخلو بالمريضة أبداً ولا بد من وجود زوجها أو محرم أو أكثر من امرأة لقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 2546.
أحد عشر: يجب أن تكون المريضة لابسةً للباس الشرعي أثناء العلاج.
ثاني عشر: لا يجوز إلصاق الأوراق المكتوب فيها شيء من القرآن أو الأدعية على الجسم أو على موضع منه، أو وضعها تحت الفراش ونحو ذلك على الراجح من أقوال أهل العلم لأنه من تعليق التمائم المنهي عنه(9/223)
بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الرُّقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود.
ويمنع ذلك سداً للذرائع أيضاً خشية أن يفضي إلى تعليق ما ليس من القرآن. ولأن التعليق قد يعرضه للامتهان فيحمله معه عند قضاء الحاجة والاستنجاء.
قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز [واختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن أو من الدعوات المباحة هل هي محرمة أم لا؟ والصواب تحريمها لوجهين: أحدهما: عموم الأحاديث المذكورة، فإنها تعم التمائم من القرآن وغير القرآن. والوجه الثاني: سد ذريعة الشرك فإنها إذا أبيحت التمائم من القرآن اختلطت بالتمائم الأخرى واشتبه الأمر وانفتح باب الشرك بتعليق التمائم كلها ومعلوم أن سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي من أعظم القواعد الشرعية] .
وذكر الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين عن جماعة من العلماء أنه: [. لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء به؛ لأن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به، بمعنى أنك تقرأ على المريض به؛ فلا نتجاوزها، فلو جعلنا الاستشفاء بالقرآن على صفة لم ترد؛ فمعنى ذلك أننا فعلنا سبباً ليس مشروعاً. ولولا الشعور النفسي بأن تعليق القرآن سبب للشفاء؛ لكان انتفاء السببية على هذه الصورة أمراً ظاهراً؛ فإن التعليق ليس له علاقة بالمرض، بخلاف النفث على مكان الألم؛ فإنه يتأثر بذلك.
ولهذا نقول؛ الأقرب أن يقال: إنه لا ينبغي أن تعلق الآيات للاستشفاء بها، لا سيما وأن هذا المعلق قد يفعل أشياء تنافي قدسية القرآن؛ كالغيبة مثلاً، ودخول بيت الخلاء، وأيضاً إذا علق وشعر أن به شفاء استغنى به عن القراءة المشروعة؛ فمثلاً علق آية الكرسي على صدره، وقال: ما دام أن آية الكرسي على صدري فلن أقرأها، فيستغنى بغير المشروع عن المشروع، وقد يشعر بالاستغناء عن القراءة المشروعة إذا كان القرآن على صدره] مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين 1/58.(9/224)
وقال الشيخ عبد الله الجبرين: [ولم يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو الذي نزل عليه القرآن، وهو بأحكامه أعرف وبمنزلته أعلم أنه علق على نفسه أو غيره تميمة من القرآن أو غيره، أو اتخذه أو آيات منه حجاباً يقيه الحسد أو غيره من الشر، أو حمله أو شيئاً منه في ملابسه أو في متاعه على راحلته لينال العصمة من شر الأعداء أو الفوز والنصر عليهم أو لييسر له الطريق ويذهب عنه وعثاء السفر أو غير ذلك من جلب نفع أو دفع ضر. فلو كان مشروعاً لحرص عليه وفعله، وبلَّغه أمته، وبينه لهم، عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} سورة المائدة الآية 67، ولو فعل شيئاً من ذلك أو بينه لأصحابه لنقلوه إلينا، ولعملوا به، فإنهم أحرص الأمة على البلاغ والبيان، وأحفظها للشريعة قولاً وعملاً، وأتبعها لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن لم يثبت شيء من ذلك عن أحد منهم؛ فدل ذلك على أن حمل المصحف أو وضعه في السيارة أو متاع البيت أو خزينة المال لمجرد دفع الحسد أو الحفظ أو غيرهما من جلب نفع أو دفع ضر لا يجوز] .
أحد عشر: أن يكون الراقي مسلماً عدلاً من أهل الصلاح والتقوى معتقداً أن الله عز وجل هو الذي يشفي ملتزماً بأحكام الشرع ويحسن القراءة على المرقي وعارفاً بأحكام الرقية الشرعية ويفضل أن يكون من أهل العلم وليس ذلك بشرط على الصحيح من أقوال العلماء يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [الذي أرى أنه لا يشترط أن يكون من أهل العلم إذا كان حافظاً لكتاب الله معروفاً بالتقى والصلاح ولم يقرأ إلا بالقرآن أو ما جاء عن النبي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا بأس، وليس من شرطه أن يكون عالماً، وبعض العلماء يكون عالماً لكن في القراءة يكون أقل من الآخرين أي من بعض الناس] .
ويقول الشيخ عبد الله بن جبرين: [الصواب أنه يجوز استعمال الرقية من كل قارئ يحسن القرآن ويفهم معناه ويكون حسن المعتقد صحيح العمل مستقيماً في سلوكه، ولا يشترط إحاطته بالفروع ولا دراسته للفنون العلمية، وذلك لقصة أبي سعيد في الذي رقى اللديغ قال: وما كنا نعرف منه الرقية(9/225)
أو كما قال، وعلى الراقي أن يحسن النية وأن يقصد نفع المسلم ولا يجعل همه المال والأجرة ليكون ذلك أقرب إلى الإنتفاع بقراءته] .
ثالث عشر: يجوز أخذ الأجرة على الرقية بضوابطها الشرعية، فقد أقر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك كما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (انطلق نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط! الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبَة، فقال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً) رواه البخاري ومسلم.
ومع القول بجواز أخذ الأجرة فالأولى أن يكون الراقي متبرعاً بعمله لله تعالى قال الشيخ عبد الله الجبرين: [يفضل أن الراقي يتبرع برقيته لنفع المسلمين واحتساب الأجر من الله في شفاء مرضى المسلمين وإزالة الضرر عنهم وأن لا يطلب أجرة على رقيته بل يترك الأمر إلى المرضى فإن دفعوا له أكثر من تعبه زهد فيها وردها وإن كانت دون حقه تغاضى عن الباقي وهذا من أكبر الأسباب لتأثير الرقية] .
وخلاصة الأمر أن المعالجة بالقرآن وبالأدعية النبوية المأثورة أمر مشروع وينبغي للراقي أن يكون من أهل الخير والصلاح والتقى ومن المتمسكين بدين الله ومن المحافظين على الصلوات وغيرها من العبادات وأن(9/226)
يكون صحيح العقيدة وبعيداً عن البدع والخرافات وغير ذلك من المنكرات. وعلى الراقي أن يلتزم بالأحكام الشرعية للعلاج - المذكورة سابقاً -.
حديث النهي عن الامتشاط يومياً
يقول السائل: إنه سمع حديثاً نبوياً فيه (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يمتشط الرجل كل يوم) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما دلالته إن صح أفيدونا.
الجواب: الحديث المذكور رواه أبو داود والنسائي والبيهقي ولفظه (عن حميد بن عبد الرحمن قال لقيت رجلاً صحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما صحبه أبو هريرة - رضي الله عنه - أربع سنين قال نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله أو يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل وليغترفا جميعاً) والحديث قال عنه الإمام النووي: رواه أبو داود بإسناد حسن، المجموع 1/293، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/9.
ويجب أن يعلم أن النهي في الحديث ليس للتحريم وإنما لكراهة التنزيه فليس كل نهي وارد في الشرع يدل على التحريم، فإن كثيراً من النواهي الشرعية تدل على الكراهة التنزيهية وقد عجبت ممن جمعوا أحاديث النواهي الواردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحشروها في باب واحد وكأنها كلها تدل على التحريم مما أوقع كثيراً من طلبة العلم الشرعي في إشكالات كثيرة وكان الواجب أن يبينوا إما بياناً إجمالياً أو بياناً تفصيلياً أن من أحاديث النواهي ما هو محمول على الكراهة التنزيهية حتى يكون طلبة العلم على بصيرة.
والمراد من الحديث المذكور في السؤال أنه لا ينبغي أن يكون المسلم مترفهاً منعماً يهتم كثيراً بتسريح شعره على سبيل المبالغة في ذلك وخير الأمور الوسط ومثله ما ورد في حديث آخر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نهى عن الترجل(9/227)
إلا غباً) رواه أبو داود والترمذي، وصححه والترجل والترجيل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إلا غباً) أي يوماً بعد يوم فلا يكره بل يسن فالمراد النهي عن المواظبة عليه والاهتمام به لأنه مبالغة في التزيين وتهالك به كما قاله المناوي في فيض القدير 6/404.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عبد الله بن بريدة أن رجلاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له فقال إني لم آتك زائراً إنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجوت أن يكون عندك منه علم فرآه شعثاً فقال ما لي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟ قال إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهانا عن كثير من الإرفاه) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، والإرفاه: من الرفاهية وهي السعة والدعة والتنعم.
ويضاف إلى ذلك أنه قد وردت أحاديث كثيرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العناية بالشعر وتنظيفه وتسريحه منها: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان له شعر فليكرمه) . رواه أبو داود وقال صاحب عون المعبود: [قوله (من كان له شعر فليكرمه) أي فليزينه ولينظفه بالغسل والتدهين والترجيل ولا يتركه متفرقاً فإن النظافة وحسن المنظر محبوب] عون المعبود شرح سنن أبي داود 11/147.
وقال الشوكاني: [الحديث قال في الفتح: وإسناده حسن وله شاهد من حديث عائشة في الغيلانيات وإسناده حسن أيضاً وسكت عنه أبو داود والمنذري وقد صرح أبو داود أيضاً أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج ورجال إسناده أئمة ثقات. وفيه دلالة على استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح وإعفائه عن الحلق لأنه يخالف الإكرام إلا أن يطول كما ثبت عند أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: (أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولي شعر طويل فلما رآني قال: ذباب ذباب قال:(9/228)
فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال: إني لم أعنك) وقوله: ذباب. قال صاحب النهاية: الذباب الشؤم أي هذا شؤم.
وأخرج مالك عن عطاء بن يسار قال: (أتى رجل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أليس هذا خير من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان) والثائر الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل.
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - (أنه كانت له جمة ضخمة فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يحسن إليها وأن يترجل كل يوم) رواه النسائي.
قال الشوكاني أيضاً: [الحديث رجال إسناده كلهم رجال الصحيح وأخرجه أيضًا مالك في الموطأ ولفظ الحديث عن أبي قتادة قال: (قلت يا رسول اللَّه إن لي جمة أفأرجلها قال: نعم وأكرمها) فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعم وأكرمها] نيل الأوطار 1/239-241 بتصرف.
وذكر المناوي أن حديث أبي قتادة محمول على أنه كان محتاجاً للترجيل كل يوم لغزارة شعره أو هو لبيان الجواز وذكر الحافظ السيوطي في حاشية أبي داود قال الشيخ ولي الدين العراقي في حديث أبي داود نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أن يمتشط أحدنا كل يوم) هو نهي تنزيه لا تحريم, والمعنى فيه أنه من باب الترفه والتنعم فيجتنب, ولا فرق في ذلك بين الرأس واللحية. فيض القدير 6/404.
وروى الإمام البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يصغي إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض) .
وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يكثر دهن رأسه, وتسريح لحيته) .
وذكر العلامة ابن القيم: حديث (من كان له شعر فليكرمه) وحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نهى عن الترجل إلا غباً) وردَّ على من قال بوقوع التعارض(9/229)
بينهما فقال: [والصواب: أنه لا تعارض بينهما بحال, فإن العبد مأمور بإكرام شعره, ومنهي عن المبالغة والزيادة في الرفاهية والتنعم, فيكرم شعره, ولا يتخذ الرفاهية والتنعم ديدنه, بل يترجل غباً. هذا أولى ما حمل عليه الحديثان, وبالله التوفيق] حاشية ابن القيم مطبوعة مع عون المعبود شرح سنن أبي داود 11/147.
وخلاصة الأمر أنه ينبغي للمسلم أن يحافظ على شعره ويكرمه وينظفه دون مبالغة في ذلك.
مناداة الناس يوم القيامة بأسماء أمهاتهم غير ثابت
يقول السائل: سمعت حديثاً ينص على أن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم فهل ثبت ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفيدونا؟
الجواب: روي في الحديث أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يدعى الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً من الله عز وجل عليهم) وهذا الحديث مكذوب على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ذكره ابن الجوزي في كتابه الموضوعات 3/248، والسيوطي في اللآلئ المصنوعة 2/449، وقال العجلوني: [أخرجه ابن عدي عن أنس وقال منكر، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات] كشف الخفاء 2/394. وبهذا يظهر لنا أن الحديث المذكور حديث مكذوب على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلاف ذلك أي أن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء آبائهم فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) . وقال الحافظ ابن حجر: [حديث ابن عمر في الغادر يرفع له لواء لقوله فيه (غدرة فلان ابن فلان) فتضمن الحديث أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم ... وقال ابن بطال: في هذا الحديث ردٌ لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم ستراً على آبائهم. قلت: هو حديث أخرجه(9/230)
الطبراني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف جداً, وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله وقال: منكر أورده في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الطبري. قال ابن بطال: والدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز. وفي الحديث جواز الحكم بظواهر الأمور. قلت: وهذا يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر وهو المعتمد] فتح الباري10/691.
وقال الشيخ ابن القيم: [الفصل العاشر في بيان أن الخلق يدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم هذا الصواب الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة ونص عليه الأئمة كالبخاري وغيره فقال في صحيحه باب يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم ثم ساق في الباب حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع الله لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) وفي سنن أبي داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم) فزعم بعض الناس أنهم يدعون بأمهاتهم واحتجوا في ذلك بحديث لا يصح وهو في معجم الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله الحديث وفيه فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه قال فلينسبه إلى أمه حواء يا فلان ابن حواء) قالوا وأيضا فالرجل قد لا يكون نسبه ثابتاً من أبيه كالمنفي باللعان وولد الزنا فكيف يدعى بأبيه؟ والجواب أما الحديث فضعيف باتفاق أهل العلم بالحديث، وأما من انقطع نسبه من جهة أبيه فإنه يدعى بما يدعى به في الدنيا فالعبد يدعى في الآخرة بما يدعى به في الدنيا من أب أو أم والله أعلم] تحفة المودود ص 139.
وقال الشيخ ابن القيم في موضع آخر: [وفي هذا الحديث - حديث أبي الدرداء -: رد على من قال: إن الناس يوم القيامة إنما يدعون بأمهاتهم, لا آبائهم وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال (باب يدعى(9/231)
الناس بآبائهم) وذكر فيه حديث نافع عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال (الغادر يرفع له لواء يوم القيامة؟ يقال له: هذه غدرة فلان بن فلان) . واحتج من قال بالأول. بما رواه الطبراني في معجمه من حديث سعيد بن عبد الله الأودي قال (شهدت أبا أمامة - وهو في النزع - قال: إذا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -, فقال: إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره , فليقم أحدكم على رأس قبره , ثم ليقل يا فلان بن فلانة , فإنه يسمعه ولا يجيبه, ثم يقول: يا فلان بن فلانة فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله - فذكر الحديث - وفيه فقال رجل يا رسول الله, فإن لم يعرف أمه, قال: فلينسبه إلى أمه حواء فلان بن حواء) . ولكن هذا الحديث متفق على ضعفه فلا تقوم به حجة فضلا عن أن يعارض به ما هو أصح منه. وحديث التلقين الذي ورد في كلام العلامة ابن القيم السابق احتج به من يرى أن الميت يدعى بأمه ففيه (يا فلان بن فلانة) فهذا الحديث ورد عن جابر بن سعيد الأزدي قال: (دخلت على أبي أمامة وهو في النزع فقال لي: يا أبا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصنع بموتانا فإنه قال: إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه يستوي قاعداً فليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول أرشدني رحمك الله فليقل: اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا شهادة أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول له: ما نصنع عند رجل لقن حجته؟ فيكون الله حجيجهما
دونه) قال الشيخ الألباني: منكر. أخرجه القاضي الخلعي في الفوائد 2/55، قلت - أي الألباني -: [وهذا إسناد ضعيف جداً لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن. قال الدارقطني: متروك الحديث. وقال البيهقي: واهٍ منسوب إلى الوضع. والحديث أورده الهيثمي. وقال: رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم] ثم ذكر الشيخ الألباني أن الأئمة النووي وابن الصلاح والحافظ العراقي قد ضعفوا الحديث. السلسلة الضعيفة 2/64-65. ونقل ابن علان قول الحافظ ابن حجر بعد تخريج(9/232)
حديث أبي أمامة: [هذا حديث غريب وسند الحديثين من الطريقين ضعيف جداً] الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 4/196. وقال الصنعاني: [ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله] سبل السلام 2/234. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي يده كتابان فقال: (أتدرون ما هذان الكتابان) ؟ فقلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال (هذا كتاب رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ... ) الحديث رواه أحمد والترمذي والنسائي والطبراني وابن عاصم وغيرهم، وقال الشيخ الألباني حديث حسن. وهذا الحديث يدل على أن الناس يدعون بآبائهم يوم القيامة.
وخلاصة الأمر أن الناس يدعون يوم القيامة بآبائهم كما صحت الأحاديث بذلك ولا يدعون بأمهاتهم. وعلى المسلم أن يستعد لليوم الآخر بالعمل الصالح فإن استعد بالعمل الصالح فلا يؤثر عليه إن دعي بأبيه أو أمه.
حديث (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله)
يقول السائل: سمعت حديثاً يقول (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما معناه؟
الجواب: هذا الحديث ورد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وله عدة ألفاظ منها ما رواه الطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) وفي رواية أخرى (فإنكم لن تدركوه إلا بالتصديق) وفي رواية ثالثة (لا تفكروا في الله وتفكروا في خلق الله) وفي رواية رابعة (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) والحديث بمجموع طرقه حديث حسن كما بين ذلك العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/395-397. وفي صحيح الجامع الصغير 1/572.(9/233)
إذا تقرر هذا فإن المراد بالحديث أن يتفكر الإنسان في مخلوقات الله وفي نعم الله عز وجل، وقد أمرنا الله عز وجل أن نتفكر فيما خلق في آيات كثيرة منها: قوله تعالى {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} سورة الغاشية الآية 17..وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة الأنعام الآية99.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف 185. وقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} سورة يونس الآية 101. وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة العنكبوت الآية 20. وقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَىءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة الروم الآية 50. وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} سورة عبس الآية 24. وغير ذلك من الآيات الكريمات.
ولا ينبغي التفكر في ذات الله لأن التفكر في ذات الله قد يقود الإنسان إلى الشك وهذا الأمر من وساوس الشيطان ومن إضلاله للمؤمن ليخرجه من الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله ولن يستطيع الإنسان بعقله المحدود أن يعرف قدر الله سبحانه وتعالى، قال جل جلاله: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) سورة البقرة الآية 255. وقال تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) سورة طه الآية110. وقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) سورة الشورى الآية 11.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المرضية عند أهل السنة والجماعة ما نصه: [ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله] . وقال الشيخ ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية في شرح العبارة السابقة: [(9/234)
يشير الشيخ رحمه الله إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل وذم علمهم فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) سورة النجم الآية 23. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: [لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء بل يصفه بما وصف به نفسه ... ] شرح العقيدة الطحاوية ص 427.
وقد علَّمنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيفية معالجة شكوك ووساوس الشيطان عندما يعرض لنا فقد ورد في الحديث أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله) رواه أحمد والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 1656. وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يوشك الناس يتساءلون، حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك؛ فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ من الشيطان) رواه أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/24. وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلقك؟ فيقول الله. فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقرأ آمنت بالله ورسله فإن ذلك يذهب عنه) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/22. وفي صحيح الجامع حديث رقم 1657. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من وجد من هذا الوسواس، فليقل: آمنا بالله ورسوله ثلاثاً فإن ذلك يذهب عنه) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/22. وفي صحيح الجامع حديث رقم 6587. وقد ذكر بعض أهل العلم أنه يؤخذ من
هذه(9/235)
الأحاديث ست وسائل للتغلب على وساوس الشيطان: 1- أن يقول المرء إذا انتابته هذه الخواطر: آمنت بالله ورسوله. 2- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فيقول مثلاً: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) . 3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً. 4- أن ينتهي عما هو فيه، كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ولينته) ، وهذه وسيلة مهمة؛ فإن الاستطراد مع الشيطان في هذه الوساوس يزيد نارها اشتعالاً وضراماً، والواجب أن يقطع المسلم هذه الخواطر بقدر المستطاع، وأن يشغل ذهنه بالمفيد النافع. 5- أن يقرأ سورة الإخلاص (قل هو الله أحد) فإن فيها ذكر صفات الرحمن، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، وقراءة هذه السورة العظيمة وتدبرها كفيل بقطع هذه الوساوس. 6- أن يتفكر الإنسان في خلق الله، وفي نعم الله، ولا يتفكر في ذات الله، لأنه لن يصل بعقله القاصر إلى تصور ذات الله، قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} سورة طه الآية 110انتهى. وقال الشيخ العلامة الألباني بعد أن ذكر الأحاديث السابقة: [دلت هذه الأحاديث الصحيحة على أنه يجب على من وسوس إليه الشيطان بقوله: من خلق الله؟ أن ينصرف عن مجادلته إلى إجابته بما جاء في الأحاديث المذكورة، وخلاصتها أن يقول: [آمنت بالله ورسله، الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ثم يتفل عن يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله من الشيطان، ثم ينتهي عن الانسياق مع الوسوسة وأعتقد أن من فعل ذلك طاعة لله ورسوله، مخلصاً في ذلك أنه لا بد أن تذهب الوسوسة عنه، ويندحر شيطانه لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإن ذلك يذهب عنه) . وهذا التعليم النبوي الكريم أنفع وأقطع للوسوسة من المجادلة العقلية في هذه القضية، فإن المجادلة قلما تنفع في مثلها. ومن المؤسف أن أكثر الناس في غفلة عن هذا(9/236)
التعليم النبوي الكريم، فتنبهوا أيها المسلمون وتعرفوا إلى سنة نبيكم واعملوا بها، فإن فيها شفاؤكم وعزكم] السلسلة الصحيحة 2/25.
وخلاصة الأمر أن الحديث ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن المطلوب من المسلم أن يتفكر في مخلوقات الله عز وجل وآلائه وأن لا يتفكر في ذات الله لأن التفكير في ذات الله من المضلات والعياذ بالله.
حديث أمر موسى بالسجود لقبر آدم عليه السلام مكذوب
يقول السائل: إنه قرأ الحديث التالي ويسأل عن صحته والحديث هو: (ذكر أن إبليس جاء إلى موسى صلوات الله تعالى وسلامه عليه فقال له: أنت الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وكلمك تكليماً، وإنما أنا خلق من خلق الله تعالى أردت أن أتوب إلى ربك فاسأله أن يتوب عليّ ففرح بذلك موسى فدعا وصلّى ما شاء الله تعالى. ثم قال: يا رب إنه إبليس خلق من خلقك يسألك التوبة فتب عليه. فقيل له: يا موسى إنه لا يتوب. فقال: يا رب إنه يسألك التوب. فأوحى الله تعالى: إني استجبت لك يا موسى فمره أن يسجد لقبر آدم فأتوب عليه فرجع موسى مسروراً فأخبره بذلك، فغضب من ذلك واستكبر ثم قال: أنا لم أسجد له حياً أأسجد له ميتاً ... ) .
الجواب: هذا الحديث ليس ثابتاً عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما ذكره بعض أهل التفسير كالسيوطي حيث ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} سورة البقرة الآيات 31- 33، قال السيوطي في الدر النثور: [أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان عن ابن عمر قال: لقي إبليس موسى فقال: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله(9/237)
برسالاته وكلمك تكليماً إذ تبت؟ وأنا أريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب عليَّ قال موسى: نعم. فدعا موسى ربه فقيل: يا موسى قد قضيت حاجتك، فلقي موسى إبليس قال: قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك. فاستكبر وغضب وقال: لم أسجد له حياً أأسجد له ميتا ً؟ ثم قال إبليس: يا موسى إن لك عليَّ حقاً بما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن. اذكرني حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف. فأذكره ولده وزوجته حتى يولي، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها] وذكره السيوطي أيضاً في الجامع الصغير ورمز لضعف الحديث انظر فيض القدير 3/166.
وكذلك فإن الشيخ الألباني قد ضعف الحديث في ضعيف الجامع الصغير ص 326 حديث رقم 2213 وذكر أن الحكيم الترمذي رواه في كتاب أسرار الح.
وقد ورد هذا الحديث في حادثة أخرى مع نوح عليه السلام كما ذكره السيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة هود فقال [ ... وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر في مكايد الشيطان عن أبي العالية قال: لما رست السفينة سفينة نوح عليه السلام إذا هو بإبليس على كوتل السفينة. . .! فقال له نوح عليه السلام: ويلك قد غرق أهل الأرض من أجلك.؟ ! قال له إبليس: فما أصنع؟ قال: تتوب. قال: فسل ربك هل لي من توبة؟ فدعا نوح ربه، فأوحى إليه أن توبته أن يسجد لقبر آدم. قال: قد جعلت لك توبة قال: وما هي؟ قال: تسجد لقبر آدم. قال: تركته حياً وأسجد له ميتاً؟ !] .
وبهذا يظهر لنا أن الحديث غير ثابتٍ روايةً كم أنه مردود درايةً فالله سبحانه وتعالى لا يأمر أحداً من خلقه أن يسجد لقبر فإن السجود لغير الله شرك أكبر ويبدو أن الحديث من وضع بعض عباد القبور.(9/238)
حديث استئذان ملك الموت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير ثابت
يقول السائل: إنه سمع حديث استئذان ملك الموت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاته وأنه ما استأذن على آدمي قبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يستأذن على آدمي بعده، فهل هذا الحديث ثابت أفيدونا؟
الجواب: حديث استئذان ملك الموت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورد بعدة روايات منها:
عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن رجلاً من قريش دخل على أبيه علي بن الحسين، فقال: ألا أحدثك عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بلى حدثنا عن أبي القاسم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لما مرض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه جبريل فقال: يا محمد! إن الله أرسلني إليك تكريماً لك، وتشريفاً لك، خاصة لك؛ يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل! مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، ثم جاءه اليوم الثاني، فقال له ذلك، فرد عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رد أول يوم، ثم جاءه اليوم الثالث، فقال له كما قال أول يوم، ورد عليه، كما رد عليه، وجاء معه ملك - يقال له إسماعيل - على مئة ألف ملك، كل ملك على مئة ألف ملك، فاستأذن عليه، فسأله عنه؟ ثم قال جبريل: هذا ملك الموت يستأذن عليك؛ ما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: ائذن له، فأذن له، فسلم عليه، ثم قال: يا محمد! إن الله أرسلني إليك؛ فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أتركه تركته! فقال: وتفعل يا ملك الموت؟!، قال: نعم، بذلك أمرت، وأمرت أن أطيعك، قال: فنظر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جبريل عليه السلام فقال جبريل: يا محمد! إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لملك الموت: امض لما أمرت به، فقبض روحه، فلما توفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجاءت التعزية؛ سمعوا صوتاً من ناحية البيت! السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فاتقوا وإياه فأرجوا؛ فإنما المصاب من حرم الثواب! فقال علي: أتدرون من هذا هو الخضر عليه السلام) رواه البيهقي في(9/239)
دلائل النبوة وذكره صاحب مشكاة المصابيح وقال الشيخ الألباني في تعليقه على المشكاة: [إسناده واهٍ وكل حديث فيه حياة الخضر إلى عهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا
يصح] مشكاة المصابيح 3/1685.
وجاء في رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها لما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأوا منه خفة في أول النهار فتفرق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين وأخلوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنساء فبينا نحن على ذلك لم نكن على مثل حالنا في الرجاء والفرح قبل ذلك قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أخرجن عني! هذا الملك يستأذن علي" فخرج من في البيت غيري ورأسه في حجري فجلس وتنحيت في جانب البيت فناجى الملك طويلا، ثم إنه دعاني فأعاد رأسه في حجري وقال للنسوة "ادخلن" فقلت. ما هذا بحس جبريل عليه السلام؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أجل يا عائشة هذا ملك الموت جاءني فقال: إن الله عز وجل أرسلني وأمرني أن لا أدخل عليك إلا بإذن، فإن لم تأذن لي ارجع وإن أذنت لي دخلت، وأمرني أن لا أقبضك حتى تأمرني، فماذا أمرك؟ فقلت: اكفف عني حتى يأتيني جبريل عليه السلام، فهذه ساعة جبريل" فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها، فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب ولا أرى، فوجمنا وكأنما ضربنا بصاخة ما نحير إليه شيئا وما يتكلم أحد من أهل البيت إعظاماً لذلك الأمر وهيبة ملأت أجوافنا، قالت وجاء جبريل في ساعته فسلم فعرفت حسه وخرج أهل البيت فدخل فقال: إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول؛ كيف تجدك وهو أعلم بالذي تجد منك، ولكن أراد أن يزيدك كرامةً وشرفاً وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق وأن تكون سنة في أمتك فقال "أجدني وجعاً" فقال: أبشر فإن الله تعالى أراد أن يبلغك ما أعد لك فقال "يا جبريل إن ملك الموت استأذن علي" وأخبره الخبر فقال جبريل: يا محمد إن ربك إليك مشتاق ألم يعلمك الذي يريد بك؟ لا والله تعالى ما استأذن ملك الموت على أحد قط ولا يستأذن عليه أبداً، إلا أن ربك متم شرفك وهو إليك مشتاق، قال "فلا تبرح إذن حتى يجيء" وأذن للنساء فقال "يا فاطمة ادني" فأكبت
عليه فناجاها فرفعت رأسها وعيناها تدمع وما تطيق الكلام، ثم قال "ادني مني رأسك" فأكبت عليه فناجاها(9/240)
فرفعت رأسها وهي تضحك وما تطيق الكلام، فكان الذي رأينا منها عجباً، فسألتها بعد ذلك فقالت أخبرني وقال "إني ميت اليوم" فبكيت ثم قال "إني دعوت الله أن يلحقك بي في أول أهلي وأن يجعلك معي" فضحكت، وأدنت ابنيها منه فشمهما قالت. وجاء ملك الموت واستأذن فأذن له فقال الملك. ما تأمرنا يا محمد؟ قال "ألحقني بربي الآن" فقال بلى من يومك هذا إما إن ربك إليك مشتاق ولم يتردد عن أحد تردده عنك ولم ينه عن الدخول على أحد إلا بإذن غيرك ولكن ساعتك أمامك وخرج قالت وجاء جبريل فقال السلام عليك يا رسول الله هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض أبداً "طوي الوحي وطويت الدنيا وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلا حضورك، ثم لزوم موقفي لا والذي بعث محمداً بالحق ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة ولا يبعث إلى أحد من رجاله، لعظم ما يسمع من حديثه ووجدنا وإشفاقنا، فقالت: فقمت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أضع رأسه بين ثديي وأمسكت بصدره. وجعل يغمى عليه حتى يغلب وجبهته ترشح رشحاً ما رأيته من إنسان قط، فجعلت أسلت ذلك العرق وما وجدت رائحة شيء أطيب منه فكنت أقول له - إذا أفاق - بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي ما تلقى جبهتك من الرشح؟ فقال "يا عائشة إن نفس المؤمن تخرج بالرشح ونفس الكافر تخرج من شدقيه كنفس الحمار" فعند ذلك ارتعنا وبعثنا إلى أهلنا، فكان أول رجل جاءنا ولم يشهده أخي، بعثه إلى أبي، فمات رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يجيء أحد، وإنما صدهم الله عنه لأنه ولاه جبريل وميكائيل، وجعل إذا أغمي عليه قال (بل الرفيق الأعلى) كأن الخيرة تعاد عليه، فإذا أطاق الكلام قال: (الصلاة، الصلاة!) إنكم لا تزالون متماسكين ما صليتم جميعا، (الصلاة! الصلاة!) كان يوصي بها حتى مات وهو يقول (الصلاة! الصلاة!)
بطوله في مجيء ملك الموت ثم ذهابه ثم مجيء جبريل ثم مجيء ملك الموت ووفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: [أخرجه الطبراني في الكبير من حديث جابر وابن عباس مع اختلاف في حديث طويل فيه: فلما كان يوم الاثنين اشتد الأمر وأوحى الله إلى ملك الموت أن اهبط إلى حبيبي(9/241)
وصفيي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحسن صورة وارفق به في قبض روحه. وفيه دخول ملك الموت واستئذانه في قبضه فقال (يا ملك الموت أين خلفت حبيبي جبريل" قال خلفته في سماء الدنيا والملائكة يعزونه فيك، فما كان بأسرع أن أتاه جبريل فقعد عند رأسه وذكر بشارة جبريل له بما أعد الله له، وفيه أدن يا ملك الموت فانته إلى ما أمرت به ... الحديث. وفيه: فدنا ملك الموت يعالج قبض روح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر به لذلك، إلى أن قال: فقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو حديث طويل في ورقتين كبار وهو منكر، وفيه عبد المنعم بن إدريس بن سنان عن أبيه عن وهب بن منبه قال أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه، وأبوه إدريس أيضا متروك قاله الدارقطني، ورواه الطبراني أيضا من حديث الحسين بن علي: أن جبريل جاءه أولا فقال له عن ربه كيف تجدك ثم جاءه جبريل اليوم الثالث ومعه ملك الموت وملك الهواء إسماعيل وأن جبريل دخل أولاً فسأله ثم استأذن ملك الموت وقوله امض لما أمرت به) .
وهو منكر أيضا فيه عبد الله بن ميمون القداح قال البخاري ذاهب ... الحديث ورواه أيضا من حديث ابن عباس في مجيء ملك الموت أولاً واستئذانه وقوله. إن ربك يقرئك السلام فقال "أين جبريل" فقال هو قريب مني الآن يأتي فخرج ملك الموت حتى نزل عليه جبريل ... الحديث وفيه المختار بن نافع منكر الحديث. وقال الشوكاني: [وفي إسناده القاسم بن عبد الله بن عمر وهو متروك وقد كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وقال أحمد إنه كان يضع الحديث] تحفة الذاكرين ص 316.
وقال العلامة ابن القيم عند تعداده للضوابط التي يعرف بها أن الحديث لا يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ومنها الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته، كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد] المنار المنيف ص 67.
وقال الشيخ الألباني أيضاً عن الحديث السابق: [موضوع - أي مكذوب - أخرجه الإمام الشافعي في السنن عن القاسم بن عبد الله بن(9/242)
عمر بن حفص عن جعفر. وهذا إسناد ضعيف جداً على إرساله، آفته القاسم هذا - وهو العمري المدني - قال الإمام أحمد: ليس بشيء كان يكذب ويضع الحديث. وكذبه ابن معين أيضاً، ولهذا قال الحافظ في التقريب: متروك رماه أحمد بالكذب] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 11/2/642-643.
وقال محقق كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من وظائف: [وهذا الحديث بطوله فيه انقطاع فإن محمداً الباقر والد جعفر الصادق وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب تابعي لم يدرك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو ولا أبوه زين العابدين] لطائف المعارف ص 212.
وجاء في رواية أخرى عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لما كان قبل وفاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثة أيام هبط عليه جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل أرسلني إليك إكراماً لك، وتفضيلاً لك، وخاصةً لك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً، فلما كان اليوم الثالث، هبط جبريل وهبط مع ملك الموت وهبط معهما ملك الهواء يقال له: إسماعيل على سبعين ألف ملك، ليس فيهم ملك إلا على سبعين ألف ملك يشيعهم جبريل فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك، وتفضيلاً لك، وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، فاستأذن ملك الموت على الباب فقال له جبريل: يا محمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولا استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: ائذن له، فأذن له جبريل فأقبل حتى وقف بين يديه فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك، فيما أمرتني به، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن كرهت تركتها، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتفعل يا ملك الموت؟ قال: نعم وبذلك أمرت أن أطيعك فيما أمرتني به، فقال له جبريل: إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: امض لما أمرت به، فقال له جبريل: هذا آخر وطئي(9/243)
الأرض، إنما كنت حاجتي في الدنيا، فلما توفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجاءت التعزية جاء آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل ما فات، فبالله ثقوا، وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) رواه الطبراني وفيه: عبد الله بن ميمون القداح، قال أبو حاتم وغيره متروك.
وقال الهيثمي: [رواه الطبراني وفيه عبد الله بن ميمون القداح ذاهب الحديث] مجمع الزوائد 9/35.
وقال الشيخ الألباني عن عبد الله بن ميمون القداح: [قلت: والقداح هذا، قال أبو حاتم: متروك. وقال البخاري: ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به. وفي التقريب: منكر الحديث متروك. وبه أعله الهيثمي في مجمع الزوائد 9/35.] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 11/2/643.
وخلاصة الأمر أن حديث استئذان ملك الموت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاته لا يصح ولا يثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل هو من الأحاديث الواهية ولا تجوز رواية مثل هذا الحديث إلا مع بيان درجته.
قصة غدير خم
يقول السائل: هل الحديث الوارد في قصة غدير خم وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إلى علي - رضي الله عنه - بالخلافة ثابت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفيدونا؟
الجواب: أولاً أذكر أن غَدير خُم هو موضع بين مكة والمدينة، وهو واد عند الجحفة به غدير، يقع شرق رابغ البلدة المعروفة في الحجاز. وأما الحديث فقد روى مسلم بإسناده عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله(9/244)
وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) وروى الإمام أحمد في مسنده عدة أحاديث في قصة غدير خم منها
(عن زاذان أبي عمر قال سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس من شهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم غدير خم وهو يقول ما قال، فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو يقول من كنت مولاه فعلي مولاه) ومنها عن سعيد بن وهب وزيد بن يثيع قالا نشد علي الناس في الرحبة من سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول يوم غدير خم إلا قام قال فقام من قبل سعيد ستة ومن قبل زيد ستة فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لعلي - رضي الله عنه - يوم غدير خم أليس الله أولى بالمؤمنين قالوا بلى قال اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) وغير ذلك. وقصة غدير خم صحيحة ثابتة كما قال أهل الحديث ولكن ما يدعيه الشيعة من أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إلى علي - رضي الله عنه - بالخلافة وأوصى بالخلافة له محض افتراء وكذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ليس في هذا الحديث - حديث غدير خم - ما يدل على أنه نص على خلافة علي - رضي الله عنه -، إذ لم يرد به الخلافة أصلاً، وليس في اللفظ ما يدل عليه، ولو كان المراد به الخلافة لوجب أن يبلغ مثل هذا الأمر العظيم بلاغاً بيناً] منهاج السنة 4/84-85.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً عند ذكره حديث غدير خم مرجعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حجة الوداع، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب فيه خطبة وصَّى فيها بإتباع كتاب الله، ووصَّى فيها بأهل بيته، كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك، حتى زعموا أنه عهد إلى علي - رضي الله عنه - بالخلافة بالنص الجلي، بعد أن فرش له، وأقعده على فراش(9/245)
عالية، وذكروا كلاماً وعملاً قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء، وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص، وغصبوا الوصي حقه، وفسَّقوا وكفَّرُوا إلا نفراً قليلاً.] اقتضاء الصراط المستقيم 1/293.
وقال الشيخ ابن كثير: [وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء من أنه أوصى - أي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى علي بالخلافة فكذب وبهت وافتراء عظيم، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك تنفيذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه وصرفهم إياها إلى غيره لا لمعنى ولا لسبب] البداية والنهاية 7/225.
وخلاصة الأمر أن حديث الغدير صحيح ولكن ادعاء الشيعة بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى لعلي - رضي الله عنه - بالخلافة كذب وافتراء.
تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى(9/246)
يسألونك
الجزء العاشر
تأليف: الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
رئيس دائرة الفقه والتشريع
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس
طباعة وتنسيق: شفاء بنت حسام الدين عفانه(10/247)
بسم الله الرحمن الرحيم(10/248)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} سورة آل عمران الآية 102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء الآية 1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب الآيتان 70-71.
أما بعد
فإن العلم أمانة ورعاية، وصيانة وخشية وورع، ومسؤولية عظيمة، وإن أهل العلم عامة، وأهل الفُتيا خاصة، مطالبون بحفظ الأمانة وأدائها على الوجه الصحيح، ومما ابتلي به المسلمون في هذا الزمان، ما يقوم به بعض المنتسبين للعلم الشرعي، من إهدار لكرامة العلم الشرعي، وتشويه صورته، وتسويد مُحيَّاه، والانحراف عن نهج العلماء العاملين، حملة الدين(10/249)
المخلصين، الذين ذكرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وهو حديث مشهور صححه الإمام أحمد والحافظ ابن عبد البر وغيرهما.
فترى هؤلاء يقفون في مواطن الريب والشبهات، وترى بعضهم يزج بنفسه في أماكن وملتقيات، يجب أن يتنزه آحادُ المسلمين عن التواجد فيها، فضلاً عن علمائهم.
وترى بعضهم يفتي في قضايا إرضاءً لذوي الجاه والمال والسلطان، وترى بعضهم يظهر في بعض الفضائيات مع المذيعات المتبرجات يفتي في الحلال والحرام، وينسى نفسه، إن هذا لشيءٌ عجاب!!
وترى بعضهم يدافع بكل ما أوتي من قوة عن الظلمة والفسقة والطغاة، بل عن الكفار، وترى بعضهم يكيل المديح للفساق والفاسقات، ويصفهم بأرفع الصفات.
وترى بعضهم يسير على قول القائل: النفاق سيد الأخلاق، وترى ... وترى ... وترى ...
إن واجب أهل العلم الشرعي والمنتسبين له، أن يكونوا كما كان سلفهم من العلماء الربانيين، ورثة الأنبياء، وصفوة الأتقياء، السائرين على هدي المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الجامعين بين العلم والعمل، فإن فرَّقوا بينهما فقد خابوا وخسروا، وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (هتف العلمُ بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) .
وقال الخطيب البغدادي: [ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرةٌ، والعملُ ثمرةٌ، وليس يُعَدُّ عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً.
وقيل: العلم والدٌ، والعملُ مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل مادمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قلَّ نصيبك منهما، ...(10/250)
والقليل من هذا - أي العلم - مع القليل من هذا - أي العمل- أنجى في العاقبة، إذا تفضل الله بالرحمة، وتمَّمَ على عبده النعمة، فأما المدافعةُ والإهمال، وحبُ الهُوَيْنا والاسترسال، وإيثار الخَفْضِ والدعة، والميل مع الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال، ذميمة وعقباها كريهة وخِيمة.
والعلم يُرادُ للعمل، كما العملُ يُراد للنجاة، فإذا كان العملُ قاصراً عن العلم، كان العلم كلاًّ على العالم، ونعوذ بالله من علمٍ عاد كلاًّ، وأورث ذلاًّ، وصار في رقبة صاحبه غلاًّ.] اقتضاء العلم العمل ص 14- 15.
وقال الحسين بن منصور في آداب العلماء [الثالث: أن يصون العلمَ كما صانه علماء السلف، ويقومَ له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف، فلا يدنسه بالأطماع، ولا يذله بذهابه ومشيه إلى غير أهله من أبناء الدنيا، من غير ضرورة أو حاجة أكيدة، ولا إلى من يتعلمه منه منهم، وإن عظم شأنه وكبر قدره وسلطانه.
قال الزهري: هوان بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم. وقال مالك بن أنس للمهدي وقد استدعاه لولديه يعلمهما: العلم أولى أن يوقر ويؤتى، وفي رواية: العلم يزار ولا يزور ويؤتى ولا يأتي. وفي رواية: أدركت أهل العلم يُؤْتَون ولا يأتون، ويروى عنه أيضاً أنه قال: دخلت على هارون الرشيد فقال يا أبا عبد الله: ينبغي أن تختلف إلينا - أي تزورنا - حتى يسمعَ صبياننا منك الموطأ، قال: فقلت أعزك الله إن هذا العلم منكم خرج، فإن أنتم أعززتموه عزَّ، وإن أذللتموه ذلَّ والعلمُ يُؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع من سمع الناس.]
وصدق القائل:
يا معشرَ القراء يا ملحَ البلد ... ما يصلحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟
ولله درُّ القاضي الجرجاني حيث قال:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوسِ لعُظِّما!
ولكنْ أهانوه فهان ودنّسوا ... مُحيَّاهُ بالأطماعِ حتى تجهَّما!(10/251)
وختاماً فهذا هو الجزء العاشر من كتابي يسألونك وأصله حلقات تنشر صباح كل يوم جمعة في جريدة القدس المقدسية وسلكت فيه المنهج الذي سلكته في الأجزاء السابقة من اعتمادٍ على كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى فهم سلف هذه الأمة، فإن أصبت فذلك الفضل من الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأختم بما قاله القاضي البيساني يرحمه الله: [إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه، إلا قال في غده لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يستحسن، ولو قُدِمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر] .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
أبوديس/القدس
صباح يوم الجمعة السادس من شعبان 1426هـ
وفق التاسع من أيلول 2005 م.(10/252)
العقيدة والتفسير(10/253)
لا يجوز طلب الاستغفار من سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول السائل: ما حكم أن يقول المسلم: يا رسول الله استغفر لي أو يا رسول الله ادع لي سواء أكان ذلك عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو في أي مكان آخر؟
الجواب: لا يجوز لأحد أن يقول: [يا رسول الله استغفر لي أو يا رسول الله ادع لي] سواء أكان ذلك عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو في أي مكان آخر ويعتبر هذا القول وسيلة من وسائل الشرك والعياذ بالله حيث إن سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد انتقل من هذه الدنيا إلى دار الآخرة فهو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله عز وجل وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} سورة الزمر الآية 30. والرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا عمل له حيث انقطع عمله بوفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} سورة النساء الآية 64. فالمراد بها المجيء إلى سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حال حياته وليس بعد وفاته ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِذْ} ومن المعلوم أن الأصل في لفظة (إذ) في لغة العرب أنها تستعمل لما مضى من الزمان ولا تستعمل للزمان المستقبل.
قال الجوهري: [إذ كلمة تدل على ما مضى من الزمان ... ] الصحاح 2/560.(10/255)
وانظر لسان العرب 1/101. وأما لفظة إذا فتستعمل لما يستقبل من الزمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على من يستدل بالآية السابقة على جواز سؤال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء حال موته: [ومنهم من يتأول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} ويقولون إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء وحكوا حكاية مكذوبة على مالك - رضي الله عنه - سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 1/159.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين عند حديثه عن أنواع التوسل: [النوع الرابع: أن يتوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته كطلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعو الله لهم مثل قول الرجل الذي دخل يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: ادع الله أن يغيثنا؛ وقول عكاشة بن محصن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادع الله أن يجعلني منهم. وهذا إنما يكون في حياة الداعي، أما بعد موته فلا يجوز؛ لأنه لا عمل له: فقد انتقل إلى دار الجزاء؛ ولذلك لما أجدب الناس في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يطلبوا من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستسقي لهم؛ بل استسقى عمر بالعباس عم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: قم فاستسق؛ فقام العباس فدعا، وأما ما يروى عن العتبي أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد جئتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربي) وذكر تمام القصة؛ فهذه كذب لا تصح؛ والآية ليس فيها دليل لذلك؛ لأن الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}(10/256)
ولم يقل: (إذا ظلموا أنفسهم) و (إذ) لما مضى لا للمستقبل؛ والآية في قوم تحاكموا أو أرادوا التحاكم إلى غير الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يدل على ذلك سياقها السابق واللاحق] التوسل حكمه وأقسامه ص 22-23.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز أن يقال [يا رسول الله استغفر لي أو يا رسول الله ادع لي] سواء أكان ذلك عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو في أي مكان آخر.
استغفار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمه أبي طالب
يقول السائل: ذكرت بعض كتب التفسير أن قَوْل الله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} قد نزلت في قصة عم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبو طالب مع أن الآية في سورة التوبة وهي متأخرة النزول أفيدونا؟
الجواب: روى الإمام البخاري بإسناده عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه (أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعنده أبو جهل فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} سورة التوبة الآية 113. ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} سورة القصص الآية 56.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أما نزول(10/257)
هذه الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب, وأما نزول التي قبلها ففيه نظر, ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة, وهي عامة في حقه وفي حق غيره, ويوضح ذلك ما سيأتي في التفسير بلفظ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} فأنزل الله بعد ذلك الآية. وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . ولأحمد من طريق أبي حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة أبي طالب قال: فأنزل الله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهذا كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام] فتح الباري 7/245.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: [قوله: فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي ما ينبغي لهم ذلك, وهو خبر بمعنى النهي ... وروى الطبري من طريق شبل عن عمرو بن دينار قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك, فلا أزال استغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه, فنزلت) وهذا فيه إشكال, لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقاً, وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية والأصل عدم تكرر النزول. وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال: (خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً إلى المقابر فاتبعناه, فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى, فبكينا لبكائه, فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي, واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي, فأنزل عليَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه وفيه (نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب) ولم يذكر نزول الآية. وفي رواية الطبري من هذا الوجه (لما قدم مكة أتى رسم قبر) ، ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية (لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت) وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود وفيه (لما هبط من ثنية عسفان) وفيه(10/258)
نزول الآية في ذلك. فهذه طرق يعضد بعضها بعضاً, وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب, ويؤيده أيضاً أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم أحد بعد أن شج وجهه: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصاً
بالأحياء وليس البحث فيه, ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم, ويكون لنزولها سببان: متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر آمنة. ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك, فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب, ويشير إلى ذلك أيضاً قوله في حديث الباب: (وأنزل الله في أبي طالب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية نزلت فيه وحده, ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد من طريق أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي قال: (سمعت رجلاً يستغفر لوالديه وهما مشركان, فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله: ما كان للنبي الآية) وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وقال المؤمنون ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه؟ فنزلت ... ] فتح الباري 8/644-645.
[ومما يؤكد تأخر نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} عن قصة أبي طالب:
1. قوله في الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهذا يدل على أن الاستغفار وقع من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن بعض المؤمنين، وقصة أبي طالب لم يكن الاستغفار فيها إلا من قبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2. أن هذه الآية وردت في سورة التوبة، وسورة التوبة مدنية، ومن أواخر ما نزل.
3. أن الله تعالى لم يُعاتب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته على عبد الله بن أبي، وإنما أنزل النهي فقط، ولو كان قد سبق النهي عن الاستغفار لمن مات على الكفر؛ لعاتب الله تعالى نبيه على ذلك] ملتقى أهل التفسير عن شبكة الإنترنت.(10/259)
ومن أهل العلم من يرى أن نزول الآية لم يكن في قصة أبي طالب حيث إنها في سورة براءة كما قرره الحافظ ابن حجر العسقلاني وهي من أواخر ما نزل من القرآن.
قال الألوسي: [واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الو احدي: وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال: كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، وذكر نحواً من هذا صاحب التقريب، وعليه لا يراد بقوله: فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه، خلا أنه يعكر عليه ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي - رضي الله عنه - قال: أخبرت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بموت أبي طالب فبكى فقال: (اذهب فغسِّله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه) ففعلت وجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه الآية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ... الخ} فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغياً به، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال: إن كون هذه السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافراً وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة] تفسير روح المعاني 6/32.
ومن أهل العلم من قال بتعدد سبب نزول الآية كالسيوطي حيث قال: [الحال السادس: أن لا يمكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره.
مثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال: (أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا(10/260)
طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية. وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت.
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً إلى المقابر فجلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي فأنزل علي: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} فجمع بين هذه الأحاديث بتعدد النزول] الإتقان في علوم القرآن 1/ 132-133.
إذا تقرر هذا فنعود إلى ما تدل عليه الآية الكريمة وهو تحريم الاستغفار والترحم على من مات كافراً من المغضوب عليهم ومن الضالين المضلين الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} سورة البقرة الآية 161، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} سورة آل عمران الآية 91. وهذا محل اتفاق بين أهل العلم ولا يغترنَّ أحدٌ بما يقوله بعض الشيوخ الذين انزلقوا في هذا المنزلق الخطير فخالفوا الأدلة الصريحة من الكتاب والسنة، قَال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} قال القرطبي: [هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز] تفسير القرطبي8/273.
وقال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} سورة التوبة الآية 84.(10/261)
وثبت في الحديث الصحيح أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (والذي نفس محمد بيده؛ لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواهُ مسلم.
قال الإمام النووي: [وقوله (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 1/342..
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم -ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً- فلا شفيع أعظم من محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم الخليل إبراهيم وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} . وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداءً بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/145-146.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} : [هذا نفي بمعنى النهي، فهو أبلغ من النهي المجرد، وهذا التعبير فيه يسمى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الشيء نفسه، لأنه نفي معلل بالسبب المقتضي له. والمعنى: ما كان من شأن النبي(10/262)
ولا مما يصح أن يصدر عنه من حيث هو نبي -ولا من شأن المؤمنين ولا مما يجوز أن يقع منهم من حيث هم مؤمنون- أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} لهم في الأصل حق البر وصلة الرحم وكانت عاطفة القرابة تقتضي الغيرة عليهم وحب المغفرة لهم (ولو) هذه تفيد الغاية لمعطوف عليه يحذف حذفاً مطرداً للعلم به، والمراد أنه ليس مما تبيحه النبوة ولا الإيمان ولا مما يصح وقوعه من أهلهما: الاستغفار للمشركين في حال من الأحوال، حتى لو كانوا أولي قربى، فإن لم يكونوا كذلك فعدم جوازه أولى. ثم قيد الحكم بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أهل النار الخالدين فيها بأن ماتوا على شركهم وكفرهم ولو بحسب الظاهر كاستصحاب حالة الكفر إلى الموت] ثم قال: [والآية نص في تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة وكذا وصفه بذلك كقولهم المغفور له المرحوم فلان، كما يفعله بعض المسلمين الجغرافيين الآن، لعدم تحققهم بمقتضى الإيمان، وتقيدهم بأحكام الإسلام، ومنهم بعض المعممين والحاملين لدرجة العالمية من الأزهر] تفسير المنار 11/56-57.
وقال الشيخ محمد صالح العثيمين: [فيا عباد الله إن الله تعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ} وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} وقال الله تعالى: {ِإنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} والآيات في هذا معلومة فعلينا أن نتخذ الخطوات الآتية: إن الكافرين سواء كانوا من اليهود أو من النصارى أو من الوثنيين أو من الشيوعيين أو من أي صنف من أصناف الكفار هم أعداؤُنا إنهم كانوا لنا عدواً مبينا هكذا قال الله عز وجل الذي هو العالم بالخفيات وبما في القلوب كانوا أعداء عداوة بينة ظاهرة ولكنهم قد ينافقون أحياناً من أجل حظوظ أنفسهم فقط لا من أجل فائدة المسلمين.(10/263)
ثانياً: أن نعلم أن الكفار مهما كانوا فإن ما يقدموا من خير لن ينفعهم عند الله تعالى لقول الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} هذا إذا تيقن أن فيه خيراً للإسلام والمسلمين فأما إذا كان فيه احتمال إن هذا الخير من أجل إبراز الدعوة النصرانية لمبرز ظاهر إنساني فان ذلك لا يكون فيه خير للمسلمين بل هو ضد المسلمين في الواقع.
ثالثاً: أن نعلم أنه لا يجوز لنا أن نترحم أو نستغفر لأحد من الكافرين المشركين أو اليهود أو النصارى لأن ذلك خلاف هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلاف هدي الذين آمنوا قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} هكذا نفى الله تعالى هذا الأمر نفياً قاطعاً لأن ما كان كذا يعني أنه ممتنع شرعاً فلا يجوز لأحد من المؤمنين أن يدعو لكافر بالمغفرة أو بالرحمة لأن هذا خلاف منهج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنهج الذين آمنوا ولقد قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمه أبي طالب حينما دعاه للإسلام ولكن آخر ما قال إنه على ملة عبد المطلب ولم يقل لا إله إلا الله قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك) فنهاه الله تعالى أن يستغفر لعمه أبي طالب مع أن عمه أبا طالب نصره نصراً مؤزراً ودافع عنه وكان يقول فيه القصائد العصماء ومع ذلك نهاه الله عز وجل أن يستغفر له وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} مع أن أبا طالب كان قد أفاد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفاد الرسالة النبوية وأفاد المسلمين ولكن ذلك لم ينفعه قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وإذا كان هذا في عم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي دافع عنه وناصره فكيف في من لم يكن هذه حاله ولقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صحيح مسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة- يعني أمة الدعوة - يهودياً أو نصرانياً ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار) هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن المعلوم أن اليهود والنصارى
كثير منهم قد سمع بدعوة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا ماتوا ولم يؤمنوا به فهم من أصحاب النار وإذا كانوا من أصحاب النار فإنه لا يجوز لنا أن ندعو الله لهم بالرحمة(10/264)
والمغفرة لأن هذا ضد حكم الله تبارك وتعالى فالله حكم بأنهم في النار فكيف نسأل الله أن يجعلهم في رحمته ومغفرته؟ هذا من المضادة لحكم الله تبارك وتعالى ولكننا مع ذلك لا نشهد لأحد بعينه من الكفار أنه في النار ولكننا نقول كل كافر من يهودي أو نصراني أو مشرك أو ملحد فإنه من أصحاب النار لكن الشهادة بالعين أمرها عظيم فلا يشهد لأحد بعينه بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن من مات على الكفر فإننا نجري عليه أحكام الكافرين فلا نستغفر له ولا نسأل الله له الرحمة.
أيها الإخوة إن هذا الأمر يخفى على كثير من الناس يظنون أن الدعاء بالمغفرة والرحمة لمن يظن أنه أحسن إلى الإنسانية يظنون أنه لا بأس به ولكن كما سمعتم آيات الله عز وجل في النهي عن الاستغفار والاسترحام للمشركين فمن كان قد استغفر لأحد من اليهود أو النصارى أو المشركين فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل وعليه أن لا يعود إلى ذلك ليحقق إيمانه وليكن على جادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين به ... ] عن موقع الشيخ على شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن من أهل العلم من يرى أن الآية نزلت في قصة أبي طالب عم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تنافي بين كونه قد مات قبل الهجرة وكون الآية في سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل وقد نصت الآية على حرمة الاستغفار لمن مات كافراً.
المحرمات من الأطعمة في آية الأنعام
يقول السائل: هل الآية الكريمة التالية {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} تدل على حصر المحرمات من الأطعمة(10/265)
في المذكورات فيها فقط وما لم يذكر فيها فهو مباح؟ أفيدونا.
الجواب: لا بد أن يعلم أولاً أن العلماء قد اختلفوا قديماً فيما تدل عليه الآية الكريمة المذكورة في السؤال وهي من سورة الأنعام الآية 145. وقد نقل عن بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر وعائشة رضوان الله عليهم أنهم يرون أن المحرمات من الأطعمة محصورة فيما ذكرته الآية الكريمة، ولكن أكثر الصحابة وجماهير الفقهاء قالوا بخلاف ذلك وأن الأطعمة المحرمة ليست محصورة فيما ذكرته الآية الكريمة فقط، بل ثبت تحريم أشياء كثيرة بالسنة النبوية وخاصة أن سورة الأنعام سورة مكية واستثنى بعض أهل العلم آيات منها قالوا إنها مدنية وليست الآية المذكورة منها.
قال الإمام البغوي: [ ... وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء، والمحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا، ذلك معنى قوله تعالى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها] تفسير البغوي عن الإنترنت.
وقد أجاب العلماء على دعوى حصر المحرمات بما ذكر في الآية فقط بأجوبة كثيرة منها:
إن الآية الكريمة جاءت رداً على المشركين الذين حرموا ما أحل الله مما ذكر في الآيات قبلها وغير ذلك مما حرموه بلا حجة ولا برهان قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} سورة المائدة الآية 103. وقال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} سورة الأنعام الآية 138. وقال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنْ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى(10/266)
اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} سورة الأنعام الآيتان 143- 144.
قال الإمام الطبري: [القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِد فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمهُ إِلَّا أَنْ يَكُون مَيْتَة أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّه بِهِ} يقول جلَّ ثناؤه لنبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قل يا محمد لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله والقائلين {هَذِهِ أَنْعَام وَحَرْث حِجْر لَا يَطْعَمهَا إِلَّا مَنْ نَشَاء بِزَعْمِهِمْ} والمحرمين من أنعام أُخَر ظهورها، والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها، والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ومحليه لذكورهم، المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله، وإضافة منهم ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم: أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم، فأنبئونا به، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كَذَبة إن ادعيتم ذلك ولا يمكنكم دعواه، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم، فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها بزعمكم، إلا أن يكون ميتة قد ماتت بغير تذكية أو دماً مسفوحاً -وهو المنصب- أو إلا أن يكون لحم خنزير {فَإِنَّهُ رِجْس أَوْ فِسْقًا} يقول: أو إلا أن يكون فسقاً، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر عليه اسم وثنه، فإن ذلك الذبح فسق نهى الله عنه وحرمه، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك، لأنه ميتة. وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله، وأن الذي زعموا أن الله حرمه
حلال قد أحله الله، وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل] تفسير الطبري عن الإنترنت.
وقال القرطبي في تفسير الآية الكريمة: [والمعنى: قل يا محمد لا(10/267)
أجد فيما أوحي إليَّ محرماً إلا هذه الأشياء، لا ما تحرمونه بشهوتكم. والآية مكية. ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة. وزيدَ في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة والخمر وغير ذلك. وحرم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ... وكل محرم حرمه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو جاء في الكتاب مضموم إليها، فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر، والفقه والأثر. ونظيره نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} سورة النساء الآية 24] وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} سورة البقرة الآية 282 ... وقد روى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه قال: في هذه الآية أشياء سألوا عنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء. وقيل: أي لا أجد فيما أوحي إلي أي في هذه الحال حال الوحي ووقت نزوله، ثم لا يمتنع حدوث وحي بعد ذلك بتحريم أشياء أخر ... وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الإجماع في أن سورة الأنعام مكية إلا قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الثلاث الآيات، وقد نزل بعدها قرآن كثير وسنن جمة. فنزل تحريم الخمر بالمدينة في المائدة. وأجمعوا على أن نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله: قل لا أجد في ما أوحي
إلي لأن ذلك مكي ... وأما القائلون بالتحريم فظهر لهم وثبت عندهم أن سورة الأنعام مكية، نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرم أموراً كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال وغيرها، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. قال أبو عمر: ويلزم على قول من قال: لا محرم إلا ما فيها ألا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمداً، وتستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب دليل واضح على أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد وجد فيما أوحي(10/268)
إليه محرماً غير ما في سورة الأنعام مما قد نزل بعدها من القرآن ... وعند فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبد الملك أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} بما يرد من الدليل فيها، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) فذكر الكفر والزنى والقتل. ثم قال علماؤنا: إن أسباب القتل عشرة بما ورد من الأدلة، إذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما يخبر بما وصل إليه من العلم عن الباري تعالى، وهو يمحو ما يشاء ويثبت وينسخ ويقدر. وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) وقد روي (أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ... ) ... ] تفسير القرطبي 7/115 - 117.
ومما يدل على أن المحرمات ليست محصورة فيما ذكرته الآية الكريمة ما ورد في الحديث عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ... ) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/871.
قال الإمام الخطابي في شرح الحديث: [ ... يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنَّها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما ليس له ذكر في القرآن على ما ذهب إليه الخوارج والروافض من الفرق الضالة فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا ... وفي الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب وأنه مهما ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء كان حجة بنفسه] معالم السنن 4/276.
ومما يدل أيضاً على أن المحرمات ليست محصورة فيما ذكرته الآية الكريمة ما روي في الحديث عن عيسى بن نميلة عن أبيه قال: (كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}(10/269)
الآية قال: قال شيخ عنده سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول ذكر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: خبيثة من الخبائث فقال: ابن عمر إن كان قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا فهو كما قال ما لم ندر) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.
وقال الإمام النووي: [وأجابوا عن الآية الكريمة بأنه أمر أن يخبر بأنه لا يجد محرماً في ذلك الوقت إلا هذا ثم ورد وحي آخر بتحريم السباع فأخبر به والآية مكية والأحاديث مدنية ولأن الحديث مخصص للآية] المجموع 9/17.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... والاستدلال بهذا للحل إنما يتم فيما لم يأت فيه نص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريمه, وقد تواردت الأخبار بذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس ... والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جداً فهو مقدم, وأيضاً فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها, فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها, وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة, وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به والمنخنقة إلى آخره, وكتحريم السباع والحشرات ... ] فتح الباري 9/811.
وقال العلامة ابن القيم بعد أن تكلم على تحريم لحوم الحمر الإنسية: [ ... ولا تعارض بين هذا التحريم وبين قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فإنه لم يكن قد حرم حين نزول هذه الآية من المطاعم إلا هذه الأربعة والتحريم كان يتجدد شيئاً فشيئاً فتحريم الحُمُر بعد ذلك تحريمٌ مبتدأٌ لما سكت عنه النص لا أنه رافع لما أباحه القرآن ولا مخصص لعمومه فضلاً عن أن يكون ناسخاً] زاد المعاد 3/343.
وخلاصة الأمر أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن المحرمات من الأطعمة ليست محصورة فيما ذكرته الآية الكريمة وأن ما ثبت بالسنة النبوية(10/270)
تحريمه يجب الأخذ به كتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم لحوم الحمر الأهلية وغير ذلك مما ورد في السنة النبوية فإن السنة النبوية تستقل بالتشريع وهو القول الحق عند الأصوليين.(10/271)
الصلاة(10/273)
من انتقض وضوؤه أثناء الصلاة يتوضأ ويستأنف الصلاة
يقول السائل: إن أحد المصلين كان يصلي مع الإمام وأثناء الصلاة انتقض وضوء المصلي فخرج من صلاته وذهب وتوضأ ثم رجع وأكمل صلاته من حيث خرج منها فما حكم ما فعله المصلي المذكور؟
الجواب: ما فعله المصلي المذكور يسمى عند الفقهاء البناء على الصلاة والمقصود به أنه إذا طرأ الحدث على المصلي أثناء الصلاة فإنه يخرج من صلاته فيتوضأ ثم يرجع فيكمل صلاته من حيث خرج منها فلو انتقض الوضوء بعد تمام الركعة الثالثة في الصلاة الرباعية فإنه بعد أن يتوضأ يتم الصلاة من الركعة الثالثة فيأتي بالركعة الرابعة. وهذا الأمر قال به الحنفية ونقل عن جماعة من فقهاء السلف وقد اعتمدوا على ما روي في الحديث عند ابن ماجة من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم) . ورواه الدارقطني أيضاً وقال ابن معين حديث ضعيف، قال الإمام النووي: [حديث عائشة ضعيف متفق على ضعفه رواه ابن ماجة والبيهقي باسناد ضعيف من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وقد اختلف أهل الحديث في الاحتجاج بإسماعيل بن(10/275)
عياش، فمنهم من ضعفه في كل ما يرويه، ومنهم من ضعفه في روايته عن غير أهل الشام خاصة، وابن جريج حجازي مكي مشهور فيحصل الاتفاق على ضعف روايته لهذا الحديث، قال ورواه جماعة عن ابن عياش عن ابن جريج عن ابنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً قال وهذا الحديث أحد ما أنكر على إسماعيل بن عياش والمحفوظ أنه مرسل وأما من رواه متصلاً فضعفاء مشهورون بالضعف] المجموع 4/74. وضعفه الإمام النووي أيضاً في خلاصة الأحكام 1/142، وضعفه الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 1/274-275. وضعفه العلامة الألباني في ضعيف الجامع الصغير حديث رقم 5426
إذا تقرر أن هذا الحديث ضعيف جداً فلا يصلح للاستدلال والصحيح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أن الحدث إذا طرأ أثناء الصلاة فقد بطلت ويلزم المصلي أن يتوضأ ويستأنف الصلاة من جديد ولا يعتد بما مضى منها.
قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في جواز البناء لمن سبقه الحدث. قد ذكرنا أن مذهبنا الصحيح الجديد أنه لا يجوز البناء بل يجب الاستئناف وهو مذهب المسور بن مخرمة الصحابي - رضي الله عنه - وبه قال مالك وآخرون، وحكاه صاحب الشامل عن ابن شبرمة وهو الصحيح من مذهب أحمد] المجموع 4/76.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما الذي سبقه الحدث فتبطل صلاته، ويلزمه استئنافها قال أحمد: يعجبني أن يتوضأ ويستقبل هذا قول الحسن وعطاء والنخعي ومكحول، وعن أحمد أنه يتوضأ ويبني، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس لما روي عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف فليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته) وعنه رواية ثالثة إن كان الحدث من السبيلين ابتدأ، وإن كان من غيرهما بنى لأن حكم نجاسة السبيل أغلظ والأثر إنما ورد بالبناء في الخارج من غير السبيل فلا يلحق به ما ليس في معناه. والصحيح الأول لما روى علي بن(10/276)
طلق قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف فليتوضأ، وليعد صلاته) رواه أبو داود والأثرم ... ولأنه فقد شرط الصلاة في أثنائها على وجه لا يعود إلا بعد زمن طويل وعمل كثير ففسدت صلاته كما لو تنجس نجاسة يحتاج في إزالتها إلى مثل ذلك، أو انكشفت عورته ولم يجد السترة إلا بعيدة منه أو تعمد الحدث أو انقضت مدة المسح وحديثهم ضعيف] المغني 2/76.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [كل حدث ينقض الطهارة بعمد أو نسيان فإنه متى وجد بغلبة أو بإكراه أو بنسيان في الصلاة ما بين التكبير للإحرام لها إلى أن يتم سلامه منها: فهو ينقض الطهارة والصلاة معاً، ويلزمه ابتداؤها، ولا يجوز له البناء فيها، سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً، في فرض كان أو في تطوع] المحلى 3/65-66. وقال الشيخ ابن حزم الظاهري ردَّاً على القول بالبناء على الصلاة: [أَخْبَرُونَا، عَنِ الْمُحْدِثِ الَّذِي أَمَرْتُمُوهُ بِالْبِنَاءِ, مُذْ يُحْدِثُ فَيَخْرُجُ فَيَمْشِي فَيَأْخُذُ الْمَاءَ فَيَغْسِلُ حَدَثَهُ أَوْ يَسْتَنْجِي فَيَتَوَضَّأُ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِ الصَّلاَةِ, أَهُوَ عِنْدَكُمْ فِي صَلاَةٍ أَمْ هُوَ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ؟ وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ فِي صَلاَةٍ أَكْذَبَهُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ صَلاَةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) وَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ يُعْتَدَّ لَهُ بِصَلاَةٍ قَدْ أَيْقَنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَقْبَلُهَا. فَصَحَّ أَنَّ عَمَلَ صَلاَتِهِ الَّذِي كَانَ قَبْلُ قَدْ انقطع، وَأَمَّا أَجْرُهُ فَبَاقٍ لَهُ بِلاَ شَكٍّ, إلاَّ أَنَّهُ الآنَ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ بِلاَ شَكٍّ, إذْ هُوَ فِي حَالٍ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهَا صَلاَةً وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ قلنا: صَدَقْتُمْ, فَإِذْ هُوَ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلاَةِ مُتَّصِلَةً, لاَ يَحُولُ بَيْنَ أَجْزَائِهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ قَاصِدًا بِمَا لَيْسَ مِنْ الصَّلاَةِ وَبِوَقْتٍ هُوَ فِيهِ فِي صَلاَةٍ, وَهَذَا بُرْهَانٌ لاَ مُخَلِّصَ مِنْهُ] المحلى 3/66. ثم روى الشيخ ابن حزم بإسناده عن الزُّهْرِيِّ: [أَنَّ الْمِسْوَرِ بْنَ
مَخْرَمَةَ كَانَ إذَا رَعَفَ فِي الصَّلاَةِ يُعِيدُهَا، وَلاَ يَعْتَدُّ بِمَا مَضَى] المحلى 3/69.
ثم قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [ ... عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيمَنْ أَحْدَثَ فِي(10/277)
صَلاَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلاَةَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمَالِكٍ, وَابْنِ شُبْرُمَةَ, وَآخِرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ, وَبِهِ نَأْخُذُ] المحلى 3/69.
وخلاصة الأمر أن من أحدث في صلاته لزمه الوضوء واستئناف الصلاة من بدايتها وأما البناء على ما مضى من صلاته فضعيف.
حكم الإفرازات المهبلية
تقول السائلة: ما حكم الإفرازات المهبلية التي تخرج من المرأة من حيث طهارتها أو نجاستها ومن حيث نقضها للوضوء أو عدم نقضها للوضوء، أفيدونا؟
الجواب: الإفرازات المهبلية التي تخرج من المرأة قد تكون طبيعية وقد تكون مرضية فالإفرازات الطبيعية عادة ما تكون عديمة اللون والرائحة وتزيد وتنقص نتيجة تغير نسبة الهرمونات خلال فترة الدورة الشهرية. والإفرازات غير الطبيعية تنتج عن إصابة المهبل بأحد الميكروبات الفطرية أو الطفيلية أو البكتيرية كما يقول الأطباء وسواء كانت هذه الإفرازات -التي يسميها الفقهاء رطوبة فرج المرأة- طبيعية أو مرضية فهي ناقضة للوضوء على الراجح من قولي العلماء قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 6 ولفظ الغائط يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى ويدخل في ذلك الإفرازات المهبلية.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال أبو القاسم: والذي ينقض(10/278)
الطهارة ما خرج من قُبُل أو دُبرٍ وجملة ذلك أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح فهذا ينقض الوضوء إجماعاً، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن خروج الغائط من الدبر وخروج البول من ذكر الرجل وقبل المرأة وخروج المذي، وخروج الريح من الدبر أحداث ينقض كل واحد منها الطهارة ويوجب الوضوء ودم الاستحاضة ينقض الطهارة في قول عامة أهل العلم إلا في قول ربيعة.
الضرب الثاني: نادر كالدم والدود والحصا والشعر فينقض الوضوء أيضاً، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وكان عطاء والحسن وأبو مجلز والحكم وحماد والأوزاعي وابن المبارك يرون الوضوء من الدود يخرج من الدبر، ولم يوجب مالك الوضوء من هذا الضرب لأنه نادر, أشبه الخارج من غير السبيل. ولنا أنه خارج من السبيل أشبه المذي ولأنه لا يخلو من بلة تتعلق به فينتقض الوضوء بها وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المستحاضة بالوضوء لكل صلاة ودمها نادر غير معتاد] المغني 1/125.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) رواه البخاري ومسلم. والمراد بالحدث الخارج من أحد السبيلين كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 1/221.
وقد اختلف الفقهاء في الإفرازات المهبلية أطاهرة هي أم نجسة؟ والذي أميل إليه هو القول بنجاستها من باب الاحتياط وخاصة أن أهل العلم قالوا إن الإفرازات المهبلية منها ما يخرج من المهبل مخرج الولد ومنها ما يخرج من مخرج البول ويغلب على ظني أنه من الصعوبة بمكان أن تميز المرأة بين النوعين السابقين لذا أرى أن القول بنجاسة الإفرازات المهبلية أحوط فيلزم المرأة أن تتحفظ منها فإذا نزل من المرأة شيء من الإفرازات المهبلية فيلزمها الوضوء وتنظيف ما أصابت من ملابسها.
وأود أن أنبه على أمرين هامين: الأول: إذا كانت الإفرازات المهبلية تنزل من المرأة بشكل مستمر ولا تنقطع فتكون المرأة حينئذ صاحبة عذر(10/279)
فتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي ولا يضرها ما نزل منها من الإفرازات المهبلية حتى لو نزلت أثناء الصلاة فصلاتها صحيحة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن المستحاضة ومن به سلس البول أو المذي أو الجريح الذي لا يرقأ دمه وأشباههم ممن يستمر منه الحدث ولا يمكنه حفظ طهارته، عليه الوضوء لكل صلاة بعد غسل محل الحدث وشده والتحرز من خروج الحدث بما يمكنه فالمستحاضة تغسل المحل ثم تحشوه بقطن أو ما أشبهه، ليردَّ الدم لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم: (أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم فإن لم يرتد الدم بالقطن، استثفرت بخرقة مشقوقة الطرفين تشدها على جنبيها ووسطها على الفرج) وهو المذكور في حديث أم سلمة لتستثفر بثوب وقال لحمنة (تلجمي) لما قالت: إنه أكثر من ذلك فإذا فعلت ذلك ثم خرج الدم، فإن كان لرخاوة الشد فعليها إعادة الشد والطهارة وإن كان لغلبة الخارج وقوته وكونه لا يمكن شده أكثر من ذلك، لم تبطل الطهارة لأنه لا يمكن التحرز منه فتصلي ولو قطر الدم قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي) رواه البخاري. وفي حديث: (صلي وإن قطر الدم على الحصير) وكذلك من به سلس البول ... ويلزم كل واحد من هؤلاء الوضوء لوقت كل صلاة إلا أن يخرج منه شيء وبهذا قال الشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي ... ولنا ما روى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في (المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل، وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة) رواه أبو داود والترمذي، وعن عائشة قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت خبرها ثم قال: اغتسلي, ثم توضأي لكل صلاة وصلي) رواه أبو
داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح ولأنه خارج من السبيل، فنقض الوضوء كالمذي، إذا ثبت هذا فإن طهارة هؤلاء -أي أصحاب الأعذار- مقيدة بالوقت لقوله: (تتوضأ عند كل صلاة) وقوله: (ثم توضأي لكل صلاة) ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم] المغني 1/247-248.
الأمر الثاني هو بيان كيفية الغسل الصحيح فقد ورد في الحديث عن(10/280)
ابن عباس رضي الله عنهما قال حدثتني خالتي ميمونة قالت أدنيت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً ثم أدخل يده في الإناء ثم أفرغ به على فرجه وغسله بشماله ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه ثم غسل سائر جسده ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه ... ) رواه البخاري ومسلم. فالغسل الواجب يشترط فيه النية بأن ينوي رفع الحدث وأن يعمم جميع الجسد بالماء فهذا أقل ما يجزئ في الاغتسال.
ويدل على ذلك ما ورد في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - الطويل قال: كنا في سفر مع النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم، قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك ثم سار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاشتكى إليه الناس من العطش ... وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء قال اذهب فأفرغه عليك) رواه البخاري ومسلم فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فأفرغه عليك) يدل على أن مجرد إفراغ الماء على البدن يُعدُّ غُسلاً صحيحاً. وأكمل منه الغسل المندوب وصفته أن يغسل المرء كفيه ثلاثاً قبل إدخالهما في الإناء ثم يفرغ الماء بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ويجوز أن يؤخر غسل رجليه إلى آخر الغسل ثم يفيض الماء على جميع بدنه.
وخلاصة الأمر أن الإفرازات المهبلية ناقضة للوضوء ونجسة.
مفارقة الإمام
يقول السائل: أرجو توضيح مسألة مفارقة الإمام في صلاة الجماعة حيث حصل خلاف بين المصلين لما قام الإمام إلى ركعة خامسة فبعض المصلين فارق الإمام وأتم الصلاة لوحده. أفيدونا.(10/281)
الجواب: الأصل فيمن يصلي جماعة أن يتم الصلاة مع الإمام ولا يجوز له مفارقة إمامه إلا من عذر وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا ركع فاركعوا ... ) رواه البخاري ومسلم.
وأجاز جمهور أهل العلم للمأموم أن ينفرد عن الجماعة لعذر وهي المسألة المسماة مفارقة الإمام والمقصود بمفارقة الإمام قطع الإقتداء به وإتمام الصلاة منفرداً والأصل فيها ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - (أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاةَ فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنَّا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا- وهو ما يستقى عليه من الإبل- وإن معاذاً صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوزت فزعم أني منافق، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معاذ أفتان أنت ثلاثاً - أي منفر من الصلاة وصادٌ عنها - اقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ونحوها) رواه البخاري.
وفي رواية عند مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: (كان معاذ يصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله ولآتين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأخبرنه فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إنَّا أصحاب نواضح نعمل بالنهار وإن معاذاً صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة فأقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معاذ فقال: يا معاذ أفتان أنت؟ إقرأ بكذا واقرأ بكذا، قال سفيان فقلت لعمرو إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال إقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
و {وَالضُّحَى} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فقال عمرو نحو هذا) .
قال الإمام النووي: [واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أنه(10/282)
يجوز للمأموم أن يقطع القدوة ويتم صلاته منفرداً وإن لم يخرج منها] شرح النووي على صحيح مسلم 2/136.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن أحرم مأموماً ثم نوى مفارقة الإمام وإتمامها منفرداً لعذر جاز، لما روى جابر قال: (كان معاذ يصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم، فأخر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء فصلى معه ثم رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة، فتأخر رجل فصلى وحده فقيل له: نافقت يا فلان، قال: ما نافقت، ولكن لآتين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال: أفتان أنت يا معاذ؟! أفتان أنت يا معاذ؟! مرتين، إقرأ سورة كذا وسورة كذا، وقال وسورة ذات البروج {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ) متفق عليه. ولم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل بالإعادة ولا أنكر عليه فعله] المغني 2/171.
وذكر الفقهاء الأعذار التي تجيز للمأموم أن يفارق إمامه فمنها التطويل في القراءة على خلاف السنة كما حصل مع معاذ - رضي الله عنه - حيث إنه قرأ سورة البقرة في صلاة العشاء وقراءتها في العشاء تطويل فلذا زجره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وضابط التطويل أن يكون تطويلاً خارجاً عن السُّنَّة لا خارجاً عن العادة. انظر الشرح الممتع 2/306.
ومنها إذا أصيب المأموم بمرض مفاجئ أثناء الصلاة ولم يستطع التحمل فله مفارقة الإمام.
[ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ على الإنسان قَيْئٌ في أثناء الصَّلاة؛ لا يستطيع أن يبقى حتى يكمل الإمام؛ فيخفِّف في الصَّلاة وينصرف. ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ على الإنسان غازاتٌ -ريح في بطنه- يَشُقُّ عليه أن يبقى مع إمامه فينفرد ويخفِّف وينصرف. ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ عليه احتباسُ البول أو الغائط فيُحصر ببول أو غائط لكن إذا قُدِّرَ أنه لا يستفيد من مفارقة الإمام شيئاً؛ لأن الإمام يخفِّف، ولو خفَّف أكثر من تخفيف(10/283)
الإمام لم تحصُل الطُّمأنينة فلا يجوز أن ينفردَ؛ لأنه لا يستفيد شيئاً بهذا الانفراد] الشرح الممتع 2/306-307.
ومن الأعذار التي تجيز المفارقة فيما إذا سها الإمام عن الجلوس الأخير في الصلاة فقام إلى ثالثة في الفجر أو رابعة في المغرب أو خامسة في الظهر أو العصر أو العشاء فسبح بعض المصلين فلم يرجع فالمأموم إذا كان متيقناً أنه صلى الصلاة تامة فلا يجوز أن يتابع الإمام في الركعة الزائدة فإن فعل بطلت صلاته لأنه تعمد الزيادة في الصلاة والمأموم في هذه الحالة مخير بين أمرين: فإما أن يبقى جالساً حتى يسلم الإمام فيسلم معه وإما أن ينوي مفارقة الإمام.
قال الإمام النووي: [وإن تمت صلاة المأموم أولاً لم يجز له متابعة الإمام في الزيادة، بل إن شاء فارقه عند تمامها وتشهد وسلَّم، وتصح صلاته بلا خلاف، لأنه فارقه بعذر يتعلق بالصلاة، وإن شاء انتظره في التشهد وطوَّل الدعاء حتى يلحقه الإمام ثم يسلم عقبه] المجموع 4/209.
[وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إمام قام إلى خامسة فسبح به فلم يلتفت لقولهم وظن أنه لم يَسْهَ فهل يقومون معه أم لا؟ فأجاب: إن قاموا معه جاهلين لم تبطل صلاتهم لكن مع العلم لا ينبغي لهم أن يتابعوه بل ينتظرونه حتى يسلم بهم أو يسلموا قبله والانتظار أحسن] مجموع الفتاوى 23/53.
ومن الأعذار التي تجيز المفارقة إذا اختلف نظم صلاة المأموم عن صلاة الإمام كمن يصلي المغرب خلف من يصلي العشاء أو من يصلي الفجر خلف من يصلي الظهر فيجوز للمأموم أن يفارق الإمام نظراً لاختلاف نظم الصلاتين، قال الإمام النووي: [ولو نوى الصبح خلف مصلي الظهر وتمت صلاة المأموم، فإن شاء انتظر في التشهد حتى يفرغ الإمام، ويسلم معه وهذا الأفضل، وإن شاء نوى مفارقته وسلَّم، ولا تبطل صلاته هنا بالمفارقة بلا خلاف لتعذر المتابعة وكذا فيما أشبهها من الصور، ولا فرق(10/284)
في جميع ذلك بين أن ينوي المفارقة في صلاة فرض أو نفل] المجموع 4/237.
ومن الفقهاء من وضع ضابطاً للأعذار التي تجيز المفارقة فقد قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والأعذار التي يخرج لأجلها مثل المشقة بتطويل الإمام، أو المرض، أو خشية غلبة النعاس، أو شيء يفسد صلاته، أو خوف فوات مال أو تلفه، أو فوات رفقة، أو من يخرج من الصف لا يجد من يقف معه، وأشباه هذا] المغني 2/171.
وينبغي أن يعلم أن الاختلاف بين مذهبي المأموم والإمام لا يجيز المفارقة فمثلاً إذا قنت الإمام في الفجر فلا يجوز للمأموم أن يفارقه لأنه لا يعمل بالقنوت للفجر لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) وكذلك في التراويح إذا كان الإمام يصليها عشرين ركعة والمأموم يصليها ثمانيَ ركعات مثلاً فلا ينبغي له مفارقة الإمام لما ورد في الحديث عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح. ولأن الزيادة على ثمان ركعات في التراويح جائزة على الصحيح من أقوال أهل العلم.
وخلاصة الأمر أن مفارقة المأموم للإمام في صلاة الجماعة تصح لعذر ولا ينبغي له أن يفارقه بدون عذر.
تجوز الزيادة في صلاة التراويح عن إحدى عشرة ركعة
يقول السائل: ما حكم الزيادة في صلاة التراويح عن إحدى عشرة ركعة حيث إن بعض طلبة العلم يمنعون الزيادة بحجة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزد عليها، أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن صلاة التراويح سنة ثابتة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(10/285)
وكان هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم. وأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا قول مشهور من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا الحاضر وكثير من مساجد المسلمين تصلى فيها التراويح كذلك ومنهم من زاد على العشرين فقيل تسع وثلاثين وقيل إحدى وأربعين وقيل غير ذلك. ومن أهل العلم من يرى أنه لا حد لعدد ركعات صلاة التراويح فيجوز أن يزيد على إحدى عشرة ركعة ولا حرج في ذلك وهذا أرجح أقوال أهل العلم فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحدد عدداً محدوداً لصلاة التراويح تمنع الزيادة عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه عدداً معيناً بل كان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يزيد في رمضان ولا في غيره على ثلاث عشرة ركعة ولكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر - رضي الله عنه - على أبي بن كعب - رضي الله عنه - كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن ... ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/272.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: [والحاصل أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشبهها هو مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى فقصر الصلاة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة] نيل الأوطار 3/61.
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز لأحد أن ينكر على من يصلي التراويح بأكثر من إحدى عشرة ركعة كمن يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة فإن الأمر فيه سعة.(10/286)
قال الإمام الشافعي يرحمه الله: [رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق] .
وقال الحافظ ابن عبد البر يرحمه الله: [وقد أجمع العلماء على أن لا حدّ ولا شيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلَّت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود] الاستذكار 5/244.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني يرحمه الله: [ ... والأعداد الأخرى سوى الإحدى عشرة أُثرت عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والقاعدة عندهم في ذلك أنهم كانوا إذا أطالوا القراءة قللوا عدد الركعات وإذا أخفوا القراءة زادوا في عدد الركعات] فتح الباري.
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [وإن أوتر بثلاث وعشرين كما فعل ذلك عمر والصحابة رضي الله عنهم في بعض الليالي من رمضان فلا بأس، فالأمر واسع، وثبت عن عمر والصحابة أيضاً أنهم أوتروا بإحدى عشرة، كما في حديث عائشة، فقد ثبت عن عمر هذا وهذا، ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه أمر من عين من الصحابة أن يصلي إحدى عشرة، وثبت عنهم أنهم صلوا بأمره ثلاثاً وعشرين، وهذا يدل على التوسعة في هذا، وأن الأمر عند الصحابة واسع، كما دل عليه قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) ولكن الأفضل من حيث فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، وسبق ما يدل على أن إحدى عشرة أفضل لقول عائشة رضي الله عنها: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) يعني غالباً، ولهذا ثبت عنها أنه صلى ثلاث عشرة وثبت عن غيرها، فدل ذلك أن هذا هو الأغلب، وهي تطلع على ما كان يفعله عندها وتسأل أيضاً فإنها كانت أفقه النساء وأعلم النساء بسنة الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت تخبر عما يفعله عندها وعما تشاهده وتسأل غيرها من أمهات المؤمنين ومن الصحابة، وتحرص على العلم، ولهذا حفظت علماً عظيماً وأحاديث كثيرة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبب حفظها العظيم وسؤالها غيرها من الصحابة عما حفظوا رضي الله عن الجميع.
ثم استفسر من الشيخ سائل قائلاً: أحسن الله إليك، بعض المصلين(10/287)
يرون أن هذه هي السنة، وعندما يأتون إلى مساجد تصلي ما يزيد على ثلاث وعشرين ركعة يصلون إحدى عشرة ركعة أو عشر ركعات ولا يتمون مع الإمام؟
يوضح الشيخ رحمه الله قائلاً: لا، السنة الإتمام مع الإمام ولو صلى ثلاثاً وعشرين، لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة) ... فالأفضل للمأموم أن يقوم مع الإمام حتى ينصرف، سواء صلى إحدى عشرة أو ثلاث عشرة أو ثلاثاً وعشرين، هذا هو الأفضل؛ أن يتابع الإمام حتى ينصرف والثلاث والعشرون فعلها عمر- رضي الله عنه - مع الصحابة، فليس فيها نقص وليس فيها خلل، بل هي من السنن، من سنة الخلفاء الراشدين ... ] عن شبكة الإنترنت.
وقال العلامة عبد العزيز بن باز: [ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطأ مخالف للأدلة. وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته بل ثبت عنه أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وربما صلى ثلاث عشرة ركعة وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره ولما سئل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل قال: (مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق على صحته. ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر - رضي الله عنه -في بعض الأحيان ثلاثاً وعشرين ركعة وفي بعضها إحدى عشرة ركعة كل ذلك ثبت عن عمر - رضي الله عنه - وعن الصحابة في عهده. وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستاً وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث وبعضهم يصلى إحدى وأربعين ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم كما ذكر رحمة الله عليه أن الأمر في ذلك واسع] عن شبكة الإنترنت.(10/288)
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: [ ... لا ينبغي لنا أن نغلو أو نفرط فبعض الناس يغلو من حيث التزام السنة في العدد فيقول لا تجوز الزيادة على العدد الذي جاءت به السنة وينكر أشد النكير على من زاد على ذلك ويقول إنه آثمٌ عاصٍ وهذا لا شك أنه خطأ وكيف يكون آثماً عاصياً وقد سئل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل؟ فقال: (مثنى مثنى) ولم يحدد بعدد ومن المعلوم أن الذي سأله عن صلاة الليل لا يعلم العدد لأن من لا يعلم الكيفية فجهله بالعدد من باب أولى وليس ممن خدم الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نقول إنه يعلم ما يحدث داخل بيته فإذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين له كيفية الصلاة دون أن يحدد له بعدد علم أن الأمر في هذا واسع وأن للإنسان أن يصلي مئة ركعة ويوتر بواحدة.
وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهذا ليس على عمومه ... وإنما المراد (صلوا كما رأيتموني أصلي) في الكيفية أما في العدد فلا إلا ما ثبت النص بتحديده. وعلى كلٍ ينبغي للإنسان أن لا يشدد على الناس في أمر واسع حتى إنا رأينا من الإخوة الذين يشددون في هذا من يبدعون الأئمة الذين يزيدون على إحدى عشرة ويخرجون من المسجد فيفوتهم الأجر الذي قال فيه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من قام مع الإمام(10/289)
حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وقد يجلسون إذا صلوا عشر ركعات فتتقطع الصفوف بجلوسهم وربما يتحدثون أحياناً فيشوشون على المصلين وكل هذا من الخطأ ونحن لا نشك بأنهم يريدون الخير وأنهم مجتهدون لكن ليس كل مجتهد يكون مصيباً] الشرح الممتع 4/73-74.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله أيضاً: [إذا قال قائل: صححتم أنها إحدى عشرة ركعة، فما رأيكم لو صلّينا خلف إمام يصليها ثلاثاً وعشرين، أو أكثر، هل إذا قام إلى التسليمة السادسة نجلس وندعه، أو الأفضل أن نكمل معه؟
الجواب: نقول: الأفضل أن: نكمل معه، ودليل ذلك من وجهين:
الوجه الأول: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قيام رمضان: (إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) . ومن جلس ينتظر حتى يصل الإمام إلى الوتر ثم أوتر معه، فإنه لم يصلَّ مع الإمام حتى ينصرف؛ لأنه ترك جزءاً من صلاته.
الوجه الثاني: عموم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وهذا يشمل كل فعل فعله الإمام ما لم يكن منهياً عنه، والزيادة على إحدى عشرة ليس منهياً عنها، وحينئذ نتابع الإمام.
أما لو كانت الزيادة منهياً عنها مثل: أن يصلي الإنسان صلاة الظهر خمساً فإننا لا نتابعه. ثم ينبغي أن نعلم أن اتفاق الأمة مقصود قصداً أولياً بالنسبة للشريعة الإسلامية، لأن الله يقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} سورة المؤمنون الآية 52. والتنازع بين الأمة أمر مرفوض، قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} سورة آل عمران الآية 105. وقال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} سورة الشورى الآية 13. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} سورة الأنعام الآية 159. وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) يقوله في تساوي الناس في الصف، (ولما صلّى عثمان - رضي الله عنه - في مِنى في الحج الرباعية أربعاً ولم يقصر بعد أن مضى من خلافته ثماني سنوات، وأنكر الناس عليه، وقالوا قصر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر) يعني: وأنت في أول خلافتك، لكنه - رضي الله عنه - تأول، فكان الصحابة الذين ينكرون عليه يصلون خلفه أربعاً، وهم ينكرون عليه مع أن هذه زيادة متصلة بالصلاة منكرة عندهم، ولكن تابعوا الإمام فيها إيثاراً للاتفاق، فما بالك بزيادة منفصلة، لو تعمدها الإنسان لا تؤثر على بطلان الصلاة؟ ونحن نقول: إننا متمسكون بالسنة ومتّبعون لآثار الصحابة ثم نخالف في هذه المسألة، فإني أقول إنَّ كل إنسان يقول: إنه متبع للسنة متبع لهدي السلف فإنه لا يسعه أن يدع الإمام إذا صلّى ثلاثاً وعشرين ويقول: أنا
سأتبع السنة وأصلي إحدى عشرة؛ لأنك مأمور بمتابعة إمامك منهي عن المخالفة، ولست منهياً عن الزيادة عن إحدى عشرة.(10/290)
فيجب على طلبة العلم خاصة، وعلى الناس عامة أن يحرصوا على الاتفاق مهما أمكن؛ لأن منية أهل الفسق وأهل الإلحاد أن يختلف أصحاب الخير، لأنه لا يوجد سلاح أشد فتكاً من الاختلاف، وقد قال موسى للسحرة: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} سورة طه الآيتان 60-61. فلما تنازعوا فشلوا وذهبت ريحهم، فهذا الاختلاف الذي نجده من بعض الأخوة الحريصين على إتباع السنة في هذه المسألة وفي غيرها، أرى أنه خلاف السنة، وما تقصده الشريعة من توحّد الكلمة واجتماع الأمة، لأن هذا -ولله الحمد- ليس أمراً محرماً ولا منكراً، بل هو أمر يسوغ فيه الاجتهاد فكوننا نولد الخلاف ونشحن القلوب بالعداوة والبغضاء والاستهزاء بمن يخالفنا في الرأي، مع أنه سائغ ولا يخالف السنة، فالواجب على الإنسان أن يحرص على اجتماع الكلمة ما أمكن] الشرح الممتع4/83-86.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم يرحمه الله مفتي المملكة السعودية السابق: [وإذا كان من عادة أهل بلد فعل صلاة التراويح على وجه آخر مما له أصل شرعي فلا وجه للإنكار عليهم أيضاً. والمقصود من ذلك كله هو البعد عن أسباب الشقاق والنزاع في أمر فيه سعة. ولقد لاحظ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا وترك أمراً عظيماً مخافة ما يقع في قلوب الناس كما جاء في حديث عائشة (لولا حدثان قومك بالإسلام ... ) الحديث. وترجم البخاري في هذا المعنى فقال: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقع في أشد منه وساق حديث عائشة (لولا حدثان قومك بالإسلام لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين) الحديث، وقال علي: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذبَ اللهَ ورسوله؟) وفي رواية (ودعوا ما ينكرون) ، وقال ابن مسعود: الخلاف شر. أ. هـ.
وقال الشيخ إسماعيل الأنصاري: الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها: (ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة) فالجواب عنه أنه ليس فيه دليل على منع الزيادة على إحدى عشر ركعة في التراويح وغيرها، قال الحافظ ابن العراقي في طرح التثريب: قد اتفق(10/291)
العلماء على أنه ليس له -أي لقيام الليل- حد محصور] غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 5/458-459.
قال الشيخ العبيكان: [قلت والراجح أن قيام الليل ليس له حدٌّ محدود بل للمسلم أن يصلي ما شاء من الركعات في التراويح وغيرها لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة) والقول مقدم على الفعل عند التعارض مع أنه ليس هناك تعارض بين القول والفعل، حيث ما ورد عن عائشة من نفي الزيادة على إحدى عشرة فقد أثبت غيرها أكثر من ذلك، والمثبت مقدم على النافي، ولو سلم عدم حصول الزيادة فلا يمنع مشروعية الزيادة، وإنما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطيل الصلاة جداً بحيث لا يبقى وقت للزيادة يوضحه أنه صلى أقل من ذلك تسعاً وسبعاً وأقل. ومن العجيب أن بعض الناس الذين يزعمون أنهم يتمسكون بالسنة يصلون إحدى عشرة في وقت وجيز يقارب النصف ساعة ثم يجلسون يتحدثون ويلهون ويزعمون أن فعلهم أفضل من فعل الذين يستمرون في الصلاة ويزيدون على ذلك العدد فهم تمسكوا بالعدد وتركوا الإقتداء بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوقت ومن فعل ذلك فلا يعتبر مقتدياً، والله أعلم] غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 5/462-463.
وخلاصة الأمر أنه لا يصح الإنكار على من صلى التراويح أكثر من إحدى عشرة ركعة وأن الأمر واسع فلا ينبغي لطلبة العلم أن يُحَجِروا واسعاً فيحدثوا تشويشاً على عامة المصلين والخَطْبُ في هذه المسألة سهل يسير.
حكم الأذانين يوم الجمعة
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم جعل الأذانين يوم الجمعة أذاناً واحداً بحجة أن أذان الجمعة كان واحداً على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعترض كثير من المصلين عليه فما قولكم في ذلك أفيدونا؟(10/292)
الجواب: الثابت أن النداء -الأذان- يوم الجمعة كان واحداً على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان المؤذن يرفع الأذان بعد جلوس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وبعد الفراغ من الخطبة تقام الصلاة واستمر الحال على ذلك على عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي عهد عثمان - رضي الله عنه - أحدث الأذان الثاني بمحضر من الصحابة الكرام وأقروه على ذلك واستمر العمل بالأذانين لصلاة الجمعة حتى وقتنا الحاضر.
وينبغي أن يعلم أن الأذان الذي زاده عثمان - رضي الله عنه - يسمى الأذان الأول باعتبار أنه الأول في الترتيب حيث إنه يكون قبل الأذان بين يدي خطيب الجمعة.
ويسمَّى أيضاً الأذان الثاني باعتبار أنه الأذان الحقيقي الثاني والإقامة تسمى أذاناً من باب التغليب وهو أسلوب معروف في لغة العرب، أو لاشتراكهما في الإعلام ويسمى أيضاً الأذان الثالث لأنه زيد على الأذان والإقامة المعروفين على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والإقامة تسمى أذاناً من باب التغليب كما سبق.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وقوله في هذه الرواية (أوله إذا جلس الإمام على المنبر) معناه: أن هذا الأذان كان هو الأول، ثم تليه الإقامة، وتسمى: أذاناً كما في الحديث المشهور: (بين كل أذانين صلاةٌ) . وخرّجه النسائي ... ولفظه: (كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر يوم الجمعة، فإذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر، فلما زاد عثمان النداء الثالث صار هذا الثالث هو الأول، وصار الذي بين يدي الإمام هو الثاني] فتح الباري للحافظ ابن رجب الحنبلي، عن الإنترنت، وهذا الكتاب غير الكتاب المشهور بنفس العنوان للحافظ ابن حجر العسقلاني.
وقال الإمام الشوكاني: [قوله: (زاد النداء الثالث) في رواية: (فأمر عثمان بالنداء الأول) وفي رواية: (التأذين الثاني أمر به عثمان) ولا منافاة لأنه سمي ثالثاً باعتبار كونه مزيداً وأولاً باعتبار كون فعله مقدماً على الأذان(10/293)
والإقامة وثانياً باعتبار الأذان الحقيقي لا الإقامة] نيل الأوطار 3/298.
إذا تقرر هذا فأقول قد ثبت في الحديث عن السائب بن يزيد: (قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان - رضي الله عنه - وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء قال أبو عبد الله - أي الإمام البخاري - الزوراء موضع بالسوق بالمدينة) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى عند البخاري (عن الزهري قال سمعت السائب بن يزيد يقول إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء فثبت الأمر على ذلك) .
وفي رواية أخرى عن السائب قال: (كان النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وحتى خلافة عثمان فلما كثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده.
وعند ابن خزيمة في صحيحه عن السائب قال: (كان ابتداء النداء الذي ذكره الله تعالى في القرآن يوم الجمعة) في رواية أخرى لابن خزيمة عن السائب قال: (كان الأذان على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة) وفسر الأذانين بالأذان والإقامة يعني تغليبًا كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 3/298.
والأذان الذي أحدثه عثمان - رضي الله عنه - بمحضر من الصحابة وأقروه عليه لا يعتبر من البدع المحدثة بل هو سنة من سنن الخلفاء الراشدين وقد أمرنا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإتباع ولزوم سنن الخلفاء الراشدين كما ورد في الحديث عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها(10/294)
بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/871. وقد قرر العلماء أن إتباع ما سنَّه عثمان - رضي الله عنه - في أذان الجمعة إنما هو إتباع لسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذاً من الحديث السابق كما أن موافقة الصحابة رضوان الله عليهم لعثمان - رضي الله عنه - على ما فعل يعتبر من باب الإجماع السكوتي وهو حجة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ويتوجه أن يقال هذا الأذان لما سنَّه عثمان - رضي الله عنه - واتفق المسلمون عليه صار أذاناً شرعياً] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 24/193-194.
وقال الشيخ بدر الدين العيني عن الأذان العثماني: [ ... هو أولٌ في الوجود ولكنه ثالثٌ باعتبار شرعيته باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار فصار إجماعاً سكوتياً وإنما أطلق الأذان على الإقامة لأنها إعلام كالأذان] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 5/73.
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز: [ ... الأفضل أن يكون للجمعة أذانان إقتداءً بأمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لأنه أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإتباع سنتهم ولأن لهذا أصلاً من السنة النبوية حيث شرع في رمضان أذانين أحدهما من بلال والثاني من ابن أم مكتوم رضي الله عنهما وقال: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) . ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا على أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -، فيما نعلم] عن موقع الشيخ على الإنترنت.
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز أيضاً: [ ... إن الناس كثروا في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في المدينة فرأى أن يزاد الأذان الثالث، ويقال له: الأذان الأول لأجل تنبيه الناس على أن اليوم يوم جمعة حتى يستعدوا ويبادروا إلى الصلاة قبل الأذان المعتاد المعروف بعد الزوال وتابعه بهذا الصحابة الموجودون في عهده، وكان في عهده علي - رضي الله عنه -(10/295)
وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم وغيرهم من أعيان الصحابة وكبارهم، وهكذا سار المسلمون على هذا في غالب الأمصار والبلدان تبعاً لما فعله الخليفة الراشد - رضي الله عنه - وتابعه عليه الخليفة الراشد الرابع علي - رضي الله عنه - وهكذا بقية الصحابة.
فالمقصود أن هذا حدث في خلافة عثمان وبعده واستمر عليه غالب المسلمين في الأمصار والأعصار إلى يومنا هذا، وذلك أخذا بهذه السنة التي فعلها عثمان - رضي الله عنه - لاجتهاد وقع له ونصيحة للمسلمين ولا حرج في ذلك. لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وهو من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنه - والمصلحة ظاهرة في ذلك فلهذا أخذ بها أهل السنة والجماعة ولم يروا بهذا بأساً لكونه من سنة الخلفاء الراشدين عثمان وعلي ومن حضر من الصحابة ذلك الوقت رضي الله عنهم جميعاً] عن موقع الشيخ على الإنترنت.
وقال الشيخ صالح الفوزان: [الأذان الأول سنة الخلفاء الراشدين، فقد أمر به عثمان - رضي الله عنه - في خلافته لما كثر الناس وتباعدت أماكنهم، فصاروا بحاجة إلى من ينبههم لقرب صلاة الجمعة، فصار سنة إلى يومنا هذا، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين. وعثمان من الخلفاء الراشدين وقد فعل هذا وأقره الموجودون في خلافته من المهاجرين والأنصار، فصار سنة ثابتة] المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان 3/37.
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية بأن الأذان العثماني ليس بدعة لما ورد من الأمر بإتباع سنة الخلفاء الراشدين وأنه لم ينكر على عثمان - رضي الله عنه - أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم، وتبعه جماهير المسلمين على ذلك. انظر فتاوى اللجنة الدائمة 8/198-200.
وخلاصة الأمر أن الأذان الأول -الأذان العثماني- سنة من سنن الخلفاء الراشدين التي أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباعها ولا ينبغي لأحد أن يلغي هذا الأذان وما وسع المسلمين السابقين يسعنا ولنا فيهم قدوة حسنة.(10/296)
حكم الاعتراض على خطيب الجمعة
يقول السائل: كنا في المسجد نستمع لخطيب الجمعة فقام بعض الحضور بالصياح على الخطيب معترضين على ما ذكره في خطبته وأحدثوا تشويشاً وضوضاء فأرجو بيان حكم الاعتراض على خطيب الجمعة أثناء الخطبة؟
الجواب: الإنصات واجب لخطبة الجمعة والكلام محرم أثنائها حتى لو كان الكلام أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر على الصحيح من أقوال أهل العلم وعلى ذلك تدل النصوص الواردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنها:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [معناه قلت غير الصواب وقيل تكلمت بما لا ينبغي. ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة] شرح النووي على صحيح مسلم 6/138.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة وبه قال الجمهور في حق من سمعها وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة] فتح الباري 2/533. ومعنى (لغوت) الواردة في الحديث جئت بأمر باطل.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: (دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فجلست قريباً من أبي بن كعب فقرأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سورة (براءة) فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت لأبيّ: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني؟ قال أبيّ: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! فذهبت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فسألته متى نزلت هذه السورة، فتجهمني ولم يكلمني ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت. قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق أبيّ) .(10/297)
ومعنى تجهمني: قطب جبينه وعبس ونظر إليَّ مغضباً، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه وقال الشيخ الألباني: صحيح. وجاء في رواية أخرى (فلما انصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جئته فأخبرته فقال: صدق أُبيّ إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ) . رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 338.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد والطبراني وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إسناده لا بأس به.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) رواه أبو داود وابن خزيمة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 305.
وعن عبد الله بن عمرو أيضاً قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر، فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في المصدر السابق.
وذكر الشيخ ابن حزم بإسناده عن بكر بن عبد الله المزني: (أن علقمة بن عبد الله المزني كان بمكة فجاء كريُّهُ -أي الذي أجَّره الدابة- والإمام يخطب يوم الجمعة فقال له: حسبت القوم قد ارتحلوا فقال له: لا تعجل حتى تنصرف فلما قضى صلاته قال له ابن عمر: أما صاحبك فحمار وأما أنت فلا جمعة لك) المحلى 3/269-270.(10/298)
وغير ذلك. وهذه الأحاديث والآثار تدل على وجوب الإنصات وتحريم الكلام أثناء خطبة الجمعة.
قال الحصكفي الحنفي: [فيحرم أكل وشرب وكلام ولو تسبيحاً أو رد سلام أو أمراً بمعروف بل يجب عليه أن يستمع ويسكت] الدر المختار شرح تنوير الأبصار2/159.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة فلا يجوز الكلام لأحد من الحاضرين ونهى عن ذلك عثمان وابن عمر. وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالعصا وكره ذلك عامة أهل العلم منهم: مالك وأبو حنيفة والأوزاعي ... ] ثم ذكر الشيخ ابن قدامة قول من لم يوجب الإنصات وذكر أدلة الجمهور ثم قال في الجواب عن أدلة المخالف: [ ... فتعين حمل أخبارهم على هذا جمعاً بين الأخبار وتوفيقاً بينها ولا يصح قياس غيره عليه لأن كلام الإمام لا يكون في حال خطبته بخلاف غيره وإن قدر التعارض فالأخذ بحديثنا أولى لأنه قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونصه وذلك سكوته والنص أقوى من السكوت] المغني 2/237-238.
وقال ابن رشد المالكي في الرد على من لم يوجب الإنصات: [وأما من لم يوجبه: فلا أعلم لهم شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: أن ما عدا القرآن فليس يجب له الإنصات، وهذا فيه ضعف، والله أعلم، والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم] بداية المجتهد ونهاية المقتصد1/127.
وينبغي أن يعلم أن فتح باب الاعتراض على خطيب الجمعة إنما هو فتح لباب من أبواب الشر وإن غلَّفوه بأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخاصة في بلادنا في ظل عدم وجود أي رادع يردع المتهورين ويمنع أصحاب الأهواء من الاعتراض على الخطباء كلما لم يعجبهم أمر يذكره خطيب، وإن فتح هذا الباب سيجعل الفوضى والتشويش يعمَّان المساجد(10/299)
ويلغي حرمة المسجد وهيبة خطبة الجمعة وسيترتب على ذلك منكر أكبر وفتنة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل لذا يجب إغلاق هذا الباب سداً للذريعة المؤدية للفساد.
وخلاصة الأمر أنه يحرم الكلام أثناء خطبة الجمعة وكذا الاعتراض على الخطيب وينبغي لمن أراد أن يعترض على خطيب الجمعة أن يفعل ذلك بعد انتهاء الصلاة.
خطبتان لصلاة العيد لا خطبة واحدة
يقول السائل: ما صحة القول بأن الإمام يخطب خطبة واحدة بعد صلاة العيد لا خطبتين؟
الجواب: ذهب جمهور أهل العلم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن الإمام يخطب في العيد خطبتين يجلس بينهما كصلاة الجمعة تماماً قال الإمام الشافعي: [ ... أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عن إبراهيم بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس] الأم 1/238.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول أبي القاسم الخرقي: [فإذا سلم خطب بهم خطبتين يجلس بينهما] وجملته أن خطبتي العيدين بعد الصلاة، لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين ... إذا ثبت هذا فإن صفة الخطبتين كصفة خطبتي الجمعة، ... وروى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبتي العيدين. رواه ابن ماجه، ... ويجلس بين الخطبتين؛ لما روى ابن ماجه بإسناده عن جابر - رضي الله عنه -قال: (خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر أو أضحى، فخطب قائماً، ثم قعد قعدة، ثم قام] المغني 2/285-286.(10/300)
وقال الإمام النووي: [فإذا فرغ الإمام من صلاة العيد صعد المنبر وأقبل على الناس بوجهه وسلم وهل يجلس قبل الخطبة؟ وجهان، الصحيح المنصوص يجلس كخطبة الجمعة ثم يخطب خطبتين أركانهما كأركانهما في الجمعة ويقوم فيهما ويجلس بينهما كالجمعة] روضة الطالبين 1/580.
وقال الكاساني الحنفي: [وكيفية الخطبة في العيدين كهي في الجمعة فيخطب خطبتين يجلس بينهما جلسة خفيفة ... ] بدائع الصنائع 1/619.
وقال الشيخ أحمد الدردير المالكي عند حديثه عن صلاة العيد [ونُدِبَ خطبتان لها كالجمعة أي كخطبتها في الصفة ... ] الشرح الكبير 1/400.
وقد جرى العمل على هذا عند المسلمين منذ عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -على أن يخطب الخطيب خطبتين في العيد وهذا ما تناقله أهل العلم قديماً ولا خلاف فيه بين السلف كما بين ذلك الشيخ ابن حزم الظاهري حيث قال: [فإذا سلم الإمام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما فإذا أتمهما افترق الناس ... كل هذا لا خلاف فيه] المحلى 3/293.
وقال الصنعاني بعد أن ذكر حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم) متفق عليه، قال الصنعاني: [ ... وفيه دليل على مشروعية خطبة العيد، وأنها كخطب الجمع أمر ووعظ، وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة وأنه يقعد بينهما، ولعله لم يثبت ذلك من فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة) سبل السلام 2/493.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [وقوله (خطبتين) هذا ما مشى عليه الفقهاء رحمهم الله أن خطبة العيد اثنتان، لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر (أنه كان يخطب خطبتين) ومن نظر في السنة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخطب إلا خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه لا(10/301)
يصح، لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهنّ وهذا احتمال] الشرح الممتع 5/191-192.
إذا تقرر هذا فيجب أن يعلم أنه لم يثبت في صحيح السنة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب خطبتين في صلاة العيد وما ورد في ذلك فضعيف كما قرر ذلك أهل الحديث فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام) رواه ابن ماجة والبيهقي في السنن الكبرى وهو ضعيف كما بينه الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 2/86. وضعّفه البوصيري في الزوائد أيضاً. وضعفه الشيخ الألباني أيضاً.
وما رواه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: (أنّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائماً، فيفصل بينهما بجلسة) رواه البزار وهو ضعيف كما بين ذلك العلامة الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص348.
وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود أنّه قال: [السنة أن يخطب في العيدين بخطبتين يفصل بينهما بجلوس] . قال الإمام النووي: [ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، والمعتمد فيه القياس على الجمعة] خلاصة الأحكام 2/838.
وقال الشوكاني: [وعبيد اللَّه بن عبد الله تابعي كما عرفت فلا يكون قوله من السنة دليلاً على أنها سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تقرر في الأصول] نيل الأوطار 3/347.
وما قاله الشوكاني غير مسلَّم فإن التابعي إذا قال من السنة كذا فهو يشير إلى سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا إذا قيدها بسنة غيره بل إن الشوكاني نفسه بين هذه المسألة حيث قال: [وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة. قال ابن(10/302)
عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم (سنة العمرين) ونحو ذلك] إرشاد الفحول ص 61.
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ما نصه: [العلماء ألحقوا العيد بالجمعة في الخطبتين فلا ينبغي العدول عن هذا] .
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز أيضاً: [خطبة العيد خطبتان وأثر عبيد الله مرسل فهو ضعيف؛ لكن يتأيد عند الجمهور بأنها مثل الجمعة فألحقوها بها، وتتابع العلماء على ذلك] عن شبكة الإنترنت.
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين: هل للعيد خطبة أم خطبتان فأجاب: المشهور عند الفقهاء أن خطبة العيد اثنتان لحديث ضعيف ورد في هذا لكن في الحديث المتفق على صحته أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخطب إلا خطبة واحدة وأرجو أن الأمر في هذا واسع] مجموع فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين 16/248.
وخلاصة الأمر أن الذي يظهر لي أن في العيد خطبتان، وأن هذا من العمل المتوارث وقد عمل به فقهاء الأمة على مر العصور والأيام فلا ينبغي تركه.
حكم جمع السجين بين الصلاتين بسبب المطر
يقول السائل: ما حكم الجمع بين الصلاتين بسبب المطر في حق السجين؟
الجواب: إن الأصل في الصلوات الخمس أن تؤدى في الأوقات المخصصة لها شرعاً قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا(10/303)
مَوْقُوتًا} سورة النساء الآية 103. ويدل على ذلك أيضاً حديث إمامة جبريل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو حديث صحيح مروي في دواوين السنة. والجمع بين الصلاتين رخصة حيث وجدت أسبابها.
وإن من المؤسف أن بعض أئمة المساجد وكذا بعض عامة الناس يتساهلون في الجمع بين الصلاتين بسبب المطر فنرى بعضهم يجمع بدون سبب موجب كأن يكون المطر صباحاً فيجمع الإمام بين المغرب والعشاء وكذلك يجمعون بين الظهر والعصر ثم ينطلقون إلى أعمالهم وأسواقهم ولا يمنعهم المطر عنها وإنما منعهم عن الصلاة فقط. ومثل هذا التساهل جمع المنفرد في بيته بين الصلاتين بسبب المطر ومثل ذلك في التساهل أيضاً جمع السجين في سجنه فمن المعروف أن السجين يصلي في سجنه ولا يذهب إلى المسجد فلا يتأذى من المطر. قال الإمام الشافعي: [ولا يجمع إلا من خرج من بيته إلى المسجد يجمع فيه ... ولا يجمع أحد في بيته لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع في المسجد والمصلي في بيته مخالف المصلي في المسجد] الأم 1/95. وانظر الجمع بين الصلاتين في المطر ص226.
وعلل ذلك الماوردي بأن الجمع يجوز لأجل المشقة وما يلحقه من أذى المطر وإذا عدم هذا المعنى امتنع جواز الجمع. الحاوي الكبير2/399.
وقال الإمام النووي: [قال أصحابنا والجمع بعذر المطر وما في معناه من الثلج وغيره يجوز لمن يصلي جماعة في مسجد يقصده من بعد ويتأذى بالمطر في طريقه] المجموع 4/381.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي معللاً القول بمنع المنفرد من الجمع للمطر: [لأن الجمع لأجل المشقة فيختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه كالرخصة في التخلف عن الجمعة والجماعة يختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه] المغني 2/204.
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية ما نصه: [المشروع أن يجمع أهل المسجد إذا وجد مسوغ للجمع كالمطر كسباً لثواب الجماعة ورفقاً بالناس وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة أما جمع جماعة في بيت واحد من(10/304)
أجل العذر المذكور فلا يجوز لعدم وروده في الشرع المطهر وعدم وجود العذر المسبب للجمع] فتاوى اللجنة الدائمة 8/135. وهذا هو الموافق للحكمة من مشروعية الجمع وهي رفع الحرج ودفع المشقة عمن يصلي في المسجد، فأي حرج أو مشقة في حق من صلى في سجنه؟
وأنبه على أن كثيراً من أهل العلم يرون أن ترك الجمع أفضل وأولى بسبب خلاف من رأى عدم جواز الجمع.
قال الإمام النووي: [وترك الجمع أفضل بلا خلاف فيصلي كل صلاة في وقتها للخروج من الخلاف فإن أبا حنيفة وجماعة من التابعين لا يجوِّزونه. وممن نص على أن تركه أفضل الغزالي وصاحب التتمة. قال الغزالي في البسيط: لا خلاف أن ترك الجمع أفضل] روضة الطالبين 1/505.
وقال ابن مفلح: [وتركه أفضل] الفروع 2/68. وقال المرداوي: [يؤخذ من قول المصنف (ويجوز الجمع) أنه ليس بمستحب وهو كذلك بل تركه أفضل على الصحيح من المذهب وعليه أكثر الأصحاب] الإنصاف 2/334.
ويجب أن يعلم أن كل من يجمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي فجمعه باطل أي إن صلاته الثانية باطلة لأنها وقعت في غير وقتها المقدر لها شرعاً فدخول الوقت شرط من شروط صحة الصلاة والأصل في الصلوات الخمس أن تصلى كل منها في وقتها الشرعي قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} سورة النساء الآية 103. قال الشوكاني في تفسير الآية: [أي محدوداً معيناً يقال وقَّته فهو موقوت ووقَّته فهو مؤقت والمعنى إن الله افترض على عباده الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم أو سهو أو نحوهما] تفسير فتح القدير 1/ 510. وكذلك فإن من جمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي فقد ارتكب حراماً بل كبيرة من كبائر الذنوب(10/305)
كما نص على ذلك ابن حجر المكي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/288-289.
وقد روي في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر) رواه الترمذي والحاكم وهو حديث ضعيف ضعفه الحافظ ابن حجر وغيره. وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة حديث رقم 4581.
وقال محمد بن الحسن الشيباني: [وبلغنا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب في الآفاق ينهاهم أن يجمعوا بين الصلاتين ويخبرهم أن الجمع بين الصلاتين في وقت واحد كبيرة من الكبائر أخبرنا بذلك الثقات عن العلاء بن الحارث عن مكحول] الموطأ برواية محمد بن الحسن ص82.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: (الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر) ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي قتادة العدوي قال: (قُرئ علينا كتاب عمر - رضي الله عنه - (من الكبائر جمع بين الصلاتين) - يعني بغير عذر - والفرار من الزحف والنميمة) الدر المنثور 2/ 502.
وقال الإمام البيهقي: [باب ذكر الأثر في أن الجمع من غير عذر من الكبائر مع ما دلت عليه أخبار المواقيت ثم روى بسنده عن عمر - رضي الله عنه - قال: (جمعُ الصلاتين من غير عذر من الكبائر) قال الشافعي في سنن حرملة: العذر يكون بالسفر والمطر وليس هذا بثابت عن عمر هو مرسل. قال الشيخ هو كما قال الشافعي والإسناد المشهور لهذا الأثر ما ذكرنا وهو مرسل. أبو العالية لم يسمع من عمر - رضي الله عنه - وقد روى ذلك بإسناد آخر قد أشار الشافعي إلى متنه في بعض كتبه ... (أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى عامل له: ثلاثٌ من الكبائر الجمع بين الصلاتين إلا في عذر، والفرار من الزحف والنُهْبَى) أبو قتادة العدوي أدرك عمر - رضي الله عنه - فإن كان شهده كتب فهو موصول وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قوياً وقد روي فيه حديث موصول عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إسناده من لا يحتج به ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (جمعٌ بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر) . لفظ حديث(10/306)
نعيم، وفي رواية يعقوب (من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر) تفرد به حسين بن قيس أبو علي الرحبي المعروف بحنش وهو ضعيف عند أهل النقل لا يحتج بخبره] سنن البيهقي 3/169.
وذكر ابن كثير الأثر عن أبي قتادة العدوى قال: قرئ علينا كتاب عمر (من الكبائر جمع بين الصلاتين يعني بغير عذر والفرار من الزحف والنهبة) . وهذا إسناد صحيح والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديماً أو تأخيراً وكذا المغرب والعشاء كالجمع بسبب شرعي فمن تعاطاه بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكباً كبيرة فما ظنك بترك الصلاة بالكلية) تفسير ابن كثير1/485. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن ترك صلاة واحدةً عمداً بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاءً فهل يكون فعله كبيرة من الكبائر فأجاب: [الحمد لله، نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمداً من الكبائر، بل قد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، وقد رواه الترمذى مرفوعاً عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر) . ورفع هذا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان فيه نظر فإن الترمذي قال العمل على هذا عند أهل العلم والأثر معروف وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له لا منكرين له] مجموع الفتاوى 22/53-54.
وخلاصة الأمر فإنني أنصح المساجين - فك الله أسرهم - بأن يلتزموا بما قرره أهل العلم وأحذرهم من التساهل في الجمع لأن جمعهم يعتبر جمعاً بدون عذر شرعي وعليهم أن يصلوا كل صلاة في وقتها.
قيام الإمام إلى ركعة زائدة عن الصلاة
يقول السائل: كنَّا نصلي صلاة الظهر جماعة فقام الإمام إلى ركعة خامسة سهواً فسبح بعض المصلين فلم يرجع الإمام وأتم الخامسة ثم سجد للسهو.(10/307)
وأما المأمومون فمنهم من تابع الإمام ومنهم من بقي جالساً حتى سلَّم الإمام فسلموا معه وقد روجع الإمام فقال إنه قد اقتدى بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سها وقام إلى خامسة فعلى المصلين أن يقتدوا به في الخامسة، فما قولكم؟
الجواب: النسيان والسهو من الأمور الملازمة للإنسان ولا إثم على الانسان في حال السهو لما ورد في الحديث أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. والسهو في الصلاة واقع فقد سها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من مرة في صلاته كما ثبت ذلك في عدة أحاديث منها: عن عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه - أنه قال: (صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلَّم) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلَّم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جِذعاً في قبلة المسجد فاستند إليها مغضباً وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس قصرت الصلاة فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يميناً وشمالاً فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين فصلى ركعتين وسلَّم ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر وسجد ثم كبر ورفع قال: وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلَّم) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
وسجود السهو واجب في الصلاة إذا وُجد المقتضي له على الراجح من أقوال أهل العلم كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 23/27-28. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا سها الإمام فأتى بفعل في غير موضعه, لزم المأمومين تنبيهه, فإن كانوا رجالاً سبحوا به, وإن كانوا نساءً صفقن ببطون أكفهن على ظهور الأخرى, وبهذا قال(10/308)
الشافعي ... ولقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله) متفق عليه] المغني 2/15.
وتذكير المأمومين للإمام واجب كما ذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي ويدل عليه أيضاً ما ورد في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ... إنه لو حدث في الصلاة شيءٌ لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين) رواه البخاري ومسلم. فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروني أمر والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب.
إذا تقرر هذا فأعود لجواب السؤال فأقول: إذا سها الإمام عن الجلوس الأخير في الصلاة فقام إلى ثالثة في الفجر أو رابعة في المغرب أو خامسة في الظهر أو العصر أو العشاء فسبح بعض المصلين فينبغي أن يرجع ثم يجلس للتشهد ويسجد سجدتي السهو والرجوع واجب على الإمام في هذه الحال إلا إذا كان متيقناً من خطأ المأمومين فإنه لا يرجع. وأما المأموم في السؤال المذكور فإذا كان متيقناً أنه صلى أربعاً فلا يجوز أن يتابع الإمام في الخامسة فإن فعل بطلت صلاته لأنه تعمد الزيادة في الصلاة وأما إن كان غير متأكد من عدد الركعات التي صلاها فتابع الإمام فصلاته صحيحة. وأما من تيقن أنه صلى أربعاً فإنه إما أن يبقى جالساً حتى يسلم الإمام فيسلم معه وإما أن ينوي مفارقة الإمام ... سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إمام قام إلى خامسة فسبح به فلم يلتفت لقولهم وظن أنه لم يسه فهل يقومون معه أم لا؟ فأجاب: [إن قاموا معه جاهلين لم تبطل صلاتهم لكن مع العلم لا ينبغي لهم أن يتابعوه بل ينتظرونه حتى يسلم بهم أو يسلموا قبله والانتظار أحسن] مجموع الفتاوى 23/53.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لو صلى خمساً يعني في صلاة رباعية فإنه متى قام إلى الخامسة في الرباعية، أو إلى الرابعة في المغرب، أو إلى الثالثة في الصبح، لزمه الرجوع متى ما ذكر، فيجلس، فإن كان قد تشهد عقيب الركعة التي تمت بها صلاته، سجد للسهو، ثم يسلم. وإن كان(10/309)
تشهد، ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد للسهو وسلم وإن لم يكن تشهد، تشهد وسجد للسهو، ثم سلم. فإن لم يذكر حتى فرغ من الصلاة، سجد سجدتين، عقيب ذكره، وتشهد وصلاته صحيحة. وبهذا قال علقمة والحسن، وعطاء، والزهري، والنخعي، ومالك، والليث، والشافعي، وإسحاق وأبو ثور ... ولنا: ما روى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمساً فلما انفتل توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال: لا، قالوا: فإنك قد صليت خمساً فانفتل، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم ثم قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) . وفي رواية قال: (إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو) . وفي رواية، فقال: (فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين) رواها كلها مسلم والظاهر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجلس عقيب الرابعة، لأنه لم ينقل، ولأنه قام إلى الخامسة معتقداً أنه قام عن ثالثة ولم تبطل صلاته بهذا، ولم يضف إلى الخامسة أخرى] المغني 2/25-26.
وأما إدعاء الإمام بأن على المصلين أن يتابعوه في الخامسة اقتداءً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سها وتابعه الصحابة رضوان الله عليهم ولم يأمرهم بإعادة الصلاة فالجواب أن هذا إدعاء باطل لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر من تابعه من الصحابة في الزيادة بأن يعيد الصلاة فَعِلَّةُ ذلك أنهم كانوا في عصر التشريع وقد ظنوا أن الصلاة قد زيد فيها فلذلك لم ينبه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحداً من الصحابة رضي الله عنهم في الزيادة إلا بعد الصلاة، كما سبق من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر خمساً، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً فثنى رجليه وسجد سجدتين) .
وأما الادعاء بوجوب متابعة الإمام في هذه الحالة فقد أجاب عنه العلامة محمد صالح العثيمين فقال: [ولقد ساءني ما نقله لي ثقة عن شخص كان يجادله في إمام صلى الظهر خمساً والمأموم يعلم أنه قد زاد في صلاته فقال هذا المجادل: إنه يجب على المأموم أن يتابع الإمام في الزيادة لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فتأمل، تأمل خطأ هذا(10/310)
المجادل في الحكم والفهم، وتأمل أن طرد قاعدته يستلزم أن الإمام لو صلى الظهر عشر ركعات لوجب على المأموم أن يتابعه إن هذا والله لهو الجهل المركب بل مركب المركب جهل في الحكم وجهل في الفهم وجهل بأدلة الشريعة الأخرى أفلا يعلم هذا الجاهل المجادل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيّن الواجب في إئتمام المأموم بإمامه بقوله: (فإذا كبر فكبروا) إلى أن قال: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون) والفاء في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا كبر إلى آخره للتفريع فما بعدها تفريع على ما قبلها وإفصاح للمراد به تبين المراد بالإتمام ولم يقل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الإمام خمساً فصلوا خمساً ونحن نعلم علم اليقين أن الإنسان لو صلى خمساً متعمداً لبطلت صلاته لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فهل صلاة الظهر خمساً عليها أمر الله ورسوله وإذا لم يكن عليها أمر الله ورسوله فهي باطلة مردودة بمقتضى هذا الحديث وإذا كانت باطلة فهل يجوز إتباع الغير فيما هو باطل أيها المسلمون إن الحكم في هذه المسألة إذا قام الإمام إلى خامسة أنه يجب على المأموم أن ينبهه فيقول سبحان الله ثم إن رجع الإمام فذلك هو المطلوب وحينئذ يرجع ويتشهد ويسلم ثم يسجد للسهو سجدتين بعد السلام ويسلم ويتابعه المأموم في ذلك وإن أبى أن يرجع لكونه يتيقن أنه على صواب فإن المأموم الذي يتيقن أنه على صواب وأن الإمام مخطئ يجب عليه أن يجلس ولا يجوز له أن يتابع الإمام لأنه لو تابعه لزاد في الصلاة ركعة عمداً وهذا يبطلها ولكنه يبقى حتى إذا رجع الإمام إذا قضى الركعة التي قام إليها وتشهد سلَّم مع الإمام] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن الإمام إذا قام إلى خامسة في صلاة رباعية فعليه أن يرجع إذا سبح المصلون وعليه سجود السهو إلا إذا تيقن من خطأ المأمومين وأما المأمومون فكل من تيقن أنه صلى أربعاً فيحرم عليه متابعة الإمام في الخامسة فإن تابعه بطلت صلاته، وهو مخير بين أن ينتظر الإمام فيسلم معه أو ينوي مفارقة الإمام. وأما من كان غير متيقن فتابع الإمام فصلاته صحيحة.(10/311)
بطلان إمامة المرأة للرجال
يقول السائل: ما قولكم فيما نشر في وسائل الإعلام أن أول امرأة ستؤم المصلين من النساء والرجال في صلاة الجمعة وستقام بمدينة نيويورك الأمريكية وستطالب هذه المرأة بحق النساء المسلمات في المساواة مع الرجال في التكاليف الدينية كحق المرأة في الإمامة، وعدم ضرورة أن تصلي النساء في صفوف خلفية وراء الرجال باعتبار أن هذا الأمر هو ناتج عن عادات وتقاليد بالية وليس من الدين في شيء وترى أنه لا يوجد في سلوكيات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يمنع أن تؤم المرأة المسلمين رجالا ونساء!!؟
الجواب: إن الأصل الذي قرره العلماء في العبادات عامة والصلاة بشكل خاص هو التلقي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالأصل فيها التوقيف أو الحظر كما يعبر بعض العلماء أي أن الأصل أن لا نفعل شيئاً في باب العبادات ما لم يكن وارداً عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجب علينا أن نلتزم بذلك بلا زيادة ولا نقصان. يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ويقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
وكان الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبه: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم. فالأصل في المسلم أن يقف عند موارد النصوص فلا يتجاوزها لأننا أمرنا بالإتباع ونهينا عن الابتداع فنحن مأمورون بإتباعه والإقتداء به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وقد بين لنا الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها وكل ما يتعلق بها وعلَّم الصحابة كيف يصلون وصلى أمامهم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
هذا هو الأصل الأصيل وأما ما نقل عن المرأة المسلمة الأمريكية فإنه لعجب عجاب ولا يستبعد أن تكون أيدي خفية تدفعها لهذا الأمر للتشويش(10/312)
على الإسلام وإن كنا لا نستغرب مثل هذه الأمور في ظل الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون في أنحاء العالم اليوم. وما زعمته هذه المرأة من افتراءات على دين الإسلام واضح بطلانها حيث إنها زعمت أنه لا يعرف عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه منع المرأة من إمامة الرجال فهذا كذب صريح على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد صح في الحديث من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وجاء في رواية أخرى أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .
ولم يعرف في تاريخ الإسلام أن امرأة أمت الرجال في صلاة الجمعة. وقد اتفق جماهير علماء الإسلام على أن من صلى خلف امرأة في الفريضة فصلاته وصلاتها باطلة كما اتفقوا على أن المرأة لا تكون إماماً في الصلوات المفروضات ومنها صلاة الجمعة ولا في النوافل أيضاً، قال الإمام الشافعي: [وإذا صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور فصلاة النساء مجزئة، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزئة؛ لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء وقصرهنَّ عن أن يكن أولياء وغير ذلك، ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبداً] . الأم 1/164.
وقال الإمام النووي: [ ... واتفق أصحابنا على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة حكاه عنهم القاضي أبو الطيب والعبدري ... وسواء في منع إمامة المرأة للرجال صلاة الفرض والتراويح وسائر النوافل هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله وحكاه البيهقى عن الفقهاء السبعة فقهاء المدينة التابعين وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وسفيان وأحمد وداود] المجموع 5/338.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجل بحال في فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء] المغني2 /146.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [ولا يجوز أن تؤم المرأة الرجل، ولا الرجال، وهذا ما لا خلاف فيه وأيضاً فإن النص قد جاء بأن المرأة تقطع(10/313)
صلاة الرجل إذا فاتت أمامه. على ما نذكر بعد هذا في بابه إن شاء الله تعالى، مع قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الإمام جُنَّة) وحكمه عليه الصلاة والسلام بأن تكون وراء الرجل، ولا بد في الصلاة، وأن الإمام يقف أمام المأمومين لا بد أو مع المأموم في صف واحد على ما نذكر إن شاء الله تعالى في مواضعه ومن هذه النصوص يثبت بطلان إمامة المرأة للرجل، وللرجال يقيناً] المحلى 2/167.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... وأن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/249.
وقال الإمام الباجي المالكي: [ ... فَأَمَّا مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِمَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدِهَا: الْأُنُوثَةُ. وَالثَّانِيَةِ: الصِّغَرُ وَعَدَمُ التَّكْلِيفِ. وَالثَّالِثَةِ: نَقْصُ الدِّينِ. فَأَمَّا الْأُنُوثَةُ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لا تَؤُمُّ رِجَالاً وَلَا نِسَاءً فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ... ] المنتقى شرح الموطأ 2/203.
ومن أوضح الأدلة على منع المرأة من إمامة الصلاة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتأخير صفوف النساء عن صفوف الرجال فقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) رواه مسلم، وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن صفوف النساء تكون بعد صفوف الرجال.
وهذه المرأة تزعم أنه لم يرد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يمنع من إقامة صلاة تختلط فيها النساء مع الرجال ولقد أعظمت الفرية على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد اتفق الفقهاء على أن من شروط الإمام في صلاة الجمعة الذكورة حيث إن صلاة الجمعة ليست واجبة على النساء وكذا اتفقوا على أنه يشترط في خطيب الجمعة أن يكون رجلاً. انظر حاشية قليوبي وعميرة على شرح المنهاج للمحلي 1/278.
والعجب من بعض المشايخ الذين ظهروا على بعض المحطات الفضائية وزعموا أن المسألة محل خلاف بين الفقهاء وأن فيها عدة أقوال،(10/314)
أقول لهم إن المسألة محل اتفاق بين الفقهاء وهي منع المرأة من الإمامة والخطابة في صلاة الجمعة فلم يقل أحد من أهل العلم بأن المرأة تتولى خطبة الجمعة والإمامة في صلاة الجمعة والذكورة شرط في فرضية الجمعة باتفاق الفقهاء، وإنما وقع خلاف في إمامة المرأة في غير صلاة الجمعة فقال بعض العلماء يجوز أن تؤم بالفرائض الخمس وقال آخرون تؤم في النافلة كالتراويح، قال المرداوي الحنبلي: [وَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ، هَذَا الْمَذْهَبُ مُطْلَقاً قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَنَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ... وَعَنْهُ تَصِحُّ فِي النَّفْلِ ... وَعَنْهُ تَصِحُّ فِي التَّرَاوِيحِ نَصَّ عَلَيْهِ, ... قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ, قِيلَ: يَصِحُّ إنْ كَانَتْ قَارِئَةً وَهُمْ أُمِّيُّونَ, ... وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ أَقْرَأَ مِنْ الرِّجَالِ, وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ أَقْرَأَ وَذَا رَحِمٍ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ, وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ ذَا رَحِمٍ أَوْ عَجُوزٍ وَاخْتَارَ الْقَاضِي: يَصِحُّ إنْ كَانَتْ عَجُوزًا ... ] الإنصاف 2/263. وقال آخرون تؤم النساء فقط.
وأما ما ورد في الحديث عن أم ورقة بنت عبد الله بن نوفل الأنصارية رضي الله عنها (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما غزا بدراً قالت: قلت له: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرض مرضاكم لعل الله أن يرزقني شهادة؟ قال: قرَِّي في بيتك فإن الله تعالى يرزقك الشهادة، قال: فكانت تسمى الشهيدة، قال: وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتخذ في دارها مؤذناً فأذن لها) ... وفي رواية أخرى عند أبي داود (وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزورها في بيتها وجعل لها مؤذناً يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها، قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً) رواه أبو داود وغيره والحديث ضعيف عند جماعة من المحدثين، وممن ضعفه الإمام الباجي المالكي حيث قال: [وهذا الحديث مما لا يجب أن تعول عليه] المنتقى شرح الموطأ 2/203. وممن ضعفه الحافظ ابن حجر كما في التلخيص الحبير 2/27، وقد صححه ابن خزيمة كما ذكر الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ص 84. وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/118.
فإن قلنا بأن الحديث صالح للاحتجاج فقد حمله بعض أهل العلم(10/315)
على أن أم ورقة رضي الله عنها قد أمت بنساء دارها فقط وأن ذلك خاص بها، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها، كذلك رواه الدارقطني وهذه زيادة يجب قبولها، ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر عليه لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض بدليل أنه جعل لها مؤذناً والأذان إنما يشرع في الفرائض ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض ولأن تخصيص ذلك بالتراويح واشتراط تأخرها تحكم يخالف الأصول بغير دليل فلا يجوز المصير إليه ولو قدر ثبوت ذلك لأم ورقة لكان خاصا بها بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة، فتختص بالإمامة لاختصاصها بالأذان والإقامة] المغني 2/147.
وحمله بعض العلماء على أنها تؤم بمحارمها، قال الصنعاني: [وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْمَرْأَةِ أَهْلَ دَارِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ فَإِنَّهُ كَانَ لَهَا مُؤَذِّنٌ وَكَانَ شَيْخاً كَمَا فِي الرِّوَايَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَؤُمُّهُ وَغُلَامَهَا وَجَارِيَتَهَا] سبل السلام 2/436. وحمله ابن مفلح الحنبلي على أن ذلك في النافلة فقط فقال: [ ... رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ بِإِسْنَادٍ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ, وَإِنْ صَحَّ فَيَتَوَجَّهُ حَمْلُهُ عَلَى النَّفْلِ, جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّهْيِ ... ] الفروع 2/18. ومثل ذلك قال صاحب منتهى الإرادات.
وخلاصة الأمر أن إمامة المرأة في صلاة الجمعة منكر ومعصية ظاهرة وبدعة جديدة مخالفة لما هو مقرر شرعاً ومخالف لما مضى عليه العمل من لدن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحتى عصرنا الحاضر وهو أمر شاذ بل في غاية الشذوذ.
حكم تقدم المأموم على الإمام
يقول السائل: ما حكم صلاة المأموم متقدماً على الإمام وما قولكم في قول من يقول بجواز ذلك دائماً؟
الجواب: إن الأصل الذي قرره العلماء في الصلاة هو التلقي عن(10/316)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالأصل فيها التوقيف أي أن الأصل أن لا نفعل شيئاً في باب العبادات ما لم يكن وارداً عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجب علينا أن نلتزم بذلك بلا زيادة ولا نقصان وقد بين لنا الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها وكل ما يتعلق بها وعلَّم الصحابة كيف يصلون وصلى أمامهم، وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
وقد علمنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الإمام يقف أمام المأمومين وليس العكس ومقتضى لفظ إمام أن يكون أمام المأمومين وعلى ذلك دل قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) قال البيضاوي وغيره: الائتمام الإقتداء والإتباع أي جعل الإمام إماماً ليقتدى به ويتبع, ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه, بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله, ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال] فتح الباري 2/231.
وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن الإمام يتقدم إذا كان المأمومون اثنين فأكثر وهذه هي السنة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام فإن وقفوا قدامه لم تصح، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ... ولنا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ولأنه يحتاج في الإقتداء إلى الالتفات إلى ورائه، ولأن ذلك لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا هو في معنى المنقول فلم يصح كما لو صلى في بيته بصلاة الإمام ويفارق من خلف الإمام فإنه لا يحتاج في الإقتداء إلى الالتفات إلى ورائه] المغني 2/157.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [والأصل في الإمام أن يكون متقدماً على المأمومين إلا إن ضاق المكان أو لم يكن إلا مأموم واحد] فتح الباري 2/216.
ومما يدل على ذلك أن المنقول عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقوم أمام أصحابه إذا صلى بهم ولم ينقل أن واحداً من الصحابة تقدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(10/317)
فقد جاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - (أن جدته مليكة دعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصل لكم، قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس فنضحته بماء فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين ثم انصرف) رواه البخاري ومسلم. وروى الترمذي بإسناده عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا) قال أبو عيسى - الترمذي - وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وأنس بن مالك قال أبو عيسى وحديث سمرة حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم قالوا إذا كانوا ثلاثة قام رجلان خلف الإمام] سنن الترمذي 1/452-453.
وعن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) رواه مسلم وغير ذلك من الأدلة، فالأصل أن تقدم الإمام على جماعة المصلين واجب. قال الشيخ ابن حزم: [ ... لأن فَرْضَ الإِمَامِ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ أَنْ يَقِفَ أَمَامَ الْمَأْمُومِينَ وَهُمْ وَرَاءَهُ ولا بد ... ] المحلى 3/139.
وأما من صلى أمام الإمام لغير عذر فلا تصح صلاته على الراجح من أقوال أهل العلم. والعذر مثل أن يكون هنالك زحام شديد كما يحدث في المسجد الحرام في موسم الحج أو ضاق الموضع الذي يصلون فيه فإن صلى أحد قدَّام الإمام صحت صلاته حينئذ وهذا القول رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [أما صلاة المأموم قدَّام الإمام. ففيها ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: إنها تصح مطلقاً، وإن قيل إنها تكره، وهذا القول هو المشهور من مذهب مالك، والقول القديم للشافعي. والثاني: إنها لا تصح مطلقاً، كمذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبهما. والثالث: إنها تصح مع العذر، دون غيره، مثل ما إذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا قدًّام الإمام، فتكون صلاته قدَّام الإمام خيراً له من تركه للصلاة. وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قول في مذهب(10/318)
أحمد، وغيره. وهو أعدل الأقوال وأرجحها وذلك لأن ترك التقدم على الإمام غايته أن يكون واجباً من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعذر. وإن كانت واجبة في أصل الصلاة، فالواجب في الجماعة أولى بالسقوط، ولهذا يسقط عن المصلي ما يعجز عنه من القيام، والقراءة، واللباس، والطهارة، وغير ذلك] الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام 2/360.
وقال الشيخ ابن حزم: [وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّي أَمَامَ الإِمَامِ إلاَّ لِضَرُورَةِ حَبْسٍ فَقَطْ, أَوْ فِي سَفِينَةٍ حَيْثُ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ: ... عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ, قَالَ جَابِرٌ: فَتَوَضَّأْتُ مِنْ مُتَوَضَّأِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ يَقْضِي حَاجَتَهُ, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُصَلِّيَ, ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ، عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي، عَنْ يَمِينِه, ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ فَقَامَ، عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا جَمِيعًا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الاِثْنَانِ فَصَاعِدًا خَلْفَ الإِمَامِ، وَلاَ بُدَّ; وَيَكُونُ الْوَاحِدُ، عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ، وَلاَ بُدَّ؛ لأن دَفْعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَابِرًا وَجَبَّارًا إلَى مَا وَرَاءَهُ أَمْرٌ مِنْهُ عليه السلام بِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ, وَإِدَارَتَهُ جَابِرًا إلَى يَمِينِهِ كَذَلِكَ; فَمَنْ صَلَّى بِخِلاَفِ مَا أُمِرَ بِهِ عليه السلام فَلاَ صَلاَةَ لَهُ ... ] المحلى 2/386. وحديث جابر الذي استدل به الشيخ ابن حزم في صحيح مسلم.
وقال الإمام النووي: [فصل في شروط الاقتداء وآدابه فأما الشروط فسبعة: أحدها أن لا يتقدم المأموم على الإمام في جهة القبلة فإن تقدم لم تنعقد صلاته على الجديد الأظهر ولو تقدم في خلالها بطلت] روضة الطالبين 1/462.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية عن [تقدم الجماعة على الإمام في المسجد النبوي أجائز على رأي الإمام مالك أم للضرورة؟ فأجابت: سنة محمد بن عبد الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي درج عليها من بعده خلفاؤه وأتباعه بإحسان رضوان الله عليهم أن يكون المأموم خلف الإمام في الحرم النبوي وغيره فلا يجوز العدول عنها، ومن صلى أمام الإمام فقد(10/319)
خالف هذه السنة، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام، فإن وقفوا قدامه لم تصح. أ. هـ. وهذا القول هو المفتى به، وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأن تقدم المأموم على الإمام لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولأنه مخالفة ظاهرة للإمام الذي أمرنا بالائتمام به؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) متفق على صحته] .
وخلاصة الأمر أن المأموم يقف خلف الإمام فإن وقف قدَّام الإمام بطلت صلاته إلا من عذر كزحام شديد أو ضيق المكان.
لا يجوز جعل الآيات القرآنية والأذان بدلاً من النغمات الموسيقية في الهاتف المحمول
يقول السائل: ما حكم جعل الآيات القرآنية والأذان بدلاً من النغمات والرنات الموسيقية في أجهزة الجوال (الهاتف المحمول) أفيدونا.
الجواب: لا يجوز شرعاً أن تجعل آيات القرآن الكريم ولا ألفاظ الأذان بدل رنات الجوال (الهاتف المحمول) وهذا الحكم في هذه المسألة المستجدة مخرج على القواعد الشرعية الثابتة بالنصوص من كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأول هذه القواعد الشرعية هي وجوب تعظيم شعائر الله يقول الله تعالى: {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} سورة الحج الآية 30.
قال الإمام القرطبي: [ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم.... فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك ... ] تفسير القرطبي 12/56.
ولا شك أن آيات القرآن الكريم والأذان من أعظم شعائر الله فيجب(10/320)
صيانتها أن تكون بدل رنة الجوال بل إن في ذلك امتهاناً لكلام رب العالمين وخاصة أن صاحب الجوال لا يتحكم في زمان ومكان تلقي المكالمة الهاتفية فيمكن أن يتلقى المكالمة وهو في المرحاض فلا يقبل شرعاً أن ينطلق الأذان من المراحيض والحمامات ولا يقبل شرعاً أن تتلى آية من كتاب الله في المراحيض والحمامات وكلام الله أجل وأعز من أن يتلى في تلكم الأماكن. عن أنس - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل الخلاء نزع خاتمه) رواه الترمذي وحسنه وصححه المنذري وغيره كما في التلخيص الحبير 1/108. والسبب في نزع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخاتمه عند دخوله الخلاء أنه كان من ضمن نقش خاتمه لفظ الجلالة (الله) كما ورد في الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال كتب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاباً أو أراد أن يكتب فقيل له إنهم لا يقرأون كتاباً إلا مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة نقشه محمد رسول الله) رواه البخاري ومسلم. فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزع خاتمه عند دخوله الخلاء من باب تعظيم لفظ الجلالة (الله) . وأيضاً لو كان الهاتف المحمول في جيب خلفي لحامله وهو جالس عليه فتلقى مكالمة فماذا يحدث؟ سيخرج الأذان وترتل آيات القرآن الكريم من تحت مؤخرته!! وهذا لا يقبل في دين الله.
ومن هذه القواعد أن كلام الله عز وجل مقدس ومحترم وينبغي التأدب عند سماعه كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} سورة الأعراف الآية204. قال العز بن عبد السلام: [الاستماع للقرآن والتفهم لمعانيه من الآداب المشروعة المحثوث عليها] فتاوى العز بن عبد السلام ص485-486. وقال جلال الدين السيوطي: [يسن الاستماع لقراءة القرآن، وترك اللغط والحديث بحضور القراءة، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ] الإتقان 1/145. فالاستماع والإنصات لقراءة القرآن مندوب إليه وهذا ما لا يحصل عندما يرن الجوال وخاصة إذا رن الجوال في مكان ليس من أماكن الاستماع للقرآن الكريم كالمراحيض والحمامات والأسواق ومحال ازدحام الناس. ويضاف إلى ذلك أن صاحب الجوال يبادر إلى الرد على المكالمة الهاتفية فيقطع سماع الآية القرآنية ليسمع كلام المخلوق ويعرض عن سماع كلام الخالق. وهذا لا(10/321)
يليق بالمسلم أن يفعله قال الله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} سورة البقرة الآية 61. ومن هذه القواعد أن الأذان عبادة مؤقتة بأوقات معلومة وهو إعلام بدخول وقت الصلاة فلا يجوز لأحد أن يؤذن إلا في الأوقات المعروفة فعن مالك بن الحويرث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ثم ليؤمكما أكبركما) رواه البخاري ومسلم. وكذا يجوز الأذان فيما ورد فيه الإذن الشرعي باستعمال ألفاظ الأذان مثل الأذان في أذن المولود فعن أبي رافع - رضي الله عنه - قال رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، كما أنه إذا استعمل الأذان في رنات الجوال فإنه سيؤدي إلى البلبلة والتشويش على الناس في الأوقات المقدرة شرعاً للصلوات
والصيام ونحو ذلك. فلذلك كله وسداً لأبواب انتهاك شعائر الله لا يجوز جعل الأذان وآيات القرآن الكريم بدلاً من رنات الهاتف ويمكن أن يستعاض عن ذلك برنات عادية ليست موسيقية أو غير ذلك مما ليس فيه مخالفة شرعية. وبهذه المناسبة أود التنبيه على الأمرين التاليين المتعلقين باستعمال الهاتف المحمول:
الأول: إن حكم استعمال الهاتف المحمول يكون بحسب كيفية استعماله فإذا استعمل في المباح فهو مباح وإذا استعمل في الحرام فهو حرام فاستعمال الهاتف المحمول المزود بكاميرا في التقاط صور النساء والاحتفاظ بها ونشرها من المحرمات وهذا نوع من التلصص والتجسس المحرم شرعاً وفيه انتهاك لحرمات الناس كما أن فيه شيوع الفواحش بين الناس قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} سورة الحجرات الآية 12. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سورة النور الآية 19. وهذا الأمر فيه انتهاك لخصوصيات الناس وتتبع لعوراتهم وفضح لها ومن فضح الناس فضحه الله كما ورد في الحديث عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم(10/322)
فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أبو داود، وقال العلامة الألباني حديث حسن صحيح كما في صحيح سنن أبي داود 3/923. ويحرم تصوير النساء بكاميرات الهاتف النقال أيضاً لأن فيه إيذاءً لعباد الله قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} سورة الأحزاب الآية 58.
الثاني: إن الهواتف النقالة صارت من أسباب الإزعاج في المساجد والمدارس والجامعات وخاصة أثناء الصلوات وفي قاعات الدروس فينبغي إغلاقها في هذه الأماكن وبالذات أثناء الصلوات فرنين الهواتف النقالة يقطع خشوع المصلين ويشوش عليهم فينبغي على من يحمل الهاتف النقال أن يوقفه عن العمل عند دخوله المسجد سواء أكان ذلك في صلاة الجمعة أو غيرها من الصلوات. لأن احتمال أن يتصل به أحد قائم وفي الرنين الصادر من الهاتف إزعاج وتشويش على المصلين والمساجد لها حرمتها ولا ينبغي لأحد أن يشوش على من في المسجد سواء كانوا في صلاة أو ذكر أو قراءة قرآن أو سماع درس علم بأي نوع من أنواع التشويش والإزعاج. فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (اعتكف رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال: في الصلاة) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني. فإذا نسيه مفتوحاً فرن أثناء الصلاة فيجوز أن يوقفه عن العمل أثناء الصلاة وإن اقتضى ذلك أن يتحرك المصلي في صلاته فإن هذه الحركة مباحة على أقل تقدير إن لم تكن مستحبة نظراً للحاجة حيث إنه يترتب عليها منع ما يشوش على المصلين وقد ثبت في الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أمَّ الناس في المسجد فكان إذا قام حمل أمامة بنت زينب وإذا سجد وضعها) رواه البخاري ومسلم. كما وأنه يجوز قتل الحية والعقرب في الصلاة وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك. رواه أصحاب السنن وقال الإمام الترمذي حديث حسن. فيؤخذ من هذين الحديثين أن الحركة في الصلاة إن كانت لحاجة جائزةٌ ولا تبطل الصلاة أقول هذا مع التأكيد على إغلاق الهاتف عند(10/323)
الدخول إلى المسجد فإن نسيه مفتوحاً ورنَّ أثناء الصلاة فليغلقه ولا شيء عليه.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز جعل الأذان ولا الآيات القرآنية بدلاً عن نغمات الهاتف النقال سداً للذرائع المفضية إلى المحظورات.(10/324)
الصيام
قضاء رمضان
يقول السائل: إنه لم يصم شهر رمضان الماضي بدون أي عذر ولم يقضه وقد ندم على تقصيره وينوي أن يصوم رمضان القادم فماذا عليه؟
الجواب: إن الإفطار في رمضان متعمداً من كبائر الذنوب وانتهاك للمحرمات وتعدٍ على ركن من أركان الإسلام والواجب على من وقع منه ذلك أن يبادر بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى بشروطها المعروفة.
قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31.
ويلزم هذا المفطر أن يقضي الشهر الذي أفطره كما قرره جمهور أهل العلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184. ففي هذه الآية الكريمة ألزم الله عز وجل القضاء لمن أفطر لعذر كالمريض والمسافر فمن باب أولى أن يلزم القضاء من أفطر متعمداً. ومما يدل على وجوب القضاء على المفطر المتعمد في رمضان ما ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد ومالك وهو(10/327)
حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/452. فهذا الحديث قد أوجب القضاء على من استقاء أي تعمد إخراج القيء وقد أفطر بغير عذر فهو آثم فيما فعل فكل من أفطر عامداً كان حكمه كحكم من استقاء. انظر قضاء العبادات ص 225.
وكذلك فإن ذمة هذا المفطر متعمداً مشغولة بفريضة الصيام ولا تبرأ الذمة إلا بالأداء وقد فاته الأداء فلزمه القضاء.
وقد أوجب جماعة من العلماء الفدية بالإضافة للقضاء في حق من دخل عليه رمضان وفي ذمته أيام لم يصمها من رمضان سابق إن كان تأخير القضاء لغير عذر وهذه الفدية تكون بإطعام مسكين عن كل يوم أفطره من رمضان.
قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في من أخر قضاء رمضان بغير عذر حتى دخل رمضان آخر، قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزمه صوم رمضان الحاضر ثم يقضى الأول ويلزمه عن كل يوم فدية وهى مُدٌّ من طعام وبهذا قال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد والزهري والأوزاعي ومالك والثوري وأحمد وإسحق إلا أن الثوري قال الفدية مدان عن كل يوم وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة والمزني وداود يقضيه ولا فدية عليه] المجموع 6/366.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وجملة ذلك أن من عليه صومٌ من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان، فما أقضيه حتى يجيء شعبان) متفق عليه. ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة، فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة، فإن أخرَّه عن رمضان آخر، نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء وإن كان لغير عذر، فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك، والثوري والأوزاعي(10/328)
والشافعي، وإسحاق وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه صوم واجب, فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر.
ولنا ما روي عن ابن عمر وابن عباس, وأبي هريرة أنهم قالوا: أطعم عن كل يوم مسكيناً ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسنداً من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء، أوجب الفدية كالشيخ الهرم] المغني 3/153-154.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجب القضاء فقط سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر ولا تجب الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] نيل الأوطار 4/263.
ولكن إن عمل أحد بالقول الثاني فلا بأس للآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم.
وخلاصة الأمر أن على من أفطر عامداً في رمضان أن يقضي الأيام التي أفطرها ولا تبرأ ذمته إلا بذاك.
حكم الأكل والشرب أثناء أذان الفجر
يقول السائل: إنه سمع حديثاً عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول فيه: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) فهل هذا الحديث يجيز للصائم أن يستمر في الأكل والشرب أثناء أذان الفجر. أفيدونا.(10/329)
الجواب: من المعلوم أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر الصادق وهو وقت أذان الفجر للصلاة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} سورة البقرة الآية 187. فإذا طلع الفجر الصادق فحينئذ يحرم الطعام والشراب على الصائم. ومن المعروف أنه يؤذن للفجر بأذانين فالأذان الأول لا يدخل به وقت صلاة الفجر ويجوز لمن أراد الصيام أن يأكل ويشرب وأما الأذان الثاني فبه يدخل وقت صلاة الفجر وعنده يحرم الأكل والشرب على الصائم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت) رواه البخاري ومسلم.
وبناءً على ما تقدم فبمجرد أن يؤذن لصلاة الفجر فلا يجوز الأكل ولا الشرب لأن وقت الصيام قد بدأ هذا إذا كان المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر الصادق وبما أن المؤذنين في بلادنا يعتمدون على التوقيت المعروف وهو توقيت صحيح أعدته لجنة من أهل العلم الشرعي ومن مختصين في علم الفلك وممن لديهم خبرة ومعرفة في التوقيت فيجب الالتزام به.
قال العلامة ابن القيم: [وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر, وهو قول الأئمة الأربعة, وعامة فقهاء الأمصار, وروي معناه عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 6/341.
وأما الحديث المذكور في السؤال فقد رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث حسن وقد فصَّل الكلام على سنده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 1394.
وأما المراد بالحديث فقد قال الإمام البيهقي: [وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أن المنادي كان ينادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر] السنن الكبرى 4/218.(10/330)
وقال الإمام النووي: [ذكرنا أن من طلع الفجر وفى فيه - فمه- طعام فليلفظه ويتم صومه فان ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه وهذا لا خلاف فيه ودليله حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) رواه البخاري ومسلم وفى الصحيح أحاديث بمعناه وأما حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) وفى رواية (وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر) فروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الأولي وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ورواهما البيهقى ثم قال: وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر قال: وقوله إذا بزغ يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة أو يكون خبراً عن الأذان الثاني ويكون قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده) خبراً عن النداء الأول ليكون موافقاً لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قال وعلى هذا تتفق الأخبار وبالله التوفيق والله أعلم] المجموع 6/311- 312.
وحمل جماعة من العلماء هذا الحديث على حال من شك في طلوع الفجر، أما إذا تأكد من طلوع الفجر فليس له أن يأكل أو يشرب فإن فعل بعد التأكد من طلوع الفجر فقد بطل صومه ويلزمه القضاء.
وقال العلامة علي القاري: [قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حتى يقضي حاجته منه) هذا إذا علم أو ظن عدم الطلوع. وقال ابن الملك: هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح أما إذا علم أنه قد طلع أو شك فيه فلا] مرقاة المفاتيح 4/483.
وخلاصة الأمر أن الحديث وارد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو حديث حسن ولكن الحديث لا يجيز للصائم أن يستمر في الأكل والشرب خلال أذان الفجر إذا تأكد من طلوع الفجر الصادق. والواجب على الصائم أن يمتنع عن الأكل والشرب بمجرد سماع أذان الفجر.(10/331)
تعجيل صدقة الفطر
يقول السائل: هل يجوز لي أن أعجل صدقة الفطر من أول رمضان لأن لي جاراً فقيراً وهو بحاجة ماسة. أفيدونا؟
الجواب: صدقة الفطر أو زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على وجوب صدقة الفطر. وقد ثبتت صدقة الفطر بأحاديث كثيرة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -منها: حديث ابن عمر- رضي الله عنه - قال: (فرض رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
ووقت وجوب صدقة الفطر محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من يرى أنها تصير واجبة بغروب الشمس ليلة الفطر، لأنه وقت الفطر من رمضان. وقالت جماعة أخرى من العلماء إن وقت وجوبها هو طلوع الفجر من يوم العيد.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما وقت الوجوب فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان ... وبما ذكرنا في وقت الوجوب قال الثوري وإسحاق ومالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه. وقال الليث وأبو ثور وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهو رواية عن مالك لأنها قربة تتعلق بالعيد, فلم يتقدم وجوبها يوم العيد وهو رواية عن مالك كالأضحية ولنا قول ابن عباس: (إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث) ولأنها تضاف إلى الفطر فكانت واجبة به كزكاة المال, وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص والسبب أخص بحكمه من غيره والأضحية لا تعلق لها بطلوع الفجر ولا هي واجبة ولا تشبه ما نحن فيه] المغني3/89.
وينبغي إخراجها قبل صلاة العيد فقد جاء في الحديث عن ابن عمر -(10/332)
رضي الله عنه - (أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه. وقد أورد ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: [يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} سورة الأعلى الآيتان 14-15. انظر فتح الباري 3/472.
وقد أجاز العلماء تعجيل صدقة الفطر عن وقت الوجوب فمنهم من قال يجوز تعجيلها من أول العام. ومنهم من قال يجوز تعجيلها من أول الشهر. ومنهم من قال يجوز تعجيلها من نصف الشهر. ومنهم من قال يجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين وهذا القول الأخير هو أرجح أقوال العلماء في المسألة ويدل عليه ما كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلونه فعن نافع أن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: (وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري. وقد ورد عن ابن عمر - رضي الله عنه - أيضاً: (أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) رواه مالك في الموطأ والبيهقي في السنن وغيرهم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وقد وقع في رواية ابن خزيمة من طريق عبد الوارث عن أيوب (قلت: متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل. قلت: متى يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومين) . ولمالك في الموطأ عن نافع (أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) وأخرجه الشافعي عنه وقال: هذا حسن وأنا أستحبه - يعني تعجيلها قبل يوم الفطر - انتهى.
ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (وكلني رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظ زكاة رمضان) الحديث. وفيه(10/333)
أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر فدل على أنهم كانوا يعجلونها ... ] فتح الباري 3/474.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه وجملته أنه يجوز تقديم الفطرة قبل العيد بيومين لا يجوز أكثر من ذلك وقال ابن عمر: كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين وقال بعض أصحابنا: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل وقال أبو حنيفة: ويجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة فأشبهت زكاة المال وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها، كزكاة المال بعد ملك النصاب ولنا ما روى الجوزجاني: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو معشر عن نافع، عن ابن عمر قال: (كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر به فيقسم - قال يزيد أظن: هذا يوم الفطر - ويقول أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) والأمر للوجوب, ومتى قدمها بالزمان الكثير لم يحصل إغناؤهم بها يوم العيد وسبب وجوبها الفطر بدليل إضافتها إليه وزكاة المال سببها ملك النصاب, والمقصود إغناء الفقير بها في الحول كله فجاز إخراجها في جميعه وهذه المقصود منها الإغناء في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت فأما تقديمها بيوم أو يومين فجائز لما روى البخاري بإسناده عن ابن عمر, قال: (فرض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان وقال في آخره: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين) وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعاً ولأن تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها, فإن الظاهر أنها تبقى أو بعضها إلى يوم العيد فيستغنى بها عن الطواف والطلب فيه ولأنها زكاة, فجاز تعجيلها قبل وجوبها كزكاة المال والله أعلم] المغني3/89-90.
وخلاصة الأمر أنه يجوز تعجيل صدقة الفطر قبل يوم العيد بيوم أو يومين وفي ذلك تحقيق لمصلحة للفقير.
وينبغي التنبيه على أنه يجوز إخراج القيمة في صدقة الفطر أي(10/334)
إخراجها نقداً وهو مذهب الحنفية ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر ابن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو الذي يحقق مصلحة الفقير وخاصة في هذا الزمان وهو قول وجيه تؤيده الأدلة الكثيرة ومنها أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج. وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر أثر معاذ - رضي الله عنه - السابق واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/54. ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن ابن رشيد قوله: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. وفعل معاذ مع إقرار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته وصدقة الفطر زكاة بلا خلاف.
ولا يصح القول بأن من أخرج القيمة في صدقة الفطر فإنها غير مجزئة فالمسألة محل خلاف بين العلماء ومسائل الخلاف إن أخذ أحدٌ من الناس بقول أحد العلماء المجتهدين فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى وجواز إخراج القيمة قال به جماعة من أهل العلم المعتبرين كما سبق وأخيراً أقول لبعض طلبة العلم الذين لا يأخذون بالقيمة لا تحجروا واسعاً ورفقاً بالمسلمين.
اعتكاف المرأة في العشر الأواخر من رمضان
يقول السائل: ما حكم اعتكاف المرأة في العشر الأواخر من رمضان؟
الجواب: الاعتكاف من السنن الثابتة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد صح (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف في رمضان في العشر الأواخر منه) رواه البخاري ومسلم.(10/335)
ويشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد قال الله تعالى: {ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} سورة البقرة الآية 187. ولم يعتكف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في المسجد فلا يصح الاعتكاف في البيوت.
والاعتكاف مشروع للنساء كما هو مشروع للرجال إلا أنه يشترط لصحة الاعتكاف من المرأة أن تكون طاهراً من حيض أو نفاس على قول جمهور أهل العلم. ويدل على مشروعية الاعتكاف للنساء ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده) رواه البخاري ومسلم.
وثبت في الحديث الآخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل معتكفه وإنه أمر بخبائه فضرب، أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبائه فضرب فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: آلبر تردن؟ فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأُول من شوال) رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (فترك الاعتكاف) في رواية أبي معاوية (فأمر بخبائه فقوض) وهو بضم القاف وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة أي نقض وكأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة والتنافس الناشىء عن الغيرة حرصاً على القرب منه خاصة فيخرج الاعتكاف عن موضوعه أو لما أذن لعائشة وحفصة أولاً كان ذلك خفيفاً بالنسبة إلى ما يفضي إليه الأمر من توارد بقية النسوة على ذلك فيضيق المسجد على المصلين أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته وربما شغلنه عن التخلي لما قصد من العبادة فيفوت مقصود الاعتكاف] فتح الباري 4/351.
ويجب أن يعلم أنه يشترط إذن الزوج وموافقته لجواز اعتكاف الزوجة وكذا غير المتزوجة فلا بد من موافقة وليها قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء) في رواية(10/336)
الأوزاعي المذكورة (فاستأذنته عائشة فأذن لها وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت) وفي رواية ابن فضيل المذكورة (فاستأذنت عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت قبة, فسمعت بها حفصة فضربت قبة) ] فتح الباري 4/350.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: [ ... قال ابن المنذر وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها, وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها. وعن أهل الرأي إذا أذن لها الزوج ثم منعها أثم بذلك وامتنعت, وعن مالك ليس له ذلك, وهذا الحديث حجة عليهم] فتح الباري 4/351.
ويشترط لصحة اعتكاف المرأة أمن الفتنة فلا يصح اعتكاف المرأة في مسجد لا يوجد فيه مكان خاص بالنساء لأنها حينئذ ستختلط بالرجال وهذا فيه مفاسد تنافي الحكمة من الاعتكاف ومن المعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وإن اعتكفت مجموعة من النساء في مسجد خاص بهن فأمر حسن إن كان المسجد آمناً. ولا يشترط لصحة اعتكاف المرأة أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة ولا الجماعة لأنهما ليستا واجبتين على المرأة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها وبهذا قال الشافعي وليس لها الاعتكاف في بيتها وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكي عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة (لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه وقال: (آلبر تردن) ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل. ولنا قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجداً كان مجازاً فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية كقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (جعلت لي الأرض(10/337)
مسجداً) ولأن أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استأذنَّه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن ولو لم يكن موضعاً لاعتكافهن لما أذن فيه ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه ونبههن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرت أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء المقصد به ولذلك قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (آلبر تردن) منكراً لذلك أي لم تفعلن ذلك تبرراً ولذلك ترك الاعتكاف لظنه أنهن يتنافسن في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن ولم يأذن لهن في المسجد وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه] المغني 3/190-191.
وخلاصة الأمر أن الاعتكاف مشروع للنساء كالرجال بشروطه السابقة ولكن نظراً للظروف الصعبة التي نعيشها في هذه البلاد فأرى أنه لا ينبغي للنساء أن يعتكفن في المساجد في العشر الأواخر من رمضان ولا في غيرها إلا إذا اعتكفت المرأة في المسجد ساعة من النهار أو سويعات فلا بأس بذلك وأما أن تعتكف ليلاً في المسجد فلا.(10/338)
الأضحية(10/339)
شروط الأضحية توقيفية
يقول السائل: إنه قرأ على شبكة الإنترنت فتوى تقول إن الشروط التي اشترطها الفقهاء للأضحية هي شروط من اجتهادهم وأنه لا يوجد هناك نصوص صريحة توجب ضرورة أن تكون الأضحية بسن معينة فما قولكم أفيدونا؟
الجواب: الأضحية شعيرة من شعائر الله وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل وسنة مؤكدة من سنن المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي عبادة توقيفية عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمطلوب من المسلم أن يعظم شعائر الله وأن يقتدي برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} سورة الأحزاب الآية 21.
والشروط التي شرطها الفقهاء في الأضحية ليست شروطاً اجتهادية كما ورد في الفتوى المشار إليها وإنما وضعها الفقهاء بناءً على النصوص الشرعية فمن شروط الأضحية أن تكون من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم كما هو قول جمهور أهل العلم بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة، قال الإمام الشافعي: [هم الأزواج الثمانية التي قال الله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} الأنعام الآية 143. وقال تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ(10/341)
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} الأنعام الآية 144. يعني ذكراً وأنثى، فاختص هذه الأزواج الثمانية من النعم بثلاثة أحكام: أحدها: وجوب الزكاة فيها. والثاني: اختصاص الأضاحي بها. والثالث: إباحتها في الحرم والإحرام] الحاوي 15/75-76.
وقال القرطبي: [والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية وهي الضأن والمعز والإبل والبقر] تفسير القرطبي 15/109. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سورة الحج الآية 34. وقال القرطبي أيضاً: [والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم] تفسير القرطبي 11/44.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} سورة المائدة الآية 1. ويدل على ذلك أنه لم تنقل التضحية بغير الأنعام عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناءً على هذا الشرط لا يصح قول من قال بجواز توزيع اللحوم كبديل عن الأضحية لمن لا يستطيع أن يضحي لضعف قدراته المادية تغليباً للنفع والفائدة للفقراء فهذا القول باطل مناقض للنصوص الشرعية فلا بد في الأضحية من إراقة الدم بذبح حيوان واحد من الأزواج الثمانية وأما شراء اللحم وتوزيعه فلا يكون أضحية بحال من الأحوال حتى لو اشترى بقرة كاملة مذبوحة ووزعها على الفقراء فليست أضحية وإنما تعتبر صدقة من الصدقات. وكذلك لا يجوز شرعاً إخراج قيمة الأضحية بدلاً من ذبحها والقول بجواز إخراج قيمة الأضحية تشريع جديد ومنكر من القول وزوراً قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} سورة الشورى الآية 21.
وبناءً على ذلك كانت الأضحية أفضل من التصدق بثمنها كما هو مذهب جمهور أهل العلم بما فيهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وربيعة وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم انظر الاستذكار 15/157، تفسير القرطبي 15/107-108، المجموع 8/425، المغني 9/436.(10/342)
وروى عبد الرزاق بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: [لأن أضحي بشاة أحب إليَّ من أن أتصدق بمئة درهم] المصنف 4/388. وقال الإمام النووي: [مذهبنا أن الأضحية أفضل من صدقة التطوع، للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية، ولأنها مختلف في وجوبها، بخلاف صدقة التطوع، ولأن الأضحية شعار ظاهر] المجموع 8/425.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب إلى الله كان له أن يضحي به] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 26/304.
وقال الشيخ ابن القيم: [الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ففي كل ملة صلاة ونسك لا يقوم غيرها مقامها ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف القيمة لم يقم مقامه وكذلك الأضحية] تحفة المودود ص65.
والشرط الثاني من شروط الأضحية أن تبلغ سن التضحية فقد اتفق جمهور أهل العلم على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني فما فوقه ويجزئ من الضأن الجذع فما فوقه. ودليل هذا الشرط حديث جابر - رضي الله عنه - أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تذبحوا إلا مسنةً إلا أن يَعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن) رواه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
قال الإمام النووي: [قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال] شرح النووي على صحيح مسلم 5/101-102. والثني من الضأن والمعز ما أتم سنة. والثني من البقر ما أتم سنتين. والثني من الإبل ما أتم خمس سنين والجذع من الضأن ما مضى عليه أكثر العام أي مضى عليه ستة أشهر فأكثر، وخاصة إذا كان عظيماً بحيث لو خلط بالثنيات يشتبه على الناظر من بعد. قال الإمام الشافعي: [الضحايا الجذع من(10/343)
الضأن، والثني من المعز والإبل والبقر، ولا يكون شيء دون هذا ضحية] الأم 2/223. وقال الإمام النووي: [وأجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني] المجموع 8/394.
وإن المدقق في الأحاديث التي أشارت إلى السن يرى أنه لا يجوز تجاوز تلك السن ويدل على ذلك ما ورد عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعله فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال إن عندي جذعة، فقال إذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك) رواه البخاري. وقال الإمام البخاري: باب قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بردة (ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك) ثم ساق حديث البراء المتقدم برواية أخرى: (ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شاتك شاة لحم. فقال: يا رسول الله: إن عندي داجناً جذعة من المعز. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذبحها ولا تصلح لغيرك) وقد ورد في عدة روايات اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز وشاركه في الاختصاص عقبة بن عامر والألفاظ التي تدل على الاختصاص كما بينها الحافظ ابن حجر: (ولا رخصة فيها لأحد بعدك) (ولن تجزئ عن أحد بعدك) (وليست فيها رخصة لأحد بعدك) فتح الباري 12/109. وهذا التخصيص من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل على أنه لا تصح التضحية بالجذع من الإبل والبقر والماعز، وهو الذي اعتمد عليه الفقهاء في قولهم إنه لا تجوز التضحية بما دون السنتين من البقر.
وبناءً على ما تقدم أقول لا تصح التضحية بالعجول المسمنة مهما بلغ وزنها ولا بد من الالتزام بالسن المقرر عند الفقهاء في البقر وهو سنتان، ولا يصح النقص عنه. جاء في الفتاوى الهندية: [وتقدير هذه الأسنان بما قلنا يمنع النقصان ولا يمنع الزيادة حتى ولو ضحى بأقل من ذلك شيئاً لا يجوز ولو ضحى بأكثر من ذلك شيئاً يجوز ويكون أفضل ولا يجوز في الأضحية حمل ولا جدي ولا عجول ولا فصيل] الفتاوى الهندية 5/297.(10/344)
وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الأضحية اللحم فقط، وتوزيعه صدقة أو هدية، وإنما يقصد بالأضحية أيضاً تعظيم شعائر الله عز وجل، وإراقة الدم كوسيلة من وسائل الشكر لله تعالى، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. وكذلك الامتثال لأمر الله عز وجل بإراقة الدم، اقتداءً بإبراهيم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} سورة الحج الآية 37. ولو كان المقصود بالأضحية اللحم لما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بردة لما ذبح قبل الوقت المقرر شرعاً أن يعيد الذبح لأن المقصود قد حصل فعن البراء - رضي الله عنه - قال: (خطبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم. فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تلك شاة لحم. فقال: إن عندي عناقاً جذعةً وهي خيرٌ من شاتي لحم فهل تجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك) رواه البخاري ومسلم.
وقد أجابت دار الإفتاء المصرية عن سؤال عن التضحية بالعجول المسمنة التي لم تبلغ السنتين فأجابت بما يلي: [جرى فقه أئمة المسلمين على أنه لا يجزئ في الأضحية إلا الأنعام، وهى الإبل والبقر والغنم، لقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سورة الحج الآية 28، وأقل ما يجزئ من هذه الأنواع في الأضحية الجذع من الضأن، والثنية من المعز وغيرها. لما روى جابر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا إن تعسر عليكم، فاذبحوا جذعة من الضأن) وروى عن علي - رضي الله عنه - قال: (ولا يجوز في الضحايا إلا الثني من المعز والجذعة من الضأن) وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (لا تضحوا بالجذع من المعز والإبل والبقر) والثني من البقر والمعز ما كان لها سنتان ودخلت في الثالثة، ومن الإبل ما كان لها خمس سنوات ودخلت في السادسة، وقد جزم الثقات من أهل اللغة بأن الجذع من الضأن والماعز(10/345)
والظباء والبقر ما أتم عاماً كاملاً ودخل في الثاني من أعوامه فلا يزال جذعاً حتى يتم عامين ويدخل في الثالث فيكون ثنياً وتحديد سن الأضحية توقيفي بمعنى أنه ثابت بالسنة الصحيحة أن الجذع من الضأن كاف تجوز به الأضحية، أما من غيره فلا تجزئ وليست الحكمة في هذا - والله أعلم - كثرة اللحم مع تلك السن أو قلته مع هذه ... لما كان ذلك: لم تجزئ الأضحية من البقر المسئول عنه مادام سنُّه منذ ولادته عشرة أشهر، ولابد لجوازه أضحية مشروعة أن يكون له عامان ودخل في الثالث على ما تقدم بيانه لأن الاعتبار لبلوغ سن التلقيح لا لكثرة اللحم] .
والشرط الثالث من شروط الأضحية أن تكون سليمة من العيوب المانعة من صحة الأضحية فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي. قال: - أي الراوي عن البراء وهو عبيد بن فيروز- قلت: فإني أكره النقص في السن. قال: -أي البراء- ما كرهتَ فدعه، ولا تحرمه على أحد) رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/361.
ومن شروط صحة الأضحية أن تذبح في الوقت المقرر شرعاً بدايةً ونهايةً فمن ذبح قبل دخول الوقت فلا تعتبر ذبيحته أضحية فعن البراء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء) رواه البخاري ومسلم.
وعن البراء - رضي الله عنه - قال: (ذبح أبو بردة قبل الصلاة فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبدلها. قال: ليس عندي إلا جذعة - قال شعبة: وأحسبه قال هي خيرٌ من مسنَّة- قال: اجعلها مكانها ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن شروط الأضحية شروط توقيفية وليست اجتهادية(10/346)
كما ورد في السؤال ولا بد من الالتزام بها ومن أخل بشرط منها فلا يُعَدُّ ما ذبحه أضحية وهذا ما اتفق عليه أهل العلم ولا يغترن أحد ببعض الفتاوى التي تجاوزت تلك الشروط بحجة التيسير والتسهيل على الناس.
الاختلاف في وقت عيد الأضحى
يقول السائل: ما قولكم فيما حصل من بلبلة حول بداية شهر ذي الحجة هذا العام والاختلاف في يوم الوقوف بعرفة ويوم عيد الأضحى ثم تراجع السعودية وإعلانها أن وقفة عرفة يوم الأربعاء والعيد يوم الخميس فما قولكم في ذلك أفيدونا؟
الجواب: أعلن مجلس القضاء الأعلى في السعودية أن بداية شهر ذي الحجة لهذا العام 1425هـ هو يوم الأربعاء 12/1/ 2005م وقد جاء في إعلانه: [نظراً لأن شهر شوال ثبت دخوله يوم السبت ولم يتقدم أحدٌ يخبر بدخول شهر ذي القعدة يوم الأحد ولأن يوم الثلاثاء/30 ذي القعدة/ حسب تقويم أم القرى هو تمام ستين يوماً بعد شهر رمضان ولم يرد للمجلس عن دخول شهر ذي الحجة ليلة الثلاثاء ما يفيد دخول الشهر وإنما ورد نفي الرؤية وعليه فإن يوم الأربعاء 1/ 12/1425هـ حسب تقويم أم القرى الموافق 12/1/2005م هو أول أيام شهر ذي الحجة وبهذا يكون الوقوف بعرفة يوم الخميس التاسع من ذي الحجة وعيد الأضحى المبارك يوم الجمعة الموافق 21/1/2005م] . ثم أصدر مجلس القضاء الأعلى في السعودية بياناً أعلن فيه أنه قد شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم قد رأوا الهلال ليلة الثلاثاء، وبناءً على ذلك أصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً تصحيحياً أعلن فيه أن الثلاثاء 11/1/ 2005 في التقويم الميلادي هو غرة ذي الحجة ويوم الأربعاء 19/1/2005 هو يوم وقفة عرفة ويوم الخميس 20/1/2005 هو يوم عيد الأضحى المبارك] .(10/347)
وما قام به مجلس القضاء الأعلى في السعودية هو رجوع عن الخطأ والرجوع عن الخطأ فضيلة وقد سررت كثيراً عندما رجع مجلس القضاء الأعلى في السعودية عن قراره الأول لما في ذلك من تصحيح لوقت عبادة عظيمة وركن من أركان الإسلام وهو الحج بل إن ما فعله مجلس القضاء الأعلى في السعودية هو السنة النبوية حيث ورد في الحديث عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهلا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس أن يفطروا) وفي رواية (وأن يغدوا إلى مصلاهم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة بألفاظ متقاربة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/446. وعن أبي عمير بن أنس قال حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (غُمَّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والدارقطني وقال: إسناده حسن وأخرجه البيهقي وحسنه. بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني 9/226. وغير ذلك من الأحاديث والآثار. وبهذا يظهر لنا أن تراجع مجلس القضاء الأعلى في السعودية موافق للسنة النبوية مع أني كنت أتمنى أن لا يقعوا في هذا الخطأ وأن يتريثوا في إثبات شهر ذي الحجة.
إذا تقرر هذا فينبغي أن يعلم أن الفقهاء قد قرروا أن يوم عرفة هو اليوم الذي يقف الناس فيه بعرفة بغض النظر كان اليوم التاسع أو اليوم العاشر فلو وقفوا بعرفة خطأً يوم العاشر من ذي الحجة فحجهم صحيح باتفاق الفقهاء وكذا في العيد عيد الفطر وعيد الأضحى فهما اليومان اللذان يعيد فيهما المسلمون ولو كانا خطأً والخطأ في هذا الباب مغتفر، قال الخطيب الشربيني: [قالوا: وليس يوم الفطر أول شوال مطلقاً بل يوم فطر الناس، وكذا يوم النحر يوم يضحي الناس، ويوم عرفة اليوم الذي يظهر لهم أنه يوم عرفة، سواء التاسع والعاشر، وذلك لخبر (الفطر يوم يفطر الناس،(10/348)
والأضحى يوم يضحي الناس) رواه الترمذي وصححه. وفي رواية للشافعي (وعرفة يوم يعرفون) ] مغني المحتاج 1/595.
والحديث الذي ذكره الخطيب رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح ونصه (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) قال الإمام الترمذي: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] سنن الترمذي 3/80.
وقال العلامة ابن القيم: [وقال الخطابي في معنى الحديث: إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوماً اجتهدوا، فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعاً وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض، لا شيء عليهم من وزر أو عنت، وكذلك في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة، ليس عليهم إعادة] حاشية ابن القيم على سنن أبي داود6/317. وروى البيهقي بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يوم عرفة اليوم الذي يُعرِّف الناس فيه) قال البيهقي: هذا مرسل جيد، أخرجه أبو داود في المراسيل] سنن البيهقي 5/176. وروى البيهقي أيضاً بإسناده عن ابن جريح قال: (قلت لعطاء: رجل حج أول ما حج فأخطأ الناس بيوم النحر أيجزئ عنه، قال: نعم إي لعمري إنها لتجزئ عنه. قال: وأحسبه قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون) . وأراه قال: (وعرفة يوم تعرفون) ] سنن البيهقي 5/176.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [وَمَنْ أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ لِذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ وَهُوَ يَظُنُّهُ التَّاسِعَ, وَوَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ اللَّيْلَةَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْعَاشِرَةَ: فَحَجُّهُ تَامٌّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لأن رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْهَا; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عليه السلام الْوُقُوفَ بِهَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا أَجْزَأَهُ] المحلى 5/203-204.(10/349)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير ليلة عرفة أجزأهم ذلك لما روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة الذي يعرف فيه الناس] المغني 3/456.
وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي: [وإن أخطأ الناس الوقوف فوقفوا في اليوم الثامن أو العاشر لم يجب عليهم القضاء] المهذب مع شرحه المجموع 8/292.
وقال الإمام النووي: [وإن غلطوا بيوم واحد فوقفوا في اليوم العاشر من ذي الحجة أجزأهم وتم حجهم ولا قضاء] المجموع 8/292.
ثم قال: [فرع في مذاهب العلماء في الغلط في الوقوف: اتفقوا على أنهم إذا غلطوا فوقفوا في العاشر وهم جمع كثير على العادة أجزأهم] المجموع 8/292.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... ولهذا قالوا: إذا أخطأ الناس كلهم فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم] مجموع الفتاوى 25/107.
وقال الكاساني الحنفي: [ولو اشتبه على الناس هلال ذي الحجة فوقفوا بعرفة بعد أن أكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوماً ثم شهد الشهود أنهم رأوا الهلال يوم كذا، وتبين أن ذلك اليوم كان يوم النحر فوقوفهم صحيح، وحجتهم تامة استحساناً ... إلخ] بدائع الصنائع 2/304.
وقال الخرشي المالكي: [ ... وكذلك يجزئ إذا أخطأ في رؤية الهلال الجم أي جماعة أهل الموسم بأن غم عليهم ليلة ثلاثين من القعدة فأكملوا العدة ووقفوا فوقع وقوفهم بعاشر من ذي الحجة] شرح الخرشي على مختصر خليل 2/321.
وأخيراً ينبغي أن يعلم أن المسلمين تبع لأهل الديار المقدسة في مواعيد الحج، عرفة وعيد الأضحى، قال الشيخ ابن العربي المالكي عند(10/350)
تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} : [ ... وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها] . أحكام القرآن 1/143.
وقال الدكتور محمد سليمان الأشقر: [إن المسلمين في جميع أقطار العالم الإسلامي قد أجمعوا إجماعاً عملياً منذ عشرات السنين على متابعة الحجاج في عيد الأضحى ولا يجوز لأي جهة أو مجموعة من الناس مخالفة هذا الإجماع] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن رجوع مجلس القضاء الأعلى في السعودية عن بيانه الأول في هذه الحادثة موافق للسنة النبوية كما أن الخطأ في الوقوف بعرفة أو الخطأ في العيد لا يضر ويجب على المسلم أن يسير مع جماعة المسلمين للحديث المذكور سابقاً: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) .(10/351)
الزكاة(10/353)
زكاة البضاعة الكاسدة
يقول السائل: إنه تاجر ولديه كمية من بعض السلع قد كسدت وبارت ولم يتمكن من بيعها وقد مضى عليها أكثر من خمس سنوات ولمَّا يتمكن من بيعها فماذا يصنع بالنسبة لزكاة هذه البضاعة الكاسدة أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن الزكاة واجبة في عروض التجارة على الصحيح من أقوال أهل العلم لعموم الأدلة التي أوجبت الزكاة في الأموال ولا شك أن عروض التجارة داخلة في هذا العموم دخولاً أولياً كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة التوبة الآية 103.
وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} سورة الذاريات الآية 19.
وقوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} سورة البقرة الآية267.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يُعَدُّ للبيع) رواه أبو داود والدارقطني واختلف في سنده وحسنه ابن عبد البر.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (في الإبل صدقتها وفى البقر(10/355)
صدقتها وفى البز صدقته) . قال الإمام النووي: [هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم] المجموع 6/47. والبز المذكور في الحديث هو الثياب ومنه البزاز لمن يعمل في تجارة الثياب. انظر المصباح المنير ص 47-48.
وقال الإمام النووي: [والصواب الجزم بالوجوب - أي وجوب الزكاة في عروض التجارة- وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة قال رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري وطاووس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان - أبو حنيفة - وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد ... ] المجموع 6/47.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول: روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي سنن أبي داود عن سمرة قال: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع) . وروي عن حماس قال: مرَّ بي عمر فقال: أدِ زكاة مالك، فقلت: مالي إلا جِعاب وأُدُم فقال قومها ثم أدِ زكاتها. واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع. والجعاب جمع جعبة وهي وعاء توضع فيه السهام. انظر المصباح المنير ص 102. والأُدُم جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. انظر المصباح المنير ص 9.
وأما مالك فمذهبه أن التجار على قسمين: متربص ومدير. فالمتربص:(10/356)
وهو الذي يشتري السلع وينتظر بها الأسواق فربما أقامت السلع عنده سنين فهذا عنده لا زكاة عليه إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد وحجته أن الزكاة شرعت في الأموال النامية فإذا زكى السلعة كل عام -وقد تكون كاسدة- نقصت عن شرائها فيتضرر فإذا زكيت عند البيع فإن كانت ربحت فالربح كان كامناً فيها فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل. وأما المدير: وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول فلا يستقر بيده. سلعة فهذا يزكي في السنة الجميع يجعل لنفسه شهراً معلوماً يحسب ما بيده من السلع والعين والدين الذي على المليء الثقة ويزكي الجميع هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة ولو درهم فإن لم يكن يبيع بعين أصلاً فلا زكاة عليه عنده] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/15-16.
إذا تقرر هذا فإن الأصل عند أكثر العلماء أن كل مال يكون عند التاجر ويقصد به التجارة تجب فيه الزكاة ويدخل في ذلك جميع السلع وإن كسدت أو بارت فعلى التاجر أن يقوم هذه السلع الكاسدة ويؤدي زكاتها كغيرها من السلع غير الكاسدة.
وهنالك رأي آخر في المسألة قال به بعض فقهاء المالكية ونسب إلى الإمام مالك وهو إن السلع إذا كسدت وبارت فلا تجب الزكاة فيها إلا إذا بيعت فيزكيها صاحبها عن سنة واحدة وهذا رأي له وجاهته ويمكن الأخذ به وخاصة إذا كانت البضائع الكاسدة كثيرة وهذا من باب التخفيف والتيسير على التجار. ومن المعروف عند التجار أنه لابد أن تبور كمية من كل نوع من السلع فمثلاً إذا اشترى التاجر مئة قطعة من نوع معين من الثياب فباع تسعين قطعة وبارت الباقية فحينئذ تكون الفتوى على قول جمهور أهل العلم فتقوم تلك البضاعة ويزكيها عندما يزكي أمواله وأما إذا كان الكساد هو الأكثر فحينئذ نأخذ برأي بعض فقهاء المالكية.
قال الدسوقي المالكي: [قوله: (إذ بوارها لا ينقلها للقنية ولا للاحتكار) هذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم، ومقابله ما لابن نافع(10/357)
وسحنون لا يقوم ما بار منها وينتقل للاحتكار، وخص اللخمي وابن يونس الخلاف بما إذا بار الأقل قالا: فإن بار النصف أو الأكثر لم يقوم اتفاقاً. وقال ابن بشير: بل الخلاف مطلقاً بناء على أن الحكم للنية لأنه لو وجد مشترياً لباع أو للموجود وهو الاحتكار قاله في التوضيح] حاشية الدسوقي 1/474.
وقد أفتى بقول المالكية هذا بعض أهل العلم المعاصرين منهم الشيخ العلامة مصطفى الزرقا فقال: [إن ما سألتني عنه من رأيي في زكاة البضائع الكاسدة والتاجر المتربِّص، رأيي فيه من القديم هو مذهب مالك - رضي الله عنه - وهو الذي يُشعِر كلامُ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- باستحسانه، كما استحسنه أخونا العلامة الدكتور الشيخ القرضاوي أيضاً، وضعاً للضَّرر البالغ عن التاجر المتربِّص، فأنا أُفتي به دائماً تيسيراً على الناس، ولا سيما في العقارات، حيث يكثر فيها المشترون المتربِّصون في عهد التضخم النقدي العام اليوم، ولا سيما في عالمنا الثالث الذي استمر فيه هبوط قيمة النقود الورقية التي انفردت في وظيفة التنمية، منذ أن حلَّت المَطابع محلَّ مناجم استخراج الذَّهب والفضة!! ولم يبقَ أمام كثير من الناس وسيلة لحفظ قيمة نقودهم وقوتها الشرائية سوى تحويلها إلى عقار والتربص به، وقد يتربَّصون بها مُدداً طويلة، وعدداً من السنين قد تَصل إلى العَشرات، ثم يبيعونها عندما يَحتاجون إلى قيمتها. وخلال ذلك قد ترتفع قيمتها كما كانوا يتوقَّعون من استمرار ارتفاع قيمة العَقارات في كل مكان تقريباً، وإن لم ترتفع فإنها لا تهبِط، فأنا أفتي في هذه بأنها تزكَّى مرة واحدة عن سنة واحدة حين بيعها، لكنها يجب أن تزكّى على أساس قيمتها الحالية المرتفعة، لا على أساس قيمتها القديمة التي اشتروها بها، فإذا كانت قيمتها قد ارتفعت من البيع عشرة أضعاف مثلاً أو أكثر -وهذا واقع كثيرًا في الأراضي- فإن زكاتها تَزيد أيضاً عشرة أضعاف عن زكاتها بحسَب قيمتها الأولى التي اشْتُريتْ بها. وفي هذا عدل، كما أنه تيسير على المكلَّف، ودفع للإرهاق عنه، ومثل ذلك التربُّص في البضائع التجارية الكاسدة. وقد نصَّ الفقهاء على أن التاجر إذا أفرزَ بعض أموالِه ليأخذَه إلى بيته لاستعماله فيه، فإن(10/358)
زكاته تتوقَّف منذ ذلك؛ لأنه خرج من نطاق التِّجارة التي تُنَمِّيه، فأصبح
بتحويله لاستعماله غيرَ نامٍ، والزكاة إنما هي في المال النامِي فعلاً أو تقديراً كالنقود.
ففي رأيي أن حالة التربُّص - خلال مدّة التربُّص- تُشبهُ هذه ما دام المُتربِّص لا يُريد بيع المال المتربَّص فيه، بل تركه بمعزِل عن التداول إلى أجل غير محدَّد، فالمال في هذه الحالة أصبح غير نام، أو متوقِّف النماء، كالديون غير المرجوة الوفاء (ولو أَنّها كانت أثمانًا لمَبيعات رابحة، وليست قروضًا حسنة) فإنها بانقطاع الأمل من استيفائها خرجت عن أن تكونَ ناميةً ولو تَقديراً.
هذا ما أراه أيها الأخ الكريم وأرجو من فضله تعالى أن يكون صوابا مُتَّفِقًا مع مقاصد الشريعة] فتاوى الشيخ العلامة مصطفى الزرقا ص 135-136.
وخلاصة الأمر أن البضائع إذا كسدت وبارت وكانت كثيرة وصار الأمل ضعيفاً جداً في بيعها فلا زكاة فيها حتى يتم بيعها فإذا بيعت زكيت عن سنة واحدة فقط ولو مضى على بوارها سنوات وأما البوار والكساد القليل فلا يمنع الزكاة فيها.(10/359)
النذور(10/361)
نذر المعصية
يقول السائل: إنه نذر أن يرتكب الفاحشة مع امرأة ثم ندم على ما صدر منه ويريد أن يتراجع عما نذر فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن ما صدر عن السائل يسمى عند العلماء نذر المعصية ومجرد التلفظ بنذر المعاصي والآثام يُعَدُّ ذنباً ومعصية لله تعالى. وقد اتفق أهل العلم على أنه يحرم الوفاء بنذر المعصية لما ثبت في الحديث من قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: [ ... والخبر صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية] فتح الباري 11/709.
وروى الإمام مسلم بإسناده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من بني عقيل وأصابوا معه العضباء -اسم لناقة الرجل المأسور- فأتى عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الوثاق قال: يا محمد، فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني؟ وبم أخذت سابقة الحاج؟ -أي ناقته- فقال: إعظاماً لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف، ثم انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد يا محمد وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رحيماً(10/363)
رقيقاً فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم انصرف فناداه فقال: يا محمد يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ قال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني، قال: هذه حاجتك ففدي بالرجلين. قال: وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ قال: وناقة منوقة -أي مذللة- فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد) .
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه النسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 2/ 807. وغير ذلك من الأحاديث.
وبهذا يظهر لنا أنه يحرم الوفاء بنذر المعصية باتفاق أهل العلم ولكن يلزم الناذر كفارة يمين على الراجح من أقوال أهل العلم ليكفر ذنبه لأنه نذر ما هو حرام شرعاً.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعاً ولأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولأن معصية الله تعالى لا تحل في حال ويجب على الناذر كفارة يمين روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس، وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه ... ووجه الأول ما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين) رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وقال الترمذي: هو(10/364)
حديث غريب. وعن أبي هريرة وعمران بن حصين عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله روى الجوزجاني، بإسناده عن عمران بن حصين قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله، وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين) وهذا نص.
ولأن النذر يمين بما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (النذر حلفة) ، (وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فلم تطقه: تكفر يمينها) صحيح أخرجه أبو داود وفي رواية: (ولتصم ثلاثة أيام) قال أحمد: إليه أذهب وقال ابن عباس في التي نذرت ذبح ابنها: كفري يمينك ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفارة فكذلك إذا نذرها ... فأما أحاديثهم، فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله وهذا لا خلاف فيه وقد جاء مصرحاً به هكذا في رواية مسلم ويدل على هذا أيضا أن في سياق الحديث: (ولا يمين في قطيعة رحم) يعني لا يبر فيها ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم فقد بينها في أحاديثنا] المغني10/5-7.
وروى الترمذي بإسناده عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين) قال أبو عيسى -أي الترمذي- هذا حديث غريب وهو أصح من حديث أبي صفوان عن يونس وأبو صفوان هو مكي واسمه عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان وقد روى عنه الحميدي وغير واحد من جلة أهل الحديث وقال قوم من أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين وهو قول أحمد وإسحق واحتجا بحديث الزهري عن أبي سلمة عن عائشة] سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/102-103.
وقال المباركفوري: [قوله: وهو قول أحمد وإسحاق، قد اختلف فيمن وقع منه النذر في المعصية هل يجب فيه كفارة, فقال الجمهور: لا, وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم, واتفقوا على تحريم النذر في المعصية, واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة, واحتج(10/365)
من أوجبها بأحاديث الباب (وهو قول مالك والشافعي) وهو قول الجمهور, وأجابوا عن أحاديث ضعيفة. قلت: والظاهر أنها بتعددها وتعدد طرقها تصلح للاحتجاج والله تعالى أعلم] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 5/103.
وحديث عائشة المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقد اختلف فيه أهل الحديث فضعفه بعضهم وصححه آخرون، وممن صححه العلامة الألباني فقد تكلم عليه طويلاً في إرواء الغليل وذكر أن إحدى روايات النسائي سندها متصل صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين ما عدا راوٍ وهو ثقة. ثم ذكر العلامة الألباني شاهداً صحيحاً للحديث رواه ابن الجارود ولفظه (النذر نذران فما كان لله فكفارته الوفاء, وما كان للشيطان فلا وفاء فيه, وعليه كفارة يمين) ] انظر إرواء الغليل 8/216-217.
ومما يدل على لزوم الكفارة في نذر المعصية عموم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به, فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج, وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمتُ زيداً مثلاً فلله عليَّ حجة أو غيرها, فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه, هذا هو الصحيح في مذهبنا, وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق, كقوله: عليَّ نذر, وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية, كمن نذر أن يشرب الخمر, وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر, وقالوا: هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم, وبين كفارة يمين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/269.
ويؤيده ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إنما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين) أخرجه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2860.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين)(10/366)
وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 479.
وقال العلامة ابن القيم: [قال الموجبون للكفارة في نذر المعصية -وهم أحمد وإسحاق والثوري وأبو حنيفة وأصحابه- هذه الآثار قد تعددت طرقها. ورواتها ثقات. وحديث عائشة احتج به الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وإن كان الزهري لم يسمعه من أبي سلمة, فإن له شواهد تقويه رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سوى عائشة: جابر وعمران بن حصين وعبد الله بن عمر, قاله الترمذي: وفيه حديث ابن عباس رفعه (من نذر نذراً في معصية, فكفارته كفارة يمين) رواه أبو داود, ورواه ابن الجارود في مسنده, ولفظه عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء به, وما كان للشيطان فلا وفاء فيه وعليه كفارة يمين) . وروى أبو إسحاق الجوزجاني حديث عمران بن حصين في كتابه المترجم وقال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله, وفيه الوفاء, وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه, ويكفره ما يكفر اليمين) وروى الطحاوي بإسناد صحيح عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ويكفر عن يمينه) وهو عند البخاري إلا ذكر الكفارة. قال الأشبيلي: وهذا أصح إسناداً, وأحسن من حديث أبي داود - يعني حديث الزهري عن أبي سلمة المتقدم. وفي مصنف عبد الرزاق: عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة, وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً (لا نذر في غضب ولا في معصية الله, وكفارته كفارة يمين) قالوا: وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
قال: (كفارة النذر كفارة اليمين) . وهذا يتناول نذر المعصية من وجهين. أحدهما: أنه عام لم يخص منه نذر دون نذر. الثاني: أنه شبهه باليمين, ومعلوم: أنه لو حلف على المعصية وحنث لزمه كفارة يمين, بل وجوب الكفارة في نذر المعصية أولى منها في يمين المعصية لما سنذكره. قالوا: ووجوب الكفارة قول عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله, وعمران بن حصين وسمرة بن جندب، ولا يحفظ عن صحابي خلافهم. قالوا: وهب أن هذه الآثار لم تثبت, فالقياس يقتضي(10/367)
وجوب الكفارة فيه, لأن النذر يمين, ولو حلف ليشربن الخمر، أو ليقتلن فلاناً, وجبت عليه كفارة اليمين وإن كانت يمين معصية فهكذا إذا نذر المعصية. وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمية النذر يميناً (لما قال لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله فعجزت تكفر يمينها) , وهو حديث صحيح وسيأتي. وعن عقبة مرفوعاً وموقوفاً (النذر حلفة) . وقال ابن عباس في امرأة نذرت ذبح ابنها (كفري يمينك) فدل على أن النذر داخل في مسمى اليمين في لغة من نزل القرآن بلغتهم. وذلك أن حقيقته هي حقيقة اليمين فإنه عقده لله ملتزماً له, كما أن الحالف عقد يمينه بالله ملتزماً لما حلف عليه, بل ما عُقد لله أبلغ وألزم مما عقد به فإن ما عقد به من الأيمان لا يصير باليمين واجباً, فإذا حلف على قربة مستحبة ليفعلنها لم تصر واجبة عليه, وتجزئه الكفارة ولو نذرها وجبت عليه ولم تجزئه الكفارة. فدل على أن الالتزام بالنذر آكد من الالتزام باليمين, فكيف يقال: إذا التزم معصية بيمينه وجبت عليه الكفارة, وإذا التزمها بنذره الذي هو أقوى من اليمين فلا كفارة فيها فلو لم يكن في المسألة إلا هذا وحده لكان كافياً. ومما يدل على أن النذر آكد من اليمين. أن الناذر إذا قال: لله عليَّ أن أفعل كذا فقد عقد نذره بجزمه أيمانه بالله, والتزامه تعظيمه, كما عقدها الحالف بالله كذلك, فهما من هذه الوجوه سواء, والمعنى الذي يقصده الحالف ويقوم بقلبه هو
بعينه مقصود للناذر قائم بقلبه ويزيد النذر عليه أنه التزمه لله, فهو ملتزم من وجهين: له, وبه. والحالف إنما التزم ما حلف عليه خاصة, فالمعنى الذي في اليمين داخل في حقيقة النذر فقد تضمن النذر اليمين وزيادة, فإذا وجبت الكفارة في يمين المعصية فهي أولى بأن تجب في نذرها. ولأجل هذه القوة والتأكيد: قال بعض الموجبين للكفارة فيه: إنه إذا نذر المعصية لم يبرأ بفعلها, بل تجب عليه الكفارة عيناً, ولو فعلها لقوة النذر, بخلاف ما إذا حلف عليها, فإنه إنما تلزمه الكفارة إذا حنث, لأن اليمين أخف من النذر. وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد, وتوجيهه ظاهر جداً, فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاه عن الوفاء بالمعصية, وعين عليه الكفارة عيناً, فلا يخرج من عهدة الأمر إلا بأدائهما] حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 9/84-86.(10/368)
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [ولكن نقول: يكفر، يكفر كفارة يمين لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا نذر في معصية الله) وعليه كفارة يمين وهذا الحديث احتج به الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق وصححه الطحاوي خلافاً لقول النووي رحمه الله: إنه ضعيف باتفاق المحدثين، النووي ضعفه لكن الإمام أحمد احتج به واحتجاجه به يدل على صحته عنده وكذلك صححه الطحاوي وهو من الأئمة الذين يعتبر تصحيحهم. وعلى هذا فالحديث صحيح يحتج به، لكن جمهور أهل العلم قالوا: إن نذر المعصية لا كفارة فيه يحرم الوفاء به ولا يكفر واحتجوا بحديث عائشة الذي أشرنا إليه آنفاً وهو قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ولكن نقول: إنه ما دام قد ورد حديث فيه زيادة وهو صحيح فإنه يجب الأخذ بهذه الزيادة وهي كفارة اليمين. فنقول يكفر ولأن المعنى يقتضي ذلك لأن هذا الرجل نذر نذراً فلم يفعل ونحن نقول: نذره انعقد لأنه ألزم نفسه به ولا يمكن أن يوفي به لأنه معصية وحينئذ يكون نذر نذراً لم يوفه فعليه الكفارة كما لو حلف أن يفعل معصية فإننا نقول له: لا تفعلها وعليك كفارة يمين. فما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وإن كان من مفرداته أقرب إلى الصواب بأنه لا يفعل المعصية وعليه كفارة يمين] الشرح الممتع على زاد المستقنع 11/430.
وخلاصة الأمر أنه يحرم الوفاء بنذر المعصية باتفاق أهل العلم وتجب الكفارة فيه على أرجح قولي العلماء وكفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89.(10/369)
المعاملات(10/371)
يحرم العمل في المحلات التي تقدم الخمور
يقول السائل: إنه يعمل في مطعم أحد الفنادق التي تقدم فيها الخمور هو وأحد زملائه وهما لا يقدمان الخمر للزبائن ولكنهما يُعدِّان المكان ويجهزان الطاولات ويجمعان الكؤوس الفارغة ويقومان بغسلها فما حكم هذا العمل؟ وهل المال الذي يكسبانه حلال أو حرام؟ أفيدونا.
الجواب: من المعلوم شرعاً تحريم الخمر تحريماً باتاً قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} سورة المائدة الآيتان 90-91. وغير ذلك من الأدلة.
وهنا لا بد من توضيح قاعدة هامة في العمل الذي يجوز للمسلم أن يعمل فيه وهي ما قرره العلماء من أن للوسائل أحكام المقاصد. قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46.
فوسيلة المحرم محرمة، أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، فالربا حرام فكل عمل يؤدي إليه ويساعد فيه فهو حرام، فتأجير مبنىً ليكون مقراً(10/373)
لبنك ربوي حرام وكذا العمل في البنك الربوي حرام ولو كان حارساً ليلياً ومثل ذلك عمل برنامج كمبيوتر للمحاسبة في بنك ربوي حرام وهكذا بقية الأعمال التي لها علاقة بالربا ويدل على ذلك ما ورد في الحديث الصحيح (لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم وكذا الخمر فهي محرمة فيحرم العمل في كل شيء له علاقة بالخمر فيحرم على المسلم أن يبيع العنب لمن عرف أنه يصنعه خمراً ويحرم أن يساعد في أي عمل يؤدي إليها ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. ومما يدل على ذلك أيضا ما ورد في الحديث (أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/907. وقد صح في الحديث من قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله تعالى حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي: [وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل] . [وجملة ذلك أن بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذه خمراً محرم وكرهه الشافعي، وذكر بعض أصحابه أن البائع إذا اعتقد أنه يعصرها خمراً فهو محرم وإنما يكره إذا شك فيه ... ولنا قول الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وهذا نهي يقتضي التحريم وروي عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لعن في الخمر عشرة فروى ابن عباس (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه جبريل فقال: يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وبائعها، ومبتاعها وساقيها) وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها أخرج هذا الحديث الترمذي, من حديث أنس وقال: قد روي هذا الحديث عن ابن عباس وابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وروى ابن بطة في تحريم النبيذ, بإسناده عن محمد بن سيرين أن قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له فأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً, ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره فأمر بقلعه وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر. ولأنه(10/374)
يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية, فأشبه إجارة أمته لمن يعلم أنه يستأجرها ليزني بها والآية مخصوصة بصور كثيرة فيخص منها محل النزاع بدليلنا ... ] .
ثم قال الشيخ ابن قدامة: [وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق، أو في الفتنة وبيع الأمة للغناء أو إجارتها كذلك, أو إجارة داره لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار, وأشباه ذلك فهذا حرام والعقد باطل لما قدمنا. قال ابن عقيل: وقد نص أحمد -رحمه الله- على مسائل نبه بها على ذلك, فقال في القصاب والخباز: إذا علم أن من يشتري منه يدعو عليه من يشرب المسكر لا يبيعه, ومن يخترط الأقداح لا يبيعها ممن يشرب فيها - المسكر - ونهى عن بيع الديباج للرجال ولا بأس ببيعه للنساء وروى عنه لا يبيع الجوز من الصبيان للقمار وعلى قياسه البيض فيكون بيع ذلك كله باطلاً] المغني 4/207.
وما قرره الشيخ ابن قدامة المقدسي يصح أن يقال في كل عمل يؤدي إلى الحرام فعمل الكوافيرة التي تزين النساء فيخرجن متبرجات عمل حرام.
وكذا العمل في إقامة أماكن العبادة لغير المسلمين أو صيانتها محرم، لأنه من باب التعاون على الإثم. وكذا العمل في كل شيء يؤدي إلى الحرام، فهو محرم فإذا قلنا إن التدخين حرام فيحرم العمل في زراعته وفي حصده وفي نقله وفي صنعه وفي بيعه وفي الدعاية له وهكذا يحرم العمل في كل شيء يساعد في تسويقه ... إلخ.
وأما المال المكتسب من العمل المحرم فيجب التخلص منه وإنفاقه في مصلحة عامة، ولا يجوز الانتفاع به لمكتسبه، فكل مال حرام لا يجوز للمسلم أن ينتفع به انتفاعاَ شخصياً فلا يجوز أن يصرفه على نفسه ولا على زوجته ولا على أولاده ومن يعولهم لأنه مال حرام بل هو من السحت ومصرف هذا المال الحرام وأمثاله هو إنفاقه على الفقراء والمحتاجين ومصارف الخير كدور الأيتام والمؤسسات الاجتماعية ونحوها.
وعلى السائل وزميله أن يتركا عملهما المذكور في السؤال وأن يبحثا(10/375)
عن عمل حلال وليعلما أن أبواب العمل الحلال كثيرة وليذكرا قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} سورة الطلاق الآيتان 2-3. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} سورة الطلاق الآية 4.
وخلاصة الأمر أن العمل في كل أمر يؤدي إلى الحرام فهو حرام لأن للوسائل أحكام المقاصد.
برنامج توفير محرم
يقول السائل: ما الحكم الشرعي لما يعرف عندنا (في منطقة 48 من فلسطين) بصندوق الاستكمال وهو برنامج توفير لمعلمي المدارس التابعة للمعارف الهدف منه تشجيع المعلم على الخروج في إجازة مدفوعة الأجر لمدة سنة كاملة بعد ست سنوات عمل بشرط أن يتعلم خلال هذه السنة على حساب الصندوق ما يفيده ولكي يتجدد نشاطه عندما يعود لمزاولة عمله، ثم يدخر من جديد فترة ست سنوات أخرى كي يحصل على إجازة مدفوعة الأجر لمدة سنة كاملة كما في المرة السابقة ... وهكذا، مع العلم أن الاشتراك في هذا الصندوق اختياري وليس إلزامياً. وهذا الصندوق يعمل وفق النظام التالي: يدّخر فيه المعلم مبلغاً من المال يُقتطع من راتبه شهرياً وتضع وزارة المعارف مقابل هذا المبلغ ضعفيه في الصندوق لصالح المعلم ويستمر الادخار في هذا الصندوق ست سنوات على الأقل بحيث لا يستطيع المعلم سحب هذه الأموال قبل انتهاء المدة. وفي نهاية السنوات الست، يحق للمعلم الخروج في إجازة مدفوعة الأجر لمدة سنة كاملة، بشرط أن يتعلم خلالها (على حساب الصندوق) ما يفيده، وفي حالات معينة يستطيع سحب هذه الأموال بدل الخروج في إجازة بعد انتهاء السنوات الست إذا أثبت بأنه مدين ديناً فاحشاً لجهة ما أو أنه يعيل بالإضافة إلى زوجته وأولاده، أحد والديه أو(10/376)
كليهما أو أحداً من أقاربه أو أنه بحاجة إلى تجديد أو توسيع بيته ليتناسب مع ازدياد عدد أفراد عائلته. والجدير ذكره أن الاشتراك في هذا الصندوق اختياري وليس إلزامياً. هذه الأموال توضع في بنك ربوي ويعطي عليها رباً يسمونه أرباحاً وتعويضاً يعادل قيمة انخفاض العملة بسبب غلاء المعيشة أي تعويضاً عن هبوط قيمة النقد. إذا اختار المعلم سحب هذه الأموال من الصندوق فإنه يحصل على جميع الأموال التي اقتطعت من مرتبه، و89% من الأموال التي وضعها المشغل لصالحه، مضافاً لكل ذلك ما يسمى بالأرباح الربا والتعويض عن هبوط قيمة النقد فما حكم هذه المعاملة؟ أفيدونا.
الجواب: هذا العقد عقد ربوي إبتداءً فلا يجوز للمسلم التوقيع عليه لأنه تضمن شرطاً ربوياً وإقراراً بالربا حيث إن المشترك في هذا الصندوق قبل التعامل بالربا مختاراً ومن المعلوم أن الربا محرم قطعاً في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيتان 278-279.
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -قال: (لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات - المهلكات -، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الربا إثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه(10/377)
الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وغير ذلك من الأحاديث.
ومما يؤكد بطلان هذا العقد الذي يعمل به الصندوق المشار إليه أنه يعطي تعويضاً يعادل قيمة انخفاض العملة بسبب غلاء المعيشة أي أنه يربط المال الموفر بجدول غلاء المعيشة وهذا أمر باطل شرعاً فلا يجوز شرعاً ربط الديون بمستوى الأسعار أو جدول غلاء المعيشة لأنه نوع من الربا، فقد قرر مجمع الفقه الإسلامي ما يلي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الثالث، ص 2261. والواجب على من اشترك في هذا الصندوق وهو لا يعلم حرمة المشاركة فيه، أن يوقف تعامله معه، وأن يتخلص من الربا الذي أعطي له وقد نص كثير من أهل العلم على أن التخلص من المال الحرام يكون بالتصدق به فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [عن رجل مرابٍ خلَّف مالاً وولداً وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالاً للولد بالميراث؟ أم لا؟ فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن وإلا تصدق به. والباقي لا يحرم عليه ... ] مجموع الفتاوى 29/307.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً وقد تابت ... فهل هذا المال الذي اكتسبته ... إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟ فأجاب بأن هذا المال لا يحل للمغنية التائبة(10/378)
ولكن يصرف في مصالح المسلمين ... إلخ) انظر مجموع الفتاوى 29/308-309.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ فأجاب بأنه يخرج قدر المال الحرام فيرده إلى صاحبه وإن تعذر عليه ذلك تصدق به] مجموع الفتاوى 29/308.
وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 297. ما نصه: [قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت رباً فليردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضراً فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك. وإن أخذ بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين ... ] تفسير القرطبي 3/366. ومما يدل على ذلك أيضاً ما وردت به الروايات في قصة رهان أبي بكر - رضي الله عنه - لبعض الكفار عندما نزل قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بضع سنين} سورة الروم الآيات 1-3.
وجاء في بعض روايات هذه الحادثة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر: (هذا سحت فتصدق به) وكان هذا قبل تحريم القمار كما قال القرطبي، وقد ذكر ابن كثير والقرطبي عدة روايات لهذه الحادثة. تفسير القرطبي 14/2-4، تفسير ابن كثير 3/422-424. وقال ابن كثير بعد أن ساق عدداً من روايات هذه الحادثة: [وقد روي نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم] تفسير ابن كثير 3/423.
وخلاصة الأمر أنه تحرم المشاركة فيما يسمى صندوق الاستكمال وأن(10/379)
العقد الوارد فيه عقد ربوي محرم ويجب على من اشترك فيه أن يتخلص من المال الربوي الذي حصل عليه وذلك بإنفاقه في وجوه الخير والمصالح العامة للمسلمين.
شحن البلفونات (التلفون المحمول) من كهرباء المسجد
يقول السائل: كنا نعتكف في أحد المساجد في العشر الأواخر من رمضان وكان جماعة من المعتكفين يقومون بشحن البلفونات (التلفون المحمول) من كهرباء المسجد فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز شحن البلفون من كهرباء المسجد لأن كهرباء المسجد لا يصح أن تستغل في الأمور الشخصية فلا يجوز لشخص مثلاً أن يمد خطاً من كهرباء المسجد إلى بيته والأصل عند العلماء أن المال الموقوف يستعمل حسب شرط الواقف إن كان هنالك شرط له فإن لم يكن له شرط فيستعمل المال الموقوف حسب ما تعارف الناس عليه وينبغي التنبيه إلى أن وجود الوصلات الكهربائية التي توصل بها البلفونات لشحنها لا يدل على أن الأوقاف قد أذنت في شحن البلفونات فهذه الوصلات إنما وضعت لخدمة المسجد من استخدام المكنسة الكهربائية أو مكبر الصوت ونحو ذلك ولا يصح القول بأن وجودها إذن للناس باستعمالها. كما أن فتح هذا الباب للناس يعني تحميل المساجد مصاريف عالية ولا يقولن أحد إن شحن البلفون ليس مكلفاً وعليه أن ينظر إلى كثرة البلفونات مع الناس.
وبمناسبة الحديث عن البلفون والمسجد أود التذكير ببعض الأمور:
أولاً: نلاحظ أن مستعملي البلفونات قد زودوها بنغمات موسيقية فهذا الأمر محرم شرعاً فما بالك عندما تعزف هذه الموسيقى في المسجد وأثناء الصلاة لا شك أن هذا منكر عظيم وقد قامت الأدلة الصحيحة على تحريم الموسيقى ومنها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه قال الإمام البخاري: [(10/380)
وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... الخ الحديث] .
وهذا الحديث يدل على تحريم الموسيقى من وجهين ذكرهما الشيخ العلامة الألباني الأول: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يستحلون) فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم.
الثاني: قرن المعازف مع المقطوع بحرمته وهو الزنا والخمر، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/144. والأدلة على تحريم الموسيقى كثيرة وليس هذا محل بحثها.
وبناءً على ما سبق فلا يجوز وضع النغمات الموسيقية على البلفونات ويكتفى بالرنين العادي.
ثانياً: نلاحظ كثرة رنين البلفونات أثناء الصلاة خاصة، وفي المساجد بشكل عام على الرغم من اللوحات الإرشادية الموضوعة في المساجد والتي يطلب فيها إيقاف البلفونات عن العمل عند دخول المسجد ولا شك أن رنين البلفون وصدور النغمات الموسيقية فيه تشويش كبير على المصلين ويقطع خشوع المصلين ويتحمل الوزر والإثم حامل البلفون لأنه شوش على المصلين وقطع خشوعهم فلا يجوز لأحد أن يشوش على المصلين وأن يقطع خشوعهم فالتشويش في المسجد على المصلين والتالين لكتاب الله والذاكرين لا يجوز حتى ولو كان ذلك بقراءة القرآن الكريم فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (اعتكف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داوود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني. وورد في الحديث أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن(10/381)
المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك بسند صحيح قاله الشيخ الألباني. والمذكور في الحديث رفع الصوت بالقرآن الكريم فما بالك بالنغمات الموسيقية التي تصدرها البلفونات!!
وقد همّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بتعزير من يرفعون أصواتهم في المسجد فقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل -أي رماني بحصاة- فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ قال: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!
وبناءً على ما سبق فيجب على من يحمل البلفون أن يوقفه عن العمل عند دخوله المسجد، فإن نسيه شغالاً فرن أثناء الصلاة فينبغي أن يوقفه مباشرة وإن اقتضى ذلك أن يتحرك المصلي في صلاته فإن هذه الحركة مباحة على أقل تقدير إن لم تكن مستحبة نظراً للحاجة حيث إنه يترتب عليها منع ما يشوش على المصلين وقد ثبت في الحديث أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أمَّ الناس في المسجد فكان إذا قام حمل أمامة بنت زينب وإذا سجد وضعها) رواه البخاري ومسلم.
كما وأنه يجوز قتل الحية والعقرب في الصلاة وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك. رواه أصحاب السنن وقال الإمام الترمذي حديث حسن.
فيؤخذ من هذين الحديثين أن الحركة في الصلاة إن كانت لحاجة جائزةٌ ولا تبطل الصلاة أقول هذا مع التأكيد على إغلاق البلفون عند الدخول إلى المسجد فإن نسيه مفتوحاً ورنَّ أثناء الصلاة فيغلقه ولا شيء عليه.(10/382)
الشهادة على العقد
يقول السائل: وقعت عقد عمل مع شخص ليعمل عندي أجيراً في محل تجاري ثم بعد مضي مدة من الزمن رفض أن يلتزم بمضمون العقد وادعى أن العقد باطل لعدم وجود شاهدين على العقد فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن العقود في باب المعاملات في الشريعة الإسلامية إذا تمت بإيجاب وقبول من العاقدين تكون صحيحة إذا خلت مما يبطلها. انظر الموسوعة الفقهية 9/10-12. والإشهاد على هذه العقود من السنن وليس من الواجبات ولا تتوقف صحة العقد المذكور في السؤال على الإشهاد. ولا شك أن الإشهاد على العقود أفضل وأولى وخاصة إذا كان العقد يتعلق بأمرٍ ذي أهمية كبيع أرض أو إجارة عمارة أو نحو ذلك والإشهاد على العقود أقطع للنزاع وأبعد عن التجاحد وإنكار الحقوق بل فيه حفظ للحقوق وهذا الأمر ينطبق تماماً على كتابة العقود وتوثيقها فينبغي لمن وقع عقد بيع أرض مثلاً مع غيره أن يبين فيه كل التفاصيل المتعلقة بالبيع مثل موقع الأرض وحدودها ومساحتها وثمن البيع ووقت تأدية الثمن إن كان مؤجلاً أو على أقساط وينبغي له أن يستشهد شهيدين على ذلك بأن يذكر اسميهما على أن يوقعا على وثيقة البيع وينبغي عدم إغفال تاريخ البيع بالتفصيل بالإضافة لذكر كل ما يزيد العقد توثيقاً ... إلخ.
ومما يدل على مشروعية ذلك آية الدين وهي أطول آية في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً(10/383)
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآيتان 282-283.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين أمر الله جل وعلا بالإشهاد في موضعين الأول {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} والموضع الثاني {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وهذا الأمر مصروف عن ظاهره والمراد به الندب لا الإيجاب كما قرر ذلك جمهور أهل العلم.
قال الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي: [ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشربة والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجباً لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندباً، وذلك منقول من عصر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواتراً مستفيضاً ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين] أحكام القرآن للجصاص 2/206.
وقال الإمام ابن العربي المالكي: [الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ (أَفْعِلْ) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَرْضٌ; قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ نَدْبٌ; قَالَهُ الْكَافَّةُ; وَهُوَ الصَّحِيحُ; فَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(10/384)
وَكَتَبَ وَنُسْخَةُ كِتَابِهِ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى منه عبداً أو أمةً لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم) . وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ, وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَلَمْ يُشْهِدْ, وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ] أحكام القرآن لابن العربي 1/259.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ. وَلِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ, وَأَبْعَدُ مِنْ التَّجَاحُدِ, فَكَانَ أَوْلَى, وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا لَهُ خَطَرٌ, فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْقَلِيلَةُ الْخَطَرِ, كَحَوَائِجِ الْبَقَّالِ, وَالْعَطَّارِ, وَشَبَهِهِمَا, فَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيهَا; لِأَنَّ الْعُقُودَ فِيهَا تَكْثُرُ, فَيَشُقُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا, وَتَقْبُحُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا, وَالتَّرَافُعُ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَجْلِهَا, بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. وَلَيْسَ الْإِشْهَادُ بِوَاجِبٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا, وَلَا شَرْطًا لَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ, وَإِسْحَاقَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فَرْضٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. ....وَلَنَا, قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْأَمَانَةِ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ, وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا, وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ) (وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيلَ) , (وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا, فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ) وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الْأَسْوَاقِ, فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِشْهَادِ, وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُهُ, وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانُوا يُشْهَدُونَ
فِي كُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ لَمَا أُخِلَّ بِنَقْلِهِ. (وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِشْهَادِ, وَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا, وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ الْإِشْهَادِ) وَلِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَغَيْرِهَا, فَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَادُ فِي كُلِّ مَا يَتَبَايَعُونَهُ, أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ الْمَحْطُوطِ عَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وَالْآيَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْإِرْشَادُ إلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْلِيمِ, كَمَا أَمَرَ بِالرَّهْنِ وَالْكَاتِبِ, وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ, وَهَذَا ظَاهِرٌ] المغني 4/205-206.(10/385)
وخلاصة الأمر أنه يستحب الإشهاد على عقود البيع والشراء والإجارة ونحوها إذا كان محل العقد شيئاً مهماً كبيراً ولا ينبغي الإشهاد على كل صغير لما في ذلك من الحرج.
لا يجوز بيع الطعام قبل القبض
يقول السائل: إنه باع كمية كبيرة من الدجاج بسعر متفق عليه على أن يسلَّم الدجاج للمشتري بشكل يومي بعدد متفق عليه ولمدة معينة فقام المشتري بعد العقد مباشرة ببيع كمية الدجاج كلها لشخص آخر بربح معلوم وطلب مني أي من البائع أن أورد الدجاج للمشتري الثاني فما حكم هذه المعاملة؟ أفيدونا؟
الجواب: العقد الأول الذي تم فيه الاتفاق على بيع كمية كبيرة من الدجاج بسعر متفق عليه على أن يسلم الدجاج للمشتري بشكل يومي بعدد متفق عليه ولمدة معينة عقد صحيح على الراجح من أقوال أهل العلم وهو ما يسمى اليوم بعقد التوريد.
قال الشيخ العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله عن عقد التوريد: [هو صحيح شرعاً غير فاسد كما هو صحيح قانوناً ... وعقد التوريد هذا المسؤول عنه يشبه إلى حد كبير بيع الاستجرار الذي نصَّ عليه الحنفية، كما أنه أولى بالصحة من البيع بما ينقطع عليه السعر الذي صححه الحنابلة، مع أن فيه كَمية محدودة والسِّعر غير محدَّد عند العَقد لذلك يكون قياسُها على أحدهما قِياسًا صحيحًا، ولا سيَّما أن الحاجة العامّة اليوم تدعو إلى ممارسة عقد التوريد، كما أنه أصبح متعارَفًا. وقد نصّ الحنفيّة على أن العرف يُصحِّح الشروط الفاسدة إذا تُعورِفت، وجرى عليها التعامل؛ لأنها بالتعارف ينتفي من طريقها النزاع؛ إذ تصبح مألوفة، ويبني العاقدان عليها حسابهما، فلا تكون مفاجأة غير مألوفة قد تُخِلُّ بالتوازن بينهما وتؤدّي إلى النزاع. ولا(10/386)
يخفى أن عقد التوريد قد أصبح فيه عرف شامل، ولا سيما بعد أن قررته القوانين] فتاوى مصطفى الزرقا ص487-488.
أما العقد الثاني الذي تم بين المشتري الأول والمشتري الثاني فعقد باطل حيث إن المشتري الأول باع الدجاج قبل أن يقبضه والبيع قبل القبض مفسد للعقد عند أهل العلم وخاصة أن البيع وقع على شيء مطعوم فإذا اشترى شخص طعاماً فلا يجوز له أن يبيعه قبل أن يقبضه باتفاق أهل العلم لأن بيع الطعام قبل القبض لا يصح شرعاً قال ابن المنذر فيما نقله عنه الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاماً فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه] المغني 4/83.
وقال ابن رشد المالكي: [وأما بيع الطعام قبل قبضه، فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي. وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه) ] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/119.
واستدل العلماء بأدلة كثيرة على المنع من بيع الطعام قبل قبضه منها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله. رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه) قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه. رواه مسلم.(10/387)
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - (نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يستوفى) رواه مسلم. وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: (قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: إذَا اشْتَرَيْتَ شَيْئًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ) رواه أحمد.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: (نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري) رواه ابن ماجه والدارقطني. وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/20.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ابتعت زيتاً في السوق فلما استوجبته لنفسي لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً فأردت أن أضرب على يده فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفتُ فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أبو داود. وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/668.
قال صاحب عون المعبود [ (فلما استوجبته) : أي صار في ملكي بعقد التبايع ... (فأردت أن أضرب على يده) : أي أعقد معه البيع, لأن من عادة المتبايعين أن يضع أحدهما يده في يد الآخر عند العقد ... ] عون المعبود 9/286.
وقال الإمام الترمذي: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله. قال وفي الباب عن جابر وابن عمر وأبي هريرة قال أبو عيسى -الترمذي - حديث ابن عباس حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا بيع الطعام حتى يقبضه المشتري. وقد رخص بعض أهل العلم فيمن ابتاع شيئاً مما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب أن يبيعه قبل أن يستوفيه وإنما التشديد عند أهل العلم في الطعام وهو قول أحمد وإسحق] سنن الترمذي 3/586.
وقال الإمام النووي بعد أن ذكر ما رواه مسلم في هذا الباب: [باب(10/388)
بطلان بيع المبيع قبل قبضه ... وفي هذه الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع, واختلف العلماء في ذلك, فقال الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعاماً أو عقاراً أو منقولاً أو نقداً أو غيره. وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع. وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه. ووافقه كثيرون. وقال آخرون: لا يجوز في المكيل والموزون ويجوز فيما سواهما. أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه, قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 4/130.
وقد أشار ابن عباس - رضي الله عنه - إلى العلة في منع بيع الطعام قبل قبضه لما سأله طاووس فيما رواه البخاري عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه قلت -أي طاووس- لابن عباس كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ قال أبو عبد الله مرجئون مؤخرون] .
قال الإمام الشوكاني في شرحه: [ ... ما علل به النهي فإنه أخرج البخاري عن طاووس قال: قلت لابن عباس كيف ذاك؟ قال: دراهم بدراهم والطعام مرجأ استفهمه عن سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه قال لما سأله طاووس ألا تراهم يتباعدون بالذهب والطعام مرجأ وذلك لأنه إذا اشترى طعاماً بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلاً فكأنه اشترى بذهبه ذهباً أكثر منه ولا يخفى أن مثل هذه العلة لا ينطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض وهذا التعليل أجود ما علل به النهي لأن الصحابة أعرف بمقاصد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] نيل الأوطار 5/180-181.
وما نقل عن عثمان البتي وهو أحد فقهاء التابعين من جواز بيع الطعام(10/389)
قبل قبضه فهو قول شاذ ومخالف لصريح الأحاديث الواردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولم أعلم بين أهل العلم خلافاً إلا ما حُكيَ عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه، قال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه] المغني 4/86.
وقال الإمام النووي: [أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه, قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم4/130.
وقال الإمام الشوكاني: [وروي عن عثمان البتي أنه يجوز بيع كل شيء قبل قبضه والأحاديث ترد عليه فإن النهي يقتضي التحريم بحقيقته ويدل على الفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول] نيل الأوطار 5/179.
وهنا أنبه على قضية هامة وهي إن بعض الناس يتعلق بالأقوال الشاذة ليبرر أقواله وأعماله فهذا طريق باطل، فليس كل قول قاله عالم، صحيح، وليس كل ما قاله فقيه من فقهائنا، مسلَّمٌ به وصحيح، إلا قولاً له حظٌ من الأثر أو النظر فلا يصح الأخذ بشواذ الأقوال وقديماً قال الإمام مالك يرحمه الله: [كلٌ يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
وخلاصة الأمر أن العقد الثاني المذكور في السؤال باطل لأن المشتري الأول باع الدجاج قبل أن يقبضه.
حكم تبرع المضارب بضمان رأس المال
يقول السائل: إنه اتفق مع شخص ليتاجر له بماله والمتوقع بإذن الله تعالى أن تكون التجارة رابحة واحتمالات الخسارة ضئيلة جداً ولكن صاحب(10/390)
المال يخشى أن تخسر التجارة فهل يجوز أن أتبرع له بما يخسره إن حصلت الخسارة أفيدونا؟
الجواب: الاتفاق المشار إليه في السؤال يسمى عند الفقهاء عقد المضاربة ويسمى أيضاً القراض، والمضاربة هي أن يدفع شخص مبلغاً من المال لآخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان - أي يكون المال من شخص والعمل من شخص آخر. والمضاربة جائزة شرعاً باتفاق الفقهاء وقامت الأدلة العامة على مشروعيتها من كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو المأثور عن الصحابة والتابعين فقد كانوا يتعاملون بها من غير نكير فهذا بمثابة الإجماع على جوازها. انظر الشركات للخياط 2/53.
قال الإمام الماوردي: [والأصل في إحلال القراض وإباحته عموم قول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} سورة البقرة الآية 198، وفي القراض ابتغاء فضل وطلب نماء] الحاوي الكبير 7/305.
وجاء عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5/300.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: (خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرَّا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا: وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أَكُلَّ الجيشِ أَسْلَفَهُ مثل ما أَسْلَفَكُما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما(10/391)
أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فقال عمر: قد جعلته قراضاً فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) ورواه الدارقطني أيضاً، قال الحافظ ابن حجر وإسناده صحيح، نيل الأوطار 5/300، وانظر الاستذكار 21/120.
وقد وردت آثار أخرى عن الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، قال الشوكاني: [فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير إجماعاً منهم على الجواز] نيل الأوطار 5/300-301.
إذا تقرر هذا فإن الفقهاء متفقون على أن يد المضارب يد أمانة وبناءً على ذلك قرر الفقهاء أنه لا يجوز أن يضمن المضارب رأس المال إلا إذا تعدى أو قصر فحينئذ يكون ضامناً.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب ... ] المغني 5/39.
وأما إذا حصلت خسارة بدون تعدٍ أو تقصير من المضارب فلا شيء عليه ولا يجوز شرعاً تضمينه رأس المال ويكون المضارب قد خسر جهده وتعبه.
وإن شرط في عقد المضاربة أن ضمان رأس المال على المضارب فالعقد فاسد لا يصح قال ابن رشد المالكي عند حديثه عن الشروط الفاسدة في القراض (المضاربة) : [ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل،(10/392)
فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي ... وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد ... ] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/199. وانظر المغني 5/53.
وقرر مجمع الفقه الإسلامي ذلك كما ورد في القرار رقم 5 من الدورة الرابعة: [لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمناً بَطَلَ شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل] .
وبعد هذا العرض الموجز لمسألة ضمان المضارب أعود لقضية تبرع المضارب بتحمل الخسارة فأقول: إذا تبرع المضارب بتحمل الخسارة بدون أن يكون هذا شرطاً مكتوباً أو ملحوظاً عند الاتفاق فلا أرى مانعاً من جوازه فإذا تم العقد مع خلوه من شرط ضمان رأس المال ملفوظاً أو ملحوظاً واشتغل المضارب بالمال وعند تصفية الشركة تبين حصول خسارة فتبرع المضارب بتحملها فالقول بجواز ذلك له وجه، لأن هذا التبرع تمَّ بدون إلزام أو شرط مسبق والمفسد لعقد المضاربة عند الفقهاء أن يشترط على المضارب ضمان رأس المال عند العقد وهنا لم يشرط ذلك عند العقد وإنما تبرع هو بالضمان بعد أن تحققت الخسارة فلا مانع منه وقال بجواز ذلك جماعة من فقهاء المالكية. انظر المضاربة الشرعية ص 127، فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة الجزء 2 الفتوى رقم 107.
وهذا القول أخذت به بعض المؤسسات المالية التي تتعامل وفق أحكام الشريعة الإسلامية فقد جاء في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة ج1 فتوى رقم 44: [ ... على أنه لا مانع من أن تكون هناك مبادرة من العميل بتحمل ما قد يقع من خسارة في حينها - لا عند التعاقد لأن ذلك من قبيل الهبة والتصرف من صاحب الحق في حقه, دون تغيير لمقتضى العقد شرعاً. فحين وقوع الخسارة دون تعدٍ أو تقصيرٍ يطبق المبدأ الشرعي بتحميلها لرب المال (البنك هنا) إلا أن يبادر العميل لتحملها ودون مقاضاته أو إلزامه, لأنه(10/393)
قد يقدم على هذه المبادرة انسجاماً مع اعتبار نفسه مقصراً في الواقع ولو لم تستكمل صورة التقصير في الظاهر بما يحيل الضمان عليه. والقاعدة الشرعية أن المرء بسبيل من التصرف في ماله] .
وينبغي أن يعلم أن مجمع الفقه الإسلامي أجاز ضمان رأس مال المضاربة من طرف ثالث عل سبيل التبرع كما ورد في القرار رقم 5 من الدورة الرابعة: [ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به، بحجة أنَّ هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد] .
وخلاصة الأمر أن الأصل في عقد المضاربة أنه لا يجوز ضمان رأس مال المضاربة من المضارب إلا إذا تعدى أو قصر ويجوز أن يتبرع المضارب بضمان ما يلحق صاحب المال من خسارة عند وقوعها فعلاً وليس عند انعقاد العقد على أن لا يكون التبرع بتحمل الخسارة شرطاً ملفوظاً أو ملحوظاً عند العقد.
يحرم شراء بيت السكن بالربا
يقول السائل: أريد أن أشتري بيتاً لأسكن فيه أنا وعائلتي ولا يوجد مجال أمامي للحصول على البيت سوى الاقتراض بالفائدة وأنا مضطر للجوء للبنك الربوي فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله(10/394)
سبحانه وتعالى وفي سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة الآيات 275- 279.
وثبت في الحديث عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية] رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 4/117. وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29. وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإن بعض المشايخ يتساهلون تساهلاً كبيراً في الإفتاء بجواز الربا بحجج هي أوهى من بيت العنكبوت متكئين على أن الضرورات تبيح المحظورات فتراهم يفتون بجواز الاقتراض بالفائدة لشراء مسكن(10/395)
وبعضهم يفتي بجواز الاقتراض بالفائدة من أجل الزواج وغير ذلك من الفتاوى العرجاء التي لا تستند على دليل صحيح فضلاً عن مصادمتها للنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحرمة للربا تحريماً قطعياً. واستناداً لهذه النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرر العلماء أن الإقراض بالرِّبا محرَّم لا تبيحه ضرورة ولا حاجة، والاقتراض بالرِّبا محرَّم كذلك لا تبيحه الحاجيات، ولا يجوز إلا في حالة الضرورة. ولكن ما هي الضرورة التي تجيز الاقتراض بالربا؟ وهل شراء المسكن داخل في مفهوم الضرورة؟ يقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} سورة الأنعام الآية 119. ويقول الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة البقرة الآية 173.
وتأصيلاً على هذه النصوص وغيرها قال العلماء: [الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع] نظرية الضرورة الشرعية ص 67-68.
وبناءً على ما سبق فإن الضرورة التي تجيز التعامل بالربا هي بلوغ الانسان حداً إن لم يتعامل بالربا المحرم هلك أو قارب على الهلاك. وبالتأكيد فإن شراء المسكن ليس داخلاً في هذه الضرورة، صحيح أن المسكن من الحاجات التي لا غنى للإنسان عنها ولكن ليس شرطاً أن يكون المسكن ملكاً للساكن بل يمكن للإنسان أن يكون مستأجراً للمسكن لا مالكاً له.
قال الشيخ المودودي: [لا تدخل كل ضرورة في باب الاضطرار بالنسبة للاستقراض بالربا. فإن التبذير في مجالس الزواج ومحافل الأفراح والعزاء ليس بضرورة حقيقية. وكذلك شراء السيارة أو بناء المنزل ليس(10/396)
بضرورة حقيقية وكذلك ليس استجماع الكماليات أو تهيئة المال لترقية التجارة بأمر ضروري. فهذه وأمثالها من الأمور التي قد يعبر عنها بالضرورة والاضطرار ويستقرض لها المرابون آلافاً من الليرات لا وزن لها ولا قيمة في نظر الشريعة والذين يعطون الربا لمثل هذه الأغراض آثمون. فإذا كانت الشريعة تسمح بإعطاء الربا في حالة من الاضطرار فإنما هي حالة قد يحل فيها الحرام كأن تعرض للإنسان نازلة لا بد له فيها من الاستقراض بالربا أو حلت به مصيبة في عرضه أو نفسه أو يكون يخاف خوفاً حقيقياً حدوث مشقة أو ضرر لا قبل له باحتمالها ففي مثل هذه الحالات يجوز للمسلم أن يستقرض بالربا ما دام لا يجد سبيلاً غيره للحصول على المال غير أنه يأثم بذلك جميع أولي الفضل والسعة من المسلمين الذين ما أخذوا بيد أخيهم في مثل هذه العاهة النازلة به حتى اضطروه لاستقراض المال بالربا. بل أقول فوق ذلك أن الأمة بأجمعها لا بد أن تذوق وبال هذا الإثم لأنها هي التي غفلت وتقاعست عن تنظيم أموال الزكاة والصدقات والأوقاف مما نتج عنه أن أصبح أفرادها لا يستندون إلى أحد ولم يبق لهم من بدّ من استجداء المرابين عند حاجاتهم. لا يجوز الاستقراض حتى عند الاضطرار إلا على قدر الحاجة ومن الواجب التخلص منه ما استطاع الإنسان إليه سبيلاً لأنه من الحرام له قطعاً أن يعطي قرشاً واحداً من الربا بعد ارتفاع حاجته وانتفاء اضطراره. أما: هل الحاجة شديدة أم لا؟ وإذا كانت فإلى أي حدّ؟ ... ومتى قد زالت؟ فكل هذا مما له علاقة بعقل الإنسان المبتلى بمثل هذه الحالة وشعوره بمقتضى الدين والمسؤولية الأخروية. فهو على قدر ما يكون متديناً يتقي الله ويرجو حساب الآخرة يكون معتصماً بعروة الحيطة
والورع في هذا الباب] الربا ص 157-158.
وجاء في الفتوى التي أصدرها المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية والذي عقد في القاهرة سنة 1965م ما يلي:
أ. الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
ب.(10/397)
كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} صدق الله العظيم سورة آل عمران الآية130.
جـ. الإقراض بالربا المحرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، لا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته] .
وخلاصة الأمر أن الاقتراض بالربا من المحرمات القطعية الثابتة التي لا مجال للتلاعب بها ولا يباح الاقتراض بالربا إلا في حالة الضرورة وأن الضرورة تقدر بقدرها ولا يدخل تملك المسكن في ذلك ومن أفتى بجواز تملك المسكن بالاقتراض الربوي ففتواه باطلة ومردودة عليه ولا يجوز الأخذ بها شرعاً.
الإقالة
يقول السائل: إنه اشترى سيارة مستعملة ثم ندم على شرائها وطلب من البائع إرجاعها فرفض إرجاعها فما حكم ذلك؟ أفيدونا.
الجواب: ما طلبه المشتري من البائع في السؤال يسمى عند أهل العلم الإقالة، والإقالة فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هي: رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ. الموسوعة الفقهية الكويتية 5/324.
والإقالة أمر مندوب إليه شرعاً ومرغب فيه وقد حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن يقيل البائعُ المشتريَ إن ندم على الشراء لأي سبب من الأسباب، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أقال مسلماً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/182.
وجاء في رواية أخرى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ, أَقَاله اللَّهُ عَثْرَتَهُ(10/398)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ) انظر إرواء الغليل 5/182. وجاء في رواية أخرى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أقال أخاه بيعاً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 110.
قال صاحب عون المعبود في شرح الحديث: [ (من أقال مسلماً) أي بيعه (أقاله الله عثرته) أي غفر زلته وخطيئته. قال في إنجاح الحاجة: صورة إقالة البيع إذا اشترى أحدٌ شيئاً من رجل ثم ندم على اشترائه إما لظهور الغبن فيه أو لزوال حاجته إليه أو لانعدام الثمن فرد المبيع على البائع وقبل البائع رده أزال الله مشقته وعثرته يوم القيامة لأنه إحسان منه على المشتري, لأن البيع كان قد بت فلا يستطيع المشتري فسخه] عون المعبود 9/237.
وروى الإمام مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان فسأل رب الحائط أن يضع له أو أن يقيله، فحلف أن لا يفعل فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تألى -أي حلف- أن لا يفعل خيراً فسمع بذلك رب الحائط فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله هو له] الموطأ ص483.
وينبغي أن يعلم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد لازم والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا] رواه البخاري ومسلم.
ومع ذلك فقد اتفق أهل العلم على أن من آداب البيع والشراء الإقالة قال الإمام الغزالي عند ذكره الإحسان في المعاملة: [الخامس: أن يقيل من يستقيله فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أقال نادماً صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة) ] إحياء علوم الدين 2/83.
وقال الحافظ المناوي: [ (من أقال مسلماً) أي وافقه على نقض البيع(10/399)
أو البيعة وأجابه إليه (أقال الله عثرته) أي رفعه من سقوطه يقال أقاله يقيله إقالة وتقاؤلاً إذا فسخا البيع وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري إذا ندم أحدهما أو كلاهما وتكون الإقالة في البيعة والعهد، كذا في النهاية، قال ابن عبد السلام ... : إقالة النادم من الإحسان المأمور به في القرآن لما له من الغرض فيما ندم عليه سيما في بيع العقار وتمليك الجوار] فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/103.
ولا شك أن الإقالة من باب الإحسان والتراحم والتيسير على الناس والرفق بهم وتقديم العون لهم وإقالة عثراتهم وهي أمور مطلوبة من المسلم فقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) رواه مسلم.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسراً(10/400)
قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه) رواه البخاري.
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) رواه مسلم.
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من يحرم الرفق يحرم الخير) رواه مسلم.
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) رواه مسلم.
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/180.
وإنما ذكرت هذه الأحاديث لما غلب على التعامل بين الناس من طمع وغيبة للتراحم والإحسان لعلهم يتذكرون فيتراحمون.
وأخيراً أنبه على أمرين أولهما: ما ورد في بعض ألفاظ أحاديث الإقالة من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ) فإن ذكر المسلم في الحديث ورد من باب التغليب وإلا فإقالة غير المسلم كإقالة المسلم قال الإمام الصنعاني: [وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ , وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْماً أَغْلَبِيّاً وَإِلَّا فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ مَنْ أَقَالَ نَادِماً أَخْرَجَهُ الْبَزَّار] سبل السلام 3/796.
والثاني: إن الْإِقَالَةُ َتَكُونُ وَاجِبَةً إذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ, لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِداً أَوْ مَكْرُوهاً وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْناً لَهُمَا عَنْ الْمَحْظُورِ, لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الإمكان, وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ. كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارّاً لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيراً, وَإِنَّمَا(10/401)
قُيِّدَ الْغَبْنُ بِالْيَسِيرِ هُنَا, لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ] الموسوعة الفقهية الكويتية 5/325.
وخلاصة الأمر أن عقد البيع من العقود اللازمة التي لا تفسخ إلا باتفاق البائع والمشتري والإقالة مندوبة ومستحبة وهي من باب التراحم والإحسان في المعاملة.
الظفر بالحق
يقول السائل: لي دين على شخص وهذا الدين ثابت وقد مضى على الدين سنوات والمدين مقر به ولكنه مماطل ويرفض سداد الدين لأسباب غير مقبولة، وبينما كنت في السوق قابلني قريب للمدين وطلب مني توصيل مبلغ من المال له فهل يجوز لي شرعاً أن آخذ المبلغ المستحق لي عنده وأعطيه الباقي أفيدونا.
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أنه تحرم المماطلة على الغني القادر على سداد دينه وقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيراً] فتح الباري 5/371.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: [وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يُعَدُّ فعله عمداً كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسَّق] فتح الباري 5/372.
وكذلك ينبغي أن يعلم أن الأصل عند أهل العلم أن من كان له دين فماطله المدين فعليه أن يطالب بدينه عن طريق القضاء فإن تعذر ذلك كأن يكون حكم القضاء غير نافذ أو تطول مدة النظر في القضية عدة سنوات أو(10/402)
غير ذلك من الأسباب فهل يجوز لصاحب الدين إن ظفر بمالٍ للمدين أن يستوفي حقه منه أم لا؟
هذه المسألة تسمى مسألة الظفر بالحق عند أهل العلم وهي محل خلاف بينهم وأرجح أقوال أهل العلم جواز ذلك وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية وهو قول في مذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال الشيخ ابن حزم الظاهري إن ذلك فرض وقد ذكر العلماء تفاصيل كثيرة تتعلق بالمسألة، انظر المغني 9/286-289، المحلى 6/490-494، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/371-375، سبل السلام 3/868- 869، الموسوعة الفقهية الكويتية 29/156-166.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا كان لرجل على غيره حق, وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه، بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله شيئاً بغير إذنه لزمه رده إليه, وإن كان قدر حقه لأنه لا يجوز أن يملك عليه عيناً من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة, وإن كانت من جنس حقه لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين وإن أتلفها أو تلفت فصارت ديناً في ذمته وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاضياً, في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعاً له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار, لم يجز أخذ شيء من ماله بغير خلاف وإن أخذ شيئاً, لزمه رده إن كان باقياً أو عوضه إن كان تالفاً ولا يحصل التقاضي ها هنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال, بخلاف التي قبلها وإن كان مانعاً له بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السلطان لم يجز له الأخذ أيضا بغيره لأنه قدر على استيفاء حقه بمن يقوم مقامه, فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله] المغني 9/287.
ومما يدل على جواز مسألة الظفر بالحق وأنه مشروع قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} سورة البقرة الآية 194. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَنْكَرَهُ وَامْتَنَعَ عَنْ بَذْلِهِ فَقَدْ اعْتَدَى, فَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ حُكْمِ الْقَضَاءِ, فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَذِنَ بِذَلِكَ.(10/403)
ويدل على ذلك قَوْلُ الرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) رواه البخاري, وَإِنَّ أَخْذَ الْحَقِّ مِنْ الظَّالِمِ نَصْرٌ لَهُ. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 29/162-163.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي عند ذكر ما يستفاد من الحديث: [ومنها: أن من له على غيره حق وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه, وهذا مذهبنا ... ] شرح النووي على صحيح مسلم 4/373.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واستدل به على أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه, وهو قول الشافعي وجماعة, وتسمى مسألة الظفر, والراجح عندهم لا يأخذ غير جنس حقه إلا إذا تعذر جنس حقه, وعن أبي حنيفة المنع, وعنه يأخذ جنس حقه ولا يأخذ من غير جنس حقه إلا أحد النقدين بدل الآخر, وعن مالك ثلاث روايات كهذه الآراء, وعن أحمد المنع مطلقاً] فتح الباري 9/631.
وقال الإمام ابن دقيق العيد: [نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ, وَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا مِنْ الْجِنْسِ, أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَمَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْإِطْلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا: يَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي الْجَمِيعِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ عَلَى تَعَذُّرِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ; لِأَنَّ هِنْدًا كَانَ يُمْكِنُهَا الرَّفْعُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْذُ الْحَقِّ بِحُكْمِهِ] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2/270.(10/404)
[وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده، أو يغصبه شيئاً. ثم يصيب له مالاً من جنس ماله. فهل له أن يأخذ منه مقدار حقه؟
فأجاب: وأما إذا كان لرجل عند غيره حق من عين أو دين. فهل يأخذه أو نظيره، بغير إذنه؟ فهذا نوعان:
أحدهما: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهراً لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده، واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به، فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب؛ كما ثبت في الصحيحين أن هند بنت عتبة ... وكذلك لو كان له دين عند الحاكم وهو يمطله، فأخذ من ماله بقدره، ونحو ذلك] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/371-372.
واحتج الشيخ ابن حزم على فرضية أخذ الحق بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والآثار منها: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} سورة النحل الآية 126. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} سورة الشورى الآيتان 41-42. وقَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} سورة الشورى الآية 39. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} سورة البقرة الآية 194. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . سورة البقرة الآية 194. وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} سورة الشعراء الآية 227 ... (ومنها قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ) وَهَذَا إطْلَاقٌ مِنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مَا وَجَدَ لِلَّذِي لَهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ ... عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ [قَالَ: قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلَ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا, فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ) وَهُوَ
قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ(10/405)
أَبِي طَالِبٍ, وَابْنِ سِيرِينَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْك شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ ... عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إنْ أَخَذَ مِنْك شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَه ... عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا تَخُنْ مَنْ خَانَك, فَإِنْ أَخَذْت مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْك فَلَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ حَيْثُ وَجَدْت مَتَاعَك فَخُذْهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى, فَلِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَمَنْ ظَفَرَ بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ فِيهِ هُوَ, أَوْ مُسْلِمٌ, أَوْ ذِمِّيٌّ, فَلَمْ يُزِلْهُ عَنْ يَدِ الظَّالِمِ وَيَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِ حَقَّهُ فَهُوَ أَحَدُ الظَّالِمِينَ, لَمْ يُعِنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بَلْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ, هَذَا أَمْرٌ يُعْلَمُ ضَرُورَةً. وَكَذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ إنْ اسْتَطَاعَ) فَمَنْ قَدَرَ عَلَى كَفِّ الظُّلْمِ وَقَطْعِهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى إنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَخَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يُحَلِّلَهُ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ بِلَا خِلَافٍ, وَالدَّلَائِلُ عَلَى هَذَا تَكْثُرُ جِدًّا] المحلى 6/491-492. والمسألة فيها كلام كثير لأهل العلم.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً استيفاء الدين من مال المدين بدون إذنه وعلى الدائن أن يخبر المدين بأنه استوفى حقه منه ويعيد له بقية المبلغ.
حكم التصرف في المال الموقوف للمسجد
يقول السائل: جمعنا مبالغ من المال لإعمار مسجد الحي وقد زادت الأموال عن حاجة المسجد فقامت اللجنة المشرفة على إعمار المسجد بوضع المبلغ الزائد أمانة عند أحد التجار الثقات وتركت له حرية استثماره لنفسه على أن للمسجد المبلغ الأصلي الذي وضع عنده فما حكم ذلك؟
الجواب: إن المال الذي تم جمعه لإعمار المسجد هو مال موقوف(10/406)
على المسجد المذكور ولا يجوز شرعاً التصرف في المال الموقوف إلا حسب ما وقف له وما حصل من لجنة إعمار المسجد من إعطاء الإذن للتاجر بأن يستثمر مال المسجد لنفسه تصرف باطل شرعاً واللجنة المذكورة لا تملك هذا التصرف بحال من الأحوال وعلى التاجر أن يضيف ما تحقق من ربح من تشغيل مال المسجد إلى أصل المال ولا يحل له أن يأخذ منه شيئاً حيث إن المال الموقوف على المسجد يعتبر في حكم المال العام ولا يجوز لشخص أن ينتفع بالمال العام انتفاعاً شخصياً، فبأي حق ينتفع هذا التاجر من مال المسجد؟ ولا شك لدي أن هذا العمل يعتبر من أكل المال بالباطل ويدخل أيضاً في باب الغلول يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29.
وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى: (وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم. وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله (يتخوضون في مال الله بغير حق) أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل] فتح الباري 6/263.
وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: (استعمل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ. فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك(10/407)
وهذا لي؟ فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ... ) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قام فينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الغلول فعظَّمه وعظَّم أمره قال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس له حمحمة، يقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك أو على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله: (ذكر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغلول فعظمه وعظم أمره) هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول وأصل الغلول: الخيانة مطلقاً, ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة, قال نفطويه: سمى بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه, أي محبوسة, يقال: غلَّ غلولاً وأغل إغلالاً. قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا أُلفِين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء) هكذا ضبطناه (ألفين) بضم الهمزة وبالفاء المكسورة, أي: لا أجدن أحدكم على هذه الصفة, ومعناه: لا تعملوا عملاً أجدكم بسببه على هذه الصفة, ... و (الرغاء) بالمد صوت البعير, وكذا المذكورات بعد وصف كل شيء بصوته. والصامت: الذهب والفضة. قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا أملك لك من الله شيئاً) قال القاضي: معناه من المغفرة والشفاعة إلا بإذن الله تعالى, قال: ويكون ذلك أولاً غضباً عليه لمخالفته, ثم يشفع في جميع الموحدين بعد ذلك كما سبق في كتاب الإيمان في شفاعات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... وأجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول, وأنه من الكبائر, وأجمعوا على أن عليه رد ما غله] شرح النووي على صحيح مسلم 4/532.
ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن بعض أهل العلم: [أن هذا الحديث يفسر قوله عز وجل: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يأت به حاملاً له(10/408)
على رقبته، ثم قال: ولا يقال إن بعض ما يسرق من النقد أخف من البعير مثلاً والبعير أرخص ثمناً فكيف يعاقب الأخف جناية بالأثقل وعكسه؟ لأن الجواب أن المراد بالعقوبة بذلك فضيحة الحامل على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم لا بالثقل والخفة] فتح الباري 6/224. ويضاف إلى ما سبق أن لجنة إعمار المسجد لا تملك أن تهب التاجر المذكور حق استثمار مال المسجد لمنفعته الشخصية، فمال الوقف لا تجوز هبته لأي كان وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منها فما تأمرني به، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال فتصدق بها عمر، إنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب) رواه البخاري ومسلم.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري: [ليس للناظر أخذ شيء من مال الوقف على وجه الضمان، فإن فعل ضمنه، ولا يجوز له إدخال ما ضمنه فيه أي في مال الوقف، إذ ليس له استيفاؤه من نفسه لغيره] أسنى المطالب في شرح روض الطالب.
وإذا كان العلماء قد نصوا على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً مما هو موقوف على المسجد كالمصاحف والكتب والسجاد والحصير وغير ذلك من الأشياء لينتفع بها انتفاعاً شخصياً فهذه الأشياء الموقوفة يكون الانتفاع بها داخل المسجد فقط ولا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً لنفسه منها وإن أذن بذلك إمام المسجد أو مؤذنه لأنهما يتصرفان فيما لا يملكان فالمصاحف والكتب الموقوفة على المسجد لا يملك أحد أن يبطل وقفيتها على المسجد ويحولها إلى ملكية خاصة لبعض المصلين.
وقد نص العلماء على تحريم مثل هذه التصرفات، قال الإمام النووي: [لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحجر وحصاة وتراب وغيره ... وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال بعض الرواة أراه رفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن الحصاة لتناشد الذي(10/409)
يخرجها من المسجد) المجموع 2/179. وقال الزركشي: [يحرم إخراج الحصى والحجر والتراب من أجزاء المسجد منه ... ومثله الزيت والشمع] إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 239. ثم ذكر الحديث الذي ذكره الإمام النووي في كلامه السابق، وهذا الحديث قال عنه المنذري: [رواه أبو داود بإسناد جيد، وذكر أن الدارقطني رجح وقفه على أبي هريرة. الترغيب والترهيب 1/279. والحديث يدل على منع إخراج الحصى من المسجد وقد كان المسجد في العهد النبوي مفروشاً بالحصى فإذا كان لا يجوز إخراج الحصى من المسجد لينتفع به انتفاعاً شخصياً فمن باب أولى أن لا ينتفع بمال المسجد انتفاعاً شخصياً. وكذلك فإن الفقهاء قد جعلوا المال العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشدة تحريم الأخذ منه فهل يملك ولي اليتيم أن يعطي تاجراً شيئاً من مال اليتيم ليستثمره لنفسه. إنه لا يملك ذلك بالتأكيد.
وخلاصة الأمر أن ما قامت به لجنة إعمار المسجد من الإذن للتاجر باستثمار مال المسجد لمنفعته الشخصية عمل باطل شرعاً لأنها لا تملك هذا التصرف ويجب إضافة ما تحقق من ربح لأصل المال.
مسائل في التعامل بالشيكات
يقول السائل: عندي ثلاثة أسئلة تتعلق بالتعامل بالشيكات أرجو الجواب عنها وهي: أ- لدي شيكات مؤجلة قيمتها سبعة وثمانون ألف شيكل وأريد بيعها لصراف بستة وسبعين ألف شيكل فما حكم ذلك؟ وهل يجوز بيع الشيكات التي فات تاريخ تحصيلها بأقل من المبلغ المرقوم فيها؟
ب - ما حكم شراء ذهب للعرس بشيكات مؤجلة؟
ج - لدي شيك مؤجل بالدولار فعرضته على صراف فأعطاني قيمة(10/410)
الشيك بالشيكل ولكنه حسب الدولار بأقل من سعر صرفه الآن مقابل الشيكل فما حكم ذلك؟
الجواب: التعامل بالشيكات من الأمور الجائزة شرعاً ضمن الضوابط الشرعية لذلك ومن أهم هذه الضوابط أنه لا يجوز بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها لأن ذلك من الربا المحرم حيث إن بيع الشيك المؤجل بأقل من قيمته هو في الحقيقة بيع دين بنقد مع التفاضل وعدم التقابض في المجلس وهذا ربا النسيئة المحرم بالنصوص الشرعية وقد انعقد الإجماع على ذلك فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه البخاري ومسلم.
وقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من المتعاقدين في مجلس العقد قبل افتراقهما.
قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] المغني4/41.
وأما بيع الشيكات التي قد مضى تاريخ استحقاقها ولم يستطع الشخص تحصيلها فيبيعها بأقل من المبلغ المرقوم فيها بكثير فهذا أمر محرم شرعاً وهو باب من أبواب الربا لما سبق من وجوب التقابض في مجلس العقد.
وتحرم المعاملة السابقة أيضاً لما فيها من الغرر نظراً للجهالة في تحصيل قيمتها من مصدرها فالمشتري لهذه الشيكات المؤجلة قد يحصلها ممن أصدرها وقد لا يحصلها. ويمكن الاستعاضة عن بيع هذه الشيكات بأقل من قيمتها بأن تجعل أيها السائل مبلغاً من المال لمن يحصل لك تلك الشيكات المؤجلة على أن تدفع له المبلغ المتفق عليه بعد أن يقوم بتحصيلها وهذا ما يسمى الجعالة عند الفقهاء وهي تسمية مال معلوم لمن يعمل للجاعل عملاً مباحاً انظر الموسوعة الفقهية 15/208.
وقد قال جمهور أهل العلم بصحة عقد الجعالة ويدل على جوازها(10/411)
قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} سورة يوسف الآية72. ويدل على جوازها أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (انطلق نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط! الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبَة، فقال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟، ثم قال: قد أصبتم، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأدلة.
ولا بد من التنبيه على أن من شروط صحة الجعالة أن العامل لا يستحق شيئاً إلا بعد إنجاز العمل المتفق عليه. الموسوعة الفقهية 15/209.
وأما جواب السؤال الثاني فأقول: إن شراء الذهب بالشيكات يعتبر من باب الصرف عند الفقهاء لأن الذهب يعتبر الأصل في العملات كما أن الأصل في عقد الصرف هو تقابض البدلين في مجلس العقد ويحرم تأجيل أحدهما لما سبق في الحديث (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاًُ بمثل، يداً بيد ... ) ومن المعلوم أن الشيكات تقوم مقام النقد.
وبناءً على ما تقدم فإنه يجوز بيع وشراء الذهب بأنواعه وأشكاله المختلفة بالشيكات بشرط أن تكون الشيكات حالة أي يستطيع الصائغ (البائع) صرفها فوراً وبشرط أن يتم استلام الذهب والشيك في مجلس العقد(10/412)
وأما إذا كانت الشيكات مؤجلة أي كتب عليها تاريخ متأخر عن تاريخ شراء الذهب ولو بيوم واحد فهذه المعاملة محرمة لأنها أخلت بشرط التقابض في مجلس العقد.
وهنا ينبغي التذكير بأن مذهب جماهير أهل العلم أنه لا يجوز بيع حلي الذهب والفضة نسيئة أي مع تأخير قبض الثمن أو بالدَّين كما يقول عامة الناس بل لابد من البيع نقداً مع التقابض في مجلس العقد وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض -أي لا تزيدوا- ولا تبيعوا الوَرِق -الفضة- بالوَرِق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء) ، قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر وغير ذلك وسواء الخالص والمخلوط بغيره وهذا كله مجمع عليه] شرح النووي على مسلم 4/195.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: (والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم) المغني 4/8.
وأما إجابة السؤال الثالث فأقول إن ما قام به الصراف يعد نوعاً من التحايل على الربا المحرم شرعاً فإن بيع الشيك بعملة أخرى هو من باب الصرف ويشترط فيه التقابض في المجلس كما سبق وعليه فلا يجوز شرعاً بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها سواء كان ذلك بنفس العملة المذكورة في الشيك أو بغيرها من العملات وسواء كان ذلك بقيمتها أو بأقل من قيمتها.
وخلاصة الأمر أنه يحرم بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها كما يحرم شراء حلي الذهب والفضة بالشيكات المؤجلة ويحرم صرف الشيكات(10/413)
المؤجلة بعملة غير المذكورة في الشيك سواء كان ذلك بقيمتها أو بأقل من قيمتها.
هل البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل؟
يقول السائل: ما حكم عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) التي يكتبها بعض التجار على لوحة ويعلقونها في مكان بارز من متاجرهم أفيدونا؟
الجواب: هذه العبارة ليست صحيحة على إطلاقها بل في حكمها التفصيل التالي: أولاً: تكون عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) صحيحة فيما إذا وقع البيع خالياً من الخيار ومن العيوب فمن المعلوم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد صحيح لازم والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) رواه البخاري ومسلم. فإذا اشترى شخص سلعة ولم تكن معيبة ثم ذهب إلى بيته فبدا له أن يرجع السلعة للبائع فلا يملك المشتري ذلك إلا إذا وافق البائع وهذا ما يسمى بالإقالة والإقالة أمر مندوب إليه شرعاً ومرغب فيه وقد حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن يقيل البائع المشتري إن ندم على الشراء لأي سبب من الأسباب فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أقال مسلماً أقاله الله عثرته يوم القيامة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وفي رواية أخرى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَقَالَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ صَفْقَةً كَرِهَهَا, أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، ولكن إن أبى البائع أن يقيل المشتري بيعته فله ذلك وفي هذه الحالة تكون عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) صحيحة ولكن رد السلعة وإقالة المشترى أولى وفيه الأجر والثواب.(10/414)
ثانياً: تكون عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) باطلة إذا اشترى شخص سلعة ولما رجع إلى بيته مثلاً وجد فيها عيباً فله كل الحق في رد السلعة وإن شرط البائع عليه أن (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) فمثلاً لو اشترى سلعة غذائية ولدى عودته إلى منزله وجدها منتهية الصلاحية أو وجدها تالفة فمن حقه أن يعود للمحل الذي اشترى السلعة منه لردها واستبدالها بسلعة غذائية صالحة وسليمة وغير منتهية الصلاحية.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أنه متى علم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به فله الخيار بين الإمساك والفسخ سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً وإثبات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب] المغني 4/109. وحديث التصرية الذي أشار إليه هو ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر) والتصرية هي حبس الحليب في الضرع لخداع المشتري وتعد التصرية عيباً عند الفقهاء وقد أثبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخيار برد المصراة وجعله حقاً للمشتري.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس؛ فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر. فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك فإذا تبين أن في السلعة غشاً أو عيباً فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها فقد يرضى وقد لا يرضى فإن رضي وإلا فسخ البيع. وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) ] مجموع الفتاوى 28/104.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية [ما حكم الشرع في كتابة عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) التي يكتبها بعض أصحاب(10/415)
المحلات التجارية على الفواتير الصادرة عنهم وهل هذا الشرط جائز شرعاً وما هي نصيحة سماحتكم حول هذا الموضوع.
الجواب: وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن بيع السلعة بشرط ألا ترد ولا تستبدل لا يجوز لأنه شرط غير صحيح لما فيه من الضرر والتعمية ولأن مقصود البائع بهذا الشرط إلزام المشتري بالبضاعة ولو كانت معيبة واشتراطه هذا لا يُبرئه من العيوب الموجودة في السلعة لأنها إذا كانت معيبة فله استبدالها ببضاعة غير معيبة أو أخذ المشتري أرش العيب. ولأن كامل الثمن مقابل السلعة الصحيحة وأخذ البائع الثمن مع وجود عيب أخذ بغير حق. ولأن الشرع أقام الشرط العرفي كاللفظي وذلك للسلامة من العيب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلاً لاشتراط سلامة المبيع عرفاً منزلة اشتراطها لفظاً] .
فهذه الفتوى فيما أرى محمولة على الحالة الثانية من الحالتين اللتين ذكرتهما أي إلغاء خيار الرد بالعيب والعلماء متفقون على أن المشتري إذا وجد عيباً فيما اشتراه كان له حق الرد وإن لم يكن البائع يعلم مسبقاً بالعيب.
وخلاصة الأمر أن عبارة (البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) تكون صحيحة إذا وقع البيع خالياً من الخيار ومن العيوب وتكون باطلة إذا وجد المشتري في البضاعة عيباً فله ردها وأخذ بضاعة سليمة بدلاً منها.
سرقة الأدوية والتلاعب بها
يقول السائل: إنه صيدلاني وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة سلبية جداً وهي أن بعض الأطباء وبعض الصيادلة وبعض العاملين في المجالات الصحية الحكومية يقومون بسرقة الأدوية على النحو الآتي:
أولاً: يقوم الطبيب بوصف أدوية لا يحتاج إليها المريض من حيث(10/416)
النوعية والكمية وبدون علم المريض، وتجيير هذه الأدوية للصيدلية المتعاملة بالمسروقات، فتباع بسعر أقل من سعر التكلفة لدواء مشترى بشكل رسمي ومدوّن عليه التسعيرة (لاصق النقابة) .
ثانياً: يقوم الصيدلاني بتغيير كمية الأدوية المكتوبة في الوصفة بطرق غير مكشوفة، كأن يكون مكتوب في الوصفة علبة واحدة فيغير الصيدلي الرقم إلى علبتين ويأخذ العلبة الأخرى له. وكثيراً ما يكون من المسروقات أدوية يلزم حفظها بالثلاجة وبالتالي تصل للمستهلك تالفة. وقد حدثت أخطاء بسبب هذه السرقة ومن الأمثلة عليها أن الأنسولين يحفظ في الثلاجة، حيث قام الصيدلاني بسرقته ووضعه في جيبه لمدة من الزمن مما أدى إلى خراب الأنسولين قبل إعادته إلى الثلاجة فعندما اشترى المريض الأنسولين واستخدمه لابنته، حدث أن أصيبت البنت بالإغماء فذهبت للمستشفى فتبين أنها لم تأخذ جرعات الأنسولين الصحيحة. أرجو من فضيلتكم بيان هذه القضية للناس لأنها تمس المجتمع بشكل أساسي.
الجواب: إن كثيراً من الناس يتساهلون في الأموال العامة التي تكون تحت تصرفهم وأقصد أموال الوزارات وأموال المؤسسات العامة حكومية كانت أو غير حكومية فترى بعض المسئولين كباراً كانونا أم صغاراً يعتبرون أن المؤسسة أو المكتب الذي يعملون فيه يعتبرونه وكأنه مزرعتهم الشخصية فالواحد منهم حر التصرف فيها كما يشاء أضف إلى ذلك خيانة الأمانة واستغلال المنصب للأمور الشخصية وأمثال هؤلاء الموظفين الذين خانوا الأمانة يتجاهلون أن أعمالهم هذه ستكون وبالاً عليهم في الآخرة، فالأصل في الموظف أنه أجير والأجير لا بد أن يكون أميناً ويدخل في الأمانة حسن أداء العمل والأمانة في استخدام المال العام والمحافظة عليه. قال الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . سورة القصص الآية 26. ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} النساء الآية 58. ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} سورة المؤمنون الآية8.(10/417)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم.
وقد دلت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حرمة الخوض في الأموال العامة، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة البقرة 188، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29.
وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى: (وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل) أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم.
وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله (يتخوضون في مال الله بغير حق) أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل] فتح الباري 6/263.
إذا تقرر هذا فأعود لما ورد في السؤال فأقول: إن الطبيب إذا وصف أدوية للمريض زائدة عن الحاجة الحقيقية للمريض فهذه خيانة للأمانة وهي محرمة شرعاً وأذكر هذا الطبيب وأمثاله بالقسم الذي أقسمه عندما تخرج من كلية الطب [أُقْسِمُ باللهِ العَظِيمْ أن أراقبَ الله في مِهنَتِي. وأن أصُونَ حياة الإنسان في كافّةِ أدوَارهَا. في كل الظروف والأحَوال بَاذِلاً وسْعِي في استنقاذها مِن الهَلاكِ والمرَضِ والألَم والقَلق. وأن أَحفَظ لِلنّاسِ كَرَامَتهُم،(10/418)
وأسْتر عَوْرَتهُم، وأكتمَ سِرَّهُمْ. وأن أكونَ عَلى الدوَام من وسائِل رحمة الله، باذلا رِعَايََتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أُسَخِره لنفعِ الإنسَان ... لا لأذَاه. وأن أُوَقّرَ مَن عَلَّمَني، وأُعَلّمَ مَن يَصْغرُني، وأكون أخاً لِكُلِّ زَميلٍ في المِهنَةِ الطِبّيّة مُتعَاونِينَ عَلى البرِّ والتقوى. وأن تكون حياتي مِصْدَاق إيمَاني في سِرّي وَعَلانيَتي، نَقيّةً مِمّا يُشينهَا تجَاهَ الله وَرَسُولِهِ وَالمؤمِنين. والله على ما أقول شهيد] إن هذا القسم يجب شرعاً الوفاء به وليتذكر الطبيب وأمثاله أنه سيحاسب على كل ما قدمت يداه.
وإذا كان الطبيب متفقاً مع المريض ومع الصيدلي فهذه سرقة وهي محرمة أيضاً. وإذا قام الصيدلي بتغيير كمية الدواء المكتوبة في الوصفة الطبية فهذا تزوير وهو محرم أيضاً قال الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} سورة الحج الآية 30.
بل إن التزوير من أكبر كبائر الذنوب فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سئل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكبائر فقال: (الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو , وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل; وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها] فتح الباري 10/506
وإذا ترتب ضرر للمريض فتزداد جرائم هؤلاء المشاركين بهذه المعاصي المركبة وليتذكر هؤلاء وخاصة الطبيب أن المريض حينما يأتي للعلاج فإنه قد وثق بالطبيب واستأمنه على نفسه فعلى الطبيب أن يحفظ(10/419)
الأمانة ولا يخونها فلا يقبل أن يكون الطبيب سبباً في زيادة المرض بدل أن يكون سبباً في شفائه.
وخلاصة الأمر أن سرقة الأدوية والتلاعب بها من الأمور المحرمة شرعاً وإذا ترتب ضرر للمريض بسبب ذلك فكل من يشارك في هذه اللصوصية فهو آثم وضامن.(10/420)
الأسرة والمجتمع(10/421)
تلقيح صناعي محرم
يقول السائل: قام زوجان بعملية تلقيح صناعي لأسباب تتعلق بعدم قدرة الزوجة على الحمل وتمّت زراعة البويضة الملقحة في رحم امرأة أخرى وعمر الجنين الآن خمسة أشهر وقد علما أن هذا العملية حرام شرعاً فما العمل؟ وهل يجوز إجهاض الجنين وإن لم يجهض فلمن ينسب المولود؟ أفيدونا.
الجواب: هذه المسألة من نتائج الحضارة الغربية غير الأخلاقية وتسمى مسألة تأجير الأرحام واتفق فقهاء العصر على تحريمها إلا من شذ فرأى جوازها قياساً على الرضاع أو غير ذلك من الشبهات الزائفة وقد بحثت هذه المسألة من المجامع العلمية والفقهية المعتبرة وكذا بحثها عدد كبير من العلماء المعاصرين وصدرت قرارات وفتاوى عديدة بتحريمها فمن ذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حيث جاء في قراره ما يلي: بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي (أطفال الأنابيب) وذلك بالاطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء وبعد التداول تبين للمجلس:
أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع:(10/423)
الأولى: أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبويضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
الثانية: أن يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبويضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة.
الثالثة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها.
الرابعة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبويضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
الخامسة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى.
السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً.
وقرر: أن الطرق الخمسة الأولى كلها محرمة شرعاً وممنوعة منعاً باتاً لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.
أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطيات اللازمة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد3، ج 1، ص 515-516.
وكذلك صدر قرار عن المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بتحريم الصورة المذكورة في السؤال في دورته المنعقدة عام 1405هـ.
إذا تقرر ذلك فإن تأجير الأرحام من المحرمات لما يترتب عليه من(10/424)
اختلاط الأنساب ولأن المرأة الحاضنة أدخلت إلى بدنها بويضة ملقحة من مني أجنبي عليها وهذا محرم ويمكن تشبيه هذا العمل بالزنا وإن لم يكن زنا حقيقة فهو حرام لا شك فيه وينسب الولد في هذه الحالة للمرأة التي حملت به (المرأة الحاضنة) هذا إذا كانت المرأة الحاضنة غير ذات زوج وأما إن كانت ذات زوج فينسب الولد إلى زوج المرأة الحاضنة ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد عهد إليَّ فيه فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا - أي اختصما - إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي كان قد عهد إليَّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: زوج النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله) رواه البخاري ومسلم، قال الإمام النووي: (قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قال العلماء: العاهر الزاني وعهر زنى وعهرت زنت والعهر الزنا, ومعنى الحجر أي له الخيبة ولا حق له في الولد. وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الولد للفراش) , فمعناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة صارت فراشاً له فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة, سواء كان موافقاً له في الشبه أم مخالفاً) شرح النووي على صحيح مسلم 4/31.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [فكانت دعوى سعد سبب البيان من الله عز وجل على لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنا وأن الولد للفراش على كل حال والفراش النكاح أو ملك اليمين لا غير ... أجمع العلماء -لا خلاف بينهم فيما علمته- أنه لا يلحق بأحد ولد يستلحقه إلا من نكاح أو ملك يمين فإذا كان نكاح أو ملك فالولد للفراش على كل حال] الاستذكار 2/167-168.(10/425)
ولا يجوز أن ينسب الولد للرجل صاحب المني ما دام أن المرأة الحاضنة ذات زوج وأما إذا كانت المرأة الحاضنة لا زوج لها فيصح إلحاق الولد بالرجل صاحب المني إن أقر به وادَّعاه على قول جماعة من أهل العلم.
وأما إجهاض هذا الجنين بعد أن صار عمره خمسة أشهر فهو من المحرمات لأن الأصل هو تحريم الإجهاض بعد مضي مئة وعشرين يوماً على الحمل باتفاق أهل العلم لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح.) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط، وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123.
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية ما يلي: [من الضروريات الخمس التي دلّت عليها نصوص الكتاب والسنة دلالة قاطعة على وجوب المحافظة عليها وأجمعت الأمة على لزوم مراعاتها حفظ نفس الإنسان وهو في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين سواء كانت النفس حملاً قد نفخ فيه الروح أم كانت مولودة ... فلا يجوز الاعتداء عليها(10/426)
بإجهاض إن كانت حملاً قد نفخ فيه الروح أو بإعطائها أدوية تقضي على حياتها وتجهز عليها، طلباً لراحتها أو راحة من يعولها أو تخليصاً للمجتمع من أرباب الآفات والعاهات والمشوهين والعاطلين، أو غير ذلك مما يدفع بالناس إلى التخلص لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقّ} وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفساً، يجب صيانتها والمحافظة عليها] .
وخلاصة الأمر أن تأجير الأرحام من المحرمات وأنه شبيه بالزنا وأن الولد ينسب للمرأة الحاضنة إن لم تكن ذات زوج فإن كانت ذات زوج فينسب إلى زوجها فإن ادَّعاه الرجل صاحب النطفة ولم ينازعه أحد في ذلك ألحق به.
نفقة علاج الزوجة واجبة على زوجها
تقول السائلة: إنها قرأت فتوى لبعض العلماء تنص على أنه لا يجب على الزوج تحمل مصاريف علاج زوجته ولا يلزمه شراء الدواء لها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: اتفق أهل العلم على وجوب إنفاق الزوج على زوجته وقد دل على ذلك نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنها قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة الآية 233، وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاءَاتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا} سورة الطلاق الآية 7. وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} سورة الطلاق الآية 6.
وقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/402. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن هند بنت عتبة قالت:(10/427)
يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري ومسلم.
وعن حكيم بن معاوية - رضي الله عنه - قال: (قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تقبح الوجه ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود وقال الألباني حديث حسن صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/402. وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبة حجة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ... ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا لهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/274. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/341. وغير ذلك من النصوص.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب ... ] ثم ذكر النصوص الموجبة للنفقة من الكتاب والسنة ثم قال: [وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها وأن ذلك مقدر بكفايتها وأن نفقة ولده عليه دونها مقدر بكفايتهم، وأن ذلك بالمعروف وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه.
وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن، إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة، وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها ... ] المغني 8/195.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وقال الطبري ما ملخصه: الإنفاق على الأهل واجب والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة بل هي من صدقة التطوع وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرّفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن(10/428)
يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع] فتح الباري 11/425.
وبعد اتفاق الفقهاء على وجوب النفقة على الزوج اختلفوا في أنواع النفقة الزوجية فأوجبوا على الزوج أن ينفق على زوجته فيما يتعلق بالمأكل والمشرب والملبس والمسكن وذهب جمهور الفقهاء بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة إلى عدم وجوب أجرة الطبيب ولا ثمن العلاج على الزوج وخالف آخرون فأوجبوا ذلك على الزوج ويجب أن يعلم أولاً أن المسألة ليس فيها نصوص خاصة وإنما هي مسألة اجتهادية وللعرف فيها اعتبار وقال ابن عبد الحكم الفقيه المالكي بوجوب تحمل الزوج لنفقات علاج زوجته وهو قول الزيدية وهذا قول وجيه يؤيده عموم النصوص الواردة بالإنفاق على الزوجة بالمعروف وحسن معاشرتها بالمعروف أيضاً وقد مشت معظم قوانين الأحوال الشخصية على هذا الرأي وأفتى به جماعة كبيرة من أهل العلم المعاصرين فقد ورد في المادة رقم 66 من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا ما يلي: [نفقة الزوجة تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف ... ] .
ويحتج لهذا القول بالعمومات الواردة كما في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} سورة النساء الآية 19.
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة والخطاب للجميع إذ لكل أحد عِشْرَةٌ - زوجاً كان أو ولياً ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج وهو مثل قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وذلك توفية حقها من المهر والنفقة وألا يعبس في وجهها بغير ذنب وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة ... فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش وهذا واجب على الزوج ... ] تفسير القرطبي 5/97. ولا شك أن معالجة الزوجة إن مرضت وتأمين الدواء لها(10/429)
من المعاشرة بالمعروف وكذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإن أجرة العلاج وثمن الدواء داخل في الرزق.
ويدل على ذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند زوجة أبي سفيان (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فهذا يشمل كل ما تحتاج إليه الزوجة وأولادها ويدخل فيه الأدوية وأجرة العلاج. ولعل جمهور الفقهاء الذين قالوا بعدم وجوب أجرة العلاج على الزوج بنوا هذا الحكم على ما كان معروفاً في زمانهم وخاصة أن الناس كانوا يعتنون بصحتهم ويتعالجون بأدوية طبيعية غير مكلفة، وأما في زماننا فقد اختلفت الأمور كثيراً وصار العلاج مكلفاً وكذا ما يترتب على ذلك من أجور المستشفيات ونحوها قال العلامة ابن عابدين الحنفي في منظومته: والعرف له اعتبار فلذا الحكم عليه قد يدار.
انظر نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف في الجزء الثاني من رسائل العلامة ابن عابدين ص112.
ويجب أن يعلم أن هذا الإنفاق يؤجر عليه الزوج أجراً عظيماً فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك) رواه مسلم. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله) رواه مسلم.
وعن أبي مسعود البدري أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة) رواه البخاري ومسلم. وعن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنك مهما أنفقت على أهلك من نفقة فإنك تؤجر حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أنه يلزم الزوج معالجة زوجته المريضة وعليه تحمل تكاليف علاجها ما دام مستطيعاً ويكون ذلك حسب العرف السائد في المجتمع.(10/430)
يحرم تقبيل المرأة الأجنبية
يقول السائل: كما تعلمون فإن الناس في العيد يزور بعضهم بعضاً وفي أثناء زيارتنا لابنة عمي وهي امرأة متزوجة قام أخي بتقبيلها على خدها ولما أخبرته أن ذلك لا يجوز قال لي إن هذه القبلة من باب التحية ولا شهوة فيها فهي جائزة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن ما قام به أخوك من تقبيل ابنة عمه من المحرمات المتفق على تحريمها عند أهل العلم فمن المعروف أن ابنة العم تعتبر أجنبية على ابن عمها فلا يجوز له أن يصافحها ولا يجوز له أن يقبلها مطلقاً حتى لو كانت القبلة بدون شهوة والمقصود بالمرأة الأجنبية عند العلماء هي كل امرأة يجوز للرجل نكاحها وهي غير القريبة المحرم وغير الزوجة.
وقد نص العلماء من أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم على حرمة تقبيل المرأة الأجنبية بشهوة أو بدون شهوة فمن أقوالهم في ذلك:
قال الإمام المرغيناني الحنفي صاحب كتاب الهداية: [ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة] الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/460.
وقال صاحب الاختيار: [ولا ينظر إلى المرأة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة، فإن خاف الشهوة لا يجوز إلا للحاكم والشاهد ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة] الاختيار لتعليل المختار 4/ 156.
وقال الزيلعي: [ولا يجوز له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن أمن الشهوة لوجود المحرم وانعدام الضرورة والبلوى] . تبين الحقائق 6/18.
وقال ابن عابدين: [فلا يحل مس وجهها وكفها وإن أمن الشهوة] . حاشية ابن عابدين 6/367.(10/431)
وقال الإمام النووي: [وقد قال أصحابنا كل من حرم النظر إليه حرم مسه بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك] . الأذكار ص 228
وقال الحصني الشافعي: [وأعلم أنه حيث حرم النظر حرم المس بطريق الأولى لأنه أبلغ لذة] كفاية الأخيار ص 353.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان ومن استحله كفر إجماعاً ويحرم النظر مع وجود ثوران الشهوة وهو منصوص الإمام أحمد والشافعي ... وكل قسم متى كان معه شهوة كان حراماً بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع النظر أو كانت شهوة الوطء، واللمس كالنظر وأولى] الاختيارات العلمية ص 118 ضمن الفتاوى الكبرى المجلد الخامس.
وقال صاحب منار السبيل: [ولمس كنظر وأولى لأنه أبلغ منه فيحرم المس حيث يحرم النظر] منار السبيل 2/ 142. وغير ذلك من أقوالهم.
وقد احتج العلماء على تحريم تقبيل المرأة الأجنبية بأدلة كثيرة منها: إن الله سبحانه وتعالى قد حرم النظر إلى المرأة الأجنبية من غير سبب مشروع فما بالك بتقبيلها، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} سورة النور الآيتان 30- 31.
بل إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حث المسلم على أن يصرف بصره إذا وقع(10/432)
على امرأة أجنبية فقد ثبت في الحديث عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نظر الفجأة؟ فقال: اصرف بصرك) رواه مسلم.
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث حسن.
والأدلة على تحريم النظر إلى الأجنبية بدون سبب مشروع كثيرة فإذا كان النظر محرماً فمن باب أولى القبلة لأن القبلة أعظم أثراً في النفس من مجرد النظر حيث إن القبلة أكثر إثارة للشهوة وأقوى داعياً للفتنة من النظر بالعين وكل منصف يعلم ذلك.
ومما يدل على تحريم تقبيل المرأة الأجنبية ما ورد في الحديث عن معقل بن يسار- رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي، وقال المنذري: [رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح] . الترغيب والترهيب 3/39. وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول حديث رقم 326.
وقد اعتبر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة للأجنبية نوعاً من الزنا كما ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لكل ابن آدم حظه من الزنا ... واليدان تزنيان فزناهما البطش، والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفم يزني فزناه القُبَل) والقُبَل جمع قُبلة والحديث رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/404.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي اليسر قال: (أتتني امرأة تبتاع تمراً فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها. فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً. فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً. فلم أصبر، فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك(10/433)
له فقال له: أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار قال: وأطرق رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طويلاً حتى أوحي إليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أصحابه: يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن الترمذي 3/63. فهذا الحديث يدل على أن تقبيل الأجنبية محرم وانظر إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للرجل: استر على نفسك وتب. وانظر إلى ما قاله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل وهذا فيه أبلغ دلالة على التحريم.
وأما ادعاء أخيك بأن تقبيل ابنة عمه يعتبر من باب التحية فهذا كلام باطل لأن الدين شرع التحية وبينها كما في الأدلة الواردة في كتاب الله وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس من التحية تقبيل المرأة الأجنبية!! ولا يقول بجواز تقبيل المرأة الأجنبية وأن ذلك من المباحات إلا فاسق أو جاهل بالأدلة الشرعية وجاهل بمقاصد الشريعة المحمدية. وينبغي نبذ الفتاوى العرجاء التي تبيح تقبيل المرأة الأجنبية ولا تصدر هذه الفتاوى إلا من جهلة لا يعرفون ألف باء الإفتاء الشرعي.
وخلاصة الأمر أن تقبيل المرأة الأجنبية بشهوة أو بدون شهوة من المحرمات وأن على أخيك أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى مما اقترف ومما قال لأنه قال منكراً من القول وزوراً.
حكم تحريم الزوجة زوجها على نفسها
يقول السائل: تخاصمت امرأة مع زوجها فسبها مسبة قذرة جداً ... فأقسمت المرأة أنها تُحرم العيش معه وهي تقصد بالعيش معه الحياة الزوجية(10/434)
فهجرته وهجرها أسبوعاً ثم اصطلحا وقد صامت ثلاثة أيام كفارة عن قسمها فما حكم ذلك؟
الجواب: الأصل في الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة والمحبة والتفاهم قال تعالى: {وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم الآية 21. قال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17. ولكن من المشاهد أنه لا بد أن تشوب الحياة الزوجية مشكلات ونفور بين الزوجين ومهما حصل من مشكلات فلا يجوز استعمال الألفاظ البذيئة فذلك محرم على الزوجين فقد ورد في الحديث عن ابن عمر- رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه. كما ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز للزوج أن يهجر زوجته في الكلام فوق ثلاثة أيام لقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم. وأما الهجر في المضجع المذكور في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع} سورة النساء الآية 34. فهذا الهجر سببه النشوز وأجازه جماعة من العلماء إلى شهر كما هجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسائه شهراً.
إذا تقرر هذا فإن تحريم المرأة العيش مع زوجها أو تحريمه على نفسها لا أثر له على الزواج ولا عبرة به ولكنه أمر محرم فلا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، لأن ذلك من الاعتداء على شرع الله ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} سورة المائدة /87.
وإنما يعتبر هذا التحريم يميناً على الراجح من أقوال أهل العلم. فهذه المرأة حرمت على نفسها ما أحل الله تعالى فيلزمها كفارة يمين ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ(10/435)
غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} سورة التحريم الآيتان1-2. فالله سبحانه وتعالى سمَّى تحريم ما أحل الله يميناً، وفرض تحلة اليمين، وهي كفارة اليمين، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويروى نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق، وقال سعيد بن جبير، فيمن قال الحلال حرام عليَّ، يمين من الأيمان يكفرها ... وعن الضحاك، أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين ... ] المغني 9/508.
وقد ثبت في الحديث، عن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث عند زينب ابنة جحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة، أنَّ أيَتنا دخل عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلتقل: إني لأجد ريح مغافير، أكلت مغافير؟ -وهو نوع من النبات له رائحة كريهة- فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، ولن أعود، فنزلت الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (لعائشة وحفصة) {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} -لقوله بل شربت عسلاً) رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وسبب نزول هذه الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يميناً بالله، ولهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم، أن تحريم الحلال يمين مكفرة] مجموع الفتاوى 35/271 - 272. وروى عبد الرزاق بسنده عن الحسن البصري قال: [إن قال: كل حلالٍ عليَّ حرام، فهو يمين، وكان قتادة يفتي به] المصنف 6/402. وروى ابن أبي شيبة بأسانيده عن عمر وعائشة وابن عباس أنهم قالوا: [الحرام يمين] المصنف 5/37. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن عمر بن ذر قال: [سألت الشعبي عن رجلٍ قال: كل حلالٍ عليَّ حرام، قال: لا يوجب طلاقاً ولا يحرم حلالاً، يكفر عن يمينه] المصنف 5/75.(10/436)
وبناءً على ما تقدم فيلزم هذه المرأة أن تكفر كفارة يمين وصومها ثلاثة أيام لا يصح كفارةً ليمينها إلا إذا عجزت عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فكفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89. فكفارة اليمين إما إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخيير أي أن الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام وبناء على ذلك لا يجوز التكفير بصيام ثلاثة أيام إذا كان الشخص قادراً على ما سبق. ويجوز إخراج قيمة الإطعام أو الكسوة نقداً كما هو مذهب الحنفية. وينبغي أن يعلم أنه كما اعتبرنا تحريم المرأة زوجها على نفسها لا أثر له على الزواج فكذلك لو تلفظت المرأة بطلاق زوجها أو ظاهرت منه ونحو ذلك فكله يعتبر لغواً لا أثر له على الزواج لأن العبرة أن يصدر الطلاق أو الظهار من الزوج وعلى ذلك دلت النصوص من كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} سورة الأحزاب الآية 49. وقال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} سورة البقرة الآية231.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} سورة المجادلة الآية 3.
وقد حكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الطلاق بيد الزوج لا بيد غيره كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - (قال أتى النبيَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. قال فصعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: (يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 7/108. وقال العلامة ابن القيم: [وحديث ابن عباس المتقدم وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعليه عمل الناس] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/278(10/437)
وخلاصة الأمر أن تحريم هذه المرأة العيش مع زوجها لا أثر له على الزواج ويعتبر يميناً وتلزمها كفارة اليمين المذكورة في الآية الكريمة كما بينت.
سفر المعتدة عدة وفاة إلى الحج
السؤال: تكرر السؤال عن سفر المعتدة عدة وفاة إلى الحج حيث سئلت عن ذلك مراراً وقد بينت أنه لا يجوز للمعتدة عدة وفاة أن تسافر إلى الحج وطلبت إحدى السائلات التي توفي زوجها توضيح المسألة بالتفصيل.
الجواب: لا يجوز للمعتدة عدة الوفاة السفر إلى الحج أو العمرة على الصحيح من أقوال أهل العلم ويجب على المرأة التي يموت عنها زوجها أن تمكث في بيتها ولا تخرج منه إلا لحاجاتها الأساسية وينبغي أن يعلم أن الحج في حق المرأة مشروط وجوبه بأن لا تكون المرأة معتدة عدة وفاة فإن كانت كذلك فليست بمستطيعة للحج ويكون الحج غير واجب عليها وهو شرط متفق عليه بين العلماء على تفاصيل فيه. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 17/38. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولو كانت عليها حجة الإسلام فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها، وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام] المغني 8/168.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن الفُرَيعة بنت مالك وهي أخت أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قالت: (خرج زوجي في طلب عبيد له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال: تحولي، فلما(10/438)
خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً، قالت فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم والذهلي وابن القطان وغيرهم قال أبو عيسى الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم لم يروا للمعتدة أن تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق. وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم للمرأة أن تعتد حيث شاءت وإن لم تعتد في بيت زوجها قال أبو عيسى والقول الأول أصح] سنن الترمذي 3/509-510.
وقال الحافظ ابن عبد البر بعد ذكر حديث الفريعة: [هذا مشهور عند الفقهاء بالحجاز والعراق معمول به عندهم تلقوه بالقبول وأفتوا به وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل, كلهم يقول: إن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي كانت تسكنه وسواء كان لها أو لزوجها ولا تبيت إلا فيه حتى تنقضي عدتها ولها أن تخرج نهارها في حوائجها. وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة وزيد. وبه قال القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وابن شهاب. وروى مالك عن حميد بن قيس المكي عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج. وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: لا تبيت المتوفى عنها زوجها ولا المبتوتة إلا في بيتها] الاستذكار 18/181-182.
وقال الحافظ بن عبد البر أيضاً: [قال عروة: وكانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها. وروى الثوري عن عبيد الله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أبى ذلك الناس عليها والله أعلم. قال أبو عمر: قد أخبر القاسم أن الناس في زمن عائشة - يعني علماء زمانها- أنكروا ذلك عليها وهم طائفة من الصحابة وجلة من التابعين وقد ذكرنا من(10/439)
روينا ذلك عنه في هذا الباب منهم. وجملة القول في هذه المسألة أن فيها للسلف والخلف قولين مع أحدهما سنة ثابتة وهي الحجة عند التنازع ولا حجة لمن قال بخلافها. وليس قول من طعن في إسناد الحديث الوارد بها مما يجب الاشتغال به لأن الحديث صحيح ونقلته معروفون قضى به الأئمة وعملوا بموجبه وتابعهم جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق وأفتوا به وتلقوه بالقبول لصحته عندهم] الاستذكار 18/184-185.
وقال الإمام ابن العربي المالكي عن حديث الفريعة: [صحيح مليح حسن] عارضة الأحوذي 5/156. ثم قال: [ ... والقرآن يعضد ذلك الحديث فإن الله قد أوجب التربص على المتوفى عنها زوجها فما إلى إخراجها من سبيل وقد قضى به عمر بن الخطاب وكان يرد المعتدات من طريق الحج إلى المدينة] عارضة الأحوذي 5/158. وقد رد العلامة ابن القيم على الشيخ ابن حزم في تضعيفه لحديثه الفريعة بحجة أن زينب وهي راوية الحديث عن الفريعة أنها مجهولة.
قال ابن القيم: [وأما قوله إن زينب بنت كعب مجهولة فنعم مجهولة عنده فكان ماذا؟ وزينب هذه من التابعيات وهي امرأة أبي سعيد روى عنها سعد ابن إسحاق بن كعب وليس بسعيد وقد ذكرها ابن حبان في كتاب الثقات] زاد المعاد 5/680.
ثم قال: [فهذه امرأة تابعية كانت تحت صحابي وروى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف واحتج الأئمة بحديثها وصححوه] زاد المعاد 6/681. ثم قال بعد أن ذكر آثاراً عن الصحابة والتابعين في أنها لا تخرج: [وهذا قول الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله وأصحابهم والأوزاعي وأبي عبيد وإسحاق ... وحجة هؤلاء حديث الفريعة بنت مالك وقد تلقاه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالقبول وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول. ولم يعلم أن أحداً منهم طعن فيه ولا في رواته وهذا مالك مع تحريه وتشدده في الرواية: وقوله للسائل له عن رجل: أثقة(10/440)
هو؟ فقال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي: قد أدخله في (موطئه) وبنى عليه مذهبه. قالوا: ونحن لا ننكر النزاع بين السلف في المسألة ولكن السنة تفصل بين المتنازعين قال أبو عمر بن عبد البر: أما السنة فثابتة بحمد الله وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة رضي الله عنها وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر] زاد المعاد 5/687. وقد ضعف الشيخ الألباني حديث الفريعة كما في إرواء الغليل 7/206. ولكنه تراجع عن تضعيفه كما في صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان 1/533، وكما في صحيح سنن الترمذي 1/355، وكما في صحيح سنن ابن ماجه 1/345. وقال الشوكاني: [وحديث فريعة لم يأت من خالفه بما ينتهض لمعارضته فالتمسك به متعين] نيل الأوطار 6/337.
وقال الإمام ابن العربي المالكي عند حديثه على خروج المعتدة عدة وفاة: [الثاني خروج العبادة كالحج والعمرة ... وقد قال عمر وابن عمر: لا يحججن وقد كان عمر - رضي الله عنه - يرد المعتدات من البيداء يمنعهن الحج. فرأي عمر في الخلفاء ورأي مالك في العلماء وغيرهم أن عموم فرض التربص في زمن العدة مقدم على عموم زمان فرض الحج لا سيما إن قلنا إنه على التراخي. وإن قلنا على الفور فحق التربص آكد من حق الحج لأن حق العدة لله تعالى ثم للآدمي في صيانة مائه وتحرير نسبه وحق الحج خاص لله تعالى] أحكام القرآن 1/209-210
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها فمات في شعبان فهل يجوز لها أن تحج؟ فأجاب ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة] مجموع الفتاوى 34/27-28.
وأخيراً فيجب أن يعلم أن القول المخالف في هذه المسألة قول ضعيف لا يصح التمسك به ولا الفتوى به لأنه رأي في مقابل نص صحيح(10/441)
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قرر ذلك الحافظ ابن عبد البر وابن القيم والشوكاني وغيرهم من أهل العلم.
وخلاصة الأمر أن المعتدة عدة وفاة لا تسافر إلى الحج ولو كانت حجة الإسلام فإن سافرت فهي آثمة لمخالفتها للنص الشرعي الآمر لها بالبقاء في بيتها.
حكم الزواج العرفي
يقول السائل: ما هي حقيقة الزواج العرفي وما الحكم الشرعي فيمن تزوج عرفياً؟
الجواب: المشهور أن الزواج العرفي يطلق على الزواج المستكمل للأركان والشروط ولكنه غير مسجل بوثيقة رسمية كتسجيله في المحكمة الشرعية وقد تكتب ورقة بحضور الولي والشهود. وهذا ما درج عليه الكاتبون في قضايا الزواج والأحوال الشخصية.
ولكن بعض الناس يستعملون اصطلاح الزواج العرفي فيما يتم بين شاب وفتاة كأن يقول لها زوجيني نفسك فتقول له زوجتك نفسي ثم يكتبان ورقة بينهما أو عند محامٍ وهذا النوع أصبح منتشراً في بلاد كثيرة وبدأ يمارس في بلادنا. ولا شك في بطلان هذا الثاني وهو ما يسمى بالزواج المدني ولا يعتبر هذا زواجاً في الشرع بل هو زنىً والعياذ بالله تعالى. وأما الأول فهو زواج معتبر شرعاً وهو ما كان سائداً بين المسلمين قديماً إلى أن صار توثيق الزواج بوثائق رسمية متعارفاً عليه بين المسلمين وصارت بعض قوانين الأحوال الشخصية تلزم تسجيل الزواج رسمياً. وهو ما نص عليه قانون الأحوال الشخصية المطبق في بلادنا، فقد جاء في المادة السابعة عشرة منه ما يأتي:
[أ. يجب على الخاطب مراجعة القاضي أو نائبه لإجراء العقد.
ب.(10/442)
يجري عقد الزواج من مأذون القاضي بموجب وثيقة رسمية، وللقاضي بحكم وظيفته في الحالات الاستثنائية أن يتولى ذلك بنفسه بإذن من قاضي القضاة.
ج. وإذا جرى الزواج بدون وثيقة رسمية فيعاقب كل من العاقد والزوجين والشهود بالعقوبة المنصوص عليها في قانون العقوبات الأردني وبغرامة على كلّ منهم لا تزيد عن مائة دينار.
د. وكل مأذون لا يسجل العقد في الوثيقة الرسمية بعد استيفاء الرسم يعاقب بالعقوبتين المشار إليهما في الفقرة السابقة مع العزل من الوظيفة] .
وأرى أن تسجيل عقد الزواج في المحاكم الشرعية واجب شرعاً فيجب كتابة عقد الزواج خطياً وتسجيله في المحاكم الشرعية ولا يُكتفى بالإيجاب والقبول الشفويين كما أنه لا يكتفى بكتابة ورقة ولو كان ذلك بحضور الولي والشهود لأن في كتابة عقد الزواج وتسجيله في المحاكم الشرعية تحقيق لمصالح عظيمة للناس وفيه محافظة على حقوق المتزوجين وتسجيل الزواج بوثيقة رسمية يجب من باب سد الذرائع المؤدية للفساد بضياع الحقوق ولما في التسجيل من إثبات للزوجية القائمة بين الزوجين، وثبوت نسب الأولاد وحفاظاً على بناء الأسرة في المجتمع المسلم على أساس سليم وقوي وقواعد الشرع العامة توجب التسجيل.
ولا شك أن عقد الزواج كان يتم قديماً بدون وثيقة وبدون تسجيل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يكتبون صداقات لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخّروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له] . مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32/131.
ولكن صار تسجيل عقد الزواج أمراً لا بد منه ولا يقال لماذا لا نمشي على ما مشى عليه السابقون من عدم التسجيل؟ فأقول شتان ما بيننا وبينهم(10/443)
فلقد خربت ذمم كثير من الناس وقلت التقوى وكاد الورع أن يغيب في عصرنا لذا أؤكد على وجوب تسجيل الزواج في وثيقة رسمية وأعتقد أن من تزوج عرفياً أو زوج ابنته في زواج عرفي فهو آثم شرعاً وإن كان الزواج العرفي إن تم مستكملاً لأركان الزواج وشروطه صحيحاً شرعاً وكونه صحيحاً لا يمنع من تحريمه كمن حج بمال حرام فحجه صحيح ولكنه آثم شرعاً قال الإمام النووي: [إذا حج بمال حرام أو راكباً دابةً مغصوبة أثم وصح حجه وأجزأه عندنا وبه قال أبو حنيفة ومالك والعبدري وبه قال أكثر الفقهاء] المجموع 6/62. ومثله الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة مع أن الغاصب آثم قال الإمام النووي: [الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع، صحيحة عندنا وعند الجمهور من الفقهاء وأصحاب الأصول] المجموع 3/165.
ومن المعلوم أن كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها أمر مطلوب شرعاً وخاصة في هذا الزمان حيث خربت ذمم كثير من الناس وقلَّ دينهم وورعهم وزاد طمعهم وجشعهم. وإن الاعتماد على عامل الثقة بين الناس ليس مضموناً لأن قلوب الناس متقلبة وأحوالهم متغيرة. وقد أمر الله جل جلاله بتوثيق الدين حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ... وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} سورة البقرة الآيتان 282-283. فهذا الأمر الرباني في كتابة الدنانير والدراهم لما في الكتابة من حفظ للحقوق فمن باب أولى كتابة ما يتعلق بالعرض والنسب. ويضاف إلى ما سبق أنه يجب على الناس الالتزام بما نص عليه قانون الأحوال الشخصية فطاعة هذا القانون من باب الطاعة في المعروف وخاصة أنه يحقق مصالح الناس ويحفظ حقوقهم وبالذات حقوق المرأة والأطفال. فمن المعلوم أن جميع المسلمين في هذه البلاد يرجعون إلى القضاء الشرعي في قضاياهم المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وغيرها ويتحاكمون إلى قانون الأحوال الشخصية وهو مستمد من الشريعة الإسلامية فيجب الالتزام به شرعاً وقد ورد في الحديث قول(10/444)
الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه البخاري ومسلم.
وأسوق للذين يفتون بعدم تسجيل الزواج في وثيقة رسمية ويشجعون الناس عليه بعض ما يحدث من أمور في الزواج العرفي: فقد ينكر الزوج أنه تزوج في الزواج غير المسجل فماذا يحدث للزوجة والأولاد. ومن المعلوم أن بعض قوانين الأحوال الشخصية قد [ألزمت المحاكم القضائية بعدم سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا عند تقديم وثيقة رسمية، وهذا ما استقر عليه القضاء المصري منذ عام 1931، ونصت عليه المادة (99) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والمعدلة بالقانون رقم (78) لعام 1951. وقد أفتت دار الإفتاء المصرية بتاريخ 1/2/1957 أن الفقرة الناصة على عدم سماع الدعوى عند إنكار دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا إذا كانت بوثيقة رسمية، فإن هذه الفقرة لا تَشترط الوثيقة الرسمية لصحة عقد الزواج، وإنما هي شرط لسماع الدعوى. ومن هذه القوانين قانون الأحوال الشخصية الكويتي، فقد جاء في المادة (92) منه الفقرة: (أ) : لا تسمع عند الإنكار دعوى الزوجية، إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية، أو سبق الإنكار الإقرار بالزوجية في أوراق رسمية] مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق ص 145 - 146.
وكذلك فإن الزواج غير المسجل بوثيقة رسمية من السهولة بمكان إنكاره وبالتالي التحلل من جميع التزاماته المادية والمعنوية بخلاف الزواج الموثق بوثيقة رسمية [إن الزواج الرسمي تصدر به وثيقة رسمية من الدولة، بخلاف الزواج العرفي الذي يعقد مشافهة أو تكتب فيه ورقة عرفية، وقد عرف رجال القضاء المعاصرون الوثيقة الرسمية بأنها التي تصدر من موظف مختص بمقتضى وظيفته بإصدارها. والوثيقة الرسمية لا تقبل الإنكار، ولا يجوز الطعن فيها بحال، وبناءً على ذلك يثبت بها عقد النكاح قطعاً. أما عقد الزواج العرفي ولو أثبت بالشهود، أو وثيقة عرفية فإنه يقبل الطعن فيه، ويقبل الإنكار. يقول الدكتور عبد الفتاح عمرو: [العقد العرفي يعتبر كالورقة(10/445)
العرفية التي تقبل الطعن والتزوير والإنكار، أما العقد الرسمي فهو كالوثائق الرسمية التي لا تقبل الطعن بالإنكار] المصدر السابق ص 132.
وإذا ضاعت الورقة التي كتبت بينهما أو أتلفت عمداً فماذا بالنسبة لحقوق الزوجة والأولاد؟ وماذا عن حق الزوجة في الميراث حال وفاة الزوج في الزواج العرفي؟ وكم من المآسي قد حدثت للزوجة والأولاد بسبب عدم تسجيل الزواج بوثيقة رسمية؟
وخلاصة الأمر أنه يجب شرعاً تسجيل الزواج بوثيقة رسمية ومن لم يفعل ذلك فهو آثم وإن كان العقد صحيحاً تترتب عليه آثاره الشرعية ولا ينبغي لأحد أن يشجع على الزواج العرفي لما يترتب عليه من مفاسد وضياع لحقوق الزوجة والأولاد. وأنصح الآباء أن لا يزوجوا بناتهم زواجاً عرفياً وأن يحرصوا أشد الحرص على الزواج الصحيح الموثق بوثيقة رسمية ومسجل في المحاكم الشرعية.
حكم الرجوع عن الطلاق المعلق
يقول السائل: قلت لزوجتي إن ذهبت إلى بيت أخيك فأنت طالق ولكنني تراجعت عن ذلك وأود أن آذن لها بالذهاب إلى بيت أخيها فما حكم ذلك؟
الجواب: الواجب على الزوج أن لا يستعمل الطلاق في مثل هذه الحالات لأن الطلاق شُرع كآخر حل إن استعصت الحلول الأخرى للمشكلات الزوجية. وما صدر عن السائل يعرف عند أهل العلم بالطلاق المعلق أي أنه علق طلاقها على شرط وهو ذهابها إلى بيت أخيها والطلاق المعلق يقع عند جمهور أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة إن تحقق الشرط المعلق عليه وهو هنا ذهابها إلى بيت أخيها بغض النظر عن قصد الزوج بهذا اللفظ هل قصد منعها من الذهاب أم قصد طلاقها فعلاً إن ذهبت.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في(10/446)
بلادنا بالرأي الذي يرى أن الطلاق المعلق على شرط لا يقع إن كان قصد المطلق هو الحث على فعل أمر ما أو المنع منه وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وجماعة من أهل العلم واعتبروه يميناً فيه كفارة يمين في حالة حصول الشرط. فقد ورد في المادة رقم 89 من قانون الأحوال الشخصية الأردني ما نصه (لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه) وغير المنجز هو المعلق وقوعه على وقوع شيء. انظر شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني للدكتور عمر الأشقر ص 203-204.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط فيقول: إن كان كذا فعلى الطلاق، أو الحج. أو فعبيدي أحرار، ونحو ذلك، فهذا ينظر إلى مقصوده، فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور ـ كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط ـ فحكمه حكم الحالف؛ وهو من [باب اليمين] . وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور، كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط، مثل أن يقول لامرأته: إن أبرأتني من طلاقك فأنت طالق. فتبرئه، أو يكون غرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها، فيقول: إذا فعلت كذا فأنت طالق، بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها، ولو فعلته لم يكن له غرض في طلاقها، فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط، فيكون حالفا. وتارة يكون الشرط المكروه أكرم إليه من طلاقها؛ فيكون موقعا للطلاق إذا وجد ذلك الشرط، فهذا يقع به الطلاق، وكذلك إن قال: إن شفي الله مريضي فعلى صوم شهر، فشفي، فإنه يلزمه الصوم. فالأصل في هذا: أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه المأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط. وإن كان مقصوده أن يحلف بها، وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها، لا موقع لها، فيكون قوله من باب اليمين، لا من باب التطليق والنذر، فالحالف هو الذي يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة، كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني، ونسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وعلى(10/447)
المشي إلى بيت الله فهذا ونحوه يمين، بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذر ومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما التزمه، وكلاهما ملتزم، لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم، كما إذا قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، فإن هذا يكره الكفر، ولو وقع الشرط، فهذا حالف. والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم، سواء كان الشرط مراداً له، أو
مكروهاً أو غير مراد له، فهذا موقع ليس بحالف. وكلاهما ملتزم معلق، لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم. ِ] مجموع الفتاوى 33/59-60. وانظر كلام العلامة ابن القيم في المسألة في إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/97.
وما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في التفريق في الطلاق المعلق بين ما كان قصد المطلق فيه مجرد الحمل على فعل أو المنع منه وبين حصول الطلاق عند وقوع الشرط إذا كان الطلاق هو المقصود هو القوال الراجح في هذه المسألة وخاصة أن المسألة مسألة اجتهادية لم يرد فيها نصوص صريحة لا من الكتاب ولا من السنة ومما يؤيد ذلك ما يلي: [الأول إنه لم يقصد الطلاق وإنما قصد الحث أو المنع مثلاً، وقد قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) . الثاني: الطلاق المعلق لقصد المنع أو الحث يسمى يميناً في اللغة وفي عرف الفقهاء ولذا دخل في أيمان البيعة، وفي عموم اليمين في حديث الاستثناء في اليمين وفي عموم اليمين في حديث التحذير من اقتطاع مال امرىء مسلم بيمين فاجرة وفي عموم الإيلاء، وفي عموم حديث (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) وفي عموم حديث (وإياكم والحلف في البيع) كما ذكر ذلك العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين، وإذا كان يميناً دخل في عموم قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ... } الآية فتجب فيها(10/448)
الكفارة ... وما ورد من الآثار عن الصحابة من الفتوى بوقوع الطلاق المعلق عند حصول المعلق عليه فإنه إما غير صحيح نقلاً وإما صحيح معارض بمثله وإما صحيح لكنه فيما قصد به إيقاع الطلاق لا الحث على الفعل
أو المنع منه فهو في غير محل النزاع فلا يكون فيه حجة على ما نحن بصدده والصواب التفصيل ... ] أبحاث هيئة كبار العلماء 2/390- 392.
إذا تقرر هذا فأقول للسائل حيث إن زوجتك لم تذهب إلى بيت أخيها فلا يلزمك شيء ولكن الإشكال في تراجعك عن هذا الطلاق المعلق فإن كنت تقصد مجرد منعها من الذهاب فقط ولم تقصد طلاقها فهذا فيه كفارة يمين كما هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وما أخذ به قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا وأما إن كنت تقصد طلاقها فعلاً إن ذهبت إلى بيت أخيها فهذا فيه إشكال كبير فعند جمهور أهل العلم لا يصح الرجوع عن الطلاق المعلق على شرط وبهذا أخذ قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا فقد ورد في المادة رقم 96 [تعليق الطلاق بالشرط صحيح وكذا إضافته إلى المستقبل ورجوع الزوج عن الطلاق المعلق والمضاف لزمان مستقبل غير مقبول] وأعتقد أن هذه المادة من القانون المذكور تحتاج إلى إعادة نظر حيث إنها تمنع المطلق من الرجوع عما علق عليه الطلاق فقد يكون ذلك الطلاق المعلق قد صدر عنه في وقت كانت علاقته سيئة مع شقيق زوجته ثم تحسنت العلاقة بينهما فأراد أن يأذن لزوجته بالذهاب إلى بيت أخيها فلماذا لا يمكنه التراجع؟! أو لغير ذلك من الأسباب، وأرى أن فتح باب الرجوع عن الطلاق المعلق هو الأولى لأن فيه تيسيراً على الناس وفيه محافظة على الأسرة وإن كان ذلك على خلاف قول الجمهور. وقد ذكر بعض العلماء المعاصرين قولاً في مذهب الحنابلة يجيز الرجوع عن الطلاق المعلق ونسبه الشيخ ابن مفلح الحنبلي لشيخ الإسلام ابن تيمية: [وقال بعض الحنابلة: إن لمن علق طلاق امرأته على شيء الرجوع عن ذلك، وإبطاله. وذلك بالتخريج على رواية جواز فسخ العتق المعلق على شرط قال ابن مفلح في الفروع (5/103) : ولا يبطل التدبير برجوعه فيه, وإبطاله وبيعه(10/449)
ثم شراؤه كعتق معلق بصفة. وفيه رواية في الانتصار
والواضح: له فسخه, كبيعه, ويتوجه في طلاق. وقد نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله القول بأن لمن علق طلاق امرأته على شيء الرجوع عن ذلك، وإبطاله في الشرط المحض قال في الفروع نقلاً عنه (5/356) : ووافق على شرط محض, كإن قدم زيد] عن شبكة الإنترنت.
وأرجو أن يقوم ديوان قاضي القضاة والقضاة الأفاضل بإعادة دراسة المادة رقم 96 من القانون والنظر في إمكانية تعديلها وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسألة محل اجتهاد وأن من أهل العلم من يرى أن الطلاق المعلق لاغٍ ولا عبرة به أصلاً وقد أخذت بذلك بعض مدونات الأحوال الشخصية في بعض البلدان الإسلامية كما جاء في الفصل 52 من مدونة الأحوال الشخصية المغربية أن (الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه لا يقع) وجاء في الفقرة (ب) من المادة 33 من قانون الأسرة الليبي رقم 10 لسنة 1984م أنه (لا يقع الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه) ، وورد في المادة 105 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي أنه (يشترط في الطلاق أن يكون منجزاً) ، وهو ما يفهم منه أن الطلاق غير المنجز لا يعتبر، وممن أخذ بهذا القول من الفقهاء المعاصرين الأستاذ علي حسب الله وصرح بميله إليه] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن الطلاق المعلق إن قصد به الحمل على فعل أمر ما أو المنع منه فحكمه حكم اليمين تلزم به كفارة يمين عند حصول ما علق عليه وإن قصد به الطلاق فعلاً فيقع الطلاق عند وقوع ما علق به وأما قضية الرجوع عن الطلاق المعلق إن قصد به الطلاق فالمسألة تحتاج إلى إعادة بحث ونظر في قول الجمهور المانعين من الرجوع عن الطلاق المعلق وهو الرأي الذي أخذ به قانون الأحوال الشخصية وهنالك رأي يجيز الرجوع عنه ولعله يجري تعديل قانون الأحوال الشخصية في هذه المسألة.(10/450)
الأخذ بالثأر والقتل على خلفية شرف العائلة
يقول السائل: كما تعلمون فقد كثرت حوادث القتل حيث قتل بعض الناس أخذاً بالثأر كما أنه قد قتلت بعض الفتيات تحت شعار القتل على خلفية شرف العائلة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لاشك أن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق من أكبر الكبائر وقد وردت النصوص الكثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الترهيب من القتل بغير حق فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} سورة النساء الآية 93.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين) أو ذكر الكبائر فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40.
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وغير ذلك من الآيات والأحاديث.(10/451)
ومن المعلوم أن عقوبة القتل عقوبة مشروعة في حالات معينة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} سورة البقرة الآية 178. وثبت في الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك فإنه من المقرر شرعاً وجوب تطبيق الحدود والتعزير على من ارتكب موجباً لها والمكلف بتنفيذ جميع العقوبات المقررة شرعاً -القصاص والحدود والتعزير- هو الحاكم المسلم أو من ينيبه وليس ذلك لأفراد الناس فلا يجوز لفرد أو جماعة تطبيق العقوبات الشرعية لأن هذا يفتح باباً عريضاً من أبواب الشر والفساد. ومن الأدلة على أن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة ممثلة بالإمام أو من يقوم مقامه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} قال الإمام القرطبي في تفسير الآية: [لا خلاف في أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مَقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود] تفسير القرطبي 2/245.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} سورة النور الآية 2. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه] تفسير القرطبي 12/161.
ويدل على ذلك أيضا ما ورد في الحديث أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) رواه مالك في الموطأ والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وقال العلامة الألباني [وهو كما قالا] . السلسلة الصحيحة 2/272.
وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي: [لا يقيم الحدود على الأحرار إلا(10/452)
الإمام أو من فوض إليه الإمام لأنه لم يُقَمْ حدٌّ على حر على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بإذنه ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام] المهذب 20/34.
وروى الإمام البيهقي بإسناده: [عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين يُنتهى إلى قولهم من أهل المدينة كانوا يقولون لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئاً من الحدود دون السلطان] سنن البيهقي 8/245.
وقال الشيخ عبد القادر عوده رحمه الله تحت عنوان من الذي يقيم الحدّ: [من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه لأن الحدّ حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام ولأن الحدّ يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ير حضوره لازماً فقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. وأمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجم ماعز ولم يحضر الرجم وأتي بسارق فقال: اذهبوا به فاقطعوه. لكن إذن الإمام بإقامة الحدّ واجب، فما أقيم حدّ في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بإذنه وما أقيم حدّ في عهد الخلفاء إلا بإذنهم] التشريع الجنائي الإسلامي 2/444.
وجاء في الموسوعة الفقهية: [اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه وذلك لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني منتفية عن الإقامة في حقه فيقيمها على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقيم الحدود وكذا خلفاءه من بعده] الموسوعة الفقهية الكويتية 17/144-145.
إذا تقرر هذا فإنه يحرم على المسلم أن يأخذ بالثأر وخاصة إذا قتل غير القاتل كأن يقتل أخاه أو قريباً له فإن هذا من أعظم المنكرات فلا يجوز(10/453)
شرعاً أن يؤخذ الانسان بجريرة غيره قال الله تعالى: {ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} سورة الأنعام الآية 164.
وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في حجة الوداع للناس: (أي يوم هذا؟ قالوا يوم الحج الأكبر، قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ألا لا يجني جان إلا على نفسه ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده ... ) رواه الترمذي. وقال وهذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض لا يُؤخَذ الرجل بجناية أبيه ولا جناية أخيه) رواه النسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي 3/863.
وعن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب في أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع قتلوا فلاناً في الجاهلية فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهتف بصوته ألا لا تجني نفس على الأخرى) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 2/721. وكذلك فإن القتل على خلفية ما يسمى شرف العائلة ممنوع شرعاً لأن عقوبة الزاني من اختصاص الحاكم المسلم أو من ينيبه ولا يجوز لشخص مهما كان أن يقوم بقتل الزانية سواء أكان أباً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً أو غير ذلك فلا يجوز لهؤلاء أن يقتلوا من تتهم بالزنا لتطهير شرف العائلة كما يدعون لأن عقوبة الزانية إن كانت بكراً الجلد لا القتل، لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} سورة النور الآية 2. كما أن الإسلام قد شدد في قضية ثبوت الزنا واشترط أربعة شهود، قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} سورة النساء الآية 15. ولا بد في الإقرار من أن يكون مفصلاً مبيناً كما في قصة ماعز، والقرائن لا بد أن تكون صحيحة ومعتبرة عند العلماء(10/454)
حتى يثبت الزنا. انظر الموسوعة الفقهية 24/37 فما بعدها. كما أن كثيراً من حالات القتل على خلفية شرف العائلة تكون الفتاة فيها مظلومة ظلماً شديداً فقد تقتل لمجرد الشك في تصرفاتها ولا يكون زناها قد ثبت فعلاً أو تكون قد ارتكبت مخالفة أقل من الزنا غير موجبة للحد وإنما توجب التعزير فقط. كما أن الآباء والأمهات والأخوة يتحملون جزءاً من المسؤولية عن وقوع ابنتهم في الفاحشة فالواجب هو تحصين البنات والشباب وتربيتهم تربية صحيحة وسد المنافذ التي تؤدي إلى وقوعهم في الفحشاء والمنكر فإن الوقاية خير من العلاج. وإذا تم قتل الفتاة الزانية غير المحصنة فإن قاتلها يتحمل مسؤولية قتلها وينبغي أن يعاقب العقوبة الشرعية إلا إذا وجد مانع من ذلك كالأبوة فهي مانعة من القصاص عند جماهير أهل العلم.
وخلاصة الأمر أن الإسلام حرم الأخذ بالثأر ومنع القتل على خلفية شرف العائلة وقرر أن تنفيذ جميع العقوبات الشرعية إنما هو من اختصاص الحاكم المسلم أو من ينيبه وليس ذلك للأفراد أو الجماعات أو الأحزاب.
عدة الوفاة واجبة على المرأة العجوز
يقول السائل: توفي رجل كبير في السن فهل يلزم زوجته العجوز عدة الوفاة مع أنها لا تحيض منذ عهد بعيد أفيدونا.
الجواب: عدة الوفاة فريضة على كل امرأة مات عنها زوجها سواء كانت عجوزاً أو غير عجوز وسواء كانت تحيض أو لا تحيض والمدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم عدة الوفاة لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} سورة البقرة الآية 234.
فالآية الكريمة عامة في كل زوجة مات عنها زوجها لقوله تعالى {أَزْوَاجاً} فيجب على كل زوجة مات عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام إلا إذا كانت حاملاً فتعتد بوضع الحمل على الراجح من أقوال(10/455)
أهل العلم. ويدل على وجوب العدة قوله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ} فهذا خبر بمعنى الأمر والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب.
قال العلامة ابن القيم: [وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما دل عليه عموم القرآن والسنة] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/664.
وقال ابن كثير عند تفسير الآية السابقة: [هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فترددوا إليه مراراً في ذلك فقال: (أقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً) وفي لفظ (لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث) فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى به في بروع بنت واشق) ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ] تفسير ابن كثير 1/569-570.
وقال الإمام القرطبي: [عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية -دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل- وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ] تفسير القرطبي 3/183.
وروى الإمام الترمذي بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (أنه سئل عن(10/456)
رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: [لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث] فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت. ففرح بها ابن مسعود) وقال أبو عيسى الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح. سنن الترمذي، فهذا الحديث يدل على لزوم عدة الوفاة للزوجة وإن لم يدخل بها وهذا على خلاف المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} سورة الأحزاب الآية 49.
إذا تقرر وجوب عدة الوفاة على كل زوجة فأعود لما ورد في السؤال من كون المرأة المتوفى عنها زوجهاً عجوزاً فأقول إن من المفاهيم المغلوطة عند بعض الناس أن الزوجات الكبيرات في السن لا تلزمهن عدة الوفاة نظراً لكبرهن ولانقطاع الحيض عنهن وهذا الفهم الباطل قائم على أن الحكمة من عدة الوفاة معرفة براءة الرحم من الحمل والذي يجب أن يعلم أولاً أن العدة فريضة يجب الالتزام بها بغض النظر عما قيل فيها من الحكمة وهذا لا ينفي احتمال أن يكون أحد مقاصد العدة هو معرفة براءة الرحم من الحمل مع أن ثبوت الحمل لا يحتاج إلى أربعة أشهر وعشرة أيام وخاصة في زماننا حيث يمكن معرفة وجود الحمل خلال أسبوعين أو ثلاثة فهل معنى ذلك إلغاء عدة الوفاة ما دام أنه يمكن معرفة براءة الرحم بالوسائل الطبية الحديثة!! هذا لا يقوله مسلم.
وقد ذكر بعض أهل العلم حِكَمَاً للعدة فمن ذلك ما قاله العلامة ولي الله الدهلوي: [اعلم أن العدة كانت من المشهورات المسلمة في الجاهلية وكانت مما لا يكادون يتركونه وكان فيها مصالح كثيرة: منها معرفة براءة رحمها من مائه لئلا تختلط الأنساب فإن النسب أحد ما يتشاح به ويطلبه العقلاء وهو من خواص نوع الإنسان ومما امتاز به من سائر الحيوان وهو المصلحة المرعية في باب الاستبراء. ومنها التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لم يكن أمراً ينتظم إلا بجمع رجال ولا ينفك إلا بانتظار طويل ولولا(10/457)
ذلك لكان بمنزلة لعب الصبيان ينتظم ثم يفك في الساعة، ومنها أن مصالح النكاح لا تتم حتى يوطنا أنفسهما على إدامة هذا العقد ظاهراً فإن حدث حادث يوجب فك النظام لم يكن بد من تحقيق صور الإدامة في الجملة بأن تتربص مدة تجد لتربصها بالاً وتقاسي لها عناءً] حجة الله البالغة 2/256-257.
وقال العلامة ابن القيم: [وقد اضطرب الناس في حكمة عدة الوفاة وغيرها، فقيل: هي لبراءة الرحم، وأورد على هذا القول وجوه كثيرة.
منها: وجوبها قبل الدخول في - حالة- الوفاة ... ومن الناس من يقول: هو تعبد لا يعقل معناه، وهذا فاسد لوجهين، أحدهما: أنه ليس في الشريعة حكم إلا وله حكمة وإن لم يعقلها كثير من الناس أو أكثرهم.
الثاني: أن العِدد ليست من العبادات المحضة، بل فيها من المصالح رعاية حق الزوجين والولد والناكح.
قال شيخنا - أي شيخ الإسلام ابن تيمية -: والصواب أن يقال: أما عدة الوفاة فهي حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تحد المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج، فجعلت العدة حريماً لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن، فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني، ولا يتصل الناكحان، ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما عظم حقه، حرم نساؤه بعده، وبهذا اختص الرسول، لأن أزواجه في الدنيا هن أزواجه في الآخرة بخلاف غيره، فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها، تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثاني خيراً لها من الأول. ولكن لو تأيمت على أولاد الأول، لكانت محمودة على ذلك، مستحباً لها، وفي الحديث: (أنا وامرأة سفعاء الخدين، كهاتين يوم القيامة، وأومأ بالوسطى والسبابة، امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال، وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا) . وإذا كان المقتضي لتحريمها قائماً فلا أقل من مدة تتربصها، وقد كانت في الجاهلية تتربص سنة، فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشراً، وقيل لسعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيها(10/458)
ينفخ الروح، فيحصل بهذه المدة براءة الرحم حيث يحتاج إليه، وقضاء حق الزوج إذا لم يحتج إلى ذلك] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/665-666.
وقال الإمام الكاساني مبيناً أن عدة الوفاة لها حكمة أخرى وهي: [إظهار الحزن بفوت نعمة النكاح إذ النكاح كان نعمة عظيمة في حقها فإن الزوج كان سبب صيانتها وعفافها وإيفائها بالنفقة والكسوة والمسكن فوجبت عليها العدة إظهاراً للحزن بفوت النعمة وتعريفاً لقدرها] بدائع الصنائع 3/304.
وخلاصة الأمر أن عدة الوفاة فريضة شرعية على كل زوجة مات عنها زوجها، عجوزاً كانت أم غير عجوز، مدخولاً بها أو غير مدخول بها، والحكمة من العدة على وجه القطع لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى وليس لنا إلا أن نقول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
عمُّ الزوج أجنبي على زوجته ولا يقاس على عمِّها
تقول السائلة: إنها قد اختلفت مع زوجها في الظهور أمام عمه بدون حجاب فزوجها يقول إنها محرمة على عمه فيجوز أن تجلس معه بدون جلباب وأنه لا فرق بين عمها وعمه وتقول الزوجة إن عم زوجها أجنبي عليها وليس كعمها. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن عم الزوج أجنبي على زوجته وكذا خال الزوج أجنبي على زوجته وهذا باتفاق أهل العلم بلا خلاف في ذلك وإذا كانا أجنبيين فيحرم على الزوجة أن تكشف أمام عم زوجها وخاله وإن ظهرت أمامهما فتظهر بلباسها الشرعي قال الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ(10/459)
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31. ففي الآية الكريمة ذكر الله تعالى من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم وهم محارمها من النسب، ويحرم عليها أيضاً مثلهم من الرضاع لما ثبت في الحديث أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) رواه البخاري ومسلم. وليس من هؤلاء عم الزوج ولا خاله. وأما عم المرأة وخالها فهما من المحارم فيجوز إبداء الزينة لهما وإن لم يذكرا في الآية السابقة وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
قال الإمام القرطبي: [والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم. وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم. وقال عكرمة: لم يذكرهما في الآية لأنهما ينعتان لأبنائهما] تفسير القرطبي 12/233.
وقال الشيخ ابن كثير: [وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الآية {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال] تفسير ابن كثير 4/540.
وما ذهب إليه الشعبي وعكرمة من التابعين قول مرجوح، والراجح مذهب جماهير أهل العلم بأن العم والخال يجوز إبداء الزينة لهما. وقد أجاب أهل العلم على عدم ذكر أعمام المرأة وأخوالها في الآية الكريمة بما يلي:
قالوا إن الأعمام والأخوال يندرجون تحت قوله تعالى في الآية(10/460)
السابقة: {أو آبائهن} فإنهم بمنزلة الآباء وقد ورد إطلاق الأب على العم كما في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} سورة البقرة الآية 133. ومن المعلوم أن إسماعيل عليه السلام هو عم يعقوب عليه السلام وقد جعله الله تعالى من آباء يعقوب.
قال الألوسي: [ولم يذكر سبحانه الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن وابن جبير كسائر المحارم في جواز إبداء الزينة لهم، قيل لأنهم في معنى الإخوان من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب فيكون ابنه في معنى الأخ ... وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء، فإنهم عند الناس بمنزلتهم، ولا سيما الأعمام وكثيراً ما يطلق الأب على العم ... ] تفسير الألوسي9/337-338.
وورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر - رضي الله عنه - على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي عليَّ ومثلها معها ثم قال يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عم الرجل صنو أبيه) أي مثل أبيه, وفيه تعظيم حق العم] شرح النووي على صحيح مسلم.
وورد في الحديث عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (الخالة بمنزلة الأم) رواه الترمذي. ثم قال: [وفي الحديث قصة طويلة وهذا حديث صحيح] وأصل الحديث في الصحيحين.
وقال الإمام الكاساني: [لأنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَباً وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ الْأُمّ, قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّ يَعْقُوبَ عليه السلام وَقَدْ سَمَّاهُ أَبَاهُ, وَقَالَ سُبْحَانَهُ(10/461)
وَتَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وَقِيلَ: إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أُمَّاً كَانَ الْخَالُ أَباً] بدائع الصنائع 5/504.
ومما يدل على جواز إبداء الزينة للأعمام والأخوال قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} سورة النساء الآية 23.
وقد قال العلماء: هنالك تلازم بين المحرمية المؤبدة وبين إبداء الزينة فبما أن المرأة تحرم على التأبيد على عمها وخالها فيجوز لها إبداء الزينة لهما.
قال الشيخ السعدي عند تفسير قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} سورة الأحزاب الآية 55. ما نصه: [لما ذكر أنهن لا يسألن متاعاً إلا من وراء حجاب، وكان اللفظ عاماً لكل أحد احتيج أن يستثنى منه هؤلاء المذكورون، من المحارم، {وأنه لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} في عدم الاحتجاب عنهم. ولم يذكر فيها الأعمام، والأخوال، لأنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ولا خالاته، من أبناء الإخوة والأخوات، مع رفعتهن عليهم، فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن، من باب أولى، ولأن منطوق الآية الأخرى، المصرحة بذكر العم والخال مقدمة على ما يفهم من هذه الآية] تفسير السعدي ص 671.
وختاماً ينبغي التنبيه على أمرين: أولهما إن عم الأب وخاله محرمان على بناته وكذلك عم الأم وخالها محرمان على بناتها.
وثانيهما: إن نظر العم والخال جائز في حال أمن الفتنة والشهوة وأما مع النظر بشهوة فيحرم النظر من المحارم. وكذلك فإن العم والخال لا ينظران من المرأة إلا إلى ما يظهر منها غالباً.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ... }(10/462)
على أقوال كثيرة أرجحها: أنه يجوز للمحارم أن ينظروا من المرأة إلى مواضع الزينة وإلى ما يظهر غالباً عند الخدمة كالرأس والشعر والعنق والخد والساعد والكف والساق والركبة وهذه الأعضاء يجوز النظر إليها إذا كان النظر بدون شهوة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالباً كالرقبة والرأس والكفين والقدمين ونحو ذلك وليس له النظر إلى ما يستتر غالباً كالصدر والظهر ونحوهما] المغني 7/98.
وخلاصة الأمر أن عم الزوج وخال الزوج أجنبيان على الزوجة بخلاف عم الزوجة وخالها فهما من محارمها.
حكم إعلانات البراءة من الأشخاص
يقول السائل: ما قولكم فيما نقرؤه في الصحف من إعلانات البراءة حيث يتبرأ الوالد من ولده مثلاً أو تتبرأ العشيرة من أحد أفرادها أفيدونا؟
الجواب: البراءة من الناس ومن أفعالهم لا تجوز إلا بسبب شرعي فمن ذلك البراءة من الكافرين والمشركين كما قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} سورة الأنعام الآية 19.
وقال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ(10/463)
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة التوبة الآيات 1- 3.
وقال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} سورة يونس الآية 41.
وقال تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} سورة الشعراء الآية 216.
قال الألوسي في تفسير الآية السابقة: [فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل إني بريء مما تعملون من المعاصي، أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم] تفسير روح المعاني 10/133.
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً على سبيل المدح والثناء بسيدنا إبراهيم الخليل حيث إنه قد تبرأ من كفر أبيه وقومه فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} سورة التوبة الآية 114.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} سورة الزخرف الآية 2. وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} سورة الأنعام الآية 78.
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} سورة الممتحنة الآية 4.
وتجوز البراءة أيضاً من أهل المعاصي وممن يرتكب الموبقات فيجوز التبرؤ مما يفعله المجرمون كمن يقتل أو يزني أو يغتصب، ونحو ذلك من الجرائم فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى(10/464)
كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرناه فرفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده فقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا] فتح الباري 8/72.
وروى الإمام البخاري في باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة ... قال حدثني أبو بردة بن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: (وجع أبو موسى وجعاً شديداً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) والصالقة هي التي ترفع صوتها بالبكاء، والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري. وفي هذا الحديث أعلن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البراءة ممن فعل هذه الأفعال الشائنة قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (ليس منا) أي - ليس - من أهل سنتنا وطريقتنا, وليس المراد به إخراجه عن الدين, ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي ... والأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه فلا يختلط بجماعة السنة تأديباً له على استصحابه حالة الجاهلية التي قبحها الإسلام, فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود. وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل, أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه(10/465)
أصله, حكاه ابن العربي. ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري الآتي في حديث أبي موسى بعد باب حيث قال: (برئ منه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وأصل البراءة الانفصال من الشيء] فتح الباري 3/209. وهنالك حالات أخرى أعلن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها البراءة ممن يفعل المعاصي منها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم. وعن عمران بن حصين عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من انتهب نهبة فليس منا) رواه الترمذي. وقال هذا حديث حسن صحيح. والنهبة المال المأخوذ على وجه القهر والعلانية. وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حلف بالأمانة فليس منّا) رواه أبو داود وهو حديث حسن.
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس منا من حلف بالأمانة ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) رواه أحمد ومعنى خبب أي أفسد المرأة على زوجها، وغير ذلك من الأحاديث.
وينبغي التنبيه على أمرين هامين: أولهما أن البراءة من النسب محرمة تحريماً صريحاً فلا يجوز لأحد أن يعلن براءته من نسبه كأن يتبرأ الولد من نسبه لأبيه أو يعلن الوالد براءته من نسب ابنه منه ونحو ذلك فهذا أمر محرم شرعاً فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وإنما المراد به من تحول عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالماً عامداً مختاراً وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه حتى نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ... وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله كأنه يقول خلقني الله من ماء فلان, وليس كذلك لأنه إنما خلقه من غيره ... ] فتح الباري 12/67. وروى مسلم يإسناده عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (ليس(10/466)
من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) .
والأمر الثاني: ينبغي التحذير من قطع الأرحام فإن البراءة من أفعال العصاة والفساق لا تعني مقاطعتهم نهائياً فإن ذلك قد يزيد في عصيانهم وفسوقهم بل لا بد من التواصل معهم ونصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتوبون ويرجعون عن غيهم وضلالهم، فقد ثبت في الحديث عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
وخلاصة الأمر أن إعلان البراءة من العصاة والفسقة جائز إن وجد له سبب شرعي معتبر وأما إعلان البراءة بدون سبب شرعي فذلك حرام شرعاً كمن يتبرأ من أبيه لأنه تزوج زوجة ثانية.
حكم طاعة الزوج بعد العقد وقبل الزفاف
تقول السائلة: إنه قد تم عقد قرانها وكتب عقد الزواج وسيتم الزفاف بعد سنة أي بعد تخرجها من الجامعة فهل هي ملزمة بطاعة زوجها واستئذانه في أمورها خلال هذه الفترة أم أنها ملزمة بطاعة أبيها فقط أرجو الإفادة.
الجواب: بداية أنصح دائماً بتقصير المدة بين عقد الزواج والزفاف لما يترتب على ذلك من مصلحة للزوجين وأهلهما إلا إذا وجدت أعذار مقبولة لتطويل تلكم الفترة كإعداد الزوج لبيت الزوجية ونحو ذلك. ومن المعلوم أن عقد الزواج إذا وقع صحيحاً ترتبت عليه آثاره الشرعية ومنها وجوب طاعة الزوجة لزوجها فطاعة الزوج فريضة قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} سورة النساء(10/467)
الآية 34. فهذه الآية قررت للرجل حق القوامة على المرأة ولا شك أنه لا قوامة بدون طاعة الزوجة لزوجها فيجب على المرأة أن تسمع وتطيع زوجها إذا أمرها بالمعروف.
ويقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة الآية 227.
وروى الترمذي بإسناده عن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: (حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) . قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ومعنى قوله (عوان عندكم) يعني أسرى في أيديكم. ومن صور الطاعة الزوجية ألا تخرج الزوجة من مسكنها إلا بإذن زوجها. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها) رواه البخاري. وغير ذلك من النصوص التي أوجبت طاعة الزوجة لزوجها ووجوب استئذانه قبل الخروج من البيت. ولكن يجب أن يعلم أن حق الزوج في طاعة زوجته له واستئذانه قبل الخروج من البيت إنما يكون بعد أن تزف الزوجة لزوجها وبعد أن ينقلها إلى بيته، وأما ما دامت الزوجة في بيت أبيها ولما تزف بعد فحق الطاعة ثابت للأب لا للزوج وكذا الاستئذان يكون في هذه الفترة حقاً للأب لا للزوج لأن الأب هو المسؤول عن البيت وما دامت ابنته تعيش معه في بيته فحق الطاعة ثابت للأب لا للزوج. ومثل ذلك يقال أيضاً في المنع من المعاشرة الزوجية بين الزوج وزوجته خلال هذه الفترة - فترة العقد وقبل الزفاف - فينبغي منع إقامة أي علاقة جنسية بينهما لما قد يترتب على المعاشرة الزوجية في الفترة التي تسبق الزفاف من مفاسد. فمثلاً إذا تمت(10/468)
معاشرة بينهما في تلك الفترة وحصل الحمل فقد لا يستطيع الزوج إتمام الزفاف لسبب من الأسباب فعندئذ تظهر علامات الحمل على
الفتاة وهذا ينعكس سلباً عليها وعلى زوجها، وماذا لو قدر الله سبحانه وتعالى وفاة هذا الزوج قبل الزفاف وكان قد عاشرها وحملت منه فلا شك أن مشكلات كثيرة ستقوم وتؤدي إلى نزاع وخصام. وهنالك احتمال أن يقع سوء تفاهم بينهما وقد يصل الأمر إلى الفراق بالطلاق أو غيره فحينئذ ستكون الفتاة في موقف صعب جداً وكذلك إذا تم الزفاف وكانت العلاقة الجنسية قد تمت قبله فقد يطعن الزوج في عفاف زوجته وهذا يوقع الفتاة وأهلها في مشكلات عويصة.
والمرجع في المنع من هذه الأمور هو العرف الصحيح فإن المتعارف عليه بين الناس في بلادنا أن البنت ما دامت في بيت أبيها فإن حق الطاعة ثابت لأبيها لا للعاقد عليها وكذلك فإنها تستأذن أباها في الخروج من البيت فهو صاحب الأمر والنهي لا العاقد عليها وكذلك جرى العرف في بلادنا على أنه لا يجري بين العاقدين معاشرة جنسية إلا بعد الزفاف وكذلك فقد جرى العرف في بلادنا أن الأب هو الذي ينفق على البنت المعقود عليها ما دامت عند أبيها ولا يطالب العاقد بالإنفاق عليها إلا بعد الزفاف ويجب شرعاً مراعاة هذه الأعراف الصحيحة والتي لا تعارض الأحكام الشرعية فالعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبر عند أهل العلم. قال الإمام القرافي: [وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها] شرح تنقيح الفصول ص 488.
وقال الشيخ ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبار ... لذا عليه الحكم قد يدار
رسالة (نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112.
وقد قامت الأدلة الكثيرة على اعتبار العرف ووضع الفقهاء القواعد(10/469)
الفقهية في ذلك كما في قولهم: العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً واستعمال الناس حجة يجب العمل بها وغير ذلك.
[وسلطان العرف العملي كبير في أحكام الأفعال المعتادة والمعاملات المختلفة المتعلقة بحقوق الناس أو أحوالهم الشخصية أو القضاء أو الشهادات والعقوبات وغيرها ويعمل بالعرف ما لم يصادم نصاً شرعياً من القرآن أو السنة واضح الدلالة قطعياً أو نصاً تشريعياً كالقياس ويعتبر ما ثبت بالعرف حينئذ ثابتاً بالنص اتباعاً للقاعدة الشرعية الثابت بالعرف كالثابت بالنص أو الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي] نظرية العرف ص 48.
وقال العلامة ابن القيم: [وعلى هذا أبداً تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك] أعلام الموقعين 3/78.
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي أن العرف معتبر بشروط معينة فقد جاء في قرار المجمع ما يلي:
أولاً: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبراً شرعاً أو غير معتبر.
ثانياً: العرف، إن كان خاصاً، فهو معتبر عند أهله، وإن كان عاماً، فهو معتبر في حق الجميع.
ثالثاً: العرف المعتبر شرعاً هو ما استجمع الشروط الآتية:
أ. أن لا يخالف الشريعة فإن خالف العرفُ نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
ب. أن يكون العرف مطَّرداً (مستمراً) أو غالباً.
ج. أن يكون العرف قائماً عند إنشاء التصرف.
د.(10/470)
أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به.
رابعاً: ليس للفقيه - مفتياً كان أو قاضياً - الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف] مجلة مجمع الفقه الإسلامي، عدد 5، جزء 4، ص2921.
ويضاف إلى ما سبق أن المحاكم الشرعية في بلادنا تأخذ بهذه الأعراف الصحيحة فلا تثبت حق الطاعة للزوج ما لم يقم الزوج بما يجب القيام عليه لإتمام الزفاف وتهيئة أسبابه حسب العادة والعرف كما ورد ذلك في القرارات القضائية في الأحوال الشخصية ص 195 قرار رقم 24399.
وخلاصة الأمر أن المرأة المعقود عليها ما دامت باقية في بيت أبيها فإن طاعتها واجبة لأبيها لا لزوجها وكذلك فإنها تستأذن أباها في الخروج من البيت لا زوجها وكذلك تمنع المعاشرة الجنسية بين العاقدين قبل الزفاف.(10/471)
متفرقات(10/473)
حديث السبعة الذين لا يظلهم الله بظله يوم القيامة غير ثابت
يقول السائل: سمعت حديثاً من خطيب الجمعة ورد فيه: (سبعة لا يظلهم الله بظله يوم القيامة الفاعل والمفعول به, والناكح يده, وناكح البهيمة, وناكح المرأة في دبرها, وجامع بين المرأة وابنتها, والزاني بحليلة جاره, والمؤذي لجاره حتى يلعنه) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفيدونا؟
الجواب: بعد البحث والتقصي فيما بين يدي من المصادر والمراجع لم أعثر على الحديث باللفظ المذكور ولكن وجدت الحديث بلفظ آخر ونصه (عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبعة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العالمين، يدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، إلا أن يتوبوا، إلا أن يتوبوا، فمن تاب، تاب الله عليه، الناكح يده، والفاعل والمفعول به، والمدمن الخمر، والضارب أبويه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره) رواه البيهقي في شعب الإيمان 4/378. وقال: تفرد به مسلمة بن جعفر. وقال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته. تفسير ابن كثير 4/467، وضعفه الحافظ ابن كثير أيضاً في موضع آخر لضعف راويين فيه. تفسير ابن كثير1/528. وضعفه أيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني كما في التلخيص(10/475)
الحبير 3/188. وورد الحديث بلفظ آخر (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ويقول ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول به, والناكح يده, وناكح البهيمة, وناكح المرأة في دبرها, وجامع بين المرأة وابنتها, والزاني بحليلة جاره, والمؤذي لجاره حتى يلعنه) وقد ضعفه العلامة الألباني بقوله: وهذا إسناد ضعيف من أجل ابن لهيعة وشيخه الإفريقي فإنهما ضعيفان ... ) السلسلة الضعيفة حديث رقم 319.
وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور في السؤال حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ولكن وردت أدلة ثابتة في تحريم الأمور المذكورة فيه أذكر طائفة منها على سبيل المثال لا الحصر لغاية سيأتي ذكرها لاحقاً.
فمما ورد في تحريم اللواط: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني في إرواء الغليل 8/17.
وأما تحريم الاستمناء فيحتج له بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} سورة المؤمنون الآيات 5-7. وبهذه الآيات استدل الإمامان مالك والشافعي وغيرهما على تحريم الاستمناء.
وذكر العلامة محمد أمين الشنقيطي أنه استدلال صحيح بكتاب الله. تفسير أضواء البيان5/525.
وورد في الوقوع على البهيمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما وهو حديث حسن صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/75.
وأما إتيان المرأة في دبرها فهو من المحرمات فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أتى حائضاً أو امرأةً في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما(10/476)
أنزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/44.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ملعون من أتى امرأته في دبرها) رواه أبو داود وغيره وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/406. وأما الجمع بين المرأة وابنتها فهو من المحرمات فقد قال تعالى عند ذكر المحرمات من النساء {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} سورة النساء الآية 23.
وأما الزنى بزوجة الجار فهو من كبائر الذنوب كما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم (قال عبد الله - رضي الله عنه -: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك) . فأنزل الله عز وجل تصديقها {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} سورة الفرقان الآية 68.
وكذلك فإن إيذاء الجار من المحرمات فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) رواه مسلم.
وقد أوردت الأدلة السابقة لأبين أن في الصحيح من الأدلة ما يغني(10/477)
عن الاستدلال بالضعيف على خلاف ما يفعله بعض الخطباء والمدرسين الذين لا يهتمون بمعرفة درجة الأحاديث التي يذكرونها في خطبهم ودروسهم مع أن ذلك واجب عليهم لأن المصلين يتلقون كلامهم ويسمعونه ومعظم المصلين لا يعرفون شيئاً عن الحكم على الأحاديث وأن هنالك أحاديث باطلة وأخرى مكذوبة وأخرى ضعيفة.
إن واجب كل من يتصدى للتدريس أو الخطابة أو الوعظ أو التأليف أن يكون على بينة وبصيرة من الأحاديث التي يذكرها وينسبها إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن الكذب على الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس كالكذب على غيره فقد صح في الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من كذب عليَّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهو حديث صحيح متواتر رواه البخاري ومسلم.
فإن هؤلاء الخطباء والوعاظ وإن لم يتعمدوا الكذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مباشرة فقد ارتكبوه تبعاً لنقلهم الأحاديث التي يقفون عليها وهم يعلمون أن فيها ما هو ضعيف وما هو مكذوب قطعاً دون أن يبينوا.
قال ابن حبان في صحيحه: فصل: (ذكر أسباب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو غير عالم بصحته) ثم ساق بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وسنده حسن وأصله في الصحيحين بنحوه. ثم ذكر حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حدّث بحديث يُرى - بضم الياء- أنه كذب فهو أحد الكاذبين) رواه مسلم
يتبين من هذه الأحاديث أنه لا يجوز نشر الأحاديث وروايتها دون التثبت من صحتها ومن فعل ذلك فهو حسبه من الكذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القائل: (إن كذباً عليّ ليس كالكذب على أحد فمن كذب عليّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه مسلم. ولو قلنا بأنه يجوز التساهل في الترغيب والترهيب ولكن لا يجوز أن يصل الأمر إلى ذكر الأحاديث الباطلة والمكذوبة وإنما العلماء تساهلوا بذكر الأحاديث الضعيفة في باب الترغيب والترهيب ولكنهم بينوا أسانيدها.(10/478)
قال الحافظ ابن الصلاح: [ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع -أي المكذوب- من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد] علوم الحديث ص 113.
وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور في السؤال حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به وأن في الأدلة الصحيحة ما يغني عنه فعلى الخطباء والوعاظ أن يكتفوا بالصحيح وأن يبتعدوا عن الواهي والضعيف لأنهم قد يدخلون في دائرة الكذب على سيدنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
شهادة البدوي على الحضري
يقول السائل: إنه قرأ حديثاً عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورد فيه أنه لا تجوز شهادة بدوي على حضري فهل هذا الحديث ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن الأصل في الشاهد العدالة وأن يكون مرضياً كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} سورة الطلاق الآية 2. وقال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} سورة البقرة الآية282. بالإضافة إلى الشروط الأخرى للشاهد التي ذكرها الفقهاء والعدالة في الأصل لا ارتباط لها بمكان إقامة الشاهد سواء أكان في البادية أو الحاضرة قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام ... ] المغني 10/148.
وأما الحديث الذي أشار إليه السائل فقد رواه أبو داود بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ورواه أيضاً ابن ماجة والحاكم والبيهقي وقال الحافظ ابن دقيق(10/479)
العيد: ورجاله إلى منتهاه رجال الصحيح. الإلمام بأحاديث الأحكام ص520. وصححه العلامة الألباني كما في إرواء الغليل 8/290.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذا الحديث فقال جماعة من العلماء إن المقصود بالحديث هو رد شهادة البدوي مجهول العدالة وأما إذا كان عدلاً فتقبل شهادته.
قال أبو بكر اِلْجَصَّاصِ: [وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ هِيَ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ ... قَالَ أَبُو بَكْرٍ - الجصاص-: جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ شَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ وَالْبَدْوِيِّ; لِأَنَّ الْخِطَابَ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} وَهَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يَعْنِي مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَحْرَارِ, وَهَذِهِ صِفَةُ هَؤُلَاءِ, ثُمَّ قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَإِذَا كَانُوا عُدُولاً فَهُمْ مَرْضِيُّونَ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي شَأْنِ الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَهَذِهِ الصِّفَةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ إذَا كَانُوا عُدُولاً, وَفِي تَخْصِيصِ الْقَرَوِيِّ بِهَا دُونَ الْبَدْوِيِّ تَرْكُ الْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ; وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ مُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَبِقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْبَدْوِيِّ عَلَى بَدْوِيٍّ مِثْلِهِ عَلَى شَرْطِ الْآيَةِ. وَإِذَا كَانُوا مُرَادِينَ بِالْآيَةِ فَقَدْ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْقَرَوِيِّ مِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ, وَمِنْ حَيْثُ اقْتَضَتْ جَوَازَ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً عند ذكره حديث غدير خم مرجعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حجة الوداع، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب فيه خطبة وصَّى فيها بإتباع كتاب الله، ووصَّى فيها بأهل بيته، كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك، حتى زعموا أنه عهد إلى علي - رضي الله عنه - بالخلافة بالنص الجلي، بعد أن فرش له، وأقعده على فراش عالية، وذكروا كلاماً وعملاً قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء، وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص، وغصبوا الوصي حقه، وفسَّقوا وكفَّرُوا إلا نفراً قليلاً.] اقتضاء الصراط المستقيم 1/293.
وقال الشيخ ابن كثير: [وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء من أنه أوصى - أي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى علي بالخلافة فكذب وبهت وافتراء عظيم، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك تنفيذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه وصرفهم إياها إلى غيره لا لمعنى ولا لسبب] البداية والنهاية 7/225.
وخلاصة الأمر أن حديث الغدير صحيح ولكن ادعاء الشيعة بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى لعلي - رضي الله عنه - بالخلافة كذب وافتراء.
تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى(10/480)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ظاهر كلام الخرقي أن شهادة البدوي على من هو من أهل القرية وشهادة أهل القرية على البدوي، صحيحة إذا اجتمعت هذه الشروط وهو قول ابن سيرين وأبي حنيفة والشافعي، وأبي ثور واختاره أبو الخطاب، وقال الإمام أحمد: أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية فيحتمل هذا أن لا تقبل شهادته وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد. وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح, وكقول الباقين في الجراح احتياطاً للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ولأنه متهم حيث عدل عن أن يشهد قروياً وأشهد بدوياً قال أبو عبيد: ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله تعالى والجفاء في الدين. ولنا: أن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت شهادته على أهل القرية كأهل القرى ويحمل الحديث على من(10/481)
لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم فيعرف عدالته] المغني 10/147-148.
وأما الذين لم يجيزوا شهادة البدوي على الحضري فيرون أن لذلك أسباباً منها أنه يغلب على أهل البادية الجهل بأحكام الدين عامة والشهادة خاصة قال الإمام الخطابي: [يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ويغيرها عن وجهها] معالم السنن 4/157.
ويرى بعض أهل العلم أن رد شهادة البدوي على الحضري يعود لمكان التهمة في ترك إشهاد الحضري وإشهاد البدوي مكانه قال ابن العربي المالكي: [ ... إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَاضَرَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ; فَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ, وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ, وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ, فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ, وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ; وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ, وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ, لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَة, وَتِلْكَ رِيبَةٌ; إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحاً لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ, فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ, وَتُوجِبُ الرَّدَّ] أحكام القرآن 2/1006.
وقال الدسوقي المالكي: [وحاصله أن تحمل الشاهد الشهادة إذا استبعده العقل أي استغربه أي نسبه للبعد والغرابة كان ذلك مبطلاً للشهادة عند أدائها. قوله: (كبدوي يستشهد) أي يطلب منه تحمل الشهادة في الحضر لحضري أو لبدوي على حضري أو على بدوي بدين أو بيع أو شراء ونحوهما مما يقصد الإشهاد عليه من سائر عقود المعاوضة ونحو الوصية والعتق والتدبير، فإذا طلب من البدوي تحمل الشهادة بشيء من ذلك في الحاضرة فلا تقبل منه إذا أداها، وذلك لأن ترك إشهاد الحضري وطلب البدوي لتحمل تلك الشهادة فيه ريبة لأن العقل يستبعد ويستغرب إحضار(10/482)
البدوي لتحمل الشهادة دون الحضري، وأما لو تحمل البدوي الشهادة في الحضر لحضري أو بدوي على حضري أو بدوي بحرابة أو قتل أو قذف أو جرح أو شبه ذلك كغصب وضرب وأداها، فإنها تقبل منه لعدم الاستبعاد في تحملها] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/175.
وخلاصة الأمر أن الحديث المشار إليه في السؤال حديث صحيح ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن الحديث محمول على من لم تثبت عدالته من البدو حيث إن القاعدة عند المحققين من أهل العلم أن الأصل في الناس الجهالة لا العدالة. فإن ثبتت عدالة البدوي فشهادته مقبولة ولا فرق بينه وبين الحضري وهذا هو المتفق مع قواعد الشرع العامة التي لا تفرق بين الناس بناءً على اختلاف موطنهم.
تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى(10/483)
يسألونك
الجزء الحادي عشر
تأليف
الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
منسق ماجستير الفقه والتشريع
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس(11/1)
بسم الله الرحمن الرحيم(11/3)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} سورة آل عمران الآية 102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء الآية 1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب الآيتان 70-71.
[أما بعد فإن أولى ما يتنافس به المتنافسون، وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون، ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلاً، وعلى طريق هذه السعادة دليلاً، وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما، ولا نجاة له إلا بالتعلق بسببهما، فمن رزقهما فقد فاز وغنم، ومن حرمهما فالخير كله حرم، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم، وبهما يتميز البار من الفاجر والتقي من الغوي، والظالم من المظلوم، ولما كان العلم للعمل قريناً وشافعاً، وشرفه لشرف معلومه تابعاً، كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد، ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين، وتلقي هذين العلمين، إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته، وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى; {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .
ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقي(11/5)
بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالاً، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سنداً صحيحاً عالياً، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وقد
عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] ، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14] .
ثم جاءت الأئمة من بعدهم، فسلكوا على آثارهم اقتصاصاً، واقتبسوا هذا الأمر من مشكاتهم اقتباساً، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأياً أو معقولاً أو تقليداً أو قياساً، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بِأُخْذَتِه طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهاناً، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها(11/6)
برأي أو قياس ... ] اقتباس من مقدمة إعلام الموقعين للعلامة ابن القيم رحمة الله عليه بتصرف يسير.
قلت هكذا كان الأئمة الأعلام يقتدون في العلم بمن سلف، ويبنون على ما ورثوه من السلف، فإن العلم ميراث كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديث صحيح، صححه
العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. فالعالم الحق هو من يبني على ما ورثه من العلم، فيزيد لبنة في بناء العلم، والجاهل من يهدم ما بناه أهل العلم زاعماً أنه من أهل التجديد، فيأتي بالغرائب والعجائب، ويشغل العامة بأقوال شاذة وأفكار غربية، ليس لها زمام ولا خطام، ولا يُبنى عليها عمل، العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، وشُغله الشاغل الطعن في ميراث العلماء، والوقيعةُ في سلف الأمة، ورميهم بالجهل تارةً، وبعدم الفهم والسذاجة تارةً أخرى، وكل هذا باسم حرية التفكير، وبحجة كم ترك الأول للآخر، وبحجج أخرى هي أوهى من بيت العنكبوت، ولا شك أن هذا من علامات أهل البدع والضلال، وهؤلاء ينبغي أن يصنفوا مع قطاع الطريق، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وأما منهج الصالحين من العلماء فهو ما قرره العلامة ابن القيم رحمة الله عليه، فهو المنهج الذي يُقتدى به {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، وما أحسن ما قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمة الله عليه: [أما فقهاء أهلِ الحديث العاملون به؛ فإن معظم همهم البحثُ عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة… ثم التفقه فيها وفهمها… ومسائل الحلال والحرام وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك ... وفي معرفة هذا شُغلٌ شاغلٌ عن التشاغُل بما أُحدث من الرأي ما لا يُنَتَفع به وما لا يقع؛ وإنما يورث لتجادلُ فيه الخصومات والجدالَ وكثرَة القيل والقال!] جامع العلوم والحكَم ص 124.(11/7)
وقد رغبت أن أقدم بهذه المقدمة، لما رأيت من شذاذ الآفاق، من المتسورين على العلم الشرعي في بلادنا، الذين لا يرقبون في عالم من علمائنا إلاً ولا ذمة، فلم يُبقوا أحداً من سلفنا إلا طعنوه، ولا كتاباً من تراثنا إلا غمزوه، ولا قولاً مقبولاً ومسلَّماً عند سلفناً إلا نقضوه، وواجبنا أن نحذر الناس منهم، وأن نكشف ضلالاتهم وانحرافاتهم وترهاتهم، ونبين للناس (أن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، كما قال محمد بن سيرين، من أئمة التابعين، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن قال فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وختاماً فهذا هو الجزء الحادي عشر من كتابي يسألونك وأصله حلقات تنشر صباح كل يوم جمعة في جريدة القدس المقدسية، وقد سلكت فيه المنهج الذي سلكته في الأجزاء السابقة، من اعتماد على كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى فهم سلف هذه الأمة، فإن أصبت فذلك الفضل من الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأختم بما قاله القاضي البيساني رحمه الله: [إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه، إلا قال في غده لو غُير هذا لكان أحسن، ولو زِيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر] .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
أبوديس/ القدس المحتلة
صباح يوم الخميس الرابع عشر من شعبان 1427 هـ
وفق السابع من أيلول 2006 م.(11/8)
العقيدة والتفسير(11/9)
استعمال مصطلح العقيدة
يقول السائل: ما قولكم فيمن يقول إنه لا يجوز شرعاً استعمال كلمة عقيدة، لأنها لم ترد في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول إن كلمة عقيدة فرية وأن الاستمرار على استعمال كلمة العقيدة فيه حرمانية!! ومن يستعملها يكون من الذين يناصبون كتاب الله العداء، لأن استعمال كلمة العقيدة من تبديل كلام الله، والواجب استعمال كلمة ملة بدلاً من كلمة عقيدة، فما قولكم في هذه المقالة، أفيدونا؟
الجواب: إن هذه المقولة الظالمة فيها الخلط والخبط كخبط عشواءَ والافتراء على دين الله عز وجل وعلى علماء الأمة وقبل أن أكشف عوارها أقول: إن مما ابتليت به الأمة المسلمة في زماننا هذا كثرة المتسورين على حمى العلم الشرعي من أشباه طلبة العلم الذين يظنون أنهم بلغوا رتبة الاجتهاد وصاروا كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، بل إنهم قد يخطئون هؤلاء الأئمة الكبار وبعض هؤلاء المتعالمين لا يحسن ألف باء العلم الشرعي!!
وإن من مصائب الأمة الإسلامية في هذا الزمان أن يتكلم في مسائل العلم الشرعي أشباه طلبة العلم الذين إن قرأ الواحد منهم كتاباً أو كتابين ظن نفسه من كبار العلماء ومن أهل الاجتهاد المطلق فيجعل من نفسه حكماً يحكم بين العلماء فيرد عليهم ويصحح ويخطيء كما يشاء ويهوى من دون سند ولا أثارة من علم، وهذا مع الأسف نشاهده ونسمعه باستمرار. قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء: [إنما نحترمك ما احترمت الأئمة] . أيها الناس تأدبوا مع العلماء، واعرفوا لهم مكانتهم، فما فاز من فاز إلا بالأدب، وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب. واعلموا أن الأمة لا تحترم ولا تقدر إلا من يحترم العلماء والأئمة. إذا تقرر هذا فأبين فساد تلكم المقولة الفجة فيما يلي:(11/11)
أولاً: صحيح أن كلمة عقيدة لم ترد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن عدم ورودها فيهما لا يعني منع استعمالها، بل تحريم استعمالها كما زعم صاحب المقولة، فكم من كلمات واصطلاحات استعملها العلماء في كتبهم وكلامهم ليس لها ذكر في الكتاب ولا في السنة، وصغار طلبة العلم يعرفون ذلك فضلاً عن العلماء، وقديماً قال العلماء العبارة المشهورة (لا مشاحة في الاصطلاح) انظر تاج العروس 4/102، فما زال العلماء يضعون الاصطلاحات في كل علم وفن من غير نكير من أحد، قال العلامة ابن القيم [والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة] مدارج السالكين 3/306. ومن قال إن كل لفظ أو اصطلاح نستعمله لا بد وأن يكون وارداً في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالكتاب والسنة ليسا من المعاجم اللغوية التي استوعبت الألفاظ العربية، قال المحقق القدير الشيخ محمود شاكر رحمة الله عليه في رسالته (مداخل إعجاز القرآن) : [والألفاظ التي تستقر في اللغة استقراراً شاملاً مستفيضاً، يكون من الجهل والتهور محاولة انتزاعها وإسقاطها من أقلام الكتاب، ومن كتب العلماء قديماً وحديثاً] . وقال الشيخ أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري: [من القصور في التأصيل العلمي التماس كل معنى عربي، ودعك من الاصطلاح الحاصل بعد التنزيل في كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ورده لغة أو شرعاً إذا لم يوجد فيهما، لأن المعجم العربي المدون مليء بمئات المفردات والمعاني العربية التي لم ترد في الوحيين، وما في ذلك من عجب، لأن الوحيين ليسا معجماً لغوياً، وإنما هما تعبير عما أذن الله بإبلاغه شرعاً بلغة عربية مبينة من مجموع لغة العرب] عن مقال بصحيفة الجزيرة السعودية على شبكة الإنترنت.
وقد ألف عدد كبير من العلماء في اصطلاحات العلوم المختلفة فمن هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر: مفاتيح العلوم للخوارزمي، والتعريفات للجرجاني، وكشاف(11/12)
اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي، والكليات لأبي البقاء الكفوي، وجامع العلوم في اصطلاحات الفنون المعروف بدستور العلماء للقاضي عبد رب النبي الأحمد نكري، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي، وغيرها من معاجم المصطلحات، وقد ذكر د. بكر أبو زيد أكثر من خمسين كتاباً منها، انظر فقه النوازل 1/111 - 118. وإذا استعرضنا كتاباً واحداً من هذه الكتب لوجدنا اصطلاحات كثيرة جداً في الفقه وأصول الفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة وغيرها ليست في الكتاب ولا في السنة ومع ذلك استعملها العلماء على مر العصور والأيام من غير نكير.
ثانياً: إن الزعم بأن من يستعمل كلمة عقيدة يكون مناصباً العداء لكتاب الله، افتراء عظيم على كتاب الله وعلى أهل العلم الذين استعملوا كلمة عقيدة وما زالوا يستعملونها، وأين الدليل على العداء لكتاب الله في استعمال كلمة عقيدة؟ ومن المعلوم أن عدداً كبيراً من علماء الأمة قديماً وحديثاً استعملوا كلمة عقيدة، بل إن كثيراً من مصنفات أهل العلم حملت اسم العقيدة أو الاعتقاد أو المعتقد وهذه بعض الأمثلة: العقيدة الطحاوية لأبي جعفر الطحاوي، أصل السنة واعتقاد الدين لابن أبي حاتم الرازي، اعتقاد أئمة الحديث لأبي بكر الاسماعيلي، اعتقاد أهل السنة والجماعة للهكاري، اعتقاد الشافعي لعبد الغني المقدسي، العقائد النسفية للإمام النسفي، عقيدة أهل الأثر للمواهبي، المعتقد للأصبهاني، العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، عقيدة السلف لأبي عثمان الصابوني، لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي، الاعتقادات للقابسي، شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي، الاعتقاد للبيهقي، تطهير الاعتقاد للصنعاني ويضاف إلى ذلك المئات من مؤلفات العلماء المعاصرين في العقيدة.
فهل كل هؤلاء العلماء الذين ذكرتهم ومن لم أذكرهم يناصبون كتاب الله العداء؟!! وهل كل هؤلاء العلماء الذين ذكرتهم ومن لم أذكرهم مفترون على الله لأنهم استعملوا(11/13)
كلمة عقيدة، وهي فرية كما زعم القائل؟!! ويضاف إلى ذلك أن كل الكليات الشرعية في العالم الإسلامي تدرس طلبتها مساقات العقيدة وفي هذه الكليات ما لا يحصى من أهل العلم، فهل كل هؤلاء يناصبون كتاب الله العداء؟!! {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} .
ثالثاً: إن قضية التحليل والتحريم من أخطر القضايا الشرعية، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) سورة النحل الآية 116. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول ويصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه] تفسير القرطبي 10/196. وقال الشوكاني: [وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة - هو المنذر بن مالك من التابعين - قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) إلى آخر الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قلت - القائل الشوكاني -: صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل: كبهيمةٍ عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الجائر] تفسير فتح القدير 3/201. وقال الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) سورة يونس الآية 59.(11/14)
وأود أن أطلب من هذا القائل بتحريم استعمال كلمة عقيدة، أن يأتينا بدليل التحريم من الكتاب أو من السنة؟ ولن يستطيع إلى ذلك سبيلاً. ومن جهة أخرى لو سلمنا جدلاً أن المسألة محل خلاف بين أهل العلم - وليست كذلك- فلا إنكار في مسائل الخلاف المعتبر.
رابعاً: زعم القائل بأن استعمال كلمة عقيدة تبديل لكلام الله {ولا مبدل لكلمات الله} !! فهذا قول ظاهر البطلان بل هو من أعظم الفرية على الله تعالى والكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأي تبديل لكلام الله في استعمال كلمة عقيدة، وهل هذا هو المراد بتبديل كلام الله؟ إن هذا الاستدلال من أبطل الباطل، وهو من تحميل النصوص ما لا تحتمل.
وخلاصة الأمر أنه لا حرج في استعمال كلمة عقيدة ومن قال بتحريم ذلك فقد أعظم الفرية على دين الإسلام.
حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على الأمة المسلمة
يقول السائل: كما تعلمون فإن هنالك هجمة شرسة على رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في بعض الدول الأوربية وغيرها وتمثل ذلك بنشر الرسوم الكاريكاتورية التي تسيء لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطلوب أن تبينوا لنا حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على الأمة المسلمة؟
الجواب: هذه الهجمة الشرسة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست جديدة فطالما تكررت منذ بعثته صلى الله عليه وسلم وحتى عصرنا الحاضر فقد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم للأذى حال حياته كما ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية وذكرته كتب السير أيضاً. قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ(11/15)
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ... أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} سورة التوبة الآيات61-63.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} سورة الأحزاب الآية 57.
وقال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} سورة التوبة الآيات 64-66.
وعن ابن مسعود قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه قال فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا، دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً ثم قال اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وذكر السابع ولم أحفظه فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر) رواه مسلم.(11/16)
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رجل نصرانياً فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانياً فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له فأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه) رواه البخاري وغير ذلك من النصوص.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على المسلمين أن يتصدوا لهذه الهجمة الحاقدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام وأن يدافعوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن دينهم بمختلف الوسائل المتاحة ومنها مقاطعة منتجات الدول التي صدرت تلكم الإساءات في صحفها وأجهزة إعلامها.
وأما حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم علينا فهي كثيرة فأول حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم وجوب الإيمان به فمن المعلوم أن الشهادتين هما الركن الأول من أركان الإسلام والشطر الثاني منها هو الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك فإن من أركان الإيمان: الإيمان بالرسل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم داخل في ذلك. ويدخل تحت ذلك الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى العالمين والإيمان بكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات. والإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع.
والإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} سورة الأحزاب الآية 40.
وقال تعالى في حق من لم يؤمن: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ(11/17)
سَعِيراً} سورة الفتح الآية 13.
وأما الحق الثاني له فهو طاعته صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} سورة آل عمران الآية 132.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} سورة النساء الآيات 13-14.
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} سورة آل عمران الآية 32.
وأما الحق الثالث فهو محبته صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سورة التوبة الآية 24.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} سورة البقرة الآية 165.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة آل عمران الآية 31.
وورد في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك) . فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر) رواه البخاري.(11/18)
وقال صلى الله عليه وسلم: (لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين) رواه مسلم.
ومن محبته صلى الله عليه وسلم الانتصار له والمحاماة عنه، ومعاداة من عاداه، قال تعالى: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} سورة الحشر الآية 8.
ومن محبته صلى الله عليه وسلم محبة من أحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم كحب آله ومحبة أصحابه فإن من أصول أهل السنة والجماعة محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظون فيهم وصية رسول صلى الله عليه وسلم فيهم وكذا محبة أصحابه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 3/ 152- 153.
ويجب أن يعلم أن المحبة الصادقة للرسول صلى الله عليه وسلم تكون في اتباعه صلى الله عليه وسلم.
وأما الحق الرابع فهو وجوب الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} سورة النجم الآيتان 2-3.
وأما الحق الخامس فهو وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} سورة الفتح الآية رقم 9، قال ابن عباس: {وَتُوَقِّرُوهُ} يعني التعظيم".
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ(11/19)
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} سورة الحجرات الآية 2.
ويدخل في ذلك تعظيم الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته.
وأما الحق السادس فهو الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} سورة الأحزاب الآية 56، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى عليَّ واحدةً صلى الله عليه عشراً) رواه مسلم. وأما الحق السابع فهو وجوب التحاكم إليه والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} سورة النساء الآية 59، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} سورة النساء الآية 65.
ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم. وأخيراً لا بد من التنبيه على بعض الأمور الهامة: فمنها أن هؤلاء الذين يسبون محمداً صلى الله عليه وسلم الآن، قد سبوا الله جل وعلا من قبل بل ورد ذلك في كتبهم المقدسة بزعمهم فقد اتهموا الله عز وجل بأنه رب يأمر أحد أنبيائه بالزنا كما جاء في كتابهم المقدس: (أول ما كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب) . وقد وصفوا الله عز وجل بالجهل كما جاء على لسان رسولهم بولص (لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس) وغير ذلك كثير. ومنها ينبغي الاهتمام بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة وتدريسها للناس ولطلبة العلم في جميع مستوياتهم وأخذ العبر(11/20)
منها.
ومنها تربية الأبناء على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله.
ومنها التحذير من الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قد نهى عن الغلو {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} سورة المائدة الآية 77. وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف الآية 188.
ومنها أنه يحرم الاعتداء على من يعيشون في ديارنا من أهل تلك الدول التي نشرت فيها الإساءات للنبي صلى الله عليه وسلم.
وختاماً أنصح بقراءة كتب السيرة وخاصة ما كتب عن حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم من كتب ومقالات على شبكة الإنترنت ومن أحسنها رسالة علمية بعنوان [حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة تأليف د. محمد بن خليفة التميمي] .(11/21)
الدفاع عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاطعة الذين اعتدوا على مقامه الشريف
يقول السائل: على إثر الهجمة القذرة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتمثلة بنشر الرسوم الكاريكاتورية التي تسيء لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تداعى المسلمون إلى مقاطعة البضائع الدنماركية وقد سمعنا من يشكك في شرعية المقاطعة الاقتصادية فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن من أعظم واجبات الأمة المسلمة تجاه رسولها صلى الله عليه وسلم هي تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} سورة الفتح الآيتان رقم 8- 9، قال الشيخ ابن كثير: [ {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: تعظموه {وتوقروه} من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام.] تفسير ابن كثير 5/613.
ولا شك أن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه داخلة في تعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم وهذا من المقاصد المطلوبة شرعاً وبناءً على ذلك فكل وسيلة شرعية تؤدي إلى هذا المقصد الشريف مطلوبة لأن للوسائل أحكام المقاصد كما قرر أهل العلم، قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46.
وقال الإمام القرافي: [اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه(11/22)
من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما يتوسط متوسطة ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق 2/33، فالمقاطعة الاقتصادية لمنتجات الدول التي تهجم أتباعها على رسولنا صلى الله عليه وسلم وسيلة مشروعة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره. وخاصة أننا لمسنا استكبار قادة تلك الدول في رفضهم الاعتذار للمسلمين بل نقل عن بعضهم قوله إن اعتذار أي شخص دنمركي للمسلمين يعد خيانة للوطن.
ومما يدل على مشروعية المقاطعة الاقتصادية ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة؟ قال ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من(11/23)
المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم) زاد ابن هشام " ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم] فتح الباري 8/111.
وما قام به ثمامة بن أثال رضي الله عنه يعتبر نوعاً من المقاطعة الاقتصادية وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على تلك المقاطعة الاقتصادية واستمرت تلك المقاطعة إلى أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من ثمامة بن أثال وقفها، وفي ذلك قال الشاعر: ... وثمامةُ بن أَثالٍ الحنفيِّ قد ... نفض الغبار عن الحقيقة وابتهلْ
وأبى على الكفَّار حَبَّةَ حنطةٍ ... إلا إذا أَذِنَ الرسولُ وقد فَعَلْ
وينبغي التذكير بالمقاطعة التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه في مكة من كفار قريش فلجأوا إلى شعب أبي طالب، فقد روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله أين تنزل غداً في حجته قال وهل ترك لنا عقيل منزلاً ثم قال نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة المحصب حيث قاسمت قريش على الكفر وذلك أن بني كنانة حالفت قريشاً على بني هاشم أن لا يبايعوهم ولا يؤووهم قال(11/24)
الزهري والخيف الوادي.
ومما يدل على جواز المقاطعة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أثناء حصار بني النضير من محاربتهم اقتصادياً بقطع نخيلهم وتحريقه فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزلت {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} رواه البخاري ومسلم.
ومما يدل على جواز المقاطعة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بعد الهجرة النبوية بمحاربة قريش اقتصادياً فكانت غزوة العشيرة وغيرها من الغزوات وبعض السرايا التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيق ذلك الهدف ولا شك أن المقاطعة الاقتصادية داخلة في ذلك. قال الإمام البخاري [باب غزوة العشيرة أو العسيرة قال ابن إسحاق أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وذكر الواقدي أن هذه السفرات الثلاث كان يخرج فيها ليلتقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام ذهابا وإياباً ... وقد تقدم في - كتاب - العلم البيان عن سرية عبد الله بن جحش وأنه ومن معه لقوا ناساً من قريش راجعين بتجارة من الشام فقاتلوهم، واتفق وقوع ذلك في رجب، فقتلوا منهم وأسروا وأخذوا الذي كان معهم، وكان أول قتل وقع في الإسلام وأول مال غنم ... وذكر ابن سعد أن المطلوب في هذه الغزاة هي عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة ففاتتهم، وكانوا يترقبون رجوعها فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاها ليغنمها، فبسبب ذلك كانت وقعة بدر..] فتح الباري 7/347-349. وغير ذلك من الأدلة الكثيرة.
وخلاصة الأمر أن المقاطعة الاقتصادية وسيلة مشروعة للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم لردع المعتدين ولإجبار تلك الدول لتسن التشريعات التي تعاقب كل من(11/25)
يسيء إلى دين الإسلام، وعلى المسلمين كافة أن يسهموا في المقاطعة حتى تكون مؤثرة وقوية. ...
صيانة الأوراق المكتوب فيها ذكر الله عز وجل
يقول السائل: كيف نتعامل مع الصحف والمجلات والنشرات والأوراق التي يذكر فيها آيات من القرآن الكريم أو أسماء الله الحسنى وخاصة أننا نرى الشوارع والطرقات قد امتلأت بها أثناء فترة الدعاية للانتخابات فما قولكم أفيدونا؟
الجواب: إن تعظيم شعائر الله فريضة من فرائض الله يقول الله تعالى {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} سورة الحج الآية 30.
قال الإمام القرطبي [ {ومن يعظم شعائر الله} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم.... فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك ... ] تفسير القرطبي 12/56. ولا شك أن الآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى من شعائر الله التي يجب تعظيمها وقد ورد عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (عظموا القرآن) تفسير القرطبي 1/29.
وقال الإمام النووي: [أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه] التبيان في آداب حملة القرآن ص 108.
وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم التوراة ووضعها على الوسادة تكريماً لها كما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أتى نفر من يهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف - اسم واد بالمدينة - فأتاهم في بيت المدراس - هو البيت الذي يدرسون فيه - فقالوا يا أبا القاسم إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها ثم قال بالتوراة فأتي بها فنزع(11/26)
الوسادة من تحته فوضع التوراة عليها ثم قال آمنتُ بكِ وبمن أنزلك ثم قال ائتوني بأعلمكم فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/94، وفي صحيح سنن أبي داود 3/843. قال أبو الطيب الأبادي: [ (ووضع التوراة عليها) : أي على الوسادة والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم وضع التوراة على الوسادة تكريماً لها، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: آمنت بك وبمن أنزلك] عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/89. فإذا كان هذا تكريم النبي صلى الله عليه وسلم للتوراة فلا شك أن المصحف أولى بالتكريم.
ومما يؤسف له ما نراه في أيامنا هذه من امتهان للآيات القرآنية وكذا الأوراق التي فيها ذكر لله عز وجل حيث ترى كثيراً من الأوراق التي فيها ذكر الله تعالى وقد امتلأت بها الشوارع ويدوسها الناس بأقدامهم وكثير منها رمي في حاويات القمامة ويتعامل بعض الناس معها باستخفاف وامتهان وسأذكر بعض التصرفات المحرمة والمكروهة في هذا المجال والتي ينبغي للمسلم أن لا يفعلها:
فمنها رمي أوراق من المصحف والأوراق التي فيها ذكر لله عز وجل أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم في الطرقات والشوارع مما يعرضها للامتهان. ومنها اتخاذ الجرائد التي كتب فيها شيء من الآيات القرآنية كمفارش للطعام وكذا الأوراق التي فيها ذكر لله عز وجل أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها لف السلع بالجرائد التي كتب فيها شيء من الآيات القرآنية وكذا الأوراق التي فيها ذكر لله عز وجل أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها الجلوس على الجرائد التي كتب فيها شيء من الآيات القرآنية وكذا الأوراق التي فيها ذكر لله عز وجل أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها الصلاة على الجرائد التي كتب فيها شيء من الآيات القرآنية وكذا(11/27)
الأوراق التي فيها ذكر لله عز وجل أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها استعمال الجرائد التي كتب فيها شيء من الآيات القرآنية وكذا الأوراق التي فيها ذكر لله عز وجل أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم وسيلة للتنظيف ومسح السيارات بها ومن باب أولى حرمة استعمالها في إزالة النجاسات.
ومنها توسد المصحف أي اتخاذه وسادة وكذا الاتكاء عليه.
ومنها وضع الكتب فوق المصحف الشريف. بل يجب أن يكون المصحف فوقها جميعاً. ومنها دخول المرحاض بالمصحف أو أية أوراق فيها ذكر الله عز وجل أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن يمد الانسان رجليه باتجاه المصحف وكذا كتب العلم الشرعي.
ومنها لا يجوز أن يكتب شيء من القرآن على الملابس ولا يجوز أن تطرز الملابس بالآيات القرآنية.
ومنها لا يجوز كتابة آية من آيات القرآن الكريم كآية الكرسي على القطع الذهبية وخاصة تلك التي تستعملها النساء والأطفال.
ومنها لا يجوز كتابة لفظ الجلالة الله أو لفظ محمد صلى الله عليه وسلم على القطع الذهبية وخاصة تلك التي تستعملها النساء والأطفال أيضاً.
ومنها وضع المصحف الشريف مع الميت عند دفنه.
وهكذا الحكم في كل أمر يؤدي إلى امتهان آية من القرآن الكريم أو اسم من أسماء الله أو حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد نص أهل العلم على وجوب احترام المصحف والأوراق التي كتبت فيها الآيات القرآنية وكذا ما كتب فيه ذكر الله عز وجل، قال الإمام النووي [أجمع العلماء على(11/28)
وجوب صيانة المصحف واحترامه فلو ألقاه والعياذ بالله في قاذورة كفر] المجموع 2/73. وقال الإمام النووي أيضاً: [قال القاضي حسين وغيره لا يجوز توسد المصحف ولا غيره من كتب العلم قال القاضي إلا أن يخاف عليه السرقة فيجوز وهذا الاستثناء فيه نظر والصواب منعه في المصحف وان خاف السرقة] المجموع 2/70.
وقال الشيخ ابن حجر المكي الهيتمي: في جواب سؤال [هل يحرم دوس الورق أو الخرقة المكتوب عليها اسم الله واسم رسوله صلى الله عليه وسلم (فأجاب) بقوله: نعم يحرم دوس ذلك؛ لأن فيه إهانة له ... بل أولى وينبغي أن يلحق بذلك كل اسم معظم ... ] الفتاوى الفقهية الكبرى1/35.
وقال الشيخ المرداوي الحنبلي [أما دخول الخلاء بمصحف من غير حاجة فلا شك في تحريمه قطعاً، ولا يتوقف في هذا عاقل.] الإنصاف1/94.
وقال الشيخ ابن مفلح الحنبلي المقدسي: [ويكره توسد المصحف ذكره ابن تميم وذكره في الرعاية وقال بكر بن محمد كره أبو عبد الله أن يضع المصحف تحت رأسه فينام عليه قال القاضي: إنما كره ذلك لأن فيه ابتذالاً له ونقصاناً من حرمته فإنه يفعل به كما يفعل بالمتاع. واختار ابن حمدان التحريم وقطع به في المغني والشرح كما سيأتي في الفصل بعده، وكذا سائر كتب العلم إن كان فيها قرآن وإلا كره فقط وقال أحمد في رواية نعيم بن ناعم وسأله أيضع الرجل الكتب تحت رأسه؟ قال أي كتب؟ قلت كتب الحديث قال: إذا خاف أن تسرق فلا بأس وأما أن تتخذه وسادة فلا. وروى الخلال في الأخلاق عنه أنه كان في رحلته إلى الكوفة أو غيرها في بيت ليس فيه شيء وكان يضع تحت رأسه لبنة ويضع كتبه فوقها. وقال ابن عبد القوي في كتابه مجمع البحرين أنه يحرم الاتكاء على المصحف وعلى كتب الحديث وما فيه شيء من القرآن اتفاقا انتهى كلامه. ويقرب من ذلك مد الرجلين إلى شيء من ذلك وقال الحنفية يكره لما فيه من أسماء الله تعالى وإساءة الأدب قال أبو زكريا النووي رحمه الله أجمع(11/29)
المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته.] الآداب الشرعية 2/285-286.
وأخيراً أنبه إلى جواز حرق أوراق المصحف التالف أو دفنها في أرض طيبة طاهرة أو تمزيقها بواسطة فرّامات الورق المعروفة وقد روى البخاري عن عثمان رضي الله عنه أنه بعد أن نسخ المصاحف: (أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) . وروى أبو بكر بن أبي داود عن طاووس بإسناده: [أنه لم يكن يرى بأساً أن تحرق الكتب، وقال: إن الماء والنار خلق من خلق الله] وإسناده صحيح غاية المرام 2/122.
وخلاصة الأمر أنه يجب تعظيم واحترام كل ما كتب فيه كلام الله عز وجل أو ذكر الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في ذلك تعظيماً لشعائر الدين {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} .
حكم الاستهزاء بالصلاة وبالمصلين
يقول السائل: ما حكم الاستهزاء بالصلاة وحكم الاستهزاء بالمصلين؟
الجواب: الأصل في المسلم أنه معظم لشعائر الله عز وجل كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) سورة الحج الآية 32. قال الإمام القرطبي [ {ومن يعظم شعائر الله} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم.... فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك ... ] تفسير القرطبي 12/56.
وقد اتفق الفقهاء على كفر من استخف بالأحكام الشرعية من حيث كونها أحكاماً شرعية، مثل الاستخفاف بالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو الصيام، أو الاستخفاف بحدود الله كحد السرقة والزنى. الموسوعة الفقهية الكويتية 3/251.(11/30)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ومن سبَّ الله تعالى، كفر سواء كان مازحاً أو جاداً وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله، أو كتبه قال الله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} وينبغي أن لا يُكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك، فإنه إذا لم يُكتف ممن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة فممن سب الله تعالى أولى] المغني 9/28
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، يكفر به صاحبه بعد إيمانه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/273.
والاستهزاء بالإسلام وبشعائر الدين من أخلاق الكافرين والمنافقين قال الله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً} سورة الكهف الآية 56، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} سورة التوبة الآيتان 65-66. فهاتان الآيتان نزلتا في بعض المنافقين كما قال الشيخ ابن كثير رحمه الله: [قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال: (أبالله وآياته كنتم تستهزؤون؟ إلى قوله - كانوا مجرمين.. الخ] .
وذكر ابن كثير رحمه الله بعض الروايات الأخرى في سبب نزول الآيات: منها أن جماعة من المنافقين كانوا يسيرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى غزوة تبوك فقال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر- قتال الروم - كقتال(11/31)
العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين.. الخ.] تفسير ابن كثير 2 /367.
ولا شك أن الصلاة هي عمود الإسلام وهي ركن من أركان الإسلام فمن استهزأ بالصلاة فقد كفر وخرج من الدين يقول الله تعالى {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} سورة المائدة الآية 58. قال الإمام ابن العربي المالكي [كان المشركون واليهود والمنافقون إذا سمعوا النداء إلى الصلاة وقعوا في ذلك وسخروا منه ; فأخبر الله سبحانه بذلك عنهم، ... روي أن رجلاً من النصارى، وكان بالمدينة، إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله قال: حرق الكاذب، فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم، فتعلقت النار بالبيت فأحرقته، وأحرقت ذلك الكافر معه ; فكانت عبرة للخلق.] أحكام القرآن 2/634- 635.
ويجب أن يعلم أنه لا فرق بين أن يكون المستهزئ جاداً أو مازحاً هازلاً فإن أحكام الشرع محترمة لا يجوز اللعب بها لا في حال الجد ولا في حال المزاح والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} وهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إنهم كانوا يمزحون ويتكلمون كلاماً لا يقصدونه وإنما يتحدثون ليصرفوا عنهم عناء الطريق فأحكام الشرع لا يدخلها المزاح ولا الهزل بحال من الأحوال.
قال الإمام ابن العربي المالكي [لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً، وهو كيفما كان كفر ; فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل] أحكام القرآن 2/976.
وإن الاستهزاء بمن يلتزم بأحكام الشرع، هو استهزاء بالشرع ذاته، فمن يسخر ويستهزئ بمن يصلي يكون مستهزئاً بالصلاة وهذا كفر والعياذ بالله.
وقد سئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين عن حكم من يسخر بالملتزمين بدين(11/32)
الله ويستهزئ بهم؟
فأجاب بقوله: [هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق لأن الله قال عن المنافقين: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} . ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله، لكنهم على خطر عظيم، والواجب تشجيع من التزم بشريعة الله ومعونته، وتوجيهه إذا كان على نوع من الخطأ حتى يستقيم على الأمر المطلوب.] فتاوى العقيدة ص 197.
والواجب على المسلم أن يبتعد عن هؤلاء المستهزئين الذين سماهم الله تعالى في كتابه بالمجرمين فقال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين} سورة المطففين الآيات 29- 33.
والواجب على المسلم أيضاً أن يعرض عن هؤلاء المستهزئين وألا يجالسهم كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون * وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تُبسلَ نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} سورة الأنعام الآيات 67 - 70. ويخشى على من يستمر في مجالسة هؤلاء المستهزئين أن(11/33)
يتعرض لعقاب الله عز وجل كما قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} سورة النساء الآية 140.
وخلاصة الأمر أن الاستهزاء بالصلاة وبشعائر الدين بشكل عام يعتبر كفراً ناقضاً للإيمان ومخرجاً من الملة على أي شكل كان قال شيخ الإسلام ابن تيمية [الاستهزاء بالقلب والانتقاص يُنافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده، والاستهزاء باللسان يُنافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك] الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 370.
المصحف المطبوع بطريقة برايل للمكفوفين
يقول السائل: المصحف المطبوع بطريقة برايل للمكفوفين هل له حكم المصحف المعروف ولقد حاولنا السؤال عن هذه المسألة وكانت الإجابة تأتينا في اتجاهين الأول بأنه لا ينطبق عليه أحكام المصحف العادي لأنه لم يكتب بالرسم العثماني لذلك فهو يحمل حكم التفسير أو القرآن المترجم. والقول الثاني هو بما أن الكفيف يقرأ ما في هذا المصحف قراءة سليمة ودون إنقاص لأي معنى من معاني القرآن فإنه يحمل نفس الأحكام فما رأي فضيلتكم في ذلك وجزاكم الله كل الخير. جمعية أصدقاء الكفيف فلسطين.
الجواب: لا شك أن تعظيم كتاب الله أمر واجب في حق كل مسلم ومن وقر القرآن الكريم فقد وقر الله سبحانه وتعالى ومن استخف بالقرآن فقد استخف بالله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (عظموا القرآن) تفسير القرطبي 1/29.
وقال الإمام النووي: [أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه] التبيان في آداب حملة القرآن ص 108. وقد ذكر العلماء جملة من الآداب التي ينبغي للمسلم أن(11/34)
يتحلى بها عند التعامل مع القرآن الكريم. راجعها في كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي ففيه فوائد كثيرة.
إذا تقرر هذا فنعود لإجابة السؤال فأقول بعد تقليب أوجه النظر في هذه النازلة وتخريجها على قواعد الشرع المقررة فإني أرى أن المصحف المكتوب بطريقة (برايل) للمكفوفين يأخذ حكم المصحف من حيث وجوب تعظيمه وحرمة الاستخفاف به وكذا حرمة امتهانه لأنه مكتوب بحروف وإن كانت غير الحروف العربية إلا أنها حروف خاصة بالمكفوفين فلذا تراهم يقرأونه كما يقرأ المبصرون ويضاف إلى ذلك أنه لا يكتب في مصحف المكفوفين إلا كلام الله عز وجل ولا يكتب فيه تفسير أو شرح وكذلك فإنك لو سألت مكفوفاً بيده نسخة منه، عن هذا الذي في يده، لأجابك بأنه يحمل مصحفاً، فالأولى إلحاقه بالمصحف، وتعليل هذا الحكم أن الأصل في التعامل مع المصحف هو الاحترام والتقدير والمصحف المطبوع بطريقة برايل يسمى مصحفاً كما جاء في السؤال وإن كان ذلك خاص بالمكفوفين. وبناءً على اعتباره مصحفاً تثبت للمصحف المطبوع بطريقة برايل أحكام المصحف من حيث التأدب معه وحرمة امتهانه بأي شكل من الأشكال ولكن يجوز مسه لغير المتوضئ لأن الراجح من أقوال أهل العلم جواز مس المصحف لمن كان على غير طهارة وهو قول جماعة من أهل العلم كالمزني صاحب الشافعي وداود وابن حزم من أهل الظاهر والشوكاني وغيرهم، وإن كان مذهب أكثر أهل العلم هو المنع من ذلك، وقول المجيزين هذا قول قوي ولهم أدلتهم وأهمها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المؤمن لا ينجس) رواه البخاري ومسلم وفي رواية في صحيح البخاري (إن المسلم) .
وكذلك فإن هؤلاء العلماء قد أجابوا عن أدلة المانعين لمس المصحف إلا على طهارة كقوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} سورة الواقعة الآية 79، بأن الآية الكريمة ليست في محل النزاع لأن المراد بها اللوح المحفوظ والمطهرون هم الملائكة.(11/35)
كما احتج المانعون بما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يمس القرآن إلا طاهر) رواه الدارقطني ومالك والطبراني وغيرهم وقال عنه العلامة الألباني: [وجملة القول: أن الحديث طرقه كلها لا تخلو من ضعف، ولكنه ضعف يسير إذ ليس في شيء منها من اتهم بكذب، وإنما العلة الإرسال أو سوء الحفظ، ومن المقرر في علم المصطلح أن الطرق يقوي بعضها بعضاً إذا لم يكن فيها متهم كما قرره النووي في تقريبه ثم السيوطي في شرحه، وعليه فالنفس تطمئن لصحة هذا الحديث لا سيما وقد احتج به إمام السنة أحمد بن حنبل كما سبق، وصححه أيضاً صاحبه الإمام إسحق بن راهويه] إرواء الغليل 1/160-162.
وقد أجابوا عن الاستدلال بالحديث السابق بأن الصحيح أن كلمة طاهر لفظ مشترك يطلق على المؤمن وعلى الطاهر من الحدث الأكبر وعلى الطاهر من الحدث الأصغر وعلى من ليس على بدنه نجاسة وصرفه إلى واحدٍ من هذه المعاني يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك فلا يسلم الاحتجاج به على منع غير المتوضئ من مس المصحف قال الشوكاني [والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرًا ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة ... ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثاً أكبر أو أصغر فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملاً في معانيه فلا يعين حتى يبين. وقد دل الدليل ههنا أن المراد به غيره لحديث (المؤمن لا ينجس) ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحاً بلا مرجح وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه وفيه الخلاف ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح لوجود المانع وهو حديث (المؤمن لا ينجس) .
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي(11/36)
ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازاً ولا لغة صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائماً فلا يتناوله الحديث سواء كان جنباً أو حائضاً أو محدثاً أو على بدنه نجاسة] نيل الأوطار 1/243-244.
وبهذه المناسبة أود أن أذكر بعض الأشياء الحديثة التي لها تعلق بالمصحف: فمنها C D الأسطوانة المدمجة التي يسجل عليها القرآن الكريم فلا شك أن ما نسمعه من C D الأسطوانة المدمجة من الكلام بصوت القارىء هو القرآن الكريم ولكن هذه الأسطوانة المدمجة C D لا تأخذ نفس الحكم المتعلق بالقرآن الكريم من حيث أنه لا يجوز مسه إلا على طهارة كما هو مذهب أكثر أهل العلم بالنسبة لمس المصحف فيجوز مس C D الأسطوانة المدمجة لأن القرآن المخزن عليها ليس مخزناً بالحروف وإنما هو مخزن حسب النظام الثنائي الذي يعطي كل حرف شيفرة معينة والشيفرة مكونة من 8 خانات ... إلخ ما يقوله أهل الاختصاص. ومع أن هذه الإسطوانات لا تلحق بالمصحف إلا أني أرى أنه لا يجوز امتهانها ورميها في محال القاذورات وخاصة إذا كتب عليها كلام يشير إلى أنها تحتوي على القرآن الكريم كما هو معروف ومشاهد.
ومنها أيضاً الشريط المسجل فلا أرى إلحاقه بالمصحف لأن ما هو موجود عليه ليس حروفاً ولكنه عبارة عن حفظ صوت الآدمي عن طريق ترتيب اتجاه المجالات المغناطيسية، فلذا لا يأخذ حكم المصحف ولكن لا يجوز امتهانه ورميه في محال القاذورات وخاصة إذا كتب عليه كلام يشير إلى أنه يحتوي على القرآن الكريم كما هو معروف ومشاهد حيث يكتب على الأشرطة أسماء السور وأسماء القراء.
ومنها أيضاً أجهزة الهاتف المحمول التي يخزن عليها القرآن الكريم فلا تأخذ حكم المصحف من حيث أنه لا يجوز مسها إلا على طهارة كما هو مذهب أكثر أهل العلم(11/37)
بالنسبة لمس المصحف ولكنني أرى أنه إذا كانت كلمات القرآن ظاهرة على شاشتها فلا يجوز دخول الحمام بها لأن في ذلك نوع امتهان للمصحف. وأما إذا لم يكن شيء من القرآن مكتوب على شاشتها فلا بأس بدخول الحمام بها لأن ما فيها ليس حروف القرآن وإنما القرآن محفوظ فيها حسب النظام الثنائي الذي يعطي كل حرف شيفرة معينة والشيفرة مكونة من 8 خانات ... إلخ ما يقوله أهل الاختصاص مثلما سبق في الإسطوانات. وهذه المسألة أشبه بدخول الانسان الحافظ لكتاب الله للحمام مع أن القرآن الكريم في جوفه!
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية بمثل ذلك كما نقله د. عمر بن محمد السبيل رحمه الله حيث قال [إذا سجل القرآن الكريم على أشرطة بمختلف أنواعها كأشرطة الكاسيت أو الفيديو، أو أقراص الدسك التي تستخدم في الكمبيوتر، أو نحوها، فإنه يجوز مسها للمحدث حدثًا أكبر أو أصغر فيما يظهر، وذلك لأن هذه الأشرطة ونحوها لا تسمى مصحفًا، لأنه لا يمكن قراءة القرآن منها مباشرة، وإنما يستمع للقرآن منها، أو يقرأ بواسطة آلاتها الخاصة بتشغيلها، لذا فإن هذه الأشرطة لا تأخذ حكم القرآن الكريم في تحريم مسه على غير طهارة، وبهذا أفتى أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز دون أن يعللوا للحكم، ونص الفتوى: (لا حرج في حمل أو لمس الشريط المسجل عليه القرآن لمن عليه جنابة ونحوها وبالله التوفيق]
وخلاصة الأمر أن مصحف برايل الخاص بالمكفوفين يلحق بالمصحف في أحكامه من حيث صيانته واحترامه وحرمة امتهانه
وأما C D الأسطوانة المدمجة التي يسجل عليها القرآن الكريم فلا تلحق بالمصحف وكذا الشريط المسجل عليه القرآن الكريم ولا الهاتف المحمول المخزن عليه القرآن الكريم لا تلحق بالمصحف بشكل عام.(11/38)
المناهي اللفظية
يقول السائل: تجري على ألسنة الناس ألفاظ مثل قول بعضهم (خلي الله على جنب) ومثل (حل عن ربي) ومثل (بعرض الله) ومثل (بشرف الله) ومثل (يسعد الله) ومثل (الله والنبي يخلف) ونحوها من العبارات نرجو بيان حكم التلفظ بها.
الجواب: أرشدنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اختيار الألفاظ وانتقائها وأن نحفظ منطقنا من الزلل ومن استعمال كلمات في غير موضعها وألا نلقي الكلام على عواهنه قال العلامة ابن القيم [فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ كان يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأجملها، وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً ولا فظاً. وكان يكره أن يستعمل اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك وأن يستعمل اللفظ المهين المكروه في حق من ليس من أهله. فمن الأول منعه أن يقال للمنافق " يا سيدنا " وقال (فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل) ومنعه أن تسمى شجرة العنب كرماً، ومنعه تسمية أبي جهل بأبي الحكم وكذلك تغييره لاسم أبي الحكم من الصحابة بأبي شريح وقال (إن الله هو الحكم وإليه الحكم) ... ومن ذلك قوله (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان) وقال له رجل (ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً؟ قل ما شاء الله وحده) . وفي معنى هذا الشرك المنهي عنه قول من لا يتوقى الشرك: أنا بالله وبك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، ووالله وحياتك، وأمثال هذا من الألفاظ التي يجعل فيها قائلها المخلوق نداً للخالق وهي أشد منعاً وقبحاً من قوله ما شاء الله وشئت.] زاد المعاد في هدي خير العباد 2/352-353.
وحفظ المنطق أمر هام في دين الإسلام لما يترتب على الكلمة من أضرار وأخطار وقد صح(11/39)
في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (لا يلقي لها بالاً) ... أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئاً، وهو من نحو قوله تعالى (وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم) ... قوله (يهوى) ... قال عياض: المعنى ينزل فيها ساقطاً. وقد جاء بلفظ " ينزل بها في النار " لأن درجات النار إلى أسفل، فهو نزول سقوط] فتح الباري 11/377.
وصح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) رواه مسلم، قال الإمام النووي في شرح الحديث: [معناه لا يتدبرها ويفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة، وكالكلمة تقذف، أو معناه كالكلمة التي يترتب عليها إضرار مسلم ونحو ذلك. وهذا كله حث على حفظ اللسان كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه، فإن ظهرت مصلحته تكلم، وإلا أمسك] شرح النووي على صحيح مسلم 6/411.
وجاء في الحديث عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وقد سأل معاذ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي يدخله(11/40)
الجنة ويباعده من النار فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قال: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (كف عليك هذا) فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وبناءً على ما سبق فإن المسلم مطالب بأن يحاسب نفسه على كل كلمة ينطق بها وقد قال الله تعال {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} سورة قّ الآية 18.
إذا تقرر هذا فإن الألفاظ التي ذكرت في السؤال فيها إساءة الأدب مع الله عز وجل وقد عدد الشيخ بكر أبو زيد ما يجب تجنبه لئلا يساء الأدب مع الله سبحانه وتعالى فقال: [النهي عن كل لفظ فيه شرك بالله أو كفر به - سبحانه - أو يؤدِّي إلى أي منها. النهي عن دعاء غير الله تعالى. النهي عن الإلحاد في أسماء الله تعالى. النهي عن الاعتداء في الدعاء. النهي عن الاستسقاء بالأنواء. النهي عن القول على الله بلا علم. النهي عن الدعاء بالبلاء. النهي عن تعبيد الاسم لغير الله تعالى. النهي عن التسمي بأسماء الله تعالى التي اختص بها نفسه - سبحانه -. النهي عن الحلف بغير الله.] معجم المناهي اللفظية ص34-35.
ويضاف إلى العبارات التي ذكرت في السؤال عبارت أخرى يشتم منها سوء الأدب مع الله عز وجل منها: (الله ما بيسمع من ساكت) (الله يظلم اللي ظلمني) (يخلف على الله) (لو يحط إيده بيد الله ما بيفعل كذا وكذا) (عايف ربي) (لا حول الله يا رب) (لو ينزل ربنا ما بفعل كذا وكذا) (هو الله داري عنك) (فلان الله ما بيقدر عليه) (الله بيعطي اللوز للي ما لوش سنان) (الله موجود في كل مكان) فهذه العبارات ونحوها لا يجوز استعمالها ويخشى على قائلها أن ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) ،(11/41)
والمقام لا يتسع لتبيين ما في كل عبارة من هذه العبارات من إساءة الأدب مع الله ولكني أنصح بالرجوع إلى كتاب (معجم المناهي اللفظية) للعلامة الدكتور الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله ورعاه ومتعه بالصحة والعافية، وأنصح أيضاً بكتاب أخينا الشيخ محمد إبراهيم سرحان وعنوانه (ظاهرة الخطأ الكلامي في الأصول والفروع الشرعية) ففيهما خير كثير.
ولكني أنبه على عبارتين دارجتين: الأولى (الله والنبي يخلف) فهذه العبارة جعلت النبي صلى الله عليه وسلم في مقام مساوٍ لمقام الله عز وجل وهذا باطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً أن يملك ذلك لغيره كما ثبت في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني عبد مناف، لا أملك لكم من الله شيئاً، يا صفية يا عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله، لا أملك لك من الله شيئاً) فالصواب أن يقال (الله يخلف عليك) .
والعبارة الثانية وهي (الله موجود في كل مكان) فهذه العبارة فيها عقيدة فاسدة مناقضة لما عليه أهل السنة والجماعة حيث إن الله عز وجل في السماء قال الشيخ ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية [وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً: فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق، بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر، لأن الله يقول: {الرحمن على العرش استوى} وعرشه فوق سبع سماواته، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر.] شرح العقيدة الطحاوية ص322- 323.
وقال العلامة الألباني: [أما قول العامة وكثير من الخاصة: الله موجود في كل مكان، أو(11/42)
في كل الوجود، ويعنون بذاته، فهو ضلال، بل هو مأخوذ من القول بوحدة الوجود، الذي يقول به غلاة الصوفية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ويقول كبيرهم: كل ما تراه بعينك فهو الله! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً] سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/38.
وخلاصة الأمر أنه يجب التأدب مع الله عز وجل وأن نلتزم في ألفاظنا التي نستعملها في حق الله سبحانه وتعالى ما قرره أهل السنة والجماعة في ذلك كما قال الشيخ ابن أبي العز الحنفي: [وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون. فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، ونحو ذلك] شرح العقيدة الطحاوية ص239.(11/43)
الصلاة(11/45)
النفاس والاستحاضة
تقول السائلة: إذا أسقطت المرأة الحامل حملها بعد شهرين من الحمل فهل تعتبر نفساء لا تصلي ولا تصوم أم أنها تعتبر مستحاضة أفيدونا؟
الجواب: إذا أجهضت الحامل فأسقطت جنينها قبل انتهاء الحمل فإن كان تام الخلق فدمها دم نفاس فلا تصلي ولا تصوم حتى ينقطع دمها وهذا باتفاق الفقهاء وأما إذا كان غير تام الخلق فهو محل خلاف بين أهل العلم.
والذي عليه فقهاء الحنفية والحنابلة أن ما أسقطته المرأة إن استبان منه عضو كرأس ٍأو يدٍ أو رجلٍ فهي نفساء وإن لم يستبن منه عضو فهي مستحاضة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا رأت المرأة الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان، فهو نفاس. نص عليه - أي الإمام أحمد - وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة، فليس بنفاس.] المغني 1/253
وقال علاء الدين المرداوي: [يثبت حكم النفاس بوضع شيء فيه خلق الإنسان، على الصحيح من المذهب، ونص عليه، قال ابن تميم، وابن حمدان وغيرهما: ومدة تبيين خلق الإنسان غالباً ثلاثة أشهر، وقد قال المصنف في هذا الكتاب في باب العِدد: وأقل ما يتبين به الولد: واحد وثمانون يوماً، فلو وضعت علقة أو مضغة لا تخطيط فيها، لم يثبت لها بذلك حكم النفاس.] الإنصاف 1/387. وقال شمس الأئمة السرخسي: [فأما إذا أسقطت سقطاً، فإن كان قد استبان شيء من خلقه فهي نفساء فيما ترى من الدم بعد ذلك، وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا نفاس لها] المبسوط 3/213.
وأما الشافعية فيرون أن المرأة إذا أسقطت علقة أو مضغة فتعبر حينئذ نفساء، قال الإمام النووي: [ (فرع) قال أصحابنا لا يشترط في ثبوت حكم النفاس أن يكون الولد كامل الخلقة ولا حياً بل لو وضعت ميتاً أو لحماً تصور فيه صورة آدمي أو لم يتصور وقال القوابل إنه لحم آدمي ثبت حكم النفاس هكذا صرح به المتولي وآخرون ... ](11/47)
المجموع 2/532. ويرى المالكية أن كل ما تسقطه المرأة من دم مجتمع فما فوقه تعتبر به نفساء. شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل 4/143.
والذي يترجح لديَّ ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة أن المرأة تصير نفساء إذا أسقطت ما استبان منه عضو وأما إذا أسقطت ما لم يستبن منه عضو فلا تعتبر نفساء بل تعد مستحاضة وقد ذكر العلماء أن أقل مدة يمكن أن يستبين فيها خلق الجنين واحد وثمانون يوماً أي بعد انتهاء مرحلة العلقة من المراحل التي يمر بها الجنين كما ورد في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) رواه البخاري ومسلم. وقد دلَّ هذا الحديث على أن المراحل التي يمر بها الجنين هي: أربعون يوماً نطفة وأربعون يوماً علقة وأربعون يوماً مضغة والمضغة قد تكون مخلقة وقد تكون غير مخلقة أي أن التخلق يكون بعد ثمانين يوماً كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} سورة الحج الآية 5. وبعد ذلك تنفخ في الجنين الروح.
وهذه المراحل هي التي ذكرها الله جل جلاله بقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} سورة المؤمنون الآيات 12-14. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وحديث ابن مسعود(11/48)
بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور، منها في الحج وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الحيض في " باب مخلقة وغير مخلقة " ودلت الآية المذكورة على أن التخليق يكون للمضغة، وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغه، وذكر الله النطفة ثم العلقة ثم المضغة في سور أخرى وزاد في سورة قد أفلح - المؤمنون - بعد المضغة (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً) الآية، ويؤخذ منها ومن حديث الباب أن تصير المضغة عظاماً بعد نفخ الروح، ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدم ذكرها قريباً بعد ذكر المضغة " ثم تكون عظاماً أربعين ليلة ثم يكسو الله العظام لحماً " وقد رتب الأطوار في الآية بالفاء لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر، ورتبها في الحديث بثم إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بثم بين النطفة والعلقة لأن النطفة قد لا تتكون إنساناً، وأتى بثم في آخر الآية عند قوله: (ثم أنشأناه خلقاً آخر) ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه ... ] فتح الباري 11/589.
إذا تقرر هذا فإن الضابط المعتبر في التمييز بين الدم الذي يعد نفاساً والدم الذي يعد استحاضة هو أنه إذا كان الجنين قد تخلق فالدم دم نفاس، وإذا لم يتخلق الجنين فالدم دم استحاضة وبناءً على ما مضى فإن المستحاضة تصلي وتصوم ويأتيها زوجها حيث إن المستحاضة في حكم الطاهر [قال البركوي من علماء الحنفية: الاستحاضة حدث أصغر كالرعاف. فلا تسقط بها الصلاة ولا تمنع صحتها أي على سبيل الرخصة للضرورة، ولا تحرم الصوم فرضاً أو نفلاً، ولا تمنع الجماع - لحديث حمنة: أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يأتيها - ولا قراءة قرآن، ولا مس مصحف، ولا دخول مسجد، ولا طوافاً إذا أمنت التلويث. وحكم الاستحاضة كالرعاف الدائم، فتطالب(11/49)
المستحاضة بالصلاة والصوم. وكذلك الشافعية، والحنابلة، قالوا: لا تمنع المستحاضة عن شيء، وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات ... وقال المالكية كما في الشرح الصغير: هي طاهر حقيقة.] الموسوعة الفقهية الكويتية 3/209.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال وقال أُبي: ثم توضأي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) رواه البخاري، وجاء في رواية الترمذي: (عن عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي. قال أبو معاوية في حديثه: وقال توضأي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) ... قال أبو عيسى - أي الترمذي - حديث عائشة حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وبه يقول سفيان الثوري ومالك وابن المبارك والشافعي أن المستحاضة إذا جاوزت أيام أقرائها اغتسلت وتوضأت لكل صلاة) سنن الترمذي 1/217-220.
وقال المباركفوري في شرح الحديث: [وفي الحديث دليل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية لظاهر قوله (ثم توضأي لكل صلاة) وبهذا قال الجمهور....] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 1/332.
وخلاصة الأمر أن الحامل إذا أجهضت جنيناً تام الخلق فهي نفساء فلا تصلي ولا(11/50)
تصوم وإذا أجهضت جنيناً قد استبان منه عضو فهي نفساء أيضاً وأما إذا أجهضت جنيناً لم يستبن منه عضو فهي مستحاضة تصلي وتصوم.
حكم الصلاة جماعة قبل جماعة الإمام الراتب
يقول السائل: كما تعلمون فهنالك وقت بين الأذان وإقامة الصلاة وقد كنا ننتظر إقامة الصلاة في المسجد فدخل بعض الناس وأقاموا الصلاة وصلوا لوحدهم قبل الجماعة مع إمام المسجد فما حكم ذلك؟
الجواب: الأصل أنه لا تجوز إقامة صلاة جماعة في المسجد قبل جماعة الإمام الراتب [وهو الذي رتبه السلطان، أو نائبه، أو الواقف، أو جماعة من المسلمين والإمام الراتب يقدم في إمامة الصلاة على غيره من الحاضرين وإن اختص غيره بفضيلة كأن يكون أعلم منه أو أقرأ منه، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتى أرضاً له وعندها مسجد يصلي فيه مولى لابن عمر فصلى معهم، فسألوه أن يصلي بهم فأبى وقال: صاحب المسجد أحق.] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/46.
ولا يجوز لأحد أن يفتات على الإمام الراتب - والافتيات هو الاستبداد بالرأي، والسبق بفعل شيء دون استئذان من يجب استئذانه، أو من هو أحق منه بالأمر فيه، والتعدي على حق من هو أولى منه - الموسوعة الفقهية الكويتية 5/280.
والمقصود بالافتيات هنا التعدي على حق الإمام الراتب بأن تصلى جماعة قبل جماعة الإمام الراتب لأن ذلك يعتبر تعدياً على حق الإمام الراتب ومخالفة لنظام المسجد وباباً من أبواب الفوضى فيصير كل من دخل أقام الصلاة وصلى مع غيره وهذا مناف للحكمة من صلاة الجماعة وقد ورد في الحديث عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على(11/51)
تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم.
قال الإمام النووي [قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه) معناه: ما ذكره أصحابنا وغيرهم: أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل منه، وصاحب المكان أحق فإن شاء تقدم، وإن شاء قدَّم من يريده، وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولاً بالنسبة إلى باقي الحاضرين ; لأنه سلطانه فيتصرف فيه كيف شاء] شرح النووي على صحيح مسلم 2/302.
وقد أخذ أهل العلم من هذا الحديث أنه لا ينبغي لأحد أن يفتات على إمام المسجد الراتب فيقيم جماعة قبل جماعة الإمام الراتب قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [وإمام المسجد الراتب أولى من غيره لأنه في معنى صاحب البيت والسلطان وقد روي عن ابن عمر أنه أتى أرضاً له، وعندها مسجد يصلي فيه مولى لابن عمر فصلى معهم فسألوه أن يصلي بهم، فأبى وقال: صاحب المسجد أحق ولأنه داخل في قوله: صلى الله عليه وسلم (من زار قوماً فلا يؤمهم) ] المغني 2/151.
وحديث (من زار قوماً فلا يؤمهم) رواه الترمذي وحسنه. وقال الإمام النووي [قال الشافعي والأصحاب: إذا حضرت الجماعة، ولم يحضر إمام فإن لم يكن للمسجد إمام راتب قدموا واحداً وصلى بهم، وإن كان له إمام راتب، فان كان قريباً بعثوا إليه من سيعلم خبره ليحضر أو يأذن لمن يصلي بهم، وإن كان بعيداً أو لم يوجد في موضعه فإن عرفوا من حسن خلقه أن لا يتأذى بتقدم غيره، ولا يحصل بسببه فتنة استحب أن يتقدم أحدهم ويصلي بهم، للحديث المذكور، ولحفظ أول الوقت، والأولى أن يتقدم أولاهم بالإمامة وأحبهم إلى الإمام، وإن خافوا أذاه أو فتنة انتظروه. فإن طال الانتظار وخافوا فوات الوقت كله صلوا جماعة، هكذا ذكر هذه الجملة الشافعي والأصحاب] المجموع 4/207(11/52)
إذا تقرر هذا فإن حصل وأقيمت جماعة قبل جماعة الإمام الراتب فمن أقامها فعمله يدور بين التحريم وبين الكراهة على الخلاف بين الفقهاء فقال الحنابلة بتحريم ذلك وقال الحنفية والشافعية والمالكية بكراهته وكذلك فمن أهل العلم من قال ببطلان تلك الصلاة ومنهم من قال بإجزائها مع الإثم وهو الذي أميل إليه وأختاره.
قال ابن مفلح المقدسي الحنبلي [تحرم الإمامة بمسجد له إمام راتب إلا بإذنه، قال أحمد: ليس لهم ذلك. وقال في الخلاف: فقد كره ذلك، قال في الكافي: إلا مع غيبة، والأشهر لا، إلا مع تأخره وضيق الوقت. ويراسل إن تأخر عن وقته المعتاد مع قربه وعدم المشقة. أو لم يظن حضوره، أو ظن ولا يكره ذلك. وإن بعد صلوا، وحيث حرم فظاهره لا تصح. وفي الرعاية لا يؤم، فإن فعل صح ويكره، ويحتمل البطلان للنهي] الفروع 1/581.
وقال الشيخ العلامة محمد صالح العثيمين في شرح قول صاحب زاد المستقنع [ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب] أي: إذا كان المسجد له إمامٌ راتب. أي: مولًّى مِن قِبَلِ المسؤولين، أو مولًّى مِن قِبَلِ أهلِ الحَيِّ جيران المسجد، فإنَّه أحقُّ الناس بإمامتِهِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلطانه) ومعلومٌ أنَّ إمامَ المسجدِ سلطانُه، والنهيُ هنا للتحريمِ، فلا يجوزُ للإنسان أن يؤمَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ إلا بإذن الإمام أو عُذره. وكما أن هذا مقتضى الحديث، فهو مقتضى القواعد الشرعية؛ لأنه لو ساغ له أن يؤمَّ في مسجد له إمام راتب بدون إذنه أو عذره؛ لأدَّى ذلك إلى الفوضى والنزاع. قوله: (إلا بإذنه) أي: إلَّا إذا وَكَّلَهُ توكيلاً خاصاً أو توكيلاً عاماً. فالتوكيل الخاص: أن يقول: يا فلان صَلِّ بالناس، والتوكيل العام أن يقول للجماعة: إذا تأخَّرتُ عن موعدِ الإقامةِ المعتادِ كذا وكذا فصلُّوا. قوله: «أو عذره» العذر مثل: لو عَلِمنا أنَّ إمامَ المسجدِ أصابَه مرضٌ لا يحتمل أن يحضر معه إلى المسجد فلنا أن نُصلِّيَ، وإنْ لم يأذن. مسألة: لو أنَّ أهلَ المسجدِ قدَّموا شخصاً يصلِّي بهم بدون(11/53)
إذن الإمامِ ولا عذره وصَلَّى بهم فهل تصحُّ الصلاةُ أو لا تصحُّ؟ فالجواب: في هذا لأهلِ العِلمِ قولان: القول الأول: أنَّ الصَّلاة تصحُّ مع الإثم. القول الثاني: أنهم آثمون، ولا تصحُّ صلاتُهم، ويجبُ عليهم أن يُعيدُوها.
والرَّاجح القول الأول: لأنَّ تحريمَ الصَّلاةِ بدون إذن الإمام أو عُذره ظاهرٌ من الحديثِ والتعليل، وأما صِحةُ الصلاةِ؛ فالأصلُ الصحةُ حتى يقومَ دليلٌ على الفسادِ، وتحريمُ الإمامةِ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ بلا إذنِهِ أو عذرِهِ لا يستلزمُ عدمَ صحةِ الصلاةِ؛ لأنَّ هذا التحريمَ يعودُ إلى معنًى خارجٍ عن الصلاة وهو الافتيات على الإمام، والتقدُّم على حَقِّهِ، فلا ينبغي أن تُبطل به الصلاةُ.] الشرح الممتع 4/216- 218.
وقال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي تحت عنوان الافتئات على الإمام الراتب: [يوجد في كثير من الجوامع الكبيرة أناس يفتاتون على الإمام الراتب أي يتقدمون بالصلاة جماعة عليه قبل أن تقام له فيختزلون من الجامع ناحية يؤمون بها أناساً على شاكلتهم رغبة في العجلة أو حباً في الانفراد للشهرة. وقد اتفقت الحنابلة والمالكية على تحريم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب. قالت الحنابلة إلا بإذنه وإلا فلا تصح صلاته كما في الإقناع وشرحه. وقالت المالكية كره إقامتها قبل الراتب وحرم معه ووجب الخروج عند إقامتها للراتب كما في أقرب المسالك، وكره ذلك الشافعية وأفتى ابن حجر بمنعه بتاتاً، وصرح الإمام الماوردي من الشافعية بتحريم ذلك في مسجد له راتب وكره ذلك الحنفية. ولا يخفى أن ما ينشأ عن هذا الإفتئات من المفاسد يقضي بتحريمه لأنه يؤدي إلى التباغض والتشاجر وتفريق كلمة المسلمين والتشيع والتحزب في العبادة، ولمخالفة أمر السلطان أو نائبه لأنه أذن للراتب فقط. ولاتباع الهوى ومضادة حكمة مشروعية الجماعة من الاتحاد للتآلف والتعارف والتعاون على البر والتقوى فإن في تقسيمها تناكر النفوس وتبديل الأنس وحشة، إلى مفاسد أخرى تنتهي إلى قريب الأربعين مفسدة، وقد جمعت في حظر ذلك رسالة(11/54)
سميتها (إقامة الحجة على المصلي جماعة قبل الإمام الراتب من الكتاب والسنة وأقوال سائر أئمة المذاهب) فليحذر من هذه البدعة الشنيعة هدى الله المفتاتين للإقلاع عنها] إصلاح المساجد عن البدع والعوائد ص 78-79.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز لأحد أن يقيم صلاة جماعة قبل جماعة الإمام الراتب لأن في ذلك افتياتاً على الإمام الراتب ومنافاة لحكمة مشروعية صلاة الجماعة فمن فعل ذلك صحت صلاته مع الإثم.
وقت الانتظار بين الأذان والإقامة في صلاة المغرب
يقول السائل: اختلف المصلون في مسجدنا حول وقت الانتظار بين الأذان والإقامة في صلاة المغرب حيث يفصل المؤذن بينهما بخمس دقائق فمنهم من يقول بأن وقت الانتظار قصير ومنهم من يقول بأن وقت الانتظار كافٍ، فما قولكم؟
الجواب: الفصل بين الأذان والإقامة بفاصل زمني ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء وهي التي يدعو الناس العتمة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة ثلاثاً لمن شاء) رواه البخاري ومسلم، والمقصود بالأذانين في الحديث الأذان والإقامة، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (بين كل أذانين) أي أذان وإقامة، ولا يصح حمله على ظاهره لأن الصلاة بين الأذانين مفروضة، والخبر ناطق بالتخيير لقوله " لمن شاء "، وأجرى المصنف - أي البخاري - الترجمة مجرى(11/55)
البيان للخبر لجزمه بأن ذلك المراد، وتوارد الشراح على أن هذا من باب التغليب كقولهم القمرين للشمس والقمر] فتح الباري 2/141.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه يقول: (كان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمهل فلا يقيم حتى إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج أقام الصلاة حين يراه) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وورد في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المؤذن أن يجعل وقتاً بين الأذان والإقامة حتى يتمكن المصلون من الاستعداد للصلاة، فقد روى الترمذي بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لبلال: يا بلال إذا أذنت فترسل في أذانك وإذا أقمت فاحدر - أي أسرع في كلمات الإقامة - واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته - هو من يؤذيه بول أو غائط أي يفرغ الذي يقضي حاجته - ولا تقوموا حتى تروني) ، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال اجعل بين أذانك وإقامتك نفسا يفرغ الآكل من طعامه في مهل ويقضي المتوضئ حاجته في مهل) وقد اختلف المحدثون في الحديث السابق فمنهم من حسنه واحتج به ومنهم من ضعفه كالحافظ ابن حجر العسقلاني كما في فتح الباري 2/140. وقد حكم الشيخ الألباني على الحديث السابق بأنه حديث حسن لتعدد طرقه كما في السلسلة الصحيحة حديث رقم 887 وكذلك حسنه في صحيح الجامع حديث رقم 150.
وبناءً على الأحاديث السابقة استحب الفقهاء الفصل بين الأذان والإقامة وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه (باب كم بين الأذان والإقامة) ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن ابن بطال قوله: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت، واجتماع المصلين] فتح الباري 2/140.(11/56)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ويستحب أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر الوضوء وصلاة ركعتين يتهيأون فيها] المغني 1/299.
وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي [والمستحب أن يقعد بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة] المهذب مع شرحه المجموع 3/ 120.
وقال الشوكاني بعد أن ذكر حديث جابر السابق [والحديث يدل على مشروعية الفصل بين الأذان والإقامة وكراهة الموالاة بينهما لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها ; لأن من كان على طعامه أو غير متوضئ حال النداء إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل لا سيما إذا كان مسكنه بعيدا من مسجد الجماعة، فالتراخي بالإقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها.] نيل الأوطار 2/10.
ومن الفقهاء من حدد مقدار الفصل بين الأذان والإقامة، قال الإمام الزيلعي: [قال رحمه الله (ويجلس بينهما إلا في المغرب) أي بين الأذان والإقامة لما روينا ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام (قال لبلال اجعل بين أذانك وإقامتك نفساً يفرغ المتوضئ من وضوئه مهلاً والمتعشي من عشائه) ولأن المقصود الإعلام بدخول الوقت ليتأهب السامعون بالطهارة ونحوها فيفصل بينهما ليحصل به المقصود ولم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الفصل وروى الحسن عن أبي حنيفة في الفجر قدر ما يقرأ عشرين آية وفي الظهر قدر ما يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة عشر آيات وفي العصر بقدر ركعتين يقرأ فيهما عشرين آية والعشاء كالظهر والأولى أن يصلي بينهما لقوله عليه الصلاة والسلام: بين كل أذانين صلاة إن شاء] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1/92.
إذا تقرر أن الفصل مشروع بين الأذان والإقامة فإن ذلك يشمل صلاة المغرب أيضاً على الراجح من أقوال أهل العلم خلافاً لبعض العلماء الذين يرون عدم الفصل للأمر بتعجيلها ولكن ينبغي أن يكون الفاصل في صلاة المغرب قصيراً يكفي لصلاة ركعتين(11/57)
قبل الإقامة لما ثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء قال عثمان بن جبلة وأبو داود عن شعبة لم يكن بينهما إلا قليل) رواه البخاري، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (شيء) التنوين فيه للتعظيم، أي لم يكن بينهما شيء كثير] فتح الباري 2/142.
وعن عبد الله المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل صلاة المغرب قال في الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة) رواه البخاري، وروى مسلم عن مختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر فقال: (كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر وكنا نصلي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب فقلت له أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما قال كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا.
قال الإمام النووي: [وفي هذه الروايات استحباب ركعتين بين المغرب وصلاة المغرب. وفي المسألة وجهان لأصحابنا أشهرهما: لا يستحب، وأصحهما عند المحققين، يستحب لهذه الأحاديث ... والمختار استحبابها لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وفي صحيح البخاري عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء) وأما قولهم: يؤدي إلى تأخير المغرب فهذا خيال منابذ للسنة فلا يلتفت إليه، ومع هذا فهو زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها، وأما من زعم النسخ فهو مجازف ; لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل والجمع بين الأحاديث وعلمنا التاريخ، وليس هنا شيء من ذلك.] شرح النووي على صحيح مسلم 2/440-441.(11/58)
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال القرطبي وغيره: ظاهر حديث أنس أن الركعتين بعد المغرب وقبل صلاة المغرب كان أمراً أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه، وهذا يدل على الاستحباب، وكأن أصله قوله صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة "] فتح الباري 2/142.
وخلاصة الأمر أن الفصل بين الأذان والإقامة أمر مشروع في جميع الصلوات المفروضة وينبغي أن يكون الوقت الفاصل بينهما يتسع لتمكين المصلين من اللحاق بالجماعة فمن المستحسن أن يكون ذلك الفاصل بمقدار عشرين دقيقة إلى ثلاثين في صلاة الفجر وعشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة في الظهر والعصر والعشاء وأما المغرب فخمس دقائق تكفي ولا ينبغي أن يزيد على عشر دقائق للأمر بتعجيلها.
وقوف الصبيان في الصف الأول في صلاة الجماعة
يقول السائل: إن إمام مسجدنا يمنع الأولاد من الوقوف في الصف الأول وإذا رأى أحدهم في الصف الأول طرده ويطلب منهم أن يصفوا لوحدهم ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) فما قولكم في ذلك؟
الجواب: أبدأ أولاً بالكلام على الحديث المذكور في السؤال فهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي مسعود رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافاً) ورواه مسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثلاثاً وإياكم وهيشات الأسواق) ، وأبو مسعود راوي الحديث الأول هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري رضي الله عنه توفي سنة 40 هجرية وهو غير راوي الحديث الثاني عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه المتوفى سنة 32 هجرية. ومعنى قول النبي(11/59)
صلى الله عليه وسلم (ليلني) أي ليدن مني وليقرب مني.
قال الإمام النووي: [وأولو الأحلام هم العقلاء وقيل البالغون و (النهى) بضم النون العقول. فعلى قول من يقول: أولو الأحلام العقلاء يكون اللفظان بمعنى - واحد -، فلما اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيداً. وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء قال أهل اللغة واحدة (النهى) نهية بضم النون وهي العقل ورجل (نهٍ) و (نهى) من قوم نهين، وسمي العقل نهية لأنه ينتهي إلى ما أمر به ولا يتجاوز، وقيل: لأنه ينهى عن القبائح.
قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدراً كالهدى، وأن يكون جمعاً كالظلم، قال: والنهى في اللغة معناه الثبات والحبس. ومنه النهى والنهى بكسر النون وفتحها والنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع. قال الواحدي: فرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو الحبس فالنهية هي التي تنهى وتحبس عن القبائح.] شرح النووي على صحيح مسلم 2/116.
وقوله صلى الله عليه وسلم (ثم الذين يلونهم) معناه الذين يقربون من أول النهى في هذا الوصف، وقوله صلى الله عليه وسلم (ثم الذين يلونهم) أي كالصبيان المميزين والذين هم أنزل مرتبة من المتقدمين حلماً وعقلاً والمعنى أنه هلم جرا، فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء ... ] كما قاله الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 3/172.
إذا تقرر هذا فإن المقصود من الحديث هو أن يقف خلف الإمام الرجال العقلاء فهم أولى الناس بالوقوف خلف الإمام في الصلاة فينبغي أن يقدموا على غيرهم لأنه قد يطرأ طارئ على الأمام أثناء الصلاة كأن يحتاج لمن يفتح عليه أو أن يستخلف أو يسهو فيحسن أولو الأحلام والنهى التصرف، قال الإمام النووي: [في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا(11/60)
صفة الصلاة، ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس وليقتدي بأفعالهم من وراءهم ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس كمجالس العلم والقضاء والذكر والمشاورة، ومواقف القتال وإمامة الصلاة والتدريس والإفتاء وإسماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك] شرح النووي على صحيح مسلم 2/116.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن ويلي الإمام أكملهم وأفضلهم، قال أحمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن وتؤخر الصبيان والغلمان ولا يلون الإمام] المغني 2/160.
وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكره أن يقوم الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم أو أنبت أو بلغ خمس عشرة سنة. فقلت له: ابن اثنتي عشرة سنة أو نحوها، قال: ما أدري. قلت له: فكأنك تكره ما دون هذا السن، قال: ما أدري، فذكرت له حديث أنس واليتيم. فقال: ذاك في التطوع.
ولا يدل الحديث السابق على منع الصبيان من الوقوف في الصف الأول ولكنه يدل على أنهم لا يقفون خلف الإمام مباشرة لأن خلف الإمام لأولي الأحلام والنهى كما في الحديث، وأما الصبيان فلهم أن يصفوا في أطراف الصف الأول، ذات اليمين وذات الشمال، وفيما يليه من الصفوف. ولا ينبغي طرد الصبيان من الصف الأول لأن الصبي إذا سبق للصف الأول فهو أحق به من غيره لما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقم أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، فإن الحديث بعمومه يدخل فيه الصبي. قال الشيخ ابن مفلح الحنبلي [ليس له تأخير الصبيان السابقين، وهو مذهب الشافعية وصوبه في الإنصاف، فإن الصبي إذا عقل القرب كالبالغ في الجملة،(11/61)
والحديثان (من سبق إلي مكان فهو أحق به) (ولا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه) عامان ولو كان تأخيرهم أمراً مشهوراً لاستمر العمل عليه، ولنقل نقلاً لا يحتمل الاختلاف.] الفروع
وينبغي أن يعلم أن بعض الفقهاء يرى أن الصفوف في صلاة الجماعة تكون بالترتيب التالي: الرجال أولاً ثم الصبيان ثانياً ثم النساء ثالثاً، لما ورد في الحديث عن عبد الرحمن بن غنم قال: قال أبو مالك الأشعري رضي الله عنه: ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال فأقام الصلاة وصف الرجال وصف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم فذكر صلاته) رواه أبو داود، وفي رواية في مسند أحمد (أن أبا مالك الأشعري رضي الله عنه جمع قومه فقال يا معشر الأشعريين اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلى لنا بالمدينة فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم فتوضأ وأراهم كيف يتوضأ فأحصى الوضوء إلى أماكنه حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن فصف الرجال في أدنى الصف وصف الولدان خلفهم وصف النساء خلف الولدان ثم أقام الصلاة ... ) ولكن الحديث ضعيف كما قال العلامة الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح 1/348.
ومن الفقهاء من يرى أن الصبيان لا ينفردون في صف خاص بهم بل يقفون بين الرجال فيقف صبي بين كل رجلين، [يستحب أن يقف بين كل رجلين صبى ليتعلموا منهم أفعال الصلاة] المجموع 4/293، وهذا القول أرجح قولي الفقهاء في المسألة، قال الإمام البخاري في صحيحه [باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز] ، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني [قوله: (باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز) ... وذكر فيه طرفاً من حديث ابن عباس المذكور، وكان ابن عباس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم دون البلوغ لأنه شهد حجة الوداع وقد قارب الاحتلام ... ] فتح الباري 3/242.
وقال الإمام البخاري في صحيحه أيضاً [باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز](11/62)
ثم ذكر الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر قد دفن ليلاً فقال: متى دفن هذا؟ قالوا: البارحة، قال: أفلا آذنتموني قالوا دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك فقام فصففنا خلفه قال ابن عباس وأنا فيهم فصلى عليه (، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني [قوله: (باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز) ... قال ابن رشيد: أفاد بالترجمة الأولى بيان كيفية وقوف الصبيان مع الرجال وأنهم يصفون معهم لا يتأخرون عنهم، لقوله في الحديث الذي ساقه فيها " وأنا فيهم "] فتح الباري 3/253.
وقد رجح العلامة محمد بن صالح العثيمين هذا القول وبين المحذور من تأخير الصبيان عن الصف الأول فقال: [لو قلنا بإزاحة الصبيان عن المكان الفاضل وجعلناهم في مكان واحد أدى ذلك إلى لعبهم لأنهم ينفردون بالصف، ثم هنا مشكل إذا دخل الرجال بعد أن صف الجماعة هل يرجعونهم وهم في الصلاة؟ وإن بقوا صفاً كاملاً فسيشوشون على من خلفهم من الرجال ثم إن تأخيرهم عن الصف الأول بعد أن كانوا فيه يؤدي إلى محذورين: الأول: كراهة الصبي للمسجد لأن الصبي وإن كان صبياً لا تحتقره، فالشيء ينطبع في ذهنه. المحذور الثاني: كراهته للرجل الذي أخره عن الصف، فالحاصل أن هذا القول ضعيف - أي القول بتأخير الصبيان عن أماكنهم -] الشرح الممتع 321.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للصبيان أن يقفوا في الصف الأول ولكنهم لا يقفون خلف الإمام مباشرة لأن ذاك مقام أولو الأحلام والنهى ولا ينبغي جمع الصبيان في صف واحد خلف الرجال لما يترتب على ذلك من التشويش.(11/63)
هل الأسير والمعتقل لهما حكم المسافر؟
يقول السائل: ما قولكم بالفتوى التي تقول إن الأسير والمعتقل لهما حكم المسافر في قصر الصلاة وجمعها فيقصران ويجمعان باستمرار؟
الجواب: إن القول بإلحاق المعتقل والسجين بالمسافر فيعطيان أحكام المسافر قول غير صحيح على إطلاقه بناء على الإطلاع على واقع المساجين، وهذا الإلحاق من باب القياس وهو مساواة الفرع للأصل في علة حكمه ويشترط في إلحاق الفرع بالأصل في القياس الأصولي الاشتراك في العلة بين الفرع والأصل وقد نص أهل العلم على أن علة القصر والجمع للصلاة في حق المسافر هي قطع المسافة وهذه العلة غير موجودة في حق المعتقلين والمساجين وقد توجد في حقهم في بعض الحالات عند نقلهم من سجن لآخر أو إلى المحكمة في مدينة أخرى ونحو ذلك. يقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} سورة النساء الآية 101، ففي هذه الآية الكريمة علَّق الله عز وجل قصر الصلاة على الضرب في الأرض أي السفر ولا أراه متحققاً في حق السجين فهذا القياس قياس مع الفارق فلا يصح، لأن القياس إنما هو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لاشتراكهما في العلة، فلا بد إذن من توافرها فيهما معاً، ومثال ذلك قياس النبيذ على الخمر، فإن العلة في الأصل هي الإسكار وهي قائمة في الفرع أيضاً، أما قياس الماء على الخمر فممتنع لأن العلة في الخمر هي الإسكار وهي غير موجودة في الماء، فلا يصح القياس لذلك، وهنا لا يصح قياس السجين على المسافر لأن العلة في الأصل وهي السفر - والسفر هو قطع المسافة - غير موجودة في الفرع وهو السجين.
ويضاف إلى ذلك أن جمهور الفقهاء قد نصوا على أن المسافر إذا نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر لا يجوز له أن يقصر أو يجمع ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة(11/64)
فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى وخرج من مكة متوجهًا إلى المدينة بعد أيام التشريق) .
قال الإمام الشوكاني: [والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أياماً من دون تردد لا يقال له مسافر فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا ما في حديث الباب من إقامته صلى اللَّه عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى اللَّه عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع فكان كل من يحج عازماً على ذلك فيقتصر على هذا المقدار ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام هو التمام وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة ولا قائل به. ولا يرد على هذا قوله صلى اللَّه عليه وسلم في إقامته بمكة في الفتح إنا قوم سفر كما سيأتي لأنه كان إذ ذاك متردداً ولم يعزم على إقامة مدة معينة] نيل الأوطار 3/237.
ومن المعلوم أن السجين يقيم في سجنه أكثر من أربعة أيام بل إن بعضهم يقيم أشهراً وسنواتٍ فلا يصح إلحاقه بالمسافر.
وكذلك فإن القول بأن السجين ملحق بالمسافر فمعنى ذلك أنه لا يجب عليه صوم رمضان ولا يصلي جماعة ولا جمعة ولا صلاة العيد وفي هذا حرمان من خير كثير وخاصة إذا كان محكوماً لمدة طويلة وكذلك فإنه يخسر المعاني العظيمة التي تترتب على إقامة هذه الشعائر.
وإذا قررنا انتفاء العلة التي تلحق الأسير بالمسافر بطل القول بجواز جمع السجين بين الصلوات أيضاً لأن انتفاء العلة يعني نفي الحكم فالحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً ويجب أن يعلم أن كل من يجمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي فجمعه باطل أي إن صلاته الثانية باطلة لأنها وقعت في غير وقتها المقدر لها شرعاً فدخول الوقت شرط من شروط صحة الصلاة والأصل في الصلوات الخمس أن تصلى كل منها في وقتها الشرعي(11/65)
قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} سورة النساء الآية 103. قال الشوكاني في تفسير الآية: [أي محدوداً معيناً يقال وقَّته فهو موقوت ووقَّته فهو مؤقت والمعنى إن الله افترض على عباده الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم أو سهو أو نحوهما] تفسير فتح القدير 1/ 510. وكذلك فإن من جمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي فقد ارتكب حراماً بل كبيرة من كبائر الذنوب كما نص على ذلك الشيخ ابن حجر المكي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/288-289.
وقد ذكر ابن كثير عن أبي قتادة العدوي قال: قرئ علينا كتاب عمر (من الكبائر جمع بين الصلاتين يعني بغير عذر والفرار من الزحف والنهبة) . وهذا إسناد صحيح والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديماً أو تأخيراً وكذا المغرب والعشاء كالجمع بسبب شرعي، فمن تعاطاه بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكباً كبيرةً فما ظنك بترك الصلاة بالكلية) تفسير ابن كثير1/485.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن ترك صلاة واحدةً عمداً بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاءً فهل يكون فعله كبيرة من الكبائر فأجاب: [الحمد لله، نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمداً من الكبائر، بل قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، وقد رواه الترمذى مرفوعاً عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر) . ورفع هذا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وإن كان فيه نظر فإن الترمذي قال العمل على هذا عند أهل العلم والأثر معروف وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له لا منكرين له] مجموع الفتاوى 22/53-54.
وخلاصة الأمر أن قياس السجين على المسافر قياس باطل فلا يجوز للسجين أن يقصر(11/66)
الصلاة الرباعية ولا أن يجمع بين الصلاتين إلا إذا سافر حقيقة. وأنصح إخواني المساجين - فك الله أسرهم - بأن يلتزموا بما قرره أهل العلم وأحذرهم من التساهل في الجمع والقصر لأن جمعهم وقصرهم يعتبر باطلاً.
عدم اتصال الصفوف للعجز عن ذلك
يقول السائل: إنه سجين وإن السجناء يصلون جماعة داخل الخيمة بسبب المطر، وبسبب الازدحام فإنه لا يمكن اتصال الصفوف، فبعض السجناء يصلي على الأرض وبعضهم يصلي على الأبراش (الأسرَّة) ويكون الإمام على الأرض وهم أعلى منه في المكان، فما حكم في ذلك؟
الجواب: يجب أن يُعلم أولاً أن تسوية الصفوف من تمام الصلاة كما ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك فإنه ينبغي على الإمام أن يأمر المصلين بتسوية الصفوف فقد ثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: تراصوا واعتدلوا) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها! فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف) رواه مسلم.
وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فيكون في الصف المؤخر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني.
إذا تقرر هذا فإن الأصل في الصفوف في صلاة الجماعة أن تكون منضبطة ومتصلة ولا ينبغي أن يكون هنالك انقطاع بينها. ولكن نظراً للظروف السائدة في السجن كما ذكر(11/67)
السائل فإنه يجوز أن يصف المساجين على أبراشهم (أسرَّتهم) والانقطاع الحاصل بين المصلي والآخر في هذه الحالة لا بأس به بسبب طبيعة الوضع داخل الخيمة ولا حرج في ارتفاع المأموم عن الإمام في المكان في هذه الحالة حيث أجاز الفقهاء ارتفاع المأمومين عن الإمام.
ومع كل ما سبق فإني أنصح المساجين أن يحاولوا قدر الاستطاعة أن يصفوا بالطريقة المشروعة إن أمكنهم ذلك. وإلا فإنهم معذورون إن شاء الله تعالى. والتكليف لا يكون إلا حسب الوسع والطاقة، فقد قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} سورة البقرة الآية 286. وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} سورة التغابن الآية 16.
يجوز تسمية المسجد باسم شخص معين
يقول السائل: إنه سمع أحد المشايخ في إحدى الفضائيات يمنع تسمية المسجد باسم شخص معين فما قولكم في ذلك أفيدونا؟
الجواب: إن بناء المساجد من الأمور المرغب فيها شرعاً وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في فضل بناء المساجد والمشاركة في بنائها فمن ذلك: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه ابن حبان والبزار والطبراني في الصغير وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وهذا الحديث يدل على المشاركة في بناء المسجد لأن مفحص القطاة لا يكفي ليكون مسجداً. ومفحص القطاة هو المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه.(11/68)
وعن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: حديث حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره أو ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي وقال الشيخ الألباني: وإسناد ابن ماجة حسن. انظر صحيح الترغيب والترهيب ص 109-111.
إذا تقرر هذا فإن إضافة المساجد لله تعالى إنما هي إضافة تشريف كما ورد في قوله تعالى {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} سورة الجن الآية 18.
وقال تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} سورة البقرة الآية 114.
وقال تعالى {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} سورة التوبة الآيتان 17- 18. قال الإمام ابن العربي المالكي [المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنها قد نسبت إلى غيره تعريفاً، فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحيفاء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) وتكون هذه الإضافة(11/69)
بحكم المحلية، كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، فإن الأرض لله ملكاً، ثم يخص بها من يشاء، فيردها إليه، ويعينها لعبادته، فينفذ ذلك بحكمه، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك] أحكام القرآن لابن العربي 4/1869.
وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه (باب هل يقال مسجد بني فلان) ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها) . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني [قوله (باب هل يقال مسجد بني فلان) أورد فيه حديث ابن عمر في المسابقة، وفيه قول ابن عمر " إلى مسجد بني زريق " وزريق بتقديم الزاي مصغراً، ويستفاد منه جواز إضافة المساجد إلى بانيها أو المصلي فيها، ويلتحق به جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام لينبه على أن فيه احتمالاً إذ يحتمل أن يكون ذلك قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون هذه الإضافة وقعت في زمنه، ويحتمل أن يكون ذلك مما حدث بعده، والأول أظهر والجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي فيما رواه ابن أبي شيبة عنه أنه كان يكره أن يقول مسجد بني فلان ويقول مصلى بني فلان لقوله تعالى (وأن المساجد لله) ، وجوابه أن الإضافة في مثل هذا إضافة تمييز لا ملك ... (تنبيه) : الحفياء بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها ياء أخيرة ممدودة، والأمد الغاية. واللام في قوله " الثنية " للعهد من ثنية الوداع.] فتح الباري 1/667.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أضاف المسجد لنفسه الشريفة كما صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) رواه البخاري ومسلم.(11/70)
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن عبد الله بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: (جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل فرأيته واضعاً يديه على ثوبه إذا سجد) قال في الزوائد إسناده متصل. سنن ابن ماجة 1/329.
وعن ابن عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسجد بني عمرو بن عوف فدخل الناس يسلمون عليه وهو في الصلاة قال فسألت صهيباً كيف كان يرد عليهم قال هكذا وأشار بيده) رواه الدارمي وغيره وهو صحيح على شرط الصحيحين كما في فتح المنان 6/375.
قال الإمام النووي [ولا بأس أن يقال مسجد فلان ومسجد بني فلان على سبيل التعريف] المجموع 2/ 180.
ويضاف إلى ما سبق أن المسلمين على مر العصور والأيام قد تعارفوا على تسمية المساجد بأسماء الأشخاص سواء كانوا صحابة أو علماء أو قادة أو غيرهم، قال الشيخ العلامة د. بكر أبو زيد حفظه الله تعالى [إن المساجد قد حصل بالتتبع وجود تسميتها على الوجوه الآتية وهي: أولاً: تسمية المسجد باسم حقيقي، كالآتي: 1. إضافة المسجد إلى من بناه، وهذا من إضافة أعمال البر إلى أربابها، وهي إضافة حقيقية للتمييز، وهذه تسمية جائزة ومنها: ((مسجد النبي صلى الله عليه وسلم)) ويُقال: ((مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . 2. إضافة المسجد إلى من يصلي فيه، أو إلى المحلة، وهي إضافة حقيقية للتمييز فهي جائزة ومنها: ((مسجد قباء)) و ((مسجد بني زريق)) ، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في حديث المسابقة إلى مسجد بني زريق. ((ومسجد السوق)) . كما ترجم البخاري - رحمه الله - بقوله: ((باب العلماء في مسجد السوق)) . 3. إضافة المسجد إلى وصف تميز به مثل: ((المسجد الحرام)) و ((المسجد الأقصى)) كما في(11/71)
قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء: من الآية1] . وفي السنة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة: ((لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام. والمسجد الأقصى. ومسجدي هذا)) . ومنه: ((المسجد الكبير)) . وقد وقع تسمية بعض المساجد التي على الطريق بين مكة والمدينة باسم: ((المسجد الأكبر)) . كما في صحيح البخاري، ومثله يُقال: ((الجامع الكبير)) .
ثانياً: تسمية المسجد باسم غير حقيقي لكي يتميز ويعرف به. وهي ظاهرة منتشرة في عصرنا؛ لكثرة بناء المساجد وانتشارها ولله الحمد في بلاد المسلمين، في المدينة وفي القرية، بل في الحي الواحد، فيحصل تسمية المسجد باسم يتميز به، واختيار إضافته إلى أحد وجوه الأُمة وخيارها من الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم من التابعين لهم بإحسان، مثل: ((مسجد أبي بكر رضي الله عنه)) ، ((مسجد عمر رضي الله عنه)) ، وهكذا للتعريف، فهذه التسمية لا يظهر بها بأس، لاسيما وقد عُرف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تسميته: سلاحه، وأثاثه، ودوابه، وملابسه، كما بينها ابن القيم - رحمه الله تعالى - في أول كتاب زاد المعاد ...
ثالثاً: تسمية المسجد باسم من أسماء الله تعالى مثل: ((مسجد الرحمن)) ، ((مسجد القدوس)) ، ((مسجد السلام)) ، ومعلوم أن الله سبحانه قال وقوله الفصل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18] . فالمساجد جميعها لله تعالى بدون تخصيص، فتسمية مسجد باسم من أسماء الله ليكتسب العلمية على المسجد أمر محدث لم يكن عليه من مضى، فالأولى تركه ... ] معجم المناهي اللفظية ص 504 - 506.
قلت ما ذكره الشيخ أخيراً من أن الأولى عدم تسمية المساجد بنحو ((مسجد الرحمن)) ، ((مسجد القدوس)) ، ((مسجد السلام)) لا أرى فيه بأساً فتجوز إضافة المساجد إلى أسماء الله الحسنى.(11/72)
وخلاصة الأمر أنه لا حرج في تسمية المساجد بأسماء أشخاص وإن كنت أفضل أن لا يسمى مسجد باسم شخص قد بناه إذا كان الباني حياً وذلك بعداً عن الرياء وأما بعد موته فلا بأس بتسمية المسجد باسم بانيه، كما ينبغي أن تسمى المساجد بأسماء الصحابة والتابعين والأئمة والقادة الصالحين ونحوهم.
حكم الغسل من تغسيل الميت
يقول السائل: كنا في جنازة فقال أحد الحاضرين إنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث يفيد أن من غسَّل الميت فعليه الغسل ومن حمله فعليه الوضوء، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غسَّل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وهذا الحديث قد اختلف فيه العلماء اختلافاً كبيراً فمنهم من ضعفه، قال الإمام الشوكاني: [قال علي بن المديني وأحمد بن حنبل: لا يصح في الباب شيء. وهكذا قال الذهبي فيما حكاه الحاكم في تاريخه (ليس فيمن غسل ميتاً فليغتسل) حديث صحيح. وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا يرفعه الثقات إنما هو موقوف. وقال الرافعي: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئاً مرفوعاً.] نيل الأوطار 1/ 279.
وقال الإمام النووي [وليس في الغسل من غسل الميت شيء صحيح] المجموع 2/204.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [حديث: (من غسل ميتا فليغتسل) أحمد والبيهقي، من رواية ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، بهذا، وزاد (ومن حمله فليتوضأ) وصالح ضعيف، ورواه البزار، من رواية العلاء، عن أبيه، ومن رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، ومن رواية أبي بحر البكراوي، عن محمد(11/73)
بن عمرو، عن أبي سلمة، كلهم عن أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجة، من حديث عبد العزيز بن المختار، وابن حبان، من رواية حماد بن سلمة كلاهما، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، ورواه أبو داود، من رواية عمرو بن عمير، وأحمد من رواية شيخ يقال له أبو إسحاق، كلاهما عن أبي هريرة، وذكر البيهقي له طرقاً وضعفها، ثم قال: والصحيح أنه موقوف، وقال البخاري: الأشبه موقوف. وقال علي - ابن المديني - وأحمد: لا يصح في الباب شيء، نقله الترمذي عن البخاري عنهما، وعلق الشافعي القول به على صحة الخبر، وهذا في البويطي. وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت، وقال ابن أبي حاتم في العلل، عن أبيه: لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف] التلخيص الحبير 1/136.
ومن العلماء من قال إن هذا الحديث منسوخ، والنسخ عند الأصوليين هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. وممن قال بأنه منسوخ الإمام أحمد وأبو داود صاحب السنن وغيرهما، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني [وقد أجاب أحمد عنه بأنه منسوخ، وكذا جزم بذلك أبو داود] التلخيص الحبير 1/ 138.
ويدل على أنه منسوخ ما يلي: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي وضعفه إلا أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ردَّ تضعيفه وحسَّن الحديث في التلخيص الحبير 1/ 138، وحسنه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 54.
ومما يدل على النسخ أيضاً ما رواه مالك في الموطأ (أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه غسَّلت أبا بكر حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من(11/74)
المهاجرين فقالت: إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علي من غسل قالوا: لا) ورواه البيهقي وقال وله شواهد عن ابن أبي مليكة عن عطاء عن سعد بن إبراهيم وكلها مراسيل.
ومما يدل على النسخ أيضاً حديث عمر رضي الله عنه قال (كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل) أخرجه الخطيب وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إسناد صحيح، التلخيص الحبير 1/ 138.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما (لا غسل عليكم من غسل الميت) رواه الدارقطني والحاكم مرفوعاً وصحح البيهقي وقفه وقال: لا يصح رفعه.
ومن العلماء من قال إن الحديث لا يقل عن درجة الحسن، قال الحافظ ابن حجر [وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض، وقد قال الذهبي في مختصر البيهقي: طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، ولم يعلوها بالوقف، بل قدموا رواية الرفع] التلخيص الحبير 1/ 137.
والذين ثبت عندهم الحديث اختلفوا فمنهم من قال الأمر بالاغتسال في الحديث للوجوب وهو قول ابن حزم الظاهري وقوله مردود. ومنهم من قال إن الأمر في الحديث محمول على الندب لا على الوجوب فيسن الغسل من تغسيل الميت، قال الإمام الشوكاني [وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه وهو أيضاً من القرائن الصارفة عن الوجوب فإنه يبعد غاية البعد أن يجهل أهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجباً من الواجبات الشرعية ولعل الحاضرين منهم ذلك الموقف جلهم وأجلهم لأن موت مثل أبي بكر حادث لا يظن بأحد من الصحابة الموجودين في المدينة أن يتخلف عنه وهم في ذلك الوقت لم يتفرقوا كما تفرقوا من بعد] نيل الأوطار 1/281.(11/75)
وقال العلامة الألباني بعد أن فصَّل الكلام على طرق الحديث: [وبالجملة، هذه خمسة طرق للحديث بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف منجبر، فلا شك في صحة الحديث عندنا، ولكن الأمر فيه للاستحباب لا للوجوب لأنه قد صح عن الصحابة أنهم كانوا إذا غسلوا الميت فمنهم من يغتسل ومنهم من لا يغتسل] إرواء الغليل 1/175.
ومن العلماء من رأى أن المراد بالغسل غسل الأيدي لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) . هذا ما يتعلق بالغسل من تغسيل الميت.
وأما مسألة الوضوء من حمل الميت فالصحيح من أقوال أهل العلم أن ذلك ليس بواجب ولا مندوب، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [وهذا قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله لأن الوجوب من الشرع ولم يرد في هذا نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه فبقي على الأصل ولأنه غسل آدمي فأشبه غسل الحي] المغني 1/141.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي في موضع آخر [ولذلك لا يعمل به في وجوب الوضوء على من حمله وقد ذكر لعائشة قول أبي هريرة (ومن حمله فليتوضأ) قالت: وهل هي إلا أعواد حملها، ذكره الأثرم بإسناده ولا نعلم أحداً قال به في الوضوء من حمله] المغني 1/155. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز [أما حمله فلم يصح في الوضوء منه شيء، ولا يستحب الوضوء من حمله؛ لعدم الدليل على ذلك] مجلة الدعوة العدد 1557.
ومن أهل العلم من قال إن ذكر الوضوء في الحديث ليكون الحامل للميت مستعداً لصلاة الجنازة، قال الإمام الباجي المالكي [وأمر الحامل للميت أن يتوضأ قبل أن(11/76)
يحمله ليكون على طهارة إذا صلى عليه فيصلي مع المصلين عليه] المنتقى شرح موطأ مالك 2/455.
وخلاصة الأمر أنه يستحب الغسل لمن غسَّل الميت، لأن الحديث الوارد لا يقل عن درجة الحسن، ولا وضوء على من حمل الميت.
ألفاظ تستعمل عند التعزية
يقول السائل: يستعمل بعض الناس ألفاظاً عند التعزية كقولهم (البقية في حياتك) وقولهم (يسلم رأسك) فما حكم هذه العبارات أفيدونا؟
الجواب: التعزية من السنة وهي مستحبة عند أهل العلم فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه) رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن جعفر في قصة استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وفيها (فقال اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاث مرار) قال العلامة الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز ص 166.
وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها(11/77)
غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل، يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله مالي لا أجزع وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب: الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثنين؟ قال: واثنين.) قال العلامة الألباني [رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت - الألباني - بل هو على شرط مسلم فإن رجاله كلهم رجال صحيحه، لكن أحدهم فيه ضعف من قبل حفظه لكن لا ينزل حديثه هذا عن رتبة الحسن والحديث أورده الهيثمي في المجمع ... وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح] أحكام الجنائز ص 165.
إذا تقرر هذا فإن ألفاظ التعزية بابها واسع فتجوز بكل لفظ يدعو إلى الصبر ما لم يتضمن مخالفة للشرع قال الإمام الشافعي [وليس في التعزية شيء مؤقت يقال لا يُعدى إلى غيره] الأم 1/278. وقال الإمام النووي: [وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت واستحب أصحابنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك ... وأحسن ما يعزى به ما روينا في صحيح البخاري ومسلم. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب ... ] الأذكار ص 127.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا نعلم في التعزية شيئاً محدوداً، إلا أنه يروى أن(11/78)
النبي صلى الله عليه وسلم {عزى رجلاً، فقال: رحمك الله وآجرك.} رواه الإمام أحمد. وعزى أحمد أبا طالب، فوقف على باب المسجد فقال: أعظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم. وقال بعض أصحابنا: إذا عزى مسلماً بمسلم قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، ورحم الله ميتك. واستحب بعض أهل العلم أن يقول ما روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: {لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب.} رواه الشافعي في مسنده] المغني 2/405.
وقال الشوكاني: [وأصل العزاء في اللغة: الصبر الحسن، والتعزية: التصبر، وعزَّاه: صبَّره، فكل ما يجلب للمصاب صبراً يقال له تعزية بأي لفظ كان ... ] نيل الأوطار 4/109.
وقال الحطاب المالكي [وأما ألفاظ التعزية فقال في الجواهر إثر كلامه المتقدم ذكر ابن حبيب ألفاظاً في التعزية عن جماعة من السلف، ثم قال والقول في ذلك واسع إنما هو على قدر منطق الرجل وما يحضره في ذلك من القول وقد استحسنت أن أقول: أعظم الله أجرك على مصيبتك، وأحسن عزاءك عنها، وعقباك منها غفر الله لميتك ورحمه، وجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه.] . مواهب الجليل شرح مختصر خليل 3/38.
وقد وردت عبارات كثيرة عن السلف في التعزية منها ما رواه الطبراني في كتاب الدعاء بإسناده " عن محمود بن لبيد، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ـ أنه مات ابن له، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه بابنه، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى معاذ بن جبل، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لاإله إلا هو، أمابعد، فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنية، وعواريه(11/79)
المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير، الصلاة والرحمة والهدى، إن احتسبته بالصبر، ولا يحبط جزعك أجرك، فتندم على مافاتك من ثواب مصيبتك، فإنك لو اطلعت على ثواب مصيبتك، لعرفت أن المصيبة قد قصرت عن الثواب ـ وهذه الزيادة في بعض طرقه ـ ثم قال: وما هو نازل بك فكأن قد، والسلام ". ورواه الحاكم في المستدرك وقال: غريب حسن] .
وبناءً على ما سبق فإنه لم يرد في الشرع لفظ معين للتعزية وخاص بها، لا تصح إلا به، بل الأمر في ذلك واسع ومطلق، وكل ما أطلقه الشارع الحكيم يبقى على إطلاقه، لذلك تصح التعزية بكل لفظ يفيد التصبر والرضا بما قدر الله عز وجل نحو: عظم الله أجرك وألهمك الصبر والسلوان ونحو أحسن الله عزاءك، وجبر مصيبتك، وأعظم أجرك، وغفر لميتك، وهذه العبارات تقال في تعزية المسلم بالمسلم. وفي تعزية المسلم بالكافر يقول: (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك) .
ومن المعلوم أنه يجوز للمسلم أن يعزي غير المسلم في ميته وهذا قول جمهور أهل العلم وذكر العلماء عدة عبارات تقال في هذه التعزية منها: (أخلف الله عليك ولا نقص عددك) ومنها (أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحداً من أهل دينك) (ألهمك الله الصبر وأصلح بالك) ومنها (أكثر الله مالك وأطال حياتك أو عمرك) ومنها (لا يصيبك إلا خير) وفي تعزية الكافر بالمسلم يقول: (أحسن الله عزاءك وغفر لميتك)
وأخيراً فإن التعزية بعبارة (يسلم رأسك) لا حرج فيها حيث إنها متضمنة للدعاء للمخاطب بالسلامة، وكذلك عبارة (البقية في حياتك) لا بأس بالتعزية بها حيث فيها الدعاء بأن يكون الخير في بقية حياة المخاطب، ولكن الأولى والأفضل هو ما ورد من ألفاظ التعزية في السنة النبوية.
وقد سئل فضيلة الشيخ العلامة محمد العثيمين: عن حكم قول: (البقية في حياتك) عند التعزية ورد أهل الميت بقولهم (حياتك الباقية) .(11/80)
فأجاب بقوله: لا أرى فيها مانعاً إذا قال الإنسان (البقية في حياتك) لا أرى فيها مانعاً، ولكن الأولى أن يقال إن في الله خلف من كل هالك، أحسن من أن يقال (البقية في حياتك) ، كذلك الرد عليه إذا غير المعزي هذا الأسلوب فسوف يتغير الرد.] عن الإنترنت
وخلاصة الأمر أن استعمال الألفاظ الواردة في السنة في التعزية هو الأحسن والأفضل ولكن لو استعمل ألفاظاً أخرى لا تتضمن محذوراً شرعياً فلا حرج إن شاء الله ومنها قولهم (يسلم رأسك) وقولهم (البقية في حياتك) .(11/81)
العيد والصيام والحج(11/83)
من أحكام العيد
بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك نذكر إخواننا المسلمين بأحكام العيد وآدابه ونحذرهم من البدع والمخالفات التي يقع فيها بعض المسلمين:
1. يبدأ التكبير المطلق من أول شهر ذي الحجة في جميع الأوقات ولا يخص بمكان معين فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) وقال الإمام البخاري في صحيحه: [وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً] صحيح البخاري مع الفتح 2/594.
وأما التكبير المقيد فيكون بعد الصلوات المكتوبات وأرجح أقوال أهل العلم أنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق أي يكبر بعد ثلاث وعشرين صلاة مفروضة.
2. الاغتسال لصلاة العيد ولبس أحسن الثياب والتطيب.
3. الجهر في التكبير في الذهاب إلى صلاة العيد.
4. الذهاب إلى المصلى من طريق والعودة من طريق آخر.
5. صلاة العيد في المصلى إذ هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصح صلاة العيد في المسجد.
6. اصطحاب النساء والأطفال دون استثناء حتى الحيض منهن.
7. الاستماع إلى الخطبة.
8. التهنئة بالعيد فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد(11/85)
يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم.
9. أصح ما ورد في صفة صلاة العيد وعدد التكبيرات الزوائد ما جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها) رواه أحمد وابن ماجة وقال الحافظ العراقي إسناده صالح ونقل الترمذي تصحيحه عن البخاري. ويكون التكبير سبعاً في الأولى قبل القراءة وخمساً في الثانية قبل القراءة وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة.
10. وفي العيد خطبتان بعد الصلاة وهذا من العمل المتوارث وقد عمل به فقهاء الأمة على مر العصور والأيام فلا ينبغي تركه.
11. ومن شعائر عيد الأضحى المبارك الأضحية وهي مشروعة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية وانعقد الإجماع على ذلك. قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} سورة الكوثر الآية 2.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي وكان يتولى ذبح أضحيته بنفسه صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمِّي ويكبر فذبحهما بيده) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي) رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن. وأما السنة النبوية القولية: فعن البراء رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء. فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة فقال: إذبحها ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك) رواه البخاري ومسلم. وقد أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.(11/86)
12. وشروط الأضحية هي:
الأول: أن تكون الأضحية من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بنوعيه الضأن والماعز.
الثاني: أن تبلغ سن التضحية: اتفق جمهور أهل العلم على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني فما فوقه ويجزئ من الضأن الجذع فما فوقه والمراد بالثني من الإبل، ما أكمل خمس سنين ودخل في السادسة، ومن البقر ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة ومن الغنم ما أكمل سنة ودخل في الثانية.
واتفق جمهور العلماء على جواز التضحية بالجذع من الضأن وهو ما مضى عليه ستة أشهر فأكثر بشرط أن يكون سميناً. ولا تصح الأضحية بالعجول المسمنة التي لم تبلغ السنتين من عمرها باتفاق المذاهب الأربعة.
الثالث: أن تكون الأضحية سليمة من العيوب المانعة من صحة الأضحية: لمَّا كانت الأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن تكون الأضحية، طيبة، وسمينة، وخالية من العيوب التي تنقص من لحمها وشحمها، فقد ثبت في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي. قال: أي الراوي عن البراء وهو عبيد بن فيروز قلت: فإني أكره النقص في السن. قال: أي البراء ما كرهتَ فدعه، ولا تحرمه على أحد) رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. وصححه الشيخ الألباني. وتجزئ الجمَّاء وهي التي لم يخلق لها قرن. وتجزئ مكسورة القرن لأن القرن ليس عضواً مأكولاً، كما أن فقده لا يؤدي إلى فساد اللحم. وتجزئ البتراء وهي التي لا ذنب لها خلقةً. وتجزئ المخلوقة بلا ألية أصلاً. ويجزئ الخصي أيضاً.
وينبغي أن تكون الأضحية خالية من أي عيب وهذا هو الأكمل والأحسن فقد كان ابن(11/87)
عمر رضي الله عنه يتقي من الضحايا التي نقص من خلقها. وورد مثل ذلك عن السلف أنهم كانوا يكرهون كل نقص في الأضحية. وإذا طرأ العيبِ المخلِّ على الأضحية بعد تعيينها فتجزئ لما ورد في الحديث عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (اشتريت كبشاً أضحي به فعدا الذئب فأخذ أليته فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به) رواه أحمد والبيهقي.
وتطلب الأضحية ممن كان موسراً مالكاً لنصاب الزكاة على قول بعض أهل العلم وقال الحنابلة تشرع الأضحية في حق القادر عليها الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدَّين إذا كان يقدر على وفاء دينه.
وذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها كما هو مذهب جمهور أهل العلم.
وقال جمهور أهل العلم إن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت الواحد، فإذا ضحى بها واحد من أهل البيت، تأدى الشعار والسنة بجميعهم لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى في المصلى فلما قضى خطبته نزل من منبره وأُتِيَ بكبشٍ فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: باسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) . رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني.
وأما البدع والمنكرات فمنها: - ما تقوم به فرق التكبير قبل صلاة العيد من أمور مبتدعة حيث إن مجموعة من المؤذنين والقراء يجلسون على شكل حلقة ثم يبدؤون بالتكبير الجماعي ويرددون بعض الأذكار ثم يصيح أحدهم في نهاية كل وصلة تكبير بصوت مرتفع الفاتحة، وهكذا يعيدون الكرة مرة تلو مرة ثم ينقطعون فيتلو أحد القراء آيات من القرآن الكريم ثم يعودون إلى التكبير ويصيح أحدهم الفاتحة وهكذا دواليك وتستمر المجموعة في الزعيق والصياح إلى أن يحين موعد الصلاة.
ومنها تخصيص يوم العيد بزيارة القبور فزيارة القبور للرجال سنة مشروعة عن الرسول(11/88)
صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة) رواه مسلم.
ولكن الشرع لم يحدد يوماً معيناً لزيارة القبور لذلك فإن تخصيص يومي العيد بزيارة القبور بدعة مكروهة وقد تكون حراماً إذا رافقتها الأمور المنكرة التي نشاهدها في أيامنا هذه يوم العيد من خروج النساء المتبرجات إلى القبور واختلاطهن بالرجال وكذلك انتهاك حرمات الأموات من الجلوس على القبور ووطئها بالأقدام وغير ذلك من الأمور المخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز تخصيص زمان أو مكان بشيء من العبادة إلا بدليل شرعي. وكذلك فإن قراءة القرآن على القبور أمر غير مشروع أيضاً بل هو بدعة منكرة ما فعلها رسول صلى الله عليه وسلم ولا نقلت عن صحابته رضي الله عنهم والرسول صلى الله عليه وسلم علم الصحابة ما يقولون عند زيارتهم للقبور فقد ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم، فالمشروع في حق من يزور المقابر أن يسلم على الأموات بهذه الصيغة أو نحوها وأن يدعو ويستغفر لهم وأما قراءة الفاتحة كما يفعله أكثر الناس اليوم وكذا قراءة غيرها من القرآن فلا أصل له في الشرع وإن توارثه الناس في بلادنا كابراً عن كابر فإن الحق في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يعتاده الناس. ومن البدع وضع جريد النخيل والزهور وأكاليل الورود على القبور فهذا لا يجوز لأنه أمر محدث.
وتحرم مصافحة المرأة الأجنبية يوم العيد وغيره من الأيام ويجب التحذير مما يحصل من بعض الرجال في العيد من دخولهم على النساء في البيوت وهن لوحدهن بحجة أنها زيارة يوم العيد فهذا لا يجوز شرعاً، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من(11/89)
ذلك فقال في الحديث: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن خير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو أكمل الهدي، وعمله صلى الله عليه وسلم خير العمل، وعلى كل مسلم أن يبذل وسعه وطاقته في الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) سورة الأحزاب الآية 21.
وقد كان أعظم ما يميز هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في شعبان هو الصيام حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شعبان، بل إن شهر شعبان هو أكثر شهر صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رمضان فقد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك منها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهرٍ إلا رمضان وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلّت وكان إذا صلى صلاة داوم عليها) رواه البخاري.
وعنها رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان(11/90)
فإنه كان يصومه كله) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها قالت: (ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلا ً) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي [وقولها: (كان يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلاً) الثاني تفسير للأول، وبيان أن قولها كله أي غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت، ويصوم بعضه في سنة أخرى، وقيل: كان يصوم تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة بينهما، وما يخلي منه شيئاً بلا صيام، لكن في سنين، وقيل: في تخصيص شعبان بكثرة الصوم لكونه ترفع فيه أعمال العباد، وقيل غير ذلك.] شرح النووي على صحيح مسلم 3/223-224.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [ ... إن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم. ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: (شعبان تعظيماً لرمضان) وفي إسناده مقال. وفي سنن ابن ماجة: (أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (صم شوالاً) فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالاً حتى مات. وفي إسناده إرسال، وقد روي من وجه آخر يعضده. فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم، وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال. فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم، فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى. فظهر بهذا أن أفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده. فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك(11/91)
صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه ... ] لطائف المعارف ص248-249.
وقال بعض أهل العلم: الحكمة من صيام النبي صلى الله عليه وسلم أكثر شعبان أن كثيراً من الناس يغفلون عن الصيام في شعبان فكان صلى الله عليه وسلم يصوم أكثره وقد ورد ذلك معللاً في حديث أسامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر ما تصوم من شعبان؟ قال: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي معلقاً على حديث أسامة: [ ... أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه. وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام، وليس كذلك. وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناسٌ يصومون رجباً، فقال: (فأين هم عن شعبان) وفي قوله: (يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقاً أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم، وفيه: دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف، يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن) ... ] لطائف المعارف ص 250-251.(11/92)
وهنا لا بد من الإشارة إلى حديث قد يتعارض مع ما ذكرنا وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) رواه أصحاب السنن الأربعة. فيجاب عنه من وجهين: الأول: إن الحديث ضعيف ضعفه الإمام أحمد وابن معين والبيهقي. الثاني: إن صح فيحمل النهي في الحديث على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده قاله الحافظ ابن حجر. وقال الشوكاني: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة: (أن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجباً به) نيل الأوطار 4/276.
وينبغي أن يعلم أنه يكره للمسلم أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين لئلا يختلط النفل بالفرض، أو حتى يستريح الصائم ليدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم) رواه البخاري. وأخيراً أنبه على أن إحياء ليلة النصف من شعبان بدعة منكرة لا أصل له في الشرع وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) قال ابن الجوزي: [هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه آفات ثم ذكر من آفاته مروان بن سالم قال فيه النسائي والدارقطني والأزدي متروك. العلل المتناهية 2/562. وقال الحافظ ابن حجر عنه: [ومروان هذا متهم بالكذب] . الإصابة 5/580. وقال الحافظ عنه في لسان الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 4/391. وقال الذهبي في الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 5/372.
وخلاصة الأمر أنه كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم صيام أكثر شهر شعبان.(11/93)
إذا توفي قاصد الحج قبل أن يؤدي المناسك فهل يُحج عنه؟
يقول السائل: ذهب رجل لأداء فريضة الحج ولكنه توفي في حادث سيارة قبل أن يقف في عرفة أفيدونا؟
الجواب: إذا خرج المسلم من بيته قاصداً الحج ثم مات قبل أن يتمه أو مات قبل أن يبدأ به فقد وقع أجره على الله عز وجل كما قال الله تعالى {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} سورة النساء الآية 100.
فهذا الرجل خرج من بيته ناوياً الحج فله الأجر والثواب إن شاء الله تعالى وإن لم يتم أعمال الحج وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فصل - أي خرج من بيته - في سبيل الله فمات أو قتل، فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره، أو لدغته هامَّة، أو مات على فراشه، أو بأي حتف شاء الله تعالى، فإنه شهيد وإن له الجنة) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه وقال العلامة الألباني: إنما هو حسن فقط. أحكام الجنائز ص 37.
إذا تقرر بأن الأجر ثابت لمن مات ناوياً عملاً مشروعاً قبل أن يتمه فهذا الشخص الذي شرع بمناسك الحج ثم مات قبل أن يقف بعرفة إن مات محرماً فإنه يبعث ملبياً يوم القيامة كما ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر(11/94)
وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه - أي لا تطيبوه لأنه كان محرماً - ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) رواه البخاري ومسلم. ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن ابن بطال - أحد شرَّاح صحيح البخاري - قوله: [وفيه أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رُجِيَ له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل] فتح الباري 3/174.
ولا يجب قضاء الحج عمن مات قبل إتمام المناسك حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقضاء الحج عن الرجل الذي مات محرماً في الحديث السابق.
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين: [إذا هلك من سافر للحج قبل أن يخرج فليس بحاج، لكن الله عز وجل يثيبه على عمله، أما إذا أحرم وهلك فهو حاج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة فقال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) . ولم يأمرهم بقضاء حجه، وهذا يدل على أنه يكون حاجاً.] فتاوى ابن عثيمين 21/252.
ولا بد من التنبيه على أن من مات ولم يحج حجة الإسلام وترك مالاً فينبغي أن يحج عنه من ماله سواء ترك الحج لتقصير أو لغير تقصير وسواء أوصى بالحج عنه أم لم يوص ويدل على ذلك أحاديث منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن أختي قد نذرت أن تحج وإنها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كان(11/95)
عليها دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاقض الله فهو أحق بالقضاء.) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها قال نعم حجي عنها) رواه الترمذي وقال وهذا حديث صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء) رواه النسائي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها فلتحج عن أمها) رواه النسائي.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج، وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط وبهذا قال الحسن وطاووس، والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت، كالصلاة.
ولنا ما روى ابن عباس (أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم-عن أبيها مات ولم يحج؟ قال: حجي عن أبيك) وعنه (أن امرأة نذرت أن تحج، فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك؟ فقال: أرأيت لو كان على أختك دين أما كنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فاقضوا دين الله، فهو أحق بالقضاء) رواهما النسائي وروى هذا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة، فلم يسقط(11/96)
بالموت كالدين ... والعمرة كالحج في القضاء، فإنها واجبة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر، فكان من جميع المال كدين الآدمي.] المغني 3/233.
وخلاصة الأمر أن من مات أثناء تأدية مناسك الحج والعمرة فقد وقع أجره على الله ولا يلزم قضاء الحج عنه على الراجح من أقوال أهل العلم وأما من مات ولم يحج حجة الفريضة وقد ترك مالاً فينبغي أن يحج عنه سواء ترك الحج لتقصير أو لغير تقصير أوصى بالحج عنه أم لم يوص.(11/97)
المعاملات(11/99)
متى تعتبر مصاريف القروض رباً؟
يقول السائل: متى تعتبر الزيادة على القرض رباً محرماً؟ ومتى تعتبر مصاريف إدارية؟ حيث إنني توجهت لإحدى المؤسسات التي تقرض مبلغاً لبناء مسكن فطلبوا نسبة 3% كمصاريف إدارية، أفيدونا.
الجواب: الأصل الذي قرره فقهاؤنا أن أي زيادة مشروطة على مبلغ القرض تعتبر من الربا المحرم ومن المعلوم أن تحريم الربا قطعي في شريعتنا وأذكر بعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به: يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 278-279.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636.(11/101)
وقد دلت هذه النصوص على تحريم الربا وهو كل زيادة مشروطة على القرض.
ومما يدل أيضاً على منع الزيادة المشروطة ما روي في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وفي إسناده متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/34. ورواه البيهقي في السنن 5/350، بلفظ: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) وقال البيهقي: موقوف. ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار 8/169 والحديث ضعيف، ضعفه ابن حجر وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/235. ولكن معنى الحديث صحيح وقد اتفق الفقهاء على تحريم أي منفعة يستفيدها المقرض من قرضه ولكن ليس على إطلاقها، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً. قال الحافظ ابن عبد البر: " وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط ". وقال ابن المنذر: " أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا " الموسوعة الفقهية 33/130.
وأما إذا كانت الزيادة على القرض غير مشروطة عند العقد لا تصريحاً ولا تلميحاً فهي جائزة عند جمهور الفقهاء ولا تعد تلك الزيادة من الربا ويدل على جواز ذلك أحاديث واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم منها:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ضحى فقال: صل ركعتين وكان لي عليه دين فقضاني وزادني) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عند البخاري قال جابر رضي الله عنه: (فلما قدمنا المدينة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم يا بلال: اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً) . وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: (استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً -(11/102)
الفتي من الإبل - فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: إني لم أجد من الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً - جملاً كبيراً له من العمر ست سنوات - فقال: أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سناً فأعطى سناً خيراً من سنه، وقال: خياركم أحاسنكم قضاء) رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم مسن من الإبل فجاء يتقاضاه، فقال: أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سناً فوقها، فقال: أعطوه. فقال: أوفيتني أوفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء) رواه البخاري ومسلم.
وعن مجاهد قال: (استلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضاه دراهم خيراً منها فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة) رواه مالك في الموطأ.
وقال الإمام مالك رحمه الله: (لا بأس بأن يقبض من أسلف شيئاً من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفه ذلك أفضل مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما ... ) .
وقال القرطبي: [وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه لأن ذلك من باب المعروف استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر- الفتي من الإبل -: (إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة البخاري ومسلم. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة.] تفسير القرطبي 3/241.
وأما الزيادة على القرض التي تسمى رسوم خدمات القرض أو أجور القرض أو(11/103)
مصاريف إدارية أو أتعاب إدارية للقرض فيجب أن يعلم ما يلي:
أولاً: إن هذه الرسوم لا بد أن تكون مقابل خدمات فعلية لا وهمية.
ثانياً: أي زيادة على الخدمات الفعلية تعتبر من الربا المحرم شرعاً. جاء في قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث سنة 1407هـ وفق 1986م [ ... بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية:
1 - جواز أخذ أجور عن خدمات القروض.
2 - أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.
3- كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعًا.] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 3 الجزء 1/305.
ثالثاً: إن هذه الرسوم لا يجوز أن تكون مقابل إستيفاء القرض بل تكون عند إنشاء عقد القرض بمعنى أنها مصاريف إدارية تغطي التكاليف الإدارية مثل أجور الموظفين والشؤون المكتبية ونحو ذلك وإذا كانت الجهة المقرضة تتولى الإشراف على التنفيذ يدخل في ذلك أجور المهندسين أو المراقبين كما هو الحال في بعض المؤسسات التي تقرض للبناء والإسكان.
وأما إذا كانت مقابل استيفاء القرض فهي ربا لذا ما تسميه بعض المؤسسات رسوم تحصيل القرض وهو أن يدفع المقترض مع كل قسط يسدده مبلغاً من المال كرسوم تحصيل للقرض ما هو إلا ربا محرم.
رابعاً: كثير من فقهاء العصر يرون أن تقدر هذه الرسوم بمبلغ مقطوع ولا تقدر بنسبة مئوية وخاصة إذا أخذت هذه الرسوم مقابل الأمور المكتبية فقط لأنها إذا قدرت بنسبة مئوية فستختلف باختلاف مبلغ القرض لأنها لو كانت رسوماً للخدمات فعلاً لما اختلف مقدارها باختلاف حجم القرض وشروطه إذ أن الخدمات المكتبية التي تؤدى(11/104)
لمن يقترض ألفاً هي ذاتها الخدمات التي تؤدى لمن يقترض عشرة آلاف ولكنه التلاعب ومحاولة تغيير الأسماء ليخدع الناس ويظنوا أن ذلك لا شيء فيه ويجب أن يعلم أن هذه الرسوم بهذه الصورة هي ربا وإن غيرت أسماؤها لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا. ومن فقهاء العصر من أجاز أن تكون نسبة مئوية ضئيلة مثل 1% أو 2% مع تحقق ما ذكرته سابقاً.
وخلاصة الأمر أن الزيادة المشروطة على القرض تعتبر من الربا وأما الزيادة غير المشروطة فلا تعتبر من الربا كأن يهدي المقترض للمقرض هدية عند السداد. وأما رسوم خدمات القرض فيجب أن تقابل خدمات فعلية حقيقية وأن تكون معلومة ومقدرة تقديراً حقيقياً.
الضوابط الشرعية للتعامل بالأسهم
يقول السائل: ما هي الضوابط الشرعية للتعامل بالأسهم؟
الجواب: الأسهم عبارة عن حصص الشركاء في الشركات المساهمة حيث إن رأسمال الشركة المساهمة يقسم إلى أجزاء متساوية يسمى سهماً فالسهم هو جزء من رأس مال الشركة وهو يمثل حق المساهم مقدراً بالنقود لتحديد نصيبه في ربح الشركة أو خسارتها وكذلك تحديد مسؤولية المساهم في الشركة.
والأصل في الشركة المساهمة الجواز إذا كانت خالية من الربا والتعامل المحرم، فالمساهمون فيها يتحقق فيهم معنى الشركاء حيث إنهم يقدمون أسهمهم حصصاً في رأس المال فيشتركون في رأس المال، ويقتسمون الأرباح والخسائر فيكونون شركاء بمجرد توقيع عقد الاكتتاب في الشركة فيعتبر ذلك إيجاباً وقبولاً؛ لأن الإيجاب والقبول لا يشترط فيهما التلفظ بل يصحان بالكتابة. وهؤلاء الشركاء يوكلون مجلس إدارة الشركة بالقيام بالعمل وهو توكيل صحيح.
والقول بتحريم شركة المساهمة قول ضعيف جداً لا يؤيده دليل معتبر.(11/105)
وقد وضع الفقهاء المعاصرون ضوابط شرعية للتعامل بالأسهم سواء كان بشراء أسهم الشركات للاستفادة من ريعها أو كان للمتاجرة بها للاستفادة من فرق السعر بين الشراء والبيع وأهم هذه الضوابط ما يلي:
أولاً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً كما هو حال البنوك الربوية (التجارية) فهي في الأصل شركات مساهمة تقوم على الإقراض والاقتراض بالربا (الفائدة) .
ثانياً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالمباح ولكن يدخل في تعاملها الربا مثل أن ينص نظامها الأساسي على أنها تقرض وتقترض بالربا كما هو واقع كثير من الشركات المساهمة الكبيرة التي تتعامل في مجالات الكهرباء والاتصالات والمواصلات وغير ذلك.
والقول بتحريم الإسهام في هذه الشركات هو القول الراجح من قولي العلماء المعاصرين في هذه المسألة لأنه لا يجوز للمسلم أن يوقع أي عقد تضمن شروطاً ربوية وهذه الشركات يوجد في نظامها الأساسي بند ينص على أنها تقرض وتقترض بالربا. وينبغي للمسلم أن يحرص على الكسب الحلال ويبتعد عن الكسب الذي فيه شبهة.
جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة ما يلي:
1- بما أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة أمر جائز شرعاً.
2- لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو تصنيع المحرمات أو المتاجرة فيها.
3- لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالماً بذلك.(11/106)
4- إذا اشترى شخص - أسهماً - وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا، ثم علم فالواجب عليه الخروج منها.
والتحريم في ذلك واضح، لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا، ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك، يعني اشتراك المشتري نفسه في التعامل بالربا، لأن السهم يمثل جزءاً شائعاً من رأس مال الشركة، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة، فكل مال تقرضه الشركة بفائدة، أو تقترضه بفائدة، فللمساهم نصيب منه، لأن الذين يباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابة عنه، والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز.]
ورد في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع ما يلي: [الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.]
ثالثاً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات عملها مباح ولكنها تملك أسهماً في البنوك الربوية لأن من مصادر دخلها ما هو ربا وتحريم الربا قليلاً كان أو كثيراً قطعي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالمحرمات كالشركات المنتجة للخمور والدخان والتي تعمل في مجال التأمين التجاري أو القمار ونحو ذلك من المحرمات.
خامساً: لا يجوز تداول أسهم الشركات التي ما زالت في طور التأسيس قبل أن يتحوّل رأس مال الشركة إلى سلع ومعدات وأعيان فلا يجوز بيع هذه الأسهم بأكثر من قيمتها الحقيقية لأنه حينئذٍ يكون بيع نقود بنقود مع زيادة وهذا ربا واضح، إلا إذا بِيعت الأسهم بنفس قيمتها الاسمية دون أية زيادة فهذا جائز.
سادساً: [لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن(11/107)
السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
سابعاً: لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم، لأنه من بيع ما لا يملك البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض] . من قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع.
ثامناً: التداول في الأسهم عن طريق ما يسمى البيع على المكشوف والمراد به: (قيام شخص ببيع أسهم لا يملكها، عن طريق اقتراضها من آخرين، مقابل الالتزام بإعادة شرائها، وتسليمها للمقرض، في وقت محدد) . وهذا النوع محرم لاشتماله على الربا والغرر. جاء في قرار المجمع الفقهي [إن العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعاً؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك اعتماداً على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد، وهذا منهي عنه شرعاً، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تبع ما ليس عندك) ، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) .]
وختاماً أقول إن تعامل الناس بالأسهم الربوية قد كثر في هذا الزمان طمعاً في تحقيق مكاسب سريعة ونسوا أو تناسوا أنهم سيقفون غداً بين يدي الله عز وجل وسيسألهم عن أموالهم من أين اكتسبوها؟ وفيما أنفقوها؟ فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه)(11/108)
رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. وأذكر هؤلاء ببعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به:
1. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 276-277.
2. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
3. وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488.
4. وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وغير ذلك من الأحاديث.
حكم غرامات شركة الكهرباء
يقول السائل: إن شركة الكهرباء تقوم بفرض غرامة على كل من يتأخر بسداد الفاتورة عن موعدها فما هو الحكم الشرعي لهذه الغرامة أفيدونا؟
الجواب: لابد أن يعلم أولاً أنه يجب شرعاً سداد فاتورة الكهرباء في موعدها لأن ذلك هو مقتضى العقد القائم بين شركة الكهرباء والمشترك ولا يجوز التأخر في السداد وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعقود في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة الآية 1. إذا تقرر ذلك فإن فرض غرامة مالية على من يتأخر في سداد فاتورة الكهرباء محرم شرعاً لأنه رباً واضح وهو عين الربا الذي كان في الجاهلية.
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {إنما البيع مثل الربا} سورة البقرة الآية 275 ما(11/109)
نصه: [أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخراً كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حلَّ دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما أن تُربي، أي تزيد في الدين. فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وأوضح أن الأجل إذا حلَّ ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة. وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال: (ألا إن كل رباً موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) . فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به. وهذا من سنن العدل للإمام أن يُفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس.] تفسير القرطبي 3/356.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية ما يلي: [إن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حلَّ أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد. هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً] مجلة المجمع عدد 2 ج 2 ص 873.
ويجب أن يعلم أن كل غرامة تفرض على المدين تعتبر من باب الربا وإن سميت غرامة تأخير أو سميت شرطاً جزائياً فإن الشرط الجزائي لا يكون في الديون وإنما يكون في العقود المالية التي تخلو من الديون كعقود المقاولات والتوريد وغيرهما فمثلاً لو اتفق شخص مع مقاول ليبني له بيتاً واتفقا على تسليم البيت في موعد محدد واتفقا على أنه إذا تأخر المقاول في التسليم فيدفع له مبلغاً من المال عن كل يوم تأخر فيه عن تسليم البيت صح ذلك شرعاً. ولا يعتبر هذا المبلغ من الربا.
وكذلك عقود المقاولات التي تتم بين الشركات والدولة أو أصحاب المشاريع وكان الاتفاق فيها على العمل يجوز شرعاً أن تتضمن شرطاً جزائياً مالياً على أن يكون التأخير في تسليم ما اتفق عليه ناتجاً عن إهمال من المقاول أو تقصير منه وأن لا يكون(11/110)
التأخير ناتجاً عن أمور خارجة عن إرادة المقاول كالعوامل الطبيعية مثلاً. وبشرط أن يكون مقدار الشرط الجزائي مماثلاً للضرر الفعلي الذي لحق بالطرف الآخر.
ومما يدل على جواز الشرط الجزائي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء.
ويمكن أن يستدل على جواز الشرط الجزائي بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريِّه: (من يكري وسائل النقل) أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً ليس مكره فهو عليه) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشر والمتعلق بالشرط الجزائي ما يلي:
[أولاً: الشرط الجزائي في القانون هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شُرِط له عن الضرر الذي يلحقه إذا لم يُنَفِّذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخّر في تنفيذه.
ثانياً: يؤكد المجلس قراراته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السَّلَم رقم 85 (2/9) ، ونصه: "لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير"، وقراره في الاستصناع رقم 65 (3/7) . ونصه: "يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً(11/111)
بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة"، وقراره في البيع بالتقسيط رقم 51 (2/6) ونصه: "إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم".
ثالثاً: يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترناً بالعقد الأصلي، كما يجوز أن يكون في اتفاق لاحقٍ قبل حدوث الضرر.
رابعاً: يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها ديناً؛ فإن هذا من الربا الصريح وبناء على هذا، يجوز هذا الشرط - مثلاً - في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاستصناع بالنسبة للصانع إذا لم ينفّذ ما التزم به أو تأخّر في تنفيذه. ولا يجوز - مثلاً - في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء، كان بسبب الإعسار، أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه. خامساً: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لَحِق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي.
سادساً: لا يُعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شُرِط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسببٍ خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.
سابعاً: يجوز للمحكمة بناء على طلب أحد الطرفين أن تُعدِّل في مقدار التعويض إذا وجدت مبرراً لذلك، أو كان مبالغاً فيه.] مجلة المجمع العدد الثاني عشر ج 2/91.
وبهذا يظهر لنا بوضوح وجلاء أن الشرط الجزائي يجوز في العقود التي لا يكون الالتزام فيها ديناً، أما ما كان الالتزام فيها ديناً فإنه لا يجوز فيها الشرط الجزائي بحال من الأحوال كالبيع بالتقسيط فلا يجوز الشرط الجزائي فيه عند تأخر المدين(11/112)
بالسداد وكذلك لا يجوز شرعاً فرض غرامات التأخير في عقود بيع المرابحة للآمر بالشراء فلا يجوز شرعاً أن يتفق البنك الإسلامي مع العميل المدين على أن يدفع له مبلغاً محدداً أو نسبة من الدين الذي عليه في حالة تأخره عن السداد في المدة المتفق عليها سواء أسمي هذا المبلغ غرامة تأخير أو تعويضاً عن الضرر أو شرطاً جزائياً، لأن هذا هو ربا الجاهلية المتفق على تحريمه كما سبق وهذا أصح قولي العلماء في هذه المسألة. وكذلك جميع الديون المستحقة على الانسان سواء كانت عن بيع أو قرض أو شراء منفعة أو نحو ذلك فلا يجوز شرعاً فرض غرامة تأخير فيها لأن هذا هو ربا الجاهلية فالشرط الجزائي في الديون كلها لا يجوز فهو رباً محرم. وخلاصة الأمر أنه يجب سداد فواتير الكهرباء في مواعيدها ويحرم شرعاً التهرب من ذلك بأي وسيلة كانت كما يحرم فرض غرامات تأخير على من يتأخر في السداد ويتحمل إثم فرض هذه الغرامات الربوية مجلس إدارة الشركة وكل من أسهم في فرضها وكل من حصلَّها وتعاون على هذا الإثم لأنها رباً محرم وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وكذلك يحرم فرض غرامات التأخير في كل التزام أصله دين.(11/113)
أثر اختلاف قيمة العملة على المهور
يقول السائل: إنه متزوج من أكثر من أربعين سنة ويريد أن يعطي زوجته مؤخر مهرها وقدره مئتا دينار أردني ولكن زوجته ترفض أخذ المئتي دينار لأن قيمة العملة قد اختلفت اختلافاً كبيراً فما قولكم أفيدونا؟
الجواب: إن المهر حق من حقوق الزوجة الواجبة على زوجها يقول الله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) سورة النساء الآية 4.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصدق نساءه عند الزواج فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أنه قال (سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً. قالت أتدري ما النش؟ قال: قلت لا. قالت: نصف أوقية فتلك خمس مائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه) رواه مسلم.
وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون فعن أنسٍ رضي الله عنه قال سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار كم أصدقتها؟ قال وزن نواة من ذهب) رواه البخاري
وقد اتفق العلماء على أنه يجوز التعجيل والتأجيل في المهر المسمى في عقد الزواج فيصح أن يكون بعض المهر معجلاً وبعضه مؤجلاً على حسب ما يتم عليه الاتفاق عند عقد الزواج وسواء كان المهر معجلاً أو مؤجلاً فهو حق ثابت للزوجة ودين واجب لها في ذمة الزوج.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويجوز أن يكون الصداق معجلاً ومؤجلاً وبعضه معجلاً وبعضه مؤجلاً لأنه عوض في معاوضة فجاز ذلك فيه كالثمن ثم إن أطلق ذكره اقتضى الحلول كما لو أطلق ذكر الثمن وإن شرطه مؤجلاً إلى وقت فهو إلى أجله وإن أجله ولم(11/114)
يذكر أجله فقال القاضي: المهر صحيح ومحله الفرقة فإن أحمد قال إذا تزوج على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة وهذا قول النخعي والشعبي ... ووجه القول الأول أن المطلق يحمل على العرف والعادة في الصداق الآجل ترك المطالبة به إلى حين الفرقة فحمل عليه فيصير حينئذ معلوماً بذلك] المغني 7/222.
ومن المعلوم أن العرف في بلادنا جرى على أن يكون جزء من المهر مؤجلاً تأجيلاً مطلقاً ويكون ديناً في ذمة الزوج وفي هذه الحالة يجب المهر المؤجل للمرأة في حالتين وهما: الطلاق والوفاة فإذا طلق الزوج امرأته وجب لها المؤجل من مهرها وكذا إذا مات زوجها وجب لها المهر المؤجل ويخرج من التركة ويخرج قبل الوصية وقبل قسمة التركة بين الورثة.
وكذلك إذا ماتت الزوجة ولها مهر مؤجل في ذمة زوجها فيكون مهرها المؤجل من ضمن تركتها ويوزع على الورثة بقدر نصيب كل منهم.
وقد نصت المادة " 46 " من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية عندنا على ذلك ( ... وإذا لم يكن الأجل معيناً اعتبر المهر مؤجلاً إلى وقوع الطلاق أو وفاة أحد الزوجين) ويخرج قبل الوصية وقبل قسمة التركة بين الورثة.
ولا يجوز للزوجة أن تطالب زوجها بالمهر المؤجل ما دامت على ذمته لأن العرف جارٍ على تأخيره وتنص القاعدة الفقهية على أن العادة محكمة، وكذا المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً وكذا استعمال الناس حجة يجب العمل بها.
وقيام الرجل بدفع المهر المؤجل لزوجته أمر حسن وفيه إبراء لذمته ولكنه ليس واجباً عليه بل يجب في حالتي الطلاق أو الوفاة كما سبق.
وأما بالنسبة لعدم قبول الزوجة للمئتي دينار وهي مقدار مهرها المؤجل بحجة أن قيمة العملة قد تغيرت فلا بد أن أبين أن الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله(11/115)
عنهما أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) .
وفي رواية أخرى: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق - الفضة المصكوكة - وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، (فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو الدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعاً آجلاً وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد مع من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلاً إذا باع بمئة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهماً أفيأخذ الألف أم ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كرَّيٍ لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق. فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء، يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 جزء 3 ص1727-1728.
وقرر معظم فقهاء العصر أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها إلا إذا كان تغير قيمة العملة كبيراً ويرون أن قضاء الديون بقيمتها يعد من الربا المحرم شرعاً [إن الحكم على المدين المماطل بتعويض دائنه بفرق هبوط القوة الشرائية للنقد عقب مطله(11/116)
غير سائغ شرعاً إذ هو وقوع في حمى الربا المحرم تحت ستار تعويض الدائن عن انخفاض القوة الشرائية للنقود، بل إن الدائن ليحصل في كثير من الأحيان باسم ذلك التعويض على ما يزيد قدراً ويفوق جوراً الفوائد التأخيرية في البنوك الربوية] قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص500.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها ... ] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3/2261.
هذا هو الأصل المقرر في قضاء الديون بأمثالها لا بقيمتها إلا إذا كان التغير في قيمة العملة كبيراً وبما أن المدة المذكورة في السؤال طويلة (أربعون سنة) فلا شك أن قيمة العملة الأردنية قد اختلفت اختلافاً كبيراً خلال هذه المدة فيجب على الزوج أن يعطي زوجته قيمة المئتي دينار لا عددها والمرجع في تقدير القيمة هنا الذهب أي نسأل الصاغة والصرافين عن المئتي دينار كم كان يشترى بها غرامات ذهب؟ فيعطي الزوجة قيمة ذلك الذهب في الوقت الحاضر. وأما أن يعطيها ما كتب لها في عقد الزواج منذ أربعين سنة، فظلم واضح.
وخلاصة الأمر أنه لا يجب على الزوج أن يدفع المهر المؤجل لزوجته ما دامت على ذمته فإن فعل فأمر حسن وعلى السائل أن يعطي زوجته قيمة مهرها المؤجل نظراً لاختلاف قيمة العملة اختلافاً كبيراً.(11/117)
حكم تصرف الشريك بدون إذن شريكه
يقول السائل: ثلاثة شركاء يمتلكون عمارة من ثلاثة طوابق ملكاً مشاعاً فقام أحد الشركاء ببيع العمارة بدون إذن شريكيه فرفض الشريكان الآخران البيع وسألوا أحد المشايخ فأجابهم بأن البيع لازم ولا يحق لهما نقض البيع فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: الشركة القائمة بين الشركاء الثلاثة المذكورين في السؤال هي شركة ملك على الشيوع وشركة الملك هي أن يختص اثنان فصاعداً بشيء واحد. وبما أن حصة كل شريك غير متميزة عن الآخر فإن ملكهم للعمارة على سبيل الشيوع. وقد بين الفقهاء أن الشريك في شركة الملك لا يملك التصرف في حصة شريكه بغير إذنه، فقد جاء في المادة 1075 من مجلة الأحكام وشرحها درر الحكام ما يلي: [كل واحد من الشركاء في شركة الملك أجنبي في حصة الآخر ولا يعتبر أحد وكيلاً عن الآخر فلذلك لا يجوز تصرف أحدهما في حصة الآخر بدون إذنه ... فلذلك لو باع أحد صاحبي الدار المشتركة نصفها لآخر فيصرف البيع الواقع على أنه في حصته وينفذ ; لأنه يجب حمل تصرف الإنسان على أنه وقع بصورة مشروعة، فلو حمل بأن نصف ما باعه في حصته ونصف ما باعه في حصة شريكه فيكون قد حمل عمله على أمر غير مشروع ... فلذلك لا يجوز تصرف أحدهما تصرفاً مضراً في حصة الآخر بدون إذنه صراحة أو دلالة وإذا تصرف يضمن. انظر المادة (96) .... مثال للبيع - لو باع أحد صاحبي الدار المشتركة حصته وحصة شريكه بدون إذنه لآخر فيكون البيع المذكور فضولاً في حصة الشريك (البهجة) وللشريك المذكور إن شاء فسخ البيع في حصته وإن شاء أجاز البيع إذا وجدت شرائط الإجازة. درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3/ 28-29.
وجاء في الفتاوى الهندية [ولا يجوز لأحدهما أن يتصرف في نصيب الآخر إلا بأمره]
قال الكاساني: [فأما شركة الأملاك فحكمها في النوعين جميعاً واحد، وهو أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، لا يجوز له التصرف فيه بغير(11/118)
إذنه لأن المطلق للتصرف، الملك أو الولاية ولا لكل واحد منهما في نصيب صاحبه ولاية بالوكالة أو القرابة ; ولم يوجد شيء من ذلك وسواء كانت الشركة في العين أو الدين لما قلنا] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/87.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية [الأصل أن كل واحد من الشريكين أو الشركاء في شركة الملك أجنبي بالنسبة لنصيب الآخر. لأن هذه الشركة لا تتضمن وكالة ما، ثم لا ملك لشريك ما في نصيب شريكه، ولا ولاية له عليه من أي طريق آخر. والمسوغ للتصرف إنما هو الملك أو الولاية وهذا ما لا يمكن تطرق الخلاف إليه. ويترتب على ذلك ما يلي:
ليس لشريك الملك في نصيب شريكه شيء من التصرفات التعاقدية: كالبيع، والإجارة، والإعارة وغيرها، إلا أن يكون ذلك بإذن شريكه هذا. فإذا تعدى فآجر مثلاً، أو أعار العين المشتركة فتلفت في يد المستأجر أو المستعير، فلشريكه تضمينه حصته وهذا أيضاً مما لا خلاف فيه.] الموسوعة الفقهية الكويتية 26/22-23.
إذا تقرر هذا فإن ما قام به الشريك من بيع لحصة شريكيه بغير إذنهما يسمى بيع الفضولي عند الفقهاء، وقد ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعي في قوله القديم وهو أحد قوليه في الجديد وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن البيع صحيح إلا أنه موقوف على إجازة المالك.
وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد وأحمد في الرواية الأخرى عنه إلى أن البيع باطل. قال الإمام النووي [سبق أن شروط المبيع خمسة منها أن يكون مملوكاً لمن يقع العقد له فان باشر العقد لنفسه فشرطه كونه مالكاً للعين وإن باشره لغيره بولاية أو وكالة فشرطه أن يكون لذلك الغير، فلو باع مال غيره بغير إذن ولا ولاية، فقولان الصحيح أن العقد باطل وهذا نصه في الجديد وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين وكثيرون أو الأكثرون من الخراسانيين لما ذكره المصنف وسنزيده دلالة في فرع مذاهب(11/119)
العلماء إن شاء الله تعالى والقول الثاني وهو القديم أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك إن أجاز صح البيع وإلا لغا ...
فرع في مذاهب العلماء في تصرف الفضولي بالبيع وغيره في مال غيره بغير إذنه، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور بطلانه ولا يقف على الإجازة وكذا الوقف والنكاح وسائر العقود وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر وأحمد في أصح الروايتين عنه وقال مالك يقف البيع والشراء والنكاح على الإجازة فان أجازه من عقد له صح وإلا بطل، وقال أبو حنيفة إيجاب النكاح وقبوله يقفان على الإجازة ويقف البيع على الإجازة ولا يقف الشراء وأوقفه اسحق بن راهويه في البيع ... ] المجموع 9/259.
والراجح من أقوال أهل العلم في بيع الفضولي أنه صحيح ولكنه موقوف على إجازة المالك ويدل لذلك ما ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال: (سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب أربح فيه) . ويدل له حديث ابن عمر في قصة الثلاثة أصحاب الغار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قال الثالث اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمَّرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدِ إليَّ أجري فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت لا أستهزئ فأخذه كله فاستاقة فلم يترك منه شيئا) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأدلة.
وبناءً على ما سبق فإن القول بأن عقد البيع الذي عقده الشريك لازم في حق شريكيه، قول باطل، وإنما هو لازم في حق من عقده فقط ويملك الشريكان الآخران إبطال العقد في حصتيهما.(11/120)
قال الزيلعي الحنفي (ومن باع ملك غيره فللمالك أن يفسخه ويجيزه إن بقي العاقدان والمعقود عليه وله وبه لو عرضاً) أي للمالك أن يجيز العقد بشرط أن يبقى المتعاقدان والمعقود عليه والمعقود له وهو المالك بحالهم والأصل فيه أن كل تصرف صدر من الفضولي وله مجيز حال وقوعه انعقد موقوفاً على الإجازة عندنا وإن لم يكن له مجيز حالة العقد لا يتوقف ويقع باطلاً] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/102-103
وجاء في المادة 378 من مجلة الأحكام العدلية [بيع الفضولي إذا أجازه صاحب المال، أو وكيله، أو وصيه، أو وليه نفذ وإلا انفسخ إلا أنه يشترط لصحة الإجازة أن يكون كل من البائع والمشتري والمجيز والمبيع قائماً وإلا ; فلا تصح الإجازة]
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية [اتفق الفقهاء على أن من شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو له عليه ولاية أو وكالة تجيز تصرفه فيه واتفقوا أيضا على صحة بيع الفضولي، إذا كان المالك حاضراً وأجاز البيع، لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل. واتفقوا أيضا على عدم صحة بيع الفضولي إذا كان المالك غير أهل للإجازة، كما إذا كان صبياً وقت البيع.] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/117.
وخلاصة الأمر أن ما قام به الشريك من بيع حصة شريكيه بدون إذنهما تصرف باطل وغير لازم لهما والقول بأن تصرفه وقع لازماً لهما قول غير صحيح.(11/121)
حكم استئجار الحلي الذهبية
يقول السائل: شاب يريد الزواج وهو فقير الحال وقد اتفق مع عروسه على استئجار الحلي الذهبية لمدة شهر وبعد إتمام الزواج يرد الحلي للصائغ ويدفع الأجرة المتفق عليها فما حكم ذلك.
الجواب: الإجارة عند الفقهاء عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض. الموسوعة الفقهية 1/252.
ولا خلاف بين الفقهاء أنه يشترط لانعقاد الإجارة عليها أن تقع الإجارة على المنفعة لا على استهلاك العين. وينطبق ذلك على استئجار الحلي الذهبية بالنقود فإن العقد وقع على منفعة الحلي وهي التزين بها فيجوز شرعاً استئجار الحلي الذهبية بالنقود وهو قول جمهور أهل العلم وبه قال الحنفية والشافعية والحنابلة وهو قول في مذهب المالكية ويجب أن يعلم أن هذه المسألة من باب الإجارة ولا علاقة لها بالربا ويشبه ذلك إجارة الأراضي لأن الحلي عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة مع بقائها فجازت إجارتها ولأن الحلي الذهبية من الأعيان الثابتة وقد اتفق الفقهاء على جواز استئجار الأعيان الثابتة بخلاف الأعيان المستهلكة فلا تجوز إجارتها فلو استأجر رطلاً من الأرز فالإجارة باطلة.
وأما المالكية فقد كرهوا إجارة الحلي في قول عندهم لأن زكاة الحلي إعارته ولأنه ليس من شأن الناس وورد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: زكاة الحلي إعارته، وجاء في منح الجليل شرح مختصر خليل من كتب المالكية في تعليل المنع من إجارة الحلي [لأنه ليس من أخلاق الناس وليس بحرام بين ... واستثقله الإمام مالك رضي الله عنه مرة وخففه مرة. ونقل ابن يونس عن مالك ليس كراء الحلي من أخلاق الناس، معناه أنهم كانوا يرون زكاته أن يعار، فلذلك كرهوا أن يكرى]
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فصل: فيما تجوز إجارته تجوز إجارة كل عين يمكن(11/122)
أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها بحكم الأصل، كالأرض والدار والعبد، والبهيمة والثياب والفساطيط، والحبال والخيام والمحامل، والسرج واللجام والسيف، والرمح وأشباه ذلك وقد ذكرنا كثيراً مما تجوز إجارته في مواضعه.
وتجوز إجارة الحلي. نص عليه أحمد، في رواية ابنه عبد الله. وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي. وروي عن أحمد أنه قال في إجارة الحلي: ما أدري ما هو؟ قال القاضي: هذا محمول على إجارته بأجرة من جنسه فأما بغير جنسه فلا بأس به لتصريح أحمد بجوازه.
وقال مالك في إجارة الحلي والثياب: هو من المشتبهات. ولعله يذهب إلى أن المقصود بذلك الزينة، وليس ذلك من المقاصد الأصلية.
ومن منع ذلك بأجر من جنسه، فقد احتج له بأنها تحتك بالاستعمال، فيذهب منها أجزاء وإن كانت يسيرة، فيحصل الأجر في مقابلتها، ومقابلة الانتفاع بها، فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر.
ولنا أنها عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة، مع بقاء عينها، فأشبهت سائر ما تجوز إجارته، والزينة من المقاصد الأصلية ; فإن الله تعالى امتن بها علينا بقوله تعالى: {لتركبوها وزينة} وقال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} وأباح الله تعالى من التحلي واللباس للنساء ما حرمه على الرجال، لحاجتهن إلى التزين للأزواج، وأسقط الزكاة عن حليهن معونة لهن على اقتنائه. وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح ; لأن ذلك يسير، لا يقابل بعوض، ولا يكاد يظهر في وزن، ولو ظهر فالأجر في مقابلة الانتفاع، لا في مقابلة الأجزاء ; لأن الأجر في الإجارة، إنما هو عوض المنفعة، كما في سائر المواضع، ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب، لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر ; لإفضائه إلى الفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض.] المغني 5/403-404.(11/123)
وقال الإمام النووي [ذكر الصيمري ثم الماوردي ومتابعوهما هنا أن الأفضل إذا أكرى حلي ذهب أو فضة أن لا يكريه بجنسه بل يكري الذهب بالفضة والفضة بالذهب فلو أكرى الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فوجهان: (أحدهما) بطلانه حذراً من الربا، والصحيح الجواز كسائر الإجارات، قال الماوردي: وقول الأول باطل؛ لأن عقد الإجارة لا يدخله الربا، ولهذا يجوز إجارة حلي الذهب بدراهم مؤجلة بإجماع المسلمين، ولو كان للربا هنا مدخل لم يجز هذا.] المجموع 6/ 46.
وقال شمس الأئمة السرخسي [وذكر عن الحسن رحمه الله قال: لا بأس بأن يستأجر الرجل حلي الذهب بالذهب وحلي الفضة بالفضة وبه نأخذ فإن البدل بمقابلة منفعة الحلي دون العين ولا ربا بين المنفعة وبين الذهب والفضة، ثم الحلي عين منتفع به واستئجاره معتاد فيجوز] المبسوط
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية [الأصل إباحة إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها، ولهذا صرح الشافعية والحنابلة بجواز - إجارة - الثياب والحلي للتزين، فإن النفقة بهما مباحة مقصودة مع بقاء عينها، والزينة من المقاصد المشروعة، قال الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} .
وجواز إجارة حلي الذهب والفضة بغير جنسه محل اتفاق بينهم، وتردد أحمد فيما إذا كانت الأجرة من جنسها، وروي عنه جوازه مطلقاً ... وكره المالكية إجارة الحلي؛ لأنه ليس من شأن الناس، وقالوا: الأولى إعارته لأنها من المعروف ... والجواز مفهوم من قواعد المذاهب الأخرى أيضاً؛ لأن أصل التزين مشروع، والإجارة على المنافع المشروعة صحيحة] الموسوعة الفقهية الكويتية 11/276.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية عن مثل هذا السؤال، وهو تأجير الحليّ من الذهب والفضة لتلبسه المرأة عند الزواج ثم يعاد بعد أسبوعين مثلاً مع دفع الأجرة فأجابت: الأصل جواز تأجير الحلي من الذهب والفضة بأحد(11/124)
النقدين أو غيرهما بأجرة ومدة معلومتين، يرد المستأجر الحلي بعد انتهاء مدة الإجارة ولا بأس بأخذ رهن في ذلك] فتاوى اللجنة الدائمة عن الإنترنت.
وينبغي التنبيه إلى مسألة قريبة من هذه المسألة وهي اقتراض الذهب فيجوز عند العلماء اقتراض الذهب بذهب مثله فيجوز أن يقترض شخص مئة غرام ذهب عيار 21 على أن يردها مئة غرام ذهب عيار 21 وله أن يرد ثمنها في يوم السداد إذا اتفق المتعاقدان على ذلك. ويدل عليه ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كنت أبيع الإبل في البقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس، إذا أخذتهما بسعر يومهما فافترقتما وليس بينكما شيء) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وخلاصة الأمر أنه يجوز استئجار الحلي الذهبية بالنقود وكذا يجوز استقراض الذهب بشرط أن يرد مثله أو قيمته يوم السداد.(11/125)
حكم الشرط الجزائي في العقود التي تتضمن التزاماً مالياً في الذمة
السؤال: اطلعت على اتفاقية تلزيم مقصف في إحدى المؤسسات وقد لفت نظري بند ينص على أنه في حالة التأخر عن الدفع يترتب على الفريق الثاني دفع مبلغ وقدره 300 شيكل عن كل يوم تأخير وقد رأيت أن أبين حكم هذا الشرط فيما يلي:
الجواب: الشرط المذكور في الاتفاقية المشار إليها يسمى شرطاً جزائياً وهو اتفاق المتعاقدين في ذات العقد أو في اتفاق لاحق، وبشرط أن يكون ذلك قبل الإخلال بالالتزام على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن عند عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه أو تأخيره عنه فيه. انظر بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة 2/855.
والشرط الجزائي منه ما يكون في العقود التي تتضمن أعمالاً كعقود المقاولة والتوريد وعقد الاستصناع بالنسبة للصانع إذا لم ينفّذ ما التزم به أو تأخر في تنفيذه. ومنه ما يكون في العقود التي تتضمن التزاماً مالياً في الذمة وقد اتفق الفقهاء المعاصرون على جواز النوع الأول من الشروط الجزائية وأما النوع الثاني فهو محرم عند أكثر فقهاء العصر.
ويستدل على جواز النوع الأول من الشرط الجزائي بما رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريِّه: (من يكري وسائل النقل) أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً ليس مكره فهو عليه.
ويدخل النوع الأول من الشرط الجزائي في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح. وجاء في رواية أخرى: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وكذلك الاعتماد على القول الصحيح من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً(11/126)
أو قياساً. انظر أبحاث هيئة كبار العلماء 1/213.
وأما النوع الثاني من الشروط الجزائية وهو ما كان مقرراً لتأخير الوفاء بالديون اللازمة في الذمة فهو محرم لأنه عين الربا وقد قرر مجمع الفقه الاسلامي في دورته الرابعة عشرة في الفترة من 8 إلى 13 ذو القعدة 1423هـ، الموافق 11 ـ 16 كانون الثاني 2003 ما يتعلق بالديون المتأخرة وسدادها:
أـ بخصوص الشرط الجزائي في العقود: يؤكد المجلس قراراته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السَّلم رقم 85 (2/9) ونصه: «لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه، لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير» ، وقراره في الشرط الجزائي رقم 109 (4/12) ونصه: «يجوز أن يكون الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دَيناً، فإن هذا من الربا الصريح، وبناء على هذا لا يجوز الشرط الجزائي ـ مثلاً ـ في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء كان بسبب الإعسار أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه» .
ب ـ يؤكد المجمع على قراره السابق في موضوع البيع بالتقسيط رقم 51 (2/6) في فقراته الآتية:
ثالثا: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
رابعا: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حلَّ من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.]
وبناءً على ما سبق فإن الشرط الجزائي لا يدخل في باب الديون مطلقاً فلذا لا يجوز أن يدخل الشرط الجزائي في بيع التقسيط في حالة تأخر المشتري عن السداد وكذلك لا(11/127)
يدخل في عقد الإجارة إذا تأخر المستأجر في دفع الأجرة وكذلك لا يدخل في عقد القرض إذا تأخر المقترض في سداد القرض.
قال ابن المنذر: [أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا] الموسوعة الفقهية 33/130. وجاء في قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي:
[نظر المجمع الفقهي في موضوع السؤال التالي، إذا تأخر المدين عن سداد الدين في المدة المحددة، فهل للبنك الحق أن يفرض على المدين غرامة مالية، جزائية بنسبة معينة بسبب التأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما؟
الجواب: وبعد البحث والدراسة، قرر المجمع الفقهي بالإجماع ما يلي: إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة، إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو فرض باطل، ولا يجب الوفاء به، ولا يحل سواءً أكان الشارط هو المصرف أو غيره، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه.]
ويجب أن يعلم أنه يحرم على الغني أن يماطل فيما وجب عليه من حقوق، كالدين مثلاً، وكذلك من وجد أداءً لحق عليه وإن كان فقيراً تحرم عليه المماطلة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: [والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيراً] فتح الباري 5/371. وأما إذا كان المدين معسراً فإن الله سبحانه وتعالى طلب إنظاره إلى ميسرة، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} سورة البقرة الآية 280.
وخلاصة الأمر أن الشرط المذكور في اتفاقية تلزيم المقصف الذي ينص على أنه في حالة(11/128)
التأخر عن الدفع يترتب على الفريق الثاني دفع مبلغ وقدره 300 شيكل عن كل يوم تأخير أنه شرط ربوي محرم لا يجوز اشتراطه ويحرم الوفاء به لأنه عين الربا المحرم تحريماً قطعياً في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
رد السلعة المعيبة
يقول السائل: إنه اشترى بضاعة جديدة وبعد أن استلمها تبين له وجود عيوب فيها فطالب البائع بردها فرفض البائع ردها بحجة أنه لا يعلم عن العيب شيئاً، فما الحكم في ذلك ومتى يجوز الرد بالعيب أفيدونا؟
الجواب: الأصل في المسلم أنه إذا باع سلعة وكان فيها عيب أن يبينه ولا يحل له كتمان العيب لأن هذا من الغش ومن باب أكل أموال الناس بالباطل كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} سورة النساء الآية 29.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) . قال الإمام النووي [ومعناه ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله لست مني وهكذا في نظائره مثل قوله (من حمل علينا السلاح فليس منا) وكان سفيان بن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول: بئس مثل القول بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر اهـ.] نيل الأوطار 4/240.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا(11/129)
فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/164.
ومما يدل على وجوب تبيين العيب في السلعة ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 5/165.
وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها فإن بخفها نقباً. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) .
قال الإمام الشوكاني: [قوله: (فإن صدقا وبينا) أي صدق البائع في إخبار المشتري وبين العيب إن كان في السلعة، وصدق المشتري في قدر الثمن وبين العيب إن كان في الثمن، ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد وذكر أحدهما تأكيداً للآخر] نيل الأوطار 4/211.
وبناءً على ما سبق فقد اتفق الفقهاء على ثبوت خيار الرد بالعيب، فمن اشترى سلعة ثم ظهر فيها عيب وهو لا يعلم ثبت له خيار الرد بالعيب سواء علم البائع بالعيب أم لم يعلم.(11/130)
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [متى علم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به، فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً، وإثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية - وهي ربط ضرع الناقة أو البقرة أو الشاة حتى يجتمع اللبن فيه - تنبيه على ثبوته بالعيب، ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه اشترى مملوكاً فكتب: هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد، اشترى منه عبداً أو أمة لا داء به، ولا غائلة بيع المسلم المسلم) فثبت أن بيع المسلم اقتضى السلامة، ولأن الأصل السلامة والعيب حادث أو مخالف للظاهر، فعند الإطلاق يحمل عليها فمتى فاتت فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه بالعوض، وكان له الرد وأخذ الثمن كاملا ً] المغني 4/109.
والعيب الذي ترد به السلعة هو ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار، انظر الموسوعة الفقهية 31/83، مجلة الأحكام العدلية المادة 338. ويرجع في معرفة العيب إلى أهل الخبرة والعرف ولا خلاف بين الفقهاء في رد السلعة المباعة للعيب وكان العيب منقصاً للقيمة أو مفوتاً غرضاً صحيحاً شرعاً، الموسوعة الفقهية 31/87.
وقد قرر الفقهاء شروطاً لإثبات خيار العيب وهي: الشرط الأول: ظهور عيب معتبر بأن يكون مؤثراً في نقص قيمة السلعة أو مفوتاً غرضاً صحيحاً كفوات المنفعة من السلعة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [العيوب وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن وهم التجار] المغني 4/115.
ومما يدل على أن فوات المنفعة يعد عيباً ما ورد عن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟(11/131)
قلت: نعم. قال: وبين لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟ قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها فإن بخفها نقباً ... ) حيث إنه أراد الحج على الناقة وكان في خفها نقب والنقب عيب في خف الجمل يجعل الخف رقيقاً فلا يصلح الجمل للسفر، انظر النهاية في غريب الحديث 5/102.
الشرط الثاني: قدم العيب بأن يكون العيب في السلعة قبل انتقال ملكيتها للمشتري أي وهي في عهدة البائع، قال الشيخ ابن رشد الحفيد [وأما شرط العيب الموجب للحكم به فهو أن يكون حادثاً قبل أمد التبايع باتفاق] بداية المجتهد 2/146.
الشرط الثالث: أن يكون المشتري غير عالم بالعيب عند العقد، قال الشيخ تقي الدين السبكي [إن كان عالماً - أي المشتري - فلا خلاف أنه لا يثبت له الخيار لرضاه بالعيب] تكملة المجموع12/ 121 أما إذا علم المشتري بالعيب فسكت، فيسقط حقه في الرد. ومما يدل على هذا الشرط ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ... ) فقوله (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس) دليل على أن علم المشتري بالعيب يخلي البائع من المسؤولية. أحكام العيب ص 139.
الشرط الرابع: أن لا يكون البائع قد اشترط البراءة من العيب بمعنى أنه شرط في البيع أنه غير مسؤول عن أي عيب يظهر في السلعة فقبل المشتري ذلك، فإن ظهر عيب بعد ذلك فلا خيار للمشتري حينئذ.
وبناءً عل ما تقدم فإن ظهور عيب في السلعة وفق الشروط السابقة يثبت حق الخيار للمشتري فله أن يرد السلعة ويسترجع ما دفعه من ثمنها كاملاً، وله أن يقبل بالسلعة(11/132)
المعيبة على أن ينقص البائع من ثمنها ما يقابل العيب. ومما ينبغي التنبيه عليه أن خيار العيب ثابت على التراخي وليس على الفور كما هو مذهب أكثر أهل العلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية [وخيار الرد بالعيب على التراخي عند جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبهما، ولهما قول ـ كمذهب الشافعي ـ أنه على الفور، فإذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالاتفاق. فإذا بني بعد علمه بالعيب سقط خياره.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/366.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [خيار الرد بالعيب على التراخي فمتى علم العيب، فأخر الرد لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا ذكره أبو الخطاب وذكر القاضي شيئاً يدل على أن فيه روايتين إحداهما، هو على التراخي، والثانية هو على الفور، وهو مذهب الشافعي فمتى علم العيب، فأخر رده مع إمكانه بطل خياره لأنه يدل على الرضا به فأسقط خياره، كالتصرف فيه. ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على التراخي، كالقصاص ولا نسلم دلالة الإمساك على الرضا به] المغني 4/109.
وخلاصة الأمر أن من اشترى سلعة ثم ظهر أنها معيبة فله أن يردها بالعيب ويسترد ما دفع من ثمنها علم البائع بالعيب أم لم يعلم.(11/133)
عقود الصيانة
يقول السائل: لدي محل وعندي عدة أجهزة حاسوب وآلات تصوير وقد اتفقت مع إحدى الشركات لعمل صيانة دورية لهذه الأجهزة على أن تقوم الشركة بالصيانة الدورية كل شهرين مرة مع تقديم ما يلزم من قطع غيار وذلك مقابل مبلغ متفق عليه، فما قولكم في ذلك، وما الحكم فيما لو كانت الصيانة عند حدوث الخلل فقط، أفيدونا؟
الجواب: الاتفاق الذي تمَّ بينك وبين الشركة المذكورة يسمى عقد صيانة وهو من العقود المستحدثة ولم يكن معروفاً لدى الفقهاء المتقدمين لأنه مرتبط بالتقدم العلمي خاصة في مجال الآلات وقد بحث الفقهاء المعاصرون عقد الصيانة وحاولوا تخريجه على عقد من العقود المعروفة عند فقهائنا المتقدمين فمنهم من خرجه على أنه عقد جعالة وهو أن يجعل الرجل للرجل أجراً معلوماً، ولا ينقده إياه على أن يعمل له في زمن معلوم أو مجهول، مما فيه منفعة للجاعل، على أنه إن أكمل العمل كان له الجعل، وإن لم يتمه فلا شيء له، مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بعد تمامه وهذا عند المالكية. وعرفها الشافعية: بأنها التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم، أو مجهول يعسر ضبطه. وعرفها الحنابلة: بأنها تسمية مال معلوم لمن يعمل للجاعل عملاً مباحاً ولو كان مجهولاً أو لمن يعمل له مدة ولو كانت مجهولة.
وقد قال جمهور أهل العلم بصحة عقد الجعالة ويدل على جوازها قوله تعالى {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} سورة يوسف الآية 72، ويدل على جوازها أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة رقية أحد المشركين وأخذه جعلاً على الرقية. وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، والحديث رواه البخاري ومسلم. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 15/208 - 209.
ومن الفقهاء المعاصرين من خرج عقد الصيانة على أنه من عقود المقاولات، وهو يجمع(11/134)
في عناصره بين عقدين جائزين في الفقه الإسلامي هما عقد الاستصناع كما يسميه الحنفية، وعقد السلم كما هو عند جمهور الفقهاء، وعقد الصيانة إذا تضمن وصفاً دقيقاً لطبيعة العمل، وما يتطلبه من قطع غيار وجهد في الإصلاح وتضمن الأجر والزمن، بحيث يكونان محددين فإنه جائز شرعاً، ولو تضمن بعض الغرر؛ لأن الغرر الذي نهى عنه النبي عليه صلى الله عليه وسلم هو الغرر الذي يفضي إلى جهالة فاحشة تؤدي إلى نزاع بين طرفي التعاقد، أما الغرر الذي لا يفضي إلى النزاع فمعفو عنه، وهذا من رخص الشرع في المعاملات؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المعدوم، ورخص في السلم، وقام الإجماع على صحة الاستصناع بشروطه مع وجود الجهالة فيه، وأجاز المزارعة مع وجود نوع من جهالة فيها؛ لحاجة الناس وتوسعة عليهم في معاشهم؛ لذلك فإن عقد الصيانة جائز شرعاً] نقلاً عن موقع إسلام أون لاين.
ومن الفقهاء المعاصرين من خرج عقد الصيانة على أنه شبيه بعقد التأمين التجاري في حالة عقد الصيانة المنفرد في الحالات الطارئة فقط دون الصيانة الدورية الوقائية فهذا فيه من الفساد ما في عقود التأمين من الغرر والمخاطرة وقد أبطله أكثر الفقهاء المعاصرين. مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 11 ج 2/ 198.
وهنالك تخريجات أخرى لعقد الصيانة يطول المقام بذكرها.
وقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي عقد الصيانة في الدورة الحادية عشرة سنة 1998م وقرر ما يلي:
أولاً: عقد الصيانة هو عقد مستحدث مستقل تنطبق عليه الأحكام العامة للعقود ويختلف تكييفه وحكمه باختلاف صوره، وهو في حقيقته عقد معاوضة يترتب عليه التزام طرف بفحص وإصلاح ما تحتاجه آلة أو أي شيء آخر من إصلاحات دورية أو طارئة لمدة معلومة في مقابل عوض معلوم، وقد يلتزم فيه الصائن بالعمل وحده أو(11/135)
بالعمل والمواد.
ثانياً: عقد الصيانة له صور كثيرة منها ما تبين حكمه وهي:
1- عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن بتقديم العمل فقط، أو مع تقديم مواد يسيره يعتبر العاقدان لها حساباً في العادة. هذا العقد يكيف على أنه عقد إجارة على عمل وهو عقد جائز شرعاً، بشرط أن يكون العمل معلوماً والأجر معلوماً. 2- عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن تقديم العمل ويلتزم المالك بتقديم المواد ـ تكييف هذه الصورة وحكمها كالصورة الأولى.
3- الصيانة المشروطة في عقد البيع على البائع لمدة معلومة، هذا عقد اجتمع فيه بيع وشرط وهو جائز سواء أكانت الصيانة من غير تقديم المواد أم مع تقديمها.
4- الصيانة المشروطة في عقد الإجارة على المؤجر أو المستأجر، هذا عقد يجتمع فيه إجارة وشرط، وحكم هذه الصورة أن الصيانة إذا كانت من النوع الذي يتوقف عليه استيفاء المنفعة فإنها تلزم مالك العين المؤجرة من غير شرط ولا يجوز اشتراطها على المستأجر أما الصيانة التي لا يتوقف عليها استيفاء المنفعة فيجوز اشتراطها على أي من المؤجر أو المستأجر إذا عينت تعيناً نافياً للجهالة. وهناك صور أخرى يرى المجمع إرجاءها لمزيد من البحث والدراسة.
ثالثاً: يشترط في جميع الصور أن تعين الصيانة تعييناً نافياً للجهالة المؤدية إلى النزاع وكذلك تبين المواد إذا كانت على الصائن مما يشترط تحديد الأجرة في جميع الحالات.] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 11 ج 2/ 279 - 280.
إذا تقرر هذا فإن عقود الصيانة لها صور عديدة وقد يختلف الحكم باختلاف الصورة وأما حكم الصورتين اللتين وردتا في السؤال فالصورة الأولى وهي الصيانة الدورية مع تقديم ما يلزم من قطع غيار فهذه الصورة جائزة [على أن يكون العمل المتفق عليه في الصيانة معلوماً عند التعاقد، وخالياً عن الجهالة الفاحشة المفضية للنزاع، أما الجهالة(11/136)
القليلة، أو الجهالة الفاحشة المنضبطة فلا تؤثر فيه، وذلك إلحاقاً له بعقود المزارعة والمساقاة والجعالة، فإن فيها جهالة وغرراً، إلا أنه يغتفر فيها، لقلته نسبياً، وعدم تأديته للنزاع غالباً، وللحاجة الماسة إليها، فكذلك هذا إذا ضبط بالشروط الآتية:
1 - تعيين الشيء المتفق على صيانته آلة أم عقاراً أو غيرهما، بوصفه أو بالإشارة إليه.
2 - تعيين نوع الصيانة المطلوبة بدقة تمنع إثارة النزاع، وذلك بتحديد شروط ومواصفات خاصة ينص عليها العقد ويحددها الخبراء.
3- تعيين فترات الصيانة الدورية أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً، وشكلها وطبيعتها.
4 - تعيين وصف ورتبة العامل الذي يقوم بها مهندساً أو عاملاً فنياً. فإذا أمكن تحديده بشخصه كان أولى.
(هـ) تحديد مدة عقد الصيانة أسبوعاً أو شهراً أو سنةً، مع تحديد بدء المدة. ولا بأس بتحديد البدء بمدة متأخرة عن تاريخ التعاقد كالإجارة.
(و) تحديد أجرة الصيانة وطريقة دفعها للصائن، وتاريخ كل دفعة، ومكان الدفع. (ز) تحديد الآلات اللازمة للصيانة، والطرف الذي عليه تأمينها: الصائن أو المصون له.
(ح) تحديد المواد اللازمة للصيانة الدورية كالشحوم والزيوت.. والجهة التي عليها أن توفرها، وذلك محصور بما هو مظنون الحاجة إليه غالبًا.
(ط) لا يدخل في أعمال الصيانة ترميم ما ينتج عن سوء تصرف المصنوع له، أو عماله، ووكلائه، كما لا يدخل فيها إصلاح الأعطال النادرة الحصول (غير المتوقعة عند التعاقد) كالأعطال الناتجة عن الحروب والكوارث.. لما فيها من الغرر الشديد، فإن اشترطت فسد عقد الصيانة كله، لما فيها من الجهالة الفاحشة المؤدية للنزاع والغرر.] (بحوث وفتاوى فقهية معاصرة) للأستاذ الدكتور أحمد حجى الكردي، ص 265- 266.
وأما الصورة الثانية وهي الصيانة عند حدوث الخلل فقط فهذا العقد باطل لاشتماله(11/137)
على الغرر وهو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 31/149.
وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم. والغرر هو ما كان مجهول العاقبة لا يدرى هل يحصل أم لا؟ وفي هذه الحالة وهي الصيانة عند حدوث الخلل فقط يتحقق الغرر فقد يحدث الخلل وقد لا يحدث، فهذا لا يجوز لأن الغرر كثير في هذه الحالة فمن المعلوم أن أجهزة الحاسوب وآلات تصوير يحدث فيها خلل طارئ لأسباب عديدة ناتجة عن كثرة الاستعمال أو سوء الاستعمال أو اختلاف قوة التيار الكهربائي وغير ذلك من الأسباب.
وخلاصة الأمر أن صور عقد الصيانة مختلفة وأن الصورة الأولى المذكورة في السؤال جائزة بالضوابط المذكورة وأما الصورة الثانية فباطلة لأنها مشتملة على الغرر الكثير وهو غرر غير مغتفر.(11/138)
عرض الملابس النسائية على المجسمات
يقول السائل: يقوم بعض أصحاب المحلات التجارية التي تبيع الملابس النسائية بعرض الملابس الداخلية للنساء على مجسمات في محلاتهم، ومنهم من يعرض صوراً إباحية لنساءٍ يلبسن الملابس الداخلية في أوضاع مخزية، ويرى هؤلاء التجار أن هذه وسيلة لتسويق بضائعهم فما قولكم في ذلك؟
الجواب: من الضوابط الشرعية التي تحكم العمل في التجارة تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب. يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} سورة المنافقون الآية 9.
ومن الأمور المحرمة استعمال الصور الإباحية في ترويج البضائع فمن المعلوم عند أهل العلم أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل) قواعد الأحكام 1/46. فوسيلة المحرم محرمة أي إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام. فالصور الإباحية التي تشتمل على الفحشاء والمنكر محرمة ولا يجوز استعمالها في ترويج البضائع وكذلك التماثيل التي يستعملها التجار لعرض الملابس عليها والمسماة المنيكان فهذه تعتبر من التماثيل المحرمة شرعاً، فقد ورد عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم، وإن عرض الملابس النسائية الداخلية عليها يضيف منكراً إلى منكر، فلا يجوز استعمالها في عرض الملابس وخاصة الملابس الداخلية للنساء لما يترتب على ذلك من مفاسد كثيرة ففي ذلك فتنة للرجال وخاصة الشباب منهم. ويضاف إلى ما سبق أن عرض الملابس الداخلية للنساء على هذه المجسمات(11/139)
وهي على شكل امرأة فيه امتهان للمرأة وكرامتها واحتقار لها ومتاجرة بجسدها حيث إن جسم المرأة يستغل أبشع استغلال لكسب المال.
ومما يدل على تحريم هذا العمل قوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي رحمه الله: [وهذا النهي يقتضي التحريم] المغني 4/167. فلا شك أن نشر الصور الإباحية المشار إليها فيه نشر للفساد والرذيلة وفيه إثارة للشهوات وكل ذلك داخل في باب التعاون على الإثم والعدوان. كما إنه يدخل في إشاعة الفاحشة بين الناس وهذا من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19.
إذا تقرر تحريم عرض الملابس الداخلية للنساء على التماثيل المجسمة (المانيكان) وكذلك تحريم ترويج تلك الملابس عبر الصور الإباحية فإني أنبه التجار الذين يستعملون هذه الوسائل المحرمة بأنهم يدخلون بعملهم هذا ضمن دائرة الكسب الحرام والكسب الحرام نوع من أكل السحت، قال الله تعالى {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} سورة المائدة الآية 42.
وقال الله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة المائدة الآية 62.
وقوله تعالى: {لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} سورة المائدة الآية 63.
قال أهل التفسير في قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام وسمي المال الحرام(11/140)
سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183.
وقال جماعة من أهل التفسير: ويدخل في السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223. ومن السحت الربا والغصب والقمار والسرقة ومهر البغي وثمن الخمر والخنزير والميتة والأصنام والتماثيل والصور الإباحية والأفلام الجنسية وقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189.
وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320. وغير ذلك من النصوص.
فيا أخي التاجر ابتعد عن الكسب الحرام واحرص على الكسب الحلال واعلم أن من الواجبات على المسلم أن لا يأكل إلا الحلال بل إن الله قدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
وفي هذا الزمان تحقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق حيث أخبر أن من الناس من لا يفرق في كسبه بين حلال وحرام فلا يهمه من أين(11/141)
اكتسب المال وكل ما يهمه أن يكون المال بين يديه ينفقه كيفما شاء.
فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام) رواه البخاري.
وقد ينسى بعض الناس أنه سيحاسب على ماله وأنه سيسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. وقد وردت نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على الأكل من الطيبات منها: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} سورة البقرة آية 172.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال الفم والفرج) رواه الترمذي وقال حديث صحيح غريب وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/318.(11/142)
وجاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استحيوا من الله حق الحياء. قلنا: يا نبي الله إنا لنستحي والحمد الله. قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء هو أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا - يعني من الله - حق الحياء) رواه الترمذي وحسّنه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 2/299.
وخلاصة الأمر أنه يحرم عرض الملابس الداخلية للنساء على المجسمات المسماة بالمنيكان ويحرم نشر صور النساء الإباحية بالملابس الداخلية وغيرها وأن ذلك يدخل في إشاعة المنكرات والفواحش بين الناس وأن التاجر الذي يستعمل هذه الوسائل المحرمة لترويج تجارته فإنه يُدخل في كسبه الحرام.
التجارة بالألعاب النارية
يقول السائل: كثر في الآونة الأخيرة استعمال الألعاب النارية في المناسبات المختلفة فما حكم المتاجرة بها وما حكم استعمالها؟
الجواب: قال أهل العلم إن الأصل في البيع والشراء الإباحة، ويدخل في ذلك المتاجرة في الألعاب النارية لو أنها استعملت بطريق مأمون ولم يترتب عليها ضرر وأذى وترويع للناس وإسراف وتبذير وبما أن كل المفاسد السابقة قد وجدت في الألعاب النارية فإن الحكم ينتقل من الإباحة إلى التحريم فشراء الألعاب النارية واستعمالها مباح أدى إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام وقد قرر العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد. قال الإمام العز بن عبد السلام رحمة الله عليه: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46 فوسيلة المحرم محرمة، أي إن ما أدى إلى الحرام فهو(11/143)
حرام، فإيذاء الناس حرام فما أدى إليه فهو حرام، وإلحاق الضرر بالنفس حرام، فما أدى إليه فهو حرام، وترويع الناس وإخافتهم حرام، فما أدى إليه فهو حرام وتفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: إن إطلاق الألعاب النارية يترتب عليه إيذاء الناس وإزعاجهم إزعاجاً شديداً وخاصة إذا إطلقت في ساعات الليل المتأخر ومن المعلوم شرعاً أنه لا يجوز إيذاء المسلم سواء كان الإيذاء معنوياً أو مادياً بل إن الإيذاء المعنوي قد يكون أشد من الإيذاء المادي. وقد وردت نصوص كثيرة تحرم إلحاق الأذى بالناس ونصوص أخرى تحث على ترك إيذاء عباد الله، فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) رواه البخاري. فهذا النهي الوارد في الحديث يعم كل أذى فلا يجوز إلحاق الأذى بالجار سواء أكان الأذى مادياً أو معنوياً.
ثانياً: إن إطلاق الألعاب النارية يترتب عليه ترويع الناس وإخافتهم وخاصة الأطفال وبالتحديد النيام منهم ويحرم على المسلم أن يروع أخاه فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً) رواه أبو داود وأحمد والطبراني وصححه الشيخ الألباني في غاية المرام ص 257.
ثالثاً: إن استعمال الألعاب النارية قد يلحق الضر والأذى بمستعمليها وخاصة الأطفال منهم، وكم سمعنا عن حالات فقد فيها الأطفال أصابعهم ولحقت الإصابات بأعينهم وبقية أجسامهم وقد بين الأطباء الضرر الكبير الذي يلحق بمستعمليها يقول د. محمد سمير عبد العاطي أستاذ طب الأطفال بجامعة عين شمس: [يعتبر الأطفال والمراهقون أكثر الفئات العمرية تعرضاً لهذه الألعاب، وتسبب لهم الحرائق والتشوهات المختلفة التي قد تكون خطيرة في أغلب الأحيان، علاوة على أن الصوت الصادر عنها يؤثر وبشكل كبير على الأطفال المتواجدين بالقرب من منطقة اللعب، ويعد هذا نوعاً من(11/144)
أنواع التلوث الضوضائي الذي يؤثر على طبلة الأذن وبالتالي يسبب خللاً وظيفياً في عمل المخ قد يستمر لمدة شهر أو شهرين. إضافة لذلك فإن الشرر أو الضوء والحرارة الناجمة عن استخدام المفرقعات تعد سبباً رئيسياً للإضرار بالجسم، وخاصة منطقة العين الحساسة. كما أن الرماد الناتج عن عملية الاحتراق يضر بالجلد والعين إذا ما تعرض له الطفل بشكل مباشر؛ حيث تصاب العين بحروق بالجفن والملتحمة وتمزق في الجفن، أو دخول أجسام غريبة في العين، أو انفصال في الشبكية، وقد يؤدي الأمر في إلى فقدان كلي للعين.] عن شبكة الإنترنت.
وجاء في تقرير لوزارة الصحة الفلسطينية نشر سنة 2004م ما يشير إلى هذه الأضرار فقد [دعت وزارة الصحة الفلسطينية جميع الجهات المعنية ومنها البلديات، والغرف التجارية، والشرطة، إلى تكثيف الجهود من أجل منع استيراد الألعاب النارية والمفرقعات، والتكفل بعدم عرضها أو بيعها في المحال التجارية والأسواق، حفاظاً على صحة وسلامة أطفال فلسطين، وتجنيب أعينهم من التعرض لأي إصابات. ونقلت وزارة الصحة إحصائية عن مستشفى العيون في غزة، أن إجمالي الحالات التي وصلت للمستشفى خلال فترة شهر رمضان الماضي، وعيد الفطر السعيد، بلغت (119) إصابة، كانت نتيجة استخدام الألعاب النارية والمفرقعات، والآلات ذات السرعات العالية والبنادق. وأضافت أن عدد الحالات التي أدخلت للمستشفى خلال شهر رمضان الماضي، من إصابات متوسطة مثل خدش العين وحروق سطحية للحروق أو الجفون بلغ (43) حالة، من بينها ثلاث حالات خطيرة استدعت إجراء عمليات جراحة عاجلة مثل نزيف في الغرفة الأمامية أو الخلفية للعين، أو دخول جسم غريب أو قطع لمقلة العين أو حدوث نزيف داخلها أو انفصال في الشبكية وغيرها، وجميع هذه الحالات تحتاج إلى إجراء عمليات جراحية دقيقة، وأخرى يتم تحويلها للخارج من شدة وخطورة الإصابة، وهناك من يفقد بصره أو إحدى عينيه، أما عدد الحالات(11/145)
البسيطة التي تم استقبالها فقد بلغ (76) حالة وجميع الإصابات من الأطفال تتراوح أعمارهم من عام إلى 15 عام] عن شبكة الإنترنت.
رابعاً: إن إنفاق الأموال في شراء الألعاب النارية يعتبر إنفاقاً للمال فيما لا ينفع ويعد من باب إضاعة المال وقد نهانا الله جل جلاله عن إضاعة المال كما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كره لكم ثلاثاً قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) رواه البخاري ومسلم، قال الإمام النووي [وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه إفساد، والله لا يحب المفسدين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/377.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (وإضاعة المال) تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيعها وإما في حق غيره] فتح الباري 10/501.
ويضاف إلى ذلك ما يترتب على إنفاق المال في شراء الألعاب النارية من إثقال لكاهل العائلة من نفقات لا حاجة لها وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني من حصار وتضييق.
وبناءً على ما سبق فيجب تضافر جميع الجهات المسئولة للقضاء على هذه المفسدة فيجب تعاون الأجهزة الحكومية وغيرها للقضاء على هذه الظاهرة، فمن واجب الجهات الحكومية وقف استيراد الألعاب النارية وكذلك منع بيعها وتداولها ولا بد للجهات الصحية من إصدار النشرات التي تبين أضرارها وواجب وسائل الإعلام وكذا أئمة المساجد في خطب الجمعة وغيرها بيان مخاطرها وأضرارها ويجب على الأسرة أن تثقف أطفالها حول مخاطر هذه الألعاب وكذلك المدارس لها دور في محاربة هذه(11/146)
الظاهرة فإذا تكاتفت جميع الجهود فيرجى تحقيق القضاء على هذه المفسدة في مجتمعنا.
وخلاصة الأمر أنه يحرم التعامل مع الألعاب النارية بيعاً وشراءً واستعمالاً ضمن الظروف التي شرحتها ولما يترتب عليها من المفاسد الغالبة لما فيها من مصالح موهومة ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقول القاعدة الفقهية.
انتزاع الملكية الخاصة وتحويلها إلى ملكية عامة
يقول السائل: إن المجلس البلدي لمدينته يريد أن يضع يده على قطعة أرض يملكها السائل لإقامة مركز صحي للبلد لأن موقع الأرض مناسب لذلك المشروع مع أنه يعارض ذلك فما هو الحكم في هذه القضية، أفيدونا؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن الإسلام قد قرر مبدأ الملكية الفردية أو الملكية الخاصة واحترمها احتراماً شديداً وشرع أحكاماً كثيرة للمحافظة عليها وحرَّم التعدي عليها وقد وردت النصوص الكثيرة في ذلك فمنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} سورة النساء الآية 29.
وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم. وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي(11/147)
والطبراني والدارقطني وغيرهم وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 5/279. وجاء في رواية أخرى عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه وذلك لشدة ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال المسلم على المسلم) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص 263.
وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حق إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة) . رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان) رواه أحمد.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حرمة مال المسلم كحرمة دمه) رواه البزار وأبو يعلى. وغير ذلك من النصوص.
وقد أجاز الفقهاء انتزاع الملكية الخاصة في حالات محددة وتحويلها إلى ملكية عامة وذلك لتحقيق مصلحة عامة كبناء المساجد وشق الطرق وبناء الجسور وبناء المدارس والمستشفيات والمرافق العامة الأخرى التي يحتاجها عامة الناس. قال الشيخ أحمد الشلبي الحنفي [ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل، تؤخذ أرضه بالقيمة كرهاً، ولو كان بجنب المسجد أرض وقف على المسجد، فأرادوا أن يزيدوا شيئاً في المسجد من الأرض، جاز ذلك بأمر القاضي) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3/331.
وجاء في الموسوعة الفقهية [ويتحول الملك الخاص إلى عام، في نحو البيت المملوك إذا احتيج إليه للمسجد، أو توسعة الطريق، أو للمقبرة ونحوها من مصالح المسلمين، بشرط التعويض] الموسوعة الفقهية الكويتية 10/289.
ويدل على جواز ذلك ما ورد في قصة بناء المسجد النبوي حيث إن النبي صلى الله(11/148)
عليه وسلم اشترى الأرض التي بني عليه المسجد من أصحابها فقد ورد في الحديث الطويل في قصة الهجرة النبوية ( ... فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت - الناقة - عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً) رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى بني النجار ... وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فقال أنس فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره) رواه البخاري.
[وقد حصل في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 17 هـ أنه أراد توسعة المسجد الحرام فاشترى عمر دوراً من أهلها، ووسعه بها، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن وامتنع من البيع، فوضع عمر أثمانها في خزانة الكعبة فأخذوها، وفي سنة 26 هـ(11/149)
اشترى عثمان رضي الله عنه دوراً وسع بها المسجد، وقد أبى قوم البيع، فهدم عليهم دورهم، فصاحوا به فأمر بحبسهم حتى شفع فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأخرجهم، وفي سنة 64 هـ اشترى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه دوراً وسع بها المسجد من الجانب الشرقي والجانب الجنوبي توسعة كبيرة] عن موقع الحج والعمرة على الإنترنت.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي مسألة انتزاع الملكية الخاصة وتحويلها إلى ملكية عامة وأصدر فيها ما يلي: [إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادي الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988. بعد الاطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص "انتزاع الملك للمصلحة العامة". وفي ضوء ما هو مسَلَّم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقاً لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. قرر ما يلي: أولاً: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الإنتفاعات الشرعية.
ثانياً: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية:
1- أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن(11/150)
ثمن المثل.
2- أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال.
3- أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور.
4- أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان.
فإِن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل.) مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 4 ج 2 ص 1797-1798.
وأخيراً يجب التأكيد على أن انتزاع الملكية الخاصة لا بد أن يكون بعوض لا يقل عن ثمن المثل كما ورد في قصة عمر وعثمان عند توسعة المسجد الحرام وكما جاء في المادة (1216) من مجلة الأحكام العدلية [لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان ويلحق بالطريق، ولكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤد له الثمن] درر الحكام 3/233. وكما أكد عليه قرار المجمع الفقهي [أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل.]
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمجلس البلدي أن ينتزع ملكية الأرض المذكورة في السؤال وفق الضوابط المذكورة سابقاً.(11/151)
إتلاف المنتجات الزراعية احتجاجاً على إغلاق المعابر
يقول السائل: ما قولكم فيما فعله بعض المزارعين من إتلاف كميات من المنتجات الزراعية من الفواكه والخضروات احتجاجاً على إغلاق المعابر حيث يقومون بإلقائها في الشوارع ورميها، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن من مقاصد الشريعة الغراء حفظ المال حيث إن المال هو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها قال أبو حامد الغزالي: [ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة ... وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح] المستصفى من علم الأصول 1/417.
وقال الإمام الشاطبي: [تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية. فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ... ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة] الموافقات 2/8-10.
وقد جاءت أدلة كثيرة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب المحافظة على المال منها قوله تعالى {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن(11/152)
السبيل ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} سورة الإسراء الآيتان26-27.
وقوله تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} سورة الفرقان الآية 67.
وقوله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} سورة الأنعام الآية 152.
وقوله تعالى {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} سورة الحديد الآية 7.
وقوله تعالى {يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} سورة الأعراف الآية31.
وقوله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} سورة الإسراء الآية 29. وقوله تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً} سورة النساء الآية 5.
وثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ... قال العلماء: الرضا والسخط والكراهة من الله تعالى المراد بها أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، أو إرادته الثواب لبعض العباد، والعقاب لبعضهم، وأما الاعتصام بحبل الله فهو(11/153)
التمسك بعهده، وهو إتباع كتابه العزيز وحدوده، والتأدب بأدبه ... وأما (إضاعة المال) : فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه إفساد، والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/375-377. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إضاعة المال) [ ... والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيره تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيعها وإما في حق غيره] فتح الباري 10/501.
إذا تقرر أن من مقاصد الشارع الحكيم حفظ المال فأعود إلى السؤال فأقول إن ما قام به بعض المزارعين من إتلافهم للمنتجات الزراعية ورميها في الشوارع أمر محرم شرعاً وما فعلوه إنما هو تقليد للحضارة الغربية الرأسمالية التي تهلك كل عام كميات هائلة من المنتجات الزراعية للمحافظة على مستوى الأسعار [فالولايات المتحدة الأمريكية تُغرق في البحر مئات الأطنان من المواد الغذائية سنوياً فقط لتحافظ على مستوى الأسعار التي تريدها وذلك عن طريق إتلاف الفائض عن حاجة السوق التجارية بغض النظر عن احتياجات الإنسانية في العالم ومن أجل إبقاء سعر القمح عالمياً في مستواه الثابت تلجأ أمريكا إلى إتلاف الفائض أو تخزينه وقد بلغت قيمة ما تحرقه أمريكا سنوياً من القمح مبلغ أربعين مليار دولار فيما يموت أربعين بالمائة من مواليد إفريقيا وحدها نتيجة لنقص المواد الغذائية، هذا في القمح إلاّ أن السياسة نفسها هي المتبعة بالنسبة للحليب واللحوم ومختلف أنواع المواد الاستهلاكية زراعية كانت أم صناعية ... بل إن مجموعة الدول الصناعية الأوروبية، ليست على استعداد لإلغاء ما اعتادت عليه منذ عشرات السنين، من إنفاق الملايين على إتلاف الفائض من منتجاتها الزراعية والغذائية، والمليارات على دعم المزارعين فيها، بحجة عدم انخفاض مستوى أسعار تلك(11/154)
المنتجات في الأسواق العالمية، أي بما في ذلك أسواق البلدان النامية، وهذا رغم انتشار المجاعات والأمراض الناجمة عن سوء التغذية ونقصها في تلك البلدان!!] عن شبكة الإنترنت.
إن إتلاف المنتجات الزراعية ورميها في الشوارع يتناقض مع ما قصده الشارع الحكيم من حفظ المال وكذلك ما ورد من النهي عن إضاعة المال، وهذا العمل يعتبر من السفه، والسفه عند الفقهاء هو التصرف في المال على خلاف مقتضى الشرع والعقل، والشرع لا يقر إتلاف المال بهذه الطريقة وكذا العقل، ويعتبر هذا العمل من الإسراف والتبذير المحرمان شرعاً والواجب هو أن يستفيد المزارعون من هذه المنتجات فإن تعذر عليهم تصديرها فليبيعوها في السوق المحلي ولو بأسعار منخفضة، فإن لم يتيسر لهم ذلك فليتصدقوا بها على الفقراء والمساكين، أو يعطوها للجمعيات الخيرية التي ترعى الأيتام والعجزة وغيرهم، وإن تعذر ذلك وما أظنه يتعذر، فليطعموها للحيوانات فلهم الأجر والثواب في كل ذلك، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً قال صلى الله عليه وسلم: في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر) معناه في الإحسان إلى كل حيوان حي بسقيه ونحوه أجر، وسمي الحي ذا كبد رطبة، لأن الميت يجف جسمه وكبده.] شرح النووي على صحيح مسلم 5/401.
والواجب يقضي بمنع هؤلاء المزارعين من إتلاف المنتجات الزراعية لما فيه من أضرار بالمصالح العامة ولو كانوا يتلفون أموالهم الخاصة، قال الإمام قال الإمام النسائي في(11/155)
سننه [باب منع الحاكم رعيته من إتلاف أموالهم وبهم حاجة إليها] ثم ساق حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أعتق رجل من الأنصار غلاماً له عن دبرٍ وكان محتاجاً وكان عليه دين فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمان مائة درهم فأعطاه فقال اقض دينك وأنفق على عيالك] وهو حديث صحيح.
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً إتلاف المنتجات الغذائية والزراعية بالصورة المذكورة في السؤال وغيرها ما دام أنه يمكن انتفاع الناس بها فإن لم ينتفع بها الناس بشكل من الأشكال أطعمت للحيوانات.
تزوير الشهادات
يقول السائل: ما حكم من يزور شهادة ليترقى في وظيفته ويحصل على زيادة على راتبه ولا يمكنه الحصول على الترقية إلا بالشهادة المزورة، أفيدونا؟
الجواب: الأصل في المسلم أنه صادق لا يكذب فإن الصدق فضيلة من أعظم الفضائل، والكذب رذيلة من أشنع الرذائل، وقد أمرنا الله بالصدق ونهانا عن الكذب يقول جل جلاله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} سورة التوبة الآية 119.
وقال تعالى {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} سورة التوبة الآية 35.
وقال تعالى {طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} سورة محمد الآية 21.
وثبت في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله(11/156)
عليه وسلم (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
وعن أبي الحوراء السعدي قال قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وثبت في الحديث الصحيح أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري مسلم. والكذب ليس من صفات المؤمنين الصادقين يقول الله سبحانه وتعالى: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} سورة النحل الآية 105.
إذا تقرر هذا فإن التزوير فيه نوع من الكذب والتدليس والتلبيس والغش والخداع [فالتزوير في اللغة: مصدر زور، وهو من الزور، والزور: الكذب، قال تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} وزور كلامه: أي زخرفه، وهو أيضاً: تزيين الكذب ... وفي الاصطلاح: تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو عليه في الحقيقة. فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. وبين الكذب وبين التزوير عموم وخصوص وجهي، فالتزوير يكون في القول والفعل، والكذب لا يكون إلا في القول. والكذب قد يكون مزيناً أو غير مزين، والتزوير لا يكون إلا في(11/157)
الكذب المموه] الموسوعة الفقهية الكويتية 11/254- 255.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ضابط الزور: وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه: لابس ثوبي زور، ومنه: تسمية الشعر الموصول: زوراً.] فتح الباري 10/506
والتزوير من المحرمات ويدل على تحريمه قوله تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} سورة الحج الآية 30.
وقوله تعالى في وصف عباد الرحمن {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً} سورة الفرقان الآية72.
وورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: (الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور) رواه البخاري ومسلم.
كما وصح في الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام الشوكاني في شرح الحديث [قوله: (وكان متكئاً فجلس) هذا يشعر باهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئاً ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قبحه وسبب الاهتمام بشهادة الزور كونها أسهل وقوعاً على الناس والتهاون بها أكثر فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام به وليس(11/158)
ذلك لعظمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من الإشراك قطعاً بل لكون مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف الإشراك فإن مفسدته مقصورة عليه غالباً وقول الزور أعم من شهادة الزور لأنه يشمل كل زور من شهادة أو غيبة أو بهت أو كذب ولذا قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام لكن ينبغي أن يحمل على التوكيد فإنا لو حملنا القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة كبيرة وليس كذلك قال: ولا شك في عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ومنه قوله تعالى {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} . قوله: (حتى قلنا ليته سكت) أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم والمحبة له والشفقة عليه.] نيل الأوطار 8/337-338. والتزوير يدخل تحت شهادة الزور قال القرطبي المحدث: [شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضرراً منها ولا أكثر فساداً بعد الشرك بالله] فتح الباري 10/506.
ومن المعلوم أن شهادة الزور من كبائر الذنوب كما بين ذلك وفصلَّه الشيخ ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/435-437
ولا شك أن تزوير الوثائق والشهادات داخل في شهادة الزور فهو من المحرمات كما أنه نوع من الغش وهو محرم وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/164.
وبهذا يظهر لنا أنه قد اجتمع في التزوير شرور كثيرة فهو كذب وغش وخداع ومكر(11/159)
وتضليل ويضاف إلى ذلك أنه قد يتوصل بالتزوير إلى أكل المال بالباطل كما في السؤال حيث إن المزور سيحصل على ترقية بتزوير الشهادات وقد يترتب على ذلك زيادة على راتبه وهذه الزيادة إنما يأكلها سحتاً فهي من المال الحرام قال الله تعالى: (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) سورة المائدة الآية 62.
وقال تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) سورة المائدة الآية 63.
وقال تعالى {سمَّاعون للكذب أكالون للسحت} سورة المائدة الآية 42. قال أهل التفسير في قوله تعالى: {أكالون للسحت} أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. تفسير القرطبي 6/183.
وجاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحت فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
وخلاصة الأمر أنه يحرم تزوير الشهادات والوثائق وأن ما يترتب على التزوير من أموال فهي من السحت. والمزور مستحق لعقوبة تعزيرية.(11/160)
مصرف المال الحرام
يقول السائل: إنه كان تاجر مخدرات وكسب مالاً كثيراً من تجارة المخدرات ثم تاب إلى الله عز وجل فماذا يصنع بالمال الحرام الذي اكتسبه، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن التوبة من المعاصي والآثام واجبة على المسلم استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} .
وهذا الأخ السائل عليه أن يحمد الله على توبته، والتوبة النصوح لا بد أن تتحقق فيها شروط أربعة وهي: الأول: أن يقلع الإنسان عن المعاصي والآثام فإذا كان يغتاب الناس فعليه أن يترك ذلك.
الثاني: أن يندم ندماً حقيقاً وصادقاً على ما مضى.
الثالث: أن يعزم عزماً أكيداً على أن لا يعود للمعاصي.
الرابع: إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق الناس فلا بد من إعادتها لأصحابها.
وبما أن المال الذي اكتسبه من تجارة المخدرات مال حرام ولكنه غير متعلق بمالك معين فيجب على هذا السائل أن يتخلص من المال الحرام بإنفاقه في مصالح المسلمين العامة كأن ينفقه على الفقراء أو طلبة العلم أو الجمعيات الخيرية ونحوه ذلك.
وإذا كان السائل فقيراً جاز له أن ينفق على نفسه وعياله من هذا المال إلى أن يجد رزقاً حلالاً مع وجوب التخلص من المال الزائد عن الحاجة.
نقل الإمام النووي عن أبي حامد الغزالي قوله: [وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيراً، لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ قدر حاجته، لأنه أيضا فقير]
وخلاصة الأمر يجوز أن يأخذ السائل من هذا المال الحرام ما يكفيه وعياله ويتخلص من الباقي.(11/161)
الأسرة والمجتمع(11/163)
حكم الزواج من موظف في بنك ربوي
تقول السائلة: إنها فتاة ملتزمة بالأحكام الشرعية وقد تقدم لخطبتها شاب صاحب أخلاق عالية ولكنه موظف في بنك تجاري فهل تقبل به أم لا، أفيدوني.
الجواب: وضع الإسلام معياراً شرعياً لقبول الخاطب وهو اعتبار الكفاءة في الدين فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. قال الشيخ المباركفوري في شرح الحديث: [قوله: (إذا خطب إليكم) أي طلب منكم أن تزوجوه امرأة من أولادكم وأقاربكم (من ترضون) أي تستحسنون (دينه) أي ديانته (وخلقه) أي معاشرته (فزوجوه) أي إياها (إلا تفعلوا) أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه وترغبوا في مجرد الحسب والجمال أو المال (وفساد عريض) أي ذو عرض أي كبير، وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه، ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج، وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عار فتهيج الفتن والفساد، ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة.] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 4/173.
وجاء في الحديث عن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/315.
وقد اتفق جمهور أهل العلم على أن الأصل في الكفاءة هو الدين لقوله تعالى {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} سورة السجدة الآية 18. قال الشيخ ابن رشد(11/165)
الحفيد الفقيه المالكي المعروف: [ولم يختلف المذهب - أي مذهب مالك - أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر وبالجملة من فاسق أن لها أن تمنع نفسها من النكاح وينظر الحاكم في ذلك فيفرق بينهما، وكذلك إن زوجها ممن ماله حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق.] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/13.
وبهذا يظهر جلياً أن الأصل في الكفاءة هو الدين أي التقوى والصلاح - ويدخل حسن الخلق في ذلك - ولا تمنع الشريعة الإسلامية أن تتوفر صفات أخرى طيبة في الخاطب كالنسب الكريم والغنى والحرفة الحسنة والسلامة من العيوب الخلْقية.
إذا تقرر هذا فإن الخاطب الذي يعمل في البنك التجاري أي الربوي لا يعد كفؤاً للفتاة المسلمة الملتزمة بدين الله عز وجل لأن العمل في البنوك الربوية من المحرمات ويتفرع تحريم العمل في البنوك الربوية على حرمة الربا، فإن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) سورة البقرةالآيات 275 - 279.
وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع(11/166)
الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية] رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 4/117. وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29.
وهذه النصوص تدل على تحريم العمل في البنوك الربوية فإن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئاً حرم كل ما يوصل إليه قال الإمام النووي في شرح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) : [هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابين والشهادة عليهما. وفيه: تحريم الإعانة على الباطل. والله أعلم.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/207.
ولا شك أن العمل في البنوك الربوية يدخل في عموم قول الله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله) سورة المائدة الآية 2.
وبناءً على ما سبق فإن الواجب على السائلة أن تشترط على خاطبها أن يترك العمل في البنك الربوي فإن وافق فبها ونعمت، وإن لم يوافق فلا يجوز لها أن تقبل به زوجاً لأنه سينفق عليها بعد الزواج من راتبه وهو مال مكتسب من حرام. والله جل جلاله لا يبارك في جسد نبت من مال حرام فقد ورد في الحديث أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان. وفي رواية أخرى: (كل(11/167)
جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189.
وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293. وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320.
وإذا اعتذر الخاطب بأنه قد لا يجد عملاً آخر وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها مجتمعنا من حصار وتضييق فنقول لهل يمكنها أن تقنعه أن يطلب الانتقال إلى وظيفة في البنك ليس لها اتصال مباشر بالأعمال الربوية كالحسابات الجارية والشيكات والحوالات ونحوها من الأعمال الجائزة، حتى يجد عملاً حلالاً، وهذا من باب ارتكاب أخف الضررين.
كما وينبغي أن يعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه قال الله جل جلاله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) سورة الطلاق الآيتان 2-3. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} سورة الطلاق الآية 4.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز تزويج الموظف في البنك الربوي الذي يباشر الأعمال الربوية إلا إذا وافق على ترك العمل فيه لأنه غير مرضي الدين.(11/168)
سفر الطالبة للدراسة بدون محرم
تقول السائلة: إنها طالبة في السنة الخامسة في كلية الطب وتريد السفر إلى إحدى الدول الأوربية في برنامج تدريبي في أحد المستشفيات لمدة لا تقل عن شهر واحد وأنها ستسافر وحدها وستقيم مع عائلة أجنبية خلال المدة التي ستقضيها هناك فما الحكم الشرعي لذلك؟
الجواب: شرع الإسلام أحكاماً كثيرة للحفاظ على المرأة المسلمة وصيانة كرامتها ومن ذلك منعها من السفر بدون محرم أو زوج، فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تسافر إلا مع محرم لها أو مع زوجها وخاصة إذا كان يخشى عليها الفتنة في سفرها كالسفر المذكور في السؤال فهذا سفر محرم باتفاق أهل العلم وليس الأمر متوقفاً على السفر بل يضاف إلى ذلك الإقامة في ذلك البلد الأوربي والسكن مع عائلة أجنبية ولا شك أن في ذلك مفاسد كثيرة على دين المرأة وخلقها كما سأبين.
وقد ثبتت أدلة كثيرة تدل على حرمة سفر المرأة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها والمحرم هو: من لا يحل له نكاحها من الأقارب كالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم كما ذكره الشيخ ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 1/373.
ومن العلماء من يرى أن الزوج يدخل في معنى المحرم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع] المغني 3/230.
ومن النصوص الواردة في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) . رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم) رواه البخاري.(11/169)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة) رواه البخاري. والمقصود بالحرمة المحرم كما في رواية مسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج. فقال صلى الله عليه وسلم: اخرج معها) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني قال: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي هذا) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها) رواه مسلم.
ولا نملك أمام هذه النصوص إلا أن نقول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة الحشر الآية 7.
وينبغي التنبيه إلى أن أهل العلم يرون أن الأصل أن المرأة لا تسافر أي سفر إلا ومعها زوجها أو محرم لها قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال أبو عبد الله - أي الإمام أحمد -: أما أبو هريرة: فيقول: " يوماً وليلة " ويروى عن أبي هريرة: " لا تسافر سفرا ً " أيضا وأما حديث أبي سعيد يقول: " ثلاثة أيام " قلت: ما تقول أنت؟ قال: لا تسافر(11/170)
سفراً قليلاً ولا كثيراً، إلا مع ذي محرم] المغني 3/229.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [والذي جَمَعَ معاني آثار الحديث - على اختلاف ألفاظه - أن تكون المرأة تُمْنَع من كل سفر يُخْشى عليها فيه الفتنة، إلا مع ذي محرم أو زوج، قصيراً كان السفر أو طويلاً] الاستذكار 27/274.
وأما ما ورد في الأحاديث من اختلاف مدة السفر فورد في بعضها التقييد بثلاثة أيام أو بيوم أو بيوم وليلة أو التقييد بمسافة بريد فمرد ذلك إلى اختلاف أحوال السائلين واختلاف مواطنهم والتحديد بذلك ليس بمراد، وإنما هو تعبير عن أمر واقع، فلا يعمل بمفهومه وقد فصلَّ الإمام النووي الجواب عن ذلك فقال [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) وفي رواية: (فوق ثلاث) وفي رواية: (ثلاثة) وفي رواية (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم) وفي رواية (لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها) وفي رواية (نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين) وفي رواية (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها ذو حرمة منها) وفي رواية (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم) وفي رواية (مسيرة يوم وليلة) وفي رواية (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) . هذه روايات مسلم وفي رواية لأبي داود (ولا تسافر بريداً) والبريد مسيرة نصف يوم، قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد، قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سأل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم، فقال: لا.. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم: فقال: لا.. وسئل عن سفرها يوماً فقال: لا.
وكذلك البريد، فأدى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحد فسمعه في مواطن، فروى تارة هذا، وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد صلى الله(11/171)
عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك ; لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً] شرح النووي على صحيح مسلم 9/102-104.
ويضاف إلى ما سبق أنه يحرم على المرأة المسلمة أن تقيم مع عائلة كافرة تسكن بينهم وتخالطهم كأنها فرد من أسرتهم فهذا أشد حرمةً وأعظم إثماً من مجرد السفر لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة والفتنة التي تتعرض لها المرأة من اختلاط وخلوة بالرجال من أفراد الأسرة الأجنبية وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ثالثهما الشيطان) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه أحمد والحاكم وصححه. ويقول العلامة ابن القيم: [ولا ريبَ أن تمكينَ النساء من اختلاطهن بالرجال أصلُ كلِّ بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سببٌ لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتَّصلة] الطرق الحكمية ص 407- 408.
وكذلك فإنه من المعلوم أن أؤلئك القوم لا يوجد عندهم ضوابط أخلاقية كما يوجد عندنا وعاداتهم تخالف في معظمها ما نحن عليه وغير ذلك من المفاسد الكثيرة التي ستؤدي غالباً إلى التأثر بمعتقداتهم وأفكارهم وتقاليدهم.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على الطالبة المذكورة في السؤال السفر والإقامة مع أسرة أجنبية وخاصة أن سفرها لا يدخل في باب السفر الواجب ويمكن تحصيل مقاصده داخل البلاد.(11/172)
الجنايات(11/173)
الضمان في حوادث السيارات
يقول السائل: سائق سيارة كان يسوق سيارته على طريق سريع يُمنع فيه سير المشاة فقفز رجل فجأةً أمام السيارة فصدمته فلقي حتفه، وقررت الشرطة أن الرجل المتوفى يتحمل المسؤولية، فهل على السائق كفارة؟ أفيدونا.
الجواب: قرر الفقهاء أن كفارة القتل تابعة للضمان فإذا كان الشخص ضامناً في حالة القتل فتلزمه الكفارة وأما إذا لم يكن ضامناً فلا كفارة عليه.
وينبغي أولاً أن ننظر هل هذا السائق ضامن أم لا؟ والذي يظهر من السؤال أن السائق لا دور له في موت الشخص المذكور، حيث إن الشخص المذكور قد ألقى بنفسه أمام السيارة بشكل مفاجئ للسائق، وبالتالي لا حيلة للسائق لمنع وقوع الحادث وقد قرر الفقهاء في القاعدة الفقهية (أن كل ما لا يمكن التحرز منه فلا ضمان فيه) ، حيث إن السائق المذكور لا يمكنه التحرز من الحادث، لأن الشخص الآخر هو الذي ألقى بنفسه أمام السيارة ولم يتمكن السائق من فعل أي شيء للحيلولة دون حصول الحادث فإذا لم يمكنه تفادي الحادث بأي وسيلة من الوسائل فلا ضمان عليه فلا دية، ولا كفارة عليه. ودم الميت هدر، لأنه أشبه بالمنتحر.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: [قال الفقهاء: إذا كان الاصطدام بسبب قاهر أو مفاجئ كهبوب الريح أو العواصف فلا ضمان على أحد، وإذا كان الاصطدام بسبب تفريط أحد رباني السفينتين أو قائدي السيارتين كان الضمان عليه وحده، ومعيار التفريط - كما يقول ابن قدامة - أن يكون الربان - وكذلك القائد - قادراً على ضبط سفينته أو سيارته أو ردِّها عن الأخرى فلم يفعل، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرها.] الموسوعة الفقهية الكويتية 28/293.
وقد بحث المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي موضوع حوادث السيارات(11/175)
وقرر فيه ما يلي: [إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن في بروناي دار السلام من 1- 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 حزيران (يونيو) 1993م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع حوادث السير، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، بالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة،
قرر ما يلي:
أولاً: أ- إن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجبٌ شرعاً، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناءً على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال.
ب - مما تقتضيه المصلحة أيضاً سنّ الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يُعرّض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذاً بأحكام الحسبة المقررة.
ثانياً: الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أ - إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها،(11/176)
وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب - إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة.
ج - إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
ثالثاً: ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء.
رابعاً: إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال.
خامساً: أ- مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرِطاً.
ب - إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعدٍّ.
ج - إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء، والله أعلم] مجلة المجمع الفقهي عدد 8، جزء2 ص 171.
وقد نص قرار المجمع الفقهي على أن السائق يعفى من المسؤولية في الحالات الآتية:
[أ - إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب - إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة.
ج - إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.] وما جاء في البندين ب + ج ينطبق على الحالة التي نحن بصددها فلا ضمان على السائق ولا كفارة عليه.(11/177)
وقد قرر الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمة الله عليه هذا الحكم في رسالته عن أحكام حوادث السيارات فقال: [والقسم الثاني من الإصابة بحوادث السيارات أن تكون في غير الركاب - أي ركاب السيارة التي أصابت المتوفى - وهذا القسم له حالان:
الحال الأولى: أن يكون بسبب من المصاب لا حيلة لقائد السيارة فيه، وذلك على سبيل التمثيل لا الحصر: مثل أن تقابله سيارة في خط سيره لا يمكنه الخلاص منها أو يفاجئه شخص برمي نفسه أمامه لا يمكنه تلافي الخطر. ففي هذه الحال لا ضمان على قائد السيارة، لأن المصاب هو الذي تسبب في قتل نفسه أو إصابته، وعلى قائد السيارة المقابلة الضمان لتعديه بسيره في خط ليس له حق السير فيه.] أحكام حوادث السيارات عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن السائق المذكور في السؤال لا ضمان عليه فلا دية ولا كفارة، ولكن إن تصدق بشيء من المال تطوعاً فهو أولى.
ما يلزم في القتل خطأ
يقول السائل: امرأة أرضعت طفلها ونامت أثناء الرضاعة وفي الصباح تبين أن الطفل قد مات مختنقاً بالغطاء حيث وجد على وجهه فماذا يلزم المرأة أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن جمهور الفقهاء قد قسموا القتل إلى ثلاثة أقسام وهي: العمد وشبه العمد والخطأ
ومنهم من جعله على أربعة أقسام: وهي العمد وشبه العمد والخطأ وما أجري مجرى الخطأ كفقهاء الحنفية وبعض الحنابلة
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في شرح قول الخرقي [والقتل على ثلاثة أوجه عمد وشبه العمد وخطأ]
قال [أكثر أهل العلم يرون القتل منقسماً إلى هذه الأقسام الثلاثة، روي ذلك عن عمر(11/178)
وعلي وبه قال الشعبي والنخعي، وقتادة وحماد وأهل العراق، والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وأنكر مالك شبه العمد، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا وجعله من قسم العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها) رواه أبو داود وفي لفظ: " قتيل خطإ العمد " وهذا نص يقدم على ما ذكره
وقسمه أبو الخطاب أربعة أقسام فزاد قسماً رابعاً وهو ما أجري مجرى الخطأ، نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله أو يقع عليه من علو والقتل بالسبب، كحفر البئر ونصب السكين وقتل غير المكلف أجري مجرى الخطأ وإن كان عمداً
وهذه الصورة التي ذكرها عند الأكثرين من قسم الخطأ، فإن صاحبها لم يعمد الفعل أو عمده وليس هو من أهل القصد الصحيح فسموه خطأ، فأعطوه حكمه وقد صرح الخرقي بذلك فقال في الصبى والمجنون: عمدهما خطأ.] المغني 8/260.
إذا تقرر هذا فإن كان موت الطفل بسبب تقصير من أمه حيث إنها نامت أثناء إرضاع الولد ولم تضعه في محل نومه المعتاد مما أدى إلى وفاته مختنقاً بالغطاء فتعتبر هذه المرأة متسببة في قتل طفلها ويجري هذا القتل مجرى القتل الخطأ فتلزمها الدية والكفارة قال الكاساني الحنفي [وأما القتل الذي هو في معنى القتل الخطأ فنوعان: نوع في معناه من كل وجه، وهو أن يكون على طريق المباشرة، ونوع هو في معناه من وجه، وهو أن يكون من طريق التسبب، أما الأول: فنحو النائم ينقلب على إنسان فيقتله فهذا القتل في معنى القتل الخطأ من كل وجه لوجوده لا عن قصد؛ لأنه مات بثقله فترتب عليه أحكامه من وجوب الكفارة والدية وحرمان الميراث والوصية؛ لأنه إذا كان في معناه من كل وجه كان ورود الشرع بهذه الأحكام هناك وروداً ههنا دلالة ... أما(11/179)
وجوب الدية فلوجود معنى الخطأ، وهو عدم القصد وأما وجوب الكفارة وحرمان الميراث والوصية فلوجود القتل مباشرة؛ لأنه مات بثقله ... ] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 6/ 330.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [مسألة: في امرأة نامت بقرب ابنها أو غيره فوجد ميتاً، قال علي- أي ابن حزم - أخبرنا ... عن إبراهيم النخعي في امرأة شربت دواء فألقت ولدها قال: تكفر. وقال في امرأة أنامت صبيها إلى جنبها فطرحت عليه ثوباً فأصبحت وقد مات؟ قال: أحب إلينا أن تكفر. حدثنا ... عن إبراهيم أنه قال في امرأة غطت وجه صبي لها فمات في نومه؟ فقال: تعتق رقبة. قال أبو محمد - أي ابن حزم -: إن مات من فعلها مثل - أن تجر اللحاف على وجهه ثم ينام فينقلب فيموت غماً، أو وقع ذراعها على فمه، أو وقع ثديها على فمه، أو رقدت عليه - وهي لا تشعر - فلا شك أنها قاتلته خطأً فعليها الكفارة، وعلى عاقلتها الدية، أو على بيت المال ... ] المحلى11/115-116.
وبناءً على ما سبق يلزم هذه المرأة أحكام القتل الخطأ وهي: أولاً: وجوب الدية لقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} سورة النساء الآية 92.
وتدفع الدية لورثة الطفل الميت وتحرم الأم منها لأنها قتلته والقتل أحد موانع الميراث وكونها قتلته خطأً لا ينفي حرمانها من الميراث وهو الذي عليه جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء على أن القاتل خطأً لا يرث من مال المقتول ولا من ديته وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئاً ... فأما القاتل خطأً فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يرث أيضاً، نص عليه أحمد، ويروى ذلك عن عمر، وعلي وزيد وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن(11/180)
عباس، وروي نحوه عن أبي بكر رضي الله عنهم. وبه قال شريح وعروة وطاووس وجابر بن زيد والنخعي والشعبي والثوري وشريك والحسن بن صالح ووكيع والشافعي ويحيى بن آدم وأصحاب الرأي وورثه قوم من المال دون الدية، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب وعطاء والحسن ومجاهد والزهري ومكحول والأوزاعي وابن أبي ذئب وأبي ثور، وابن المنذر وداود، وروي نحوه عن علي لأن ميراثه ثابت بالكتاب، والسنة تخصص قاتل العمد بالإجماع، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه. ولنا: الأحاديث المذكورة ولأن من لا يرث من الدية لا يرث من غيرها، كقاتل العمد، والمخالف في الدين، والعمومات مخصصة بما ذكرناه] المغني 6/364-365. وتكون الدية على عاقلة المرأة وهم عصبتها.
ثانياً: تلزمها كفارة القتل الخطأ وهي عتق رقبة مؤمنة إن وجدت وإلا فإن عليها صيام شهرين متتابعين لقوله تعالى {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة النساء الآية 92. فإذا لم تستطع صيام شهرين متتابعين لعذر أبدي كمرض مزمن مثلاً فإنها تطعم ستين مسكيناً كما ذهب إليه جماعة من أهل العلم ومن المعلوم أن الفقهاء قد اختلفوا حال عجز المكفر عن الصيام على قولين الأول [وهو مذهب الجمهور أنه لا إطعام عليه، لأن الله جل وعلا لم يذكر في كفارة القتل إلا العتق والصيام، ولو كان ثمة إطعام لذكره.
والثاني: وهو قول عند الشافعية وهو أنه عليه الإطعام قياساً على غيره ككفارة الظهار والصوم، ولعل الصواب في المسألة هو التفصيل بين من عجز عن الصيام عجزاً أبدياً ومن كان عاجزاً عجزاً مؤقتاً، فالعاجز عجزاً أبدياً يطعم، والعاجز عجزاً مؤقتاً ينتظر القدرة على الصيام، ومما يؤيد هذا المنحى أنه جارٍ على القياس على العجز عن صوم رمضان، فمن المعلوم أنه إن كان عاجزاً عجزا مؤقتاً، فالواجب عليه إنما هو القضاء، وإن كان عاجزاً عجزاً أبدياً فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم، وإنما قسنا(11/181)
صوم القتل على صوم رمضان لأن كلاً منهما مستقر في الذمة على وجه الوجوب وجوباً متعيناً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن وجود الرقبة أصبح متعذراً تعذراً شديداً، إن لم يكن مستحيلاً.] نقلاً عن موقع الشبكة الإسلامية على الإنترنت.
ويجب أن يعلم أن الدية تسقط عن هذه المرأة إذا عفا أولياء الطفل أما الكفارة فلا تسقط بعفو الأولياء لأنها حق لله تعالى قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى { ... وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} سورة النساء الآية 92. [ ... يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم ... وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم؛ لأنه أتلف شخصاً في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم.] تفسير القرطبي 5/323.
وخلاصة الأمر أن المرأة المذكورة في السؤال قتلت ابنها خطأً وأنه يلزما الدية والكفارة.(11/182)
دية المرأة الحامل ودية الجنين
يقول السائل: توفيت امرأة في حادث سير وكانت حاملاً في الشهر السادس وكان الخطأ من السائق حسب تقرير شرطة السير، فما هي الدية اللازمة شرعاً في هذه الحالة أفيدونا؟
الجواب: إذا كان حادث السير المذكور في السؤال قد وقع بسبب خطأ السائق فإن الواجب في ذلك شرعاً ديتان دية بسبب وفاة المرأة ودية لوفاة جنينها يقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} سورة النساء الآية 92.
وبما أن السائق قد قتل المرأة وجنينها خطأً فيلزمه أيضاً دية الجنين وهي المعروفة عند الفقهاء بالغرة وهي: اسم للضمان المالي الذي يجب بالجناية على الجنين، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرح جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبدٍ أو أمةٍ) رواه البخاري ومسلم.
وعن عمر رضي الله عنه أنه استثارهم - أي الصحابة - في إملاص المرأة فقال المغيرة رضي الله عنه: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد بن مسلمة رضي الله عنه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبدٍ أو وليدةٍ وقضى بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
قال الحافظ ابن حجر: [والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس ... وتطلق الغرة(11/183)
على الشيء النفيس آدمياً كان أو غيره] فتح الباري 15/273. أي أن الواجب في قتل الجنين عبد أو أمة ولما كان لا يوجد في زماننا هذا رقيق فإن قيمة ذلك عشر دية المرأة أي خمس من الإبل.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ ... في جنين الحرة المسلمة غرة. وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعطاء، والشعبي، والنخعي، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص - سقوط الجنين بسبب ضرب أمه - المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبدٍ أو أمةٍ. قال: لتأتين بمن يشهد معك. فشهد له محمد بن مسلمة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم) . متفق عليه] المغني 8/404.
إذا تقرر لزوم ديتين في هذه الحادثة فإن دية المرأة على النصف من دية الرجل عند جماهير أهل العلم والقول بخلاف ذلك قول شاذ لايعول عليه ولا يلتفت إليه، قال الحافظ ابن عبد البر: [أجمعوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل] الاستذكار 25/63. وقال الإمام القرطبي: [وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل قال أبو عمر - يعني ابن عبد البر -: إنما صارت ديتها والله أعلم على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل وشهادة امرأتين بشهادة رجل وهذا إنما هو في دية الخطأ وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ... الخ] تفسير القرطبي 5/325.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي معلقاً على قول الخرقي: [ودية الحرة المسلمة نصف(11/184)
دية الحر المسلم. قال ابن المنذر وابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل] المغني 8/402.
وهذا قول الأئمة الأربعة وأتباعهم وعلماء السلف والخلف ونقل عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف فصار إجماعاً، الحاوي الكبير 12/289.
وقد شذّ الأصم وابن علية فقالا دية المرأة كدية الرجل وتابعهما على ذلك بعض المعاصرين كالمالكي في نظام العقوبات ص 121، والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في بحث له بعنوان (دية المرأة في الشريعة الإسلامية) انظر موقع القرضاوي على شبكة الإنترنت، وقولهما مخالف لما استقر عليه عمل علماء الأمة على مر العصور والأيام.
ومما يدل على قول جماهير أهل العلم ما رواه الشافعي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قوَّم دية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل] رواه الشافعي في الأم 6/91-92 والبيهقي في السنن 8/95.
وقد ذكر عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عدة روايات عن الصحابة تفيد أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، انظر مصنف عبد الرزاق 9/393-397، مصنف ابن أبي شيبة 9/299-302، سنن البيهقي 8/95-96.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن شريح القاضي عن عمر رضي الله عنه قال: [ ... دية المرأة على النصف من دية الرجل] مصنف ابن أبي شيبة 9/300، وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل 7/307.
وقد رويت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكنها غير ثابتة ولكن ثبوت تنصيف دية المرأة عن عدد من الصحابة ونقل بعض أهل العلم الإجماع(11/185)
على ذلك يكفي في إثبات هذا الحكم لأن مثل هذا الأمر لا يعرف إلا توقيفاً لأنه من المقدرات التي لا مجال للعقل فيها فيكون له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أن عدداً كبيراً من الفقهاء والأئمة قالوا بذلك كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وعطاء ومكحول والليث وابن شبرمة وهو قول الأئمة الأربعة كما سبق. انظر فقه عمر في الجنايات 2/474، فتح باب العناية 3/348.
وتقدر الدية في بلادنا بالذهب فالدية الكاملة وهي دية الرجل 4250 غرام ذهب ونصفها دية المرأة أي 2125 غرام ذهب ودية الجنين عشر ذلك أي 212، 5 غرام ذهب.
كما ويلزم السائق المذكور في السؤال كفارة القتل الخطأ وهي الواردة في قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة النساء الآية 92.
وبما أنه يتعذر في زماننا عتق رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين. كما يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى توبة صادقة. وتجب الديتان المذكورتان في الجواب على عاقلة السائق لما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضي بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أنه يلزم السائق المذكور ديتان دية لقتل المرأة خطاً ودية لقتل الجنين أيضأ كما ويلزمه صيام شهرين متتابعين كفارة القتل الخطأ.(11/186)
حرمة دم المسلم أعظم عند الله من هدم الكعبة المشرفة
يقول السائل: هل صحيح أن حرمة دم المسلم أعظم عند الله من هدم الكعبة المشرفة؟ وما صحة الحديث الوارد بهذا المعنى؟
الجواب: لا شك أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى وقتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} سورة الإسراء الآية 33.
وقوله تعالى {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} سورة النساء الآية 93.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.(11/187)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233.
وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله (سفك الدم) أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله (بغير حله) في رواية أبي نعيم " بغير حقه " وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها] فتح الباري 12/233-234.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ... كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول(11/188)
بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وغير ذلك من النصوص التي تدل على عظمة النفس المعصومة.
إذا تقرر هذا فإن حرمة دم المسلم حرمة عظيمة ويكفي ما ورد من ترهيب مخيف في سفك دم المسلم بغير حق ولا شك أن حرمة دم المسلم مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة، بل حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56.
وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630.
ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي.
وأما الحديث الذي أشار إليه السائل وهو (لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل المسلم)(11/189)
فقد ذكره الشيخ العجلوني في كشف الخفاء وقال [قال في المقاصد - أي السخاوي - لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولكن معناه عند الطبراني في الصغير عن أنس رفعه (من آذى مسلماً بغير حق فكأنما هدم بيت الله) ونحوه عن غير واحد من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال لقد شرفك الله وكرمك وعظمك والمؤمن أعظم حرمة منك] كشف الخفاء ومزيل الإلباس حديث رقم 2086.
وخلاصة الأمر أن قتل المسلم بغير حق من كبائر الذنوب وأن حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من هدم الكعبة المشرفة بل إن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل المسلم بغير حق.(11/190)
متفرقات(11/191)
مخالفات الدكتور الترابي وانحرافاته
يقول السائل: سمعنا ما قاله د. حسن الترابي على إحدى الفضائيات حول زواج المسلمة من غير المسلم والحجاب وشهادة المرأة وإمامة المرأة فأرجو الرد على هذه القضايا.
الجواب: إن ما قاله د. الترابي من ضلالات وانحرافات ليس جديداً وهذه الآراء التي قالها على الفضائيات أخيراً موجودة منذ عهد بعيد في كتبه مثل (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع) و (تجديد أصول الفقه الإسلامي) و (تجديد الفكر الإسلامي) وغيرها وانحرافات الترابي هذه انطوت على أباطيل وعلى ردٍ للنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حاول الترابي أن يسوق أباطيله في السودان وخارجه على أنها أفكار تجديدية فهو يريد أن يجدد أصول الفقه ويريد أن يجدد الفقه الإسلامي فيقول: [لابد أن نقف وقفة مع علم الأصول تصله بواقع الحياة، لأن قضايا الأصول في أدبنا الفقهي أصبحت تؤخذ تجريداً حتى غدت مقولات نظرية عميقة لا تكاد تلد فقهاً ألبتة بل تولد جدلاً لا يتناهى] .
ويشن التربي هجوماً على القياس وهو من الأدلة الشرعية المتفق عليها عند الأصوليين فيقول: [يلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر بناء على النص المحدود، وإنما لجأنا للقياس لتعدية النصوص وتوسيع مداها فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بمعاييره التقليدية، فالقياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجاتنا بما غشيه من التضييق انفعالاً بمعايير المنطق الصوري التي وردت على المسلمين مع الغزو الثقافي الأول الذي تأثر به المسلمون تأثراً لا يضارعه إلا تأثرنا اليوم بأنماط الفكر الحديث] .
ويدعو الترابي إلى الاجتهاد بدون تحقق شرائطه التي قررها علماء الإسلام فيقول: [فإذا عنينا بدرجة الاجتهاد مرتبة لها شرائط منضبطة، فما من شيء في دنيا العلم من هذا القبيل! وإنما أهلية الاجتهاد جملة مرنة من معايير العلم والالتزام،(11/193)
تشيع بين المسلمين ليستعملوها في تقويم قادتهم الفكريين]
ويقول الترابي عن تجديد الفقه الإسلامي: [ونحن أشد حاجة لنظرة جديدة في أحكام الطلاق والزواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة، ونبني عليها فقهنا الموروث، وننظر في الكتاب والسنة مزودين يكل حاجات عصرنا ووسائله وعلومه ... ] .
وزعم الترابي أن الفقه الإسلامي لا يعلِّم المسلم أمور الدنيا كالبيع والشراء ولا يعلمه أمور الفن ولا السياسة حيث يقول: [قد يعلم المرء اليوم كيف يجادل إذا أثيرت الشبهات في حدود الله، ولكن المرء لا يعرف اليوم كيف يعبد الله في التجارة والسياسة أو يعبد الله في الفن، كيف تتكون في نفسه النيات العقدية التي تمثل معنى العبادة، ثم لا يعلم كيف يعبر عنها عملياً بدقة] .
ويريد الترابي أن يجدد قواعد علم مصطلح الحديث فيقول: [الضوابط العملوها - التي عملوها - لتصحيح السنة إيش، جابوها من فين الضوابط العملها البخاري، من هو البخاري؟ بشر يخطئ ويصيب، وضوابطه قد تكون مقبولة أو غير مقبولة. فقد نجد معايير عملها البخاري ما صحيحة، لا تؤدي إلى الحقيقة، وقد نجد معايير أضيق من اللزوم، اللي بيدعي أنه صحيح في ضعيف فيه، حتى الليلة إذا وصل الناس أنه في خمسين حديثاً في البخاري ضعيف، إيه الفتنة الدينية اللي بتحصل لنا] .
كما أن الترابي يريد أن يضع قواعد جديدة لقبول رواية الصحابي أو ردها فيقول [إذا رأينا نأخذ كل الصحابة أو لا نأخذ، قد نجيء بعمل تنقيح جديد. نقول الصحابي إذا روى حديثاً عنده فيه مصلحة نتحفظ فيه، نعمل روايته درجة ضعيفة جداً. وإذا روى حديثاً ما عنده فيه مصلحة نأخذ حديثه بقوة أكثر ويمكن تصنيف الصحابة مستويات معينة في صدق الرواية] .
وقد كذَّب الترابي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في الذباب: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينتزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى(11/194)
شفاء) رواه البخاري، قال الترابي: [في الأمور العلمية يمكن أن آخذ برأي الكافر، وأترك رأي النبي!! ولا أجد في ذلك حرجاً ألبتة، ولا أسأل فيه أيضاً عالم الدين] .
وقد زعم الترابي أنه يجوز للمسلم أن يغير دينه وأنه حرٌّ في ذلك وغير خاضع للعقوبة أيضاً فقال: [وأود أن أقول: إنه في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه.. أما الردة الفكرية البحتة التي لا تستصحب ثورة على الجماعة ولا انضماماً إلى الصف الذي يقاتل الجماعة كما كان يحدث عندما ورد الحديث المشهور عن الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بذلك بأس يذكر، ولقد كان الناس يؤمنون ويكفرون، ثم يؤمنون ويكفرون، ولم يطبق عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حد الردة] عن شبكة الإنترنت.
ومن ضلالات الترابي وانحرافاته الأخرى: دعوته إلى توحيد الأديان على أساس الملة الإبراهيمية وإنكاره نزول عيسي عليه السلام آخر الزمان ويزعم أن الصحابة ليسوا عدولاً كلهم. وإباحته للردة وعدم إقامة الحد على المرتد. وإنكاره لعصمة الأنبياء وإنكاره رجم الزاني المحصن. ويجيز للمرأة المسلمة أن تتزوج باليهودي والنصراني ويجيز التوارث بين المسلم والكافر وزعم الترابي أن السنة والشيعة متفقون على 95 % من أصول الإسلام وفروعه!!
هذا غيض من فيض من انحرافات الترابي وضلالاته في مختلف جوانب الدين والتي يسميها تجديداً!! فالترابي من كبار العصرانيين في هذا الزمان ويعتبر من أهم مجددي فكر المعتزلة في الوقت الحاضر الذين ينادون بتقديم العقل على النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والترابي ليس من أهل العلم الشرعي فدراسته كلها في القانون وهو خريج جامعة السوربون فهو بعيد عن التخصص في العلوم الشرعية، ومع الأسف الشديد أن بعض المسلمين ينخدع بالترابي وأمثاله فيطلق عليه لقب مفكر إسلامي أو مصلح أو مجدد أو داعية وغير ذلك من الألقاب(11/195)
الفضفاضة، ولا شك أن الفضائيات تسهم في الترويج لهذا الفكر المنحرف وقد تصفه بأنه فكر تنويري وخاصة أنه يجيء وفق المقاييس الأمريكية، وهكذا نجد الفضائيات تقوم بتلميع الذين يميعون الإسلام وأحكامه الشرعية ممن يسمون بالدعاة الجدد بل القصاص الجدد كعمرو خالد وأمثاله، تارة باسم العصرنة وأخرى باسم التيسير على الناس وأحياناً باسم محاربة التطرف إلى غير ذلك من المقولات التافهة كالتي ساقها الرئيس الليبي بالسماح لغير المسلمين بالطواف حول الكعبة ونحوها من الأباطيل.
وعلى كل حال فإن المقام لا يتسع للرد على الأفكار العرجاء للترابي وأشباهه وخاصة أن كثيراً من العلماء والباحثين قاموا بالرد عليه وأذكر هنا عدداً منهم: د. محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه [نظرات إسلامية في مصطلحات وأسماء شائعة]
د. محمود الطحان في كتابه [مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين] .
والشيخ الأمين الحاج على الترابي في كتابيه: الأول [مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي] والثاني [الرد القويم لما جاء به الترابي والمجادلون عنه من الافتراء والكذب المهين] .
وكتب الدكتور محمد رشاد خليل ثلاث مقالات في مجلة المجتمع للرد على الترابي (العدد: 587 - 588 - 589) ومحاضرة د. جعفر شيخ إدريس التي رد فيها على الترابي بعنوان (العلمانية في ثياب إسلامية) .
وأحمد بن مالك في كتابه [الصارم المسلول على الترابي شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم] .
وعبد الفتاح محجوب إبراهيم في كتابه [الدكتور حسن الترابي وفساد نظرية تطوير الدين] .
والشيخ علي الحلبي في كتابه [العقلانيون أفراخ المعتزلة العصريون] .(11/196)
والشيخ محمد سرور في كتابه [دراسات في السيرة النبوية] وغير ذلك كثير.
وخلاصة الأمر أن الترابي ضال مضل منحرف عن كتاب الله وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الضوابط الشرعية لجواز نقل الأعضاء البشرية
يقول السائل: ما هي الضوابط التي وضعها الفقهاء القائلون بجواز نقل الأعضاء البشرية من إنسان لآخر وخاصة ما يتعلق بالشخص المنقول إليه، أفيدونا؟
الجواب: مسألة نقل الأعضاء من إنسان وزرعها في جسم إنسان آخر من المسائل الحديثة التي بحثت بحثاً موسعاً من العلماء والباحثين المعاصرين وقد كتبت فيها أبحاث كثيرة وآخر ما اطلعت عليه رسالة دكتوراة تناولت الموضوع من جميع جوانبه وخلاصة الشروط التي ذكرها العلماء والباحثون المعاصرون لجواز نقل الأعضاء وزرعها ما يلي:
ما جاء في القرار الصادر عن المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي في دورته المنعقدة بتاريخ 18 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 فبراير 1988 م.
أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أنَّ النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهود له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً.
ثانياً: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة.
ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.(11/197)
رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر.
خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها كنقل قرنية العين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.
سابعاً: وينبغي ملاحظة: أنَّ الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بواسطة بيع العضو. إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما.
أما بذل المال من المستفيد، ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً، فمحل اجتهاد ونظر.
ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. والله أعلم
ويلاحظ على قرار المجمع الفقهي أنه لم يشر إلى الشخص الذي سيزرع فيه العضو المنقول ولكن بعض المجامع العلمية الأخرى وبعض الباحثين نصوا على أنه يشترط في الشخص الذي سيزرع فيه العضو المنقول أن يكون مسلماً أو ذمياً معصوم الدم ولا يجوز النقل لكافر حربي.
وجاء في رسالة الدكتوراه للباحث د. يوسف بن عبد الله الأحمد بعنوان (أحكام نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) شروط نقل الأعضاء فقال [ما يجوز نقله من الأعضاء مما ذكر، إنما يجوز وفق الشروط العامة التي لابد من اعتبارها في نقل أي(11/198)
عضو من الأعضاء، وهذه الشروط هي:
1. ألا يترتب على المتبرع ضرر بذهاب نفسه أو منفعة فيه؛ كالسمع والبصر والمشي ونحو ذلك؛ حفظاً لحق الله تعالى.
2. ألا يكون النقل إلا بإذن المنقول منه؛ حفظاً لحق العبد في بدنه. وأخذ العضو دون إذنه ظلم واعتداء.
3. أن يكون إذن المنقول منه وهو كامل الأهلية؛ فلا يصح من الصغير، والمجنون، أو بإسلوب الضغط والإكراه، واستعمال أساليب الحيل والإحراج؛ حفظاً لحق العبد في بدنه.
4. ألا يكون النقل بطريق تمتهن فيه كرامة الإنسان؛ كالبيع، وإنما تكون بطريق الإذن والتبرع.
5. أن يكون المنقول له معصوم الدم، فهو الذي أوجب الشرع حفظ نفسه بخلاف مهدر الدم؛ كالحربي.
6. أن تحفظ العورات؛ فلا يجوز الكشف عليها إلا عند الضرورة، أو الحاجة الملحة، والضروة أو الحاجة تقدر بقدرها.
7. إعمال الأطباء الذين يشرفون على علاج المريض قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد للمريض والمتبرع؛ فلا تجرى عملية النقل وانتفاع المريض بها مرجوح، ولا ينقل العضو من الإنسان مع إمكان علاج المريض بوسيلة أخرى. وغير ذلك من الصور والأحوال التي يدور عليها تصرف الطبيب مع المريض بإعماله لقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد.]
وجاء في فتوى للشبكة الإسلامية عند ذكر شروط زرع الأعضاء [والتبرع بما ذكر في الحالتين مشروط بأن يكون المتبرَّع له معصوم الدم، أي أن يكون مسلماً أو ذمياً، بخلاف الكافر المحارب.] عن شبكة الإنترنت
وجاء في فتوى أخرى للشبكة الإسلامية عند ذكر شروط زرع الأعضاء [ ... وعليه فإذا كان المسلم متأكداً من أن المستفيد من أعضائه مسلمون أو من أهل الذمة فلا مانع من توقيعه على مثل هذه الوثيقة، وأما إذا أمكن أن يستفيد منها محارب فلا يجوز له فعل ذلك.] عن شبكة الإنترنت(11/199)
وجاء في فتوى ثالثة للشبكة الإسلامية عند ذكر شروط زرع الأعضاء [وذكرنا هناك أنه يشترط أن يكون المتبرَع له معصوم الدم أي أن يكون مسلماً أو ذمياً، أما الكافر المحارب فلا يجوز التبرع له بالأعضاء]
وجاء في قرارات مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ما يلي: [قرر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بالإجماع جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه. كما قرر بالأكثرية ما يلي:
أ- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.
ب- جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك.]
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز التبرع بالأعضاء لغير المسلم ولغير الذمي فلا يجوز التبرع بالأعضاء للكافر الحربي ولا يزعمن أحد أن التبرع بالأعضاء عمل إنساني ينبغي التسوية فيه بين بني آدم جميعاً فهذه إنسانية مزيفة.
وقديماً قال الشاعر العربي:
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يكن حمده ذمّاً عليه ويندمِ.(11/200)
حكم سرقة البحوث العلمية
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الطلبة الجامعيين من أخذهم بحوث غيرهم من الطلاب وينسبونها لأنفسهم ويقدمونها كأبحاث للتخرج على أنها من جهدهم أفيدونا؟
الجواب: ما ذكره السائل ظاهرة بدأت تنتشر في أوساط الطلبة الجامعيين وغيرهم حيث إن بعض الطلبة يسطون على أبحاث غيرهم وينسبونها لأنفسهم بل تعدى الأمر ذلك فأصبح لدينا بعض المكتبات ومراكز الإنترنت التي تبيع بحوثاً جاهزة للطلبة وبعض الناس يقومون بكتابة بحوث ويبيعونها للطلبة مقابل مبالغ معينة فضلاً عن سرقة الأبحاث عن طريق شبكة الإنترنت فهذا الأمر صار شائعاً في أوساط طلبة الجامعات، ومما يؤسف له أن بعض أساتذة الجامعات يسهمون في ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر فعندما يطلب أستاذ الجامعة بحوثاً من طلابه وعندما يتسلمها منهم لا يكلف نفسه عناء تصفحها فضلاً عن قراءتها فلا شك أن هذا يدفع الطلبة إلى سرقة البحوث لأنهم يعرفون سلفاً أن أستاذهم المذكور لا يقرأ البحوث وهذا الأمر يؤدي إلى آثار خطيرة على المسيرة التعليمية لأن الأصل أن هنالك أهدافاً يجب أن تتحقق عند تكليف الطلبة بالبحوث مثل تمرين الطلبة على الكتابة العلمية وتقوية صلتهم بالمكتبة والمراجع ونحو ذلك فعندما يحصل الطالب على بحث جاهز سواء كان ذلك مقابل أجر أو بدون أجر فإن الغايات المرجوة من تكليفه بالأبحاث لا تتحقق.
إذا تقرر هذا فإن كتابة الأبحاث للطلبة بأجر أو بدون أجر وكذا سرقة الطلبة للأبحاث من غيرهم أو عن طريق شبكة الإنترنت كل ذلك محرم شرعاً لما يلي:
أولاً: لأنه غش صريح فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) .(11/201)
ثانياً: إن هذا العمل يعتبر خيانة للأمانة العلمية التي يجب أن يحترمها أساتذة الجامعات قبل طلبتهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الأنفال الآية 27. وخيانة الأمانة من صفات المنافقين كما صحَّ في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) .
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.
وقد اعتبر العلماء خيانة الأمانة من كبائر الذنوب. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/617. وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من خيانة الأمانة منها:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في الخطبة: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه ابن حبان والبيهقي والبغوي، ثم قال: هذا حديث حسن. شرح السنة 1/75 وحسّنه الشيخ الألباني لشواهده كما في تخريجه للمشكاة 1/17.
ثالثا: إن الشريعة الإسلامية حرمت انتحال الانسان قولاً لغيره أو إسناده إلى غير من صدر منه وقضت بضرورة نسبة القول إلى قائله والفكرة إلى صاحبها لينال هو دون غيره أجر ما قد تنطوي عليه من الخير أو يتحمل وزر ما قد تجره من شر فقد روي عن الإمام أحمد: أنه امتنع عن الإقدام على الاستفادة بالنقل أو الكتابة عن مقال أو مؤلف عرف صاحبه إلا بعد الاستئذان منه فقد روى الغزالي أن الإمام أحمد سئل عمن سقطت منه ورقة كتب فيها أحاديث أو نحوها أيجوز لمن وجدها أن يكتب منها ثم(11/202)
يردها؟ قال: لا، بل يستأذن ثم يكتب.
رابعاً: إن من ينسب جهود الآخرين لنفسه متشبع بما لم يعط كما ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت يا رسول الله: أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي في شرحه للحديث: [قال العلماء: معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/291.
وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية وغيرها من أمثال هؤلاء الذين ينطبق عليه حديث الرسول الله صلى الله عليه (المتشبع بما لم يعط) فهؤلاء الذين تحملهم شهاداتهم ولا يحملونها.
خامساً: إن هذا العمل من التعاون على الباطل الذي يترتب عليه مفاسد كثيرة تنعكس على الفرد والمجتمع حيث سيتخرج أناس بالغش والتزوير وسيتولون المناصب بحصولهم على شهادات الزور (شهاداتهم الجامعية) .
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بتحريم إعداد البحوث بالنيابة فقد أجابت عن السؤال التالي: [يطلب بعض المدرسين من الطلبة عمل بحث ويعطي الطالب عليه درجات، فهل يجوز لي أن أعمل هذا البحث للطالب مقابل أجر مادي آخذه منه؟
الجواب: عمل البحث المطلوب من الدارس في المدارس الحكومية أو غيرها واجب دراسي، له أهدافه: من تمرين الطالب على البحث، والتعرف على المصادر، ومعرفة مدى قدرته على استخراج المعلومات، وترتبيها.. إلى آخر ما يهدف إليه طلب إعداد البحث؛ لهذا فإن قيام بعض المدرسين أو غيرهم بذلك نيابة عن الطالب، مقابل أجرة(11/203)
أو بدون أجرة، هو عمل محرم، والأجرة عليه كسب حرام؛ لما فيه من الغش والكذب والتزوير، وهذا تعاون على الإثم، والله سبحانه يقول: (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة الآية 2. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) رواه مسلم ... ] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 12/203.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين [وإن مما يؤسف له أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثاً أو رسائل يحصلون على شهادات علمية أو من يحقق بعض الكتب فيقول لشخص حضر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع وأرى أنه نوع من الخيانة لأنه لابد أن يكون المقصود من الرسالة هو الدراسة والعلم قبل كل شيء فإذا كان المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب لهذا أحذر إخواني الذي يحققون الكتب أو الذين يحضرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة ... ] من كتاب العلم للشيخ العثيمين عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً كتابة الأبحاث العلمية نيابة عن الآخرين وهذا العمل لا تدخله النيابة ويحرم التعاون مع الطلبة في هذا العمل من قبل الأساتذة أو المكتبات أو مراكز الإنترنت لأنه تعاون على الإثم والباطل وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية 2.(11/204)
الضوابط الشرعية لتنفيذ وصية الميت
يقول السائل: أوصى شخص عند موته ألا يحضر جنازته أحد أبنائه، فهل تنفيذ وصية الميت لازم بغض النظر عن الشيء الموصى به، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الوصية مشروعة بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين} سورة البقرة الآية 180، وقال تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم} سورة النساء 12.
وورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي قال لا قال قلت أفأتصدق بشطره قال لا الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في - فم - امرأتك ... ) رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما مرت عليًّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي) . وغير ذلك من النصوص.
إذا تقرر هذا فإن الوصية تكون بالأمور المالية وتكون أيضاً بالأمور المعنوية فيمكن للإنسان أن يوصي بمبلغ من ماله لشخص معين أو جهة خيرية وقد يوصي بقضاء دين عليه أو يوصي ولده بحفظ كتاب الله أو يوصي أن يضحى عنه فقد ورد مثل ذلك في(11/205)
الأحاديث والآثار فقد روى أبو داود بإسناده عن حنش قال رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكبشين فقلت له ما هذا؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما حضر أُحدٌ - أي غزوة أحد - دعاني أبي من الليل فقال ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عليًّ ديناً فاقض واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر في قبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه) رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها أوصت عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: لا تدفني معهم - أي مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - وادفني مع صواحبي بالبقيع لا أزكى به أبداً) رواه البخاري.
وتنفيذ الوصية واجب عند أهل العلم ما دامت ضمن دائرة الشرع ولا يجوز لأحد أن يغير شيئاً من وصية الميت ما دامت ضمن الضوابط الشرعية، قال الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم} سورة البقرة الآيتان 180- 181.
وأما إذا أوصى الميت بما يخالف الشرع فيجوز حينئذ تبديل الوصية باتفاق العلماء، قال الإمام القرطبي: [ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر. - أي الحافظ ابن عبد البر -] تفسير القرطبي 2/296.(11/206)
فإذا أوصى الميت بحرمان أحد أولاده من الميراث فلا تنفذ وصيته حتى لو كان الولد عاقاً لأبيه حال حياته، فلا يجوز للأب أن يوصي بحرمان ولده العاق فهذه وصية باطلة وإن أوصى فلا تنفذ، لأن الله سبحانه وتعالى أعطى كل وارث من الورثة حقه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك إذا أوصى الميت بنقله من محل وفاته إلى بلده وكان نقله يؤدي إلى تغير الميت أو انتهاك حرمته أو تأخير دفنه، فإن وصيته لا تنفذ، لأن في تنفيذها مخالفة للشرع ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم فرددناهم) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح.
ويؤيد ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإسراع في الجنائز وتعجيل دفنها فقد ورد في الحديث: (إن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا) رواه أبو داود أي عجلوا في التجهيز والتكفين.
وكذلك إذا أوصى الإنسان أن لا يحضر جنازته أحد من الناس فوصيته لا تنفذ لمخالفتها للشرع.
ومثل ذلك إذا أوصى شخص أن يدفن في المسجد لأن إدخال القبور للمساجد لا يجوز شرعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) رواه(11/207)
البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث.
وكذلك إذا أوصى شخص أن يوضع معه مصحف في قبره ليستأنس به حسب زعمه فيحرم تنفيذ هذه الوصية لما فيها من امتهان واحتقار للمصحف الشريف ويجب صيانة المصحف عن القاذورات والنجاسات ويجب تكريمه والمحافظة عليه.
وكذلك لا تنفذ الوصية فيما لو أوصى لأحد الورثة، إلا إذا أجازها الورثة لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وكذلك لا تصح الوصية بأكثر من الثلث ولا تنفذ عند جمهور أهل العلم إلا إذا أجازها الورثة، لما ورد في حديث سعد السابق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير) وقال الترمذي بعد أن رواه [والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث وقد استحب بعض أهل العلم أن ينقص من الثلث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلث كثير] سنن الترمذي 3/306.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لو غض الناس إلى الربع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير أو كبير) رواه البخاري.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمسلم أن يوصي بالأمور المالية وغيرها ضمن الضوابط الشرعية، فإذا خالفت الوصية الأحكام الشرعية، فلا تنفذ، ووصية الميت ليست مقدسة يلزم تنفيذها عل كل حال، بل تنفذ إذا كانت ضمن ضوابط الشرع. وعليه فإن وصية الميت المذكورة في السؤال بأن لا يحضر جنازته أحد أولاده باطلة ولا تنفذ.(11/208)
حديث (سؤر المؤمن شفاء) ليس ثابتاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول السائل: سمعت واعظاً يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم (سؤر المؤمن شفاء) ، فهل هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أفيدونا.
الجواب: إن التثبت من الأحاديث قبل روايتها وذكرها للناس أمر واجب، لأن معظم الناس من العوام الذين لا يعرفون التمييز بين الصحيح والضعيف من الأحاديث، بل إن عامة الناس يتلقون هذه الأحاديث وينشرونها فيما بينهم فيسهم الوعاظ والخطباء والمدرسون وأمثالهم في نشر هذه الأحاديث المكذوبة بين الناس، ويتحملون وزر ذلك. وبناءً على ما تقدم، فإني أنصح كل من يذكر حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتثبت من ذلك الحديث، وأن يرجع إلى كتب أهل الحديث ليعرف حال ذلك الحديث قبل أن يذكره للناس. فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .
قال الحافظ ابن حبان: " فصل ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالم بصحته "، ثم روى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وإسناده حسن كما قال الشيخ شعيب الأرناؤوط، الإحسان 1/210، ثم ذكر ابن حبان بسنده عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حدث حديثاً وهو يُرى - بضم الياء ومعناه يظن - أنه كذب فهو أحد الكاذبين) وأخرجه مسلم في مقدمة صحيحه وفي رواية عند ابن ماجة وغيره (من حدث عني حديثاً.... الخ) .
وأما ما يتداوله الناس من قول منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو (سؤر المؤمن شفاء) فليس بحديث، قال العلامة القاري: [ليس له أصل مرفوع] المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 106، وقال الحافظ العراقي: هكذا اشتهر على الألسنة ولا أصل(11/209)
له بهذا اللفظ. ونقل العجلوني عن نجم الدين الغزي أنه ليس بحديث، كشف الخفاء ص 458.
وقال العلامة الألباني عن الحديث السابق: [لا أصل له] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/ 105. وانظر أيضاً المقاصد الحسنة للسخاوي ص 231.
ومثل ذلك حديث (ريق المؤمن شفاء) فهو حديث لا أصل له كما نص على ذلك كثير من المحدثين انظر كشف الخفاء ص 436، المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 106 وغيرهما.
ومثل ذلك حديث (من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه، ومن شرب من سؤر أخيه رفعت له سبعون درجة، ومحيت عنه سبعون خطيئة وكتبت له سبعون حسنة) فهو حديث موضوع أورده ابن الجوزي في الموضوعات كما قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/ 106.
ومما يجدر ذكره أن المراد بالسؤر لغة بقية الشيء، ويجمع على أسآر والسؤر في الاصطلاح هو: فضلة الشرب وبقية الماء التي يبقيها الشارب إنسانا كان أو حيواناً أو طائراً في الإناء أو في الحوض، ثم استعير لبقية الطعام أو غيره. قال النووي: ومراد الفقهاء بقولهم: سؤر الحيوان طاهر أو نجس: لعابه ورطوبة فمه. الموسوعة الفقهية الكويتية 24/100.
وسؤر الانسان طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند ذكره لأقسام الآسار [القسم الثاني طاهر في نفسه وسؤره وعرقه، وهو ثلاثة أضرب: الأول الآدمي فهو طاهر، وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أم كافراً عند عامة أهل العلم] المغني 1/37.
وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور ليس بثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تجوز نسبته إليه.(11/210)
(تعلموا السحر ولا تعملوا به) حديث باطل
يقول السائل: ما صحة حديث (تعلموا السحر ولا تعملوا به) أفيدونا؟
الجواب: هذا الحديث باطل وليس له أصل في السنة بل هو مكذوب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث بالإضافة إلى أنه مردود روايةً فهو مردود درايةً وفقهاً لأن تعليم السحر وتعلمه من المحرمات عند جماهير أهل العلم، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 24/264.
قال الإمام النووي [فصل قد ذكرنا أقسام العلم الشرعي: ومن العلوم الخارجة عنه ما هو محرم أو مكروه ومباح: فالمحرم كتعلم السحر فإنه حرام على المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور ... وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم الطبائعيين وكل ما كان سبباً لإثارة الشكوك] المجموع 1/27.
ومما يدل على تحريم تعلم السحر وتعليمه قول الله تعالى {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} سورة البقرة الآية 102.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني [وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلاً، قال النووي: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عدَّه النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفراً، ومنه لا يكون كفراً بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام ... ] فتح الباري 10/276.(11/211)
وقد أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية عن سؤال حول حكم تعلم السحر فأجابت [بأنه يحرم تعلم السحر سواء تعلمه للعمل به أو ليتقيه، وقد نص الله سبحانه في كتابه الكريم على أن تعلمه كفر فقال تعالى: {يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} سورة البقرة الآية 102، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن السحر أحد الكبائر وأمر باجتنابه فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات) فذكر منها السحر وفي السنن عند النسائي: (من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك) وأما ما ذكرت من قول: (تعلموا السحر ولا تعملوا به) فليس بحديث لا صحيح ولا ضعيف فيما نعلم] فتاوى اللجنة الدائمة فتوى رقم 6289.
وسئل الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله عن صحة حديث (تعلموا السحر ولا تعملوا به) فأجاب: [هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يجوز تعلم السحر ولا العمل به وذلك منكر بل كفر وضلال، وقد بين الله إنكاره للسحر في كتابه الكريم في قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) البقرة / 102، 103. فأوضح سبحانه في هذه الآيات أن السحر كفر وأنه من تعليم الشياطين، وقد ذمهم الله على ذلك وهم أعداؤنا، ثم بين أن تعليم السحر كفر، وأنه يضر ولا ينفع، فالواجب الحذر منه. لأن تعلم السحر كله كفر، ولهذا أخبر عن الملكين أنهما لا يعلمان الناس حتى يقولا للمتعلم إنما نحن فتنة فلا تكفر] مجموع فتاوى ومقالات(11/212)
متنوعة للشيخ ابن باز 6/371.
وخلاصة الأمر أن حديث (تعلموا السحر ولا تعملوا به) حديث باطل ويحرم تعلم السحر وتعليمه.
معنى الحديث (إن من البر بعد البر أن تصلي لهما - الوالدان - مع صلاتك)
يقول السائل: سمعت في إحدى المواعظ حديثاً في بر الوالدين بعد موتهما وفيه أن يصلي لهما مع صلاته فأرجو توضيح ذلك؟
الجواب: الحديث المشار إليه في السؤال هو ما رواه الدارقطني أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي أبوين وكنت أبرهما حال حياتهما. فكيف بالبر بعد موتهما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك وأن تصدق لهما مع صدقتك) .
وورد في معناه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما قال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان، ووقع خلاف بين أهل الحديث في حكم هذا الحديث فقد رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الحافظ العراقي: أخرجه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن، والحديث ضعفه آخرون منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى والعلامة الألباني كما في ضعيف سنن أبي داود وفي ضعيف سنن ابن ماجة. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي أسيد الساعدي قال: (بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال: نعم أربع خصال الدعاء لهما والاستغفار لهما(11/213)
وإنفاذ وعدهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما) . وقال الشيخ الألباني ضعيف انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/62.
والحديث أشار إليه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه فقال [ ... وقال محمد سمعت أبا إسحق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك قال فقال عبد الله يا أبا إسحق عمن هذا قال قلت له هذا من حديث شهاب ابن خراش فقال ثقة عمن قال قلت عن الحجاج بن دينار قال ثقة عمن قال قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أبا إسحق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف]
وقال الإمام النووي: [معنى هذه الحكاية أنه لا يقبل الحديث إلا بإسناد صحيح. وقوله: (مفاوز) جمع مفازة وهي الأرض القفر البعيدة عن العمارة وعن الماء التي يخاف الهلاك فيها، قيل: سميت مفازة للتفاؤل بسلامة سالكها كما سموا اللديغ سليماً، وقيل: لأن من قطعها فاز ونجا، وقيل: لأنها تهلك صاحبها يقال: فوز الرجل: إذا هلك. ثم إن هذه العبارة التي استعملها هنا استعارة حسنة وذلك لأن الحجاج بن دينار هذا من تابعي التابعين، فأقل ما يمكن أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم اثنان التابعي والصحابي فلهذا قال بينهما مفاوز أي: انقطاع كثير. وأما قوله: (ليس في الصدقة اختلاف) فمعناه أن هذا الحديث لا يحتج به، ولكن من أراد بر والديه فليتصدق عنهما فإن الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلاف بين المسلمين وهذا هو الصواب] شرح النووي على صحيح مسلم 1/79-80.
إذا تقرر هذا فإن الحديث لو صح لكان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (أن تصلي لهما مع صلاتك) . وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى (الصلاة عليهما) هو الدعاء لهما وليس المراد الصلاة المعروفة، فإن من المقرر عند جماهير أهل(11/214)
العلم أنه لا يصلي أحد عن أحد وإنما يصلي كل إنسان عن نفسه والنيابة لا تدخل الصلاة. ويؤيد ذلك ما ورد في رواية ابن أبي شيبة وفيها (قال: نعم أربع خصال الدعاء لهما والاستغفار لهما) حيث ذكر الدعاء لهما بدل الصلاة عليهما.
وقد اتفق العلماء على أن الميت ينتفع بدعاء الحي قال الإمام النووي: [أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصل ثوابه إليهم] الأذكار ص 140. ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر آية 10.
ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. ويدل على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) رواه مسلم.
وروى الإمام مسلم بإسناده عن جبير بن نفير سمعه يقول سمعت عوف بن مالك يقول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار قال حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت) .
وروى الإمام الترمذي عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا) وهو حديث حسن صحيح كما قال الإمام الترمذي.(11/215)
ومن الأمور التي اتفق العلماء على أن الميت ينتفع بها ويصل ثوابها له الصدقة عنه، وكذلك فإن المتصدق ينتفع بتلك الصدقة أيضاً ويدل على ذلك أحاديث وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها: عن ابن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم، فقال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عنها) رواه البخاري وغيره. وحائط المخراف: بستان نخل وعنب كان لسعد رضي الله عنه فتصدق به عن أمه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي أفتلتت نفسها - أي ماتت فجأة - ولم توص وأظنها تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم فتصدق عنها) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه (إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه إن تصدقت عنه؟ قال: نعم) رواه مسلم وغيره
ومن الأمور التي تصل إلى الميت وينتفع بها الحج والعمرة عنه حج الفريضة والنافلة أو النذر وكذا العمرة وقد وردت الأحاديث بذلك فمنها:
عن ابن عباس قال: أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزى أن تحج عنها؟ قال: نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يجزيء عنها فلتحج عن أمها) رواه النسائي وقال الألباني صحيح الإسناد.
وعن ابن عباس أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء) رواه البخاري وغيره.
وهنالك أعمال أخرى ينتفع بها الميت على قول طائفة من أهل العلم كتلاوة القرآن وجعل ثواب التلاوة للميت(11/216)
والأضحية عن الميت. فهذه الأمور تعتبر من بر الوالدين والإحسان لهما بعد وفاتهما.
وخلاصة الأمر أن الحديث الذي أشار إليه السائل مختلف فيه وإن سلمنا بصحته فالمراد من الصلاة على الوالدين الدعاء لهما وليس المقصود الصلاة المعروفة.
معنى الحديث (ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم)
يقول السائل: إنه قرأ في كتاب عن صلاة الاستخارة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصه: (ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه، ورجل آتى سفيهاً ماله وقد قال الله عز وجل: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} ) وأن مؤلف الكتاب شرح الحديث على أن من ذكروا في الحديث لا يستجاب دعاؤهم إذا استخاروا، فهل الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وما قولكم في معنى الحديث؟
الجواب: هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: [هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه] ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الرابع حديث رقم 1805.
ومعنى الحديث أن الثلاثة المذكورين لا يستجاب دعاؤهم في الحالات التي ذكروا فيها: أما الأول فرجل كان متزوجاً من امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، فإذا دعا عليها فلا يستجاب له، لأنه كان قادراً على طلاقها بعد أن لم يصلح حالها ولم ترجع عن أخلاقها السيئة، فلما رضي بسوء أخلاقها فلا يستجاب له إذا دعا عليها بعد ذلك. وأما الثاني: فرجل كان له على رجلٍ مال فلم يشهد عليه أي أنه داين غيره مالاً بدون أن يوثق الدين وبدون الإشهاد عليه فأنكره المدين فصاحب الدين قصر في حفظ حقه فإذا دعا على المدين فلا يستجاب له. وأما الثالث فرجل آتى سفيهاً ماله مخالفاً قول الله عز وجل: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} ثم دعا على ذلك السفيه الذي بدد المال فحينئذ لا(11/217)
يستجاب دعاؤه عليه.
قال الإمام الطحاوي في شرح الحديث [ثم تأملنا معنى هذا الحديث فوجدنا الله عز وجل قد علَّم عباده أشياء يستدفعون بها أضدادها، فكان من ذلك تحذيره لهم أن لا يدفعوا إلى السفهاء أموالهم؛ رحمة لهم، وطلباً منه لبقاء نعمه عليهم، وعلَّمهم أن يشهدوا في مدايناتهم؛ ليكون ذلك حفظاً لأموال الطالبين منهم، ولأديان المطلوبين منهم، وعلَّمهم الطلاق الذي يستعملونه عند حاجتهم إليه، فكان من ترك منهم ما علَّمه الله إياه حتى وقع في ضد ما يريد مخالفاً لما أمره الله عز وجل به؛ فلم يجب دعاءه لخلافه إياه، وكان من سوى من ذكرنا في هذا الحديث ممن ليس بعاصٍ لربه مرجواً له إجابة الدعوة فيما يدعوه، وهم الذين دخلوا في قوله عز وجل: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} ، وحذرهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الاستعجال في إجابة الدعاء.] مشكل الآثار نقلاً عن شبكة الإنترنت.
وقال العلامة المناوي في شرح الحديث: [ (ثلاثة يدعون الله عز وجل فلا يستجاب لهم رجل كانت تحته امرأة سيئة الخُلق) بالضم (فلم يطلقها) فإذا دعا عليها لا يستجيب له لأنه المعذب نفسه بمعاشرتها وهو في سعة من فراقها (ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه) فأنكره فإذا دعا لا يستجاب له لأنه المفرط المقصر بعدم امتثال قوله تعالى {وأشهدوا شهيدين من رجالكم} (ورجل آتى سفيهاً) أي محجوراً عليه بسفه (ماله) أي شيئاً من ماله مع علمه بالحجر عليه فإذا دعا عليه لا يستجاب له لأنه المضيع لماله فلا عذر له (وقد قال الله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) .] فيض القدير شرح الجامع الصغير 3/441-442.
ولا يصح حمل الحديث على عموم الأحوال فيقال إن الله تعالى لا يستجيب دعاء الثلاثة المذكورين مطلقاً بل لا بد من حمل الحديث على الحالات الخاصة المذكورة فيه وهؤلاء الثلاثة لا يستجاب دعاؤهم لأنهم خالفوا ما أرشدهم الله إليه فمن المعلوم(11/218)
أن الله شرع الطلاق إذا سدت كل الطرق للإصلاح بين الزوجين فإذا كان عند الرجل زوجة سيئة الأخلاق وحاول إصلاحها ولكن بدون فائدة واستمرت على سوء أخلاقها فلم يطلقها فيكون قد قصَّر في حق نفسه ولم يستجب لقول الله تعالى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} سورة النساء الآية 130.
ومن داين غيره مالاً فلم يشهد على ذلك، فقد قصر في حفظ ماله ومن المعلوم أن الله قد شرع كتابة الدين والإشهاد عليه حفظاً للحقوق وقد نزلت في ذلك أطول آية في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ
قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآيتان 282-283.
ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على مشروعية كتابة الدين وتوثيقه والإشهاد عليه. قال الإمام ابن العربي المالكي: [قوله تعالى: (فَاكْتُبُوهُ) يريد أن يكون صكاً(11/219)
ليستذكر به عند أجله لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل والنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشُرِع الكتاب والإشهاد] أحكام القرآن 1/247.
وقال الضحاك: [إن ذهب حقه - أي الدائن - لم يؤجر وإن دعا عليه لم يُجب؛ لأنه ترك حق الله تعالى وأمره] . ومن المعلوم اليوم أن كثيراً من الخلافات المالية التي تحدث بين الناس تعود أسبابها إلى عدم الكتابة والتوثيق في العقود فيقع النزاع والخلاف ويحدث الإنكار ونحو ذلك. وبناءً على الآية الكريمة السابقة قال جمهور أهل العلم إن كتابة الدين وتوثيقه والإشهاد عليه أمر مندوب إليه وقال بعض العلماء بوجوب ذلك أخذاً بظاهر الآية وهو قول وجيه له حظ من النظر وينبغي حمل الناس عليه في هذا الزمان قطعاً لأكل حقوق الآخرين بالباطل وسداً لأبواب النزاع والخصومات ولما نرى في مجتمعنا من نزاع وشقاق وخلاف بسبب عدم توثيق الديون والعقود وكتابتها فكم من المنازعات حدثت بين المؤجر والمستأجر بسبب عدم كتابة عقد الإجارة وكم من خصومات حصلت بين الشركاء لاختلافهم في قضية ما ويعود ذلك لعدم كتابة اتفاق الشراكة وهكذا الحال في كل المعاملات التي لم توثق. لذا فإني أنصح كل متعاقدين في أي من العقود الشرعية أن يوثقا العقد بجميع شروطه وتفصيلاته الصغيرة قبل الكبيرة، قال الله تعالى: (ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) . قال ابن العربي المالكي: [هذا تأكيد من الله تعالى في الإشهاد بالدين تنبيهاً لمن كسل فقال: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه. لأن أمر الله تعالى فيه والتحضيض عليه واحد والقليل والكثير في ذلك سواء] أحكام القرآن 1/257.
وأما من يؤتي المال للسفيه المحجور عليه فيضيعه فقد خالف قول الله تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً(11/220)
معروفاً} سورة النساء الآية 5.
وقال الإمام البيضاوي: [نهى الأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة] تفسير البيضاوي نقلاً عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن الثلاثة المذكورين في الحديث لا يستجاب دعاؤهم في الحالات التي تلبسوا بها لأنهم خالفوا ما شرعه الله عز وجل بخصوص هذه الحالات، وليس معنى الحديث أنه لا يستجاب لهم مطلقاً.
تم َّ الكتاب بحمد الله تعالى(11/221)
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمة ... 5
العقيدة والتفسير ... 9
11
13
22
الصلاة ... 29
31
34
37
42
50
54(11/222)
57
61
65
69
74
78
الصيام ... 83
قضاء رمضان ... 85
حكم الأكل والشرب أثناء أذان الفجر ... 87
تعجيل صدقة الفطر ... 90
اعتكاف المرأة في العشر الأواخر من رمضان ... 94
الأضحية ... 97
شروط الأضحية توقيفية ... 99
الاختلاف في وقت عيد الأضحى ... 105
الزكاة ... 111
زكاة البضاعة الكاسدة ... 112
النذور ... 117
نذر المعصية ... 119
المعاملات ... 127
يحرم العمل في المحلات التي تقدم الخمور ... 129
برنامج توفير محرم ... 132
شحن البلفونات من كهرباء المسجد ... 136
الشهادة على العقد ... 139
بيع الطعام قبل القبض ... 143
تبرع المضارب بضمان رأس المال ... 148
يحرم شراء بيت السكن بالربا ... 152
الإقالة ... 156
الظفر بالحق ... 160
التصرف في المال الموقوف للمسجد ... 164
مسائل في التعامل بالشيكات ... 168
هل البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل؟ ... 172
سرقة الأدوية والتلاعب بها ... 175(11/223)
الأسرة والمجتمع ... 179
تلقيح صناعي محرم ... 181
نفقة علاج الزوجة واجبة على زوجها ... 185
يحرم تقبيل المرأة الأجنبية ... 188
تحريم الزوجة زوجَها على نفسها ... 192
سفر المعتدة عدة وفاة إلى الحج ... 196
الزواج العرفي ... 200
الرجوع عن الطلاق المعلق ... 205
الأخذ بالثأر والقتل على خلفية شرف العائلة ... 209
عدة الوفاة واجبة على المرأة العجوز ... 214
عم الزوج أجنبي على زوجته ... 218
حكم البراءة من الأشخاص ... 222
طاعة الزوج بعد العقد وقبل الزفاف ... 227
متفرقات ... 233
حديث السبعة الذين لا يظلهم الله بظله يوم القيامة غير ثابت ... 235
شهادة البدوي على الحضري ... 239(11/224)
الأعمال العلمية للمؤلف الأستاذ الدكتور. حسام الدين عفانة
1. الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية (رسالة الماجستير)
2. بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه)
3. الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية (كتاب)
4. أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية (كتاب)
5. يسألونك الجزء الأول (كتاب)
6. يسألونك الجزء الثاني (كتاب)
7. بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي (كتاب)
8. صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة (كتاب)
9. يسألونك الجزء الثالث (كتاب)
10. يسألونك الجزء الرابع (كتاب)
11. يسألونك الجزء الخامس (كتاب)
12. المفصل في أحكام الأضحية (كتاب)
13. شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق)
14. فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي 12 جزءاً بالاشتراك (صدر الأول منها)
15. الفتاوى الشرعية (1) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
16. الفتاوى الشرعية (2) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)(11/225)
17. الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب (بحث)
18. الزواج المبكر (بحث)
19. الإجهاض (بحث)
20. مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات (كتاب)
21. مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني (كتاب)
22. إتباع لا ابتداع (كتاب)
23. بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي (دراسة وتعليق وتحقيق)
24. يسألونك الجزء السادس (كتاب)
25. رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي (دراسة وتعليق وتحقيق)
26. الخصال المكفرة للذنوب (يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني) (كتاب)
27. أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (كتاب)
28. التنجيم (بحث بالاشتراك)
29. الحسابات الفلكية (بحث بالاشتراك)
30. يسألونك الجزء السابع (كتاب)
31. المفصل في أحكام العقيقة (كتاب)
32. يسألونك الجزء الثامن (كتاب)
33. يسألونك الجزء التاسع (كتاب)
34. فهرس المخطوطات المصورة الجزء الثاني (الفقه الشافعي) (كتاب)
35. فقه التاجر المسلم وآدابه (كتاب)
36. يسألونك الجزء العاشر (كتاب)(11/226)
37. يسألونك الجزء الحادي عشر (هذا الكتاب)
موقع الأستاذ الدكتور حسام الدين على شبكة الانترنت: www.yasaloonak.net
وعنوان البريد الإلكتروني:
fatawa@yasaloonak.net.(11/227)
يسألونك
الجزء الثاني عشر
تأليف
الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس(12/)
بسم الله الرحمن الرحيم(12/3)
يتقدم المؤلف بجزيل الشكر والتقدير
للإخوة الكرام في
المنتدى الثقافي
في صور باهر / بيت المقدس
لتفضلهم بطباعة هذا الكتاب على نفقتهم وتوزيعه مجاناً
فجزاهم الله خير الجزاء
وبارك الله جهودهم الطيبة(12/4)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
وبعد
يقول الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ... } سورة النساء الآية 127. ويقول تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} سورة النساء الآية 176. ففي هاتين الآيتين يظهر لنا أن الله عز وجل تولى شأن الإفتاء بنفسه جل جلاله، وهذا يدلنا على أهمية هذا المنصب وخطورته كما قال العلامة ابن القيم: [وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر(12/5)
فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات ... ] إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/10.
وقد تولى النبي صلى الله عليه وسلم منصب الإفتاء بنفسه، قال العلامة ابن القيم: [وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم، جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب إتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحدٍ من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلاً، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/11.
وقد ورد في ذلك أحاديث عديدة منها: ما رواه البخاري بإسناده عن عروة (أنه سأل عائشة رضي الله عنها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن، قالت واستفتى الناس رسول الله صلى(12/6)
الله عليه وسلم بعد ذلك، فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ) .
وفي صحيح البخاري أيضاً (استفتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ) .
وعن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي.) .. رواه البخاري ومسلم.
وروى النسائي بإسناده عن سليمان بن يسار أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنهم تذاكروا عدة المتوفى عنها زوجها تضع عند وفاة زوجها، فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين، وقال أبو سلمة: بل تحل حين تضع، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت وضعت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بيسير، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تتزوج.
وعن ابن عباس رضي الله عنه (أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه أن يقضيه عنها) رواه البخاري ومسلم.(12/7)
وروى النسائي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن استفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لتمشي ولتركب) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أفتي بفتيا غير ثبتٍ فإنما إثمه على من أفتاه) رواه أبو داود وابن ماجة.
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (إنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك - يعني الغسل من الجنابة - فقال: أما الرجل، فلينشر رأسه فليغسله، حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة، فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها) رواه أبو داود.
وفي رواية عند الإمام أحمد في المسند عن الزهري قال: قال سهل الأنصاري -وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة في زمانه- حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها) .
وروى مسلم عن قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حلَّ؟ فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم) .(12/8)
وروى الدارمي بإسناده عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبى ليلى يقول: (لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا) .
وروى الطبراني في الكبير بإسناده عن أبي صالح ذكوان، أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما، عن بيع الذهب بالفضة، فقال: هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يداً بيد، قال أبو صالح: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: هو حرام إلا مثلا بمثل فأخبرت أبا سعيد بما قال ابن عباس، وأخبرت ابن عباس بما قال أبو سعيد الخدري، فالتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري، فقال: ابن عباس، ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب بالفضة، تأمرهم أن يشتروه بزيادة بنقصان أو زيادة يداً بيد، فقال ابن عباس: ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، يقولان: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم) . والنصوص التي ورد فيها استعمال الفتيا أو الفتوى بمعنى السؤال عن الحكم الشرعي كثيرة جداً.
وقد ذكرت هذه النصوص، لأبين أن اصطلاح الفتوى بمعنى السؤال عن الحكم الشرعي، كان معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفي عهد التابعين لهم بإحسان، وأن منزلة الإفتاء في دين الإسلام منزلة عظيمة، وقد لخصها الإمام الشاطبي بقوله: [المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم] الموافقات 4/244. وأن كلمة الفتيا(12/9)
أو الفتوى مصطلح شرعي واستعمل في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استفتي النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل كثيرة، واستفتي كبار الصحابة رضوان الله عليهم وكذا التابعون وأتباعهم وكبار علماء الأمة، ولا يُنكر ذلك إلا جاهل أو معاند، أمثال بعض الكاتبين الذين هاجموا مصطلح الفتوى وزعموا أنه ليس مصطلحاً شرعياً، وزعم بعضهم أن اصطلاح الفتوى محدث، ولم يكن معروفاً زمن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام أو زمن الصحابة أو تابعيهم أو تابعي تابعيهم، وأن الفتوى لا يمكن اعتبارها مصطلحاً شرعياً، وأن الصحيح استعمال مصطلح الحكم الشرعي بدلاً من الفتوى، ووصفه بعضهم الفتوى بأقذع الأوصاف كما جاء في كلامهم أن [كلمة الفتوى في وقتنا هذا تعنى الجهل وعدم البحث وحب الخلود إلى الكسل وباقي موروث "علقها في رقبة عالم واطلع سالم". وكما جاء في دوسية حزبية [ ... وإنه بغض النظر عن كون الفتوى أحط أنواع الفقه، وبغض النظر عن كون مجرد وجود كلمة مفتي بما لها من واقع، هي انحطاط في المجتمع ... ] ص 128.
أقول يتناسى هؤلاء أن منصب الإفتاء قد تولاه رب العزة والجلال كما سبق، وتولاه خير البشر صلى الله عليه وسلم، وتولاه كبار الصحابة الكرام، ومن بعدهم كبار علماء الأمة، ويغض هؤلاء الطرف عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} سورة النحل الآية 43.(12/10)
إذا تقرر هذا فإن منصب الإفتاء منصب خطير، وتترتب عليه مسؤولية عظيمة أمام الله عز وجل، فعلى من ابتلي بالفتوى أن يعد للأمر عدته، وأن يدرك خطورته قال العلامة ابن القيم: [ولمَّا كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما بلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حَسنَ الطريقة، مرضيَ السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَرُ فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ فحقيقٌ بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعِدَ له عدَّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالةً، إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئولٌ غداً وموقوفٌ بين يدي الله] إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/10-11.
وختاماً فهذا هو الجزء الثاني عشر من كتابي يسألونك وأصله حلقات تنشر صباح كل يوم جمعة في جريدة القدس المقدسية، وقد سلكت فيه المنهج الذي(12/11)
سلكته في الأجزاء السابقة، من اعتمادٍ على كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى فهم سلف هذه الأمة، فإن أصبت فذلك الفضل من الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأختم بما قاله القاضي البيساني رحمه الله: [إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه، إلا قال في غده لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يستحسن، ولو قُدِمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر] .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
أبوديس/ القدس المحتلة
صباح يوم الثلاثاء السادس عشر من شعبان 1428هـ
وفق الثامن والعشرين من آب 2007 م.(12/12)
العقيدة والتفسير(12/13)
التألي على الله سبحانه وتعالى
يقول السائل: توفي شخص في بلدتنا وكان عاصياً فقال رجل: إلى جهنم وبئس المصير، فما حكم ذلك، أفيدونا؟
الجواب: إن من أعظم الآفات التي يقع فيها الإنسان آفة انفلات اللسان، فيتكلم بكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) .
وعن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
ويجب على الإنسان أن يدرك أن كل كلمة تخرج من فمه فإنه محاسب عليها، فهي إما له وإما عليه يقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ(12/15)
عَتِيدٌ} سورة ق الآية 18. وجاء في الحديث عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ووردت أحاديث كثيرة تحث على حفظ المنطق منها: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) رواه البخاري، وما بين لحييه أي اللسان وما بين رجليه أي فرجه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك كثير.
إذا تقرر هذا فأعود لما ورد في السؤال فأقول إن ما قاله الرجل في حق الميت "إلى جهنم وبئس المصير" هو من التألي على الله عز وجل، وهو من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى، لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} سورة النساء الآية 48، ففي هذه الآية الكريمة يبين الله عز وجل أنه يغفر ما دون الشرك بمشيئته وإرادته، وقد ذكر الحافظ ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية طائفة من الأحاديث التي توضح أن من مات لا يشرك بالله شيئاً فإنه داخل تحت المشيئة منها: عن أبي الأسود الديلي أن(12/16)
أبا ذر حدثه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، قال: فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر) والحديث في الصحيحين.
ومنها عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب، قيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الإشراك بالله، - قال - ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئاً إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى، إن يشاء أن يعذبها وإن يشاء أن يغفر لها) ثم قرأ نبي الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده. تفسير ابن كثير 2/295-297.
وقال الله تعالى: {يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} سورة العنكبوت الآية 21، قال الحافظ ابن كثير: [وقوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فله الخلق والأمر مهما فعل فعدل، لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن (إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) ولهذا قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي(12/17)
ترجعون يوم القيامة] تفسير ابن كثير 5/49. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المائدةالآية40. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} آل عمران الآية 129. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الفتح الآية14. فمن مات لا يشرك بالله شيئاً فهو داخل تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، ولا يجوز لأحد أن يتألى على الله فيحكم بأن فلاناً من أهل النار أو أن فلاناً من أهل الجنة فقد ثبت في الحديث عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك أو كما قال) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [معنى (يتألى) يحلف، والألية اليمين. وفيه دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها] شرح النووي على صحيح مسلم 6/133.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول(12/18)
أقصر فوجده يوماً على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت عليَّ رقيباً، فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً، وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) رواه أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 4455. [وقوله (متواخيين) أي متقابلين في القصد والسعي فهذا كان قاصداً وساعياً في الخير وهذا كان قاصداً وساعياً في الشر، (أقصر) : من الإقصار وهو الكف عن الشيء مع القدرة عليه] عون المعبود شرح سنن أبي داود 13/166-167.
وروي في الحديث عن عبد الله عن بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبداً، فقال الله عز وجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فإني قد غفرت له) رواه الطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في شعب الإيمان. قال الحافظ المناوي: [قال المظهر: لا يجوز لأحد أن يجزم بالغفران أو العقاب؛ لأن أحداً لا يعلم مشيئة الله وإرادته في عباده بل يرجو للمطيع ويخاف للعاصي. وإنما يجزم في حق من جاء فيه نصٌ كالعشرة المبشرة] فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/499.(12/19)
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز لأحد أن يجزم لشخص بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار لأن ذلك من سوء الأدب مع الله عز وجل. ويجب على من قال ذلك أن يتوب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً.
- - -
حكم الدعاء بـ (اللهم إني لا أسألك رد القضاء
ولكن أسألك اللطف فيه)
يقول السائل: ما صحة الحديث التالي (اللهم إني لا أسألك ردَّ القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاَ أن الدعاء هو العبادة كما ورد في الحديث وحقيقة الدعاء مناداة الله تعالى لما يريد من جلب منفعة أو دفع مضرة من المضار والبلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك واستجلاب لرحمة المولى. ويعني هذا أن الدعاء شعور بالحاجة إلى الله تعالى وطلبها منه جل جلاله بتذلل ورغب ورهب لا غنى لأي فرد عنه في أي حال من أحواله، شدة ورخاء، صحة وعافية ومرضاً، ولذا جاءت النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبينة فضله وحاثة عليه ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة غافر الآية 60. وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا(12/20)
وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} سورة الأعراف الآيتان 55-56. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} سورة البقرة الآية 186. وقال جل جلاله في وصف عباده المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة السجدة الآيتان 16-17. وجاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وقال العلامة الألباني: حسن كما في صحيح سنن الترمذي 3/138.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف(12/21)
عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/181.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء) رواه ابن حبان وأبو يعلى وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع 1519.
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي والحاكم وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع 6290. وغير ذلك من الأحاديث.
والدعاء له أحكام وآداب فصَّلها أهل العلم في مؤلفاتهم مثل كتاب الترغيب في الدعاء والحث عليه، للحافظ عبد الغني المقدسي.
إذا تقرر هذا فأعود إلى جواب السؤال فأقول ما ذكره السائل ليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا أصل له في كتب السنة النبوية، وإنما هو قول درج على ألسنة بعض الناس، ويعتبر الدعاء به من الأخطاء التي تقع في الدعاء. بل ورد في السنة النبوية ما يدل على خلاف ذلك فقد ثبت في الحديث الصحيح عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث حسن كما قال العلامة(12/22)
الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/22. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة) رواه الحاكم وصححه، وحسنه العلامة الألباني.
وقد أجاب العلماء عن الإشكال بأن الدعاء يرد القضاء بأجوبة منها ما قاله الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز: [ومراده صلى الله عليه وسلم أن القدر المعلق بالدعاء يرده الدعاء وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أجله فليصل رحمه) فالأقدار تردها الأقدار التي جعلها الله سبحانه مانعة لها، والأقدار المعلقة على وجود أشياء كالبر والصلة والصدقة توجد عند وجودها، وكل ذلك داخل في القدر العام المذكور في قوله سبحانه {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم (وتؤمن بالقدر خيره وشره) ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ] موقع الشيخ على الإنترنت.
وقال العلامة محمد العثيمين: [وفي هذا المقام يُنكَرُ على من يقولون: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) فهذا دعاء بدعي باطل، فإذا قال: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) معناه أنه مستغن، أي افعل ما شئت ولكن خفف، وهذا غلط، فالإنسان يسأل الله عزّ وجل رفع البلاء نهائياً فيقول مثلاً: اللهم عافني، اللهم ارزقني، وما أشبه ذلك. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهَمَّ اغْفِرْ لِي(12/23)
إِنْ شِئْتَ. فقولك: (لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللّطف فيه) أشد. واعلم أن الدعاء قد يرد القضاء، كما جاء في الحديث (لاً يَرُدُّ القَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ) . وكم من إنسانٍ افتقر غاية الافتقار حتى كاد يهلك، فإذا دعا أجاب الله دعاءه، وكم من إنسان مرض حتى أيس من الحياة، فيدعو فيستجيب الله دعاءه. قال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فذكر حاله يريدُ أنّ اللهَ يكشفُ عنهُ الضُّرَّ، قال الله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} ] شرح الأربعين النووية ص 66.
[واعلم أن القدر الذي هو القضاء المبرم الذي علم الله أنه سيقع لا يغيره شيء لا دعاء ولا غيره، ولكن هنالك ما يسميه العلماء بالقضاء المعلق، وهو ما علق وقوعه على شيء، مثل الزيادة في العمر إذا وصل الإنسان رحمه، كأن يقدر له إن وصل رحمه أربعين سنة، وإن لم يصل رحمه ثلاثين سنة، وهذا بالنسبة إلى غير الله معلق. أما بالنسبة إلى الله تعالى فهو مبرم، أي لا يغيَّر فيه شيء. أما بالنسبة للملك الموكل بقبض الأرواح، أو كتابة الآجال، أو الأرزاق، فيمكن تغييره، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وعليه يمكن تغيير القدر بأمور وردت بها النصوص كصلة الرحم وبر الوالدين وأعمال البر والدعاء، والدعاء أقوى الأسباب في رد القدر، كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها) وفي لفظ: (بالذنب يصيبه) قال السندي(12/24)
في شرحه على سنن ابن ماجة: [قال الغزالي: فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء] موقع الشبكة الإسلامية.
وخلاصة الأمر أن عبارة (اللهم إني لا أسألك ردَّ القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) ليست حديثاً نبوياً ولا يجوز ذكرها في الدعاء فهي من سوء الأدب مع الله عز وجل.
- - -
الكهان الجدد
يقول السائل: ما قولكم فيما انتشر أخيراً عبر بعض القنوات الفضائية التي تبث برامج مباشرة مع بعض المشعوذين والكهان الذين يزعمون أنهم يحلون مشكلات الناس من خلال الطلاسم والاستعانة بالجن، أفيدونا؟
الجواب: ما يعرض على بعض المحطات الفضائية من التنجيم والشعوذة والسحر والكهانة وغير ذلك من المسلسلات الإباحية ومشاهد الدعارة والعهر الفني كل ذلك يصب في محاربة الإسلام الصحيح وتشويه صورة المسلمين كما أن من أهدافه إشغال الناس عن قضايا الأمة الهامة ومحاربة النسيج الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، وغير ذلك من الأهداف الخبيثة.(12/25)
ومن المعلوم أن التنجيم والشعوذة والسحر والكهانة معروفة منذ عهد بعيد وكان العرب يتعاطونها ووردت فيها النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 102. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 3/172.(12/26)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [العرَّاف اسم للكاهن والمنجم والرَّمَّال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق) مجموع الفتاوى 35/173. ويؤخذ من النصوص السابقة أن مجرد إتيان الكاهن وسؤاله عن شيء يعاقب المسلم عليه بأن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً وأما إذا صدقه فيما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} سورة الأنعام الآية 59.وقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} سورة النمل الآية 65. وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} سورة الجن الآيات 26-27.
قال الإمام القرطبي: [قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه] تفسير القرطبي 19/28.(12/27)
وبناءً على ما تقدم قرر أهل العلم حرمة الذهاب إلى هؤلاء الكهان والسحرة والمشعوذين كما ثبت في حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه (قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم) رواه مسلم.
إن ما يقوم به المنجمون والكهان والمشعوذون الجدد عبر بعض المحطات الفضائية إنما هو تخريب لعقيدة التوحيد ودعوة صريحة للشرك وإفساد لعقيدة المسلمين، فقد سمعت أحد هؤلاء الكهان يقول لإحدى المتصلات: لا تقرئي القرآن ولا تأخذي ولدك إلى الكعبة، وفي اتصال آخر يطلب كتابة آيات القرآن معكوسة وهذا تلاعب بكتاب الله عز وجل واستهزاء به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} سورة التوبة الآيتان 65- 66. ويزعم هؤلاء الدجاجلة أن هنالك خداماً لسور القرآن الكريم!! وهذا كذب وافتراء على كتاب الله عز وجل. كما أن في هذه البرامج تعليم السحر للناس على الهواء مباشرة ففي واحد من هذه البرامج يقوم الساحر بتعليم المتصلين والمتصلات طريقة السحر فيعرض حجاباً مكتوباً على صحيفة كبيرة على الشاشة ويقول للمتصل (اكتب اسمك في هذا المربع بين الطلاسم واسم أمك في المربع الآخر ولن يضرك شيء بعده) ويقول هذا الساحر لإحدى المتصلات (رزقك عندي.. حياتك عندي.. علاقتك مع زوجك عندي.. لا مو هذا بس.. كل شيء عنك عندي) ولا شك أن هذا من الدجل بلا خجل، ولا(12/28)
يغيب عنا قوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف الآية 188.
ويضاف إلى ذلك أن للموضوع خطورة كبيرة على الأسرة والمجتمع حيث إن معظم المتصلين على هذه البرامج من النساء ويسألن عن قضايا تتعلق بحياتهن الزوجية وهؤلاء الأفاكين يوجهون النساء إلى الطلاق كأسهل حل لمشكلاتهن مع أزواجهن وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه} . وحل المشكلات الزوجية لا يكون باللجوء إلى هؤلاء الكهان وإنما البحث عن حقيقة المشكلة وحلها بتعقل وباستشارة أهل العلم والخيرين من الناس.
وخلاصة الأمر أنه يحرم تصديق هؤلاء الدجاجلة ويحرم الاتصال بهذه المحطات لسؤالهم وأن هذا يدخل في التعاون على الإثم والعدوان كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
- - -(12/29)
الشيعة ليست مذهباً فقهياً خامساً
يقول السائل: هل يمكن اعتبار الشيعة مذهباً فقهياً خامساً يضاف إلى المذاهب السنية الأربعة، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن المذاهب السنية الأربعة وهي: المذهب الحنفي المنسوب لأبي حنيفة النعمان المتوفى سنة 150 هـ، والمذهب المالكي المنسوب لمالك بن أنس المتوفى سنة 176 هـ، والمذهب الشافعي المنسوب لمحمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ، والمذهب الحنبلي المنسوب لأحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ، تقوم على أصول عقدية واحدة بشكل عام وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، والخلاف بينها إنما هو في الفروع الفقهية بناءً على خلاف في قواعد أصولية، والمذاهب الأربعة متفقة على مصادر التشريع الأصلية وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس، ووقع خلاف في مصادر التشريع التبعية كالمصلحة المرسلة والاستحسان وعمل أهل المدينة والعرف والعادة وغيرها.
إذا تقرر هذا فإن كثيراً من الناس في بلادنا لا يعرفون عن الشيعة إلا شيئاً يسيراً، بل إنهم يظنون أن الشيعة ما هي إلا مذهب فقهي كالمذاهب الأربعة، وأنه لا يوجد خلاف كبير بين الشيعة وبين أهل السنة والجماعة إلا في الفروع الفقهية. ولا شك أن هذا ظن خاطىء سببه عدم الإطلاع على عقائد الشيعة بشكل صحيح من مصادرهم المعتمدة، أو حسن ظن بهم وهو(12/30)
في غير محله. ومما لاشك فيه أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف في العقائد والأصول وليس خلافاً في الفروع فعند الشيعة الكثير من العقائد الباطلة ويعرف ذلك من يقرأ في مصادرهم المعتمدة. وإن حاول بعض مراجعهم الدينية المعاصرون إخفاء ذلك أو عدم الحديث عنه وهم يفعلون ذلك انطلاقاً من مبدأ التقية -وهي عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر بغير ما يبطنون ويقولون: (من لا تقية له لا دين له) -.
والشيعة هم في الحقيقة فرق عديدة ولكنها تلتقي على أصول عقدية مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وقد ترتب على ذلك مخالفتهم للمذاهب السنية الأربعة في قواعد أصول الفقه التي يبنى عليها الفقه لأنه لا يمكن الفصل بين العقيدة وبين قواعد الأصول التي يقوم عليها الاجتهاد الفقهي، ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن الشيعة لا يؤمنون بأن القرآن محفوظ بل يقولون طرأ عليه تغيير وتحريف من الصحابة فقد جاء في كتاب الكافي للكليني 1/228: [عن أبي جعفر يقول: ما ادعى أحدٌ من الناس أنه جمع القرآن كله كما أُنزل إلا كذَّاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده] . وعنه قال: [ما يستطيع أحدٌ أن يدعي أن عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء] .
وفي الكافي كذلك 1/412: [عن جابر، عن أبي جعفر قال: قلت له: لمَ سُمي أمير المؤمنين - أي علي بن أبي طالب -؟ قال: الله سماه هكذا؛ أنزل في(12/31)
كتابه:"وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وأن محمداً رسولي وأن علياً أمير المؤمنين"]
وفي الكافي أيضاً 1/417: [عن أبي جعفر قال: نزل جبرائيل بهذه الآية على محمد هكذا:"بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في علي بغياً"] . وفي الكافي أيضاً 1/417: [عن جابر، قال: نزل جبرائيل بهذه الآية على محمدٍ هكذا:"وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا في عليٍّ فأتوا بسورة من مثله"] . وفي الكافي أيضاً 1/417: [عن أبي عبد الله قال: نزل جبرائيل على محمد بهذه الآية هكذا:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا في عليٍّ نوراً مبيناً"] .
وفي الكافي أيضاً 1/239: [عن أبي عبد الله قال: [وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرفٌ واحد] .
وكذلك فإن الشيعة لا يقبلون السنة النبوية كمصدر تشريعي إلا من جهة نقلتهم ورواتهم فالشيعة لا يقبلون من السنة النبوية إلا ما كان من رواية أهل البيت بمفهومهم فهم يستبعدون أمهات المؤمنين من آل البيت فلا يقبلون رواية أكثر الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعتدون بكتب السنة كالبخاري ومسلم والسنن الأربعة وغيرها بل عندهم كتبهم المعتمدة وأهمها كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني الرازي والذي يعد عند الشيعة(12/32)
بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة، قال أحد مراجعهم محمد صادق الصدر في كتابه الشيعة ص5 [إن الشيعة مجمعة على اعتبار الكتب الأربعة: أصول الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه، وقائلة بصحة كل ما فيها من روايات] وقال أيضاً ص133: [ويعتبر (الكافي) عند الشيعة أوثق الكتب الأربعة] .
فالشيعة لا يقبلون مصادر أهل السنة العلمية بل يردونها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومع هذا يردون - أي الشيعة - أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخاري ومسلم، ويرون أن شعر شعراء الرافضة: مثل الحميري، وكوشيار الديلمي، وعمارة اليمني خيراً من أحاديث البخاري ومسلم، وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/481-482.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [والرافضة كفّرت أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعامة المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين. فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين، والأنصار العدالة، أو ترضَّى عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم، ولهذا يكفرون أعلام الملة: مثل سعيد بن المسيب،(12/33)
وأبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، وعطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، ومثل مالك والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وفضيل بن عياض، وأبي سليمان الدارني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وغير هؤلاء، ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/477.
وكذلك فإن الشيعة يضفون نوعاً من القدسية على كلام أئمتهم ويعتبرونه مصدراً تشريعياً وهم لا يقبلون من الإجماع إلا إجماع أهل البيت حسب مفهومهم بل إنهم قد غالوا في ذلك فزعموا أن أئمتهم يعلمون الغيب ورد في الكافي 4/261: [قال جعفر الصادق: إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون] وغير ذلك من الترهات والخزعبلات.
وخلاصة الأمر أنه لا يصح اعتبار الشيعة مذهباً فقهياً خامساً بل مذهبهم مخالف لأهل السنة والجماعة في العقائد ومخالف للمذاهب الأربعة في أصولها الفقهية.
- - -(12/34)
مكانة المسجد الأقصى المبارك عند الشيعة
يقول السائل: ما هي مكانة المسجد الأقصى المبارك عند الشيعة، أفيدونا؟
الجواب: أذكر أولاً مكانة المسجد الأقصى المبارك عند أهل السنة والجماعة فمن ذلك قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} سورة الإسراء الآية 1.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالاً ثلاثةً سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه وسأل الله عز وجل ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح.
وعن إبراهيم التيمي عن أبيه قال سمعت أبا ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام قال قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما قال أربعون سنة ثم أينما(12/35)
أدركتك الصلاة بعد فصله فإن الفضل فيه) رواه البخاري ومسلم، وقد وردت بعض الأحاديث في مضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى فمن ذلك: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/7، ورواه البزار وقال إسناده حسن الترغيب والترهيب 2/175.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو، وليوشكن لأن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً) رواه الحاكم والطبراني والطحاوي وغيرهم. وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 4/7، وصححه العلامة الألباني بل قال عنه إنه أصح ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الأقصى، السلسلة الصحيحة حديث رقم 2902، تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 294.
إذا تقرر هذا فإن الشيعة لهم رأي آخر في مكانة المسجد الأقصى المبارك كما يؤخذ من مراجعهم فمن ذلك ما يلي: زعم الشيعة أن المسجد الأقصى المذكور(12/36)
في أول سورة الإسراء إنما هو البيت المعمور الذي في السماء وليس المسجد الأقصى المعروف في بيت المقدس فقد ورد في تفسير الصافي للكاشاني 1/669–670 في تفسير قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى} يعني إلى ملكوت المسجد الأقصى. قال: [ذاك في السماء، إليه أسري رسول الله صلى الله عليه وآله] .
وجاء في تفسير القمي عن الباقر عليه السلام: [أنه كان جالساً في المسجد الحرام فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى} وكرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إلى إسماعيل الجعفي فقال: أي شئ يقول أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قال: يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، فقال ليس كما يقولون ولكنه أسري به من هذه إلى هذه وأشار بيده إلى السماء وقال ما بينهما حرم. وقال العياشي عن أبي عبد الله قال: سألت عن المساجد التي لها الفضل فقال: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، قلت: والمسجد الأقصى جعلت فداك؟ قال: ذاك في السماء، إليه أسرى برسول الله عليه وسلم، فقلت: إن الناس يقولون إنه بيت المقدس فقال: مسجد الكوفة أفضل منه] تفسير الصافي 3/ 166.
وجاء في كتاب منتهى الآمال لعباس القمي ص70: [ ... والمشهور على أن المسجد الأقصى هو بيت المقدس ولكن يظهر من الأحاديث الكثيرة أن المراد منه هو البيت المعمور الذي يقع في السماء الرابعة وهو أبعد المساجد] .(12/37)
وروي الكليني في كتابه الكافي والطوسي في كتاب التهذيب، وابن قولوبه في كتاب كامل الزيارات، بالإسناد عن أبي عبد الله الصادق قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين – أي علي رضي الله عنه - وهو في مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فردَّ عليه، فقال: جعلت فداك إني أردت المسجد الأقصى، فأردت أن أسلم عليك، وأودعك، قال عليه السلام: وأي شيء أردت بذلك؟، فقال الفضل، جعلت فداك، قال عليه السلام: فبع راحلتك، وكل زادك، وصل في هذا المسجد - أي مسجد الكوفة -، فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة، والنافلة عمرة مبرورة، والبركة منه على اثني عشر ميلاً، يمينه يمن، ويساره مكرمة، وفي وسطه عين من دهن، وعين من لبن، وعين من ماء، شراب للمؤمنين، وعين من ماء، طاهر للمؤمنين. منه سارت سفينة نوح، وصلى فيه سبعون نبياً، وسبعون وصياً، أنا أحدهم، وقال بيده في صدره، ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج إلا أجابه الله تعالى، وفرج عنه كربته. الكافي للكليني 3/ 491 – 492، وسائل الشيعة 3/529.
وقد حرَّف الشيعة حديث شد الرحال المشهور في الصحيحين: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى) وجاءوا برواية مكذوبة على علي رضي الله عنه ونصها (عن محمد بن علي بن الحسين قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول عليه السلام، ومسجد الكوفة) وسائل الشيعة 5/257. ومن المعلوم أن الشيعة(12/38)
يقدسون أماكن لم تثبت لها أي قداسة لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ومن ذلك تقديسهم لكربلاء وخاصة قبر الحسين فعن أبي عبد الله قال: (إذا أردت الحج ولم يتهيأ لك، فائت قبر الحسين فإنها تكتب لك حجة، وإذا أردت العمرة ولم يتهيأ لك فائت قبر الحسين فإنها تكتب لك عمرة) وسائل الشيعة 10/332. بل تدرج بهم الغلو إلى الاعتقاد بأفضلية زيارة قبر الحسين في كربلاء على الحج فعن أبي عبد الله قال: (من زار قبر "الحسين" يوم عرفة كتب الله له ألف ألف حجة مع القائم عليه السلام وألف ألف: عمرة مع رسول الله، وعتق ألف نسمة وحملان ألف فرس في سبيل الله، وسماه الله عز وجل عبدي الصديق آمن بموعدي وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوق عرشه، وسمي في الأرض كروبياً) وسائل الشيعة 10/360. ومما يقدسه الشيعة مسجد الكوفة، فقد روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام عن هارون بن خارجة قال له: كم بينك وبين مسجد الكوفة، يكون ميلاًَ؟، قلت: لا، قال: أفتصلي فيه الصلاة كلها؟ قلت: لا، قال: أما لو كنت حاضراً بحضرته لرجوت أن لا تفوتني فيه صلاة أو تدري ما فضل ذلك الموقع، ما من نبي ولا عبد صالح إلا وقد صلى في مسجد الكوفة حتى إن الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لما أسري به إلى السماء قال جبرائيل أتدري أين أنت يا محمد؟ أنت الساعة مقابل مسجد كوفان قال فاستأذن ربي حتى آتيه فأصلي فيه ركعتين فنزل فصلى فيه وإن ميمنته روضة من رياض الجنة وإن وسطه روضة من رياض الجنة وإن مؤخره عروسة من رياض الجنة والصلاة فيه فريضة تعدل بألف صلاة والنافلة فيه(12/39)
بخمسمائة صلاة وإن الجلوس فيه بغير تلاوة ولا ذكر لعبادة، ولو علم الناس ما فيه لأتوه ولو حبواً) . وورد عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام: أي البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسوله؟ قال عليه السلام: الكوفة! يا أبا بكر! هي الزكية الطاهرة، فيها قبور النبيين والمرسلين، وغير المرسلين، والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد سهيل! الذي لم يبعث نبياً إلا وقد صلى فيه، وفيها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمه، والقوام من بعده، وهي منازل النبيين، والأوصياء الصالحين. وسائل الشيعة 3/547. وغير ذلك من الترهات والأكاذيب. وقد زعم الشيعة أن كل ما جاء في السنة النبوية من فضائل المسجد الأقصى إنما هو من صنع الأمويين.
وخلاصة الأمر أن الشيعة لا ينظرون إلى المسجد الأقصى المبارك كما ينظر أهل السنة، فالمسجد الأقصى عند الشيعة إنما هو في السماء، ومن يقر منهم بأنه المعروف في بيت المقدس فمسجد الكوفة أفضل منه، ولا شك أن هذا محض افتراء على دين الله فلم تثبت أي فضيلة لمسجد الكوفة لا في الكتاب ولا في السنة.
- - -(12/40)
تبرج الجاهلية الأولى
يقول السائل: ما المقصود بالجاهلية الأولى في قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، أفيدونا؟
الجواب: قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ورد ضمن خطاب الله عز وجل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} سورة الأحزاب الآيات 32-34.
والتبرج عند العلماء هو أن تظهر المرأة زينتها ومحاسنها مما يجب عليها ستره وذلك قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق والتبرج التكشف والظهور للعيون] تفسير القرطبي 12/309.(12/41)
والتبرج من كبائر الذنوب باتفاق العلماء وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر والأدلة الشرعية تدل عليه، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/96- 97. وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتبرجة بأنها لا تدخل الجنة ولا تشم رائحتها وهذا يدل على أن التبرج من الكبائر كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [ ... هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان، وهما موجودان. وفيه ذم هذين الصنفين قيل: معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها، وقيل: معناه تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه إظهاراً بحالها ونحوه، وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. وأما (مائلات) فقيل: معناه عن طاعة الله، وما يلزمهن حفظه. (مميلات) أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم، وقيل: مائلات يمشين متبخترات، مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات يمشطن المشطة المائلة، وهي مشطة البغايا. مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة. ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت) أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوهما] شرح النووي على صحيح مسلم 5/291.(12/42)
وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات) رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/462.
وأما الجاهلية فقد ورد هذا اللفظ في الكتاب والسنة في عدة مواضع ومما يراد به الفترة التي سبقت الإسلام وما كان الناس عليه من أخلاق سيئة حينذاك كما في قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} سورة آل عمران الآية 154. وكما في قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} سورة المائدة الآية 50، وورد في السنة النبوية إشارات إلى أخلاق الجاهلية كما جاء في الحديث عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها جاءت إلى رسول صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال: أبايعك على ألا تشركي بالله شيئاً ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى) . رواه الإمام أحمد وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر.
وقال بعض المفسرين إن الجاهلية الأولى يقابلها جاهلية ثانية والأولى كانت قبل الإسلام والثانية تكون بعده وهذا وجه حسن في تفسير الآية فلا شك أن من أهل الإسلام من يتخلق بأخلاق الجاهلية كما ورد في الحديث عن المعرور(12/43)
بن سويد قال: (مررنا بأبى ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة. فقال: إنه كان بينى وبين رجل من إخوانى كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه فشكانى إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية. قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية؛ هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) رواه مسلم.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث
وروى الطحاوي في مشكل الآثار عن ابن عباس قال: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى قال: كنا نقول: تكون جاهلية أخرى) .(12/44)
وذكر ابن العربي عند تفسير قوله تعالى: {الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} روي أن عمر رضي الله عنه سأل ابن عباس رضي الله عنه، فقال: أفرأيت قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ؟ لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، هل كانت جاهلية غير واحدة، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين؛ هل سمعت بأولى إلا لها آخرة، قال: فأتنا بما يصدق ذلك في كتب الله تعالى. فقال ابن عباس: إن الله تعالى يقول: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فقال عمر: فمن أمر بأن نجاهد؟ قال: مخزوم وعبد شمس] أحكام القرآن لابن العربي 3/1537.
وقال الشوكاني: [ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجاً مثل تبرج الجاهلية التي كنتن عليها وكان عليها من قبلكن: أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل] تفسير فتح القدير4/ 278.
وذكر الألوسي في تفسيره قول الزمخشري: [يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر] تفسير الألوسي 11/189.
وذكر أهل التفسير أن تبرج النساء في الجاهلية الأولى كان بمشيهن بتكسر وتغنج وتبختر أو تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فلا يواري قلائدها(12/45)
وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وتبرج الجاهلية الأولى لا يقاس مع العري الفاضح المنتشر في زماننا هذا، فيبدو أن ما كان يعد تبرجاً في الجاهلية الأولى يعتبر اليوم تستراً وحشمة في زماننا هذا!!!
وخلاصة الأمر أن النهي عن التبرج تبرج الجاهلية الأولى يكون بمنع المرأة من إظهار محاسنها وزينتها ويجب عليها ستر ما أمر الله تعالى بستره.
- - -(12/46)
الحديث الشريف وعلومه(12/47)
حديث الصلاة خلف كل بر وفاجر
يقول السائل: ما صحة الحديث الوارد في الصلاة خلف كل بر وفاجر، أفيدونا؟
الجواب: روي في الحديث عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) . رواه أبو داود، ورواه الدارقطني بمعناه، ورواه البيهقي وغيره بلفظ (صلوا خلف كل برٍ وفاجر وصلوا على كل برٍ وفاجر وجاهدوا مع كل برٍ وفاجر) .
وخلاصة كلام المحدثين أن هذا الحديث حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، قال الدارقطني: ليس في هذه الأحاديث شيء يثبت، وقد فصَّل الإمام الزيلعي الكلام على هذا الحديث في نصب الراية 2/26-29.
وقال العلامة الألباني [وأما حديث "صلوا خلف كل بر وفاجر وصلوا على كل بر وفاجر ... " فهو ضعيف الإسناد كما أشرت إليه في "الشرح" وبينته في "ضعيف أبي داود" (97) و"الإرواء" (520) ولا دليل على عدم صحة الصلاة وراء الفاسق وحديث "اجعلوا أئمتكم خياركم" إسناده ضعيف جداً كما حققته في "الضعيفة" (1822) ولو صح فلا دليل فيه إلا على وجوب جعل الأئمة من الأخيار وهذا شيء، وبطلان الصلاة وراء الفاسق شيء آخر لا سيما إذا كان مفروضاً من الحاكم. نعم لو صح حديث "ولا يؤم فاجر مؤمناً" لكان(12/49)
ظاهر الدلالة على بطلان إمامته ولكنه لا يصح أيضاً من قبل إسناده كما بينته في أول "الجمعة" من "الإرواء" رقم 591] . من تعليق الألباني على العقيدة الطحاوية، شبكة الإنترنت.
ومع أن هذا الحديث ضعيف وكذا ما جاء في معناه إلا أن الراجح من أقوال أهل العلم أن الصلاة تصح خلف الفاسق وتصح صلاة الجنازة عليه، وعلى هذا جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية في المعتمد عندهم وهو رواية في مذهب الحنابلة وهو قول أهل الظاهر، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي -صاحب العقيدة الطحاوية وهي العقيدة المرضية عند أهل السنة والجماعة-: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم] .
وقال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي: [قال صلى الله عليه وسلم (صلوا خلف كل بر وفاجر) رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه وقد احتج به مسلم في صحيحه وخرج له الدارقطني أيضاً وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل بالكبائر والجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) ، وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، وفي صحيحه أيضاً أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (يصلون لكم(12/50)
فإن أصابوا فلكم ولهم وأن أخطأوا فلكم وعليهم) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: قال: (صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله) أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.
اعلم رحمك الله وإيانا أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول ماذا تعتقد بل يصلي خلف المستور الحال ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف. ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء. والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً، ثم قال: أزيدكم، فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص فسأل سائل عثمان: إنك إمام عامة، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة، فقال: يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا(12/51)
فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم. والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة، خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب. ومن ذلك أن من أظهر بدعةً وفجوراً لا يترتب إماماً للمسلمين، فإنه يستحق التعزير حتى يتوب فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية، ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية فهنا لا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلفه أفضل، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة، وجب عليه ذلك لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسن الإمكان فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً. فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر(12/52)
وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد العلماء منهم من قال يعيد ومنهم من قال لا يعيد وموضع بسط ذلك في كتب الفروع] شرح العقيدة الطحاوية ص 423.
وقال أبو بكر الإسماعيلي: [ويرون –أي أهل السنة والجماعة- الصلاةَ الجمعة وغيرها خلف كل إمام مسلم، براً كان، أو فاجراً، فإن الله عزَّ وجلَّ فرضَ الجمعة، وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً مع علمه تعالى بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثن وقتاً دون وقت، ولا أمراً بالنِّداء للجمعة دون أمر] اعتقاد أهل الحديث ص75-76، شبكة الإنترنت.
وقال الإمام الشوكاني: [والحق جواز الائتمام بالفاسق لأن الأحاديث الدالة على المنع كحديث (لا يؤمنكم ذو جراءة في دينه) وحديث (لا يؤمنَّ فاجرٌ مؤمناً) ونحوهما ضعيفة لا تقوم بها حجة وكذلك الأحاديث الدالة على جواز الائتمام بالفاسق كحديث (صلوا مع من قال لا إله إلا اللَّه) وحديث (صلوا خلف كل بر وفاجر) ونحوهما ضعيفة أيضًا ولكنها متأيدة بما هو الأصل الأصيل وهو أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره فلا ننتقل عن هذا الأصل إلى غيره إلا لدليل ناهض، وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة وليس المقام مقام بسط الكلام في ذلك] نيل الأوطار 2/28.
وقال الإمام الشوكاني أيضاً: [ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعاً فعلياً ولا يبعد أن يكون قولياً على الصلاة خلف الجائرين لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير وكانت(12/53)
الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى ... والحاصل أن الأصل عدم اشتراط العدالة وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره وقد اعتضد هذا الأصل بما ذكر المصنف وذكرنا من الأدلة وبإجماع الصدر الأول عليه وتمسك الجمهور من بعدهم به فالقائل بأن العدالة شرط كما روي عن العترة ومالك بن جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب محتاج إلى دليل ينقل عن ذلك الأصل] نيل الأوطار 3/185- 186.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [والصواب عندنا أن الصلاة تصح خلف الفاسق، لكن الصلاة خلف غيره أولى وأكمل] فتاوى العثيمين.
وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور في السؤال حديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومع ضعفه فإن الصلاة خلف الفاسق صحيحة وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
- - -(12/54)
حديث (خمس ليس لهن كفارة)
يقول السائل: سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق) . فهل هذا الحديث ثابت؟ وإذا كانت هذه الذنوب ليس لها كفارة فكيف يتوب المسلم منها؟
الجواب: الحديث المذكور رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق) ورواه أيضاً أبو الشيخ والديلمي، والحديث حسن لغيره وإسناده جيد، كما قال الشيخ العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 3/82، وفي إرواء الغليل 5/26-27.
وينبغي أن يعلم أن جماهير العلماء قد قسموا المعاصي إلى صغائر وكبائر، وقد اختلفوا في حقيقة الكبيرة، فمنهم من يرى أن الكبيرة هي ما لحق صاحبها بخصوصها وعيد شديد بنص من القرآن الكريم أو السنة النبوية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب] تفسير القرطبي 5/159.
ومن العلماء من يرى أن الكبيرة هي كل معصية أوجبت الحد، ومنهم من يرى أن الكبيرة هي كل محرم لعينه منهيٌ عنه لمعنى في نفسه، فإن فُعِلَ(12/55)
على وجه يجمع وجهين أو وجوهاً من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة، وأن يزني الرجل بزوجة جاره فاحشة. وقال الواحدي المفسر: [الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاءً أن تجتنب الكبائر، ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/14- 16. وكل ما ذكره أهل العلم في تعريف الكبيرة إنما هو على وجه التقريب، وليس على وجه التحديد.
[وكبائر الذنوب كثيرة، وليست محصورة في عدد معين عند أهل العلم، وإن ذكر في بعض الأحاديث عددها كثلاث أو سبع أو تسع، فليس المراد الحصر، قال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار] تفسير القرطبي 5/159.
إذا تقرر هذا فإن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس لهن كفارة) أي لا يمحو الإثم الحاصل بسببهن شيء من الطاعات والحسنات، وهذا بناءً على قول جمهور أهل العلم أن كبائر الذنوب لا تكفرها الطاعات ولا بد لها من توبة خاصة من كل ذنب منها أو إقامة الحد إن كان فيها حد أو أن يتغمد الله المذنب برحمته وغفرانه، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان(12/56)
إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) . رواه مسلم، وفي رواية أخرى (ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم.
فالأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب وأما الكبائر فلا تُكَفَر بمجرد فعل الأعمال الصالحة بل لا بد من التوبة بشروطها حتى تُكَفَر. قال القاضي عياض: [هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله] شرح النووي على صحيح مسلم 1/446. وانظر نيل الأوطار 3/57.
وقال الإمام ابن العربي المالكي: [الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) فإذا كانت الصلاة مقرونة بالوضوء لا تكفر الكبائر فانفراد الوضوء بالتقصير عن ذلك أحرى) عارضة الأحوذي 1/13.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفرةً للكبائر والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق ولا قاصد إليه ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى ولكان كل من توضأ وصلى يشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض والفروض لا يصح شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر وغير نادم على ذلك فمحال فقد(12/57)
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح قاله الشيخ العلامة الألباني.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة إلى ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) . وفي رواية أخرى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن من الخطايا ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما لمن اجتنب الكبائر) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.
ومما سبق يتضح لك أن الصغائر تكفر بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر فيكون على هذا معنى قول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الصغائر بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها لم تنتفعوا بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات والله أعلم. وهذا كله قبل الموت فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإن عذبه فبجرمه وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة.
وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه جماعة علماء المسلمين] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك 1/55-57 بتصرف.(12/58)
وهذا الذي بينه الحافظ ابن عبد البر هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهو من أحاديث الأربعين النووية.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وقد حكى ابن عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين ... الثاني: أنه تكفر الصغائر مطلقاً ولا يكفر الكبائر إن وجدت لكن بشترط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها ... ] . ثم قال الحافظ ابن رجب: [والصحيح قول الجمهور أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة لأن التوبة فرض على العباد وقد قال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة الحجرات الآية 11] جامع العلوم والحكم ص 214-216.
ولا يصح التمسك بظاهر قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} سورة هود الآية 114. على أن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة وصغيرة. وعند جمهور أهل العلم لا بد من تقييد ذلك بما صح في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر) وغيره من الأحاديث المقيدة لمطلق الآية. انظر فتح الباري 9/427.
وخلاصة الأمر أن الحديث المذكور حديث حسن وأن الذنوب الخمس المذكورة فيه تعتبر من كبائر الذنوب، وأن الكبائر لا تكفرها الأعمال الصالحة، ولا بد للمسلم من التوبة بشروطها.(12/59)
حديث (أفضل العبادة انتظار الفرج)
يقول السائل: ما صحة الحديث الوارد في أن (أفضل العبادة انتظار الفرج) أفيدونا؟
الجواب: روى الإمام الترمذي في سننه بإسناده [عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ? (سلوا الله من فضله فإن الله عز وجل يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج? قال أبو عيسى - أي الترمذي - هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث وقد خولف في روايته وحماد بن واقد هذا هو الصفار ليس بالحافظ وهو عندنا شيخ بصري] سنن الترمذي.
وقال العلامة الألباني عن هذا الحديث: [ضعيف جداً، رواه الترمذي (4/279) وابن أبي الدنيا في "القناعة والتعفف" (ج1 ورقة106/1 من مجموع الظاهرية 90) .
وعبد الغني المقدسي في "الترغيب في الدعاء" (89/2) من طريق حماد بن واقد قال: سمعت إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن ابن مسعود مرفوعاً، وقال الترمذي: هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث، وحماد ليس بالحافظ، وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح. قلت - الألباني -: وحكيم بن جبير أشد ضعفاً من ابن واقد فقد اتهمه الجوزجاني بالكذب وإذا كان الأصح(12/60)
أن الحديث حديثه فهو حديث ضعيف جداً. والشطر الأخير من الحديث رواه البزار والبيهقي في "الشعب" والقضاعي من حديث أنس، وقال الهيثمي في "المجمع" (18/147) بعد أن عزاه للأول: وفيه من لم أعرفه] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 / 499-500.
وورد الحديث برواية أخرى وهي (انتظار الفرج بالصبر عبادة) ولكنه حديث موضوع، كما قال العلامة الألباني في سلسلة الضعيفة والموضوعة 4/73.
وورد بلفظ آخر (انتظار الفرج من الله عبادة، ومن رضي بالقليل من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل) وهذا اللفظ ضعيف جداً كما قال العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة 4 / 75.
إذا تقرر أن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أن صبر المسلم على البلاء وانتظاره كشفه من الأمور المطلوبة شرعاً لأن [ارتقاب ذهاب البلاء والحزن بترك الشكاية إلى غيره تعالى وكونه أفضل العبادة لأن الصبر في البلاء انقياد للقضاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء] كما قال العلامة العيني.
ويقول الشيخ عائض القرني حفظه الله ورعاه: [أفضل العبادة انتظار الفرج لأن فيه ثقة بالباري، وحسن ظن بالخالق، وقوة رجاء بالحق، فانتظار الفرج انتصار على اليأس، {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} ، وقهر للقنوط، {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} ، وفيه تصديق للخبر {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ، وتسليم للوعد، إن الفرج بعد الكرب، واطمئنان لسنة(12/61)
الله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وتطلع إلى لطفه ورحمته {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} وركون إلى كفايته {فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ} ، واعتماد على رعايته وولايته {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} . انتظار الفرج: ترقب نظرة الرحمة من الرحمن، ونفحة اللطف من الديان، وغوث الملهوف من المنان. انتظار الفرج: الصبر حتى يكشف الرب الكرب، ليس لها من دون الله كاشفة. وحبس المضطر أنفاسه حتى يجيبه ربه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} . انتظار الفرج: طلب المدد من الأحد، والصبر والجلد حتى يغيث الصمد. أهـ. حسبنا الله ونعم الوكيل، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} ... ] كتاب حدائق ذات بهجة.
ويؤيد ما تقدم ما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 5/496.
قال الشيخ ابن رجب الحنبلي: [ ... وقوله صلى الله عليه وسلم (وإن الفرج مع الكرب) وهذا يشهد له قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره) خرجه الإمام أحمد، وخرجه ابنه عبد الله في حديث طويل،(12/62)
وفيه: (علم الله يوم الغيث أنه ليشرف عليكم أذلين قنطين، فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قرب) ، والمعنى: أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس القطر عنهم وقنوطهم ويأسهم من الرحمة، وقد اقترب وقت فرجه ورحمته لعباده، بإنزال الغيث عليهم، وتغيره لحالهم وهم لا يشعرون. وقال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} ، وقال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، وقال حاكيا عن يعقوب أنه قال لبنيه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} ، ثم قص قصة اجتماعهم عقيب ذلك. وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليم، وإغراق عدوهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، وغير ذلك] . جامع العلوم والحكم ص 249-250.
وخلاصة الأمر حديث (أفضل العبادة انتظار الفرج) غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن انتظار الفرج من العبادة إذا كان وفق ما قرره أهل العلم.
- - -(12/63)
حديث قدسي لا أصل له
يقول السائل: وزعت نشرة مكتوب فيها حديث قدسي ونصه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: يا ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وقسمت لك رزقك فلا تتعب؛ وفي أكثر منه فلا تطمع فإذا رضيت بما قسمت لك أرحت نفسك وكنت عندي محموداً، وإن لم ترض بما قسمت لك: فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها كما يركض الوحش في البرية، ولا تنال منها إلا ما قسمت لك، وكنت عندي مذموماً) . فهل هذا الحديث ثابت، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن نتعرف على الحديث القدسي أولاً فهو ما ينسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه تبارك وتعالى. والحديث القدسي نسبة إلى القُدُس، وهي نسبة تدل على التعظيم والتنزيه والتطهير، والحديث القدسي معناه من عند الله تبارك وتعالى ولفظه من عند النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الحديث القدسي منه الصحيح والضعيف والموضوع، أي المكذوب، كما هو الحال بالنسبة للأحاديث النبوية.
إذا تقرر هذا فأعود إلى الحديث المذكور فأقول: هذا الحديث من الأحاديث المشهورة على ألسنة الخطباء والوعاظ وغيرهم، وقد ورد بعدة روايات منها: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني لا ينفد أبداً. يا ابن آدم! لا تخش من ضيق الرزق وخزائني(12/64)
ملآنة، وخزائني لا تنفد أبداً. يا ابن آدم! لا تطلب غيري وأنا لك؛ فإن طلبتني وجدتني، وإن فتني فتك وفاتك الخير كله. يا ابن آدم! خلقتك للعبادة فلا تلعب، وقسمت لك رزقك فلا تتعب؛ فإن رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محموداً. وإن لم ترض بما قسمته لك: فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك، وكنت عندي مذموماً. يا ابن آدم! خلقت السماوات السبع والأراضي السبع ولم أعي بخلقهن؛ أيعييني رغيف عيش أسوقه لك بلا تعب؟ يا ابن آدم! إنه لم أنس من عصاني؛ فكيف من أطاعني، وأنا رب رحيم، وعلى كل شيء قدير؟ يا ابن آدم! لا تسألني رزق غد كما لم أطالبك بعمل غد. يا ابن آدم! أنا لك محب؛ فبحقي عليك كن لي محباً) وغيرها من الروايات.
وهذا الحديث رغم شهرته ليس له أصل في كتب السنة النبوية فلم يذكره أحد من الذين صنفوا الفهارس الحديثية فيما أعلم، وكذلك فإن الحديث لا يوجد في الكتب التي اعتنت بالأحاديث القدسية.
وبعد طول بحث وجدت أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكره بقوله: [وفي حديث إسرائيلي (يا ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء؛ وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء) ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/52.(12/65)
وكذا ذكره العلامة ابن القيم حيث قال: [وفي الأثر الإلهى: ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم أطلبني تجدني فان وجدتني وجدت كل شيء وإن فاتك، فاتك كل شيء وأنا أحب اليك من كل شيء ... ] الجواب الكافي 1/140.
وذكره الشيخ ابن كثير في آخر تفسيره لسورة الذاريات فقال: [وقد ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: ابن آدم، خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء] تفسير ابن كثير 5/696.
وذكره الشيخ محمد بن صالح العثيمين في إحدى النشرات التي أصدرها وهي: النشرة الخامسة في الحديث القدسي الطويل: يا ابن آدم لا تخافن من ذي سلطان مادام سلطاني باقياً وسلطاني لا ينفد أبدا إلى قوله: يا ابن آدم أنا لك محب فبحقي عليك كن لي محباً. حيث قال عنه الشيخ العثيمين: هذا الحديث غير صحيح. فتاوى الشيخ الصادرة من مركز الدعوة بعنيزة 3/63.
والذي يظهر لي أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فقد ذكره صاحب كتاب المستطرف من كل فن مستظرف وهو من كتب الأدب حيث قال [وروي أن هذه الكلمات وجدها كعب الأحبار مكتوبة في التوراة فكتبها وهي: يا ابن آدم لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني باقيا وسلطاني لا ينفد أبدا يا(12/66)
ابن آدم لا تخش من ضيق الرزق ما دامت خزائني ملآنة وخزائني لا تنفد أبدا يا ابن آدم لا تأنس بغيري وأنا لك فإن طلبتني وجدتني وإن أنست بغيرك فتك وفاتك الخير كله يا ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وقسمت رزقك فلا تتعب وفي أكثر منه فلا تطمع ومن أقل منه فلا تجزع فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محمودا وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البر ولا ينالك منها إلا ما قد قسمته لك وكنت عندي مذموما يا ابن آدم خلقت السموات السبع والأرضين السبع ولم أعي بخلقهن أيعينني رغيف أسوقه لك من غير تعب يا ابن آدم أنا لك محب فبحقي عليك كن لي محبا يا ابن آدم لا تطالبني برزق غد كما لا أطالبك بعمل غد فإني لم أنس من عصاني فكيف من أطاعني وأنا على كل شيء قدير وبكل شيء محيط] المستطرف 1/153.
وخلاصة الأمر أن هذا الحديث ليس له أصل في كتب السنة النبوية ويترتب على ذلك أنه تحرم نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم كحديث قدسي، بل هو من الإسرائيليات ومن المعلوم أن ما ورد من الإسرائيليات لا يجزم بصحته لما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية) رواه البخاري.(12/67)
ويجوز التحديث به للتذكير والاتعاظ والاعتبار، مع التأكيد على أنه ليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- - -
حديث مكذوب
يقول السائل: قرأت الحديث التالي في كتاب تنبيه الغافلين للسمرقندي فهل هو حديث صحيح أفيدونا، ونص الحديث هو (روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ساعةٍ ما كان يأتيه فيها متغيّر اللون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فقال يا جبريل ما لي أراك متغير اللون؟ فقال: ما جئتك حتى أمر الله عز وجل بمفاتيح النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل صف لي النار، وانعت لي جهنم، فقال جبريل: إن الله تبارك وتعالى أمر بجهنم فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، لا يضيء شررها ولا يطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب النار علق بين السماء والأرض لمات من في الأرض جميعاً من حره، والذي بعثك بالحق لو أن خازناً من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لمات من في الأرض كلهم من قبح وجهه ومن نتن ريحه، والذي بعثك(12/68)
بالحق لو أن حلقة من حلق سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لارفضت وما تقارت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي يا جبريل لا يتصدع قلبي فأموت قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل وهو يبكي، فقال: تبكي يا جبريل؟ وأنت من الله بالمكان الذي أنت به! قال: ومالي لا أبكي أنا أحق بالبكاء لعلي أن أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها، وما أدري لعلي أبتلى بمثل ما ابتلي به إبليس، فقد كان من الملائكة، وما يدريني لعلي أبتلى بمثل ما ابتلي به هاروت وماروت، قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل عليه السلام، فما زالا يبكيان حتى نوديا: أن يا جبريل ويا محمد: إن الله عز وجل قد أمنكما أن تعصيا، فارتفع جبريل عليه السلام، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بقوم من الأنصار يضحكون ويلعبون، فقال: أتضحكون ووراءكم جهنم؟! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما أسغتم الطعام والشراب، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل، فنودي: يا محمد: لا تقنط عبادي، إنما بعثتك ميسراً، ولم أبعثك معسراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا، وقاربوا) .
الجواب: لا بد أن أبين أولاً حال كتاب [تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين] تأليف الفقيه الزاهد الشيخ نصر الدين محمد بن إبراهيم(12/69)
السمرقندي المتوفى سنة 375هـ، وقد تكلم أهلُ العلم على هذا الكتاب كما فصل ذلك الشيخ مشهور حسن سلمان حفظه الله ورعاه عند ذكره لكتب السمرقندي فقال: [تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين، بستان العارفين، دقائق الأخبار في بيان ذكر أهل الجنة وأحوال أهل النار، قرة العيون ومفرح القلب المحزون، كلها لأبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ت 375هـ، وهذه الكتب مطبوعة وهي مشتهرة بين العوام ويتداولونها بكثرة، ولذا تحرص دور النشر على طبعها بأرخص الأثمان وهذه الكتب مليئة بالأحاديث والأخبار الموضوعة وربما يذكر صاحبها فيها سنده، فهي مفيدة لطالب العلم الذي ينظر في الأسانيد ويمحص عن حالة الرواة فهي من مظان الحكم على كثير مما هو سائد بين العوام بالوضع أو الكذب أو الضعف وإن راجت على صاحبها ولذا وقع في عبارة الإمام الذهبي تحذير ضمني منها فقال: في ترجمة صاحبها في سير أعلام النبلاء (16/323) : [وَتَرُوجُ عَلَيْهِ الأَحَادِيثُ الموضُوعَةُ] . وقال – أي الذهبي - في "تاريخ الإسلام" في ترجمته ... وفي كتاب "تنبيه الغافلين" موضوعات كثيرة. ا. هـ. وقال أبو الفضل الغماري في "الحاوي" (3/4) : وكتاب "تنبيه الغافلين" يشتمل على أحاديث ضعيفة وموضوعة، فلا ينبغي قراءته للعامة لا يعرفون صحيحه من موضوعه. ا. هـ. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن جمهور مصنفي السير والأخبار وقصص الأنبياء لا يميز بين الصحيح والضعيف، والغث والسمين، وذكر من بينهم أبا الليث السمرقندي، وقال: [فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم، ولا لهم خبرة بالنَّقلة، بل(12/70)
يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف، ولا يميزون بينهما، لكن منهم من يروي الجميع ويجعل العهدة على الناقل] .ا. هـ ... وقد حذر من جل الكتب السابقة الشيخ السلفي محمد بن أحمد بن محمد بن عبد السلام الشقيري في كتابه "المنحة المحمدية في بيان العقائد السلفية" (ص171-172) فقال تحت عنوان "كتب لا يحل قراءتها" في مبحث سبب انتشار الحكايات والمنامات الفاسدة والخرافات الفاشية التي لم يعهد لها أصل في كلام السلف الصالحين، ولا في سنن سيد المرسلين؛ قال: وإنما هي فاشية بين العوام والجهلاء والطغام من كتب المناقب ككتاب "الروض الفائق"، و "روض الرياحين في مناقب الصالحين" و "ونوادر القليوبي" و "كرامات الأولياء" و "ونزهة المجالس" و "وتنوير القلوب"، و "تنبيه الغافلين"، وكذا كتب الشروح والحواشي الأزهرية، وأمثال هذه الكتب لا تحوي سوى ما يفسد عقائد العوام وبسطاء العقول، وقد كان الواجب على علمائنا أن ينبهوا عليها في الجرائد والمجلات وفي دروسهم ومؤلفاتهم، إذ هي السبب الأعظم في إفشاء تلك الخرافات بين العوام وفي عبادتهم لقبور الصلحاء، فكان الواجب إيقاف طبعها ومصادرة قراءتها دفعا لضررها وتطاير شررها ... ] كتب حذر منها العلماء 2/198 -200.
وقد سئل العلامة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين عن كتاب تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين تأليف الفقيه الزاهد الشيخ نصر الدين محمد بن إبراهيم السمرقندي: أسأل عن هذا الكتاب والأحاديث التي(12/71)
وردت فيه هل هي صحيحة أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ فأجاب رحمة الله عليه بقوله: [وفيه أحاديث موضوعة، ولهذا لا ينبغي قراءته إلا لطالب علم يميز بين ما يقبل من الأحاديث التي فيه وما لا يقبل ليكون على بصيرة من أمره ولئلا ينسب إلى رسول الله صلي الله علية وسلم ما لم يقله أو ما لا تصح نسبته إليه فإن من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبيَن وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من كذب عليه متعمداً فليتبوأ مقعداً من النار فنصيحتي لمن ليس له علم بالأحاديث أن لا يطلع على هذا الكتاب، ومن عنده علم يميز بين المقبول وغير المقبول ورأى في قراءته مصلحة فليفعل وإن رأى أنه يصده عن قراءة ما هو أنفع منه له فلا يذهب وقته في قراءته] موقع الشيخ العثيمين، شبكة الإنترنت.
إذا تقرر هذا فنعود للكلام على الحديث المذكور فقد ذكر أهل الحديث أنه حديث موضوع أي مكذوب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العلامة الألباني: [موضوع بهذا السياق والتمام أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة النار" ... والطبراني في المعجم الأوسط ... قال: عمر بن الخطاب: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فذكره. وقال الطبراني:"لا يروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد تفرد به سلام". قلت: وقال الهيثمي 10/386 – 387 بعد ما عزاه للطبراني:"وهو مجمع(12/72)
على ضعفه". قلت: وقد اتهمه غير واحد بالكذب والوضع كما تقدم غير ما مرة، وقال ابن حبان في "الضعفاء والمتروكين":"يروي عن الثقات الموضوعات كأنه كان المتعمد لها". قلت: وفي هذا الحديث ما يؤكد ما اتهموه به أعظمها قوله في إبليس: (كان من الملائكة) وهذا خلاف القرآن: {كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ثم إن الملائكة خلقت من نور كما في صحيح مسلم وهو مخرج في "الصحيحة" (458) ، وأما إبليس فخلق من نار كما في القرآن والحديث. ونحوه قوله:"ما ابتلي به هاروت وماروت"، فإنه يشير إلى ما يروى من قصتهما مع الزهرة ومراودتهما إياها وشربهما الخمر وقتلهما الصبي، وهي قصة باطلة مخالفة للقرآن أيضاً كما سبق بيانه في المجلد الأول برقم (170) . ولا يفوتني التنبيه أن قوله:" لو تعلمون ... " إلى قوله:"تجأرون إلى الله عز وجل " قد جاء طرفه الأول في "الصحيحين"، والباقي عند الحاكم وغيره، فانظر الحديث الآتي إن شاء الله برقم (4354) . وتخريج "فقه السيرة" (ص 479) ] . سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 3/473- 474.
وخلاصة الأمر أن يجب الحذر من كتاب تنبيه الغافلين لما فيه من الأحاديث المكذوبة وأن الحديث المذكور مكذوب لا تحل نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم فإن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب عليَّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهو حديث صحيح متواتر رواه البخاري ومسلم. وقال ابن حبان في صحيحه: فصل:"ذكر أسباب دخول(12/73)
النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالم بصحته" ثم ساق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وسنده حسن وأصله في الصحيحين بنحوه. ثم ذكر حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حدّث بحديث يُرى - بضم الياء- أنه كذب فهو أحد الكاذبين) رواه مسلم.
- - -(12/74)
الصلاة(12/75)
المسح على الجورب الرقيق من مسائل الخلاف المعتبر
السؤال: أرسل لي أحد طلبة العلم نشرة وزعت في بعض المساجد بعنوان (القول الأصوب في بطلان المسح على الجورب) وطلب مني إبداء الرأي فيها؟
الجواب: قرأت النشرة المذكورة ووجدت أن كاتبها متعصب للقول الذي يجيز المسح على الجوربين وفق الشروط التي وضعها بعض فقهاء المذاهب من كون الجورب مجلداً ثخيناً يمكن السير فيه ولا ينفذ الماء إليه..إلخ الشروط التي وضعها بعض فقهاء المذاهب، ونقل كلام بعض العلماء في تضعيف حديث المغيرة بن شعبة قال: (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين) رواه أحمد والترمذي وغيرهما ونقل بعد ذلك كلاماً عن المذاهب الأربعة تؤيد دعواه كما زعم، وقال أخيراً: [ ... التزم أقوال العلماء الأعلام وعليك بالإتباع وترك الابتداع] ثم ختم نشرته بجزء مبتور من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) هذا أهم ما جاء في النشرة المشار إليها.
وأقول إننا في هذه البلاد قد ابتلينا بأشباه طلبة العلم الذين يظن الواحد منهم أنه إن قرأ كتاباً أو سمع أشرطة لدروس شيخ أو عالم، صار عالم زمانه الأوحد، وصار الحق حكراً له فالحق عنده والباطل عند من خالفه!!! هذه البلوى الحقيقية وليست البلوى ما زعمه كاتب النشرة من أن البلوى هي تفشي ظاهرة المسح على الجورب الرقيق؟؟!! فالأخيرة مسألة خلافية وهي(12/77)
من مسائل الخلاف المعتبر عند أهل العلم لأنها مسألة اجتهادية وفيها مجال للنظر والأخذ والرد، ومن الجهل الفاضح أن يختم كاتب النشرة كلامه بالجزء المبتور من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ليصل إلى نتيجة باطلة قطعاً وهي إن العلماء القائلين بجواز المسح على الجورب الرقيق هم (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) . وأقول ما قاله الشاعر قديماً:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
لنرجع إلى نص الحديث النبوي الذي اقتطعت منه الجملة التي ساقها الكاتب لنرى هل ينطبق هذا الحديث على أولئك العلماء أم لا؟ نص الحديث هو (عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير، قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل(12/78)
شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي [قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة] . شرح النووي على صحيح مسلم 4/547. إن الكاتب المذكور اجتزأ النص ليوافق هواه، وفعل فعل الذين يقولون (ويل للمصلين) !! قاتل الله التعصب فهكذا يفعل بأهله يوصلهم إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع النصوص في غير محالها.
إذا تقرر هذا فإن الخطب يسير في مسألة المسح على الجورب الرقيق، وليس الأمر كما يحاول أن يصوره بعض المتعصبين للمذاهب والذين تضيق صدورهم بالخلاف الفقهي المعتبر، وقد سبق أن بحثت هذه المسألة بشيء من التفصيل في أكثر من موضع من سلسلة يسألونك، وبينت أدلة من أجاز المسح على الجورب دون اعتبار لما شرطه بعض الفقهاء من شروط للجوربين الذين يمسح عليهما بأن يكونا منعلين أو مجلدين أو ثخينين وغير ذلك من الشروط، فإنه لم يقم دليل صحيح على اعتبار هذه الشروط ولم يرد دليل على تقييد الجوربين بهذه الشروط. ولا أريد تكرار الكلام في المسألة، ولكن لا بد من التنبيه إلى أن مسألة الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف هي مسألة اجتهادية، وهذا أمر معروف عند العلماء، والحديث الوارد في المسح على الجوربين خير مثال على ذلك، فقد صححه جماعة من المحدثين وضعفه(12/79)
آخرون. وكذلك فقد نص العلماء على أنه لا إنكار في مسائل الخلاف الاجتهادية ومسألة المسح على الجورب الرقيق داخلة في ذلك لأن المجيز للمسح على الجورب الرقيق لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً. قال الإمام النووي: [ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً] شرح النووي على صحيح مسلم 2/24. وقال العلامة ابن القيم: [إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً] إعلام الموقعين 3/365. وهكذا كان سلف الأمة يتعاملون مع المسائل الخلافية قال القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما أسر فيه [إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة] وقال سفيان الثوري: [إذا رأيت الرجل يعمل بعمل قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه] الفقيه والمتفقه 2/69. ونقل الخطيب البغدادي عن سفيان الثوري أنه قال: [ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به] الفقيه المتفقه 2/69. وقال يحيى بن سعيد: [ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه، ولا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله] . وقال الإمام أحمد فيما نقله ابن مفلح: [لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم] . ويقول ابن مفلح: [لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ فيه خلاف في الفروع] الآداب الشرعية 1/186. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول(12/80)
بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/207.
وخلاصة الأمر أن القول بجواز المسح على الجورب الرقيق قول معتبر عند أهل العلم، لا عند المتسورين على العلم الشرعي. ولا ينكر على من أخذ به، والحديث الوارد في ذلك من أهل العلم من صححه وعمل به، ولا يجوز الاحتجاج بقول النبي صلى الله عليه وسلم (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) في مسألة خلافية بين العلماء هي محل اجتهاد ونظر.
- - -
لبس الكفوف (القفازات) أثناء الصلاة
يقول السائل: ما حكم لبس الكفوف (القفازات) أثناء الصلاة؟
الجواب: لا حرج في لبس القفازين (الكفوف) أثناء الصلاة فإنه لا يشترط مباشرة الأعضاء للأرض دون حائل عند جماهير أهل العلم قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في السجود على كمه وذيله ويده وكور عمامته وغير ذلك مما هو متصل به: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يصح سجوده علي شيء من ذلك وبه قال داود واحمد في رواية، وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي واسحق وأحمد في الرواية الأخرى يصح، قال صاحب التهذيب(12/81)
وبه قال أكثر العلماء واحتج لهم بحديث أنس رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض يبسط ثوبه فيسجد عليه) رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لقدر رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم في يوم مطير وهو يتقي الطين إذا سجد بكساء عليه يجعله دون يديه) رواه ابن حنبل في مسنده، وعن الحسن قال: (كان أصحاب رسول الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم ويسجد الرجل على عمامته) رواه البيهقي، وبما روي (أن النبي صلي الله عليه وسلم سجد على كور عمامته) وقياساً على باقي الأعضاء] المجموع 3/425-426.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا تجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء قال القاضي: إذا سجد على كور العمامة أو كمه أو ذيله، فالصلاة صحيحة رواية واحدة. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة. وممن رخص في السجود على الثوب في الحر والبرد عطاء، وطاووس، والنخعي، والشعبي، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأصحاب الرأي. ورخص في السجود على كور العمامة الحسن، ومكحول، وعبد الرحمن بن يزيد، وسجد شريح على برنسه] المغني 1371-372.
ويدل على الجواز أيضاً ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا(12/82)
نكفت الثياب والشعر) رواه البخاري ومسلم. والشاهد فيه أن الركبتين مغطاتان وكذا القدمين إذا كان المصلي يلبس الجوربين فنقيس اليدين عليها.
وخلاصة الأمر أن الصلاة بالكفوف صحيحة.
- - -
اللحاق بالإمام في صلاة الجماعة
يقول السائل: إذا دخلت المسجد أثناء صلاة الجماعة في صلاة العصر ووجدت الإمام في الجلوس الأوسط فهل ألتحق معه مباشرة أم أنتظر حتى يقوم إلى الركعة الثالثة، أفيدونا؟
الجواب: الأصل أن يلحق المصلي بالإمام في أي جزء كان الإمام من الصلاة، فإذا دخل المسجد فوجد الإمام ساجداً فليسجد معه ولا ينتظر أن يقوم من السجود وهكذا إذا أدركه في التشهد الأوسط فإنه يلتحق به فوراً ولا ينتظر حتى يقوم إلى الركعة الثالثة، قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [واتفقوا أن من جاء والإمام قد مضى من صلاته شيء قلَّ أو كثر ولم يبق إلا السلام فإنه مأمور بالدخول معه وموافقته على تلك الحال التي يجده عليها ما لم يجزم بإدراك الجماعة في مسجد آخر] مراتب الإجماع ص 25.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها(12/83)
تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) رواه البخاري ومسلم.
وهذا الحديث يدل على أن المتأخر عن الصلاة يدخل مع إمامه مباشرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا) . ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال صحيح، وحسنه العلامة الألباني في صحيح أبي داود 1/169.
ويدل عليه أيضاً ما رواه الترمذي بإسناده عن علي وعن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده إلا ما روي من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم قالوا إذا جاء الرجل والإمام ساجد فليسجد ولا تجزئه تلك الركعة إذا فاته الركوع مع الإمام واختار عبد الله بن المبارك أن يسجد مع الإمام وذكر عن بعضهم فقال لعله لا يرفع رأسه في تلك السجدة حتى يغفر له) والحديث المذكور صححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/183. قال صاحب تحفة الأحوذي: [قوله: (فليصنع كما يصنع الإمام) أي فليوافق(12/84)
الإمام فيما هو فيه من القيام أو الركوع أو غير ذلك، أي فلا ينتظر الإمام إلى القيام كما يفعله العوام] .
وقال الأمير الصنعاني: [وفي الحديث دلالة على أنه يجب على من لحق بالإمام أن ينضم إليه في أي جزء كان من أجزاء الصلاة فإذا كان الإمام قائماً أو راكعاً فإنه يعتد بما أدركه معه كما سلف فإذا كان قاعداً أو ساجداً قعد بقعوده وسجد بسجوده، ولا يعتد بذلك] سبل السلام 2/438.
ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بإسناده في حديث طويل عن معاذ رضي الله عنه ( ... قال وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم ببعضها النبي صلى الله عليه وسلم قال فكان الرجل يشير إلى الرجل إن جاء كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليها ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ رضي الله عنه فقال: لا أجده على حال أبداً إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني. قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا) ورواه أبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/103.
وقال الشوكاني: [ويشهد له أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعاً: (من وجدني راكعاً أو قائماً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها) ، وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة والظاهر أنه يدخل معه في الحال التي أدركه عليها مكبراً(12/85)
معتداً بذلك التكبير وإن لم يعتد بما أدركه من الركعة كمن يدرك الإمام في حال سجوده أو قعوده ... ] نيل الأوطار 3/ 172- 173.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته فيه وإن لم يعتد له به لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) رواه أبو داود، وروى الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) والعمل على هذا عند أهل العلم قالوا: إذا جاء الرجل والإمام ساجد فليسجد، ولا تجزئه تلك الركعة وقال بعضهم: لعله أن لا يرفع رأسه من السجدة حتى يغفر له] المغني 1/364.
وقال الإمام النووي: [إذا أدركه في التشهد الأخير كبر للإحرام قائماً وقعد وتشهد معه ولا يكبر للقعود على الصحيح والتشهد سنة وليس بواجب على هذا المسبوق بلا خلاف ... ولا يقرأ دعاء الافتتاح في الحال ولا بعد القيام وسبق دليل الجميع وتحصل له فضيلة الجماعة لكن دون فضيلة من أدركها من أولها هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع المصنف والجمهور من أصحابنا العراقيين والخراسانيين ... ] المجموع 4/219.
وخلاصة الأمر أن من دخل المسجد فوجد الإمام ساجداً فليسجد معه ولا ينتظر أن يقوم من السجود وهكذا إذا أدركه في التشهد الأوسط فإنه يلتحق به فوراً ولا ينتظر حتى يقوم إلى الركعة الثالثة.(12/86)
الاستخلاف في الصلاة وكون المستخلف مسبوقاً
يقول السائل: إن الإمام في صلاة الجماعة طرأ عليه عذر فقدَّم مأموماً مسبوقاً لإتمام الصلاة فكيف يصنع، أفيدونا؟
الجواب: ما فعله الإمام يسمى عند الفقهاء استخلافاً، وهو أن يخلف الإمامَ شخصٌ آخر لإكمال الصلاة إذا حصل للإمام طارئ أثناء الصلاة.
والاستخلاف مشروع على الراجح من قولي العلماء في المسألة، وبه قال عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما وعلقمة وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في الجديد وأحمد في رواية عنه، قال الإمام النووي: [ولم يصرح ابن المنذر بحكاية منع الاستخلاف عن أحد] المجموع 4/ 245.
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين: [إذا ذكر الإمام في أثناء الصلاة أنه محدث وجب عليه الانصراف ويستخلف من يكمل بهم الصلاة، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي بعد أن شرع في صلاة الصبح تناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فصلى بهم صلاة خفيفة] الشرح الممتع 4/243.
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر أن من منع الاستخلاف في الصلاة احتج بما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار بيديه أن امكثوا فذهب ثم رجع على جلده أثر الماء(12/87)
والحديث في الصحيحين، قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: [لا تتبين لي حجة من كره الاستخلاف استدلالاً بحديث هذا الباب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في الاستخلاف كغيره إذ لا عوض منه مع سعة الوقت ولا يجوز لأحد أن يتقدم بين يديه إلا بإذنه وقد قال لهم: مكانكم، فلزمهم أن ينتظروه وهذا إذا صح أنه تركهم في صلاة وقد قيل إنه لم يكن كبر ... وقد أجمع المسلمون على الاستخلاف فيمن يقيم لهم أمر دينهم ودنياهم والصلاة أعظم الدين، وفي حديث سهل بن سعد دليل على جواز الاستخلاف لتأخر أبي بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة وحسبك بما مضى عليه عمل الناس] الاستذكار 3/109.
ويدل على مشروعية الاستخلاف في الصلاة ماروه الإمام البخاري في صحيحه في قصة طعن عمر رضي الله عنه وفيها (وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه ... فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة) رواه البخاري، وقد كان ذلك بمحضر من الصحابة فأقروه على ذلك، قال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر قصة عمر رضي الله عنه [وفيه جواز الاستخلاف للإمام عند عروض عذر يقتضي ذلك لتقرير الصحابة لعمر رضي الله عنه على ذلك وعدم الإنكار من أحد منهم فكان إجماعاً وكذلك فعل علي رضي الله عنه وتقريرهم له على ذلك وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك] نيل الأوطار 3/200.(12/88)
وروى سعيد بن منصور في سننه (أن علياً رضي الله عنه رُعف وهو في الصلاة فأخذ بيد رجل فقدَّمه ليتم بالناس ثم انصرف) .
وروى الأثرم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنها قال: خرج علينا عمر رضي الله عنه لصلاة الظهر، فلما دخل في الصلاة أخذ بيد رجل كان عن يمينه ثم رجع يخرق الصفوف، فلما صلينا إذا نحن بعمر يصلي خلف سارية، فلما قضى الصلاة قال: لما دخلت في الصلاة وكبرت رابني شيء فلمست بيدي فوجدت بلة) . قال الإمام البيهقي: [وروينا عن عمر رضي الله عنه في قصة أخرى أنه وجد بللاً حين جلس في الركعتين الأوليين، فلما قام أخذ بيد رجل من القوم فقدمه مكانه، وروي في جواز الاستخلاف عن علي رضي الله عنه، فقوله الجديد –أي قول الشافعي في المذهب الجديد - في جواز الاستخلاف أصح القولين] سنن البيهقي.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: إن استخلف الإمام فقد استخلف عمر وعلي وإن صلوا وحداناً فقد طعن معاوية وصلى الناس وحداناً من حيث طعن أتموا صلاتهم. نيل الأوطار 3/199.
والقائلون بجواز الاستخلاف اتفقوا على جوازه في حالات منها أن الإمام إذا سبقه الحدث في الصلاة من بول، أو ريح أو غيرهما، انصرف واستخلف، وكذا إذا طرأ على الإمام ما يمنع الإمامة لعجز عن ركن، كعجزه عن الركوع أو القراءة في بقية الصلاة أو عجز عن إتمام الفاتحة وكذلك إذا تذكر الإمام نجاسة، أو جنابة لم يغتسل منها، أو تنجس في أثناء الصلاة، بشرط أن(12/89)
يستخلف الإمام من يصلح للإمامة، فلو استخلف صبياً أو امرأة أو أمياً وهو من لا يحسن شيئاً من القرآن فلا يصح. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 3/253-255. وقد نص الفقهاء على أن كل من يصلح إماماً ابتداءً يصح استخلافه، ومن لا يصلح إماماً ابتداء لا يصح استخلافه، ونصوا على أن الأولى أن لا يستخلف الإمام مسبوقاً فقد ذكر ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق أن الأولى للإمام أن يقدم مدركاً، ولكن إن قدم مسبوقاً صح استخلافه، وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال أصحابنا: يجوز أن يستخلف من سبق ببعض الصلاة ولمن جاء بعد حدث الإمام فيبني على ما مضى من صلاة الإمام من قراءة أو ركعة أو سجدة ويقضي بعد فراغ صلاة المأمومين وحكي هذا القول عن عمر وعلي وأكثر من وافقهما في الاستخلاف] المغني 2/76. والمطلوب من المستخلف المسبوق أن يتم الصلاة من المحل الذي خرج منه الإمام، قال الإمام النووي: [قال أصحابنا وإذا استخلف مأموماً مسبوقاً لزمه مراعاة ترتيب الإمام فيقعد موضع قعوده، ويقوم موضع قيامه، كما كان يفعل لو لم يخرج الإمام من الصلاة، فلو اقتدى المسبوق في ثانية الصبح ثم أحدث الإمام فيها فاستخلفه فيها قنت وقعد عقبها وتشهد ثم يقنت في الثانية لنفسه ولو كان الإمام قد سها قبل إقتدائه أو بعده سجد في آخر صلاة الإمام وأعاد في آخر صلاة نفسه على أصح القولين كما سبق، وإذا تمت صلاة الإمام قام لتدارك ما عليه، والمأمومون بالخيار إن شاءوا فارقوه وسلموا وتصح صلاتهم بلا خلاف للضرورة وان شاءوا صبروا جلوساً ليسلموا معه] المجموع 4/243.(12/90)
وخلاصة الأمر أن الأولى للإمام أن يستخلف مدركاً للصلاة من أولها، فإن استخلف مسبوقاً فيجوز ذلك، ويلزم المستخلف أن يتم الصلاة من حيث توقف إمامه، فإذا كان مسبوقاً بركعتين مثلاً أتم صلاة الجماعة أولاً ثم يأتي بما فاته، وفي هذه الحالة فالمأمومون مخيرون بين أن يفارقوا الإمام الثاني فيسلموا لوحدهم أو ينتظرونه ليسلموا معه وهذا أولى.
- - -
إذا جمع المسافر بين الصلاتين ثم وصل بلده أتناء وقت الصلاة الثانية فلا يلزمه الإعادة
يقول السائل: أنا من سكان الجليل وأحضر إلى المسجد الأقصى يوم السبت ونجمع الظهر مع العصر جمع تقديم ثم نرجع إلى بلدنا ونصل إليها قبل غروب الشمس بساعة فهل يلزمنا أن نعيد صلاة العصر، أفيدونا؟
الجواب: يجوز للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر تقديماً وتأخيراً وكذلك المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً وقد ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديث منها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين(12/91)
العشاء. قال سالم: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفعله إذا أعجله السير) رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر يعني المغرب والعشاء) رواه البخاري.
وعنه أيضاً قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما) رواه مسلم.
وعن معاذ رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً) رواه مسلم، وفي رواية أخرى عن معاذ رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليها جميعاً وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
ويجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع إذا جدَّ به السير ولم يكن يجمع وهو نازل أثناء السفر، قال العلامة ابن القيم: [ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الجمع راكباً في سفره كما يفعله كثير من الناس ولا الجمع حال نزوله أيضا وإنما كان يجمع إذا جد به السير وإذا سار(12/92)
عقيب الصلاة كما ذكرنا في قصة تبوك وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة لأجل اتصال الوقوف كما قال الشافعي رحمه الله وشيخنا – أي ابن تيمية -] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/481.
وقد قرر العلماء أن من الأفضل للمسافر إذا كان يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيصل إلى بلده قبل صلاة العصر أو قبل صلاة العشاء فالأفضل له ألا يجمع لأنه ليس هناك حاجة للجمع، وإن جمع فلا بأس. انظر مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العلامة العثيمين 15 /422.
ويجب أن يعلم أيضاً أن المسافر إذا نوى جمع التأخير، فوصل إلى محل إقامته قبل خروج وقت الصلاة الأولى، فلا يجوز له الجمع بل يجب أن يصلي الصلاة التي أدرك وقتها تامة، فإذا فرضنا أن مسافراً نوى جمع التأخير بين الظهر والعصر فدخل إلى بلده قبل دخول وقت العصر، فيجب عليه أن يصلي الظهر تامة في وقتها، ولا يصح له أن يؤخرها حتى يجمعها مع العصر. وإذا جمع المسافر جمع تقديم فوصل إلى بلده بعد خروج وقت الأولى، فجمعه صحيح ولا يلزمه إعادة الصلاة الثانية على الراجح من قولي العلماء في المسألة وذكر الإمام النووي وجهين في المسألة ثم قال: [أصحهما لا يبطل الجمع كما لو قصر ثم أقام، وبهذا قطع القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد وغيره من العراقيين] المجموع 4/378.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ ... وإن أتم الصلاتين في وقت الأولى ثم زال العذر بعد فراغه منهما قبل دخول وقت الثانية أجزأته، ولم تلزمه الثانية في(12/93)
وقتها لأن الصلاة وقعت صحيحة مجزية عن ما في ذمته وبرئت ذمته منها فلم تشتغل الذمة بها بعد ذلك، ولأنه أدى فرضه حال العذر فلم يبطل بزواله بعد ذلك كالمتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة] المغني 2/207.
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في فتاويها: [إذا جمع المسافر بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء جمع تقديم، ثم وصل إلى مقر إقامته قبل دخول وقت العصر أو بعده، أو قبل دخول وقت العشاء أو بعده، فإن صلاته صحيحة؛ لكونه جمعها مع الأولى بمسوغ شرعي، وهو السفر] .
وخلاصة الأمر أن المسافر إذا جمع بين الصلاتين جمع تقديم ثم وصل إلى بلده أو محل إقامته في وقت الصلاة الثانية فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه.
- - -(12/94)
كيفية صلاة الإستسقاء
يقول السائل: كيف تصلى صلاة الاستسقاء وهل يقلب الناس أرديتهم في الصلاة، أفيدونا؟
الجواب: صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة ثبتت مشروعيتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قلة الأمطار وانحباسها فلا بد للناس أن يبادروا إلى التوبة والاستغفار مصداقاً لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} سورة نوح الآيات 10-12. وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ... } سورة هود الآية 52.
قال العلامة ابن القيم: [ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استسقى على وجوه: أحدها: يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته وقال اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون فيه إلى المصلى فخرج لما طلعت الشمس متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فلما وافى المصلى صعد المنبر - إن صح وإلا ففي القلب منه شيء - فحمد الله وأثنى عليه وكبره وكان مما حفظ من خطبته ودعائه: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا(12/95)
أنت تفعل ما تريد اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا وبلاغاً إلى حين ثم رفع يديه وأخذ في التضرع والابتهال والدعاء وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حوَّل إلى الناس ظهره واستقبل القبلة وحوَّل إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن وظهر الرداء لبطنه وبطنه لظهره وكان الرداء خميصة سوداء وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة والناس كذلك ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداء ألبتة جهر فيهما بالقراءة وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية.
الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى على منبر المدينة استسقاءً مجرداً في غير يوم جمعة ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة.
الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل فحفظ من دعائه حينئذ اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً طبقاً عاجلاً غير رائث – غير بطيء ولا متأخر - نافعاً غير ضار.
الوجه الخامس: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر ينعطف عن يمين الخارج من المسجد.(12/96)
الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء فأصاب المسلمين العطش فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض المنافقين لو كان نبياً لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال أوقد قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم ثم بسط يديه ودعا فما ردَّ يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب وأمطروا فأفعم السيل الوادي فشرب الناس فارتووا] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/457-458.
وأكمل وجوه صلاة الاستسقاء هو الثاني قال الإمام النووي: [أفضلها وهو الاستسقاء بصلاة ركعتين] المجموع 5/64.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال القاضي: الاستسقاء ثلاثة أضرب، أكملها الخروج والصلاة على ما وصفنا ويليه استسقاء الإمام يوم الجمعة على المنبر ... والثالث أن يدعو الله تعالى عقيب صلواتهم وفي خلواتهم] المغني 2/327.
وتكون صلاة الاستسقاء كصلاة العيد فيبدأ الإمام بالخطبة لما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه فكبر صلى الله عليه وسلم وحمد الله عز وجل ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم ... ونزل فصلى ركعتين) رواه أبو داود وابن حبان وقال الإمام النووي [وأما حديث عائشة فصحيح رواه أبو(12/97)
داود بإسناد صحيح وقال هو إسناد جيد ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم] المجموع 5/64. ويصح أن تكون الخطبة بعد الصلاة أيضاً لما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي وقال رجاله ثقات وقال البوصيري إسناده صحيح.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ ... وأياً ما فعل من ذلك فهو جائز لأن الخطبة غير واجبة على الروايات كلها، فإن شاء فعلها وإن شاء تركها والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة لتكون كالعيد] المغني 2/ 322، وانظر الشرح الممتع 5/280-281.
وأما تحويل الثياب فإنه يستحب قلب الرداء وتحويله تفاؤلاً بتحويل الحال من القحط إلى الرخاء ويحوّل الرجال فقط أرديتهم وهم جلوس فمثلاً من كان يلبس عباءة يقلبها على ظهره بأن يجعل أعلاها أسفلها ونحو ذلك، ويكون تحويل الثياب أثناء الخطبة، لما ورد في الحديث عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة وأن أكمل صفاتها أن يخرج الناس إلى مصلى العيد فيصلون ركعتين كصلاة العيد مع خطبة، فإن(12/98)
استسقى إمام الجمعة أثناء خطبة الجمعة فحسن، ولا أرى أن يصلي ركعتين بعد الجمعة ويقنت في الثانية بعد الركوع لأن هذه الصفة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بها أحد من العلماء فيما أعلم، وإنما يكتفى بالدعاء في خطبة الجمعة.
- - -
اصطفاف أهل الميت عند المقبرة لتقبل التعزية
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله كثير من الناس في بلادنا بعد الانتهاء من دفن الميت يقف أهل الميت صفاً ويمر الحاضرون عليهم يعزونهم فهل هذه الطريقة مشروعة، أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن تعزية أهل الميت من السنة فقد وردت فيها أحاديث منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126.
ومنها ما رواه الإمام النسائي عن خالد بن ميسرة قال سمعت معاوية بن قرة عن أبيه قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه ففقده(12/99)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالي لا أرى فلاناً، قالوا يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال: يا فلان أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك قال يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي قال فذاك لك) ورواه أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 162، وغير ذلك من الأحاديث.
وليس للتعزية لفظ معين وإنما يعزي أهل الميت بما يظن أنه يسليهم ويخفف عنهم مصابهم ويحثهم على الرضا بما قدَّر الله ويحثهم على الصبر، فألفاظ التعزية بابها واسع فتجوز بكل لفظ يدعو إلى الصبر ما لم يتضمن مخالفة للشرع قال الإمام الشافعي: [وليس في التعزية شيء مؤقت يقال لا يُعدى إلى غيره] الأم 1/278.
وقال الإمام النووي: [وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصل ... وأحسن ما يعزى به ما روينا في صحيح البخاري ومسلم. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب ... ] الأذكار ص 127.(12/100)
وتمام الحديث السابق هو عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه إن ابناً لي قبض فأتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع قال حسبته أنه قال كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا فقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر هذا فإن وقوف أهل الميت بعد الدفن صفاً واحداً ومرور المعزين عليهم لا بأس فيه ولا حرج فيه إن شاء الله تعالى لأنه وسيلة من وسائل التعزية ومن المعلوم عند العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل) قواعد الأحكام 1/46.
وقال الإمام شهاب الدين القرافي: [وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنَّها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ(12/101)
فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [وقد قال أهل العلم للوسائل أحكام المقاصد فما كان وسيلةٌ لمطلوبٍ فهو مطلوب وما كان وسيلةً لمنهيٍ منه فهو منهيٌ عنه] شبكة الانترنت.
وبناءً على ما سبق فلا حرج في اصطفاف أهل الميت عند المقبرة لتقبل التعزية فإن هذا الاصطفاف وسيلة لتحقيق السنة وهي التعزية ولا يوجد أي مخالفة شرعية في هذا الاصطفاف لأنه وسيلة إلى تحقيق مقصد مشروع، قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في فتوى له عن حكم جمع أهل الميت في صف واحد حتى تتم تعزيتهم [يقوم بعض المعزين بإخراج أهل الميت بعيداً عن القبور، ووضعهم في صف حتى تتم معرفتهم وتعزيتهم بنظام، ولا تهان القبور، ما حكم ذلك؟ فأجاب: لا أعلم في هذا بأساً؛ لما فيه من التيسير على الحاضرين لتعزيتهم] شبكة الانترنت.
وقال الشيخ العلامة العثيمين في مثل هذه المسألة قال: [الأصل أن هذا لا بأس به؛ لأنهم يجتمعون جميعاً من أجل الحصول على كل منهم ليعزى، ولا أعلم في هذا بأس] شبكة الانترنت.(12/102)
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتي السعودية الحالي عن سؤال ورد فيه [يصف المعزون في المقبرة صفاً بعد دفنهم ميتهم ويمر الناس عليهم ... فأجاب: هذه الصفة المذكورة إن خلت عن محاذير شرعية وكانت لمجرد التعرف على أولياء الميت الذين أصيبوا بفقد هذا الميت، فإني لا أرى فيها بأساً ... ] شبكة الانترنت.
وخلاصة الأمر أنه لا حرج في اصطفاف أهل الميت لتقبل التعازي من الناس لأن ذلك وسيلة لتحقيق سنة التعزية، وللوسائل أحكام المقاصد.
- - -
انتهاك حرمة المساجد من الفرق الكشفية المصحوبة بالآلات الموسيقية والطبول
يقول السائل: ما قولكم فيما حصل في بعض المساجد من دخول الفرق الكشفية مصحوبة بالآلات الموسيقية والطبول وقيامها بالعزف في ساحة المسجد إحياء للاحتفالات الدينية كما يُزعم، أفيدونا؟
الجواب: قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} سورة النور الآيتان36-37.(12/103)
البيوت المذكورة في الآية الكريمة هي المساجد كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري ورجحه القرطبي في تفسيره 12/265، وقد قرر أهل العلم أن الأصل في المساجد أنها تبنى لذكر الله تعالى وإقامة الصلاة، والمساجد لها أحكام خاصة بها وآداب لا بد من المحافظة عليها كي تبقى للمسجد هيبته وحرمته في نفوس المسلمين لذا يمنع المسلم من فعل أمور كثيرة في المساجد مع أنه يجوز فعلها خارج المساجد وقد ثبت في الحديث عن بريدة رضي الله عنه (أن رجلاً نشد في المسجد – أي طلب ضالة له - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بُنيت له) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [في هذين الحديثين فوائد منها: النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويُلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد ... وقوله صلى الله عليه وسلم (إنما بنيت المساجد لما بُنيت له) معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها] شرح النووي عل مسلم 2/215.
وقال الإمام القرطبي بعد أن ذكر حديث بريدة السابق: [وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن. وكذا جاء مفسراً من حديث أنس قال: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه دعوه. فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر(12/104)
الله والصلاة وقراءة القرآن) ... وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت!] تفسير القرطبي 12/269.
وورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني.
وورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك بسند صحيح قاله الشيخ الألباني.
وقد همّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزير من يرفعون أصواتهم في المسجد فقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: (كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل - أي رماني بحصاة - فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ قال: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ونقل العينى عن المحب الطبري قوله: [إن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب فيقتصر على ما ورد فيه النص] عمدة القاري 6/270.(12/105)
ومن القواعد المقررة شرعاً وجوب تعظيم شعائر الله يقول الله تعالى: {ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} سورة الحج الآية 30. قال الإمام القرطبي: [ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ... فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك ... ] تفسير القرطبي 12/56. ولا شك أن المساجد داخلة في عموم شعائر الله.
إذا تقرر هذا فإنه يجب تنزيه المساجد عن إقامة الاحتفالات التي تكون مصحوبة بفرق الإنشاد والموسيقى مع ضرب الدفوف أو فرق الكشافة المصحوبة بالطبول والأجراس، لأن هذا يشكل مخالفة واضحة لمنهج الإسلام. ويحاول بعض الناس إلباس هذه المناسبات لباس الدين وليس لها أصل صحيح في دين الله عز وجل وإنما هي من المحدثات المبتدعات. وإن من الغرائب والعجائب أن نقرأ في برنامج الإعلان عن إحياء موسم النبي موسى عليه السلام الفعاليات الآتية التي ستعقد في الموسم: دبكة شعبية، فرقة موسيقية وعزف على العود مع غناء وطني، زجل شعبي، صندوق العجب، عرض دمى، ورشة رسم على الوجوه مهرجين، عزف على الآلات الشرقية ... إلخ وهذه ستعقد في المقام وهو في الأصل مسجد، إن هذه الأمور مشتملة على مخالفات شرعية بينة، وإن ألبست لباس التراث الشعبي أو لباس الوطنية أو لباس الثقافة فهذه الأمور لا تفعل في بيوت الله عز وجل،(12/106)
وقد كنت بحثت مسألة الاحتفال بموسم النبي موسى عليه السلام في كتابي (إتباع لا ابتداع ص 188- 200 حيث ذكرت الأحكام الشرعية المتعلقة بها) وبينت أن الاحتفال بموسم النبي موسى عليه السلام من البدع القديمة المتجددة وأن هذا الاحتفال في لبه ولحمته وسداه مخالف لدين الله سبحانه وتعالى ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ترتكب فيها المخالفات الشرعية الكثيرة باسم الدين وأن الإسلام بريء من هذه الاحتفالات التي تنسب إلى الدين زوراً وبهتاناً. والذي ظهر لي من خلال ما كتبه بعض المؤرخين كالدكتور كامل العسلي في كتابه (موسم النبي موسى) أنه كان موسم رقص وطرب واختلاط بين النساء والرجال بل إن النساء كن يرقصن في الحلقات أمام الرجال وأن هذا الموسم كان عليه مسحة من الصوفية المنحرفة. كما أن مقام النبي موسى المذكور ليس له صلة بنبي الله موسى عليه السلام، قال مجير الدين الحنبلي: [ومات موسى ولم يعرف أحد من بني إسرائيل أين قبره ولا أين توجه] الأنس الجليل 1/199.كما ويجب أن يعلم أنه لا علاقة لصلاح الدين الأيوبي بموسم النبي موس عليه السلام كما زعم بعض الكاتبين أن السلطان صلاح الدين الأيوبي هو أول من أنشأ موسم النبي موسى لمواجهة التجمعات الصليبية التي كانت تقام في عيد الفصح انظر المفصل في تاريخ القدس ص 176-177.
وقد قرر المحققون من المؤرخين أن موسم النبي موسى حدث بعد ذلك، يقول الدكتور كامل العسلي: [وعلى أية حال فإنه من المهم أن نؤكد أننا لم نجد في الكتب القديمة التي وضعت في العصر الأيوبي ومنها كتاب العماد الأصفهاني(12/107)
وابن واصل والبهاء بن شداد وأبي شامة المقدسي أي إشارة إلى الموسم ولا إلى علاقة صلاح الدين الأيوبي أو ورثته بالموسم كما أنه ليس في الكتب التي وضعت زمن الأيوبيين ولا في الكتب التي وضعت زمن المماليك أو العثمانيين حسب علمنا ما يشير إلى أن الاحتفال بالنبي موسى كان ذا صبغة سياسية ... إن أول إشارة لموسم النبي موسى وقعنا عليها في الكتب، وردت في "إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى" لشمس الدين السيوطي المتوفى بعد سنة 880 هـ ... وقد دون السيوطي كتابه هذا سنة 875 هـ والإشارة الثانية وجدناها في مخطوط "الدر النظيم في أخبار سيدنا موسى الكليم" لأبي البقاء نجم الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة المتوفى بعد سنة 901 هـ] موسم النبي موسى ص87-89.
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً إقامة الحفلات الموسيقية في المساجد وفي ساحاتها وكذا يحرم إقامة حفلات الرقص والطرب والدبكة فيها ويجب شرعاً منع فرق الكشافة من إقامة طقوسها في المساجد وفي ساحاتها والواجب على المسؤولين منع كل انتهاك لحرمات المساجد تحت مسمى الاحتفال بالمناسبات الدينية بغض النظر عن أهداف ومسميات تلك الاحتفالات.
- - -(12/108)
الزكاة(12/109)
أنصبة الزكاة توقيفية لا يجوز تعديلها مطلقاً
يقول السائل: ما قولكم فيمن يزعم أن أنصبة الزكاة المقدرة شرعاً إنما هي من باب السياسة الشرعية وقد وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبتها للأوضاع الاقتصادية في عهده صلى الله عليه وسلم ولا مانع من تغييرها لتتفق مع الأوضاع الاقتصادية للناس في كل عصر؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الزكاة من العبادات، والأصل في العبادات التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} سورة الشورى الآية 21] القواعد النورانية ص 112. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل(12/111)
الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} سورة الشورى الآية 21. والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا} سورة يونس الآية 59. ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لشركائنا فَمَا كَانَ لشركائهم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شركائهم سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} سورة الأنعام الآيات 136- 138، فذكر ما ابتدعوه من العبادات، ومن التحريمات.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم(12/112)
أنزِل به سلطانا) . وهذه قاعدة عظيمة نافعة ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/17.
ومن المعلوم أن تحديد أنصبة الزكاة في الأموال الزكوية ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الحديث الطويل عن أنس رضي الله عنه: (أن أبا بكر رضي الله عنه كتب لهم إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله فمن سُئِلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئل فوق ذلك فلا يعطه، فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين ... وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدةً ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة ... ) . والحديث بطوله [رواه البخاري في صحيحه مفرقاً في كتاب الزكاة فجمعته بحروفه] قاله الإمام النووي في المجموع 5/383.
وورد في الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعةً، ومن كل أربعين مسنة ... ) رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/296، وحكى الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال: لا(12/113)
خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه فيها، انظر نيل الأوطار 4/149.
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب كتاب الصدقة وفيه وفى الغنم في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها شاتان فإذا زادت على المائتين شاة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة فان كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وقال الترمذي حديث حسن، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/294.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق في التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس) رواه البخاري ومسلم، وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر أن تحديد أنصبة الزكاة توقيفية فلا يجوز لأحد تغييرها بزيادة أو نقص ولاشك أن الشارع الحكيم له حكمة في هذه التقديرات قال العلامة شاه(12/114)
ولي الله الدهلوي: [الحكمة في أنصبة الزكاة أقول: إنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق، لأنها تكفي أقل أهل بيت إلى سنة. وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث - خادم أو ولد بينهما - وما يضاهي ذلك من أقل البيوت. وغالب قوت الإنسان رطل أو مُدٌّ من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم. وإنما قدّر من الورق خمس أواق، لأنها مقدار يكفي أقل أهل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار. واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء تجد ذلك. وإنما قدّر من الإبل خمس ذود، وجعل زكاته شاة، وإن كان الأصل ألا تؤخذ الزكاة إلا من جنس المال، وأن يجعل النصاب عدداً له بال؛ لأن الإبل أعظم المواشي جثة، وأكثرها فائدة: يمكن أن تُذبح، وتُركب، وتُحلب، ويُطلب منها النسل، ويُستدفأ بأوبارها وجلودها. وكان بعضهم يقتني نجائب قليلة تكفي كفاية الصرمة – مجموعة من الإبل - وكان البعير يسوَّى في ذلك الزمان بعشر شياه، وبثمان شياه، واثنتي عشرة شاة، كما ورد في كثير من الأحاديث فجعل خمس ذود في حكم أدنى نصاب من الغنم، وجعل فيها شاة] حجة الله البالغة 2/76.
وخلاصة الأمر أن تحديد أنصبة الزكاة توقيفي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لأحد مهما كان حاكماً أو محكوماً أن يغيره بزيادة أو نقص.
- - -(12/115)
تجب الزكاة في مال اليتيم
يقول السائل: إنه وصي على يتيم وقد ورث عن أبيه مبلغاً كبيراً من المال فهل تجب الزكاة في مال هذا اليتيم، أفيدونا؟
الجواب: الزكاة حق من حقوق المال، فتجب في كل مال تحققت فيه شروط الوجوب، بغض النظر عن مالك المال، فلا ينظر فيها إلى المالك فتجب الزكاة في مال البالغ وغير البالغ، وتجب في مال العاقل وغير العاقل على الراجح من أقوال أهل العلم، ويدل على ذلك عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} سورة التوبة الآية 103، ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) رواه البخاري ومسلم، وصح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: (والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال) رواه البخاري ومسلم.
والقول بوجوب الزكاة في مال الصبي يتيماً كان أو غير يتيم، قال به جمهور الفقهاء، وحكى ابن المنذر وجوبها في مال الصبي عن عمر ابن الخطاب(12/116)
وعلي وابن عمر وجابر والحسن بن علي وعائشة وطاووس وعطاء وجابر بن زيد ومجاهد وابن سيرين وربيعة ومالك والثوري والحسن بن صالح وابن عيينة وعبيد الله بن الحسن وأحمد واسحق وأبي عبيد وأبي ثور وسليمان بن حرب رضي الله عنهم، انظر المجموع 5/331.
وقال الإمام النووي: [الزكاة عندنا واجبة في مال الصبي والمجنون بلا خلاف، ويجب على الولي إخراجها من مالهما كما يخرج من مالهما غرامة المتلفات، ونفقة الأقارب وغير ذلك من الحقوق المتوجهة إليهما، فإن لم يخرج الولي الزكاة، وجب على الصبي والمجنون بعد البلوغ والإفاقة إخراج زكاة ما مضى، لأن الحق توجه إلى مالهما، لكن الولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما] المجموع 5/330.
ومما يدل على وجوب الزكاة في مال اليتيم ما روي في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: (ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) رواه الترمذي وقال: إنما روي هذا الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال لأن المثنى بن الصباح يضعف في الحديث، وروى بعضهم هذا الحديث عن عمرو بن شعيب أن عمر بن الخطاب فذكر هذا الحديث، وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب فرأى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مال اليتيم زكاة، منهم عمر وعلي وعائشة وابن عمر وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحق ... ] سنن الترمذي 3/32-33. ويؤيده ما رواه الشافعي بسنده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(12/117)
قال: (ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى لا تذهبها ولا تستهلكها الصدقة) رواه الشافعي في الأم، والبيهقي في السنن الكبرى، وقال البيهقي: وهذا مرسل إلا أن الشافعي رحمه الله أكده بالاستدلال بالخبر الأول وبما روي عن الصحابة رضي الله عنهم. سنن البيهقي 4/ 107.
وقال الإمام النووي: [وقد أكد الشافعي رحمه الله هذا المرسل بعموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً، وبما رواه عن الصحابة في ذلك ورواه البيهقى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً عليه وقال إسناده صحيح ورواه أيضاً عن علي بن مطرف وروى إيجاب الزكاة في مال اليتيم عن ابن عمر والحسن بن علي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم] المجموع 5/329.
ويؤيد ذلك أيضاً ما رواه البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) . وقال البيهقي هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر رضي الله عنه. وقال مالك في الموطأ أنه بلغه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) . وما رواه البيهقي بسنده أن عمر بن الخطاب قال لرجل إن عندنا مال يتيم قد أسرعت فيه الزكاة فدفعه إليه ليتجر فيه له.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وروى البيهقي من حديث سعيد بن المسيب، عن عمر موقوفاً عليه مثله، وقال: إسناده صحيح. وروى الشافعي عن ابن عيينة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً أيضاً. وروى البيهقي من طريق شعبة، عن حميد بن هلال: سمعت أبا محجن أو ابن(12/118)
محجن وكان خادماً لعثمان بن أبي العاص، قال: قدم عثمان بن أبي العاص على عمر رضي الله عنه، فقال له عمر: كيف متجر أرضك؟ فإن عندي مال يتيم قد كادت الزكاة أن تفنيه. قال: فدفعه إليه. وروى أحمد بن حنبل من طريق معاوية بن قرة، عن الحكم بن أبي العاص، عن عمر نحوه، ورواه الشافعي عن ابن عيينة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً أيضاً. وروى مالك في الموطأ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تليني وأخاً لي يتيماً في حجرها، وكانت تخرج من أموالنا الزكاة. وروى الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر ذلك، من طرق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو مشهور عنه] التلخيص الحبير 2/158-159.
والقول بوجوب الزكاة في مال اليتيم هو المعروف عن الصحابة رضوان الله عليهم، قال العلامة المباركفوري: [لم يثبت عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم بسند صحيح عدم القول بوجوب الزكاة في مال الصبي] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي3/239.
وخلاصة الأمر أن الزكاة تجب في مال اليتيم إذا تحققت فيه شروط الوجوب وأن الأحاديث الخاصة الواردة في ذلك، وإن كانت متكلماً فيها فإن عموم أدلة وجوب الزكاة تؤيدها، ويؤيدها أيضاً ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم كما سبق، وبناءً عليه فيجب على ولي اليتيم إخراج الزكاة عن مال اليتيم، ويعتبر الحول في أمواله من حين وفاة والده، لأنها بموت والده دخلت في ملك اليتيم.(12/119)
كيف يزكي المزارع ثمن المحصول إذا باعه
بعد أن وجبت فيه الزكاة؟
يقول السائل: إنه مزارع ولديه محصول من القمح وقد باع المحصول بمبلغ من المال ويريد أن يخرج الزكاة فهل يزكي ثمن المحصول زكاة المال، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجت الأرض مما يقصد بزراعته نماء الأرض عادة مثل القمح والشعير والعنب والتين والزيتون والورود والرياحين والزعتر والأعشاب الطبية التي يستنبتها الإنسان بقصد تنمية الأرض واستغلالها وهذا قول الإمام أبي حنيفة في زكاة المزروعات وهو أقوى المذاهب الفقهية في هذه المسألة، ولم يحصر الزكاة في الأقوات الأربعة التي كانت معروفة قديماً وهي القمح والشعير والتمر والزبيب ولم يحصرها في ما يقتات ويدخر كما هو قول المالكية والشافعية ولم يحصرها في ما ييبس ويبقى ويكال كما هو قول الحنابلة. وقول أبي حنيفة رحمه الله أهدى سبيلاً وأصح دليلاً واعتمد في ذلك على عموم قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} سورة البقرة الآية 267، وعلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ(12/120)
إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام الآية 141. والمراد بالحق في الآية الزكاة المفروضة كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين. واحتج أبو حنيفة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) رواه مسلم. قال الإمام ابن العربي المالكي ناصراً قول أبي حنيفة في المسألة: [وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق وقال: إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتاً كان أو غيره وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم: (فيما سقت السماء العشر) ] أحكام القرآن لابن العربي 2/759.
وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة في القليل والكثير من المزروعات والثمار والخضراوات ولم يشترط النصاب مستدلاً بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) رواه مسلم، وقول أبي حنيفة في عدم اشتراط النصاب مرجوح والراجح مذهب جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بأنه لا زكاة إلا إذا بلغ المحصول النصاب وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عن قول الجمهور: [هذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وجابر، وأبو أمامة بن سهل وعمر بن?عبد العزيز وجابر بن زيد، والحسن وعطاء ومكحول والحكم والنخعي ومالك، وأهل?المدينة والثوري والأوزاعي، وابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف، ومحمد وسائر(12/121)
أهل?العلم لا نعلم أحداً خالفهم إلا مجاهدا ً وأبا حنيفة ومن تابعه، قالوا: تجب الزكاة?في قليل ذلك وكثيره لعموم قوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) ولأنه?لا يعتبر له حول فلا يعتبر له نصاب، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ? (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) متفق عليه، وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما?رووه به كما خصصنا قوله: (في سائمة الإبل الزكاة) بقوله: (ليس فيما دون?خمس ذود صدقة) وقوله: (في الرقة ربع العشر) بقوله: (ليس فيما دون خمس?أواق صدقة) ولأنه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره كسائر الأموال الزكائية?وإنما لم يعتبر الحول لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه واعتبر الحول في غيره?لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصاب اعتبر ليبلغ حداً يحتمل المواساة?منه فلهذا اعتبر فيه، يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، بما قد ذكرنا فيما?تقدم ولا يحصل الغنى بدون النصاب كسائر الأموال الزكائية] المغني 3/7.
إذا ثبت هذا فإن الواجب إخراج زكاة الزروع والثمار عند الحصاد أو القطاف لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام/141. ولا تجب الزكاة إلا إذا بلغ المحصول نصاباً كما سبق بيانه، والخمسة أوسق المذكورة في الحديث تساوي في وقتنا الحاضر 653 كيلو غرام تقريباً، فإذا بلغ المحصول نصاباً فتجب فيه الزكاة ومقدار الواجب يكون 10% من الإنتاج إذا كانت المزروعات تسقى بماء المطر أو مياه العيون بدون كلفة يتحملها المزارع أو 5%(12/122)
إذا كانت المزروعات تسقى بجهد من المزارع كمن يشتري المياه أو نحو ذلك أو 7. 5% إذا كانت المزروعات تسقى بالطريقتين السابقتين معاً.
إذا تقرر هذا فإن الأصل في زكاة المزروعات أن تخرج الزكاة من نفس المال، وبما أن السائل قد باع المحصول فإنه يخرج الزكاة من الثمن الذي قبضه والواجب عليه أن يزكي زكاة الزروع والثمار لا زكاة النقد فيخرج عشر الثمن إذا كان محصوله قد سقي بماء المطر وأما إذا سقي بكلفة فالواجب نصف العشر كما سبق. والقول بإخراج النقد بناءً على أنه يجوز إخراج القيمة في الزكاة كما هو مذهب الحنفية والشافعية في وجه والإمام أحمد في رواية عنه في غير زكاة الفطر، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وقد روى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفطرة وقال أبو داود: سئل أحمد، عن رجل باع ثمرة نخله قال: عشره على الذي باعه، قيل له: فيخرج ثمراً أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمراً وإن شاء أخرج من الثمن وهذا دليل على جواز إخراج القيم ووجهه قول معاذ لأهل اليمن: ائتوني بخميص أو لبيس آخذه منكم، فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة، وقال سعيد: حدثنا سفيان عن عمرو وعن طاوس، قال لما قدم معاذ اليمن قال: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين، بالمدينة قال: وحدثنا جرير عن ليث عن عطاء، قال كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم ولأن المقصود دفع الحاجة ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر المالية باختلاف صور الأموال] المغني 3/87. والقول بإخراج القيمة هو الذي اختاره الإمام البخاري حيث قال في صحيحه: "باب من باع ثماره أو(12/123)
نخله أو أرضه أو زرعه وقد وجب فيه العشر أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره".
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وأما قوله "فأدى الزكاة من غيره" فلأنه إذا باع بعد وجوب الزكاة فقد فعل أمراً جائزاً كما تقدم فتعلقت الزكاة بذمته فله أن يعطيها من غيره أو يخرج قيمتها على رأي من يجيزه وهو اختيار البخاري كما سبق] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/442-443.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية القول بإخراج القيمة لمصلحة راجحة حيث قال: [وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به، مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فههنا إخراج عشر الدراهم يجزئه، ولا يكلف أن يشتري ثمراً أو حنطة، إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك. ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كافٍ، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/82-83.
وخلاصة الأمر أنه يجب على من باع محصوله الزراعي بالنقد أن يؤدي زكاة المزروعات فيه، وليس زكاة النقد، فيجب على هذا المزارع أن يخرج عشر ثمن المحصول الذي باعه إذا كان محصوله بعلياً، أي يروى بالمطر، وأما إذا كان يسقيه بشراء الماء، فإنه يخرج نصف عشر ثمن المحصول الذي باعه.
- - -(12/124)
زكاة مزارع الدجاج اللاحم
يقول السائل: عندي مزرعة للدجاج اللاحم وعند انتهاء دورة تربية الدجاج أقوم ببيعه ويتكرر ذلك في كل سنة عدة مرات فكيف أزكي هذه المزرعة؟ وهل يجوز أن أعطي الفقراء دجاجاً على حساب الزكاة، أفيدونا؟
الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على أن الزكاة واجبة في كل ما يعده المسلم للبيع لعموم الأدلة التي أوجبت الزكاة في الأموال ومزارع الدجاج اللاحم داخلة في هذا العموم ومن هذه النصوص قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة التوبة الآية 103. وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} سورة الذاريات الآية 19، وقوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} سورة البقرة الآية267.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب رضي الله عنه?قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يعد للبيع) رواه أبو داود والدارقطني واختلف في سنده وحسنه الحافظ ابن عبد البر.
وعن أبي ذر رضي الله عنه?أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الإبل صدقتها وفى البقر صدقتها وفى البز صدقته) .(12/125)
قال الإمام النووي: [هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم] المجموع 6/47. والبز المذكور في الحديث هو الثياب ومنه البزاز لمن يعمل في تجارة الثياب. انظر المصباح المنير ص 47-48.
وقال الإمام النووي: [والصواب الجزم بالوجوب –أي وجوب الزكاة في عروض التجارة- وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة قال رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري وطاووس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان – أبو حنيفة - وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد ... ] المجموع 6/47
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول: روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي سنن أبي داود (عن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه(12/126)
وسلم??يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع) . وروى عن حماس قال: مرَّ بي عمر فقال: أدِّ زكاة مالك، فقلت: مالي إلا جِعاب وأُدُم فقال قومها ثم أد زكاتها. واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/15. والجعاب جمع جعبة وهي وعاء توضع فيه السهام. انظر المصباح المنير ص 102، والأُدُم جمع أديم وهو الجلد المدبوغ، انظر المصباح المنير ص 9.
ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِّي قال: (كنت على بيت المال زمان عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها غائبها وشاهدها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد) رواه ابن أبي شيبة في المصنف وأبو عبيد في كتاب الأموال، ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: (لا بأس بالتربص حتى المبيع والزكاة واجبة فيه) ، وصح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ليس في العروض زكاة إلا أن تكون لتجارة) رواه الشافعي في الأم وابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في السنن الكبرى.
إذا تقرر هذا فإن الزكاة واجبة في مزرعة الدجاج اللاحم ففي نهاية العام يقوم المالك بتقييم الدجاج الموجود لديه وتحسب الإيرادات من المبيعات خلال السنة كلها، ثم يخصم من المجموع نفقات تشغيل المزرعة كأجور العمال وثمن العلف والمعدات وأجور النقل وكذا الديون ثم يزكى الباقي إذا بلغ النصاب وتكون نسبة الزكاة 2.5% كزكاة بقية عروض التجارة.(12/127)
ويجوز أن تخرج زكاة عروض التجارة من أعيانها فيجوز لتاجر المواد الغذائية أن يخرج زكاته من المواد التي يتاجر فيها كالأرز والسكر والطحين ونحوها، ولكن لا بد من مراعاة مصلحة الفقير في ذلك فيعطيه من المواد الأساسية التي يحتاجها الفقير وليس من الكماليات، وكذا لابد أن يكون تقدير قيمة تلك الأعيان لمصلحة الفقير أيضاً، وكذلك لابد أن يعطي المزكي الطيب من الأعيان ولا يعطي المعيب أو التالف لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} سورة البقرة الآية 267. والقول بجواز إخراج الأعيان في الزكاة قال به أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وهو قول المزني، انظر المجموع للنووي 6/68، وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية إذا كانت هنالك مصلحة راجحة فقد سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنِ تيمية [عَنْ تَاجِرٍ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ... ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ أَجْزَأَ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ: هَلْ يَجُوزُ مُطْلَقًا؟ أَوْ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؟ أَوْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. فَإِنْ كَانَ آخِذُ الزَّكَاةِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كُسْوَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ لَهُ بِهَا كُسْوَةً وَأَعْطَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/79-80.(12/128)
وينبغي التنبيه أن هنالك عروضاً تجاريةً لا يصلح إخراج أعيانها في الزكاة لعدم حاجة الفقير إليها والواجب فيها إخراج المال أي القيمة.
وخلاصة الأمر أن الزكاة واجبة في مزرعة الدجاج اللاحم وتعامل معاملة عروض التجارة، ويجوز إخراج الدجاج اللاحم كزكاة إذا كان هنالك مصلحة راجحة للفقير.
- - -
زكاة المال المستفاد
يقول السائل: إن والده قد توفي وبعد توزيع الميراث كان نصيبه مبلغاً كبيراً من المال فهل تجب الزكاة في هذا المبلغ حالاً أم أنه يزكيه مع أمواله الأخرى في وقت زكاتها وهو شهر رمضان القادم، أفيدونا؟
الجواب: هذه المسألة تسمى عند الفقهاء مسألة زكاة المال المستفاد، وهو المال الذي يملكه المكلف بالزكاة أثناء الحول، وهو على نوعين: الأول هو ربح مالٍ أصله عند المكلف كمن عنده مال تتحقق فيه شروط الزكاة وتاجر به فربح عشرة آلاف دينار، فهذا لا خلاف بين أهل العلم أن زكاته عند زكاة أصله. والنوع الثاني من المال المستفاد هو ما ملكه المكلف بالزكاة أثناء الحول وليس ناتجاً عن مال لديه، كما ذكر السائل أنه ورث مبلغاً كبيراً من المال من أبيه، ومثل ذلك من حصل على جائزة مالية أو هبة وكذا مكافأة نهاية الخدمة أو ما توفر من راتبه عند مشغله ونحو ذلك، وهذا النوع من المال(12/129)
المستفاد وقع فيه خلاف بين الفقهاء، فبعضهم أوجب فيه الزكاة عند قبضه وبدون اشتراط حولان الحول عليه، وأما جمهور الفقهاء فيرون أنه لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول وهذا القول هو الراجح والذي تؤيده الأدلة القوية، قال ابن رشد القرطبي المالكي: [وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم ولانتشار العمل به ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعاً من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت] بداية المجتهد 5/78-79.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وأما الذهب والوَرِق –الفضة- فلا تجب الزكاة في شيء منها إلا بعد تمام الحول أيضاً وعلى هذا جمهور العلماء والخلاف فيه شذوذ ولا أعلمه إلا شيء روي عن ابن عباس ومعاوية أنهما قالا: من ملك النصاب من الذهب والوَرِق وجبت عليه الزكاة في الوقت. وهذا قول لم يعرج عليه أحدٌ من العلماء ولا قال به أحدٌ من أئمة الصحابة ولا قال به أحدٌ من أئمة الفتوى إلا رواية عن الأوزاعي ... ] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 5/20.(12/130)
وذكر الحافظ ابن عبد البر أيضاً: [أن القول باشتراط الحول في الزكاة عليه جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً لا يختلفون فيه أنه لا يجب في مال من العين ولا في ماشية زكاة حتى يحول عليه الحول إلا ما روي عن ابن عباس وعن معاوية أيضاً ... ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بقول معاوية وابن عباس في اطراح مرور الحول إلا مسألة جاءت عن الأوزاعي ... وعقب الحافظ ابن عبد البر بقوله: [هذا قول ضعيف متناقض] انظر الاستذكار 9/32-33. والقول باشتراط الحول في الزكاة قال به الأئمة الأربعة وثبت ذلك عن الخلفاء الأربعة وهو قول مشهور بين الصحابة وعملوا به وهذا الانتشار لا يجوز إلا أن يكون عن توقيف كما قال العلامة ابن رشد، بداية المجتهد 5/78. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام مؤيداً اشتراط الحول: [فقد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا] كتاب الأموال ص 505. وحديث ابن عمر رضي الله عنه الذي ذكره ابن رشد وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي والدارقطني وغيرهم. وقد ورد بهذا اللفظ ونحوه عن جماعة من الصحابة، وهذه الأحاديث فيها كلام طويل لأهل الحديث لا يتسع المقام لإيراده والصحيح أنها تصلح للاستدلال بمجموع طرقها بل إن بعض طرقها صحيح أو حسن. قال الشيخ أحمد الغماري بعد أن تكلم على أسانيد هذه الأحاديث: [ ... إلا أن مجموع هذه الأحاديث مع حديث علي الذي هو حسن يصل إلى درجة المعمول به لا سيما مع تواتر ذلك عن الصحابة كما قال أبو عبيد في الأموال: قد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله(12/131)
صلى الله عليه وسلم بهذا ثم أسند ذلك عن علي وابن عمر وأبي بكر وعثمان وابن مسعود وطارق بن شهاب وفي مصنف ابن أبي شيبة زيادة أبي بكرة وعائشة وبعض ذلك في الموطأ كأثر ابن عمر وعثمان] الهداية في تخريج أحاديث البداية 5/84-86. وحديث علي رضي الله عنه الذي أشار إليه الشيخ الغماري هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا من الرقة ربع العشر من كل مئتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين ديناراً نصف دينار وليس في مئتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول ففيها خمسة دراهم ... الخ) رواه أبو داود والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/296. وكذلك فإن الشيخ الألباني صحح حديث ابن عمر المذكور بمجوع طرقه وذكر أن حديث علي رضي الله عنه السابق يقويه فقال: [ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى بسند صحيح عن علي رضي الله عنه خرجته في صحيح أبي داود فصح الحديث والحمد لله] إرواء الغليل 3/258.
وقال الإمام الزيلعي عن حديث علي المذكور: [ ... فالحديث حسن ... قال النووي رحمه الله في الخلاصة وهو حديث صحيح أو حسن] نصب الراية 2/328.
وقال الحافظ ابن حجر: [ ... حديث علي لا بأس بإسناده والآثار تعضده فيصلح للحجة والله أعلم] التلخيص الحبير 2/156. وقال الحافظ أيضاً: إنه حديث حسن. بلوغ المرام ص 121. كما أن الحافظ العراقي قد جوَّد إسناد(12/132)
حديث علي رضي الله عنه كما في إتحاف السادة المتقين 4/16. وقال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في اشتراط الحول: [ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة في اعتبار الحول] السيل الجرار 2/13. والمسألة فيها كلام طويل للعلماء المتقدمين والمعاصرين لا يتسع له المقام، ولكن أكثر المجامع العلمية المعاصرة اختارت قول الجمهور واختار الشيخ القرضاوي الرأي الآخر وهو ضعيف كما ذكرت.
إذا تقرر أن الراجح أنه لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه الحول، فهنالك طريقتان في ذلك: الأولى أن صاحبه يستقبل به الحول ولا يضيفه إلى أمواله الأخرى فإذا حال عليه الحول زكَّاه، وأما الطريقة الثانية فهي أن يضيف المال المستفاد إلى بقية أمواله فيزكيه معها وإن لم يحل الحول على المال المستفاد، وهذه الطريقة فيها تسامح من المالك لأنه يغلب حق الفقير كما أنها أسهل في الحساب. وهذه الطريقة أحسن وأولى.
وخلاصة الأمر أن المال المستفاد لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، فهذا المال الذي ورثه السائل عن أبيه يضيفه إلى أمواله الأخرى فيزكي الجميع عند حلول الحول وهو شهر رمضان القادم، وإن لم يكن عنده مال سواه، استقبل به الحول ويزكيه عند تمام الحول.
- - -(12/133)
يجوز قضاء دين الأقارب من مال الزكاة
يقول السائل: إن ابنه يعمل مدرساً وراتبه قليل، وقد بنى بيتاً وتزوج وتحمل ديوناً كثيرة، فهل يجوز له أن يقضي ديون ابنه من مال الزكاة، أفيدونا؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة الآية 60. وقد قرر أهل العلم أنه يجوز إعطاء الأقارب من الزكاة إن لم تكن نفقة القريب واجبة على المزكي بل إن إعطاء الزكاة للقريب مقدم على إعطائها لغير القريب، لما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه ابن ماجة والحاكم وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/387.
قال المباركفوري: [قوله: (الصدقة على المسكين) أي صدقة واحدة (وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) يعني أن الصدقة على الأقارب أفضل لأنه خيران ولا شك أنهما أفضل من واحد] تحفة الأحوذي 3/261.(12/134)
وبناءً على ذلك يجوز إعطاء الزكاة للأقارب كالعم والخال والعمة والخالة والأخت المتزوجة والأخ وابن الأخ وابن الأخت ونحوهم إن كانوا فقراء، ولم يكن المزكي ملزماً بالإنفاق عليهم، جاء في الفتاوى الهندية: [والأفضل في الزكاة والفطر والنذور الصرف أولاً إلى الأخوة والأخوات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى الأعمام والعمات، ثم إلى أولادهم ثم إلى الأخوال والخالات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى ذوي الأرحام ثم إلى الجيران ثم إلى أهل حرفته ثم إلى أهل مصره أو قريته] الفتاوى الهندية 1/190.
إذا تقرر هذا فيجوز قضاء ديون الأقارب من مال الزكاة، حتى وإن وجبت نفقتهم على المزكي فيجوز قضاء دين الأب ودين الأم ودين الابن ودين البنت وغيرهم من الأقارب، بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة على المزكي، لأن ديون الأقارب بما فيها ديون الوالدين والأولاد لا يجب شرعاً على المرء أن يؤديها عنهم، فيجوز قضاء الدين عنهم من الزكاة لأنهم يعتبرون هنا في هذه الحالة من الغارمين فهم يستحقون الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه. قال الإمام النووي: [قال أصحابنا ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة، إذا كان بهذه الصفة ... ] المجموع 6/229.
ويدل على ذلك عموم قوله تعالى في آية مصارف الزكاة {وَالْغَارِمِينَ} فهؤلاء الأقارب المدينين داخلون في عموم الغارمين، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة(12/135)
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) صحيح مسلم 3/109 - 110.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ويجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء، وهو عاجز عن نفقتهم لوجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وكذا إن كانوا غارمين أو مكاتبين أو أبناء السبيل وهو أحد القولين أيضاً في مذهب أحمد] الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: [الذين يأخذون الزكاة صنفان: صنف يأخذ لحاجته كالفقير والغارم لمصلحة نفسه.
وصنف يأخذها لحاجة المسلمين: كالمجاهد والغارم في إصلاح ذات البين فهؤلاء يجوز دفعها إليهم وإن كانوا من أقاربه.
وأما دفعها إلى الوالدين: إذا كانوا غارمين أو مكاتبين: ففيها وجهان، والأظهر جواز ذلك. وأما إن كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم فالأقوى جواز(12/136)
دفعها إليهم في هذه الحال; لأن المقتضي موجود والمانع مفقود فوجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/90.
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز: [دفع الزكاة إلى الأقارب الذين هم من أهلها أفضل من دفعها إلى من هم ليسوا من قرابتك، لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة، إلا إذا كان هؤلاء الأقارب ممن تلزمك نفقتهم، وأعطيتهم من الزكاة ما تحمي به مالك من الإنفاق فإن هذا لا يجوز، فإذا قُدِّرَ أن هؤلاء الإخوة الذين ذكرت والأخوات فقراء، وأن مالك لا يتسع للإنفاق عليهم فلا حرج عليك أن تعطيهم من زكاتك، وكذلك لو كان هؤلاء الإخوة والأخوات عليهم ديون للناس وقضيت دينهم من زكاتك، فإنه لا حرج عليك في هذا أيضاً، وذلك لأن الديون لا يلزم القريب أن يقضيها عن قريبه، فيكون قضاؤها من زكاته أمرا مجزياً، حتى ولو كان ابنك أو أباك وعليه دين لأحدٍ ولا يستطيع وفاءه فإنه يجوز لك أن تقضيه من زكاتك، أي: يجوز أن تقضي دين أبيك من زكاتك، ويجوز أن تقضي دين ولدك من زكاتك، بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة عليك، فإن كان سببه تحصيل نفقة واجبة عليك فإنه لا يحل لك أن تقضي الدين من زكاتك؛ لئلا يتخذ ذلك حيلة على منع الإنفاق على من تجب نفقتهم عليه لأجل أن يستدين ثم يقضي ديونهم من زكاته] مجموع فتاوى عبد العزيز بن باز 14/310.
وقال الشيخ العلامة محمد صالح العثيمين [كل من تلزمه نفقته فإنه لا يجوز أن يدفع زكاته إليهم من أجل النفقة، أما لو كان في قضاء دين فلا بأس،(12/137)
فإذا فرضنا أن الوالد عليه دين، وأراد الابن أن يقضي دينه من زكاته وهو لا يستطيع قضاءه فلا حرج، وكذلك الأم وكذلك الابن، أما إذا كنت تعطيه من زكاتك من أجل النفقة فهذا لا يجوز، لأنك بهذا توفر مالك، والنفقة تجب للوالدين: الأم والأب، وللأبناء والبنات، ولكل من ترثه أنت لو مات، أي: كل من ترثه لو مات فعليك نفقته، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} فأوجب الله على الوارث أجرة الرضاع؛ لأن الرضاع بمنزلة النفقة] مجموع فتاوى العثيمين 18/416.
وقال الشيخ القرضاوي: [أما القريب الوثيق القرابة كالوالدين والأولاد والإخوة والأخوات والأعمام والعمات ... إلخ. ففي جواز إعطائهم من الزكاة تفصيل: فإذا كان القريب يستحق الزكاة لأنه من العاملين عليها أو في الرقاب أو الغارمين أو في سبيل الله، فلقريبه أن يعطيه من زكاته ولا حرج؛ لأنه يستحق الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه، ولا يجب على القريب - باسم القرابة - أن يؤدي عنه غُرمه، أو يتحمل عنه نفقة غزوه في سبيل الله، وما شابه ذلك] فقه الزكاة للقرضاوي 2/716.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للأب أن يسدد ديون ابنه من مال الزكاة.
- - -(12/138)
وجوب زكاة الفطر في حق من لم يصم رمضان
يقول السائل: إن والده كبير في السن وعاجز عن الصيام ولم يصم في رمضان الحالي فهل تجب زكاة الفطر عليه أفيدونا؟
الجواب: زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد ثبتت بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغيرٍ وكبير حرٍ أو مملوكٍ صاعاً من طعام أو صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجاً أو معتمراً فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت) رواه مسلم.(12/139)
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فجاج مكة (ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب. وغير ذلك من الأحاديث.
وزكاة الفطر هي زكاة الأبدان بخلاف زكاة الأموال وقد ذكر أهل العلم أن الحكمة من مشروعية زكاة الفطر هي المشار إليها في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وحسَّنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 1420.
ومما ذكره بعض أهل العلم من الحِكَمِ أن زكاة الفطر تطهير وتنقية للصائم مما اقترفه في صيامه من اللغو: وهو الكلام الباطل الذي لا فائدة فيه، أو الرفث: وهو ما قبح وساء من الكلام. قال وكيع بن الجراح: زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة، وقال الشيخ ولي الله الدهلوي [وإنما وقتت بعيد الفطر لمعانٍ: منها أنها تكمل كونه من شعائر الله، وأن فيها طهرة للصائمين وتكميلاً لصومهم بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة] حجة الله البالغة 2/79. وكذلك فإنها من شكر الله عز وجل على إتمام الشهر، ونعمة إكمال الصيام. وكذلك ما فيها من إشاعة المحبة، وبث السرور بين الناس، وخاصة المساكين، فالعيد يوم فرح وسرور، فاقتضت حكمة الشارع أن يفرض(12/140)
للمسكين في يوم العيد ما يعفّه عن السؤال، ويغنيه عن الحاجة، وقد روي في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكن يقويه حديث ابن عباس السابق كما قال العلامة العثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/181.
إذا تقرر هذا فإن شرط وجوب زكاة الفطر أمران: أولهما الإسلام وثانيهما أن يكون عند المسلم ليلة العيد ما يزيد عن قوته وقوت عياله، ولذا لا يشترط لوجوبها ملك النصاب على قول جمهور العلماء. وبناءً على ذلك تجب زكاة الفطر على كل مسلم حضر رمضان صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً أو مريضاً، مقيماً أو مسافراً، صام أم لم يصم، ومما يدل على ذلك أن النصوص التي أوجبت زكاة الفطر جاءت عامة مطلقة وورد فيها الأنثى ومن المعلوم أن من الإناث من لا تصوم كل رمضان إما للحيض وإما للنفاس وإما أن تكون حاملاً أو مرضعاً، وورد فيها الصغير والكبير، والصغير لفظ عام يشمل كل صغير حتى الرضيع ومن المعلوم أن الصيام ليس بواجب على الصغار وإن صاموا قبل منهم، وكذلك الكبير فمن المعلوم أن من الكبار من لا يطيق الصيام بسبب الهرم كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184. وكذلك فقد يكون من الكبار من هو مريض أو مسافر(12/141)
لا يلزمه الصوم كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 184.
ومما يؤيد ذلك: [أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يُخرجوا زكاة الفطر، ولم يفصِّل، حيث لم يقل: (من أفطر شيئاً من رمضان فلا زكاة عليه) ، ولم يقل: (من كان شيخاً كبيراً فأفطر فلا زكاة عليه) ، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه] موقع الشيخ الشنقيطي، شبكة الإنترنت.
ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي (أنه كان يقول صدقة الفطر عمن صام من الأحرار وعن الرقيق من صام منهم ومن لم يصم، نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير) . وروى أيضاً عن الحسن البصري (أنه قال مثل قول الشعبي فيمن لم يصم من الأحرار) المصنف 3/171.
ومما يؤيد ذلك أيضاً ما قاله بعض أهل العلم في تسمية زكاة الفطر بهذا الاسم كأنها من الفطرة التي هي الخلقة، فوجوبها عليها تزكية للنفس، وتنقية لعملها فيدخل في ذلك من صام ومن لم يصم. انظر فقه الزكاة 2/917.
وأما ما نقل عن بعض الفقهاء من أن زكاة الفطر واجبة على من صام رمضان فقط لأنه ورد في الحديث: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين) ، فقد أجاب عن ذلك الإمام النووي بقوله [وتعلق من لم يوجبها أنها تطهير والصبي ليس محتاجاً(12/142)
إلى التطهير لعدم الإثم، وأجاب الجمهور عن هذا بأن التعليل بالتطهير لغالب الناس، ولا يمتنع ألا يوجد التطهير من الذنب، كما أنها تجب على من لا ذنب له، كصالح محقق الصلاح، وككافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، فإنها تجب عليه مع عدم الإثم] شرح النووي على صحيح مسلم 3/50.
وأجاب الشيخ الشنقيطي أيضاً بقوله: [والصحيح: ما نص عليه الجماهير من أنها شرعت طعمةً للمساكين وغناءً لهم يوم العيد، وعلى هذا كونها تطهِّر الصائم من اللغو والرفث مشترك مع غيره من العلة الموجودة، ويجوز تعليل الحكم بعلتين على أصح أقوال الأصوليين، وحينئذٍ يستقيم أن يخاطب بها إعمالاً للأصل؛ لأنه أفطر من رمضان، والمراد أنه دخلت عليه ليلة العيد وهي ليلة الفطر من رمضان. ألا ترى أنهم نصوا على أنه لو أسلم الكافر قبل مغيب الشمس ولو بلحظة أنه تجب عليه زكاة الفطر مع أنه لم يصم، وبناءً على ذلك لا يشترط أن يكون قد صام، بل زكاة الفطر واجبة على من صام أو أفطر بعذر] موقع الشيخ الشنقيطي، شبكة الإنترنت.
[وقد سئل الشيخ العلامة العثيمين عمن تجب عليه زكاة الفطر؟ فأجاب فضيلته بقوله: تجب على كل إنسان من المسلمين ذكراً كان أو أنثى، صغيراً كان أم كبيراً، سواء كان صائماً أم لم يصم، كما لو كان مسافراً ولم يصم فإن صدقة الفطر تلزمه] شبكة الإنترنت.(12/143)
وخلاصة الأمر أن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم شهد رمضان صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً أو مريضاً، مقيماً أو مسافراً، صام أم لم يصم.
- - -(12/144)
الصيام(12/145)
المفطرات العصرية
يقول السائل: نسمع من المشايخ على الفضائيات وفي المساجد أموراً متضاربة في مفطرات الصائم وخاصة ما يتعلق بالأشياء العصرية مثل بخاخ الربو والتحاميل واستعمال المنظار الطبي ونحوها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الاختلاف الفقهي في الفروع إن صدر عن أهل العلم وكان معتمداً على استدلالات صحيحة خلاف معتبر وسبب الخلافات في هذه الأمور التي اعتبرها بعض العلماء مفطرة للصائم وبعضهم يرى أنه غير مفطرة يرجع إلى تحديد معنى الجوف فمنهم يعتبر أن الجوف هو التجويف البطني فجعلوا الداخل إليه من أي منفذ مفطراً لكونه موصلاً إلى الجوف وتوسع الشافعية في مدلول الجوف فقالوا: [كل مجوف في بدن الإنسان فهو جوف كباطن الإذن وداخل العين وباطن الرأس وباطن الدبر والقبل فعندهم يفطر الصائم بكل ما دخل من هذه المنافذ حتى قالوا يفطر الصائم بما وصل من عينه عمداً إلى مطلق الجوف من منفذ مفتوح والتقطير في باطن الأذن مفطر والحقنة من الدبر والتقطير في باطن الإحليل وإدخال عود أو نحوه فيه مفطر ودخول طرف الأصبع في الدبر حالة الاستنجاء فيفطر به] تحفة الحبيب على شرح الخطيب بتصرف، وقالوا أيضاً: [لو طعن نفسه أو طعنه غيره فوصل السكين جوفه أفطر] حاشيتا قليوبي وعميرة، وقالوا أيضاً: [لو كان برأسه جرحاً فوضع عليه دواءً فوصل إلى الدماغ أفطر] تحفة المحتاج في شرح المنهاج، وغير ذلك.(12/147)
[والقول الراجح أن الجوف هو المعدة فقط، أي إن المفطر هو ما يصل إلى المعدة دون غيرها من تجاويف البدن. ويضاف إلى ذلك أن الأمعاء هي المكان الذي يمتص فيه الغذاء، فإذا وضع فيها ما يصلح للامتصاص سواء كان غذاء أو ماء فهو مفطر، لأن هذا في معنى الأكل والشرب كما لا يخفى] مفطرات الصيام المعاصرة.
إذا تقرر هذا فإن أرجح أقوال أهل العلم هو التضييق في مسألة المفطرات وعدم التوسع فيها لعدم ثبوت الأدلة، فالمفطرات المعتبرة هي ما دل عليه الكتاب والسنة وهي الطعام والشراب والجماع ومعلوم أن الطعام والشراب يتناوله الإنسان من منفذه الطبيعي وهو الفم فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي فلا شك أنه يفطر الصائم. ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} البقرة الآية 187. وبناءً على ما سبق فإن استعمال بخاخ الربو والتحاميل واستعمال المنظار الطبي من أي موضع دخل لا تعتبر من المفطرات وكذلك القطرات بأنواعها لا تفطر الصائم سواء كانت في الأذن أو العين أو الأنف وكذلك الحقن (الإبر) الدوائية سواء كانت في الوريد أو العضل أو تحت الجلد لا تفطر الصائم وكذلك الحقن الشرجية لا تفطر الصائم وكذا غاز الأكسجين لا يفطر الصائم، وكذلك غسيل الكلى إن لم يصاحبه تزويد للجسم بمواد مغذية سكرية أو غيرها فلا يفطر الصائم وكذلك الفحص الداخلي للمرأة لا يفطر الصائم وكذلك(12/148)
سحب الدم للتبرع به أو للتحليل لا يفطر الصائم وكذلك التخدير الموضعي وجميع أنواع الدهون والمراهم واللصقات العلاجية لا تفطر الصائم.
وقد اختار القول بالتضييق في المفطرات الإمام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله كما يؤخذ من تراجم أبوابه، واختاره الشيخ ابن حزم الظاهري رحمه الله حيث قال: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله] المحلى 4/348. واختاره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم فنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ومن لم يفطر الكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام في دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/233-234.(12/149)
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقل الأمة فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبين صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره] مجموع الفتاوى 2/236-242.
وكذا اختاره جماعة من علماء العصر كالشيخ القرضاوي وأعضاء مجمع الفقه الإسلامي حيث ورد في قراره مايلي: [بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9-12 صفر 1418هـ الموافق 14-17 حزيران (يونيو) 1997م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء قرر ما يلي:
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1. قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.(12/150)
2. الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
3. ما يدخل المهبل - فرج المرأة - من تحاميل (لبوس) ، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.
4. إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5. ما يدخل الإحليل - أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى - من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6. حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7. المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8. الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9. غاز الأكسجين.
10. غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.
11. ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.
12. إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.(12/151)
13. إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
14. أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15. منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى. 16. دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
17. القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد (الاستقاءة) ] . مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر الجزء الثاني 453-455.
وخلاصة الأمر أن الراجح من أقوال أهل العلم هو التضييق في المفطرات، وأن المفطرات المعتبرة هي الجماع والأكل والشرب ويضاف لها ما اتفق عليه أهل العلم على أنه مفطر، مما هو في حكم الطعام والشراب، كالتدخين وتعاطي الأدوية عن طريق الفم.
- - -(12/152)
الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض في رمضان
يقول السائل: من هو الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض في رمضان؟
الجواب: الأصل في الطبيب الذي يقبل قوله إذا أخبر المريض أن يفطر في رمضان هو الطبيب المسلم الثقة الحاذق في الطب وكذا إذا أخبر هذا الطبيب بأن المريض ممنوع من استعمال الماء لمرضه فيجوز له التيمم أو أخبره بأن عليه أن يصلي قاعداً في الفريضة ونحو ذلك من المسائل.
وقد قال جماعة من الفقهاء بأن الإسلام شرط في هذا الطبيب مع كونه حاذقاً، فلا يقبل قول الطبيب غير المسلم قال الإمام النووي: [قال أصحابنا يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصاً في التيمم وأنه على الصفة المعتبرة على معرفة نفسه إن كان عارفاً وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عدل فان لم يمكن بهذه الصفة لم يجز اعتماده] المجموع 2/286. وقال الشيخ البهوتي الحنبلي: [ (وإذا قال طبيب) سمي بذلك لفطنته وحذقه (مسلم ثقة) أي عدل ضابط فلا يقبل خبر كافر ولا فاسق، لأنه أمر ديني، فاشترط له ذلك كغيره من أمور الدين (حاذق فطن لمريض: إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك فله) أي المريض (ذلك) أي الصلاة مستلقياً (ولو مع قدرته على القيام) ] كشاف القناع عن متن الإقناع.
ومن الفقهاء من أجاز قبول قول الطبيب غير المسلم إذا كان حاذقاً في الطب وهذا أرجح قولي الفقهاء في المسألة وفيه نوع من التيسير على الناس وخاصة(12/153)
في بلادنا حيث إن كثيراً من الناس يتعالجون عند أطباء غير مسلمين، فإذا كان الطبيب غير المسلم حاذقاً وماهراً في تخصصه فيجوز للمسلم أن يقبل قوله في قضايا الإفطار في رمضان وغيرها.
قال الشيخ ابن مفلح الحنبلي: [وقال الشيخ تقي الدين – أي شيخ الإسلام ابن تيمية -: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيراً بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطب كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} . وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلاً مشركاً هادياً خريتاً والخريت الماهر بالهداية وائتمنه على نفسه وماله وكانت خزاعة عيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - أي موضع سره وأمانته - مسلمهم وكافرهم، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب الحارث بن كلدة وكان كافراً، وإذا أمكنه أن يستطب مسلماً فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي أو استطبابه فله ذلك ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسناً فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآداب الشرعية 2/441-442. والحديث الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في حادثة الهجرة النبوية هو ما رواه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت واستأجر رسول الله صلى الله عليه(12/154)
وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث) والخريت هو الماهر في الدلالة على الطريق.
وقال العلامة ابن القيم معلقاً على استئجار المشرك في حادثة الهجرة: [في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الديلي هادياً في وقت الهجرة، وهو كافر دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والحساب والعيوب ونحوها ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من مجرد كونه كافراً ألا يوثق به في شيء أصلاً، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة] بدائع الفوائد 3 /208.
والحديث الثاني الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو ما رواه أبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال مرضت مرضاً أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي فقال إنك رجل مفئود ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن) .
قال صاحب عون المعبود: [ (مفئود) : اسم مفعول مأخوذ من الفؤاد وهو الذي أصابه داء في فؤاده وأهل اللغة يقولون الفؤاد هو القلب، وقيل هو غشاء القلب، أو كان مصدورا فكنى بالفؤاد عن الصدر لأنه محله قاله القاري ... قوله (ثم ليلدك بهن) : من اللدود وهو صب الدواء في الفم أي ليجعله في الماء ويسقيك] والحارث بن كلدة الثقفي من أشهر أطباء العرب في الجاهلية(12/155)